ملفات
في رياض المصلحين
للعلماء منزلة جليلة، ومكانة عظيمة؛ فهم ورثة الأنبياء الموقعين عن ربِّ
العالمين، رفع الله تعالى أقدارهم، وأعلى مقاماتهم، فقال الله تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة: 11) .
ولقد رزئت الأمة خلال العامين المنصرمين بفقد أئمة أجلاء وعلماء نبلاء كان
لهم أثر بارز في إحياء الأمة وتبصيرها وتصحيح سبيلها، على رأسهم: (سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز) ، و (فضيلة الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني) ،
و (فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين) رحمهم الله جميعاً.
وإن كان المصاب بفقد هؤلاء الأئمة كبيراً جداً، إلا أنَّ في البقية الباقية من
علماء الأمة الربانيين خيراً كثيراً إن شاء الله تعالى، بل إننا نتوسم في بعض
النجباء من طلاب العلم ما يثلج الصدر ويبعث الأمل؛ فالخير ولله الحمد باقٍ في
هذه الأمة إلى قيام الساعة.
وإنَّ مما ينبغي الاستفادة منه دراسةَ سِيَر هؤلاء العلماء ومناهجهم في العلم
والعمل، لتكون بإذن الله تعالى نبراساً مشرقاً يضيء طريق الأمة، وينضم إلى ذلك
النور المبارك الذي ورَّثه لنا أسلافنا الكرام رضي الله عنهم منذ القرون المفضلة
الأولى.
وها نحن في مجلة البيان نخصص هذا الملف عن (حياة العلاَّمة الشيخ
محمد بن صالح العثيمين) ، وقد حرصنا أن يكتب عن الشيخ بعض تلاميذه،
لتكون الكتابة عن علم ومعاشرة، سائلين الله تعالى أن ينفع به جميع القراء، وأن
يخلف لنا خيراً في علمائنا.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.(160/25)
في رياض المصلحين
فقد الرموز
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فالحديث عن القيادات والرموز العلمية والدعوية حديث له أهميته، ويتأكد
كلما فقد الناس واحداً من هؤلاء، وفي العامين الأخيرين فقدت الأمة طائفة من خيار
علمائها وقادتها.
وقد أحببت المشاركة في هذا الملف الذي عقدته المجلة حول هذا الموضوع
بهذه المشاركة المتواضعة.
أدوار القيادات:
إن للقيادات العلمية والدعوية أدواراً مهمة في الأمة، ومن هذه الأدوار:
1 - التعليم والدعوة:
للرموز والقيادات العلمية والدعوية أثر بالغ في تعليم الناس ودعوتهم، وفي
نشر العلم، وليس أدل على ذلك من أن كثيراً من الدعوات الإصلاحية كان من
ورائها قيادات ورموز سار الناس وراءهم واستجابوا لهم.
إنهم الذين يعقدون حِلَقَ العلم ومجالسه، ويقصدهم طلاب العلم ويلازمونهم،
ويوجهون معاهد العلم ومؤسساته، وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى الله تبارك
وتعالى ويسير الدعاة وراءهم.
2 - بيان الحق للناس:
تمر بالناس مواطن كثيرة يلتبس فيها الحق بالباطل، وتسُود فيها الأهواء
والفتن؛ وحينئذ يبدو دور القيادات العلمية والدعوية لتبيِّن الحق للناس وتجلِّيه لهم.
وفتاوى العلماء المعاصرين في كثير من النوازل كالتجنس بجنسية الدول الكافرة،
والحكم بغير ما أنزل الله، وقضايا المرأة، والتأمين وغيرها دليل على عظم
منزلتهم وحاجة الناس إليهم.
3 - إنكار المنكرات وإزالتها:
حين تقع المنكرات العامة يكون للقيادات دور مهم في إنكار هذه المنكرات
والاحتساب عليها، وقد عاب الله عز وجل على طائفة من أحبار أهل الكتاب
ورهبانهم كان ينتظر منهم أن يبينوا الحق للناس وينهوهم عما يأتون من منكر، قال
عز وجل: [لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ] (المائدة: 63) قال الحسن: [لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ]
(المائدة: 63) قال: الحكماء العلماء [1] .
وإنكار هؤلاء ليس كإنكار غيرهم؛ فأصحاب المنكر إما أن يستجيبوا لهم ثقة
في علمهم ورأيهم، أو مجاملة وخشية، وحين يتجرؤون على مخالفتهم فهم أجرأ
على مخالفة غيرهم.
4 - منع الفساد والمنكر قبل وقوعه:
كما أن للقيادات العلمية الدعوية أثراً في إنكار المنكر والنهي عنه قبل وقوعه
فوجودهم يحول دون كثير من المنكرات ويردع كثيراً من أهل الفساد أن يمتدوا في
غيهم وفسادهم. قال ابن أكثم: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون
لأظهرت أن القرآن مخلوق. وقال ابن الجوزي عن المأمون: وكان يتردد ويراقب
الشيوخ، ثم قوي عزمه وامتحن الناس [2] .
وهذا إنما يتحقق حين تعرف هذه القيادات منزلتها ومكانتها، وحين تأخذ على
عاتقها أن تقول بالحق وتصدع به.
5 - قيادة الأمة في الأزمات:
حين تحل الفتن والأزمات بالأمة يختلط الحق بالباطل ويلتبس على الناس،
فيأتي دور أهل العلم؛ ويتمثل في أمرين مهمين:
الأول: تمييز الحق من الباطل، وبيان الموقف الشرعي للناس في مثل هذه
النوازل.
الثاني: اتخاذ المواقف العملية وقيادة الناس.
وقد أمر الله تبارك وتعالى الناس بالرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه المواقف
فقال: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83)
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجمع بين الأمرين في موقفه من
التتار؛ فقد تردد الناس في حالهم، فأفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وقال: «وقتال
هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام
وعرف حقيقة أمرهم» [3] . وقام في قتالهم وقال للناس: «إذا رأيتموني في ذلك
الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني» [4] .
6 - لجوء الناس إليهم في الفتن والشدائد:
ولما يعلمه الناس من أن أهل العلم أعلم الناس بالفتن وأكثرهم إدراكاً لها؛
فإنهم يلجؤون إليهم حين يحل بهم خطب أو أمر جلل، وها هم أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم يتجهون لأبي بكر رضي الله عنه وينصتون له حين خاض الناس في
أمر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما أن سمعوا كلامه حتى انصرفوا موقنين.
ومن بعد هذا الجيل كان لأهل العلم هذه المواقف. يقول ابن القيم رحمه الله
عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون،
وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله،
وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة» [5] .
7 - حل مشكلات الناس والإصلاح بينهم:
أهل العلم والقيادات لهم منزلة بين الناس، ويصدر الناس عن رأيهم؛ ولذا
كان من آثارهم الإصلاح بين المتخاصمين من المسلمين، كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى
تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا
نصلح بينهم» [6] .
وقد كان للشيخ ابن باز رحمه الله جهود لا تنكر في الإصلاح بين طوائف
كثيرة من العاملين للإسلام، وأبرز ما في ذلك إصلاحه بين قادة المجاهدين الأفغان.
آثار فقدهم:
1 - غياب أدوارهم:
للقيادات العلمية والدعوية أدوار مهمة وآثار حميدة سبق الحديث عنها، ومن
أعظم آثار غيابهم فقدان هذه الأدوار وضمورها.
2 - فقد العلماء من علامات رفع العلم:
فَقْدُ العلماء رفعٌ للعلم؛ وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا» [7] .
وقبض العلم درجات ثلاث:
الأولى: أن يقبض روح العمل وهو الخشوع، وقد دل على ذلك حديث أبي
الدرداء رضي الله عنه إذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص
ببصره إلى السماء، ثم قال: «هذا أوان يُختلَس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه
على شيء» فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟
فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت
لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا
تغني عنهم؟ !» قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول
أخوك أبو الدرداء؟ ! فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء؛
إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد
جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً « [8] .
وقد غاب أثر هذا العلم منذ وقت، بل صار الناس لا يعدونه علماً؛ فالوعظ
والرقائق باب آخر غير باب العلم الذي هو سرد المسائل وأقوال الرجال، أما العلم
في كتاب الله تبارك وتعالى فله أثره على القلوب والنفوس، قال تبارك وتعالى:
[قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] (الإسراء: 107-109) وقال عبد الأعلى التيمي:» من
أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت
العلماء، ثم قرأ القرآن: [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ] (الإسراء: 107) [9] .
وقال مالك رحمه الله: «العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس
بكثرة المسائل» [10] .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بذلك في تعليمه لأصحابه؛ فعن جندب بن
عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان
حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به
إيماناً « [11] .
والدرجة الثانية: قبض العلماء، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في قبض العلم، وقد سبق.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة؛ فعن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم،
ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا « [12] .
عن هلال بن خباب قال: قلت لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال:
إذا مات علماؤهم [13] .
عن الحسن قال: كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء
ما اختلف الليل والنهار [14] .
عن أبي مسعود قال:» لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه. قالوا: إنَّا فيه
يأتي علينا العام يخصب والعام لا يخصب فيه. قال: إني والله لا أعني خصبكم
ولا جدبكم، ولكن ذهاب العلم والعلماء؛ قد كان قبلكم عمر فأروني العام
مثله! « [15] .
وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: [أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا] (الأنبياء: 44) قال موت علمائها وفقهائها،
وروي عن مجاهد قال: إنه فسرها بموت العلماء [16] .
والدرجة الثالثة: قبض القرآن في آخر الزمان: وقد أخبر عنه صلى الله
عليه وسلم في قوله:» يَدرُسُ الإسلام كما يَدرُسُ وشي الثوب حتى لا يُدرى ما
صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويُسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في
الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا
آباءنا على هذه الكلمة يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها « [17] .
3 - فقدهم مدعاة لتصدر الجهلة:
حين تُفقد القيادات الدعوية والعلمية يتسع المجال لتصدُّر طائفة من الجهال،
فيخوضون فيما لا يحسنون، فيَضلون ويُضلون وهذا ما أخبر عنه صلى الله عليه
وسلم في قوله:» فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا «.
وفي هذا العصر اتسعت فرص الشهرة لمن ليس أهلاً لها؛ فوسائل الإعلام
تتيح تصدُّر أي مغمور، وغلبة الجهل بالشرع وأحكامه تجعل الناس يصدقون من
يسمعون، بل إن معايير الناس في الحكم على من يحمل العلم فيقبل قوله أو من هو
دون ذلك، هذه المعايير ليست معايير موضوعية، بل هي معايير تتفق مع ثقافة
عامة الناس وطريقة تفكيرهم. إن من يجيد الحديث عن بعض مشكلات الناس
المعاصرة، ويتحدث لهم باللغة التي يفهمونها، وتتسم آراؤه بالتساهل أو (الانفتاح
والمرونة) كما يسمى اليوم إن هذا الصنف هو الذي يجد له رواجاً وقبولاً بين
الناس، حتى وإن كان لا يحمل من العلم الشرعي الموروث أي رصيد.
وهكذا من يتناول بعض الموضوعات الحيوية لدى الناس، ويجيد الإلقاء
والخطابة، فيرتب بعض الأفكار والعناصر التي يعرفها معظم المستمعين له،
ويدعم حديثه ببعض الشواهد والقصص، وربما بعض الأرقام والمعلومات، مثل
هذا الصنف من المتحدثين يجد رواجاً وقبولاً واسعاً لدى الناس.
ولا اعتراض على ما يقدمه هؤلاء؛ فطائفة كثيرة منهم هم من الغيورين
الصادقين نحسبهم كذلك والله حسيبهم لكن المشكلة تتمثل في تسيُّد أمثال هؤلاء،
وتحدثهم فيما لا يحسنون، واستشارة شباب الصحوة لهم وصدورهم عن رأيهم،
والجانب الآخر من المشكلة يتمثل في تسطيح تفكير المستمعين لهم، والقعود بهم
عن الارتقاء في الفهم وتناول المشكلات.
واجبنا تجاه القيادات العلمية والدعوية:
إذا كان تأثير القيادات العلمية والدعوية في ساحة العلم والدعوة بهذا القدر،
وكان غيابهم يترك هذا الفراغ الهائل؛ فإن الدعاة إلى الله وطلبة العلم هم من أكثر
الناس التصاقاً بهذه القضية، وأوْلى الناس أن يُعنَوْا بها ويتدارسوها، وتتمثل
واجباتنا تجاه هذه القيادات فيما يأتي:
1 - إيجاد القيادات العلمية والدعوية:
إن من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لإيجاد القيادات العلمية
والدعوية التي تقود الناس وتوجههم وتأخذ بأيديهم، ومن وسائل تحقيق ذلك:
أ - الاعتناء بهذا الجانب:
ويتمثل ذلك بإعطاء الاعتبار اللائق للبناء العلمي ضمن المناهج الدعوية،
وبخاصة أننا نعيش في عصر قلَّ الاهتمام فيه بالعلم الشرعي، حتى إن طائفة من
ناشئة الصحوة بدؤوا يزهدون في هذا العلم، محتجين بأنه شأن المختصين، وأن
الناس لا يمكن أن يكونوا كلهم علماء، وتضيع اليوم أوقات طائفة من هؤلاء أمام
شاشات الإنترنت في جدل تافه، وتعالم ممقوت، أو في قراءة طائفة من الكتب
المترجمة التي قد تفيد في جوانب من الحياة، لكنها ليست بأوْلى من الفقه في دين
الله.
وينبغي أن يُعنى بهذا الجانب في التخطيط للأعمال الدعوية ورسم الأهداف
لها، فيأخذ حيزه اللائق به.
ب - إعادة النظر في المناهج التربوية:
إن تربيتنا اليوم بحاجة إلى مزيد مراجعة؛ فهي تربِّي على التقليد والتبعية،
وتخرِّج جيلاً من الأتباع أكثر من أن تخرِّج قادة يقودون الناس، ومن مجالات
المراجعة ما يلي:
1 - التخلص من الاستبداد الدعوي والتربوي؛ فثمة طائفة من المربين تنقل
الشاب من التقليد لأهل العلم إلى التقليد لهم؛ فخطأ مربيه خير من صوابه هو،
وليس من حقه أن يقول: لِمَ، فضلاً عن أن يقول: لا.
2 - التخلص من التسلط الذي لا يسمح للشاب أن يستفيد من غير أستاذه
ومربيه، بحجة المحافظة عليه وحمايته.
3 - إعادة النظر في كثير من الأساليب التي توارثها المربون والدعاة،
والبحث عن مدى جدواها، ومدى مناسبتها مع هذه المرحلة التي نعيشها بمتغيراتها
وظروفها.
4 - الارتقاء بالمربين وحسن اختيارهم؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا
يتصور من البسطاء محدودي العلم والتفكير أن يرتقوا بغيرهم أو يهيئوهم للقيادة
والريادة.
5 - تطوير أساليب التعليم والارتقاء بمدارسنا؛ فأسلوب التلقين والإملاء لا
يمكن أن يُخرِجَ طلبة علم متميزين، فضلاً عن أن يخرج قيادات.
6 - مراجعة المناهج العلمية والبرامج التي تقدم للناشئة وإعادة النظر فيها.
ج - تهيئة الفرص ومراجعة الأساليب الإدارية:
إن البيئة التربوية السائدة اليوم في مدارسنا، وفي مؤسسات الصحوة التربوية
لا تتيح الفرص لنمو القيادات؛ فالفرص المتاحة للمبادرة والتفكير المستقل فرص
محدودة، وأجواء الحوار واختلاف الرأي ليست كما ينبغي، وهذه الفرص وتلك إن
وجدت على المستوي النظري فهي نادرة على المستوى العملي وكثيراً ما تُوأد أمام
الصرامة الإدارية التي تليق بالتربية العسكرية أكثر مما تليق بالتربية التي تسعى
لإعداد الرجال والقيادات.
وحين نفكر في تطوير أدائنا التربوي مع الإصرار على النمط الإداري السائد
فهذا التفكير لن يكون تفكيراً رحباً، وسيعوقنا ذلك عن الوصول إلى حلول عملية،
وما ورثناه واعتدنا عليه من الأساليب إن ساغ أنه ناجح في ظرف وبيئة، فلا يعني
أنه سينجح في كل زمان ومكان.
د - تطوير طرق التعليم الشرعي:
إن الظروف والمستجدات المعاصرة اليوم تتطلب منا مراجعة لأساليب وطرق
التعليم الشرعي السائدة، ومن مجالات التطوير المقترحة:
أ - الاعتناء بالمستويات العليا في التعليم، والبعد عن الاقتصار على التذكر
والاستدعاء، فلا بد من الاعتناء بالفهم والاستيعاب والتطبيق لما تعلَّمه الطالب في
مواقف جديدة، والاعتناء بالتقويم وإصدار الأحكام، وكذا التحليل والتركيب.
ب - زيادة دور الطالب في التعلم.
ج - الاعتناء بتعليم أسس التفكير العلمي، والبحث العلمي، ومهارات الحوار
والإقناع.
د - الاعتناء بدراسة النوازل والقضايا المعاصرة.
هـ - الاعتناء بتعليم قدر مناسب من الثقافة المعاصرة يتيح لطلاب العلم
استيعاب المشكلات المعاصرة، ويرقى بلغة خطابهم بما يتناسب مع الفئات المتعلمة
والمثقفة في المجتمع.
و الاعتناء بتعليم المهارات الاجتماعية، وأساليب التعامل مع الناس
والتأثير عليهم.
2 - إبراز سير علماء السلف:
يفتقر الناس اليوم إلى القدوات، وإلى المعايير التي يعرفون فيها العالم الذي
يستحق أن يُتلقى منه، والعالم الذي لا يستحق ذلك.
ومن ثم فإبراز سِيَر علماء السلف ومنهجهم في التعامل مع النصوص، وفي
الفقه والفهم، وفي السلوك والهدي، وفي القيام بواجب الدعوة وقيادة الناس، كل
ذلك من شأنه أن يعطي الناس صفات العالم الذي ينبغي الاقتداء به والأخذ منه.
3 - السعي لإبراز القيادات أمام الناس:
من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لتعريف الناس بالقيادات
الناضجة الواعية، وإبرازهم أمام الناس، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال جوانب
عدة منها:
1 - تذكيرهم بالمسؤولية ودفعهم للمشاركة والدعوة.
2 - التعريف بهم وبيان منزلتهم لدى الناس.
3 - استضافتهم في البرامج العامة، وإفساح المجال لهم للحديث في مجامع
الناس.
4 - دفعهم للمشاركة في وسائل الإعلام؛ فلها الأثر البارز في تعريف الناس
بهم وانتشار كلمتهم.
4 - الحذر من تصدير الجهلة:
حين تخلو الساحة من القيادات العلمية المؤهلة يتسع المجال أمام الرؤوس
الجهال، وتسهم المنطلقات الحزبية الضيقة في تسويد فئات ممن لا يحملون التأهل
الشرعي الكافي، وإتاحة الفرص والمنابر الإعلامية أمامهم.
إن شعور فئة أو حركة أنهم هم وحدهم المؤهلون للتغيير، وأنهم هم الذين
يملكون الحق وغيرهم على الباطل هو الذي يدفعهم إلى تصدير فئة من أتباعهم لا
يملكون من التأهيل إلا مجرد الانتماء.
وأظن أن الوقت قد حان ليدرك العاملون للإسلام أنه ليس بوسع فرد أو فئة
تحمل عبء الإصلاح والتغيير وحدهم؛ فالواقع أكبر من جهد فرد أو جماعة، وأنه
قد حان الوقت لسعة الأفق في التعامل مع اجتهادات الآخرين وتوسيع مجال التعاون.
5 - الحكمة في التعامل مع اجتهادهم المخالف:
البشر من طبيعتهم النقص والقصور، وما فتئ أهل العلم منذ عصر صدر
الإسلام وإلى يومنا يخالف بعضهم بعضاً ويرد بعضهم على بعض، وقد أدت
أوضاع الأمة اليوم إلى فقدان الاتزان في التعامل مع كثير من مسائل الاختلاف،
ومن أكبر مظاهر ذلك الصراع بين طائفة من حملة العلم الشرعي وطائفة من شباب
الصحوة لاختلاف الآراء حول بعض القضايا والمواقف، مما أدى إلى نشوء فئة
تدعو إلى إسقاط هؤلاء وانتقاصهم، أو فئة أخرى تغلو في اجتهاداتهم وتحولها إلى
نصوص قاطعة.
لا بد أن يتربى الناس وطلاب العلم بوجه أخص على أن الحق لا يعرف
بالرجال، وعلى أن العبرة بما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة، وأن قول البشر
كائناً من كان إنما يعرض على الأدلة الشرعية فيقبل ما وافقها ويترك ما خالفها،
وهي قضية بدهية على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فكثيراً ما يقع
فيها الخلل.
ومع ذلك لا بد أن يتعلم الجيل اليوم أن المخالفة في الاجتهاد لا تعني
الانتقاص والذم؛ فنحن نرى فئة من صغار طلاب العلم، بل بعض من ليس لهم
رصيد في العلم الشرعي، وغاية ما يملكونه بعض المشاركات الدعوية، والثقافة
المعاصرة، نرى هؤلاء يتحدثون دوماً وبجرأة بل باستخفاف أحياناً عن كثير من
أهل العلم ومواقفهم، وما أن تصدر فتوى أو موقف لأحدهم إلا وينبري هؤلاء
لتقويم الموقف والفتوى، وغالباً ما يكون ذلك انتقاداً، وقد يكون لاذعاً ساخراً،
مصحوباً بوصف هؤلاء بالسذاجة والبساطة وغيرها من الألقاب، ومن المآسي أن
يشترك في الحملة على هؤلاء طائفة من أبناء الصحوة، مع فساق الصحفيين
وسقطتهم، بغض النظر عن اختلاف الموقف والدافع.
قال أبو سنان الأسدي:» إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين
يتعلم الوقيعة في الناس، فمتى يفلح؟ ! « [18] .
قال ابن عساكر رحمه الله:» اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني
وإياك ممن يتقيه حق تقاته: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك من
ناوأهم معلومة، وقلَّ من اشتغل في العلماء بالثلب إلا عوقب قبل موته بموت القلب:
[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
(النور: 63) .
وذكر الثعالبي في آداب الملوك عن علي رضي الله عنه أنه قال: من استخف
بالعلماء ذهبت آخرته.
ولا يسوغ كذلك أن يصرح طلاب العلم بانتقاد هؤلاء في مجالس الناس العامة،
وبمخالفتهم في الاجتهاد.
فترك إبداء الرأي في مسألة من المسائل، أو ترك التصريح بخطأ فلان بعينه
أقل مفسدة من إسقاط هؤلاء الرموز والقيادات، وحين يفقد عامة الناس ثقتهم في
هؤلاء؛ فمن البديل؟
هل قدمت الصحوة اليوم علماء فقهاء يتصدون لقضايا الناس ومشكلاتهم؟ أم
أن الموجود من هؤلاء يعاني الناس أي معاناة في الاتصال به والوصول إليه؟
إن البديل سيكون عند عامة الناس أحد أمرين: أولهما: أن يفتوا أنفسهم ويخوضوا
في دين الله بغير علم، والثاني: أن يلجؤوا إلى طائفة من أهل الترخيص
والانفلات في الفتوى.
6 - الحذر من الغلو فيهم:
في مقابل من يستهينون بأهل العلم ثمة طائفة من الناس تغلو فيهم، ومن
مظاهر الغلو:
أ - التسليم بصحة كل ما يقوله العالم فيعتقد فيهم العصمة بلسان الحال لا
بلسان المقال فحين يخالفهم أحد في اجتهاد أو رأي، أو حين يناقش قولاً لهم يشنون
عليه حرباً شعواء، ويتهمونه بانتقاص أهل العلم وازدرائهم.
ب - الزعم بأنهم يحيطون بكل دقيقة وجليلة، وحين تناقش أحدهم في قول
يردُّ عليك بأن الشيخ لا يخفى عليه ذلك لكنه يراعي ويقدر أموراً لا تقدرها، بينما
هو يقرر في حديثه انتقاد أتباع المذاهب الذين يقولون بأن كل حديث بخلاف
المذهب فهو مؤول أو منسوخ.
ج - القطع بما لا يجوز القطع به، كقول بعضهم: انتقل إلى الرفيق الأعلى،
أو إن فلاناً من أولياء الله وإن لم يكن ولياً فلا أعلم لله ولياً، أو إن الله أحب فلاناً
فأحبه الناس، ومنهج أهل السنة الاعتدال في الثناء على الرجال؛ فليقل من يثني
عليهم: إن فلاناً نحسبه والله حسيبه من أولياء الله، ونرجو أن يكون ممن أحبه الله
فأحبه الناس.
د - الاعتقاد بأن الدين سيأفل نجمه بموت هؤلاء وانصرافهم؛ فمع أن فقد
أهل العلم ثلمة لا تسد، وأن ذلك من علامات رفع العلم إلا أن الخير باق في الأمة،
وقد فقدت الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبقي الدين محفوظاً
قائماً.
7 - الاعتناء بالأعمال المؤسسية:
إن ضخامة الجهد الإصلاحي اليوم، والمتغيرات الجديدة، والضعف الذي
تعاني منه الأمة يقلل من فرص نجاح القيادات الفردية، وهذا يتطلب الاعتناء
بإيجاد المؤسسات العلمية والمؤسسات الدعوية؛ فهي تقلل من سلبيات الفرد،
وتعطي إمكانات وقدرات أعلى.
إننا بحاجة إلى مؤسسات وجمعيات مستقلة من العلماء والفقهاء المعتبرين تفتي
الأمة في النوازل، وبحاجة إلى مؤسسات دعوية تعنى بتنظيم جهود دعوية عامة
يمكن أن تسد ثغرات لا يسدها الأفراد.
وهذا النمط الذي نتطلع إليه من المؤسسات ليس النمط التقليدي الذي يقوده
فرد ووراءه مجموعة من الموظفين التابعين.
__________
(1) رواه الدارمي (329) .
(2) سير أعلام النبلاء.
(3) الفتاوى، (28/506) .
(4) البداية والنهاية، (14/21) .
(5) الوابل الصيب، (70) .
(6) رواه البخاري، ح/2693، ومسلم، ح/ 421.
(7) رواه البخاري، ح/ 100، ومسلم، ح/ 2673.
(8) رواه الدارمي، ح/ 293.
(9) أخرجه الدارمي، ح/ 296.
(10) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/156.
(11) رواه ابن ماجه، ح/ 61.
(12) رواه البخاري، ح/ 80، ومسلم، ح/ 2671.
(13) سير أعلام النبلاء.
(14) رواه الدارمي (324) .
(15) شعب الإيمان، 2/268.
(16) تفسير ابن جرير، 13/174.
(17) رواه ابن ماجه، (4049) .
(18) ترتيب المدارك، (2 14/15) .(160/26)
في رياض المصلحين
جهود الشيخ ابن عثيمين في بيان العقيدة
ومنهجه في تقريرها
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى
بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلَّغ الرسالة،
وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه
عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد [1] :
فإن الله سبحانه وتعالى بمنِّه وفضله نزَّل الذكر على عبده، وتكفل بحفظه،
فـ[لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] (فصلت: 42) ، وطمأن عباده
المؤمنين فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ، وكان
من مظاهر حفظ الدين وأسبابه أن قيض الله من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم بقايا أهل العلم
والإيمان، ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه في أمته بالعلم النافع والعمل
الصالح.
فلم يزل الله سبحانه وتعالى يصنع لهذه الأمة، ويجدد لها ما اندرس من أمر
دينها، وما اندثر من سنة نبيها صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، كما بشر بذلك
صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [2] ، وهؤلاء
المجددون يستعملهم الله في إقامة الدين؛ أصوله وفروعه، وردِّ الناس إلى الجادة
الصحيحة، والمَهْيَع الرشيد، حين ينحرفون عنه أو يهجرونه، وربما انتدب الله
لهذا الأمر جماعة من المجددين على رأس كل قرن، بل هو الواقع، فلا تقتضي
دلالة الحديث السابق أن يكون المجدد فرداً، قال ابن الأثير رحمه الله: «والأَوْلى
أن يحمل الحديث على العموم ... ولا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة
رجلاً واحداً، وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة» من «تقع
على الواحد والجمع» [3] . كما ذكر العلماء أن من صفة هذا المجدد وشرطه أن
يأتي عليه رأس القرن وهو أوله وهو حي عالم مشهور بنصر السنة وقمع
البدعة [4] .
وأحسب أن شيخنا الإمام الفقيه المفسر الأصولي الداعي إلى الله على بصيرة
محمد بن صالح العثيمين [5] قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه ممن ينطبق عليه هذا
الشرط، وذلك الوصف، في طائفة من أهل العلم والإيمان على رأس القرن
الخامس عشر الهجري.
ولا ريب أن أعظم أركان التجديد، تجديد أمر الإيمان وتجليته، وشد معاقد
الاعتقاد وتقويته، وكشف شبه الابتداع وتنحيته، وقد كان له رحمه الله في هذا
المضمار قصب السبق في تقريره وتقريبه، ومواجهة نوازله، والتصدي لخصومه،
وسوف نتناول في هذه المقالة أمرين:
أحدهما: جهوده رحمه الله في بيان العقيدة.
ثانيهما: منهجه في تقريرها.
وذلك بالتتبع والاستقراء لسيرته وأعماله وآثاره، مما هو مسطور في كتبه،
أو عَلِمَهُ الكاتب من مخالطته.
أولاً: جهوده في بيان العقيدة:
لما كان صلاح الباطن أصل صلاح الظاهر اتجهت همته رحمه الله إلى
إصلاح القلوب وتنقيتها من شوائب البدع العقدية والظنون الفاسدة، وعمارتها بما
خلقت له من العبودية التامة، والاعتقادات الصحيحة. وقد تنوعت جهوده في هذا
السبيل، وتوسل بجميع الوسائل الشرعية لبلوغ هذا الهدف النبيل، فمن ذلك:
1 - التأليف في مسائل الاعتقاد الإجمالية والتفصيلية: وقد جاء على صورٍ
متعددة:
أ - التلخيص والتقريب: فقد عمد الشيخ رحمه الله إلى بعض مصنفات شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله التي تأثر بها، وانتفع بقراءتها في مستهل شبابه،
فأعاد ترتيبها وتبويبها، وهذبها، وقرب معانيها للقراء، وصنع لها العناوين الدالة،
والتراجم المعبرة، والتعريفات الجامعة المانعة لما ورد فيها من مصطلحات عقدية
وهي:
* فتح رب البرية بتلخيص الحموية: وهو أول كتاب صنَّفه في حياته، وقد
طبع أول مرة سنة 1380هـ، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، لخَّص فيه
«الفتوى الحموية» لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي من أعظم فتاواه أثراً،
وأبلغها حجة ونظراً؛ فلا غَرْوَ أن تجتذب همة شيخنا وعنايته في مقتبل عمره، لما
تضمنته تلك الفتوى العظيمة من الأدلة القاطعة، والنقولات الواضحة عن أئمة
السلف المتقدمين أن مذهبهم في باب الصفات هو الإثبات، لا التحريف ولا التعطيل
ولا التمثيل ولا التفويض. قال شيخنا رحمه الله: «ولما كان فهم هذا الجواب
والإحاطة به مما يشق على كثير من قرائه أحببت أن ألخص المهم منه، مع
زيادات تدعو الحاجة إليها» [6] .
* مذكرة على العقيدة الواسطية: وهي أيضاً من تالد آثار الشيخ رحمه الله،
ألَّفها «مذكرة للمهم من مقرر السنة الثانية الثانوية في المعاهد العلمية في التوحيد،
على العقيدة الواسطية» [7] ، وقد سلك فيها مسلك التلخيص والتقريب، بوضع
التقسيمات النافعة، والتعريفات المركزة، مع المحافظة على مضمون الأصل،
وإضافة ما تدعو الحاجة إليه، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله كان يحتفي
بها، ويحيل عليها، ويتحدى الخصوم أن يأتوا بحرفٍ واحد عن أحد من السلف
يخالف ما جاء فيها [8] .
وقد كانت هذه العقيدة المباركة أول متن يتعلمه شيخنا في صباه على يد أحد
المعيدين من كبار تلاميذ شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي [9] رحمه الله، فظل
يعتني بها تلخيصا وشرحاً وتدريساً كما سيأتي.
* تقريب التدمرية: وقد قرب فيها الشيخ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية،
الموسومة بـ (تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وحقيقة الجمع بين القدر
والشرع) ، المشهورة اختصاراً بـ (التدمرية) ، قبل وفاته بإحدى عشرة سنة
تقريباً؛ لما رأى من صعوبتها على طلبة جامعة الإمام، أثناء تدريسهم إياها كما
أخبرني مع عظم قدرها، وقوة إحكامها، قال في مقدمتها: «هذه الرسالة من
أحسن وأجمع ما كتب في موضوعها، على اختصارها، ومن أجل ذلك فإني
أستعين الله عز وجل في لَمِّ شعثها، وجمع شملها، وتقريب معانيها لقارئها، مع
زيادة ما تدعو الحاجة إليه، وحذف ما يمكن الاستغناء عنه على وجه لا يخل
بالمقصود» [10] .
وهذا اللون من التصنيف خدم هذه المتون العقدية خدمة جمَّة، ويسرها
لطالبيها، فانتفع بها المبتدئ، واستفاد منها المنتهي، وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء.
ب - الشرح والتعليق: سلك الشيخ رحمه الله هذا المسلك تجاه بعض المتون
المهمة التي تحتاج إلى مزيد بسط لبيان مجملها، وتحليل عباراتها، وكشف مشكلها،
وهي:
* شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: شرح فيه الشيخ رحمه الله
«لمعة» الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، وفرغ منه
في مطلع سنة 1392هـ، وكان مقرراً على طلاب المعاهد العلمية فترة من الزمن،
وقد وصف عمله فيه بأنه: «كلمات يسيرة تكشف غوامضه، وتبين موارده،
وتبرز فوائده» [11] .
* شرح العقيدة الواسطية: وهو في الأصل مستنسخٌ من التسجيل الصوتي
لشرح فضيلته وتقريره على الطلبة في الجامع الكبير بعنيزة، على العقيدة الواسطية،
فطبع لأول مرة على تلك الصفة، ثم راجعه رحمه الله وصححه، وقال في
طبعته الثانية: «لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب
بالتحرير، رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمهل، من أجل إخراج الشرح على
الوجه المرضي، ففعلت ذلك ولله الحمد، وحذفت ما لا يحتاج إليه، وزدت ما
يحتاج إليه» [12] .
وكان فراغه من تنقيحه سنة 1415هـ، فوقع في مجلدين.
* القول المفيد على كتاب التوحيد: وهو شرح قيم جليل على متن (كتاب
التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لشيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله، وقد تضمن تقريرات نافعة، وبحوثاً مفيدة دقيقة في
مسائل التوحيد العلمي والعملي، وهو كسابقه مستنسخ من الأشرطة، لكن جرت
قراءته عليه في درس الجامع الكبير عدة ليالٍ حتى أتمه، سنة 1414هـ، ووقع في
ثلاثة مجلدات.
* شرح الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
* تفسير آية الكرسي: تضمن الكلام على أصولٍ عقدية هامة في الأسماء
والصفات.
* شروح أحاديث الاعتقاد: وهي رسائل مفردة في بعض الأحاديث النبوية
في باب الاعتقاد، مثل حديث جبريل في الإسلام والإيمان والإحسان والساعة
وعلاماتها، وحديث ابن مسعود في القدر، وحديث عائشة في الاتباع ورد الابتداع.
ج - التأليف ابتداءاً في مجمل الاعتقاد ومفصله، فمن ذلك:
* نبذة في العقيدة الإسلامية: وهي رسالة واضحة مختصرة، ألَّفها رحمه الله
لطلاب السنة الثالثة الثانوية في المعاهد العلمية سنة 1402هـ، عرَّف فيها دين
الإسلام وأركانه تعريفاً إجمالياً، ثم أفاض في بيان أسس العقيدة الإسلامية، أركان
الإيمان الستة، بأسلوب بيِّن منظم، يذكر ما يتضمنه كل ركن من أركان الإيمان
بالأدلة النقلية والعقلية، منبهاً على من ضل في كل باب، ويختم ببيان ثمرات
الإيمان بكل ركن على حدة، وينهي الرسالة بتعداد أهداف العقيدة الإسلامية، وهذه
النبذة حَرِية أن يُبتدأ بها في دراسة العقيدة، وأن تقدم لكل راغب في معرفة الإسلام،
لوضوحها وإحاطتها واختصارها.
* عقيدة أهل السنة والجماعة: وهي عقيدة مركزة مختصرة في مجمل
الاعتقاد، قرر فيها رحمه الله مسائل الاعتقاد على طريقة السلف المتقدمين في سرد
عقيدتهم، وقد قدم لها شيخه الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله وأثنى عليها، ثم
قال: «وقد ضم إلى ذلك فوائد جمّة تتعلق بالعقيدة، قد لا توجد في كثير من الكتب
المؤلفة في العقائد» [13] .
* القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى: قعَّد فيها رحمه الله قواعد
محكمة رصينة في أسماء الله تعالى، وفي صفاته، وفي أدلة الأسماء والصفات،
وحررها تحريراً بالغاً، وطعمها بالأمثلة والتطبيقات الكاشفة، والحجج القوية
الباهرة، ثم انعطف على أهل التأويل الفاسد مفنداً شبهاتهم، مبيناً اطراد طريقة
أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من خلال خمسة عشر مثالاً، يلوِّح بها
أهل التحريف على ضرورة التأويل الفاسد، فنزَّلها رحمه الله منازلها، وحملها على
مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقطع شبه الجاهلين والمجادلين، ثم عقد
فصلاً في الكلام على أبي الحسن الأشعري رحمه الله وأصحابه على قواعد العدل
والانصاف، وقدَّم له أيضاً سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأثنى
عليه وعلى كتابه.
وقد ألَّف شيخنا رحمه الله هذين الكتابين: العقيدة، والقواعد، سنة 1404هـ،
بعد أن شغب عليه بعض السفهاء، وطعن في عقيدته بسبب سوء فهمهم لكلام
صدر منه في صفة المعية كما سيأتي فألَّف هذين الكتابين العظيمين، وكما قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرف طيب عَرف العود [14]
2 - الخطابة: اعتلى شيخنا رحمه الله منبر الجامع الكبير في عنيزة ثاني
جمعة بعد وفاة شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله الذي توفي يوم
الخميس الموافق للثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1376هـ، وبين
أول جمعة خطب فيها في غرة رجب 1376هـ، وآخر خطبة جمعة ألقاها في 30
/7/1421هـ أكثر من خمس وأربعين سنة، ضمت نحو ألفين ومائتين وخمسين
خطبة منبرية، سوى ما تخلل ذلك من خطب العيدين والاستسقاء والكسوف، مما لا
يحصيه إلا الله (فكان مثالاً يحتذى في إخلاص النية، وإصلاح العمل، وتوجيه
الناس إلى الخير، بقدر ما يستطيع بأسلوبٍ بيِّن واضح للعام والخاص) [15] ،
وكان لبيان أمور الاعتقاد ومسائل الإيمان منها النصيب الأوفر، كما يتضح ذلك من
مسرد خطبه التي انتقاها، وألف منها ديوان خطبه الحافل: (الضياء اللامع من
الخطب الجوامع) ، فكان يفرد خطباً بأكملها في شرح أسماء الله الحسنى، وبيان
آثارها، وخطباً في ذكر آيات الله الكونية ومظاهر الربوبية المستلزمة لتوحيد العبادة،
وخطباً في النبوة ودلائلها، وفي الإيمان بالقدر، وفي الساعة وأشراطها، وأحوال
القيامة، وصفة الجنة والنار، وغير ذلك، بل إن خُطَب الأخلاق والأحكام كان
يسوقها رحمه الله في إطار الإيمان كطريقة القرآن.
ومما تضمنته خطبه التحذير من البدع العقدية الطارئة، كبدعة المولد، وبدعة
الدعوة إلى تقارب الأديان، والذهاب إلى السحرة والمشعوذين، والتحذير من
الخرافات المتداولة بين الناس كخرافة سادن الحجرة النبوية، وقصة السيدة زينب
المزعومة، وقد رأيته بنفسي يقوم بتمزيق هذه الأوراق المتداولة، وهو على المنبر،
ليكون أبلغ في التحذير، وأعظم في التأثير.
3 - الدروس العلمية: لم تخل دروس الشيخ المسائية، والصباحية في
الإجازات الصيفية، من شرح متنٍ من متون الاعتقاد، أو قراءة كتاب من كتب
شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة، ومن أهم المتون العقدية التي كان يقررها رحمه
الله:
- العقيدة الواسطية.
- الفتوى الحموية.
- منظومة السفاريني.
- لمعة الاعتقاد.
- كتاب التوحيد.
- القواعد المثلى.
- الرسالة التدمرية.
- عقيدة أهل السنة والجماعة.
كما قرئت عليه النونية والميمية لابن القيم، واقتضاء الصراط المستقيم لشيخ
الإسلام ابن تيمية.
وفي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم درَّس أجيالاً من
الطلبة الرسالة التدمرية، والعقيدة الطحاوية، كما كانت دروسه في المسجد الحرام
في شهر رمضان جسراً لنقل العقيدة السلفية إلى سائر بلدان المسلمين.
4 - المحاضرات العامة: كان للشيخ رحمه الله حضور دائم في المنتديات
العامة، في العديد من مدن المملكة، يستجيب للدعوات، ويلقي المحاضرات حيثما
حل، كما كان يلقي العديد من المحاضرات الهاتفية في السنوات الأخيرة للأقليات
المسلمة في أوروبا وأمريكا، وكان ينشر من خلالها طريقة أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد والعمل، ويرد على المخالفين، ومن نماذج هذه المحاضرات المحفوظة:
- أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها.
- منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل.
- القضاء والقدر.
- الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع.
- التوسل.
- مفاتح الغيب.
- آيات الأنبياء وأثرها في المجتمع [16] .
هذا وقد جعل الله لشيخنا القبول والإقناع في سائر محاضراته العامة، لما
تتميز به من القوة العلمية، والبيان، وحسن العرض، والموضوعية في الطرح،
وقد بلغني هذا كثيراً عمن يستمعون إليه في أوروبا وأمريكا من المسلمين.
5 - الفتاوى: بلغ مجموع الفتاوى العقدية المثبتة في مجموع فتاواه أكثر من
خمسمائة فتوى [17] في العديد من المسائل الإيمانية، والنوازل المعاصرة، تميزت
بالدقة والإحكام والمتانة العلمية، وكان رحمه الله يفتي الناس في الجامع والطريق،
وعبر الهاتف، وخلف المذياع في برنامج نور على الدرب، وفي المسجد الحرام،
ويحرر بعض الفتاوى للصحف والمجلات والتلفاز، ولسائر المسلمين في داخل
المملكة وخارجها، مما لا يحصيه إلا الله؛ ولا ريب أنها أثرت تأثيراً بالغاً في
تصحيح عقائد الناس، وتحذيرهم من المخالفات العقدية.
6 - الرسائل الشخصية: من الجهود الخفية، والمساعي الحميدة النقية التي
تنم عن إخلاصه رحمه الله وحرصه على صلاح الأمة ما كان يحرره من المكاتبات
لذوي الهيئات والمقامات العلمية، والمنسوبين إلى العلم والدعوة إذا بدر منهم ما
يخالف الحق، لا سيما في باب الاعتقاد؛ فهو لا ينصب لهم المناظرات على
صفحات الجرائد والمجلات، بل يكاتبهم سراً، ويمحضهم النصيحة، ويجتهد في
بيان الحق لهم، ويرغبهم في قبوله وإعلان الرجوع إليه. بل حين اقتضى الأمر
نشر بعض تلك المراسلات الخاصة، لما فيها من العلم والحجة، رفع ذكر الأسماء
وما يدل على الذوات، واكتفى بالمضمون [18] .
ثانياً: منهجه في تقرير العقيدة:
إن المتأمل في جهود الشيخ رحمه الله المتنوعة في بيان العقيدة وتوضيحها
لَيستخلص جملة من السمات المنهجية المطردة التزمها الشيخ وسار عليها في جميع
تقريراته، وهي سمات سلفية لا يختص بها رحمه الله بل هو متبع لطريقة السلف
المتقدمين، ولكن اجتمع عنده ما تفرق في غيره، فمنها:
1 - تعظيم شأن التوحيد: فهو يلهج دوماً في تقريراته المسموعة والمكتوبة
بأهمية تحرير أمر الاعتقاد، والبداءة به، وتعظيمه وتفخيمه؛ إذ هو الأساس
والأصل، والأعمال بناء وفرع. ومن شواهد ذلك قوله: «إن (علم التوحيد)
أشرف العلوم، وأجلها قدراً، وأوجبها مطلباً؛ لأنه العلم بالله تعالى وأسمائه
وصفاته وحقوقه على عباده، ولأنه مفتاح الطريق إلى الله تعالى وأساس شرائعه،
ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه، قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) . وشهد لنفسه
تعالى بالوحدانية، وشهد له بها ملائكته، وأهل العلم، قال الله تعالى: [شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
(آل عمران: 18) .
ولما كان هذا شأن التوحيد كان لزاماً على كل مسلم أن يعتني به تعلماً،
وتدبراً، واعتقاداً ليبني دينه على أساس سليم واطمئنان وتسليم، يسعد بثمراته
ونتائجه» [19] .
ولهذا كان ينعى على «أهل التفويض» طريقتهم الفاسدة، ويسميهم «أهل
التجهيل» لما يفضي إليه مذهبهم من الجهل بأعظم ما أدركته العقول، والحرمان
من أشرف ما اكتسبته القلوب، وهو العلم بالله بمقتضى ما دلت عليه نصوص
الوحيين من معاني الأسماء والصفات. يقول رحمه الله: «من المحال أن يُنزل الله
تعالى كتاباً، أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلامٍ، يقصد بهذا الكتاب وهذا
الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول
المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي
تأباه حكمة الله تعالى وقد قال تعالى: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ] (هود: 1) ، وبهذا علم بطلان» مذهب المفوضة «الذين
يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدَّعون أن هذا مذهب السلف. والسلف
بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص
إجمالاً أحياناً، وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل» [20] .
ولا ريب أن مذهب المفوضة يؤدي إلى توهين شأن التوحيد.
2 - إبراز آثار العقيدة وثمراتها على الفرد والأمة: وهذه خاصية عظيمة
اعتنى الشيخ رحمه الله بها؛ فالعقيدة في نظره ليست متناً يحفظ أو يستشرح فحسب،
ثم تبقى معرفة ذهنية لا أثر لها في حياة الفرد والأمة! كلا، فهو يحرص رحمه
الله أن لا يذكر مسألة من مسائل الاعتقاد إلا ويتبعها بذكر ثمارها، كما صنع في
أركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، من
تعداد الثمرات لكل ركنٍ على حدة، ثم ختم ببيان أهداف العقيدة الإسلامية على وجه
العموم بما يكشف عن الفهم الثاقب لآثار هذه العقيدة على الفرد والأمة، وهي على
سبيل الاختصار:
أولاً: إخلاص النية والعبادة لله تعالى وحده.
ثانياً: تحرير العقل والفكر من التخبط الفوضوي الناشئ عن خلو القلب من
هذه العقيدة.
ثالثاً: الراحة النفسية والفكرية.
رابعاً: سلامة القصد والعمل من الانحراف في عبادة الله تعالى أو معاملة
المخلوقين.
خامساً: الحزم والجد في الأمور.
سادساً: تكوين أمة قوية تبذل كل غالٍ ورخيص في تثبيت دينها، وتوطيد
دعائمه.
سابعاً: الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بإصلاح الأفراد والجماعات، ونيل
الثواب والمكرمات [21] .
فيا لها من أهداف سامية نبيلة لو أن معلمي العقيدة وضعوها نصب أعينهم
وهم يشرحون متونها، ويربطون ذلك بالواقع المعاش للفرد والأمة؛ إذن لحصل
بذلك خير عميم، وتأثير بالغ. كما كان رحمه الله حين يقرر أسماء الله وصفاته في
شرحه للعقيدة الواسطية يتبع كل صفة ببيان الفائدة المسلكية للإيمان بها، ومن
شواهد ذلك:
- (والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق أن لا نطلب القوة
والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت فلن تقابل قوة الله
تعالى) [22] .
- (ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية: أما
الرؤية فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء؛ الخوف عند المعصية؛ لأن الله
يرانا، والرجاء عند الطاعة؛ لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا،
فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته. وأما السمع فالأمر فيه
ظاهر؛ لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما
يقول خوفاً ورجاءاً: خوفاً؛ فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاءاً:
فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل) [23] وهكذا صنع في سائر الصفات.
ولا شك أن هذا منهج تربوي ينبغي أن يعتمده المعلمون والمربون ليحصل
الانتفاع بالقرآن العظيم.
3 - الاعتصام بالكتاب والسنة: لما كان الكلام في الله، والقول عليه من
أخطر المقامات تعيَّن لزوم ما جاء في نصوص الوحيين: الكتاب والسنة، والحذر
من التقدم بين يدي الله ورسوله مهما كانت المسوغات، وسلوك سبيل السلامة
والأدب؛ ولهذا حذر رحمه الله من طريقة أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم:
«أهل التأويل» لما فيها من الافتيات على النصوص، والقول على الله بغير علم.
قال رحمه الله: «وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن ما سمى الله به نفسه، وما
وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق
على حقيقته، وعلى ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين، بل هو أبعد ما
يكون عن ذلك، وهو أيضاً لا يمكن أن يفهم منه ما لا يليق بالله عز وجل من
صفات النقص أو المماثلة بالمخلوقين، وبهذه الطريقة المثلى يسلمون من الزيغ
والإلحاد في أسماء الله وصفاته، فلا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له
رسوله صلى الله عليه وسلم، غير زائدين في ذلك ولا ناقصين عنه، ولهذا كانت
طريقتهم أن أسماء الله وصفاته توقيفية، لا يمكن لأحد أن يسمي الله بما لم يسم به
نفسه، أو يصف الله بما لم يصف به نفسه، فإن أي إنسان يقول: إن من أسماء
الله كذا، أو ليس من أسماء الله، أو من صفات الله كذا، أو ليس من صفات الله،
بلا دليل؛ لأنه لا شك قول على الله بلا علم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]
(الأعراف: 33) .
وقال تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] (الإسراء: 36) . [24]
ومن تتبع آثاره المكتوبة والمسموعة رحمه الله علم مبلغ تعظيمه للنصوص،
ودقة لزومه لدلالتها.
4 - الاستدلال بالعقل مع النقل، واستعمال الأقيسة الصحيحة ما أمكن: كان
رحمه الله يرتب الأدلة في إثبات المسائل العقدية مبتدئاً بالكتاب، مثنِّياً بالسنة
الصحيحة، مثلِّثاً بالعقل فيما كان للعقل فيه مساغ، ليكون أبلغ في طمأنينة القلب
بتوافر الأدلة، وموافقة المعقول للمنقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه
موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً
من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا؛ فمن عرف قول الرسول صلى الله
عليه وسلم ومراده كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف
المنقول، وكذلك (العقليات الصريحة) إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن
إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم « [25] .
وقد استدل شيخنا رحمه الله بالعقل في العديد من المسائل العقدية كإثبات وجود
الله، وإبطال الشرك، وإثبات البعث، والرد على من احتج بالقدر على ترك
الطاعات وفعل المحرمات، وإثبات اتصاف الله بصفات الكمال من حيث الجملة،
وسائر الصفات سوى الخبرية المحضة كالعلم والقدرة والإرادة والعلو ونحوها، تبعاً
للنقل لا استقلالاً. كما استعمل الأقيسة العقلية الصحيحة التي استعملها السلف
المتقدمون كعثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله وغيره مثل:» قياس الأوْلى «،
» نفي الصفة إثبات لنقيضها «، وإلزام المخالفين باللوازم الباطلة، وكل ذلك مبثوث
في كتبه لا يخلو منه مقام.
وأما ما ليس للعقل فيه مدخل كالاستقلال بإثبات الأسماء والصفات، وحكاية
الغيبيات، وكيفيات الصفات، فإنه رحمه الله يلجم فيه عنان العقل والفكر، كما ذكر
في القاعدة الخامسة من قواعد الأسماء:» أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل
فيها: وعلى هذا: فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها
ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء؛ فوجب
الوقوف في ذلك على النص، ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما
سمى به نفسه جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على
ما جاء به النص « [26] ، وقال مثل ذلك في القاعدة السابعة من قواعد الصفات [27] .
وكان رحمه الله يزجر عن الأسئلة الفاسدة المبنية على لوثة التكييف العقلي،
كمن يستشكل إثبات النزول الإلهي إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر مع دوام دوران
الليل على الكرة الأرضية؟ فيقول في معرض إجابته:» وهذا وإن كان الذهن قد
لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق، لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه
حتى يقاس به، ويجعل ما كان مستحيلاً بالنسبة إلى المخلوق مستحيلاً بالنسبة إلى
الخالق « [28] ، وقال أيضاً:» يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ
(لم؟) و (كيف؟) فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير في
الكيفية « [29] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» إن الرسول لا يجوز
عليه أن يخالف شيئاً من الحق، ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه، لكن يخبر بما
تعجز العقول عن معرفته، فيخبر بمحارات العقول، لا بمحالات العقول « [30] ،
وقال أيضاً:» الرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل
امتناعه « [31] .
5 - تقريب المعاني، واجتناب ما يؤدي إلى اللبس: قد تقدم في بيان جهوده
رحمه الله في بيان العقيدة اعتماده طريقة التلخيص والتقريب لطائفة من المتون
العقدية الصعبة، ليسهل تصورها وإدراك معانيها، وقد وُفِّق رحمه الله في ذلك
توفيقاً عظيماً، وليس مراده بالتلخيص كما يظن بعض الناس مجرد الاختصار،
وإنما إعادة عرض الموضوع بما يحصل به البيان وإن استدعى الشرح والإضافة
أحياناً [32] ، وهذا ما فعله رحمه الله حين صنع لتلك الكتب من التراجم والعنوانات
والتعريفات والتقسيمات والإضافات ما جعلها كالعروس المجلاة، فهو مثلاً يدرج في
تلخيص الحموية قاعدة نافعة استفادها من كتاب» العقل والنقل «، وذكر
خلاصتها [33] .
أما ما ألَّفه ابتداءاً، أو قرره مشافهة ففي غاية السهولة والبيان في ألفاظه
وتراكيبه، وكثرة أمثلته ووضوحها، ولعله لهذا السبب وغيره لم يكن يحتفي
بتدريس المنطق إلا أن ترد بعض المصطلحات المنطقية عرضاً، أو تبعاً لبعض
المتون التي يشرحها، كخاتمة منظومة السفاريني، وطالما ردد رحمه الله مقولة
شيخ الإسلام ابن تيمية:» إني كنت دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه
الذكي، ولا ينتفع به البليد «.
وحين قرر ذات مرة في مسألة» صفة المعية «لله تعالى، فقال:» إن
عقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً
وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً «استشكل بعض أهل العلم التعبير بـ
» ذاتية «، وتجرأ بعض السفهاء فنسبوه إلى مقالة حلولية الجهمية حاشاه وكلا!
مع أنه أراد بذلك توكيد حقيقة معيَّته تبارك وتعالى، وكلامه كله صريح وفير في
النكير على أهل الحلول والظنون الفاسدة، لم يجد غضاضة أن يهجر هذا التعبير
دفعاً للتوهم، ونشر ذلك في مجلة الدعوة، في غرة محرم سنة 1404هـ، وقال:
» رأيت من الواجب استبعاد كلمة (ذاتية) ، واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله
تعالى في الأرض، أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي عُلوِّه، أو نفي استوائه على
عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى فإنها كلمة باطلة يجب إنكارها على
قائلها، كائناً من كان، وبأي لفظ كانت وكل كلام يوهم ولو عند بعض الناس ما لا
يليق بالله تعالى؛ فإن الواجب تجنبه لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء، لكن ما أثبته
الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب
إثباته وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله عز وجل « [34] فللَّه درُّه!
» وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله « [35] .
ومما يلتحق بهذه السمة المنهجية في تقريره رحمه الله للعقيدة، مراعاة حال
العامة، وعدم مبادأتهم بالمسائل المشكلة، والخلافات العقدية المعضلة التي لا تبلغها
عقولهم، ويتشوشون من سماعها، بل كان منهجه رحمه الله في الخطاب العام
لجمهور الناس التعبير بالجمل القرآنية والنبوية الواضحة، وعدم الخوض في
مقالات أهل البدع من غير ضرورة، لغناهم وعافيتهم من ذلك، وهذا المنهج هو
الموافق لفقه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:» حدثوا
الناس بما يعرفون! أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهَ ورسولُه؟ « [36] ، وقول ابن مسعود
رضي الله عنه:» إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم
فتنة « [37] ؛ فلهذا قال رحمه الله:» من الحكمة في الدعوة ألاَّ تباغت الناس بما
لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويداً رويداً حتى تستقر عقولهم؛ فإن قيل:
أندَعُ الحديث بما لا تبلغه عقول الناس؟ أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم عن
طريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويداً رويداً حتى يتقبلوا هذا الحديث
ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم، ونقول هذا شيء مستنكر لا يتكلم به ...
ويستفاد من هذا الأثر: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على
الداعية أن ينظر في عقول المدعوين، وينزل كل إنسان منزلته « [38] .
6 - مواجهة النوازل العقدية: اتسمت العصور الأخيرة من حياة المسلمين
بكثرة الشبهات وطروء البدع العقدية بسبب انحسار ظل الإسلام، وغلبة المشركين
وأهل الكتاب، وانفتاح أمم الأرض بعضها على بعض، وسريان العقائد والأفكار
والعادات والأوضاع عبر وسائل الإعلام المختلفة، فدهم المسلمين من النوازل
العقدية ما اشتدت الضرورة فيه إلى علماء ربانيين، يُثبِّتون الناس، ويُمسِّكون
بالكتاب، ويُنزلون الأوضاع الطارئة على الأصول الثابتة. وكان شيخنا رحمه الله
في طليعة هؤلاء الموفقين؛ فلم يكتف بالتقعيد النظري لمسائل الاعتقاد أو حتى
منازلة الفرق العتيقة من أهل القبلة وغيرهم، بل ضم إلى ذلك مواجهة ما استجد
من فرق الضلال وكشف زيفها، وما شاع من أفكار منحرفة، ودعوات باطلة،
وأعمال وألفاظ منافية للعقيدة الصحيحة.
- فحذر من الإلحاد المتمثل في زمنه بـ» الشيوعية «و» المادية «
و» الطبيعة «.
- وفصَّل القول في الحكم بغير ما أنزل الله.
- وبيَّن خطر التسرع في التكفير.
- وكفَّر اليهود والنصارى، وأفتى في مسائل معاملتهم ومخالطتهم وتهنئتهم
بأعيادهم.
- وأنكر الدعوة إلى التقريب بين الأديان.
- ونبه على خطأ بعض الألفاظ الشائعة، والمصطلحات الحادثة.
وكل ذلك مبثوث في خطبه المنبرية، ودروسه العلمية، وفتاواه السيارة، مما
يطول المقام بسرده.
ونكتفي بمثالين دالين على معاصرته لقضايا عصره ونوازله.
أحدهما: لما التبس على بعض مواطنيه قبل أكثر من ثلاثين سنة أمر
الوصول إلى القمر، وهل تصديق ذلك حرام مخالف للقرآن، أم أن القرآن يؤيده
ويدل عليه؟ ودار في تلك الأيام جدال وخصومة بين فريقين من الناس؛ فكتب في
حينها رسالة مختصرة بعنوان: (رسالة في الوصول إلى القمر) قال فيها:» وإذا
صح ما تواترت به الأخبار من إنزال مركبة فضائية على سطح القمر فإن الذي
يظهر لي أن القرآن لا يكذبه ولا يصدقه، فليس في صريح القرآن ما يخالفه، كما
أنه ليس في القرآن ما يدل عليه ويؤيده « [39] ثم شرع في تفنيد ما ادعاه كل من
الفريقين دليلاً من القرآن على دعواه، وخلص إلى القول:» وبعد: فإن هذا
البحث في هذا الموضوع قد يكون من فضول العلم، لولا ما دار حوله من البحث
والمناقشات، حتى بالغ بعض الناس في رده وإنكاره، وغلا بعضهم في قبوله
وإثباته، فالأولون جعلوه مخالفاً للقرآن، والآخرون جعلوه مطابقاً للقرآن، فأحببت
أن أكتب ما حررته هنا، على حسب ما فهمته بفهمي القاصر، وعلمي
المحدود « [40] .
وبصرف النظر عما أتيح لنا من معطيات قطعية الآن تجعلنا نستغرب
اختلاف الناس فيه حين سمعوه لأول مرة؛ فالمقصود إبراز مبادرته في إزالة اللبس،
وتحرير الأمر في وقت دعت الحاجة إليه.
الثاني: موقفه رحمه الله من نازلة الدعوة إلى التقريب بين الأديان التي
نشطت في العقود الأخيرة، واستهوت بعض ضعاف العلم والإيمان، ورقاق الدين
والعقيدة، فداهنوا اليهود والنصارى والذين لا يعلمون؛ فاشتد نكيره رحمه الله على
هذه البدعة الكفرية ودعاتها في خطبه ودروسه، فقال رحمه الله:» أيها الإخوة:
إنه قد يسمع ما بين حين وآخر كلمة (الأديان الثلاثة) حتى يظن السامع أنه لا
فرق بين هذه الأديان الثلاثة كما أنه لا فرق بين المذاهب الأربعة، ولكن هذا خطأ
عظيم، إنه لا يمكن أن يحاول التقارب بين اليهود والنصارى والمسلمين إلا كمن
يحاول أن يجمع بين الماء والنار. إن دين اليهود ليس بشيء، ولا ينفعهم، بل هو
مصيرهم إلى النار، إن تمسكوا به، وإن دين النصارى ليس بشيء، ولن ينفعهم،
وإنما يقودهم إلى النار، إن تمسكوا به؛ لأن الواجب على الجميع أن يؤمنوا بالنبي
صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم وهو البار الصادق بدون قسم،
فقال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني،
ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» [41] [42] .
وبعد: فهذا قليل من كثير من جهود شيخنا محمد ابن صالح العثيمين رحمه
الله في بيان العقيدة ونشرها، ومن سمات منهجه في تقريرها وإرسائها، أبقى الله
له غُنْمَه وبره، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، وأحله دار
المقامة من فضله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
__________
(*) من خواص طلاب الشيخ ابن عثيمين، وأطروحته في الماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة بعنوان: (مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات. عرض ونقد) ، وأطروحته في الدكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة بعنوان: (دعوة التقريب بين الأديان، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية) - البيان -.
(1) هذه القطعة من خطبة الحاجة وما تلاها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كان شيخنا رحمه الله يستهل بها الخطب والمحاضرات العامة واللقاءات كثيراً؛ فأثبتناها لمناسبة المقام.
(2) رواه أبو داود (4/480) ، والحاكم في مستدركه (4/522) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/61) وصححه جمع من الأئمة، قديماً وحديثاً، منهم: ابن حجر، والسيوطي، والعراقي، والألباني، وابن باز، وانظر في تخريجه وفقهه: مجلة البيان، الأعداد (1 13) .
(3) جامع الأصول: 11/320.
(4) انظر منظومة السيوطي: (تحفة المهتدين بأخبار المجددين) ، وجامع الأصول: 11/324.
(5) انظر ترجمته في العدد السابق من مجلة البيان (159) ، ص 145 152.
(6) فتح رب البرية بتلخيص الحموية، المقدمة ومن الجدير بالتنبيه أنه لا غنى لطالب العلم المتخصص عن قراءة الأصل، لما فيه من النقول المطولة المهمة، التي توقفه على حقيقة مذهب السلف من جهة، وتكشف له عن ثاقب فهم شيخنا، وبديع تلخيصه، من جهة أخرى.
(7) مذكرة على العقيدة الواسطية الخطبة، وقد طبعت مرة بعنوان العقيدة الواسطية، طبعة مكتبة الهدى الإسلامية 1406هـ، ومرة باسم تعليقات على العقيدة الواسطية، طبعة دار الوطن 1412هـ.
(8) انظر في ذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (3/160 201) .
(9) انظر ترجمة شيخنا في العدد السابق (159) ، ص 146.
(10) تقريب التدمرية، المقدمة.
(11) شرح لمعة الاعتقاد، ص 3، طبعة دار الوطن.
(12) شرح العقيدة الواسطية، (1/18) طبعة دار ابن الجوزي.
(13) عقيدة أهل السنة والجماعة، ص 2، طبعة جامعة الإمام، 1404هـ.
(14) حاشا من خالفه رحمه الله من أهل العلم والفضل في هذه المسألة، مع علمهم وإقرارهم بفضله وسلامة قصده.
(15) هذا اقتباس مما وصف به شيخنا شيخه عبد الرحمن السعدي، رحمهما الله في مقدمة (الضياء اللامع من الخطب الجوامع) ، ص 3، وشيخنا حقيق أن يوصف به.
(16) انظر هذه الضميمة من المحاضرات في مجموع فتاواه ورسائله التي جمعها الشيخ فهد
السليمان، المجلد الخامس.
(17) المرجع السابق، المجلدات الأول والثاني والثالث.
(18) انظر أنموذجاً لتلك الرسائل في مجموع الفتاوى والرسائل (1/229 279) .
(19) مقدمة نبذة في العقيدة الإسلامية.
(20) القواعد المثلى، ص 76 77، طبعة أضواء السلف، أصداء المجتمع، وانظر أيضاً: شرح العقيدة الواسطية، (1/92 97) .
(21) نبذة في العقيدة الإسلامية، الخاتمة.
(22) شرح العقيدة الواسطية: (1/205) .
(23) المرجع السابق: (1/330) .
(24) منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل، من مجموع الفتاوى والرسائل: (5/ 188) .
(25) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (12/80 81) .
(26) القواعد المثلى، ص 34.
(27) القواعد المثلى، ص 68.
(28) مجموع الفتاوى والرسائل: (1/217) .
(29) مجموع الفتاوى والرسائل: (1/218) .
(30) درء تعارض العقل والنقل: (5/297) .
(31) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (3/339) .
(32) قال الجوهري: (اختصار الكلام: إيجازه) الصحاح: 2/ 646، و (التلخيص: التبيين والشرح) الصحاح 3/55.
(33) انظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية، ص 46، طبعة جامعة الإمام (الرابعة) .
(34) القواعد المثلى، ص 118 119.
(35) رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (4/2001) .
(36) رواه البخاري: (1/62) باب من خص بالعلم قوماً دون قوم.
(37) رواه مسلم في المقدمة.
(38) القول المفيد على كتاب التوحيد: (2/301 302) .
(39) رسائل في العقيدة، ص 121، طبعة دار طيبة، 1404هـ.
(40) رسائل في العقيدة، ص 126.
(41) رواه مسلم، 1/134.
(42) جزء من خطبته يوم الجمعة الموافق: 15/1/1420هـ.(160/34)
نص شعري
غاب صوت الشيخ
مبارك بن عبد الله المحيميد
لم يكن رحمه الله يتأخر عن حلقة التدريس إلا بخبر يُودِعه آذان طلابه، فما
باله غاب اليوم بلا خبر؟ ! !
هل أتى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ بِهِ ... غَابَ صَوْتُ الشَّيْخِ عَنْ طُلاَّبِهِ؟
لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ أوْ دَرْسِهِ ... أوْ عَلَى الهاتِفِ أو مِحْرابِهِ!
صَوْتُهُ الخَاشِعُ يَطوِيهِ أسىً ... صَوتُ ناعِ الرَّكْبِ في رُكَّابِهِ
يَرْحَلُ الشَّيْخُ.. وما أصعب أنْ ... يرحل المحبوبُ عن أحبابِهِ!
يَرْحَلُ الشَّيْخُ.. وما كان سِوَى ... أمَّةٍ تُلْبَسُ من أثوابِهِ
يا لأطيار من العِلْمِ وقَدْ ... هَاجَرَتْ، والشَّيْخُ منْ أسْرَابِهِ
لَسْتُ أدْري أيَّ شَيْءٍ هَزَّنِي ... حِينَ خاضَ النَّاس في أوْصَابِهِ!
سَائلي: عن جِسمهِ النَّاحِل مَا ... هَدَّهُ؟ أخْبِرْكَ عنْ أسْبَابِهِ
زَادُهُ (الزَّادُ) وقَدْ آثَرَهُ ... سَائِغاً للنَّاسِ في أكْوَابِهِ
(بَابُهُ المفْتُوحُ) لا يُغْلَقُ مِنْ ... زَحْمَةِ النَّاس على أعْتَابِهِ
وَلَهُ (قَوْلٌ مُفِيدٌ) قَدْ أتَى ... سَاعِياً للْفهْمِ مِنْ أبوابه
طُفْ على أسْفَارهِ وأسأَلْ بِهَا ... كُلَّ فَنٍّ عن مزَايَا مَا بِهِ
يَعْجَزُ الفَنُّ! ! وَقَدْ تُسْعِفُهُ ... أحْرُفُ السِّفْرِ إلى إيجَابِهِ
يا لأيَّامٍ سِمانٍ قَدْ خَلَتْ ... وَلَيَالٍ خَرَجَتْ مِنْ بَابِهِ
عَجَباً كيف استطاعتْ هِمَّةٌ ... فَنِيَتْ دَهْراً عَلَى إنجَابِهِ؟ !
أنْتَ سَطْرٌ في سِجِلِّ الكَوْنِ قَدْ ... عَجزَ الأحْيَاءُ عن إعْرَابِهِ
قَفَلَ الشِّعْرُ وَقَدْ أتْعَبَهُ ... رَكْضهُ للشَّيْخِ من إعْجَابِهِ
جَاءَ بالإيجاز مِنْهُ وَعَسَى ... يَنْفَعُ الإيْجَازُ عَنْ إطْنَابِهِ(160/44)
في رياض المصلحين
منهج الشيخ ابن عثيمين في التفسير
عبد الرحمن الصالح الدهش [*]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه
ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحديث عن منهج إمام من أئمة الدين في علم كان من اهتماماته، وأمضى
فيه جزءاً من عمره، وخصَّه بنصيب وافر من دروسه، وكثيراً ما وجَّه طلابه
للعناية به، بل والبداءة به حديث لا يمكن أن تستوعبه مقالةٌ كهذه، ولذا سيكون
الحديث فيها منصبّاً على بعض منهجه في تفسيره. وقبل الحديث عن منهجه أشير
إلى موضوعين متعلقين بتفسيره:
الأول: دروسه في التفسير حيث كان تفسيره القرآنَ لطلابه [1] على ثلاثة
طرق:
1 - الطريق الأول: التفسير العام؛ حيث لم يرتبط الشيخ بكتاب تفسير
ينطلق منه، وهذا يشمل الدرس الخاص بالطلبة، وابتدأ الشيخ التفسير فيه من أوَّل
القرآن وانتهى فيه إلى سورة الأنعام، ولم يتمَّها. ويشمل تفسيره في اللقاءات العامة
حيث فسَّر الشيخ خلالها كثيراً من المفصَّل، ومواضع متفرقة من القرآن.
2 - الطريق الثاني: التفسير الذي ارتبط فيه الشيخ بتفسير الجلالين، فكان
منطلقاً له، ولم يقتصر عليه، وبلغ فيه سورة الزخرف، ولم يتمها أيضاً.
3 - الطريق الثالث: التفسير المفرَّق ويتمثل في تفسير الشيخ للآيات التي
تمر في أثناء شرحه لكتابٍ ما، وهي كثيرة، وربما أسهب الشيخ في تعليقه عليها،
ورجَّح فيها [2] .
ومع تعدد الطرق التي تناول الشيخ التفسير من خلالها إلا أن منهجه فيها
متقارب، حيث اتفقت في كثير من المعالم.
الثاني: مصادره في تفسيره:
الغالب في طريقة الشيخ رحمه الله تعالى ألا يذكر مصادره التي نقل منها،
ولا أسماء العلماء الذين يذكرُ أقوالهم، بل تراه يبهمُ أسماءهم، ويذكرُ الأقوال
منسوبة إلى بعض أهل العلم، أو بعض المفسرين دون تحديدهم، إلا أنه قد ينصُّ
في بعض الأحيان على بعضهم، ومنهم على سبيل المثال: ابن حزم
(البقرة: 222، 228) ، الزمخشري (آل عمران: 1) ، ابن تيمية، ابن القيم
(البقرة: 1، 228) ، ابن اللبان صاحب الاختيارات الفقهية (البقرة:
228) ، محمد رشيد رضا (البقرة: 219) ، وشيخه عبد الرحمن السعدي
(البقرة: 229) ، وغيرهم.
المنهج العام للشيخ في التفسير:
لقد كان الشيخ رحمه الله تعالى موسوعيَّ المعرفة، درس علوم الشريعة وتفقه
فيها، وكان لها الأثر الواضح في تفسيره.
وقد عمد الشيخ إلى تقريب التفسير لعامة الناس فضلاً عن طلابه والمستفيدين
منه؛ فالسهولة في العبارة والبعد عن غامض التراكيب واضحٌ في العرض، ولذا
خلا تفسير الشيخ من الأقوال الكثيرة، والتفريعات البعيدة التي قد تجدها في بعض
التفاسير، وكذا التعقيدات البلاغية، أو الأعاريب المطولة.
ومع هذا تجد في تفسير الشيخ ما تجده عند غيره من الاعتماد على بيان
القرآن بالقرآن، وجمع نظائر الآية، وبيان القرآن بالسنة، وذكر للقراءات،
وتوجيهها معنى أو إعراباً، وبيان المشكل، وأسباب النزول تحت المنهج العام
للشيخ، وكذا الشعر، وهو قليلٌ نسبياً، وفي غالبه شاهد لغوي، أو ضابط نحوي
أو نحو ذلك.
ويجد القارئ والسامع في أثناء ذلك الترجيح المبني على قاعدة، أو التنبيه
على خطأ في فهم آية.
ففي تفسير قوله تعالى: [وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ] (آل عمران: 27) ،
يرجح الشيخ أن الآية عامة في الحياة الحسية، كإخراج الإنسان من النطفة،
والمعنوية كإخراج الكافر من المؤمن.
ويعلل الشيخ لهذا الترجيح بقوله: «إذا صلح اللفظ للمعنيين بدون تنافٍ
بينهما فالواجب حمله عليهما» .
وعند قوله تعالى في وصف يحيى عليه السلام: [وَسَيِّداً وَحَصُوراً]
(آل عمران: 39) . قال الشيخ: «أي: حاصراً نفسه عن أراذل الأخلاق، وأما
من قال من المفسرين إن (الحصور) الممنوع عن إتيان النساء، فإن في هذا
نظراً واضحاً؛ لأن عدم قدرة الإنسان على النساء ليس كمالاً، ولكنه عيب، وفيها
قول آخر أنه لا يأتي من النساء من لا تحل له فيكون وصفاً له بكمال العفة، لكن ما
قلناه أشمل من هذا القول، فهو مقدم على المعنى الأقل» .
وعند قوله تعالى: [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ] (آل عمران: 37) .
ينبه الشيخ على خطأ من كتب الآية على طاق القبلة، يظن أنه هو المحراب
المراد بالآية، وإنما هو مكان العبادة.
والشيخ حريص كل الحرص على عدم الوقوع فيما وقع فيه كثير من
المفسرين من حشد الإسرائيليات والاعتماد عليها؛ فعند قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً] (البقرة: 67) ، قال الشيخ: «وقد ذكر المفسرون هنا
إسرائيليات كثيرة حول هذا الموضوع ولكن لا يعنينا أن نُعيِّن مَن هذا القاتل؟ ومَن
هذا المقتول؟ وإنما المقصود أنه قتلت نفس فادارؤوا فيها، أي: تخاصموا» .
ثم هو يشكك فيما قيل عن مريم عند قوله تعالى: [وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً]
(آل عمران: 37) . إنها تنمو في العام ما ينمو غيرها في عامين. قال الشيخ:
«ولعلها من الإسرائيليات ... فالله أعلم» .
وعند قوله تعالى: [وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً] (آل عمران: 37) .
قال الشيخ: «قال بعض المفسرين وهو من الإسرائيليات يجد عندها فاكهة
الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء» .
وبعد هذه المعالم العامة نجدنا مضطرين إلى إبراز معالم أساسية في منهج
الشيخ في تفسيره وهي:
أولاً: التفصيل في أحكام القرآن، وبيان الراجح منها بدليله، دون تعصب
لمذهب معين:
وهذا أشهر من أن يُذكر فيه مثالٌ؛ لأن الشيخ رحمه الله تعالى كان فقيهاً
مجتهداً، وكان لا يمرُّ بآيةٍ من آيات الأحكام إلا فصَّل في ذلك الحكم وبينه.
ثانياً: ذكر القضايا الفقهية المعاصرة المرتبطة بالآية، وبيان الحكم فيها:
ومن ذلك ما قاله في تفسير قوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ]
(البقرة: 219) ، قال: «فلو تقامرا على شيء من المال بأي صفة من
الصفات؛ فإن ذلك يعتبر مَيْسراً، ومن ذلك ما يسمى بالحظ والنصيب، فإنه
ميسر، ومن ذلك التأمين على الأموال أو على السيارات أو على البيوت أو على
النفوس أو ما أشبه ذلك» .
ثالثاً: تنزيلُ الآيات على الواقع المعاصر، وربطها به:
ففي قوله تعالى: [وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ] (البقرة: 221) ،
قال: «إن في الآية رداً واضحاً على الذين أطلقوا أن دين الإسلام دين مساواة؛
لأن التفضيل ينافي المساواة.
والعجيب أنه لم يأت في الكتاب ولا في السنة لفظ المساواة أبداً؛ لأن الله ما
أمر بها، ولا رغب فيها؛ لأنها ليست صحيحة، فإذا قلت بالمساواة دخل الفاسق
والكافر والمؤمن والذكر والأنثى، وهذا هو الذي يريده أعداء الإسلام من المسلمين،
لكن جاء الإسلام بكلمة هي خير من تلك الكلمة، وليس فيها احتمالٌ أبداً، وهي:
[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] (النحل: 90) ، فكلمة العدل تقتضي أن نسوِّي بين
الاثنين حيث اتفقا في الصفات المقتضية للتسوية، وأن نفرق بينهما حيث اختلفا في
الصفات المقتضية للتفريق» .
وانظر أيضاً حديثه في هذه الآية عن التنبيه على الدعوة التنصيرية التي يقوم
بها النصارى في هذا العصر.
وانظر ذكره فائدة في قوله تعالى: [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ] (البقرة: 223) ،
فقد ذكر الدعوة إلى تحديد النسل، وردَّ عليها. وغيرها كثيرٌ من القضايا
المعاصرة التي تطرَّق إليها الشيخ أثناء تفسيره.
رابعاً: الاهتمام بالجانب التربوي الذي تشير إليه الآيات، ويظهر ذلك في
جانبين:
الأول: الجانب الوعظي:
ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ] (البقرة: 223) ،
قال: «والله لو كانت قلوبنا حيَّةً لكان لهذه الكلمة وقع في نفوسنا؛ لأنها من كلام
الله عز وجل مصدَّرة بـ (اعلموا) ، لكن، واللهِ القلوبُ ميتة، والشكوى إلى الله
عز وجل» .
الثاني: جانبُ الإرشادات والتوجيهات لطالب العلم:
ومن ذلك تعليقه على قوله تعالى: [وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]
(البقرة: 221) ، قال: «وأنت إذا آمنت بهذه الجملة، وهي قوله: [وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ] (البقرة: 221) ، فإنه قد يعرض لك مسألة لا تجدها في كلام الفقهاء ولا
في كلام المحدثين، وعندما تتأمل القرآن تجدها واضحة صريحة، أو عندما تتأمل
السنة تجدها واضحة مبينة فيها، وهذا شيء معلوم.
ولهذا أحثكم أنتم طلبة العلم على أن يكون دأبكم في الوصول إلى غائص
المسائل الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولا حرج أن نستعين بكلام أهل العلم؛ لأن
اعتماد الإنسان على نفسه في فهم الكتاب والسنة قد يحصل فيه خلل كثير؛ فلا بد
أن يعرف القواعد التي قعَّدها السلف من الصحابة والتابعين، مستنبطين لها من
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم» .
وعند قوله تعالى: [وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ] (آل
عمران: 7) .
قال الشيخ: «ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يكون راسخاً في العلم لا
جامعاً كثيراً منه؛ لأن العبرة بالرسوخ في العلم؛ فإن الإنسان إذا كان عنده رسوخ
في العلم صار عنده ملكه يستطيع أن يُقرِّب العلم بعضه من بعض، ويقيس ما لم
يُنَصَّ عليه على ما نُصَّ عليه، ويكون العلم لديه كالطبيعة الراسخة» .
خامساً: النواحي اللغوية:
كان الشيخ رحمه الله يولي عناية واضحة بالنواحي اللغوية، فيبرز معنى
الآية من خلال وقفات إعرابية، أو صرفية، أو بلاغية، والشيخ رحمه الله من
خلال وقفاته تلك يهدف فيما يهدف إلى الناحية التطبيقية لطلابه، ولا أدل على ذلك
من إعرابه بعض الآيات واضحة الإعراب إعراباً تفصيلياً [3] .
ومثله استطراداته الكثيرة في قضايا نحوية بحتة فعند قوله تعالى: [وَمَن
يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ] (آل عمران: 19) .
استطرد الشيخ في بيان سبب ارتباط جملة جواب الشرط بالفاء، بطريقته
الحوارية في الدرس مع الطلبة، وذكر ما ذكره النحاة في ضابط ذلك.
اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقريبٌ منه استطراده حول الاسم الممنوع من الصرف عند كلامه على قوله
تعالى: [أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى] (آل عمران: 39) ، حيث أشار إلى
الخلاف في عربية اسم (يحيى) واستطرد من خلاله إلى موانع الاسم من
الصرف بطريقته السابقة.
وأمَّا وقفات الشيخ الصرفية فهي قريبة في منهجها من وقفاته النحوية، فيذكر
وزنَ بعضَ الكلماتِ واشتقاق بعضها ليصلَ إلى معنى الكلمة القرآنية.
فعند قوله تعالى: [نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ] (آل عمران: 3) . قال الشيخ:
«هو هذا القرآن، وهو (فِعال) بمعنى: (مفعول) ؛ لأنَّه مكتوبٌ فهو كتابٌ
مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: [إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ]
(الواقعة: 77-78) .
وفي تفسير قوله تعالى: [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ] (آل عمران: 34) .
قال الشيخ:» والذرية مأخوذة من (ذرأ) بمعنى (خلق) ؛ لقوله تعالى:
[يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ] (الشورى: 11) ، يذرؤكم فيه: أي: يخلقكم.
وقيل: من (وذر) ، بمعنى (ترك) ، فعلى الأول تكون الذرية شاملة
للأصول والفروع، لأن الأصول مخلوقون، والفروع كذلك مخلوقون، أما إذا
جعلناها من (وذر) بمعنى (ترك) ، فهي للفروع فقط، وهذا هو المعروف عند
عامة الناس أن الذرية هم الفروع.
ثم يتساءل الشيخ رحمه الله: هل في القرآن ما يدلُّ على أن الذرية تطلق
على الأصول؟
فيجيب بقوله تعالى: [وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ]
(يس: 41) .
فإن الذين حُمِلوا من الذرية هم الذين آمنوا مع نوح وهم سابقون، أي
أصول «.
والشيخ رحمه الله بإيجازه هذا غير المخل، وتساؤله الذي جاء عرضاً قد
أجاب عن إشكال استوقف كثيراً من المفسرين، ومن آخرهم شيخه عبد الرحمن
السعدي (ت: 1376هـ) ؛ حيث قال في تفسيره عند هذه الآية:» وهذه الآية
من أشكل المواضع عليَّ في التفسير « [4] .
وأما اللفتات البلاغية فلم يخلُ تفسير الشيخ رحمه الله من وقفات عندها، ومن
ذلك عند تفسيره قول الله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ]
(آل عمران: 14)
أشار الشيخ إلى قوة التعبير القرآني؛ حيث سلط الحب على الشهوات لا على
هذه الأشياء؛» لأن هذه الأشياء حبُّها قد يكون محموداً «إذا لم يكن سبباً لصده
عن دين الله.
وفي قوله تعالى: [وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ] (آل عمران: 15) ، يشير الشيخ
إلى نكتة العموم في إطلاق (مطهرة) لتشمل التطهير الحسيَّ والمعنويَّ معتمداً على
قاعدة: أن حذف المعمول يُؤْذن بعموم العامل. قال الشيخ:» ولهذا أمثلة كثيرة
مثلاً قوله تعالى: [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً
فَأَغْنَى] (الضحى: 6-8) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وجده ربُّه يتيماً فآواه،
وآوى به حتى جعله فئة لكل مؤمن، ضالاً فهداه وهدى به، عائلاً فأغناه وأغنى
به «.
سادساً: استنباط الفوائد:
تُشكِّل الفوائد في درس التفسير جزءاً لا يغفل في منهج الشيخ، وتأتي أهمية
الفوائد من حيث إفرادها في الكلام بمبحث الفوائد عقب آية أو آيات يتم الشيخ
تفسيرها والكلام عليها، ومن ناحية أخرى توسُّع الشيخ فيما يذكره تحت هذا
المبحث؛ فهو لا يقتصر على الفوائد المباشرة في الآية؛ إذ يذكر الفائدة ثم يتبعها
بما قد يتفرع أو يُشْكل عليها ويجيب عنه.
فعند قوله تعالى: [وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (آل عمران: 27)
يقول الشيخ رحمه الله:» ومن فوائد الآية الكريمة أن الرزق بيد الله لقوله
تعالى: [وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ] (آل عمران: 27) ويترتب على هذا أنه ينبغي
للعاقل فضلاً عن المؤمن أن لا يطلب الرزق من أيدي الناس، وإنما يطلبه من الله
عز وجل، ولهذا جاءت النصوص بفضيلة العفة «.
وعند قوله تعالى عن امرأة عمران: [وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ] (آل عمران:
36) .
يذكر الشيخ رحمه الله من فوائد الآية تسمية المولود حين يولد، ثم يقول:
» وهذا هو السنة: أن يُسَمَّى الإنسان حين يولد إلا إذا لم يتهيأ الاسم فإنه يسمى في
اليوم السابع، وبهذا تجتمع الأدلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وُلِد إبراهيم،
قال: (وُلِد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم) [5] وفي حديث العقيقة قال:
(تذبح يوم سابعه، ويحلق ويسمى..) « [6] .
والفوائد مجال رحب عند الشيخ رحمه الله لتقرير العقيدة السليمة، وتصحيح
الأخطاء العقدية بشيء من الاستطراد والبسط؛ فعند قوله تعالى: [لَن تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ] (آل عمران: 24) .
يقول الشيخ رحمه الله:» ومن فوائد هذه الآية الكريمة أن هؤلاء يؤمنون
بالبعث؛ لقولهم: [لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ] (آل عمران: 24) ،
ويتفرع على هذا أنه لا يكفي في الإيمان أن يؤمن الإنسان بالله وباليوم الآخر دون
أن يستلزم هذا الإيمان قبولاً، وإذعاناً؛ فإن مجرد التصديق لا يعتبر إيماناً؛ إذ لا
بد من القبول والإذعان، ولهذا أدلة «.
وفي تفسير قوله تعالى: [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (آل عمران: 34) .
يقول الشيخ رحمه الله:» ومن فوائد الآية الكريمة إثبات اسمين من أسماء
الله، وهما (السميع والعليم) ، فالسميع يتعلقُ بالأصوات، والعليمُ يتعلق بكل شيء
بالأصوات، والأحوال، والأعيان «.
ثم يستطرد الشيخ في تقسيم أسماء الله إلى متعدية ولازمة، وما يتضمنه كل
نوع من الدلالة، ثم يستطرد مرة ثانية إلى الفرق بين دلالة التضمن والاستلزام
وتطبيق ذلك على اسم (الخالق، والرحمن، والحي) .
وفي مجال تصحيح الأخطاء العقدية يذكرُ الشيخ رحمه الله عند كلامه على
آيات عموم القدرة في أكثر من موضع يذكر مقالة السيوطي رحمه الله في تفسير
قوله تعالى: [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(المائدة: 120) ، حين قال:» وخصَّ العقل ذاته فليس عليها بقادر « [7] ، ثم
يتعقبها ففي تفسيره لقوله تعالى: [قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران:
29) ، يقول الشيخ رحمه الله بعد ذكره مقالة السيوطي السابقة:» فإن هذه كلمة
باطلة، هو أراد معنى والله أعلم لكن التعبير بهذا خطأ، نقول: إن الله تعالى قادرٌ
على كل شيء يتعلقُ بفعله، أو بفعل عباده، كل شيء يفعله الله فهو بقدرته سبحانه
وتعالى، كل شيء يفعله العبادُ فهو بقدرته، وهذا الاستثناء أو هذا التخصيص غير
صحيح، بل العقل يشهد لله تعالى بكمال أو بعموم القدرة، وأنه على كل شيء
قدير «.
وفي مسألة التفاضل بين الملائكة وصالحي البشر، وهي مسألة أطال فيها
بعضُ العلماء النَّفَسَ، وحُشدت لأجلها الأدلة يوردها الشيخ رحمه الله من فوائد قوله
تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ]
(آل عمران: 33) ، يوردها بقوله:» من فوائد الآية الكريمة ما ذكره بعض أهل
العلم من أن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة، ثم يقول: وعندي أن البحث
في هذه المسألة من فضول العلم؛ لأنه أي فائدة لنا إذا قلنا: إن فلاناً أفضل من
جبريل، أو جبريل أفضل من فلان..؟ «، وبعد إشارته لشيء من أدلة الفريقين،
يقول:» وجمع شيخ الإسلام رحمه الله بين هذين القولين، فقال: إن الملائكة
أفضل باعتبار البداية، وصالحي البشر أفضل باعتبار النهاية «.
ثم ينهي الشيخ رحمه الله عرضه للمسألة بقوله:» ومع ذلك فإني أرى أن
الإمساك عن هذا أوْلى ... وأمَّا أيهم أفضل فهذا أمر لم نكلف به «.
والحق أن الجانب العقدي في تفسير الشيخ سواء ما يتعلق منه بتوحيد الربوبية
أو الألوهية أو الأسماء والصفات، أو غيرها من مباحث العقيدة يستحق أن يفرد
بدراسة استقرائية وافية يُبرز من خلالها منهج الشيخ في ذلك.
سابعاً: كثرة القواعد العلمية التي يذكرها ويذكر تطبيقها في الآية، وهي
قواعد متنوعة من لغوية ونحوية وأصولية وغيرها، ومنها:
* الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
* الأصل أن الوصف متحقق في الموصوف حتى يتبين خروجه عن ذلك.
* من تأمل الشريعة وجد أنها تعتني بالمعنى أكثر من الاعتناء باللفظ.
* لا ينبغي الإطلاق في موضع يخشى فيه من التعميم.
* العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
* عند التنازع نرد المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله.
* العام لا يدل على جميع أفراده دلالة قطعية، بل دلالته ظنية.
ولو جُمعت هذه القواعد العلمية العامة مع تطبيقاتها، لشكلت كتاباًَ نافعاً لطلبة
العلم.
وبعد، فما ذُكر في هذه المقالة غيضٌ من فيض، وقليل من كثير، وعسى الله
أن يُقيض من يقوم بدراسة منهج الشيخ في عموم العلوم التي برع فيها، فيُبرز فيها
ما يفيد طلبة العلم من تراث الشيخ المبارك. ولا نملك في الختام إلا أن ندعو له
بالمغفرة والرحمة، ونسأل الله أن يبلغه الفردوس الأعلى جزاء ما قدم، إنه سميع
قدير، وبالإجابة جدير.
__________
(*) محاضر في قسم القرآن وعلومه، جامعة الإمام، فرع القصيم، ومن خواص تلاميذ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
(1) يخرج بهذا ما كتبه الشيخ رحمه الله من تأليف في التفسير.
(2) من ذلك شرحه للآيات في كتاب التوحيد، والواسطية، ومقدمة التفسير وغيرها.
(3) انظر إعرابه لقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] (آل عمران: 4) .
(4) تيسير الكريم الرحمن، ص 696، تحقيق: اللويحق.
(5) أخرجه مسلم، ح/ 2315، أبو داود في الجنائز، ح/ 2719.
(6) رواه أبو داود، ح/ 2455.
(7) تفسير الجلالين، 1/547 بحاشية الجمل.(160/45)
نص شعري
في موكب الوداع
أحمد بن حسن الصابطي
من قلب مجروح، ودمع مسفوح، وصوت مبحوح، تنطلق هذه الكلمات،
وتئن هذه العبارات، وترتفع هذه الدعوات، في هذا الموكب المهيب، والمشهد
الرهيب، في وداع شيخنا الحبيب، فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين،
فسلام عليه في الصالحين، وغفر الله لنا وله أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
مهلاً فديتك؛ فالقلوب تنادي ... وعلى ثراك يئن صوت الحادي
مهلاً فديتك؛ فالنفوس جريحة ... قد مزَّقتها حرقة الأكباد
ما زال جرح الباز فينا راعفاً ... منذ التقى سهم الخميس فؤادي
يسري اللظى بين العروق يزيده ... ألماً سِهامُ بقيةِ الرُّواد
سهم وآخر والجروح كثيرة ... والصبر فيها عدَّتي وعتادي
يا ابن العثيمين الذي خفقت له ... حباً قلوب حواضر وبوادي
أنت المفسر والفقيه وشامة ... في العلم والتعليم والإرشاد
والزهد ألقى في فنائك رحله ... وبقيت مقياساً لكل جواد
مهلاً فديتك؛ إنَّ في آرائكم ... سيفاً صقيلاً يُنتضى لجهاد
فالحرب تغلي قِدرُها يا شيخنا ... حَمِيَ الوطيسُ وغُصَّ بطن الوادي
حرب ضروس لم تضع أوزارها ... بين الأباة وطغمة الأوغاد
من كل صوب أجلبوا وتحزبوا ... وتلفعوا بالشر والأحقاد
والمرجفون دبيبهم متواصل ... يستبشرون بفكرة استعباد
وطغاة أصحاب الكتابين التقوا ... بعبيدهم في موطن الميعاد
وبواسل الشيشان قلَّ نصيرهم ... وجراحنا تربو على التعداد
مهلاً فديتك؛ فالخدود قد ارتوت ... من دمعنا لوداع شيخ النادي
يوم الوداع تفطرت أكبادنا ... والعين فيه تكحلت بسهاد
لما رأيت سريره ناديته ... بقلوبنا: يا قمة الأطواد
أين المسير وقد أخذت قلوبنا ... وتركت فينا نظرة الحساد؟
يا حاملي نعش الحبيب تمهلوا ... فلقد حملتم سيد الزهاد
لا بل حملتم بدرنا وضياءنا ... وسحابة العلم المغيث بلادي
فإذا أردتم دفنه وغيابه ... فلتدفنوه بمقلتي وفؤادي
مهلاً.. ولكنَّ القضاءَ مقدرٌ ... فالحمد لله العظيم الهادي
صبراً فؤادي! فالطريق طريقنا، ... والناس فيه روائح وغوادي
والله يرحمنا ويرحم شيخنا ... فالموت للأحياء بالمرصاد
والله يُخلف غيره في أمتي ... فهو العليم بدعوتي ومرادي(160/51)
في رياض المصلحين
المنهج الفقهي للشيخ محمد بن صالح العثيمين
د. خالد بن علي المشيقح [*]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الله بعث رسله مبشرين ومنذرين، وكلفهم بالبلاغ، وأوجب عليهم دعوة
الناس إلى صراطه المستقيم، فقام رسل الله وأنبياؤه بهذه الوظيفة على أكمل وجه.
ثم خلفهم العلماء الربانيون الذين سخَّروا ما وهبهم الله من علم للدعوة إليه، وبث
الخير في نفوس الناس، وتعليمهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، والسعي في
حوائجهم وحل مشكلاتهم.
ولعل شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى من هؤلاء العلماء؛ فقد
كانت حياته جهاداً متواصلاً بالعلم والتعليم والدعوة والإفتاء وقضاء حوائج الناس؛
فقد عكف رجليه في المسجد أكثر من أربعين عاماً في تعليم العلم ونشره.
ومع براعة الشيخ رحمه الله تعالى في التفسير والعقيدة، وله فيهما باع لا يكاد
يجارى غير أن شهرته، ومعرفة عامة الناس به كانت في الجانب الفقهي أكثر من
غيره.
وفي هذه العجالة سألقي نظرة على هذا الجانب في حياة الشيخ، وقبل أن
أذكر شيئاً من مميزات فقهه سأمهد بذكر شيء من فقه شيخه عبد الرحمن السعدي؛
إذ هو شيخه الأول الذي تأثر به وأفاد منه.
والعلاَّمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى من جهابذة
الفقهاء؛ فقد كان رحمه الله ذا معرفة تامة بالفقه أصوله وفروعه، وفي أول أمره
كان متمسكاً بمذهب الإمام أحمد رحمه الله وله اطلاع واسع على مؤلفات الحنابلة،
وكان ذا إدراك باهر واطلاع واسع على كتب الخلاف في المذهب، ومن ذلك أنه
حفظ بعض المتون فيه، وله مؤلَّف على طريق النَّظْم للمسائل يتكون من أربعمائة
بيت.
ثم أقبل الشيخ عبد الرحمن على مؤلفات الشيخين الجليلين شيخ الإسلام ابن
تيمية والإمام ابن قيم الجوزية إقبالاً منقطع النظير، فاستوعب ما حوته كتبهما من
التحقيق العظيم في علوم السلف، وحسن التوجيه والإرشاد؛ فحصل له بذلك سعة
علم خاصة في علم الفقه، وقد أكد ذلك معظم من ترجم للشيخ وخصوصاً طلابه
الذين تعلموا على يديه، ونهلوا من علمه.
يقول عنه تلميذه الشيخ عبد الله البسام في كتابه (علماء نجد) : «وما أن
تقدمت به الدراسة شوطاً حتى تفتحت أمامه آفاق العلم فخرج عن مألوف بلده من
الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط إلى الاطلاع على كتب التفسير والحديث والتوحيد،
وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي فتقت ذهنه ووسعت مداركه،
فخرج عن طور التقليد إلى طور الاجتهاد المفيد، فصار يرجح من الأقوال ما
رجحه الدليل وصدَّقه التعليل» [1] .
وقال تلميذه محمد القاضي في كتابه: (روضة الناظرين) : «ولقد أكب
على المطالعة في كتب الفقه والحديث طيلة حياته خصوصاً على كتب الشيخين ابن
تيمية وابن القيم فقد كانت له صبوحاً وغبوقاً» [2] .
وقال ابنه عبد الله: «وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم» .
كما أن الشيخ عبد الرحمن أثنى كثيراً على الشيخين في ثنايا كتبه، ونوه بما
لهما من باع طويل في التحقيق والتدقيق للمسائل العلمية؛ وذلك كما في كتابه:
(طريق الوصول) [3] ، وفي رسالته: (الأدلة القواطع في إبطال أصول
الملحدين) [4] وغيرها.
وقد خلَّف الشيخ عبد الرحمن ثروة عظيمة من كتب الفقه، وبهذا يُعلَم إثراء
الشيخ عبد الرحمن للفقه المبني على الدليل المؤيد بالتعليل، ومن أبرز كتبه:
«المختارات الجلية من المسائل الفقهية» وهي مختارات من المسائل رجحها الشيخ
لقوة دليلها ولو كانت مخالفة لمذهب الإمام أحمد، ومنها: «المناظرات الفقهية»
على طريقة المناظرة، ومنها: «الإرشاد» على طريق السؤال والجواب، ومنها:
«الفتاوى السعدية» ، ومنها «منهج السالكين» ، ومنها: «حاشية على الفقه»
استدراكات على كتب الأصحاب، ومنها: «منظومة في أحكام الفقه» وغيرها.
وهذا الفقه العظيم للشيخ عبد الرحمن قد ارتبط بالتقعيد والتأصيل؛ فله باع
في أصول الفقه والقواعد الفقهية، فامتزج عنده الفقه بالفروع وربط الفروع بالقواعد،
ويدل على تمكن الشيخ من هذين العلمين:
أ - اختصاره لقواعد ابن رجب وهو في صغره سنة 1336هـ في كتاب
أسماه: «تحفة أهل الطلب بتجريد قواعد ابن رجب» وقد وفقني الله للعناية
بإخراج هذا الكتاب، وقد طبع هذا العام 1421هـ.
ب - ومن مؤلفاته في هذين العلمين، رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه
هي: «الأصول الجامعة» ، ومن ذلك أيضاً: «طريق الوصول إلى العلم
المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول» .
وقد عني الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى أيضاً بالفروق والتقاسيم الفقهية،
وله كتاب في ذلك هو: «الأصول والقواعد الجامعة والفروق والتقاسيم النافعة» ،
وقد وفقني الله عز وجل لطباعته على نسخة خطية للشيخ، ومما قاله في مقدمته:
«أما بعد: فإن معرفة جوامع الأحكام وفوارقها من أهم العلوم وأكثرها فائدة
وأعظمها نفعاً؛ لهذا جمعت في رسالتي هذه ما تيسر من جوامع الأحكام وأصولها،
ومما تفترق فيه الأحكام لافتراق حكمها وعللها، وقسمتها قسمين ... والقسم الثاني
أتبعت ذلك بذكر الفوارق بين المسائل المشتبهات والأحكام المتقاربات والتقاسيم
الصحيحة» . وقد ذكر رحمه الله في رسالته كثيراً من الفروق والتقاسيم كالفرق
بين الفرض والنفل، ص 95، والفرق بين ترك المأمور وفعل المحظور،
ص 98، والفرق بين شرط الموقف والموصي وغيرهما، ص 101، وغير
ذلك.
ومن التقاسيم: أقسام أجزاء الحيوان، ص 106، وأقسام الحركة في الصلاة،
ص 117، وأقسام اللباس، ص 116، وغير ذلك.
وقد انطبع هذا المنهج للشيخ عبد الرحمن، وانتقل إلى تلميذه الشيخ محمد بن
صالح العثيمين رحمه الله تعالى فقد أوضح رحمه الله منهجه وصرح به مرات
عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه عبد الرحمن السعدي. قال شيخنا:
«لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبد الرحمن السعدي في طريقة التدريس وعرض
العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني» .
مميزات المنهج الفقهي للشيخ ابن عثيمين:
أولاً: تبنِّي الشيخ رحمه الله لآراء الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه
ابن القيم (انظر الشرح الممتع) ، وعنايته بكتبهما؛ فللشيخ تعليق على اختيارات
شيخ الإسلام للبعلي، ومراجعة دائمة لمجموع الفتاوى، والكتب التي تعنى
باختيارات شيخ الإسلام ككتابَي الفروع لابن مفلح، والإنصاف للمرداوي، وقرأ
للطلبة في دروسه السياسة الشرعية لشيخ الإسلام، وعلق عليه، وله مختارات من
إعلام الموقعين، وزاد المعاد، والطرق الحكمية وثلاثتها لابن القيم.
وفي غير الجانب الفقهي: شرح للطلبة الواسطية، والحموية، والتدمرية،
ومقدمة التفسير لشيخ الإسلام، والنونية لابن القيم، وغير ذلك، فأثر ذلك في علم
الشيخ في دروسه وفتاويه وكتبه من حيث الاعتناء بالدليل ومعرفة رأي المخالف،
ومناقشة دليله، والرد عليه، والاهتمام بمقاصد الشريعة، وضبط أصولها وكلياتها.
ولم يكن تبني الشيخ لآراء الشيخين نابعاً من تقليد أعمى، بل كان متجرداً
للحق؛ فحيثما وجد الحق فهو ضالته ومطلبه، فخالف شيخ الإسلام في بعض
المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي لشيخ الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك:
- أن شيخ الإسلام يرى أن المتمتع يكفيه سعي واحد لحجه وعمرته، وشيخنا
يرى أن المتمتع لا بد له من سعيين.
- شيخ الإسلام يرى جواز الجمع بين الأختين من الرضاع، ويرى شيخنا
التحريم.
- شيخ الإسلام يرى جواز تعفير الوجه بالتراب تذللاً لله تعالى، ولم ير
شيخنا هذا.
- شيخ الإسلام يرى أن للأم الثلث مع الإخوة المحجوبين بالأب، ويرى
شيخنا أنَّ لها السدس.
- شيخ الإسلام يرى أن المأموم تكفيه قراءة إمامه في الصلاة الجهرية،
وشيخنا يأخذ بمذهب الشافعي وهو وجوب القراءة مطلقاً.
- شيخ الإسلام لا يرى تحديد مدة النفاس بأربعين يوماً، وشيخنا يرى تحديده
بأربعين يوماً.
- شيخ الإسلام يرى جواز الزيادة بين الربويين من جنس واحد في مقابلة
الصنعة، ويرى شيخنا عدم الجواز.
ثانياً: الفقه المبني على الدليل، المقرون بالتعليل غالباً، وبيان الحكمة
وأسرار الشريعة أحياناً.
فالشيخ يوجب العمل بالدليل، ويحرم مخالفته، ودروسه وفتاواه مشحونة
بتقرير ذلك، وكثيراً ما يستدل بقوله تعالى: [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ
المُرْسَلِينَ] (القصص: 65) ، ومن ذلك قوله: «العبادات لا تتم إلا بالإخلاص
لله عز وجل ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت
موافقة للشرع في ستة أمور: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان،
والمكان» [5] ولهذا خالف المذهب في كثير من المسائل: كمسألة تقسيم الماء،
ونقض الوضوء بمس المرأة لشهوة، والطلاق بالثلاث، وغير ذلك. (انظر
الشرح الممتع بمجلداته الثمانية، ورسالة الدماء الطبيعية، ورسالة الأضحية وغير
ذلك) .
وله عناية بمصادر الشريعة، فشرع في دروسه في تفسير القرآن العظيم
(تحت الطبع منه ثلاث مجلدات) وشرح كثيراً من تفسير الجلالين، وشرح صحيح
البخاري كاملاً، وبدأ بإعادة شرحه مرة أخرى، وشرح جزءاً من صحيح مسلم،
وشرح أيضاً بلوغ المرام لابن حجر كاملاً، وبدأ بإعادة شرحه مرة أخرى، وشرح
القسم الأول من عمدة الأحكام، وشرح كثيراً من المنتقى للمجد.
كما أنه إذا رجَّح قولاً، أو أفتى بمسألة ثم ظهر له خلاف ذلك لدليل ترجَّح
عنده، رجع عن قوله الأول، وأذكر لذلك أمثلة منها:
- كان يرى أن دم النفاس لا حدَّ لأكثره، ثم ترجح له أن حدَّه أربعون يوماً.
- استحباب جلسة الاستراحة مطلقاً، ثم ترجح له ترجحاً يسيراً مشروعيتها
عند الحاجة.
- أن رطوبة فرج المرأة ناقضة للوضوء، ثم تبين له عدم النقض.
- أن الكدرة مع أوجاع العادة قبل العادة منها، ثم ترجح له عدم اعتبارها.
وغير ذلك.
ثالثاً: عنايته بعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وعلم النحو ورَّثه ملكة
فقهية تقوم على تخريج الفروع على الأصول، ورد الجزئيات إلى الكليات،
والمقدرة على الاستنباط؛ فقد قرأ الشيخ في دروسه كتاب قواعد ابن رجب وعلق
عليه، وألَّف قديماً: الأصول من علم الأصول، وشرحه في المسجد، وشرح نظم
الورقات للعمريطي، ومختصر التحرير، وله أيضاً منظومة في الأصول والقواعد،
وشرحها في المسجد، وشرح أيضاً: ألفية ابن مالك والآجرومية، وغير ذلك.
وقد كثر في فقه الشيخ استعمال القواعد الفقهية والأصولية، ورد جزئيات المسائل
إليها، لما فيها من سهولة العلم، والإحاطة بأحكام الفروع والإلمام بمدلولاتها، ولما
يترتب عليها من انتظام الكليات للجزئيات، ولولا ذلك لكانت الأحكام الفقهية فروعاً
متناثرة تتناقض في ظواهرها، وإن اتفقت في مدلول بواطنها، ولا يصل الفقيه
لمرتبة الاجتهاد إلا بإدراكها وضبطها، ومن أمثلة القواعد التي خرَّج عليها فرعيات
المسائل:
- العبرة في الأمور بمعانيها لا بصورها (الممتع 1/207) .
- ما كان معفواً عنه شرعاً زال ضرره قدراً (الممتع 1/ 357) .
- يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً (1/434) .
- المشقة تجلب التيسير (1/439) .
- ما كان تحريمه تحريم وسائل أباحته الحاجة (2/211) .
- الاستثناء معيار العموم (1/275) .
- إذا قيد العام بما يوافق العام فليس بقيد (1/296) .
- الح قائق تحمل على عرف الناطق بها (1/309) . وغير ذلك.
رابعاً: العناية بالفروق والتقاسيم الفقهية: فقد اعتنى كثير من علماء المسلمين
بعلم الفروق بين المسائل والأحكام، وأفردوه بالتأليف لما له من أهمية بالغة في
إيضاح الفروق الدقيقة بين كثير من المسائل التي تتشابه صورها وتختلف أسبابها
وأحكامها وعللها، وأيضاً: الفروق كالقواعد في تقريب العلم وتسهيله والإلمام به
وحفظه، وشيخنا رحمه الله له نصيب من ذلك؛ فقد شرح في دروسه كتاب شيخه:
(الأصول والقواعد الجامعة، والفروق والتقاسيم النافعة) .
ومن الأمثلة على عنايته بالفروق والتقاسيم:
- الفرق بين القضاء والأداء (الشرح الممتع، 2/ 73) .
- الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية (الشرح الممتع، 2/ 38) .
- الفرق بين الركن والشرط، (الشرح الممتع 3/87) .
- الفرق بين شرط العقد والشروط فيه (السابق، 8/205) .
- الفرق بين الفجر الأول والفجر الثاني (السابق، 2/ 107) ، وغير ذلك.
- تقسيم إزالة الشعور إلى ثلاثة أقسام.
- النجاسة ثلاثة أقسام (الشرح الممتع، 1/351) .
- الحركة في الصلاة خمسة أقسام.
- للمأموم مع إمامه أربعة أقسام (السابق، 4/322) .
خامساً: سلوك طريقة القرآن الكريم فيما يتعلق بفقه الفرائض شرحاً وتأليفاً:
وهذه الطريقة أفيد من غيرها في تقريب هذا العلم وتسهيله وحفظه وجمعه؛ وبيانها
كما في القرآن: أنه يبين حالات كل صاحب فرض في موضع واحد؛ فالزوج مثلاً
يأخذ النصف بشرط كذا، أو الربع بشرط كذا، والزوجة تأخذ الربع بشرط كذا أو
الثمن، والأم تأخذ الثلث بشرط كذا وتأخذ السدس بشرط كذا وتارة ثلث الفرض
وهكذا. وللشيخ في هذا كتاب: «تسهيل الفرائض» وشرحه في دروس البرهانية
كثيراً.
بخلاف الطريقة الأخرى التي سلكها كثير من الفرضيين؛ فإنهم يُبيِّنون أولاً
الفروض المقدرة ثم يذكرون أصحاب كل فرض، ثم شروط إرثه لهذا الفرض،
ويؤخذ على هذه الطريقة التطويل والتكرار وتشتيت هذا العلم.
اللهم اغفر لشيخنا، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين،
وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
__________
(*) أستاذ في كلية الشريعة بالقصيم، ومن خواص تلاميذ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
(1) علماء نجد، عبد الله البسام، 2/ 424.
(2) روضة الناظرين، محمد القاضي، 1/21.
(3) انظر: ص، 3، 4، 235.
(4) انظر: ص 7.
(5) الشرح الممتع، 1/ 347.(160/52)
في رياض المصلحين
منهج الشيخ ابن عثيمين في تعليمه للعلم
علي بن عبد الله السلطان [*]
الحديث عن منهج شيخنا رحمه الله في تعليمه للعلم حديث عن وقت من أنفس
ساعات حياته؛ حيث إن المتتبع لبرنامجه اليومي يرى أنه أوقف حياته رحمه الله
على ذلك؛ فقد كان التعليم ونشر هذا الدين هو شغله الشاغل وهمه الذي لا يكاد
ينفك عنه.
فبعد أن أمضى رحمه الله أول حياته في تحصيل العلم النافع وتمكن فيه امتثل
أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بنشر هذا العلم وتبليغه وإعطائه
للناس عبودية لله وشكراً له ولئلا يكون مثل [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ
يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (التوبة: 34) ، وممتثلاً لقوله صلى الله عليه وسلم:
«بلغوا عني ولو آية» [1] .
وكان أول جلوسه للطلاب سنة 1371هـ في حياة شيخه عبد الرحمن ابن
ناصر السعدي رحمه الله حتى آخر ليلة من رمضان سنة 1421هـ؛ فقد أمضى
رحمه الله قرابة خمسين سنة «نصف قرن» في نشر هذا العلم.
والحديث عن نشره للعلم ليس في الجامع الكبير في عنيزة فقط، ولا في
عنيزة أو في القصيم أو في بقية مدن المملكة التي يصل إليها بنفسه؛ بل حتى التي
لا يصل إليها بنفسه من مدن المملكة العربية السعودية أو خارج المملكة عبر وسائل
الاتصال كما سيظهر ذلك إن شاء الله في ثنايا هذا الحديث.
هذا وسيكون الحديث عبر المحاور الآتية:
المحور الأول: المراحل الزمنية.
المحور الثاني: طريقته في التعليم.
المحور الثالث: المجالات التي من خلالها بَذَل علمه.
المحور الأول: المراحل الزمنية:
مرت حياته رحمه الله في نشر العلم عبر ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: من سنة 1371هـ حتى منتصف سنة 1376هـ.
المرحلة الثانية: من جمادى الآخرة سنة 1376هـ حتى سنة 1400هـ.
المرحلة الثالثة: من سنة 1401هـ حتى نهاية شهر رمضان 1421هـ.
وإليك تفصيل ذلك:
المرحلة الأولى: من سنة 1371هـ حتى منتصف سنة 1376هـ.
هذه المرحلة تمثل أولى بدايات جلوسه رحمه الله للتعليم وذلك بإذن من شيخه
الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وإن كانت هذه المرحلة غير منتظمة حيث
سافر خلالها للدراسة في الرياض وعاد. وكان يقوم بتدريس فئة من الطلاب حسب
ما ذكره من ترجمة للشيخ في حياته رحمه الله.
المرحلة الثانية: من رجب سنة 1376هـ حتى سنة 1400هـ.
وهذه المرحلة تمثل جلوسه للتدريس بعد وفاة شيخه في جمادى سنة 1376هـ
لطلاب العلم، وقد كان جُلُّهم في أوائل تلك الفترة من زملائه في الطلب
وشاركهم غيرهم. وقد مرَّت هذه المرحلة والطلبة بين مد وجزر من حيث العدد
تؤثر فيهم صوارف الحياة بين إقبال وإدبار، وقد أدركناهم وعددهم لا يتجاوز
العشرة، ومن بينهم بقية من طلاب الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وفي
آخر هذه الفترة التحق بدرسه مجموعة من الطلاب لازمه بعضهم إلى آخر حياته
رحمه الله.
وحسبي من هذا الإيراد وقفة مهمة ينبغي التفطن لها، وأن تكون لطالب العلم
على بال، وأن يقف عندها كل من سلك هذا الطريق؛ وهي أن تتصور مدى صبر
الشيخ رحمه الله وتحمله للفترات التي تمر على الطلبة من حيث الإقبال والإدبار
والمد والجزر؛ حتى إنه خلال ما يقرب من عشرين سنة من 1376هـ حتى
1396هـ كان العدد الذي بقي معه لا يزيدون على العشرة، بل ربما لا يتجاوزون
الاثنين أو الثلاثة أحياناً؛ فللَّه درُّ شيخنا من صاحب همة عالية تتساقط دونها كثير
من الهمم؛ فلم تلن له قناة، ولم ينثنِ له عزم، بل صبر وصابر على انصراف
الناس وعزوفهم وزهدهم في العلم.
وهذا يصور لنا جانباً من صفحات صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل
والنشر. عشرون سنة من 1376هـ 1396هـ وحصيلتها عشرة طلاب يزيدون
أو ينقصون قليلاً! لقد كان رحمه الله أستاذاً فريداً في الصبر والنظر إلى المستقبل،
ولعله يترجم هنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً
واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعم» [2] نحسبه كذلك.
المرحلة الثالثة: من 1401هـ حتى نهاية شهر رمضان 1421هـ.
انطلقت هذه المرحلة بنحو من ذلك العدد أو يزيد قليلاً عما كان عليه في
المرحلة السابقة يزيدون يوماً فيوماً؛ فإذا بالصف في الحلقة يصبح صفين وثلاثة،
وهكذا في نمو متتابع.
ثم إذا بالحال غير الحال؛ حيث انتقل طلاب في دراساتهم وآخرون في
أعمالهم إلى عنيزة وما حولها رغبة في لزوم الشيخ وثني الركب عنده، بل هناك
فئة أخرى قدمت إلى عنيزة مُوقِفَة نفسها على طلب العلم مكتفية من متاع الدنيا بما
يهيئه الشيخ من أمور على قدر الحاجة التي تخفف عنهم أعباء الانقطاع لطلب العلم
والغربة، حتى صارت مجالس دروسه مهوى أفئدة كثير من طلاب العلم، وصار
طلابه من غالب مدن المملكة، بل من الدول الأخرى، حتى إنه بلغ عدد جنسيات
الطلاب الذين ارتادوا دروسه ومجالسه العلمية ما يقرب من ثلاثين جنسية.
وبلغ عدد طلابه في بعض الدروس قرابة الخمسمائة؛ فالحمد لله الذي أقر
عين شيخنا بذلك بعد مكابدة تلك السنين، وجعل ذلك في ميزان حسناته.
المحور الثاني: طريقته في التعليم:
طريقة شيخنا رحمه الله في التعليم تتبلور فيما يلي:
أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله.
ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي.
ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف.
رابعاًَ: أسلوبه في إلقاء الدرس.
خامساً: حرصه على حفظ المتون.
وإليك بيان ذلك:
أولاً: تأثره بشيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي:
يقول شيخنا رحمه الله عن نفسه: «لقد تأثرت كثيراً بشيخي عبد الرحمن
السعدي رحمه الله في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلاب بالأمثلة
والمعاني.
والمنهج الذي سلكه الشيخ عبد الرحمن رحمه الله هو منهج خرج به عن
المنهج الذي يسير عليه علماء نجد في زمانه في غالبيتهم؛ حيث اعتماد المذهب
الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية، بل كان كثيراً ما يتبنى آراء شيخ
الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويرجحها على المذهب، فلم يكن عنده الجمود
تجاه مذهب معين، بل كان متجرداً للحق» انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وقد انطبعت هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه شيخنا محمد رحمه الله فلم
يكن تبنيه رحمه الله لآراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نابعاً عن هوى
أو تقليد، بل كان متجرداً للحق حيثما وجد؛ فهو ضالته ومطلبه، بل إنه رحمه الله
خالف شيخ الإسلام ابن تيمية في عشرات المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي
لشيخ الإسلام، وكان رائد الجميع رحمهم الله البحث عن الحق أنى وجد.
وأخيراً يقول الشيخ عن نفسه: «والحقيقة أن انتقال والدي رحمه الله إلى
الرياض كشف لي مدى الحب الذي يكنه لي الشيخ السعدي رحمه الله إذ أصر في
طلب بقائي بجواره في عنيزة للاستزادة من العلم، وكاتب والدي فوافق، فبقيت
بجوار شيخنا السعدي، وأجدني اليوم متأثراً به كثيراً» اهـ.
ثانياً: موقفه من التعصب المذهبي:
لم يكن رحمه الله في طرحه العلمي مركِّزاً على المذهب الحنبلي الذي كان
يدرِّس متونه، بل كان يحث طلابه بعلمه وعمله على توخي القول الصحيح، وإن
خالف المذهب مع لزوم الأدب مع العلماء والاعتراف بفضلهم وما بذلوه من جهد في
هذا المضمار؛ فالمرجع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وعلى هذا
سار في تعليمه وفتواه، بل تأثر به بعض علماء عصره حتى ممن يكبره سناً.
وكان معظماً للأمر الذي عليه دليل من الكتاب أو السنة ومقدماً لهما على كل
قول حتى إنه يقول منكِراً على من يخالفه: «لو قال لكم أحد: إن هذا القول قول
العالم الفلاني لأكبرتموه واشرأبت إليه أعناقكم، كيف وهذا قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم!» .
ويرى رحمه الله أن المتعصب لمذهب أو شخص مع أن الدليل خلافه مُقْدم
على خطر عظيم؛ وذلك أنه أي بتعصبه يستلزم تقديم قول غير الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم؛ وهذا خطير جداً.
صحيح أن الإنسان يتأثر إذا تفقه على يد عالم أو على مذهب معين يتأثر بهذا
العالم أو بهذا المذهب؛ وهذا لا يستلزم أن يكون الإنسان متعصباً لهذا المذهب أو
لذلك الرجل، وهذه مسألة يجب التفطن لها وهي أن طالب العلم إذا تبين له الدليل
فعليه أن يتبعه حيثما كان؛ لأن الله سبحانه يقول: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ] (الشورى: 10) ، ويقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: 59) .
ويقول سبحانه: [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ]
(القصص: 65) .
ثالثاً: عرضه لمسائل الخلاف:
أما عرضه لمسائل الخلاف أثناء الدرس فكان رحمه الله يعرضها بكل تجرد؛
حيث إنه يبدأ بتقرير المذهب وكم من مسألة خالف فيها المذهب وأخذ بالقول الراجح
فيها، وكم من مسألة أخرى بيَّن رحمه الله أن الحجاوي ذهب إلى غير القول
الراجح في المذهب ثم يعرض لأحد الأقوال في المسألة، ويسرد أدلته وحججه
ويبينها أيما بيان حتى تظن من عرضه وبيانه لها أنه لا يمكن ردها؛ بل كأنه بهذا
العرض ينتصر لها وأنه القول الراجح.
ثم ما إن يعرض للقول الآخر وأدلته وحججه ويبينها حتى يبدأ برد أدلة القول
السابق أو توجيهها وترجيح القول المختار مما يظهر غزارة علمه وعدم تعصبه
لقول إلا بدليله.
وهو مع هذا منصف لمخالفيه ملتزم بأدب الخلاف.
وكان لا يقبل من أحد أن يذكر له شخصاً بعينه من العلماء المعاصرين وإنما
يقال: قال: بعض أهل العلم؛ حتى يمكن مناقشة قوله بكل تجرد.
هذا وله قدرة على الاستنباط من الأدلة الشرعية، وكان رحمه الله أحياناً
يكلف أحد طلابه ببحث بعض المسائل لتمرينهم على البحث العلمي، ثم يطلب منه
في وقت الدرس قراءة البحث على الطلاب ويقوم الشيخ بالتعليق عليه.
رابعاً: أسلوبه في إلقاء المادة العلمية:
كان رحمه الله يلقي دروسه بأسلوب عجيب يتجه إلى القلب، وكان يكره من
سامعيه عدم التركيز أو الانشغال بأمور أخرى غير الدرس وذلك بمفاجأتهم بقوله:
«ما قلنا؟» أو سؤالهم عن معلومة كان يشرحها، وأحياناً يوقف الكلام لا لإرادة
الوقوف وإنما ليكمل الطلاب الجملة ليعرف مدى اتصالهم بالدرس، وأحياناً يحرك
الحضور من خلال الأسئلة، ولا ينتقل من نقطة إلى أخرى حتى يشعر أنها قد
فهمت، ولربما أعاد وكرر؛ وكل ذلك حرص منه على فهم المتلقي عنه.
هذا وكان له اهتمام بسلامة اللغة؛ حيث تميز رحمه الله بلغته العربية وفهمه
لها وعدم تكلفه في إلقائها والتكلم بها، مما أعطاه فهماً للنصوص، وانطبع ذلك على
اهتمامه بسلامة لغة طلابه وحرصه عليها مع ما يجده من معاناة من الطلاب في ذلك.
كما أنه قد خصص ليلة الجمعة من كل أسبوع لإلقاء كلمة من أحد الطلاب قبل
الدرس والشيخ في مجلسه في الدرس يستمع، ثم يعلق الشيخ رحمه الله على الكلمة؛
وكم في هذه الطريقة من تعويد للطلاب على الإلقاء!
خامساً: حفظ المتون كان رحمه الله يولي هذا الموضوع أهمية خاصة؛ حيث
كان يسمِّع بنفسه للطلاب ولا يكتفي بواحد أو اثنين بل ربما ذهب جزء كبير من
الدرس للحفظ، وكان يقول: «لم يبق معنا شيء إلا ما حفظناه في الصغر» .
المحور الثالث: المجالات التي بذل علمه من خلالها:
ولعل هذا الباب هو صلب دراستنا عن شيخنا رحمه الله؛ وعليه فإن
المجالات التي من خلالها بذل علمه تتلخص فيما يلي:
أولاً: الدروس العلمية.
ثانياً: الدروس العامة والمحاضرات.
ثالثاً: اللقاءات.
رابعاً: الفتوى.
خامساً: ذهابه وإيابه من المسجد.
سادساً: منبر الجمعة.
سابعاً: التعليم النظامي.
ثامناً: عبر الإذاعة.
تاسعاً: عبر بعض الصحف والمجلات.
عاشراً: عبر الشريط.
الحادي عشر: الإنترنت.
ودونك تفصيل ما سبق:
أولاً: الدروس العلمية: وهذه أساس عطائه، وقد كانت على فترتين:
الأولى: دروس ما بعد صلاة المغرب حتى الإقامة لصلاة العشاء. وهي في
جميع أيام الأسبوع وطيلة العام ما عدا شهر رمضان ما دام الشيخ في عنيزة حتى
في أيام الامتحانات، إلا أن الدراسة في هذه الفترة أعني فترة الامتحانات تقتصر
في الغالب في جميع الليالي على قراءة صحيح البخاري ومسلم أو تصحيح كتاب
في الفترتين.
وما أذكر أن الشيخ تخلف عن درس المغرب إلا لعارض مع أنه قد يأتي ولو
في آخر الوقت إذا عرض له عارض حرصاً منه على الاستمرار وعدم الانقطاع
مستحضراً ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «أحب الأعمال إلى الله
أدومها وإن قل» [3] هذه الفترة كانت بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء فقط، ثم
ينتقل الشيخ بعد أذان العشاء لدرس لعموم الناس حتى الإقامة وذلك في مشكاة
المصابيح أو بلوغ المرام، وهذه الطريقة كانت حتى عام 1400 هـ تقريباً.
وحينما زاد عدد الطلاب غلَّب الشيخ حاجتهم إلى هذا الوقت، فجعل الوقت
كله من بعد صلاة المغرب إلى إقامة صلاة العشاء للدروس العلمية للطلاب.
وكانت على ما يلي:
أولاً: من بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء، وكانت على النحو الآتي.
ليلة السبت: حديث، «بلوغ المرام» .
ليلة الأحد: فقه، «زاد المستقنع» .
ليلة الإثنين: حديث، «بلوغ المرام» .
ليلة الثلاثاء: فقه، «زاد المستقنع» .
ليلة الأربعاء: تفسير، من أول القرآن، ولم يكن هناك كتاب بين يدي
الطلاب بل كان الشيخ يشرح من المصحف مباشرة.
ليلة الخميس: صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
ليلة الجمعة: تفسير.
مع تقديم وتأخير أحياناً وبشكل نادر مراعاة لأحوال الطلبة.
ثانياً: ما بعد أذان العشاء الآخرة حتى الإقامة:
كانت هذه الفترة تدرس بها مختلف الفنون على فترات، وذلك مثل العقيدة:
كتاب التوحيد، العقيدة الواسطية، والفرائض: الكافي في الفقه. والسيرة النبوية:
نور اليقين. واللغة: ألفية ابن مالك، قطر الندى. وغيرها مما يكون عارضاً.
وبهذه المناسبة فإنه رحمه الله لم يكن ينظر متى ينتهي من الكتاب، أو أن
طول السنين ستوهن من عزيمته، بل هو سائر على طريقته دون تغيير لمنهجه في
الطرح العلمي، وإشباعه المسألة بحثاً.
حتى إنه قيل له مرة حينما بدأنا ببلوغ المرام على هذه الطريقة: يا شيخ! قد
نحتاج إلى عشرين سنة لإنهائه! فما كان منه إلا أن استمر في طريقته حتى أنهى
الكتاب والحمد لله، وقد بُدئ بالكتاب حوالي سنة 1400هـ وأنهاه سنة 1417هـ
وذلك بعد قرابة ثمانية عشرة سنة.
هذا وقد كانت بعض دروس هذه الفترة في الآونة الأخيرة تنقل عبر الهاتف
إلى بعض مدن المملكة، بل وإلى البحرين، حتى إن الشيخ رحمه الله كان يقسم
الأسئلة بعد نهاية الدرس بين طلابه الحاضرين والذين في البحرين في وقت واحد.
الثانية: الدراسة الصباحية:
وهذه في الجامع الكبير في عنيزة، وكانت إلى ما قبل عام 1400هـ داخل
مكتبة الجامع «المكتبة الوطنية» وهي مكتبة ملحقة ببناء الجامع يوم كان بناؤه من
اللبن والطين، ثم لما كثر الطلاب بعد ذلك خرج منها إلى أروقة الجامع.
والدراسة من حيث الزمان في صيف كل عام؛ حيث إن الشيخ يقف في نهاية
الإجازة ثم يكمل في العام التالي.
أما مدة الدراسة فهي طيلة أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة على
طريقة شيخه الشيخ عبد الرحمن السعدي، ثم لما كثر الطلاب رأى حاجتهم تقتضي
الاستمرار طوال الأسبوع ما عدا الجمعة.
ولضبط الوقت وحتى لا يطغى وقت درس على آخر جعل رحمه الله منبهاً
قبل خمس دقائق من نهاية كل درس ليكون للأسئلة، ثم الانتقال إلى الدرس الذي
بعده، دون فاصل بين الدروس وهو مستمر في جلسته، أما الوقت الزمني فيبدأ من
الساعة الثامنة حتى العاشرة والنصف أو الحادية عشرة أحياناً.
أما المنهج العلمي فهو كما يلي:
1 - التفسير وقد اعتمد في شرحه متناً بين يدي الطلاب وهو تفسير الجلالين،
إلا أن التسجيل الصوتي لهذه الدروس بدأ متأخراً.
2 - الحديث: وقد اعتمد في شرحه «المنتقى من أحاديث الأحكام» ، وكان
له أحياناً اختيارات لبعض الأحاديث يمليها على أحد طلابه.
3 - الفقه: وقد اعتمد متن «زاد المستقنع» ، وهذه دراسة مستقلة عن
دراسة المساء.
4 - العقيدة: وقد تعددت كتبها؛ فمنها السفارينية، وكتاب التوحيد،
والواسطية، والقواعد المثلى.
وهذه الدروس الأربعة ثابتة كل يوم في الغالب ويزاد أحياناً درس خامس
لبعض الفنون ومنها:
- الفرائض: البرهانية. النحو: ألفية ابن مالك. القواعد الفقهية: قواعد
ابن رجب، ومختصر التحرير. مصطلح الحديث، والوصول من علم الأصول.
هذا ومع ما نرى من كثرة الكتب المقررة في الفترة المسائية والصباحية؛ إلا أنه
رحمه الله غالباً ما يكون اختياره الكتاب من حيث المتن والوقت شورى بينه وبين
طلابه.
وإن المتأمل في حاله رحمه الله يراه جامعة مستقلة؛ فتدريسه طوال العام.
وفي الإجازة الصيفية في مختلف الفنون مع ما نرى حال استعداد كثير من المدن
بالدروس والدورات العلمية الصيفية التي يجندون لها الأعداد الكثيرة من العلماء
وطلبة العلم لتدريس سائر الفنون، ربما يجد المنظمون لهذه الدروس والدورات
الحرج في تأمين من يقوم بها، بينما نجد مجلس شيخنا أبي عبد الله في دورة علمية
متكاملة لا في الصيف وحده بل في سائر العام وفي فترة واحدة وجلسة واحدة متنقلاً
من فن إلى فن.
ثانياً: الدروس العامة والمحاضرات:
أ - الدروس العامة وهي على ما يلي:
1 - دروس ما بعد صلاة العصر: وكان يقرأ عليه خلال هذا الوقت في كل
من رياض الصالحين أو بلوغ المرام أو مشكاة المصابيح ويعلق على ذلك بما يفتح
الله عليه.
وكان هذا طيلة أيام الأسبوع في المسجد الكبير ما عدا يوم الجمعة.
وإذا سافر إلى الرياض أو الطائف فغالباً ما يستغل هذا الوقت.
2 - درس ما بعد أذان العشاء حتى الإقامة، وهذا كان إلى حوالي عام
1400هـ، وكان مما يدرس فيه مشكاة المصابيح، أو بلوغ المرام، ثم انقطع هذا
الدرس وخصص هذا الوقت بدرس للطلاب على ما سبق تفصيله في الدروس
العلمية.
ب - دروس المسجد الحرام:
1 - درس ما بعد صلاة الفجر في الحرم المكي في رمضان، وكان في عمدة
الأحكام.
2 - درس ما بعد صلاة التراويح في الحرم المكي، وغالباًَ ما يكون تعليقاً
على بعض الآيات التي تليت تلك الليلة أو كلمة مناسبة لتلك الليلة، ثم الإجابة على
الأسئلة الواردة، ووقت هذا اللقاء من بعد صلاة التراويح ويستمر قرابة ساعة
ونصف في العُشرَيْن الأولين من رمضان، وبعد دخول العشر الأواخر يكون الدرس
ما بين التراويح والقيام في الغالب.
ج - المحاضرات:
وهذه كان له فيها نصيب أوفى في أماكن كثيرة؛ فحيثما دعي لبَّى النداء
رحمه الله حسبما يسمح له وقته، وهي على نوعين:
النوع الأول: محاضرات مباشرة، ومن أبرزها تنظيمه لمحاضرة في الجامع
الكبير وهو اللقاء الشهري بعد العشاء من أول ليلة أحد من كل شهر، وغيرها من
المحاضرات الدورية في الجامعات والمجمعات.
النوع الثاني: محاضرات عبر الهاتف، وكانت في داخل المملكة العربية
السعودية وخارجها لبعض المراكز الإسلامية من بيته، وقد خصص رحمه الله رقماً
هاتفياً لإلقاء هذه المحاضرات غير هاتف الفتوى والهاتف الخاص، وقد رتب بعض
الإخوة في الآونة الأخيرة له محاضرة شهرية لمسجد التوحيد في مدينة (ديترويت)
في أمريكا، ويرتبط مع هذا المسجد أحياناً قرابة مائة مسجد أو مركز أو تجمع،
وذلك من أمريكا وكندا وأوربا في وقت واحد.
ثالثاً: اللقاءات:
وهي خاصة (اللقاء الأسبوعي) ، وعامة (اللقاء الشهري) :
أ - الخاصة:
1 - درس عقده لخاصة طلابه ليلة السبت من كل أسبوع بعد صلاة العشاء
في منزل أحد الطلاب بالتناوب، وكانت القراءة في كتاب الكافي.
2 - درس للقضاة ليلة الأربعاء من كل أسبوع بعد صلاة العشاء في منزله،
وكان يقرأ فيها ما له علاقة بالقضاء كالطرق الحكمية، وإعلام الموقعين لابن القيم.
ب - العامة:
1 - لقاؤه مع قسم العقيدة في فرع جامعة الإمام في القصيم ليلة الأحد مرة في
الشهر.
2 - لقاؤه بالخطباء ليلة الثلاثاء مرة في الشهر.
3 - لقاؤه بطلاب السكن ليلة الأحد مرة في الشهر.
4 - لقاؤه بأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليلة الأحد مرة
في الشهر.
5 - لقاؤه بطلاب المعهد العلمي في عنيزة أول إثنين من كل شهر.
6 - لقاؤه بأعضاء جمعية تحفيظ القرآن ليلة الإثنين مرتين في الشهر، وكان
رئيساً لمجلسها طيلة حياته رحمه الله.
7 - لقاؤه ببعض طلاب العلم من خارج عنيزة ليلة الخميس مرة في الشهر.
رابعاً: الفتوى:
ومع أن الشيخ رحمه الله قد خصص للفتوى وقتاً معيناً إلا أن المتتبع للأمر لا
يكاد يحصرها بوقت معين؛ فقد كانت في المسجد أو في طريقه إلى المنزل أو في
سفره وتنقلاته، وحتى في حضوره المناسبات وبعد دروس المسجد الحرام؛ مع أنه
قد خصص وقتاً للفتوى عبر الهاتف من بعد صلاة الظهر حتى إذا جاء وقت غدائه
قرَّب الهاتف عنده؛ فهو وإن كان يغذي جسمه بما يحتاجه لما يقيمه إلا أنه في
الوقت نفسه يغذي بل يشفي غليل سائليه بما أشكل عليهم، وكان بعض النساء يأتين
إلى الجامع ليسألن الشيخ عن بعض أمورهن، فيخرج لهن عند باب المسجد؛
وربما أخر الدرس أحياناً حتى تقضي المرأة مسألتها، وإذا سافر من عنيزة سجل
في هاتفه الرقم الذي سيكون عليه في البلد الآخر حتى يسهل الاتصال به.
خامساً: ذهابه وإيابه من المسجد:
اعتاد الشيخ أن يذهب إلى المسجد ويعود منه على قدميه مع بُعد المسجد عن
بيته وإن كان هذا الوقت من الزمن قد لا يأبه به كثير من الناس، إلا أن شيخنا
رحمه الله قد رأى لهذا الوقت قيمته؛ ففي ذهابه خصصه لنفسه، وفي إيابه جعله
للناس؛ فكم من كتاب قد صُحِّحَ عليه وقرئ عليه، ناهيك عن أصحاب الحاجات
والفتاوى الذين يرافقونه حتى يصل إلى بيته، بل قد يقف عند الباب أحياناً حتى
ينهي حاجة سائليه.
سادساً: منبر الجمعة:
الحديث عن منبر الجمعة لا تفي بحقه هذه الأسطر؛ فالشيخ خلال ما يزيد
على خمس وأربعين سنة ظل خطيباً للجمعة وخطبتي العيدين، والاستسقاء. وقد
وظف الشيخ هذا المنبر لتعليم الناس أمور دينهم؛ فكانت خطبته تشتمل على
معارف وفوائد علمية قلَّ أن تجدها عند غيره ناهيك عن الموعظة وتذكير الناس،
وقد عرف عنه أنه إذا كان مسافراً للرياض أو الطائف أو غيرها أنه يعود إلى
عنيزة أحياناً ليلقي خطبته ثم يعود دون أن يظهر تبرماً أو مشقة.
سابعاً: التعليم النظامي:
وذلك أنه رحمه الله درَّس في كل من معهد عنيزة العلمي، وفرع جامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، فكان محط أنظار الجميع، وقد استفادت منه
أجيال متتابعة.
وأصعب ما واجه الشيخ في هذه الفترة هو تصحيح الإجابات حتى إنه اشتهر
عنه ذلك سواء كانت أعمال السنة أو في الاختبارات الفصلية؛ لأن منها إجابات
يصعب تقويمها لوجود خلل فيها يحير الإنسان: ماذا يحسم عليها من الدرجات،
فيقف متحيراً بين الأخذ بالحزم والأمانة، وبين الاحتمالات التي يحتملها الجواب
المقدم إليه.
ثامناً: عبر الإذاعة:
كان للشيخ رحمه الله وجود في هذا الميدان، وقد ساهم في بعضها، واستقل
بشيء منها، ومن ذلك: «نور على الدرب» ، «سؤال على الهاتف» ،
و «من أحكام القرآن» ، و «برامج موسمية عن الحج والصوم» ونحوها.
تاسعاً: عبر بعض الصحف والمجلات:
كان له رحمه الله ركن للإفتاء في بعض الصحف والمجلات.
عاشراً: عبر الشريط:
ولِمَا للشريط من سهولة في التداول والاستماع فقد أوْلى رحمه الله الشريط
عناية خاصة؛ حيث إن جميع دروسه وفتاواه السابق ذكرها قد سجلت إلا ما ندر
حتى إنه خص إحدى دور التسجيل بإخراج دروسه وفتاواه لتتوحد العناية بها وهي
مؤسسة الاستقامة الإسلامية بعنيزة.
الحادي عشر: الإنترنت:
وهذا المجال وإن كان لم ينسق مع الشيخ فيه إلا متأخراً إلا أنه رحمه الله قد
أوْلى العناية بذلك في كل ما يتعلق بالإنترنت إلى لجنة خاصة تعنى بشؤونه.
وأخيراً: فإن ما كتبته عن شيخنا رحمه الله في هذا الموضوع لا أدعي فيه
الكمال لا من حيث التقسيم ولا الحصر ولا الوصف؛ فقد فاتني منه ما هو من عادة
البشر، والكمال لله سبحانه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه،
والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) أستاذ في معهد عنيزة العلمي، ومن خواص تلاميذ الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى.
(1) أخرجه البخاري، ح/ 3461.
(2) أخرجه البخاري، ح/ 4210، مسلم، ح/ 3406.
(3) أخرجه البخاري، ح/ 6464، مسلم، ح/ 2818.(160/58)
في رياض المصلحين
الجهاد الشيشاني في حياة الشيخ ابن عثيمين
محمد بن عبد الله السيف [*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فلقد رحل شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ترك آثاراً إصلاحية
وعلمية كبيرة ينهل من معينها الصافي المصلحون، ويجدّ في تحصيلها والغوص
إلى دررها ومعانيها العالمون، وسيبقى أجرها جارياً لمن ورَّثها بإذن الله تعالى،
وقد قال الله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] (يس:
12) ، أي: ما قدموا من الأعمال والآثار التي أثاروها وخلفوها من بعدهم، من
علم ودعوة ودلالة على خير.. ونحوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [1] . وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا
إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً،
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم
شيئا» [2] .
ومع ما حبا الله تعالى به شيخنا من وفرة العلم، وتبحره في فنونه، وانشغال
دائم في نشره وتعليمه والدعوة إليه، وإجابة من يستفتي عن مسائله، والسعي في
مصالح الناس، وإيصال المعروف والإحسان إليهم؛ فقد كان شيخنا رحمه الله تعالى
متابعاً لقضايا المسلمين، كثير السؤال عن أحوالهم وأخبارهم، ومن ذلك دوره
البارز في الجهاد الشيشاني، وهذا الجانب من شخصية شيخنا العلاَّمة رحمه الله لا
يعرفه كثير من الناس؛ فقد كان رحمه الله متأثراً بالغ الأثر بما أصاب المسلمين
هناك، محرضاً ومقوياً للمجاهدين في الشيشان؛ فقد حزن حزناً شديداً عندما استمع
إلى تقارير تفصيلية عن القضية الشيشانية، ولا سيما عندما شاهد صوراً لجرائم
القوات الروسية في حق النساء والرجال والأطفال في الشيشان، فكان يتابع أخبار
المجاهدين وأحوالهم أولاً بأول، ويكثر من الاتصال بهم بنفسه، ويسأل أسئلة
تفصيلية تدل على حرص واهتمام، ولا أعلم أحداً من العلماء المعاصرين سبقه في
ذلك؛ فقد بدأ اهتمامه رحمه الله بقضية الجهاد في الشيشان من الحرب الأولى،
فكان نعم المعين والمشير، ولمّا انتهت الحرب وهدأت الأمور، وقامت المحاكم
الشرعية كان الشيخ هو مرجعنا فيما يشكل علينا من المسائل والمواقف، وكنا نلقى
منه كل تجاوب وتفاعل وصبر؛ فقد كان يستقبل أسئلتنا في كل الأوقات بكل
ترحيب وبشاشة وسعة صدر، بل أعطانا رقم هاتفه الخاص ليتيسر لنا الحديث معه
في أي وقت.
ولمَّا بدأت الحرب الشيشانية الثانية كان تفاعله أشد، ومتابعته أكثر، وأحسب
أن له نصيباً وافراً من قول الله تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ]
(الأنفال: 72) ، ونصيباً وافراً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم
أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله» [3] . وكنا نتعاهده بآخر الأخبار، ونشرح له
تفاصيل الواقع العسكري، وكان يسأل عن قتلى العدو، وعن السلاح المستخدم،
وعن الغنائم، وعن حال المجاهدين وأسرهم ومعاناتهم. فإذا تأخرنا عنه اتصل بنا
يسأل ويتابع، وقد يتصل أحياناً في ساعة متأخرة بعد الثانية عشرة ليلاً، وإذا تحدث
معنا فإنك تشعر في كلامه بصدق التفاعل وبالحرقة والحزن والألم. كان يألم لألمنا،
ويفرح لفرحنا، ويبشرنا بفضل الله تعالى وكرمه، وكان يتأسف كثيراً من تقصير
الأمة بكافة فئاتها في نصرة إخوانهم.
ومن أعظم وصاياه لنا: تذكيرنا بتقوى الله تعالى، وإخلاص العمل لوجهه
عز وجل، وكان يوصينا بالثبات والصبر، ويذكرنا بفضل الجهاد في سبيل الله
تعالى، وبفضل الشهداء، والمرابطين، وكان يحثنا على التآلف والتعاون على البر
والتقوى، ويحذرنا من الفرقة والاختلاف.
ومن جهة أخرى كان شيخنا رحمه الله يحث الناس على التبرع للمجاهدين في
الشيشان، ويدفع زكاة ماله للمجاهدين، وقد حدثنا من نثق به من خاصة طلابه أنه
كان يقرأ عليهم أخبار المجاهدين، ويطلعهم على أحوالهم، ويحثهم على نصرتهم
والتعاون معهم.
لقد كان لهذه النصرة والوقفة القوية مع الشعب الشيشاني في محنته أبلغ الأثر
في نفوس المجاهدين الذين تتقوى قلوبهم وعزائمهم على مواصلة الطريق، وتحمُّل
ما فيه من الشدائد والصعاب بمثل هذه المواقف والأعمال العظيمة.
إن كلمات العلماء الصادقة المطمئنة المحرِّضة على البذل في سبيل الله تعالى،
والثبات على الحق، هي النور الذي يضيء لهم الطريق بإذن الله تعالى، وهي
النبراس الذي يبيّن لهم سبيل الصواب فيسلكونها، ومواقع الخطأ والانحراف
فيتجنبونها. إن العلماء هم حراس الأمة وحماتها، يستهدي بهم الناس في ظلمات
الطريق، ويسترشدون بهم في مسيرهم إلى الله تعالى، ويلوذون بهم بعد الله تعالى
في الذب عن حياضها الكريمة، وتتجلى قيمة العلماء الربانيين في مثل هذه المواقف
الجليلة التي يُمتحن فيها العباد، وما أجمل قول الإمام ابن القيم لما ذكر مراتب جهاد
النفس: «فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين؛ فإن السلف
مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به،
ويُعلّمه؛ فمن علم وعمل وعلَّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات» [4] .
أسأل الله تعالى أن يتغمد شيخنا بواسع رحمته ومغفرته، وأن يرفع درجته في
جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(*) تتلمذ الكاتب على فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، وهو من طلبة العلم الذين نفروا إلى الجهاد في سبيل الله؛ حيث شارك في الحرب الشيشانية الأولى، وكان له سهم كبير في تأسيس المحاكم الشرعية والمعاهد التعليمية هناك بعد الحرب الأولى، وهو أحد الرموز القيادية المؤثرة في الحرب الشيشانية الحالية.
(1) رواه مسلم، ح/ 1631.
(2) رواه مسلم، ح/ 2674.
(3) أخرجه أحمد في المسند، 2/68، 277.
(4) زاد المعاد، (3/10) .(160/65)
نص شعري
لحظة.. لا تغب
سلمان بن فريد الجربوع
لحظةً لا تغب.. وجوه الليالي ... كاسفاتٌ تفيض حُزناً وثكلا
وحناياك روضةٌ من رياض الذك ... ر أشهى من أن تُملَّ وأحلى
وفتاواك في شفاه المري ... دين اشتياقٌ على المشوَّقين يُملى!
ومُصلاَّك ضارعٌ يتلوَّى ... هل تناهى إليك شوقُ المصلَّى؟
لو رأيت القصيم في حُلَّة العُر ... س كئيباً.. يصيحُ بالنعش: مهلا!!
وحواليه من بنيهِ جموعٌ ... تزرعُ الأفق ياسميناً وفُلاَّ
كان يزدانُ للقاء بُيوتاً ... وحقولاً.. طفلاً غريراً وكهلا
وتغنت بك البطاح ربيعاً ... أنت أشهى منهُ مَراحاً وظلا
كلُّهم كان في انتظارك.. عيناً ... تتملَّى، وخاطراً يتسلَّى
يتنادى بكَ المدى فننادي ... طائرات القدوم (أهلاً وسهلاً)
القصيمُ الذي عهدتَ حنينٌ ... يغتلي حُرقةً ويلتاعُ ويْلا
كلُّنا كان بين مدٍّ وجزرٍ ... وحبالُ القضاء تُفتل فتلا
ها هنا اصطفَّت القلوب تُناغي ... أملاً من كُوى الغيوب أطلاَّ
لفَّنا باليقين بَرْداً ونوراً ... ونمانا لِسِدْرةِ الحبِّ أصلا
ودعانا لعالمٍ من مجالي الخُلْ ... د أغلى من أن يُنالَ وأعلى
عالِمٌ مبُهرٌ، فلمْ ترَ عينٌ ... قبله مثله دياراً وأهلا
وتراءى لنا على البعد طيفٌ ... أيُّ حُسنٍ بدا ونورٍ تجلَّى؟ !
إنه حُسنُه المهيبُ ووجه ... يستثير الرؤى جلالاً ونُبْلا
أهُنا يرقد الحبيبُ مُلِمّاً ... بشتات العلم السنيِّ مُدِلاّ؟ !
أهنا يرقد الحبيب.. أفيقي ... يا يد الحلم، فالجمال تدلَّى
قال قد رُمت وصفَه، قلتُ مَنْ لي؟! ... قال وفَّيت حقَّه، قلتُ كلاَّ
واستفقنا، فمُ الزمان رثاءٌ ... يُهجَر الأنسُ في ذُراه ويُقلى
والعثيمينُ رحلةٌ ما توانت ... تملأ الخافقين علماً وبذلا
والعثيمين صفحةٌ من كتابٍ ... في يد الموت قدْ طواها وولَّى
والدُّنا دمعةٌ تُعزِّي زماناً ... كُنتَ فيه السِّفْرَ العظيمَ الأجلاَّ
شفَّك السقم يا طهور السجايا ... واحتوتك الدروبُ وعراً وسهلا
وتساميت راضياً مطمئناً ... ينبت البؤسُ في شفاهك فَأْلا
ثابت القلب في يمينك سيفٌ ... من يقينٍ يفلُّ سقمك فلاَّ
يا خَدِينَ العلومِ لُحتَ رياضاً ... تتمشَّى نَهْراً، وتختال نخلا
كنتَ تتلو الصباح غضاً ندياً ... ما عرفتُ الصباح قبلك يُتلى
والليالي تنام في صدرك الرح ... ب؛ فليست تحسُّ حقداً وغلاَّ
ضمَّك الليل عالماً من خشوعٍ ... يُغسل القلب في مجاليه غسلا
أين لا أين دمعةٌ منك تروي ... عطش القلب؟ كم شكا القلب مَحْلا!
أين لا أين حلقة منك تشفي ... عِلَّة العقل؟ كم شكا العقل جهلا!
قد فقدناك، والأماني انتطارٌ ... فالمساءاتُ بالمسرَّاتِ حُبلى(160/67)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
وما زال الحديث مستمراً
عندما تُذكَرُ العلمانية يتبادر إلى ذهن بعض الأشخاص شكلاً من أشكال مخالفة
أو محادة الشريعة بمعناها القانوني، وقد تذهب الأنظار بهم إلى بقعة (أو بقاع)
معينة في عالمنا الإسلامي اشتهرت بتلك المخالفة (أو المحادة) ، وهذا التصور إما
أنه ناشئ عن قصور في معرفة العلمانية، أو محدودية في فهم الإسلام، أو عدم
إحاطة بمدى التغلغل العلماني في واقعنا.
فالعلمانية مذهب فكري له أساس عام، تنبثق منه تصورات وأفكار تشمل
الحياة كلها، وتبنى على قاعدة هذه التصورات والأفكار هياكل ومؤسسات ونظم
وتكتلات تتغلغل في حياة الأفراد والجماعات لتصبغهم بصبغتها، وتسيرهم وفق
فلسفتها.
وفي المقابل: فإن الإسلام كما هو معلوم عند جميع المؤمنين به دين يحوي
نظاماً متفرداً وذا خصوصية؛ فهو دين شامل ومهيمن وموجه لحياة الأفراد
والجماعات: أفكارهم وتصوراتهم، مشاعرهم وعلاقاتهم، نظمهم ومؤسساتهم..
فالإسلام على حقيقته والعلمانية في جوهرها ضدان لا يجتمعان ولا يتفقان، وحسب
قوانين الإحلال (أو الاحتلال) فإنه كلما ارتفع أحدهما في مجال (أو أكثر)
انخفض الآخر في هذا المجال، والعكس بالعكس.
ومن هذا المنطلق حرصت البيان أن تكون مشاركات هذا الملف على طرف
من الشمول الموضوعي والتنوع الجغرافي، حتى يقدم مساهمة في إيضاح نماذج
لهذا التنوع والانتشار، آخذين في الاعتبار أن الإحاطة بهذا الموضوع لا يقوم به
ملف واحد ولا حتى مجلد واحد.
ففي الحلقة الماضية قدم لنا الدكتور عوض القرني عرضاً موجزاً لفكرة
العلمانية ومفهمومها وظروف نشأتها في موطنها الأصلي (الغرب) ، وبين أن هذه
الفكرة والظروف لا تتفق مع حقيقة إسلامنا وظروف مجتمعنا الذي قام على هذا
الدين، ثم بحث الأستاذ خالد أبو الفتوح في جذور العلمانية والتغريب ومسيرتها في
عالمنا الإسلامي، متنقلاً بين سنوات التاريخ وحدود الجغرافيا، فتحدث عن مصر
والشام وتركيا والجزائر. وعن الليبرالية العربية المستقاة من الفكر الغربي
تحدث الأستاذ محمود سلطان موضحاً أحد أكبر تجليات العلمانية، وفي المجال
السياسي بيَّن الأستاذ كمال حبيب الأثر المدمر للقومية في مسيرة منطقتنا، موضحاً
إخفاقها في إقامة بديل خالٍ من التبعية والتشرذم لأساس الولاء والبراء في الإسلام،
وأخيراً حدثنا الدكتور مصطفى محمود أبو بكر عن جانب من علمانية الاقتصاد،
رابطاً بين العلمانية والعولمة، وموضحاً إخفاق خطط التنمية التي قامت على هذا
الأساس ومدى الفساد الاقتصادي والاجتماعي الذي صاحبها.
وفي هذه الحلقة يجد القراء استكمالاً لهذا الحديث، من خلال مشاركات عن
العلمانية بوجهها الفكري والسياسي والقانوني والاجتماعي، في بلاد متعددة، كتركيا
وتونس ومصر والهند، نتركك تطالعها بنفسك.. وما زال الحديث مستمراً.(160/69)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
العلمانية في قفص الاتهام
الغزو العلماني للتشريع وأثره على المجتمع
(دراسة حالة)
المحامي/ صبحي صالح موسى
تعد التشريعات القانونية مرآة تعكس حقيقة المجتمعات؛ فمن خلالها نستطيع
التعرف على النمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأي مجتمع لا سيما
المجتمعات ذات الاتجاهات الأيديولوجية التي تحكمها تشريعات تصدر عن هذه
الاتجاهات وتصب فيما يحقق الفلسفة الفكرية للاتجاه السائد.
ولما كانت الشريعة الإسلامية نظاماً كاملاً شاملاً (وضمن ذلك جانبها
التشريعي القانوني) يستند إلى أساس عقدي، وتصدر عن أصل مقدس قائم على
الكتاب والسنة، وهما أصلا الاستدلال عند المسلمين؛ فإنها تتميز بلون وسمت
مميز ومختلف تماماً عن كافة النظم القانونية الأخرى السائدة في العالم كله [صِبْغَةَ
اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] (البقرة: 138)
ومن السهل تمييز المجتمعات المحكومة بنظام الإسلام من أي مظهر من
مظاهر هذه المجتمعات سواء كان هذا المظهر عقدياً أو أخلاقياً، فكرياً أو سلوكياً،
فردياً أو مجتمعياً.
وقد ظلت المجتمعات الإسلامية جميعها محكومة بنظام الشريعة الإسلامية منذ
ظهور الإسلام، وفي النكبة الأخيرة التي كان أبرز مظاهرها سقوط الخلافة
العثمانية (في تركيا) سنة 1924م على يد مصطفي كمال أتاتورك، وما تبع ذلك
من انهيارات مدوية في البلاد الإسلامية إلا ما رحم ربك، ولم يكن ذلك فجأة ولا من
فراغ، وإنما تم ذلك بعد هجوم ضار منظم تمثل في حملات عسكرية متتابعة
يتزامن معها وعلى المحاور نفسها حملات غزو فكرى وثقافي أشد ضراوة وأكثر
تنظيماً.
وإذا كانت الأمور قد انتهت باحتلال عسكري أجنبي (صليبي) في معظم
البلاد الإسلامية؛ فإن الأشد فداحة هو وصول الأمر إلى أبعد غاية ممكنة، تمثلت
في احتلال عقول وقلوب ومن ثم: سلوك وعادات كثير من أهالي هذه البلدان.
وعلى الرغم من حصول هذه البلدان على الاستقلال السياسي، وجلاء القوات
العسكرية الأجنبية عن أراضيها على مدار سني القرن العشرين؛ ومع ذلك وبعد
مرور قرن بأكمله فإنه لا يستطيع أحد أن ينكر أن عقول وقلوب وعادات وسلوكيات
أبناء هذه البلاد لا سيما كثيرًا من النخب السياسية الحاكمة فيها ما زالت محتلة
احتلالاً أجنبياً، وأبرز صور هذا الاحتلال وضوحاً وأبلغها أثراً: هذا الاحتلال
الفكري والثقافي والاجتماعي المسيطر على كثير من مناحي التشريعات القانونية
لبلدان العالم الإسلامي؛ فما زالت أحكام الشريعة الإسلامية مهمشة ومبعدة عن دفة
الأمور ومنصة الأحكام عن عمد وإصرار، بل الأشد من ذلك والأنكى: أن هذا
الاحتلال أصبح قوياً وممكناً إلى درجة اعتبار الدعوة إلى الاستقلال التشريعي،
والمطالبة بالتحرر القانوني، والعودة إلى التشريعات الأصلية لهذه البلدان والتي
تنبع من عقيدتها، والمطالبة من ثم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أصبح ذلك
جريمة شائنة تعامل بأشد صور المعاملة القانونية قسوة وبشاعة، وتطبق عليها أشد
العقوبات صرامة وضراوة، وتحكمها عادةً إجراءات استثنائية وأحكام عرفية غير
مسبوقة في التاريخ.
ولكن قبل استعراضنا لدراسة الحالة التي نمثل لها يحسن بنا تقديم عرض
تمهيدي موجز لفكرة سيادة القانون في التشريعات العلمانية مقارنة بالشريعة.
أولاً: فكرة (سيادة القانون) بين الإسلام والعلمانية:
تعد فكرة سيادة القانون عند المفكرين القانونيين قمة التطور الإنساني في مجال
كرامة المواطن وحقوق الإنسان، كما أنها تمثل قمة الديمقراطية؛ فهي النموذج
المحتذى والمثل المقتدى في الدول الحرة والمتقدمة، وهذه الفكرة تتمثل في سيادة
القانون وتدرُّجه؛ بحيث يكون الدستور هو القانون الأعلى والأسمى للبلاد، وهي
فكرة تحقق توازن الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، كما أنها تحقق مبدأ
الفصل بين سلطات الدولة، بما يضمن عدم تعدي سلطة على أخرى أو انفراد
إحداها بالسلطة بما يتيح المناخ للظلم والقهر والتسلط والدكتاتورية.
ونظراً لما تتسم به المجتمعات العلمانية من قصر نظرٍ مرجعه عدم الإيمان
بالغيب، فضلاً عن سطحية في التصور مرجعها عبادة العقل والتمرد على الوحي
فإن فكرة المشروعية الدستورية وسيادة القانون هي بالنسبة لهم غاية المرتجى
ونهاية المجد.
لكن في الشريعة الإسلامية تبدو هذه الفكرة أشبه بآلهة التمر التي كان يصنعها
كفار مكة قبل الإسلام، فإذا جاع أحدهم أكل الإله أو بعضه، ثم أعاضوا له ما أكلوه
منه، ثم خرُّوا له ساجدين.
وبيان ذلك يتضح من هذا الفرق الجوهري والخطير بين المشروعية
الدستورية العليا عند العلمانيين والمشروعية الإسلامية العليا عند علماء الشريعة
الإسلامية؛ إذ إن الدستور الوضعي وهو أسمى القوانين؛ بحسبانه القانون الأعلى
للدولة إنما يضعه البشر (نواب عن الأمة) ، بينما القانون الأسمى والأعلى عند
المسلمين هو وحي الله المنزل (كتابه العزيز وصحيح السنة النبوية المطهرة)
والفرق بين الاثنين واضح، والأثر المترتب على ذلك أوضح:
فالوحي مقدس قداسة منزله عز وجل، وباق بقاء منزله سبحانه، ومن ثم فهو
يستعصي على الإلغاء أو التعديل لقوله عز وجل: [قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَاءِ نَفْسِي] (يونس: 15)
كما أن كون الوحي منزلاً من عند الله فإنه ينفي وجود أي درجة أو امتياز
لأحد على أحد؛ فكل الناس عباد لله الواحد المعبود، وهو بهذه المثابة عال،
ومقدس، ومنزه، وباق، وعادل، وهذه صفات مطلقة لله عز وجل، ووحي الله
صفة من صفات الله تعالى، والصفات تابعة للذات.
أما أن فكرة سيادة القانون عند العلمانيين لا تحظى بهذه الصفات التي تتميز
بها الفكرة نفسها في الشريعة الإسلامية؛ فذلك لأن الدستور يضعه بشر (أياً كانت
صفتهم) ، وأن الجهة التي تصدر الدستور تملك تعديله، كما تملك أيضاً تبديله،
ولا يستبعد وجود الأهواء والشهوات والمصالح الشخصية أو النظرات القاصرة في
هذا التعديل والتبديل؛ إذ إن ذلك من طبائع البشر، والواقع خير شاهد ودليل،
وهذا الأمر يستحيل حدوثه أو حتى تصوره في الشريعة الإسلامية ولا يملكه ولا
يقدر عليه أحد كائناً من كان.
فالدستور إذن من صنع أيدي هؤلاء ونتاج عقلهم القاصر وثقافتهم المحدودة؛
فهو لمن أصدروه مثلما كانت آلهة التمر لكفار مكة؛ إذ إن القاعدة أن الصانع سيد
المصنوع، فإذا كان الدستور من صنع البشر فإن البشر هم سادة الدستور، وهذا
الذي لا يستطيع أحد أن يدعيه على الشريعة الإسلامية قط، وهذا أيضاً وجه من
وجوه إعجازها.
ثانياً: القانون والإسلام:
ويلاحظ كثير من المؤرخين وفقهاء القانون أن الصلة بين الدين الإسلامي
خاصة والشريعة صلة تقوم على التغذية المتبادلة دائماً؛ فالشريعة انتشرت حيث
انتشرت العقيدة الإسلامية، وبالعكس فإن العقيدة الإسلامية بدأت تنحسر وتضعف
حيث تقلص نفوذ الشريعة وتقلص دورها في المجتمعات التي أحلَّت القوانين
الوضعية محل أحكام الشرع.
هذه العلاقة بين الدين والقانون توجد في جميع المجتمعات غير الإسلامية من
الديانات المختلفة، ولكنها بالنسبة للإسلام خاصة تتخذ رباطاً وثيقاً للغاية؛ لأن
الصلة بين الدين والقانون في الإسلام صلة ارتكان.
ثالثاً: الشريعة والتجديد:
ونظراً لكثرة الكلام حول وجوب التجديد في الشريعة يتعين الإشارة إلى أنه
عند الحديث عن التجديد والمجددين في الإسلام ينبغي ملاحظة الفارق المهم بين
الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي.
1- فالشريعة هي الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لعباده، ومصادرها
الرئيسية هي القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - بينما الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال العباد بأدلتها
التفصيلية عن طريق الاستدلال والاستنباط والاجتهاد في فهم نصوص الشريعة
الإسلامية؛ فالشريعة ذاتها أصل ووضع إلهي لا يتغير، بينما الفقه وهو فهم البشر
للنصوص وتطبيقه على أوضاع مجتمعاتهم وظروفهم ذو وضع بشري يَرِد عليه
الخطأ والصواب، ويَرِد عليه التجدد وإعادة النظر.
ولكن تتبقى نقطة بالنسبة للتجديد وهي أنني لا أظن أن أحداً أو كثيرين لا
يؤمنون بأهمية تجديد الفقه والفكر الإسلامي، ولا نجد خلافاً حقيقياً في هذه النقطة،
وإنما المشكلة الأساسية هنا هي: كيف يمكن أن نمارس التجديد في الفقه الإسلامي
الآخذ عن الشريعة ونحن مستنفذو القوى في معركة فكرية أخطر، وهي: تثبيت
الشريعة أو تعطيلها؟
هذه هي المشكلة الحقيقية! المشكلة أن الشريعة تجد هجوماً شديداً عليها
وتجتث أصولها من المجتمع، مما يجعلنا نسائل أنفسنا: ما الذي ننصرف إليه؟
ننصرف إلى الاجتهاد في الفروع؟ أم نهتم بتثبيت الأصول؟
هذه هي المشكلة، وهذه هي النقطة التي تحتاج منا إلى صياغات جيدة؛ فهل
نستطيع أن نقوم بالعملين معاً بغير تضارب بينهما وبحيث لا يطغى أحدهما على
الآخر؟
- لا بد من تثبيت الأصول، هذه نقطة.
- النقطة الثانية: لا بد من التجديد في فروع الشريعة الإسلامية وفي الفقه.
- والتلاؤم وعملية المزاوجة بين هذين الأمرين تحتاج من الكافة إلى جهد
كبير.
رابعاً: الشريعة والجماعة السياسية:
إن التشريع المأخوذ عن الشريعة الإسلامية يشكل أساساً حيوياً وجوهرياً
لتوحيد ما يمكن توحيده من أقطار العرب والمسلمين، وقد قام بدوره التوحيدي هذا
من قبل، ومما له دلالته أن تفتت أمتنا العربية والإسلامية أقطاراً جاء متواكباً مع
العدول عن التشريع الإسلامي، وأن التقنين الوضعي واختلاف مدارسه صار أحد
معوقات إمكان التوحيد بين شعوبنا؛ إذ بينما يخضع المصري والشامي للتشريعات
اللاتينية كان يخضع السوداني للتشريع الأنجلو سكسوني.. وهكذا [1] .
الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية:
ونظراً لما تتمتع به مصر من مكانة تاريخية وجغرافية على مدار التاريخ
الإسلامي كله منذ الفتح الإسلامي لمصر إبان خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه، ودورها الرائد في حماية الإسلام والذود عن المسلمين،
والذي تجلى في أعظم صوره في مواجهة التتار ودحر عدوانهم فضلاً عن صمودها
وجهادها وتضحياتها في مواجهة الحملات الصليبية المتكررة على مدار حركة
الصراع التاريخي كله، ونظراً لأثرها في العالم الإسلامي، فقد ركز عليها الغرب
ضرباته واستهدفها بمؤامراته، مما رشحها بقوة لتكون نموذجاً لـ (دراسة حالة)
لموضوع هذا المقال.
ولبحث مدى اتفاق أو افتراق القوانين المصرية مع الشريعة الإسلامية، وإلى
أي مدى كان الاحتلال الأجنبي (العلماني) للأحكام القانونية المصرية في مختلف
المجالات نعرض أولاً للنشأة والتطور التشريعي تاريخياً.
التطور التاريخي للتشريعات الحاكمة في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى
اليوم:
أولاً: المحاكم الشرعية منذ نشأتها حتى إلغائها:
1 - نشأت مصر نشأة إسلامية تحكم بالشريعة، حيث كان فقهاء الصحابة
والتابعين من بعدهم يرجعون في قضائهم وفتاويهم إلى الكتاب العزيز والسنة
المطهرة وأدلة الاجتهاد.
2 - وفي العصور اللاحقة تداول منصب القضاء في مصر فقهاء من مذاهب
إسلامية مختلفة.
3 - إلى أن فتح الأتراك العثمانيون القطر المصري، فجعلوا قاضي القضاة
حنفياً، وفي كل هذه العهود كان المرجع في القضاء متون كتب الفقه المتعددة،
والشروح والحواشي، وكتب الفتاوى الكثيرة، بدون أن يتقيدوا بقانون مصاغ على
نمط القوانين الحديثة.
4 - وفي أوائل حكم محمد على باشا والي مصر صدر له من الدولة العثمانية
فرمان شاهاني يتضمن تخصيص القضاء والإفتاء بمذهب أبي حنيفة، كما صدرت
له في آخر حكمه إرادة سَنِية تؤكد العمل بذلك الفرمان، وجرى العمل من ذلك
الحين طبقاً لما تضمنه هذا الفرمان وتلك الإرادة، وتقرر هذا التخصيص بشكل
واضح فيما صدر من القوانين للمحاكم الشرعية.
والجدير بالذكر أنه لما جاء النفوذ الأجنبي أزاح ذلك كله وأقام نظاماً جديداً
قوامه القانون الغربي في مختلف مسائل الأسرة والمجتمع والتجارة والمعاملة؛
فأحدث ذلك اضطراباً شديداً، وقد دعم النفوذ الأجنبي سلطانه السياسي والاجتماعي
والاقتصادي بأن أقام معاهد الحقوق والتجارة لتدريس النظم الأجنبية القائمة على
إباحة الربا والزنا والخمر والميسر في المجتمع الإسلامي، وكان قانون العقوبات
من أخطر هذه القوانين التي أباحت جرائم الزنا وهتك الأعراض وأخرجت المجتمع
الإسلامي من ضوابطه وقيمه، وكان الأمر كذلك في دائرة المعاملات حيث فرضت
القوانين التي تبيح الربا وتجعله أساس جميع وجوه التعامل في البيع والشراء
والإجازة وغيرها.
5 - وقد جاء هذا التحول الخطير في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي وقعت
فيها مصر نتيجة لاستدانة إسماعيل باشا من المصارف الأجنبية، تلك المبالغ التي
جلبت معها نفوذ الدائنين وسيطرتهم على الاقتصاد المصري، ثم سيطرتها على
الحكومة نفسها، مما شجعهم على المطالبة بنظام غربي جديد يمكنهم من فرض
سلطانهم على الاقتصاد، وما يتبع ذلك من تغييرات قانونية واجتماعية، وقد جرى
ذلك في دائرة الامتيازات الأجنبية التي مكنت الأجانب من إقامة محاكم قنصلية
خاصة لهم للفصل بين رعاياهم وبين أهل البلاد (بلغت سبعة عشر محكمة) ، وقد
صدر عن هذه المحاكم أحكام بتعويضات باهظة حتى تجاه الحكومة المصرية نفسها
بلغت في أربع سنوات نحو ثلاثة ملايين من الجنيهات، وهو مبلغ كبير في ذلك
الوقت.
6 - ورأى القائمون على الأمر وقتها أن المخرج من هذا المأزق هو إنشاء
المحاكم المختلطة لتكون بديلاً عن القضاء القنصلي، وقد قامت هذه المحاكم 1875 م
واشتركت فيها أغلب الدول الأوروبية واستدعت إنشاء قوانين غربية المصدر،
منها: القانون المدني والقانون التجاري والقانون البحري وقانون العقوبات وقانون
تحقيق الجنايات وقانون المرافعات.
7 - وكانت هذه القوانين هي الأساس الذي قامت عليه من بعد نظم المحاكم
الأهلية، وبذلك سيطرت القوانين الأجنبية على مختلف شؤون المجتمع المصري
بديلاً للشريعة الإسلامية التي انحسر نفوذها في دائرة الأحوال الشخصية، وهي
مجموعة القواعد التي تحدد العلاقة بين الفرد وأسرته، وهكذا حجب القانون
الفرنسي الشريعة الإسلامية عام 1885م في مؤامرة واسعة النطاق، اشترك فيها
الخديوي مع الحكومة والاحتلال الأجنبي، واستمر العمل بهذه القوانين في المجال
المدني والتجاري والاجتماعي حتى الآن مع تعديلات يسيرة أدخلت خلال تلك المدة
الطويلة التي قاربت قرناً من الزمان.
8 - وظلت المحاكم الشرعية تتولى منازعات الأحوال الشخصية فقط،
وبالرغم من أن الإصلاح بالمحاكم الشرعية قد تناول أكثر النواحي فإنه لم يتناول
القانون الوضعي إلا ابتداءاً من سنة 1925م، ولم يتناول إلا بعض مسائل خاصة
صدر بها القانون رقم 25 لسنة 1920م، والقانون رقم 25 لسنة 1929م.
وقد صدرت عدة لوائح بمصر في أزمنة مختلفة ترتب المحاكم الشرعية
وتقلص ظلها بعد إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875م والمحاكم الأهلية في سنة
1883م وحصر اختصاصها في مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا
المصريين المسلمين بصفة عامة، بعد أن كانت المحاكم الشرعية هي صاحبة
الولاية العامة وهي الجهة القضائية المختصة بالنظر في جميع المسائل من مدنية
وجنائية وأحوال شخصية.
9 - وفي سياق هذا الإصلاح ألَّف محمد قدري باشا كتاب: (مرشد الحيران
في معرفة أحوال الإنسان) في المعاملات المدنية على غرار القوانين الوضعية في
مواد اشتملت على 914 مادة، وكل أحكام الكتاب المذكور مأخوذة من مذهب الإمام
أبي حنيفة، وقررت نظارة المعارف بتاريخ 15 سبتمبر سنة 1895م طبع الكتاب
على نفقتها مع جدول يبين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية مع تعيين الصفحات.
- وألَّف أيضاً كتاب: (قانون العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف) ،
حيث اشتمل على 646مادة، وقد بين مآخذ كل مادة من كتب فقه الحنفية، وصدر
قرار من ناظر المعارف في 17 سبتمبر سنة 1893م بطبعه على نفقة نظارة
المعارف.
- وألَّف كتاب: (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية) واشتمل على
647مادة، والأحكام التي تضمنها مأخوذة أيضاً من مذهب الإمام أبى حنيفة، وقد
تناول الكتاب أحكام: الهبة، والحجر، والإيصاء، والوصية، والميراث. وسائر
مسائل الأحوال الشخصية.
10 - وفي سنة 1915م ألفت لجنة من كبار العلماء برئاسة وزير الحقانية
(العدل) ؛ لوضع قانون لمسائل الأحوال الشخصية، فأعدت اللجنة مشروع قانون
للزواج والطلاق والمسائل المتعلقة بهما، واستمدت أحكامه من المذاهب الأربعة،
وطبع المشروع في سنة 1916م، وأعيد طبعه بعد تنقيحه في سنة 1917م، ولكن
المشروع لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، ولا يزال مهملاً ومتروكاً في زوايا النسيان
حتى الآن.
11 - وصدر المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1925م، والمرسوم بقانون رقم
25 لسنة 1929م، وقد عدل فيهما عن مذهب الحنفية المعمول به أمام المحاكم
الشرعية وأخذ بما في المذاهب الإسلامية الأخرى في بعض المسائل المتعلقة بالنفقة،
والعدة، والطلاق، والفرقة بين الزوجين للإعسار وعدم الإنفاق أو لغيبة الزوج
أو للإضرار بالزوجة بما لا يستطاع معه دوام العشرة.
12 - وفي سنة 1936م ألفت وزارة العدل لجنة من كبار العلماء برئاسة
شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت للنظر في أحكام الأحوال الشخصية.
فأتمت اللجنة المذكورة إعداد مشروعات قوانين للمواريث والوصية والوقف،
فعرضت الحكومة تلك المشروعات على البرلمان، وتمت الموافقة عليها بعد إدخال
تعديلات في بعض موادها، وصدر بها القانون رقم 77 لسنة 1943م بأحكام
المواريث، والقانون رقم 48 لسنة 1946م بأحكام الوقف، والقانون رقم 71 لسنة
1946م بأحكام الوصية.
وقد خولف في تلك القوانين مذهب الحنفية وعدل عنه في كثير من المسائل،
وأخذ بما في المذاهب الأخرى بدون أن يتقيد برأي إمام معين من الأئمة المجتهدين
ولا بمذهب دون مذهب؛ تحقيقاً للعدالة والمصلحة العامة ورفعاً للمشقة ودفعاً للحرج
الذي كان يلحق الناس من إلزام المحاكم الشرعية التقيد بمذهب واحد وهو مذهب
الحنفية والتزام أحكامه الفقهية في القضاء بين الناس والفصل في الخصومات
والمنازعات، فما استحدث في تلك القوانين من تعديل، وخولف فيها مذهب الحنفية،
وروعي في ذلك الأخذ بأيسر الأحكام الفقهية من المذاهب الإسلامية الأخرى
وأقربها إلى ما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية السمحة من يسر على الناس يرفع
الحرج والعسر عنهم.
13 - وصدر القانون رقم 185 لسنة 1952م الخاص بإلغاء نظام الوقف
على غير الخيرات، والقانون رقم 247 لسنة 1953م الخاص بالنظر على الأوقاف
الخيرية وتعديل مصارفها.
14 - وأخيراً صدر القانون رقم 462 سنة 1955م بإلغاء المحاكم الشرعية
والمحاكم الملِّيَّه، وأصبحت بذلك جميع المحاكم في مصر بمختلف درجاتها محاكم
علمانية تصدر أحكامها وفق الترتيب الوارد بنص المادة الأولى فقرة (2) من القانون
المدني المصري، والتي تنص على أنه: (إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه:
حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية،
فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة) .
وهكذا صار موقع الشريعة الإسلامية على خريطة تشريعات مجمل النظام
القانوني وهيكل السلطة القضائية في الدرجة الثالثة، بعد التشريع الوضعي، وبعد
العرف.
فما هي ظروف ميلاد هذه التشريعات العلمانية وكيفية نشأتها، واختراقها لنظم
المجتمع؟
ثانياً: اختراق القوانين الوضعية للمجتمع:
في محاولة للبحث في ظروف ميلاد تلك القوانين ونشأتها فإن المدخل لذلك
ينحصر في الإجابة عن السؤال الآتي: هل استُولدت أحكام هذه القوانين من القواعد
العامة للشريعة الإسلامية بطريق صحيح مشروع، حتى يمكن نسبتها إلى الشريعة
الإسلامية بنسب شرعي صحيح، أو أن العكس هو الصحيح؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال نعرض لكل من المجموعتين الأساسيتين
للتشريعات (المجموعة الجنائية، والمجموعة المدنية) حيث تجدر الإشارة إلى أن
ظروف نشأتها التاريخية تشير إلى أنها ولدت على يد محام فرنسي غير مسلم في
أواخر القرن الماضي، وذلك على الإيجاز الآتي:
أولاً: التشريعات المدنية:
1 - في الثامن والعشرين من يونية سنة 1875م صدر التقنين المدني
المختلط، وقد قام بوضعه المحامي الفرنسي مانوري الذي اتخذه الوزير الأرمني
نوبار باشا أمين سر له ثم عينه بعد ذلك أمين سر اللجنة الدولية التي كانت تدرس
مشروع إنشاء المحاكم المختلطة آنذاك [2] .
2 - وقد اقتُبس التقنين المدني المختلط من التقنين المدني الفرنسي، ونقل
بعض المسائل عن القضاء الفرنسي، وعن التقنين المدني الإيطالي القديم الذي
صدر في سنة 1866م، ويقول أحد كبار رجال الفقه الوضعي في مصر وهو
الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «إن مانوري لم يغفل الشريعة الإسلامية، فنقل
عنها بعض الأحكام» [3] .
ويقول د. السعيد مصطفى السعيد (أستاذ القانون الجنائي) [4] : «وبالطبع
فقد تم وضع القانون باللغة الفرنسية، ثم شكلت لجنة تكفلت بعد ذلك بترجمته
وسائر القوانين المختلطة إلى اللغة العربية» .
من الناحية الرسمية كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوطني السائد في
البلاد حتى ذلك التاريخ [5] ، ثم ما لبثت حكومة ذلك العهد بعد استقرار المحاكم
المختلطة أن تطلعت إلى تغريب القضاء الوطني بتنظيمه على غرار القضاء
المختلط [6] .
3 - فتألفت في أواخر سنة 1880م لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية،
كان من بين أعضائها رجل يدعى (موريوندو) وهو محام إيطالي عين قاضياً في
محكمة الإسكندرية المختلطة في سنة 1875م وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة
لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة (صدرت في 17 من نوفمبر سنة 1881م) وقام
أعضاء اللجنة في الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم صيغت كلها على مثال
التقنينات المختلطة، وكان أن وضع موريوندو التقنين المدني الوطني فنقله على حد
تعبير السنهوري نقلاً يكاد يكون حرفياً من التقنين المدني المختلط.
4 - وفي 14 من يونية سنة 1883م صدرت لائحة المحاكم الوطنية، ثم
صدر التقنين المدني الوطني في 28 من أكتوبر سنة 1883م، فالتقنينات الخمسة
الأخرى في 13 من نوفمبر سنة 1883م، وقد وضعت هذه التقنينات الوطنية كلها
باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى اللغة العربية.
5 - وفي سنة 1936م ظهرت الحاجة إلى تعديل هذه التقنينات، فشكلت
لجنتان: إحداهما لتعديل التقنين المدني والتقنين التجاري وتقنين المرافعات،
والأخرى لتعديل التقنين الجنائي وتقنين الإجراءات الجنائية، وكان ضمن أعضاء
اللجنة الأولى كل من: صليب سامي، ومسيو لينان دابلفون، ومتر مري جراهام،
ومسيو موريس دي فيه، ومسيو ألفريد، وإسكولي.
6 - ثم تشكلت لجنة ثانية كان من أعضائها: شيفاليه أنطونيونيتا، ومسيو
ليون باسار، ومسيو فان أكر، وفي يونيو سنة 1938م تشكلت اللجنة الثالثة
والأخيرة مكونة من إدوار لامبير وهو من أكبر رجال القانون في فرنسا في ذلك
الوقت ومن الدكتور عبد الرزاق السنهوري وذلك لوضع المشروع التمهيدي للقانون
المدني، وقد قام لامبير وحده بوضع نصوص الباب التمهيدي ونصوص عقد
المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين، كما عاون اللجنة القاضيان:
إستونيت، وساس، اللذان كانا قاضيين بالمحاكم المختلطة، فوضع الأول المشروع
الابتدائي للباب الخاص بإثبات الالتزام والفصل الخاص بعقد الشركة، وعاون
الثاني في وضع النصوص الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان، كما عاون
في عمل اللجنة كذلك الدكتور سليمان مرقص الذي وضع المشروع الابتدائي
للنصوص الخاصة بتقسيم الأشياء، وعقود القرض، والعارية، والوديعة.
7 - وفي 15 من أكتوبر سنة 1949م بدأ العمل بالقانون المدني الجديد الذي
ولد من رحم القانون المدني القديم تهذيباً وتقنيناً لما استقر من المبادئ في أحكام
القضاء الحالي.
وهذا الأخير لم يولد من رحم الشريعة الإسلامية أصلاً، ولم ينتسب لها بأي
نسب.
ثانياً: مجموعة القوانين الجنائية:
وهي: المجموعة الصادرة في سنة 1883م، فقد لحقها التعديل أيضاً بسلسلة
من القوانين، جاء بعضها معدلاً لنصوص سابقة وبعضها متضمناً لأحكام جديدة:
1 - ففي سنة 1904م صدر قانونان جديدان للعقوبات وتحقيق الجنايات،
يقول د. السعيد مصطفى: «إن المشرع لم يتقيد عند تعديلهما بالتشريع الفرنسي
فاتخذ أساسه قانون سنة 1883م، ولجأ إلى قوانين أخرى، وهي: القانون الهندي،
والبلجيكي، والإيطالي، فاستمد منها ما رآه علاجاً للنقص والعيوب التي شوهدت
في القانون القديم وما وجد أكثر ملاءمة لأحوال البلاد، وقد ساعد على ذلك: أن
القائمين بالتعديل كانوا من مشرعي الإنجليز.
2 - وفي سنة 1973م صدر قانون العقوبات الجديد، وهو لا يختلف كثيراً
عن قانون العقوبات الأهلي الصادر سنة 1904م؛ فقد اتخذ هذا الأخير أساساً له مع
تعديل وإضافة جزأين، وهذا هو القانون المعمول به الآن [7] .
بعض مظاهر الغزو العلماني للتشريعات القانونية المصرية، وشيء من
أثرها على المجتمع:
المطلب الأول: التشريعات الجنائية:
تعد التشريعات الجنائية يد السلطة وسطوة القانون ووسيلته في ضبط المجتمع
وتحقيق الأمن والاستقرار وحماية قيم المجتمع أو ما يسمى قانوناً: النظام العام
والآداب وتؤدي العقوبات الجنائية في المجتمع وظيفة معاقبة الجاني الخارج على
القانون والنظم، والمعتدي على الآداب العامة وقيم المجتمع، كما تؤدي أيضاً
وظيفة الردع العام لكل من تسول له نفسه الخروج على المجتمع وقيمه ونظامه.
وبناءاً على ذلك وتفريعاً عليه تتفاوت العقوبات الجنائية بحسب جسامتها
وشدتها بما يتفق وقيمة المصلحة المشمولة بالحماية الجنائية وقدرها عند المجتمع؛
فكلما عظمت المصلحة غلظت العقوبة، كما أن العدوان على أي قيمة عند المجتمع
يجب أن تعتبر جريمة معاقباً عليها قانوناً، ويقابل ذلك في الشريعة الإسلامية ما
يمكن أن نسميه: (انطباق دائرة التحريم مع دائرة التجريم) بمعنى أن كل ما هو
حرام شرعاً يجب أن يكون مجرَّماً قانوناً، وعليه: فإن كل تصرف أو سلوك غير
مؤثَّم قانوناً فهو بالضرورة مباح غير معاقب عليه وهو ما اصطلح عليه بالقاعدة
الدستورية: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) .
بناءً على ذلك نستعرض بعض نصوص قانون العقوبات المصري في محاولة
لبحث مظاهر علمنة التشريع الذي يعمل على ترسيخ القيم العلمانية، ومدى الفجوة
بين هذا التشريع وقيم ومبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، مما يترك أثراً سلبياً
كبيراً لا شك فيه على المجتمع.
أولاً: مكانة الدين والعقيدة في القانون:
1 - الحماية الجنائية المقررة للدين:
- أورد قانون العقوبات باباً كاملاً تحت عنوان: الباب الحادي عشر: الجنح
المتعلقة بالأديان، في المادتين رقم 160، 161، وتنص المادة 160 عقوبات
المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م على أنه:
(يعاقب بالحبس، وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة
جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين:
أولاً: كل من شوَّش على إقامة شعائر ملة أو احتفال ديني خاص بها أو
عطلها بالعنف أو التهديد.
ثانياً: كل من خرَّب أو كسر أو أتلف أو دنس مباني معدة لإقامة شعائر دين
أو رموزاً أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس.
ثالثاً: كل من انتهك حرمة القبور أو الجبانات أو دنسها، وتكون العقوبة
السجن الذي لا تزيد مدته على خمس سنوات إذا ارتكبت أي من الجرائم المنصوص
عليها تنفيذاً لغرض إرهابي) .
بينما تنص المادة 161 عقوبات على أنه:
(يعاقب بتلك العقوبات على كل تعد يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171
على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علناً، ويقع تحت أحكام هذه المادة:
أولاً: طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدى
شعائرها علناً إذا حرف عمداً نص هذا الكتاب تحريفاً يغير من معناه.
ثانياً: تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية
به أو ليتفرج عليه الحضور) .
وهاتان المادتان هما كل الباب، ومن ثم: فهما جميع الحماية الجنائية المقررة
للأديان في قانون العقوبات، وواضح أن الإسلام يتساوى في هاتين المادتين مع أي
دين آخر أيّاً كان هذا الدين، وواضح أيضاً مدى هزالة العقوبة التي قد تصل إلى
غرامة مائة جنيه، مما يعكس مدى الإهمال وعدم الاكتراث بحماية العقيدة والدين،
بل مما يُهوِّن على الملحدين والمارقين الاجتراء على الاعتداء على الدين ومقدساته،
وهذا أمر يعكس إلى أي مدى بلغت علمانية التشريع في استخفافها بالدين، وهذا
أمر بدهي وفق تصورات العلمانيين ومعتقداتهم.
2 - مقارنة مدى الحماية الجنائية لمقدسات العقيدة مع غيرها لحماية بعض
الشخصيات:
بينما تنص مواد قانون العقوبات أرقام 179، 181، 182، 184، 185،
186 على معاقبة كل من أهان أو عاب رئيس الجمهورية، أو مَلِك دولة أجنبية أو
رئيسها، أو ممثلاً لدولة أجنبية معتمداً، أو مجلس الشعب أو الشورى أو غيره، أو
موظفاً عاماً أو شخصاً بصفة نيابية أو خلافه.
ومن ذلك: المادة 179 عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل
من أهان رئيس الجمهورية بواسطة إحدى الطرق المتقدم ذكرها) ، والمادة 181
عقوبات التي تنص على أنه: (يعاقب بالحبس كل من عاب بإحدى الطرق المتقدم
ذكرها في حق مَلِك أو رئيس دولة أجنبية) .
وهكذا باقي المواد سالفة الذكر، نجد أن جميع نصوص قانون العقوبات
جاءت خلواً من عقوبة جنائية لمن سبَّ الله أو رسول الله أو دين الله أو كتاب الله أو
كل ما هو مقدس عقائدياً، وذلك ما قد يعطي معنى فقدان القداسة لهذه العقائد (وذلك
لب الفلسفة العلمانية) .
3 - على الجانب الآخر (التشريعات المقيدة للدين) :
فهناك جملة من التشريعات الفضفاضة التي تهدف إلى تقييد قيام الدين بدوره
الإصلاحي الطبيعي في المجتمع، وإليك النصوص القانونية الآتية:
أ - تنص المادة 201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م على
أنه:
(كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأدية وظيفته ألقى في أحد أماكن
العبادة أو في محفل ديني مقالة تضمنت قدحاً أو ذماً في الحكومة أو في قانون أو في
مرسوم أو قرار جمهوري أو في عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية أو أذاع أو
نشر بصفة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب
بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى
هاتين العقوبتين، فإذا استعملت القوة أو العنف أو التهديد تكون العقوبة السجن) ،
وهو ما يعني مصادرة وتجريم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ب - كما تنص المادة 98 (و) المضافة أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982 م
على أنه:» يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات
أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه كل من يستغل الدين في
الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد
إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو
الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي «.
ج - وتقضي المادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982م بأن:
» كل من جهر بالصياح أو الغناء لإثارة الفتن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على
سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه «، ويدخل في ذلك أيضاً الأناشيد.
د - والأشد من ذلك والأنكى والأمرّ ما أوردته المادة 88 مكرر (ج) من أنه:
» لا يجوز تطبيق أحكام المادة 17 من هذا القانون عند الحكم بالإدانة في جريمة
من الجرائم المنصوص عليها في هذا القسم (قضايا أمن الدولة) عدا الأحوال التي
يقرر فيها القانون عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، فيجوز النزول بعقوبة
الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، والنزول بعقوبة الأشغال المؤبدة إلى الأشغال
الشاقة المؤقتة التي لا تقل عن عشر سنوات «.
ملحوظة: تنص المادة 17 بأنه (يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال
الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة..) وهو ما
يسمى قانوناً باستعمال الرأفة مع المتهم.
قارن ذلك مع العقوبات المقررة للمعتدي على الأديان حيث يجوز استعمال
الرأفة معه، بينما لا يجوز استعمالها مع المتدين المتهم باستغلال الدين لأغراض
سياسية (أمن الدولة) ، وهي قضايا فضفاضة مطاطة تتسع وتضيق حسب
الظروف والأحوال السياسية.
ثانياً: حماية القيم والأخلاق:
1 - في مجال شرب الخمور:
لقد وقف المشرع الجنائي المصري جرياً على نهج رائده الفرنسي من جريمة
الشرب موقف الإغفال التام، فخلت نصوص قانون العقوبات من أية إشارة إلى
تأثيمه وعقابه؛ مما يعني أن المشرع الوضعي لا يعتد بتحريم الله تعالى لفعل
الشرب ولا يعاقب عليه بالجلد حداً، أي أن شرب الخمر حرام عند الله حلال في
القانون الوضعي.
ولم يكتف المشرع المصري بذلك، بل عمد إلى تلك الأماكن التي يتعاطى
الناس فيها الخمر فأسبغ عليها بعض أوجه الحماية، من ذلك: ما نصت عليه المادة
الحادية عشرة المكررة من قانون الأسلحة 394 لسنة 1954م، من أنه: (لا يجوز
حمل الأسلحة في المحال العامة التي يسمح فيها بتقديم الخمور ولا في الأمكنة التي
يسمح فيها بلعب الميسر) ، وبموجب هذا النص أسبغ القانون رعايته على محال
تعاطي الخمور وأمكنة لعب الميسر، حين نزع سلاح الناس فيها توفيراً لأكبر قدر
من الأمان لروادها.
2 - في مجال حماية الأعراض:
المفهوم القانوني لجريمة الزنا:
في بيان المصلحة التي يحميها قانون العقوبات في مجال حماية الأعراض
يقول شراح القانون الجنائي: (رأى المشرع أن المصلحة الاجتماعية عدم تجريم
كافة أفعال المساس بها [أي: بالأعراض] وإنما فقط الأفعال التي تمثل اعتداءاً على
الحرية الجنسية للفرد، فضمان هذه الحرية أمر لازم لوجود الناس في المجتمع
وحفظ النظام الطبيعي للحياة) ؛ لذا: عاقب القانون على (المساس بالحرية
الجنسية) المشكّلة في:
أ - حالة استعمال الإكراه، ويتحقق ذلك في جريمة اغتصاب الإناث وهتك
العرض بالقوة أو التهديد؛ حيث تنص المادة 267 على أنه: (من واقع أنثى بغير
رضاها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة) .
كما تنص أيضا المادة 268 على أنه: (كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو
بالتهديد أو شرع في ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة من ثلاث سنين إلى سبع) .
ب - حالة التغرير بصغير السن أو حديث الخبرة، ويتحقق ذلك في جريمة
هتك العرض بغير قوة أو تهديد، (أما ممارسة الحرية الجنسية في غير الحدود
التي لا ينهى عنها القانون كهتك العرض بالرضا لمن بلغ ثمانية عشر عاماً فهو لا
يعاقب عليه القانون) [8] .
ويتضح من هذا الشرح الذي يكشف عن منهج المشرع الوضعي وسياسته
الجنائية فيما يتعلق بحماية العرض: أن المصلحة المعتبرة في الحماية هنا هي
(الحرية الجنسية) وليست طبيعة العلاقة الجنسية وشكلها، فليس للقانون أن يتدخل
إلا عندما يشكل فعل الجاني اعتداءاً على حق الحرية الجنسية؛ فهو لا يحمي شرف
المجني عليه ولا اعتباره ولا حياءه، وإنما هو يحمي حريته في ألا يمارس الوطء
الجنسي إلا بإرادته، فإذا مارسه بهذه الإرادة في أي شكل فليس ثمة مصلحة معتبرة
متطلبة للحماية.
وقد عَرَضَ القانون المصري لجرائم العِرْض في الباب الرابع من قانون
العقوبات تحت عنوان: (هتك العرض وإفساد الأخلاق) ، وذلك في المواد (267
حتى 279) وهي من المواد التي يمكن وصفها بأنها ترجمة شبه حرفية لمثيلاتها
الفرنسية.
وفيما يتعلق بتحديد (كنه الفعل المؤثم) فقد بان أنه ليس الزنا، وإنما هو
شيء آخر يتمثل في الاعتداء على حق الإنسان في ألا يزني إلا بإرادته، أما الزنا
وفق تعريفه في شرع الله تعالى فليس مما يُشكِّل في عرف القانون الوضعي
الفرنسي والمصري جريمة تستحق العقاب.
ولذلك فحين تعرض المادة (273) وما بعدها من قانون العقوبات لزنا
الأزواج، فإنها لا تعاقب أيّاً منهما بسبب إتيانه لفاحشة من الكبائر التي نهى الله
تعالى عنها، وإنما هي تؤثم اعتداء الجاني على الرابطة الزوجية، ولذلك يجري
نص المادة (273) من قانون العقوبات على أنه: (لا تجوز محاكمة الزانية إلا
بناءً على دعوى زوجها، إلا أنه إذا زنى الزوج في المسكن المقيم فيه مع زوجته
لا تسمع دعواه عليها) .
ومن ذلك: أن الزوج هو صاحب الحق الوحيد في تحريك العقوبة في مواجهة
زوجته، فإن عفا عنها بعد بلوغ الأمر للسلطة ولو بعد صدور الحكم سقطت عنها
العقوبة، حيث تقضي المادة 274 بأن: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم
عليها بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم
برضائه معاشرتها له كما كانت) .
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الزوج الزاني في مسكن الزوجية لا
يستطيع أن يحرك الدعوى في مواجهة زوجته الزانية؛ إذ إنه باعتدائه على الرابطة
الزوجية يكون قد أسقط حقه في طلب العقاب على اعتدائها على ذات الرابطة.
ومن ناحية ثالثة جديرة بالعجب فإن الرجل الزوج لا يعاقب على الزنا إلا إذا
كان زناه في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة، وفقاً لنص
المادة (277) من قانون العقوبات التي تنص على أن: (كل زوج زنى في منزل
الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد على ستة
أشهر) وأعظِم بها من عقوبة!
العقوبات الجنائية المقدرة للزنا:
أ - عقوبة الزوجة الزانية: سبق أن ذكرنا نص المادة (274) من قانون
العقوبات التي تقول: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا
تزيد عن سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما
كانت) .
وينزل حكم هذا النص (الفرنسي) المصري بعقوبة الزنا للمحصن من القتل
(الإعدام) رمياً بالحجارة وفقاً لما هو مقرر في شريعة الإسلام كحد لله تعالى لا
يملك الإمام تخفيفه أو العفو عنه، إلى عقوبة الحبس اليسير لمدة سنتين قابلتين
للإلغاء برضاء الزوج معاشرة زوجته.
ب - عقوبة الزوج الزاني: كما حددت المادة 277 عقوبة الزاني بأن (كل
زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس
مدة لا تزيد عن ستة أشهر) .
ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن المشرع الفرنسي ومن بعده مقلده المصري
يجعل من الزنا بمعناه الشرعي (أي الإيلاج الكامل) في حالة المادتين (274-
277) جنحة لا تزيد مدة الحبس فيها عن سنتين، بينما يعاقب على أي استطالة
لجسم المجني عليه بعقوبة الجناية التي يمكن أن تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة،
اعتداداً بالمصلحة المعتبرة فيها (وهي حق الحرية الجنسية) ، وراجع المواد 267
وما بعدها حتى 279 من قانون العقوبات.
وأما ممارسة الفجور والدعارة على وجه الاعتياد فقد عاقب عليها ما يسمى
بقانون مكافحة الدعارة (القانون رقم (10) لسنة 1961م) في مادته التاسعة:
بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات، أو الغرامة التي لا
تقل عن خمسة وعشرين جنيهاً ولا تزيد على ثلاثمائة جنيهاً، أو كليهما.
وفي مقابل هذا التساهل مع جريمة الزنا التي حرمها الله عز وجل، نجد
تضييقاً وتصعيباً لحق تعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى، وهو ما سنعرض له
بعد قليل عند مناقشة تشريعات الأسرة.
ولا شك في أثر ذلك على أخلاق المجتمع عندما تفتح لأفراده أبواب العلاقات
المحرمة بإباحة الزنا طالما كان بالإرادة الحرة المحضة وبتهوين عقوبته، وتوصد
في الوقت نفسه أبواب العلاقات المباحة بالتضييق على الزواج الشرعي، بل عندما
يعاقب عليه أحياناً كما رأينا في بعض البلاد (الإسلامية) الأخرى أو عندما تهدم
الأسرة بإعطاء الزوجة حق طلب الطلاق عند حدوث التعدد.
3 - حماية الأموال (جريمة السرقة) :
نص قانون العقوبات المصري على السرقة والجرائم الملحقة بها في الباب
الثامن من الكتاب الثالث تحت عنوان: (السرقة والاغتصاب) ، حيث تنص
المواد من (311) إلى (327) في أولاها على أن (كل من اختلس منقولاً
مملوكاً لغيره فهو سارق) .
ولا يستحق هذا التعريف للسرقة كثير نقاش في الفقه الجنائي المقارن بين
الشريعة والقانون؛ إذ المفهومان مشتركان من حيث إن كلاً منهما يُخرِج من معنى
السرقة صوراً متعددة من وسائل الاستيلاء على مال الغير، ويعني ذلك بصورة
جزئية أن أركان جريمة السرقة في القانون الوضعي المصري قريبة الشبه بأركانها
في الشريعة الإسلامية وفقاً لشروطها المتفق عليها، وهي: أن تقع السرقة على مال
الغير، وأن تقع على مال لم يكن قد ائتمن عليه، وتأتي بعد ذلك أمور محل خلاف
في الفقه الإسلامي، مثل: السرقة من حرز، ونصاب المسروق، ونوع بعض
الأموال المسروقة.
عقوبة السرقة:
يعاقب على السرقة في شريعة الإسلام بعقوبة الحد المقدرة في قول الله تعالى:
[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] (المائدة: 38) ، وهو نص عام خصصته السُّنَّة بأحاديث متعددة، وتقطع
اليد اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع [9] ، فإن سرق مرة ثانية بعد قطعه قطعت
رجله اليسرى من مفصل الكعب، وهو قول أبي بكر وعمر، وقد روي عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في السارق:» إن سرق فاقطعوا يده،
ثم إن سرق فاقطعوا رجله « [10] ، وهو قول علي والحسن والشعبي والزهري
وحماد والثوري وغيرهم، فإن سرق ثالثة فلا قطع وإنما يحبس تعزيراً.
بينما في قانون العقوبات المصري: الأصل في السرقة أنها جنحة يعاقب
عليها بالحبس مع الشغل مدة لا تتجاوز سنتين؛ حيث تنص المادة 321 على أنه
(إذا كانت السرقة في حالة الشروع فيعاقب عليها بالحبس مدة لا تتجاوز نصف الحد
الأقصى المقرر في القانون للجريمة التامة أو بغرامة لا تزيد على عشرين جنيهاً
مصرياً) .
وإذا كان هذا هو الأصل العام في العقوبة المقدرة للسرقة فإن هذه الجريمة قد
تقترن بظروف مخففة أو أخرى مشددة، قد تصل بالعقوبة إلى الأشغال الشاقة
المؤبدة أو المؤقتة.
ويعني ذلك بشكل واضح أن المشرع المصري في حذوه حذو رائده الفرنسي
قد أسقط حد القطع بوصفها عقوبة مقدرة للسرقة، ولا يعنى هذا الإسقاط في الحقيقة
غير الانسلاخ من كنف الشريعة؛ فالحد في الشرع هو (عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله
تعالى عز شأنه) ، والمقصود بكونها (مقدرة) أن الشارع العزيز حدد كمَّها وكيفها
سلفاً بخلاف التعزير، والمقصود بكونها (حقاً لله) الاحتراز عن القصاص الذي
هو حق للعباد في غالب عناصره، ومن ثم: ليس للعباد حق التبديل في هذه الحدود
أو العفو عنها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله حد حدوداً فلا
تعتدوها « [11] ، فالحد حق الله، نسب إليه تعالى لعظم خطره وشمول نفعه.
المطلب الثاني: تشريعات الأسرة:
تعد تشريعات الأسرة من أخطر مجالات الغزو العلماني على الإطلاق؛ نظراً
لحساسيتها وخصوصيتها وخطورة شأنها وأثرها، ولذلك كانت آخر المجالات
المغزوة من حيث الترتيب الزمني على النحو المبين سابقاً؛ بيد أن حملة الغزو
العلماني لهذا المجال بات مجنوناً محموماً متسارعاً في الآونة الأخيرة، إلى أن فقد
مجال الأسرة حصانته أمام تلك الحملات المحمومة التي تتبناها كافة شراذم
العلمانيين في مؤسسات التشريع أو الإعلام أو منابر الثقافة ومعاهد التعليم، وهو
مجال يستحق بحثه بإفراده ببحث خاص، ولكن على سبيل المثال نذكر بعض
الوقائع والتشريعات الآتية:
1 - الحملة الشرسة التي لم تتوقف رغم صدور القانون 46 لسنة 1955م
بإلغاء القضاء الشرعي بل تواصلت حتى تُوِّجت بإصدار الرئيس الراحل السادات
قراراً بقانون رقم 44 لسنة 79 (والمشهور عند عامة المصريين بقانون جيهان)
والذي ظل معمولاً به حتى قضت المحكمة الدستورية العليا بإلغائه.
2 - ورغم اغتيال السادات وإلغاء قانون جيهان الشهير على يد المحكمة
الدستورية العليا إلا أن الحملة لم تتوقف، حتى صدر القانون رقم 100 لسنة
1985م الذي تضمن جل ما كان يهدف إليه القانون سالف الذكر، ويوضح ذلك:
أن المذكرة الإيضاحية المقدم بها هذا القانون كانت هي ذاتها المذكرة التي قدم بها
القرار بقانون 44 لسنة 79، كذلك ما نص عليه من إعماله بأثر رجعي من تاريخ
حكم المحكمة الدستورية العليا، بما مفاده استمرار ذات النظام القانوني نفسه منذ
1979م وحتى الآن.. رغم حكم المحكمة الدستورية العليا.
أما من حيث أهم الأحكام التي يستحدثها هذا القانون باعتبارها أثراً من آثار
الغزو العلماني لمجال الأسرة فتشمل: حق الزوجة في طلب التطليق إذا تزوج
زوجها بأخرى، وكذلك تقرير نفقة متعة واجبة للزوجة المطلقة بغير رضاها تعادل
نفقة عامين حدّاً أدنى ودون حد أقصى، واستقلال الزوجة الحاضنة بمسكن الزوجية،
ورفع سن حضانة الصغير قبل انتقاله إلى الحضانة.
3 - صدور القانون رقم 3 لسنة 1996م بشأن تنظيم إجراءات مباشرة
دعوى الحسبة في مسائل الأحوال الشخصية، والذي تنص المادة الأولى منه على
أن:
(تختص النيابة العامة وحدها دون غيرها برفع الدعوى في مسائل الأحوال
الشخصية على وجه الحسبة، وعلى من يطلب رفع الدعوى أن يتقدم ببلاغ إلى
النيابة العامة المختصة يبين فيه موضوع طلبه والأسباب التي يستند إليها مشفوعة
بالمستندات التي تؤيده، وعلى النيابة العامة بعد سماع أقوال أطراف البلاغ وإجراء
التحقيقات اللازمة أن تصدر قراراً برفع الدعوى أمام المحكمة الابتدائية المختصة
أو بحفظ البلاغ، ويصدر قرار النيابة العامة المشار إليه مسبباً من محام عام،
وعليها إعلان هذا القرار لذوي الشأن خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدوره) .
- كما تنص المادة الثانية على أن: (للنائب العام إلغاء القرار الصادر برفع
الدعوى أو بالحفظ خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدوره، وله في هذه الحالة أن
يستكمل ما يراه من تحقيقات والتصرف فيها، إما برفع الدعوى أمام المحكمة
الابتدائية المختصة أو بحفظ البلاغ، ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً) .
أما المادة الثالثة فقد قررت أنه: (إذا قررت النيابة العامة رفع الدعوى على
النحو المشار إليه في المادتين السابقتين تكون النيابة العامة هي المدعية فيها،
ويكون لها ما للمدعي من حقوق وواجبات) .
- وصادرت المادة الرابعة من القانون المذكور أي حق من حقوق الحسبة
الشرعية لأي شخص كان، حتى ولو كان هذا الشخص هو شيخ الجامع الأزهر أو
مفتي الديار المصرية أو وزير الأوقاف أو رئيس جامعة الأزهر أو رئيس المجلس
الأعلى للشؤون الإسلامية أو أي شخص آخر؛ حيث تنص على أنه: (لا يجوز
لمقدم البلاغ التدخل في الدعوى أو الطعن في الحكم الصادر فيها) .
- وتنص المادة الخامسة على أن: (تنظر الدعوى في أول جلسة بحضور
ممثل النيابة العامة ولو لم يحضر المدعى عليه فيها) .
- أما المادة السادسة فقد أوجبت على المحاكم أن: (تحيل المحاكم من تلقاء
نفسها ودون رسوم ما يكون لديها من دعاوى في مسائل الأحوال الشخصية على
وجه الحسبة والتي لم يصدر فيها أي حكم إلى النيابة العامة المختصة ووفقاً لأحكام
هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى) .
ولعله من المناسب التذكير بسبب صدور هذا القانون؛ فقد صدر عقب حكم
التفريق الصادر ضد نصر حامد أبو زيد وزوجته، بعدما قضت محكمة الأحوال
الشخصية بردته لآرائه وبذاءاته العلمانية في العقيدة والشريعة والوحي والرسالة،
وبعد تأييد هذا الحكم من محكمة النقض وهي أعلى محكمة قضائية في مصر، ومن
ثم: يمكن القول: إن هذا القانون صدر لضمان (الأمان المدني) إن صحت
التسمية بعدما ضمن قانون العقوبات (الأمان الجنائي) لكل علماني، مهما بلغت
درجة انفلاته وتجرئه.
4 - ثم صدور القانون رقم (1) لسنة 2000م المسمى بقانون تنظيم إجراءات
التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية الذي يعد علامة بارزة على السعي الحثيث
لعلمنة نظام الأسرة المسلمة، وأهم ما استحدثه هذا القانون ما يلي:
- إلغاء لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وإلغاء لائحة إجراءات تنفيذ الأحكام
الشرعية، وهما آخر ما تبقى من تشريعات تحمل وصف (الشرعية) ، لتبقى كل
التشريعات وطنية (علمانية) .
- إلغاء التقويم الهجري بالمادة رقم (1) منه، وهو آخر مجال قانوني كان
يتعامل بالتقويم الهجري.
- ولعل أشهر ما تضمنه هذا القانون: التعديل الوارد بالمادة 20، وهو
المسمى (بالخُلع) ، حيث أعطى القانون للزوجة حق خلع نفسها من الزوج
بالتراضي، فإن أبى الزوج تحكم المحكمة بالتطليق للخلع بعد محاولة الصلح بين
الزوجين، وأغرب ما في هذا التعديل ما تضمنه النص بوقوع الخلع في جميع
الأحوال طلاقاً بائناً، ويكون الحكم في جميع الأحوال نهائياً غير قابل للطعن عليه
بأي طريق من طرق الطعن، وعليه: أصبحت المرأة المتخالعة المتمردة على
زوجها الهاربة من منزل الزوجية والتي ليس لديها سبب واحد شرعي أو منطقي
يسوِّغ لها الطلاق، أصبحت أحسن حالاً من المرأة التي تطلب الطلاق للضرر
الواقع عليها.
وواضح من مطالعة النصوص أن هذه التعديلات جميعها تتجه إلى إلغاء
الدرجة التي قررها الله عز وجل للرجل على المرأة في قوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (البقرة: 228) ، وكذلك محاولة التقليد
المستميت للنموذج الغربي المقيت.
المطلب الثالث: تشريعات خاصة:
- وأهم ما يعنينا في هذا المطلب تلك التشريعات التي يمكن أن نسميها قوانين
تأميم الدين، وأهمها:
1- قانون تأميم المنابر: القانون رقم 238 لسنة 1996م، بتعديل المادة
(10) من القانون رقم 272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها،
ويقضي بالآتي:
يستبدل بنصي الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة (15) من القانون رقم
272 لسنة 1959م بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها النص الآتي:
(ويصدر وزير الأوقاف قراراً بالشروط الواجب توافرها في الأشخاص
الذين يحق لهم ممارسة إلقاء الخطب أو أداء الدروس الدينية بالمساجد،
وبالإجراءات اللازم اتخاذها للحصول على تصريح من وزارة الأوقاف لممارسة
ذلك.
ويعاقب كل من يمارس النشاط المبين بالفقرة السابقة بغير مقتض بالحبس مدة
لا تجاوز شهراً وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو بإحدى
هاتين العقوبتين.
ولوزير العدل بالاتفاق مع وزير الأوقاف منح صفة الضبطية القضائية
لمفتشي المساجد فيما يقع من مخالفات لأحكام هذا القانون) .
وقد مر بنا سابقاً عند الحديث عن التشريعات المقيدة للدين نصوص المواد:
201 عقوبات المضافة للقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 98 (و) المضافة
أيضاً بالقانون رقم 29 لسنة 1982م، والمادة 102 عقوبات المعدلة بالقانون رقم
29 لسنة 1982م، والتي نرى أنها تصب في اتجاه يمكن أن يطلق عليه البعض:
تأميم الدين لصالح النظام السياسي العلماني.
2- قانون إلغاء معظم المناهج الشرعية (بالمعاهد الأزهرية) : حتى الأزهر
أعلى وأقدم مرجعية إسلامية في مصر والعالم الإسلامي لم يسلم هو الآخر من الغزو
العلماني؛ حيث صدر القانون رقم 164 لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام القانون
رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، متضمناً
اختزال سنوات الدراسة وما يستتبعه ذلك من تقليص المناهج حيث نص على:
يستبدل بنص الفقرة الأولى من المادة [87] من القانون رقم 103 لسنة
1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها النص الآتي:
(مدة الدراسة في المعاهد الثانوية الأزهرية ثلاث سنوات، يعد فيها التلميذ
إلى جانب ما يحصل عليه من علوم الدين واللغة للحصول على الشهادة الثانوية
العامة بأحد قسميها العلمي والأدبي أو الحصول على الشهادة الثانوية الفنية بأحد
أنواعها الصناعي والتجاري والزراعي وغيرها) .
وقد نصت المادة الأولى على الآتي: (يتولى شيخ الأزهر إصدار القرارات
اللازمة لتنفيذ هذا القانون، وله بعد موافقة المجلس الأعلى للأزهر أن يصدر من
الأحكام المؤقتة ما يقتضيه نظام الدراسة أو الخطط الدراسية أو مناهج الدراسة
خلال فترة الانتقال التي يحددها بقرار منه) .
__________
(1) انظر: المستشار: طارق البشري، بحث منشور حول الشريعة الإسلامية، 20 ربيع الأول 1408هـ/ 12/11/1987م (نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية) .
(2) السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني.
(3) المرجع السابق.
(4) الأحكام العامة في قانون العقوبات، السعيد مصطفى السعيد.
(5) المصدر السابق، ص 27.
(6) راجع: الوسيط للسنهوري، ص 3 وما بعدها.
(7) راجع: مجموعة الأعمال التحضيرية، ج 1، ص 141، 142، 154.
(8) الوسيط في قانون العقوبات، د أحمد فتحي سرور، القسم الخاص.
(9) جامع الأصول لابن الأثير، ج 4، والمغني لابن قدامة، 8/ 259.
(10) أخرجه الدارقطني، 364، وصححه الألباني في الإرواء، رقم 2434.
(11) أخرجه الدارقطني (4/184) ، والبيهقي (10/12 13) ، والحديث حسنه النووي في الأربعين النووية رقم (30) ، وحسنه كذلك الأرناؤوط في تحقيقه لسير أعلام النبلاء (17/626) ، ولكن الألباني ضعفه في غاية المرام رقم (17) وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 261.(160/70)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي [*]
(2 - 3)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
أشار الكاتب في الحلقة السابقة إلى أن العلمانية هي أحد الانحرافات التي
أصابت الأمة الإسلامية، ورأى أنها إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن
القرآن، كما أومأ إلى أن بعض الباحثين يرى أن الشرارة الأولى للغزو الصليبي
بالفكر والقيم اتقدت في ذهن لويس التاسع عشر بعد هزيمته وأسره في مدينة
المنصورة عام 1250م، ثم طوّف بنا الكاتب في أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي
ليرصد حركة التغريب، وها هو اليوم يشد بنا الرحال إلى بقاع أخرى لنشهد بعضاً
مما أصاب الأمة من أوضار بسبب حركة العلمنة والتغريب.
- البيان -
أما في تونس [1] :
فلم يكن الحال أقل سوءاً؛ فبعد زيارة إلى أوروبا سنة 1846م (1262هـ) ،
واستقبال حافل في باريس بدأت سياسة التعاون بين أحمد باي [2] وفرنسا،
فسمح لهم بإنشاء كاتدرائية في مواجهة مدينة تونس (في المكان الذي قيل إن لويس
التاسع مات فيه أثناء الحروب الصليبية) ، وعهد إليهم بإنشاء المدارس وتدريب
الجيش.
ورغم عدم وقوع تونس تحت الاحتلال الأجنبي رسمياً إلا أن النفوذ الأجنبي
فيها كان كبيراً، كما كان هناك تأثر بحركة التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية
وكانت تونس تابعة لها، ومن ثم: كان طبيعياً أن تشهد تونس أيضاً حركة
(إصلاحات) على النسق الأوروبي.
ففي عام 1275هـ (1857م) أصدر باي تونس (محمد باشا) استجابة
لرغبة القناصل الأوروبيين القانون الأساسي لتونس، وهو شبه دستور عرف باسم
عهد الأمان، وقد صيغ على نمط خط كلخانة العثماني، حيث بناه على قواعد ثلاث:
الحرية، والأمان التام، والمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام
القانون.
وفي عهد الباي محمد الصادق باشا وبفضل جهود الوزير خير الدين باشا
(التونسي) تم تعديل عهد الأمان، فصدر أول دستور في العالم الإسلامي على
الإطلاق سنة 1861م (1277هـ) ، وبحسب هذا الدستور يتولى الباي السلطة
التنفيذية ويعاونه وزراء يقوم هو باختيارهم، وهو الذي يقوم أيضاً بإصدار
(التشريعات) بمعاونة مجلس تشريعي مكون من (60) عضواً يقوم الباي بتعيينهم
من التونسيين والجالية الأجنبية، وقد نصت المواد الثلاثة الأولى من الدستور على
المساواة أمام القانون والإدارة والضرائب دون تمييز بين الأجناس والأديان، كما
خصصت المواد (9، 10، 11) لتأكيد حقوق الأجانب، ثم بدأ العمل في إصدار
قانون مدني وآخر جنائي بعد صدور هذا الدستور، وكان خير الدين «هو العقل
المنظم لهذه الحركة ومن له النصيب الأكبر في وضع القوانين لمجلس شورى
منتخب» [3] ، فقد كان هو الرئيس الفعلي للمجلس التشريعي بجانب توليه لوزارة
الحربية.
وفي عام (1284هـ/1867م) نشر خير الدين كتابه: (أقوم المسالك في
معرفة أحوال الممالك) ، شرح فيه آراءه في الإصلاح والتجديد التي جاءت متأثرة
بمشاهداته أثناء رحلته إلى فرنسا (1853م 1857م/ 1269هـ 1273هـ) ،
حيث يقول في مذكراته: «إن إقامتي الطويلة في فرنسا ورحلاتي العديدة مكنتني
من دراسة أسس المدنية الأوروبية وأحوالها، فضلاً عن مؤسسات الدول الكبيرة في
أوروبا، فانتهزت فرصة اعتزالي الحياة السياسية ووضعت مؤلفي السياسي
الإداري: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) » [4] ، بل صرح في كتابه
هذا «أنه استقى بعض معلوماته وآرائه في (أقوم المسالك) من كتب أوروبية في
السياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون ... » [5] ، وقد اهتم فيه بالتدليل على أهمية
اللحاق بالغرب في منجزاته ومخترعاته، ولكنه ألحق بذلك أيضاً (تنظيماته)
باعتبار أن هذه التنظيمات هي أساس التقدم المادي الذي أحرزه الغرب، كما إنه
عدَّ هذه (التنظيمات) الغربية مؤسسة على دعامتي الحرية والعدل (اللذين هما
أصلان في شريعتنا) [6] ، غافلاً عن اختلاف المصدر ومن ثم: القيم والتشريعات
المؤسسة لهاتين الدعامتين في كل من النظام الغربي والنظام الإسلامي.
ولأجل مواءمة الشريعة (لإصلاحاته) «فقد دعا إلى الاجتهاد في تأويل
الشرع حتى من غير التمسك بالمذاهب الفقهية، ما دامت غاية المجتهد أن يخدم
الصالح العام» [7] ، وعليه: فقد عهد إلى مختصين بدراسة الفقه الحنفي والمالكي
وعادات البلاد والقوانين المعمول بها في الدولة العثمانية وفي مصر وفي أوروبا،
وأن يستخرجوا منها قانوناً يناسب تونس، ولكنه خرج من الوزارة قبل أن تتم هذه
اللجنة عملها [8] .
الهند [9] :
استطاع الإنجليز القضاء على قوة الأمراء الذين لم يدخلوا في طاعتهم،
وانتهى الأمر بأن تمكن القائد البريطاني من القضاء على كل سلطان المسلمين في
الهند فيما عدا جيوب صغيرة عندما دخل دلهي عام 1803م (1218هـ) ، وبذلك
انتهى تاريخ سيادة المسلمين على شبه القارة الهندية؛ وأخذ الإنجليز يمحون الطابع
الإسلامي في المنطقة، وأفصحوا عن سياستهم المعادية عداءاً صريحاً لكل ما هو
إسلامي في الهند.
ولكن لم يرضَ المسلمون بهذا الواقع، فأصدر شيخ المحدثين مولانا شاه عبد
العزيز الدهلوي (1159هـ 1239هـ / 1746م 1823م) في السنة نفسها فتوى
تنم عن إحساس عميق بخطورة الوضع ومعرفة دقيقة للفرق بين الإسلام والعلمانية؛
حيث أعلن أن « ... في هذه البلد (دلهي) لا يحكم إمام المسلمين إطلاقاً، بينما
تسود فيه سلطة الحكام النصارى دون حرج، ونعني بإجراء أحكام الكفر: أن
الكفار في وسعهم أن يعملوا بسلطانهم في الحكم، وفي التعامل مع الرعية، وفي
جمع ضرائب الأرض والرسوم والمكوس والعشور والدموغ، وفي عقاب قُطَّاع
الطرق واللصوص، وفي تسوية النزاعات وعقاب المجرمين، ومع ذلك فإن بعض
أحكام الإسلام التي تتعلق بصلاة الجمعة والأعياد والأذان، وذبح البقر، ما زالت
نافذة، إلا أن ذلك إنما يرجع إلى أن جوهر هذه الأمور لا قيمة له عندهم؛ إذ إنهم
يهدمون المساجد دون تورع، ولا يستطيع المسلمون والذمِّيون أن يدخلوا هذه البلد
أو ضواحيها إلا بأن يطلبوا منهم الأمان، وإنما لمصلحتهم هم أنهم لا يعرقلون
مرور المسافرين والتجار ... » [10] ، وقد عُدَّت هذه الفتوى بعد ذلك مرجعاً للعلماء
والمسلمين عامة في عدم شرعية الوجود البريطاني في الهند، وكانت هي الأساس
لكل دعوة إلى محاربة الإنجليز ومقاطعتهم. وعليه: كان المسلمون يعتقدون أن
المسلم الصالح ينبغي عليه مقاطعة الإنجليز وعدم التشبه بهم حتى في أدق الأمور
كالأكل بالشوكة والسكين، أو ارتداء حذاء برباط ... ، لأن ذلك من التشبه (بالكفار) .
وفي عام (1274هـ/ 1857م) قامت ثورة كبرى (الاعتصام الكبير) في
ولايات عديدة من الهند تزعمها المسلمون وبعض الهندوس الذين نكبهم الإنجليز،
واستمرت هذه الثورة حوالي العام حاول فيها المسلمون إعادة تنصيب آخر سلطان
مغولي (سراج الدين أبو ظفر شاه) ، ولكن الثورة أخفقت وقضى عليها الإنجليز
بوحشية وقسوة مع تخصيص المسلمين بالقهر المتعمد، وقبضوا على السلطان
سراج الدين ونفوه بعد أن عزلوه وأهانوه إهانة شديدة ثم اضطروه إلى التنازل عن
عرشه.
وبنهاية سلطنة مغول الهند أصبحت الهند كلها مستعمرة بريطانية، وأحس
الإنجليز أن مصدر القلق في المسلمين هو موقفهم العدائي من (الكفار) ، وأن سبب
التمردات والثورات التي تخبو ثم تشتعل من جديد هو فتاوى العلماء التي كانوا
يصدرونها بوجوب الجهاد ضد الكفار ومقاطعتهم، فلجأ المستعمر إلى «بعض
العلماء يصطنعهم ويستفتيهم في مسألة الجهاد في الهند: هل يجوز أم لا؟ ويصدر
هذا البعض الفتاوى بأن الجهاد في حالة عدم التكافؤ بين قوة المسلم وقوة المستعمر
عبث ومضيعة للنفس والمال، وأن المستعمر ما دام لا يتدخل في إقامة الصلاة
وأداء الفرائض فلا تكون البلاد بلاد حرب ... ؟ واستجلبوا [أي: الإنجليز] فتاويهم
حتى من مكة، كي يقضوا على فكرة الجهاد التي يعتنقها بعض المسلمين في الهند،
ويعمل بها المتحمسون..» [11] ، وواضح ما في هذه الفتاوى من تراجع عن
الوعي والانتباه اللذين بدوا في فتوى شاه عبد العزيز السابقة، وهنا يظهر مرة
أخرى أهمية دور العلماء في المعركة ضد التغريب والعلمانية.
وتوازى مع ذلك الاتجاه: شروع الإنجليز في غزو المسلمين في العمق
الفكري والاجتماعي غزواً منظماً، فحاربوا مدارسهم واستبدلوا بها المدارس
الإنجليزية الحديثة، ونزعوا الأوقاف الإسلامية التي كانت تنفق على المدارس
الإسلامية، وهددوا أو أغروا أغنياء المسلمين حتى يكفوا عن مساعدة هذه المدارس،
وساندوا المنصرين بقوة، كما حرصوا على إبعاد المسلمين عن كل الوظائف ذات
المسؤولية ووضعوا مكانهم هندوساً وسيخاً.
وفي الوقت نفسه: أفاق المسلمون بعد انكسارهم في (الاعتصام الكبير) على
الواقع الأليم الجديد، فبدأت الهزيمة النفسية تتغلغل إلى نفوس كثير منهم، كما
بدؤوا يفكرون كيف يتعايشون مع الواقع الجديد الذي بدا لهم أنه سيكون طويلاً
مستمراً؟ ويبحثون عن سبل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ورأوا أنهم بعد فقدانهم سلطانهم
السياسي والاجتماعي مهددون بفقدان هويتهم الثقافية وتميزهم الفكري، وانقسموا
إزاء مواجهة ذلك فريقين:
فريقاً يرى الحفاظ على هوية المسلمين بتنمية معارفهم الأصيلة عن طريق
إنشاء مدارس يدعمها عامة المسلمين أنفسهم حتى لا تتعرض لضغوط الحكومة
الإنجليزية وكل من له صلة بها من الأمراء والأغنياء، وكانت أول مدرسة قامت
على هذا الأساس مدرسة (دار العلوم) في ديوبند سنة (1283هـ/1867م) ،
و «كان الأساس الذي قامت عليه هي وزميلاتها أساساً فكرياً خالصاً، يتمثل في
الاحتفاظ بالثقافة الإسلامية ولغتها (اللغة العربية) ومحاربة الثقافة الإنجليزية
والحيلولة بينها وبين الغزو الفكري والخلقي للمسلمين في الهند، وقد كوَّن هذا
الاتجاه مدرسة فكرية خاصة في الهند كان لها أثرها البعيد المدى في حياة المسلمين
الخاصة والعامة هناك» [12] .
أما الفريق الآخر فقد رأى أن اتجاه الفريق الأول يؤدي إلى حرمان المسلمين
من المشاركة في خيرات البلاد ووظائفها العامة، فدعا إلى إزالة الفجوة بين
الإنجليز والمسلمين، وإلى غرس الثقة المتبادلة بينهم، كما دعا أصحاب هذا
الاتجاه المسلمين إلى الإقبال على التعليم المدني الذي أدخله المستعمر للبلاد، ودعوا
إلى إنشاء مؤسسة علمية إسلامية يتلقى فيها أبناء المسلمين التعليم الحديث مع تعاليم
دينهم في جو مأمون موثوق به، وهكذا ولدت مدرسة (عَليكَرْه) سنة (1293هـ/
1875م) التي تحولت فيما بعد إلى (الكلية المحمدية! الإنجليزية) .
وقد تكون بعض المقدمات التي قدمها هذا الفريق صحيحة، ولكن
شخصية القائم على هذا الاتجاه، والمسار الذي سلكته المدرسة الممثلة له:
يفضحان أن المقصود كان تدجين فكر المسلمين وتذويب التميز العمراني
(الحضاري) الذي كانوا يتمتعون به ويحسونه ويفخرون به؛ فقد كان رأس
هذه الاتجاه هو سيد أحمد خان (1817م 1898م/ 1232هـ 1316هـ) ، الذي
كان موظفاً في الحكومة الإنجليزية بمهنة (قاضٍ) في محكمة، والذي عارض ثورة
عام (1274هـ/1857م) وأنقذ أثناءها أُسَراً إنجليزية كثيرة وحماها من
فتك الثائرين بها، وقد كافأته بريطانيا على مواقفه الموالية لها عندما زارها
عام 1869م (1286هـ) ، حيث كان ابنه يدرس هناك، فنزل لمدة سبعة
عشر شهراً ضيفاً مبجلاً على الأوساط الإنجليزية الراقية، فاحتفل به كبار
الإنجليز الرسميين وقابل الملكة وولي العهد والوزراء الكبار، ونال الوسام
الملكي ولقب الشرف (سير) ، وأثنت عليه الصحافة الإنجليزية، كما هيؤوا
له زيارة الجامعات والمعاهد العلمية؛ ليستفيد منها عند إنشاء مدرسته الجديدة،..
في زيارة تذكرنا بالبعثات الباريسية (للمصلحين) العرب!
كما أن الرجل كانت له آراء فكرية خطيرة تدل على مدى الانحراف الذي
يعمل على جر المسلمين إليه، فانحراف المعتزلة القديم في خلق القرآن وفي العلاقة
بين العقل والنص تحول على يديه إلى القول بأن القرآن نزل على الرسول صلى
الله عليه وسلم بالمعنى فقط، ثم صاغ الرسول ألفاظه من عنده، وقد تشبع سيد
أحمد خان بالمذهب (الطبيعي) ، وهو مذهب داروين، وأنكر الجنة والنار
والملائكة والجن، وأخذ يشتم الفقهاء ويستهزئ بالمحدِّثين وبالشعائر الإسلامية.
بل نظر إلى العبادات المحضة النظرة العقلية نفسها فجعلها مجرد رموز،
ووصف الإحرام والطواف ورمي الجمرات بأنها عادات باقية من الأديان الأولى في
طفولة البشرية، وكان يرى أن الإسلام والهندوكية والنصرانية يجب أن تكون عقائد
دينية في نفوس معتنقيها فقط، وهذه العقائد كلها يجب ألا تؤثر في الوطنية، وقال:
إن الجهاد يكون مشروعاً فقط عند الدفاع عن النفس وبشرط أن يحمل العدو
المسلمين على تغيير دينهم صراحة.
وقد تطورت هذه الآراء على يد تلامذته فأصبحت أكثر تطرفاً أو قل:
صراحة ووضوحاً، وذلك كله باسم (تجديد) الدين والإصلاح، وهو في الحقيقة
تطويع وتطوير للدين.
وقفات مع المرحلة:
وقبل أن ننتقل إلى مرحلة تالية من تاريخ العلمانية والتغريب في العالم
الإسلامي نود الوقوف مع أحداث هذه المرحلة والتي قبلها وظواهرها بعض الوقفات؛
لعلنا نضع أيدينا على بعض الحقائق والدروس لنستفيد منها:
فأولى هذه الوقفات: أن أوضاع العالم الإسلامي في بداية هذه المرحلة وما
قبلها مباشرة كانت أوضاعاً في مجملها تحوي كثيراً من المظالم والتخلف، مظالم
شاملة لا يوقفها معيار محدد للعدالة إلا القوة والسلطة، وتخلف شامل أيضاً كانت
حقيقته التخلف عن الإسلام ذاته، ومظاهره التخلف عن الغرب الذي سبق العالم
الإسلامي في العلوم والإدارة والصناعة والتجارة.
أي إن أوضاع العالم الإسلامي كانت تستحق الثورة وكانت في حاجة إلى
الإصلاح، ولكن الثورة من أي منطلق، والإصلاح في أي اتجاه؟ هذا هو ما
نختلف مع (الإصلاحيين) والعلمانيين فيه.
كما يجب أن نشير هنا أيضاً إلى أنه رغم تلك الأوضاع فإن الفجوة بين العالم
الإسلامي والغرب في بداية هذه المرحلة كانت غير كبيرة [13] ، ومن هنا يمكننا
القول: إنه كان من الممكن إذا توفرت الجهود المخلصة للإصلاح، ولم تتكالب
قوى الغرب للإجهاز على العالم الإسلامي قبل إفاقته.. كان يمكن تدارك هذه الفجوة
واللحاق بهم فيما تقدموا فيه من علوم مادية من غير تفريط في قيمنا ومبادئنا
و (ديننا) ، ولكن ما حدث في الواقع هو العكس؛ إذ اتجهت الأنظار إلى قيم الغرب
ومبادئه زاعمة أن هذا هو سر تقدم الغرب وحقيقة عمرانه (حضارته) ، ودارت
الدعايات والترويج لهذه القيم والمبادئ، بينما كان النشاط في اقتباس علوم الغرب
وأسرارها ضئيلاً وسطحياً.
ثانياً: من المعلوم أن «العلمنة بمعناها الشامل فلسفة تنطوي على (محاولة
لإدراك معنى العالم المادي بوصفه معقولاً ... وعلى إمكانية إدراكه، وبالتالي
تغييره دون حاجة للقوى الفوقية والسماوية والدينية) » ، وتتفق المذاهب العلمانية
الكبرى في المعنى النظري للعلمنة «الذي يتضمن (تَمْدِين الدولة والمجتمع
والمؤسسات والقوانين وسائر الشؤون العامة، وإبعادها عن أي مؤثرات دينية) »
ولذلك فإن العلمنة تعني صراحة: «إبعاد الدين عن ميدان تنظيم المجتمع الإنساني
وشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية» [14] ، ومن خلال تأمل مجريات
المراحل السابقة للعلمانية والتغريب في العالم الإسلامي نستطيع بلورة ملامح الغزو
العلماني التغريبي التي استمرت أيضاً ولكن بصورة أوضح في المراحل اللاحقة،
لتصب في اتجاه تحقيق معنى العلمنة السابق ذكره، ومن أهم هذه الملامح:
1 - إيجاد مرجعية فكرية جديدة بديلة عن المرجعية السائدة في المجتمع،
وهي التي كانت في أصلها مرجعية إسلامية.
2 - وضع الأفكار (القديمة) الشائعة بين أفراد المجتمع موضع الشك، ومن
ثم: بحثها ودراستها مرة أخرى في ضوء المرجعية الفكرية الجديدة، مما يؤدي إلى
استبدال هذه الأفكار (القديمة) .
3 - ربط المجتمع الإسلامي بمنظومة عالمية في الفكر والاجتماع والسياسة
والاقتصاد والقانون، وإحلال هذه المنظومة في المجتمع بحيث تمثل صبغة جديدة
له.
4 - استبدال ولاءات جزئية قائمة على قيم أرضية (مادية) عنصرية أو
مصلحية بقاعدة ولاء المجتمع المسلم، المتمثلة في الولاء لله ورسوله وللمؤمنين،
ثم إعادة ترتيب هذه الولاءات الجزئية في منظومات وتحالفات أكبر قائمة على
الأساس المادي ذاته.
5 - ولتحقيق هذا الهدف كان ينبغي تحطيم أدوات وحدة فكر هذه الأمة
وعاطفتها القومية الإسلامية، وذلك بالقضاء على أو على الأقل إضعاف حضور
اللغة العربية الفصحى (لغة القرآن) ، وعلى مفهوم العمران (الحضارة)
الإسلامي، باعتباره عمراناً متصلاً خرج من معين واحد، مع تشويهه والحط منه؛
لإيقاف عاطفة الفخر القومي الإسلامي الناشئ من هذا الاعتبار.
6 - كما ينبغي لبلوغ هذا الهدف تفتيت تماسك المجتمع، وذلك بغزو نواته
الأولية المتمثلة في الأسرة، وذلك عن طريق استهداف المرأة، وإشاعة صور
التفلت والانحلال الخلقي بين أفراد المجتمع.
وإذا كانت هذه الملامح بدت باهتة في المراحل السابقة فإننا سنلحظها واضحة
كل الوضوح في هذه المرحلة.
ثالثاً: باستعراض الخطوات التي أدت إلى العلمانية والتغريب في الأقطار
التي تعرضنا لها، نلحظ أن آلية هذه الخطوات تتشابه إن لم تتطابق في كيفية
تسللها، وأن الغرب استفاد من تجاربه العديدة مع المسلمين في شتى البقاع وعلى
مر العصور، وهي تبدأ بإظهار الفارق العمراني (الحضاري) بين الغرب الغازي
والبلدان الإسلامية، والتأكيد على تفوق هذا الغرب، يتبع ذلك إحساس المسلمين
بالانكسار والهزيمة النفسية التي تولد عندهم إعجاباً بهذا المتفوق، ثم العمل على
محاولة مسايرته واللحاق به، فيفتح لهذا الغرب الباب لتعليم وتدريب من يُعَدُّون
لقيادة البلاد، ويفتح الباب أيضاً لتسنم بعض هؤلاء المعلَّمين مراكز حساسة في
البلاد، وفي الوقت نفسه: تُرسل البعثات من أبناء المسلمين النابهين وقياداتهم
للاطلاع على هذا الغرب وأخذ العمران و (الحضارة) من منبعهما الأصيل! ،
فتتلقاهم هناك أيادي المستشرقين والمبشرين، ويغوصون في أوحال هذا المجتمع
ويرتوون من مستنقعاته، ثم يعودون إلى بلدانهم ليكونوا (حزب الغرب) فيها.
وبعد ذلك تفتح أبواب البلاد المعجبة بالغربيين والمهيأة لهم لامتيازات الدول
الأجنبية وأفرادها، فتبدأ سياسة (التغلغل السلمي) ، فيمتلكون الأراضي والعقارات،
وينشئون المزارع والمصانع، ويديرون شركات البنية الأساسية، فتكون هذه
الامتيازات ذريعة للتدخل السياسي والاقتصادي ثم العسكري؛ للحفاظ على حقوق
رعاياهم وأعوانهم، فيصعب على البلاد بعد ذلك الخلاص منهم، وفي الوقت نفسه:
يبدؤون باللعب على وتر حقوق الأقليات فتبرز الوطنية أو القومية أو الطائفية،
ثم يطالبون بنظام قضائي (حضاري) وتعليم (معاصر) واقتصاد حر.. ويفتح
الباب على مصراعيه للعلمنة والتغريب.
رابعاً: ولتمرير نهج التغريب والعلمنة فقد حرص المنفذون في هذه المرحلة
على مراعاة عدة أمور عند التنفيذ، منها:
- أن يتم تمرير هذا النهج على يد رموز علمية واجتماعية مقبولة من المجتمع
المستهدف، وكان أبرز من يقوم بذلك بعض العلماء والساسة اللامعين (أو الملمَّعين)
الذين أظهروا ميلاً إلى الوافد الجديد؛ حيث كانت المؤسسة العلمية الدينية وحدها
تمثل الحياة الفكرية حينئذ، وكانت المؤسسة السياسية هي أداة التنفيذ الأساس.
- أن يتم تسويغ الأفكار الجديدة تحت لافتات عديدة مقبولة: كالإصلاح،
والتحديث، والنهوض، والأخذ بأسباب القوة والمدنية.. وإظهار أن هذه الأفكار
غير متعارضة مع مبادئ الدين وقيم المجتمع.
- أن يكون التغيير المستهدف شاملاً لجميع نواحي الحياة: فكرية وسياسية
واقتصادية واجتماعية، بل أن يصل التغيير بهذه المبادئ إلى الدين نفسه كما سنرى
لاحقاً إن شاء الله تعالى.
- أن يكون هذا التغيير بصورة تدريجية مع اتباع سياسة الصدمات محسوبة
الأثر والنتائج إن لزم الأمر.
خامساً: وكانت الترجمة من أهم طرق نقل الأفكار الغربية إلى العالم
الإسلامي وأخطرها في ذلك الوقت وخاصة في مصر وتركيا والشام «فقد مهدت
حركة الترجمة بما حققته من انتشار الفكر العلمي والثقافة العلمية في مقابل الفكر
والثقافة الدينية مهدت السبيل للأفندية أن يحلوا محل المشايخ في الزعامة الفكرية في
مصر في القرن 19» [15] .
سادساً: اختلف شكل الإطار الذي خرجت منه العلمانية والتغريب حسب
ظروف منطقة الاحتكاك العمراني (الحضاري) الذي نموَا فيه، ففي حين أن دور
رجال السلطة المحلية والمحافل الماسونية كان واضحاً في مصر وتركيا في هذه
المرحلة، نجد أن الإرساليات التنصيرية والمستشرقين والنصارى العرب لعبوا
دوراً أكبر في الشام، كما نجد أن الاستعمار الصريح: الفرنسي في الجزائر،
والبريطاني في الهند كان هو العامل الحاسم في غرس العلمانية والتغريب في هذين
البلدين، وهذا الاختلاف في الإطار والظرف العام سيكون له أثره فيما بعد.
ومع ذلك فيكاد ألا يختلف (أسلوب) تقديم العلمانية إلى العالم الإسلامي رغم
اختلاف هذه الظروف وتعدد هذه الأطر؛ فقد تسللت العلمانية والتغريب إلى العالم
الإسلامي في بدايتها وما زالت تحت ستار كثيف من التضليل والتلبيس؛ حيث
اختلط (أو خُلِّط) الحق بالباطل والصواب بالخطأ في الدعاوى التي رفعها
(الإصلاحيون) ، كما قُدِّمت العلمانية والتغريب في هذا الخلط على طبق من الدين.
وفي ذلك يصف الدكتور محمد محمد حسين بدقة دوافع (المصلحَيْن)
الطهطاوي وخير الدين التونسي ومنهجهما، فيقول: «فالطهطاوي وخير الدين
يبدأ كل منهما كلامه بالنص القرآني وبالحديث وبرأي الصحابة والفقهاء، ونقطة
البدء في تفكيرهما هي التماس الوسائل لقوة المجتمع الإسلامي ... ولكن التخطيط
للنهضة والتماس الحلول للتخلص من عوامل الضعف يبدأ من الإعجاب ببعض ما
شاهداه من النظم في المجتمع الغربي والرغبة في نقله إلى وطنيهما ... » [16] .
والقوانين التي صدرت باسم (التنظيمات) في الدولة العثمانية كانت تُصدَّر
بأنه: «لا يخفى على عموم المسلمين أن دولتنا العلية من مبدأ ظهورها وهي
جارية على رعاية الأحكام القرآنية الجليلة والقوانين الشرعية المنيفة.. وقد انعكس
الأمر منذ مئة وخمسين سنة بسبب عدم الانقياد والامتثال للشرع الشريف ولا
للقوانين المنيفة..» [17] ، ثم تُذيَّل بأنه «قد أفتى المفتي بجواز العمل بها شرعاً
ومعاقبة من يعارض في إنفاذها» [18] .
وقد كان للصورة التي حاولوا بها (تقنين) الفقه دوره في هذا التلبيس بغض
النظر عن نيات من قاموا به ومدى مناسبة هذا التقنين حيث اعتاد الناس هذه
الصورة وألِفوها، ومن ثم: لم يستغربوا بعد ذلك أن يُحكموا بقوانين غريبة عن
الإسلام على هذه الصورة، لا سيما حين يقال عنها إنها لا تخالف الشريعة
الإسلامية، أو إن لها تخريجاً يتفق مع رأي في مذهب فقهي إسلامي.
هذا الأسلوب وإن بدا في هذه المرحلة المبكرة غير ظاهر والانحراف فيه
يسير، إلا أنه استعمل على نطاق واسع في المراحل التالية، كما أن خط الانحراف
به اتسع وتأصل فيما بعد.
سابعاً: تميزت هذه المرحلة بالتركيز على التغلغل في أوساط النخب الثقافية
والفكرية وأصحاب التأثير في المجتمع الإسلامي، كما تميزت بالارتكاز على
أصحاب السلطة والاحتماء بهم لنشر العلمانية والتغريب، وهذا واضح في البلاد
التي تعرضنا لها.
أما قاعدة المجتمع العريضة فقد كانت تعيش حالة من التحول الاجتماعي أو ما
نستطيع أن نطلق عليه: البرزخية الاجتماعية فهي لم تكن تعيش إسلاماً صحيحاً
كما أنها لم تكن تعيش علمانية كاملة.
وفي الوقت نفسه: كان واضحاً سعي ذوي النفوذ في تيار العلمانية والتغريب
على صبغ حياة المجتمعات الإسلامية بالقوانين الوضعية في مجالات الحياة المتنوعة؛
لنزع الطابع الديني عن المعاملات اليومية في حياة أفراد هذه المجتمعات وإحلال
صبغة علمانية بديلة، إضافة إلى ربطهم بأسس مرجعية جديدة ترتبط بالنظام
العالمي الناشئ من المدنية الغربية، كما حرصوا على إشاعة المظاهر التي تدل
على هذه الصبغة الجديدة.
أما بالنسبة إلى العلماء فإنه وإن استُعمِل بعضهم جسراً للعلمانية والتغريب إلا
إن آخرين أعلنوا رفضهم لذلك الاتجاه وقاوموه بالوسيلة التي يملكونها: الفتاوى!
وفضح أصحاب هذا الاتجاه أمام الأمة؛ ففي تركيا العثمانية «لم يلق الخط الشريف
أو الدستور الذي سانده مصطفى رشيد وقلة من المحيطين به ترحيباً أو تأييداً من
الرأي العام العثماني المسلم، فأعلن رجال الدين! تكفيرهم لرشيد باشا، واعتبروا
الخط الشريف منافياً للقرآن الكريم في مجمله، وبخاصة في مساواته المسيحيين
بالمسلمين ... » [19] .
وعندما أعلن سيد أحمد خان آراءه «هيج الرأي العام ضده، وزاد في هياج
الرأي العام المسلم وتشديد النكير عليه من العلماء حتى حكموا بكفره ما قرره في
تفسيره من أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى
فقط ... » [20] .
ولكن أصحاب هذه الأصوات المعارضة ضاعت وسط الزخم العلماني
والتغريبي المستند على السلطة النافذة والدعم الغربي آنذاك، كما يبدو أن أصحاب
هذه الأصوات المعارضة لم يستطيعوا إدراك مدى المخطط البعيد وشموله في هذه
المرحلة المبكرة.
أخطر المراحل وأعقدها (1882م- 1917م) :
بعد أن نمت البذور التغريبية والعلمانية في أرض الإسلام بدأت تضرب
بجذورها في هذه الأرض، وبدا واضحاً أن هذه الجذور أخرجت نبتة لها ساق
مستوٍ وعود مشتد.
وقد تميزت هذه المرحلة بحدوث اضطراب شديد وتحولات فكرية وسياسية
واجتماعية كبيرة في البلاد الإسلامية، كما أن التداخل في نشاطات وجهود (الرواد)
الإصلاحيين وأثر ذلك على الأقطار المتعددة.. كان سمة بارزة في هذه المرحلة.
ويمكننا في هذا الرصد أن نضع أيدينا على مفاتيح تعيننا على فهم هذه
المرحلة التي نحن بصددها، تتمثل في الآتي:
أولاً: تميزت هذه المرحلة بتكثيف انتقال القيم الغربية والعلمانية من مجال
الأفكار إلى الواقع، وبذا انتقلت الهجمة التغريبية العلمانية إلى الضرب في العمق؛
فكراً: بطرق الموضوعات التي تطرحها في صورة أكثر صراحة ووضوحاً
وشمولاً، وانتشاراً: بفتح ميدان انتقالها من النخبة المثقفة المحدودة إلى القاعدة
الشعبية العامة.
ثانياً: نتيجة لهذا الضرب المركز في العمق الفكري والاجتماعي تبلور تيار
كانت بذوره موجودة في المرحلة السابقة، وكان جل اهتمامه محاولة (التوفيق)
بين الإسلام وبين الأفكار والقيم الغربية الوافدة، وقد تعددت (دوافع) هذا التيار
و (درجاته) و (صوره) ، ولكنه عموماً احتل مساحة واسعة في أنشطة هذه
المرحلة، كما كان له أثر كبير فيما بعد.
ثالثاً: رغم تعدد ميادين الأنشطة العلمانية والتغريبية و (التوفيقية) في هذه
المرحلة إلا أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بين هذه الأنشطة بدا وكأنه صرعة العصر
التي تنطلق منها، ألا وهو: الحرية بمفهومها الغربي الليبرالي؛ فقد تمثل ذلك في
الفكر: بطرح كل المسلَّمات (السابقة) على طاولة النقاش، ومن ثم: الرفض أو
القبول، وفتح المجال لإدخال أي أفكار والترويج لها باسم حرية الفكر، وفي
الإصلاح الديني: بفتح باب الاجتهاد وإعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع (روح
العصر) ، مما أدى لاحقاً إلى محاولات تطويع الإسلام و (علمنته) ، وفي
السياسة: بالدعوة إلى الحرية الدستورية، ومقاومة الاستبداد، والتحرر من الروابط
السياسية القديمة، وذلك ما أدى فيما بعد إلى رفض الإطار السياسي للخلافة، وإلى
استقرار النيابة البرلمانية بوصفها مصدراً للسلطات، وفي الاجتماع: بالدعوة إلى
حرية المرأة وانعتاقها من قوامة الرجل وأسر الأسرة والتقاليد وتعاليم الدين، وهو
ما أدى إلى التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي، وفي الاقتصاد: بوضع أطر
الاقتصاد الحر والارتباط بالرأسمالية العالمية واقتصاد السوق، ومن ثم: فتح
المجال أمام الأفكار والتصورات الاقتصادية المنابذة للدين التي مثلها الحضور
المكثف لرأس المال الغربي بما يحمله من احتكارات واستغلال وربا، وفتح المجال
أيضاً لنشاطات اقتصادية منافية للإسلام أخلاقياً واجتماعياً.
هذه إجمالاً أهم مفاتيح هذه المرحلة، والآن لنعرض بعض تفاصيل تحولات
الفكر والثقافة في هذه المرحلة:
دخول الفكر العلماني التغريبي الصريح:
مثلما كان الفكر النصراني هو واسطة نقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى الفكر
الإسلامي في العصر العباسي عبر حركة ترجمة واسعة آنذاك «كان هذا الفكر
مؤهلاً أكثر من غيره لدور الريادة عندما جاءت الموجة (الهيلينية) الجديدة من
أوروبا المسيحية العلمانية هذه المرة، ومعها تجربة غير معهودة من قبل في تحديد
العلاقة الجدلية بين الدين والعقل، تستند إلى مبدأ الفصل والتمييز والتفريق
بينهما» [21] ، وهكذا كان النصارى العرب وإن شاركهم غيرهم رأس الحربة في
نقل العلمانية الصريحة.
فبخلاف (المصلحين) المسلمين الذين كانت تؤرقهم محاولات تقديم الأفكار
الغربية في صورة لا تتعارض مع الإسلام، مما دفعهم إلى اختيار مسلك التوفيق
بينهما ... «كان المثقفون المسيحيون يرفضون ربط التطور الاجتماعي بأية عقيدة
دينية، ويسعون إلى التحرر من مشكلة الانتماء الديني بالتشديد على النظرة
العقلانية إلى الإنسان والمجتمع» [22] ، ومن هنا: أخذوا ينهلون ويتبنون بوضوح
وبدون حرج أو حساسية أفكار مفكري عصر التنوير الأوروبي.
وهكذا تمثل التيار العلماني التغريبي الصريح في معظمه في بعض نصارى
الشام الذين هاجروا إلى مصر، وأخذوا في بث أفكارهم من خلال عدة طرق،
محدثين حركة فكرية ثقافية كبرى داخل قطاعات كبيرة من (المثقفين) استخدمت
فيها الصحف والمجلات التي أصدروها على نطاق واسع، مستغلين (حرية النشر)
التي كانت توفرها سلطات الاحتلال لمثل تلك الإصدارات، وأيضاً من خلال
ترجمة بعض الكتب الأوروبية التي تساير الاتجاه الجديد، وتحقيق وإخراج بعض
الكتب الفلسفية والأدبية القديمة التي تخدم توجهاتهم، بإعادة طرح أسئلة كبرى حول
الإنسان والكون والحياة، والتي تهدف أيضاً إلى إعادة صياغة العلاقات بين الأفراد
والمجتمعات.
فبعد جيل فرنسيس مراش، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي،
وفارس الشدياق، أتى جيل آخر يمثله سليم عنحوري، وأديب إسحاق، وشبلي
الشميل، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، وبشارة وسليم تقلا، وفارس نمر،
ويعقوب صرُّوف ... وغيرهم، ولا شك أن بينهم فروقاً فكرية، ولكن يجمعهم
أنهم جميعاً نصارى على اختلاف مذاهبهم وأنهم ماسونيُّون، كما أن معظمهم درس
في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية) التي أشرنا إليها سابقاً.
كانت الصحافة أحد أهم أنشطتهم التي روجوا من خلالها أفكارهم بطرق
ملتوية ومخادعة؛ فقد كان بعضهم يتعمد أن يتضمن اسم مطبوعته دلالة رمزية قد
تخفى على بعض القراء: ففارس نمر يوضح أنه بعد رفض وزارة الداخلية
المصرية الموافقة على إصدار جريدته الجديدة باسم (الإصلاح!) اختار هو
وشركاؤه اسم (المقطم) ، يقول: «ولما سئلت عن السبب في اختيار هذا الاسم
بالذات، قلت: لأنه الجبل الذي بنيت من حجارته الأهرام الثلاثة» [23] ، وكذلك
جورجي زيدان أطلق على مجلته اسم (الهلال) مستغلاً ما يشاع بين الناس من أن
الهلال رمز إسلامي، والحقيقة أنه أحد رموز الماسونية، ومن المعروف أن زيدان
كان ماسونياً، كما أن (جامعة) فرح أنطون كانت باسم (الجامعة العثمانية) ،
وهذا الاسم وإن كان ظاهره يناصر الدولة العثمانية، إلا أنه يطرح بصفته بديلاً عن
(الجامعة الإسلامية) ، وهذا الطرح كان دعوة لها أنصارها في ذلك الوقت، وهو
يعني التجمع حول آصرة الجنسية العثمانية التي تضم أدياناً وأعراقاً شتى، بدل
آصرة الإسلام، وهو يعني بمعنى آخر العمل على الدعاية لعلمانية الدولة في
الانتماء والولاء.
وكما عمدوا إلى المداورة والخداع في الأسماء والعناوين عمدوا إليها أيضاً في
المحتوى والموضوعات؛ فمجلة المقتطف «إذا أخذنا العدد الصادر [منها] في
كانون الثاني 1896م على سبيل المثال، لوجدنا أنه يشتمل على مقالات في
الأمراض السارية، والميكروبات في الهواء، والفروق بين الرجال والنساء،
وتحليل فلسفي لمركز الإنسان بين الحيوانات ... أما مؤسس الهلال ... فقد كان ذا
تركيب ذهني مختلف، فأعار العلوم الطبيعية في مجلته اهتماماً أقل، موجهاً جل
عنايته إلى علم الاجتماع، وأدب النفس، والسياسات العالمية، والجغرافيا والتاريخ،
واللغة والأدب، وآثار العرب ... » [24] ، ويعلق ألبرت حوراني على هذه
الموضوعات قائلاً: «قد تبدو المواضيع التي كانت تعالجها هاتان المجلتان عديمة
المغزى، خصوصاً وأنهما كانتا تتحاشيان كل ما يتعلق مباشرة بالسياسات المحلية
أو بالدين أو بما شأنه أن يثير ضدهما العداء، غير أن وراء هذه المواضيع ووراء
غيرها من هذا النوع كانت تكمن بعض الأفكار المعينة الدائرة حول: ما هي
الحقيقة؟ وكيفية البحث عنها؟» [25] وبهذه الطريقة أصبحت مجلة كالمقتطف
«أهم المجلات التي أخذت تدعو إلى التحلل من الدين» [26] .
وإلى جانب الصحافة التي كانت تعمل على تشكيل الرأي العام سلك طلائع
العلمانية مسالك أخرى لتبديل البيئة الفكرية لمثقفي الأمة؛ ففي هذه المرحلة
التاريخية نشطت حركة إحياء كتابات فلسفية قديمة، مع اهتمام خاص بفلسفة ابن
رشد.
فعلى سبيل المثال: أصدر فرح أنطون سنة 1901م كتاب (ابن رشد
وفلسفته) الذي أحدث جلبة كبيرة أدت إلى سجالات عديدة؛ حيث ادعى أنطون أن
الإسلام قضى على الروح الفلسفية واضطهد العلم، وأن حل (النزاع) بين العلم
والدين يتم بتحديد الحقل الخاص بكل منهما؛ بحيث لا يتجاوز أحدهما حدود الآخر،
مؤكداً أن الأنبياء فلاسفة، وأن الحقيقة واحدة يسربلها الأنبياء بالرموز الدينية من
أجل العامة بينما تفقهها النخبة مباشرة [27] ؛ فأهمية الكتاب ترجع إلى أنه «لم
يستهل المباحث الفلسفية الجديدة في مطلع القرن العشرين وحسب، بل فتح الباب
أمام مساجلات فكرية هامة بين أقطاب الفكر في مصر ... حول مسائل الخلق
والأزلية والسببية، وسواها من القضايا الفلسفية الكبرى» [28] .
وتوازى مع ذلك النشاط حركة ترجمة واسعة لكتب منتقاة تعبر عن الفكر
(التنويري) الغربي، وبعد أن كانت حركة الترجمة في المرحلة السابقة تتم برعاية
الدولة ومرتبطة بمصالحها وتوجيهاتها الحديثة، نجد أن الترجمة في هذه المرحلة
أخذت بعداً جديداً بانتقال معظم نشاطها إلى أفراد أصحاب توجهات تغريبية واضحة
ومقصودة، عملوا على تجاوز ترجماتهم تحديث أجهزة الدولة نحو تحديث أفكار
المجتمع وثقافته، حيث بدأت حركة نشطة لترجمة أمهات الكتب الفلسفية
والاقتصادية والسياسية والأدبية والاجتماعية إلى اللغة العربية.
فكرتان وشخصيتان:
ولا يفوتنا في هذا المقام الحديث عن شخصيتين وفكرتين كانتا ذا أثر كبير في
الحركة الفكرية في هذه المرحلة، باعتبارهما نموذجين للأفكار والشخصيات التي
تمثل هذا الاتجاه في ذلك الوقت، ونعني بالشخصيتين: شبلي الشميل، وفرح
أنطون، وأما الفكرتان: فالداروينية والاشتراكية.
فلقد أعطى تيار العلمانية الصريحة الاشتراكية بعداً هو أقرب إلى حقيقتها،
مخالفين النهج التوفيقي الذي سبقهم الأفغاني باستعماله عند حديثه عن الاشتراكية،
ففي «أوائل التسعينات من القرن التاسع عشر بدأت صحف اللبنانيين الدورية
الصادرة في مصر تتعرض للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنظريات الأوروبية
بشأنها، ومن بينها التعاليم الاشتراكية، وكان يعقوب صرُّوف في مجلته (المقتطف) ،
وجورجي زيدان في (الهلال) ، وفرح أنطون في (الجامعة) من أوائل
العارضين والمحللين لتلك التعاليم» [29] ، وهكذا «ظلت الأفكار الاشتراكية حتى
قبيل الحرب العالمية الأولى محصورة بشكل رئيسي في نطاق العلمانيين المسيحيين،
وأصدر سلامة موسى في عام 1913م [1331هـ] كتابه (الاشتراكية) » [30] ،
وفي العام نفسه نشر المدرس المصري مصطفى حسنين المنصوري كتابه (تاريخ
المذاهب الاشتراكية) وضمنه شروحات ميسرة للأفكار الاشتراكية، وهو يعد من
أوائل من عرضوا مبادئ الفكر الاشتراكي والماركسي [31] .
وإذا كان يعقوب صرُّوف وجورجي زيدان ظلا في نطاق التحليل الوصفي
للاشتراكية دون الالتزام بها سياسيّاً، فإن الشميل وأنطون كانا أول الداعين إليها
باعتبارها التزاماً سياسياً اجتماعياً؛ حيث كان الشميل «يؤمن بحتمية الوصول إلى
الاشتراكية مهما طال الزمن؛ لأنها ذات نواميس طبيعية تدعو إليها» [32] ، بينما
ذهب فرح أنطون إلى أبعد من ذلك، فدعا إلى تأميم وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية
الخاصة، كما «كان يعتقد بأن على المرء ألا يكتفي بالتبشير بالاشتراكية إذا أراد
تحقيقها، بل عليه أن يسعى إلى هذا التطبيق ولو بالقوة والثورة، وبالتالي يصبح
من الضروري غرس فكر الثورة والعنف في عقول الطلاب منذ الصغر» [33] ،
وهكذا شقت الاشتراكية طريقها في الفكر العربي المعاصر، لتتمثل بعد ذلك في نظم
سياسية تتبناها وتدعو إليها.
أما الداروينية أو مذهب النشوء والارتقاء كما عُرفت آنذاك فكانت «أحد
المجالات الأساسية للصراع ضد العلمانية ... فكانت الداروينية في أواخر القرن
التاسع عشر من ضروب النظرية التطورية التي شكلت عصب فكر القرن التاسع
عشر، ومن المسلَّمات التي أخذ بها الغربيون والشرقيون معاً» [34] وقد أثارت
الداروينية موجة قوية من الإلحاد؛ حيث طغى في هذا العصر مذهب المادية
«القائل بأن العالم له أساس واحد هو المادة، ولا شيء وراءها، وكل شيء في الحياة
مظهر من مظاهرها حتى الفكر والعاطفة، والمادة لا تتجدد ولا تفنى، وقوانينها
قديمة أزلية أبدية، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء، وإنما تتغير الأشكال،
وبناءاً على ذلك: فلا نفس ولا روح ولا دين ولا إله!» [35] ، وهكذا خطت
(العلمانية) خطوة نوعية كبرى في مهاجمة الدين بمحاولة تحطيم أسسه الأولية.
شبلي الشميل (1850م 1917م / 1266هـ 1335هـ) :
يرى الدكتور عزيز العظمة أن التيار العلماني الشامل والآخذ بالعلمانية في
أسسها المادية ونتائجها الاجتماعية كان «تياراً صغيراً ... مثَّله أفضل تمثيل شبلي
الشميل ثم سلامة موسى، وكان الاثنان قد أسسا سوية مجلة (المستقبل) في
القاهرة عام 1914م، كتب فيها موسى مقالاً (كله فجور إلحادي) ، ودعا فيها
الشميل إلى المادية والتطورية (دعوة مستقبلية فجة) » [36] .
فقد اعتقد الشميل «بأن العلم هو الدين الجديد للإنسانية جمعاء» [37] ؛ حيث
اعتبره «أكثر من طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء؛ إذ كان مفتاحاً لحل
لغز الكون، لا، بل نوعاً من العبادة» [38] ، ويرى الشميل «أن دين العلم هو
إعلان حرب على الديانات القديمة» [39] ، وعليه: فهو يرى أن: «ليس الحكم
الديني والحكم الاستبدادي فاسدين فحسب، بل هما غير طبيعيين وغير
صحيحين» [40] .
«وكان الكثيرون من الكتاب العرب المسيحيين من معاصري الشميل يبشرون
بتلك الأفكار ويستنتجون منها وجوب وجود وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية، لكن
الشميل نفسه ذهب أبعد من ذلك في استنتاجه؛ فهو لم يحاول الاستعاضة عن
التضامن الديني بالتضامن القومي فحسب، بل راح أيضاً يعلن أن لجميع أنواع
التضامن الجزئي خطر التضامن الديني؛ لأنها تجزئ المجتمع البشري، فالتعصب
القومي الأعمى لا يقل شراً عن التعصب الديني الأعمى، لذلك لا بد أن تَحل عاجلاً
أو آجلاً الوطنية العالمية محل الولاء للوطن المحدود» [41] ، ولعل هذا كان سبباً
لأن راقته فكرة الاشتراكية حيث الدعوة إلى الأممية العالمية، فكان «أول من نشر
بالعربية فكرة الاشتراكية، وإن لم يكن أول من سماها بهذا الاسم» [42] هكذا انبثق
الولاء للعالمية من الرؤية العلمية العلمانية!
ولدين الشميل الجديد مستلزمات اجتماعية وسياسية واسعة أيضاً «فالعلوم
الطبيعية هي أساس العلوم الإنسانية، ولا تستمد الشرائع إلا من العلوم الإنسانية
الصحيحة» [43] .
وعلى رأس العلوم الصحيحة عند الشميل: الداروينية، لذا: كان «أول
داعية للأفكار الداروينية والفلسفات المادية في العالم العربي، تحت تأثير فلسفة
سبنسر الذي جعل من الداروينية مبدأً فلسفياً لا ينازع» [44] ، و «أضاف الشميل
بذلك على غيره من العلمانيين نظرة مادية في الدين، وجعل من الداروينية نموذجاً
عاماً لقانون تطوري يشمل نشوء وترقي الإنسان واللغة والشرائع، وقال بالتالي بأن
تاريخية المجتمع كتاريخية الطبيعة، وقال أيضاً بنسبية الأخلاق ومفاهيم الخير
والشر» [45] .
«ويترتب على نظرية التطور أيضاً أن القوانين السارية في كل مجتمع
ليست شرائع أبدية معصومة، بل يجب أن تتطور بالتدرج وفق حاجات الإنسان
وقضاياه، وقد تصبح الثورة ضرورية (!) إذا تحجرت تلك الشرائع ومنعت ذلك
التطور» [46] .
وهكذا يتضح بجلاء أن العلمانية في صورتها الغائية الصريحة هي منظومة
فلسفية كلية، تنبثق منها تصورات شاملة عن الإنسان والكون والحياة، كما تنبثق
منها النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعبر عن هذه التصورات لتحل
محل الدين والنظم المنبثقة عنه.
فرح أنطون (1874-1922م / 1291-1340هـ) :
وبمثل هذا الوضوح والسفور كان فرح أنطون، «ففي الوقت الذي حاول فيه
من سبقه التوفيق بين الحضارة الغربية والحضارة العربية، والتمسك بإحياء التراث
العربي القديم باعتباره الحل المثالي لتقدم مجتمعهم، كان فرح أنطون يدين بالولاء
الكامل للحضارة الغربية وأفكارها، وينقل عنها في مجلته (الجامعة) مذاهبها في
الإصلاح الاجتماعي، ويناقش الأفكار الاشتراكية والشيوعية في هذا الوقت المبكر
حين كان المجتمع غير مستعد بأي صورة من الصور لتقبل مثل هذه الأفكار» [47] ،
فكان فرح أنطون «أول من كتب بالعربية عن بوذا وكونفوشيوس، وعرَّف
بفلسفة تولستوي وشرائع حامورابي وأفكار روسو وفلسفة أوجست كونت» [48] ،
وهو يرى أن لا فرق بين الأديان «فإذا تفحصنا مجموعة المبادئ [الجوهرية]
وجدنا أنها واحدة في جميع الأديان ... كذلك إذا تفحصنا مجموعة الشرائع لوجدنا
أن غايتها الوحيدة إنما هي حث الناس على الفضيلة؛ فالثابت فيها هو إذن المبدأ
الخلقي الكامن وراءها، ويجب أن نفسرها تفسيراً يسمح لها بالقيام بوظيفتها، حتى
لو اقتضى ذلك تأويلها، وبعبارة أخرى: إن جميع الأديان إنما هي دين واحد يعلِّم
بعض المبادئ العامة، أما الشرائع الدينية فلا قيمة لها بحد ذاتها؛ إذ ما هي إلا
وسائل لغاية» [49] .
وأنطون يرى من هذا المنطلق أن المفاضلة بين دين ودين «من القضايا
المتحدرة من القرون الوسطى، التي لا تتصل لا من قريب ولا من بعيد بمفاهيم
العلم الحديث» [50] ، وبنى على ذلك أيضاً موقع الدين في الحياة، فهو يهدي كتابه
عن ابن رشد إلى «النبت الجديد في الشرق» ويعني بهم: «أولئك العقلاء في
كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا
العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم! ليتمكنوا من
الاتحاد اتحاداً حقيقياً ومجاراة التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم
جميعاً وجعلهم مسخرين لغيرهم» [51] .
وهذا الكلام يتضمن نقطتين مهمتين: فصل الدين عن الدولة، وضرورة
الاتحاد على أساس المواطنة لا الدين؛ «فالوحدة تتم بخلق الولاء القومي والفصل
بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وفي هذا قوله: (فلا مدنية حقيقية ولا تساهل
ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في
الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية) » [52] ، ومن ثم:
«أصبحت الدولة الدينية (دولة الضعفاء والجبناء والكسالى في الأمة) » [53] ،
وعندها «تصبح الاشتراكية إنما هي (دين الإنسانية) ، وهي آخذة في الحلول
محل الأديان المنزلة» [54] .
__________
(*) هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يعده الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي، وقد آثر جزاه الله خيراً مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب
- البيان -.
(1) انظر: د صلاح العقاد، المغرب العربي دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، ص 161، د إسماعيل أحمد ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص 171، د عزت قرني، العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، ص 305، علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، ص 604، أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 146، ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، 93 -103.
(2) باي: لقب عثماني، معناه: ممثل السلطان.
(3) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، ص 156.
(4) عن: الرحالة العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، د نازك سابا يارد، ص 24.
(5) المصدر السابق، ص 28.
(6) انظر: السالك إلى أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي، وهو دراسة بين يدي مقدمة أقوم المسالك، قام بها الدكتور رحاب خضر عكاوي، والكلام المنقول من المقدمة نفسها، ص 91، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 162.
(7) الرحالة العرب وحضارة الغرب، ص 90، وانظر: العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، ص 24.
(8) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 168 169، والفكر العربي في عصر النهضة، ص 120.
(9) انظر: كفاح المسلمين في تحرير الهند، عبد المنعم النمر، تاريخ الإسلام في الهند، له أيضاً، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د محمد البهي، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، محمد حامد الناصر، التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، ج 8، ص 431، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، لأحمد أمين، ص 121 138.
(10) الإسلام والاستعمار، عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، رودلف بيترز، ص 64، وانظر: تاريخ الإسلام في الهند، ص 528، وتكمن أهمية هذه الفتوى في نقطتين: الأولى: عدم اعتداده وعدم انخداعه بإقامة شعائر تعبدية فردية بدون وجود صبغة إسلامية عامة للمجتمع والدولة تحكم بالإسلام وتوالي على أساسه، وهذا هو جوهر العلمانية الذي يفرق بين الدين والحياة (أو الدولة) بغير تداخل بينهما، في مقابل جوهر الإسلام نظاماً للحياة يشمل جميع أوجه النشاط الإنساني الثانية: انتباهه إلى أهمية شرط السيادة (السلطان) عند تطبيق الإسلام، فما كان يسمح الإنجليز بتطبيقه من الإسلام لا يعتد به؛ لأنه خرج من منطلق سيادة سلطان الكفر عندما كان بإذنهم هم: [آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ] (طه: 71) (الأمة مصدر السلطات) ، ولم يخرج من منطلق العبودية لله عز وجل وسيادة أحكام الإسلام وهاتان النقطتان تمثلان الفارق الجوهري بين دار الإسلام ودار الكفر، وتميزان بين حقيقة الإسلام وحقيقة العلمانية.
(11) عبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند، ص30، وانظر: الإسلام والاستعمار،
ص 69 72.
(12) المصدر السابق، ص 39.
(13) انظر: رسالة (في الطريق إلى ثقافتنا) لأبي فهر محمود محمد شاكر، ص 81، 98، 117.
(14) محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ص 114.
(15) سامي سليمان محمد السهم، التعليم والتغيير الاجتماعي في مصر في القرن التاسع عشر،
ص 288.
(16) د محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 38، ود معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، ص 204، 226.
(17) تاريخ الدولة العلية العثمانية، لمحمد فريد بك، ص 254.
(18) المصدر السابق، ص 219.
(19) د زكريا سليمان بيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 208.
(20) عبد المنعم النمر، مصدر سابق، ص 45، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث،
ص 131.
(21) د محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي (1930م - 1970 م) ، ص 12.
(22) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص173.
(23) د سامي عزيز، الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 96.
(24) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص252.
(25) المصدر السابق، ص 252، 253، وانظر في المعنى نفسه: د سامي عزيز، مصدر سابق، ص 115.
(26) د سامي عزيز، مصدر سابق، ص 302.
(27) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص175، 260 وما بعدها، ولك أن تتتبع اهتمام العلمانيين و (التنويريين) بابن رشد المستمر حتى الآن، والتي ليس آخرها إخراج كتبه محققة ومشروحة بعناية كبارهم، وإخراج أفلام سينمائية تطرح وجهة نظرهم من خلال ابن رشد أو تطرح ابن رشد من وجهة نظرهم مع إسقاطها على الواقع الحالي، كفيلم (المصير) ، للمخرج المصري يوسف شاهين.
(28) ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 230.
(29) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 220.
(30) د محمد جابر الأنصاري، مصدر سابق، ص 24.
(31) انظر: الاتجاهات السياسية في العالم العربي، للدكتور مجيد خدوري، ص 106، 107.
(32) انظر: د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 220، 221.
(33) المصدر السابق، ص 222.
(34) د عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 181.
(35) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 77، وانظر: الصراع بين التيارين، ص 217.
(36) العلمانية من منظور مختلف، ص 182، والأقواس الداخلية من وضع الكاتب نفسه.
(37) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 216.
(38) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص254.
(39) السابق، ص 256.
(40) السابق، ص 256.
(41) المصدر السابق، ص 258.
(42) المصدر السابق، ص 258.
(43) المصدر السابق، ص 256.
(44) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 217.
(45) المصدر السابق، ص 184.
(46) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 217.
(47) د عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة في مصر، ص 89، وانظر: ص 42.
(48) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 214.
(49) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 261.
(50) د محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 176.
(51) فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، الإهداء، نقلاً عن: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 260، وانظر الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ص 174.
(52) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 263، وانظر: ص 261.
(53) د عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 185.
(54) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 264.(160/84)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
تركيا بعد 77 عاماً من العلمانية
كمال حبيب
مر على قيام الدولة العلمانية التركية نحو 77 عاماً، تلك الدولة التي أسسها
مصطفى كمال عام 1923م، وبعد هذه الأعوام من الحكم العلماني تقف تركيا حائرة
غير مستقرة لا تعرف لنفسها وجهة، ولا تثق بالأرض التي تقف عليها ولا المبادئ
التي تنطلق منها؛ فالعلمانية التي تبنَّاها أتاتورك تحولت إلى أيديولوجية قمعية
أقرب إلى الأيديولوجيات الفاشية والنازية والشيوعية، وكل من تسوِّل له نفسه
الخروج على مبادئها فإن نصيبه السجن والتنكيل بل القتل، ولم تستطع العلمانية أن
تحقق الاطمئنان للمواطن التركي؛ لأنها مزقته بين تاريخه وإسلامه وحضارته
وبين قيم غريبة عنه مفروضة عليه، كما لم تحقق العلمانية لتركيا حلم الالتحاق
بأوروبا (المسيحية) ؛ إذ ظلت أوروبا تنظر لتركيا على أنها مسلمة، ولم تعبأ
بتبني قيم التغريب والحداثة من قِبَل أتاتورك ومَنْ جاء بعده.
لقد فُرضت العلمانية بوصفها أيديولوجية صارمة وحادة وقمعية على المجتمع
التركي، فهددت وحدته وتكامله برفض أي وجود للآخرين الذين يشاركون الأتراك
العيش في وطنهم، ومن هنا كان الإنكار الصارم لوجود الأكراد، واعتبارهم أتراكاً
يسكنون الجبال. ولا تزال المشاكل الكردية تمثل أكبر التحديات أمام العلمانية
الكمالية.
وعلى مستوى الإنجاز الاقتصادي لم تستطع العلمانية أن تحقق للمواطن
التركي مستوى للمعيشة ينشله من واقع البؤس والفقر، وعلى مستوى الطهارة
الأخلاقية فإن التقارير تتحدث عن تحالف المافيا والفساد مع مؤسسات الدولة
المختلفة بدءاً من المؤسسات الأمنية السيادية وحتى المؤسسات السياسية مثل مجالس
الوزراء والنواب وغيرها. وفي العلاقات الخارجية لا تزال تركيا تمثل الأداة
الأمريكية لملء الفراغ في المنطقة، وهي تتحالف في ذلك مع الكيان الصهيوني
ضد الدول العربية والإسلامية، وكانت أزمة تركيا مع سوريا منذ عامين جزءاً من
التوتر العلماني القلق في اكتشافه أن العلمانية التركية بعد هذا العمر لم تحقق
لأصحابها طموحاتهم في سياستهم الخارجية. إن العلمانية الكمالية كأيديولوجية قد
انهارت مع الأيديولوجيات الكبرى التي انهارت في هذا القرن، والبحث مطروح
الآن بقوة عن مخرج للتخلص منها.
الكمالية تسقط في نظر العلمانية:
يقول الكاتب التركي المعروف أنيس باتور: «لقد انتهت الجمهورية الأولى
بمدرستها ومستشفاها وسجنها ومحكمتها وبرلمانها» ، أي أن الكاتب يرى أن
التجربة الكمالية قد سقطت بمؤسساتها، ولا بد من البحث عن بديل لها. إن
العلمانية الكمالية محمية بقوة الجيش، وإذا قُدِّر للجيش أن يُستبعد عن صناعة
القرار في تركيا فإن ذلك سيكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الكمالية،
والذين يتحدثون عن ضرورة وجود ما يطلقون عليه: (الجمهورية الثانية) هم
علمانيون وليسوا إسلاميين؛ لكنهم يرون العلمانية الكمالية استبدادية وقمعية ومتخلفة،
ولا تصلح أن تكون صيغة تتجاذب مع تحولات السياسة والمجتمع في تركيا
المعاصرة. إن العلمانية الكمالية جعلت من نفسها صنماً مقدساً لا يجوز الخروج
على مقرراته العقيمة؛ فالدولة في الأيديولوجية الكمالية أصبحت عنصراً للتحكم
والهيمنة، كما أن الديمقراطية أصبحت تعبيراً عن الاستبداد والتسلط.
حتى التحولات العالمية المتصلة بالتحول نحو اقتصاد السوق وانتشار الأفكار
الليبرالية ثم اعتبار حقوق الإنسان معياراً للانتماء إلى الدول المتحضرة حتى هذه
التحولات لا تستجيب العلمانية الكمالية لشروطها، ومن هنا كان حديث فريق آخر
من العلمانيين عن ضرورة تجاوزها إلى ما يطلق عليه: «الجمهورية الثانية» .
ويتحدث البروفيسور «خليل جين» عن إخفاق العلمانية الكمالية في تحقيق
الوفاق الاجتماعي فيقول: «الجمهورية التركية دولة علمانية ديموقراطية حقوقية،
وهي أيضاً نتاج التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. وعجز الكمالية عن حل
مشكلة تعدد الأصول والأعراق في تركيا يؤكد عجزها عن التعبير عن التوافق
الشعبي في إطار الوحدة القومية. فالمشكلة الكردية متفاقمة وإصرار العلمانية
الكمالية على نفي الوجود الكردي سيؤدي إلى تمزيق وحدة الدولة.
العلمانية تسقط في نظر الإسلاميين:
طرح فوز حزب الرفاه في الانتخابات البلدية والبرلمانية على بساط البحث
الجدِّي مسألة العلمانية والديموقراطية التي دشنها الرجل الصنم» أتاتورك «؛
فالانتصار الإسلامي أكد إفلاس النظام السياسي في تركيا وعجزه عن مواجهة قضايا
المواطنين، ويعبِّر رئيس فرع إسطنبول في حزب الرفاه عن إخفاق الأيديولوجية
الكمالية قائلاً:» يمكن بمفهوم ما خارج الأيديولوجيا الرسمية إيجاد حل للأزمات
الحالية في المجتمع التركي، إننا لا نجرؤ حتى على مجرد الحديث ومناقشة قضايانا
الراهنة في ظل ضغط الأيديولوجيا الرسمية وتهديدها، إننا عندما نتحادث ونتناقش
نكون وجهاً لوجه أمام خطر المعاقبة، وإن لم تحل هذه المسألة فمن المتعذر حل
المشاكل الأخرى. انظروا اليوم فإننا لا نستطيع أن نناقش بصراحة كافية المسألة
الكردية، لقد تشكل في تركيا مجتمع مغلق مستند على الخوف والقمع باسم
الأيديولوجيا الرسمية التي تواصل الآن خصوصية كونها طوطماً أي شيئاً محرَّماً
ومقدَّساً لا يجوز الاقتراب منه وإلا أصابتك لعنته «.
ويؤكد بولانت أجاويد رئيس الوزراء التركي الحالي إخفاق العلمانية فيقول:
» إن الأصوات التي حصدها الرفاه والإسلاميون هي أصوات «خيبة الأمل» في
الأحزاب الأخرى سواء ما كان منها في السلطة أو المعارضة «.
والمعضلة الأساسية التي توجدها العلمانية الكمالية هي أنها تحاول نبذ جزء
أساسي من شخصية الشعب التركي وهو الدين؛ فمثلاً جنكيز شندار» أهم مفكر
علماني تركي «يقول:» إن الإسلام في تركيا ليس ديناً فقط، بل هو شخصية
وثقافة «، كما أن مسعود يلماظ الرئيس السابق للوزراء قال عام 1993م:» إن
الدين محدد أساسي في الشخصية القومية لتركيا «.
وبدا الفشل العلماني واضحاً في صعود نزعة إسلامية في تركيا منذ فترة
» تورجوت أوزال «استمراراً لصعود هذه النزعة منذ (عدنان مندريس) في
الخمسينيات؛ فقد تم رفع حظر الأذان باللغة العربية، وفتح معاهد تخريج الأئمة،
وبعد انقلاب عام 1980م نصت المادة (24) من الدستور على اعتبار الدروس
الدينية والأخلاقية مادة إجبارية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من التعليم،
وكان أوزال يحرص على الصلاة في المساجد، وسقطت محرمات مثل التعرض
لشخص أتاتورك بالنقد؛ فقد انتقده حسن مزارجي» نائب حزب الرفاه وسبَّه علناً،
وطالب بوقف تقليد زيارة ضريحه في أنقرة، وطالب علمانيون ببناء جامع في
حديقة القصر الجمهوري بأنقرة، وكانت تانسو تشيللر تحرص على استهلال خطبها
بـ (الحمد لله) ، وقبَّلت أمام آلاف من أنصارها نسخة من القرآن الكريم، وطالب
«غفار ياكين» النائب المستقل عن محافظة أفيون التركية بتعطيل العمل في
الدوائر الحكومية لتمكين الموظفين من صلاة الجمعة، وطالب بولانت أجاويد
«رئيس حزب اليسار الديموقراطي» بالتعطيل ليس فقط وقت الجمعة وإنما أثناء
صلاة الظهر في كل أنحاء تركيا، وطالب حزب الرفاه عام 1995م بفتح مسجد أيا
صوفيا للصلاة بعد أن حُوِّل منذ أمدٍ بعيد إلى متحف، وأقر البرلمان توقيت ساعات
العمل بحيث تنتهي مع مواقيت الإفطار في شهر رمضان، وتزايدت الدعوة للسماح
للموظفين بأداء فريضة الحج بدون قطع رواتبهم.
وبالطبع فإن هذه المطالب أثارت نقاشاً كبيراً حول مفهوم العلمانية، كما
انزعج الكماليون؛ بَيْدَ أن الحقيقة الأساسية هي أن الإسلام يضرب جذوره بعمق في
النفسية التركية، ولا يمكن لأي أيديولوجية أن تطرح نفسها بديلاً عنه. إن هناك
تحولات كبيرة في بنية المجتمع التركي، ولا تزال الدولة المقيدة بأغلال العلمانية
عاجزة عن الاستجابة لهذه التحولات وهو ما يؤدي إلى خطر القلق في المجتمع
التركي.
السقوط الأخلاقي والاقتصادي للعلمانية:
بالمعايير الاقتصادية لا تزال تركيا دولة نامية بعد 77 عاماً من العلمانية؛
فمتوسط دخل الفرد السنوي لا يزال عند حد ثلاثة آلاف دولار، ولا تزال نسبة
الصناعة تمثل 25% من الدخل القومي، والاقتصاد جنوب شرق البلاد في مناطق
الأكراد لا يزال متخلفاً، ونسبة العجز في الميزان التجاري 20 مليار دولار،
وارتبط نمو الاقتصاد التركي 5% سنوياً بتكلفة عالية؛ فمعدل التضخم وصل عام
1994م إلى 124%، وبلغ العام الماضي 99%، وقارب عجز ميزانية الدولة
8. 5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتفاقمت الديون الخارجية لتبلغ 95 مليار
دولار أي بنسبة 48% من الناتج القومي العام الماضي، وتعبِّر خريطة الدخل عن
اختلال واضح بنسبة ال20% الأفقر من السكان التي لا يتجاوز نصيبها
3. 5% من إجمالي الدخل في حين يبلغ نصيب فئة ال20% الأغنى أكثر من
55% من إجمالي الدخل عام 1998م. فالعلمانية رغم محاولة إخفاء إخفاقها على
مستوى الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالتركيز على الجانب الاقتصادي، إلا
أنها لم تستطع أن تحقق إنجازاً ذا بال، ولا تزال البيروقراطية والمركزية تعوقان
التحول ناحية اقتصاد السوق، كما ارتبط التخصيص في تركيا بالفساد
الأخلاقي؛ فقد اتُّهم تورجوت أوزال «بإنشاء مجموعات اقتصادية احتكارية مثل
» صاربنجي وكوج «، واتهمت» تانسو تشيللر «بالحصول على تسهيلات
ائتمانية حولتها للخارج، واتهم مسعود يلماظ» بتسهيل بيع البنك التجاري التركي
للمافيا «، وتحولت تركيا إلى مركز عالمي لغسيل الأموال القذرة، ووفقاً لتقديرات
رسمية فإن الأموال غير المشروعة التي تتدفق على تركيا تبلغ 50 مليار دولار.
ويزيد التنافس على تملك البنوك في تركيا؛ لأن أهم وسيلة لغسيل الأموال
هي الاقتراض من البنوك ثم تسديد القروض بأموال قذرة. وتشير التقديرات
الرسمية إلى أن فرقة إعدامات تم تشكيلها ضمن الدولة قتلت ما بين 2500 - 5000
كردي في الفترة ما بين عام 1990م 1996م، وفرقة الإعدامات هذه كانت ثمرة
تحالف بين مؤسسات الدولة وبين محترفي الإجرام من تجار المخدرات والهيروين،
واعتبار ذلك جزءاً من مواجهة المشكلة الكردية، وهناك تقرير رسمي اسمه تقرير
(سافاس) يصل إلى 120 صفحة تم نشره في الصحف التركية يتحدث عن عمق
العلاقة الفاسدة بين مؤسسات الدولة ورجال العصابات والمافيا التركية.
مستقبل تركيا:
الشيء المقطوع به أن العلمانية الكمالية قد سقطت في تركيا، وأن تركيا تقف
الآن على مفرق طرق حائرة تبحث من جديد عن تحديد وجهتها؛ فإلى أين تتجه؟
هناك ثلاثة تيارات على الأقل تتقاذف تركيا لإعادة اكتشاف هويتها:
التيار الأول: يصر على الاستمرار في تبني العلمانية التي تجعل من تركيا
دولة أوروبية؛ ويتبنى هذا التيار النخبة التركية، وقطاع واسع من التكنوقراط
ورجال الأعمال وأصحاب المصالح مع الغرب.
والتيار الثاني: يتجه نحو العودة إلى الشرق الإسلامي وإعادة الأهلية للتراث
الثقافي العثماني، والانفتاح أكثر على العالم الإسلامي؛ وهو تيار يتبناه قطاع واسع
من سكان الريف والزراعيين والحرفيين وبعض الأكاديميين وطلبة الجامعات.
التيار الثالث: وهو تيار نشط بعد تحرر دول آسيا الوسطى التركية من
القبضة الشيوعية، وانفتاح مجال حيوي جديد لتركيا باعتبار هذه المنطقة الحديثة
فضاءً سياسياً لتركيا للتوغل فيه.
وفي الواقع فإن رفض أوروبا القاطع بقبول تركيا دولة ضمن الوحدة
الأوروبية النقدية والمالية صدم القطاع الذي كان يراهن على أن المبالغة في تبني
قيم الحداثة والعلمانية الغربية ستؤدي إلى قبول أوروبا لتركيا عضواً على قدم
المساواة في النادي الأوروبي، علماً بأن الذين يأملون في الرهان على أوروبا أقلية
غير مذكورة؛ إذ لا تزال أوروبا تنظر إلى تركيا باعتبارها وريثة الدولة العثمانية
التي أخذت بالسيف مناطق من أوروبا، واليونان لا تزال تنظر إلى الأراضي
الأوروبية التي دخلت في الحوزة العثمانية باعتبارها أيضاً محتلة، ويقول الصحفي
والكاتب التركي موسى عنتر:» عاداتنا وثقافتنا مختلفة وهم الأوروبيون لا
يريدوننا «.
أما التيار الثالث: وهو الذي دعا إليه» تورجوت أوزال «وأطلق عليه:
» العثمانية الجديدة «أي تنشيط الدور التركي في عالم تركيا الجديدة فهذا الدور يثبت
من الممارسة أن تركيا غير قادرة على تحمُّل أعبائه؛ إذ إن تركيا لا تزال عاجزة
عن التأثير في المشكلة القبرصية، كما أنها عجزت عن التأثير في مشكلة البوسنة،
أي أن مؤهلات تركيا لا تمنحها القدرة على أداء دور يجعل منها قوة إقليمية كبيرة
في هذه المنطقة.
يبقى التيار الثاني: الذي يدعو إلى العودة إلى الإسلام والقيم الإسلامية
والتواصل مع العالم العربي والإسلامي، وهو ما يتبناه حزب» الرفاه «والذي
تحول اسمه إلى حزب» 1 الفضيلة «، وهذا التيار يتصاعد بقوة، وهو الذي سيحسم
المستقبل السياسي لتركيا. ونمو هذا التيار يؤكد عودة تركيا إلى جذورها الأولى.
إن الإسلام قوة لا يمكن حذفها في أي بلد أغلبيته مسلمة، وإذا حاولت العلمانية
الكمالية مرة أخرى استئصاله فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فإنها فقدت مسوِّغ بقائها
ووجودها، وإن مزابل التاريخ تتوق شوقاً لضمها بين المخلفات التاريخية
والأيديولوجية الأخرى التي سقطت في هذا القرن.(160/96)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(2 - 3)
عندما يكثر الخبث: الآثار الاجتماعية والأخلاقية للعلمانية في
المجتمعات الإسلامية
أحمد فهمي
سئل أحد عشاق العلمانية عن كون انتشار الانحلال الخلقي في مصر وما
حولها يحتم اللجوء إلى الدين بوصفه خياراً حتمياً؟ فأجاب معترضاً: أنا أرى أن
حجم الانحلال الموجود في المجتمع المصري أقل بكثير اليوم على مدى التاريخ
الإسلامي كله [1] . وتبعاً لنظرية المنطق المعكوس التي تقول: إذا أردت أن تعرف
حقيقة دينية من علماني، فاعكس كلامه. يمكننا إذن أن نقول وبثقة: إن حجم
الانحلال الموجود في المجتمع المصري وبلاد الإسلام الآن [*] هو الأعظم على
مدى التاريخ الإسلامي كله. وحتى لا نُتهم من إخوة الوطن وأعداء الدين بالعاطفية
والسطحية كعادتهم في وصف الإسلاميين يحسن بنا أن نتبع أسلوباً علمياً موضوعياً
في إثبات هذه الحقيقة، وأول مقتضيات هذه الموضوعية أن نتجنب مجرد الحشد
التراكمي الموجَّه لصور الانحراف الاجتماعية والأخلاقية في بلاد المسلمين، فنبدأ
بسؤال منطقي:
لماذا نعتني بمعرفة الحصاد الاجتماعي الأخلاقي للعلمانية في مجتمعاتنا؟
هناك ثلاثة أهداف من تناول هذا الموضوع لا يقل أحدها أهمية عن الآخر بصورة
عامة وإن تفاوتت هذه الأهمية باعتبار الفئة الموجه لها الخطاب.
أولاً: بيان حيثيات إخفاق العلمانية وأقنعتها الزائفة في أن تكون منهجاً
اجتماعياً، ومصدراً للقيم.
ثانياً: كشف زيف العلمانيين وتخبطهم.
ثالثاً: التوصيف الدقيق لما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية الآنية،
انطلاقاً نحو التطوير المستقبلي لأساليب المواجهة (مهمة الإسلاميين) .
نماذج العلمانية:
بعد ما يزيد على مائة وخمسين عاماً من العلمانية في بلاد الإسلام، وبكل ما
تضمنته من تجارب وخبرات، وسياسات أخفق بعضها في تحقيق أهدافه ونجح
البعض الآخر بعد ذلك كله تمخض ماضي العلمانية وحاضرها عن نموذجين يقدمان
لباقي الدول والمجتمعات الإسلامية لمحاكاتهما والسير على نهجهما: الأول:
النموذج التركي. الثاني: النموذج المصري.
أولاً النموذج التركي:
نموذج قديم يمثل صانعه أتاتورك زعيماً ملهماً لكثير من علمانيي السياسة
والمجتمع؛ فقد كان بورقيبة شديد الاهتمام بتجربة أتاتورك في تركيا، وكتب لابنه
في إسطنبول: «فكرت طويلاً بتجربة أتاتورك، وهناك أشياء تؤخذ وأشياء تترك» ،
ولما استولى على السلطة في تونس طلب من أستاذه الفرنسي (روبير مانتران)
أن يزوده بكل المستندات التي بحوزته عن فكر أتاتورك [2] ، كما صرح كل من
عبد الناصر والسادات في أكثر من مناسبة بافتخارهما بأن أتاتورك مثلهما
الأعلى [3] ، ووصفته هدى شعراوي بأنه يستحق أن يسمى (أتا الشرق) لا (أتا
الترك) فقط [4] ؛ إلا أن النموذج التركي فَقَدَ بريقه في البلاد العربية على الأقل،
وأصبح نموذجاً محروقاً بالنسبة لهم، وذلك لعلمانيته المتطرفة التي لا تتناسب مع
تنامي المشاعر الإسلامية لدى الشعوب حالياً، وللحرية السياسية النسبية في تركيا
التي لا تتوافق مع الواقع العربي، بالإضافة إلى عقبة اللغة والفجوة النفسية اللتين
نجح الغرب في إحداثهما بين الترك والعرب. وتقتصر صلاحيته حالياً على
تسويقه نموذجاً للدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق. وإن كان
ذلك لا يمنع من كونه مصدر إفادة لكل من العلمانيين والإسلاميين على السواء، فيما
يتعلق بخبرات المواجهة المستمرة بين السلطة والاتجاه الإسلامي.
ثانياً: النموذج المصري:
أما النموذج المصري: فعلى الرغم من كونه لا يزال مائعاً وغير مكتمل
الجوانب نتيجة للتدافع المستمر بين قوى العلمنة من جانب، والإسلاميين ومشاعر
الجماهير الدينية الفطرية من جانب آخر إلا أنه يأتي على رأس قائمة الدول الرائدة
في هذا المجال؛ فبالإضافة إلى عراقة التجربة العلمانية فيه، وتأثير مصر الفكري
والثقافي والاجتماعي على الدول العربية؛ فإنه يستمد رواجه حالياً من عدة عوامل:
منها: أنه يرفع شعار الديمقراطية والحرية السياسية. ومنها: اتباع سياسة هادئة
دؤوبة بعيدة المدى في تجفيف منابع التدين، وعلمنة المجتمع والأخلاق. ومنها:
مهادنة المشاعر الإسلامية، لتحييد قطاع كبير من الجماهير، (ازدواجية الخطاب) .
ومنها: النجاح النسبي لسياستَي الاحتواء والإجهاض للعمل الإسلامي. وتكمن
خطورة هذا النموذج في كونه يفتح باب الأمل نحو مزيد من العلمانية، كما أنه
يسعى لتكون العلمانية هي خيار الأجيال القادمة، فإن كانت العقبة هي أن الإسلام
الآن خيار جماهيري، فإزالتها بأن تكون العلمانية أيضاً خيار جماهيري، ولكن في
المستقبل.. [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] (الأنفال: 30) . ولْنتناول الآن ما أحدثته
العلمانية في بلاد المسلمين من خلل وانحراف.
الحصاد الاجتماعي والأخلاقي للعلمانية في مجتمعاتنا:
مما يؤثر عن الحكماء القدامى قصة رمزية تحكي أن طائراً انصرف عن
مِشية قومه اشمئزازاً إلى محاكاة جنس آخر، وبعد محاولات عدة باءت بالإخفاق
رام الرجوع إلى مشيته الأولى، فلم يسلم له ذلك، فصارت له مشية شائهة لا تشبه
هذه ولا تلك. والذي أعتقده جازماً أن هذا المثال لا ينطبق على شيء قدر انطباقه
على ما فعله العلمانيون بمجتمعاتنا.
وسنعرض للحصاد العلماني في جانبين: الأول: يثبت إخفاق العلمانية منهجاً
اجتماعياً، والثاني: بيان عدم صلاحيتها مصدراً للقيم.
أولاً: المجتمعات الإسلامية في نهاية القرن العشرين (إخفاق العلمانية
في أن تكون منهجاً اجتماعياً) :
طرحت العلمانية منذ بداية عهود الاستقلال [5] رؤى اجتماعية متعددة لصياغة
العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والدولة، وأعطيت الفرصة الكاملة
لعرض أطروحاتها، بل ووضعها موضع التنفيذ والتطبيق لسنوات متتابعة؛ فما
الذي فعلته تجاربهم في المجتمعات الإسلامية؟ .. تتمثل الإجابة فيما يأتي:
1 - اضطراب البناء الاجتماعي:
فالنمو الاجتماعي والاقتصادي الذي كان مشوهاً بعد الاستقلال في معظم الدول
العربية أدى بدوره إلى بناء اجتماعي مشوه، ولو اعتمدنا التقسيمات الطبقية
السائدة [6] لأمكننا أن نختزل علامات ذلك التشوه والاضطراب الاجتماعي فيما
يلي:
أ - التنافر الطبقي: إذ يتشكل بناء المجتمع بصورة هرمية، على قمتها
طبقات عليا صغيرة العدد نسبياً، مميزة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وفي قاعدته
سواد أعظم يعاني من تدني أوضاعه المجتمعية بالمعنى الشامل [7] ، وبينهما طبقة
متوسطة حائرة بين هذا وذاك كما سيتبين لاحقاً وبينما رفعت معظم الثورات العربية
شعارات مثل: «القضاء على الاقطاع والتفاوت الطبقي» ، و «العدالة
الاجتماعية» ؛ نجد أن الواقع بعيد تماماً عن ذلك؛ فبالنسبة للطبقات العليا من 5%
إلى10% فإن النظام الناصري وإن استطاع أن يلغي الطبقة المتميزة القديمة، إلا
أنه في الوقت نفسه وسَّع دائرة الصفوة الجديدة التي تتشكل من البيروقراطيين
والعسكريين والتكنوقراطيين [8] ، وفي سوريا قضى حزب البعث سنة 1963م على
البورجوازية القديمة، إلا أنه مع بداية السبعينيات لم تلبث أن عادت مرة أخرى
بصورة متعددة (بورجوازية قديمة تجارية جديدة صناعية بيروقراطية) [9] .
وحرصت عناصر السلطة في أكثر من بلد على تدعيم روابطها بهذه الطبقة من
خلال علاقات المصاهرة والمشروعات الخاصة.
أما الطبقات الدنيا: الفقيرة، وتلك التي تحت خط الفقر، فتقدرها بعض
الدراسات بحوالي 60% [10] من إجمالي السكان في العالم العربي، بل لو أخذنا
الطبقة الأقل السكان تحت خط الفقر لوجدنا الأمر مفجعاً؛ ففي مصر وفق التقارير
الرسمية بلغت نسبتهم 45 % [11] من إجمالي السكان، وبلغت نسبتهم إلى إجمالي
سكان الحضر في تونس 30%، وفي المغرب 28 %، وفي الجزائر 20% [12] ،
وبلغت نسبة السكان الفقراء في تركيا 80 % [13] . ومن المؤشرات الهامة التي
تعبر عن حجم التنافر الطبقي: نصيب كل فئة من الدخل القومي؛ ففي تركيا
سيطر الـ 20% الأغنى على 60% من الدخل القومي، بينما لم يحصل الـ 20
% الأفقر سوى على 4% فقط [14] . وفي تونس في بداية الثمانينيات كان نصيب
الـ 20% الأفقر من الدخل القومي يعادل 5%، بينا نصيب أغنى 5% يعادل 26
%، وفي مصر في نفس الفترة كانت النسبة: 5%، 24% على التوالي، وفي
سنة 1998م كان 2. 5% من السكان الأغنياء يحصلون على ربع الدخل
القومي [15] ، ولم يكن الأمر في الحقبة الناصرية يختلف كثيراً رغم ما كان يقال عن
إزالة الفوارق الطبقية، فكانت النسبة على الترتيب سنة 1970م (نهاية الحقبة
الناصرية) : 5. 1%، 22%.
ومن المؤشرات الصارخة على وهم هذه الحقبة القومية نسبة أعلى راتب في
الحكومة والقطاع العام إلى أدنى راتب، حيث بلغت (40: 1) سنة 1966م [16] .
ب - تآكل الطبقة المتوسطة: تضم الطبقة المتوسطة شرائح اجتماعية
متفاوتة التعليم والدخل والمكانة؛ ففيها صغار الموظفين والعسكريين وكذا المهنيون
كالأطباء والمهندسين والمدرسين والضباط، وكذا الرؤساء والمديرون [17] ، ومن
هذه الطبقات خرج الكثير من الثوريين في العالم العربي مثل: حزب البعث
السوري، والضباط الأحرار في مصر. ويعتبر الكثيرون الطبقة المتوسطة
مستودعَ الحيوية الاجتماعية والممسكة بميزان الاعتدال والاستقرار في المجتمع؛
إلا أنه بعد حوالي أربعة عقود من الاستقلال أصبحت تعيش في حالة ضغط
وحصار وعجز عن الحركة، وهوى عدد كبير من أبنائها إلى قاعدة الهرم الطبقي
نتيجة لتردي الأحوال المعيشية وانتشار الفقر، إلا من استطاع بهذه الطريقة أو تلك
أن يصعد إلى صف الطبقة العليا [18] ، أو يبقى مكانه إلى حين.
ج - تفكك المجتمع وتضارب مصالح فئاته (مجتمع القصعة) : أنشأ عبد
الناصر الاتحاد الاشتراكي ليضم «قوى الشعب العاملة» في تنظيم جماهيري واحد
يتجنب الصراع الاجتماعي الحزبي القديم [19] ؛ فكأني به وضع بذور التفرق
والتفتت التي نتجرع مرَّها حتى الآن؛ إذ تحول المجتمع نتيجةً للتنافر الطبقي إلى
فئات متصارعة، يتحدد التوازن الاجتماعي بينها ومن ثم قوانين المجتمع تبعاً
للأقوى، لا فرق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، بل الدولة بهذا الاعتبار
لا بد أن تكون مشاركة أو طرفاً مستقلاً في هذا الصراع [20] . ومن صور التفكك
البارزة: تلك الهجرة المستمرة من الريف إلى المدن، والتي هي أشبه بعملية
احتجاج صامتة؛ وذلك لأن الريف يحمل كثيراً من عوامل الطرد (الضغط السكاني
البطالة انتشار الفقر قصور الخدمات) ولأن المدن هي الطرف الأقوى في مقابل
الريف؛ حيث يستأثر الفرد في المناطق الحضرية العربية بحوالي ثلاثة أمثال
نصيب الريفي من الناتج المحلي الإجمالي. ونتيجة لذلك أتخمت المدن بسكانها،
وبلغت نسبة سكان الحضر في الدول العربية 54% [21] ، وتضاعف عدد سكان
كبرى المدن المسلمة ثلاثة أضعاف خلال عشرين عاماً [22] .
د - الفئات والظواهر الشاذة: أنتجت السياسات العلمانية في بلادنا فئات
غريبة يمثل كل منها ظاهرة اجتماعية شاذة، نذكر مثالين عليها: فمنها ما يسمى
بطبقة «الهامشية الحضرية» ، أو «الهلامية الحضرية» ، أو «سكان المناطق
العشوائية» ، وهم طوائف متزايدة من السكان تتجمع في الضواحي حول المدن؛
حيث تقيم لنفسها أحياءاً جديدة في نطاق مديني لم تعرف الدولة كيف تنظمه، لا
على صعيد البنى التحتية (ماء صرف نقل) ولا على صعيد التأطير السياسي
والثقافي [23] ، وعادة ما تكون بيوتهم من أكشاك وصفيح أو دور صغيرة مبنية من
مواد مرتجلة [24] ، والكثير من أحياء القاهرة نشأ بهذه الصورة في البداية [25] ،
وهي أسرع الكيانات الاجتماعية نمواً في العالم العربي خلال العقدين الماضيين؛
فقد قدر عددهم حول القاهرة فقط بـ 5 ملايين نسمة، وقدر عدد سكان المقابر
الأحياء بمليون نسمة، وفي نفس العام قدر باحث مغربي عدد قاطني الصفيح في
المدن الغربية بمليون نسمة [26] ، وتنتشر في ضاحية الجبل الأحمر بتونس الأكواخ
القصديرية [27] ، وتنتشر بين هذه الفئة صفات مثل: اليأس والعجز والتشتت
والاختلاط والتحلل الجنسي، وتكون أكثر من غيرها عرضة للانخراط في
الجريمة [28] ، ويصفها البعض بأنها قنبلة موقوتة.
ومن هذه الفئات: «الأثرياء الجدد» الذين يتميزون بمظاهر الغنى الفاحش
والبذخ الشديد، وهي طبقات صغيرة العدد جداً، بينها وبين السلطات علاقات
متشابكة، وأحدث هذه الطبقات في سوريا ما يعرف باسم: «الطبقة الجديدة» ،
والنقّاد يصفونها بهذا الاسم أدباً، وقد ظهرت بعد سنة 1973م، ولا يتجاوز عددها
مائة فرد، وتعتمد على العلاقات والعمولات والصفقات المريبة [29] ، وفي مصر
بدأت هذه الفئة في الظهور في نفس الفترة تقريباً، وبلغ عدد المليونيرات في نهاية
السبعينيات ... (سبعة عشر ألف مليونير) [30] وصف بعض الكتاب سلوكهم
الاقتصادي في السبعينيات بأنه «نهب منظم لمصر لم تتعرض لمثله منذ الخديوي
إسماعيل» [31] ، وقد بلغت هذه الفئة حداً من النفوذ جعل الكثيرين يصفون هذا
العصر بعصر رجال الأعمال، وفي تركيا كان لهم أسماء مثل: «المديرون
الشبان» ، وهي طبقة من رجال الأعمال خريجي الجامعات الأمريكية،
وأصدقاء شخصيين لأحمد تورجوت أوزال، وأيضاً «الآباء الروحيون»
الذين سهلت علاقاتهم برئيس تركيا قيامهم بعمليات غسيل الأموال [32] .
2 - تزايد الحرمان والقهر الاجتماعي:
ويمكن التعبير عن هذا الحرمان من خلال عرض نسب إشباع بعض الحاجات
الاجتماعية [**] :
في التعليم: كان التعليم منذ الستينيات من عوامل الحراك الاجتماعي الهامة،
إلا أنه منذ السبعينيات وما بعدها ونتيجة لارتفاع معدلات التعليم وكثرة الخريجين
فقد التعليم فاعليته في الحراك الاجتماعي إلى حد كبير، ولا سيما مع تردي الأحوال
الاقتصادية وانكماش فرص العمل، مما أدى إلى تزايد الشعور بالإحباط. وفي
دراسة اجتماعية تبين أن عدد الشباب المصابين بالإحباط في مصر تصل نسبته إلى
25% بينما الفتيات إلى 30% [33] . وإن كان هذا لا يمنع في المقابل وجود أعداد
كبيرة من الأميين؛ إذ بلغت نسبتهم في العالم العربي سنة 1993م 47% أي حوالي
60 مليون عربي [34] ، وفي الجزائر ترك مئة ألف شاب جزائري الدراسة في
المرحلة الثانوية لعدم تمكنهم من نفقاتها [35] .
وفي السكن: بلغ العجز في المساكن الملائمة لحياة البشر في مصر حسب
الأرقام الرسمية سنة 1999م حوالي 2. 5 مليون مسكن [36] ، وفي الفترة من
(1970م 1980م) بلغ معدل التزاحم (عدد الأفراد / للغرفة الواحدة) بين الأسر
الحضرية في تونس (3. 1) وفي المغرب (3) [37] ، وفي الجزائر كان 80%
من الشبان الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 16 29 سنة 1990م لا يزالون
يقيمون مع أهاليهم [38] .
وفي العمل: بلغت نسبة القوى العاملة في المجتمع العربي 33% فقط سنة
1990م، أي أن ثلث المجتمع يعول ثلثيه، والنسبة العالمية 47%، وهي نفس
النسبة في الدول النامية [39] ، وبلغت نسبة البطالة في تونس سنة 1990م 15%،
وفي الجزائر 25%، وفي المغرب 15 25%، وفي تركيا سنة 1993م
4,13% [40] ، وفي مصر يقدر عدد العاطلين عن العمل بـ 6 ملايين عاطل في
حين يعمل حوالي 4 ملايين مواطن في المهن الهامشية مثل توزيع السلع في
الميادين والشوارع الرئيسية [41] .
3 - عالم من المتناقضات الأيديولوجية والسياسية أنتجت شعوباً سلبية:
«أوساط مثقفة تشعر باليأس، ولكن اليأس ممن؟ من أصنامها تشعر باليأس،
وربما يصعب عليها تحطيم هذه الأصنام، لذلك تقف مشدوهة وتشعر
الأزمة» [42] ، بمثل هذه المرارة يُعبِّر مثقف علماني عن مشاعر الصدمة لديه
وأقرانه من المثقفين في علمانيي السياسة، وما اعتبروه خروجاً على مقتضى
العلمانية القومية، ويعبِّر علماني آخر عن هذه الصدمة بهذا الموقف المعبر في
مظاهرات 1968م عندما خرجت قوات الأمن تفرقها، وضُرب المتظاهرون،
فدهش وقال عن عبد الناصر: «كيف؟ ونحن أولاده، تفتحت عيوننا على
صورته، وتفتحت عقولنا على أفكاره!» صرخ أحدنا في وجه أحد الضباط:
سنقول لجمال عبد الناصر، فردَّ عليه بـ «شلوت» أوقعه على وجهه، وقال في
سخرية: خذ هذه هدية منه، ثم قبض عليه، وقال: خلِّ عبد الناصر ينفعك [43] ؛
فإن كانت هذه صدمتهم في أنفسهم فكيف بصدمة الشعوب فيهم؟ لقد ملؤوا حياتنا
بالعديد من المتناقضات التي أصبحت شيئاً عادياً متقبلاً.
وفي جميع البلاد العلمانيةِ الأصلُ ثبات العقيدة السياسية وتغيير الحكم، ولكن
في بلاد المسلمين الأصل ثبات الحكم وتغيير العقيدة السياسية؛ ففي سوريا البعثية
الاشتراكية بدأ اتباع سياسة الانفتاح الرأسمالي من السبعينيات [44] ، وفي العراق
بدأت الحكومة سنة 1988م ذات الاتجاه الاشتراكي الماركسي سياسة العودة إلى
القطاع الخاص [45] ، وفي الجزائر الاشتراكية التي دمرت باشتراكيتها الزراعة
فتحول البلد إلى مستورد لمعظم غذائه وُضع دستور جديد سنة 1989م ليس فيه
ذكر للاشتراكية [46] ، وكل ما سبق يتم بنفس الأحزاب وبنفس الرموز، أما مصر
فالدستور الحالي الذي تم وضعه في ظل نظام اشتراكي يتم تفسيره من قبل الحكومة
بما يتناسب مع النظام الرأسمالي المعتمَد حالياً لدرجة كبيرة [47] .
وتختلط الصور إلى حد كبير فيُسمِّي الحزب الناصري نفسه بالديمقراطي،
ويُؤبِّن اليساريون ضابطاً شيوعياً سابقاً فيصفونه بأنه شيوعي متشدد كما أنه من
اكثر الناس حماساً للديمقراطية.. (اشتراكية ممكن رأسمالية لا بأس اليهود أعداؤنا
اليهود أصدقاؤنا ... ) وقد أنتجت هذه التناقضات سياسات اقتصادية واجتماعية
متضاربة وفجائية، حتى وصف بعضهم أسلوبه في سياسة المجتمع مفتخراً بأنه:
أسلوب الصدمات الكهربية [48] . وعندما يتضارب الواقع ويتفتت بهذه الصورة،
وتظهر بشدة آثار وضعية العلمانية التي تقوم على تحكيم المتغير في الثابت [49] ،
بل بلسان الواقع، تحكيم المتضارب في الثابت، فتظهر الأعاجيب؛ فهل يمكن أن
تتحمل الشعوب كل ذلك؟ الواقع أنها لم تتحمل، فكانت هناك ردود أفعال متفاوتة:
فمنها: تنامي شعور السلبية والابتعاد عن المشاركة السياسية: ففي أحد
دورات مجلس الشعب المصري تشكل بنسبة 10% فقط من أصوات الناخبين،
وبلغت نسبة المشاركة في المحليات 5% 6% [50] . ومنها: في المقابل: القيام
ببعض مظاهر الاحتجاج التي قد تصل إلى الانتفاضات الجماهيرية التي تحدث في
كثير من الأحيان ردَّ فعل مباشر على زيادة أسعار السلع الأساسية، مثلما حدث في
مصر 1977م، وفي تونس 1976م، 1987م وفي المغرب 1974م، 1981م،
وفي الأردن 1988م، وفي الجزائر 1988م، وغالباً يصاحبها تدمير لمظاهر
البذخ والترف في الشوارع [51] . ومنها: تزايد معدلات الهجرة للخارج، خاصة
ذوي العقول والكفاءات الفنية، وقد بلغ المهاجرون العرب من حملة شهادة الدكتوراه
في الفترة من 1966م 1977م حوالي ستة آلاف، منهم ثلاثة آلاف من مصر
وحدها [52] ، ومن 1962م 1976م هاجر إلى أمريكا 23. 000 (ثلاثة وعشرون
ألف) من ذوي التخصصات الفنية الرفيعة، وفي الفترة من 1970م 1980م لم يعد
إلى مصر نحو 70% من مبعوثيها إلى أمريكا، واجتذبت فرنسا من ذوي الكفاءات
في السبعينيات من 25. 000 إلى 30. 000 مهاجر [53] . ومنها: شيوع
اللامبالاة بالقوانين أو شيوع الانطباع بأن هناك «شبه عقد اجتماعي بين الدولة
والمواطن يقوم على خرق القانون في العلاقات الاجتماعية كافة، وهو الأمر الذي
جعل الالتفاف حول القانون هو شريعة المجتمع» [54] . ومنها: تنامي ظاهرة
النفاق الاجتماعي والسياسي، ومسايرة النظام بقصد الانتفاع المصلحي، كما يدل
عليه ارتفاع نسبة الأعضاء في بعض الأحزاب الحاكمة في بعض الدول من طبقة
رجال الأعمال والرموز الثقافية والفنية. ومن الأمثلة الطريفة لظاهرة النفاق
السياسي في أوساط الصحفيين أن جريدة (لوموند) الفرنسية أجرت حواراً مع
أنيس منصور قبل حرب 1973م بعنوان: (العدو رقم واحد لإسرائيل) ، ثم بعد
الصلح مع اليهود أجرت معه حواراً أخر بعنوان جديد: (الصديق رقم واحد
لإسرائيل) [55] .
ومن أبرز ردود الأفعال الجماهيرية على هذه التناقضات العلمانية تلك الرجعة
الإسلامية الكبيرة، وإبداء قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية رغبتهم في
العودة إلى دينهم، وإن تفاوتت قوة هذه الرغبة تفاوتاً تمثل في انقسامهم إلى حركات
عاملة، وجماهير محبة ومؤيدة للتيار الإسلامي خاصة أو للإسلام عامة. ولو أخذنا
تركيا نموذجاً فسنجد أن نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب الرفاه في
الانتخابات البلدية والبرلمانية كمؤشر على هذه الرجعة تعبِّر عن التنامي المتزايد لها:
1984م 4. 4%، 1987م 7. 1 % 1989م 9. 8 %، 1991م 16. 9%،
1994م 19. 87%، 1995م 21. 3% أي حوالي 6 ملايين ناخب [56] .
وهو أمر ذو دلالة قوية لكونه يحدث في أكثر البلاد الإسلامية تمسكاً بالعلمانية
وتطبيقاً لها.
ثانياً: الحصاد الأخلاقي (إخفاق العلمانية في أن تكون مصدراً للقيم) .
لم تؤد المناهج والتطبيقات العلمانية إلى تفسخ الأخلاق وانحلالها فقط، بل
إنها هاجمت القيم الأساسية التي تستند إليها هذه الأخلاق، والتي لا وجود لها بدونها،
سعياً لاستبدالها بقيمها الخاصة. ولأن هذا الهجوم ترتب عليه انهيار كثير من
القيم الإسلامية؛ فينبغي علينا أن نتعرف ملامح هذا التصادم القيمي (العلماني
الإسلامي) ؛ فقد أصبحت القيم في وضع يرثى له من الاختلال والاضطراب،
خاصة مع اتباع بلدان كثيرة لسياسة ازدواجية الخطاب (العلماني الإسلامي) ،
ويصف بعض الباحثين هذه الحالة بـ «تشويه الوعي» [57] .. أو تصادم القيم..
فهناك قيم يؤيدها المجتمع، وهناك قيم تفرضها الأيديولوجيا السياسية، وهناك قيم
يروّج لها النظام في مؤسساته (الدينية التعليمية الإعلامية) ، بل إن النظام قد
يعرض قيمتين متعارضتين في مؤسستين مختلفتين [58] في الوقت نفسه، ويتجلى
هذا الاختلال القيمي لصالح العلمانية باستعراض الحالة الراهنة لعوامل الردع والهدم
الأخلاقيين في المجتمع:
1 - النزعة الفطرية للتدين: ولا يمكن القضاء عليها [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم: 30) وهي سبب أساس في رجوع كثير من المسلمين إلى
دينهم [59] .
2 - الأسرة: وسيتم التعرض لها لاحقاً، وإن كان خلاصة حالها: ذوبان
الدور الرقابي للأسرة.
3 - المجتمع: وتمنعه هلاميته من ممارسة دور واضح، وإن كان أميل إلى
الهدم بالمقاييس الشرعية (حديث السفينة) ، بالإضافة إلى العمل على تحديد دوره
بإصدار قوانين مثل (قانون الحسبة) في مصر.
4 - القانون: علماني قائم على شريعة أجنبية، ومعلوم أن كل شريعة تنقل
خصائص المجتمع الذي صُممت من أجله في الابتداء إلى الواقع الجديد الذي
استجلبت إليه [60] (تحول الدواء إلى داء) .
5 - التيارات الإسلامية: مضيق عليها، وإن كان على عاتقها الدور الأكبر
في مواجهة الانحلال القيمي.
6 - المؤسسات الدينية: تم تحييد معظمها (الأزهر) ، بل وتجنيدها أحياناً
(الزيتونة) ، وإلغاؤها أحياناً أخرى (محاولة غلق مدارس الأئمة والخطباء في
تركيا) .
7 - الإعلام: وسيلة الهدم الرئيسة (التركيز الأكبر للعلمانيين) .
8 - التعليم: وسيلة الهدم بعيدة المدى.
والذي ينبغي الانتباه إليه: أن هذه الوضعية القيمية المختلة «مرحلة تشويه
الوعي» يراد تطويرها للوصول بها إلى «مرحلة تغييب الوعي» ؛ حيث تحل
منظومة قيمية متكاملة (علمانية) محل المنظومة المختلة القائمة [61] .
ولعل من أخطر الوسائل لتحقيق هذا «الحراك القيمي» : مفهوم «مجتمع
الوسط المتحرك» بين طرفين: يمين يمثله الإسلاميون، ويسار يمثله الإباحيون،
ومع افتراض ثبات الإسلاميين على مبادئهم؛ فإن تحرك مجتمع الوسط لكي يحافظ
على وسطيته كمبدأ ثابت يكون غالباً في اتجاه اليسار، فإذا أريد تحريك الوسط؛
فإنه يكفي أن يدفع طلائع الفسق نحو مزيد من الانحلال، فينجذب إليهم الوسط
(مع إعطاء عامل الزمن فرصته) .. ولا يستطيع الوسط أن يمتنع عن التحرك؛
لأن فئة الإباحيين تتحرك بأقصى ما يسمح به الإطار القانوني الهلامي، وبكل
وسائل الجذب المتاحة، ولأن الطرف الآخر (الإسلاميون التدين) يعاني من
تحديده والتضييق عليه.
والرسم الآتي يوضح هذه المفهوم:
ومن آثار هذا الوضع الشائك، ما يمكن أن نسميه: «دائرة التيه» ، فيما
بتعلق بالمرجعية الحكمية على القول والفعل.
فمع وجود مجموعات متضاربة من القيم في المجتمع، ولكل مجموعة جهة
تتبناها ولها ثقلها المرجعي يصبح أمر مخالفة الثوابت الشرعية أكثر سهولة،
وتصبح آثارها الاجتماعية والنفسية سريعة الزوال، فأي عمل مخالف ستقوم به،
سيكون له معارضون، وسيكون هناك مرحبون، فيتحول إلى قضية خلافية.
وبدون أن نفهم ما سبق من الكلام عن انهيار القيم فلن نستطيع استيعاب الحالة
التي وصل إليها المجتمع المسلم الآن، ولن يعدو الأمر بالنسبة لنا أكثر من قراءة
صفحة في أي جريدة.
المظاهر العملية لانهيار القيم الأخلاقية:
1- التفكك الأسري وخروج المرأة عن دورها الطبيعي:
نشرت مجلة العربي في استطلاع لها عن تونس إحدى صور الدعاية
المنصوبة في الشوارع، وفي كل ميدان لوحتان: الأولى تمثل أسرة ترتدي الزي
المحتشم مشطوبة بإشارة (X) ، والأخرى تمثل أسرة متفرنجة متبرجة ومكتوب
تحتها: «كوني مثل هؤلاء» . وبالإضافة إلى الدلالات الظاهرة التي لا تحتاج
إلى تعليق؛ فإن توجيه الخطاب العلماني إلى المرأة بالذات يعتمد على كونها نقطة
الضعف الواضحة في الكيان الأسري، ومعبراً هاماً من معابر العلمانية إلى
المجتمعات الإسلامية، ولو استعرضنا المطالب الأساسية للعلمانيين والعلمانيات فيما
يتعلق بتحرير المرأة أو علمنتها وهي: الحق في التعليم الخروج إلى العمل تعديل
القوانين خاصة: تعدد الزوجات المشاركة السياسية، لوجدنا المطالب الأربعة قد
تحققت في معظم بلاد المسلمين إلا ما يتعلق بتعدد الزوجات؛ فقد منع في تركيا
وتونس، وتصف هدى شعراوي تحقق هذه المطالب دفعة واحدة في تركيا في نهاية
الثلث الأول من القرن بأنه «من نعمة الأقدار إلى أخواتنا في إسطنبول» [62] ،
ويقول زين العابدين عن تحقيق المرأة لمطالبها في تونس، وعلى رأسها قانون
الأحوال الشخصية، يقول: «إننا نفتخر به ونستمد منه زهواً حقيقياً» [63] . فهل
يستحق تحقيق هذه المطالب الزهو فعلاً؟ .. الحقيقة أن الأمر لا يستحق الزهو أبداً:
فبالنسبة للتعليم وبعد عشرات السنين لا تزال المرأة في بلاد الإسلام تعاني من
الأمية التي بلغت 47% في الوطن العربي للرجال والنساء معاً [64] ، ومعلوم أن
النسبة تزيد في النساء عن الرجال، بل في تركيا رائدة العلمانية بلغت نسبة الأمية
31% بين النساء 1990م [65] .. وتتضاعف النسبة بين الريفيات وكبار السن.
وأما تحريم تعدد الزوجات (تركيا، تونس) حتى لا يكون للزوج امرأة أخرى،
فيقابله أن هذين البلدين بالذات يأتيان على قائمة الدول المشهورة بالسياحة الجنسية
والدعارة المقننة، فهربت النساء من تعدد الزوجات ليقعن في تعدد العشيقات.
وعن المشاركة السياسية التي منحت لها منذ عشرات السنين بدءاً بتركيا
1934م، وسوريا 1949م للانتخاب، ثم الترشيح في عهد الوحدة، مصر في
1956م، تونس 1959م، المغرب 1972م، الأردن 1974م، العراق
1980م [66] ؛ فبعد ما يقرب من 60 سنة على منحهن هذا الحق في تركيا لم ترتفع
مشاركة المرأة في البرلمان عن 2%، وفي انتخابات 1991م نجحت 8 نساء من
450، وفي سنة 1995م نجحت 13 امرأة من 550 نائباً [67] . وهناك أمثلة كثيرة
تعبر عن رفض المجتمع التركي نفسه (رجالاً ونساءاً) للمشاركة النسائية، مثل
كون حزب «الطريق القويم» العلماني الذي تتزعمه «تانسو تشيللر» ، تبلغ
نسبة أعضائه الذكور (99. 8%) ، ويصرح أحد الرافضين لزعامتها للحزب:
«إننا نريد زعيماً نستطيع حرفياً أن نحمله على أكتافنا» [68] ، وفي البلاد العربية
لم يكن لها حظ أوفر؛ إذ تبلغ نسبتها من المقاعد 4% معظمها بالتعيين [69] .
أما عن المطلب الأخير وهو حق المرأة في العمل؛ فيمكن اعتباره العامل
الخطير الذي تسبب في تفكك الأسرة المسلمة بهذه الصورة المعاصرة.. إذ تبلغ
نسبة النساء من القوى العاملة لسن 15 سنة فما فوق 25% في العالم العربي [70] ،
وتبلغ في تركيا 32% [71] ، وفي الكويت 23% [72] . وقد ترتب على خروج
المرأة للعمل تداعيات أسرية خطيرة من أهمها عجزها عن القيام بدورها الطبيعي
الأسري، وبالإضافة إلى اضطرار غالبية الأزواج إلى قضاء أغلب أوقاتهم خارج
المنزل لطلب الرزق، أو للسفر للخارج أحياناً [***] ؛ فإن الرقابة الأسرية ينعدم
تأثيرها، وفي حين أنها مطلوبة في الأوضاع الطبيعية؛ فكيف والانحلال الخلقي
ينتشر بهذه الدرجة؟ [73] ، ومنها كذلك سقوط المرأة في دوامة تعدد الأدوار، ثم
التبرم بالدور الطبيعي المقيد لها، ثم صراع الأدوار بينها وبين زوجها، وهو ما
أثر على قوامة الرجل واستقرار الأسرة، ووصل الأمر بعلمانيات تركيا إلى
المطالبة بإلغاء المادة القانونية التي تقول إن الزوج هو رب الأسرة [74] .
وبالإضافة إلى العامل السابق؛ فإن هناك عوامل أخرى أفرزتها الصبغة
العلمانية للحياة ساهمت في تفكك الأسرة: منها: تسارع عمليات التغيير الاجتماعي
والثقافي وتطور وسائل الاتصال، بالإضافة إلى تأخر سن الزواج، كل ذلك أدى
إلى تنامي ظاهرة صراع الأجيال بين الآباء والأبناء وظهور بوادرها مبكراً،
ليتحول الصراع داخل الأسرة إلى صراع مزدوج [****] . ومنها: غلبة النمط المادي
مع تفريغ الحياة من المضمون الإيماني الذي جعل النطاق الأسري يضيق جداً،
وهو ما حدا ببعض الباحثين إلى القول بأن «المقومات التي تؤدي إلى التفكك في
الأسرة الحضرية (الأكثر تأثراً بالعلمانية) أكثر من المقومات التي تؤدي إلى
التكامل» [75] .
2 - فتنة النساء:
صدق النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبرنا أنه لم يترك بعده فتنة أضر على
الرجال من النساء، ولقد نفخ العلمانيون في نار هذه الفتنة حتى تعاظمت، وأخذت
أبعاداً خطيرة، يمكن استيعابها في أربعة أبعاد:
البعد الأول: وضع مجتمع الشباب في حالة الإثارة الجنسية الدائمة؛ فوسائل
الإغراء والإثارة متعددة ومتنوعة وتتميز بالشمول في الزمان والمكان، في البيت،
وفي الشوارع، وفي العمل، وفي المواصلات، وفي المدارس والجامعات، لماذا؟
لأن هذه الحرارة المرتفعة الدائمة هي التي تطور أشكال هذه الفتنة وأبعادها،
وبدونها لن يتم ذلك، وبها يغرق الشباب في شهواته لا يفيق منها إلى أمور أهم لا
يراد له الالتفات إليها [76] . ولقد أدت هذه الإثارة الدائمة إلى تطور آخر إجرامي
بعرف العلمانية أيضاً يتمثل في زيادة معدلات الجرائم المتعلقة بالاغتصاب [77]
وهتك العرض، بالإضافة إلى تغير نوعيتها تغيراً يعبر عن انتكاس الفطر؛ فهناك
جرائم تتكرر بصورة دائمة: زنا المحارم انتشار شبكات الدعارة [78] قيام مدرس
ابتدائي بهتك عرض تلميذاته خطف فتيات صغيرات مع الاعتداء المستمر.
البعد الثاني: مفهوم العورة: ومفهوم العورة الذي صاغه العلمانيون للمجتمع
المسلم في هذا العصر مفهوم مطاط قابل للتشكل والتغير بتغير المكان والعمل والسن.
فهو ينحسر جداً إذا كان في ناد رياضي أو على شاطئ البحر، ثم يتسع مرة
أخرى نسبياً إذا خرجت المرأة إلى الشارع والأماكن العامة، ثم ينحسر مرة أخرى
إذا كانت تعمل فنانة أو إعلامية، ثم يتسع إذا كانت قد تجاوزت الأربعين أو أكثر،
ثم ينحسر مرة أخرى إذا كانت شابة يافعة أو طالبة في الجامعة.. وهكذا.. فأي
عورة هذه التي يحافظون عليها؟ !
البعد الثالث: تطور أنماط العلاقة بين الرجل والمرأة: من نظرة، إلى
ابتسامة، فموعد، فلقاء هذه هي المراحل العاطفية التي كان يزينها العلمانيون
للشباب لدرجة أن هذه المراحل يمكن اختزالها وأكثر منها في ساعات قليلة، والذي
يطّلع على أحوال الشباب خاصة في الجامعات على أقوالهم، وحركاتهم، وملابسهم،
وعلاقاتهم يجد أن انحداراً كبيراً وبصورة مطردة يحدث في ثقافات الشباب
المتعلقة بفتنة النساء.
ويمكن أن نحدد هنا ثلاث مراحل لهذه الثقافات: الأوليان تعبران عن ثقافة
سابقة، ثم حالية، والثالثة عن ثقافة متوقعة لا قدرها الله لو استمر ذلك التطور:
المرحلة الأولى: ثقافة الحرمان: وتتمثل في كثرة تداول المثيرات ووسائل الإغراء،
المعاكسات، علاقات غير كاملة.
ثم المرحلة الثانية: ثقافة الإشباع: ما سبق، بالإضافة إلى علاقات كاملة
تنتشر بصورة متزايدة، (الزواج العرفي) [79] .
ثم تأتي المرحلة الثالثة والخطيرة وهي: ثقافة الاستمتاع، وتتمثل في كل ما
سبق بالإضافة إلى: تطوير أنماط العلاقة مع عدم التقيد بإطار الزواج العرفي،
تطوير أساليب الاستمتاع بالحرية السائدة. استسلام مجتمعي نسبي لظاهرة الزواج
العرفي.. واعتبارها أرحم من عدمها.
البعد الرابع: اختلال قيمة الشرف والغيرة: عندما حاور النبي عليه الصلاة
والسلام الشاب الذي طلب الإذن بالزنا، كان عليه الصلاة والسلام يعتمد على ثبات
قيمة الشرف ووضوحه لدى الشاب؛ فسهُل إقناعه بترك الأمر.
ونحن نتساءل الآن: هل لا يزال للشرف والغيرة نفس الوضوح والثبات؟ ما
يريده العلمانيون هو أن يتوافق مفهوم الشرف عندنا تماماً مع المفهوم الغربي [80] ،
وقد حققوا في ذلك نجاحاً لا بأس به، وانتهى بهم الأمر إلى انحسار مفهوم الشرف
والغيرة لدى الكثيرين في مجانبة الزنا، وهم في طريق النجاح التام يصطدمون
بعقبة أساسية وهي استمرار تمسك المجتمع بنظرته الدينية الموروثة إلى «عذرية
الفتاة» ، إلا أنهم لم يستسلموا، فتم نشر وسائل مبتكرة مؤقتة ودائمة لمنع الحمل،
وتم الترويج لعمليات إعادة العذرية بدون أي قيد قانوني، بل استُدرج بعض العلماء
للمشاركة بطريقة غير مباشرة في هذه الحملة، وذلك لإزالة الرهبة والحساسية لدى
الناس من مناقشة هذه القضية، ولا يزال المكر مستمراً، حتى تصبح مشكلة الفتاة
الكبرى ليست في فقد عذريتها، بل في احتفاظها بها..! .
3 - الفساد المالي:
عندما تبحث وسط الناس عن قيم إسلامية مثل: الأمانة من غشنا فليس منا
المسلمون كالجسد الواحد الحلال والحرام في اكتساب المال.. تجد أن كثيراً من
الناس استبدل بها قيماً يستمدها من قوانين العلمانية؛ فانتشر الفساد فيما يتعلق
باكتساب الأموال انتشاراً يقشعر منه المرء، حتى أصبح الغش كأنه خطوة طبيعية
من خطوات بيع السلعة أو الخدمة وإنتاجها، وحتى أصبحت الرشوة ممارسة يومية
في بعض المجتمعات، وهذا الفساد في انتشاره يشمل معظم الطبقات والفئات
المجتمعية إلا ما رحم الله. يقول أحمد بن بيلا في مقابلة مع التلفاز الفرنسي: «إن
كل شيء بات يتم في الجزائر عن طريق الفساد من القمة إلى القاع» [81] . بل إن
البلدان الأفريقية المغرقة في فقرها لم تنجُ من ذلك؛ إذ تقدر سلطات سويسرا ثروة
رئيس مالي السابق «موسى تراوريد» بحوالي مليار دولار، وهو ما يعادل نصف
ديون هذا البلد [82] . حتى السلطة الفلسطينية العلمانية الوليدة لم تكد تستلم سلطتها
حتى انتشرت رائحة الفساد على الفور، وهو ما شهدت به زوجة عرفات نفسه،
وسمعها العالم كله. وفي مصر خلال 1993م حققت النيابة الإدارية في 56000
قضية رشوة. يقول أحد الصحفيين الحكوميين: وإذا كان ما يضبط عادة من
الجرائم هو ربعها، فمعنى ذلك أن هناك أكثر من ربع مليون مرتش ومختلس
سنوياً [83] .
4 - انتشار المخدرات:
استطاعت حضارة الدول الغربية أن تمنع إلى حد كبير زراعة المخدرات في
أراضيها، إلا أنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً في إيقاف تجارتها أو استخدامها، أما النظم
العلمانية في بلاد المسلمين فقد أخفقت إخفاقاً ثلاثياً في إيقاف زراعتها أو تجارتها أو
استخدامها؛ فتنتشر زراعاتها في دول مثل: لبنان، ومصر، ويشترك في تجارتها
معظم الطبقات، وأما استخدامها فحدث ولا حرج؛ فالأنواع كثيرة متعددة، وتناسب
كافة الطبقات [84] .
.. وبعد فإنه مما يشق على النفس أن يكتشف المرء في بلاده كل هذه
المصائب، وإن العجب ليتملكنا عندما نتذكر قول علماني مثل طه حسين يقول:
«إن علينا لكي نتقدم أن نأخذ حضارة الغرب بحلاوتها ومرارتها» . فنتساءل: أين
هذه الحلاوة؟ اللهم إنَّا لم نجد إلا الحصاد المر.. أو الخبث (الزنا وأولاد الزنا)
كما عرفه الحافظ ابن حجر الذي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من كثرته،
حيث عندها يهلك الناس وفيهم الصالحون. وإن أعراض الخبث أكثر مما ذكرنا،
ولكن حَسْبُ العلمانيين أن ما ذكر يكشف باطلهم.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) المسؤول هو: فرج فودة، المواجهة بين الإسلام والعلمانية، د / صلاح الصاوي، ص 59.
(*) المقصود بهذه الآنية العقود الأربعة الأخيرة والتي نتناول من خلال أحداثها حصاد العلمانية.
(2) النهوض الإسلامي دراسة للحركة الإسلامية في تونس عبد الجبار البوبكري، ص 34.
(3) عودة الحجاب ج 1 ص 209.
(4) السابق ص 116، ومعنى أتاتورك: أبو الترك، وهو يستحق أن يسمى، أتا كفر.
(5) تونس 1956م، سوريا 1946م، ليبيا 1951م، مصر 1952م، المغرب 1956م، الجزائر 1962م.
(6) وفق معيار الدخل وأنماط الاستهلاك تقسم إلى: عليا وسطى دنيا، والتقسيم الماركسي وفق العلاقة بوسائل الإنتاج: بورجوازية بورجوازية صغيرة بروليتاريا / السياسة والتغير الاجتماعي في الوطن العربي، د / جلال معوض.
(7) المصدر السابق ص 235.
(8) قضايا علم الاجتماع السياسي د إسماعيل سعد، ص 131.
(9) رؤى مغايرة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، يوليو 97، ص 13.
(10) السياسة والتغير، ص 238.
(11) جريدة العربي الناصرية، 12/4/99.
(12) السياسة والتغير، ص 180.
(13) حزب الرفاه، ص 54.
(14) وفق تقديرات التوسيار (اتحاد الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك) رؤى مغايرة، مايو 1997م، ص 11.
(15) في سؤال لرئيس هيئة الاستثمار عن صحة مثل هذا النسب شكك فيها واحتج بقوله: يكفي أننا نبحث عن فقراء لمنحهم الزكاة فلا نجد أحداً / الأسبوع 27/4/1999م.
(16) بلغت في بريطانيا في نفس السنة بين راتب أعلى منصب في الخدمة المدنية ورواتب العامل غير الماهر (4: 1) السياسة والتغيير ص 259.
(17) المصدر السابق ص 241.
(18) عالم الفكر بو علي ياسين ص 52.
(19) لغت الأحزاب حالياً: في الجزائر 46 حزباً، اليمن 43، الأردن 23، المغرب 19، مصر 13، د / سعد الدين إبراهيم، المجتمع المدني، ص 24.
(20) حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية في الدولة الإسلامية، ص 489.
(21) السياسة والتغير ص 131.
(22) الإسلام السياسي (أوليفيه روا) ، ص 57.
(23) الإسلام السياسي، ص 58.
(24) الإسلام السياسي، ص 58.
(25) السياسة والتغير، ص 141.
(26) المصدر السابق، ص 144.
(27) النهوض الإسلامي، ص 83.
(28) السياسة والتغير، ص 158.
(29) رؤى مغايرة يوليو 97، ص 19.
(30) السياسة والتغير، ص 292.
(31) خريف الغضب محمد حسنين هيكل.
(32) رؤى مغايرة، مايو 97، ص 10.
(**) مرّ بنا استعراض نصيب كل فئة من الدخل القومي، ومعدلات الفقر.
(33) جريدة آفاق عربية 4/3/1999م.
(34) أرقام تصنع العالم محمود المراغي ص 149.
(35) الإسلام السياسي، ص 55.
(36) العربي الناصرية 5/4/1999م.
(37) السياسة والتغير، ص 177.
(38) الإسلام السياسي، ص 58.
(39) أرقام تصنع العالم، ص 148.
(40) الأطلس الاقتصادي د / عبد الرحمن حميدة.
(41) العربي الناصرية 5/4/99م.
(42) عالم الفكر يناير 1999م أميل حبيبي ص 55.
(43) أزمة المثقفين وثورة يوليو عادل حمودة ص 16.
(44) رؤى مغايرة، يوليو 97 ص13.
(45) الأطلس الاقتصادي، ص213.
(46) المصدر السابق ص 136.
(47) جريدة العربي الناصرية 12/4/1999م.
(48) لعبة السلطة، ص 150 حوار مع محمد هيكل.
(49) الوظيفة العقيدية حامد عبد الماجد، ص 499.
(50) إحقاق الحق سعد الدين إبراهيم 185.
(51) تقرير المجتمع المدني سنة 1993م، ص 26.
(52) الطريق إلى القدس ج3 ص 167 د / جمال عبد الهادي.
(53) السياسة والتغير، ص 87، 89، 90.
(54) النص والرصاص، نبيل عبد الفتاح، ص 53.
(55) جريدة آفاق عربية، 15/4/1999م.
(56) حزب الرفاه، ص 37 46.
(57) الوظيفة العقيدية، ص 504.
(58) في هذه الحالة ستكون الغلبة للقيمة المؤيدة عن طريق الممارسة لا عن طريق الإعلان وإن تكرر، انظر: التدين المنقوص، فهمي هويدي، ص 53.
(59) النهوض الإسلامي، ص 33.
(60) ومن هنا نعلم حجم التناقض الذي أدخله أتاتورك إلى تركيا بتركه شريعة بلاده، مقابل قوانين ثلاثة مجتمعة: القانون المدني السويسري، القانون الجنائي الإيطالي، والقانون التجاري الألماني / انظر التدين المنقوص، ص 57.
(61) الوظيفة العقيدية ص 503.
(62) عودة الحجاب، ج 1.
(63) النهوض الإسلامي.
(64) أرقام تصنع العالم، ص 148.
(65) رؤى مغايرة، مايو 1997م.
(66) سعد الدين إبراهيم، المجتمع المدني، ص 435.
(67) رؤى مغايرة، مايو 97.
(68) رؤى مغايرة، مايو 97.
(69) أرقام تصنع العالم، ص 149.
(70) المصدر السابق، ص 148 / إحصائية عام 1990م.
(71) رؤى مغايرة مايو 97.
(72) مجلة شؤون اجتماعية، عدد 58 1998م.
(***) يبلغ عدد المغتربين المصريين في منتصف التسعينيات 2 5 مليون، على الرغم من انخفاض معدل اصطحاب المسافر لأسرته لانخفاض الأجور.
(73) زادت الجرائم التي يرتكبها الصغار دون العشرين في مصر 1389/1987م إلى 33 / 1997م، وأرجع الباحثون السبب الرئيسي إلى تفكك الأسرة / جريدة الأسبوع 3/5/1999م.
(74) رؤى مغايرة، مايو 97 في مقابلة مع سيرين تيليكي من القيادات النسائية.
(****) أفقي بين الزوجين، ورأسي بين الآباء والأبناء.
(75) مشكلات اجتماعية.
(76) وكمثال يوضح أثر هذه الإثارة الدائمة: أجريت دراسة هامة عن طريق جامعة القاهرة على عينة مكونة من 5000 طالبة جامعية من مشاهدات البرامج الفضائية، توصلت إلى نتائج خطيرة منها: نسبة مشاهدة الدش 11 6% تزيد إلى 32 7% بتداول أشرطة الفيديو، نسبة مشاهدة الأفلام الجنسية (المتخصصة) 75%، و53% من عينة البحث تركن الصلاة كعبادة دائمة بعد مشاهدة الدش.
(77) هناك عشرة آلاف حالة اغتصاب سنوية في مصر لا يُبلَّغ عن أكثرها خشية الفضيحة الأهرام 3/5/1999م.
(78) ضبط مؤخراً شبكة دعارة مكونة من 62 فتاة وامرأة، واللافت للنظر هنا ما اعترفت به زعيمة الشبكة من أنها جندتهن في مدة لا تتعدى 6 أشهر، وأنهن من جنسيات عربية مختلفة، وأن منهن فتيات من أسر ثرية، الجيل 4/4/1999م.
(79) تزايد بصورة مستمرة بين الشباب، حتى بلغ إحصائياً من خلال دراسة أجريت على عينة من طلبة الجامعة قدرها 500 (طالب طالبة) 31% انظر: الزواج العرفي، فاطمة مصطفى، ص 60.
(80) يتضح المفهوم الغربي للشرف فيما نقلته لنا الصحف من قصة ذلك الرجل الإنجليزي الذي سافر تاركاً زوجته وابنتيه فلما عاد اكتشف وقوعهن في علاقة جنسية مع رجل واحد برغبتهن الكاملة، وفي وقت واحد، فلم يسافر وأقام معهن لحمايتهن من ذلك الذئب المتوحش والوقوف معهن في محنتهن (هكذا) ! ! .
(81) السياسة والتغير، ص 26.
(82) الأطلس الاقتصادي، ص 332.
(83) النهاية أحمد رجب، ص 48.
(84) ولقد سبق أن تورط شقيق الرئيس التونسي الحبيب بن علي في تناول المخدرات والاتجار بها في فرنسا، ويصف بعض الكتاب قضية نواب المخدرات التي أثيرت في منتصف التسعينيات في مصر بأنها الجزء الظاهر من جبل الجليد، انظر: النهوض الإسلامي، ص 101، إحقاق الحق، ص 191.(160/100)
الإسلام لعصرنا
النسبية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
تُطلق النسبية في لغتنا العربية المعاصرة على نوعين مختلفين من
النظريات تسمى إحداهما في اللغة الإنجليزية relativity وهي نظرية آينشتاين
المشهورة في الفيزياء، كما تطلق على نظرية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية تسمى
في الإنجليزية: relativism وحديثنا هنا عن الثانية لا الأولى.
النظرية هذه نظرية قديمة حديثة أول من تنسب إليه في تاريخ الفكر الغربي
بروتوجراس اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد. ويقول بها مفكرون غربيون
معاصرون ولا سيما المختصين منهم بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. وفحوى هذه
النظرية هو أنه ليس هنالك معيار ثابت يميز به بين الحق والباطل وبين الخير
والشر، بل إن هذه الأحكام أحكام نسبية. ولكن نسبة إلى ماذا؟ هنا يختلف
القائلون بهذه النسبية؛ فالغلاة منهم ينسبونها إلى الأفراد، أي إن ما يراه زيد حقاً أو
خيراً فهو حق أو خير بالنسبة له وإن خالفه في ذلك عمرو وغيره من الناس.
ويرى بعضهم أنها تنسب إلى ثقافة كل مجتمع. والثقافة culture عندهم هي
منهاج حياة مجتمع من المجتمعات في فترة معينة من تاريخه، وهي تشمل معتقداته،
وأنواع سلوكه، ولغته، وتشمل كذلك عاداته وتقاليده وفنونه ومخترعاته وتقنيته
وتراثه؛ فما يراه أصحاب كل ثقافة حقاً أو خيراً فهو حق أو خير بالنسبة لثقافتهم
هذه؛ لأنه ليس هنالك معيار عالمي للحق والخير متفق عليه بين الناس. يقول
أحدهم: «كل ما كان من أعراف وعادات زمان ومكان معين فله ما يسوِّغه في ذلك
الزمان والمكان» [1] وتقول عالمة اجتماع أخرى: «إن معظم المجتمعات البشرية
تسلك طرقاً مختلفة طلباً لغايات مختلفة؛ فلا يمكن الحكم على وسيلة منها أو غاية
بمقاييس مجتمع آخر؛ لأنها غير قابلة للموازنة» [2] .
فليس هنالك إذن معيار عالمي تقاس به الثقافات، فيُصَوَّب بعضٌ أو يُخَطَّأ
بعضٌ، أو يفضل بعض على بعض. وعليه يقولون فلا يحق لأصحاب ثقافة ما أن
يحكموا على الثقافات الأخرى بمعايير ثقافتهم؛ بل إن النظرة العلمية المحايدة
تقتضي أن تقوَّم كل ثقافة تقويماً داخلياً بمعاييرها هي لا بمعايير أجنبية عنها. فإذا
كان الإسكيمو مثلاً يرون أنه من الكرم أن يُعِير الزوج زوجته لغيره، وإذا كانت
بعض المجتمعات تقتل الأولاد في المهد، أو تقتل كبار السن لأنهم لا ينتجون،
فبأي معيار ننكر عليهم أعمالهم هذه؟
يلاحظ على هذه النظرية ما يلى:
أولاً: كونها من النوع الذي يقال عنه إنه ينقض نفسه؛ لأنه إذا كان كل حكم
بالصحة أو البطلان وبالخيرية والشرية إنما هو حكم ذاتي أو ثقافي؛ فإن القول بهذه
النظرية هو نفسه حكم ذاتي، أو من إملاء ثقافة معينة، فبأي حق يقال إنه حقيقة
عالمية يجب على الناس مراعاتها كما هو ظاهر قول دعاتها؟
ثانياً: أن هنالك قيماً خلقية وأنماط سلوك مشتركة بين الناس جميعاً رغم
اختلاف ثقافاتهم وأزمانهم وأماكنهم، كما اكتشف ذلك بعض علماء الأنثروبولوجيا
أنفسهم. ويمثلون لهذه القيم باعتبار الكذب والقتل وغشيان المحارم وعدم العدل في
المعاملة من الرذائل في كل المجتمعات.
ثالثاً: أن عدم اتفاق الناس جميعاً على معايير للأخلاق وللصدق لا يعني أنه
ليست هنالك معايير؛ فوجود المعيار شيء والاتفاق عليه شيء آخر.
رابعاً: أنه ما من أصحاب ثقافة إلا وهم يحاولون تسويغ قيمهم وسلوكهم
بمسوِّغات مستندة إلى معايير. لا أحد منهم يقول: هذا ما نراه وهو حق أو خير
لأننا نراه حقاً أو خيراً، بل يحاولون تسويغه استناداً إلى معايير قد يمكن مناقشتهم
فيها وبيان خطئهم فيها استناداً إلى معايير عقلانية يشتركون فيها مع سائر الآدميين.
خذ وأد البنات عند عرب الجاهلية مثلاً: لقد كانوا يفعلون هذا بحجة خشية
الإملاق كما ذكر القرآن الكريم؛ وهم كانوا مع ذلك يؤمنون بالخالق سبحانه، ولذلك
أُمكن أن يُناقشوا وأن يتغير موقفهم بعد أن أسلموا وحسنت بالله معرفتهم.
خامساً: أن الواقع المحسوس الذي يؤمن بشهادته كل البشر يدل على كون
الشيء حقاً أو باطلاً ليس بالأمر الذي تقرره الأهواء الفردية أو الثقافية. لا يقول
آدمي عاقل مهما كانت ثقافته: إن طلوع الشمس مثلاً أمر نسبي؛ فهي طالعة
بالنسبة لبعض غائبة بالنسبة لآخرين في نفس الوقت ونفس المكان.
سادساً: حتى لو قلنا بالنسبية فلماذا تكون النسبة إلى أهواء الأفراد وإلى
الثقافات؟ لماذا لا تكون إلى أمور يشترك فيها البشر: شهادة الحس، الأدلة العقلية،
أو حتى بعض المسوغات الباطلة التي يمكن مناقشة الناس فيها كما ذكرنا في
المسألة الرابعة؟
سابعاً: إن البشر كائنات اجتماعية، وهم لا يستطيعون أن يكونوا مجتمعاً
متعاوناً مترابطاً إلا بقيم معينة مثل تلك التي ذكرناها آنفاً والتي صار بعض من
علماء الاقتصاد والاجتماع يسميها لذلك بالرأسمال الاجتماعي. فالمجتمع كلما كان
رأسماله منها كبيراً كان أكثر تماسكاً واستطاع أن يحقق من أهدافه الاقتصادية
والسياسية ما لا يحققه مجتمع تفكك بسبب قلة نصيبه من رأس المال هذا [3] .
لكن النسبية برغم بطلانها هذا تنتشر الآن في الغرب، وفي أوساط الشباب
خاصة انتشاراً مرَضياً كما تذكر المراجع، وكما سمعنا من شبابنا الذين يدرسون
معهم في جامعاتهم. لقد صاروا يعتقدون أن مسائل الأخلاق والأديان كالمسائل
الذوقية التي يختلف فيها الناس اختلافاً يرجع إلى أمزجتهم؛ لأنه ليس هنالك من
معيار موضوعي لها. وربما كان هذا الإيمان بالنسبية رد فعل للتعصب المقيت
الذي كان وما يزال سائداً في بعض الأوساط الغربية التي تجعل من ثقافتها المعيار
الوحيد الذي تقاس به أديان الآخرين وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ فما اقترب منها
إليهم كان أقرب إلى الحق والخير، وما بَعُدَ عنها كان عنهما أبعد. والحقيقة أن
العالم الإسلامي، بل كل العالم قد عانى من أمثال هؤلاء، ولا سيما السياسيين منهم،
ما لم يعانِ من القائلين بالنسبية؛ وذلك لأن القول بالنسبية وإن كان باطلاً ينتج
عنه عادة نوع من التسامح مع المخالف.
لكن النسبية تبقى داءً من أدواء الحضارة الغربية. وقد انتقل هذا الداء، كما
انتقل غيره من الأدواء، إلى كثير من مثقفينا في العالم الإسلامي، حتى الإسلاميين
منهم. بل إن بعض هؤلاء الإسلاميين صاروا يبحثون للنسبية عن أصول في إرثنا
الإسلامي؛ فهم تارة يذكرون قول القائلين من الأصوليين بأن كل مجتهد مصيب،
وتارة يستدلون كاستدلال أولئك بقصة الصلاة في بني قريظة، تارة أخرى يذكرون
قاعدة تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان والمكان، ويرون أكبر دليل عليها كون الإمام
الشافعي صار له مذهب جديد بعد انتقاله إلى مصر.
الحقيقة أنه ليس في شيء من هذا ما يعضد فكرة النسبية في شكلها الغربي
الذي شرحناه.
أولاً: لأن المسلم، بل كل مؤمن بوجود الخالق، يعتقد أن وجود خالقه ليس
أمراً نسبياً تابعاً لعقول المؤمنين، بل يعتقد أنه موجود وجوداً مستقلاً حتى عن
معرفة الناس به، بل حتى عن وجودهم. أعني أن الخالق موجود حتى لو لم يكن
في الوجود إنسان؛ لأن وجوده سبحانه سابق لوجود كل المؤمنين به. فوجوده إذن
حق مطلق غير مقيد بشيء، فلا يمكن أن يكون نسبياً. والمسلم يعتقد إلى جانب
ذلك أن هذا الخالق مستحق وحده للعبادة حتى لو لم يعبده من البشر عابد. فقضية
استحقاقه للعبادة هي أيضاً حقيقة مطلقة غير مقيدة بعبادة العابدين. وكذلك الأمر
بالنسبة للفضائل الخلقية من صدق وعدل وأمانة ووفاء، يعتقد المسلم أن هذه
فضائل سواء آمن الناس بها أو لم يؤمنوا، وسواء التزموا بها أو لم يلتزموا؛
فقيمتها هي إذن قيمة مطلقة غير منسوبة لا إلى الأفراد ولا إلى الثقافات.
ثانياً: والقائلون بأن كل مجتهد مصيب لا يقولون إن معيار الصواب هو قول
المجتهد؛ لأنهم يعلمون أن القاعدة الإسلامية هي أن الحق لا يُعرَف بالرجال؛ فهم
ينسبون الإصابة إلى الاجتهاد الذي هو أمر موضوعي مستند إلى أدلة. لكننا لا
نستطيع رغم ذلك أن نقول إن كل مجتهد مصيب؛ فماذا لو كانت اجتهاداتهم
متناقضة؟ بأن يقول هذا: إن الأمر مشروع، وذاك يقول: إنه غير مشروع؟ أو
يقول هذا: إنه واجب أو مندوب، ويقول الآخر: إنه حرام أو مكروه! إن
تصويب كل منهم جمعٌ بين النقيضين، وهو أمر لا يقول به عاقل. أما إذا لم تكن
الاجتهادات متناقضة فقد تكون كلها صواباً وقد لا تكون.
ثالثاً: أما قصة الصلاة في بني قريظة فأظن أن كثيراً من الذين يستدلون بها
على نسبية الصواب لم يفهموا قول النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه. نعم إن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطِّئ الذين صلوا قبل الوصول إلى بني قريظة، كما
أنه لم يخطئ الذين لم يصلُّوا إلا بعد الوصول إليها؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال:
إن الصلاة قبل الوصول إليها مقبولة والصلاة بعد الوصول إليها مقبولة؛ وهذا
أمر لا تناقض فيه، كما أنه لا تناقض بين القول بأن الصلاة في أول الوقت مقبولة
وفي آخره مقبولة. لكن يبقى أمر آخر هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن
صوَّب ما فعله كل من الفريقين إلا أنه لم يصوِّب ظن كل منهما بأن ما فعله الآخر
خطأ؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لكل منهما: إنك أصبت فيما فعلت، وأخطأت
في تخطئتك لفعل الفريق الآخر. نقول بعبارة أخرى: إن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يصوِّب المذهب الكامل لأي من الفريقين، وإنما أقر ما في كل منهما من
الصواب.
رابعاً: أما مذهب الشافعي الجديد فيكفي في بيان عدم علاقته بالنسبية، كون
الشافعي غيَّر رأيه في مسائل لا علاقة لها بالمكان الذي انتقل إليه، فلا يمكن أن
يكون المكان سبباً فيها. من ذلك أن من تحرى القبلة فصلى ثم تبين له أنه صلى
إلى غير القبلة: هل تجب عليه الإعادة؟ قال في القديم: لا تجب. وقال في
الجديد: بل تجب. فما علاقة هذا بكونه في مصر أو في الحجاز؟ وإذا كان
الشافعي قد غيَّر رأيه في بعض المسائل فكذلك فعل غيره من الأئمة من أمثال الإمام
أحمد من غير أن يرحلوا عن المكان الذي هم فيه.
بقي أن نقول: إن هنالك أموراً هي بطبيعتها نسبية، والناس متفقون على
نسبيتها؛ فما ينبغي أن تختلط بنسبية الحقيقة ونسبية القيم الخلقية التي كانت
موضوع هذا المقال. من النسبيات المقبولة نسبية الطول والقصر مثلاً؛ فوصف
الإنسان بالطول والقصر إنما يكون بحسب أطوال غيره من البشر، بل قد يكون
بحسب الطول المعهود في المكان الذي هو فيه. فالقصير في جنوب السودان قد
يكون طويلاً في الصين. لكن هذه النسبية لا تسبِّب خلافاً كبيراً بين الناس؛ لأنهم
في العادة يتفقون على ما يُنسب إليه الأمر. فالإنسان طويل أو قصير بالنسبة إلى
البشر لا بالنسبة إلى النخل، وكذلك هو سريع أو بطيء بالنسبة للناس لا للخيول
والسيارات، والصلاة خفيفة أو طويلة بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم،
لا بالنسبة إلى ما يقدره كل إنسان.
__________
(1) William Graham Summer, as quoted in Harold M، Hodges,Jr، Conflict and Consensus, An Introduction to Sociology, Harper and Row, New York, etc، , p 60.
(2) المرجع السابق والصفحة.
(3) Francis Fukuyama, The Great Disruption: Human Nature and the Reconstitution of Social Order, The Free Press, New York, 1999, pp 18-19.(160/112)
وقفات
إلى البيت العتيق
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
الشيخ الحاج عثمان دابو رحمه الله من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب
الإفريقي، تجاوز الثمانين من عمره، زرته قبل موته في منزله المتواضع في
قريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين
عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة
قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة
على بعض الدواب، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء
جدة.
رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوِّنت لكانت من أكثر كتب
الرحلات إثارة وعبرة، استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض
المدن للتكسب والراحة والتزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير.
سألته: أليس حج البيت الحرام فُرض على المستطيع، وأنتم في ذلك الوقت
غير مستطيعين؟ ! قال: نعم، ولكننا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه
الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم،
فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء، فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن
قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرم، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً،
فلماذا التأخير؟ ! فهيَّجَنا واستحثنا على السفر مستعينين بالله تعالى.
خرج الخمسة من دُورهم، وليس معهم إلا قوت لا يكفيهم أكثر من أسبوع
واحد فقط، والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله تعالى لهم بحج بيته العتيق،
وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلة باتوا
فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟ ! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ
المنام؟ ! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقُطَّاع الطرق يعرضون
للمسافرين في كل واد؟ !
رُبّ ليلٍ بكيت منه فلمَّا ... صرتُ في غيره بكيت عليه
قال الشيخ عثمان: لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمَّى شديدة
وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي:
وإني لأرعى النجم حتى كأنني ... على كل نجم في السماء رقيب
فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في
آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس في صدري: أَمَا كان الأَوْلى أن تبقى في
أرضك؟ ! لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟ ! ألم يفرض الله الحج على المستطيع
فقط؟ !
فثقلت نفسي وكدت أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي
وسألني عن حالي، فالتفتُّ عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي! فقال:
قم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً بإذن الله [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]
(البقرة: 45-46) . فانشرح صدري، وأذهب الله عني الحزن، ولله الحمد.
كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف
عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، مات ثلاثة منهم في الطريق، كان
آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أن وصيته لصاحبيه قال لهما فيها:
إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى شوقي للقائه، واسألاه أن يجمعني
ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ عثمان: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌّ شديد وغمٌّ عظيم،
وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، وخشيت أن
أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات
على أحرِّ من الجمر.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق مني برقها المتطامن
فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أصل إلى
مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقربني
قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بيني ... وبين جوار بيتك والطواف
فكم من سائل لك ربِّ رغباً ... ورهباً بين منتعل وحافي
أتاك الراغبون إليك شعثاً ... يسوقون المُقلَّدة الصَّوافي [1]
مكثنا في جدة أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع
والبِشْر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام.
وسكت الشيخ قليلاً.. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة
في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمَّا رأى الكعبة المشرَّفة! ثم قال: لما رأيت
الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال،
فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت
الله تعالى على نعمته وفضله عليَّ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا
يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
خرجت من بيت الشيخ وأنا أردد قول الله تعالى: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 133) .
إقبال جاد على الطاعة، إقبال لا يعرض عليه التكاسل أو التسويف، إقبال تهون
فيه الآلام والأكدار، إقبال تتساقط تحته كافة العراقيل والعقبات.. إقبال بهمة
صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره.
خرجت وأنا أردد قول الله تعالى: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] (الحج: 27) .
ثم تأملت في حال كثير من المسلمين في هذا العصر ممن تحققت فيهم الشروط
الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام، ومع ذلك يُسوِّفون ويتباطؤون عن الحج..!
ألا فليتذكر أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل؛
فإنه قد يمرض المريض، وتضلّ الضالة، وتعرض الحاجة» [2] .
__________
(1) من شعر ابن شبرمة، انظر: أخبار مكة للفاكهي (2/283) .
(2) أخرجه: أحمد (3/332) رقم (1833، 1843) ، وابن ماجه، في كتاب المناسك رقم (2883) ، وحسنه الألباني في الإرواء رقم (990) ، والأرناؤوط في تخريجه لمسند الإمام أحمد.(160/115)
المسلمون والعالم
محاولات السلام وحصاد الهشيم
عبد الملك محمود
في ظل تصاعد انتفاضة الأقصى المباركة وآثارها الإيجابية الضخمة ظهر
البعد الإسلامي لقضية فلسطين بصورة أكثر وضوحاً، وتبين أن الشارع الفلسطيني
يختلف تماماً عن السلطة التي تفاوض دولة العدو، كما ظهر من جهة أخرى هشاشة
وضع المستعمرات اليهودية بل الوضع السياسي كله للكيان اليهودي. وبعد سقوط
(باراك) هبَّ زعيم البيت الأبيض ونادى بمقترحات لحل قضية الفلسطينيين (!)
وإنقاذ عملية السلام من حافة الخطر الذي وصلت إليه، ففكر وقدَّر هو وأركان
البيت الأبيض، وخرج علينا بمشروعه الذي جمع فيه عصارة سياسته الخارجية
قبيل رحيله عن سدة الحكم بأيام قلائل. ولربما كان هذا المشروع يصب في حمّى
العالم النصراني اليوم خصوصاً أمريكا بدخول الألفية الثالثة وما يتبعه من معتقدات
وخرافات دينية تجتاح الغرب وتحرك بعض زعمائه، كما بيَّن الأستاذ الفاضل/
عبد العزيز مصطفى في مقالاته وكتابه القيم: (حمَّى عام 2000م) .
أراد كلينتون أن يكون هذا الحل الأخير؛ فعام 2000م هو عام الحل النهائي
حسبما قررت الدولة اليهودية وهو عام الحسم النهائي كما وعدت السلطة الفلسطينية
حيث توعد عرفات بإعلان الدولة الفلسطينية فيها، على أن تكون عاصمتها القدس
(وقد أُجبر عرفات على التخلي عن أحلامه هذه) . وكان على رأس المسائل
المؤجلة لهذا العام ضمن مفاوضات (الحل النهائي) قضية القدس التي تأتي في
مقدمة الموضوعات التي جرت دحرجتها منذ مؤتمر مدريد عام 1991م، حتى العام
2000م، بحجة إعطائها فرصة كافية للدراسة والتشاور. وكان معها من القضايا:
مسائل اللاجئين، الحدود، والمستوطنات والمياه، والدولة، وقد حشرت هذه
القضايا كلها ليتم الانتهاء منها في المباحثات الغامضة التي عرفت بـ (كامب ديفيد
الثانية) .
تفاعلت الأحداث وتتابعت التفاعلات المتنوعة عن مفاوضات الحل النهائي في
كامب ديفيد، وكان من أبرزها كما لا يزال الناس يذكرون: توعد بيل كلينتون أن
يقدم موعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو إجراء من شأنه جر أكثر دول
العالم إلى التتابع في هذا النقل؛ حيث يضع هذا العربَ والمسلمين أمام أمر دولي
واقع، وكان هذا التوعد الأمريكي رداً على تهديد عرفات بإعلان الدولة الفلسطينية،
وهو الإعلان الذي ظهر أن الأمريكيين لا يقلون عن الإسرائيليين معارضة له؛
وهذا ما جعل (كلينتون) يخرج عن تحفظاته المصطنعة وحياده الكاذب، ويعلن أن
السلطة الفلسطينية تعرِّض نفسها لسحب الاعتراف بها، ومنع المساعدات عنها إن
هي أعلنت عن قيام هذه الدولة بتلك الصيغة التي يرددها عرفات.
كرس (كلينتون) أيامه الأخيرة لصياغة مشروعه، ودرس الخرائط، والتقى
المستشارين طويلاً، وأصرّ على أن يختم حياته السياسية بحل هذه القضية على
الطريقة الأمريكية طبعاً فما هي طبيعة مشروع كلينتون ومبادرته الجديدة التي
طرحها في آخر العام (23/12/2000م) [1] ؟
تتمثل عناصر المشروع في أربعة محاور هي: الأرض الأمن القدس
اللاجئون. أما مشاكل المياه والأسرى وغير ذلك من القضايا المعلقة فلم تشر إليها
مبادرة كلينتون، ولا نود الدخول مطولاً في تفاصيل المقترحات وإنما سنقف عند
بعض الإشارات الملفتة، ومنها:
- طرح كلينتون مبادرته بصورة مخادعة غامضة؛ فقد كان دشن مشروعه
بقوله: «أعتقد أن الحل ينبغي أن يكون بين 94 96% من أراضي الضفة الغربية
في الدولة الفلسطينية» ، وقد يظن البعض لأول وهلة أنه يقر فعلاً بذلك؛ بينما
الحقيقة أن المبادرة تنطوي على كثير من المخادعة والأفخاخ والغموض، وهي
على الحقيقة مقترحات إسرائيلية بصياغة أمريكية فقط (أي صناعة إسرائيلية،
وتجميع أمريكي) . وكما كانت اتفاقيات (أوسلو) غامضة كما وصفها حافظ الأسد
سابقاً بأن كل نقطة منها بحاجة إلى عدة اتفاقيات كان الأمر في هذه المقترحات أشد
غموضاً. وبالتدقيق في بنود المشروع يتضح أن 26% من الأراضي محتل منذ
عام 1948م وهي داخلة في الحساب، إضافة إلى أن توسيع ما يسمى بالقدس
الكبرى يشمل نحو 18% من أجود أراضي الضفة الغربية.. إلخ، مما يعني مسخاً
كاملاً لأرض فلسطين.
- البند (2) ينص على وجود دولي لا يمكن سحبه إلا بموافقة متبادلة، كما
سيتولى مراقبة تطبيق الاتفاق بين الطرفين. وإذا عدنا إلى مواقف مثل هذه القوات
في النزاعات بين طرفين يكون أحدهما مسلماً لتراءت لنا سلفاً صورة الانحياز إلى
الطرف غير المسلم.
- وهناك بند ينص على وجود محطات إنذار مبكر للمراجعة كل 10 سنوات!
كما تتحدث المبادرة عن فترات طويلة جداً لتطبيق الاتفاقات ربما يتمكن اليهود
فيها من التخطيط لمشاريع جديدة كما أن حالة طوارئ تعني حسب تعريف كلينتون:
خطراً وشيكاً وممكناً إثباته على أمن إسرائيل القومي تكون طبيعته عسكرية.
- ومن مفردات الاتفاق المنشود: إمكانية دخول واحتلال مناطق إذا رأى
الجانب الإسرائيلي أنها تهدد أمنه!
- القدس: أما القدس فقضيتها أكبر، وقد كانت طروحات كلينتون حول
القدس غامضة وغير واضحة البتة، مثل استبعاد (التنازل) عن (وليس إعادة)
القدس الشرقية أو جزء كبير منها مقابل تنازل فلسطيني يتجسد في الشطب الفعلي
لحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وربما يذكر الجميع أن الفترة السابقة شهدت
مناورات لتصفية قضية القدس؛ حيث طرح مشروع التدويل وجعلها عاصمة
مفتوحة دولية أو عاصمة للعالم كما اقترحت بعض القيادات الفلسطينية أو تقاسم
السيادة عليها بشرط ألا يأخذ الفلسطينيون منها إلا اسمها، بعد أن يخلع ذلك الاسم
على ضاحية (أبو ديس) المجاورة، كما اقترح أن تُسند السيادة (المؤقتة) على
القدس إلى الأمم المتحدة. ولا ننسى أيضاً مبادرة كلينتون بالسعي لنقل سفارة
واشنطن إلى القدس وإرغام العالم على ذلك.
- تحوي الاتفاقية تفصيلات عجيبة للسيادة اليهودية والأخرى الفلسطينية على
القدس مثل تحديد حائط البراق (حائط المبكى) . أما بخصوص عمليات الحفريات
أسفل الحرم ووراء حائط البراق (المبكى) فيتطلب ذلك موافقة مبدئية من الطرفين.
ومن العجيب أن قرار الحكومة البريطانية عام 1930م ينص على أنه ليس لليهود
حق في حائط البراق، كما أن الحائط طوله 58 متراً بينما يتحدثون الآن عن 840
متراً.
- لقد ظهر خلال الطروحات اليهودية والأمريكية الأخيرة طلاسم ومفاهيم
جديدة لم تكن واردة في حسبان المفاوضين؛ فهم يتحدثون عن سيادة فلسطينية على
مباني المسجد الأقصى بينما تكون السيادة لليهود على الأرض تحت المسجد وأخرى
فوقه! فهل سمعتم بأعجب من هذه الخزعبلات؟ لقد تحدثت مقترحات كلينتون عن
سيادة اليهود على أجزاء من الطبقة السفلية!
- أما قضية اللاجئين فلم يُذكر أصلاً مصطلح (عودة اللاجئين) وإنما
اختُزلت المسألة في عبارة مطاطة لا تؤدي حقيقة إلا إلى (حق عودة الجثث)
وإمكانية جمع شمل بضع عشرات الآلاف من بين اللاجئين الذين لا يقل عددهم عن
خمسة ملايين. والعائدون هؤلاء يجب أن يكونوا من مواليد فلسطين قبل عام
1948م، مما يعني شطب نصف الشعب الفلسطيني وحقوقه.
هل تصورتم ذلك؟ فإن جمع الشمل هذا ورغم تفاهته يخص عدداً محدوداً من
المولودين قبل عام 1948م! وهذا يعني أن أعمارهم يجب أن تكون حوالي 60
سنة فصاعداً؛ فمن بلغ المائة سنة فسيكون له الحق في العودة إلى بلده وكذلك شقيقه
الذي بلغ التسعين! !
- وحتى حق التعويض المعروض فإن دولة إسرائيل ليست مسؤولة عنه،
لكن نعتقد أنها ستسهم في هذا المشروع الخيري وتساعد في جمع التبرعات من
الدول الغنية في المنطقة (فالأقربون أولى بالمعروف) بالإضافة إلى فتات الدول
الغربية.
- وبما أن باب العمل الخيري مفتوح فلا بأس بأن تبدأ بعض الدول بعرض
استضافتها للاَّجئين الذين لا يجدون لهم مأوى؛ فها هي كندا التي حاولت جاهدة
خلال الثلاثين عاماً الماضية فتح الباب على مصراعيه للفلسطينيين كي يحصلوا
على الجنسية الكندية ترحب مجدداً باللاجئين الفلسطينيين [2] في إطار اتفاق سلام
في الشرق الأوسط. وقال وزير الخارجية الكندي جون مانلي في مقابلة مع صحيفة
(تورنتو ستار الكندية) يوم 10/1/2001م: «نحن مستعدون لاستقبال لاجئين
والمساهمة في إطار اتفاق سلام» . كما أشار إلى اتصالات تمت مع وزيرة
الخارجية الأمريكية ونظيريه الفلسطيني والإسرائيلي بهذا الصدد، وأن ذلك يندرج
في إطار خطة الرئيس الأمريكي كلينتون التي تضمن إقامة دولة فلسطينية على
أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق عودة
اللاجئين.
- ومشروع كلينتون يمسخ مسألة المطالبة بالأرض ويجعلها مساومة على
رقعة بسيطة لا تصل إلى ربع مساحة فلسطين الأصلية، أو بلغة الأرقام أقل من
20%، ونذكِّر أن اليهود لم يكونوا يملكون قبل عام 1947م إلا نحو 5. 66% من
مساحة فلسطين.
وحتى لا نتهم بأننا متطرفون ولا نحسن قراءة المقترحات؛ فإننا نحيلهم إلى
الكاتب الصحفي المعروف فهمي هويدي، ولا أظن أن أحداً يحسبه على التيار
الأصولي المتطرف!
لقد قرأ هويدي مقترحات كلينتون أكثر من عشر مرات [3] ، وبيَّن أن
المشروع يكافئ إسرائيل على احتلالها لفلسطين وتشريدها للاَّجئين، كما أنها لا
تمثل أي خطوة إيجابية باتجاه استرداد الحقوق الفلسطينية المهدرة ولو عند الحد
الأدنى، كما أنها لا تقدم أي حل عادل لأي عنصر من عناصر القضية، ناهيك عن
تغييبها لبعض العناصر الجوهرية ... إلخ. وذكر هويدي أن المقترحات الأمريكية
ما هي إلا صياغة جديدة لطروحات دولة اليهود الغاصبين، في القضايا الأربع التي
طرحت كلها. وقد تمثلت خلاصة رأي هويدي في أن (إسرائيل لا تعرف غير لغة
القوة، والذين يراهنون على غير ذلك لن يحصلوا منها إلا على قبض الريح) .
إن هذه المقترحات يراد لها أن تكون بمثابة إقفال ملف القضية تماماً ومفهوم
الحل النهائي وليس فترة انتقالية. كيف يمكن لمقترحات سخيفة أن تختصر التاريخ
وإقفال صراع من أعقد وأشرس الصراعات في التاريخ بجرة قلم أو توقيع من
بعض المجرمين والفساق المستهترين الذين لا يقيمون وزناً للأديان ولا الأوطان ولا
الشعوب؟ إنه لا حق للسلطة لا شرعاً ولا عقلاً ولا تاريخياً في التوقيع النهائي
والتنازل عن فلسطين، وليس لها صلاحية في ذلك مطلقاً.
الدور الأمريكي المنحاز خلال فترة كلينتون:
كم يغيظك قول بعض من لا خلاق لهم بأن أمريكا هي راعية السلام، وأنها
وسيط يسعى إلى إبرام اتفاقيات سلام محايدة. تسمع هذا وتقرؤه فيصيبك الغثيان.
الكل يعرف أن أي دولة في العالم يمكن أن تكون محايدة في قضية فلسطين إلا
أمريكا؛ فدورها غير منحاز إلا إلى دولة العدو اليهودي فقط.
ونحن في إطار حديثنا عن خطة كلينتون ينبغي لنا التذكير بالخلفية والأجواء
التي صدرت منها هذه الخطة الكلينتونية؛ فهي لم تأتِ من طرف محايد مطلقاً.
لسنا هنا في حال التباكي والحديث عن الدعم الأمريكي غير المحدود لدولة
العدو الصهيوني؛ فهذا أمر معتاد، وقد تعهدت الحكومات الأمريكية المتعاقبة به،
ولكن إدارة بيل كلينتون تحديداً (بفترتيها على امتداد ثماني سنوات) تجاوزت كل
ارتباطات الإدارات السابقة، ومن أهم أسباب ذلك هذا الجيش الهائل من الوزراء
والمسؤولين وأصحاب النفوذ في الإدارة الأمريكية. كان الزعم الأمريكي قديماً في
دعم دولة إسرائيل بحجة احتواء النفوذ الشيوعي، وضرب الراديكالية القومية،
واستمرار تدفق النفط الحيوي ... فما هي حجتهم الآن في التبني الكامل لدولة اليهود
واعتبار أمنها من أمن أمريكا؟
ومع هذا فقد دأب الأمريكان على الزعم بأن موقفهم من قضية فلسطين حيادي،
وقد أيدهم في ذلك كثير من المتواطئين أو المغفلين، سواء أكان ذلك في (مدريد)
و (أوسلو 1) و (أوسلو 2) و (كامب ديفيد 1) و (كامب ديفيد 2) و (واي
بلانتيشن) و (شرم الشيخ 1) إلخ ... وخلال ذلك وقبله وبعده لم تنقطع
المساعدات المالية بالمليارات والمعونات السنوية الثابتة والمساعدات العسكرية
والقروض غير المحدودة والهبات المتنوعة، فضلاً عن الدعم غير المباشر من
اليهود الأمريكان، ودعم الشركات والأفراد في ظل تفوق عسكري ونووي
واقتصادي يهودي في المنطقة.
كان البيت الأبيض في عهد كلينتون يموج بعشرات المسؤولين من اليهود
(64 مسؤولاً كبيراً) ، وزارة الخارجية تحشد عشرات السفراء اليهود في أهم
العواصم العالمية (أكثر من 23 سفيراً) ، فضلاً عن الرأس الأول في هذه الوزارة
(العجوز المتصابية) ، والموفد الأمريكي الرئيسي لعملية السلام في الشرق الأوسط
دينيس روس، ووزير الدفاع وليام كوهين، وطواقم من القادة العسكريين، روبرت
روبين (وزير الخزانة) ، فضلاً عن المتنفذين في عالم المال، بالإضافة إلى
(السي. آي. إي) التي يرأسها جورج تينت، ومجلس الأمن القومي (صموئيل
بيرغر) ، ومعظم المستشارين في مجلس الأمن القومي، وغيرهم وغيرهم في
الكونجرس والمجالس الرئيسية المختلفة [4] .
الإدارة الأمريكية في عهد كلينتون كانت الأجرأ في السعي الدؤوب لإنهاء
المقاطعة العربية ضد اليهود، وقد تدخلت في ذلك بصورة فاعلة وعلى أعلى
المستويات ومن ذلك إرسال كلينتون أحد وزرائه إلى القاهرة مطالباً الأمين العام
لجامعة الدول العربية بذلك.
أما الدور الأمريكي في الأحداث الأخيرة فقد كان تآمرياً بكل ما في الكلمة من
معنى؛ فرغم حوادث التقتيل اليومي للأبرياء والأطفال، ورغم هدم البيوت ورغم
إهلاك الحرث والنسل إلا أن رموز السلطة الأمريكية مثل أولبرايت يلقون باللائمة
على الأطفال وشباب الانتفاضة.. ويطالبون السلطة بإيقاف العنف أي القضاء على
انتفاضة الشعب الأعزل المخنوق. وحين بدرت بعض العمليات الشجاعة ضد
اليهود قامت قائمة أمريكا، فأرسل كلينتون مدير المخابرات الأمريكية (جورج
تنيت) في أوائل شهر يناير، وكأن الأمن القومي الأمريكي مهدد بالخطر. وفي
حين كانت القيادات الأمنية الفلسطينية تسرِّب أنه لا اتفاق مع اليهود مرفقة ذلك
ببعض كلمات الشجب والتنديد في القاهرة، فإن ذلك لم يمنع من مواصلة الحوار
والمفاوضات مع المسؤولين اليهود بحضور مدير المخابرات الأمريكية وتشكيل لجنة
سياسية أمنية عسكرية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي مهمته تهدئة
الأوضاع (! !) كما تم التنسيق لاستئناف تسيير الدوريات الأمنية المشتركة
حسبما ذكرت الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية [5] .
الموقف الإسرائيلي:
عرض الموقف الأمريكي يعتبر كافياً في بيان الموقف الإسرائيلي، وكما
صرح بعض زعماء إسرائيل قديماً عن وجود (كيسنجر) في المفاوضات مع
العرب بأن اليهود لن يحصلوا على أفضل مما سيتوصل إليه (كيسنجر) ، كذلك
الحال في المرحلة الحالية إن لم يكن بصورة أعمق وأشمل. فصانعو السياسة
الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم اليهودية الحاقدة (مادلين أولبرايت) والموفد
والمنسق الرئيسي هو (دينيس روس) اليهودي وغيرهم، فهما موقفان متطابقان.
ولا يمنع هذا أيضاً من وجود بعض التصريحات المتشددة لقادة إسرائيل؛ فإيهود
باراك يصرح للتلفزيون الإسرائيلي بأنه: «لن يوقع أي اتفاق سلام يمنح
الفلسطينيين السيادة على الحرم القدسي» ، وأضاف بأن «الحرم القدسي هو لب
الهوية الإسرائيلية» [6] .
وإزاء عدم القبول الفلسطيني مباشرة لمقترحات كلينتون اقترح (جلعاد شير)
اليهودي طرفاً ثالثاً لم يحدده (! !) للسيطرة على القدس تحت سيادته، وقد ذكر
بعض أعضاء الكنيست أن هذا الطرح غير جاد.
كما اقترح وزير الخارجية الإسرائيلي (شلومو بن عامي) خلال زيارته لبرلين
طرح أي مشروع سلام مع الفلسطينيين في استفتاء عام.
موافقة عرفات المشروطة!
أعلن عرفات قبوله المشروط لمقترحات كلينتون حسب طريقته المعهودة (نعم)
أي (لا) و (لا) أي (نعم) ، ولكن الحقيقة أن الشروط التي طلبها عرفات لم
تعلن ولم تعرف. فهل كان يناور بتصريحاته هذه خوفاً من ردة الفعل الشعبية؟ أم
ماذا؟ ربما كانت تلك التصريحات من باب إبداء بعض التحفظات لحفظ ماء الوجه
أو تجميل الموقف لا غير حتى إذا ما مرت العاصفة بهدوء تم لهم ما يريدون أو
بدقة أكثر ما يريده الأسياد. ولا ندري ما هي النقاط التي رأى فيها عرفات بادرة
إيجابية فقبل بها ثم تحفظ على الباقي؟ لعل من العجيب ما ذكره هويدي في مقاله
الآنف الذكر من أن أكثر من 60 وزير خارجية ومسؤولاً دولياً بارزاً اتصلوا
بعرفات هاتفياً قبل ذهابه إلى واشنطن لإقناعه بالموافقة وعدم تفويت (فرصة)
إحلال السلام في المنطقة! كما أن بعض المحيطين به لا يمانعون في القبول بأي
شيء.
استراتيجيات السلطة:
تُعوِّل سلطة عرفات في اتخاذ قراراتها وخططها كثيراً على الأمم المتحدة
والولايات المتحدة ودول المفوضية الأوروبية، وما يفرزه ذلك من خيارات سلمية
وقرارات دولية ومفاوضات كمدريد وأوسلو وكامب ديفيد وواي بلانتيشن.. إلخ،
ولا تستفيد هذه السلطة من التجارب. واعتراضنا هنا ليس على مبدأ المفاوضات؛
فهذا له حديث آخر، ولكن التعجب لا ينتهي من التعامل مع هذه الجهات بطريقة
مذلة ومخزية تضيِّع حقوق الفلسطينيين. فالولايات المتحدة لا تتعامل مع
الفلسطينيين شأنها كذلك في كل قضايا المسلمين كطرف مساوٍ أو ند، بل هي وكيل
عن الطرف اليهودي ومنحازة تماماً. بل إن بعض قيادات المنظمة يصرحون بذلك.
ومن جهة أخرى فإن الجميع يعلم أن قرارات الأمم المتحدة شكلية لا تعدو أن
تكون حبراً على ورق؛ فهل يمكن لعرفات أن يبين لنا ماذا فعلت الأمم المتحدة
خلال الأشهر الأربعة الماضية من عمر الانتفاضة تجاه جرائم اليهود في حوادث
القتل والتدمير اليومي المتعمد من طرف حكومة العدو وجيشه وقطعان مستوطنيه؟
هاتوا عملاً واحداً إيجابياً مؤثراً قامت به هذه المنظمة المقعدة؟ بل إن قراراتها
السخيفة حول لجنة تقصِّي الحقائق ماتت في المهد.
وحتى لا يقال إن هذا كلام للمتطرفين الأصوليين.. فهاكم ما قاله د. ميلاد
حنا، وهو أحد المثقفين النصارى في مصر؛ حيث يشدد على أن (الانتفاضة
الفلسطينية وما حدث في فلسطين أكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا وجود للأمم
المتحدة) [7] . وهذا نقل آخر عن شخصية أخرى معروفة بعلمانيتها ومحسوبة على
الصف المعادي للإسلاميين؛ حيث تؤكد أن منظمة الأمم المتحدة (أصبحت أداة في
يد قوى البطش الاستعماري العسكري والاقتصادي الجديد، ألم يعلق كوفي عنان
السكرتير العام للأمم المتحدة عن أن الأطفال الفلسطينيين هم الذين يعتدون على
الإسرائيليين) ؟ [8] .
ويعجب المراقب حقيقة من هذا الإصرار الفلسطيني على المفاوضات رغم
معرفته المسبقة بعدم الوصول إلى نتائج كعادة اليهود دائماً في عهودهم واتفاقاتهم
يؤكد ذلك النتائج السابقة للاتفاقيات المتعددة، ويؤكد ذلك الإصرار اليهودي على
تدمير كل شيء.
(باراك) قال في بعض تصريحاته: «إن قرار 242 لا ينطبق على الحالة
الفلسطينية؛ لأنه لم تكن هناك فلسطين» [9] ، وهذا ما يؤكده زعماء اليهود دائماً،
ومن شاء فليرجع إلى مذكرات القادة اليهود وتصريحاتهم ومنها وليس آخرها كتاب
(بنيامين نتنياهو) الذي نشره قبل بضع سنوات: (مكان تحت الشمس) [10] وهو
طافح بالحقد على العرب والمسلمين.
ألا يتذكر زعماء المنظمة كيف بدأت المفاوضات في مدريد؟ ولما هزم شامير
في الانتخابات قال: كنا نخطط لمفاوضات مدتها 10سنوات! !
الموقف الشعبي:
في ظل الانتفاضة الباسلة والرائعة من الشعب الفلسطيني يأبى عرفات كعادته
إلا أن يضيع ثمار الانتفاضة ويطعن الفلسطينيين بقبوله المذل للتنازل عن فلسطين
أو القدس.
إن ما يقوم به عرفات وسلطته يناقض موقف الشعب الواضح من العملية
التفاوضية المقيتة. قام مركز القدس للإعلام والاتصالJMCC بعمل استبيان
أظهرت نتائجه أن: أكثر من 70% من الفلسطينيين يؤيدون استمرار الانتفاضة،
وأكثر من 72% يؤيدون العمليات العسكرية ضد اليهود مؤيدي عملية أوسلو الذين
أصبحت نسبتهم لا تتجاوز 39% [11] ، فلِمَ التنازلات إذن؟
وأخيراً وليس آخراً:
سيظل زعماء المنظمة يسيرون في النفق المظلم ما داموا على منهجهم.
كيف يتم تجاهل الرأي العام الفلسطيني، بل العربي والإسلامي، على الأقل
في مثل هذه الظروف؟ فها هي المنظمة لم تتوقف عن مسيرتها ولو نفاقاً لتعبر عن
احترام دماء الأبرياء والشهداء وجنائز الشباب اليومية، ومجاملة عواطف الشعوب
الإسلامية الصادقة!
لقد سارع عرفات من بداية الانتفاضة إلى تلبية الدعوات الإسرائيلية
والأمريكية، فذهب إلى باريس لعقد مفاوضات واتفاقات رغم الظلم الصارخ الذي
يواجهه الشعب الأعزل في شوارع فلسطين. لقد كشفت الأحداث قبح ووحشية
المشروع الصهيوني وقادته من مجرمي الحرب الصقور أو المتنكرين بأقنعة الحمائم،
ورأينا بأعيننا فضح الكثير من الدعاوى والأوهام التي سعى البعض إلى تسويقها
بيننا طيلة السنوات الأخيرة وفي المقدمة منها دعاوى السلام واتفاقاته، والمراهنة
على هذه الفئة أو تلك في خرائط العدو. وفي حين يراهن زعماء السلطة على
المفاوضات والتنسيق مع إسرائيل نجد رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي (شاؤول
موفاز) رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي يصرح [12] : «بأن الجيش الإسرائيلي
يعيش حرباً بدأت بالفعل، وقد تستمر لمدة عام» ، وقد كرر هذا الكلام مرة أخرى
بعد أيام (31 أكتوبر 2000م) .
زعماء السلطة يحلمون بإقامة كيان هش يسمى دولة ولو على رقعة بسيطة من
فلسطين، والعدو يخطط لهم في الخفاء؛ فهذا باراك يقول في اجتماع سري
لأعضاء حكومته الأمنية المصغرة: «تعرفون جيداً؛ فقد عارض رابين بشدة إقامة
كيان عربي مستقل في أرض إسرائيل الغربية يقصد دولة فلسطينية تضم الضفة
والقطاع ورأى في ذلك كارثة قومية لـ (إسرائيل) . وتذكرون بلا شك أقواله التي
كررها مراراً وتكراراً، شفاهة وخطياً، وقد اقتبست منه قوله: (دولة فلسطينية
لن تقوم إلا على أنقاض إسرائيل) » [13] . وهي في الأصل عبارة وردت في
مذكرات رابين.
إذن لن يحصل الفلسطينيون في تداعيهم على الاجتماعات مع العدو وتحت أي
مسمى على أي نتيجة مأمولة لأن العدو قد صاغ السلام بمقاسات محددة تلغي كيان
الدولة الفلسطينية حتى إن أعلنت؛ لأنها ستكون ممزقة أشلاءاً فضلاً عن كونها
تحت رحمة العدو بإقفال المعابر الدولية وخنق الاقتصاد والتحكم في الوصول للدولة
براً وجواً. إذن الخيار الوحيد مع العدو هو المقاومة بالجهاد الذاتي أو ما يحلو
لبعضهم تسميته بالانتفاضة؛ فإنها على محدودية آثارها لها تأثير كبير على العدو
عسكرياً واقتصادياً ونفسياً.
وما ضاع حق وراءه مطالب لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار الوعد الإلهي
بنصر المؤمنين وهزيمة اليهود، يوم نكون حقاً مسلمين؛ حينها سينادى الحجر
قائلاً: «يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» [14] .
والله المستعان.
__________
(1) وكالات الأنباء العالمية 24/1/2000م.
(2) وكالات الأنباء 11/1/2001م.
(3) صحيفة الشرق الأوسط عدد 8077 بتاريخ 13/10/1421هـ.
(4) جريدة الرياض (العدد 11825) .
(5) الوكالات 10/1/2000م.
(6) بي بي سي 29/12/2000م.
(7) صحيفة الأهرام 6/1/2001 م.
(8) صحيفة الأهرام 6/1/2001 م.
(9) موقع قناة الجزيرة على الإنترنت - برنامج أكثر من رأي، يوم 8/1/2001م.
(10) كتاب (مكان تحت الشمس) له أكثر من ترجمة بالعربية، وقد طبع بمسميات أخرى.
(11) موقع إسلام أون لاين على الإنترنت - بتاريخ 11/1/2001م.
(12) في (28 رجب 1421هـ 25 أكتوبر 2000م) .
(13) مقال لفهمي هويدي في صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ 9/1/2001م.
(14) أخرجه البخاري، رقم 2926، مسلم، رقم 2922، مختصراً.(160/118)
المسلمون والعالم
عصر اكتشاف الشمال الإفريقي!
خالد حسن [*]
تشير آخر التقارير الأمنية الأمريكية ودوائر الاستخبارات والرصد اليهودية
أن ثمة ترتيبات وتحضيرات على مستويات رفيعة في طور الإنجاز تمهيداً لإسناد
أدوار حيوية لدول المغرب العربي (الجزائر على وجه الخصوص) في سياق
التغييرات «الجيوسياسية» التي قد تشهدها منطقة الشمال الإفريقي.
صناعة الهلع:
كشف أحد هذه التقارير التي تعكس إلى حد ما وجهة نظر الخارجية الأمريكية
قلقَ إدارة البيت الأبيض إزاء المخاطر المحتملة من الأوضاع الداخلية لدول منطقة
المغرب العربي، ووفقاً لهذا التقرير فإن الحركات الإسلامية في هذا الإقليم تشكل
الطرف الأخطر على ما يسميه التقرير بمسيرة الاندماج السياسي بين البلدان
المغربية والغرب و «إسرائيل» ، وقد تعزز هذا الهاجس لدى الخارجية الأمريكية
بعد رفع الحظر عن الشيخ عبد السلام ياسين المرشد العام لجماعة العدل والإحسان
المغربية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى «الانفراج» الصوري في مجال
الحريات الذي ظل ورقة في يد النظام التونسي، يُلوِّح بها كَبالُون اختبار أو من
قَبيل التمويه الداخلي والاستهلاك الخارجي متى تعرض لضغوط خارجية أو وافق
مصالح سياسية واقتصادية داخلية، وإن كان الحديث عن انفراج جريء وعميق في
تونس في الوقت الحالي سابقاً لأوانه في ظل القبضة البوليسية للنظام الحالي.
في حين تكونت لدى مستشارين ودبلوماسيين أمريكان سابقين في الجزائر
ممن اطَّلعوا على الملف الإسلامي عن كثب قناعة راسخة بأن وصول الإسلاميين
إلى سدة الحكم أو على الأقل استرجاع التيار الإسلامي لقدراته وإمكاناته التعبوية،
وبسط نفوذه على الشارع السياسي في الفترة الراهنة ضرب من التخمين والوهم؛
خاصة بعدما أحكم النظام قبضته على كافة المؤسسات وساحات التأثير.
والمتابع لهذه التقارير يلحظ دون سابق عناء مدى التناقض أو بالأحرى
الازدواجية في التعامل مع البيئة المحلية لدول منطقة المغرب العربي بما يوافق
مفردات آلية التعامل الأمني الأمريكي مع الدول التي يراد لها أن تنجز دوراً أو
أدواراً إقليمية (وهذا من خلال لغة التقرير وسياقه) وفق حسابات تمليها الخريطة
«الجيوسياسية» الحالية، وبما يوافق الطبيعة المصلحية البراغماتية للاستراتيجية
الأمريكية والقائمة في بعض جوانبها على الإيهام بتنامي خطر محلي لا يهدد أمن
واستقرار حدود البلد الواحد بل المنطقة بأكملها. ولأن صنَّاع القرار في المنطقة
ذوو تشكيلة عسكرية مخابراتية؛ فإن دوائر الرصد الأمريكي الصهيوني ولاستيعابها
إلى حد ما لتركيبة الرؤوس والحواشي عمدت إلى شحنهم بسيل من المخاطر
والتهديدات، واختارت نبرة التصعيد الأمني، وطبعاً فإن «الأصولية الإسلامية»
تتصدر لائحة التهديد المحلي والإقليمي والدولي أو هكذا يصور الأمريكان الوضع
لطبقة صنَّاع القرار في المنطقة، ولهذا جاءت توصية شعبة «مكافحة الإرهاب»
في وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية التقرير: «إن الإسلام السياسي في
المغرب العربي والصحوة الإسلامية ينبئان بوقوع تغيرات غير محسوبة في موازين
النظم الحاكمة للإقليم.. وإن رفع الحظر السياسي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ
(الجزائرية) ، وحركة العدل والإحسان (المغربية) ، وحركة النهضة (التونسية)
سيفضي إلى أسلمة جمهور الناخبين بشكل خاطف وساحق في أي انتخابات قادمة» .
التطبيع ... مسارات وممرات:
هل دوائر صنع القرار الأمريكي بحاجة فعلاً إلى إغراء أنظمة الحكم في
المنطقة وإغوائها لتأمين علاقات «متميزة» مع الكيان الصهيوني، وتمرير
مشروع التطبيع دون تنغيص أو تفجير داخلي؟ أم أن الأمر قد يستتب من خلال
تطعيم مخاطر المصالحة الداخلية، وتسكين مخاوف التطبيع مع «إسرائيل» عبر
مقترحات أمريكية الصنع، وتجارب ردع صهيونية قابلة للتصدير والاستهلاك؟
يبدو أن السياسة الأمريكية تجاه مستقبل منطقة المغرب العربي ذات مسارات
وممرات متداخلة يساند بعضها بعضاً؛ فهي من جهة تتعاطى مع الفرضية
«الإسرائيلية» القائمة على أن مستقبل العلاقات بين «إسرائيل» ودول المغرب
العربي مهما بلغت من تطور ستكون عرضة للانهيار المفاجئ وذلك لقدرة التيارات
الإسلامية في هذه المنطقة على حشد جبهة اجتماعية مناوئة «للإسرائيليين» على
قاعدة خطاب إسلامي مناهض وصامد تتعاطى مع هذه الفرضية بنوع من «احتواء»
الساحة و «امتصاص» الغضب الجماهيري تجاه أي شكل من أشكال التطبيع؛
وذلك عبر تشغيل آلاف الشباب المغاربة في أسواق استثمارات إقليمية ودولية،
وهنا قد ترعى شركات الاستثمار الأمريكي مشاريع أو تمولها، كما لم تتوانَ دوائر
الرصد الأمريكي عن تشغيل خط التعاون مع حكومات المغرب العربي و «تسخينه»
ضد لائحة «المتهمين أو المشتبه فيهم» ، ويعرض التقرير الأمني الأمريكي في
هذا الصدد اقتراح هدم وتقويض ما أطلق عليه بـ «مجتمع الأحزاب الأصولية» ؛
مع التحذير من استعمال مزيد من القمع ضد الإسلاميين؛ لأن من شأن ذلك أن:
«يوسع من خريطة التعاطف الشعبي معهم» .
ومن جهة أخرى تتحرك الآلية الأمريكية في إطار سياسة تعدد المسارات
والممرات لتسهم بأساليبها الخاصة في عملية تدارك الوضع الداخلي للإسلاميين
للتخفيف من حدة التيار المناوئ والمناهض، أو على الأقل تحقيق نوع من التوازن
داخل صفوف الإسلاميين؛ وذلك باستمالة قيادات «معتدلة» وتحييد التيارات
الوطنية التي قد تغلِّب جانب التحالف مع الإسلاميين على علاقات ائتلافية مع
السلطة القائمة ودعم القوى والاتجاهات التحررية الموالية للغرب. وعلى مسار
آخر تجري مفاوضات غير معلنة مع حكومات تونس والجزائر والمغرب لإقامة
منظومة اقتصادية «ضخمة» في منطقتي شمال إفريقيا وما يسمى بالشرق الأوسط،
ولسنا في حاجة لتأكيد أن هذا التنوع والتعدد في المسارات والممرات يخدم في
نهاية المطاف مشروع تسوية الأرضية لبسط نفوذ الولايات المتحدة في منطقة
المغرب العربي.. ويتجاوز في أبعاده ومراميه حسابات جماعات المصالح
والمتنفذين في حكومات المنطقة.
وبما أن منطق المصالح المتبادلة يقتضي المقايضة؛ فإن واشنطن تسعى
لتوظيف تردِّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي لدول المنطقة (وخاصة الجزائر)
إلى أقصى حد بإقحام عرض «المساعدة الإسرائيلية» في المعادلة الراهنة، وقد
جرى فعلاً تبادل زيارات وفود من مختلف المستويات سرِّياً بين الجزائر والكيان
الصهيوني. هذا ويلاحظ أن تيار تسريع وتحريك ملف التطبيع مع «الكيان
الصهيوني» يتعزز ويتنامى يوماً بعد يوم على مستوى الحكومات المغاربية،
وسواء «نجحت» مفاوضات «السلام» أم تعثرت فإن مطالب هذا التيار لا تهتز
ولا تفقد منطق فرضها في نظرهم فإذا ما أبرم أي اتفاق في الشرق الأوسط؛ فليس
المغاربة أحرص من غيرهم على المفاصلة، بل المطلوب البدار من الآن تحسباً
لأي جنيٍ للمكاسب والاستحقاقات في غياب دول المنطقة، وفي حالة عدم نجاحها
فليس المغاربة ملزمين بمسار المشارقة، ولهذا يحرص تيار التطبيع على إحباط
احتمالات العدوى وفك الارتباط من الآن.
مخازن جديدة رهن الاقتصاد الأمريكي:
فكرة توسيع الرقعة «الجيوسياسية» لـ «اتحاد المغرب العربي» مثارة
ومطروحة منذ فترة؛ ففي تصريح لروبرت بللترو مساعد وزير الخارجية الأمريكي
السابق خلال محاورته لوزير الخارجية الجزائري الأسبق ما يرسخ هذا التوجه؛ إذ
جاء فيه: «.. إن انضمام مصر إلى الإقليم المغاربي سيشكل وحدة أمنية فعالة
لمكافحة الجماعات الإسلامية على أساس أن مصر ودول المنطقة تتقاسم خطر هذه
الجماعات» ، وقد نتفهم قصر بللترو للمسوغات في البعد الأمني، وهذا كما يبدو
جاء إشباعاً لنهم الدوائر النافذة في الحكم الجزائري، ثم إن السياسة الخارجية
الأمريكية براغماتية نفعية من طراز «رفيع» ، وذات بُعد «خدماتي» إسعافي
في المبتدأ، لتتحول إلى «مصاص» للطاقة والمقدرات في المنتهى، لكن يأبى
سياسيونا أن يتجاوزوا مرحلة الإشباع إلى عهد تتسع فيه الرؤية والأفق، أو هكذا
أريد لهم أن يفكروا، ولعله شرط مسبق في اختيارهم وترشيحهم، في حين أن
الخطة الأمريكية المعروضة والمطروحة للمداولة والنظر أبعد من الحيز الأمني
(الهاجس المصطنع الأوحد لأنظمة المنطقة) وتتعداه إلى تبعات ومآلات أخرى وفي
طليعتها: «الحدُّ من الدور المصري في الشرق الأوسط في ضوء ما تتوهمه أو
تعتقده واشنطن من خروقات هذا الدور لشروط التسوية مع الكيان الصهيوني» ،
وكذا ترتيب وضع سياسي جديد في الخرطوم، والعمل على استفراد «إسرائيل»
باستحقاقات القوى الإقليمية المهيمنة، ومن شأن إبعاد مصر عن الشرق تعزيز هذا
«التفرد» .
كما أن العامل الاقتصادي حاضر بقوة في خطة واشنطن لتهيئة الأرضية
لإقامة «اتحاد شمال إفريقي» وذلك بإيجاد مواقع ومواطن لرؤوس الأموال
الأمريكية عبر عدد من الاستثمارات، وعن طريق إغراق دول المنطقة بمديونية
خارجية مثقلة تفوق ما لديها من موارد، وشراء اقتصاديات المغرب العربي بثمن
بخس. وقد مهد لحركة تدفق «رؤوس الأموال الأمريكية» عبر هندسة «التطبيع
المغاربي الأمريكي» على شكل مشاريع استثمارية في المنطقة نشاطُ الثلاثي:
روبرت بللترو، ومارتن أنديك، وإدوارد ووتر من خلال زيارات متوالية
ولقاءات مطولة مع ممثلي الحكومات المغاربية.
الجزائر تلتحق بالركب:
التقديرات الأمريكية لعام 2025م تجعل الجزائر أحد أهم الموارد في ميدان
المحروقات بمخزون غازي استراتيجي يفوق 5000 مليار متر مكعب، ومخزون
نفطي يتراوح ما بين 12 و15 مليار برميل، وإذا أضفنا إلى هذه التقديرات
«المغرية» التكلفة الزهيدة للاستكشاف والاستغلال؛ حيث لا تتجاوز 60 سنتاً لكل
برميل نفط، مقابل ما بين دولارين إلى ثلاثة دولارات لنفط بحر القزوين، أمكننا
تفهم التوجهات الأمريكية «الجديدة» حيال الجزائر في سياق اللهث وراء تنويع
مصادر تموين الطاقة، وما واكبها من تعزيز للحضور الأمريكي «المتنامي» منذ
قرارات 1991م التي سمحت بإدخال صيغ «تقسيم الإنتاج» ، وتقدر نسبة تغلغل
واستحواذ الشركات الأمريكية إلى غاية نهاية 1999م بحوالي 30% من الإنتاج
النفطي الذي يستخرج من الجزائر.
وفي الوقت الذي تبنت فيه الشركات الأوروبية سياسة التردد والإحجام، كانت
الشركات الأمريكية مثل: أناداركو، أركو، فيليبس، وبدرجة أقل شل وموبيل
سباقة في إمضاء العقود واقتحام السوق الجزائرية، مما مكنها من تحقيق أرباح
معتبرة قدرت عام 1999م بحوالي500 مليون دولار (للشركات الأمريكية مجتمعة)
وما يقارب من 100 مليون دولار لأناداكو التي تعد من أنشط الشركات الأجنبية
بالجزائر، ويتوقع أن تصل قدرتها الإنتاجية إلى 300 ألف برميل يومياً، وهو رقم
مقدر بالنسبة لشركة «صغيرة» الحجم في الولايات المتحدة مقارنة بتكساكو
وموبيل وشل.
ومع ارتفاع القدرة الاستهلاكية بشكل ملحوظ وهو 20مليون برميل يومياً في
السنة الجارية إثر ارتفاع في نسبة نمو الاقتصاد الأمريكي، ازدادت احتياجات
أمريكا من النفط، وبذلك نما التوجه نحو توسيع نطاق استثماراتها خارج منطقتها
التقليدية (الخليج) والتحرك للوقاية من صدمات تقلبات أسعار النفط.
أوروبا ... الحاضر الغائب:
تبدو سياسة واشنطن موجهة أو على الأقل مستهدفة لتقويض أوروبا
ومشاريعها الاستثمارية والسياسية في المنطقة المغاربية، وهو ما حفز تحرك الآلية
الأوروبية مؤخراً لمحاولة ضم تونس والمغرب والجزائر إلى ما يعرف بـ
«ميثاق مسار برشلونة» لتحقيق نوع من التوازن إن لم يكن محاولة استدراكية
لاسترجاع «حقها» الحيوي ضمن مشروع «المتوسطية» أو حوض المتوسط،
وفي هذا الصدد صرح باتريك مسؤول منطقة المغرب العربي في اللجنة الأوروبية
بأن: «المفهوم السياسي لمسار برشلونة هو إنشاء منطقة الضفة الجنوبية للمتوسط» ، ومن شأن هذا الميثاق للأمن والاستقرار أن يعزز الحضور الأوروبي من خلال
منح أوروبا حق التدخل في قرارات السياسة الداخلية المغاربية وخاصة في قطاعات
الأمن والتعليم والثقافة ووسائل الاتصال تحت «غطاء نسيج متوسطي واحد» ،
ويضفي شرعية جيوسياسية على مشروع إلحاق الكيان الصهيوني بعلاقات وتطبيع
كامل مع المغاربة باعتبار أن «تل أبيب» جزء من الشريط الجنوبي لمياه
الحوض المتوسط، ومن ثم دمج المغرب العربي بما يعرف بالنظام الشرق
الأوسطي الذي يبقى خياراً استراتيجياً بالنسبة للغرب يراد صياغته والتمكين له.
وطبقاً لمصادر اقتصادية في المنطقة فإن أوروبا أصبحت تقايض حكومات
المغرب العربي بتلقي قروض ومساعدات مالية ووعود باستثمارات مقابل تكاليف
سياسية وأمنية ثقيلة.
__________
(*) كاتب جزائري مقيم في أمريكا، مدير تحرير مجلة الصراط المستقيم سابقاً.(160/125)
المسلمون والعالم
تونس الحديثة وصراع الهوية
د. عمر النمري [*]
لقد توطد النسب الإسلامي لتونس وارتسمت هويتها الإسلامية منذ أربعة عشر
قرناً عندما طرقها الفتح الإسلامي الأول سنة 30 للهجرة، ولن ترضى تونس ولا
شعب تونس بغير الإسلام ديناً والعربية لغة مهما اجتهد اليساريون في طمس هويتها
وإلحاقها بركب الغرب المسيحي أو البحث والتنقيب عن أصولها الوثنية والمسيحية
في العصور الغابرة، ولكم عانى الشعب التونسي منذ نشأة الدولة التونسية الحديثة
من ويلات جرَّاء هذه الروح الشعوبية الجديدة التي حملها بورقيبة والجيل الذي
تربى على يديه خلال عدة عقود حتى جاز لنا أن نكتب فيما يطلق عليه: «صراع
الهوية في تونس» .
نشأة الدولة التونسية الحديثة:
«لَوْ ولد بورقيبة في فرنسا لكان حاكماً لإحدى المحافظات الجنوبية» [1] .
من يا ترى صاحب هذه المقولة؟ إنها شهادة حية من رجل فرنسا الأول في عهده؛
إنه الرئيس الفرنسي ديجول، شهادة حية على مدى رضى فرنسا عن بورقيبة،
وهي تعبير صارخ على مدى النجاح الذي حققته فرنسا في إعداد رجل تونس الأول،
وعلى مدى استعدادها لتمكينه من حكم بلده مقابل الحفاظ على مصالح فرنسا
الثقافية في تونس. ولقد عبَّر بورقيبة عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة؛ حيث
قال في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية: «إني مدين إلى فرنسا بكل
شيء، وأساتذتي الفرنسيون هم الذين يرجع إليهم الفضل فيما بلَغْته، وتعليمهم هو
الذي نهلت منه، وهو الذي أمدني بالسلاح الذي اعتمدته في السبيل التي اخترتها
لنفسي وفي الطريق التي سلكتها منذ شبابي» . وقال في مقابلة أخرى له مع
صحيفة لوفيجارو (الفرنسية) : «لقد كافحت لأمتع بلادي بالحرية والكرامة؛ لكن
حبي لفرنسا ووفائي لها لن ينقطع أبداً؛ وكنت أكافح باسم الثقافة التي تلقيتها
وبوحي من الأفكار الفرنسية، ومعلميَّ وأساتذتي الفرنسيين هم الذين صنعوني ...
إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله،
متضامنون بصورة أخص مع فرنسا وتدعيم الروابط معها؛ وبصورة أخص في
ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكفونية تولدت هنا» [2] وهكذا فإن
هوية تونس الثقافية كما يراها زعيمها الأول تجد امتدادها في الثقافة العلمانية
الفرنسية، وهو ما سيجد القارئ الكريم دليله واضحاً في الحرب التي شنَّها بورقيبة
وخلَفُه على هوية تونس الإسلامية والعربية، وهو ما ولَّد صراعاً دائماً بين صنائع
فرنسا وأتباع الثقافة الغربية من عناصر الحزب الحاكم وأحلافه من اللائكيين
(العلمانيين) والفرنكفونيين، وبين أصحاب التوجه العروبي الإسلامي ممثلاً في
قدامى خريجي الزيتونة وأصحاب التيار الإسلامي على وجه الخصوص. فما هي
أبعاد هذا الصراع؟ ومن هم أطرافه؟ وما هي النتائج القريبة المترتبة على هذا
الصراع؟ وما هي يا ترى الآفاق المستقبلية لصراع الهوية بتونس؟ وإلى أين يتجه
مسار هذا الصراع؟
أبعاد صراع الهوية في تونس:
لقد طالت الحرب التي شنها بورقيبة على الهوية الإسلامية لتونس جميع
النواحي القضائية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والسياسية في المجتمع التونسي؛
وساعده في ذلك كل ما تخوله له سلطته الدستورية من سَنِّ القوانين وإصدار
المراسيم والتوجيهات مستفيداً من الآلة الإعلامية الرهيبة للدولة الناشئة، فاستطاع
بذلك أن يحقق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه خلال مدة استعمارها للبلاد التونسية،
وكان من أبرز ملامح هذه الحرب ما يلي:
1 - إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي اشتملت فيما اشتملت على تحريم
تعدد الزوجات ومعاقبة من خالف ذلك بالسجن. وقد أصدر بورقيبة هذا القانون
متذرعاً بحرصه على تحرير المرأة التونسية وردِّ الحقوق إليها وإنصافها من جور
الرجل وظلمه؛ إذ «إن تعدد الزوجات يسيء إلى كرامة المرأة وعنفوانها، ويجعل
منها ذليلة لا تهدف إلا إلى إرضاء زوجها خوفاً أن يتحول عنها إلى امرأة
أخرى» [3] على حد زعمه. فهل مَنْعُ تعدد الزوجات على ما فيه من مخالفة
صريحة للشريعة الإسلامية يهدف إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأسرة التونسية،
أم أن له دلالات أخرى؟ يجيب عن هذا السؤال بوضوح د. محمود الذوادي
بقوله: «فالتشريع الجديد يشير إلى مجلة الأحوال الشخصية يشير بالبنان إلى
انجذاب القيادة البورقيبية إلى روح القوانين الغربية من ناحية، وعدم مصالحتها
على الأقل مع روح الفقه الإسلامي التقليدي غير الاجتهادي من ناحية أخرى،
ومن ثم فإصدار قانون منع تعدد الزوجات لا ينبغي أن يفهم على أن تحرير
المرأة التونسية هو الهدف الأول والأخير منه، بل يجوز الافتراض بأن القصد
الرمزي لهذا التشريع يتجاوز ذلك؛ فيمكن النظر إلى هذا التشريع على أنه يمثل
محاولة تقريب تشريعات المجتمع التونسي من تشريعات المجتمعات الغربية من
جهة، وإبعادها قدر المستطاع عبر الرموز التشريعية عن الانتماء الإسلامي من
جهة أخرى» [4] وهكذا فتشريع منع تعدد الزوجات فيه أكثر من رمز، وبالتعبير
السوسيولوجي: هناك رمز ظاهر، ورمز خفي. فالظاهر يرمز إلى الرفع من
مكانة المرأة الاجتماعية، والرمز الخفي يتمثل في إدانة الدين الإسلامي الذي يتخذ
موقفاً مختلفاً عن الغرب بخصوص مسألة إباحة تعدد الزوجات « [5] ويعلق على
ذلك الشيخ محمد الهادي الزمزمي بقوله:» إن تذرع بورقيبة في إصداره هذا
القانون بحرصه على تحرير المرأة وضمان حقوقها مثلما يدعي ذريعة كاذبة؛ فلم
تكن هذه المجلة إلا نكبة على المرأة خاصة وعلى الأسرة التونسية عامة. والحق
أن هناك مقاصد متعددة من وضع هذه المجلة:
* مصادمة الشرع الإسلامي بتقرير نصوص قانونية مخالفة للشريعة.
* التبجح بحقيقة مساواة المرأة بالرجل بما يوهم وقوع حيف من الإسلام عليها.
* الطعن في صلاحية الشرع الإسلامي للحكم بما يسوِّغ استبعاده والتخلص
منه.
* إخضاع الأسرة التونسية تدريجياً للقانون الوضعي لئلا يبقى للشريعة نفوذ
في المجتمع التونسي لا على الأفراد ولا على الجماعة.
* إعادة صوغ الأسرة التونسية ومن ثم المجتمع التونسي على النمط الغربي.
* ضرب الهوية الإسلامية للمجتمع والأسرة التونسية.
*إظهار الإسلام بمظهر ظالم للمرأة [6] .
2 - إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء بموجب القرار المؤرخ في 25
سبتمبر 1956م ونشره بالجريدة الرسمية للجمهورية التونسية عدد 77، وبذلك
يكون بورقيبة قد نجح في تحقيق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه بإلغائه للقضاء
الشرعي واستبداله بقضاء وضعي مدني.
3 - خطاب بورقيبة الشهير الذي ألقاه في مؤتمر المدرسين والمربين بمناسبة
الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي المنعقد في مارس 1974م،
والذي نال فيه من شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واتهم فيه القرآن
بالتناقض، ودعا فيه إلى تسوية الرجل بالمرأة في الميراث، وادعى لنفسه فيه حق
تبديل أحكام الله وتطويرها بحسب تطور المجتمع وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة
باعتباره من حق الحكام بوصفهم أمراء المسلمين على حد زعمه؛ مما أثار عليه
حملة واسعة النطاق من علماء المسلمين في العالم العربي والإسلامي حكمت بكفره
وردته، وطالبته بإعلان التوبة أو تكذيب ما نسب إليه في وسائل الإعلام العامة،
ولكن بورقيبة لم يعبأ بهذه النداءات ورمى بها عُرض الحائط. وسِجِلُّ بورقيبة
حافل بحربه الشعواء على الإسلام وأهله وتعديه على شعائر الإسلام ومظاهره العامة
واستفزاز مشاعر المسلمين والنيل من الهوية الإسلامية لتونس منذ أن أعلن صراحة
أن الإفطار في رمضان من مقتضيات التنمية وزيادة الإنتاج القومي، ومنذ أن حظر
لبس الحجاب وارتداء اللباس الشرعي على التلميذات في المعاهد والثانويات
والجامعة وعلى الحرائر من النساء في الإدارة العمومية؛ حيث اعتبر الزي
الإسلامي زياً طائفياً منافياً لروح العصر وسنَّة التطور السليم. كما اعتبر سُنَّة
إرسال اللحى مظهراً من مظاهر التخلف الذي لا يليق بمظهر المواطن التونسي كما
يريده محرر تونس وزعيمها الأوحد. كما اختار بورقيبة منذ فجر الاستقلال يوم
الأحد يوم العطلة الأسبوعية في الدوائر الحكومية؛ بينما اعتبر يوم الجمعة يوم
عمل حتى الواحدة ظهراً، وقد شاع لدى شعوب العالم ارتباط يوم عطلة آخر
الأسبوع بهوية هذه الشعوب الثقافية والدينية؛ فيوم السبت يوم عطلة لليهود، ويوم
الأحد يوم عطلة للمسيحيين يمارسون فيه طقوسهم الدينية ويؤمُّون فيه الكنائس ودور
العبادة؛ وكأنما أراد بورقيبة بذلك محق الهوية الإسلامية لتونس وبث روح الانتماء
إلى المجتمع الغربي النصراني.
ولقد تعددت مظاهر التعدي على الهوية الإسلامية في تونس في العهد
البورقيبي بما لا يمكن حصره في مقال مثل هذا، والسؤال الجوهري الآن هو:
هل اقتصر الأمر على شخص بورقيبة وعهده البائد، أم أن الأمر تعداه إلى غيره
من رجالات تونس وأصحاب القرار فيها؟
محاربة الهوية الإسلامية بعد بورقيبة:
والحقيقة أن بورقيبة استطاع أن يربي جيلا كاملاً من حَمَلة الفكر العلماني
(اللائكي) وبوَّأهم من تونس مكاناً علياً؛ فلقد ازدادت الحرب على الهوية الإسلامية
لتونس ضراوة في العهد الجديد، وتعدد رموزها، وتنوعت أشكالها بتحالف التيار
الماركسي مع رموز الحزب البورقيبي الحاكم في مواجهة التيار الإسلامي الصاعد
ممثلاً في حركة النهضة التونسية. ومن ملامح هذه الحرب المستعرة ما يلي:
1 - في المجال التعليمي والتربوي: بادر بورقيبة منذ أيام الاستقلال الأولى
إلى غلق جامع الزيتونة بوصفه مؤسسة تربوية عريقة؛ حيث أغلقت المدارس
الثانوية التابعة للزيتونة بأنواعها منذ منتصف الستينيات، وتحولت الجامعة
الزيتونية العريقة إلى كلية تابعة لجامعة تونس الحديثة، كما أرسى بورقيبة سياسة
التمييز الثقافي بتهميشه لأصحاب التكوين الثقافي العربي والإسلامي من خريجي
الزيتونة والجامعات الإسلامية في المشرق العربي وإقصائهم من الوظائف الكبرى
في الدولة، ولقد استمرت سياسة الإقصاء هذه في العهد الجديد بحدة أكثر؛ حيث تم
تسريح كل من يُشَكُّ في تدينه من الوظيفة العمومية في المواقع الحساسة في الدولة،
وشُكِّلت للكثير منهم محاكم وهمية، وزج بالكثير منهم في غياهب السجون، وتم
العمل بقانون (108) سيئ الذكر، فطرد بمقتضاه العديد من الموظفات من
الوظيفة العمومية، ومنعت الفتيات من الالتحاق بالمدارس والمعاهد والجامعات
لارتدائهن للباس الشرعي، بل حُرِمَ بعضهن من الاستشفاء في المستشفيات العامة
لتمسكهن برداء الحشمة والحياء، كما تم إجراء تعديلات عديدة على منهج التربية
الإسلامية، وتم إقصاء العديد من المدرسين من مواقع التأثير والتربية.
2 - في المجال الثقافي والإعلامي: وقد تميز العهد الجديد في حربه على
الهوية الإسلامية لتونس بالتمكين في المجال الثقافي لعناصر التيار الماركسي
الإباحي مما شاع معه إنتاج وعرض أفلام خليعة لا تمت إلى الحياء بصلة مثل فيلم:
«عصفور فوق السطح» الذي عرضت فيه أجساد النساء عاريات بلا حياء،
وعرض فيه مؤدب القرآن الكريم في مشهد يدعو إلى السخرية والاستهزاء، إلى
غير ذلك من الأفلام الخليعة المحلية والمستوردة فضلاً عما تزخر به القناة التلفزية
من صنوف الرقص الغربي بأنواعه وتشكيلاته المختلفة.
3 - في المجال السياسي: على الرغم من أن الدستور التونسي حدد في أول
بنوده هوية تونس الإسلامية العربية بقوله: «تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام
ولغتها العربية» أي أنه حدد انتماء تونس إلى العروبة والإسلام لا كما أراد لها
بورقيبة أن تكون في مصاف الدول الغربية العلمانية متنكبة لدينها الإسلامي وأصلها
العربي. ولقد درج الحزب الحاكم في عهد بورقيبة كما في عهد الرئيس الحالي
(بن علي) على تجريد تونس من هويتها الإسلامية، ومن دلالات ذلك في المجال
السياسي في العهد الجديد ما ورد في وثيقتيْ: قانون تنظيم الأحزاب السياسية
الصادر في 3 مايو 1988م وخطة تجفيف المنابع؛ فقد جاء في الفصل الثالث من
القانون المذكور: «لا يجوز لأي حزب سياسي أن يستند أساساً في مستوى مبادئه
أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة» [7] ،
فقطع بذلك الطريق على أصحاب التوجه العروبي والإسلامي في تونس من أن
يكون لهم دور في بناء مستقبل تونس السياسي أو حتى المساهمة في الحياة السياسية
بوجه عام بتحريمه الاستناد إلى الدين واللغة على مستوى المبادئ أو الأهداف أو
البرامج أو الأنشطة بينما فتح الباب واسعاً لأصحاب الأفكار اللائكية (العلمانية)
والبرامج المستوردة من الشرق الشيوعي والغرب النصراني من الشيوعيين
واللادينيين مما مهد لولادة تحالف قوي بين الحزب الحاكم والعناصر الشيوعية
المنبثة في مؤسسات الحزب وهيئاته العليا.
أما عن خطة تجفيف المنابع:
فحدث ولا حرج؛ فقد تكونت هذه الخطة من شقين: يتجه شقها الأول إلى
استئصال الإسلاميين باعتبارهم رأس الحربة، فيما يتجه الشق الثاني إلى تجفيف
منابع الدين باعتباره الرافد الأساسي لبروز أي حزب سياسي ذي توجه إسلامي في
المستقبل القريب أو البعيد؛ ولسان حالهم يقول: «إن جعل الدين برنامجاً سياسياً
لأحد الأحزاب يؤدي بالضرورة في حال نجاح هذا الحزب إلى تطبيق تعاليم الدين
بحذافيرها» [8] فهم عندما يمنعون قيام حزب سياسي على أساس ديني فإنما
يستهدفون تعطيل تطبيق تعاليم الدين؛ لأن نجاح هذا الحزب سيؤدي إلى تطبيق
تعاليم الدين بحذافيرها على حد قولهم.
وهكذا يتضح من هذا العرض المختصر أخطار هذه الحرب المستعرة على
هوية تونس الثقافية منذ فجر الاستقلال وحتى يوم الناس هذا، منذ أن أشعل
بورقيبة فتيلها والحرب مستمرة بلا هوادة وطرفاها: أقلية فرنكفونية علمانية متنفذة
تمسك بزمام السلطة ومقدرات الدولة تعضدها العناصر الماركسية اللادينية المتحالفة
معها من جهة، والشعب التونسي العربي المسلم ممثلاً في قدامى خريجي الزيتونة
وخريجي الجامعات الإسلامية بالمشرق العربي من أصحاب التوجه الوطني العروبي
الإسلامي تعضدهم ثلة من شباب الصحوة الإسلامية المباركة في تونس من جهة
أخرى. فما هي يا ترى النتائج القريبة لهذه الحرب، ومن الخاسر فيها والمنتصر؟
النتائج القريبة لصراع الهوية بتونس:
من البدهي أن يكون لكل حرب ضحايا وقتلى وجرحى ومغانم أيضاً، ومن
البدهي أيضاً أن تحسم المعركة في نهايتها لصالح أحد الطرفين المتصارعين:
فمنتصر، ومنهزم.
لقد هب الشعب التونسي مدافعاً عن هويته العربية والإسلامية في أكثر من
مناسبة في عهد الاستعمار الفرنسي كما في عهد الاستقلال، ومن المعارك التي
خاضها التونسيون أثناء حرب التحرير وكانت ذات صلة رمزية بصراع الهوية:
مقاومة حركة التجنيس، ومعركة الزلاج [9] دفاعاً عن الوقف الإسلامي،
والانتفاضة ضد مؤتمر الصليبية الإفخرستية [10] ، وقد سقط في هذه المعارك مئات
الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين دفاعاً عن الهوية الإسلامية لتونس. ويتكرر
المشهد نفسه في الحرب المستعرة منذ فجر الاستقلال وحتى عهد التغيير، حيث
سقط مئات الشهداء وغصَّت السجون بالأحرار من سجناء الرأي ولا زالت، وشرد
العديد من الوطنيين الإسلاميين لا لشيء إلا لتمسكهم بدينهم وهويتهم الإسلامية؛
حيث أصبح من النادر جداً أن تخلو دولة من دول العالم الفسيح بقارَّاته الخمس من
لاجئين سياسيين تونسيين.
ورغم ضراوة المعركة وكثرة الخسائر في صفوف المدافعين عن الهوية
الإسلامية لتونس فقد أعقبت هذه المعركة وعياً دينياً وسياسياً واسعاً في أبناء الشعب
التونسي لم يمنع من ظهورها سوى بطش السلطة وعنفها المسلط على كل من تخول
له نفسه التعبير عن هويته السياسية.
هذا مشهد لواقع الحال يحكي صوراً من صور صراع الهوية في تونس؛ فهل
يا ترى سيبقى الوضع على حاله أم يتبدل؟ وما هي الاحتمالات الممكنة لمستقبل
صراع الهوية؟
مستقبل صراع الهوية في تونس:
بقاء الحال من المحال كما يقال، ثم إن الأمة الإسلامية تشهد اليوم تحولا
كبيراً في تركيبتها الثقافية والاجتماعية يتجه نحو مزيد من التمسك بدينها والاعتزاز
بعروبتها. لقد أيقظت الحروب الأخيرة في أفغانستان والبوسنة والهرسك
وكوسوفو والشيشان والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على المقدسات الإسلامية
والشعب الفلسطيني الأعزل، أقول لقد أيقظت هذه الحروب في الشعوب الإسلامية
روح التمسك بدينها وثقافتها وهويتها الإسلامية، كما أن إخفاق التجربة الشيوعية
وانكسارها في الوطن الأم روسيا أسقط أسطورة الفكر الماركسي المخلّص للشعوب
المضطهدة من نير البورجوازية المستبدة وجور الأنظمة الظالمة، أضف إلى ذلك
إخفاق الثورة القومية التي رافقت حرب التحرير في الوطن العربي واعتَلَت سدة
الحكم في أغلب البلاد العربية في توفير الأمن والاستقرار والتنمية والعزة والكرامة
للشعوب العربية؛ بحيث لم يبق أمام هذه الشعوب من سبيل سوى العودة إلى دينها
والتصالح مع هويتها، كما لم يبق أمام الحاكمين بأمرهم في بلاد العرب من سبيل
سوى سبيل التصالح مع شعوبهم على أساس احترام ثوابت الأمة وحفظ الدين واللغة؛
وهو أمر قد تنبهت إليه العديد من الأنظمة الحاكمة واستجابت له من خلال
استيعابها الاتجاهات الإسلامية المعتدلة كما هو الحال في بعض الدول العربية
وغيرها من الدول الإسلامية، بينما بقي النظام التونسي يراوح مكانه مشكِّلاً حالة
من الاختناق السياسي بإقصائه للمعارضة السياسية الجادة بكل أطيافها الإسلامية
والعروبية، بل وحتى العلمانية التي لا تتفق معه في طرحه الديمقراطي المزيف،
مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، بل لا بد أن يشهد انفراجاً ما عاجلاً أم آجلاً
لأن العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة في ضوء نظام العولمة الجديد وفي ضوء
التقدم التقني الهائل في مجال وسائل الإعلام والثورة المعلوماتية التي أفضت إلى
ظهور القنوات الفضائية العابرة للقارات، وشبكة الإنترنت المفتوحة على العالم
بأسره؛ فلم تعد الأنظمة الحاكمة قادرة على تضليل شعوبها وتأطيرها على الطريقة
التي تريدها، ولم يعد للدجل والكذب الإعلامي المحلي من مجال؛ بل إن كثيراً من
الشعوب أشاحت بوجهها عن وسائل الإعلام المحلية لتستقي المعلومات عن واقعها
السياسي المحلي من القنوات الفضائية الأجنبية، وهذا يعني زيادة مطالبة الشعوب
لحكامها بمزيد من الشفافية والوضوح ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ولم
تعد هذه الشعوب ترضى من حكامها بغير ذلك. ونظراً لأن هذه الشعوب في
مجموعها شعوب مسلمة تعتز بإسلامها وعروبتها فإن المرء يستطيع أن يتنبأ بأن
صراع الهوية سيحسم بلا شك في القريب العاجل لصالح الهوية الحقيقية لهذه
الشعوب، وما على النظام التونسي وأشباهه في البلاد العربية إلا الاعتراف
بالهزيمة في هذه المعركة المستعرة منذ أربعة عقود من الزمن، وبعبارة أخرى:
فما على الحزب الحاكم في تونس إلا أن يتكيف مع نتائج المعركة والاعتراف بهوية
تونس الإسلامية والعربية، والتصالح مع أصحاب التوجه الإسلامي والعروبي،
وفتح أقدار من العمل السياسي المشترك لكل التونسيين دون إقصاء أو مغادرة
الساحة السياسية، مختاراً أو مضطراً إن عاجلاً أو آجلاً.
الموقف من صراع الهوية:
على الرغم من أن صراع الهوية أشعل فتيله الرئيس الهالك الحبيب بورقيبة
انطلاقاً من تكوينه العقائدي والثقافي الغربي، وربما كانت تلك استراتيجيته الحقيقية
في سلخ المجتمع التونسي من هويته الأصلية وإلحاقه بركب الحضارة الغربية؛ إلا
أن الأمر يختلف إلى حد ما بالنسبة للرئيس الحالي بن علي؛ إذ إن الخلفية الخفية
لصراع الهوية فيما أعتقد هي خوفه المتنامي من صعود نجم التيار السياسي
الإسلامي ممثلاً في حركة النهضة أن تستولي على السلطة في تونس عبر الاقتراع
النزيه وعبر آليات الديمقراطية الحقيقية خصوصاً بعد ظهور نتائج الانتخابات
البرلمانية في سنة 1989م التي فاز فيها التيار الإسلامي فوزاً ساحقاً عبرت عنه
السلطة في حينها بحصوله على نسبة 30% من مجموع أصوات الناخبين، فكان
لابد من وضع حد لهذا الخطر الداهم وتهميشه واستئصاله؛ فكانت خطة تجفيف
المنابع التي صادفت هوى وحقداً دفيناً لدى العناصر اليسارية في الحزب الحاكم،
ورغبة ملحة لديهم في استئصال كل ما يمت للإسلام بصلة.
ملاحظات على صراع الهوية:
وبقطع النظر عن أوجه التشابه والاختلاف بين الرئيسين؛ فإن التطورات
الأخيرة في العالم التي رافقت الثورة المعلوماتية والنظام العالمي الجديد ليست في
صالح دعاة التغريب والحرب على الهوية الإسلامية، كما أسلفت، وأريد أن أختم
هذا المقال بذكر بعض ملاحظاتي عن صراع الهوية في تونس:
1 - على الرغم من أن صراع الهوية فُرض على الشعب التونسي فرضاً من
طرف الرئيس الراحل بورقيبة؛ فإن استجابة الصحوة الإسلامية المباركة للدفاع
عن هويتها اتسمت بالعمومية وعدم التمييز بين الأعداء الحقيقيين للهوية الإسلامية
وأصحاب المصالح والمنتفعين السائرين في ركب بورقيبة؛ لا موافقة له في حربه
على الإسلام والمسلمين، ولكن اتقاء شره أو طمعاً في عطاءاته أو حرصاً على
المناصب الدنيوية، وبعض هؤلاء من خريجي الزيتونة ممن دجنهم بورقيبة
بضرباته المتتالية، فاضطروا للتكيف مع الوضع الجديد من غير أن يمس ذلك
بالضرورة معتقداتهم وانتماءهم العروبي الإسلامي، فتكون الحركة بذلك قد دفعتهم
إلى الاحتماء بكنف بورقيبة بدل الانجذاب نحوها باعتبارها تمثل تعبيراً جديداً عن
الصراع القديم بين بورقيبة وخصومه من خريجي الزيتونة. والحقيقة أن حركة
النهضة قد انتبهت إلى هذا الأمر مبكراً منذ منتصف الثمانينيات واتخذت الإجراءات
اللازمة لتلافيه، ولكن الأحداث داهمتها.
وعلى أية حال فإن خطاب الحركة الحالي لا يحمل أي عداء لمثل هؤلاء؛ بل
إن أياديها ممدودة للتعاون مع أي فصيل سياسي في تونس في معركة الدفاع عن
الحريات لاسترداد الحقوق وبناء تونس دولة شورية تتسع لجميع الفرقاء السياسيين
مهما اختلفت مشاربهم الثقافية مقدرة أن الشعب التونسي المسلم لو أتيحت له فرصة
الاختيار الحر فلن يرضى بغير شرع الله حكماً، ولن يرشح لحكم تونس سوى
الشرفاء والغيورين على دينهم وأمتهم.
2 - نقدر أن صراع الهوية في تونس يحمل رمزاً خفياً وآخر ظاهراً بينهما
تفاعل وانفعال؛ فالظاهر هو ضرب الهوية الإسلامية من طرف النظام الحاكم
والدفاع عنها من طرف أصحاب التوجه العروبي؛ والرمز الخفي هو الصراع على
السلطة ومواقع النفوذ؛ فلقد بدأ الصراع على قيادة الحزب الدستوري التونسي منذ
عهد الاستعمار بين قيادة الحزب القديم ممثلة في الشيخ الثعالبي ورفاقه من ذوي
التوجه الإسلامي العروبي، وبين بورقيبة وأنصاره من قيادات الحزب الدستوري
الجديد الذين انقلبوا على القيادة القديمة وأسسوا الحزب الدستوري الجديد، واستولوا
بعد ذلك على السلطة في تونس الفتية؛ فلم ينس بورقيبة ذلك لخريجي الزيتونة
وانتقم منهم بطرق شتى أدناها إقصاؤهم من مواقع القرار والوظائف الكبرى في
الدولة، وتهميشهم من الحياة السياسية عامة؛ نقول هذا على الرغم من اعتقادنا بأن
بورقيبة كان علمانياً إلى حد النخاع؛ قاده تكوينه العقائدي والثقافي الفرنسي إلى شن
حربه الشاملة على الإسلام والمسلمين، ولما تولى الرئيس الحالي الحكم في البلاد
أظهر تسامحاً مع الإسلام والإسلاميين، وتظاهر بالتصالح مع هوية البلاد العربية
والإسلامية. وسواء كان ذلك نهجاً سياسياً لسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين
الذين كان الصراع الدائر بينهم وبين بورقيبة حول الهوية الإسلامية لتونس سبباً في
صعوده إلى سدة الحكم على طريقة المثل السائر: تمسكنْ حتى تتمكَّن، أو كان
اعتقاداً حقيقياً لديه؛ فالنتيجة التي انتهى إليها بعد فوز التيار الإسلامي في
الانتخابات البرلمانية، وشعوره بتهديد سلطته واهتزاز مركزه هي عودته عن كل
الوعود التي قطعها على نفسه في البيان رقم صفر في انقلابه الأبيض على بورقيبة،
فنكص على عقبيه، وشن حرباً لا هوادة فيها على كل ما يمت للإسلام
والإسلاميين بصلة، وظهر ذلك جلياً في خطة مبتكرة محبكة عرفت بخطة تجفيف
المنابع، وأصبحت مفخرة من مفاخر تونس العهد الجديد لما حققته من نجاح في
ضرب الحركة الإسلامية بتونس.
3 - وسواء اقتنع القارئ الكريم بهذا التحليل أو خالفه فالفكرة التي أشرت
إليها في فقرة سابقة في ثنايا حديثي عن التطورات الجديدة في العالم العربي
والإسلامي تحت عنوان: (تونس الحديثة وصراع الهوية) والتي لخصتها في
ظهور احتمال قوي لحسم صراع الهوية لصالح الشعوب في المستقبل القريب تلك
الفكرة كافية بحد ذاتها لدعوة حكام تونس للتصالح مع هوية البلاد الحقيقية وخوض
المعركة مع الإسلاميين وغيرهم من الفرقاء السياسيين في ضوء رمزها الخفي ألا
وهو الصراع على السلطة والنفوذ، وخير لهؤلاء وأولئك أن يستبدلوا بهذه الحرب
الدموية حرباً رمزية تتصارع فيها الأطراف السياسية المختلفة من دون إقصاء،
ويكون الحكم فيها للشعب عبر صناديق الاقتراع الحر النزيه ليختار من يمثله ويحكم
نيابة عنه، فإذا ما حاد عن الجادة واستبد بالأمر خلعه واستبدله بمن هو أفضل منه،
وبهذه الطريقة وحدها يمكن لتونس أن تكون وطناً لجميع التونسيين يسود فيه
التسامح والأمن والاستقرار، ويتم فيه التداول على السلطة بطريقة سلمية.
4 - وأريد أن أشير أخيراً إلى أن المعركة الحقيقية التي ينبغي أن يصار إليها
مستقبلاً هي مقاومة الظلم والاستبداد السياسي، والبحث عن الطرق السلمية لحسم
الصراع على السلطة في البلاد العربية؛ حيث لا يزال الصراع على السلطة هو
المعضلة الحقيقة التي لم تستطع الأمة الإسلامية عبر قرون عديدة إيجاد حل سلمي
لها، والسؤال الجوهري الذي لم يلق إجابة حتى الآن من الفرقاء السياسيين
معارضةً وحكاماً في الدول العربية والإسلامية هو: إلى متى يظل الصراع السياسي
في هذه الدول محكوماً بقانون: إما ذابح أو مذبوح، إما قاتل أو مقتول؟ إلى متى
تظل جثث الجماهير سُلَّماً لارتقاء الحكام إلى سدة الحكم؟ ومن جهة أخرى إلى متى
تظل هذه الشعوب تدفع حكامها إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا الموت، ومن
سنَّة الحياة الطبيعية، فضلاً عن الحياة السياسية أن يدافع الكائن الحي عن نفسه
حتى آخر رمق له في الحياة، وإن كان لا بد له من الموت فلن يستسلم للموت إلا
بعد أن يستنفد ما لديه من إمكانيات القتل والتدمير للآخرين. لقد استطاع الغرب
الحديث أن يحل هذه المشكلة بالطرق السلمية من خلال تطويره لآليات الديمقراطية
وآليات التداول السلمي على السلطة من خلال الاحتكام إلى الشعب في اختيار من
يحكمه، وأخفقت الأمة الإسلامية في حلها رغم مبدأ الشورى العظيم الذي أكد عليه
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكان يمكن لهذه الأمة أن تستفيد مما حققته
الأمم الأخرى في هذا المضمار من نجاحات دون أن يتعارض ذلك مع مبادئها
وتشريعاتها الإسلامية، والحديث هنا عن آليات الديمقراطية لا عن فلسفتها
التشريعية.
__________
(*) كاتب تونسي مقيم في بريطانيا.
(1) محمد الهادي مصطفى الزمزمي، تونس الإسلام الجريح، ص 44.
(2) محمد الهادي مصطفى الزمزمي، تونس الإسلام الجريح، ص 44.
(3) مجلة الدستور عدد 587 أغسطس 1983م نقلاً عن المصدر السابق.
(4) الزمان، عدد 11 منتصف أكتوبر 2000م، ص 47.
(5) المصدر السابق، ص 49.
(6) محمد الهادي الزمزمي، المرجع السابق، ص 46.
(7) راجع نص القانون كاملاً في كتاب محمد الهادي الزمزمي، تونس الإسلام الجريح، ص 440، 441.
(8) راجع نص خطة تجفيف المنابع في المرجع السابق ذكره، ص 445 450.
(9) اندلعت معركة (الزلاج) على إثر قرار اتخذته السلطات الفرنسية آنذاك بالاستيلاء على مقبرة الزلاج وضمها إلى أملاك بلدية تونس، علماً بأن المقبرة وقف من الأوقاف الإسلامية غير قابلة للامتلاك أو الإحالة والتفويت؛ فضلاً عما تحويه من مثاوي العلماء والأئمة.
(10) انعقد هذا المؤتمر بقرطاج سنة 1930م بقرار من البابا (بيو) الحادي عشر في ظل الاستعمار الفرنسي لتونس لإبراز الطابع النصراني لتونس، ولإضفاء الصورة عن الدور الكبير الذي لعبته قرطاج في حياة النصرانية من حيث بلورة المذهب النصراني، وتخريج عدد كبير من الرهبان والقساوسة قبل الفتح الإسلامي لتونس.(160/129)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
بداية النهاية
أثارت مظاهر الإخفاق والضعف التي ألمت بالجيش الإسرائيلي، رغم كل
خططه واستعداداته الطويلة المسبقة، في مواجهة فعاليات وتداعيات «انتفاضة
الأقصى» التي تجتاح الأراضي الفلسطينية المحتلة أثارت مجدداً جدلاً إسرائيلياً
واسعاً بشأن حقيقة الأوضاع الداخلية للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
إن الأداء الميداني للجنود الإسرائيليين يكشف عن تدهور إرادة القتال في
صفوفهم، وانهيار الروح العسكرية، وبدورها نشرت دورية «نتيف» الصهيونية
اليمينية نماذج مما هو عليه الحال في وحدات «الجيش الذي لا يقهر» ، وهي لا
تتورع عن نعت تصرف جنود الاحتلال في الميدان بأنه «مخزٍ ويبعث على الأسى» . وتقول المجلة: إن هذا الجيش هو في جوهره ميليشيا، وانتهت صلاحيته منذ
وقت طويل، وتقول: إن «جيش الشعب» الذي كان عامل تفوق في الماضي
تحوّل منذ زمن إلى عبء؛ فصفات المبادرة والجرأة والاستقلالية الفكرية التي
كانت من مزايا القائد في الجيش الإسرائيلي حسب التصور الذي كان مرتسماً في
المخيلات تبددت لصالح اللامبالاة، والمصلحة الخاصة، والانتهازية، والتهرب،
والفرار من المعركة، والرعونة، والتخلي عن جرحى في ساحة القتال. وما
يتصدر اهتمام وأولويات الضابط الحالي في الجيش الإسرائيلي هو مرتبه وظروفه
الاجتماعية والاقتصادية ومخصص تقاعده، وإذا نشأ شك أو تخوف من أنه لن
يحصل على طلباته تجده يهدد بالإضراب. ومن الجدير بالذكر أن نصف الميزانية
العسكرية ينفق حالياً على أجور وإعانات اجتماعية، كما تتحدث المجلة التي لا
تتردد في وصف الجيش الإسرائيلي بأنه ذو ظل شاحب، واهن العضلات والروح
والعقل، يقف متستراً بورقة التوت، متكئاً ومستنداً إلى هالة الماضي الذي صوره
على أنه الجيش الأسطوري الذي لا يقهر.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (336) ]
صوت السلام.. اليهودي
انتقد الكاتب الإسرائيلي ومؤسس حركة «السلام الآن» عاموس عوز في
مقال نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية «التشدد الكبير» في مواقف
الفلسطينيين الذين يُصرُّون على حق عودة اللاجئين! !
وقال عوز: «إن الفلسطينيين بذلك يرفضون السلام؛ فقادتهم يطالبون الآن علناً
بحق العودة لمئات آلاف الفلسطينيين الذين فروا أو طُردوا من منازلهم خلال حرب
العام 1948م» ، ورأى عوز أن الفلسطينيين يطالبون بذلك وهم «يتجاهلون سلفاً
مصير مئات آلاف اليهود الذين فروا أو طُردوا من منازلهم في الدول العربية خلال
الحرب نفسها» ، واعتبر الكاتب أن «تطبيق حق العودة للفلسطينيين يعني إلغاء
حق الشعب اليهودي في حكم نفسه» ، وأضاف: «هذا يجعل من الشعب اليهودي
أقلية تحت رحمة المسلمين، أي» أهل ذمة «كما يقول الإسلام الأصولي» . وقال
عوز: «إنه إزاء هذا التشدد الكبير في مواقف الفلسطينيين، لا يفترض
بالإسرائيليين الذين يعملون من أجل السلام أن يتصرفوا وكأن شيئاً لم يكن» ،
ومضى يقول: «يجب ألا يقولوا بعد الآن:» إن العقبة الوحيدة أمام السلام هي
الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفسلطينية «بل أن يقولوا:» حتى من دون السلام،
يظل حكم بلد آخر أمراً سيئاً «.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8075) ]
فليعمل العاملون
حذر التلفزيون الإسرائيلي من خطورة ما يشكله موقع (إسلام أون
لاين) ، والتعاظم الكبير لدوره في مساندة انتفاضة الأقصى، وحشد التعاطف
من أجل القضية الفلسطينية. وتحدث برنامج خاص أعده التلفزيون الإسرائيلي
عن مواقع (الإنترنت الإسلامية) عن الحضور المميز والتغطية أولاً بأول، ولفت
المشاركون في البرنامج الذي بث مؤخراً إلى أن هذه المواقع حققت إنجازات إعلامية،
وعملت على ازدياد تعاطف وتضامن المسلمين والعرب مع الفلسطينيين في
انتفاضة الأقصى.
وعلق مقدم البرنامج» ماتي جولان «الذي يعتبر من أبرز الصحفيين في
إسرائيل على ما ينشره هذا الموقع من تقارير عن انتفاضة الأقصى محذراً من دوره
في حشد التعاطف مع الفلسطينيين واصفاً المادة الإعلامية التي تنشر في موقع
(إسلام أون لاين) بأنها تحريضية ضد إسرائيل وعلى الأخص الحث على الجهاد
والتضحية في سبيل تحرير فلسطين. وحسب ما قاله جولان فإن أكثر ما يقدمه
موقعا (إسلام أون لاين) و (مركز الإعلام الفلسطيني) هو العمل على حفظ حالة
العداء والكراهية في نفوس المسلمين والعرب في أرجاء العالم ضد الإسرائيليين.
وبدوره قال الباحث الإسرائيلي» أرنون زيسلر «الذي شارك في النقاش:
إن مواقع الإنترنت الإسلامية تعمل على شحذ ذاكرة جميع المسلمين والعرب
وربطهم بفلسطين، وتساهم في إحياء الروح الإسلامية في أرجاء العالم وتؤسس
لعودة الإسلام للحياة والحكم في العالم الإسلامي. وقال» أهارون ديري «الذي
تولى في السابق عدة مناصب دبلوماسية: إن هذه المواقع تعمل على ربط المسلمين
في غير البلدان الإسلامية بالإسلام وإحياء الروح الإسلامية في أوساط الأقليات
الإسلامية عبر التركيز على التعاليم الإسلامية وبعث روح الإسلام من جديد في
العالم بأسره. وأشار» ديري «بشكل خاص إلى قيام موقع (إسلام أون لاين)
بنشر مواد إخبارية ودينية باللغة الإنجليزية بجانب العربية مشدداً على أن ذلك يعتبر
ثورة في التواصل بين المسلمين في أرجاء العالم.
[جريدة الرياض، العدد: (11882) ]
وماذا وراء إحيائها..؟ !
من أسف أن نفراً غير قليل من المسلمين مشغولون بالتفريق وليس بالتقريب،
وليس ذلك مقصوراً على عوام المسلمين وحدهم، ولكنه ينطبق أيضاً على النخبة
من المثقفين وأهل العلم، ولعل الجدل الذي ثار على صفحات المجلة حول تحول
أحد رموز حركة الجهاد الإسلامي من المذهب السني إلى المذهب الشيعي يعد
نموذجاً لتجليات التفريق التي ما زالت مترسبة بين أصحاب المذاهب الإسلامية.
ومما يلاحظه المرء فيما يخص أهل العلم أنهم في السابق الأربعينيات مثلاً كانوا
أكثر حماساً للتقريب بين المذاهب، من أقرانهم في التسعينيات، وهو الأمر الذي
يدعو إلى التفكير في الأسباب التي أدت إلى ذلك. وسواء اتسمت جهود التقريب
بالبطء والحذر الآن، أو أن أصوات دعاة التفريق ما زالت تجد من ينصت إليها
ويستجيب لها؛ فإن تجربة التقريب التي تمت في الأربعينيات، وتواصلت حتى
أوائل الستينيات تظل تجربة رائدة جديرة بأن نستحضرها ونتأملها ملياً.
[فهمي هويدي، مجلة المجلة، العدد: (1091) ]
دعم التنصير
قالت الولايات المتحدة: إنها منحت هبة إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر
تتجاوز قيمتها 65 مليون دولار لتلبية حاجات هذه المنظمة. وقال المتحدث باسم
وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر: إن هذه الهبة ستخصص لتمويل
عمليات إنسانية تقوم بها اللجنة الدولية في مناطق تشهد نزاعات مسلحة. وأضاف:
» إن الولايات المتحدة تقدر أشد التقدير العمل الصعب والخطير في أغلب الأحيان
الذي تقوم به فرق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي تقدم المساعدة والحماية
لضحايا النزاعات «. وأشار إلى أن الهبة الأمريكية ستوزع على ست مناطق من
العالم: 29 مليوناً لإفريقيا، 16. 2 مليوناً لأوروبا، 6. 7 ملايين لآسيا الجنوبية،
وخمسة ملايين للدول الغربية، 4. 6 ملايين للشرق الأوسط، وأربعة ملايين
لآسيا الشرقية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8076) ]
وجاؤوهم من كل مكان! !
1 - ينظر في الولايات المتحدة ومعظم العالم الغربي، وأيضاً في
روسيا والصرب وغيرهما من البلدان حيث تسود المسيحية الأرثوذكسية إلى
» الأصولية الإسلامية «بل حتى إلى الإسلام ذاته كما يبدو باعتبارها تشكل
خطراً كبيراً، ومن بين المؤشرات إلى النزعة المثيرة للقلق لتحميل
» الأصولية الإسلامية «المسؤولية عن كل شرور العالم: القرار الذي أصدره
أخيراً مجلس الأمن، برعاية مشتركة من الولايات المتحدة وروسيا، بفرض عقوبات
تأديبية على نظام» طالبان «في أفغانستان. ومن المقرر أن يصبح هذا القرار الذي
جرى تبنيه في 19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي ساري المفعول خلال شهر
واحد، وهو يحظر مبيعات الأسلحة إلى» طالبان «ويقضي بإغلاق كل مكاتب
» طالبان «خارج البلاد، ويفرض حظراً على سفر زعماء» طالبان «إلى
الخارج، ويشدد الحظر على الرحلات الجوية إلى أفغانستان ومنها. وفي الوقت
الذي تستهدف هذه العقوبات» طالبان «، التي تسيطر على 90% من
أفغانستان؛ فإنها تستثني» التحالف الشمالي «بزعامة أحمد شاه مسعود،
العدو الرئيس للحركة الذي يسيطر على منطقة لا تزيد على 3 - 5 % من
البلاد، ويعتقد بعض المراقبين المطلعين أن العقوبات ليست سوى الخطوة الأولى،
وأن الولايات المتحدة وروسيا تخططان لهجوم عسكري على» طالبان «انطلاقاً
من قواعد في آسيا الوسطى بهدف إطاحة نظامها بأكمله. وإذا قررت الولايات
المتحدة وروسيا أن توجه ضربة إلى طالبان فيتوقع أن تستخدما قاعدة طشقند الجوية
في أوزبكستان لمهاجمة معاقل لـ» طالبان «مثل طالوقان ومزار الشريف،
ويبدو أن واشنطن وموسكو لا تعيران اهتماماً لحقيقة أن المادة 51 في ميثاق الأمم
المتحدة تحظر استخدام القوة المسلحة من قبل دولة ضد أخرى إلا في حالة الدفاع
عن النفس أو بموافقة مجلس الأمن، والأرجح أنهما تعتقدان أن قرار مجلس الأمن
الصادر في 19 الشهر الماضي يضفي شرعية على مناهضتهما لـ» طالبان «،
ويطلق أيديهما لاستخدام القوة. وبدلاً من إنهاء الخطر المزعوم لـ» الأصولية
الإسلامية «الأرجح أن تؤدي العقوبات المفروضة ضد» طالبان «إلى تعميق
المعارضة للولايات المتحدة وروسيا في العالم الإسلامي وتهدد بجرهما مرة أخرى
إلى مستنقع العنف في آسيا الوسطى.
[باتريك سيل جريدة الحياة العدد (13823]
2- قال إسلام كريموف رئيس أوزبكستان: إن رؤساء أربع جمهوريات
سوفييتية سابقة في آسيا الوسطى يخططون لاتخاذ خطوات جادة هذا العام
لمكافحة ما يعتبرونه إرهاباً تغذيه أفغانستان. ويخشى الزعماء الأربعة من انتشار
الأصولية في المنطقة، ويرجعون السبب إلى أفغانستان المتاخمة لاثنتين من الدول
الأربع وتقع على مقربة من الدولتين الأخريين. وقال نور سلطان نزارباييف رئيس
كازاخستان في المؤتمر الصحفي:» مشكلة الإرهاب واحدة بالنسبة لنا جميعاً
ما بقيت أفغانستان غير مستقرة ولا توجد بها حكومة تسيطر على البلاد
بأكملها «، وقال إمام علي رحمانوف رئيس طاجيكستان» إنه لن يسمح
بدخول أي لاجئ أفغاني إلى بلاده «.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7502) ]
3 - ناشد مسؤولو المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة
الجهات المانحة تقديم معونات عاجلة للمساعدة في إنقاذ حياة آلاف اللاجئين الأفغان
الذين يتدفقون على باكستان، وقالوا: إن المفوضية تعاني من صعوبة التعامل مع
آلاف اللاجئين الذين اضطرتهم الحروب، وموجة الجفاف التي لم يسبق لها مثيل منذ
30 عاماً، والاقتصاد المنهار في أفغانستان على الفرار من البلاد. وقال يوسف
حسن كبير مسؤولي المفوضية للشؤون الخارجية في منطقة جنوب غرب ووسط
آسيا:» يعتبر جالوزاي موقعاً مؤقتاً، وهو عبارة عن مكان مفتوح يتعرض الناس
فيه للبرد القارس، لا يوجد مأوى مناسب، ولا مرافق للصرف الصحي أو المياه
النقية «. وتسببت برودة الجو والأمراض في وفاة أطفال في المخيم، لكن لا يبدو
أن هناك من يعرف عددهم، وقالت الأمم المتحدة:» لا يجد الناس سوى جذور
النباتات والعشب ليتغذوا عليه، وغادر جميع الشبان تقريباً المنطقة «. هذا وقد قتل
المئات مؤخراً نتيجة للبرد القارس في المخيمات التي لا يتوفر فيها أي وسائل
معيشة وقد توقعت الأمم المتحدة وفاة مليون أفغاني مع نهاية شتاء هذا العام! !
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8081) ]
بئست الوصية
حثت الإدارة الأمريكية (الديمقراطية) خليفتها الإدارة (الجمهورية) على
إبقاء الحرب على من تصفهم الولايات المتحدة بالإرهابيين أعداء الغرب وأعداء
السلام في العالم. وطالبت إدارة كلينتون الإدارة الجديدة التي شكلها الرئيس
المنتخب الإبقاء على الحرب الحالية المعلنة على من تصفهم بالإرهابيين في العالم
وجميعهم من المسلمين، وبينهم إلى جانب مجموعة القاعدة التي ترى الولايات
المتحدة أنها وراء الهجمات على سفاراتها ومصالحها عدد من القادة الشيشانيين،
وهو ما يعتقد أن له علاقة بالتعاون والتنسيق الأمني الذي نشأ مؤخراً بين موسكو
وواشنطن.
ويشير تقرير رسمي موقع من قبل (مايكل شيهان) منسق وزارة الخارجية
الأمريكية لمكافحة الإرهاب إلى أن تراجع حجم الدعم المالي من قبل الدول الراعية
للإرهاب خلال العقدين الماضيين دفع بالإرهابيين إلى تطوير علاقات فضفاضة
ذات منفعة متبادلة مع تجار المخدرات لدعم مصالح كل من الإرهابيين وتجار
المخدرات، واستشهد على ذلك بنوع خاص بحالتي كولومبيا وأفغانستان، ويعترف
شيهان وهو سفير سابق بأن الولايات المتحدة لا تمتلك عصا ولا حلولاً سحرية في
جهودها المبذولة لمكافحة جمع الإرهابيين للأموال، ودعا حكومة بلاده الجديدة
وبريطانيا إلى الإبقاء على الضغوط الدبلوماسية والسياسية، وعلى مبدأ دعم إرادة
الحلفاء للولايات المتحدة، والاحتفاظ بعناصر أساسية قوية في الدبلوماسية
والاستخبارات.
[مجلة المشاهد السياسي، العدد: (253) ]
أما كفاهم الذبح! !
حسب ادعاء أحد مسؤولي كنيسة» واضية «في منطقة القبائل بالجزائر؛
فإن عدد الذين يتنصرون يزداد يوماً بعد يوم وخاصة خلال الأزمة الأخيرة التي
تعرض فيها الإسلام للتشويه وترويج الشبهات والدعاوى الباطلة بالحكم عليه زوراً
من خلال ما حدث ويحدث في الجزائر من تقاتل وتناحر، وما نسب للإسلاميين
زوراً وبهتاناً من جرائم ومذابح إلى درجة أن بعض المتنصرين من منطقة القبائل
صرح قائلاً:» إن المسيحية حياة والإسلام موت «.
ومنطقة القبائل الكبرى والصغرى هي من بين المناطق التي تتعرض للتنصير
على نطاق واسع، ولا تكاد تخلو بعض المدن والقرى في منطقة القبائل من كنيسة
أو أكثر تعتنق المذهب البروتستاني.
وفي» بوغني «مثلاً فتحت كنيستان أبوابهما منذ عامين للذين يعتادون عليها
بصفة مستمرة ويلقبون» بالأوفياء «، وبالرغم من أن الأوائل الذين أسسوا هاتين
الكنيستين عملوا ونشطوا في سرية تامة إلا أن عدد الأفراد الذين اعتنقوا النصرانية
ارتفع، ولوسائل الإعلام والدعاية تأثير على الأفراد في اعتناق النصرانية وفي
تثبيت معتقداتها في منطقة القبائل، ويذكر (سعيد) وكان خارجاً لتوه من كنيسة
» بوغني «: إنني أهوى كثيراً إذاعة» مونتي كارلو «، خاصة أنها تذيع حصصاً
باللغة الأمازيغية يفهمها الجميع» ، أما (سليمان) فيستطرد قائلاً: «إن 80%
من أسباب اعتناقي النصرانية كانت عن طريق إذاعة» مونتي كارلو «، أما
(روزا) فأكدت أنها لا تنسى أبداً موعد حصة (DA IDIR) » دا إدير «التي
تقدم في إذاعة» مونتي كارلو «باللغة الأمازيغية، بالإضافة إلى قنوات تلفزيونية
عديدة منها قناة المعجزة SAT 7، وعن مصدر تمويل هذه الكنائس أكد أحد
مسؤولي كنيسة» واضية «و» بوغني «أن التمويل يتم من خلال تبرعات
» الأوفياء «فمثلاً كل نهاية شهر يقدم أصحاب الرواتب عُشر أجورهم، بالإضافة إلى
الهبات والأعشار.
وهكذا يراد لجزائر المليون ونصف المليون قتيل نحسبهم عند الله شهداء أن
تدنس بالصليب؛ فما لم تقوَ عليه فرنسا خلال قرن وثلاثين سنة، أيام
الاستيطان والاستدمار، يتحقق بالتدريج في زمن» الاستقلال «، فقد تولى أحمد
ومحمد ما عجز عنه جاك وميشال، ذلك أن البعض ممن يحكم فعلياً البلاد حالياً
خلفته فرنسا لينجز المهام، ومن ثم تتأكد مرة أخرى وإلى يوم الدين حقيقة راسخة
مفادها أن النفاق أخطر من الكفر، وما ينجزه الطابور الخامس قد يعجز عنه
المستعمر المستوطن. والله المستعان.
موقع مجلة العصر، العدد السادس
http://www.alasr.ws(160/136)
متابعات
وقفات مع مقال.. قراءة في الذهنية السلفية
خالد بن عبد الله الخليوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن ثمة شيئاً ينبغي أن يقال ونحن أمام هذا المقال؛ لأن بداية أي فكرة بدايةً
سليمة لا يعني بحال صحة استمرار هذه الفكرة، ولكون أي كاتب أراد من مقاله
خيراً لا يعني صحة ما قاله.
وإني لإخال الكاتب أراد بذر الخير، لكني أكاد أجزم أنه لم يحسن سقيه،
وها هي وقفات مع مقال: «قراءة في الذهنية السلفية» للأخ نواف
الجديمي مستحضراً قول الله تعالى: [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 2-3) .
السلفية:
هي ذاك المنهج الرباني الذي كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من
الاعتماد على الوحيين في كل شؤون الحياة والذي فيه من الشمول ما في مصادر
تلقيه، وقد قال الله تعالى عن مصدره الأول: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى] (البقرة: 185) ؛ فهو الهدى في كل
زمان ومكان، بل لا هداية إلا به؛ فهو الهدى في الأخلاق والمعاملات، كما أنه
الهدى في العقائد والعبادات، بل ليس هو الهادي إلى الصواب فحسب وإنما إلى
قمته وذروته [إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً] (الإسراء: 9) ، وهذا المنهج مسلّم به عند كل
المسلمين وإن تفاوتوا في تحقيق هذا التسليم، ومصداقيتهم فيه.
ولا شك أن أعظم طريق وأخصره وأسلمه لتبيّن معالم هذا المنهج هو قراءة
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتمعّن فيها، والتأمّل في كيفية تعامل الصحابة
والتابعين وأهل القرون المفضلة الأولى مع هذين المَعِينين قراءة وحفظاً، وصيانة
واحتراماً، وتدبّراً وتطبيقاً.
إنها تعني وبكل وضوح أن نسير على نفس الخُطى التي سار عليها الأوّلون..
ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
المنهج السلفي معيار وحاكم على منتسبيه وغيرهم لا العكس:
فحين يخطئ أحد أفراده أو مجموعة منهم فإن هذا لا يؤثر على المنهج لا من
قريب ولا من بعيد، وسيبقى المخطئ وحده هو الذي يتحمّل تبعات خطئه. وهنا
تأتي الخطوة السليمة من إخوانه المسلمين بنصيحته بالتوبة والعودة إلى ما يقتضيه
منهجه، لا بتضخيم خطئه وتعميم زلله، مما يؤدي إلى إسقاط نهجه من قلوب
البعض، وأعظِمْ بهذا الفعل من جرم مقيت.
وليس كل من خالف المنهج الرباني في مرتبة واحدة في بعدهم عنه أو قربهم
منه؛ ومع ذلك كلّه فليس المتوخّون لمنهج السلف حقاً مع قبولهم الحق من أي كائن
كان إلى تلك الدرجة من الحاجة إلى من يأتي من خارج دائرتهم ليقيّمهم فيقومهم،
ففيهم من العلم والصدق، والنصح والرحمة ما يفوق قطعاً كل التحزّبات؛ فما هم
إلا جيل يُبقي الله صفات منهجه فيهم على مر العصور حتى تقوم الساعة. قال الله
تعالى: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] (الفتح: 29)
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي
أمر الله وهم ظاهرون» [1] .
وسيبقى أن ما عند غيرهم من الصواب فعندهم منه أوفر الحظ والنصيب،
وما عندهم من الخطأ والتقصير فعند غيرهم منه ما هو أكثر وأكبر.
يتضح من خلال قراءة لذهنية هذا المقال أنها ليست ذهنية سلفية، وليس فيها
إدراك لواقع أصحاب المنهج السلفي قديماً وحديثاً؛ وهنا يكمن داء خطير كثيراً ما
يصيب الكتابات النقدية التي تفتقر إلى الإحاطة بحقيقة الأمر الذي يراد نقده، وقد
ذم الله تعالى الحاكمين على ما لم يحيطوا به؛ إذ قال: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ] (يونس: 39) .
وبناءاً على ذلك، فليس كل من صلحت مشاركته في جانب ستصلح مشاركته
حتماً في كل جانب، وفي المقابل فليس كل من أخفق في تجربة سيخفق حتماً في
كل تجربة.
من الموازين الخاطئة:
ما زال هناك من أمتنا من يشعر متحسراً بما تعانيه أمته من هزيمة وتأخر،
فيريد لها أن تعود لمكانتها المرموقة وعزتها السامقة، فيخطئ طريقَ الإصلاح فيقع
في مزلق آخر، وكل هذا بسبب عدم الوقوف والتأمل لمعرفة أسباب تلك الهزيمة
وذلك التأخر، ومعرفة الطريق الأمثل في علاجها.
فها أنت ترى وقد استقر في نفوس كثيرين موازين منحرفة أو مضطربة في
تقدير الأشياء والحكم عليها، ومن ذلك الإعجاب بمن ازدحمت مقالاتهم وأقوالهم
بالاستشهادات بأقوال الغربيين لغرض ولغير غرض، وكثرة ذكر المصطلحات
الأجنبية، والحفظ الدقيق لتاريخهم، وإن كان في المقابل ذا أرض مجدبة من
نصوص الكتاب والسنة اللذين هما المصدر الأساس في تقييم كلِّ حدث وتصور.
من عيوب النقد:
إن من سمات النقد غير الموضوعي الإكثار من عبارات الإطلاق إثباتاً أو نفياً
في المواطن التي يحصل فيها النقاش ويحتدم من أجل الحكم على غالبية شيء
وكثرته أو قلَّته وندرته، فضلاً عن أن يكون الحكم فيها مطلقاً مبالغاً فيه نفياً في
إلغاء تلك الصفة أو إثباتاً لأخرى؛ فهنا تعلم أن النقد لن يكون موضوعياً بالقدر
الذي تنضج من خلاله كثير من ثمراته.
وها هو الكاتب بعد أن ذكر بعض الأفكار التي سيطرت على كثير من الناس
في عالمنا العربي، وأبرزها القومية العربية، والماركسية الشيوعية، والبعث
العربي، والنظرية الليبرالية الغربية يقول: «والسؤال الحيوي هنا: ما مدى
معرفة السلفيين بتلك الأيديولوجيات التي سيطرت زمناً على منطقتنا؟ وهل تمت
دراستها دراسة مفصلة متعمقة للرد عليها وتبيين عوارها من داخلها كما كان منهج
ابن تيمية في الرد على خصومه؟ الحقيقة أن ذلك لم يحصل إطلاقاً» ا. هـ.
فأقول: إن أقرب خصم لهذه المقالة هو هذه المجلة السلفية [مجلة البيان] التي
نُشر فيها المقال، وإني لأدعو إلى المرور على الفهرس الموضوعي للمجلة التي
تصدر منذ ما يزيد على أربع عشرة سنة للاطلاع على كثير من البحوث
والموضوعات التي فضحت وبشكل علمي تلك الأفكار وغيرها.
ثم ليعلم أنه متى عرف الناس دينهم وأسس عقيدتهم فسيتبين لهم وبكل يسر
عوار هذه الأطروحات. وهذا هو المنهج العام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه
وسلم والسلف من بعده؛ إذ كانوا يحرصون على بيان المنهج الحق بتفاصيله،
والتحذير من الباطل، مجملاً من غير تفصيل إلا عند الحاجة إلى ذلك.
وليس كل أحد يصلح للدخول في غياهب الأفكار الباطلة وشبهاتها؛ فمن
القصور أن يكون هناك من يعرف تفاصيل النظرية الليبرالية في حين أنه لا يعرف
أساسيات عقيدته والحدود التي يجب ألا يتجاوزها، ولأن يعرف المسلم معالم طريقه
فيسلكها خير من أن يكون مضطلعاً مرجعاً في الأفكار الهدامة، ومضطرباً في
معرفته بالمنهج الحق، فلا إفراط ولا تفريط.
غريب أمره:
يقول الكاتب تحت عنوان: (النشء الذي لا يكبر) : «ربما تكون من
إشكاليات الذهنية السلفية والتي تتقاطع مع النقطة السابقة في بعض الجوانب
وتتفاوت في جوانب أخرى: النظر بتخوف وتوجس للتدفق الهائل في المعلومات
والأفكار في عالم اليوم، والخشية من تأثر النشء بها..» ا. هـ. إن لي
ولغيري أن نسأل: أيراد منا أن ننظر إذن إلى هذا التدفق الهائل في المعلومات
والأفكار بكل أمان، وأن نستغرب معك؟ ممن ينظر بخشية من تأثر هذا النشء؟ !
أخي الكريم! أين نحن؟ ! إن كثيراً من أفراد هذا النشء قد تأثر حقاً، ولعل
كثيراً ممن تأثر كان بسبب هذه النظرة الخاطئة، فزج بنفسه أو بغيره دون أي
حصانة ولغرض ودون غرض ظانين أنه هو النشء الذي سيكبر، وأنه سيستطيع
التمييز بين الحق والباطل والصحيح والسقيم؛ فخرجت لنا ثمرات بغيضة،
ووُجِّهت كثيرٌ من الطاقات على الأمة الإسلامية لا لها ... خرج لنا جيل ليس
يخطئ فحسب، وإنما يريد أن ينطلق من حيث لا ننطلق منه، وفي هذا ما فيه من
اختلال في الموازين، وهدم للأخلاق، وإنكار للأصول والنظر إلى أنها هي القيود
التي يجب التحرر منها وهلم جرّاً..!
ثم يتابع الكاتب تحت العنوان نفسه فيقول: «وإذا أشكل على الشباب شيء في
معرفة سيرة مؤلف أو كنه كتاب فما عليه إلا أن يسأل أحد المهتمين من نفس التيار
ليعطيه فتوى جاهزة مقبولة في شأن ذلك الكتاب أو ذاك المؤلف.... إلخ» ا. هـ.
وهنا أقول لأخي: إذن فما الذي تراه حلاً عادلاً حينما يشكل على الشباب
شيء قرؤوه، أو طرح سمعوه؟ أهو أن يستمروا في القراءة والبحث مستغنين
عمن سبقوهم ممن يوثق بعلمهم وعقيدتهم حتى يصل هو بنفسه إلى الحقيقة إن كان
في مقدرته ذلك، وما أعظم الخطر على المستبد وما أحراه بالخطأ؟ !
أخي الكريم! سيبقى الشباب بل الإنسان مهما كبر بحاجة إلى الاستشارة
والسؤال [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) . وإنما شفاء
العيّ السؤال.
ثم ينتقل الكاتب من نقد طريقة هذا الشاب المستشير إلى نقد المستشار السلفي
نقداً ساخراً متهماً له بالمجازفة في الحكم وإلقاء الكلام على عواهنه دون تحليل ولا
تفصيل، والمتَّهَم عند هذا الكاتب هداه الله هو المستشار الذي قدّر أمانة الإجابة عن
سؤال عن كتاب أو إنسان تحتّم أمانة دينه الحديث عنه فأجاب ببيان ما يؤخذ على
المؤلِّف والمؤلَّف مما يحتاج الناشئة إلى اتقائه ليكونوا على بينة من الأمر، ولئلا
تهولهم الدعاية والسمعة فتحول دون معرفة الواقع على حقيقته؛ فهل يا ترى يصح
عندك أنّ العلماء حينما يُسألون عن كاتب علماني ربما كان له بعض الأفكار المفيدة،
أو كاتب رافضي ربما كان له بعض الأطروحات الصحيحة أن يذكروا رأيهم دون
تنبيه إلى فكره العلماني أو فكره الرافضي لأخذ الحذر من شباكه وكشف تلبيسه
وتدليسه؟
فأصحاب المبادئ الهدّامة والبدع المضلّة والديانات الباطلة وإن كان لهم
خبرات ومهارات وأفكار مؤثرة في شؤون الحياة فإن أول أولوياتهم الدعوة إلى ما
يعتنقونه من المعتقدات الباطلة، بل يسخرون ما لديهم من قدرات ومهارات مادية
لنشر أفكارهم، ومن يغمض عينيه عن جهود المنصّرين في نشر النصرانية في
العالم الإسلامي، وعن جهود الرافضة في نشر ضلالهم، والعلمانيين في نشر
إلحادهم فقد أخطأ الخطأ البيِّن.
خلط واستغراب:
في الوقت الذي يعتبر فيه الكاتب القومية العربية، والماركسية الشيوعية،
والبعث العربي والنظرية الليبرالية الغربية أفكاراً منحرفة حسب ما يلوّح به في
سياق الكلام، ويعيب على السلفيين زاعماً أن ليس فيهم من درس هذه الأفكار
دراسة مفصلة متعمقة، نجده يكرر وفي معرض الثناء ذكر الديمقراطية بوصفها
نظاماً للحكم، والتنويه بقيام الثورة الفرنسية بصفتها أفكاراً طلبت عند قيامها التجديد،
والتصحيح ومقاومة سلطان الكنيسة، وهذا التنظير يحمل معادلة جائرة فلا يملك
أخي الكاتب وقد ذكر هذين المثالين في مثل هذا الطرح أن يمنع أحداً من أن
يتصور تطبيق هذين المثالين على أصل موضوعه ليخرج بنتيجة خطيرة وهي أن
الكاتب ربما رأى أن السلفية تحكي دور الجمود والتسلط أمام من يحاول جاهداً بفكره
أن يطور ويجدد.
وإني أرى الكاتب قد نصَّ على مسألة في بداية مقاله حيث يقول: «الإشكالية
المتجددة دائماً والتي ترافق عمليات النقد والمراجعة هو الشعور الذي قد يعم
الشريحة السائدة وربما النخبة أحياناً بأن هذا النقد لا ينبع من صدق وإخلاص» اهـ
إلى آخر ما ذكر.
ثم يقول في صراع الأفكار والمعلومات: «إن أردنا الدخول في صراع
الأفكار والمعلومات، فلا بد أن نكون حذرين؛ لأننا ندخل حقلاً من الألغام» اهـ.
فهذا الوعي لهذه الإشكالية المتجددة كان يتطلب من الكاتب دقة في الأحكام
ووضوحاً في الطرح، ولا أحسب أن المقال قد تمتع بالقدر الكافي من ذلك.
فالكاتب في هذا المقام يخاف من الاتهام بسوء النية وحُقّ له؛ فقد خلط في
معادلاته وأغرق في عيب السلفية بالجمود وقلة الفقه بالواقع، بل وفي مقاصد
الشريعة؛ حيث جعلهم أصحاب معلومات لا أصحاب فكر؛ حتى زعم أنه يغني عن
تميزهم بحفظ المعلومات أجهزة حفظ المعلومات، وقاصد الإصلاح لا يصل في نقده
إلى حد الغلو. ومن التخليط أن يضرب الكاتب المثل المختلف الأفكار بدعوة
الرسول صلى الله عليه وسلم، وثورة الخوارج، وحركة الرافضة، ودعوة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وحركة الإخوان المسلمين؛ حيث يقول دون
إشارة إلى موقف واضح من طائفتي الرافضة والخوارج: «وتاريخنا الإسلامي
مليء بالحركات والتغيرات التي قامت على الأفكار الصحيحة والمنحرفة، ولا أدل
على ذلك من أن مبعث رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت لتغيير معتقدات
الناس وأفكارهم وإعادتهم إلى الحنيفية المسلمة، وثورة الخوارج قامت على فكرة
عدم جواز تحكيم الرجال في كتاب الله. والشيعة أول ما قامت كانت لفكرة أحقية
علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لأنه من آل البيت، وفي تاريخنا القريب لم تقم
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا على تصحيح معتقدات النّاس مما علق بها من
شرك وتصوفات، ولم تقم جماعة الإخوان المسلمين إلا على فكرة دعوة الناس إلى
التمسك بالإسلام وتوحيد الصفوف» ا. هـ.
فلا أدري هل هذه الأمثلة الخمسة حينما ساقها الكاتب يرى أنها مثال على
الأفكار الصحيحة، أم هي خليط غير مرتب؟ مع أنه قد جاء في المقال ما يوهم أنه
ممن يحمل تلك الذهنية التي تقرأ فيها التعاون مع كل من تتقاطع أدنى مصلحة معه،
وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ولتمرض عقيدة الولاء والبراء، ولْتُمْحَ
الخطوط والحدود بين المناهج، ولنصبح جماعة واحدة اسمها: (جماعة البشر
المسلمين) .
وأما فيما يتعلق بطرحه لهذه الأمثلة الخمسة تأييداً لأهمية الفكر على حساب
معلومات ومحفوظات من النصوص يرى أنه لا ينبغي أن تصل إلى ما وصلت إليه،
أقول لأخي الكاتب: أترى أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فكرة محضة
أم أنها قامت على وحي من الله وبرهان، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه
وسلم: [قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ] (سبأ: 50) .
وقال: [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] (النجم: 3-4) .
وقال لأتباعه: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب:
21) ؟ !
وأمّا عن نِحْلَتَيِ الخوارج والرافضة فأقول للكاتب: أترى أنهما وقد قامتا على
فكرتين حتى في أول عهدهما قامتا على فكرتين صحيحتين إطلاقاً؛ فضلاً عن أن
نحكم على بقية بنائهما بالصحة والصلاح؟ ! فمن النقص أن أدعو إلى الفكر
والانفتاح والتجديد قبل أن أرسخ وأؤكد على الأرضية التي يجب أن ينطلق منها،
وكيفية التعامل الصحيح معها. ولا تظنن أنّ هذه مسألة مسلَّمة واضحة في أذهان
الجميع فضلاً عن أن تكون في التطبيق كذلك؛ وإن مواضع من مقالك تدل على
خلاف ذلك مع الأسف.
وأمّا ما ذكرته من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فهلاّ
استحضرت معها ما للشيخ من الحفظ لنصوص الكتاب والسنة واعتماده عليهما في
آرائه وأحكامه!
إن هذه هي الأرض الصلبة التي كان لها الدور الأكبر بتوفيق الله تعالى في
صلابة اعتقادهم وسداد آرائهم.
لم يزل الإسلام ولا يزال هو العدو الأول لأمم الكفر وهم أعداؤه:
ومن أخطاء الكاتب محاولته من خلال ما سمّاه بالتفسير التآمري أن يثبت أن
رؤية أعداء الإسلام للإسلام لا تعدو أن تكون مجرد عداوة ليس الإسلام وأهله في
مقدمة لائحتها. ولا أدري ما الذي سيدعم هذا الرأي وقد صرح الأعداء أنفسهم في
أكثر من محفل بأن أخوف ما يخافون هو الإسلام؟ ! وها هم اليهود رغم ما عندهم
من الشتات والاختلاف إلا أنهم صف يحاولون جاهدين التوحد أمام المسلمين ودينهم،
وها هي الدول النصرانية رغم النفور الواضح والمصالح المتعارضة فيما بينها إلا
أنها سرعان ما تتناسى ذلك أو ترجئه إذا كان العدو هو الإسلام، فتتكتل سريعاً
ضده لإجهاض كل ما يمكن أن يثمر عنه الطرح للمشروع الإسلامي، وكل هذا
الإيهام للوصول إلى التنبيه على ملحوظة لاحظها الكاتب أثناء قراءته للذهنية
السلفية، وهي أن هناك «محاولة للتصدي والاستعداء لكل المستحدثات العلمية
الحديثة ذات الطابع الإعلامي والجماهيري..» وهذا محض خطأ واستعجال.
ثم يذمّ الكاتب «من يطالب بتقليص انتشار الإنترنت وإغلاق المقاهي
المخصصة له؛ لأنها قد تستخدم في العبث المحرم دون التفكير في إيجاد بدائل أو
حلول» ، أيظنّ الكاتب وهو يدعو إلى الانفتاح أن العالم الإسلامي وشبابه بشكل
خاص وهم يُقبلون على الإنترنت أنهم ما فتئوا يبحثون عن صفحات العلم وخانات
أسرار التقدم التكنولوجي؟ ! إنه بسبب هذه النظرة غير الواقعية لواقع شبابنا من
جهة، وماهية المادة الغالبة المقدمة في الإنترنت حتى الآن من جهة أخرى طالب
بالانفتاح على هذا التقدم المعلوماتي وبدون أي ضوابط، ثم لماذا نحمّل كلمة
التحذير ما لا تحتمل؛ فالتحذير من خطورة هذا الانفجار المعلوماتي، وهذا
التواصل التكنولوجي لا يعني ألبتة رفضه كله وإنما هو التأني، والتأمل، والانتقاء.
وأخيراً نقول لأخينا كاتب (قراءة في الذهنية السلفية) : فلنتق الله سبحانه
ولنتذكر أننا مسؤولون عما نكتب ونقول: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]
(ق: 18) . وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً]
(الأحزاب: 70) .
عفا الله عنّا وعنك وهدانا إلى سواء السبيل.
__________
(1) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة، رواه البخاري (الاعتصام، ح/ 7311) واللفظ له،
ومسلم (الإمارة، ح/ 1921) .(160/140)
متابعات
تعقيب على مقال.. قراءة في الذهنية السلفية
عبد الرزاق بن سعد آل يحيى
كانت عملية المراجعة والنقد التي استفتح بها كاتب مقالة (قراءة في الذهنية
السلفية) فكرة جديرة بالطرح الدوري، وهي في الوقت نفسه مغامرة جريئة إن
صح التعبير؛ لأن عمليات النقد من أشق المراجعات؛ إذ تمر بمرحلة صراع مع
النفس لا تخلو عادة من حظوظ ذاتية، يصاحب ذلك قدر من غبش الرؤية الذي
سببه خطأ التصور الأول.
والقدرة على الاستفادة من النقد ذاتياً كان أو خارجياً مهارة ينبغي أن يتحلى بها
ذوو طموح النجاح والمتطلعون إلى الأفضل، متناسين في سبيل ذلك ما قد يشوب
الانتقاد الموجه إليهم من عوامل إضعاف القبول أو يعترضه من ظنون أو جراح.
وأظن الكاتب حين أراد التمثيل بنماذج مما يستحق النقد، وقدم لها شواهد حية
من تجارب النقد لم يسعفه تحرير النص تماماً، فحصل له خلط في مقدمات الحقائق،
وغموض الرؤية في نماذج مما ذكر، ومبالغات نقلته من طرف إلى طرف،
أظنها ستكون عقبة في قبول بعض القراء للفكرة العامة أو تشوش عليها، وأقيد
السطور التالية إيضاحاً للمقالة السابقة داعياً الله أن يهدينا جميعاً لما اختلف فيه من
الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
تنحصر الملاحظات في الآتي:
1 - مقدمات تفتقر إلى فهم أعمق:
مقارنة أعمالنا بأعمال الغرب أصبحت مما يسود كتاباتنا النقدية، وأصبح من
الطبيعي أن نجد جملة (هُم.. وأما نحن) في نصوص تصحيح المسار وغيرها!!؛
وربما كان أحد أسباب ذلك ضخامة الإنتاج الغربي على كافة الأصعدة، وتفوقه
(النسبي) فيها حتى نصّب نفسه معياراً أو رضيه الناس مقياساً، فأصبح سائغاً
عند بعض النقاد عقد مقارنة بالنموذج الغربي في ممارسات أو سلوكيات تقبل عادة
الاختلاف والتنوع.
وأتجاوز هذا الملحظ إلى القدر الذي استدل به الكاتب حين ذكر أن
الديمقراطية وعدداً من المبادئ كالحرية المطلقة، والرأسمالية، والعلوم الإنسانية،
والمواقف والنظريات تطورت (بالنقد) ؛ فحين لا أخالف الكاتب في ضرورة النقد
وأثره فإن مما ينبغي أن نفرق فيه أن الغرب حين نجح في عمليات المراجعة والنقد
في الأمور المادية المحسوسة والنظريات العملية وتقنين نواميس الحياة: كان غاية
ما وصل إليه في النظريات الفكرية و (الأيديولوجيات) وكمٍّ ليس بالقليل من
التصورات هو نوع من الاضطراب والفوضى الفكرية، وانتقال الغربيين أو
طوائف منهم من نظرية إلى أخرى هو ثمرة الحيرة وأمارة الخواء، وبخاصة في
الأمور الغيبية أو التشريعات العامة التي لا تخلو من أنانية وحب الذات، وليس
تطوراً، بل هو هروب من عنت إلى شقاء.
فالديمقراطية المزعومة في الغرب أحد نماذج الخداع والفشل التشريعي؛
والذي منحها البقاء حتى يومنا هذا مع عوامل أخر أنها أكذوبة خدرت الناس
بإشعارهم بنفوذ رأيهم، وحققت للمتنفذين فعلاً ما يطمعون فيه تحت هذا الشعار
البراق؛ فقد جعلوا عقول الناس وعواطفهم خاضعة لتأثير إعلام يملكونه أو يديرونه،
فصار الإعلام يتقوَّل على الناس ويفتعل الأحداث أو يوظفها، فيردد الناس ما
يقوله الإعلام؛ فهي نوع من (الديكتاتورية) المقنعة التي استبدلت بالإكراه التخيير
فيما تريد.
وأما الحرية المطلقة التي تطورت كما يرى الأخ الكاتب بالنقد لتصبح
مسؤولية جماعية، فهما في الواقع شيء واحد؛ فإن الحرية المطلقة هي نتاج الثورة
الفرنسية التي صاحب اندلاعها وأجج اضطرامها نشوء المذهب الرومانسي، وهو
تيار فكري شمل الأدب والفكر والفن، نشأ رد فعل لغلو الكلاسيكيين في تبنيهم
مبادئ الكلاسيكية، ويقوم على مبادئ منها: الإيمان بمعتقد (تأليهي) غامض
يجعل محور التدين الضمير، ويقلل من شأن الإثم الفردي، ويُحمِّل المجتمع تبعاً
مسؤوليات آثام الأفراد، وعليه يتبين أن المسؤولية الجماعية هي الحرية نفسها،
وليس تطوراً عنها.
والرأسمالية هي الأخرى إفراز للحرية المطلقة التي تعد الاشتراكية نداً لها
ومناقضاً لمقتضياتها، ولم تزاحمها على السلطة قط، إلا إن أراد الكاتب السلطة
على مستوى العالم، وأما الطريق الثالث الذي توهمه الكاتب تطوراً جديداً فهو في
الواقع مشاهد احتضار هذه النظرية التي جسدت الطبقية وألغت التكافل.
2 - السلفية مصطلح غير مؤطر:
من النقاط التي تستحق تقديمها على غيرها؛ إذ عليها قوام المقالة، تحرير
مصطلح السلفية، وأي معنى يقصده الكاتب بمقالته ابتداءاً بالعنوان وحتى آخر
سطر منها؟ فهل كان حديثه عن (السلفية) المنهج نفسه؛ فإن ما يتحدث عنه كان
سلوك أفراد، وعنوان المقالة إن كان من صنعه وسياقها لا يحققان فهم الحديث عن
الأفراد! !
فهل كان حديثه عن (السلفية) طوائف المنتمين إليها؛ فأي طائفة يريد:
طائفة المنتمين إلى المنهج بتبني مبادئه، أم المنتمين إليه بالادعاء؟ لم أجد تحديداً
لشيء من ذلك قدر ما في النص الآتي: «السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان
متعددة، وفيها أصوات هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها، وندعو إلى
التعامل معها وتصحيح مواقفها، وهي مع ذلك تحوي جمهوراً غالباً له مشاركات
كثيرة، ويسوده تقارب كبير في الأفكار وطريقة التنشئة، وهذه الشريحة هي التي
نقصدها» .
لم أفلح في التعرف على تلك الشريحة من خلال النص السابق، ولم أنجح في
التوفيق بين هذا الوصف والتسمية الكبيرة (الذهنية السلفية) ، غير أنه غلب على
ظني أنه يريد عصبة ما تنتسب إلى السلفية؛ فهي طائفة وأعمالها بالنسبة للسلفيين
فردية، فتعميمها على السلفية أو (الذهنية السلفية) تجاوز في غير محله، لكني لا
ألبث طويلاً حتى أجد نصاً يفسد عليَّ هذا النزر اليسير من الفهم حين يقول: «إن
غالبية التيار السلفي المعاصر» و «خارج التيار السلفي» و «في صفوف التيار
السلفي» إذن هو تيار وليس طائفة.
لذا ألتمس من الكاتب أن يضع لاحقاً إطاراً يختاره للسلفية، وإطاراً آخر
للسلفية ذات الأصول المتشنجة، والجمهور الغالب متقارب الأفكار، وطريقة
التنشئة غير الأوصاف الفضفاضة المتقدمة؛ لنتمكن بعد من فهم نقاط الانتقاد فنوافق
أو نخالف، ونفيد ونستفيد!
أرجو ألا يكون مردُّ هذا الإبهام شعور الأخ الكاتب بعدم وجود جو ملائم للنقد
الفكري أو التربوي؛ لأن ذلك جعل صانعي المعرفة كما يقول صاحب «تجديد
الوعي» : ص 228 يعمدون إلى التلميح، مما أوجد الكثير من حالات سوء الفهم.
3 - عيوب السلفية.. عيوب المجتمع:
بعيداً عن مصطلح (السلفية) أرى أن الفكرة العامة للأمثلة الانتقادية لا
تصلح أن تنسب للتيار الإسلامي باعتباره تياراً سلفياً أو غير سلفي، يتبين ذلك من
تلخيص الانتقادات حسب رؤية الكاتب، وسأجتهد في تقديم الفكرة بشمولها في لفظ
موجز:
الانتقاد الأول: القيمة لا تعطى إلا للمعلومة المجردة المستقلة عن دائرة
الأفكار، وهي مجال التفوق والتميز، ولا قيمة لدائرة الأفكار وما تحويه من
الاستنتاج وربط الأحداث وتوليد الأفكار والقدرة على النقد.
الانتقاد الثاني: يلخصه سؤاله: ما مدى معرفة الناس بالأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا العربية كالقومية والماركسية والبعث العربي والنظرية
الليبرالية؟
الانتقاد الثالث: عدم مبادرة المتخصصين إلى التعرف على النظريات
المطروحة السابقة والحديثة وفهمها بعمق، وأسلمة ما يمكن منها، أو إيجاد البديل
المناسب لما لا تمكن أسلمته.
الانتقاد الرابع: التخوف على النشء من تأثره بالمعلومات والأفكار المتدفقة
في عالم اليوم، وحصر القدرة على فهمها في الرموز والمربين، وممارسة الوصاية
على من دونهم.
الانتقاد الخامس: تصور التآمر الغربي في كل علاقة للغرب بالمسلمين،
وتفسير الظواهر العدائية أنها موجهة إلى المتدينين (المسلمين) ، والحساسية من
المستجدات التقنية ذات الطابع الجمهوري العام.
لعلِّي وفقت في حصر الانتقادات لأصِلَ إلى تأييد الكاتب فيها كما هي عليه
الآن باعتبارها انتقادات عامة واقعية نلامسها ونراها ونشمها، إلا أن الشيء الذي
عكّر عليها أنها نسبت لتيار إسلامي أيّاً كان توجهه؛ فإن هذه الانتقادات هي في
حقيقتها أزمة عربية [1] في الإقليم العربي، وأزمة غثائية في وطن رعاع المسلمين
الذين يتقلبون بين حالين: كدّ مضنٍ للوصول إلى سد الرمق، أو سعي دؤوب
لتحقيق الترف واللهو!
أنا لا أنفي وجودها في الوسط الإسلامي؛ فإن المسلم مهما حاول العزلة القلبية
يبقى ابن مجتمعه، والسلبيات الاجتماعية تتقلص في النخبة ولا تختفي، بل إن
كثيراً من أزمات الوسط الإسلامي يعز أن يتوصل إلى علاجاتها ضمن وضعية
الوسط الإسلامي نفسه، وإنما في تحسين الواقع الاجتماعي المحيط، فأزمة عدم
احترام الوقت الذي ينعى فيها على الفئة المتدينة ويبدى فيها ويعاد هي أزمة مجتمع،
وأحد أسباب التوتر من هذه الأزمة وغيرها أن الشعور بالتأزم خاص بنخبة ذات
ثقافة ووعي عاليين بينما من دونهم ثقافة ووعياً يكتفون بمسايرة ما هو سائد، مما
ولَّد طموحاً وهمياً ومحاولة لتخطي السلبيات في وقت سريع بطريق يسير (وهو ما
يقل حصوله) ، لكن ما من شك أن الفئة المتدينة في باب الوقت وغيره من
الفضائل حققت مستويات جيدة يجب أن نعترف بها؛ لنحقق الاتزان في النظر،
والتوسط في التقويم: فيشكرون على ما فيهم من حميد الخصال، وينبهون إلى
درجات الكمال التي تنتظر الإكمال.
ولعل الأخ القارئ يشاركني أن السلبيات في الفئة المتدينة فضلاً عن
الراسخين منهم التي انتقلت عدواها إليهم من المجتمع هي أقل فيهم ممن سواهم،
وأن فضائلهم بالنسبة إلى غيرهم كبيرة، مع ضرورة التنبه إلى أن هذا القدر من
القلة والكثرة لا يعني الاكتفاء به، بل الازدياد من الخير سمة الصالحين وشعار
المتطلعين إلى رضوان الله والجنة، ورغبتنا في كمالهم واقترابهم من الكمال لا
يعنيان الكمال.
وحين أوافق الأخ الكاتب على عموم الأفكار الانتقادية أقيد ملحظين خاتمين:
1 - أن في سطور شرح الفكرة الانتقادية فقرات لا يُسلَّم بها تماماً؛ من
الأمثلة أو التعليلات أو الاستطرادات فأتجاوزها ولا أعرج على شيء منها؛ فالعبرة
في مثل هذه الحوارات بصحة الفكرة العامة؛ إذ يكاد لا يوجد حديث من أحاديث
البشر خلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسلم من مثل هذا؛ ولو فعلته مع نصِّ
أخ ناصح لعددت ذلك تمحلاً وانشغالاً بالجزئيات وقتلاً للموضوع الأساس.
2 - تضمن تحرير بعض الأفكار الانتقادية التي ساقها الكاتب قدراً من
المبالغة التي ربما دفعته إلى التزيد في وصف الظاهرة المنتقدة، أو الاقتراب من
الطرف الآخر عند تقديمه البديل المقترح، وهذا الإجراء كما أظن مما يسود الكتابة
الانتقادية، وربما أصبحت ركناً في بعض أنواع النقد، حتى عُرِفَتْ بها، وإن كان
الحياد والموضوعية هي الطريقة الوسط؛ لكن لا يسوغ أن يفسد استفادتنا مما جاء
من ملحوظات أنها تضمنت ذلك القدر.
__________
(1) أشار الأخ الكاتب إلى هذا الملحظ في مقدمة أحد الانتقادات (وهو الخامس هنا) ، وسماه (عقدة عربية) .(160/145)
متابعات
القومية العربية النسوية تعقد مؤتمرها العولمي الأول
وائل عبد الغني
عقد في القاهرة من (18 - 20) نوفمبر (تشرين الثاني) من العام
(2000م) «مؤتمر قمة المرأة العربية والإعلام» الذي يعد الأول من نوعه على
مستوى الرعاية والتمثيل.
فقد تم المؤتمر تحت رعاية جامعة الدول العربية، وبمشاركة «المؤتمر
القومي للمرأة» بمصر، وبتمويل من «مؤسسة الحريري» بلبنان.
شارك في المؤتمر 19 دولة عربية (جميع أعضاء الجامعة ما عدا السعودية
والجزائر وقطر) ، ترأَّس تسعة وفود منها من يُسَمَّيْن «السيدات الأُوليات» في
بلادهن، إلى جانب تمثيل عالٍ لباقي الوفود، إضافة إلى 400 شخصية نسائية
عربية، وعدد كبير من المنظمات النسائية وبحضور ممثلين عن:
- الصندوق العربي للتنمية، وعنه الدكتورة ميرفت بدوي نائبة رئيس
الصندوق.
- منظمة اليونيسيف، وعنها الدكتورة فاطمة خفاجة مديرة برامج المرأة في
المنظمة.
- دولة إيرلندا، وعنها ماري هاينيغن وزيرة الدولة.
- الأمم المتحدة، وعنها الدكتورة ليلى تكلا، كبيرة مستشارين، وإنجيلا
كينج مساعدة السكرتير العام.
- صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، وعنه الدكتورة هيفاء أبو غزالة،
المديرة الإقليمية.
- منظمة الأسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) ، وعنها
الدكتورة مريم العوضي، نائبة الرئيس الإقليمي.
- دولة اليونان، وعنها السفيرة ميرو كيسو جلو.
إلى جانب ممثلين عن اتحاد البرلمانات العربية والمنظمات والصناديق العربية
الأخرى.
وقد أتى هذا المؤتمر بعد شهرين فقط من فعاليات المؤتمر الاستثنائي للألفية
الثانية بالأمم المتحدة.
وبعد خمسة أشهر من عقد مؤتمر بكين + 5 للمرأة في الأمم المتحدة أيضاً،
والذي وقَّعَت على وثيقته جميع الدول فيما يسمى باتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز
ضد المرأة.
وبعد سنة من مؤتمر البرلمانيات العربية الذي عقد في بيروت، وأعلن عن
اعتبار سنة 2000م عاماً للمرأة العربية.
وبعد ثلاثة عشر شهراً من مؤتمر القاهرة للمرأة والاحتفال بمرور المئوية
الأولى لقاسم أمين.
ولعل هذا يوضح بعض الخطوات البادية التي سبقت هذا المؤتمر والتي كان
منها بالطبع تأسيس هياكل نسائية رسمية (مؤتمر اتحاد جمعيات وزارة) للمرأة
داخل الدول العربية. وقد جاء هذا المؤتمر استجابة رسمية من حكومات الدول
العربية لتفعيل القرارات الدولية التي أصبحت ملزمة وتشكل مرجعية لسن القوانين
والتشريعات في كافة الدول، وقد حددت مهلة لإتمام التطبيق بحلول 2005م.
وقد حمل المؤتمر شعار «تحديات الحاضر، وآفاق المستقبل» للخروج بـ
«ميثاق شرف إعلامي» .
وقد استضاف المؤتمر شخصيات ذات باع طويل في العمل النسوي والعمالة
لمصلحة المشروع التغريبي بمراحله المختلفة والتي آخرها العولمة لوضع
استراتيجية أو أجندة عمل من أجل تفعيل دور المرأة العربية على النحو المرسوم
لها من قبل الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها والمكملة لها ضمن هيكلة كاملة
لسيطرة كونية.
ومن هنا يأتي دور الحكومات لتأسيس شرعية الاتفاقيات الدولية عبر الأطر
القانونية والإعلامية والثقافية والاقتصادية والتعليمية والسياسية بوصفها حركة
وسيطة تسبقها الحركات النسوية بنداءاتها العالية لإلغاء ما بين الأقواس «أي
استثناءات الدول الإسلامية وتحفظاتها على بعض بنود الاتفاقيات؛ وبهذا تبرز
الجهود الحكومية لتمثل قناة محركة لتدفق تلك الحركات من جهة وإعلاناً لرسمية
كثير مما تنادي به المنظمات غير الحكومية الحقوقية النسوية وشرعيته.
وقد ناقش المؤتمر عدة قضايا أبرزها:
- انعكاسات الإرث الثقافي على دور المرأة العربية.
- سبل مشاركة المرأة في اتخاذ القرار السياسي.
- سبل تعزيز عمل المنظمات غير الحكومية المتخصصة فيما يُزعَم من دعم
المرأة من خلال محاور المؤتمر: الثقافية، الإعلامية، السياسية، القانونية،
الاقتصادية، الاجتماعية.
أيام المؤتمر:
افتُتح المؤتمر في قاعة المؤتمرات الكبرى بالقاهرة صباح السبت 18/11/
2000م بكلمة زوجة الرئيس المصري سوزان مبارك قالت فيها:» هذا المؤتمر
هو بداية جديدة لحركة نسائية عربية شاملة تقوم في ظروف جديدة، ومن هنا فإن
أحد أهدافه الأساسية هو وضع خطة عمل لتنظيم وتنشيط العمل النسائي العربي
خلال عام 2001م الذي اختير ليكون عام المرأة العربية.
كما إنه من المهم الخروج من مؤتمرنا هذا ببرنامج عمل قومي للسنوات
المقبلة آخذين في الاعتبار خصوصية كل قطر والظروف المميزة لكل دولة والتنوع
الذي نعتز به في الشخصية الوطنية لكل شعب من شعوب أمتنا العربية «.
ثم تلت ذلك كلمة الدكتور عصمت عبد المجيد الأمين العام للجامعة العربية،
وتناول فيها قضية القدس والقضية الفلسطينية، وأشار إلى كون المؤتمر مبادرة
ستمكن المرأة من إبراز مشاركتها في قضايا أمتها!
ثم جاءت كلمة بهية الحريري ممثلة الممول (مؤسسة الحريري) ، ثم كلمات
زوجات الرؤساء والملوك الحاضرات.
وجاءت الكلمات مزيجاً من الحماس والثورة الرامية إلى تغيير الأوضاع،
والإشادة بما تم إحرازه على طريق تفعيل دور المرأة ولو كان قليلاً مع الحرص
على إلقاء بصيص من ضوء على تجربة المرأة في كل قُطْر وهي العبارة التي
حرص الجميع عليها، حفاظاً على الخصوصية وربما للتغلب على أي حرج متوقع
إبان الخوض في شؤون المرأة، وحرصت المتحدثات على صبغ كلماتهن بصبغة
سياسية دون تفاصيل أو التطرق لقضايا يمكن أن تفتح باب الخلاف، وقد كانت
الاستثارتان الوحيدتان كويتية وعراقية؛ حيث خاضت رئيستا الوفدين في المشكلة
العراقية الكويتية حيث تكلمت الأولى عن الأسرى والمفقودين من جهة، وتكلمت
الثانية عن ضحايا الحصار العراقيين من جهة أخرى.
وأشارت الأميرة المغربية لالا مريم إلى دور والدها وأخيها في تحرير المرأة
المغربية التي أصبحت اليوم ذات حضور بارز في جميع الميادين السياسية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وممثلة في الحكومة والبرلمان والقضاء
وكافة المؤسسات الإنتاجية، وإقامة وزارة خاصة بأوضاع المرأة مؤخراً مهمتها
تفعيل السياسة الوطنية في هذا المجال ضمن خطة تنمية ديمقراطية شاملة في
المغرب ترتكز على أصالة الإسلام الذي جعل من النساء شقائق للرجال في الحقوق
والواجبات! وأن نجاح أي مشروع مجتمعي رهن بممارسة المرأة لمواطنتها الكاملة،
ودعت الأميرة لإنشاء صندوق للتضامن مع المرأة العربية.
وقالت سبيكة بنت إبراهيم الخليفة زوجة أمير البحرين: إن حكومة بلادها
تعمل جاهدة على تمويل الإنجازات التعليمية والاجتماعية والحضارية لمسيرة المرأة
إلى مكاسب سياسية في منطقة الخليج كله.
وذكرت أنه في ظل النهج التقدمي الذي تنتهجه حكومتها دخلت المرأة
البحرينية المتعلمة والمنتجة مجلس الشورى في البلاد، كما تولت محامية بحرينية
منصب أول سفيرة للبحرين في باريس.
ودعت رئيسة وفد سلطنة عُمان إلى وضع استراتيجية شاملة لتفعيل دور
المرأة وتحقيق ذاتها. أما عن المرأة العمانية فقالت إنها تحظى باهتمام أكثر من ذي
قبل؛ حيث تشارك حالياً في مختلف أوجه النشاط السياسي والاجتماعي والفكري
وغيرها من مناحي الحياة، وقالت: إن المجتمع العماني وضع التشريعات
والقوانين التي تسوي بين الرجل والمرأة في التعليم وفي الأنشطة المختلفة باعتبارها
فرداً في المجتمع مما أتاح لها الفرصة لاحتلال مكانة مرموقة ومتقدمة في المجتمع،
وأشادت بالدور الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية في خدمة القضايا المختلفة
التي قد تجاوز دور المؤسسات الحكومية.
وقالت سعاد بكور رئيسة الوفد السوري وعضوة مجلس الشعب: إن مشاركة
وحضور سيدات في مكان وضع القرار في الوطن العربي يتيح فرصة كبيرة
لإنجاح عملية إدماج المرأة في عملية التنمية، وأكدت على أهمية الفهم المنطقي
للدين الإسلامي؛ حيث إن الموروثات الثقافية والمفاهيم العربية التقليدية فيما يتعلق
بالمرأة دخيلة على الدين الإسلامي.
وقالت بهية الحريري عضوة البرلمان اللبناني وأخت رفيق الحريري وممثلة
مؤسسة الحريري: إن المؤتمر لحظة صناعة التاريخ والتحكم بمساراته. وبينما
استمرت الجلسة الافتتاحية ساعتين 12 - 2 ظهراً أعلن عن تنظيم الأمانة العامة
للمجلس القومي للمرأة بمصر مؤتمراً فنياً على هامش المؤتمر.
ثم تناولت الضيفات طعام الغداء في دعوة رسمية، وفي المساء شارك
الحضور في حفلة خيرية فنية كبيرة دارت بين رقص وغناء وتحف ومشغولات
وتبرعات لصالح المرأة الفلسطينية!
اليوم الثاني:
يعد اليوم الثاني هو العمود الفقري للمؤتمر؛ إذ تركزت فيه الكلمات
المتخصصة، وقد شهد ستة محاور ساخنة على جلستين؛ ففي الجلسة الصباحية
نوقشت أربعة محاور متنوعة هي:
أولاً: المحور الثقافي: قدم فيه الدكتور جابر عصفور توصيفاً للمشكلات
الثقافية التي يشهدها الواقع الثقافي للمرأة العربية، فتحدث حول ثلاث ملاحظات:
أ - أنه لا يمكن فصل ثقافة المرأة عن ثقافة الرجل، ومن ثم ثقافة المجتمع
ككل، ومن ثم فإن مواجهة المشكلات الثقافية للمرأة لا تنفصل عن مواجهة بقية
المشكلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.
ب - أنه لا يمكن فصل الأوضاع الثقافية في أي قطر عربي عن بقية الأقطار.
ج - أنه لم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة عربية للمرأة بمعزل عن ثقافة العالم
المعاصر.
لاحظ معي أن مؤدى هذه الحتمية الثلاثية التي أوردها الدكتور عصفور هو
أن فكر العولمة لا مناص عنه لكل الأمة العربية ليس لثقافة المرأة فقط بل والرجل
كذلك.
ثم حدد المتحدث سبع مشكلات ثقافية تعانيها المرأة العربية المعاصرة وهي:
1- الميراث الثقافي التقليدي الجامد الذي نزل بالمرأة إلى أسفل الدرجات كي
يعلي من شأن الرجل.
2 - غياب الحرية السياسية بمعنى أو أكثر في الأقطار العربية بدرجات
متفاوتة.
3 - تصاعد تأثير المجموعات الاجتماعية الضاغطة الموازية لسلطة الدولة
المدنية والمناقضة لها في الوقت نفسه وخاصة مجموعات التطرف الديني التي
تعادي حرية الفكر والإبداع، وتناهض كل ممارسة اجتماعية تتعلق بالمرأة.
4 - لا تزال الأنظمة التعليمية في بعض مجالاتها على الأقل تكرس التمييز
بين الرجل والمرأة، ولذا تحتاج مناهج التعليم أن تنير الطريق على كل المستويات.
5 - ما تقوم به المرأة نفسها من إعادة إنتاج الثقافة التي تقوم بقمعها والتقليل
من شأنها.
6 - ما يعتبر الثقافة السائدة نتاج موروث اجتماعي ذكوري، وهو موروث
كما يزعم الدكتور لا يزال يفرض التمييز بين الرجل والمرأة في المكانة الاجتماعية،
وهو ما يؤدي إلى الحد من ترقي المرأة ووصولها إلى أعلى المناصب ولا يقبل
فتح أبواب وظائف بعينها أمام النساء؛ وذلك إلى جانب القيود الاجتماعية
المفروضة على إبداع المرأة ونتاجها الفكري في معظم البلدان العربية؛ ولذا فإن
نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر أقل بكثير من نسبة النساء.
7 - التحدي العالمي الذي يتمثل في ثورة الاتصالات التي أحالت العالم إلى
قرية كونية.
ودعا الدكتور عصفور في بحثه إلى صياغة رؤية ثقافية جذرية شاملة متكاملة
لاستكمال مهام تحرير المرأة فكرياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
ثانياً: المحور الإعلامي: تحدثت الدكتورة عواطف عبد الرحمن، عن المرأة
العربية والإعلام؛ فأكدت أن المشاركة النسائية في الصحافة العربية كانت أسبق من
كل الميادين، ودعت إلى تغيير السياسات السائدة، والتي تقوم على أساس التمييز
بين الجنسين وتُنمِّط صورة المرأة في إطار استهلاكي، وتقصر صورة الاهتمام
على الحضريات والشخصيات العامة، ونادت بتعديل التشريعات القانونية في مجال
الأسرة والعمل على تطبيقها فعلياً؛ لتكفل للمرأة فرصاً متكافئة بكل المستويات
والتدريب، إلى جانب تغيير صورة المرأة في مناهج التعليم وفي البرامج الإعلامية
والكتابات الصحفية بما يحقق التوازن بين مسؤوليتها وإنجازاتها الفعلية داخل
المنزل وخارجه.
- إيجاد مؤسسات معاونة تساهم في حمل مسؤولية تربية الأطفال وإدارة
شؤون الأسرة مثل الحضانات ودور المسنين والمطاعم والمغاسل العامة ... إلخ!
- ضرورة إدارة الأعمال المنزلية للمرأة ضمن عائد الإنتاج القومي.
- ضرورة التزام القيادات العربية بمراعاة الوظيفة الاجتماعية والثقافية
للإعلام وأدواره الحيوية في تشكيل الوعي الصحيح عن الواقع المجتمعي بكل ما
لديه من موروثات ثقافية وتحديات اجتماعية وطموحات إنسانية عادلة.
ثالثاً: المحور السياسي: طرحت فيه الدكتورة ليلى تكلا إطار موقف المرأة
العربية في المجال السياسي في نقطتين:
الأولى: المفاهيم الخاطئة التي تحد من مشاركة المرأة في صنع القرار
السياسي.
الثانية: موقف المرأة إزاء القضايا السياسية، وخاصة تلك التي يمر بها
الوطن العربي في هذه الفترة العصيبة.
ففي مواجهة التحدي الأول فإن ما تحتاجه هو ليس فقط تحرير المرأة ولكنه
أيضاً تحرير عقل الرجل من أفكار رجعية ضيقة بالية عن المرأة وقدراتها،
والسبيل الوحيد أن تعمل المرأة بكفاءة وتثبت قدراتها، وأن تنبذ السلبية، وتعمل
على المشاركة في مسيرة تقوم على العطاء وأداء الواجبات بقدر ما تقوم على
المطالبة بالحقوق.
وبالنسبة للتحدي الثاني فقد دعت إلى:
- أن تطالب المرأة العربية وبإصرار بالاعتراف بدولة فلسطين المستقلة ذات
السيادة الكاملة وعاصمتها القدس الشرقية.
- مطالبة المجتمع الدولي بمؤسساته وأجهزته بالإصرار على إنهاء العنف
الذي يمارس ضد شعب فلسطين الأعزل الذي يهدف إلى الحياة حراً في سلام على
أرض وطنه العربي الذي سلب منه.
- دعم المرأة الفلسطينية من أجل تحرر وطنها وكرامته.
- إنهاء العقوبات الموقعة على ليبيا والسودان، ورفع الحصار والمعاناة عن
شعب العراق، ووقف القصف الجوي وحملات التفتيش التي لا تسعى إلا إلى
تحطيم قدرات العراق وإمكاناته.
- مناشدة العالم الإسلامي والعالم المسيحي للعمل على حماية المقدسات الدينية
التي يحترمها المسيحيون والمسلمون على حد سواء والتي أصبحت مهددة بالهدم
والتغيير مع ما في ذلك من ضياع التراث وإهدار التاريخ وانتهاك لكافة المواثيق.
- التأكد من ضرورة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب» الإسرائيلية «في
فلسطين وسيناء وجنوب لبنان، وإلزام» إسرائيل «بدفع التعويضات لضحايا
الاعتداءات اللاإنسانية على المدنيين وأسرى الحرب.
- مناشدة لجان حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وإيفاد مراقبين يرصدون
الموقف الذي تردى بسبب إهدار إسرائيل كافة حقوق الإنسان بكل وسائل القهر
والدمار.
رابعاً: المحور القانوني: تحدثت حميدة العريف عن الموقف القانوني وحقوق
المرأة في ظل الاتفاقيات الدولية والقوانين الوضعية، وطرحت في ورقة العمل التي
ألقتها في المؤتمر، أنه بفضل التحولات التي تسود عالمنا المعاصر أخذ الاهتمام
بشؤون المرأة العربية يزداد بعد أن تحررت من وضعها المهمش واسترجعت
كرامتها وبدأت مشاركتها في الحياة الميدانية والسياسية ترتفع، وانفتحت الآفاق
أمامها داخل الأسرة والمجتمع، وتم تشكيل الصيغ الدستورية والتشريعية للتركيز
على حقوق المرأة في جميع المجالات، وعن حق المرأة العربية في العمل وشغلها
جميع المناصب أكدت حميدة العريف أن التشريع الإسلامي قد ساوى بين الجميع
نساءً ورجالاً في الحقوق والواجبات، وكفل للمرأة حقها في التعليم وحقها في العمل،
كما صدَّقت أغلبية الدول العربية على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال
التمييز ضد المرأة، وتمت صياغة الحقوق السياسية للمرأة ضمن الدساتير
والتشريعات الوطنية على أن تكفل الدولة لها جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة
الفعالة الكاملة في الحياة السياسية وإزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في
بناء المجتمع، وأبرز هذه الحقوق: حق الاقتراع والانتخاب والترشيح، حق تقلد
المناصب العليا ومباشرة الوظائف العامة، حق المشاركة في الأحزاب وفي العمل
الاجتماعي؛ لكن وبالرغم من هذه المساواة على الصعيد القانوني بين المرأة
والرجل في الحقوق السياسية فإن المشاركة الفعلية للمرأة في العمل السياسي لم تزل
محدودة لا سيما في بعض المجتمعات العربية.
وفي الجلسة المسائية: وفي المحور الاقتصادي: تحدثت الدكتورة ميساء سالم
الشامي عن حجم المشاركة الاقتصادية للمرأة العربية، فأكدت أنها تتفاوت من دولة
عربية إلى أخرى وفقاً لنظام الدولة وانتشار التعليم ومدى حصول المرأة على
حقوقها والموروثات التي تحكم الحياة في هذه الدول، وقدمت مجموعة من
المقترحات والتوصيات لمواجهة التحديات المتعلقة بمساهمة المرأة العربية في
الأنشطة الثقافية لخصتها في:
- حشد قوى الأسرة التربوية والثقافية ومؤسسات العمل وأجهزة الاتصال
الجماهيرية من أجل تكوين وعي حول المرأة وأدوارها وإمكاناتها.
- توفير الظروف المجتمعية التي تيسر المشاركة الكاملة للمرأة في جميع
المجالات من خلال دراستها وتطور مهارتها.
- إعداد وتأهيل الكوادر النسائية المتخصصة، والمشاركة في مجال التخطيط
الاقتصادي والاجتماعي.
- وضع السياسات والبرامج لتشجيع المرأة على دخول مختلف أنواع العمل
التي تستلزمها الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية حاضراً ومستقبلاً.
- تحديث التشريعات والقوانين بحيث تتضمن مساواة المرأة بالرجل في
حقوق العمل، والمساواة في الأجر وفي فرص الترقي.
خامساً: المحور الاجتماعي: وتحدثت فيه الدكتورة مريم العوضي، عن
محاور التنمية الاجتماعية المتعلقة بالنهوض بالمرأة وتمكينها؛ فأكدت أن المعطيات
السائدة حالياً في المجتمعات العربية بلغت حداً ومستوى يقضيان بإطلاق طاقات
المرأة وقدراتها لتصبح شريكاً كاملاً للرجل في بناء عالم جديد متوازن، وطالبت أن
تعيد القمة النظر في أولويات خطة العمل العربية والمحاور الثلاثة لبرنامج العمل
العربي الموحد: (الفقر المشاركة السياسية الأسرة) .
وقد جاءت التعقيبات من الحاضرات مزيجاً من الانسجام والآمال والشكاوى
وبعض الاعتراض:
* قد تساءلت سالمة شعبان رئيسة الوفد الليبي عن مدى صحة أن المرأة
تعيش واقعاً صحياً أهو صحيح أم ذلك محض وهم؟ وعلاقة الأفكار المطروحة من
قبل» حركات التحرر النسائي «في العالم العربي ومدى ارتباطها بالأفكار الغربية
والرؤى الغربية التي بهرت مجتمعاتنا العربية؟
* شارت الدكتورة حورية مجاهد من مصر إلى أن التشريعات الجديدة مثل
قانون الأحوال الشخصية وإقرار حق الخلع وكذلك حذف المادة التي تنص على
تولي الذكور فقط لمنصب العمدة، وكذلك كانت مصر من الرائدت في مجال توقيع
الاتفاقات الخاصة بالمرأة والطفل.
وأكدت على ضرورة تخصيص مقاعد للمرأة وقائمة نسبية للمرأة في البرلمان
مثل الدول الاسكندنافية مما يعد حلاً عملياً وغير تقليدي لتحقيق مساواة المرأة
بالرجل في هذا المجال.
* ما الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس،
فقد قالت في كلمتها: إن تغيير النظرة للمرأة لا تأتي إلا بتحول المرأة إلى الإنتاج،
وأن تكون محترمة في ذاتها، ولا تذوب في الرجل! يجب أن تعيش في ذاتها
ولذاتها، وتكسب من عملها؛ ومن هنا يمكن أن تتغير النظرة للمرأة من خاضعة
للرجل إلى مشاركة معه في العمل والإنتاج.
* نجيلا كينج مساعد سكرتير عام الأمم المتحدة لشؤون المرأة أيدت استعداد
الأمم المتحدة للمساهمة في تفعيل توصيات المؤتمر؛ وإن كانت لم تتلق بعدُ طلباً
رسمياً بذلك.
* أكدت المتحدثة باسم الوفد اللبناني أن المرأة اللبنانية تحقق لها من خلال
المجلس التشريعي المساواة التامة في الدستور، واستكملت في التسعينيات في
الحقوق المدنية والتجارية، وأصبحت المرأة اللبنانية تتمتع بالأهلية الكاملة غير
المنقوصة.
* ثار تعقيب فريدة إبراهيم القاضية بالمحكمة العليا السودانية وممثلة الوفد
اعتراضات من جانب القاعة والمنصة؛ حيث هاجمت بنود اتفاقية إنهاء أشكال
التمييز ضد المرأة (سيداو Cedow) واعتبرتها ضد الشريعة الإسلامية وضد
قوانين بعض الدول العربية، وذكرت أن التحفظات التي أبدتها الدول العربية غير
مقبولة وغير معترف بها، وقالت: إن هذه الدول عليها تغيير قوانينها طبقاً للاتفاقية
وأنها ملزمة.
اعترض الوفد التونسي واللبناني وطلبا إيقاف المتحدثة التي تخطت الوقت
المخصص للكلمة واعترض على مضمون الكلمة أيضاً، واعترضت المنصة بأن
المتحدثة لم تتوخ الدقة في كلمتها بالإضافة إلى أنها حولت الموضوع إلى محاضرة
سياسية وتشريعية وليست تعقيباً! !
* لدكتورة فاطمة خفاجة، مديرة برامج المرأة في منظمة اليونيسيف قالت:
إن المؤتمر يحكي أن هناك إرادة سياسية تدفع قضية المرأة إلى الإمام، وأعربت
عن أملها بأن يخرج هذا المؤتمر باستراتيجية للنهوض بالمرأة العربية، وخاصة أن
هذا المؤتمر يضم القيادات العربية النسائية البارزة، وأوضحت أن المشاكل
والظروف التي نعاني منها تجمعنا أكثر مما تفرقنا، وقالت: أتمنى أن يتخذ المؤتمر
خطوات إيجابية، وأن تشكل لجنة لأخذ التوصيات لترجمتها إلى خطوات عملية،
وأن تمثل الجمعيات الأهلية في هذا الجانب، وأن تكون هناك آلية تجمع بين
الجانب الحكومي والأهلي في وضع هذه الاستراتيجية.
على هامش المؤتمر:
ورغم تهافت ما طرح في المؤتمر إلا أنه يمثل عنصر تشويش خطير على
قطاع عريض من المجتمعات؛ لأن معنى الدعم السياسي والاعتراف الرسمي
والمعالجة الإعلامية يضفي صفة الشرعية ليس فقط على ما تقوم به مثل تلك
المؤسسات النسوية وإنما أيضاً على مقررات بكين، وبكين + 5 التي وقَّعَت عليها
جميع الدول، ويكون الدور الرسمي هو تطبيق تلك المقررات في الفترة من الآن
وحتى حلول 2005م. ويكون دور المؤسسات النسوية أبعد من ذلك بالسعي إلى
إلغاء ما بين الأقواس أي الاستثناءات التي اشترطتها الدول الإسلامية من الاتفاقيات
مراعاة للخصوصيات المختلفة للمجتمعات.
ومن الواضح أن نهاية الطريق الطويل الذي تحدثت عنه إحدى الملقيات هو
الوصول إلى ثورة نسوية Feminism وما بعد النسوية Post Feminism
والتي تتخطى كل الحدود اللغوية والعقدية بل حتى ثقافة» الجندر «لتضفي
الأنثوية على كل شيء، كل شيء حتى ما يجب تنزيهه عن ذلك سبحانه وتعالى
وقد تم صياغة الإنجيل صياغة أنثوية في هذا الإطار، ذلك بعض الشر القادم أعاذنا
الله منه.
ملاحظات:
- شهد اليوم الثاني تعقيباً واسعاً لأعضاء الوفود حتى شكل ظاهرة أقلقت
الجهات المنظمة للمؤتمر.
- وقد غادر القاهرة في اليوم الثاني الملكة رانيا (الأردن) وليلى بن علي
(تونس) .
- لم تلق كل من رئيسات وفود البحرين وجيبوتي وجزر القمر كلماتهن
واقتصرن على توزيعها على أعضاء المؤتمر.
- أبدى بعض الكتاب ملاحظة على إدخال المفهوم النسوي في باب السياسة
ضمن مفهوم الحكم العائلي، تلك الحمى التي أصابت المنطقة العربية والتي بدأت
بمشاركة الأبناء في الحكم تمهيداً لانتقال السلطة إليهم بمباركة أمريكية وترحيب
عربي.
ولعل هذا يطرح فكرة الهرم الماسوني وتوطيد أركانه.
- لوحظ أن الدول المشاركة تمثل ترتيباً تنازلياً من حيث قضايا المرأة تقف
تونس ولبنان في مقدمتها.
ثم تأتي مصر والمغرب والأردن وسوريا والسلطة الفلسطينية، وتليها
العراق واليمن وعمان والإمارات والبحرين والكويت، ثم بقية الدول؛ ومن هنا
أظهرت عدة أطراف أهمية تبادل الخبرات؛ إلى جانب افتراض جابر عصفور
وحدة الثقافة العربية أي إزالة الخصوصية القطرية ضمن الإطار العربي أولاً.
- بعد انقضاء المؤتمر بيومين صدر قرار في 22/11/2000م من كوفي
عنان بتعيين ميرفت التلاوي أمينة المجلس القومي للمرأة بمصر وإحدى أبرز
المشرفات على المؤتمر في منصب السكرتير التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية
لغرب آسيا (أسكوا) برتبة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة من أول يناير 2001م.
* اليوم الثالث: عقدت الجلسة الختامية:
- بدأت الجلسة بكلمة للدكتور عصمت عبد المجيد تضمنت توصيات المؤتمر
التي عرفت بـ» إعلان القاهرة «.
ثم ألقت سوزان مبارك كلمتها في ختام الجلسة واختتم المؤتمر بذلك.
إلا أن منال يونس رئيسة وفد العراق ورئيسة الاتحاد النسائي العراقي أبدت
تحفظها على البيان وأسلوب وضعه وتحيزه بدلاً من انسحاب الوفد.(160/148)
متابعات
الانسحاب من لبنان لمصلحة مَن؟
أسعد التهامي
الأعداء يوهموننا أنهم قدَّموا لنا شيئاً، وبهذا الوهم تُفجر مشاكل واضطرابات
أخرى، وهذا ما يفعله اليهود على مرّ العصور.
فاليهود إذا تنازلوا عن شيء فإنهم يكسبون من ورائه أشياء، وإن لم يكسبوا
شيئاً خرَّبوا ما يتنازلون عنه؛ وهذا ما فعله يهود بني النضير عندما نقضوا العهد
مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد، فحاصرهم الجيش الإسلامي حتى
صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر؛ وكانوا قبل
جلائهم عن ديارهم يُخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون
الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً. قال تعالى: [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي] (الحشر: 2) .
وجاءت قضية الانسحاب من لبنان لتدلل على طبع اليهود الخبيث، وأن كل
شيء يفعلونه يكون في صالحهم حتى وإن كان ظاهره غير ذلك؛ فالانسحاب من
لبنان يصب في جعبة إسرائيل مع التنبيه على أنه انسحاب غير كامل؛ فهناك أكثر
من ثمانية قرى تحت أيدي القوات الإسرائيلية، كما أن هناك مزارع (شبعا) التي
تبلغ مساحتها 200 كم2 وتعتبر مصدراً مهماً من مصادر الدخل في إسرائيل
لإنتاجها الحيواني من ناحية ولقيمتها السياحية من ناحية أخرى، وهناك بعض
الجوانب التي تبين كيف أن الانسحاب من لبنان في صالح إسرائيل في المستوى
الأول، ومن ذلك:
أولاً: توقف المقاومة من قِبَل حزب الله، وقد كانت سوريا تُعوِّل على
المقاومة من قِبَل حزب الله كثيراً من الآمال في إجبار إسرائيل على الانسحاب من
لبنان والجولان في آن واحد، ولكن ما حدث الآن قطع السبيل وضيَّع تلك الفرصة
على سوريا.
ثانياً: الضغط على حزب الله ولعب شتى الأدوار عليه من نزع للسلاح،
وخلخلة العلاقة بينه وبين الدولة وما إلى ذلك، وقد قال الرئيس الأمريكي: «إن
مسألة حزب الله يجب ألا تتكرر» .
ثالثاً: إحداث خلاف سوري لبناني.
وذلك عن طريق:
أ - عدم انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا؛ فقد استطاعت إسرائيل أن تحشد
دعماً دولياً قادته أمريكا وفرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة يقر بأن (شبعا) ليست
لبنانية وإنما هي سورية.
ب - أن هذا الانسحاب أدى إلى انتفاء مسوِّغ وجود القوات السورية في لبنان
والتي يبلغ عددها 35 ألف ضابط وجندي، إضافة إلى مئات الآلاف من العمال
السوريين في لبنان الذين يشغلون أعمالاً يتعطش لها الشباب اللبناني.
رابعاً: إيجاد الفراغ الأمني بلبنان:
أ - فانسحاب اليهود السريع من لبنان قبل ترتيبات الأمم المتحدة هو محاولة
من إسرائيل لإيجاد ما يسمى بالفراغ الأمني الذي يتيح الفرصة لنشوب نزاعات
داخلية لبنانية ووضع السلطات اللبنانية وسوريا في حرج؛ فقد أعلنت إسرائيل أنها
ستنسحب في السابع من يوليو، ثم فاجأتنا بالانسحاب في الخامس والعشرين من
مايو لإشاعة الفوضى والتوتر في جنوب لبنان.
ب - وذلك أدى إلى أن لبنان ستلتفت إلى قضاياها ومشاكلها الداخلية ولا
تتدخل في شؤون أو مشاكل أي دولة أخرى حتى وإن كانت سوريا.
خامساً: اختفاء أي مطالبة بخطوات تجاه السلام من قِبَل إسرائيل؛ فهي
تنتظر بتلك الخطوة أي الانسحاب من لبنان تهليلاً واحتفاءاً وتطبيلاً على المستوى
العربي والعالمي، وتصوير الأمر على أنها تنازلت عن بعض حقوقها من أجل
السلام «وكأن احتلالها جنوب لبنان من حقوقها» . وهذا يؤدي إلى إرجاء أي
خطوات أخرى في مسيرة السلام.
وللأسف أن هناك من صدَّق أنه بخروج إسرائيل من لبنان قد تغيرت كل
الأوضاع، وأن السلام على وشك التمام، وهذه نظرة قاصرة بلا شك.
سادساً: المراهنة على حدوث اقتتال لبناني فلسطيني؛ فلبنان ضد توطين
الفلسطينيين وهو مع عودتهم إلى ديارهم، وقد صرَّح رئيس الجمهورية اللبناني بأن
لبنان لن يسمح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيه، وأن من حقهم الكفاح من
أجل العودة. والقضية شائكة؛ حيث تتعلق بمصير مئات الآلاف من الفلسطينيين
المقيمين في المخيمات.
وهكذا نرى أن إسرائيل قد حققت مصالح على المستوى العالمي والعربي،
وأن فوائد الانسحاب تصب عندها، ولكن البعض نظر إلى ذلك الانسحاب من
جنوب لبنان على أنه انتصار عظيم، وكأن اليهود انتهوا بذلك، وإن كنّا لا نقلل
من الانسحاب الذي يعبِّر عن هزيمة عسكرية صهيونية.(160/154)
الباب المفتوح
فقيد العلم والدين!
جمال الحوشبي
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا
بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا» [متفق عليه] .
ذبول في العراجين ... لهمٍّ كاد يبريني
تُرَدِّدُ رَجْعَه نجد ... على فقد العثيمين
وتُرْوَى اليومَ سيرتُه ... من البلقان للصين
ألا يا ليت ما شعري ... وما وصفي وتبييني
أحقاً مات عالمنا ... فقيد العلم والدين؟
أمات الصالح المحبو ... بُ في قلبِ الملايين
وفاضت عبرةٌ مني ... فكاد الدمع يبكيني
دعتك مفاتن الدنيا ... بأصناف القرابين
فما كنت الذي في زهـ ... رة الدنيا بمفتون
لئن قالوا: فقدناه ... فذكرك في الدواوين
علوم كنت تشرحها ... بنهج منك مسنون
لئن قالوا: تغيَّب في ... حنايا الترب والطين
فعلمك بيننا أبداً ... زكيُّ الصاد والسين
ألا تبكون مَن في فق ... ده النقصان في الدين
لك الرحمن يا أسداً ... هصوراً في الميادين
إذا ما قلت: قال الله ... في حزم وتمكين
وصُغت السنَّة الغراء ... إحكاماً بتبيين
تهابك في معاقلها ... أشمَّاءُ العرانين
لئن غودرت يا عَلَماً ... بجوف الترب والطين
فأسأل من حباك الفضل ... في عزٍّ وتمكين
بأن يوليك مكرمة ... بدار الخلد والعِين(160/156)
الباب المفتوح
الصدع والأنين في رثاء العلامة ابن عثيمين
أيمن إبراهيم شحاتة
قف في سكون على الأطلال مُعتبِرَا واخفض من الطرف واخشع واسمع الخبرا
كم من فقيدٍ غدا للموت مغتبطاً ... بالخلد في جنَّة الرحمن مفتخرا
ربَّاه فاجعل سبيل الشيخ تكرمةً ... يجني جنى الجنتين الحُلو معتصرا
يا صالح النهج يا شيخ الورى حزنت ... تلك الدنا واستحال القلبُ منكسرا
قالوا: لقد مات فاستحسرتُ وانتفضَت ... أبيات شعري وراحت تسطر العِبَرا
تلك السماء التي قد رُصِّعت درراً ... باتت تذوق الأسى إذ ودَّعت قمرا
نبع الصفاء الذي منه ارتوت أممٌ ... قد أصبح اليومَ يبكي ذلك النَهَرا
والروض قد بات محزوناً ومكتئباً ... فالعندليب الذي فيه ارتقى قُبِرَا
للشيخ في قلبنا ذكرى ومنزلةٌ ... لم يلقها بيننا زوراً ولا بطرا
لابن العثيمين في جمع الورى كتبٌ ... سارت ركابٌ بها واحتلت الغمرا
أكرم بشرح [1] بديع منه قد نهلت ... تلك البرايا وراحت تصطفي الدُّررا
فالشعر من كمدٍ يبكي وتندبه ... تلك البحور التي باهت به البحرا
ما زال يحمل همَّ الدين في جَلَد ... حتى قضى فاستحق الشكر إذ صبرا
أدعو الإله الذي يبلو سرائرنا ... أن يسقي القبر غيثاً طيباً عَطِرا
__________
(1) للشيخ شرح على كتاب زاد المستقنع اسمه (الشرح الممتع) .(160/157)
المنتدى
ردود
* الإخوة: خالد سليمان المزيد، محمد بن مبارك بن حسن، فارس بن محمد
الفارس، أحمد المنصوري، محمد بن عبد العزيز، ثواب بن عبد الله السبيعي،
إبراهيم الصالح، حمد الجابري، أحمد سيد أحمد، علي عطية الغامدي، عبد
الرحمن صالح أحمد، عبد الله العواد، «قارئ أردني» : تشكر لكم المجلة
تواصلكم الكريم معها بالملاحظات والاقتراحات، جعلنا الله وإياكم من المتواصين
بالحق والخير، مع تمنياتنا بدوام التناصح والتواصل.. وفقكم الله لكل خير.
* الأخ: خميس بن عاشور الجزائر: العنوان البريدي الذي أرسلته للمجلة
غير صحيح، حيث أعيدت لنا الرسالة التي أُرسِلَتْ إليه، فنرجو التكرم بتزويدنا
بالعنوان الصحيح، وجزاكم الله خيراً.
* الأخ: نجيب أحمد اليافعي: وصلتنا مشاركتك، ولن نتمكن من الحكم
عليها إلا باكتمال حلقاتها، وجزاكم الله خيراً.
* الإخوة: سليمان بن محمد الهذال، عنايت الله السنابلي، مصطفى عبد الله
الجفري، عبد الرحمن البليهي: وصلتنا مشاركاتكم ونفيدكم بأنها مجازة للنشر بإذن
الله.
* الإخوة: تركي محمد الحميدان، إبراهيم صالح العيدهي، عبد الله الحمد،
محمد عبد العزيز المبرد: شكراً لتواصلكم الطيب مع المجلة، ومشاركاتكم مجازة
للنشر في المنتدى.. بإذن الله.
* الإخوة: عمر الرماش، محمد بن مبلود شريط، علاء الدين معصوم حسن،
شاهر محمد شريف، ضياء الحق الهاشمي: نرجو التكرم بتزويدنا بعناوين
شخصية لتتمكن المجلة من مراسلتكم، وجزاكم الله خيراً.
تلقت المجلة سيلاً من المقالات والقصائد حول وفاة فضيلة الشيخ محمد
العثيمين رحمه الله، وكثير من هذه المقالات والقصائد مفيدة وطيبة، وتدل على
عاطفة نحسبها إن شاء الله صادقة، لكننا نعتذر عن نشرها، اكتفاء بالملف الذي
خصصناه في هذه العدد عن فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى.
ونحسب أن إخواننا الكتّاب الفضلاء يقدِّرون اعتذارنا عن نشر مقالاتهم
وقصائدهم، ونجدد دعوتنا لهم بضرورة التواصل المستمر مع مجلتهم. وجزاكم الله
خيراً.(160/158)
الورقة الأخيرة
تأملات في المسألة الشارونية
عبد العزيز كامل
إذا كانت الديمقراطية عند من يؤمنون بها هي أصدق تمثيل لإرادة الشعوب؛
فإن شخصية أرييل شارون الذي انتخب مؤخراً لزعامة (إسرائيل) بكل ما فيه من
إجرام، هي المعبِّر الحقيقي عن إرادة الشعب الإسرائيلي؛ في المرحلة الحالية
حيث كان فوز هذا الإرهابي ساحقاً (62. 5%) ، ولم تُسبق هذه النسبة في الفوز
لرئيس وزراء إسرائيلي قبله.
* شرور شارون كانت أكبر مؤهلاته للفوز بثقة الشعب الإسرائيلي وتفويضه،
وهي ثقة تمتد على طول الخط الواصل بين جرائمه الماضية وتهديداته المستقبلية
أثناء دعايته الانتخابية، ولا بد لمن يراهنون على تحسن درجاته في (السيرة
والسلوك) بعد أن أصبح رجل دولة ألا يتجاهلوا سيرته الماضية الحمراء وبرامجه
المقبلة السوداء.
* سِجِلُّ شارون الماضي يقول: كان يحمل هراوة يضرب بها الأطفال
الفلسطينيين في الأربعينيات عندما كان صبياً، وعندما أصبح مجنداً في سلاح
المظلات كان له دور أساس في ضرب المدنيين الفلسطينيين في مذبحة قرية (قبية)
في الخمسينيات، أما في الستينيات فكان أحد الجنرالات الذين شاركوا في قهر
العرب في حرب 1967م، وفي السبعينيات قاد عملية (ثغرة الدفرسوار) في
مصر التي قلبت موازين حرب أكتوبر 1973م، وفي الثمانينيات دبر حرب لبنان
وما تبعها من مذابح صابرا وشاتيلا 1982م، أما في التسعينيات فقد تفرغ
للاستيلاء على الممتلكات العربية لتوسيع المستوطنات اليهودية.
* أما برامجه لجرائمه المستقبلية في العقد الثامن من عمره لا أطال الله بقاءه
فتبدو معالمها من خلال تصريحاته وتهديداته التي أطلقها في الشهور القليلة الماضية،
ومنها: التهديد بطرد الفلسطينيين إلى الأردن التي قال إنها من (أرض إسرائيل)
التاريخية تهديد السلطة الفلسطينية بإعادة نفي رموزها للمرة الثانية على يديه إلى
خارج فلسطين تهديد مصر بإغراقها بمياه السد العالي إذا فكرت في إرسال قوات
إلى سيناء المنزوعة السلاح وكان قد قال منذ عامين فقط: لو كان الأمر بيدي
لضربت جميع العواصم العربية بالصواريخ الإسرائيلية بعيدة المدى!
* مع كل ذلك فقد تلقى التهاني (الحارة) بالفوز من عرفات وغيره، وأبدى
الجميع استعدادهم لبدء مرحلة جديدة من (سلام الشجعان) ! معه، أما هو فقد
اشترط فقط قبل بدء مفاوضات السلام (الهدوء التام) وأضاف على لاءات باراك
الأربع أربع لاءات أخرى وهي: لا لإبعاد الجيش الإسرائيلي عن نهر الأردن، لا
للالتزام باتفاقيات السلام السابقة، لا للعودة إلى حدود 1967م، لا للتنازل عن
المسجد الأقصى أو تقسيم القدس.
* كان للعرب لاءاتهم أيضاً (في الماضي) ، وكان منها: لا للاعتراف
بإسرائيل، لا للجلوس معها على مائدة المفاوضات، لا للتفريط في (شبر) ، وفي
رواية في (حبة رمل) من الأرض العربية! والعمل جارٍ الآن على قدم وساق لـ
(إقناع) اليهود بالتنازل عن لاءاتهم كما تنازل العرب عن لاءاتهم، وتكفيك نظرة
واحدة في مطبوعة واحدة من الدوريات العربية الشهيرة في الفترة الأخيرة، لترى
أنه لم يبق أمام المنظرين والمحللين والسياسيين العرب إلا الرهان على ذلك
(الإقناع) .
* اليهود يبنون على ما سبق أن بنوه ولا يتركون عهداً أو اتفاقاً مع العرب إلا
نكثوه؛ فعندما بدأت مباحثات مدريد أفصح (شامير) بعدها أنه كان ينوي ترك
المفاوضات تدور مدة عشر سنين في الفراغ، وبعدما أُعلن عن اتفاقيات أوسلو التي
وقَّع عليها (إسحاق رابين) وشارك فيها (بيريز) نقضها (نتنياهو) ، واتفاقيات
(واي ريفر) التي وقعها نتنياهو نقضها (باراك) ، والاتفاقيات المبدئية التي
توصل إليها باراك في طابا مؤخراً تنصل منها (شارون) ! ! وهكذا تحقق ما تعهد
به شامير منذ عشر سنوات، وكانت مجمل نتائج عملية السلام حتى الآن الدوران
في حلقة مفرغة.
* كل زعيم يهودي يأتي لمرحلة ويمهد لمن بعده؛ لأن كلاً منهم ليس إلا أداة
للتنفيذ في يد زعامات أكبر، وقد مهد باراك لشارون بقصد أو بدون قصد وهيأ
لمرحلته بدءاً من إعادة تلميعه في الإذن له بالزيارة المدججة بالجنود للمسجد
الأقصى، وانتهاءاً بأداء منافسة هزيلة أمامه في الانتخابات، وملامح المرحلة التي
مهَّد بها باراك لشارون عنوانها: (كشف الغطاء) ؛ فقد قال باراك في خطاب
الاعتراف بالهزيمة الانتخابية مستعرضاً أهم إنجازات عهده القصير: «حكوماتنا
حققت وللأبد تحديد الخطوط مع الفلسطينيين والسوريين، لقد كشفنا الأغطية عن
جارنا الخصم دون أن نتنازل عن شيء، وجسسنا النبض، وأزلنا فعلاً الأقنعة» .
* ويبدو أن الكذوب صدق فيما قال؛ فبالفعل نجح باراك في كشف الغطاء
عن سوريا بالانسحاب من جنوب لبنان حتى لا تبقى لها حجة في بقاء جيشها هناك،
وكشف الغطاء عما يسمى (حزب الله) الشيعي الرافضي حتى تظل عملياته
المتوقعة ذرائع مدخرة لأي عمل إسرائيلي ضد سوريا أو لبنان، وكشف الغطاء عن
السلطة الفلسطينية عندما اضطرها لرفض ما أسماه (التنازلات التاريخية) التي
قدمها في كامب ديفيد الثانية؛ لأن ما كان مطلوباً مقابلها هو التنازل عن الأقصى
فأظهرها بمظهر المعاندة للسلام وللحل النهائي!
* بعد كشف هذه الأغطية لم يعد شارون في حاجة إلى تجميل صورته أو
تحسين سلوكه بالسلام كما يراهن الواقعيون العرب؛ بل هو في حاجة فقط إلى
غطاء دولي لما تدبر له المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي لا يهمها تقلبات السياسة
وأهواء الساسة، بل يهمها شيء واحد هو تحقيق (سلام اليهود) الذي لا يتحقق
أبداً إلا بالحرب؛ فالسلام في مفهومهم يعني الأمن، والأمن يعني الهيمنة العسكرية
المطلقة، والهيمنة العسكرية المطلقة لا يمكن أن يحققها إلا جيش يؤمن باستمرار
الحروب.
* قال بعض الزعماء العرب جواباً عن سؤال حول استعداد العرب للحرب:
«الحرب هذه أصبحت موضة قديمة» ! ! مع أن الأعداء لم يلقوا السلاح بعد،
ولم يغلقوا أو يفككوا ترساناتهم المدمِّرة بعد، ولم يقولوا هم عن الحرب إنها موضة
قديمة، بل هي عندهم آخر صيحة، تحتاج فقط لأول طلقة!
فما أفقه أطفال الحجارة وما أذكاهم وأزكاهم وهم يحطُّون عن الأمة بعض آثام
القعود الجماعي عن الجهاد، بل حتى عن نصرة المجاهدين!
لقد جيء بشارون لهؤلاء وأمثالهم؛ لأنه لم يعد خطراً إلا هم، فاللهم أيدهم
عليه، ولا تمكنه منهم، ولا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، آمين.(160/159)
المحرم - 1422هـ
أبريل - 2001م
(السنة: 16)(161/)
كلمة صغيرة
تعظيم منهج السلف
التفرق والاختلاف سنة ماضية كتبها الله تعالى على هذه الأمة كما كتبها على
الأمم السابقة؛ فظهر في هذه الأمة من الابتداع في الدين، والانحراف عن سنة سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم شيء كثير. وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم المخرج من هذا الضلال والتفرق، فقال: «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى
اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها، وعضُّوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة» [1] .
إن تعظيم النصوص الشرعية، والاستسلام لأوامرها، والوقوف عند حدودها،
والاهتداء بهدي السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم
بإحسان هو الطريق الصحيح للسلامة من الزيغ والانحراف. قال تعالى: [وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153)
وإن من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة وطلبة العلم والحركات
الإسلامية في المشرق أو المغرب: إحياء منهج السلف الصالح رضي الله عنهم في
العلم والعمل، وتربية الأمة على المنابع الكريمة والأصول العظيمة التي لم تكدِّرها
شوائب البدع والأهواء، خاصة في هذا العصر الذي كثر فيه التفرق والاختلاف،
وقلّ فيه العلم، وتجارى فيه كثير من الناس وراء شهواتهم.
نسأل الله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
__________
(1) المسند، لأحمد، 4/ 127.(161/1)
الافتتاحية
خمسة عشر عامًا من عمر البيان
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
فمنذ صدور مجلة البيان قبل خمسة عشر عاماً، حددت الأطر والخطوط
العامة لسياستها وثوابتها، وكان من أبرز تلك الخطوط ما صرحت به من أنها
صوت من أصوات أهل السنَّة والجماعة، تعمل على نشر المفاهيم الصحيحة
للإسلام وتعميقها وفق فقه السلف الصالح للإسلام المأخوذ عن فهم الصحابة
رضي الله عنهم، للكتاب والسنة، وأنها تخاطب الدعاة في أنحاء العالم
الإسلامي من منطلق المحبة الصادقة، والأخوة الإسلامية الرحبة، لا الحزبية
المحدودة أو العصبية الضيقة، وأنها لأجل ذلك تعتبر نفسها إحدى روافد العمل
الدعوي الإسلامي الذي يُفترض فيه التكامل والتكافل لأداء أسمى المهمات وأجلِّ
الغايات وهي: الدعوة إلى الله بالقول والعمل: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) .
واليوم، ومجلتكم قراءَنا الأحبة تدخل عامها السادس عشر؛ فإن القائمين
عليها يسرهم أن ينتهزوا الفرصة ليجددوا معكم ما عهدتموه من البيان، وما عاهدتكم
عليه، وهو أن تظل وفيَّة للكلمة الجادة والتناول المسؤول والتأصيل الواضح، وأن
تظل كما كانت سلفية المنهاج عصرية الطرح.
هذا ما سبق أن حددت البيان توجهها إليه، وما جددت العهد على المسير
عليه، وبين التحديد والتجديد هذه وقفات وتأملات نوجزها في النقاط الآتية:
* إن مجلة البيان وهي تنحاز إلى المنهج السلفي، وتلتزم ثوابته؛ فإنها تفرِّق
بوضوح بين المنهج والتطبيق؛ إذ المنهج فوق الأشخاص والممارسات، ولا مجال
لنقضه أو نقده من أي كان؛ لأن منهج السلف هو المنهج المتلقَّى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بنقل الصحابة العدول رضي الله عنهم، وهو الإسلام الصحيح
ذاته. أما حمل الأشخاص والجماعات والهيئات والمجتمعات لهذا المنهج وتطبيقهم
له، فإن ذلك أمر يدخل فيه اجتهاد هؤلاء الأشخاص والجماعات وفق فهمهم وعلمهم
هم بمنهج السلف ومناطاته وتنزيلاته، ومن ثم فإن هذا الاجتهاد قابل للتقويم
والملاحظات والمناصحات؛ ولهذا فإن المجلة لا تتبرم بنقد أو نصيحة في الأداء،
ولا تضيق صفحاتها عن كلمات تمليها روح الإخاء؛ بل تعتقد أنَّ هذا هو الطريق
الصحيح الذي تبرأ به الذمة، تحقيقاً لقول الله تعالى: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 3) .
* إن مجلة البيان وهي تنحاز إلى ذلك المنهج السلفي، وتتصدى لمسؤولية
القيام به، لا تدَّعي التفرد بذلك، ولكن تدعو إلى تلاقي الجهود كلها لخدمة هذا
المنهج، وتفسح صفحاتها لكل طرح أو تصور أو مشروع جاد من شأنه أن يثري
أداء الدعوة السلفية في أي من جوانبها الشرعية أو التربوية أو الدعوية أو السياسية
أو الثقافية.
* إذا كان التواضع لله مطلوباً للقيام بواجب العبودية، فإن التحدث بنعمة الله
أيضاً مطلوب لأداء واجب الشكر، ومن الشكر لله والتحدث بنعمته أن نقول إننا
نحسب أن مجلة البيان قد سدد الله خطاها وله الحمد في سد ثغرة خطرة في جدار
الإعلام الإسلامي؛ وذلك بقيامها بدور في التأصيل لواقع الدعوة المعاصر ومعالجتها
لهموم هذا الواقع على أسس من المنهج القويم، منهج أهل السنَّة والجماعة، وهي
لهذا عندما تطلب العون والتأييد من حَمَلَة هذا المنهج تجد في نفسها الشجاعة لطلب
ذلك؛ لأنها لا تطلبه لحساب جهة أو جماعة أو حزب، وإنما تطلبه لأجل تقوية هذا
المنهج وتنميته.
* كلما كان العمل جادًا ومحايدًا اعتورت طريقه عقبات وعقابيل قلَّما تتلقى
مثلَها الأعمالُ الهابطة أو المنحازة، ومن فضل الله أن اختيار البيان للمنهاج الجاد
مع ذلك الحياد قد جلب لها قراءً وكتَّاباً من ذلكم المعدن، ولهذا ندين بالامتنان لهم
ولكل من أعان بعد عون الله تعالى على استمرار البيان على هذا النهج الصادق،
وندعو إلى المزيد.
* والمزيد هنا ليس مجرد الإقبال على الشراء أو الاشتراك؛ فهذا حاصل
ومشكور، ولكن أيضاً بفتح مزيد من النوافذ التي يمكن لـ البيان أن تطل من
خلالها على المسلمين في المشارق والمغارب، وبخاصة أولئك الذين لا يتمكنون من
الحصول عليها إلا مهداةً أو مخفضة الثمن أو دون سعر التكلفة، فإذا أضفنا إلى ذلك
من يحتاجون إلى البيان بمنهجها هي ولغتهم هم، كان الهمُّ أوسعَ والمسؤولية أكبر.
* ومن المزيد: أن تسخو أقلام قادرة على العطاء الفقهي والفكري بزكاة فقهها
وفكرها، ولا تبخل بشيء من بيان الدين وتفصيل أصوله أو فروعه وفق المنهج
المرضي على مجلة جُعلت للبيان، خاصة أن هذا البيان من أهله واجب على كل
قادر بحسبه، كما قال سبحانه: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ] (آل عمران: 187) .
ونصارحكم القول بما عانته البيان من بعض هذا الكتمان! أو على الأقل من
الضن والتقتير فيه من فضلاء أغناهم الله به. ونحن إذ نقدر لهؤلاء الفضلاء ضيق
أوقاتهم وكثرة أعمالهم الدعوية التي قد تشغلهم عن المشاركة معنا، فإننا نلتمس منهم
أن يقدروا إلحاحنا عليهم؛ فما ذلك إلا محبة لهم وثقة بهم ورغبة في التعاون معهم
على البر والتقوى.
* إذا كانت المجلة قد أدت بنظر الكثيرين من متابعيها ومحبيها أدوارًا مهمة
في ترشيد الصحوة الإسلامية من جهة التأصيل لقضاياها، والمعالجة لأمورها، فإن
ما ينتظرها نعني البيان من الأدوار أكثر وأكثر، وبخاصة أن الله تعالى يمنُّ عليها
كل حين بأفواج جديدة من المتابعين والمعجبين والناصحين، والمجلة وهي تشعر أن
ذلك يضاعف المسؤولية عليها لتدرك أنه أصبح واجباً عليها ألا تتوقف عن تطوير
أدائها مضموناً وشكلاً، وهي إذ تقبل الاضطلاع بهذه المسؤولية مستعينة بالله،
لتدعو قراءها ومحبيها ألا يتوقفوا أيضاً عن الإسهام بآرائهم وملاحظاتهم في مسيرة
ذلك التطوير.
* المجلة على ضخامة العبء الذي أصبح منوطاً بها، هي إحدى مؤسسات
(المنتدى الإسلامي) وإحدى ثمرات جهوده المباركة في خدمة الدعوة الإسلامية،
وهو ينوء بعبء أكبر؛ إذ يشاطر المجلة دورها العلمي بدور عملي يتمثل في
الأعمال الدعوية، والتربوية والتعليمية الميدانية في الكثير من أصقاع العالم.
ولَكَمْ يسرُّ مجلة البيان أن يقترن دعم قرائها لمسيرتها، ورسالتها العلمية
والفكرية بمتابعة ودعمٍ لمسيرة (المنتدى) ورسالته العملية الميدانية، وخاصة أن
منهج كل منهما وهدفه واحد، وهو: الإسهام بدور فاعل في نصرة منهج الطائفة
المنصورة بإذن الله.
* وأخيراً؛ فإن الخيار الصعب بين سلامة المنهج ومنهج السلامة، وبخاصة
في أزمنة الفتن، يفرض على الصادقين من أهل الدين الصحيح أن يعينوا إخوانهم
على الاختيار الصحيح؛ فلنجدد العهد على الاختيار الصحيح.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.(161/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي موجز تاريخي وخطوات عملية
(1)
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
اقترنت هيمنة دول الحضارة الغربية بالسعي الحثيث لتعميم نماذجها الفكرية
والاقتصادية والقانونية بوصفها وسيلة من وسائل تعميق تبعية مناطق النفوذ، إضافة
إلى تمكين الدول الغربية من الامتيازات المتناسبة مع قوتها. ويهمنا من هذه النماذج
في هذا المقال البنية القانونية؛ حيث أدى الضعف العام في بلاد المسلمين إلى تمكين
تلك القوانين، وسيشير هذا المقال إلى دور الفقهاء في تيسير تمكين القوانين حيناً،
وفي مزاحمتها بالصيغة الشرعية أحياناً أخرى، ليتبين مدى تأثير العمل الإيجابي
في تغيير الواقع وتصحيح مساره نحو هدي الكتاب والسنة، ليكون ذلك حافزاً لطلبة
العلم الشرعي والفقهاء بوجه خاص نحو العمل المثمر أداءً لما فرضه الله تعالى
عليهم من البيان والشهادة على الناس بما شرفهم الله تعالى به من العلم.
فكيف دخلت القوانين بلاد المسلمين، ومتى حدث ذلك، وما أبرز الأحداث
التغييرية في هذا المجال، وما ثمراتها، وكيف نستثمر معرفة ذلك في واقعنا الذي
نتقلب فيه؟
أسئلة كثيرة يفرضها الموضوع تقتضي مراجعات عديدة في جهود الفقهاء،
لتسديد وتنشيط التفاعل مع ما يغشى مجتمعاتنا الآن من متغيرات تفرضها الاتفاقيات
الدولية، وتنشيط الاقتصاد، وعيوب الواقع وتطبيقاته.
كما سيعرج المقال على محاولة استطلاع الدور المنشود من المتخصصين في
هذا الحقل من أهل الفضل، وكيفية تسديد مسيرة هذا القطاع.
إن تشابك مسائل هذا الموضوع وتعقُّد العلاقات التي تحكمه، ودقة الأصول
الشرعية المتعلقة به، وكثير من الحساسيات والمواقف المجملة تفرض التدقيق في
طرحه، وتحري تحرير مسائله، وهذا ما لا يستطيعه كاتب واحد، لكن الأمل في
تسديد الزملاء المتخصصين، وتوجيه الفقهاء الراسخين، أملاً في الانتقال من
المعرفة إلى التطبيق، جعلنا الله هداة مهتدين.
مقدمة في التعريف الموجز بمصادر القوانين الغربية الحديثة:
تهدف هذه المقدمة إلى التعريف بمصادر ما تضمنته القوانين الغربية من أحكام
للعلاقة الوثيقة بين ذلك وبين معرفة الحدود الشرعية للانتفاع بها، وبيان ما يجب
تطهير أنظمتنا منه.
مصادر القوانين الحديثة:
ورثت المنظومات القانونية الغربية تراثاً حقوقياً إنسانياً من حضارات عديدة
أهمها القانون الروماني والفقه الإسلامي، وتعود جذور النضج القانوني الروماني
إلى مدرسة الحقوق في بيروت في العهد الروماني؛ حتى سميت هذه المدينة عند
الرومان: (الأم المرضعة للحقوق) فصارت مقصداً لطلاب الحقوق [1] .
وقد ارتبط الفكر الحقوقي القديم بمناطق النبوات، في الجزيرة العربية والشام
والعراق ومصر؛ فمنها انتشرت الشرائع، وهذا معروف لدى مؤرخي الفكر
الحقوقي والسياسي؛ فقد وصلت الدراسات المتتبعة لجذور القوانين القديمة إلى بيان
الصلة بينها وبين المصادر الدينية، بل ثبت احتكار رجال الدين في الأمم للمعرفة
الدقيقة بالحقوق؛ فمن ذلك دراسات سومنير مين البريطاني وهيرمان بوست [2] .
ويؤكد هذه العلاقة تاريخ مدونات الحقوق القديمة المعروفة منذ قانون حمورابي
1750 قبل الميلاد؛ فقد تضمنت ما يشير إلى العلاقة الوثيقة بين الدين والقانون،
ومثل ذلك في قانون مانو في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، رغم عمق الوثنية في
تلك البيئات [3] .
وقد لاحظ علماء المسلمين ذلك؛ فابن تيمية مثلاً تحدث عن أثر الرسالات في
هداية السياسات المدنية، فرتب الناس في الرقي المدني إلى ثلاث مراتب:
أ - الأمم التي لم تستهد بكتاب منزل، ولا تعقلت مصالحها وهي أدنى الأمم.
ب - الأمم التي تعقلت مصالحها، فكان تعقلها محصلاً لمصالح مما دلت عليه
النبوة، لكنها وقعت في جهالات تخالف النبوات كاليونان، وهي أمثل من التي قبلها
فيما تعقلته.
ج - الأمم الكتابية مع انحرافها، وهي أمثل من الأمم التي تعقلت مصالحها
ولم تستهد بالنبوة. يقول: «ولا ريب أن في ذلك يعني سياسات المتفلسفة من نوع
العلوم والأعمال الذي يتميزون بها عن جهال بني آدم.. وفيه من منفعة صلاح
الدنيا وعمارتها ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل. وفيها أيضاً من قول
الحق واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد: ما هو داخل في ضمن ما جاءت به
الرسل؛ فهم بالنسبة إلى جهال الأمم أمثلُ إذا خلوا عن ضلالهم؛ فأما مع ضلالهم
فقد يكون الباقون على الفطرة من جهال بني آدم أمثل منهم» ، ثم يقارن بين
اليونان وبين مناطق النبوات فيقول: «فأما أضل أهل الملل مثل جهال النصارى
وسامرة اليهود فهم أعلم منهم أي من المتفلسفة وأهدى وأحكم وأتبع للحق» [4] .
وهذا كله يبين فضل الرسالات وأثرها في تغذية الفكر الحقوقي قبل انحرافه
بالأفكار الوضعية؛ إذ إقامة العدل مقصد من مقاصد النبوات يشهد تاريخ القانون
بتحققه. قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25) .
وقد التبست آثار النبوات بكثير من الباطل المحرف؛ كما لحق الميزان أي
العقل الصحيح من الانحراف ما صرف الإنسان عن العدل والخير في كثير من
نظراته، فانحرف في الأصول العقدية، والتطبيقات الأخلاقية والعدلية، فاستحسن
القبيح، واستقبح الحسن في أحوال كثيرة ليبقى الكمال لوحيه المنزل، ولتبقى أمة
القرآن خير أمة أخرجت للناس، شاهدة عليهم بما حفظ الله تعالى لها من الوحي.
وكان أهل الكتاب يعلمون فضل ما عرفه المسلمون من موازين العدل،
فاحتكموا إليهم، حتى في دول سيادتها لأهل الكتاب. يروي ابن تيمية رحمه الله
تعالى ذلك فيقول: «ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء
والأموال ونحو ذلك، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى
وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم
شرع المسلمين» [5] .
وقد اقتبست الحضارة الغربية من المسلمين ما لا يحصى من القواعد والأحكام
والمصطلحات، عبر منافذ الصلة بين المسلمين والغرب في الأندلس، والدولة
العثمانية، والبحر المتوسط، والغزوات الصليبية، وقد انتشرت الدراسات التي
تبين مجالات النقل، وأوجه التغير التي طرأت على الفكر القانوني الغربي بعد
صلته بالمسلمين. انظر مثلاً الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون
الوسطى تنسيق محمد حمام فقد تضمن بحوثاً تتناول مجموعة من أوجه التأثير
الإسلامي في الغرب، وإذا نظرت في أصل الحقوق الغربية نظرية الحق الطبيعي
في مفهومها الحديث تجد صلتها الوثيقة بالمسلمين منذ توما الإكويني المتتلمذ على
مؤلفات ابن رشد الذي لخَّص المستصفى أكثر كتب الأصول بياناً لنظرية
الضروريات الخمس التي ترعاها الملل [6] .
بل يذكر شارح مجلة الأحكام العدلية علي حيدر أن بعض الدول الأوروبية
كانت تستفتي إلى عهد قريب المتخصصين في الفقه الإسلامي من علماء دار الفتوى
في بعض المسائل الحقوقية المشكلة، فيقول: «وقد استُفتيت دار الاستفتاء هذه في
بعض الأحوال من قِبَل دول أوروبا في بعض المسائل الغامضة الحقوقية» [7] .
ويتحدث الكاتب الفرنسي (أندريه كلو) عن كفاءة الجهاز القضائي العثماني نقلاً
عن شاهد عيان أوروبي زار تركيا سنة 1550م قائلاً: «فنوَّه بالسرعة والأمانة
اللتين تتحلى بهما عدالة الأتراك، وقارنها بالمحاكم الفرنسية التي يسود فيها انعدام
الأخلاق والفساد» [8] .
ويقرر المستشرق الشهير (شاخت) أن التطبيق القانوني في القرن السادس
عشر كان أفضل في بلاد الخلافة من نظيره في البلاد الأوروبية آنذاك من كل
الوجوه [9] .
إن الانحرافات العقدية التي تغلغلت في العقل الغربي قد مسحت تلك الثروة
الحقوقية بانحرافاتها الكنسية والعلمانية؛ فالتبس الحق بالباطل والعدل بالبغي،
وذهبت أفواج الدارسين المسلمين إلى معاهد الحقوق الغربية اللاتينية والأنجلو
أمريكية فاقتبست من تلك الثروات علماً كثيراً ممتزجاً بذلك التحريف، وأصبح واقع
كثير من بلاد المسلمين يدار بتلك المفاهيم والمعايير: في القوانين والقضاء والإدارة
والاقتصاد والإعلام والتخطيط، وغيرها، فأصاب مجتمعاتنا من آثار تلك
الانحرافات مع ما غنمته من صواب فيها.
الضعف الفقهي والتشريع الوضعي:
تراوحت مواقف الفقهاء من التشريعات الوضعية بين الرد المطلق
والقبول التسويغي، ومواقف بين ذلك. إن الرد المطلق للقوانين دون تنبه
لوظائفها والظروف التي أوجدتها لم يزد القوانين الغربية إلا تغلغلاً باعتبارها حلولاً
جاهزة مفصلة لواقع تصنعه هذه الحضارة، ومؤسساتها، وعادة الساسة التعلق بما
يعالج واقعهم دون تدقيق وتمحيص، وقد يكون لبعضهم من الهوى ما يميل به إلى
تلك الحلول، وستأتي أمثلة لهذه المواقف المختلفة لدى الساسة والمختصين.
يقول ابن تيمية مفسرًا الحاجة العملية التي أدت إلى السياسة الوضعية
العباسية: «منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين.. فلما صارت الخلافة في
ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلَّد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق
ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة العادلة:
احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية
شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين» [10] .
أما المواقف الإيجابية للفقهاء فهي التي تثمر وتغير الواقع؛ وذلك باقتحام تلك
المنظومات دراسة وتحليلاً ونقداً لوظائفها ومضامينها، وتتبعاً لما فيها من الخلل
العقائدي والأخلاقي والعدلي واللغوي، وتتبعاً لمعالجات الفقهاء المسلمين رحمهم الله
لتلك الجوانب، وإعداد صياغة تطبيقية سهلة المأخذ مفعمة بقيم الشريعة وأصولها
العقدية، فيتحقق بذلك البديل الوافي بوظائف تلك المنظومات، المتسق مع أصول
الوحي العقدية والأخلاقية والعدلية.
لقد أدت المواقف المترددة إلى استمرار تدفق تلك القوانين، وإلى انفصال
رجال القانون عن العلم الشرعي رغم استقامة العديد منهم وحرصهم على تدينهم.
كما أدى التردد إلى عزل العلم الشرعي عن التأثير في تلك القوانين واستصلاحها.
وقد ضاعف تردد الفقهاء غموض التفريق بين القوانين المناقضة لحكم الشرع
والقوانين التنظيمية التي تعتبر من السياسة الشرعية، فأدى ذلك كله إلى إخلاء
الميدان المحلي للتغريب في كافة أنواع الأنظمة، وتعطيل مقدرة الأمة على إعادة
صياغة تلك النظم بما يطوعها للشرع المطهر، ويرطب جفاءها بنداوة هدي الكتاب
والسنة وفقه الأمة، ويثريها بألفاظ الفقه الإسلامي ومفاهيمه، ويردها إلى مراجع
فقه المسلمين.
أسباب الغزو التشريعي وأهدافه:
كان الغزو التشريعي نتيجة لعوامل الضعف الشاملة التي أوقعت الأمة في
التبعية الحضارية، ويهمنا في هذا المقام استخلاص أهم أسباب التبعية التشريعية
تمهيداً لبيان وسائل تحقيق الأصالة التشريعية المستوعبة لمتغيرات الحياة، ولتقريب
خطوات العمل التي يمكن أن يباشرها طلبة الدراسات الفقهية.
تنقسم العوامل التي أدت إلى التبعية التشريعية إلى:
أ - الأسباب الخارجية.
ب - الأسباب الذاتية.
أ - الأسباب الخارجية: استقبلت الحضارة الغربية الفكر الحقوقي من
مصادره المختلفة، وأعملت فيه فنون التنظيم التي تطورت لديها مع تطور العلم
والإدارة؛ كما قادت التطبيقات اليومية المدنية خبراء القانون وقضاته وقادتهم إلى
المضي بالقواعد الحقوقية نحو أعماق التفاصيل التي تعج بها الحياة المعاصرة، وقد
تزامن ذلك مع هيمنة القوة الغربية، وضعف الدولة والمجتمعات الإسلامية، فأدى
ذلك إلى الغزو التشريعي ليحقق هدفين رئيسين للقوى الأجنبية:
أ - حماية الامتيازات الغربية في بلاد المسلمين.
ب - تمكين الهيمنة السياسية.
أ - الامتيازات الأجنبية:
عقدت الدولة العثمانية معاهدات امتياز للجاليات الغربية في الدولة العثمانية،
كان من أهمها معاهدة 1535م الفرنسية التي تتضمن الإعفاء من الضرائب،
والحصانة من سلطة المحاكم العثمانية ومن التشريع المحلي؛ رغم أن القضاء
العثماني في تلك الفترة كان في غاية الكفاءة مقارنة بالمؤسسات الغربية، ومن تلك
الامتيازات المعاهدة الفرنسية لعام 1673م، والمعاهدة الإنجليزية عام 1675م، وقد
كانت تستند إلى أسباب تجارية وأصبحت وسيلة للتدخل الأجنبي في أمور الدولة
بزعم حماية الأقليات غير المسلمة، وفي أوائل الحرب العالمية الأولى ألغت الدولة
العثمانية الامتيازات، واعترفت الدول الأجنبية بذلك في معاهدة لوزان في 1914م.
وفي مصر جددت امتيازات الأجانب في القرن السادس عشر، فأُعفُوا بموجب
ذلك من الضرائب ومن الخضوع للقضاء الأهلي، وفي عام 1807م ثبتها محمد
علي تشجيعاً لعلاقة الأوروبيين معه، وفي سنة 1875م أسست المحاكم المختلطة
لتنظر في قضايا الأجانب بقانون مدني مستنسخ من القانون الفرنسي.
ب - الهيمنة الثقافية عبر التشريع:
بدأ الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية بتقليص نفوذ الشريعة وبسط
هيمنة القوانين البريطانية على مراحل؛ فقد استمرت شركة الهند الشرقية في
تطبيق أحكام المذهب الحنفي دون تغيير يذكر حتى سنة 1772م حين أُسنِدَ القضاء
إلى قضاة إنجليز كان إلى جوارهم مُفْتُون يعاونون هؤلاء القضاة، ثم طبق القانون
البريطاني في بعض المناطق، ثم جرت تعديلات عديدة لأحكام شرعية كإلغاء
التفريق بين القتل العمد وشبه العمد سنة 1790م، وفي سنة 1817م سنَّت الحكومة
البريطانية قانوناً يلغي حد الزنا ويقرر حكماً وضعياً، وبعد إخماد مقاومة المسلمين
الهنود ضد بريطانياً تمكن الإنجليز سنة 1875م/1292هـ من إحداث التغيير
التشريعي الشامل؛ ففي سنة 1861م صدرت قوانين العقود والأوراق التجارية،
وبذلك انقطعت صلة القضاة تدريجياً بعلوم الفقه الإسلامي وانتقلوا إلى مصادر
القانون.
وبذلك دخل التشريع والفقه عصراً جديداً بدأ معه التغريب، وقد تكرر ذلك في
معظم بلاد المسلمين المستعمرة كالجزائر؛ حيث صدرت القوانين الفرنسية فيها سنة
1850م، والقانون الإنجليزي في السودان مع الاحتلال البريطاني، والقانون
الهولندي في أندونيسيا مع الاحتلال الهولندي واستمر مطبقاً إلى سنة 1976م،
ويدعم ذلك كله التعليم القانوني بلغة المستعمر، وفي جامعاته.
أما مصر وأقاليم الخلافة العثمانية فقد كانت تطوراتها من الأهمية والضخامة
بحيث تستحق البسط لعظيم أثرها على التجربة العربية عموماً، وليترابط تأمُّل دور
العمل الفقهي المنضبط الجاد في مواجهة التغريب التشريعي، والأثر الكبير للوهن
الفقهي في حدوث الانحراف القانوني، وبيان ضرورة التقريب الواضح للفقه
المنضبط بالأصول الشرعية؛ ليكون هادياً لكافة مجالات الحياة العامة [11] .
- يتبع العدد القادم -
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.
(1) المدخل إلى التاريخ العام، جزيرة العرب، د معروف الدواليبي، ص 202.
(2) راجع: تاريخ القانون، زهدي يكن، 75 84، وتاريخ القانون المصري، د أحمد إبراهيم حسن، 49.
(3) انظر: الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، د عبد السلام الترمانيسي، 71، 73.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، 9/ 27.
(5) الجواب الصحيح، 5/104.
(6) راجع: فضل الأندلس على ثقافة الغرب، خوان فيرنيت، ص 263، تاريخ الفكر السياسي، جان توشار 254، والموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل وزملائه، ص303، تاريخ صقلية الإسلامية، عزيز أحمد؛ حيث تذكر هذه المصادر آثار العلوم الإسلامية على التغيرات الفكرية والإصلاحية الغربية.
(7) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، 4/621.
(8) سليمان القانوني، ص 132.
(9) راجع: في تاريخ التشريع الإسلامي، كولسون، ترجمة محمد أحمد سراج، هامش 203.
(10) الفتاوى، 20/393، وانظر ابن القيم، الطرق الحكمية، 20.
(11) الأوضاع التشريعية في الدول العربية، تاريخ التشريع الإسلامي.(161/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الجانب الاجتماعي في كتاب الأدب
من صحيح الإمام البخاري
لؤي عباس الهزايمة [*]
يمثل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المرجعية في استقصاء القيم
التربوية والاجتماعية، فكانت التوجيهات النبوية في دعوة مستمرة إلى التفاعل بين
العناصر الاجتماعية المختلفة، وتوثيق الصلات والروابط بين الشرائح الاجتماعية
في منهج قويم متكامل قائم على أسس عقدية وتشريعية وأخلاقية تتواءم ومتطلبات
الفطرة الإنسانية؛ ذلك أن لكل من القرآن الكريم والسنة الشريفة (غرضاً اجتماعياً
مقصوداً، ومنهجاً للاجتماع البشري معتبراً لا يقل أهمية عن مسائل العقيدة وما
تستلزم من تعبُّديات) [1] .
وسأحاول خلال هذه الصفحات الآتية أن ألقي الضوء على النسق الموضوعي
(الجانب الاجتماعي) بين الأحاديث النبوية التي أوردها الإمام البخاري [2] في
كتاب الأدب من جامعه الصحيح [3] .
أهمية كتاب الأدب:
تنبع أهمية كتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري من أهمية الأدب نفسه؛
فالإسلام مداره على قاعدتين: «الامتثال والأدب؛ فمن امتثل فقد وفّى ما به أُمِرَ،
ومن تأدب فقد نجا مما عنه نهي وله كُرِه» [4] ، والأدب: «استعمال ما يحمد قولاً
وفعلاً، وعبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع
المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك» [5] ، وقال
بعضهم بأنه: «اسمٌ لكل رياضة محمودة، يتخرج بها الرجل إلى كل فضيلة من
الفضائل» [6] ، وهو ثمرة الالتزام بكتاب الله تعالى وهدي النبي صلى الله عليه
وسلم.
وهو على ثلاثة أنواع [7] : «أدب مع الله سبحانه، وأدب مع رسوله صلى
الله عليه وسلم وشرعه، وأدب مع خلقه. فالأدب مع الله: معرفته بأسمائه وصفاته،
ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحب وما يكره، ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة
لقبول الحق علماً وعملاً وحالاً. والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: كمال
التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمّله معارضة
خيال باطل يسميه معقولاً، أو يقدِّم عليه آراء الرجال، فيوحده بالتحكيم والتسليم،
والانقياد والإذعان، ومن الأدب معه: ألا تُرفع الأصوات فوق صوته، ويدخل فيه:
رفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته. ومن الأدب معه ألا يُستشكل قوله، بل
تُستشكل الآراء لقوله، ولا يُعارض نصه بقياس، بل تُهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه،
ولا يحرَّف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه معقولاً، ولا يوقف قبول ما جاء به
صلى الله عليه وسلم على موافقة أحد» .
وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم؛
فلكل مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص؛ فمع الوالدين أدب خاص، وللأب
منهما: أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع الأقران أدب يليق بهم،
ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أُنسه، ومع الضيف أدب غير أدبه
مع أهل بيته، وهكذا، وهذا النوع الأخير هو ما نحن بصدده.
وعلى الجملة فأدب المرء (عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه: عنوان
شقاوته وبواره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب
حرمانها بمثل قلة الأدب) [8] [**] .
النسق الموضوعي في كتاب الأدب (الجانب الاجتماعي) :
يشتمل كتاب الأدب على مجموعة من الأحاديث المرفوعة تبلغ (256)
حديثاً [9] . وهو يقع بعد كتاب (اللباس والزينة) ، وقبل كتاب (الاستئذان) ؛
وكلاهما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالآداب ويحتاج إليها المسلم في تعامله وعلاقاته مع
الآخرين.
وقد سلك البخاري منهجاً فريداً في ترتيب أبواب هذا الكتاب، كما هو الحال
في سائر الكتب، فابتدأ الكتاب بعلاقة الأبوة والبنوة تنويهاً بأهميتها، فذكر جملة من
الأحاديث التي تدور حول هذه العلاقة؛ بحيث كانت تمثل وحدة موضوعية متكاملة
إلى حد ما، بلغت (11) حديثاً [10] تحت (8) أبواب، وصدَّر كتاب الأدب بما
رواه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: «سألت النبي صلى الله
عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟
قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» [11] ، فاعتبر هذا
الحديث أساساً في بناء العلاقات؛ فالصلاة صلة بالله تعالى، وبر الوالدين علاقة مع
المسلمين؛ لأن من يبرهما يبرُّ غيرهما، والجهاد علاقة مع الكفار، وتخصيص
هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات (فإن من ضيَّع
الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم
فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومَن لم يبرَّ والديه مع وفور حقهما عليه كان
لغيرهما أقل براً، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم
من الفساق أترك « [12] .
وفي الحديث التالي خصّ الأم بالبر بعد أن حضّ على برّهما معاً، وأورد
حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال:» جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال:
ثم أبوك « [13] ، وبعد التوصية ببر الوالدين وبيان عظيم حقهما شرع في بيان
آليات البر، فقال: (باب: لا يسبُّ الرجل والديه) ؛ بمعنى ألا يكون سبباً إلى
سبِّهما [14] ، وهو الحد الأدنى من البر، وبعد أن بيَّن آليات البر شرع في بيان أثر
ذلك، فقال: (باب: إجابة دعاء من برّ والديه) ، وبعد أن بيَّن الموقف الإيجابي
الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه والديه، بيَّن الموقف السلبي وهو العقوق،
وسلك فيه مسلك الترهيب فقال: (باب: عقوق الوالدين من الكبائر) ، وبعد أن بيَّن
على صورة قاعدة عامة وجوب بر الوالدين وفضل القيام عليهما، تطرق إلى
بعض الأحكام المتعلقة بهما، فقال: (باب: صلة الوالد المشرك) ، وقال:
(باب: صلة المرأة أمها ولها زوج) ، وفي ثنايا هذه الأبواب تطرق إلى ما
ينبغي على الوالد تجاه ولده، فأورد حديث تحريم وأد البنات تلك العادة الاجتماعية
السيئة التي كانت منتشرة في بعض أوساط المجتمع الجاهلي؛ فعن المغيرة بن شعبة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً
وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة
المال « [15] .
وبعد أن عرض لأحاديث صلة الرحم، ذكر جملة من الآثار والأحاديث من
(5993- 6003) ، حول رحمة الصغار والإحسان إليهم، ومداعبتهم والتلطف
بهم، والدعاء لهم والقيام على شؤونهم، وتحسين أسمائهم، إشارة إلى أن ذلك يدخل
في حق الابن على والديه من باب الأولوية، ثم إن عرضه لأحاديث بر الوالدين
بداية تنبيه من البخاري إلى أن علاقة الوالد بولده هي من مقتضيات الأبوة، ولأن
بر الوالدين لا يتأتى إلا بعد بر الأبناء؛ فكأنها دخلت تباعاً؛ فضلاً عما فيه من
التحريض على بر الأبناء وهم صغار حتى يتسنى لأبنائهم برهم وهم كبار؛ وهو
بذلك قد سلك منهج القرآن الكريم كما سيأتي بيانه.
ثم تطرق إلى علاقة الأخوَّة فقال: (باب: صلة الأخ المشرك) ومن بابٍ
أوْلى الأخ المسلم، وفي ثنايا ذلك أشار إلى طبيعة العلاقة الزوجية وما ينبغي أن
تتسم به هذه العلاقة من حسن العشرة والتواضع والبر في الحياة وبعد الممات،
وذكر حديث خلائل خديجة (6004) وحديث رقم (6039) ، حيث عرض
نموذجاً من واقع السيرة النبوية يتضمن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل
مع أزواجه، ولم يشر إلى علاقة الزوجة بزوجها تنبيهاً منه إلى أن هذه العلاقة على
الإجمال تتحدد من خلال علاقة الزوج بزوجته كونه السيد والقيِّم بأمر الأسرة، ولِمَا
جبلت عليه النساء من الضعف والنقص؛ ذلك أن الإمام البخاري سلك في هذا
الكتاب كما هو الحال في غيره مسلك الاختصار، وذكر المسألة أو الحديث من باب
التنبيه على غيره مما ليس على شرطه.
والملاحظ أن الإمام البخاري استفتح كتاب الأدب بالعلاقات الاجتماعية داخل
محيط الأسرة، وابتدأ بها من باب تقديم الأولويات؛ ذلك أنه كان يسلك منهج القرآن
الكريم في ترتيب الأبواب؛ فبدأ ببر الوالدين، وثنَّى بذي القربى، وثلَّث بالجار،
وربَّع بالصاحب [16] ، كما في قوله تعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ
الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ] (النساء: 36) .
ثم أردف البخاري الحديث عن العلاقات الاجتماعية خارج محيط الأسرة،
فنبه إلى علاقة الأرحام وأورد تحتها (10) أحاديث [17] ، حيث شكلت وحدة
موضوعية متكاملة، فبدأ ببيان فضيلة صلة الرحم وإثم قاطعها، ثم شرع في بيان
الآثار المترتبة على صلة الرحم من بسط الرزق والإحسان من الله، ثم أشار إلى
علاقة المسلم بالرحم المشرك، مبيناً أن صلة الرحم عملٌ جليل يدل على طيب
المعدن ونفاسة العنصر، وأنها سبيل موصلٌ إلى كمال الإيمان والإسلام، بعد أن
أشار إلى أن الدرجة التي ينبغي أن يرتقي إليها المسلم في تعامله مع أرحامه هي
درجة الإحسان، وهي مقابلة القطيعة بالصلة.
ثم أشار إلى علاقة المسلم بجيرانه فذكر (7) أحاديث [18] حول هذه العلاقة؛
حيث بدأ بذكر عظم حق الجار وأن حقه يرتبط بالإيمان، ثم نبّه إلى الإحسان إليه
ولو بشيء قليل توثيقاً لعُرى المودة والأخوة، وربط ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر،
تحريراً للنفس من عوامل الشح، وتنبيهاً للمسلم للتعالي عن دوافع الإيذاء
كالمنافسة، والحسد المنافي لحقيقة الإيمان، مع مراعاة أقربهم بابًا في عملية
الإحسان.
وفي ثنايا كتاب الأدب تطرق البخاري إلى علاقة المسلم بإخوانه المسلمين من
خلال مجموعة من الأحاديث تحت أبواب مختلفة [19] ، وأشار من خلالها إلى
مجموعة من الواجبات التي يتحتم على المسلم التحلي والقيام بها تجاه أخيه المسلم،
كحب الخير له، والتعاون معه، ونصرته، وترك إيذائه، والتواضع له، وستر
عورته، وإجابة دعوته، وتفقد أحواله، ولقائه بالبشر وطلاقة الوجه، وتشميته إذا
عطس، إلى غير ذلك مما يعزز رابطة الأخوة الإسلامية، وتوثيق عراها وصيانتها
من التلاشي.
وبعد ذلك أخذ البخاري في بيان مجموعة من العوامل التي تعمل على تحطيم
العلاقات الاجتماعية وتفتيت أواصر المحبة وعرى المودة بين أفراد المجتمع؛ وذلك
من باب أن التنبيه على الشر ومعرفته حائل دون الوقوع فيه، كما في حديث حذيفة
بن اليمان:» كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت
أسأله عن الشر مخافة أن يدركني « [20] ، فذكر جملة من الآثار في ذم الغيبة
والنميمة، وقول الزور، والشتم والكذب، والعقوق، وقطع الأرحام، والبخل
والغضب، إلى جانب التنبيه على بعض أمراض النفوس كالكبر والعجب، والحقد
والحسد وبعض المخالفات الشرعية كالجهر بالمعصية والمداهنة ... إلخ.
هذا وقد أكثر البخاري في كتاب الأدب من التقسيم على الحالات خاصة فيما
يتعلق بعوامل البناء والهدم للعلاقات الاجتماعية ما لم يفعل في غيره من الكتب،
وأراد بذلك التنبيه على أنه لا كلية في هذه الأبواب، ولكن الأمر يتوزع على
الحالات [21] ؛ فمثلاً في باب الغيبة صدَّر هذه الوحدة الموضوعية بما يدل على بيان
حرمتها، فقال: باب: الغيبة وقول الله تعالى: [وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً]
(الحجرات: 12) ، ثم عقَّب على أن فيه استثناءً فقال: (باب: ما يجوز من
اغتياب أهل الفساد والريب) ، وفي باب النميمة قال: (باب ما يكره فيه النميمة)
فترجمته لهذا الباب تدل على أن هناك ما لا يكره منها؛ ولذا أعقبه بـ (باب: من
أخبر صاحبه بما يقال فيه) للدلالة على أن فيه استثناءً،» وترجم عليه بما يفهم
منه إلحاقه بالنصيحة الجائزة « [22] . وفي باب السباب واللعن بيَّن حرمته، فقال:
(باب: ما نهي من السباب واللعن) ، ثم أشار البخاري في الترجمة التي تليه إلى
أن ذلك مخصوص إن كان للبيان والتميز فهو جائز، وإن كان في غير هذا السياق
كالتنقيص والتغييب فهذا الذي لا يجوز [23] ، ولذا قال: (باب: ما يجوز من ذكر
الناس نحو قولهم: الطويل والقصير) .
وفي باب: (ما يكره من التمادح) ، ذم التمادح لما له من آثار، ثم عقَّب في
الباب الذي يليه بقوله: (باب: من أثنى على أخيه ... ) لما علم أن إطلاق
الكراهة غير مراد؛ ليدل على استثناء فيه [24] ، وفي باب: (الهجر) بيَّن حرمتها،
ثم نبه على أن فيه استثناءً [25] فقال: (باب: ما يجوز من الهجران) ، وهكذا
صنع في غالب الأبواب.
وبعد ذلك أشار البخاري إلى مجموعة من العوامل التي تعمل على بناء
العلاقات الاجتماعية وحفظها فعرض جملة من الأحاديث والآثار التي رغَّبت في
معالي الأخلاق، والتي تعمل على تغذية الروابط الاجتماعية وتعزيز الصلات
الأخوية بين أفراد المجتمع، كبذل المعاملة الحسنة مع الناس، والتحلي بمكارم
الأخلاق كالحلم، والرفق، والتواضع، والحياء وبذل العفو والصفح، والصبر على
أذى الآخرين، ورحمة الغير.
هذا وقد سلك في عرض الأحاديث كما ذكرنا مسلك التقسيم على الحالات
تنويهاً إلى أنه لا كلية في هذه الأبواب؛ فعلى سبيل المثال ذكر الحياء وأهميته
وفضله وما يترتب عليه من آثار وبيَّن خطر فقدانه فقال: (باب الحياء) ثم عقَّب
بقوله: (باب بيان ما لا يجوز من الحياء) ، وهو تخصيص للعموم الوارد في
الباب السابق، وهكذا.
هذا وقد أشار البخاري إلى عامل الصيانة الأول لحفظ المجتمع وهو الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الترغيب في هذه المهمة العظيمة [26] ، ومن
خلال الإشارة إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنكار [27] ؛ حيث كان
يقول لأصحابه عند المعتبة:» ما له تَرِبَ جبينه؟! «، وأحياناً يورِّي بالخطاب،
فيقول:» ما بال أقوام..؟! «وكان إذا رأى شيئاً يكرهه عُرف في وجهه صلى
الله عليه وسلم، ويتمعَّر وجهه إذا انتهكت حرمات الله تعالى.
ذلك أن التقاعس عن أداء هذه الفريضة الاجتماعية يورث عقاباً إلهياً قد يؤدي
إلى انهيار المنظومة الفكرية والسلوكية بين أفراد المجتمع الإسلامي، مما يؤثر على
بِنية التكوين الاجتماعي؛ وذلك بتفكك الروابط وانهيار العلاقات الاجتماعية مما
يشكل بدوره خميرة لسقوط حضاري. يقول صلى الله عليه وسلم:» والذي نفسي
بيده! لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكَنَّ الله أن يبعث عليكم
عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم « [28] .
ويدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إصلاح ذات البين باعتباره
أحد عوامل البناء للعلاقات الاجتماعية؛ حيث يعمل على تنمية الخير وتأليف
القلوب وتقريبها إلى بعضها؛ حيث أشار إلى أسلوبه صلى الله عليه وسلم في
الإصلاح بين علي وفاطمة رضي الله عنهما [29] .
ومن خلال كتاب الأدب عرض البخاري لجملة من الأحاديث التي تحثُّ على
آداب الزيارة والضيافة [30] ، وأخرى في أدب الحديث والاستماع [31] ؛ ذلك أن
مراعاة مثل هذه الآداب مما يعزز بناء العلاقات الاجتماعية، ويحفظ كيانها من
عوامل الانهيار، فضلاً عما للضيافة والزيارة من الدور الفاعل في إشاعة روح
المودة بين الوحدات الاجتماعية المختلفة، ومن خلالها يتعرف المسلم على أحوال
إخوانه المسلمين فيقوم بواجبه نحوهم.
هذا وقد نبه البخاري إلى فضيلة تبنِّي هموم المسلمين ودورها في
صيانة المجتمع من خلال عرض أحاديث تحثُّ على السعي على المحتاجين من
المسلمين [32] ، وأخرى تحث على الشفاعة وقضاء حوائجهم [33] ، وأخرى تحثُّ
على بذل المعروف بأشكاله المختلفة [34] ، ذلك أن إحساس المسلم بالمسؤولية
الإيجابية تجاه إخوانه المسلمين، بهدف تحقيق الخير لهم وإلحاق الرحمة بهم، مما
يُدخل السرور على قلوبهم، وبه تستمال القلوب ويعم الخير والحب بين أفراد
المجتمع المسلم، فتتوحد بهذا مشاعر المسلمين وأفكارهم وتوجهاتهم، تحقيقاً لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم:» ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم
كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى « [35] .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) كاتب أردني، جامعة اليرموك، كلية الشريعة.
(1) انظر: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، محمد التومي، ص 26.
(2) انظر ترجمته: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/391، طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، 2/212، هدي الساري، ابن حجر، ص 477، مختصر تاريخ دمشق، ابن منظور، 22/23، تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 2/4.
(3) رتَّبه البخاري على أبواب الفقه، وجمع فيه 7397 حديثاً مع المكرر، وبدون تكرار 2761
حديثاً، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم عند جمهور العلماء، واسمه:» الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه «وسمِّي بالجامع؛ لأنه يجمع بين أحاديث الأحكام والعقائد والآداب والرقائق والتاريخ والسير والمناقب، ولما كان صحيح البخاري أصح الكتب المصنفة في علم السنة على الإطلاق فقد تسابق الأئمة العلماء على شرحه والعناية به، واشتغل الناس بدراسته وحفظه، وزادت شروحه على الثمانين أهمها» أعلام السنن «لأبي سليمان حَمْد بن محمد الخطابي (388 هـ) ، و» الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري «لشمس الدين محمد بن يوسف الكرماني (786هـ) ، و» فتح الباري شرح صحيح البخاري «لشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني (852 هـ) ، و» عمدة القاري في شرح البخاري «للقاضي بدر الدين العيني
(855 هـ) ، و» إرشاد الساري شرح صحيح البخاري «للمحدث أحمد بن أبي بكر القسطلاني (923 هـ) ، انظر: مرجع العلوم الإسلامية، محمد الزحيلي، ص 282، كشف الظنون، حاجي خليفة، 6/16، تراث الإنسانية، أحمد تركي، المجلد الخامس، عدد 1 ص 81-116.
(4) بهجة النفوس، ابن أبي جمرة، 4/180.
(5) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 10/414، إرشاد الساري، القسطلاني، 13/3.
(6) فيض الباري، أنور الكشميري، 4/385.
(7) مدارج السالكين، ابن القيم، 2/ 376 390.
(8) المصدر السابق، 2/ 391.
(**) ومما ينبغي التنبه له أن التصنيف في علم الأدب الشرعي قديم؛ فقد أفرد العلماء الأوائل ومَن بعدَهم في ذلك التصانيفَ الكثيرة؛ فقد أفرد البخاري كتاباً في صحيحه جمع فيه ما صح على شرطه منها في فضل الوالدين وصلة الرحم، وطيب الكلام، والحب في الله، وذم النميمة، وستر الفواحش، ومداراة الناس إلخ، أسماه (كتاب الأدب) كما صنف فيه البخاري كتاباً سماه (الأدب المفرد) ، وبمثل هذا المسلك سلك الأئمة مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، وغيرهم؛ حيث نجد كمّاً كبيراً من الأحاديث النبوية في مختلف أبواب الآداب الشرعية والنظم الأخلاقية التي تكفلت بتحقيق السعادة البشرية، وانظر: ابن مفلح، الآداب الشرعية والمنح المرعية، 1/ 8، مقدمة التحقيق.
(9) المعلق منها (75) ، والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى (201) وافقه مسلم على تخريجها سوى (19) حديثاً وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم (11) أثراً بعضها موصول، وبعضها معلق، وانظر: فتح الباري، ابن حجر، 10/628.
(10) وهي الأحاديث (5970- 5980) .
(11) رواه البخاري (الأدب) ، برقم (5970) .
(12) فتح الباري، ابن حجر، 6/7.
(13) رواه البخاري (الأدب) ، برقم (5971) .
(14) فتح الباري، ابن حجر، 10/417.
(15) رواه البخاري (الأدب) ، برقم (5975) .
(16) انظر: فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 10/455.
(17) من الحديث رقم (5982- 5992) .
(18) من (6014- 6020) .
(19) منها (6004، 6026، 6031، 6046، 6062، 6066، 6080، 6222، 6223، 6224، 6225) .
(20) رواه مسلم برقم (3434) .
(21) انظر: فيض الباري، أنور الكشميري، 4/397.
(22) المتواري على أبواب البخاري، ابن المنير، ص 368.
(23) المصدر السابق، ص 367.
(24) فيض الباري، أنور الكشميري، 4/390، وانظر: المتواري، ابن المنير، ص 369.
(25) فيض الباري، أنور الكشميري، 4/391.
(26) كما في الحديث (6021- 6022) .
(27) كما في الأحاديث (6046، 6101، 6102) .
(28) رواه الترمذي (الفتن) ، برقم (2169) وقال: حديث حسن.
(29) كما في الحديث: (6204) .
(30) كما في الأحاديث: (6079، 6080، 6081، 6135، 6136، 6137، 6138، 6140، 6141، 6176، 6222.
(31) كالأحاديث: (6026، 6135، 6136، 6138، 6142، 6143، 6144، 6214، 6215، 6216، 6217.
(32) كالأحاديث: (5995، 6005، 6006، 6007، 6034) .
(33) كما في حديث: (6028) .
(34) كما في الأحاديث: (6011، 6921، 6022، 6026، 6129، 6203.
(35) رواه البخاري، (الأدب) ، برقم: (6011) .(161/12)
قضايا دعوية
كلمات قليلة حول المنزلة العلمية
للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى
فضيلة الشيخ الدكتور:
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين [*]
لقد تعرفت على الشيخ محمد رحمه الله في عام 1380هـ وهو إذ ذاك في
أول سن الكهولة؛ وذلك بعد وفاة شيخه عبد الرحمن بن سعدي بنحو سنتين،
ولمست منه في ذلك العام الأهلية العلمية، والتأثر بشيخه عبد الرحمن، وكثرة ما
يذكره ويشير إلى اختياراته وإفادته مادحاً له ولمسلكه وطريقته، ثم اشتهر بعد ذلك
ذكر الشيخ محمد، وانتشرت مؤلفاته ومحاضراته وكثرة معلوماته، وتوافد طلبة
العلم للاستفادة من علومه والتزود من فوائده عللاً بعد نهل.
وقد اشتهرت كتبه وتعددت طبعاتها في حياته؛ حيث ألَّف قديماً في مواضيع
متعددة، فكتب في المناهج الدراسية ما اعتمده طلاب المراحل في المعاهد العلمية
والجامعات في العقيدة والفرائض والمصطلح وغيرها مما سهل الطريق للمعلمين؛
بحيث يقتصرون على تلك الرسائل التي لخص فيها الموضوع وجمع أطرافه
بأسلوب واضح وعبارة كافية لفهم الطلاب وكذا لغيرهم ممن يقصد الاستفادة؛
فتراهم بعد إنهاء المراحل يحتفظون بتلك الرسائل للشيخ، ويرجعون إليها،
ويتناقلون العبارات منها للاحتجاح والاستدلال الذي يقنع به طالب الحق.
وهكذا كتب رسائل في مسائل خاصة تحتاج إلى بيان وإيضاح لما يقع فيها من
الاشتباه والاختلاف كسجود السهو وزكاة الحلي والدماء الطبيعية في الحيض
والنفاس ونحوها كثير، يبيّن فيها ما ترجح عنده، ويقرن اختياره بالدليل والتعليل.
ولقد صارت رسائله واختياراته مرجعاً لكثير من الناس من علماء ومبتدئين؛
بحيث يحتجون بها عند الجواب، ويقنعون بها من يطلب الصواب، وفيها الدليل
على عمق معرفته، وغوره في دقائق العلوم، واستنباطه للفوائد والتعليلات والحكم
والمصالح التي تترتب على الأحكام.
وهكذا له مؤلفات في المواعظ والنصائح، كوظائف الأيام وتسمى: (مجالس
شهر رمضان) ، وكالخطب التي ألقاها في مسجده وطبعت قديماً، وقد ظهرت النية
الصالحة منه في تلك الخطب ونحوها من عشرات السنين؛ بحيث يستفيد منها
الخطباء والمرشدون والواعظون والطلاب والعلماء، وبحيث يتناقلها العامة
والخاصة في المجالس والمساجد والسفر والإقامة؛ مما يدل على تقديرهم للشيخ
واعترافهم بفضله واقتناعهم بقوله وعدم الاعتراض على اختياراته إلا من أقل القليل،
وهكذا مسلكه في التدريس والإلقاء؛ فقد وقف نفسه وأمضى جل وقته في المجالس
العلمية وإلقاء الدروس على طلاب العلم من مختلف البلاد؛ بحيث توافدوا إليه من
داخل المملكة وخارجها بعد أن اشتهر بالبذل والعطاء السخي مما أعطاه الله من
المعرفة والإفادة وحسن التلقي والسرور بالمستفيدين، والفرح بحَمَلَة العلم وطالبيه
مما يشجع على الإقبال منقطع النظير والإصغاء إلى كلام الشيخ والإنصات
والاستماع له؛ حيث صارت بلدته مرتعاً خصباً لمرتادي العلوم الشرعية، وأصبح
مسجده جامعة إسلامية؛ فهو يؤم المصلين فيه الصلوات الخمس، ثم يجلس غالباً
بعد كل وقت، وتكتظ مجالسه بالطلاب والمستمعين من كبير وصغير، وتعظم تلك
الحلقات والمجالس التي يقيمها في ذلك المسجد، وكلهم مصيخ إلى ما يتلفظ به مع
تلقي أكثرهم للكلمات حفظاً وكتابة وتسجيلاً وتعليقاً.
ولما رأى ما حوله من الإقبال والتقبل وتوافد الغرباء من الداخل والخارج
حرص على ترغيبهم وتلبية طلباتهم وتمكينهم من التلقي، فسعى في قرارهم
واستمرارهم، وشفع لهم عند ذوي الجِدَة ومحبة الخير في إعداد سكن لهم مريح،
ولقد تجاوب معه الكثير من المواطنين الأثرياء وغيرهم، وتبرعوا بعمارات ودور
ومساكن تناسب أولئك الطلاب الراغبين، ووجد من يتكفل بالنفقة والكسوة
والحاجيات والكماليات مما كان له أثر فعال في الإقبال على الاستفادة والتلقي للعلوم
الشرعية التي ألهمه الله تعالى أصولها وفروعها، وفتح عليه ما يتمكن به من
إيضاح المعاني وإقناع السائل مما يكون به محل ثقة وتقبل وقناعة بما يقول؛ حيث
أصبحت علومه وفتاواه مرجعاً للقريب والبعيد يتناقلها الخاص والعام، ويرجعون
إلى علومه واختياراته لما جعل الله له في القلوب من المودة والمحبة، ولما اشتهر
به من سعة في المعلومات وقدرة على حل المشاكل والإجابة على ما يعرض عليه
من معضلات المسائل.
وهكذا كان منزله عامراً بالراغبين والمستفيدين؛ فقد جعل وقتاً يومياً
وأسبوعياً يجلس فيه للطلاب الراغبين فيتوافدون إليه زرافات ووحداناً، ويتحلَّقون
أمامه يتلقون منه النصائح والإرشادات والإجابة عن الاستفسارات والأنس بمشاهدة
ذلك الشخص المحبوب؛ فالكل يأنسون بلقائه ويتلذذون بالإصغاء إلى كلماته النيرة؛
فهو يظهر لهم الفرح والسرور ويتلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط؛ فلا يظهر
منه ملل ولا سآمة، ولا يتبرم من إلحاح أو تكرار أو زيادة استفهام؛ فهذه الأخلاق
مما صار بها محبوباً موقراً يعترف بعلمه القريب والبعيد والعالم والعامي والذكر
والأنثى.
ومما يقوم به من التعليم الإجابة عن الأسئلة الهاتفية التي تتواصل طوال
الزمان ليلاً ونهاراً من داخل المملكة وخارجها، فلو فتح الهاتف كل وقت لاستمرت
المكالمات دون انقطاع، ولقد شاهدته في منزله يتولى الإجابة بإيضاح وبيان،
ويتحمل ما يصدر من أولئك السائلين من التكرار والاستفهام، فلا يظهر منه ملل
ولا ضجر، ولا شدة في الرد، ولا قطع للكلام، وقد حدد للمكالمات أزمنة
مخصصة زيادة على استغلال أوقات الفراغ، حتى ولو كان مع أهله وبين أولاده؛
فإنه يستغل ذلك ويفتح باب المكالمات إلى أن يبدو له ما يشغله من الواجبات
الأخرى.
وقد جعل الله في قلوب الأمة الإسلامية له مودة ومحبة واحتراماً وتوقيراً؛
فلذلك كانوا يحرصون على سؤاله ويتحاكمون إلى قوله، ويقنعون بجوابه ولو خالف
ما يعرفونه وما ألفوا عليه آباءهم وأسلافهم، وترى كل من شك في أمر أو جهل
حكماً يحرص على سؤال الشيخ ابن عثيمين ويتقبل فتواه، وتسمع كثيراً في
المجالس المعتادة ذكر أقواله على الألسن، فيتناقل العامة والخاصة فتاواه واختياراته
معترفين له بالفضل معجبين بقوله مع اعتقاد أنه على الصواب.
ثم إن الشيخ رحمه الله يقع له اختيارات وترجيحات مخالفة للمشهور من
مذهب أحمد ولما يقرره المشايخ المشهورون في هذه البلاد الذين يقتصرون على
المنصوص في كتب فقهاء الحنابلة، وحيث إنه تتلمذ في أول تعلمه على الشيخ عبد
الرحمن السعدي رحمه الله فقد تأثر باختيارات شيخه وطريقته، فاشتغل بكتب شيخ
الإسلام ابن تيمية وابن القيم وانتفع بما استفاده من تلك العلوم التي تحويها تلك
المؤلفات، ووقع له اختيارات وافق فيها شيخ الإسلام وغيره، وفيها شيء من
التساهل والتوسع الذي يخالف ما يفتي به كبار مشايخنا الذين يسلكون باب الاحتياط
والخروج من الخلاف، ولكنه رحمه الله يدعم أقواله بالأدلة الصحيحة والتعليلات
القوية بما يحصل به القناعة والتقبل لمن قصده الصواب، ومع ذلك فإن مشايخه لا
يعنفونه ولا يعيبون أقواله المخالفة لهم لعلمهم أنه قد سبقه إلى ذلك جهابذة أجلاء لا
يلحقهم طعن ولا عيب، ولأنه مجتهد ولكل مجتهد نصيب؛ فمما تساهل فيه مسائل
تتعلق بالمسح على الحوائل والجوارب، ورخص السفر، والإذن في بعض ما عده
الفقهاء من المفطرات، ونحو ذلك.
ومما احتاط فيه القول بوجوب زكاة الحلي، وطواف الوداع للعمرة، وغير
ذلك مما يعتمد فيه النصوص ويعمل فيها بما ظهر له مما هو مدوَّن في كتبه ومؤيد
بالأدلة التي ظهر له صحتها ووضوح دلالتها.
وقد اشتهر بكثرة المؤلفات رغم كثرة ما يقوم به من الدروس الرسمية
والحلقات العلمية، وقد طبعت كتبه قديماً وحديثاً وتداولها طلاب العلم، واستفاد منها
الكثير ونفع الله بها من أراد به خيراً، وهكذا سعى كثير من طلابه في تفريغ
الأشرطة التي سجلت فيها دروسه ومحاضراته العلمية، وحرصوا على نشرها رغم
كثرتها؛ حيث قد شرح زاد المستقنع كاملاً، وطبع أكثر شرحه، وشرح كتاب
التوحيد، والعقيدة الواسطية، ولمعة الاعتقاد، وبلوغ المرام، ورياض الصالحين،
والمنظومة الرحبية، وغير ذلك من المتون والشروح، وفي شرحه من الإيضاح
والبيان العجب العجاب، ومن ذكر ما يمكن افتراضه من المسائل والوقائع ولو
كانت نادرة الوقوع، وكذا أحكام ما تجدد ووجد مما لم ينص عليه العلماء السابقون
أو بينوه باختصار وبدون تعليل.
وقد تتلمذ عليه الكثير من طلبة العلم الذين برزوا في الفهم والقوة، وانتفعوا
بما تلقوه عن شيخهم وبما فتح الله عليهم من الفهم والإدراك للمعاني؛ فكانوا محل
ثقة شيخهم بحيث وكَّل إلى الكثير منهم جمع علومه وترتيبها وتنسيقها وتصحيحها
ونشرها ليستفيد منها القريب والبعيد، وأنجز منها في حياته كمية كبيرة اطلع عليها
وأقرها جملة وتفصيلاً، وقد وثق بأولئك الذين اشتغلوا بتصحيح كتبه وطبعها، مع
أنه لا يتسع وقته لسماع جميعها؛ ولذلك قد يقع فيها شيء من الأخطاء التي يحمل
عليها فهم الخطأ، وتغتفر في جانب ما معها من الفوائد الجمَّة.
وبكل حال فقد أورث رحمه الله علماً نافعاً يستمر له أجره، ويصل إليه ثواب
علمه بفضل الله تعالى، وينتفع به من بعده، ويدعو له كل من استفاد من علمه؛
فرحمه الله تعالى وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس مأواه، والله أعلم، وصلى الله
على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(*) أحد العلماء الأجلاء، والفقهاء النبلاء، عضو الافتاء في السعودية سابقًا.(161/18)
قضايا دعوية
ضوابط في الدعوة إلى الله تعالى
عبد الله بن عبد الحميد الأثري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
ومن والاه. أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله تعالى من أشرف الأعمال وأرفع العبادات، وهي أخصُّ
خصائص الرسل عليهم السلام، وأبرز مهام الأولياء الأصفياء من عباده الصالحين،
قال تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) ، والدعاة إلى الله هم صفوة مختارة من رجال الأمة؛
إذ يستلزم قيامهم بالدعوة أن يكونوا نماذج يحتذي بها الناس، وقدوة لهم في كل
تصرفاتهم، تبدو عليهم آثار الرسالة التي يدعون الناس إليها على علم وبصيرة.
وقد أوجب الله على الأمة الإسلامية أن تهيئ من بينها طائفة تقوم بالدعوة إلى
الإسلام الصحيح، وتهيئة هؤلاء الدعاة ليست أمراً هيناً بل تحتاج إلى إمكانيات
وتضحيات مستمرة عما كان عند سلف هذه الأمة.
وهنا نعرض بعض قواعد وضوابط للدعوة الصحيحة إلى الإسلام الصحيح
لتكون عوناً للدعاة ونجاحاً لدعوتهم بإذن الله:
1 - الدعوة إلى الله تعالى سبيل من سبل النجاة في الدنيا والآخرة؛ ف «لأن
يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعم» [1] ، والأجر يقع
بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة، والداعية ليس مطالباً بتحقيق نصر
للإسلام؛ فهذا أمر الله؛ لكنه مطالب ببذل جهده في هذا السبيل.
والإعداد للداعية شرطٌ، والنصر من الله وعدٌ، والدعوة صورةٌ من صور
الجهاد تشترك مع القتال في الهدف والنتيجة.
2 - تأكيد منهج سلف هذه الأمة المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة
وتعميقه، والمعروف بوسطيته، وشموليته واعتداله، وبعده عن الإفراط والتفريط.
والانطلاق من منطلق العلم الشرعي الملتزم بالكتاب والسنة الصحيحة: هو
الحافظ بفضل الله من السقوط، والنور لمن عزم على المسير في طريق الأنبياء.
3 - الحرص على إيجاد جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم على الحق؛ أخذاً
بالمنهج القائل: «كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة» ، مع الابتعاد عما يمزق
الجماعات الإسلامية اليوم من التحزب المذموم الذي فرق المسلمين، وباعد بين
قلوبهم، والفهم الصحيح لكل تجمُّع في الدعوة إلى الله: جماعة من المسلمين لا
جماعة المسلمين.
4 - يجب أن يكون الولاء للدين لا للأشخاص؛ فالحق باق والأشخاص
زائلون، واعرف الحق تعرف أهله.
5 - الدعوة إلى التعاون وإلى كل ما يوصل إليه، والبعد عن مواطن الخلاف
وكل ما يؤدي إليه، وأن يعين بعضنا بعضاً وينصح بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه
مما يسع فيه الخلاف، مع عدم التباغض.
والأصل بين الجماعات الإسلامية المعتدلة: التعامل والوحدة، فإن تعذر ذلك
فالتعاون، فإن تعذر ذلك؛ فالتعايش، وإلا فالرابعة الهلاك.
6 - عدم التعصب للجماعة التي ينتسب إليها الفرد، والترحيب بأي جهد
طيب يقدمه الآخرون، ما دام موافقاً للشرع، وبعيدًا عن الإفراط والتفريط.
7 - الاختلاف في فروع الشريعة يوجب النصح والحوار، لا التخاصم
والقتال.
8 - النقد الذاتي، والمراجعة الدائمة، والتقويم المستمر.
9 - تعلُّم أدب الخلاف، وتعميق أصول الحوار، والإقرار بأهميتهما،
وضرورة امتلاك أدواتهما.
10 - البعد عن التعميم في الحكم، والحذر من آفاته، والعدل في الحكم على
الأشخاص، ومن الإنصاف الحكم على المعاني دون المباني.
11 - التمييز بين الغاية والوسيلة، مثلاً: الدعوة هدف لكن الحركة
والجماعة والمركز وغيرها هي من الوسائل.
12 - الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل؛ بحسب ما يسمح به
الشرع.
13 - مراعاة قضية الأولويات، وترتيب الأمور حسب أهميتها، وإذا كان لا
بدَّ من قضية فرعية أو جزئية؛ فينبغي أن تأتي في مكانها، وزمانها، وظرفها
المناسب.
14 - تبادل الخبرات بين الدعاة أمر مهم، والبناء على تجارب من سبق،
والداعية لا يبدأ من فراغ، وليس هو أول من تصدى لخدمة هذا الدين ولا يكون
آخر المتصدِّين، ولأنه لم يوجد ولن يوجد من هو فوق النصح والإرشاد، أو من
يحتكر الصواب كله وبالعكس.
15 - احترام علماء الأمة المعروفين بتمسكهم بالسنَّة وحسن المعتقد، وأخذ
العلم عنهم، وتوقيرهم وعدم التطاول عليهم، والكف عن أعراضهم، وإثارة
التشكيك في نياتهم، وإلصاق التهم بهم، دون التعصب لهم أيضاً؛ إذ كل عالم
يخطئ ويصيب، والخطأ مردود على صاحبه مع بقاء فضله وقدره ما دام مجتهداً.
16 - إحسان الظن بالمسلمين، وحمل كلامهم على أحسن محامله وستر
عيوبهم، مع عدم الغفلة عن بيانها لصاحبها.
17 - إذا غلبت محاسن الرجل لم تذكر مساوئه إلا لمصلحة، وإذا غلبت
مساوئ الرجل لم تذكر محاسنه، خشية أن يلتبس الأمر على العوام.
18 - استعمال الألفاظ الشرعية لدقتها وانضباطها، وتجنب الألفاظ الدخيلة
والملتوية، مثلاً: الشورى لا الديمقراطية.
19 - الموقف الصحيح من المذاهب الفقهية أنها ثروة فقهية عظيمة ندرسها،
ونستفيد منها ولا نتعصب لها، ولا نردها مجملاً ونتجنب ضعيفها، ونأخذ منها
الحق والصواب على ضوء الكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة.
20 - تحديد الموقف الصحيح من الغرب وحضارته؛ بحيث نستفيد من
علومهم التجريبية بضوابط ديننا العظيم وقواعده.
21 - الإقرار بأهمية الشورى في الدعوة، وضرورة تعلم الداعية فقه
الاستشارة.
22 - القدوة الحسنة والداعية مرآة دعوته والنموذج المعبِّر عنها.
23 - اتباع سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، وجعل قول الله تعالى: [ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل:
125) . ميزاناً للدعوة وحكمة للسير عليها.
24 - التحلي بالصبر؛ لأنه من صفة الأنبياء والمرسلين، ومدار نجاح
دعوتهم.
25 - البعد عن التشدُّد، والحذر من آفاته ونتائجه السلبية، والعمل بالتيسير
والرفق؛ في حدود ما يسمح به الشرع.
26 - المسلم طالب حق، والشجاعة في الحق مطلب ضروري في الدعوة،
وإن كنتَ عاجزاً عن قول الحق؛ فلا تقل الباطل.
27 - الحذر من الفتور، ونتائجه السلبية، وعدم تغافل دراسة أسبابه وطرق
علاجه.
28 - الحذر من الإشاعة وترويجها، وما يترتب عليها من آثار سيئة في
المجتمع الإسلامي.
29 - مقياس التفاضل هو التقوى والعمل الصالح، وتحاشي كل العصبيات
الجاهلية؛ من التعصب لإقليم، أو عشيرة، أو طائفة، أو جماعة.
30 - المنهج الأفضل في الدعوة هو تقديم حقائق الإسلام ومناهجه ابتداءً،
وليس إيراد الشبهات والرد عليها، وإعطاء الناس ميزان الحق، ودعوتهم إلى
أصول الدين، ومخاطبتهم على قدر عقولهم، والتعرف على مداخل نفوسهم وسيلة
لهدايتهم.
31 - تمسك الدعاة والحركات الإسلامية بدوام الاعتصام بالله تعالى وتقديم
الجهد البشري وطلب العون من الله تعالى، واليقين بأن الله هو الذي يقود،
ويوجه مسيرة الدعوة، ويسدد الدعاة، وأن الدين والأمر كله لله سبحانه وتعالى.
هذه الضوابط والفوائد هي ثمرة وزبدة تجارب كثير من العلماء والدعاة إلى
الله تعالى، ولنعلم يقيناً أن الدعاة إلى الله لو فقهوا هذه الضوابط وعملوا بها لكان في
ذلك خير كثير لمسيرة الدعوة.
وليعلم جميع الدعاة أنه لا صلاح لهم، ولا نجاح لدعوتهم إلا بالاعتصام بالله،
والتوكل عليه في كل أمر، وإخلاص النية، والتجرد من الهوى، وجعل الأمر كله
لله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 4210، مسلم، ح/ 240(161/22)
قضايا دعوية
دعوة إلى نقد بنَّاء
د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
كثيرون أولئك الذين يجيدون النقد، وأكثر منهم أولئك الذين يجيدون الحديث
عن الأخطاء وهم يحتسون فنجان شاي على أريكة مريحة.
وعلى العكس من ذلك فإن قلة فقط هم الذين يفكرون بجدية لتجنُّب الزلاَّت
وسدِّ الثغرات، وأقل منهم من ينقل هذه التصورات إلى الواقع المشهود.
إن مما لا شك فيه أن أول خطوة للعلاج هي اعتراف المريض بأنه يحتاج إلى
المساعدة، ثم تأتي الخطوة التالية في محاولة تشخيص المرض ثم علاجه من بعد
ذلك، وإنه لمن الواضح الجلي أن مسيرة العمل الإسلامي في الوقت الحاضر تئنُّ
تحت وطأة كثير من المشكلات التي خلَّفتها سنون عصر التخلف والجمود.
وإننا عندما ننتقد أولئك الذين يتحدثون عن الأخطاء لا ننتقدهم لأنهم تجاوزوا
الحدود أو لأنهم تعدَّوْا على العصمة، أو لمجرد أنهم مارسوا حق النقد.
وإنما ننتقد ذلك النوع الذي لا يتجاوز حدود التشفي والتسخط أو التسلية
وقضاء الأوقات، فضلاً عما قد يبثه من الفرقة والخصومات أو ما قد يورثه من
الدعة والكسل وترك العمل والمبادرات.
إننا بأمسِّ الحاجة إلى كل نقد هادف وفكرة رشيدة أو مساهمة فاعلة مهما كانت
صغيرة، إننا بحاجة إلى توظيف كل الطاقات، وبحاجة أشد إلى العناية بالمراجعات
وتقويم الذات.
وحتى لا تصبح الأمور مضطربة والواقع فوضى؛ فإن هناك أطُراً عامة
تصلح أن تكون منطلقاً لترشيد هذا النقد وتوجيهه نحو الهدف الأسمى (حمل همِّ هذا
الدين) ليصبح نقدُنا بعد ذلك عامل بناء لا معول هدم وبلاء.
أولاً: الإخلاص:
وبالرغم من كثرة الحديث عنه وعن أهميته إلا أن تحقيقه ليس بالأمر الهيِّن
إلا لمن وفقه الله تعالى لذلك، ولذلك قال سهل بن عبد الله التُسْتَري: «ليس على
النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب» ، وقال سفيان الثوري:
«ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ إنها تتقلب عليَّ» .
ومن أجمع ما ذكر في تعريف الإخلاص أنه: إخراج الخلق عن معاملة الربِّ.
ثانياً: الإنصاف من النفس والابتعاد عن الميول الشخصية والتجارب
المحدودة:
فإنه كثيراً ما يكون سبب النقد هو ميل شخصي أو فكرة خاصة أو تجربة
قاصرة.
ثالثاً: وضوح الفكرة وشمولية النظرة:
فلا ينبغي التجرؤ على النقد قبل أخذ تصور كامل عن الموضوع أو الفكرة
المراد نقدها، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وحبذا معرفة الدوافع التي كانت
سبباً في القيام بها أو الدعوة إليها، فقد يقوم بها من الأسباب ما يجعلها أفضل من
غيرها في مقامها ذلك، هذا إن لم تكن الأفضل.
وكم من عائب قولاً سليماً ... وآفته من الفهم السقيم
رابعاً: التأني قبل إصدار الأحكام:
وذلك لإعطاء النفس فرصة للتفكير السليم القائم على اختمار الفكرة وتحليلها
ومن ثم إصدار الحكم فيها بعيداً عن الانفعالات العاطفية وضغوط الاستعجال.
خامساً: حصر النقد في أضيق مجال، والحرص
على ألا يؤدي إلى الفرقة:
فلا ينبغي أن يتحول نقد فكرة ما أو خطوة واحدة إلى حكم عام على منهج
كامل أو شخص ما بكل مواقفه؛ فإن هذا من الظلم المشين والبغي بغير الحق، مع
ما قد يؤول إليه من رفض الحق الذي قد يكون في جملة ما يحمله، والحق ضالة
المؤمن أينما وجده أخذه.
سادساً: طرح حلول عملية وبدائل:
وهذا يكون من الأدلة البالغة على حرص الناقد على الخير وسعيه إليه، مع ما
فيه من فتح آفاق جديدة للتصحيح، كما أنه أدعى للقبول من الطرف الآخر.
سابعاً: الاستشارة وتبادل الآراء:
وذلك حتى لا تكثر الانتقادات وتتشعب الاجتهادات، ومع الاستشارة يمكن
الوصول إلى جملة من الآراء الجامعة المفيدة التي تحقق الخير والصلاح.
ثامناً: عدم التعرض للأشخاص في ذواتهم وهيئاتهم:
خصوصاً إذا كانوا معك على نفس الطريق؛ وإنما المنهج هو المطلب،
والرجال إنما يُعرَفون بالحق ولا يقاس الحق بهم. كما أنه من المعلوم أن هذا
المسلك يقود إلى حظوظ النفس أكثر منه إلى الحق، ويؤدي إلى كثرة التفرق
والاختلاف أكثر من التصحيح والائتلاف.
تاسعاً: الحرص على استمرار الجوانب الإيجابية:
فلا ينبغي للناقد أن يلغي العمل المنتقَد من أساسه بما فيه من الحق؛ فإن هذا
هدم وليس نقداً.
وبما أن كل عمل لا يخلو من نقص؛ فإن هذا الأسلوب في النقد يستلزم أن
نوقف كل أعمالنا، ولا نكاد نبدأ شيئاً ما إلا ويأتي عليه معول الناقد فيجتثه.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
عاشراً: عدم الاستعجال في نقد كل جديد أو ما لم يكتمل بناؤه:
فكل جديد مستنكر، والنفوس تعشق المألوف، كما أن الحكم على الأمر من
بداياتٍ غير واضحة يحمل كثيراً من الإجحاف وعدم الإنصاف.
الحادي عشر: الاعتدال والعدل:
قال الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] (النساء: 58) ، وقال تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
الثاني عشر: الاستعداد للاعتراف بالخطأ والقصور، وقبول
الرأي المخالف:
فما كل منتقد مصيب، وينبغي على الناقد كما جوَّز الخطأ والقصور على من
انتقدهم أن يجوِّز ذلك على نفسه.
الثالث عشر: الاستمرار في العطاء:
فإن الملاحظ أن كثيراً ممن ينقد غيره إنما هو يخادع نفسه ويُسهِّل عليها حياة
الدعة والكسل، والتملُّص من أية مسؤولية أو مشاركة بنَّاءة. فعلى المرء أن يستمر
في العطاء بحسب وسعه وطاقته مع سعيه لتصحيح ما قد يراه من خلل، وليتذكر
أنه: أن تُشعِلَ شمعة واحدة خير من أن تلعنَ الظلام ألف مرة.(161/25)
قضايا دعوية
التخطيط الناجح
متعب بن مسعود الجعيد [*]
النجاح مطلبٌ مُلِحٌّ تتشوَّف إليه الأرواح الوثَّابة، وغايةٌ تتبارى الأنفس في
طلبها؛ بل النفس الطموح تكاد ألا تَمَلَّ من اللَّهث وراءه، والتضحية من أجله.
وهو مقصد الإسلام؛ فما جاء الإسلام إلا لسعادة الناس وإنجاحهم في أُولاهم
وأُخراهم؛ ولذا علَّم النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الخير دعاءاً يقوله ويواظب
عليه، فأمره أن يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أسألك صحةً في إيمان، وإيماناً
في حسن خلق، ونجاحاً يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك
ورضواناً» [1] .
ومن قواعد النجاح العظمى ما يسمى بـ (التخطيط) ، فإن أنت رُمْتَ النجاح
فإنه لا بد أن تلج من بوَّابته، و «لا يمكن أن تتخذ أولى خطواتك على طريق
النجاح بلا خطة» [2] .
والتخطيط يدور على محاور ثلاثة:
أولها: الهدف؛ إذ لا بد للإنسان من هدفٍ يسعى إلى تحقيقه؛ فالسير بغير
هدف مضيعة للوقت والجهد، والسائر بدون هدف مثله كرُبَّان السفينة الذي لا
يعرف أين يتجه؛ فهو يخبط خبط عشواء، ويهيم على وجهه تتقاذفه الأمواج [3] .
وثانيها: الزمن؛ حيث يتعين جعل مدة زمنية لتحقيق ذلك الهدف.
فمتى «لم يكن لديك توقيت سليم للخطة؛ فإنك لا تستطيع الجزم بمتى
ستنتهي: اليوم، أو غداً؟ وستمتد الخطة إلى ما لا نهاية في المستقبل» [4] .
وثالثها: الوسائل والطرق الموصلة إلى تحقيق ذلك الهدف؛ فإذا لم يعرف
العامل الطريق الموصل إلى هدفه؛ فإنه لن يصل إلى مقصوده؛ ولذا يقول ابن قيم
الجوزية رحمه الله: «طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة؛ بل إلى كل علمٍ
وصناعة ورئاسة؛ بحيث يكون رأساً في ذلك مقتدى به: يحتاج أن يكون شجاعاً
مقداماً حاكماً على وَهْمِه، غير مقهور تحت سلطان تخيُّله، زاهداً في كل ما
سوى مطلوبه، عاشقاً لما توجَّه إليه، عارفاً بطريق الوصول إليه والطرق القواطع
عنه» [5] .
ويقول أيضاً: «الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع
الفائدة القليلة» [6] .
تلك هي محاور التخطيط، ولكن ها هنا أمورٌ ينبغي مراعاتها:
أولاً: «لا تباشر التخطيط وبخاصة في الأمور المهمة إلا بعد الحصول على
قدرٍ كافٍ من الراحة والهدوء؛ واعتدال المزاج والشعور بالثقة وعدم القلق والتوتر
والإحباط؛ لأن التخطيط يحتاج منك إلى جميع قواك الذهنية من تفكير وتذكير
وخيال، وهذا لا يتأتى إلا عندما يكون الإنسان في الحالة الذهنية والنفسية والجسمية
المناسبة لذلك. وهذا في الأحوال الطبيعية، أما في الأحوال الاضطرارية،
فللضرورات أحكامها» [7] .
ثانياً: «الإنسان لا بد أن يكون في تحديد أهدافه والسعي لتحقيقها صاحب
طموح ونفسٍ توَّاقة لمعالي الأمور؛ فالحياة محدودة، والفرص قد لا تتكرر، ومن
قضى أوقاته ومضت حياته في الاشتغال بتوافه الحياة وصغارها عاش في قاعها،
ولم يتسنَّ له الرقي إلى ذُرَاها وقممها» [8] .
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إن لي نفساً تواقة: تمنيت الإمارة
فنلتها، وتمنيت أن أتزوج بنت الخليفة فنلتها، وتمنيت الخلافة فنلتها، وأنا الآن
أتوق للجنَّة وأرجو أن أنالها» [9] .
ثالثاً: استشعر فضائل الهدف الذي تريد تحقيقه ومنافعه؛ فمتى كانت منافع
الهدف عظيمة كانت النفس أشد حرصاً على تحصيله؛ خلافاً لِما منفعته قليلة؛ فإن
الحركة تجاهه قطعاً ستكون ضعيفة [10] .
فطالب العلم الشرعي مثلاً الذي يهدف إلى أن يكون من أهل العلم والنُّهى إذا
استشعر فضائل العلم، وأن «ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام يُنتَفع به،
فكأنه حيٌّ لم ينقطع عمله، مع ما له من حياة الذكر والثناء» [11] : تتوق نفسه إلى
أن يجدَّ السير في طلب العلم واكتسابه، وأن يُشمِّر عن ساعد الجد وساقه،
ويستسهل في طريقه الصعاب، ويتلذذ بما يواجهه من مشاق.
رابعاً: وضوح الهدف أمرٌ رئيس في عملية التخطيط؛ ولذا يلزم المرء أن
يُعيِّن هدفه بدقة ووضوح؛ فمتى كان هدفه واضحاً فإنه حينئذٍ يمتلك المقدرة على أن
«يتجاوز العقبات والعراقيل، ويُنتِج في وقت قصير ما يحتاج غيره إلى أضعاف
الوقت حتى ينتجه» [12] .
خامساً: من الخطأ أن يبدأ الشخص بأهداف متعددة؛ لأن ذلك يُشتته ويضعف
قواه؛ بل المتعين عليه أن يبدأ بهدف واحد يجمع همَّه عليه، ويجعله أصلاً تندرج
تحته العديد من الأهداف [13] .
ويُشترط في الهدف أن يكون مشروعاً؛ لأن من الأهداف ما لا يجوز للفرد أن
يسعى له أو يفكر فيه، فضلاً عن أن يتصدى لإنجازه وتحقيقه، وذلك كالسعي في
الأرض بالفساد على اختلاف صوره، فهو وإن عاد على فاعله بلذَّةٍ أو نفعٍ عاجل؛
إلا أنه في موازين الحق مردود وباطل؛ كما قال تعالى: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً] (الفرقان: 23) [14] .
ولا ريب أن النجاح والتفوق مطلبٌ ومقصد؛ إلا أن «سعينا لتحقيق النجاح
لا بد أن ينضبط بضوابط الشرع، ويلتزم بالآداب والوسائل المقبولة» [15] .
سادساً: يجب أن يكون الهدف واقعياً مقدوراً عليه؛ فلا يكون خيالياً، ولا
يعني هذا أن يكون سهلاً متواضعاً جداً، بل الأمران كلاهما التعلق بالأهداف
الخيالية، أو الانشغال بالأهداف المتواضعة مَضْيَعة للوقت، وإهدار للطاقات [16]
سابعاً: حتى يكون الهدف متحققاً يتعين تجزئته إلى أهداف مرحلية تكون
قصيرة المدى؛ لأنها إذا كانت كذلك فإن «من شأنها أن تقودك إلى تحقيق هدفك
على المدى الطويل؛ لأن أهداف المدى القصير ستوفر لك شعوراً بالنجاح على
أساس يومي، وستوفر لك خبرة ثمينة تساعدك في تحقيق الإنجازات» [17] .
وإعطاء كل مرحلة وقت بداية ووقت نهاية من الضرورة بمكان، ولْيؤخَذْ
بعين الاعتبار كون ذلك الوقت مناسباً، فلا يكون قصيراً لا يكفي لإنهاء العمل
فيُصاب العامل بعدها بالإرهاق والإحباط، ولا يكون أيضاً طويلاً فيصاب الإنسان
حينها بالفتور والتواني [18] .
ثامناً: اجعل تركيزك منصبّاً على جهة واحدة، واجمع كُلِّيتك على شيء واحد،
ف «إذا بدأت بشيءٍ فلا تتركه حتى ينتهي. إذا فعلت ذلك فإنك تنهي في يوم
أكثر مما ينهي الناس في أسبوع» [19] .
تاسعاً: «إن أول طريق النجاح في الحياة هو نجاحك في إدارة ذاتك والتعامل
مع النفس بفعالية» [20] ؛ فالذي لا يحسن استغلال وقته أنى له أن يحقق أهدافه
فضلاً عن أن يكون ناجحاً في عمره وحياته؟
قال ابن عقيل رحمه الله: «إن أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو
الوقت؛ فهو غنيمة تُنتهَز فيها الفرص؛ فالتكاليف كثيرة، والأوقات خاطفة» [21] .
فالمتعين على العامل حينئذ أن يحدد الأولويات، وأن يعرف ما الذي يبدأ فيه،
وما الذي يؤخره وينحِّيه، وأن يقدم الأهم على المهم، والمهم على غير المهم،
والفاضل على المفضول [22] .
قال ابن الجوزي رحمه الله: «ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر
وقته، فلا يُضيِّع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول
والعمل» [23] .
وليحذر المرء من الخلط بين الحركة والتقدم؛ فالحركة تكون في اتجاهات
مختلفة أو متضادة، بل قد تكون في المكان نفسه خلافاً للتقدم فإنه يكون إلى الأمام
نحو الهدف [24] .
عاشراً: عند وضع الخطة لا بد أن يكون التخطيط مرناً بحيث يُترَك وقتٌ
كافٍ للأعمال الطارئة غير المتوقعة، ف «الخطط اليومية الجامدة المحشوة أكثر
من اللازم تنهار عندما تحدث أزمة» [25] .
حادي عشر: إذا خطط الإنسان لتحقيق هدفٍ ما، وكان ذلك التخطيط بعد
رويَّة واستشارة: فلا يُفسدنَّ تخطيطه بالتراجع والنكوص، ولا يسمحن لنفسه أن
تتردد في ذلك، بل عليه أن يَغُذَّ السير حتى يُحقّق مبتغاه [26] .
قال الله تعالى: [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] (آل عمران: 159) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما راجعه بعض أصحابه في ترك الخروج
قبيل غزوة أحد: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأْمَته أن يضعها حتى يقاتل» [27] .
ثاني عشر: لا بد من تقويم كل إنجاز «فمن الضروري أن تتوقف بين الفينة
والأخرى، وتعود إلى الوراء لتقيِّم إنجازك، وترى إلى أي مدى بلغت في سبيل
تحقيق هدفك، وستجد أنك سوف تحتاج إلى إجراء بعض التعديلات الطفيفة بين
الحين والآخر لكي تصل إلى هدفك البعيد بشكل أفضل» [28] .
وهذا الفعل منك مدعاة لتحقيق النجاح؛ فأنت «لا تشعر بالنجاح حتى تعرف
أن عليك عدد كذا من الخطوات، وتعرف كم قطعت، وكم بقي عليك» [29] .
أسباب إخفاق التخطيط:
*من أعظم أسباب إخفاق التخطيط: عدم مقدرة الشخص على التكيف مع
المستقبل، والعجز عن معايشة الأحداث والوقائع المستقبلية مما يحول بينه وبين
النجاح فيما خطط له؛ وذلك أنه لا يشعر بالأمان من بقاء تخطيطه فترة طويلة؛
لأن المستقبل يحمل في طياته الكثير من النتائج غير الممكنة أو التي لم تكن متوقعة.
إلا أنه ينبغي على المخطط أن يأخذ في الحسبان أنه لا يعمل في عالم يتسم
بالصداقة والاستمرار دائماً، أو بالصراعات والاضطرابات أيضاً، بل يجب أن
يأخذ في الاعتبار أبعاد تلك التغيرات وخاصة العوامل الخارجية التي ربما تؤثر
بدرجة كبيرة في عملية التخطيط؛ ولذا لا بد أن يكون التخطيط مرناً حتى يتلاءم
مع التغيرات المتوقعة وإلا وجد المخطِّط نفسه تائهاً في مستقبل لا يستطيع
الاستمرار عليه [30] .
*من الأسباب أيضاً: المخطِّط ذاته، والعامل نفسه، وذلك بأن يكون المرء
غير قادرٍ على إدارة ذاته والالتزام بتخطيطه، فالانضباط الذاتي هو أساس التخطيط،
بل إن أعظم تخطيط وأفضل تدبير لا يُجْدِي ولا يساوي شيئاً إذا لم يكن من ينفذه
ويقوم به منضبطاً ذاتياً، وملتزماً بما خطط له [31] .
* ومن أعظم الأسباب: البيئة المحيطة بالفرد والتي تقلل من شأن التخطيط،
بل تقرر ضرورة البعد عنه حتى أصبحت العشوائية والفوضوية سمة بارزة لتلك
البيئة الموبوءة [32] .
ولا ريب أن الإنسان ابن بيئته، وأنه حساس بطبعه، فما لم يكن قادراً على
مدافعة ذلك وإلا فسينجرف ولا بد.
ومن الأسباب المؤثرة أيضاً: التسويف والتأجيل؛ فإذا كان العامل يؤجل
أعماله ولا ينجزها أولاً بأول، بل أصبح التسويف هِجِّيراً [**] له: فإن تخطيطه لن
يفلح لا محالة؛ لأنه قد لا يتمكن من إنجازه مستقبلاً [33] .
قال ابن حزم رحمه الله: «قلَّما رأيت أمراً أُمكِنَ فضُيِّع إلا فات، ولم يكن
بعدُ» [34] .
*آخر الأسباب: المبالغة في تطلُّب الكمال؛ فمن تطلَّب الكمال في كل عمل
يعمله فإنه قد رام محالاً؛ ولا يستطيع أن ينجز شيئاً؛ لأن الكمال عزيز ولا يكون
في عمل البشر، ولكن حَسْب المرء أن يبذل جهده، وأن يستفرغ وسعه في إنهاء
العمل وإتقانه، وما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُلُّه، وكم دَفَنَ تطلُّبُ الكمال أعمالاً كانت
تستحق أن تظهر في الوجود [35] .
تنبيهات ذات بال:
ثَمَّ تنبيهات ينبغي أن يُلتفَت إليها عند التخطيط:
أولها وأُسُّها، وقبل أن يخطط المرء لأهداف يريد تحقيقها، وأشياء يروم
نوالها: أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يستعين به ويتوكل عليه؛ فلا حول ولا
قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إنه ليقف خاطري في المسألة
والشيء أو الحالة فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر،
وينحل إشكال ما أشكل.
قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني
ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي» [36] .
وثانيها: على العامل أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن يصبر على مُرِّه؛ فإذا
خطط وبذل وسعه وطاقته ثم لم يكلل سعيه بنجاح فلْيصْبر ولا يحزن، ولْتطب نفسه
بقضاء الله، ولْيعلمْ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه،
ولْيجتهدْ ولا يتوقف عن مسيرته، بل يحاول المرة تلو المرة، فإن لم يصل بعد ذلك
إلى مبتغاه، ولم يتحقق ما كان يصبو إليه؛ فإن إخفاقه ذلك لا يلام عليه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «الدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي
الهمة ألا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كَبَا جواده مع اجتهاده لم
يُلَم» [37] .
وثالثها: «اعلم أن في كل إنسان صفات ضعف وصفات قوة، وهو أعلم
الناس بحقيقة نفسه ما لم يكابر أو يجهل؛ فالعاقل الموفق هو من وجه حياته وعمله
وتخصصه نحو ما فيه من صفات القوة، ونأى بنفسه وحياته عن نقاط الضعف في
شخصيته، فكم من جوهرة تخطف الأبصار بأصفى الأشعة وأبهاها: مُستكنَّة في
أغوار المحيطات المظلمة، وكم من زهرة استقامت على عودها في الصحراء:
مضيعة شذاها العطري مع سافيات البيداء، ولو اكتُشفت هذه وتلك لكان لهما شأن
آخر» [38] .
وأخيراً: ليعلم العامل أنه لا بد أن يعتري تخطيطه آفات، وتواجهه في
طريقه عوائق؛ إذ النجاح الكبير غالباً يسبقه إخفاق؛ فليس الناجح هو الذي لا
يسقط، بل الناجح حقاً هو الذي يقوم من سقوطه سريعاً، وقد استفاد من سقوطه،
وكما قيل: «وربما صحت الأجسام بالعلل» [39] .
وليعلم أيضاً أن ليس بين الإخفاق والنجاح إلا صبر ساعة، وأن العبرة ليست
بنقص البدايات، وإنما العبرة بكمال النهايات، وأن الناجحين لم يصلوا إلى ما
وصلوا إليه إلا بعد فشل أو إخفاق تعرضوا له وانتصروا عليه، ف «لم يقم أحدٌ
بالتوجه نحو هدف مهم إلا وقاسى مرات عديدة من الخيبة قبل تحقق الهدف» [40] .
ولْيصبر المرء وليصابر، ولْيتغلب على العقبات، ولا يستسلم للإخفاق؛ بل
عليه أن يعيد ويكرر مرات تلو مرات.
قال ابن سينا: «قرأت كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو، فما فهمته حتى
قرأته أربعين مرة» [41] .
__________
(*) ماجستير في الفقه الإسلامي، جامعة أم القرى، كلية الشريعة.
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، (10/155) ، رقم (9329) والحاكم في المستدرك، (1/ 523) ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (1293) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) تضمين من: «النجاح للمبتدئين» ، لـ (زيج زيجلر) ، ص 118، مكتبة جرير.
(3) انظر: دروس نفسية للنجاح والتفوق، أحمد البراء الأميري، ص 114، دار المعرفة للاستشارات التربوية، دار الناشر الدولي للنشر والتوزيع.
(4) اقتباس من: «كيف تكون عملياً أكثر» لسامي بن تيسير سلمان، ص 44 دار المؤتمن للنشر.
(5) الفوائد، لابن القيم الجوزية، ص 246، دار النفائس.
(6) الفوائد، ص 223.
(7) من: «حتى لا تكون كلاًّ» (طريقك إلى التفوق والنجاح) ، عوض بن محمد القرني، ص 38، دار الأندلس الخضراء.
(8) المرجع السابق، ص 22.
(9) عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، عبد الستار الشيخ، ص 34، دار القلم.
(10) انظر: علم نفس النجاح، برايان تريسي، ص 52، دار الثقافة للجميع، ترجمة بتصرف د عبد اللطيف الخياط.
(11) تضمين من: «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة» ، لابن قيم الجوزية، (1/525) ، دار ابن عفان، ضبطه وعلق عليه علي حسن عبد الحميد.
(12) اقتباس من: «علم نفس النجاح» ، ص 43.
(13) انظر: المرجع السابق، ص 50.
(14) انظر: «حتى لا تكون كلاًّ» ، ص 17، 18.
(15) من: «دروس نفسية» ، ص 8.
(16) انظر: «حتى لا تكون كلاًّ» ، ص 16.
(17) تضمين من: «الإنسان والتفكير الإيجابي/ دراسة تربوية نفسية إدارية» ، عيسى بن علي الملا، ص 151، مطابع الابتكار.
(18) انظر: «طريق النجاح دليل عملي للتفكير والتخطيط والإنجاز» راشد بن حسين العبد الكريم، ص 21، مطابع الحميضي، و «حتى لا تكون كلاًّ» ، ص 23.
(19) تضمين من: «علم نفس النجاح» ، ص 56.
(20) اقتباس من: «حتى لا تكون كلاًّ» ، ص 53.
(21) الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، (1/143) ، دار المعرفة.
(22) انظر: قيمة الزمن عند العلماء لعبد الفتاح أبو غدة، ص 106، مكتب المطبوعات الإسلامية.
(23) صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص 57، دار اليقين، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن البر.
(24) انظر: طريق النجاح، ص 26.
(25) من: كيف تنجح في العمل واكتساب الجانب النفسي، لـ (فرد أي أوز) ، ص 15، دار إحياء العلوم.
(26) انظر: علم نفس النجاح، ص 54، وطريق النجاح، ص 66.
(27) أخرجه أحمد، (23/100) ، وصححه الأرناؤوط في تخريجه للمسند، كما صححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة (ص 269) ، وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص 381) .
(28) اقتباس من: «الإنسان والتفكير الإيجابي» ، ص 152.
(29) تضمين من: «علم نفس النجاح» ، ص 52.
(30) انظر: «أصول الإدارة والتنظيم» ، لعمر الجوهري، ص 65.
(31) انظر: طريق النجاح، ص 22.
(32) انظر: علم نفس النجاح، ص 44.
(**) هجيراً: أي عادة.
(33) انظر: علم نفس النجاح، ص 57.
(34) مداواة النفوس، لابن حزم الأندلسي، ص 166، دار المشرق العربي، تحقيق: عادل أبو المعاطي.
(35) انظر: طريق النجاح، ص 67.
(36) العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبد الهادي، ص 5، دار الكتب العلمية، تحقيق: محمد حامد الفقي.
(37) صيد الخاطر، ص 577.
(38) تضمين من: «حتى لا تكون كلاًّ» ، ص 58، 59.
(39) انظر: طريق النجاح، ص 57.
(40) اقتباس من: «علم نفس النجاح» ، ص 54.
(41) «صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل» ، لعبد الفتاح أبو غدة، ص 196، دار القلم.(161/27)
تأملات دعوية
الدعوة بين الاحتساب والاكتساب
(2 - 2)
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى تدعو صاحبها إلى التخلي عن التعلق بالدنيا؛
فهي تتطلب منه أوقاتاً كثيرة في العمل، وفي التخطيط والإعداد له، وفي التقويم
والمراجعة، ومهما أوتي المرء الجاد اليوم من وقت الفراغ، فهو يدرك أن مطالب
الدعوة إلى الله أكثر بكثير من الوقت المتاح له، بل إنه كثيراً ما يحتار في الاختيار
بين البدائل والفرص المتاحة، وفي ترجيح بعض الأعمال الدعوية على بعض لغلبة
مصالحها، ومن حِيَل الشيطان بالعبد إشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل،
وهذا كله يتعارض مع التوسع في التحصيل لمتاع الدنيا.
كما أن الدعوة تتطلب من أصحابها الإنفاق والجود في سبيل الله، بخلاف
حال أهل الدنيا الذين يصرفون ما يفتح عليهم في التوسع فيها والازدياد منها.
والتعلق بالدنيا يشغل قلب الإنسان ويفرق عليه همَّه. عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همَّه
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت
الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما
قدر له» [1] .
والحديث عن متاع الدنيا في القرآن والسنة يأتي في مقام الذم في الأغلب
الأعم، بل أخبر صلى الله عليه وسلم أن بسط الدنيا سبب للهلاك؛ فعن عمرو بن
عوف رضي الله عنه قال: «قدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمِعَتِ الأنصار
بقدومه فوافته صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف
تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: أظنكم سمعتم
بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء! قالوا: أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأمِّلُوا
ما يسرُّكم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما
بُسِطَت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم» [2] .
ودأب أهل العلم على الحديث في مصنفاتهم عن ذم التعلق بالدنيا والتنافس في
تحصيلها، وأُلِّفَت مؤلفات عدة حول الزهد فيها والتقلل منها.
وكما أشرنا في المقالة السابقة إلى صور من الخطأ في إهمال الكسب المشروع
من الدنيا، فنشير في هذه المقالة إلى نماذج من الطرف الآخر:
* ثمَّة طائفة ممن كانت لهم مشاركة في الدعوة كانوا في وظائف عامة تحقق
لهم القدر الكافي لأمثالهم، ليتفرغوا بعد أوقات الدوام لأعمالهم الدعوية، دون أن
تنشغل أذهانهم بجمع الدنيا، واتجه هؤلاء لأعمال خاصة، رغبة في التحرر من
قيود الوظائف، وادِّعاءاً بأن المال الصالح خير للرجل الصالح، فغرقوا في الدنيا
وانشغلوا بها ولم يعد للدعوة نصيب من أوقاتهم، بل إن ما يجودون به من تبرعات
لا يساوي ما ينفقه من هو دونهم من عامة المسلمين، وأفسدت الدنيا حال هؤلاء
وعاشوا في حياة الترف، وامتد الأمر لدى بعضهم إلى ارتكاب المخالفات الشرعية
والتهاون فيها.
* يتجه بعضهم من أصحاب المهن الراقية كما يقال إلى أعمال مسائية رغم
أنهم من أكثر الناس دخلاً- فلا يبقى لدعوتهم إلا النزر اليسير من الوقت، أو يختار
أحدهم عملاً يشغل نهاره كله؛ ليعود كليلاً مجهداً، وكل ذلك في الحقيقة سعي إلى
التكثر من الدنيا.
* يسيطر على حديث طائفة من الصالحين الاستثمار وجمع المال، وتقصيرنا
في ذلك، بينما نحن أحوج إلى التحذير من فتنة الدنيا؛ فعن كعب بن مالك
الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان
جائعان أُرسِلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» [3] .
* من صدق العبد مع ربه ودعوته أن يقدم دينه ودعوته على دنياه، وهذا
يقتضي أن يرضى بعمل له أثره في الدعوة، على حساب غيره مما هو أكثر منه
دخلاً.
فاللهمَّ ارزقنا القناعة، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عندك.
__________
(1) رواه الترمذي (2465) ، وابن ماجه (4105) .
(2) رواه البخاري (6425) ، ومسلم (2961) .
(3) رواه الترمذي (2376) ، وأحمد (15357) .(161/33)
البيان الأدبي
محمد محمد حسين
رائدٌ سَمَا عن الأطماع فتسنَّم ذروة الإمامة في اللُّغة والأدَبْ
عبد العزيز بن صالح العسكر
ترجمته بقلمه:
لم أجد أدقَّ ولا أصدق ولا أقرب إلى الحقيقة في الحديث عن إمام الأدب
الأصيل في العصر الحديث، العَلَم الذي نتحدث عنه هنا مما خطَّه بقلمه رحمه الله
رحمة واسعة فتعال معي أخي القارئ في حديث موجز عن ميلاده ودراسته وأعماله
الوظيفية. يقول: «ولدت في سوهاج، من مدن الصعيد في مصر سنة 1912م،
وتلقيت تعليمي الابتدائي والثانوي فيها، باستثناء السنة الأولى الثانوية التي التحقت
فيها بمدرسة أسيوط الثانوية؛ لأنها كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في صعيد مصر
وقتذاك، وحصلت على الليسانس سنة 1937م من قسم اللغة العربية في (الجامعة
المصرية) وكذلك كان اسمها؛ لأنها كانت الجامعة الوحيدة في مصر وفي البلاد
العربية وقتذاك. وعُيِّنت معيداً في الكلية في السنة نفسها، وكُلِّفت بتدريس اثني
عشر درساً أسبوعياً في السنة الأولى. وكانت هذه هي السابقة الأولى التي يُعيَّن
فيها معيد في سنة تخرجه ويكلف بالتدريس. ثم حصلت على (الماجستير
والدكتوراه) ، وانتدبت للتدريس في كلية الآداب بالإسكندرية سنة 1940م، وكانت
وقتذاك فرعاً من الجامعة المصرية في القاهرة، ثم نقلت إليها بعد استقلالها سنة
1942م وتدرجت في وظائف التدريس بها إلى أن شغلت كرسي الأستاذية سنة
1954م وأُعرت أثناء عملي إلى الجامعة الليبية وجامعة بيروت العربية، ثم تعاقدت
مع جامعة بيروت العربية بعد بلوغي سن التقاعد سنة 1972م، وظللت بها إلى أن
تعاقدت مع جامعة محمد بن سعود الإسلامية سنة 1976م حيث أعمل الآن في 2
رجب 1401هـ 6/5/1981م» [1] .
هذا هو «محمد محمد حسين» المفكر الأديب الناقد في تعريفه لنفسه، ولكن
ماذا يقول عنه التاريخ والمؤرخون؟
لقد عاش أديبنا في زمن مبكر من النهضة الأدبية الحديثة كما تُدعى وكان في
الساحة الأدبية والفكرية اتجاهان اثنان: اتجاه محافظ أصيل، واتجاه آخر متأثر
بالغرب معجب بالغربيين وبكل ما عندهم داعٍ إلى أن تكون أمم الشرق وبخاصة
البلاد العربية مثل أوروبا في كل شيء.
وهذا الاتجاه الأخير كان من أعلامه بعض قادة الأدب وأعلامه في مصر زمن
دراسة محمد محمد حسين، وأبرز أولئك (طه حسين) الذي كان أستاذاً لأديبنا.
وفي ظل تلك الظروف انخرط محمد حسين في هذا الاتجاه عَلِمَ أو لم يَعْلَم وبدأ
يُعلِّم ويكتب متأثراً به، وظهر ذلك جلياً في رسالته (للدكتوراه) التي كانت بعنوان:
(الهجاء والهجَّاؤون) .
ولكن الله تعالى بمنِّه وكرمه فتح بصيرة الرجل وأنار فكره وقلبه فتبيَّن له
زيف ذلك الاتجاه وانحرافه واعوجاجه فتركه ونحا منحى آخر، وسلك طريقاً
معاكساً له، سلك مسلك الطبيب الناصح والمجاهد المخلص الذي يدعو للفضيلة
بفعله قبل قوله، ويوضح معالم الخير النقي الصحيح، ويفضح خطط الباطل ودعاة
الشر، ويرد على مكائدهم وأباطيلهم.
يقول رحمه الله في سياق حديثه في مقدمة كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) :
«كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين، وأنبِّه
إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدِعْت بها أنا نفسي حيناً من الزمان
مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مَدَّ الله في
عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء،
وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة،
ثم نشرته تحت اسم (الهجاء والهجاؤون) .
وقد كان مُصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساساً
بالكارثة التي يتردَّى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها،
بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشِرَاكهم» [2] .
هذه إشارة سريعة إلى منهج الرجل واتجاهه؛ عرفنا منها صدق قوله واستقامة
منهجه، وقوة عزيمته، وقد استطاع بتوفيق الله أن يصلح أخطاء كتابه بقدر ما
وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ 1969م [3] .
من شهادات معاصريه:
يقول الدكتور الشيخ محمد بن سعد بن حسين وهو رفيقه في كلية اللغة العربية
بالرياض لمدة سبعة أعوام تقريباً: «والناظر إلى كتبه بلا استثناء يجد أنها جميعاً
من الموضوعات التي تَهَيَّبَ ميدانها كثيرون أو أنها موضوعات ذات حساسية في
الميادين الفكرية؛ فهل تستطيع تحسس علة هذا الاتجاه والأسباب الدافعة إليه.
نستطيع تلخيص ذلك في رواية ثلاثة أبيات من الشعر أحدها قول بعضهم:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فكن طالباً في الناس أعلى المراتب
والآخر قول أبي الطَّيِّب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
فكأنه تمثل النصيحة في البيت الأول فتحقق في أعماله معنى البيتين الآخرين،
لقد كان: مؤمناً صادقاً، وتقياً نقياً، ومتعففاً مترفعاً. إذا تعارض حقه المالي مع
الاحتفاظ بالكرامة قدم الاحتفاظ بالكرامة على المال. ولم أعرف أن الرجل انتصف
لنفسه من المسيئين إليه، وما جدَّ في طلب أو جاه، وتلك قواصم ظهور العلماء،
يشتد حين تكون الخصومة فكرية، فإذا وصلت الأمور إلى إطار الشخصيات
انطوى كأنما حُدِّث في أمر مخجل» [4] .
ويبين الدكتور إبراهيم عوضين طريقة طرح محمد محمد حسين ونقده،
ودراساته وبحوثه، فيقول: «والمبدع في نقد الدكتور محمد محمد حسين أنه يأتي
بالدليل الحاسم في قوة؛ فليست بحوثه ذبذبات عاطفية تعتمد على الضجيج الخطابي،
ولكنها ثمرة فكر عاقل، يؤمن بالحجة، ويعتصم بالدليل، فإذا ملأ كفه من الإقناع
جاء بوهج العاطفة ليحدث من التأثير البالغ ما يترك هداه في قلوب من يستمعون
القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأحيل الدارس المتتبع إلى المجلد
الثامن والعشرين من مجلة الأزهر الصادر في سنة 1376هـ، ليرى بحوث
الدكتور محمد محمد حسين في هذا المضمار ناضجة الثمار شهية القطوف. والحق
أن بحوثه في محاربة الحركات الهدامة في هذا العصر كانت ضرورة حتمية يوجبها
الواقع المعاصر؛ حيث كان الاحتلال الإنجليزي لمصر مصدراً خطراً لشبهات
ظالمة تلحق بالإسلام» [5] .
عالم يدرب طلابه، ثم لا ينسى جهدهم:
لقد قاد محمد محمد حسين رحمه الله الصدق والأمانة وكَرَم النفس وأصالة
الطبع ولطيف المعشر لتسجيل عبارات الوفاء لمن ساهم معه في إخراج كتاب
وتحقيقه ونشره، سجَّل تلك العبارات لنفر ربما كان هو صاحب الفضل عليهم وله
السابقة في خدمتهم ونفعهم بل ربما كانت جهودهم (المحدودة) معه رد جميل وبر
وصلة لمعلم فاضل وأستاذ كريم لم يبخل عليهم بشيء وقد طوَّق أعناقهم بفضائله
ومكارمه. يقول في مقدمة ديوان «الأعشى الكبير» وهو الديوان الذي حققه:
«وقد كان ساعدني في إخراج هذا الكتاب في طبعته الأولى جماعة من الأصدقاء؛
فتفضل الأستاذ شوقي أمين بمعاونتي في مراجعة مسودات الطبع، وأسدى إليَّ
كثيراً من الآراء النافعة التي اقتنعت بكثير منها وأخذت به. وتفضل الزميل
محمد أبو الفرج المعيد بقسم اللغة العربية في جامعة الإسكندرية بوضع الفهارس
اللغوية للديوان ويعلق في هامش الكتاب: توفي الدكتور محمد أبو الفرج في خلال
العام الدراسي الماضي. أسأل الله الكريم أن يرحمه ويحسن إليه كما تفضل
مصطفى عبد اللطيف الشويمي الطالب بليسانس الآداب بوضع فهارس الأعلام
والأماكن والقبائل والأيام، وتفضلت الآنسة عزة كرارة المتخرجة في قسم اللغة
الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، بترجمة المقدمة الألمانية للمستشرق (جاير) في
الطبعة الأوروبية. فإلى هؤلاء جميعاً أقدم شكري الخالص» [6] .
إن في هذا لدلالة كبيرة على أن الرجل مربٍّ فاضل وليس عالماً فقط؛ فهو
يدعو بفعله قبل قوله إلى أن يُعْرَف الفضلُ لأهله؛ وهو بذلك يحفز همَّة كل قادر
على العمل والبحث أن يقدم ما يستطيع؛ وليس بالضرورة أن يخرج عملاً مستقلاً
بنفسه، ولكنه بإمكانه أن يشارك مع إخوانه وزملائه في إنجاز أعمال علمية؛ وله
فيها بإذن الله أجران: فحقه أن يُشكر من قبل إخوانه، ثم إنَّ له ما هو أغلى وأسمى
من ذلك وهو الأجر من الله تعالى إن خلُصت نيته وصَدَق توجهه.
إن سطوراً متواضعة كهذه التي نكتب هنا لن تفي بحق عَلَم كمَن نتحدث عنه؛
ولكنها إشارات، وحَسْبنا أن نثبت فيها أسماء المصادر والمراجع لمن أراد المزيد.
وفاته:
توفي محمد محمد حسين سنة 1402هـ = 1982م حيث بلغ من العمر
سبعين سنة.
وقد رثاه بعض الشعراء والأدباء، ومنهم الدكتور محمد بن سعد بن حسين
بقصيدة منها:
صَمَتَ الصريرُ وجَفَّتِ الأقلامُ ... وطَوَتْ صحائفَ عُمْرِكَ الأيامُ
هدأ الزئيرُ فلا معاركَ نَقْعُها ... وَهَجُ العقولِ يمدُّه الإلهامُ
وأُبيح غابٌ كُنْتَ فيه مُسَوَّداً ... رَقَصَ ابنُ آوى إذ هوى الضرغامُ
أنا إن بكيتك ساعةً فلطالما ... ذرفت عليك دموعَها الأعلامُ [7]
مؤلفاته:
بلغت كتب الدكتور محمد محمد حسين المطبوعة أَحَدَ عشر كتاباً وهي:
1 - الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (في جزأين) .
2 - الإسلام والحضارة الغربية.
3 - أزمة العصر، وأصله ثلاثون حديثاً كتبت لتبث من إذاعة الرياض عام
1397هـ.
4 - حصوننا مهددة من داخلها، وأصله مجموعة مقالات شهرية نشرت في
مجلة الأزهر المصرية في عامي 1377هـ، 1378هـ.
5 - الهجاء والهجاؤون في صدر الإسلام، وهذا الكتاب جزء من بحثه في
(الدكتوراه) .
6 - أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار، وهذا الكتاب (كما يذكر
المؤلف في مقدمته) فصلان من بحث مرحلة (الماجستير) .
7 - شرح وتعليق على ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس) .
8 - المتنبي والقرامطة، وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) في
الأصل محاضرة ألقاها في كلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي عام 1383هـ.
9 - الهجاء والهجاؤون في الجاهلية.
10 - مقالات في الأدب واللغة، وهذا الكتاب يحوي ستة بحوث هي:
أ - تطوير قواعد اللغة العربية.
ب - بين سينية البحتري وسينية شوقي.
ج - فقه اللغة بين الأصالة والتغريب.
د - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين التأييد والمعارضة.
هـ - أثر الأدب الغربي في الأدب العربي المعاصر.
و اقتراحات للنهوض بمستوى اللغة العربية.
وقد طبعت تلك البحوث مجتمعة في كتاب واحد بعد وفاة المؤلف رحمه الله
ونشرتها مؤسسة الرسالة في بيروت عام 1409هـ - 1989م بإشراف ورثة
المؤلف.
11 - الروحية الحديثة دعوة هدامة، وهذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقيت
في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية عام 1379هـ، وكانت بعنوان: الروحية
الحديثة حقيقتها وأهدافها.
كما أن للأستاذ محمد محمد حسين مؤلفات أخرى وكتباً بعضها لا يزال
مخطوطاً وبعضها طبع مرة واحدة فقط ثم نفد ولم يعد يوجد، ومنها:
أ - رواية الدموع.
ب - الأعشى صناجة العرب، بحثه في (الماجستير) وهو لا يزال
مخطوطاً فيما نعلم.
ج - فتح مكة.
د - اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر، وهو في الأصل محاضرة ألقيت
في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية [8] .
وقد لقيت كتب ورسائل هذا الأديب من طلابه وغيرهم عناية واهتماماً، ومن
أفضل من اعتنى بها كتاب نفيس بعنوان: (موقف الدكتور محمد محمد حسين من
الحركات الهدامة) ألفه الدكتور إبراهيم محمد عوضين، وفيه تناول المؤلف
بالدراسة بعضاً من كتب محمد حسين وأبرز من خلال تلك الدراسة شجاعة أديبنا
وجرأته وغيرته على الدين والعقيدة والمثل الإسلامية، وقد نشرت الكتاب مؤسسة
الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ - 1985م، رحم الله محمد محمد
حسين وغفر له.
وبعد وفاة هذا الأديب رحمه الله أُعِدَّتْ رسالتا (ماجستير) عن حياته وأدبه؛
فقد أعد الباحث: عليان بن دخيل الله الحازمي رسالة (ماجستير) في كلية اللغة
العربية بالرياض في جامعة الإمام عام 1407هـ بعنوان: (محمد محمد حسين
حياته وآثاره الفكرية والأدبية) وبلغت صفحاتها حوالي ثمانمائة صفحة، وفي عام
1414هـ أعد الباحث: محمد عبد الحميد محمد خليفة رسالة (ماجستير) في قسم
اللغة العربية بجامعة الإسكندرية بعنوان: (دراسة النص الأدبي عند محمد محمد
حسين) وبلغت صفحاتها حوالي 330 صفحة.
ولكنَّ الرسالتين المذكورتين لم تنشرا فيما نعلم أسأل الله أن يوفق الأخوين
الباحثين لطباعة كتابيهما ليكونا إضافة نفيسة إلى المكتبة العربية، كما نتمنى أن
تجد كتب أستاذنا (محمد محمد حسين) العناية والاهتمام من القراء والباحثين
وأصحاب دور النشر في البلاد العربية؛ لأن تلك الكتب تُحَدِّد معالم الأدب الأصيل،
وتكشف زيف خصومه. والله الموفق والمعين.
__________
(1) من كتابه: «المتنبي والقرامطة» ، الطبعة الأولى، شعبان 1401هـ 1981م، دار الرفاعي للنشر والتوزيع.
(2) كتاب حصوننا مهددة من داخلها، ص 15.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) انظر كتاب: الإلتزام الإسلامي في الأدب، لمحمد بن سعد بن حسين، ص 264- 265.
(5) كتاب: موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة، ص 8.
(6) ديوان الأعشى الكبير، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1974م، ص 7.
(7) كتاب: الالتزام الإسلامي في الأدب، ص 273.
(8) دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين، لمحمد عبد الحميد خليفة (مخطوط) ، ص 15.(161/35)
نص شعري
سيرة ذاتية
سعيد يوسف أبو عزيز
(1)
أَثْقَلُ يَوْمٍ يأتيني ...
يَوْمٌ يَهْربُ فيه يقيني ...
وَأَنا إنْ ضَاعَتْ مِشْكاتي ...
فيَقيني بالله يَقيني ...
(2)
أنا في صَمْتي أترددْ
أَتجمَّعُ فيه، أَتَبَدَّدْ
أَتوَحَّدُ فيه، أَتَعَدَّدْ
لكني أبداً يا أحبابي
بدُمُوعي فَوْقَ الحاضِرِ أَتَمدَّدْ
(3)
أَسجُدُ في مِحْرَابِ الصَّلَوَاتِ ...
أَقرأُ وِرْدَ الشَّافِعِ صلى الله عليه وسلم ...
فَعَسَى أَنْ أَشْرَبَ مِنْ كَفَّيهِ ...
شَرْبَةَ مَاءٍ، مِنْ نار الغَفْلَةِ تَشْفيني ...
تَزْرَعُ في أَرْضِ المَجْدِ الغَابِرِ أَغْلى راياتي ...
(4)
أنَا لا أنْسَى أبَداً سُهدي وَرُقَادِي ...
وَهَزِيمة نَفْسِي في ظِلِّ عِنَادِي ...
وَدَمُوعِي عِنْدَ ذُهُولي وَنَفَادِي ...
أَنَا لا أنْسى أنَّي أَقْرأ تاريخِي ...
بعُيونٍ لا تَخْشَى العَبَرَاتِ ...
(5)
أَنَا مَجْروحٌ منذُ بِدَايَةِ أَحْلامي ...
لاَ أَمْلِكُ شَيْئاً يَعْدِلُ أَوْهامي ...
فأَنا فَوْقَ السُّحُبِ أَخُوضُ حُروبي ...
فَالأُفق الوَاسِع أَسْمى خُطْواتي ...
(6)
مَا أَحْلَى أَنْ يبْدَأَ يَومي ...
وَأنَا مَشْدُودُ النَّظَراتِ ...
أَتَرقَّب فَارِسَنَا المَوْعُودا ...
ليريح الذِهنَ المَكدُودَا ...
ليزيحَ الوَهَنَ المَبثُوثَ بَعيداً عَنْ خَطْراتي ...(161/39)
نص شعري
يا أُمَّتي
عبد الحميد بن سالم الجهني
يا أُمَّتَي
نامتْ بجنبيَّ الجراحْ
وانداحت البسماتُ من شفتيَّ
تخنقها التماعات الصباحْ
واستُلَّتِ العبراتُ من عينيْ
فوا ألمي
وصمت المجرمين
على ضفاف الدمعة الخجلى
وأنقاض النواحْ
ألا اسبكرِّي [1] يا رياح
ومزقي حجب الخمول
وسطوة المجهول
والألم البَواح
حتى متى لا تستطيل
ولا تصيحُ
أعاجز يا مَيْت عن بعض الصياح؟
ألا اسبكري يا رياح
وعانقي هام الرجال
الصامتين
على سفوح الخزي
والنوم الرَّداحُ
ضرامُ سنبلةٍ
وهِزَّةُ مِعْصمٍ
في وجه مأفونٍ
تفتت طوطم [2] الأشباح
والفزع المعرش في زوايا القلب
تنتفض الصِّفاح
تفك قيد الوهم من أَرْدان
مستلَب الإرادة والجناحْ
يا أنت ...
يا متلفعٌ بملاءة الأتراحْ
والحزن القديم
افتح لنا في برزخ الأقدار رَوْزَنَةً
لنبحر من هنالك
نافضين اليأسَ عن أكتافنا السمراء
نعتنق السماواتِ الفِساحْ
نضيء مشكاةَ الدياجي المستطيرة
والأماسيِّ المريرة
بالأصابح
والأقاح
نضيء قنديلاً ...
فينطرح الظلام مجندلاً في ليلنا
ليلِ امرئ القيس
الوقاح
ألا اسبكري يا رياح
__________
(1) اسبكري: استرسلي.
(2) الطوطم: تمثال لحيوان مقدس أو نبات يتخذ رمزاً عند عبدة الأوثان، كما عند عدد من القبائل الإفريقية والهنود الحمر وغيرها، وتسمى عبادتهم بالطوطمية، والكلمة إنجليزية Totem.
- البيان -(161/41)
البيان الأدبي
أيام الصمت
عبد الله بن محمد السويلمي
آلى على نفسه أن يصمت، أن يجرب الصمت الذي رغَّبَ فيه الدين، وحث
عليه الحكماء ومدحه الشعراء، ولكن كيف يصمت وهو المهذار الثرثار؟ ! كيف
يصمت وهو الجَدِلُ اللجوج؟ ! كيف يصمت وهو صاحب الإحساس المرهف،
تهزه البسمة وتصرعه النسمة؟ ! طرح هذه الأسئلة على نفسه وقال: هل أنتِ
مستعدة للحرب مع الكلام؟ ! قالت: وكيف يحارَب الكلام، وبأي سلاح أحاربه؟ !
قال: نعم! يحارب الكلام بضده، وبضدِّها تتبين الأشياء. قالت النفس: ويحك!
قتلتني بكثرة كلامك معي؛ فكيف إذن تريد أن تصمت؟ !
قال: أنا الآن أسكت. وبدأ لحظة التنفيذ، وبدأت لحظات الصمت، وصام
عن الكلام، وبدا وكأنه قطعة أثاث.. استمر على ذلك عاماً يعيش المعاناة والمتعة
معاً، يرد السلام فقط، ويذكر الله ولا يخوض مع الخائضين، ولا يجادل ولا
يماري، يستمتع بحديث الآخرين، وهم يستمتعون بصمته ويتساءلون: أحقاً
استطاع فلان أن يكون من الصامتين؟ ! إنها لإحدى العبر! ! ومرت الأيام،
واستمرأ الصمت، وارتاح من الضجيج والإزعاج، وأدرك أنه كان مدمناً للكلام،
وبدأ يفكر وتحركت عنده طاقة الإبداع، وما شيء أحب إليه من أن يبوح للناس بما
توصل إليه؛ ولكن ذلك لا يكون إلا بكلام، وهو يعيش أيام الصمت، إذن ما الحل؟
أيكتب خواطره؟ أم يكتم مشاعره؟ القلم أحد اللسانين؛ فربَّ صموت بلسانه
مهذار بقلمه، وترجح لديه أن يلجم قلمه كما حبس لسانه.
أيُّ قدرة أسعفته حتى أمسك عن الكتابة؟ ! يا لها من إرادة! ومرت أيام
الصمت ثقيلة طويلة، لكنه يتأمل فيها كثيراً ويستمتع فيها بالسكون. وذات يوم
زاره صديق عزيز على نفسه يحبه كثيراً، ولم يره منذ زمن طويل، كان خارج
البلاد فعاد بعد زمن الغربة.. هو صديق عمره، وجليس طفولته، وأنيس
مشاعره.. إنه الامتحان الصعب في حياته، وفي زمن صمته.. رحَّب به وبادله
الحب وسأله عن أحواله باختصار.. وشرع صديقه يخبره عن أيام دراسته في
الخارج، وعن رحلاته وعن مشاعره ومشاغله وصاحبنا صامت لا يزيد على
التعجب.
ولعله لفت انتباه صديقه أنه لا يقاطعه كما عهده.. ولا يعلق على كلامه ولا
يعترض.. وبعد أن أنهى صاحبه الكلام انتظر تعليقاً، انتظر مشاركة.. انتظر
تفاعلاً.. فلما لم يتكلم طرح عليه هذا السؤال بقوة: أمريض أنت؟ ما لك صامت
كأني أحدث الحجر؟ ! .. أجابه: لستُ بمريض ولستَ تحدِّث حجراً.. إذن ما بك
ساكتاً لا تتكلم؟ قال: لقد تكلمت أنت ما فيه الكفاية وأنا أستمتع بكلامك.. وقد
أفدتُ منه كثيراً..
انصرف صديقه متعجباً متأملاً.. يحدث نفسه: أحقاً هذا فلان؟ ! .. لقد تغير
كثيراً، لقد زانه الصمت وأسبل عليه ليلاً من السكون، وألبسه تاجاً من الوقار..
وبدأ الناس يتحدثون عن صمت فلان، وكيف استطاع هجر الكلام حتى علم
بذلك محافظ المدينة.. فسأل عن حاله.. فقيل: كان مهذاراً ثرثاراً يتحدث وهو
نائم.. وفجأة انقلبت حياته فشحَّ بالكلام حتى كأن ليس في فيه لسان.. ولو عُدَّ البُكم
في هذه البلدة لعُدَّ منهم.
فقال المحافظ: هذا جدير بأن يكرَّم، هذا صاحب إرادة لا تقهر، لعلِّي أجعله
على سرِّي فهو خليق بذلك.. وطلبه المحافظ: فأجاب.. ودخل عليه مسلِّماً
ساكناً.. فسأله المحافظ: كيف وجدت الصمت؟ فقال: مستريح ومستراح
منه.. فقال: هل لك في الكلام وتكون جليسي؟ فقال: ثمن مجالسة الحكماء
الصمت. وما شرفني بزيارتك إلا ذلك.. فقال: فهل تقبل أن تكون في خدمتنا
من الآن؟ فقال: أنا في خدمتكم من قديم الزمان. فقال المحافظ: لقد رسمنا بأن
تكون على سرِّنا، وأن تكون من المقربين لدينا.. فشكره على ثقته وانصرف بعد أن
استأذنه.
حدَّث نفسه قائلاً: من الآن يا نفس بدأت الحرب مع الكلام.. قالت: والأيام
التي مضت؟ قال: كانت تدريبات واستعدادات.. قالت: إذن فلا طاقة لي
بمصاحبتك فَائذن لي بمفارقتك.. قال: إن استطعت فافعلي.. وبدأ يتردد على
المحافظ ويجلس صامتاً لا يشارك في الحديث ولا يتكلم مع أحد، إن سئل أجاب..
وإن أُمِرَ نفَّذ.
وذات يوم حدَّثه المحافظ بحديث خطير.. وقال له: آن لك أن تتحمل أثقال
الأسرار، وأن تُستودع دقائق الأخبار.. قال: قُلْ؛ فكأن قد مضى حديثك في
مسارب الزمن، أو طوته عجاف القرون..
وبعد أن أنهى المحافظ حديثه الخطير والرجل ينصت له بغاية الاهتمام قال:
فهمت؟ قال: بل نسيت..
وعاد يحدث نفسه قائلاً: أرأيت يا نفس! كيف ارتفع قدرك بالصمت بمجالسة
الأمراء، ومصاحبة الفضلاء؟ أرأيت كيف أصبحت محرماً للأسرار، ومستشاراً
للأخبار..؟ !
قالت النفس: هل آن لك أن تعلن الانتصار على الكلام؟ قال: ما هكذا
يصنع العقلاء؛ دعي الحقائق تتحدث عن نفسها.. والأيام دول.. وما أضمن
نفسي.. فربَّ غالب اليوم يُغلب غداً.(161/43)
البيان الأدبي
نبضاتُ قلبِ مُسافِر
محمد شلال الحناحنة
زوجتي الغالية ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يسرُّني أنْ أردَّ على شجن الاستفهام النازف في حروفك الدافئة إليّ أخيراً،
والحقّ أنَّ لكلٍّ منّا استفهاماً موجعاً موغلاً يراوح بين ذاته وبين أنوار السماء؛ فهذا
يسألُ ويئنُّ: يا رَبِّي! هذا هو المال والبنون ونعيم الدنيا، فأين العافية والصّحة؟ !
وذاكَ يشعل جُرْحاً آخر ويكدح: هذه هي الصحة، فأين المال والبنون وإقبال
الدنيا؟ ! وأرى ثالثاً يتذمّرُ حزيناً منكسراً: يا إلهي! هذا هو نعيم الدنيا من مال
وبنين وعافية، فأين السكينة الداخليّة والسعادة الغامرة؟ ! ولي اليوم أن أصافح
سطورك فأقول: إنَّ ذلك كُلّه يا نبض قلبي زهراتٌ صناعية يابسة لا حياة حقيقية
فيها؛ لأن ريحان السعادة النَديَّة المشرقة التي ضاعتْ عند الكثيرين في ركام حياتنا
المعاصرة يكون فقط في الإيمان بالله وحده، فهو السّند الروحيّ من كدّ الدنيا
وتقلباتها وفجائعها وظلماتها [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا] (الأنعام: 122) ، فأنّى تكون
السعادة وقطيعٌ عريضٌ ما زالت نفوسهم تتوغل في متاهات الضلال فتجعل لله
سبحانه وتعالى أبناءاً وصويحبات؟ ! أليست هي وحشة القلوب وأسقامها
وإعراضها عن الهدى؟ : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] (يونس: 57)
إنَّ الإيمان الحقيقي الذي ينبغي أن نفزع إليه أيتها الغالية هو في قوله تعالى:
[مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] (النحل:
97) .
وإن من طيب الحياة وصلاح العمل أن نأخذ بأيدي إخواننا نواسيهم في
أحزانهم، ونقوّي عزائمهم للصبر على ما أصابهم محتسبين ذلك عند الله، فهذا
ولاء لله وأهل طاعته، ومشاركة وجدانية أخوية سامية نسأل الله الأجر العظيم عليها،
وكم لامَسَت أشواق روحي موعظتك الرائعة حين قلتِ لأخواتك: ما أعظم أن
ننظر إلى داخل نفوسنا بين الحين والآخر، لنمحّصَ ما فيها، ونعيد إليها تماسكها
وتوازنها وبناءها أمام عراك الحياة واهتزازها وكبواتها! فهذه النفوس أحوج ما
تكون إلى رقابة داخلية لضبط الجوارح وانتشالها من تعثّرها وتجديد طاقتها
لاستئناف مسارعتها إلى مغفرة الله ورحمته: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ]
(الزمر: 53)
أجل يا حنين الروح أليس في هذه الآية الكريمة جرعاتُ رجاء معنوية واسعة
ناهضة ترفعنا لمعانقة صفاء السماء؟ ! هل بعد ذلك أيتها الغالية من مكان للقلوب
المنكوسة والنفوس الحسيرة البائسة؟ ! أليس من اضطراب البصيرة ونكوص
الرؤية ألاَّ نطمئن إلى هذا التوجيه الرّباني الخالد في قوله تعالى: [وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (آل عمران:
133) .(161/45)
وقفات
ثمرة الفضيلة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت في زيارة لأحد المراكز الإسلامية في ألمانيا فرأيت فتاة متحجبة حجاباً
شرعياً ساتراً قلَّ أن يوجد مثله في ديار الغرب؛ فحمدتُ الله على ذلك، فأشار عليَّ
أحد الإخوة أن أسمع قصة إسلامها مباشرة من زوجها، فلما جلستُ مع زوجها قال:
زوجتي ألمانية أباً لجدٍّ، وهي طبيبة متخصصة في أمراض النساء والولادة، وكان
لها عناية خاصة بالأمراض الجنسية التي تصيب النساء، فأجْرَت عدداً من الأبحاث
على كثير من المريضات اللاتي كنَّ يأتين إلى عيادتها، ثم أشار عليها أحد الأطباء
المتخصصين أن تذهب إلى دولة أخرى لإتمام أبحاثها في بيئة مختلفة نسبياً،
فذهَبَتْ إلى النرويج، ومكثت فيها ثلاثة أشهر، فلم تجد شيئاً يختلف عمَّا رأته في
ألمانيا، فقررت السفر للعمل لمدة سنة في السعودية.
تقول الطبيبة: فلما عزمتُ على ذلك أخذت أقرأ عن المنطقة وتاريخها
وحضارتها، فشعرت بازدراء شديد للمرأة المسلمة، وعجبتُ منها كيف ترضى بذُلِّ
الحجاب وقيوده، وكيف تصبر وهي تُمتهَن كل هذا الامتهان..؟ !
ولمَّا وصلت إلى السعودية علمت أنني ملزمة بوضع عباءة سوداء على كتفيَّ،
فأحسست بضيق شديد وكأنني أضع إساراً من حديد يقيدني ويشلُّ من حريتي
وكرامتي (! !) ، ولكني آثرت الاحتمال رغبة في إتمام أبحاثي العلمية.
لبثت أعمل في العيادة أربعة أشهر متواصلة، ورأيت عدداً كبيراً من النسوة،
ولكني لم أقف على مرض جنسي واحد على الإطلاق؛ فبدأت أشعر بالملل
والقلق.. ثم مضت الأيام حتى أتممت الشهر السابع، وأنا على هذه الحالة، حتى
خرجت ذات يوم من العيادة مغضَبة ومتوترة، فسألتني إحدى الممرضات
المسلمات عن سبب ذلك، فأخبرتها الخبر، فابتسمت وتمتمت بكلام عربي لم
أفهمه، فسألتها: ماذا تقولين؟ ! فقالت: إن ذلك ثمرة الفضيلة، وثمرة الالتزام
بقول الله تعالى في القرآن الكريم: [وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ]
(الأحزاب: 35)
هزتني هذه الآية وعرّفتني بحقيقة غائبة عندي، وكانت تلك بداية الطريق
للتعرف الصحيح على الإسلام، فأخذت أقرأ القرآن العظيم والسنة النبوية، حتى
شرح الله صدري للإسلام، وأيقنت أنَّ كرامة المرأة وشرفها إنما هو في حجابها
وعفتها.. وأدركت أن أكثر ما كُتب في الغرب عن الحجاب والمرأة المسلمة إنما
كتب بروح غربية مستعلية لم تعرف طعم الشرف والحياء..!
إن الفضيلة لا يعدلها شيء، ولا طريق لها إلا الالتزام الجاد بهدي الكتاب
والسنة، وما ضاعت الفضيلة إلا عندما استُخدمت المرأة ألعوبة بأيدي المستغربين
وأباطرة الإعلام.
وإن أخشى ما نخشاه أن تؤول ديار المسلمين إلى ما آلت إليه بلاد الغرب،
إذا ما اتبعنا أبواق العلمانيين والإباحيين، وتخلينا عن الفضيلة والعفة والأخلاق التي
يضعها ديننا في صورة منهج كامل للحياة. ومن النُّذُر الجديرة بالانتباه تقرير نشرته
مؤخراً منظمة الصحة العالمية عن انتشار مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)
في المنطقة العربية، وكانت الإحصاءات المنشورة مذهلة جداً تنبئ عن واقع محزن
مع الأسف الشديد..! [1] .
إنَّ هذا المرض ثمرة خبيثة من ثمار التفلت الأخلاقي والانحراف الجنسي،
ثمرة من ثمار الحرب الضروس التي تشنها بعض وسائل الإعلام على الأخلاق
والآداب الإسلامية، ثمرة من ثمار ذلك الطوفان الجارف من الأفلام الهابطة
والمسلسلات الماجنة التي طغت على كثير من القنوات الإعلامية من المشرق إلى
المغرب. ثمرة من ثمار الدعوات المحمومة لدعاة الرذيلة والفساد التي تشد فتيان
الأمة وفتياتها إلى مستنقعات الغرب الآسنة باسم التحرر والتحضر، وتزيّن لهم
الوقوع في الفواحش بكل ألوان الزينة المخادعة..! !
وإن السلامة من ذلك المرض وأشباهه لا تكون إلا بالعودة الصادقة إلى
حياض الفضيلة، وتربية الأمة على العفة والحياء، ومراقبة الله تعالى سراً وجهراً.
ألا فلتسكت تلك الأقلام الملوثة التي ما فتئت تشيع الفاحشة، وتنادي أبناءنا
وبناتنا للوقوع في حمأة الرذيلة باسم الرقي والتقدم..!
ألا فلتسكت تلك الأصوات الكالحة العبوس التي تتشدق بالدعوة إلى نزع
الحجاب والاختلاط باسم الحرية والتمدن..!
[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ] (النور: 19)
وأحسب أخيراً أن من أكبر التحديات التي تواجه الدعاة والمصلحين هي إيجاد
البدائل التربوية والمحاضن الاجتماعية التي يتفيأ في ظلالها فتيان الأمة وفتياتها،
بعيداً عن شرر دعاة العلمنة وعبثهم.
__________
(1) نعم هذه الأرقام لا تقارن بمثيلاتها في أوروبا والأمريكتين وغيرها، ولكن أحسب أن المقارنة لا ينبغي أن تذكر في هذا المقام! .(161/46)
ندوات ومحاضرات
العلمانية والفن
(1-2)
وائل عبد الغني
ضيوف الندوة:
* د. إبراهيم الخولي أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة العربية جامعة
الأزهر.
* د. عبد العظيم إبراهيم المطعني أستاذ البلاغة والأدب المتفرغ بكلية اللغة
العربية فرع إيتاي البارود جامعة الأزهر.
* د. حلمي محمد القاعود أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة
طنطا.
* الأستاذ: محمود خليل الإعلامي المعروف وعضو رابطة الأدب الإسلامي
العالمية.
البيان: موضوع هذه الندوة غاية في الوضوح غاية في التعقيد يلمس أثره
المؤمن بإيمانه، ويكشف أبعاده المدقق بإمعانه. والقضية تحتاج في ابتدائها إلى
تحديد مفهومي العلمانية والفن باتخاذهما مدخلاً لمعالجتها.
ماهية العلمانية:
* د. إبراهيم الخولي:
قضية العلمانية هي قضية المجتمع الإسلامي المعاصر ليس اليوم فقط وإنما
منذ فترة طويلة؛ فالعلمانية في العالم الإسلامي هي راسب من رواسب الاستعمار،
وإذا كانت تبدو اليوم عالية الصوت فليس لكونها استفادت قوة؛ وإنما لأن مواجهتها
في العالم الإسلامي هي التي منيت بالضعف، وهي تأخذ مفهومين متطورين: في
البداية أخذت مفهوم فصل الدين عن الدولة، وانتهت إلى نبذ الدين جملة ومحاربته
حرباً لا هوادة فيها. وكلنا يعرف مقولة ماركس الشهيرة: «الدين أفيون
الشعوب» ، ولذلك رأى الماركسيون ومن لف لفهم من العلمانيين أن الدين هو
المسؤول الأول عن طغيان الرأسمالية والطبقية، وعن المظالم الاجتماعية،
وعن جرائم مؤسسات البنية العليا، وأن الدين هو المسؤول عن تخدير الشعوب
واستكانتها لجلاديها ومن ثم لا صلاح للمجتمع الإنساني إلا بإقصاء الدين
جملة.
والعلمانية وافد غريب على مجتمعاتنا لا مكان لها فيها؛ لأنها نشأت حلاً لمعضلة
واجهها المجتمع الغربي النصراني ولم يكن أمامه من حل سوى اللجوء إليها؛ حيث
بدأ العقل الغربي يتمرد على الكنيسة بعد أن قطع في الحركة العلمية في المجال
التجريبي شوطاً، وبعد أن صادرت الكنيسة العقل، وصادرت العلم، وصادرت
حق الحياة. وبعد صراع مرير إلى جانب صراع آخر على السلطة بين الأمراء
والكنيسة انعتق من استبداد الكنيسة وبدأت مرحلة جديدة من المهادنة بين «الكنيسة»
السلطة الدينية و «الحركة العلمية» من جهة، وبين السلطة الزمنية «الحكام»
من جهة أخرى، وهنا بدأت العلمانية بمعناها المبكر فصل الدين عن الدولة
بتقاسم السلطة: للكنيسة سلطتها على ضمائر الناس وعلى قلوبهم، وللسلطة الزمنية
السيطرة على كل ما يتصل بشؤون الحياة والتوجيه والتشريع، وتصبح العلاقة بين
الكنيسة والدولة الناشئة التي بدأت فكرة السيادة على مفاهيمها العلاقة: (لا مساس) .
وفي تقديري أن هذا كان لوناً من المكيافيلية ريثما تستحكم قوة الدولة المدنية
لتحميهم ثم تنتقل إلى المرحلة الثانية التي تجاوزت العلمانية فيها الاكتفاء بمجرد
الفصل إلى إقصاء الدين جملة عن توجه الحياة، ثم تمادى هذا التيار وانتهى إلى ما
نسميه بـ (الإلحاد العلمي) الذي ساد أوروبا شرقاً وغرباً، وانتهت المسألة بأن
أصبحت العلمانية أخيراً تساوي الإلحاد وتعني إقصاء الدين جملة وتفصيلاً عن
المجتمع وعن توجيه الحياة فيه. ولم تجد الكنيسة بداً من أن تستسلم لهذا؛ وأظن
أن التلاعبات التي حدثت بعد هذا تسري آثارها اليوم بشكل أشد حدة.
* د. حلمي القاعود:
العلمانية نتاج المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، وقد تأكدت في
القرنين الأخيرين بسبب الخواء الروحي والعقدي الذي يعيشه الأوروبيون من ناحية،
وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية من ناحية أخرى، ولعل ثورة كالفن ولوثر التي
عرفت فيما بعد باسم الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية (البروتستانتية) كانت
مقدمة لكسر الهيمنة الكنسية، وفصم عرى العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والدولة، أو
بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية.
وإجمالاً، فإن العلمانية كانت إجراء يهدف إلى إزاحة سيطرة الكنيسة على
الحكومة في أوروبا، خاصة بعد أن تنوعت مظالم القساوسة ورجال الدين ضد
المجتمع، ووقوفها ضد العلم، وإحراق بعض الفلاسفة والعلماء بسبب آرائهم أو
كشوفاتهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك «سبينوزا» صاحب مدرسة النقد التاريخي
الذي كان مصيره الحرق، و «كوبرنيكس» الذي حرَّمت الكنيسة كتابه:
«حركات الأجرام السماوية» الذي نشر عام 1543م، و «جردانو» الذي
صنع تلسكوباً فعذب عذاباً شديداً وعمره آنئذٍ سبعون عاماً، وتوفي 1642م.
والعلمانية تعني (غير الدينية) أو (الدنيوية) ومفهومها بالمصطلح
الإنجليزي secularism لا علاقة له بالعلمscience أو المذهب العلمي
scientism، ولأن العلمانية بعيدة عن الدين؛ فقد اهتمت بما يسمى تحرير
العقل، وإضفاء صفات الألوهية على الطبيعة، وتطبيق المنهج التجريبي، مما أدى
إلى إنكار أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، وإقامة الحياة على أساس مادي
صرف، وهو ما تبلور في شيوع الإباحية والقبول بالفوضى الخلقية وهدم كيان
الأسرة.
وكان نصيب العرب والمسلمين من العلمانية غير قليل؛ حيث تسللت إليهم
عبر جيوش الاستعمار منذ حملة نابليون على مصر والشام ثم حملات الإنجليز
والفرنسيين والأسبان على بلاد العرب، فأدخلوا القوانين الأوروبية (خاصة القانون
الفرنسي) وغيروا نظم التعليم، ووجهوا المتعلمين إلى الثقافة الأجنبية وإهمال
الثقافة الإسلامية التي تمثل ثقافة البلاد وكان إعلاء شأن الثقافة الأجنبية واحتضان
المهتمين بها من أبناء المسلمين عاملاً مؤثرًا في إهمال شأن الثقافة الإسلامية؛ بل
ازدرائها وتحقيرها.
ماهية الفن:
* د. عبد العظيم المطعني:
الفن في الأصل يمكن تعريفه ببراءة ينبغي أن تكون فيه بأنه «القول الجميل»
ثم اتسع مفهومه من القول ليشمل العمل، فتولد عنه المسرح منذ القديم، ثم
زاحمته السينما والشاشة الصغيرة كما يقولون الآن. وهو نتاج فكري خاص يتميز
عن أنواع التفكير الأخرى.
والذي يقابل الفن مع شيء من التسامح العلم. والعلم أيضاً نتاج عقلي؛ لكن
رسالة العقل في حيز العلم نستطيع أن نشبهها بالمرآة تعكس ملامح الصورة التي
تقف أمامها، ومعنى هذا أن يكون نتاج العقل في حيز العلم خبراً مطابقاً للواقع، أما
نتاج العقل في مجال الفن فيتلون حسب الرؤية الخاصة بمن يعمل في مجال الفن؛
فالعقل ليس مقيداً في مجال الفن بحدود الواقع ولكن له حرية القفز فوق هذا الواقع،
وله حق تصويره حسبما يراه الفنان على ما هو عليه في الواقع؛ ولذلك قالوا: إن
العلم موضوعي والفن ذاتي، وتعني موضوعية العلم أنه حقائق يدركها جميع
العقلاء كالمعادلات الرياضية وما أشبهها.
أما الفنون فنتاج ذاتي يتلون تلون صاحب النموذج؛ فلو أتينا بعالمين طبيبين
مثلاً ليتحدثا عن الشيب في رأس الإنسان فسوف يتحدثان عن الأسباب والمظاهر
البيولوجية المصاحبة للشيب سواء كان في سن مبكرة أو متأخرة.
لكن إذا عرضنا هذه الظاهرة على أديبين فسوف يختلفان، وقد حدث هذا
بالفعل؛ إذ رآه أحدهما سيفاً مسلطاً على رقاب العباد وأنه نذير للنهاية، بينما رآه
آخر لمعة بيضاء تنم عن كمال التجربة وخبرة الأيام عند الإنسان؛ ومن هنا فإن
الفنان يتمتع بحرية شرط أن يكون صادق الإحساس مع نفسه غير متكلف.
والفن بعد هذا يعتمد على عناصر أربعة، يشترك العلم معه اشتراكاً أساسياً
في عنصر منها وهو المعنى؛ لأن كلا النموذجين لا بد أن يحمل فكرة أو معنى، ثم
يختلف الفن بعد ذلك بأنه يغلف بالخيال، وأن تشيع في روحه العاطفة، وأن تكون
اللغة رومانسية وليست كلاسيكية. تقوم على التفخيم والتهويم والتجسيم.. سواء
كان هذا الفن شعراً وهو أرقى أنواع الفنون، أو نثراً كالقصة والأقصوصة أو كان
غير ذلك.
ومن هنا نحن نتحدث عن الفن في مرحلة قراءته بأنه الفن الجميل برؤية
خاصة تكون وراءها تجربة للفنان أو الأديب، وسعة خيال يتشكل به النموذج؛ هذا
هو الفن، ومجاله أوسع بكثير من مجال العلم باعتبار الحرية التي يتمتع بها الفنان.
وقد حكي عن بعض الصحابة وهو النابغة الجعدي أنه قال بيتاً من الشعر أمام
النبي صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وهنا يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم من زاوية نقدية مُوجِّهَة فقال له:
«أين المظهر بعد ذلك يا أبا ليلى؟» فأوقعه في حرج، ثم تدارك أبو ليلى قائلاً:
إلى الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: «أجل! إن شاء الله» [1] .. هذا النموذج
النبوي الكريم فيه رد مفحم على دعوى تتفجر هذه الأيام بعد أن اصطبغ الفن
بالصبغة العلمانية: بأن الأدب لا سلطان لأحد عليه لا من ناحية الدين أو التقاليد
والعادات، ولا من ناحية السياسة، وإنما الذي يحكم على الأديب المبدع حسبما
يدَّعون هو الأديب المبدع، وفيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا رد على
هذا الادعاء؛ إذ كف عليه الصلاة والسلام مبالغة شاعر بريئة، ونبهه إلى أنه جنح
في خياله؛ ولكن الله ألهم الشاعر فرد بما أرضى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا فإن الفن أداة لتطوير المجتمع وإمتاعه وإقناعه وخدمته، والفن في
تاريخ الأمة سبق تحولات خطيرة في التاريخ: نبَّه على عيوب فتلافتها الأمة،
بصَّر بحقائق يجب أن يدان لها ويعمل من أجلها؛ وصدق الشاعر:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة العلا من أين تؤتى المكارم
* د. حلمي القاعود:
يمثل الفن جزءاً من ثقافة أي أمة من الأمم، وقد عرفت الثقافة الإسلامية فنوناً
قولية وشعبية انتشرت في البلاد العربية والإسلامية وخاصة فنون الشعر الغنائي
والنثر الفني والسير الشعبية والقصص الخيالية والتاريخية، فضلاً عن فنون
الهندسة المعمارية والرسم والخط والزخرفة سواء على الورق أو الجدران أو
المحاريب أو مداخل القصور والمساجد.. وغير ذلك.
بيد أن الاحتكاك مع حركات الاستعمار الأوروبي وطلائع التنصير والثقافة الغربية
مهّدت لازدهار فنون جديدة كانت معرفة المسلمين بها محدودة أو غير واضحة مثل
المسرح والسينما والأوبرا، ومؤخرًا دراما التليفزيون، وكلها تقوم على العنصر
الدرامي: (الحكاية والصراع في داخلها، أو الحوار بين شخوصها) ، ومهمة هذه
الفنون نقل الأفكار والتبشير بالتصورات غير المألوفة، وبذلك دخل المسلمون عن
طريق الدراما إلى عالم جديد من القيم العلمانية التي تتصادم في الغالب مع القيم
الإسلامية، حيث بشّرت الفنون الدرامية بقيم الاختلاط المطلق، والعري،
والعلاقات الإباحية، والإلحاد، والانتهازية، والبقاء للأقوى وليس للأصلح،
وتسويغ العنف والشر والرذيلة، والتبشير بالرجل الغربي بوصفه «السوبر مان»
أو الرجل الأعلى القادر على فعل كل شيء، والتغلب على كل الصعاب التي
تعترضه، فضلاً عن تأثيرها السلبي حين تُقدِّم صورة الرجل المسلم عموماً في
إطار كئيب ورديء بوصفه ميّالاً للدعة والكسل، والكذب والقذارة والخيانة والنفاق،
أو تجعله صنوًا للجهل والتحجر والجمود والتنطع والجهامة والقسوة، أو محلاً
للسخرية والاستهزاء.. وفي إطار ذلك كله كان التركيز على عزل الإسلام بعيداً
عن واقع الحياة والمجتمع في الأعمال الدرامية؛ بحيث بدا «ديناً كنسياً» يرتبط
في الأذهان بالمسجد أو المقبرة فحسب!
هناك مقولة قرأتها للرئيس البوسني «علي عزت بيچوفيتش» فحواها أن
الفن هو الوجه الآخر للدين، وقد ذكر الناقد الأنجلو أميركي «ت. س. إليوت»
هذا المعنى بعبارة أخرى في كتابه حول معنى الثقافة.
قرابة الفن للدين قائمة، ولكن أي فن؟ هذا هو السؤال الذي يتردد في أذهان
الكثيرين، وخاصة في زمن الالتباس الذي نعيشه؛ حيث تختلط المفاهيم، وتتداخل
المصطلحات، وتراوغ التعريفات.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب بشعر أمية بن أبي الصلت ويستنشده
وكان يعجب بشعراء آخرين، وخلع على كعب بن زهير بن أبي سلمى بردته
حين أنشده قصيدته اللامية المشهورة [2] :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفد مكبول
وما ذلك إلا لأن القصيدة كانت فناً جميلاً صاغ معاني عظيمة تصب في خانة
ترقية الإنسان والتبشير بقيم عليا، وهذه آية الفن الجيد الذي يعد بمفهوم علي عزت
بيچوفيتش الوجه الآخر للدين.
وإذا نظرنا إلى نشأة المسرح في الزمن القديم عند الإغريق والرومان فسنجدها
قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدين؛ ففي الأعياد المقدسة التي كانوا يقيمونها في المعابد
كانوا يقومون بأداء التمثيليات أو المسرحيات أو الملاحم التي تعبر عن علاقتهم
بآلهتهم أو رغبتهم في تقديم الشكر لها وخاصة بعد الحصاد، والعديد من أصحاب
الشرائع السماوية والأديان الوضعية يقومون في معابدهم حتى اليوم بتقديم ألوان من
الفنون الدرامية والموسيقية تعبيراً عن عقائدهم أو قصص أنبيائهم أو علاقتهم بمن
يعبدون ويقدسون.
وقد سجل المصريون القدماء على حوائط مقابرهم ومعابدهم بالرسم والكتابة
لوناً من هذه الفنون التي تكشف عن طاعتهم لمعبودهم أو مصائرهم بعد الحياة الدنيا.
إذن الفن مرتبط بطريقة ما بالروح الإنسانية؛ وقد اتخذته بعض الفلسفات
الوضعية بل والدينية وسيلة للتطهير والارتقاء أو التكفير والغفران، شريطة أن
يكون بعيداً عن الغواية والانحراف.
* أ. محمود خليل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الفن كما قال الدكتور المطعني: «كسب من كسوبات الإنسان يعبر به عن ذاته» ،
وهو تعبير أساسي عن مواجيد نفسه كأحد نتاجات الذات الإنسانية؛ فإن توافقت مع
فطرة النفس وناموس الكون وتقيدت بالشرع كان الفن إسلامياً؛ إذن العيب لا يأتي
من الفن وإنما من إساءة استخدامه.
ولما كان الفن هو المعادل الظاهر المرئي لمكون أساسي من مكونات النفس
البشرية كان لا بد له من أن يحمل رسالة تعبر عما تفتعل به النفس، والله تعالى
أمرنا أن نعتبر بالشاكلة لا بالشكل فقال: [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] (الإسراء
: 84) ؛ كان علينا أن نفرق بين الشاكلة المسلمة وما سواها، وإذا كان حديثنا عن
العلمانية وتوظيفها للفن واصطباغ هذا الفن بصبغتها في ظل غياب الفاعل الإسلامي
الذي يتعامل مع النفس السوية في ظل هذا الغياب كان همُّ العلمانية أن تشغل
المساحة الفارغة في المجتمعات المسلمة التي لم تمتلئ بالحق فاتخذت من الفن معبراً.
والفن كان الضالة المنشودة والقنطرة التي عبرت عليه كل الأيديولوجيات
والنظريات الفلسفية التي خرجت عن الإطار الإنساني الصحيح، ومن ثم كان الفن
هو التعبير المهاجم للأديان سواء في زي الماركسية، أو في ظل الوجودية وما بعد
الوجودية والحداثة وما بعد الحداثة التي تنقض على الأديان وتنزل المقدس منزلة
المدنس.
ولئن وقع الخلط طويلاً بين الفن باعتباره وسيلة، والفن من قبيل المضمون
مما جعلنا نغفل دوره في تعميق المفاهيم الشرعية في المجتمع، إلا أن تلك المذاهب
قد استغلته منذ زمن بعيد، فلم يكن عجيباً أن يقول ماركس من أول يوم: «لأُنسين
الناس بالمسرح» عام 1907م، ثم يأتي لينين من بعده فيقول: «لئن غابت عنا
السينما إلى الآن فليعلم الماركسيون في العالم أن السينما بالنسبة لنا أهم الفنون» ،
ويأتي بعد ذلك ليون تروتسكي الثائر الماركسي ويقول عام 1923م: «لئن تركنا
السينما دون أن نعبئها تعبئة ماركسية هادفة إلى الآن فلا أقول نحن مقصِّرون، بل
أقول نحن متخلفون أغبياء» .
إذن واضع الفلسفة الشيوعية ماركس، ومطبقها لينين، والمنظر والثائر
الراديكالي في داخل الفلسفة تروتسكي يعلمون جيداً قيمة الفن من حيث إنه وسيلة؛
فهذا قال المسرح، والآخر قال السينما، والثالث وجد التطوير التطبيقي للسينما.
والسينما عندما ظهرت في أوروبا عام 1895م جاءت إلى مصر بعدها بعامين
لم يكن هذا لسبقنا، ولكنها مثلت وعاء فارغاً شغله غيرنا في غيبة منا؛ وبهذا كان
الفن مطية ذلولاً بالنسبة لهم على قدر ما كانت سلعة مشتهاة بالنسبة لنا، فشغلوا
النفوس بالباطل في غيبة من الحق.
ولأن الفن قد نشأ حين نشأ في أحضان الوثنية اليونانية القديمة فهو لا يعرف
للدين منهاجاً وإذا عرف الدين فيعرفه في الآلهة وأنصاف الآلهة: آلهة الريح وآلهة
المطر وغير ذلك، ولهذا فهو يحمل ظلالاً مشوهة وانقضاضاً على الأديان منذ أن
كان فناً يونانياً قديماً في ظلال المسرح، ومنذ أن أصبح فناً سينمائياً في أحضان
الماركسية. والماركسية هي الصيحة الثائرة للصهيونية، كما أن أهم ركائز الفن
وهو التمويل كان أيضاً صهيونياً، والفن السينمائي المعاصر نَبَتَ من أحضان ماير
روتشيلد وإخوته فمولوه تمويلاً مسموماً صهيونياً منذ نشأته إلى أن انتهى إلى هوليود
التي أصبحت تُدخل إلى ساحتها من شاءت. كما أننا لو نظرنا إلى بذور الفن
الأولى في مصر على وجه التحديد لوجدناهم إما يهوداً وإما متهودين سواء في
التمويل أو في الإخراج.
والفن بالمعنى المطلق لا يمكن الحكم عليه حتى يتحيز ويتشكل، ونحن نرى
هنا أنهم حين صنعوه ووضعوا له أطراً أصبحت كمسلَّمات تقعيدية هُيِّئ للكثيرين أنه
لا يصلح إلا بهذا النجس.
البيان: إذن يمكننا التفريق بين مفهومين للفن: أحدهما لغوي وضعي مرتبط
بالبراءة الأصلية هو كالمعنى المطلق، والآخر واقعي مرتبط بالممارسة القائمة التي
قدمتها العلمانية ونظّرت لها وقعّدت، وهو أشبه بتحريف لهذا المطلق، والعلاقة
بينهما علاقة ما بين الواقع والمثال. ونظراً لابتعاد الواقع عن المثال وطغيانه عليه
في ظل الممارسة العلمانية نود أن نكشف طرفاً من التزييف العلماني باسم الفن،
ونبين لماذا الفن بالذات؟
* د. إبراهيم الخولي:
الفن من حيث هو سلاح يتوقف أثره على هدف من يستعمله، وعلى القذيفة
التي يطلقها من خلاله، والعلمانية حين تختار الفن وتوظفه فإنها تعرف غايتها
وطريقها والوسيلة الصحيحة لتحقيق أهدافها، وحين قال ماركس: «الدين أفيون
الشعوب» كان يدرك الأثر الحقيقي للدين في نفوس البشر.. أدرك هذا جيداً
وحاول أن يقصي الدين لما له من تأثير على نفوس البشر.. لا يستطيع ماركس
بهُرائه الذي زعمه فلسفة أن ينال من نفس مؤمنة مهتدية بدين الإسلام؛ فكانت
المعركة ضد الإسلام لإزاحة العائق أولاً، فإذا ما انتهت من هذه الحصانة والمناعة
التي يهبها الدين للنفس أمكن غزوها وأمكن وأمكن ...
الأثر النفسي للدين يقترب منه الأثر النفسي للفن دون تشبيه، والفن مخدر
للنفس، وظيفته الأولى تخدير عقل المتلقي ليستقبل الرسالة التي يحملها الفن وهو
مستسلم سلبي قابل دون أدنى مقاومة، وهنا نفهم لماذا هذه الحشود التي يصطنعها
الفن من مؤثرات صوتية وبصرية، وحشد لعناصر قد لا يحتاج الأمر لشيء منها
مثل عنصر المرأة.. الموسيقى.. الرقص.. كل هذا يحشر حشراً؛ مع أن النقاد
والمتخصصين يرون أن هذا العنصر أو ذاك لم يكن له مكان في هذه الأعمال سواء
كانت مسرحية أو دراما أو تراجيديا، ومع هذا يصر المخرج على إقحامه؛ لأن
هذه العناصر هي التي ستزيل كل العوائق وتفتح كل المنافذ ليصل الفن برسالته
المراد إيصالها إلى النفس وهي في موقف السلب.
ولو أنا أخذنا المضمون نفسه في صورة كتاب يقدم أفكاراً عارية ومباشرة، أو
في صورة رواية أو في صورة رؤية أو عرض فلسفي لما كان لها عشر معشار هذا
التأثير، لكن لما استعان بالأساليب الفنية، وتلاعب بعقل الإنسان فخدَّره.. وبخياله
فأطلقه.. وبعاطفته فاستثارها.. وبغرائزه فأيقظها، استطاع أن يسيطر عليه
فأصبح كالمنوم مغناطيسياً يؤثر فيه ويوحي إليه بما شاء وهو قابل سلبي كأنما
عدمت إرادته عدماً كاملاً.
هناك إشكالية لا بد من الانتباه إليها من حيث مفهوم الفن، وهي أن كثيراً مما
يندرج اليوم تحت مسمى الفن هو مندرج من جهة الشرع عندنا ضمن دائرة الحظر.
بل للأسف الشديد أن أول ما يدخل في دائرة الحظر عندنا هو أول ما يتجه إليه
غيرنا باسم الفن، وهذه مناقضة أساسية لا بد أن تكون في تقديرنا لهذا الأمر.
* د. حلمي القاعود:
الإسلام لا يرفض الفن الذي يرقى بالإنسان ويهذب غرائزه ويحض على
المثل العليا ويحبب إليه الدفاع عن عقيدته ونشرها بين الناس وتوضيح معالمها
وآفاقها.. ولكنه يرفض بالطبع تلك الصورة الشائهة التي تقدمها بعض الجهات في
الدول العربية والإسلامية تحت مسمى «الفن» ؛ فهذه الأعمال الرخيصة لا تدخل
ضمن الإطار الفني بقدر ما تدخل في الإطار التجاري الذي يسعى إلى الكسب
الحرام.. وقد أصبح مألوفاً مثلاً لدى الجمهور العادي أن هذا المخرج أو ذاك يسعى
لكسب المشاهدين عن طريق الإثارة، سواء كانت هذه الإثارة بوسيلة كلامية عن
الجنس، أو عن طريق استخدام الأجساد العارية لراقصات أو ممثلات تجذب
الشباب المراهق أو المنحرف، فضلاً عن العنف الذي يقدم في الفيلم أو المسرح أو
التليفزيون من خلال مشاهد القتل أو السطو أو المعارك أو الصدام مع الشرطة أو
غير ذلك.
ولا شك أن هذه النوعية التجارية تمثل انحرافاً واضحاً برسالة الفن الدرامي
الذي يخاطب شريحة ضخمة من المشاهدين من مختلف الأعمار والطبقات والفئات،
وخاصة بعد ذلك الانتشار الهائل لأجهزة التليفزيون، وتوفر أجهزة الالتقاط
للمحطات التليفزيونية من أنحاء العالم كافة.
* أ - محمود خليل:
هناك إيضاح بسيط بخصوص كلام أستاذنا الدكتور الخولي حول كون الفن
المعاصر ولا سيما المرئي يجعل المشاهد في حال غيبوبة، وهو إن جاز التعبير،
فإن المغيب لا يفعل ولا يؤثر، لكن أنا أرى أنه يعيش حالة استلاب؛ لأنهم لا
يريدون تغييبه فقط، ولكن الفن المعاصر يريد أن يحتله احتلالاً لحظياً ليصنع منه
كائناً فاعلاً ولكن لخدمة أهداف بذاتها، ولذلك يقولون: إن أحدث وأصح وسائل
الاتصال هي التي لا تتحدث إلى الآخرين وإنما تتحدث معهم، فهو يجعل منه دائرة
اتصال فاعلة حية نابضة ينتظر منه فعلاً موجباً فيما بعد، وإلا لو كان تغييباً لانتهى
عند هذا التخدير والمخدر لا يصنع ولا يتحرك.
* د. حلمي القاعود:
يلاحظ أن الإسلام في فنونه يهتم بالتجريد، وغيره يهتم بالتجسيم، وهذا
الفارق مهم جداً؛ لأن الفنان المسلم يهدف إلى قيمة بالدرجة الأولى، أما الفنان غير
المسلم فيهدف في الغالب إلى منفعة والفارق بين التوجهين كبير على مستوى
النظرية والتطبيق معاً، وإذا عرفنا أن «البراجماتية» أي المذهب النفعي أساس
من أسس «العلمانية» أدركنا مدى سطوتها في الترويج للقيم النفعية التي لا تضع
في حسبانها الدين، أي دين، وما يفرضه من مبادئ خلقية خيّرة.
ومن هذا المنطلق نجد أن الانحراف بالفن أو الفنون عامة جاء من قبل الدول
والمؤسسات العلمانية التي أباحت لنفسها حق اللعب بغرائز البشر، واسترقاق المرأة
لتتعرى في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وتمارس الجنس بلا حياء، وتعيش
أو تمثل حياة الحيوانية في أحط دركاتها.
إن الغاية تسوِّغ الوسيلة في المنهج العلماني؛ ولذا نجد اللصّ الذي يكسر
خزائن البنك ليسرقه، ويتغلب على جهاز الشرطة الذي يحاصره أو يطارده،
ويطيح بإشارات المرور، ويمضي قدماً بما سرق حتى يعبر الحدود الدولية ظافراً،
وينتهي الفيلم واللص بابتسامة عريضة تصنع أو تهيئ لقبول التعاطف مع اللصوص
الأذكياء الذين يظفرون بالفريسة ولا يخسرون شيئاً (ترى هل صورة اللص هنا
ترمز إلى الاستعمار بهدف تحسين جرائمه؟) .
لا شك أن النظرة العلمانية أسهمت في «سوقية الفن» بطريقة فعالة؛ حيث
أسقطت الحاجز أو الوازع الديني الذي يجعل رسالة الفن فوق الرغبة في الكسب
بأي ثمن، وأسقطت غاية الفن التي هي غاية بنائية تهدف إلى ترميم النفوس
المشروخة، وتشجيع الأرواح المكسورة على تجاوز الأخطاء وترسيخ المفاهيم
الإيجابية والقيم المضيئة.
إن الفنون الدرامية في عالم اليوم لها تأثيرها الفعال؛ حيث يمكنها أن تصل
بسرعة وسهولة إلى غرف النوم وتقدم للمشاهد أفكاراً وقيماً وسلوكيات يستوعبها
ويتشربها بسرعة؛ لأنها تتسلل إليه وهو في حال استرخاء تام، لا يستطيع لها
دفعاً.. ومن ثمّ فإن أهمية التزام العمل الفني بروح الدين تضحي ضرورة أساسية في
تقديم التصور الصحيح والفكرة الناضجة والقيمة الإيجابية والسلوك المستقيم.
والتصور الصحيح لا يتحقق إلا بمفهوم صحيح لقيم الإسلام وتعاليمه وأفكاره؛
لأن الإسلام يختلف عن الشرائع الأخرى والأديان الوضعية.
فإذا كانت بعض الشرائع والأديان تبيح ما لا يبيحه الإسلام فهذا ليس ملزماً
للفن الإسلامي. هناك من الشرائع والأديان والعقائد الوضعية ما يبيح النظرة
المزدوجة للإله أو الوثنية، أو ما يجعل العلاقات البشرية تقوم على العنصرية أو
الطبقية أو الاستغلال، وهذا لا يمكن قبوله أبداً في الإسلام.
لا شك أن العلمانية من خلال الدراما تفكك المجتمعات، وتفكك الأديان وتحقّر
القيم الطيبة، وتعلي من شأن القيم السلبية، وتؤسس لمجتمعات الغابة بما فيها من
مكر وخديعة وتوحش.. وهذا كله مخالف لمنهج الإسلام.
البيان: لو أخذنا فلسفة الفن خلال نصف القرن الماضي نموذجاً لتبين لنا مدى
التجني والخبث العلماني في التدرج نحو هذا التفكيك.
* د. حلمي القاعود:
إذا نظرنا إلى ما يمكن تسميته بفلسفة الفن عبر نصف قرن مضى فسوف نجد
أن هذه الفلسفة تنحصر في عدة نقاط، لعل أبرزها ترسيخ النموذج الأوروبي،
وتأييد الثقافة الشمولية الاستبدادية، والتأكيد على تقويض المشروع الإسلامي.
وليس من شك أن النموذج الأوروبي بوصفه النموذج الأقوى المنتصر على بقية
شعوب العالم، جعل الفنون الدرامية تلهث وراء الاحتفاء به وتقديمه بصورة مباشرة
أو غير مباشرة، من خلال رؤاه وتطبيقاته، وعاداته وتقاليده، بل وتقاليعه في
الزي والسلوك والعلاقات البشرية؛ ولسوء الحظ فإن النموذج الغربي الذي تعد
أوروبا خير مثال له، خرج من الحرب العالمية الثانية فاقد الإيمان، محطم الروح
الدينية، وإن كانت روحه الصليبية أو الإلحادية لما تزل قوية للغاية، فقدم للعالم
وهو المنتصر العديد من النظريات والتصورات التي تصب كلها في خانة المادية
والفردية والعنصرية والاستعلاء مما دعم التوجه العلماني بصورة غير مسبوقة في
الغرب؛ لدرجة السماح بحقوق الشواذ جنسياً في بعض البلدان والاعتراف بزواجهم
من نظرائهم، وقامت السينما بالتعبير عن ذلك صراحة ومباشرة في العديد من
الأفلام.. وكذلك المسرح والمسلسلات التليفزيونية.
وإذا كان علماء الاجتماع يذهبون إلى أن الضعيف أو المهزوم يتأثر بالمنتصر
أو القوي، ويسعى إلى تقليده، فإن الفن الدرامي في البلاد الإسلامية تأثر إلى حد
كبير بالنموذج الأوروبي أو الغربي وقلده في كثير من تصوراته وتطبيقاته، لدرجة
أن صورة المنزل الإسلامي في معظم الأفلام العربية مثلاً لا تخلو من «بار» أو
ركن لتقديم الخمر وشربه، كما أن معظم البيوت الإسلامية في هذه الأفلام لا تجد
غضاضة في الرقص المختلط على أنغام الموسيقى الأجنبية.
وهذا التقليد أو هذا «التأورب» الذي صنعته الدراما العربية جعل من تأييد
الثقافة الشمولية الاستبدادية أمراً يبدو طبيعياً؛ فقد انتفت من وجدان القائمين على
الفنون الدرامية المرجعية الإيمانية أو الإسلامية؛ مما جعل مناصرة الطغيان
والاستبداد والظلم تبدو مسألة عادية لا تثير شبهة أو ريباً.
وإلى جانب هذا فقد عرفت المنطقة العربية ألواناً من النظريات والرؤى التي
تعارضت مع الإسلام وتصوراته، ودعا لها أصحابها بقوة السلطة والسلاح،
وسخرت لها أجهزة الدعاية والمؤسسات الثقافية التي تحتكرها الدولة عادة، ومن ثم
وجدنا ترويجاً لهذه النظريات والمذاهب التي تقوم على مرجعية علمانية لا تضع في
حسبانها أية أهمية بالنسبة للدين.
صحيح أنه كانت تبرز بين الحين والحين معارضات خافتة حيناً، وحادة في
بعض الأحيان لمثل هذه الطروحات، ولكن الإلحاح عليها، وتقديمها في أطر غير
مباشرة في أحيان كثيرة جعل وجودها يبدو أمراً طبيعياً، مما أخمد روح المقاومة،
ووجه اهتمامات الناس إلى ما يمكن تسميته بالإشباع المادي وحسب، والابتعاد إلى
حد كبير عن المطالبة بالإشباع الروحي.
ومن ثم فإن تقويض المشروع الإسلامي لإنهاض المجتمعات العربية
والإسلامية كان غاية رئيسة في الأعمال الدرامية، بل وصلت الأمور إلى التشهير
بالرموز الإسلامية، وتصويرها على أنها العائق الأول والأساسي في عمليات
النهضة والتحديث.
الشخصية الإسلامية في الأعمال الدرامية غالباً ما تأتي نقيضاً للشخصية
العلمانية؛ فالأولى يرمز لها عادة بالمأذون ومدرس اللغة العربية وإمام المسجد
والدرويش والمتدين الملتحي، وتجعل منها في الأغلب الأعم شخصيات فصامية،
أي تقول غير ما تفعل، لها ظاهر يبدو براقاً وباطن خبيث، هي طيبة في الشكل
شريرة في المضمون، وفي أحسن الأحوال فهي شخصية ساذجة بلهاء أو أنانية
انتهازية لا تراعي الذوق العام ولا السلوك المتحضر.
في المقابل تمثل الشخصية العلمانية الإباحية المتحررة صورة جميلة في
الشكل والمضمون معاً، يرسمها المخرج بصورة تجعلها محبوبة من الجمهور أو
يرتاح إليها الجمهور، ويتعاطف معها حتى في انحرافها وسلوكها غير الطبيعي أو
القانوني، علاقاتها غير الشرعية أو غير القانونية تبدو مسألة مبررة وسائغة،
وتركز معظم الأفلام على فكرة الإشباع دون مراعاة لمفهوم الحلال أو الحرام؛ ومن
ثمّ فالبطل الذي يمارس علاقات محرمة لا يشعر بأي تأنيب للضمير أو إحساس
بالإثم؛ لأن الأمر في مفهومه عادي وطبيعي ولا حرج فيه، وقد شهد العقد الأخير
من القرن العشرين حملة درامية عنيفة ضد الإنسان المسلم، وتم تصويره في حالة
مشوهة ومنفرة تثير السخط والغضب؛ حيث بدا أفاكاً ودموياً ولصاً وانتهازياً وعدواً
للفرح والبِشر!
لقد كان يمكن للفن لو أنه وضع رسالته الحقيقية في الحسبان، أن يساعد على
تنشئة أجيال واعية بماضيها وحاضرها، ومستعدة لمواجهة المستقبل وفقاً للتصور
الإسلامي الناضج، ولكنه للأسف الشديد بدلاً من ذلك صاغ شخصيات مجوفة،
خاوية من العقيدة والانتماء والاتزان.. صحيح أن بعض الأعمال يمكن إدخالها في
السياق الإيجابي، وخاصة ما ارتبط بالدراما التاريخية والشخصيات الساطعة،
ولكنه في المجموع العام وفي مجال الأفلام السينمائية التي ساعد التليفزيون على
عرضها وانتشارها حدث تشويه عام للشخصية الإسلامية، وتنفير منها، وازدراء
لها، ثم كانت الطامة الكبرى بتشويه الإسلام نفسه وعَدِّه قريناً للإرهاب والظلام
والجمود والتشدد والتخلف ومعاداة التطور والحضارة.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مستوى اللغة الدرامية في بدايات نصف القرن
الأخير، بل وفي النصف الأول منه، كانت تتميز بالوضوح والدقة والرقيّ،
ولكنها في العقود الأخيرة أخذت طابع الغرابة والابتذال والافتعال، وامتلأت بكثير
من مفردات البذاءة والسباب والسوقية بوصف ذلك تعبيراً عن الواقعية في الأداء،
ويمثل حالة من الصدق في نقل أحوال المجتمع، ولذا فإن ما نراه اليوم في لغة
الشارع يمثل صورة من صور التردي غير المسبوقة في تاريخنا الاجتماعي بسبب
التأثير الذي لا يمكن إنكاره للدراما السينمائية، وخاصة في عصر ما يعرف بسينما
المقاولات.
* د. عبد العظيم المطعني:
الدكتور الخولي والدكتور القاعود وضعا لنا تأسيساً متيناً نستطيع أن نسير
عليه بكل سهولة في مسائل تطبيقية عن استغلال الفن ليس في العلمانية وحدها وإنما
في جميع الأيديولوجيات المعادية للإسلام واتخاذه وسيلة للتشكيك فيه بجعله مطلباً
استراتيجياً دائماً أو القضاء عليه إن أمكن.. وقد يئسوا من الثانية؛ لأنهم كلما
ضربوه ضرباً يقدرون أنه يفضي إلى الموت يجدونه يتحرك عملاقاً، لكن الذي لم
ييأسوا منه هو التشكيك فيه، أو عزله عن بعض الفئات المسلمة غير المحصنة.
إضافة إلى ما قاله الأخوان حول اختيار الفن؛ لأن الفن فيما أعتقد هي لغة
جميع الطبقات وجميع الأعمار، تصل بكل سهولة إلى البيوت، ويتفهمها الجميع
ويتفاعلون معها؛ لأنهم يتفاعلون معها بكل حواسهم، وهنا يمكن أن يتقبلوا ما يهدم
الإسلام.
أضرب لذلك مثالاً برواية (أولاد حارتنا) .. ففي النصف الثاني من القرن
العشرين اشتدت عندنا وطأة الفن الإلحادي، وكان الذين يريدون ضرب الإسلام
أذكياء وجبناء، وقد وضح ذلك في عدة أعمال منها (أولاد حارتنا) هذه القصة من
قرأها بوعي وجد أن كاتبها قد وضع فيها بكل دهاء ما يريد أن يقوله في المستقبل؛
لأنه لا يستطيع أن يصرح بما يريد في بلد كمصر؛ إذ تحاول القصة بمكر إلغاء
التاريخ النبوي كله ونفي وجود الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقد قسم قصته إلى
سبعة فصول تحدث فيها عن «جبلاوي» فوصفه بما يوصف به البشر وبما لا
يوصفون به، وبدؤه بهذا لأنه أراد أن يمحو العقيدة؛ لأنه إذا محا هذا الصرح
القوي سهل بعده اللعب في أي شيء، ثم تناول بعدها في بقية الفصول إدريس
«إبليس» ، وآدم «أدهم» ، وجبل «موسى» ، رفاعة «عيسى» ، وقاسم
«محمد» ثم تحدث عن عرفة «العلم الحديث» ، وانتهت الرواية بأن العلم
الحديث هو الإله الوارث لكل الفكر الديني؛ فلا شرائع ولا وحي وإنما العلم المادي
بقوانينه قادر على تفسير الحياة وتدبير أمورها. هذا نموذج للممارسات
العلمانية التي اتخذت الفن لهدم التاريخ النبوي كله وهدم العقيدة الإلهية، وأورثت
الوجود لعرفة أو للعلم الحديث، وما فعله هنا نجيب محفوظ فعله غيره في أعمال
أخرى. وبنفس الطريقة الخبيثة يجري تقرير كثير من المفاهيم العلمانية
عبر الفن.
__________
(1) أخرجه ابن الأثير بسنده إلى النابغة رضي الله عنه في أسد الغابة، ج 5، ص 3.
(2) قال الحافظ ابن كثير: «ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه؛ فالله أعلم» البداية والنهاية، 4/373.(161/48)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(3 - 3)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي [*]
(3 - 3)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
في الحلقتين السابقتين طاف بنا الكاتب بين الانحرافات التي أصابت الأمة
الإسلامية، وتنقل بنا إلى أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب،
واليوم نتابع معه بقية الحديث.
- البيان -
التوفيقية والإصلاح الديني:
لم تكن العلمانية بهذا السفور لتجد رواجاً في العالم الإسلامي آنذاك، كما أنها
في هذا القالب كانت مقتصرة على مخاطبة فئة قليلة في المجتمع وإن كانت ذات
تأثير هي فئة النخبة المثقفة إن جاز التعبير، لذا: كان لا بد من وجود أسلوب آخر
يضمن قبول العلمانية والتغريب لدى قطاعات كبيرة من المجتمع، ولذا أيضاً كان لا
بد من وجود وسائل تتسم بالشيوع والانتشار لضمان وصولها.
نهج غربي مقترح:
ولنترك جانباً في هذا المقام نظريتنا التآمرية، ولندع كبار مخططي (الغزو
العلماني التغريبي) في هذه المرحلة يحدثوننا عن النهج المقترح في ذلك، واصلين
السابق باللاحق في ذلك لتتضح الصورة جيداً:
يحدثنا أول مندوب سام بريطاني في مصر وأحد أبرز قادة الحملات التغريبية
على العالم الإسلامي في العصر الحديث (إفلن بارنج) المعروف بـ (اللورد
كرومر) عن أهداف الإنجليز (الحضارية!) فيقول: «المصريون يتمسكون
تمسكاً تاماً بالإسلام الذي هو أحد الكلمات المرادفة للوطنية في الشرق، والإنجليز
لا يهدفون إلى نشر المسيحية، ولكنهم يريدون نشر حضارة تقوم على أساس
مسيحي» [1] ، فإذا كان الأمر كذلك، فما مصير (الحضارة الإسلامية) ؟ يوضح
الإجابة لنا الدكتور محمد محمد حسين ملخصاً وجهة نظر المستشرق الإنجليزي
المتأمرك هاملتون جب، فيقول: «المقصود من الجهود المبذولة لحمل العالم
الإسلامي على الحضارة الغربية هو تفتيت وحدة الحضارة الإسلامية التي تقوم
عليها وحدة المسلمين؛ لأن كل قطر سيتجه إلى اقتباس ما يلائم ظروفه من هذه
الحضارة، وعند ذلك تتعدد أساليب الاقتباس بتعدد البيئات الإسلامية المختلفة،
فتفقد الحضارة الإسلامية طابعها الموحد، بل لا يعود هناك شيء اسمه (حضارة
إسلامية) » [2] ، وفي مقال: (مصر وغربي آسيا) ضمن كتاب: (وجهة
الإسلام) الذي أشرف عليه جب يلفت المستشرق الألماني كامبفماير النظر إلى
عوامل وحدة هذه الحضارة حتى يمكن التركيز عليها، ويلخصها الدكتور محمد محمد
حسين في ثلاث نقاط: «أولها هي: أهمية الكتلة العربية وخطورتها في نظره،
وثانيها هي: أن أهم العوامل التي تستمد منها هذه الكتلة وحدتها هي:
اشتراكها في اللغة العربية الفصحى، واشتراكها في العناية بالتراث الإسلامي
القديم وتاريخه وأدبه، وثالثها هي: ما يستتر وراء كلامه من أنه يتمنى أن يحدث
في مصر ما حدث في تركيا من قطع كل صلة بالماضي الإسلامي واستبدال الحروف
اللاتينية بالحروف العربية» [3] .
وهنا يتبين أن المعركة الفكرية ستدور حول عدة محاور: الهجوم على اللغة
العربية الفصحى لغة القرآن، ويتضمن ذلك: استهداف الحروف العربية التي تعد
أداة لوصل الماضي بالحاضر ولربط الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والهجوم
على التراث الإسلامي الذي صيغ بهذه اللغة واستنبط من أسس الإسلام وتصوراته
ومقوماته لإفساح المجال أمام الثقافة الجديدة بما تحمله من قيم وتصورات مختلفة،
أما المعركة السياسية: فتدور حول التفتيت الذي تحدث عنه جب، وبصفة خاصة
تفتيت الكتلة العربية المميزة بموقعها المعنوي والجغرافي والتاريخي.
ولكن على أرض الواقع، كيف ستنفذ المخططات التي وضعت لتحقيق هذه
الأهداف؟ وكيف سيقضى على العوائق التي تواجه هذا الغزو في ظل وجود خلاف
عميق بين الجديد والقديم والغازي والمغزو؟
نعود إلى اللورد كرومر، فقد «لاحظ كرومر وجود هذا الخلاف بين
المسلمين وبين المستعمر الغربي في العقائد وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي
اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى ...
لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السبب في انعدام ثقة
المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّة واسعة
تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب. ودعا من أجل ذلك إلى
العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهوة.
وقد اتخذت هذه الوسائل طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين
العصريين الذين ينشَّؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على
وجه الخصوص في طرائق السلوك والتفكير. ومن أجل ذلك أنشأ كرومر (كلية
فكتوريا) ، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط
إنجليزي، ليكونوا من بَعْدُ هُم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين،
وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواته في التقريب بين المسلمين وبين
المستعمر الأوروبي، وفي نشر الحضارة الغربية [4] ...
أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل
على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً ... وهي
تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره؛ بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة
الغربية، أو قريباً منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً لها
معارضاً لقيمها وأساليبها ... » [5] ، «ومن ثم عمد رجال الاحتلال إلى العمل
على زيادة عدد المصريين الآخذين بنصيب من الحضارة الأوروبية» [6] .
وماذا يتوخى رجال الاحتلال من ذلك؟ يقول كرومر: « ... وإذا استمر المضي
في هذا الطريق أصبح المصري الآخذ بحضارة أوروبا أقل مصريةً وأكثر ميلاً
لأوروبا؛ إذ يصبح المصريون بهذا الفيضان المتدفق من الحضارة الأوروبية أقل
إسلاماً، وهم في الوقت نفسه لم يحصلوا بعد على العمود الفقري في الحضارة
الأوروبية» [7] ، «أو كما يصفهم في عبارة قصيرة (بأنهم مسلمون وليست فيهم
خواص إسلامية، وأوروبيون وليست فيهم خواص أوروبية) » [8] وهو المسخ
العلماني التغريبي الذي نراه الآن.
فما الذي حصله هؤلاء إذن؟ يذكرZetland Marquis of. أن الهدف
النهائي لهذا المسعى هو: «القضاء على استخدام الأساليب الشرقية الموشاة بمدنية
أوروبية زائفة، وأن تستبدل بها مدنية غربية حقيقية تقوم على أساس من مبادئ
الأخلاق المسيحية» [9] ، ويجيبنا كرومر نفسه بما يهدف إليه، فيقول: «الشباب
المسلم الدائر في تيار الحضارة الأوروبية يفقد إسلامه أو على الأقل يفقد القدر
الأكبر من دينه ويحرم نفسه من أهم مبادئ عقيدته، وفي الوقت نفسه: نادراً ما
يتجه هذا الشخص إلى المسيحية ... فالحضارة الأوروبية تقضي على دين دون أن
تستبدل به غيره ... وهكذا فإنه بحرمان نفسه من عقيدته لن يجد رادعاً أخلاقياً،
وفي الوقت نفسه: يحاول تقليد الأوروبي، ولا يترك هذا المصري عقيدته خلف
ظهره فحسب، بل إنه يترفع عنها ويزدريها، وهكذا يندفع مغمض العينين بين
أحضان الحضارة الأوروبية غير مدرك لحقيقة هامة، هي أن ما يراه ليس سوى
المظهر الخارجي لتلك الحضارة، بينما تستقر المعنويات المسيحية تحت هذا
المظهر وتتحكم في تحركاته ... » [10] ! يا لك من لورد خبيث!
«ولكن هل يحيا المصريون هكذا دون عقيدة معينة؟ ... يوضح كرومر أنه
(بمرور الوقت سيخلق المسلمون ديناً لا يقوم على الإسلام الأول، إنه سيقوم على
مبادئ جديدة. وهكذا فإن المصري المتحضر بالحضارة الأوروبية هو الحجر الأول
وليس الأخير في المجتمع الإسلامي المتطور) ، وفي الوقت نفسه ينصح كرومر
رجال السياسة الأوروبية بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعد تحقيراً للعقيدة
الإسلامية (ولندع هؤلاء الذين يقودون دفة الدولة على حذر يدكُّون في مكر الصرح
الروحي للمجتمع الإسلامي؛ فإن ازدراء العقيدة الدينية للشعب بأسره أمر على
جانب كبير من الخطورة سياسياً واجتماعياً) » [11] ، وهذه السياسة تذكرنا بنظرة
نابليون بونابرت إلى مكانة الدين عند المصريين، وبسياسته القائمة على ترويض
الدين ومواجهته باستخدام لقاح من جنسه ضده.
تتفق هذه النظرة مع نظرة (الشيخ) محمد عبده التي عبر عنها بقوله: «أنفس المصريين أُشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعاً فيها؛ فكل من طلب
إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعه فيها،
فلا ينبت، ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك: ما شوهد من أثر
التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم» [12] ، وقد عبر عن هذه
النظرة مرة أخرى عقب عودته من منفاه في نصيحة أسداها ضمن مذكرته المقدمة
إلى اللورد كرومر؛ حيث نبه الإنجليز إلى أهمية الدين عند المصريين، فقال: إن
«أعظم فاعل في نفوسهم [المصريين] (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب
هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه ... » [13] .
وكما التقت النظرة في (المثير المانع) من التغيير، التقت أيضاً في منهجية
هذا التغيير؛ فقد كان من أقوال محمد عبده التي سطرها لتوضيح هذه المنهجية
معترضاً أيضاً على طريقة محمد علي في الإصلاح رغم تقبله لإنجازاتها: « ...
ولو أنه [أي صاحب الفكر الرفيع الذي يريد كمال أمة] أراد تحويل أفكار شخص
واحد وهو في سن الرجولة، هل يمكنه أن يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟
كلا، إن الذي تمكن في العقل أزماناً لا يفارقه إلا في أزمان، فلا بد لصاحب الفكر
أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا
يكون في آن واحد، ولا بعبارة واحدة ... فما ظنك بحال أمة من الأمم ...
وإنما الحكمة: أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم
يطلب بعض تحسينات فيها، لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو
أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم
المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون ... » [14] .
ويبدو أن الإنجليز استفادوا بالفعل من هذه النصائح؛ يقول الدكتور سامي
عزيز: «واتبع الإنجليز الوسيلة التي كان ينادي بها محمد عبده بشأن محاولة
تغيير المجتمع ... » [15] ، فيمكن القول: إن نظرية (الإصلاح) القريب المتدرج
والمتصاعد التي آمن بها محمد عبده اتفقت مع أهداف الإنجليز وطباعهم، وإن كنا
نمسك عن الخوض في الحديث عن إشكالية الدوافع لكلا الفريقين.
ثم بالإلحاح، والإصرار و (التعليم) و (الفن) سينشأ الجيل الجديد، الذي
«يجب أن يجد من الإغراء أو الإرغام ما يجعله يمتص الروح الحقيقية للحضارة
الأوروبية» [16] .
«وهكذا، فإن الاحتلال لن يأتي بشعب جديد إلى مصر؛ ولكنه يعمل في
صبر على تغيير الأسس التي تقوم عليها مقومات الشعب، وفي الوقت نفسه وضع
كرومر نصب عينيه أن يكون دخول المدنية الأوروبية دون زعزعة كيان المجتمع
ثورياًّ» [17] .
لم يكن هذا النهج وجهة نظر آنية، بل كان مخططاً مدروساً أصبح فيما بعد
أساس التغيير العلماني التغريبي في معظم العالم الإسلامي، حتى إن مؤتمر الثقافة
الإسلامية والحياة المعاصرة المنعقد في برنستون عام 1953م (1372هـ) جاء
في كتاب أبحاثه: أن « ... هذه المشاكلة لا تقوم إلا بتقارب القيم الأخلاقية
والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب الإسلامية تعيش على قيم
ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام. فلا بد إذن من أحد حلين:
إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي يستند
إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على مسلك
الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين شيء
ومشاكل الحياة شيء آخر.
وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتبرير القيم الغربية،
ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب. وهذا الطريق الأخير يكشف عن
قوة هائلة لا يغني غَناءَها شيءٌ، إذا أمكن استخدامها كأداة لتحقيق الأهداف
الاستعمارية في إقامة علاقة ثابتة من الود والتفاهم. ذلك هو ما ينبه له جوستاف
فون جرونباوم أستاذ اللغة العربية في جامعة شيكاغو، حيث يقول: (إن الدين
الجديد ويقصد به التأويلات الإسلامية العصرية سيدخل أو يسمح بإدخال أسئلة جديدة
تتطلب أجوبة مناسبة، وسيقترح أجوبة جديدة لأسئلة قديمة، أو يخلع صفة
الشرعية على أجوبة كانت في النظام المعدول عنه تعتبر أسئلة هدامة أو غير
مقبولة) ص 192» [18] .
فالحل الأول هو العلمانية الصريحة، والتي كانت تركيا محلاً لتطبيقها، وقد
تشاركها في هذا الوصف إندونيسيا وتونس وإيران رضا بهلوي، إضافة إلى
تجربة أمان الله خان في أفغانستان، وهي التي أنشأ كرومر كلية فيكتوريا لتفريخ
قادتها، أما الحل الآخر: فهو التوفيقية وما يصاحبها من (إصلاح ديني) ، وهو ما
طبق في مصر على نطاق واسع وكثير من البلدان الإسلامية الأخرى.
لذا: ينبغي لكي نعي مسيرة العلمانية جيداً أن ندرس (التوفيقية)
و (الإصلاح الديني) .
التوفيقية:
كان التوفيق بين القيم الغربية والإسلام واقعاً في النشاط الفكري في هذه
المرحلة، وتعود جذور هذا المنحى إلى رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين
التونسي في تونس، وأحمد خان في الهند، وقد ساهم الأفغاني أيضاً في هذا
المنحنى بنصيب.
وقد أشار الأفغاني إجمالاً إلى طرف من منهجية هذه الحركة التجديدية في
الدين بقوله: «إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره
المخالفة وجب تأويله!» [19] ، وقد يكون بين الاعتماد على حقائق العلم
(التجريبي) والقول بـ (المادية) فارق دقيق يصعب المحافظة عليه والتنبه له،
ولكن التوفيقية في المرحلة التي نتحدث عنها أخذت بعداً أكبر وأثراً أعمق من ذي
قبل.
وفي المرحلة التي نحن بصددها رأينا أكثر من اسم لامع، ومن هذه الأسماء:
الشيخ اللبناني المولد الأزهري التعلم حسين الجسر (1845م 1909م/ 1261هـ
1327هـ) الذي «أسس (المدرسة الإسلامية الوطنية) في مسقط رأسه طرابلس،
وكان منهج هذه المدرسة يشتمل على تعليم اللغات العربية والفرنسية والتركية،
والعلوم الدينية، والمنطق، والرياضيات، والعلوم الطبيعية الأوروبية
الحديثة» [20] ، ومن جهود الشيخ في هذا المجال كتابه (الرسالة المحمدية في
حقيقة الديانة الإسلامية وحقيَّة الشريعة المحمدية) حيث نحا في بعض أبحاثه
هذا المنحى التوفيقي، ف «طريقة معالجته لشخصية محمد [صلى الله عليه
وسلم] وتعاليمه يمكن اعتبارها نهجاً جديداً وبالأخص إلحاحه على حق العقل في
تفسير القرآن والحديث؛ فهو يدعو إلى تفسيرها حرفياًّ ما لم يتعارض هذا
التفسير الحرفي صراحة مع أحد المبادئ العقلية، عندئذ يجب تفسيرها رمزياًّ؛ إذ لا
يجوز قبول أي تفسير يتناقض والدليل العقلي القاطع، عندئذ يجب تفسيرها
رمزياً» [21] .
وفي الشام أيضاً نشط عبد الرحمن الكواكبي في بداية حياته قبل أن يواصل
هذا النشاط في مصر، وقد كان «ينتمي إلى مدرسة الأفغاني ... التي كانت تفكر
في المسائل الطارئة بعقل عصري، فتتدارسها في ضوء العلم والعقل النظري، ثم
تنقلها إلى الدين وتربط بينهما برباط قوي متين ... لذلك فإن آراء الكواكبي في
الإصلاح الديني لا تخرج في جملتها عن آراء الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ
رشيد رضا ... » [22] ، ويشير بعض الكتاب إلى احتمال تأثر الكواكبي بكتاب
(مستقبل الإسلام) لبلنت، كما يشيرون إلى وجود دلائل قوية لاقتباسه إطار وبعض
أفكار كتابه عن الاستبداد من كتاب (رسالة في الاستبداد) للمفكر الإيطالي في
عصر الثورة الفرنسية فيكتور ألفياري [23] ، ومن ثم: فقد ربط الكواكبي متابعاً
ألفياري بين الاستبداد والدين، زاعماً أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد
في الدين أو مساير له، وإن نفى الكواكبي ذلك عن الإسلام الحقيقي [24] .
ولم يقف تأثر الكواكبي بالفكر الغربي عند حد الاقتباس، بل سعى إلى حركة
توفيقية إصلاحية شاملة في الإسلام؛ إذ «يبدو من كلام الكواكبي [في كتابه أم
القرى] على لسان المندوب الإنجليزي أنه يهدف إلى تكوين جماعة من المسلمين
تنزع في تفكيرها منزع البروتستانت في تفكيرهم» [25] ، ومن هنا لم يجئ طرحه
لمبدأ العلمانية في فصل الدين عن الدولة من زاوية إلحادية كما طرحه شبلي الشميل
مثلاً، بل جاء طرحاً مناسباً لـ (عالم ديني كبير) [26] ، فكانت من أقواله مخاطباً
العرب غير المسلمين: «.. دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا ... دعونا ندبر حياتنا
الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط! دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا
وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن..» [27] .
وفي تونس كانت مدرسة (الصادقية) التي كان خير الدين التونسي أسسها
عام 1875م (1292هـ) لتكون منافسة لجامع الزيتونة ولتعليم اللغات التركية
والفرنسية والإيطالية والعلوم الحديثة، فضلاً عن اللغة العربية، وعلوم الدين
الإسلامي.. كانت قد خرَّجت أجيالاً من الطلاب مزودين بتربية عصرية [28] ،
وإضافة إلى مجموعة جريدة (الحاضرة) التي تأسست في أغسطس 1881م
(1298هـ) واستمرت حتى عام 1906م (1324هـ) متخذة أفكار خير الدين
التونسي نبراساً لها، إضافة إلى ما تركته من أثر ثقافي وسياسي في البلاد..
أنشئت عام 1896م (1314هـ) بدعم أو حتى بمبادرة من السلطات الفرنسية [29]
« (الخلدونية) ، وهي رابطة توخت إطلاع الذين تربوا تربية تقليدية في المدارس
القرآنية وفي جامع الزيتونة على العلوم العصرية» [30] ، يعبر عن ذلك المنهج
أحد إصلاحييها هو سالم بوحاجب في كلمة افتتاحها معتبراً «أن العلم نفسه كان
سبب استخلاف الله لآدم وبنيه» [31] .
ولكن التوفيقية ارتبطت باسم آخر كان له أكبر الأثر في التنظير لها والمنافحة
عنها ثم نشرها في العالم الإسلامي، ألا وهو الشيخ محمد عبده؛ فلقد تزعم محمد
عبده اتجاه التوفيق بين الإسلام والغرب وما تبعه من الإصلاح الديني، وهو الاتجاه
الذي نادى أصحابه بأن الإسلام هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح،
ولكنهم فسروا نصوصه تفسيراً جديدًا يقبل معه كثيراً من أساليب الحياة والتفكير
الوافدة من الغرب، وعملوا على تقريب الإسلام من الحضارة الغربية والتفكير
الغربي الحديث [32] .
اضطلعت المدرسة التوفيقية وعلى رأسها محمد عبده بمهمة ذات شقين: أولاً
إعادة تحديد ماهية الإسلام الحقيقي من وجهة نظرهم، ثانياً: النظر في مقتضيات
هذا الإسلام بالنسبة إلى المجتمع الحديث [33] ، ومن هذا المنطلق نظر محمد عبده
إلى التغييرات الاجتماعية التي أحدثها في عهده الخديوي إسماعيل متابعاً جده محمد
علي باشا، فلم يأسف لهذه التغييرات وما أحدثته في القوانين والتعليم، بل رأى أن
هذا التطور في خطوطه العريضة لا مرد له، وأنه في صالح مصر [34] ، ولكن في
الوقت نفسه كان يشغله خطر انقسام المجتمع إلى دائرتين منفصلتين بدون اتصال
حقيقي بينهما: دائرة تسودها شرائع الإسلام ومبادئه الخلقية، وهي دائرة آخذة في
الانحسار في ذلك الوقت، والدائرة الأخرى في اتساع مضطرد، وهي الدائرة التي
قامت على المبادئ المستمدة بالاستنباط العقلي من اعتبارات المصالح الدنيوية [35] ،
ومن ثم: عمل عبده وخاصة في آخر أيامه على رتق هذا الانقسام مع عدم إيقاف
مجرى هذا التطور الذي بدأه محمد علي، «بل الاعتراف بالحاجة إلى التغيير،
وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك بإثبات أن هذا التغيير الحاصل ليس مما
يجيزه الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا فهم على
حقيقته» [36] ، وينبغي علينا وضع خط أسفل (حقيقته) .
وعلى خطى الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني سار محمد عبده،
فكانت رؤوس الموضوعات هي نفسها: الوطنية الإقليمية، والعناية بالتاريخ القديم
السابق على الإسلام الدعوة إلى الحرية وإلى الحياة النيابية الدعوة إلى إعادة
النظر في وضع المرأة في المجتمع: في الحجاب، والحد من تعدد الزوجات،
والحد من حرية الطلاق [37] ... ولكن تلك المفاهيم أخذت بعداً أعمق على يد
محمد عبده ومدرسته من بعده؛ فما قدمه رفاعة في ميدان التجديد كان بمثابة
البراعم التي تفتحت على يد محمد عبده ومدرسته [38] ، وعلى الخطى نفسها سار
محمد عبده في المنهج الذي اختطه (الرواد) «في التوحيد بين بعض المفاهيم
التقليدية للفكر الإسلامي وبين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة، وعلى هذا
النهج انقلبت (المصلحة) تدريجياً إلى المنفعة، و (الشورى) إلى الديمقراطية
البرلمانية، و (الإجماع) إلى الرأي العام، وأصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن..
ولا شك أنه كان من السهل باتباع هذا النهج تحوير إن لم نقل إبطال المعنى الدقيق
للمفاهيم الإسلامية وتناسي ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان، لا، بل عن
النظرة الإنسانية اللادينية، وهذا ما تنبه له بقلق نقاده المحافظون..» [39] .
وهكذا ولد الإصلاح الديني من رحم (المدرسة التوفيقية) ؛ فعلى أسس
التوفيق بين الإسلام والغرب تحددت معالم (الإصلاح) ، وذلك بتضييق نطاق
الثابت (الجوهري) في الإسلام الذي لا يقبل التعديل (الاجتهاد) ، وهو
الاعتقادات والعبادات (رغم أنها لم تسلم أيضاً من اجتهاداتهم) ، وتوسيع نطاق
المتغير (العرضي) الذي سيتماس مع أوجه الحياة؛ لأنه يشمل (المعاملات) ، أو
بتعبير الدكتور عزيز العظمة: تضييق مجال الدين وتوسيع نطاق الدنيا [40] .
ولكن المدرسة الإصلاحية إذا تعاملت مع هذه الدائرة الأخيرة بالنظرة الفقهية
القديمة نفسها لا تكون قد حققت الغرض المرجو، لذا: كان لا بد من تحييد التراث
الفقهي، ولا يتم ذلك إلا بمحاربة التقليد، ثم الدعوة إلى الاجتهاد في هذه المسائل
من جديد.. «لقد كان [الأفغاني] يؤمن بالأصول ويترك لعقله الحرية في الفروع،
ويصل في ذلك إلى نتائج غريبة عن أذهان الجامدين المتزمتين، فيرمى بالإلحاد،
فكان ينفر من التقليد ويدعو إلى الاجتهاد» [41] ؛ فمن ثوابت دعوة الأفغاني «أن
باب الاجتهاد لم يغلق، وأنه لمن حق الناس (!) لا، بل من واجبهم أن يطبقوا
مبادئ (!) القرآن مجدداً على قضايا زمانهم، وإذا امتنعوا عن القيام بهذا وقعوا
في الجمود والتقليد اللذين لا يقلان عداوة عن الدهرية؛ فمحاكاة أقوال الآخرين
وأفعالهم تفسد الدين والعقل معاً» [42] .
وبـ (تحرير) العقيدة من قيد التقليد أهدت حركة الإصلاح طوق النجاة إلى
حركة التحرر العلمانية، أو كما يقول المستشرق جب: «.. كان [محمد عبده]
يرفض قبول مبدأ السلطة، أو التقليد بلا مناقشة كما يقال في الإسلام، وكان هذا
الرأي بمثابة خشبة إنقاذ للنزعة العلمانية الجديدة» [43] .
وبـ (تحرير) الفقه من القيد نفسه (التقليد) وصلت المدرسة الإصلاحية
إلى فتح باب الاجتهاد؛ «لكي يتسنى للعالِم أن يؤول التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً
يتلاءم مع روح العصر» [44] ، وعلى هذا نستطيع فهم الهدف من دعوة هذه
المدرسة إلى الرجوع إلى السلف الصالح في بعض جوانبها على أنه: «النفوذ إلى
ما وراء النظم الفقهية المتحجرة كما تبدو في المذاهب الأربعة وفتح باب الاجتهاد،
لكي يتمكن العالم من تأويل التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً حراً» [45] .
ثم تمخض عن فتح باب الاجتهاد على يد هذه المدرسة دعوة عريضة إلى
إعادة تفسير الشريعة كلها، فبعد أن كانت الدعوة إلى الاجتهاد التي أطلقها
(الإصلاحيون) الأوائل كالطهطاوي والتونسي مقتصدة غاية الاقتصاد تدعو إليه في
أضيق الحدود ... «أصبحت من بعد على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد
رضا دعوة عامة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله
دون قيد، فانفتح الباب على مصراعيه للقادرين ولغير القادرين، ولأصحاب الورع
ولأصحاب الأهواء» [46] ، ولم تتضح ضوابط شرعية واضحة أو حدوداً قصوى
لهذه الدعوة عند المدرسة الإصلاحية، بل كان الهدف الثابت هو الوصول إلى
التوفيق الذي مر إيضاحه، «فما نفتقر إليه اليوم إنما هو إعادة تفسير الشريعة
لنتمكن من اقتباس ما كان صالحاً من الأخلاق الأوروبية، كإلغاء الرق مثلاً، ومنح
المساواة أمام القانون للمسيحيين القاطنين البلاد الإسلامية» [47] .
ولكن كيف سيكون الاجتهاد خادماً لذلك التوجه؟ سيكون ذلك من خلال قاعدة
يقوم عليها وأصول تنبثق منها، أما القاعدة فهي: «أن العقل يجب أن يحكَّم كما
يحكَّم الدين، فالدين عرف بالعقل، ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً
حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدنية الجديدة، ونقتبس منها ما
يفيدنا» [48] ، أما أهم الأصول التي تستخدم في هذا الاجتهاد فنستطيع القول إنها
تتمثل في:
1- التوافق مع العقل والعلوم الحديثة، وقد مر بنا سابقاً ما يغني عن تكرار
الحديث عن هذا الأصل.
2 - تضييق نطاق النصوص الشرعية بالتشكيك في حجية أحاديث الآحاد،
وتحييد النصوص القرآنية ظنية الدلالة، ثم تأويل ما تبقى من هذه النصوص إذا بدا
(للمجتهد من هذه المدرسة) أن ظاهره مخالف للعقل كما يتصوره، أو للعلوم
العقلية في تطورها الآني.
فإذا حوصرت الشريعة في هذا (الحيز الكمي) المحدود فإن ما يتبقى منها
على زعمهم هو مبادئ واعتبارات وفضائل عامة تشترك فيها مع الإسلام جميع
الأديان والمذاهب المنسوبة إلى السماء أو إلى الأرض، وبذا تتلاشى الفواصل بين
الإسلام وغيره، وتذوب معالمه في فضائل إنسانية عامة، يقول الدكتور العظمة:
«ولا يخبرنا الإصلاحيون: بأي اعتبار كانت هذه الأمور العامة شرعية إسلامية؟
وما الذي يميزها عن الأصول العامة لجل مجتمعات الدنيا، وأسسها الأخلاقية
والقانونية؟» [49] .
أما إذا تعارض ظاهر نص مع هذا المنحى فإن المدرسة الإصلاحية تلجأ إلى
التأويل (التفسير الرمزي) حتى تتفق مع المعطيات الجديدة.
فبالتأويل يصبح النص مرناً وفضفاضاً يمكن تشكيله حسب الحاجة، وتصبح
الوقائع المحددة التي وردت في النص مجرد تمثيل لأخذ العبرة والحكمة: «إن
النقطة المبدئية التي يؤكدها هذا الموقف [تفسير محمد عبده لعموم طوفان نوح عليه
السلام أو عدمه] هي إمكانية الانصراف إلى التأويل بل ضرورته إذا قطع بأن
الظاهر (غير مراد) : ينسب بذلك مراد العصر إلى عصر النص، أي: إن تأكيد
سلطة النص القطعية يجري بإضفاء معنى اليوم عليها مما لا يناسبها بالطبع،
فيصبح اليقين والنص صنوين ... » [50] .
وهكذا «أصبح النص القرآني وخصوصاً آياته الدالة على الأمور الكونية لا
يفهم إلا على أن بعض مفرداته قائمة على شيفرة، مفتاحها المعارف العلمية
الحديثة» [51] .
3 - أما في المسائل الفقهية: فقد عمدت المدرسة الإصلاحية إلى التوسع في
استخدام بعض الأصول والقواعد الفقهية التي تلبي حاجتها (التجديدية) ، كنظرية
العرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والمقاصد الشرعية، مع التلفيق بين
المذاهب الفقهية وإعادة إبراز الآراء الفقهية الشاذة إن لزم الأمر، للوصول للفتوى
التي تطمئن لها عقولهم.
يقول ألبرت حوراني: «فعلى المسلمين اليوم في نظر محمد عبده أن يقوموا
بما كان عليهم القيام به دوماً: إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقاً لمتطلبات الحياة
الحديثة، ولبلوغ هذه الغاية لا بد من الاهتداء بمبدأين سلم بهما الفقهاء وأعطاهما
محمد عبده بعداً جديداً: الأول: مبدأ المصلحة ... كان هذا المبدأ تقليديّاً بمثابة
قاعدة لتأويل النصوص.. فيختار [الفقيه] التأويل الذي يحقق هذه الغاية، أما محمد
عبده وأتباعه فقد جعلوا من المصلحة قاعدة لاستنباط شرائع خاصة من المبادئ
العامة للخلقية الاجتماعية؛ فالله لم ينزل في رأيهم سوى مبادئ عامة، تاركاً للعقل
أمر تطبيقها على قضايا المجتمع الخاصة، وبما أن هذه القضايا تتغير توجَّب تغيير
تطبيق المبادئ عليها.. أما المبدأ الثاني: فهو مبدأ التلفيق ... فدعا، لا إلى
الاستعانة بالمذاهب الأخرى في مسائل معينة فحسب، بل إلى مقارنة علمية بين
المذاهب الأربعة أيضاً ناهيك بأحكام الفقهاء المستقلين الذين لم يقبلوا أياً منها بغية
وضع (مذهب موحد) يؤلف بين العناصر الصالحة في كل منها، وقد تمكن
بوصفه مفتي مصر من وضع هذه الدعوة موضع التنفيذ» [52] ، وكانت المصلحة
هي الأصل عند تلميذه رشيد رضا الذي توسع كما ذكر من قبل في المرونة
(الاجتهادية) أكثر من شيخه، «فالعمل بموجب الحديث الصحيح عند السيد رشيد
رضا أمر واجب إن لم ينافِ المصلحة، وإذا نافى المصلحة فإنه سيعتبر حكماً أنه
معارض الأصول العامة المؤيدة بالكتاب والسنة، ولأن لابد له إذن إلا أن يكون من
أحاديث الآحاد التي لا تفيد إلا الظن دون اليقين أو الإلزام، فترفض بذلك الأحاديث
لاعتبارات نفعية دون الإلماع إلى نواقصها التاريخية [علم الجرح والتعديل] » [53] .
4 - ومن الملحوظات في أسلوب عرض أصحاب المدرسة الإصلاحية
لآرائهم: الجزم واليقين عندما تكون هذه الآراء متسقة مع منهجهم الجامع بين
الإسلام والمعطيات العقلية والعلمية الحديثة وعندما يكون إمرارها بين الناس محتملاً
أما عندما يختل نظم هذا المنهج أو يصعب إمرار الرأي الذي خرجت به فإن
التشكيك، أو التفويض و (اللاأدرية) ، أو العرض في صورة المحتملات أو
الحكاية.. هو الأسلوب المناسب.
وهكذا عمدت المدرسة الإصلاحية إلى إيجاد منظومة من الآراء الجديدة (الفكرية والفقهية) تشمل مجالات الحياة المختلفة، تتسق مع مفاهيمهم العقلية
ومعطيات الحياة الغربية، لتشغل الفراغ الكبير في الساحة الفكرية الموجود
آنذاك [54] ، محاولة رتق الشِّق البادي في توجهات المجتمع.
فاجتهادات المدرسة الإصلاحية لم تقف عند حد التوفيق بين الإسلام والأفكار
الغربية في المسائل الحياتية المرتبطة بالشريعة (أو الفقه) ، ولكنها تجاوزتها إلى
(التصورات) و (الغيبيات) ، لتربط بينها وبين (العقل) ، وهي في هذا المجال
قاربت أن تنزلق من (العقلانية) إلى (المادية) ، فحرصت ما أمكنها على أن
يكون كل تصور مفسراً بالعقل، وأن ترد معظم الغيبيات إلى أصل مادي أو
تجريبي، وإلا أوَّلوها تأويلاً أقرب إلى نفيها.
وقد كان هذا المنهج أقرب إلى مخطط الغرب الخبيث لإدخال العلمانية
والتغريب إلى العالم الإسلامي بدون إثارة، «.. فإن دخول عناصر جديدة على
الحياة الإسلامية كان يقتضي إبراز بعض تعليمات الدين، وتوجيه عناية أكبر
إليها، ووضعَها في المكان الأول، ووضعَ تعليمات أخرى في مرتبة غير أساسية.
وإذا حدث هذا، فمعناه أن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة
في التحول، وأن هذا التحول يتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق
التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية.
ويقرر جيب أن في كل البلاد الإسلامية ... حركات معينة تختلف قوة واتساعًا
ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها، ثم يقول: وقد اتجهت مدرسة محمد
عبده بكل فروعها وشُعَبها نحو تحقيق هذا الهدف، بل لقد ظهر كثير من العلماء
المستقلين الذين نادوا بآراء أكثر تقدماً وجرأة، لا سيما في الهند. ولكن الواقع هو
أن معظم ما تم من تعديل وتحوير خفي لا يبدو للنظرة السطحية» [55] .
ويقول بولسون نيومان « ... فإذا أمكن للمبادئ الإسلامية أن تتطور مع
الزمن المتطور، بدلاً من الارتباط بعالم خيالي لا يسمح للتطور الزمني أن يتطرق
إليه ... عند ذلك: سوف تصبح يقظة الشرق حقيقة واقعة، وليست أضغاث أحلام،
وعند ذلك سوف يتحرر ملايين البشر من هذه العقائد الأثرية الشيباء ليأخذوا
مكانهم بين الحركات الحديثة» [56] .
لذا: فقد لاقت فكرة الإصلاح الديني أو الاجتماعي «هوى في نفس كرومر؛
لأنها الفكرة التي تشغل بال الرأي العام المصري عن المطالبة بالاستقلال أو الجلاء،
أو لأنها الفكرة التي لو نجحت في مهمتها (!) لأصبحت دليلاً على نجاح
الاحتلال البريطاني في مهمته، وهذه المهمة في ظاهرها هي الأخذ بيد المصريين
إلى الحضارة والسير بهم إلى حيث يلحقون بالأمم الأخرى» [57] .
من التوفيق إلى التقريب:
لم تقف جهود المدرسة الإصلاحية عند حدود توفيق الإسلام (عقيدة وشريعة)
مع الفكر الغربي وإذابة الفوارق والفواصل بينهما، بل سعى بعض رموز هذه
المدرسة إلى (التقريب) بين الإسلام والأديان الأخرى.
فمحمد عبده يقول: «إن القرآن وهو منبع الدين يقارب بين المسلمين وأهل
الكتاب حتى يظن المتأمل فيه منهم أنهم لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام
قليلة» [58] .
ولقد أخذ هذا الفهم النظري شكل السعي العملي؛ فها نحن نجده بعد إغلاق
صحيفة العروة الوثقى وعودته من باريس إلى بيروت يؤسس (جمعية التأليف
والتقريب بين الأديان السماوية) ، وشاركه فيها آخرون من المسلمين والنصارى
واليهود، من أبرزهم القس الإنجليزي إسحاق تايلور المعروف بالدعوة إلى ذلك،
وجي دبليو لينتز، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، وكان محمد
عبده صاحب الرأي الأول في إنشائها ونظامها، أما هدف الجمعية فكان: التقريب
بين الأديان السماوية الثلاثة، وإزالة الشقاق بين أهلها، وإحلال التعاون بدل الفرقة
والخصام [59] .
مكمن الخطر في المدرسة الإصلاحية:
إننا لا نستطيع الآن وقد ماتت أنفس لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وطمرت
أحداث لا نستطيع جلاءها أن نصدر حكمًا بالإدانة، أو البراءة على المدرسة
الإصلاحية، وليس هذا من أهدافنا أصلاً، فهدفنا رصد الخطوات والمؤثرات
والوقائع التي أدت إلى العلمنة والتغريب الذي تحياه معظم مجتمعاتنا المعاصرة
بدرجات متفاوتة.
قد يكون في أتباع هذه المدرسة مخلصون أرادوا في ظل هذه الظروف
الصعبة والمعقدة الدفاع عن الإسلام وإصلاح الواقع الاجتماعي والثقافي والوقوف
دون انهيار إيمان المسلمين أمام المد الإلحادي ... يحتمل! ، وقد يكون فيهم عملاء
مأجورون باعوا أنفسهم للغرب أو انبهروا به إلى حد الذوبان فيه وخدمته تلقائيّاً ...
ربما! ، وقد يكون فيهم من تمثل فيه هذا الوصف وذاك ... ليس بمستبعد!
ولكننا على العموم لا نستطيع أن ننظر بعين واحدة هي التي تنشط في دراسة
كهذه عند تقييم هذه المدرسة؛ فقد كان لها بالفعل آثار ملموسة في نبذ الخرافات
وكسر الجمود الفقهي وإعادة تشكيل الفكر الإسلامي، وفي الوقت نفسه: فإننا لا
نستطيع تجاهل الانحرافات العقدية والعلمية والعملية التي وقعت فيها هذه المدرسة،
وأيضاً لا نملك علميّاً وأدبيّاً حق التغاضي عن الدور الذي قامت به والأثر الملموس
الذي أحدثه روادها قصدوا، أو لم يقصدوا في تقريب العلمانية والتغريب إلى
المجتمعات الإسلامية.
لم يكن مستغرباً أن يتفق الإسلام مع العقل، ولم تكمن خطورة المدرسة
الإصلاحية في انفتاحها على الفكر الغربي ونهلها من نتاجه، إنما تمثل مكمن
الخطورة في المدرسة الإصلاحية في عدة أمور، منها:
أولاً: أن تفسير الدين ونصوصه بالعقل المحض الذي وصل إلى حد أن يكون
ذلك قاعدة الاستدلال الأساس، والذي انبنى عليه تأويل النصوص بحسب معطيات
العلم التجريبي الغربي المعاصر.. كان ذلك بمثابة محاولة لإخضاع علم الله وقدرته
المطلقين وغير المحدودين لإدراك العقل الإنساني وتصوراته ومعارفه وتجاربه التي
تتسم بالقصور والمحدودية والنسبية، ليس بالنسبة لعلم الله وقدرته فقط، بل بالنسبة
للعقل الإنساني نفسه الذي تختلف قدراته من شخص إلى آخر، وتختلف تجاربه
ومكتسباته العلمية من عصر إلى آخر، كما أنه ليس في الوجود البشري عقل مطلق
ومجرد نستطيع القياس عليه واتخاذه حَكَماً يرجع إليه البشر في تصوراتهم وأفكارهم
ومناهجهم وأخلاقهم.
فهم بهذا التوسع يعملون على تفسير المطلق وغير المحدود بالنسبي والمحدود،
وفي ذلك ما فيه من مخالفة العقل نفسه، إضافة إلى خطورته على توحيد الله
والإيمان به.
ثانياً: أن محاولة إخضاع الغيبيات والخوارق المذكورة في الكتاب والسنة
للتفسير المادي أو التجريبي ... فيه نوع من اختزال الإيمان بالغيب لحساب عالم
الشهادة؛ فإنه عندما يؤمن المسلم بتفسير غيبية أو خارقة بناءً على مشاهداته
المحسوسة أو المتصورة التي قد تتكرر أو تفتعل بإرادة المخلوقين أو سيطرتهم..
فإنه لا يؤمن حينئذ بغيب، بل يؤمن بمشاهد أو مشهود، وهكذا: كلما فسرنا غيبية
بهذا التفسير نقلناها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وفي النهاية يتقلص الإيمان
بالغيب ويتمدد الإيمان بالشهادة، وهذه نقلة نحو المادية وابتعاد عن الدين الذي تقوم
قاعدته الكبرى على الإيمان بالغيب: [ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (البقرة: 2-3) .
ثالثاً: إذا كان القرآن، وكذلك السنة، لم يأتيا إلا بمبادئ وحدود عامة في
التشريع بحسب اجتهادت المدرسة الإصلاحية، وإذا فسرت الغيبيات والمعجزات
التي ذكراها تفسيراً مادياً يمكن أن يحدث لأي أحد، وإذا كان ما ورد فيها من ذكر
للأحداث والأسماء التاريخية ليس لذكر حقائق تاريخية بل فقط للاعتبار والتذكر،
وإذا كان الأمر نفسه بالنسبة لـ (إشارات القرآن) في الفلك والاقتصاد.. وإذا
أهدرت أحاديث الآحاد ومعظم السنة أحاديث آحاد ثم أوِّل ما تبقى منها أو حيد عنها
بدعوى تحقيق المصلحة وموافقة المقاصد ... فضلاً عن إهدار التراث الفكري الذي
خرج من هذين المصدرين، وإذا كانت (الشريعة) يمكن التلاعب بها إلى الحد
الذي رأينا في فتاوى هذه المدرسة ... فماذا يتبقى من الإسلام إذن؟
إن المدرسة الإصلاحية باتباعها ذلك المنهج تكون قد قامت بعملية الإخلاء
اللازمة لاحتلال الفكر الغربي قواعد الفكر الإسلامي.
رابعاً: كان من أثر روح الهزيمة النفسية التي سادت المدرسة الإصلاحية
والتداعيات التي تمخضت عنها، والتفاعلات المستمرة مع أصحاب اتجاه العلمانية
الصريحة ... أن الإصلاحية لم تستطع الصمود أمام الهجوم العلماني والإلحادي
المادي؛ فلقد «كانت قوة التحدي الأوروبي الحضاري والسياسي أعظم من أن
تصمد لها توفيقية محمد عبده ومعادلته التي حاولت بعد أزمان من التنافر والعداء
الجمع بين الإسلام والغرب في صيغة تصالحية واحدة ... » [60] ، فكانت النتيجة
تقهقر هذه المدرسة وتراجعها عن مواقعها شيئاً فشيئاً أمام اتجاه العلمانية الصريحة،
متوسعة في منهجها التوفيقي الاعتذاري، وتطبيقاته على أوجه الحياة.
خامسًا: نتج عن هذا التقهقر وذلك الإخلاء للمواقع أنَّ العلمانيين وجدوا في
أدبيات المدرسة التوفيقية الإصلاحية أدوات ومسوغات يغزون بها المجتمعات
الإسلامية على نطاق واسع، كما أن شهيتهم ازدادت شراهة لعرض أفكارهم، وفي
الوقت نفسه: أصبح منهج المدرسة الإصلاحية وسيطاً مناسباً لحمل هذه الأفكار
الغربية، أو كما يقول ألبرت حوراني عن رائد هذه المدرسة (محمد عبده) : «لقد
نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسراً تعبر العلمانية عليه،
لتحتل المواقع واحداً بعد الآخر، وليس من المصادفة كما سنرى أن يستخدم
معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة» [61] ، ويقول شيخ
الإسلام بالدولة العثمانية مصطفى صبري: «فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين
أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفين زعيمي البروتستانت في المسيحية، فلم
يتسن لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على
مساعدة الإلحاد المقنَّع بالنهوض والتجديد ... » [62] .
سادساً: ومثلما ساهمت المدرسة الإصلاحية على إسقاط الحاجز الفكري بين
الإسلام والغرب بتقريب الفكر الغربي إلى المجتمعات الإسلامية ساعدت على إسقاط
الحاجز النفسي لدى النخبة المثقفة لقبول العلمانية والتغريب، فـ «عند أولئك الذين
تعلموا في المدارس الحديثة كانت جاذبية وجهة نظر الإمام محمد عبده للإسلام
تكمن في أنها حررتهم لقبول أفكار الغرب الحديثة بلا أدنى إحساس بالتخلي عن
ماضيهم ... » [63] .
سابعاً: تطورت معادلة التوفيقية الإصلاحية على يد تلاميذ محمد عبده من
القول: «إن المدنية الحقيقية تتوافق مع الإسلام» إلى القول: «إن الإسلام
الحقيقي يتوافق مع ما تأتي به المدنية» [64] ، أو بمعنى آخر: من شرح الحضارة
(العمران) والأفكار الغربية بما يوافق الإسلام (الحقيقي) ، إلى تطويع الإسلام
وإعادة تفسيره لحمله على موافقة الحضارة (العمران) والعقل الغربي، والحقيقة
أن هذا التطور في تلك المعادلة كان قد بدأ على يد محمد عبده نفسه، ولكن تلامذته
خاضوا فيه بصورة أوضح.
كما انهارت الموازنة بين قيم الإسلام وتصوراته وبين أفكار الغرب وعلومه،
وهي الموازنة التي كان يحرص عليها إجمالاً محمد عبده، وافترقت خطى مدرسته
من بعده، فمال رشيد رضا بفكره إلى سلفية أكثر، بينما اتجه سعد زغلول وأحمد
لطفي السيد وقاسم أمين وعلي عبد الرازق ... وغيرهم، إلى شبه قبول مطلق
للفكر الغربي، مطالبين بعلمانية متشبهة بالغرب وبفصل الدين عن الدولة [65] .
وعليه: نستطيع القول: إن المدرسة الإصلاحية بعد توظيف الغرب لها خدمة
لأهدافه عادت من حيث بدأت: إسلاماً يواجه الفكر الغربي، وتغريباً وعلمانية
يحاصران الإسلام ويعملان على إقصائه من واقع الحياة.
ثامناً: رسخت المدرسة الإصلاحية استمرار النهج التلفيقي المخادع الذي بدأه
الطهطاوي والتونسي، القائم على تلبيس الحق بالباطل وتخليط الصواب بالخطأ،
والذي كان مقتضاه تقديم التغريب والعلمانية على طبق من الدين، وهذا الأسلوب
في تقديم العلمانية والتغريب باسم الإسلام في هذه المرحلة المبكرة هو ما تمناه
المستشرق القسيس المنصر (زويمر) عندما قال هو وزملاؤه: «تبشير المسلمين
يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن
يقطعها أحد أعضائها» [66] ، وقريب منه ما ذكره (الشيخ) محمد عبده في رسالة
مريبة منه بخط يده إلى أستاذه جمال الدين الأفغاني عام 1300 هـ (1883م) بعد
مناظرة الأخير الشهيرة مع رينان: «نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس
الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً..» [67] ،
وهذا ما عبر عنه أحد المفكرين المعاصرين بأن العلمانية دخلت إلى العالم الإسلامي
لابسة عمامة، وهو الأسلوب نفسه الذي يحاول اتباعه الآن (الإصلاحيون) في
إيران وبعض (التنويريين) في بقاع أخرى من العالم الإسلامي، وعكسه ما يحاوله
بعض الإسلاميين في تركيا (إعادة الإسلام لابساً قبعة) .
ويمكن القول إذا لم نتحلَّ بدرجة كبيرة من إحسان الظن بهم: إن
(الإصلاحيين) في ذلك الوقت لم يكن في وسعهم إلا اتباع ذلك الأسلوب المخادع
حتى لا يصطدموا مع عامة الأمة وعلمائها (المتعصبين) .
__________
(*) هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يعده الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في
العالم الإسلامي، وقد آثر جزاه الله خيراً مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب.
-البيان-
(1) Modern Egypt، ج 2، ص 132 133 نقلاً عن د سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300، وانظر أيضاً: ص 226.
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 2، ص 215، وانظر: وجهة الإسلام، ص 40.
(3) السابق، ج 2، ص 214، وانظر: وجهة الإسلام، ص 69، وما بعدها.
(4) وبالفعل يكاد ألا يخلو قطر عربي ممن تربى فيها وتخرج منها ثم تسنم في بلاده مناصب سياسية أو اجتماعية أو ثقافية وتربوية أو إعلامية رفيعة، مما مكنهم من التأثير في تلك البلاد، حتى إن هذه الكلية (وهي مدرسة من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية) التي أصبح لها فروع عديدة تفخر بذلك وبأنها يطلق عليها اسم: (مدرسة المشاهير) .
(5) الإسلام والحضارة الغربية، ص 45 - 46.
(6) د سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300.
(7) Modern Egypt، ج 2، ص 228، 231، نقلاً عن: د سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300.
(8) د سامي عزيز، المصدر السابق.
(9) Cromer Lord، ص 89، نقلاً عن: الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 226.
(10) Modern Egypt، ج 2، ص 228 231، نقلاً عن: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 301.
(11) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص302.
(12) تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، لمحمد رشيد رضا، ج 2، ص 537.
(13) السابق، ج 2، ص 536.
(14) مقال خطأ العقلاء، بجريدة (الوقائع المصرية) سنة (1298هـ / 1881م) ، نقلاً عن: تاريخ الأستاذ الإمام..، ج 2، ص 120 121.
(15) الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 224.
(16) Modern Egypt، ج 2، ص 538، نقلاً عن: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 276.
(17) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 225 226.
(18) د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص133 134.
(19) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 114، وانظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني، لمحمد باشا المخزومي، ص 99 104.
(20) الفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، ص 230.
(21) نفسه، وقد كان الشيخ حسين الجسر على صلة وثيقة بمحمد عبده، كما كان أستاذاً لمحمد رشيد رضا، انظر مثلاً: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 404، 998 999.
(22) د. نزيه كبارة، عبد الرحمن الكواكبي، حياته وعصره وآراؤه، ص 108، وانظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 277 278، والعلمانية من منظور مختلف، للدكتور عزيز العظمة، ص 163.
(23) انظر: المصادر السابقة.
(24) انظر: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، للكواكبي، ص 35- 49، وانظر أيضاً: صحوة الرجل المريض، للدكتور موفق بني المرجة، ص 203، وعبد الرحمن الكواكبي..، ص 71 75، والعلمانية من منظور مختلف، ص 163.
(25) د. نزيه كباره، مصدر سابق، ص 105، وانظر: أم القرى، للكواكبي، ص 106
108، ود. أسعد السحمراني، مصدر سابق، ص 65.
(26) انظر: الإمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة، لجان دايه، ص 18.
(27) طبائع الاستبداد..، للكواكبي، ص 122.
(28) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 95، 373، والعلمانية من منظور مختلف، ص 85.
(29) انظر: صحوة الرجل المريض، ص 148، والعلمانية من منظور مختلف، ص 92.
(30) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 369.
(31) العلمانية من منظور مختلف، ص 158.
(32) انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 1، ص 327، 329، 370، والفكر العربي في عصر النهضة، ص 152.
(33) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 149.
(34) انظر: مقال (خطأ العقلاء) لمحمد عبده، المنشور في جريدة الوقائع المصرية (1298هـ / 1881م) ، نقلاً عن: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 119، وقد هاجم محمد عبده فيما بعد محمد علي، عندما اختلف مع أمراء أسرته الحاكمة، حاملاً عليه عدم اهتمامه إلا بما يمس أسرته وجيشه.. ولكن لاحظ في هذا المقام أن الأفغاني كان قد أثنى كذلك على هذه التغييرات ووصف محمد علي بأنه (الرجل العظيم) ، انظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني..، ص 183، ولاحظ أيضاً أن الوصف نفسه لمحمد علي كان قد نعته به اللورد كرومر، مثنياً على محمد علي، ذلك الرجل العظيم، الذي يكفيه من مآثره كونه (بتر) مصر من الدولة العثمانية وجعل لها وجوداً إدارياً مستقلاً، انظر: مصر الحديثة، ص 22، 134.
(35) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 145، 146.
(36) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 148.
(37) انظر: الإسلام والحضارة الغربية، ص 78.
(38) انظر: معالم على طريق تحديث الفكر العربي، د. معن زيادة، ص 201.
(39) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 153.
(40) انظر: العلمانية من منظور مختلف، ص 166.
(41) أحمد أمين، مصدر سابق، ص 113.
(42) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 136، وانظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني..، ص 111 - 112،.
(43) الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 62، وانظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 1، ص 340 341.
(44) ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 246.
(45) السابق، ص 278.
(46) د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 50.
(47) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 163، وانظر: ص 159.
(48) أحمد أمين، مصدر سابق، ص 337.
(49) العلمانية من منظور مختلف، ص 165.
(50) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 171 172، وما بين القوسين من كلام رشيد رضا، وراجع كلام محمد عبده نفسه حول طوفان نوح عليه السلام في: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 666 667.
(51) السابق، ص 172.
(52) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 159 160، وانظر: ص 242، والعلمانية من منظور مختلف، ص 166.
(53) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 168.
(54) إليك نموذجاً للبديل (الفكري) السائد في هذا الوقت في مواجهة العلمانية الصريحة والإلحاد الذي ذكرناه سابقاً، لتعرف مدى الفراغ الذي كان موجوداً في الساحة آنذاك، ومدى (الانبهار) الذي قد يحدث عندما تقدم المدرسة الإصلاحية منهجها وآراءها لملء هذا الفراغ: إذ يروي أحمد شفيق باشا أن شيخ الأزهر انتدب في رمضان سنة 1309هـ (1892م) الشيخ أحمد الرفاعي لإلقاء بعض دروس التفسير بين يدي الخديوي عباس بقصر عابدين، أي: إن الشيخ الرفاعي منتدب من أعلى هيئة علمية دينية في البلاد إلى أعلى سلطة سياسية فيها، يقول أحمد شفيق: « ... وقد ظل الأستاذ عدة أيام يتابع دروسه، وكنت ممن يحضرونها، وكان كثير الإسهاب في إيراد أقوال المفسرين، وإيراد بعض الروايات الغريبة.
وفي ذات يوم تحدث عن [إِرَمَ ذَاتِ العِمَاد] ِ (الفجر: 7) ، فهالنا ما أورده عنها من الروايات الغريبة، ولا سيما القول بأنها مدينة شُيِّدت طوبة من الذهب وأخرى من الفضة، وأنها معلقة بين الأرض والسماء! ، ثم توسع في ذلك وعرض إلى علم الفلك بأسلوب يثير الإشفاق والضحك، فكنا والخديوي نزم شفاهنا حتى لا يغلبنا الضحك الرنان» (مذكراتي في نصف قرن، ج 2، ص 28) ، ولا شك أن أمثال هذه العروض كانت تساعد على دفع أصحاب القرار والمثقفين من أمثال هؤلاء نحو تبني خيار العلمانية والتغريب، ولا شك أيضاً أن من يأتي بعد ذلك وينفي عن الدين هذه الأقوال المضحكة ويقدم تفسيراً للدين فحواه أنه موافق للعلم الحديث لا يخرج عنه، ويحافظ على إيمان الناس بدينهم مع عدم الاصطدام بقناعاتهم العلمية والفكرية.. سيفتن الناس به ويقبلون عليه أياً كانت آراؤه غريبة أو غير مقبولة من الأوساط الدينية (المحافظة) .
(55) د. محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج2، ص213 214 والآراء المذكورة مقتبسة عن كتاب جب: وجهة الإسلام (Whirher Islam) .
(56) بريطانيا العظمى في مصر (Great Britain in Egypt) ، ص165، نقلاً عن: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 2، ص307 308.
(57) عبد اللطيف حمزة، الصحافة والأدب في مصر، ص123 124، نقلاً عن: الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 307، وانظر: الإسلام والحضارة الغربية، ص 77.
(58) تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 538.
(59) انظر: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص817 829.
(60) د. محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 17.
(61) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 153، وانظر: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، لهاملتون جب، ص 70، والإسلام والحضارة الغربية، ص 78.
(62) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج 2، ص 144.
(63) ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ج 2، ص 145، وانظر: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 70.
(64) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 170، وتحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 9، 19.
(65) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 171، 172، 153، ومعالم على طريق تحديث الفكر العربي، ص 231، وتحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 19، والاتجاهات السياسية في العالم العربي، ص 78.
(66) الغارة على العالم الإسلامي، لخصها ونقلها إلى العربية، محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ص 80.
(67) محمد عبده، سلسلة الأعمال المجهولة، لعلي شلش، ص 53، وانظر: العلمانية من منظور مختلف، ص 179، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، لفهد بن عبد الرحمن الرومي، ص 161، وانظر صورة الرسالة بخط محمد عبده، ص 162، 163، من الكتاب الأخير، وقد حذف رشيد رضا هذا المقطع عند إيراده لرسالة محمد عبده في (تاريخ الأستاذ الإمام) على عادته في حذف ما يرى عدم مناسبة نشره، انظر: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 599.(161/58)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(3 - 3)
الحصاد العلماني في مجال التربية والتعليم
محمد أحمد منصور
إذا كنا بصدد الحديث عن الحصاد العلماني في مجال التعليم فلا يمكن عزل
التعليم اليوم عن بقية أبعاد المخطط العلماني من إعلام، واقتصاد وسياسة، وغير
ذلك.
وإذا كان هذا الحصاد لا يمكن التعبير عنه بدقة من خلال الأسلوب الكمي؛
فإن الأسلوب التوصيفي والتحليلي يمكن أن يتيح لنا نظرة تتسم بالدقة إلى حد بعيد.
وإذا كان واجب ولي الأمر في الإسلام هو حفظ الدين وسياسة الدنيا به؛ فإن
ذلك يقتضي منه تعليم هذا النشء أمور دينهم لتنبثق منهجية تفكيرهم وسلوكهم منه؛
ومن ثَمَّ يتأسس خط الحضارة على هذه المنهجية.
وهذا الواجب لا تسقط تبعته حتى يقيم الكفاءات ويفرغ الطاقات التي تبني
شخصية المسلم من خلال التربية سعياً في إبراز شخصية الأمة من خلال التعليم
بمناحيه المختلفة بكماله وخصوصيته الجامعة المانعة التي تميز بها الإسلام عن
غيره.
من خلال هذا المنظور يمكن أن ندلف إلى قضية التعليم وعلمنته لنرصد
أخطاءه وخطاياه.
المسار.. والمصير:
بدأت قضية العلمانية تطل برأسها وتتسرب رويداً رويداً منذ عادت البعوث
العلمية من فرنسا لإقامة دولة محمد علي العصرية، وقد كانت فرنسا على ما فيها
من ازدهار للفكر العلماني شأنها شأن أوروبا تتحين مثل هذه الفرصة لتغرس غرسها
وتمضي مع الوقت لتحصد النتائج. بلع رفاعة الطهطاوي الطعم وعاد منهزماً نفسياً
ولم يفرق بين النبيذ والإبريز، وقد كان في وسع محمد علي إقامة مثل تلك النهضة
من داخل الأزهر؛ لكنه أراد ولاءً خالصاً له خالياً من أي منازعة فكان ما كان،
وأنشئت المدارس الفنية والابتدائية لتعليم الصنائع وأجريت عليها النفقات، لكن
محمد علي لم يصمد للتجربة التي لم تنجح، وأُغلق كثير من تلك المدارس في عهده،
وجاء عباس الأول فأغلق الباقي، وسار محمد سعيد باشا في نفس الخطى، مما
أوجد فراغاً استغلته المدارس التنصيرية الفرنسية، والبريطانية، والأمريكية
المجانية، والحرة، والدولية، فضلاً عن المدارس اليونانية، والإيطالية،
واليهودية، والأرمنية التي اندفعت لملئه منذ أوائل عهد إسماعيل، وقد كان
التعليم في هذه المدارس يتم وفق نظام البلد الأم وبلغتها، وكان التعليم منصبّاً على
توجيه ولاء الطلاب ناحية الثقافة التي يحملها المعلمون في هذه المدارس.
كما تم إنشاء العديد من المدارس الابتدائية، والثانوية على يد النصارى
المصريين، وكانت تقتصر على تعليم التلاميذ المصريين الصغار!
وكانت المدارس الأجنبية تتلقى العون المالي من الحكومة على عهد الخديوي
إسماعيل الذي كان يهدف إلى خلق نظام تعليمي أجنبي ليستكمل (تغريب) مصر [1]
والذي كان عصره أكثر تأثيراً على الحياة الثقافية، وعلى الشخصية المصرية
حتى الآن، وفي عصره بدا المجتمع المصري مجتمعاً مزدوج الثقافة؛ فكان هناك
من تعلموا في الكتاتيب وتخرجوا من الأزهر، وآخرون تخرجوا من التعليم العام [2]
والأجنبي، ويقف على قمتهم من تعلموا في أوروبا، وكان القطاع الثاني يتسع على
حساب القطاع الأول. يقول لورد سالسبري: «إن هذه المدارس هي أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها، فإنها تخرج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وتفكيرها وتقاليدها فتحدث فيها صدعاً وشقاقاً تنقسم به على نفسها فيقتلها
هون الانقسام بأيديها» [3] .
وكانت مدارس الإرساليات بما تقوم به ترسم الطريق والمناهج؛ حتى إذا جاء
المستعمر فرض هذه المناهج على المدارس الوطنية مع تغيير طفيف [4] .
وحينما جاء الاحتلال البريطاني نجح في تحويل سياسة المستعمر التعليمية في
مصر والهند من: (سياسة تجهيل الشعوب) إلى: (سياسة تضليل الشعوب) من
خلال التعليم المحدود تحت شعار: (عقل بريطاني، ويد مصرية) وذلك ليستفيد
من تلك الشعوب في خدمة سياساته بدلاً من معارضتها وثورتها.
ومن هنا كان مجيء (دنلوب) ليرسم خطته لا كما فعل نابليون؛ بل سلك
طريقاً أطول فأراد أن يكتسب أولاً قلوب الأطفال، وانتظر ثلاثين عاماً يضع في
رؤوس التلاميذ ما يريده، ويمنع عنها ما لا يريده إلى أن تخرَّج في وزارة المعارف
الجيل الأول والجيل الثاني، فلما صارت مقاعد الوزارات وكراسي النيابة والحكم
ممتلئة بالذين رباهم انقلب إلى وطنه واطمأن قلبه إلى أنه صار لأوروبا في كل بيت
مصري من يكمل برنامجه [5] .
وحتى ينجح الدور كان على المستعمر أن يربط مصلحته بمصلحة الطبقة
الغنية المتنفذة، ففرض المصروفات المرتفعة على التعليم الأولي الابتدائي، والتي
يعجز أبناء الفقراء عن تسديدها، وأضيف إلى هذا خطوة أخرى هي إنشاء مدرسة
لتخريج المدرسين على النمط الغربي.
ومن ثم جاء فؤاد جلال، وعبد العزيز القوصي، وإسماعيل القباني، وطه
حسين؛ للسير في نفس المسار.
وذهب دنلوب فعلاً وبقيت روحه تسري وسياساته تحكم نظم التعليم لا في
مصر وحدها [6] بل في أغلب أقطار العالم الإسلامي [7] .
وظل الحال على نحو من ذلك حتى قامت ثورة يوليو 1952م، وجاء جمال
عبد الناصر بمشروعه الذي رفع شعار: (التعليم كالهواء، والماء ينبغي إتاحته
للجميع) .
ولكن الحقيقة أن عبد الناصر أراد أن ينشئ أجيالاً ذات ولاء لثورته عن
طريق التعليم الإلزامي، وفي خط مواز كان لا بد من التخفيف من ثقل الأزهر،
فكان ما عرف بمشروع التطوير في عام 1961م، ولأول مرة في تاريخه أضيفت
للجامع الأزهر تاء التأنيث [8] ، وفرض الميثاق، ورفع الولاء للقومية العربية
والاشتراكية. أما السياسة البريطانية فقد سارت في نفس الخط.
وحين جاء السادات وانقلب على حكم عبد الناصر أراد البحث عن الذات من جديد،
فبدت المناهج مترددة بين الإسلام وبين العروبة حيناً، ثم لم تلبث أن نحت منحى
جديداً رُسم لها إبان الانفتاح وعقد الاستسلام مع إسرائيل؛ حيث ظهرت سياسة
تعليمية جديدة تتواءم مع استراتيجية السلام الأمريكية التي لم تقنع بمجرد تهميش
الإسلام أو تفريغه من محتواه أو حتى اختزاله في بعض الشعائر والآداب، وإنما
الاستبعاد التام لكل ما هو إسلامي من أجل إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وبعد أن
استوعب مخططو السياسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة درس الخمسينيات
والستينيات بحيث استدعى استكمال تصميم ونجاح التغيير الذي حدث على مستوى
القمة الحاكمة بعد الصلح إجراء تغيير مشابه في البيئة الثقافية والتعليمية التحتية بما
يضمن عدم الصدام وبين تصرفات القمة وطموحات الفئات الاجتماعية الأدنى
المحرومة فعلياً من المشاركة في صنع القرار أو التحكم في هذا الصدام من حيث
النوع والمدى، وهو ما توفره سياسات التعليم الأساسي والنمط التعليمي التلقيني
الراهن ثم بتعزيزه يومياً من خلال المؤسسات الإعلامية الجماهيرية.
والفكرة الكامنة وراء ذلك هو أنه كلما تضاءلت مساحة الإدراك المعرفي لدى
الأطفال والنشء والشباب في مراحل التعليم المختلفة بقضايا أمتهم والتحديات
الخارجية التي تواجهها، وتعرضت ذاكرتهم للطمس، وأهيل التراب على القيادات
التاريخية للأمة التي لعبت دوراً مهماً في استنهاض روح التحدي والكبرياء كلما
سهل على الجماعة الحاكمة المرتبطة بدورها بمصالح أمريكا وتوجهاتها اتخاذ
قراراتهم بما يتفق مع تكوينهم الفكري وخريطتهم العقلية وانصياعاً لمصالحهم
الاقتصادية، وانسجاماً مع انتماءاتهم الاجتماعية حتى لو تعارضت هذه القرارات
على المدى البعيد والمتوسط مع مصالح شعوبهم وأوطانهم، وما يجري هنا يجري
هناك في تونس والجزائر والمغرب وغيرها.
ومن هنا تمت أكبر عملية اختراق أمريكي لمجتمع من المجتمعات من خلال
التنشئة الفكرية والعسكرية للقيادات في البرامج التدريبية، وربط مصالح رجال
الأعمال بالمصالح الأمريكية من خلال مراكز البحث المنتشرة سواء منها الأمريكية
الصريحة أو الوطنية التي تعمل بنظام المقاولات؛ مما أحدث خللاً في النظام
الإعلامي والتعليمي والقانوني، وانعكس هذا بدوره على التركيبة النفسية والفكرية
لقطاعات واسعة من السكان وبخاصة الشباب والأطفال بفعل الأثر السلبي المضاعف
لوسائل الإعلام في عصر السلام [9] .
لقد ظل التحدي الخارجي يستنفر الطاقات حيناً في ظل غياب السياسات
الناجحة، أما في ظل استراتيجية السلام فهل يمكن لنا أن نتخيل ما يحدث في ظل
عوامل النحت والتعرية والتذويب والتفكيك العقدي والأخلاقي والسلوكي والعلمي في
سائر البلاد الإسلامية؟ يقول الجنرال ألبرت ميرجلان خبير الاستراتيجية الدولية:
«هناك حالياً اتجاه يسرف في الحكم على الدول وفقاً لعدد دباباتها وطائراتها المقاتلة!
والواقع أن كَمَّ وكيف التعليم هو الذي سيكون العامل الأكثر حسماً في المستقبل
القريب.... فليست المعركة العسكرية هي التي ستحدد مصير الأمم الصغيرة
والمتوسطة في العالم، بل إن الذي سيفعل ذلك هو النمو الفكري والفني الدائم
للأفراد» [10] فحرب العقول والهوية والذاكرة الجماعية للشعوب هي الآن جوهر
مفاهيم الاستعمار الحديث.
وقد نجحت الولايات المتحدة في تخريب مناهج التعليم كاملة وكذلك سياساته
عبر العديد من مؤسساتها التي منها هيئة المعونة الأمريكية، ومجلس الرئاسة
المصري الأمريكي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنح بعض
المؤسسات الأمريكية، بالإضافة إلى الخبراء الأمريكيين في مركز تطوير المناهج
والمواد التعليمية. وهنا لا يمكن تصور مجرد تعليم وطني فضلاً عن قومي أو
إسلامي، وإنما تعليم أقرب ما يكون إلى وجهة النظر الصهيونية، وإن القارئ لا
يمكن أن يدرك أبعاد المؤامرة في مجال التعليم إلا إذا أحاط بالسمات الغالبة على
المنهج، والتي بها يمكن فهم مداخله، ومخارجه، وأهدافه، ومقاصده.
سمات المنهج التعليمي:
أولاً: التبعية:
وإن كانت التبعية واضحة وضوح الشمس ولا تخلو تصريحات المسؤولين من
اعتراف بها، وأمامنا شهادتان من شخصيتين لهما ثقلهما في المجال الفكري والثقافي
والتعليمي، ولهما مصداقيتهما عند كثير من العلمانيين:
الأول: هو ساطع الحصري الذي يقول: «إن البلاد العربية تسير في شؤون
التعليم على طرق تخالف المبدأ؛ فبعضها يتجه نحو النظم الفرنسية وحدها،
وبعضها يسير نحو النظم الإنجليزية، وبعضها يستلهم النظم الأمريكية، ويقوم
جدال وكفاح بين مؤيدي هذه الأنظمة بصورة علنية أو خفية. وعلى العرب أن
يعدلوا عن الاستمرار في هذه الخطط» [11] .
والثاني: هو: د. محمد حسين هيكل؛ حيث يقول: «إن وزارة المعارف
تخضع اليوم وأمس وستخضع غداً وبعد غد إلى أن يتاح لنا النصر السياسي (!)
الذي نعمل له إلى السياسة التي كانت تخضع لها أيام كان مستر دنلوب مستشاراً مع
فوارق في عدد المدارس وعدد الأساتذة وعدد التلاميذ أكثر منها في أساليب التعليم
وفي الغاية منه، إن سياسة التعليم في وزارة المعارف ستظل اليوم وغداً كما كانت
بالأمس وقبل الأمس خاضعة للسياسة الغربية والحضارة الغربية في روحها.
فالحضارة الغربية بالمعنى الذي يفهمه مفكرو الغرب ومؤسسو هذه الحضارة
الحقيقيون حضارة علمية بالمعنى المفهوم من العلم في العصر الحاضر؛ فالمعنى
الذي يفهمه ساسة الغرب الذين ينشرون لواء هذه الحضارة في ربوع العالم حضارة
استعمارية عدوة للعلم على خط مستقيم وهي كذلك حيثما ذهبت؛ حاربَت العلم
وحاولت حصره في طبقة وفي حدود ضيقة لتتخذ من هذه الطبقة بطانة لها لتروج
الاستعمار، أي لاستغلال البلاد التي تنزل فيها استغلالاً مادياً يذهب كل خيرها
للغرب صاحب هذه الحضارة الاستعمارية.
ولذلك وضعت هذه الحضارة يدها على وزارات المعارف حيثما ذهبت،
وعملت دائبة على إفساد هذه المقومات النفسية والخلقية والقومية مكتفية بطائفة من
المعلومات العملية التي تحتاج إليها إدارة الحكم [12] .
وواضح أن كلا الرجلين ذا نزعة قومية لا تخلو من ثقافة غربية؛ إلا أن
قولهما يعبر عن واقع لمسوه عن قرب واطلاع على مسالكه وأغواره وما ستروه
أكثر مما كشفوه.
ويشهد رجل من تلك البطانة التي اتخذها الغرب طه حسين الذي استمات من
أجل ما أراده الغرب:» والتعليم عندنا على النحو الأوروبي الخالص ما في ذلك
شك ولا نزاع.. فقد وضعنا في رؤوس أبنائنا عقولاً أوروبية في جوهرها وطبيعتها،
وفي مذاهب تفكيرها وأنحاء حكمها على الأشياء « [13] .
وهو يعلنها بلا مواربة أن الهدف من اتباع السياسات الغربية ليس مجرد تبعية
النظام وتشابه السياسات وإنما هو أكثر من ذلك: تغريب الأبناء وأَوْرَبة عقولهم.
وإذا كانت السمة الأولى لهذا التعليم المعلمن هي التبعية [14] فإن ما يمكن أن
ينطبق عليه من عيوب وما يستخرج منه من قبائح إنما هو ناشئ من هذه العلة والله
تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن
كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ] (آل عمران: 118-119) .
ثانياً: غياب الخطط الذاتية:
إن العلمانية في بلادنا قد عقمت أن تكون لها أيديولوجية مستقلة ترسم أهدافها
وفق الظروف العربية، ومن ثم رأوا أن تغريب المجتمع أولاً يساعدها في تطبيق
الحلول الغربية ذاتها، ويعني ذلك أن الشعوب لا تدري من أين أتت، ولا إلى أين
تسير!
وإذا كان التعليم العلماني يقصر مفهوم التربية والتعليم على المرحلة السنِّية
بين (5-23) عاماً، وهي بلا شك أخطر المراحل السنِّية التي يشكل المنتمون
إليها في المجتمع الكتلة الحيوية الحرجة، هذه الكتلة تتحرك تعليمياً وسط أضلاع
مثلث يتمثل في:
- فلسفة النظام والتعليم التربوي (دالَّة الهدف) .
- سياسة تعليمية تجسد هذه الفلسفة (دالة السياسات) .
- وسائل تنفيذ هذه السياسات مالياً، وإدارياً (دالَّة الإجراءات) [15] .
والواقعة المادية التي تشهد بغياب جل ذلك بالإضافة إلى شهادات أخرى وما
يشهد به الواقع تتمثل في الدراسات التي أعدت لمؤتمر عمان في الفترة 12- 15
مايو 1990م، والمناقشات التي جرت في اجتماعاته والتي تشهد بأن أنظمة التعليم
في البلاد العربية تعاني من عدم بلورة أهداف التعليم وسياساته، ومن جمود مناهجه،
وأن هذه الأنظمة أصبحت تسهم في ضمور الطاقات المجتمعية، بحيث أضحى
التعليم عبئاً على التنمية، وغدا مشدوداً إما إلى الافتتان بالماضي وتقليد نماذجه
وحلوله، وإما محاكيًا لنماذج الحضارة الغربية التي قد لا تتلاءم في توجهاتها،
ومدى فاعليتها مع التطوير الحقيقي لأوضاع المجتمع العربي؛ وتلك هي الأوصاف
التي وسم بها التعليم في (استراتيجية تطوير التعليم في مصر) التي صدرت في
عام 1987م؛ ففي هذه الاستراتيجية تقرأ عن:
- غياب الاستراتيجية التي تبلور سياسة التعليم، وغياب الطابع القومي في
التعليم، وعدم إسهام من يعنيهم الأمر في تطويره! ص 22- 23.
- عجز التعليم عن مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والعملية
والتقنية، وغض الطرف عن ذاتية المجتمع المصري وهويته الثقافية ص 24.
- ضعف الثقة في التعليم، وعدم مساندته معنوياً، وعدم التنسيق بين التعليم
النظامي، وتناقض ما تبثه وسائل الإعلام مع ما تقدمه المدارس ص 25- 26.
- إن مناهج التعليم صلبة لا تلبي مطالب المتعلم أو البيئة، ويغلب عليها
الطابع النظري، وتهمل ميول الأفراد ومواهبهم، وإن الامتحانات تدرب على
التذكر ولا تستثمر إمكانات العقل الإنساني ص 27- 29 [16] .
إن غياب مثل هذه الفلسفة الاجتماعية العامة للمجتمع يعتبر نقطة الضعف
الأساسية في جهود تطوير التعليم؛ لأنه بغيابها تدفع أن تحل الرؤية» الخاصة «
والاجتهاد» الفردي «لكل من فلسفة التعليم وسياساته في كل فترة، مما يعرض
هذه الرؤية الخاصة إلى التبدل كلما اتفقت فترة لتحل أخرى [17] .
هذه الأزمة منشؤها غياب العقيدة والانتماء لها عن عقل وحس صانع القرار،
والإنسان بلا عقيدة إنسان بلا هدف إلا إذا اعتبر أن نزواته وحاجاته الشخصية
أهدافاً.
وحين تغيب العقيدة في ظل ظروف محايدة فإنه لا بد من أمرين:
الأول: أن يتحكم الثابت في المتغير في إطار اتخاذ الواقع مدخلاً لعملية
التنظير وهو ما حدث ويحدث بالفعل. وهو في هذا متغير بطبعه مما يجعل منه
نموذجاً متبدلاً لا نستطيع أن نميز فيه بين متطلبات الواقع الحقيقية وضروراته وبين
تلك المتوهمة، بل إنه ابتداءاً لا يمكن التمييز بينهما وبين الأهواء المتعارضة
والمصالح الأنانية المتناقضة لجماعة كانت أو لفرد أو لفئات مختلفة؛ وهذا التبدل
ينعكس على نسق أساسي من المفاهيم يعززه النسق المعرفي والأيديولوجي الوضعي
بحيث تعد مفاهيم يمكن تغييرها وتبديلها بلا ضابط ولا رابط.
والثاني: هو عبث الأفراد وتدخلهم في عملية التأسيس بما يحقق مصالحهم
الآنية والأنانية؛ فهو إذن تأسيس لا يتمتع بالثبات، كما لا يتمتع بالاستقلال. هذا
في وضع الحياد، فإذا أضاف الواقع بعداً ثالثاً هو المسارات التي رسمتها القوى
الغربية وقوى الجذب إليها والتي يصعب على الدول فضلاً عن المؤسسات والأفراد
الخروج عنها إلا أن تحركها العقيدة وترسم لها خطها الحياتي، والواقع أن معظم
الدول العربية والمسلمة بدرجة أو بأخرى تنطلق من هذا التأسيس الوضعي في
حركتها وممارستها، والنتيجة هي التردي، والإخفاق الذي لحق بكل الدعاوى
والمثاليات الوضعية التي رفعتها منذ أن حصلت على استقلالها السياسي وحتى
اليوم [18] ، وهو واضح كل الوضوح في سياسات وزراء التعليم المتعاقبين؛ إذ كل
واحد يأتي ليطبق ما يراه وفقاً لانتماءاته الفكرية وقناعاته الفلسفية وخبرته العملية
وربما صداقاته وعلاقاته [19] !
وهذا ينتج عنه سمة أخرى هي:
ثالثاً: التسويغ الأيديولوجي:
وهو من أخطر الأمور التي يمكن أن تراها في نظام في العالم؛ لأنه يقتل
الوعي؛ فإذا كانت العقيدة هي التي تؤسس للعلم والتربية في بناء المجتمع فيأتي
العلم منسجماً مع ذلك كله؛ فإن العلم وفق النظرة البراجماتية هو الذي يصنع
المجتمع.
ومناهج التعليم في بلادنا العربية تعتمد مبدأ تبرير الأيديولوجية المسيطرة
وعرضها على المتعلمين، وكأنها أيديولوجية عامة تمثل مصالح كل القوى
الاجتماعية، مما يزيف وعي المتعلمين بالواقع، خاصة حين يُكتفى بالدور التبريري
للأيديولوجيات الرسمية فيقوم التعليم بوظيفة إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية
نظراً لطبيعة الأيديولوجية.
ومن هنا يصدق القول بأن التعليم منذ عهد محمد علي وحتى اليوم إنما يقوم بخدمة
الأهداف السياسية للنخب الحاكمة بعيداً عن الأهداف الحقيقية للمجتمع فضلاً عن
المعاني الشرعية؛ وهي بهذا تقدم وعياً زائفاً بالحقائق التي يجب أن يعيها المسلم
عن واقعه ماذا يريد منه، وماذا عليه أن يصنع فيه؟ وهذا بدوره يسلم للذي بعده.
رابعاً: اتباع سياسة التلفيق:
وهي سياسة اتبعها المستعمر لإفراز نوعية من البشر لا يمكن أن تفهم ما يقع
إلا بعقل المعلم، وكما سبق أن أشرنا سياسة» عقل إنجليزي ويد مصرية «.
وفرق بين التلقين والاعتماد على ذاكرة اللفظ كأسلوب للتعليم وسيطرة التعليم اللفظي
وعدم ربط التعليم بالعمل وبالواقع وبين بناء الإسلام للمنهج التجريبي بأدواته
وأساليبه والذي يبني الذاتية العلمية المؤهلة المنضبطة القادرة على النمو والارتقاء.
ولا شك أن هذه السياسة سياسة سلطوية لها بصمتها الواضحة اليوم على
شخصية الأجيال العربية والمسلمة.
وهذه السياسة تعكس أحد أمور أو أكثر مما يلي:
أولها: عجز القائمين على أمر التربية عن التطوير الذي يواكب ما ينادون به
من شعارات الحداثة والتنمية والتطوير.
ثانيها: أن هناك انفصاماً بين المناهج وروح المجتمع، وربما شخصيات
واضعيها أيضاً، ومن ثم كان أسلوب» ابلع ما يأتي «هو الأسلوب المناسب في
هذه الحال.
ثالثها: وهو الأعجب: أن من مصلحة القائمين على التعليم أن يبقى الوعي
عند أدنى درجاته.
رابعها: أن هذه السياسات مرسومة، ودور القائمين هو: مجرد التنفيذ
لسياسات ومناهج هم غير مقتنعين بها وهم غير متفاعلين معها، ومن ثم فلا يصلح
غير التلقين.
وأياً كانت الحقيقة؛ فإنها إدانة قوية للتعليم الحداثي الذي جر على أمتنا
الويلات.
خامساً: المفاهيم المختلة لأركان العملية التعليمية، وأهم
ركنين هما:
(الإنسان والعلم) :
فالنظرة المادية للإنسان والتي تنحدر أكثر وأكثر حين يكون هذا الإنسان هو
العربي أو المسلم. والتي تقيس الإنسان بشهواته ونزواته هذه النظرة هي التي تحكم
عملية التعليم اليوم في بعض البلدان ويراد لها نفس الأمر في بلدان أخرى.
والعلم الذي يستبعد ما وراء الحس ويحاول أن يفلسف الأمور الغيبية
والشرعية فلسفة حسية مادية تفقدها روحها.
فهو ضمناً يستبعد علوم الشرع من مسمى العلم؛ بينما يضم فيه الفلسفات
الوضعية والنظريات الباطلة مما يتوهم أصحابها ومعتنقوها أنها مسلَّمات وهي ليست
بعلم أصلاً؛ هذا العلم هو الذي تتبناه السياسات التعليمية العلمانية في غالب البلاد
الإسلامية، وهو مع هذا محدود بمرحلة سِنِّية معينة.
وكلا النظرتين مخالفة لنظرة المسلم؛ فالإنسان هو ركن الحضارة، والعلم هو
عمادها وهو غير مناقض للإيمان الصحيح؛ لأن كلاً منهما يدل على الآخر ويحث
عليه، والعلم شِقُّ الإيمان الذي يكمله شِقٌّ آخر هو العمل.
سادساً: أزمة الهوية:
» وهي أظهر في مناهج الدول التي طُبِّعت تعليمياً، فعلى سبيل المثال قامت
إحدى الباحثات بتحليل محتوى وثيقة الاستراتيجية السابق ذكرها بالنسبة للهوية
والانتماء فوجدت أن الهوية المصرية قد احتلت فيها الأولى تليها الهوية العالمية، ثم
الهوية العربية، واحتلت الهوية الإسلامية المرتبة الأخيرة، وتشير إلى أن أكثر
التكرارات في الهوية الإسلامية جاءت مقرونة مثل: ثقافتنا المصرية العربية
الإسلامية، وأن التناول كان للقيم الإسلامية العامة وليس للإسلام بوصفه ديناً
وشريعة.
وفي وثيقة «مبارك والتعليم» هبط الانتماء الإسلامي للصفر، وانخفض
الانتماء العربي انخفاضاً ملحوظاً لصالح تأكيد الانتماء المصري.
واستخلصت الباحثة من تحليلها أن طبيعة «الشخصية» التي يراد من التعليم
الإسهام في صياغتها كانت واضحة في «استراتيجية تطوير التعليم» ولم تكن
واضحة في كتاب «مبارك والتعليم» حيث زاد التركيز على الانتماء المصري،
وتراجعت كل من الهوية العربية، والهوية الإسلامية بصورة تثير القلق! [20] .
وتشير إحدى الدراسات أن مناهج التاريخ في المرحلة الابتدائية تؤكد على
فرعونية مصر بنسبة 54%، وعلى الانتماء القومي المصري بنسبة 30%؛ بينما
لا يشغل الانتماء العربي سوى 16% من المحتوى، وأن الكتب المصرية تؤكد على
فكرة الوطنية المصرية بوصفها شيئاً مستقلاً عن القومية العربية والقومية الإسلامية.
وفي دراسة أخرى لمناهج المرحلة الثانوية يبلغ التركيز على الهوية القطرية
45% بينما تحظى الهوية العربية بالمرتبة الثانية (27.8 %) . أما الهوية
الإسلامية فتتراجع إلى المرتبة الخامسة (4.8 %) وتلاحظ إحدى الدراسات حول
عروبة التعليم المصري [وفقاً لمنظور الباحث] من عام 1952م إلى1981م مدى
تذبذب مكونات الهوية بالعامل السياسي الرسمي [21] . وهكذا تحولت الهوية الأصلية
للشعب إلى سلسة من عمليات التغييب والتشويه والتزييف: حيناً بإعادة صياغة
العقول عبر التعليم والإعلام، وحيناً بأدوات القهر والعنف حتى تلازمت العلمانية
والدكتاتورية في مجتمعاتنا.
سابعاً: فساد المناهج والمقررات:
أول ما يطالعنا في ذلك هو مادة (الدين) التي تعد ثانوية كما يريد العلمانيون
أن يُفهِموا النشء أن الدين شأن ثانوي في الحياة؛ وهي مع هذا مادة جامدة لا ترى
الدين إلا أماني لا تحفظ ماءً ولا تنبت كلأً، وهي في فلسفتها خاضعة للمفهوم
العلماني للدين الذي يفصله عن العلم، والمجتمع، والحياة؛ وهذه المادة يُخطَّط
لاستبدالها بمادة الأخلاق وهي لا شك خاضعة لكل النظريات اليهودية من روسو إلى
دارون إلى دوركايم وفرويد وسارتر، بل وأينشتين أيضاً.
- أما التاريخ فتم حذف كل ما يشير إلى الجهاد أو إلى عداء اليهود من
أحاديث أو آيات أو وقائع وكذلك الحروب الصليبية، وتم تقليص مساحات السيرة
النبوية والتاريخ الإسلامي لصالح التاريخ الفرعوني والأوروبي الحديث؛ والظاهر
أن المراد في كل مرة هو الإسلام.
- وبلغت العلمنة حدها حين استخرجت من كتب القراءة والنصوص كل ما
يرمز إلى سمت الإسلام وسلوكه.
- ومن ذلك التشويه المتعمد للشخصية الإسلامية سواء على المستوى
التاريخي أو على مستوى المقارنة من خلال الرسم والتصوير الإيضاحي أو حتى
على مستوى العمران، وقد بذلت عناية فائقة في هذا المجال.
- أما كتب المنطق والفلسفة فقد ذكرت أقوال الفرق كلها دون أدنى توجيه أو
تعليق.
- وفي كتب اللغة العربية شوهت اللغة بمحاولة تسطيحها وإقحام التجارب
الحداثية فيها دون معنى، وحذف النصوص ذات القيم الجمالية، والدلالية العالية.
- أما في الكتب الأجنبية فحدِّث ولا حرج عن الصور العارية والمشاهد
الجنسية الفاضحة، والحوارات الساخنة، كما أنها لم تَخْلُ من إقحام لفقرات
تنصيرية.
- وحين يُستبعَد من القيام بعملية التدريس كل من له سمت إسلامي أو ولاء
ظاهر للإسلام من أجل أن يقطع طريق العودة إلى الإسلام من كل سبيل وفق سياسة
تجفيف الينابيع.
- والمراد من وراء ذلك كله كما يقول الدكتور إبراهيم البحراوي رئيس وحدة
الأبحاث الإسرائيلية بجامعة عين شمس بالقاهرة: هو تجريد المجتمع المصري من
إرادة الصراع، وإيقافه بعيداً عن حالة اليقظة والاستعداد ليكون في وضع
الفريسة [22] .
- كانت هذه بعض السمات الظاهرة والغالبة على التعليم العلماني عموماً وفي
الدول التي قطعت شوطاً كبيراً في العلمنة على وجه الخصوص، وما لم نذكره من
سمات لا يقل أهمية وخطراً عما ذكرناه، ولكن ضيق المقام حال دون الاستطراد في
هذا الباب، لكن بقي أن نشير إلى أن مدرسة المشاغبين التي عرضت في منتصف
السبعينيات لم تكن يومها سوى تبشير بسياسات تعليمية علمانية، وهي مع هذا
عادت لتطل علينا مرة أخرى مستفيدة مما استجد من تقنيات ومبتكرات فكرية ومادية؛
لكنها هذه المرة أطلت علينا من المدرسة والجامعة إلى جانب المسرح والتلفاز،
وأبطالها وهم غير أبطال صاروا أكثر عدداً وأكثر تصريحاً وأعلى صوتاً، وفي كل
مكان لن تعدم مشهداً أو مشاهد من تلك المسرحية.
__________
(1) ثقافتنا في إطار النظام العالمي الجديد، فوزي محمد طايل ص: 15- 17 مركز الإعلام العربي.
(2) المرجع السابق، ص: 18، وانظر كيف اكتسب التعليم الناشئ صفة العمومية! .
(3) تاريخ الصحافة الإسلامية، أنور الجندي، ج 1 ص: 271.
(4) مقدمات العلوم والمناهج أنور الجندي، ج 6: ص 319- 320، دار الأنصار القاهرة.
(5) أنور الجندي، المصدر السابق ج 6، ص 332، وإن كان في العبارة شيء من المبالغة الأدبية، لكن ما فعله دنلوب كان في الحقيقة أخطر من الوصف، ومن ذلك أنه اتبع سياسة (أجلزة التعليم المصري) ليغرب الطالب المصري عن مجتمعه ولغته ودينه؛ حتى إنه كان يتلقى قواعد اللغة العربية باللغة الإنجليزية! .
(6) سن كرومر ودنلوب سنة متبعة من مدارس الاستعمار الغربية ويعد دنلوب واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام وتاريخه واللغة العربية عن برامج التعليم في المدرسة المصرية، وهو أيضاً المنفذ المشرف لسنوات طويلة، وقد تكررت هذه الصورة؛ فالمارشال ليوتي والكاردينال لافيجري في المغرب هما تكرار نموذج كرومر ودنلوب في مصر.
(7) سيطر التعليم الاستعماري الوطني في مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا وتونس وفلسطين والجزائر ومراكش من الأقطار العربية كما سيطر تعليم الإرساليات الأجنبي في هذه الأقطار أيضاً؛ وسيطرة بعضه واضحة في تركيا وإيران والهند وإندونيسيا والملايو، وكانت أبرز مراكزه في بيروت واستنبول والقاهرة وقد حقق الاستعمار أهدافه في السيطرة على العالم الإسلامي عن طريق التعليم عندما لم تمر سنوات قليلة حتى أخرج ثماره ممن تولوا أمور البلاد وقيادتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
(8) كانت سياسة عبد الناصر تهدف إلى تقليص دور الأزهر مع الوقت؛ فحل هيئة كبار العلماء واستولى على أوقافه، وحين لم يستطع اللعب في المناهج في ظل أزمته مع الإخوان كان الحل هو خلط العلوم الشرعية بالعلوم المدنية لتختلط على الطالب وتثقل كاهله فلا ديناً حفظ ولا دنيا.
(9) انظر: اختراق الأمن الوطني المصري رؤية فسيولوجية، عبد الخالق فاروق، ص: 23 24 مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر.
(10) مجلة المنار القاهرة عدد: 4 مارس 1985م ص 87 عن المصدر السابق ص: 20، مارست الولايات المتحدة نشاطها في اختراق النظم التعليمية والثقافية وغزوها حيناً عبر سفارتها التي تحمل علمها، وعبر جامعتها الأمريكية بالإضافة إلى سفارتها التي امتطتها حيناً لتخدم أهدافها «اليونسكو» والتي ترقع شعار الأمم المتحدة، وللاطلاع على طرف من هذه الأنشطة انظر المصدر السابق، ومحمد محمد حسين: حصوننا مهددة من داخلها، وسلسة المؤامرة على التعليم وخاصة الجزء الثالث.
(11) نقلاً عن مقدمة العلوم، أنور الجندي، ج 6 ص: 358.
(12) عن السابق ج 6 ص: 339.
(13) ثقافتنا في إطار النظام العالمي الجديد، نقلاً عن فوزي محمد طايل، ص: 30 مركز الإعلام العربي.
(14) صرح أحد وزراء التعليم الذين قاموا بتقليص مادة اللغة العربية والدين في وزارته بأن فرض تعلم طلبة المرحلة الابتدائية اللغة الإنجليزية مسألة أمن قومي.
(15) عبد الخالق فاروق، مصدر سابق، ص 25 26.
(16) التحديات التربوية للأمة العربية، د. أحمد المهدي عبد الحليم، ص 95، دار الشروق.
(17) مستقبل التعليم قبل الجامعي في مصر، سعيد إسماعيل علي، ص 2، كراسات استراتيجية رقم 83 مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
(18) انظر: الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية، حامد عبد الماجد قويسي، ص 499 - 500، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
(19) بالمناسبة فإن عدداً غير قليل من وزراء التعليم في مصر كانوا من الحقوقيين وليسوا تربويين، وهي مسأل جديرة بالتأمل!
(20) انظر: الأبعاد السياسية لتطوير التعليم في مصر، هبة رؤوف عزت، مجلة منبر الشرق م: 3، العدد: 11 نقلاً عن التحديات التربوية للأمة العربية مرجع سابق ص 97 98، وانظر كيف بدأ الأمر يخلط المرجعية الإسلامية بالعربية، ثم همشت المرجعية الإسلامية، ثم أزيلت واستبدلت بخلفية إسلامية عامة، وحتى هذه الخلفية لم يرد العلمانيون لها أن تبقى!
(21) انظر: أحوال مصرية، ص 114 العدد التاسع، السنة الثالثة.
(22) نقلاً عن المؤامرة على التعليم والمعلم، ص93، رقم 3 ضمن سلسلة المؤامرة على التعليم، دار الوفاء، وهي سلسلة تكشف قدر الجرائم التي اتخذت في مجال التعليم في حق الأجيال القادمة. وفي هذا المجال أيضاً انظر كتاب اختراق الأمن القومي المصري السابق الإشارة إليه.(161/70)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(3 - 3)
موجز الأنباء العلمانية
قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية
(1 - 2)
خالد محمد حامد
لن نتحدث عن نشرة أنبائهم السياسية؛ فالبث السياسي العلماني بث واسع
الطيف متعدد الموجات، وأنّى للاقط واحد أو معالج أحادي أن يستقبل كل نضالهم
الثوري وكفاحهم التقدمي، ثم رؤيتهم الثاقبة وواقعيتهم الحكيمة وحنكتهم الراسخة،
في السياسة الداخلية والخارجية؟
ولكننا هنا نتعرض فقط بشيء من الإيجاز لجهودهم المعلنة والخافية في
القضية التي زعموا أنها قضيتهم المركزية، والتي بالانشغال بها تذرعوا بهدم معظم
مقومات الدولة والقضاء على بنية الإنسان العربي، ثم أسندوا إخفاقهم في جميع
القضايا (غير المركزية) إلى انشغالهم بقضية العرب المقدسة!
ولكن منذ متى كانت فلسطين مقدسة عند العرب؟
النبأ الأول: فلسطين بين العروبة والإسلام:
لم تكن فلسطين تحتل مكانة مرموقة في حس العربي الجاهلي قبل الإسلام،
وفي معظم الأحوال كان ينظر هذا العربي إلى الشام وضمنها فلسطين على أنها لا
تزيد عن كونها إحدى مناطق الاستقرار والنشاط الاقتصادي التي كان يرتبط بها في
رحلاته التجارية الموسمية.
ومع بعثة النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نشأت مكانة مميزة في عقل
وقلب العربي المسلم للشام عموماً ولفلسطين خصوصاً ولمدينة القدس بوجه أخص؛
وذلك من خلال إشارات قولية وعملية عديدة، تبدأ منذ ولادته صلى الله عليه وسلم
عندما رأت أمه قصور الشام عند ولادته صلى الله عليه وسلم، ثم بعد بعثه صلى
الله عليه وسلم بالنبوة كانت حادثة الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج منه، وإمامة
النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في الصلاة فيه إحدى أكبر المعالم الواضحة في
أهمية هذه البلاد، ثم كان بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى إلى الصلاة التي هي
عماد دين المسلمين.
ثم تتوالى الإشارات التوجيهية لفضل هذه البقعة، وأهمية هذا الموطن:
فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، والصلاة فيه
تعدل 250 صلاة في غيره من المساجد عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد
بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وبيت المقدس أكثر من مرة، ودعا
صلى الله عليه وسلم للشام وأهلها ونصح بسكنها، وفي فضل الشام والمسجد
الأقصى، وما حوله وردت آيات قرآنية، وأحاديث نبوية عديدة [1] .
ثم كان التحرك العملي لـ (تحرير) هذا الموطن الغالي من ربقة الشرك
والكفر بإنفاذ البعوث والسرايا العسكرية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم،
حتى فتح بيت المقدس وفلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، واستدعى هذا الفتح دون غيره أن يذهب الخليفة بنفسه ليتسلم مفاتيح المدينة
المقدسة، ويستلم معها أمانة محافظة المسلمين عليها.
إذن: فقد عرف العرب أهمية هذا الوطن بالإسلام، وبالإسلام وحده وليس
بالعروبة كانت قضية فلسطين قضية (مقدسة) ، عرف هذا المعنى صلاح الدين
الأيوبي عندما حررها مرة أخرى من براثن الصليبيين، ولم يكن صلاح الدين
عربياً، بل كان كردياً، وعرف هذا المعنى العثمانيون الأتراك عندما حافظوا على
الأمانة واستماتوا في الدفاع عنها حتى دفع السلطان عبد الحميد الثاني عرشه ثمناً
لتمسكه بها وعدم التفريط فيها.
النبأ الثاني: فلسطين قبل النفق العلماني:
وإليك طرفاً من مقاومة هذا السلطان للضغوط والإغراءات التي مورست عليه
من أجل (بيع) فلسطين، ورفضه ذلك رفضاً قاطعاً رغم ضعف دولته والمؤامرات
والدسائس التي كانت تحاك ضده في داخل الدولة وخارجها؛ حيث اختار اليهود
فترة عصيبة من فترات اضمحلال الدولة العثمانية، حين لم يعد لهذه الدولة أي ثقل
سياسي معتبر أو قوة عسكرية مهابة.
فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني بالاستيطان في فلسطين يأخذ خطوات عملية:
سعى اليهود إلى إيجاد موطئ قدم لهم هناك بطريقين متوازيين: الأول: العمل
على تهجير اليهود من شتى أصقاع العالم إلى فلسطين مع ما استلزم ذلك فيما بعد
من محاولة تفريغ فلسطين من أهلها، الثاني: شراء الأراضي في فلسطين ليكون
لهم قواعد ثابتة يتحركون منها لإتمام مشروعهم، وقد كانت القدس دوماً أحد المراكز
المستهدفة بإلحاح في هذا السعي، فكانت الدولة العثمانية وخاصة في عهد السلطان
عبد الحميد متيقظة لهذه المساعي [2] .
يقسم الباحثون موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين فيما بين عامي 1882م
و1944م إلى خمس موجات، ويستفاد من إحصاء جرى للسكان عام 1839م أن
عددهم في فلسطين كان بين 6000 و 6500 نسمة، نصفهم في القدس، في حين
بلغ عدد العرب وقتها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، أي أن نسبة اليهود إلى العرب
كانت تدور حول 2%، وارتفع عدد اليهود في السنة التي تليها ليصل إلى 10500
نسمة.
وإزاء النشاط الصهيوني أصدرت الدولة العثمانية منذ سنة 1855م قانوناً يمنع
الأجانب من الاحتفاظ بالأرضي في فلسطين أو شرائها، وطوال أربعين عاماً
(1840-1880م) وصل عدد المستوطنين اليهود بفلسطين إلى حوالي 25000
نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في القدس، ثم بدأت أولى موجات الهجرة اليهودية
الواسعة من روسيا وبلدان أوروبا الشرقية، وقد تزامنت هذه الموجة التي بدأت عام
1882م مع تحرك دولي للضغط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة اليهود إلى
فلسطين؛ فماذا كان موقفه؟ :
أخفقت مساعي السفير الأمريكي وزملائه تماماً في هذا الخصوص، ثم أبلغ
السلطان المبعوث اليهودي أوليفانت أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أي
بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين، ثم أرسل في يونيو 1882 م
رسالة إلى متصرف القدس يطلب فيها منع اليهود الروس والبلغار والرومان من
الدخول إلى القدس، كما صدر قرار لمجلس الوكلاء العثماني يقضي بمنع اليهود
الروس بصفة خاصة من استيطان فلسطين.
وبعد ضغوط أوروبية صدرت في العام نفسه قوانين لا تسمح لليهود بدخول
فلسطين إلا في حالة الحج والزيارة المقدسة، ولمدة ثلاثة شهور، كما صدرت في
العام نفسه قوانين جديدة نصت على ضرورة حمل اليهود الأجانب جوازات سفر
توضح ديانتهم اليهودية كي تمنحهم سلطات الميناء تصريحاً لهذه الزيارة المحددة
المدة والهدف.
ونظراً لتفشي الفساد في الجهاز الإداري التركي الذي كان يمثل ثغرة تنفذ منها
موجات الاستيطان اليهودية، ونظراً للجهود الصهيونية والدولية المستمرة والمركزة
للضغط في هذا الاتجاه آنذاك.. اتخذ السلطان عبد الحميد إجراءات حماية أكثر
تشدداً للمحافظة على تلك البلاد، فجعل القدس عام 1887م سَنْجَقاً [3] مستقلاً عن
ولاية دمشق، ومتصرفية لها اتصال مباشر بالباب العالي، وعززت الدولة قوة
الشرطة في ميناء يافا، واستبعدت العناصر الفاسدة من بينها، كما وسعت مساحة
الأراضي التي تسري عليها أوامر الحظر لتشمل أيضاً منطقة الجليل في شمال
فلسطين بالإضافة إلى منطقة القدس، ثم أصدرت الدولة العثمانية في العام نفسه
أوامر جديدة تقصر مدة المكوث لهذا الغرض إلى 31 يوماً بدل ثلاثة أشهر، وقد
حدَّت هذه الإجراءات بالفعل من هجرة اليهود، وأدت إلى فرض حظر شبه كامل
وفعال على هذه الهجرة، ثم قام سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالضغط على
الحكومة التركية، فتم لهم عام 1889م إلغاء القرارات الأخيرة والعودة إلى السماح
بأشهر ثلاثة.
وفي سنة 1892م صدر قانون يحرم بيع أراضي الحكومة في فلسطين إلى
جميع اليهود، بما فيهم رعايا الدولة العثمانية اليهود، ويمنع أيضاً رعايا الدولة من
بيع الأراضي لليهود، ولكن بريطانيا تدخلت أيضاً فاستطاعت التقليل من فاعلية
هذه القرارات بطرق مختلفة تحت مظلة اتفاقيات الامتيازات والمعاهدات الدولية،
أما عدد اليهود في هذه السنة فقد أصبح 40 ألفاً.
وحتى عام 1897م (عام انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول) لم تفلح الجهود
الصهيونية والضغوط الدولية في رفع عدد اليهود في فلسطين إلا إلى عدد يتراوح
بين 50000 و 60000 يهودي، ولم يكن هذا العدد كفيلاً بتغيير التركيبة السكانية
في فلسطين بما يحقق أهداف المشروع الصهيوني، كما أن مساحة الأراضي التي
استطاعوا الاستيلاء عليها كانت ضئيلة للغاية.
وإزاء ذلك، ولمعرفة اليهود بأن السلطان عبد الحميد هو أكبر عقبة في سبيل
هذا المشروع بدأ الصهاينة يتوجهون بجهودهم لمحاولة التأثير عليه، عسى أن يُليِّن
مواقفه، ومن ثم عاود هرتزل سعيه الذي كان بدأه عام 1896م، فقرر السفر مرة
أخرى إلى إستانبول للاجتماع بالسلطان عام 1901م فقابله ثلاث مرات، عرض
فيها مشروعاً صهيونياً بتوطين اليهود في فلسطين ومنحهم حكماً ذاتياً مقابل
مساعدات مالية للدولة العثمانية تقضي بسداد ديونها وإصلاح اقتصادها، وتمخضت
الاجتماعات عن رفض السلطان إعطاء فلسطين لليهود، إلا أنه وافق على هجرة
اليهود إلى آسيا الصغرى والعراق لقاء دفع الديون المترتبة على الدولة، وهو
عرض يدل على مدى حاجة الدولة العثمانية إلى الأموال لتحسين أوضاعها، ويدل
في الوقت نفسه على أن رفض السلطان توطين اليهود في فلسطين كان لمكانتها
الإسلامية والتاريخية والسياسية عنده.
وبعدما حاول هرتزل عن طريق وسيط (رشوة) السلطان، أراد السلطان
حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي في موقف آخر يدل على ما ذكرناه من دوافع في
محافظته على فلسطين، فقال للصدر الأعظم [رئيس الوزراء] : «انصحوا الدكتور
هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن
شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي
جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة
الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل
المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة
الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن
على قيد الحياة» ، وهذا الرد يدل أيضاً على الدوافع الإسلامية للسلطان عبد الحميد
والدولة العثمانية في الحفاظ على فلسطين.
وبعد كل تلك الجهود الصهيونية والضغوط الدولية لم يزد مجموع من هاجر
خلال سنوات الموجة الأولى الكبرى لهجرة اليهود (1882م 1903م) على عدد
يتراوح بين 20 30 ألف مهاجر لا أكثر، وذلك بعد جهود مضنية وضغوط
وإغراءات عرضنا بعضها، وعندئذ انقطع أمل اليهود في الالتفاف حول هذه
الصخرة، فعزموا على تنفيذ أمر قد قرروه وأسروه من قبل: تحطيم هذه الصخرة.
وبالفعل رَكِبَ اليهود جمعية الاتحاد والترقي العلمانية ذات العلاقات الماسونية
واليهودية، واستطاعت هذه الجمعية في النهاية خلع السطان عبد الحميد، والإمساك
بزمام الأمور في الدولة خاصة بعد إلغاء الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م.
لقد ناهض السلطان ما بوسعه الاستيطان اليهودي في فلسطين وقاومه
باستمرار في حدود قدرات دولة آخذة في الاضمحلال تواجهها قوى أوروبية كبرى
توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونية، وهو وإن لم يستطع إيقاف هذا الاستيطان
تماماً، إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه قط، ولم يعط شرعية أو إذناً لهذا الاستيطان.
وبوصول جمعية الاتحاد والترقي المنبثقة عن (تركيا الفتاة) إلى سدة الحكم
إثر انقلاب عام 1908م، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م خلعت
قضية فلسطين الرداء السياسي الإسلامي، وفقدت آخر سند إسلامي رسمي وقتها،
ودخلت بذلك هذه القضية النفق العلماني، لتكون في عهدة نظم ومنظمات جديدة لا
تصطبغ بالصبغة (القديمة) ، بل تدعي لنفسها (التقدمية) .
النبأ الثالث: فلسطين في عهدة العلمانية:
بخروج فلسطين من المظلة السياسية الإسلامية عادت مرة أخرى كما كانت
في سالف عهدها في الجاهلية: طريقاً إلى منافع مادية، أي إنها خرجت من إطار
المبادئ إلى إطار المصالح، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها، ولا
مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر، بل لا مانع من التنازل عن بعضها
أو استبدال غيرها بها.
لم يخف اليهود غبطتهم لانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد
(مضطهد إسرائيل) على حد تعبير بعض الصحف اليهودية التركية، وقد جنوا
سريعاً ثمرات خروج فلسطين من المظلة الإسلامية ودخولها نفق العلمانية، فكان
من الثمرات البادية للجميع: ارتفاع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وارتفاع
نسبة الأراضي التي استولوا عليها، فعقب الانقلاب المشار إليه نقل الاتحاديون
الموظفين الأتراك المعارضين للهجرة اليهودية من فلسطين إلى أماكن أخرى،
ونظرت جمعية الاتحاد والترقي بعطف أكثر إلى الصهيونيين كمصدر للحصول
على العون المالي للخزانة التركية المفلسة، وعليه وعلى الرغم من الاعتراضات
العربية الشديدة: خففت القيود المفروضة على الهجرة وشراء الأراضي في وجه
اليهود في العام 1913م، فأصدر الاتحاديون بعد نجاح انقلابهم تشريعاً يقضي ببيع
جميع الأراضي السلطانية في الدولة بما فيها فلسطين بالمزاد العلني، ولولا يقظة
عرب فلسطين، واندلاع الحرب العالمية الأولى، لضاعت فلسطين كلها منذ ذلك
التاريخ [4] .
وهكذا ارتفعت نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين إلى 9.7 % في سنة
1914م، لتستمر في الارتفاع في ظل النظم والمنظمات العلمانية لتصل مقارنة
بعرب فلسطين إلى 35.1 % قبيل سنة 1948م، وفي حين أن مجموع ما كان
يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5 %، ارتفعت
هذه النسبة لتصبح 7% قبيل سنة 1948م، وبينما كان مجموع عدد المستوطنات
على عهد السلطان عبد الحميد عام 1907م لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين
كلها، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914م، ثم 71 مستوطنة عام
1922م، وفي عام 1944م قفز العدد إلى 259 مستوطنة، ليصل إلى 277
مستوطنة قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948م [5] .
ولا شك أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية ودولية متعددة
ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، ولكننا في
الوقت نفسه لا نستطيع إغفال (أخطاء) النظم والمنظمات العلمانية العربية التي
ساهمت في هذه النتيجة، وعندما نقول (أخطاء) فإننا نصف محصلة الأفعال، أما
أسباب هذه المحصلة فإنها تبدأ من الجهل والسذاجة وعدم الوعي، ولا تستثنى منها
الخيانة والتآمر والعمالة.
ومن هذه الأخطاء: ما ظهر مبكراً من ضعف الوعي السياسي لأهمية قضية
فلسطين لدى النخبة العربية على المستوى الرسمي رغم ظهور كل هذه المؤشرات
على الخطر الصهيوني، ومن أمثلة ذلك الضعف: أنه «عندما عقد المؤتمر
العربي الأول في باريس عام 1913م، وردت إلى المؤتمرين عشرات رسائل
التأييد للمؤتمر والتنديد بالخطر الصهيوني، وقد دعا مرسلوها إلى اتخاذ موقف
حازم من الهجرة اليهودية، ومن مجموع 387 رسالة وردت إلى المؤتمر كان
من بينها 139 رسالة وردت من فلسطين، ومع ذلك: تجاهل المؤتمر الخطر
الصهيوني؛ مما أثار حفيظة عرب فلسطين..» [6] .
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما ادعته بريطانيا عقب إعلان بلفور سنة 1917م من
أن مراسلات حسين / مكماهون سنة 1915م 1916م قبل الثورة العربية ضد الدولة
العثمانية.. تضمنت موافقة الشريف حسين بن علي الضمنية على استثناء فلسطين
من المنطقة المتفق على إقامة دولة عربية عليها [7] .
لم يكن هذا هو الخطأ الوحيد لتلك النخب، ولكن قبل أن نضع أيدينا على بقية
الأخطاء التي استمرت حتى اليوم يحسن بنا أن نعرض لمعالم السياسة الصهيونية
في الصراع على فلسطين:
يمكن القول: إن أهم معالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين
تتلخص في الآتي:
1 - إخراج الإسلام من دائرة الصراع.
2 - إيجاد قواعد أرضية للانطلاق منها في إيجاد واقع الكيان على أرض
الواقع، ثم الانطلاق من هذه القواعد نحو التوسع والتغلغل.
3 - هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين (ملء المجال الحيوي) .
4 - تهجير عرب فلسطين خارجها (تفريغ المجال الحيوي) ، عن طريق:
أ - طردهم من أراضيهم بالقوة المسلحة.
ب - إرهابهم بالمذابح والحرب النفسية والدعائية.
ج - تضييق منافذ العمل في وجوه العرب داخل فلسطين، مع تهيئة مواطن
بديلة لاستقبالهم، والعمل على فتح مجالات العمل والاستقرار أمامهم في هذه
المواطن.
5- تفتيت التكتل المعادي (الإسلامي/ العربي) بتعدد محاور تجمعه، وإثارة
نزاعات داخلية بينه، وإقامة دويلات طائفية مسالمة حول الكيان الصهيوني.
وفي المدى البعيد:
6 - العمل على ربط المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة بالمصالح
الصهيونية.
7 - إقامة دولة عصرية يمكنها الاعتماد على نفسها فيما بعد.
8 - الاستقرار والأمن، بالانتقال إلى السلام والشراكة مع الدول المحيطة عن
طريق المعاهدات والأحلاف خاصة مع دول الجوار.
9 - غزو دول المنطقة بالتغلغل السلمي، وقيادتها نحو منظومة إقليمية
جديدة [8] .
النبأ الرابع: آثار دخول فلسطين النفق العلماني:
نعود إلى السؤال: ما الذي طرأ على قضية فلسطين بدخول العلمانية إلى حلبة
الصراع بديلاً عن الإسلام في الفكر والممارسة الواقعية؟ .
إن المتأمل في المخطط الصهيوني السابق ذكره يدرك أن العلمانية كانت مفتاح
تحقيق هذا المخطط، وإذا كان سقوط الدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية
أدى بشكل شبه تلقائي إلى تحقيق النقطة الأولى والخامسة من المخطط..
فإن التجربة العلمانية السياسية التي عملوا على إغراق بلادنا فيها عملت على
ترسيخ هذه المكاسب الصهيونية مع تحقيق النقاط الأخرى من المخطط الصهيوني،
ليس فقط في الواقع السياسي، ولكن أيضاً في أفكار الشعوب وسلوكياتهم، وذلك من
خلال:
أولاً: الافتقار إلى البعد الرسالي للقضية بتنحية الإسلام من الصراع:
فالصراع في قضية فلسطين صراع حضاري تصادمي في أساسه، والإسلام في هذا
الإطار هو القادر على المواجهة وهو المستهدف فيها.. هذا ما يدركه الصهاينة
ويتجاهله العلمانيون، في الوقت الذي يضعون أنفسهم في الخندق المعادي للرؤية
الإسلامية.
ف (إسرائيل) لم تكن فقط مجموعة من البشر سكنت مساحة من الأرض،
ولكنها قامت في الأساس على رؤية (حضارية) ، فحاييم وايزمان أول رئيس
للدولة الصهيونية يعلن في المؤتمر الصهيوني السابع قبل أكثر من أربعين سنة من
إعلان دولتهم أن « ... اجتذاب أنظار العالم إلى قضيتنا يستمد مفعوله وتأثيره من
الهجرة والاستعمار والثقافة ... » [9] ، أما إعلان الدولة العبرية فقد تصدَّر بما يلي:
«أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية
والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضارية ذات مغزى
قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد» ! ويقول أول رئيس
وزراء في الدولة الصهيونية ديفيد بن جوريون: «علينا أن نشكل شخصية دولة
إسرائيل وإعدادها للاضطلاع برسالتها التاريخية المثلثة: جمع الجوالي، بناء
الإنسان، حياة الحرية والمساواة والعدالة» [10] .
ولذلك عرف الصهاينة أن عدوهم الحقيقي الذي يتصادم مع (رسالتهم
التاريخية) هذه في المنطقة هو الإسلام، والإسلام الحقيقي وحده، يقول بن
جوريون: «نحن لا نخشى الثوريات ولا الديمقراطيات ولا الاشتراكيات في هذه
المنطقة! ، نحن نخشى الإسلام فقط، هذا العملاق الذي طال نومه، ثم بدأ يتململ
من جديد» [11] ، فالعلمانية بأطيافها المتعددة لا تخيف قادة الصهاينة، ولكنه
الإسلام فقط، لذا: عملوا جاهدين على محاربته وإخراجه من دائرة الصراع، وهو
ما قامت به العلمانية.
فإذا كان هذا هو موقف العدو (الرسالي) تجاه نفسه وتجاه خصمه
(الحضاري) ، فما هو موقف العلمانيين من أبناء جلدتنا؟ ! :
من المعروف أن العلمانية اتجاه فكري حياتي نشأ في الغرب، ثم انتقل بألوانه
المتغايرة وتطبيقاته المتعددة إلى بلادنا عن طريق نخب متغربة صريحة أو مستترة،
لذا: فإن هذه النخب عندما تخلت عن المذهبية الإسلامية لم تجد نفسها في وضع
تناقضي مع (الحضارة الغربية) التي تعد (إسرائيل) ممثلتها في الشرق، وعليه:
يصعب على هذه النخب الدخول في صراع تصادمي حقيقي (أساسه المبادئ
وليس المصالح) مع هذه الدولة، وتبقى بعد ذلك مسألة (أرض) فلسطين وبعض
الخلافات والنزاعات الثانوية الأخرى التي يمكن النظر فيها والتفاوض عليها برعاية
آباء هذه الحضارة التي تظلهم وتظل (خصومهم) الصهاينة، لذلك: فمن الممكن
عند العلمانيين الوقوف على أرضية مشتركة بينهم وبين دولة (إسرائيل) التي
ولدت بشرعية دولية يحترمها جميع العلمانيين، ومن الممكن أيضاً: إيجاد أنصاف
(أو أخماس) حلول والالتقاء في منتصف الطريق مع هذه الدولة.
والسبب الرئيسي في ذلك: أن العلمانية السياسية قامت في بلادنا على نفي
مفهوم الولاء والبراء الإسلامي واستبعاد توجيهات الشريعة الإسلامية من دائرة
صنع القرار، واستبدلت بهما إطار القومية العربية أو الوطنية الإقليمية، مع
الدخول في لعبة الشرعية الدولية ومنظومتها، وليس بجديد أن نقول إن القومية
العربية والقومية التركية والقومية اليهودية (الصهيونية) خرجت جميعها (فكرياً
وعملياً) من معين واحد، أساسه فكرة الدولة القومية التي نشأت في الغرب.
فحلول العلمانية السياسية محل الإسلام في الصراع على قضية فلسطين كان
أكبر عامل خدم الصهيونية، عندما لم تجد أمامها طرفاً آخر مبايناً ومواجهاً لها.
ثانياً: الافتقار إلى العداوة المبدئية وإرادة القتال:
ولكن ما هو البعد العملي الذي ترتب على دخول العلمانية السياسية ممثلة في
القومية العربية أو الوطنية الإقليمية حلبة الصراع في فلسطين بديلاً عن الإسلام؟
طرأ بانتقال قضية فلسطين إلى الريادة العلمانية: إزالة الحاجز العقدي المتمثل
في الولاء والبراء، ذلك الحاجز الذي كان قائماً بين المسلمين والصهاينة عندما كان
الإسلام هو موجه المشاعر، وعليه: لم يصبح اليهود الصهاينة أعداء من منطلق
عقدي ديني، ولم يصبحوا مغتصبين لبقعة تمثل جزءاً مهماً ومميزاً في البناء
المعنوي للمسلمين، بل أصبحوا خصوماً (أو أعداءً) مغتصبين مثلهم مثل أي دولة
إقليمية حتى ولو إسلامية أو عربية يمكن أن يكونوا اليوم معهم في حالة عداء (على
المرعى والماء) كما يمكن أن تزول غداً هذه العداوة.
وهذا البعد المستجد يتضح جليّاً في تلون العلمانيين وتبدل مواقفهم وسقوط
ثوابتهم، بل لقد صرح بعضهم بسقوط هذه العداوة بلا مواربة، فلقد صرح أحد
القادة العرب المشاركين في القضية بسقوط هذا الحاجز أثناء محادثات بينه وبين
اليهود في شهر 1/1949م استهلها قائلاً: «يقال إننا أعداء، يشهد الله أننا لسنا
أعداء!» [12] .
وكلما ازدادت العلمانية بعداً عن الإسلام وتطرفت مشرقة أو مغربة كلما
ازدادت فرصة تفاهمها والتقائها وتعايشها مع (إسرائيل) المجتمع والدولة؛ فلقد
كانت تركيا (الأتاتوركية) وإيران (الشاهانية) أكبر مثال على ذلك، فهما أول
دولتين في العالم الإسلامي تعترفان بدولة (إسرائيل) ، كان ذلك في 17/3/1950م،
ومعلوم مدى التطرف العلماني (ذي التوجه الغربي الليبرالي) الذي كانت تعيشه
هاتان الدولتان، وغير خافٍ تعاون شاه إيران السابق مع (إسرائيل) ومدها
بالبترول أثناء حرب 1973م، وغير خافٍ أيضاً التعاون المستمر حتى الآن
عسكرياً واقتصادياًّ وسياسياًّ بين تركيا وإسرائيل.
وعلى جانب آخر: وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا (أيام
الشيوعية والاشتراكية) موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر، «فقد
انتقدوا (التدخل) العربي في حرب عام 1948م، وطالبوا بسحب الجيوش العربية
(الغازية) ، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة
يهودية، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين،
ولم يقتصروا على هذا، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة
دولة يهودية!» [13] .
وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت وما زالت على أيدي
(الرفاق) الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع (رفاقهم) الشيوعيين اليهود وحدة
الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية «حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار (العربي
الإسرائيلي) منذ عام 1965م حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي
بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري هنري كوريال رسالتين لكل من
جمال عبد الناصر وبن جوريون يدعونهما فيهما باسم (الحركة الديمقراطية)
و (حركة السلام المصرية) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و (إسرائيل)
ودول عدم الانحياز والدول الكبرى، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م
أجهض تلك المحاولة ...
وبعد عدوان 1967م التقى النقيب السابق بالجيش المصري (أحمد حمروش)
رفيق كوريال في الحزب الشيوعي المصري وعضو (الحركة الديمقراطية)
و (حركة الضباط الأحرار) مع كوريال وأريك رولو في باريس، حيث رتبوا اللقاء
بين جمال عبد الناصر وناحوم جولدمان رئيس (المؤتمر اليهودي العالمي) [14] ،
وقد أجهضت المحاولة بوفاة عبد الناصر عام 1970م» [15] .
ولا يستغرب أي عارف بحقيقة الشيوعية هذه المواقف من معتنقيها؛ فالأممية
الشيوعية تتناقض مع غيرها من الأمميات وعلى رأسها الأممية الإسلامية، بينما
تتساوى عندها القوميات المختلفة عربية، أو يهودية (الصهيونية) ، ويمكن أن
تتعايش معها بحظوظ مختلفة بحسب اقتراب هذه القوميات من مبادئها وتحقيقها
لمصالحها، كما أن الشيوعيين العرب يعدون إخوانهم الشيوعيين اليهود في
(إسرائيل) (رفاقهم) في الشيوعية.
ولم يقف التلاقي والتعايش مع الصهاينة عند حد اليساريين العرب، بل تعداه
أيضاً إلى اليساريين الفلسطينيين أنفسهم، فنايف حواتمة أمين عام الجبهة
الديمقراطية لتحرير فلسطين يطالب في حديث صحفي بتأسيس برنامج جديد
لتصحيح الحالة الفلسطينية «باستراتيجية نضالية (!) بكل ما هو ممكن،
واستراتيجية تفاوضية في إطار قرارات الشرعية الدولية» [16] ، وهي القرارات
التي سنعرض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى، وهذا الموقف نفسه تقريباً هو موقف
جورج حبش والجبهة الشعبية.
وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع
والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية، ومن ذلك: إعلان تحالف كوبنهاجن
عام 1997م وتأسيس (جمعية القاهرة للسلام) في العام الذي يليه، بدعم أوروبي
وأمريكي.
وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة
الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم؛
فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام
عن ساحة الصراع: افتقد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك، وتوجهوا
إلى شرعيتهم الدولية يسألونها (حقوقهم المشروعة) ويرضون بالفتات الذي يلقى
إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونه مناقضاً لهم حتى ولو اختلفوا معه،
أو رأوه ظالماً وغاشماً.
وافتقدت الأنظمة العلمانية إرادة القتال حتى في أوج مدها الثوري المزعوم،
فـ « ... منذ أن جاؤوا وهم يعدون العدة لحرب فلسطين! ويعلنون أنهم سيختارون
مكان وزمان المعركة، ولن يسمحوا لإسرائيل بأن تجرهم إلى معركة لا يحددون هم
مكانها وزمانها وسلاحها.. وكل الأمم التي فنيت، بل كل الكائنات التي اندثرت،
كانت تحلم بمعركة تدور وفقاً لشروطها، تحدد هي مكانها وزمانها وأسلحتها،
وراعها وهي تباد تحت ضربات خصمها أنه لم يلتزم بأمانيِّها وضربها قبل أن
تنتهي من تحديد الزمان واختيار المكان وإتمام شحذ السلاح! وأنه نجح دائماً في
جرها إلى المعركة الخاسرة.
إن إرادة القتال هي التي يجب أن تتوفر أولاً، ويأتي بعد ذلك تخير أفضل
الظروف للقتال..» .
«وفي كل مرة كان انفعالهم [بعد ضربات إسرائيل] ينعكس في شكل دهشة
ومرارة العاتبين.. وليس أدق في الدلالة عن حالتهم هذه من التعبير المفضل عندهم
وهو (العدوان الغادر) ! ..
ونقبوا في جميع القواميس، إن وجدتم أحداً قبلهم وصف ضربات عدوه
المصيري بأنها (غدر) ! .. الغدر يأتي من الأصدقاء، أو ممن لا نحمل لهم أية
نوايا عدوانية، ولا نتوقع منهم عدواناً..» [17] .
وليس أدل على عدم إرادتهم القتال من عدم استعدادهم الجدي له على مدى
أكثر من تسعين عاماً، [وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً] (التوبة: 46) .
ثالثاً: هدر الطاقات والحيلولة دون مواجهة العدو:
1 - وفي المقابل: وقف كثير من النخب السياسية العلمانية حائلاً دون منازلة
القوى الشعبية مع الصهاينة عسكرياً وسلمياً، بل إن هذه النخب اصطدمت دوماً
بالحركة الإسلامية التي كانت رأس الحربة في هذه المنازلة بدل التعاون المفترض
معها، وما ذلك إلا لأنها وجدت في هذه الحركة خطراً عليها، فناصبتها العداء؛
لتضع العلمانية بذلك نفسها في خندق واحد مع الصهيونية في مواجهة التيار المعبر
عن رسالة هذه الأمة وأصالتها.
وهكذا بات الإسلام الحقيقي (الذي يسمونه أصولياً) عدواً مشتركاً للعلمانية
والصهيونية، فأصبح تحالفهما للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد بقاءهما هدفاً
مشتركاً تلتقي عليه جهودهما، ومن ثم: كانت النظم العلمانية حاجزاً تلقائياً بين
المقاومة الإسلامية (العسكرية والسلمية) والعدو الصهيوني، بل أصبح ضرب
الحركات الإسلامية وتصفيتها مؤشراً على مكاسب صهيونية قادمة مرتبطة بتنازلات
أو إخفاقات علمانية تستلزم (تأمين الجبهة الداخلية) بإخلائها من المعارضين
النشطين المتوقعين لهذه المكاسب وتلك التنازلات، أي: إخلائها من الحركات
الإسلامية ورموزها الفعالة، بل أصبح الضغط أو تخفيفه على هذه الحركات (ورقة)
تفاوضية ابتزازية تلوح بها هذه النظم العلمانية في وجه الغرب أو في المفاوضات
مع الدولة الصهيونية كلما أحست بالإفلاس السياسي.
ومسيرة الأحداث تؤكد ذلك التعاون بين العلمانية والصهيونية، أو على الأقل:
تؤكد أن العلمانية كانت حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية والعدو:
- فأولى التحركات العسكرية الشعبية الواسعة، وهي ثورة 1936م (1935م
1939م) والتي استمرت توابعها بعد ذلك، كان يحمل لواءها مجاهدون من جمعية
الشبان المسلمين، وكان يقودها الشيخ عز الدين القسام، ثم نشط بعد ذلك جيش
الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وتمكن المتطوعون في هذه الثورة
المسلحة من تحقيق انتصارات متلاحقة خلال عامي 1938و 1939م، ولكن
بجانب تحرك القوى البريطانية والعصابات الصهيونية كان خذلان الأنظمة العربية
العلمانية لهذه الانتفاضة، فشحُّوا بالدعم المادي لقادة الثورة وهم في أمس الحاجة
إليه ليستمروا في جهادهم، بل سارعت هذه الأنظمة بإيعاز من بريطانيا إلى احتواء
هذه الظاهرة تحت شعار الوساطة وحقن الدماء «معتمدين على حسن نوايا صديقتنا
الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل» ، ولا شك أن هذه الثورة كانت
خروجاً عن حسابات وسياسات الاستعمار والأنظمة العربية العلمانية «خصوصاً أن
الثورة أبرزت قيادات ثورية لا تعرف المهادنة أو أنصاف الحلول!» [18] .
- وقبل حرب 1948م وأثناءها تحرك الإخوان المسلمون على الصعيدين
الشعبي والعسكري، فاستطاعوا تحريك الرأي العام المصري تجاه القضية
الفلسطينية من الزاوية الإسلامية، وقد برز دور الإخوان المسلمون أثناء ثورة
فلسطين الكبرى عام 1936م، عندما سارعوا إلى تنظيم المظاهرات، وألفوا اللجان
لتلقي التبرعات وإرسالها إلى اللجنة العربية العليا، وقاموا بإرسال برقيات احتجاج
إلى المندوب السامي بفلسطين ووزارة الخارجية البريطانية وعصبة الأمم، وأخرج
الإخوان في مصر أكثر من نصف مليون متظاهر إلى شوارع القاهرة في اليوم
الثاني لصدور قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947م، وأعلنوا رفضهم للقرار،
مؤكدين عروبة فلسطين وإسلاميتها، مما مثل التجسيد المادي لحضور القضية
الفلسطينية في الشارع المصري.
وقد سطر متطوعو الإخوان في حرب 1948م ملاحم تغنى بها الفلسطينيون
وأكسبت الجماعة الاحترام والتأييد، خصوصاً في ظل الموقف الداعم لقرار التقسيم
من قِبَل الحزب الشيوعي الفلسطيني! النقيض الأيديولوجي لجماعة الإخوان
المسلمين ومنافسهم الشعبي آنذاك وفي ظل الضعف والعجز العربي الرسمي. [19]
فماذا كان الموقف العلماني الرسمي إزاء ذلك؟ :
عرقلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا جهاد الإخوان المسلمون بطرق عديدة؛
لأن «الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشاً
في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة» [20] ، وفي الوقت الذي
كانت المعارك مستعرة بين هؤلاء المتطوعين وعصابات الصهيونية نصبت
الحكومة ما عرف باسم (قضايا الإرهاب) و (قضايا الأوكار) ، وتم حل الإخوان
المسلمين رسمياً، وسيق زعماؤهم إلى المنافي والمعتقلات، واغتيل مؤسسها
ومرشدها العام الشيخ حسن البنا، في وقت كان يعد العدة فيه لإعلان الجهاد العام
والتعبئة الشعبية لتكوين قوات كبيرة يدخل بها فلسطين، وهكذا تم منع الإخوان من
مواصلة جهادهم ضد اليهود [21] .
ولا يخفى الرابط بين هذه الإجراءات ودور هذه الحركة في قضية فلسطين:
ففي إشارة ذات مغزى يعلق محررا مذكرات ديفيد بن جوريون على ما ذكره في يوم
6 /12 / 1948م بأن حكومة النقراشي راغبة في الخروج من الحرب، ولكن
النقراشي باشا يخشى (الوضع الداخلي) إذا بدأ محادثات سلام! .. يعلقا بقولهما:
«ازداد غليان (الإخوان المسلمين) في مصر، وفي كانون الأول / ديسمبر فرض
حظر على التنظيم، واعتقل قادته (في حين كان أعضاؤه يقاتلون في أرض
إسرائيل) » [22] .
- والآن من المعروف أنه بعد انتكاس حركات تحرير فلسطين (الفندقية) لم
يبق في ساحة الصراع الحقيقي، والعملي مع العدو الصهيوني سوى الحركات
الإسلامية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان، وهذا يعرفه
الجميع.
هذا في الوقت الذي تحولت فيه منظمات التحرير الفندقية إلى (جنين) نظام
علماني يرتبط صراحة مع دولة العدو ومع أمريكا بتعهدات واتفاقات سياسية وأمنية
واستخباراتية للتعاون في مواجهة (الإرهاب) الذي هو حركات مقاومة العدو
الصهيوني، ووفقاً لهذه التعهدات والاتفاقيات تقوم أجهزة الأمن (الفلسطينية)
بحملات اعتقال ودهم لعناصر هذه الحركات، كما يتم تبادل المعلومات مع أجهزة
الأمن (الإسرائيلية) حول هذه الحركات، ويتم تأميم مساجدها ومؤسساتها وطرق
اتصالها بالجماهير، بل يتبجح مسؤولو السلطة بهذا التعاون، باعتباره وفاءً
بالتزامات لاتفاقيات دولية! ، وهكذا كان «التعاون اللصيق بين أجهزة
الاستخبارات والأمن في إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، ووكالة
الاستخبارات الأمريكية، هو الذي أجهض جزءاً كبيراً من عمل حماس العسكري،
وكذلك الجهاد الإسلامي؛ فقواعد المعلومات الأمنية بين هذه الأطراف أصبحت
مشتركة (!) وواحدة، ولم يعد أحدها يبخل على الآخر بما لديه، وتبادل
المعلومات والمراقبة اللصيقة يتمان بتنسيق وتناغم» [23] .
- ولم يقتصر الأمر على جهود النظم العلمانية لمحاصرة المقاومة العسكرية
للعدو الصهيوني والوقوف حائلاً دونها، بل تعدتها إلى العمل على محاصرة
المقاومة الشعبية غير العسكرية وإجهاضها، ففور اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة
تسارعت جهود النظم العلمانية لعقد المؤتمرات باشتراك إسرائيل وأمريكا من أجل
احتواء (العنف) وإيقافه والعودة إلى مسار المفاوضات، وتعالت صيحات بعض
المثقفين والسياسيين العلمانيين (الحكماء) من فوق مقاعدهم الوثيرة بأن تحرير
فلسطين لن يتم بإلقاء الحجارة ونزف الدم الفلسطيني.
وعندما تعاطفت جماهير العالم الإسلامي مع إخوانهم في فلسطين خرج من
يلقي عليهم المواعظ السياسية التي تدعوهم إلى الواقعية الحكيمة؛ لأن مظاهر هذا
التعاطف لا تفيد شيئاً في تحرير فلسطين، بل إن الدعوات إلى مقاطعة البضائع
والشركات الأمريكية والإسرائيلية التي نشطت مؤخراً ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً لم
تسلم من انتقادات حكومات ورموز علمانية، فتعالت مرة أخرى صيحات الحكماء
العلمانيين بعدم جدوى هذه المقاطعة وعدم القدرة عليها، ولا شك أن هذه المواقف
متوقعه ممن ربطوا بلادهم سياسياً واقتصادياً بالغرب، بحيث أصبح قطع حبل
العلاقات بالغرب قطعاً لشريان حياتهم هم.
رابعاً: التمزق والتشرذم في مواجهة عدو متكتل:
لم يقتصر التأثير السياسي للعلمانية في قضية فلسطين على إخراج الإسلام من
دائرة الصراع وما تبع ذلك من افتقار إلى البعد الرسالي في الصراع، وإلغاء
العداوة (من أجل المبدأ) ، والافتقار إلى إرادة القتال، وهدر الطاقات الإسلامية
والشعبية في هذا الصراع.. ولكن هذا التأثير حقق أيضاً هدفاً آخر من المخطط
الصهيوني، وهو تفتيت التكتل الإسلامي، وإدخال الأمة في دائرة تمزقات متشعبة،
وإدخال الأفراد في متاهة اغتراب قيمي عندما ضاعت بوصلة هويته على يد
العلمانية.
فاختلاف مذاهب العلمانية وتطبيقاتها، وتباين كل قطر في توجهاته ومصالحه
(التي لم تعد موحدة) .. مزق جهود هذه الأقطار في مجالات عديدة فكرية
وجغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، فبين الليبرالية ودرجاتها،
والاشتراكية ونظرياتها، والقومية وتطبيقاتها، وبين الارتباط بالغرب أو بالشرق أو
محاولة التوسط والتوفيق بينهما ضاعت جهود الأمة، أو تحولت إلى تصريحات
جوفاء ومشاهد مسرحية دعائية يقوم بها الزعماء العلمانيون؛ لإلهاء الشعوب وحفظ
ماء الوجه أمامها.
فالعلمانية عندما اعتمدت القومية العربية إطاراً للصراع تكون قضية فلسطين
قد خسرت تلقائياً إمكانات وجهود الأقطار الإسلامية غير العربية من المشاركة في
هذا الصراع، وليس أدل على ذلك من اعتراف إيران وتركيا مبكراً كما ذكرنا سابقاً
بالدولة الصهيونية ومد يد التعاون معها.
زد على ذلك: أن العلمانية لم تكتف بتحييد الشعوب الإسلامية غير العربية
في الصراع، بل عملت أيضاً على تحييد الشعوب العربية نفسها، عندما كرست
التوجه القائل بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية تخص شعب فلسطين وحده،
ولا يبقى للشعوب العربية الأخرى إلا أن (تتعاطف) مع هذا الشعب في محنته
ومأساته.
وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وانحرافها العلماني إحدى الخطوات
في (فلسطنة) الصراع، وجدير بالذكر في هذا المجال (التمزق والفلسطنة) أن
(زعيم القومية العربية) جمال عبد الناصر، وقبيل بدء مغامراته الاستنزافية
والتمزيقية في اليمن، كان قد أعلن في فبراير عام 1958م قيام دولة وحدة عربية
بين مصر وسورية، ف «استبشر بها الفلسطينيون خيراً، وبنوا الآمال الكبار
عليها متوقعين من دولة الوحدة اتخاذ خطوات إيجابية لعودة الفلسطينيين إلى بلادهم
وتحرير أرضهم المحتلة، إلا أن خيبة أملهم كانت كبيرة عندما رفض عبد الناصر
طلباً تقدم به الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا بقبول فلسطين في
الاتحاد السوري المصري. ويبدو أن عبد الناصر كان متخوفاً من أن يؤدي قبوله
بهذه الوحدة إلى تحمله مسؤولية تحرير فلسطين وممارسة الضغوط عليه لإعطاء
المسألة الفلسطينية دوراً أكبر، بينما لم يكن عبد الناصر يعطي الأولوية للقضية
الفلسطينية. ويقول باتريك سل: إن دولة الوحدة لم يكن القضاء على إسرائيل هدفاً
من أهدافها» [24] .
وذلك يؤكد أن القومية العربية العلمانية في ممارستها العملية كانت أداة لتمزيق
القوى المواجهة للعدو الصهيوني، ولم تكن أداة للتوحد العربي كما يزعمون أو
يُنَظِّرون.
وإذا أخذنا لدراسة هذا الأثر العلماني مجالاً يتأثر بغيره من المجالات ويؤثر
في غيره أيضاً، وهو المجال العسكري، نموذجاً لهذا التمزق، نجد أن من أهم
أسباب الهزيمة في فلسطين باعتراف جميع الأطراف هو ذلك التمزق الذي اعتراه.
فإضافة إلى أخطاء النظم العلمانية العسكرية الأخرى، كالتهوين من قوة العدو
والاستخفاف بها، والأسلحة الفاسدة، وضعف التدريب والتسليح، والافتقار إلى
التخطيط الجيد ... كان لتشرذم القوات العربية تحت قيادات مختلفة متخالفة أثر
كبير في الهزيمة العسكرية، ففي حرب 1948 م يعرض ديفيد بن جوريون
وجهة نظره في أسباب هزيمة العرب التي ساهمت في انتصار اليهود عسكرياً عليهم
بأنها:
1- خطتهم الاستراتيجية كانت سيئة، ولا سيما خطة المصريين.
2- لم تكن لديهم قيادة موحدة [أثر العامل السياسي] .
3 - تسليحهم لم يكن كافياً لم يكن هناك قوة جوية، ومصر كانت ضعيفة في
البحر.
4- الطاقة البشرية المجندة لم تكن كافية أيضاً. استطعنا تعبئة قوة أكبر من
قوتهم.
5 - معنوياتهم منخفضة [لافتقاد الهدف وضياع الهوية والتخبط العسكري] .
6 - قدرة تعلم منخفضة.
7 - لم تكن عندهم صناعة عسكرية [أثر العامل الاقتصادي والعلمي] [25] .
وهذا ما يقر به علمانيو العرب أنفسهم، ولكن بالطبع بعد انتهاء المعارك.
بل وصل هذا التشرذم والتمزق إلى حد بعيد قد لا يتصوره أي (متعاطف)
مع القضية الفلسطينية: فيذكر بن جوريون في يومية 16/1/1949م أن موشيه
دايان عاد بعد حديث مع أحد القادة العرب ليخبره أن «العجوز يشكو من الإنجليز
الذين هو عبدهم (!) ، يطلب عدم ترك المصريين، لا سمح الله! ، في غزة،
من المفضل أن نسلمها إلى الشيطان، أن نأخذها نحن، شرط ألا يأخذها المصريون
(!) » [26] ، أما النظرة الاستراتيجية عند هذا (العجوز) فيوضحها هو نفسه
لليهود قائلاً: «إذا غادرت الدول العربية البلد فإننا سنقيم معاً» ، وفي صراحة لا
لبس فيها يوضح أنه «لا يريد محادثات مشتركة مع الدول العربية، وهذه عليها
المغادرة» ، بل إنه لا يعترف بحق أي دولة في أن تكون موجودة في البلد
[فلسطين] باستثناء اثنتين: إسرائيل ودولته « [27] .
ولا شك أن هذا التمزق والتشرذم العسكري والسياسي كان عاملاً مهماً في
الهزيمة العسكرية وما صاحبها ولحقها من تراجع سياسي، تمثل في اكتساب
الصهاينة أرضاً جديدة وقبول العرب الهدنة التي مكنت العدو من إعادة تنظيم
صفوفه وتعويض وتجديد تسليحه، والتفرغ لبناء دولته في ظل اعتراف عربي
ضمني بحدودها، بينما تحطمت القوة العربية وتدنت الروح المعنوية في صفوف
جنودها، أما عرب فلسطين: فكان لهم الشتات! .
كان هذا أيام النكبة العلمانية، ولا يختلف الأمر كثيراً في نكستهم الثورية
التقدمية الوحدوية ... سنة 1967م:
فقد وقعت هذه النكسة (هكذا يطلق إعلامهم على هذه الهزيمة وكأنهم كانوا
منتصرين قبلها) وقعت بعد استنزاف طويل وصراع بين عدة أطراف عربية،
ورطها فيها زعيم القومية العربية آنذاك جمال عبد الناصر، كان منها: حرب اليمن
والوحدة الفاشلة بين مصر وسورية.
ويؤكد مراسل حربي لجريدة الأوبزرفر على حقيقة تسبب التفرق والتشرذم في
هذه الهزيمة، فيقول:» إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية
ليست تحت قيادة موحدة، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد «.
وقال:» ... وعلى الجبهة الشمالية سورية، تحققت نبوءة المخططين
الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون
بأية عمليات جدية لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه،
وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين « [28] .
وتعجب بعد ذلك لجريدة (الثورة) تخرج بعد اكتمال الهزيمة لتلقننا درسًا
وحدوياً قائلة» ... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق
أوسع للاستراتيجية العربية، ورافق ذلك توزيع أدق للقوات « [29] .
ولا شك أن العلمانية بتمزيقها للأمة وإدخالها في صراعات تستهلك قدراتها
وتلهي شعوبها قد أسدت إلى الدولة الصهيونية خدمة كبرى وحققت لها هدفاً بعيداً،
» وأي شيء هو أسعد لإسرائيل من أن تلقى دولاً مفككة، ممزقة، هزيلة، يمعن
بعضه في تحطيم وتجريح البعض الآخر، ويضمر له من العداوة والضراوة والكره
عشرة أمثال ما يضمر لإسرائيل؟ ! « [30] .
وقد كان هذا الهدف لدولة العدو يخطط له من قديم بأسلوب ثانٍ تحقق في
الواقع أيضاً، هو: إقامة دويلات طائفية حول الدولة الصهيونية، ولا يمنع إذا
استدعى الأمر محاولة تقسيم بعض الدول الكبرى على هذا الأساس [31] ؛ لتكوّن
هذه الدويلات حزاماً أمنياً يمثل خط دفاع متقدم عن اليهود، وهو أحد عناصر ما
يعرف بتأمين المجال الحيوي [32] ، وهنا يبرز المثال الواضح لذلك التخطيط، وهو
دويلة الرائد سعد حداد التي انفصل بها في جنوب لبنان عام 1979م، ثم غزو لبنان
الكامل ومحاولة فرض اتفاقية (سلام) مع قادة القوات اللبنانية الكتائبية المارون
عام 1982م.
ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المخطط مخطط قديم، دأب قادة العدو على
تحين الفرصة المناسبة لتنفيذه، فيذكر بن جوريون في يومياته (19- 20/12/
1948م) اقتراحات بعض القادة بهذا الخصوص في إحدى جلسات الحكومة، من
ذلك اقتراح مردخاي بنطوف:» يجب تحطيم الحلقة الأضعف، كان هذا في لبنان
الماضي، كان يمكن الذهاب إلى بيروت وتأليف حكومة مارونية (بقيادة المسيحيين
الموارنة) وإبرام سلام معها «، و» يقترح جوش [بلمون] ، بموافقة يغئيل
[يادين] جيشاً عربياً غير نظامي (غير إسلامي) كي يشكل حزاماً « [33] .
وهي الفكرة التي نوقشت مرة أخرى سنة 1954م وقت أن كان موشي شاريت
رئيساً للوزراء، وقد وافق شاريت على مبدئها وإن اختلف مع بن جوريون في
ظروف وتوقيت تنفيذها، ويذكر شاريت أن الفكرة نفسها نوقشت أيضاً في 16/5/
1955م أثناء اجتماع مشترك لكبار موظفي وزارتي الدفاع والخارجية، فبعد أن
أثارها بن جوريون عبّر دايان فوراً عن مساندته بحماس:» حسب رأيه (دايان)
الشيء الوحيد الضروري هو العثور على ضابط، ولو برتبة رائد (!) فقط،
وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال، ليوافق على إعلان نفسه مخلِّصاً
للسكان الموارنة، وعندئذ يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، ويحتل المنطقة
الضرورية، ويخلق نظام حكم مسيحي يكون حليفاً لإسرائيل ...
وافق رئيس الأركان أن نستأجر ضابطاً (لبنانياً) يوافق أن يقوم بدور دمية
بحيث يتمكن الجيش الإسرائيلي من الظهور وكأنه يتجاوب مع طلب (لتحرير لبنان
من المعارضين المسلمين) « [34] ، وهو ما تم بالفعل بعد حوالي خمسة وعشرين
عاماً.
ولسنا هنا في معرض مقارنة وضوح الهدف في ذهن قادة العدو، وتخطيطهم
بعيد المدى لتحقيقه، وإصرارهم على التنفيذ، ونجاحهم فيه، مقابل ارتجالية القادة
العلمانيين وإخفاقهم المستمر، ولكنا نشير إلى أنه كان من حجج دعاة القومية العربية
العلمانية التي يروجونها دائماً: أن الالتفاف حول الإسلام كآصرة تجمُّع وولاء
سيقصي تلقائياً العرب النصارى ويخسرهم ويفتح المجال لثغرات في جسد الأمة،
بخلاف قوميتهم العربية العلمانية التي ستضم هؤلاء النصارى إلى النسيج السياسي
العربي، وهذه الحجة رغم تهافتها، ورغم أن القومية العربية لم تحل نظرياً ولا
عملياً مشكلة أخرى، هي وجود قوميات عرقية أخرى في الجسد العربي يمكن
اللعب عليها كالأكراد والبربر والزنوج؛ رغم كل ذلك فقد سقطت هذه الحجة في
أول اختبار عملي لها، ذلك إن التكتل النصراني اللبناني تحالف مع أعداء الأمة
(العربية!) في أول فرصة أتيحت له، ومزق بطائفيته النسيج القومي العربي
المزعوم.
وهكذا أصبحت القومية العربية العلمانية مجرد محطة في طريق تجزئة الأمة
يتم تجاوزها بعد استنفاذ أغراضها واستثمارها من قبل العدو.
__________
(1) انظر: الأراضي المقدسة بين الماضي والحاضر والمستقبل (دراسة حديثية تحليلية) ، لإبراهيم العلي، ص 31- 63.
(2) انظر فيما يلي: السلطان عبد الحميد وفلسطين، لرفيق شاكر النتشة، ص 163 190، وصحوة الرجل المريض، للدكتور موفق بني المرجة، ص 213-227، 412، والعثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، للدكتور محمد سهيل طقوش، ص 482 494، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، ج 7، ص90.
(3) السنجق: بمعنى لواء، أي: إقليم أو محافظة.
(4) رفيق شاكر النتشة، مصدر سابق، ص 128، 125، وصحوة الرجل المريض، ص 220.
(5) انظر: مجلة الدراسات الفلسطينية، مقال غازي فلاح (إسرائيل والأرض الفلسطينية) ، ص 67، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج7، ص 64، 94، ج2، ص 110، والمدخل إلى القضية الفلسطينية، تحرير جواد الحمد، مقال (قيام دولة إسرائيل) للدكتور نظام بركات، ص 202.
(6) البعد القومي للقضية الفلسطينية، د إبراهيم ابراش، ص 23.
(7) انظر وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع في: يقظة العرب، لجورج انطونيوس، ترجمة: د ناصر الدين الأسد ود إحسان عباس، ص 267-270، والبعد القومي للقضية الفلسطينية، د إبراهيم ابراش، ص 30 -32.
(8) للوقوف على هذه الملامح، انظر على سبيل المثال: يوميات الحرب، ديفيد بن جوريون، ص 702، 703، 747، 748.
(9) نقلاً عن: نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني، د إبراهيم يحيى الشهابي ص 73.
(10) ديفيد بن جوريون، يوميات الحرب، تحرير: غيرشون ريفلين وإلحانان أورون، ترجمة: سمير جبور، ص 702.
(11) نقلاً عن: نقاط على الحروف في الصراع العربي الصهيوني، ص 68.
(12) ديفيد بن جوريون، يوميات الحرب، ص 720.
(13) د إبراهيم ابراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 114.
(14) يذكر أحمد حمروش نفسه أن هذه الاتصالات مع جولدمان كانت تتم بمعرفة جمال عبد الناصر (زعيم القومية العربية) ! ، انظر: جريدة الشرق الأوسط، ع / 8085، 16/1/2001.
(15) صحوة الرجل المريض، ص 221-224.
(16) جريدة الشرق الأوسط، ع/ 7879، 24/6/2000.
(17) محمد جلال كشك، النكسة والغزو الفكري، ص 203-204، 213.
(18) انظر: البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 68-69، ومقال شكري نصر الله (انتفاضة الأقصى الخامسة منذ إعلان بلفور) جريدة الشرق الأوسط، ع / 8019، 11 / 11 / 2000.
(19) انظر: بين تحرير فلسطين والدولة الإسلامية، د بسام العموش، بحث ضمن كتاب: المدخل إلى القضية الفلسطينية، ص 251 252، ومصر وفلسطين، د عواطف عبد الرحمن، ص 137- 139، 274- 279.
(20) كامل الشريف، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، ص 65 66.
(21) انظر: المصدر السابق، ص 213 219.
(22) يوميات الحرب، ص 652، والأقواس من وضع المحررين.
(23) خالد الحروب، مقال (خيارات حركة حماس في ظل التسوية المقبلة) ، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع/ 42، ربيع / 2000، ص 34.
(24) البعد القومي للقضية الفلسطينية، ص 143، وانظر: بحث (بين تحرير فلسطين والوحدة العربية) للدكتور أحمد سعيد نوفل، ضمن كتاب (المدخل إلى القضية الفلسطينية) ، ص 237-239.
(25) يوميات الحرب، ص 747.
(26) يوميات الحرب، ص 717، وانظر ص 721، وقارن ذلك بموقف السلطان عبد الحميد من مساومات اليهود على فلسطين.
(27) انظر: السابق، ص 720 721.
(28) انظر: السابق، ص 720 721.
(29) سقوط الجولان، لضابط استخبارات الجولان قبل الحرب خليل مصطفى، ص 161.
(30) سعد جمعة، المؤامرة ومعركة المصير، ص 102.
(31) ولك أن تنظر إلى ما يجري الآن في السودان والعراق، وإثارة مشكلة البربر في الجزائر،: كما أن مصر لم تسلم أيضاً من هذا التخطيط الصهيوني؛ إذ تكشف الوثائق عن مخطط بعيد المرامي يهدف إلى تقسيم مصر إلى أربع دويلات طائفية، انظر: فلسطين أرض الرسالات الإلهية، روجيه جارودي، ومقال (احتواء العقل المصري) للدكتور حامد ربيع، ضمن كتاب (الاستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر) ، إعداد: د جمال عبد الهادي وعبد الراضي أمين، ص 22، والطريق إلى بيت المقدس، د جمال عبد الهادي، ج3، ص 164.
(32) انظر: نقاط على حروف في الصراع العربي الصهيوني، ص 68، 74 - 75، ومقدمة نذير عاروري لكتاب (إرهاب إسرائيل المقدس) ، ص 18.
(33) يوميات الحرب، ص 668.
(34) إرهاب إسرائيل المقدس، تأليف: ليفيا روكاخ، ترجمة: مصطفى درويش، ص 67.(161/80)
حوار
حوار مع الشيخ أحمد ياسين:
انتفاضتنا الآن تتحول إلى انتفاضة مسلحة
أجرى الحوار: عماد عبد الرحمن
هدَّد الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس وزعيمها
بتنفيذ عمليات عسكرية ضخمة ضد قوات الاحتلال الصهيوني مشدداً على أن
حركته مستمرة في خيار المقاومة ضد العدو الصهيوني مهما كلفها ذلك من ثمن،
وبغضِّ النظر عن المصاعب والظروف أو عقد الاتفاقيات بين الجانبين الفلسطيني
و (الإسرائيلي) ، مضيفاً أن حركته تحملت في سبيل ذلك الألم والعذاب واستشهاد
عدد من أبنائها واعتقال الآلاف من أعضائها.
وأكد الشيخ ياسين على أن خيار المقاومة باق ما بقي الاحتلال، وأن حركته
ستحافظ على خيار الصبر والألم، ولن تفتح صراعات مع أي قوى فلسطينية ولا
مع السلطة الفلسطينية حتى إن عادت الاعتقالات والسجون. وطالب الأمة العربية
والإسلامية بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في جهاده ضد العدو الصهيوني،
ودعا الدول العربية إلى فتح الحدود أمام الشعوب للمشاركة في معركة تحرير
المقدسات التي يدنسها العدو، وإمداد المقاتل الفسلطيني بالسلاح. وكشف لأول مرة
عن وجود خبراء من حماس يستطيعون تصنيع وتطوير السلاح، وأن العالم سيرى
أن بإمكان الشعب الفلسطيني صنع المعجزات التي لم يصنعها أي شعب إذا توفر
لديه ما توفر للمقاومة اللبنانية.
وفيما يلي نص الحوار الذي جرى في منزله بغزة وخص به مجلة البيان:
البيان: في ظل التفاعل الشعبي العربي والإسلامي مع الانتفاضة ما هي
برأيكم الوسائل الفعالة لتوظيف هذا التعاطف بشكل عملي لدعم هذه الانتفاضة؟
* بسم الله الرحمن الرحيم. الحقيقة أن شعبنا الفلسطيني يشعر بالفخر
والاعتزاز بمواقف الشعوب العربية والإسلامية الداعمة لانتفاضة الأقصى، ويعتقد
أن مجرد خروج الشعوب إلى الشوارع في مسيرات ومظاهرات تؤكد دعمها للشعب
الفلسطيني، وتؤكد استعدادها للجهاد في فلسطين وتحرير القدس والمقدسات، وهذا
مؤشر خير كبير جداً في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن أن يقف إلى هذا الحد
فهذا لا يصل إلى ما يتطلع إليه الشعب الفلسطيني بالذات والأمة العربية والإسلامية؛
فالمطلوب:
أولاً: الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني.
ثانياً: الدعم السياسي والإعلامي لتوضيح الحقيقة في العالم الآخر المعادي،
وليس مجرد توضيحها للشعوب العربية والإسلامية وإنما للعالم المعادي الذي يقف
إلى جانب عدونا، يفهمه الحقيقة التي قلبها العدو في أذهان العالم وحوَّل المعتدى
عليه وهو الشعب الفلسطيني إلى معتدٍ، والمعتدي وهم اليهود إلى معتدى عليه،
وهذا مهم جداً أن تتضح هذه الصورة في العالم الشرقي والغربي.
ثالثاً: الدعم الاقتصادي؛ لأن الشعب الفلسطيني كما قالوا في بطن التنين
محاصر يستطيع أن يميته جوعاً أو يقتله؛ فهو يحتاج إلى الدعم المادي ليستطيع
الثبات على أرضه ووطنه حتى لا يُجبَر على الهجرة والفرار من أرض المعركة،
ثم الدعم المادي؛ فهو يحتاج إلى قوت وعلاج وحياة ... إلى آخره، وهذا يحتاج
إلى علاج آثار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني من جرحى وأسرى
وشهداء وأرامل وأيتام ... إلى آخره.
رابعاً: نحن محتاجون إلى الدعم العسكري؛ وهذا يترك لكل دولة وقدرتها
فيما تستطيع أن تدعم به. الدعم العسكري معناه أن تمد المقاتل الفلسطيني بالسلاح
الممكن والمناسب للمعركة الحالية.
خامساً: هو فتح الحدود أمام الشعوب العربية والإسلامية لتنضم للمقاتلين
لحسم المعركة وإن شاء الله تكون المعركة الحاسمة الأخيرة وإنهاء الوجود
الصهيوني؛ وهذا إن شاء الله يتم في المستقبل.
هذا هو الذي يمكن أن تتحمله الأمة العربية والإسلامية من مسؤولية، وما
يمكن أن تساهم به في وصولنا إلى الهدف النهائي إن شاء الله.
البيان: ألا تعتقد أن هذا التعاطف خَفَت قليلاً؛ فما هو سبب ذلك؟
* صحيح أن التعاطف خَفَت في المظهر ولكنه في الجوهر موجود، الشعوب
العربية والإسلامية ما غيرت موقفها من القضية الفلسطينية؛ وإنما كل فعل له ردة
فعل؛ فعندما يشاهد العربي والمسلم في العالم على شاشات التلفزيون عشرات شهداء
وجرحى ومسيرات، فإن هذا يثيره أكثر من يوم لا يرى فيه شهداء أو يوجد فيه
شهيد أو شهيدان، كل هذه الحوادث تثيره وتحركه إلى المستوى المطلوب، ولكن
هم يظنون أن الانتفاضة ستبقى بالحجر؛ وهذا هو الذي كان يثير المظاهر،
انتفاضتنا الآن تتحول إلى انتفاضة مسلحة.
البيان: ألا تعتقد أن استئناف السلطة للمفاوضات كان له مردود سلبي على
حجم التعاطف الشعبي مع الانتفاضة؟
* صحيح أن الشعب الفلسطيني هنا يتألم كله، يتألم عندما يرى ازدواجية
النظرة عند السلطة بين مقاومة وشهداء وجرحى وأسرى، وبعدها يجده يذهب إلى
المفاوضات ويلهث وراء مسيرة فاشلة مسيرة التسوية المفروضة التي لا يمكن أن
تخدم القضية الفلسطينية؛ فكل الشعب الفلسطيني ينظر لهذه المفاوضات نظرة شؤم
وعدم احترام، ويطالب بعدم السير فيها، ووقف كل هذه التعاملات مع إسرائيل؛
لأنها لا تجدي شيئاً، ويرى أن المقاومة هي الخيار الوحيد المجدي مع العدو، لكن
أنا أقول لك يعني في نظري الآن: إن الشعب الفلسطيني كله يقول: أنا بدل أن
أموت بحجر أموت بقنبلة أَقتُل وأُقتَل، يعني أن الانتفاضة تتحول من يوم إلى يوم
إلى انتفاضة مسلحة؛ وهذه المظاهر لا تبدو في الإعلام بشكل كامل. كل يوم هناك
إطلاق نار ومواجهات لكن الذي يظهر منها هو الشيء الكبير الذي يحدث خسائر
كبيرة في العدو.
البيان: يتساءل الناس عن جدوى مواجهة الدبابات والمدافع الإسرائيلية
بالحجارة؛ فهل هناك إمكانية في المستقبل لتحويل الانتفاضة إلى جهاد مسلح بكافة
الأسلحة؟
* أنا تحدثت حول هذا الموضوع، وقلت إن الشعب الفلسطيني يدرك أن
مواجهة دبابة بحجر شيء صعب وقاس على الإنسان، وأن الضحية يكون هو من
يحمل الحجر؛ لكن رغم هذا الشعور والألم إلا أن الفلسطيني يقول: أنا أريد
تحريك ضمير العالم كله ليرى إنساناً مغتصبة أرضه وفي ظل احتلال، ومغلوباً
على أمره لا يجد ما يقاوم به العدو إلا الحجر ورغم هذا يتحدى بالحجر؛ فهذا يثير
مشاعر كل البشرية في العالم الذي يرى إنساناً يقاتل بحجر وعدوه أمامه يقاتل
بالطائرات والصواريخ والدبابات! هذا يعطي صورة أن هذا الإنسان لولا أنه على
حق لما كان له أن يقف هذا الموقف وهذا الإصرار ويقدم التضحيات بهذا الشكل
العظيم الكبير. هذه واحدة والثانية أن الشعب الفلسطيني نفسه يريد أن يكشف وجه
العدو الصهيوني وبشاعته أمام العالم كيف يقابل الحجر بالصواريخ؛ وهذا يدل على
الوحشية من هذا الإنسان الذي لا يعرف الإنسانية ولا الرحمة لا يميز بين طفل ولا
امرأة ولا عجوز ولا بين مدني وعسكري، ولا حتى حيوان؛ فالكل عنده سيان.
الشيء الثاني أن الشعب الفلسطيني أدرك مع طول هذه المدة والتضحيات التي قدمها
والشهداء والجرحى أنه يجب أن يعمل على تطوير نفسه في مواجهة العدو
بالأساليب المستخدمة نفسها وهي القوة؛ لأن هذا العدو لا يفهم إلا لغة القوة، فبدأ
الشعب الفلسطيني يطور نفسه بمواجهته مع العدو بنفس الأساليب والأسلحة التي
يستخدمها العدو وإن كان هناك فارق كبير بين مستوى ومستوى؛ لكن يبقى
المستوى البسيط الذي يملكه الشعب الفلسطيني أقوى من المستوى الذي يملكه العدو؛
لأن المهم أن تُحدث في هذا العدو خسائر، وأن تُحدث لدى العدو توازن رعب
كما يقولون، فطالما أنك قدمت 450 شهيداً، فقد قدم ما يقارب 60 70 قتيلاً منه،
وهذا عدد ليس بسيطاً خلال 4 -5 شهور، إذ إنه في جنوب لبنان كان يقدم خلال
العام من 20 -30 قتيلاً؛ ففي أربعة شهور خسر ما خسره في لبنان في ثلاث
سنوات؛ وهذا شيء بالنسبة له كبير جداً، ثم توازن الرعب الذي نتحدث عنه،
نحن نموت ونزغرد ونخرج بمسيرات ونواجه بالحجر لكن العدو يولول ويهرب
ويخاف. الجندي الذي يركب الدبابة والقنبلةُ والصاروخُ في يده خائف. إذن صار
هناك توازن رعب: الإسرائيلي يمشي في السوق والشارع وهو خائف، يذهب إلى
المدرسة وهو خائف، إذن أنا نقلت المعركة إلى أرضه تماماً كما قال الرسول صلى
الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر» [1] ، وهذه أول علامات النصر
والتمكين إن شاء الله، وعلى ذلك أنا أؤكد أن انتفاضة شعبنا ستتحول إلى انتفاضة
مسلحة، وأن هذا يعتمد أولاً على توفيق الله، وثانياً على مدى الدعم الذي يتلقاه
المقاتل الفلسطيني من الأمة العربية والإسلامية؛ لأن الأنظمة في الحقيقة لا زالت
تعالج آثار العدوان، وأنا أقول: لا يكفي أن أعالج آثار العدوان بأن أقدم مساعدة
للشهيد والجريح وطروداً غذائية؛ ولكن يجب أن أعالج أساس المواجهة،
والمواجهة تحتاج إلى قوة مال وسلاح؛ وهذا طبعاً هو الذي إن شاء الله سيثبت
المقاتل والمجاهد الفلسطيني في مواجهة هذا العدو الذي لا تتوقف أطماعه عند حدود
فلسطين، والمقاتل الفلسطيني والمجاهد الفلسطيني يستشهد وهو يدافع عن دينه
ونفسه أولاً وأرضه ووطنه، ويدافع عن الأمة العربية والإسلامية التي هي مستهدفة
من هذا العدو.
البيان: قامت حركات جهادية تحريرية في أماكن كثيرة من العالم كأفغانستان
والشيشان وكشمير، وقد استطاع أكثرها أن يتغلب على مشكلة الحصول على
السلاح وأماكن التدريب لتحقيق أهدافها؛ فما السبب في إخفاق الحركات الإسلامية
في فلسطين في الوصول إلى هذا المستوى في المراحل السابقة؟
* أولاً: الحقيقة أنا لا أتفق مع المقدمة التي طرحتها وأقول: إن الحركات
الإسلامية المجاهدة في فلسطين حصلت على السلاح، واستطاعت أن تحصل على
السلاح وطورت السلاح إلى مستوى تقني تعجز عنه دول؛ فإنك تجد الآن من
يصنع الآر بي جي، ومن يصنع الهاون، ومن يصنع القذائف، ومن يصنع
المتفجرات الموجهة، والصواريخ الموجهة للدبابات هناك دول تعجز عن صناعة
هذا الشيء اليوم، لكن لا ينبغي أن يطلبوا منا أكثر من القدرة التي يسمح بها واقعنا.
نحن في واقع صعب مع عدو محتل؛ أنا لا أستطيع أن أنشئ مصانع سلاح هنا؛
فأنا أصنع وأهرب من حارة إلى حارة، والمصنع يحتاج إلى مكان آمن، ولا ننسى
أن السلطة الفلسطينية لعبت دوراً في نزع السلاح من الحركات الإسلامية من أجل
(الأمن الإسرائيلي) والمحافظة على (الأمن الإسرائيلي) وحجزت واعتقلت
المجاهدين والمقاتلين في السجون، وهذا أخَّر الابتكار وتطوير القوة المواجهة للعدو،
خلال سبع سنوات عاشت المقاومة في فلسطين في ظل سلطة ترفض المقاومة
وتطارد المقاومة وتسجن المقاومة، وأنت تعرف أن المقاومة أيضاً مطاردة في
الحدود العربية التي حول فلسطين، المقاومة من حدود مصر والأردن ممنوعة،
والمقاومة من حدود لبنان ممنوعة إلا لجانب معين تريده الحكومة اللبنانية، إذن
يبقى المقاوم الفلسطيني يعمل على الأرض الفلسطينية وإمكاناته تتحدد وتنمو على
حسب الحرية التي يتمتع بها هذا المقاتل والأرض التي يقف عليها، وانظر أنه
خلال خمسة شهور عندما وقفت السلطة إلى جانب الشعب الفلسطيني وأوقفت
مطاردتها للمقاومين والمقاتلين صارت هناك إبداعات كثيرة جداً رغم أن هذه
الإبداعات بدأت في العام 1996م، والسلطة تطارد والضربات التي نفذتها حركة
حماس ضد (إسرائيل) هي التي أدت إلى مؤتمر شرم الشيخ لمقاومة ما يسمى
بالإرهاب؛ وبناء عليه نحن لدينا إمكانات وقدرة على مواجهة العدو وابتكار الجديد،
وشعبنا قادر كما قال الملك عبد العزيز رحمه الله في الجامعة العربية: «اتركوا
الشعب الفلسطيني يواجه اليهود بنفسه؛ فهو أعلم بعدوه، وعليكم أن تمدوه بالمال
والسلاح فقط» يعني كان لا يريد أن تدخل الجيوش العربية إلى فلسطين، واليوم
نتمنى أن يأخذوا هذا الدرس ويمدوا الشعب الفلسطيني بالمال والسلاح، وهو الذي
كان الحاج أمين الحسيني يطالب به أيضاً وقال لهم: «نحن مش عايزين جيوش
نحن عايزين إمداد مال وسلاح، وشعبنا قادر على اليهود» صحيح أن هذه لا تحسم
المعركة لكن هذه تساهم في الطريق إلى المعركة النهائية في إضعاف العدو وإرباكه
حتى تأتي المعركة النهائية وتكون القوة العربية والإسلامية جاهزة للوقوف إلى
جانب الشعب الفلسطيني وحسم الصراع إن شاء الله.
البيان: راقب الإسلاميون بإعجاب وتقدير دوركم العظيم في الحيلولة دون
نشوب حرب أهلية بين الفلسطينيين قبل الانتفاضة بسبب الدور المشبوه لعناصر من
السلطة الفلسطينية ضد حماس وغيرها من الحركات الإسلامية؛ فهل من المستطاع
المحافظة على هذه السياسة لو استمرت فيما بعد الاستفزازات ضدكم أو أن هناك
خطوطاً حمراء غير مسموح بتجاوزها؟
* نحن في الحقيقة أمامنا معادلة صعبة وقاسية، والمعادلة التي يسعى العدو
الصهيوني لأن يوصلنا لها والتي يسعى لها كل الاستعمار والاحتلال في العالم بنظام
وسياسة فرق تسد، وهو أتى بالسلطة عبر اتفاق أوسلو ونقلها إلى هنا بهدف واحد
فقط وهو الحفاظ على أمنه ضد المقاومة، والمقاومة متمثلة بالقوى الإسلامية،
وكونه هو وضع نصف الشعب الفلسطيني في جانبه ضد بقية الشعب الفلسطيني
فهذا يعني أنه رابح في هذه الحالة؛ ونحن في حماس قرأنا المعادلة مبكراً: هل
نمشي في السياسة نفسها؟ يعني هم يطاردوننا من أجل (الأمن الإسرائيلي) ونحن
لو قاومنا ندخل في معركة الحرب الأهلية ويخرج المستفيد منها فقط (إسرائيل)
وشعبنا هو الذي يخسر كما يحدث في الجزائر من مذابح باسم الإسلام والمسلمين،
وهي من صنع المخابرات الأجنبية وعمل أعداء الإسلام ليشوهوا الصورة الإسلامية
ولذلك نحن اخترنا خيار الألم والصبر والتضحية على خيار الصدام مع السلطة
وسفك الدماء الفلسطينية، ومن أجل هذا الخيار دخلت قيادات من كتائب القسام
وقيادات من حماس السجون، ودخل السجون آلاف من إخواننا، وتحملنا كل هذا،
والتعذيب القاسي الذي واجهه إخواننا في السجون أقسى مما كان يتصوره من العدو
الصهيوني. خرجنا ونحن مقاتلون، ودخل أبناؤنا السجون وهم مقاتلون وليسوا
مجرمين ضد أبناء شعبهم، وكي نحافظ على هذه الوتيرة. ونحن دخلنا في السجون
بشرف وخرجنا بشرف وغير مستعدين أن ندخل السجون ونحن قاتلون لأبنائنا،
ونحن الآن بكل طاقتنا وإمكاناتنا سنحافظ على هذا الخيار مهما كان فيه من ألم لتبقى
بنادقنا فقط موجهة إلى العدو الصهيوني ودون أن تنحرف إلى الشعب الفلسطيني،
وستستمر هذه المعادلة إن شاء الله مهما بلغت الآلام والتضحيات؛ هذا عزمنا،
وهذا عهدنا مع الله أولاً ومع شعبنا ثانياً ومع أمتنا العربية والإسلامية.
البيان: لكن ألا يزيد ذلك من تمادي السلطة وتطاولها عليكم؟ ألا تقدِّر السلطة
هذه المعاني التي تتحدثون عنها؟
* الحقيقة أن كلامك صحيح؛ وهذا ما حصل في الماضي من بعض الأجهزة
التي كانت تعذب الشباب بكل ما لم تعرفه الإنسانية: تعذبه حتى تخلع كتفه، تكسر
فقرات العمود الفقري، إلى آخره من التعذيب إلى جانب التعذيب النفسي؛ لكن وأنا
أتعذب بين يدي هذا المجرم أحس بالمعنوية العالية بأنني شريف وكريم ومقاتل
ومجاهد، لكن هو وهو يعذبني مهزوم من داخله؛ لأنه يخدم العدو الصهيوني، وأنا
أخدم الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وأنا أسير في الشارع رافعاً رأسي؛
لأنني وطني مسلم مجاهد فيعتز بي الشعب الفلسطيني كله، وهو يمشي في الشارع
وهو مستحٍ، إذا هزم هو نفسياً وإذا هزم معنوياً وفكرياً فأنا أكون المنتصر، ومعنى
ذلك أني غير مستعد أن أعطيه مسوِّغاً لأن يتغوَّل أكثر، إذا كان هو يتغوَّل عليَّ
وأنا لم أقتله ولم أسفك دمه فما بالك لو أني سفكت دماءً منه وقتلته فما الذي يحصل
؟ وأمريكا و (إسرائيل) تقول لهم: هذا هو السلاح كل السلاح تحت تصرفكم
نفذوا التصفية للإسلام والمسلمين، والغرب يريد ذلك والشرق يريد ذلك؛ فهل من
صالحي أنا أن أقتل هؤلاء الناس المتغولين فأعطيهم سبباً وأنا مجاهد أن يتغولوا
أكثر، وأن أقتل أبناء شعبي؟ هذا هو المرفوض.
البيان: هل ما زالت السلطة تلاحق العناصر المسلحة، أم هي تغض الطرف
عنهم؟ وما الذي يحدث؟
* الحقيقة في الوقت الحالي يوجد نوع من غض الطرف من أجهزة أمنية،
وأجهزة تتابع، وأجهزة تساعد أحياناً؛ فهم حوالي 12 جهازاً أمنياً كما تعرف،
بعضهم يطارد ويسجل ويتابع، وبعضهم يغمض العين، وبعضهم يمكن أن يسهل
مرات ويقاوم مرات أخرى، المهم الجو الآن أفضل بكثير مما كان عليه قبل
الانتفاضة.
البيان: لا شك أن كل عمل له حظه من الصواب والخطأ؛ فما هي أبرز
مزايا العمل الإسلامي العام في فلسطين خلال نصف القرن الماضي؟ وما هي أبرز
أخطائه؟
* الحقيقة أن أبرز أعمال العمل الإسلامي في فلسطين ذو شقين: الأول:
التربوي في بناء الإنسان الدعوي، الشق الإنساني الذي خدم الشعب الفلسطيني وهو
شق على شكل مؤسسات وجمعيات. والشق الثاني: هو الشق الجهادي القتالي.
وأنت تعرف أننا بوصفنا فلسطينيين إسلاميين انطلقنا من خلال حركة الإخوان في
فلسطين، وكان لنا دور في المقاومة في التاريخ منذ عام 1935م، 1936م،
وحتى 1948م ودخول الإخوان من مصر والبلاد العربية إلى فلسطين في العام
1948م حتى قيام مجموعات إسلامية داخل فلسطين المحتلة عام 1948م في كفر
قاسم والطيبة وغيرهما ممن دخلوا السجون في أعوام السبعينيات حتى جاءت
انتفاضتنا في العام 1987م التي دخلتها حركة المقاومة الإسلامية من بابها الواسع
بشقيها: المقاتل، والمقاوم والمجاهد؛ واستمرت حتى هذه اللحظة، يعني نحن
اخترنا الجانب التربوي والدعوي والإنساني في توسيع القاعدة الإسلامية في فلسطين
والجانب القتالي والمجاهد والمقاومة لهذا العدو والعمل على تحرير الأرض
الفلسطينية. هذه هي أبرز المزايا.
وأما المساوئ فلا شك بأن هناك مساوئ، ولكن عندما نضعها إلى جانب
المزايا والحسنات فإنها لا تذكر. ربما حدث هناك في مرحلة من المراحل بعض
الصراعات الداخلية مع بعض الفصائل، سقط فيها قتلى بطريق الصدام الجزئي
فتغلبنا عليها، ربما كان هناك بعض التحقيقات مع العملاء وظلم ناس لم تكن التهمة
ثابتة عليهم100%، والأصل فينا نحن باعتبارنا مسلمين أن ندرأ الحدود بالشبهات
وليس العكس؛ وذلك لم يحدث في ظل وجود قيادة واعية وقوية؛ لأن القيادات
القديرة الواعية كانت داخل السجون، وصعدت قيادات شابة تحتاج إلى صقل أكثر
لمواجهة الواقع الذي يعيشونه.
البيان: بماذا تفسرون قلة العمليات الجهادية النوعية لحركة حماس خلال فترة
الانتفاضة مقارنة بما كان يحدث قبلها وخاصة في عهد رابين؟
* الحقيقة أن السؤال على إطلاقه غير صحيح، الحديث عن عهد رابين بعد
الانتفاضة وفي بداية التسعينيات والتطور الذي حصل في المقاومة في ذلك العهد
استغرق سنوات، وأنا أتذكر أول جندي إسرائيلي قتل قتله الإخوان في حماس،
وأبلغوني بقتله فقلت لهم: ادفنوه ولا تتحدثوا. وقتلوا الثاني وأمرتهم بدفنه وعدم
الإعلان؛ لأننا لم نكن نريد مظاهر للعمل ونتمهل حتى تنكشف العملية وتكشف عن
نفسها وحدها؛ لكن إرادة الله هي التي غلبت وانكشفت هذه العمليات، وأنا أقول:
إننا خلال خمسة شهور قمنا بعمليات نوعية ضخمة وموجودة؛ لكن لا ينسى الذي
يسأل هذا السؤال أن مقاتلينا خلال 7 سنوات عجاف كانوا يُطارَدون ويسجَنون
وإمكاناتنا وسلاحنا وكل ما نملكه من تقنيات كان يصادَر من قِبَل السلطة؛ وفجأة
اليوم وبعد هذه السنوات العجاف ويدي خالية من السلاح وأبناؤنا في السجون ومن
استشهد وغير ذلك يريدني فجأة أن أعمل عملاً نوعياً! هذا كلام ليس صحيحاً
والأمر يحتاج إلى وقت؛ وفعلاً في بداية الانتفاضة لم يكن هناك عمل جيد؛ لأنه لم
تكن هناك إمكانيات، لكن الحركة في خلال شهرين تمكنت من أن تقف على أقدامها
بصورة جيدة، وقامت بعمليات نوعية وهزت العالم؛ فلأول مرة تجد فلسطينياً يتقدم
بعملية بحرية استشهادية ضخمة في الانتفاضة الأولى والثانية. ثانياً: لعلكم رأيتم
العمليات النوعية ضد الدبابات التي صورت على التلفاز وكل يوم تحدث عمليات،
كالعمليات الجهادية النوعية التي تحدث داخل (إسرائيل) في نتانيا والخضيرة
ويوجد عمليات كبيرة. على أي حال إذا قيس العمل في الانتفاضة الأخيرة بالزمن
الأول فنحن نفتخر أننا عملنا شيئاً كثيراً خلال شهرين أو ثلاثة، وأقول: المجال
أمامنا، والأيام القادمة ستشهد ما هو أفضل وأضخم وأكبر بإذن الله.
البيان: كيف ترون العلاقة بين فصائل العمل الإسلامي من جهة وبينها وبين
الفصائل العلمانية في الداخل والخارج؟
* سياستنا في حركة حماس سياسة المودة وعدم الصدام مع كل الفصائل
وحتى مع السلطة التي تعتقل وتعذب، سياسة حشد كل الطاقات ضد العدو الواحد،
وسياسة عدم الاصطدام مع الأنظمة حتى في الدول العربية وتوجيه القوة كلها ضد
(إسرائيل) لأن انتصار الإسلام في فلسطين يعني انتصاره في كل الوطن العربي
والإسلامي وبناء عليه تبقى علاقتنا مع الفصائل الإسلامية علاقة أخوة وتعاون،
وعلاقتنا مع الفصائل العلمانية علاقة فيها مودة ورحمة وفيها بعض التعاون، ولكن
ليس على المستوى الميداني ولكن على مستوى التنسيق في العمل الجماهيري
الشعبي والمسيرات وغيرها يوجد تنسيق مع كل الفصائل الإسلامية والعلمانية؛ إلا
أنه على مستوى الميدان العسكري يبقى كل واحد له عمله، ويبقى هناك بعض
التعاون إذا طلبت بعض الفصائل مساعدة، أو مساندة من بعضها، أو تقنيات، أو
غيرها.
البيان: وماذا عن الفصائل التي في الخارج؟
* أنت تعرف أن من في الخارج بعيدون عن الساحة الفلسطينية، ومن ثم فهم
بعيدون عن الصراع الداخلي، وأنا أقول إن سياستنا في الداخل هي سياستنا في
الخارج، ونحن غير مستعدين لفتح صراع مع أي جهة أو نظام أو أي واحد،
ونحن سنحافظ عليها بكل طاقتنا وإمكاناتنا.
البيان: هل بالإمكان الانتقال بالعمل الحماسي من الإطار الإقليمي إلى الإطار
الدولي العالمي كأن تكون مثلاً منظمة حماس العالمية؟
* في الحقيقة هذا سؤال جميل وسؤال يدل على التعاطف بحماس زائد لدى
من يتساءل ويتحدث بهذه المفاهيم؛ ولكن يجب أن يُعرَف أن معركة الإسلام معركة
واسعة وطويلة، والسهام موجهة للإسلام والمسلمين من كل جانب، وفي كل
الاتجاهات، وأنا بوصفي مجاهداً في وطن محتل المقدسات أرى أن ضياع هذا
الوطن هو إذلال لكل الأمة العربية والإسلامية، وتحريره هو عزة لكل الأمة
العربية والإسلامية، وأنا محتاج إلى من يقف إلى جانبي وليس إلى من يقف ضدي
حتى الدول المعادية التي تقف إلى جانب (إسرائيل) ، أنا أحتاج إلى أن أعمل من
جانبي ما لا يثير عداءها ضدي أو أن أحصل على الأقل على وقوفها إلى جانب
الحياد؛ ولذلك أنا لست في حاجة الآن لعمل منظمة عالمية لمقاتلة الكفر والعلمانية
وغيره ... أنا في حاجة لعمل منظمة إسلامية ومؤتمرات إسلامية فقط لدعم القضية
الفلسطينية ولدعم المقاتل الفلسطيني، ومن أجل هذا أنا أوافق على عمل شيء
عالمي، ولكن ليس على أساس نقل الصراع إلى الساحة الخارجية إذ سيبقى القتال
والصراع والمقاومة على الأرض الفلسطينية حتى نصل إلى هدفنا، وأنا لست في
حاجة لأن أثير نظاماً عربياً عليّ، ولست في حاجة لأن أثير نظاماً أوروبياً أو
شرقياً عليّ، أنا في حاجة لأن أشيع بين الناس ليتعاطفوا معي أو أن يقفوا على
الحياد.
البيان: كيف السبيل في نظركم إلى فصم عُرى التحالف بين الكيان
الصهيوني والقوى العالمية المتحالفة معه وعلى رأسها أمريكا؟
* هذا السؤال يحتاج إلى تعاون عربي وإسلامي وفلسطيني للوصول إلى هذا
الهدف أولاً هذا العالم الغربي الواقف مع (إسرائيل) لا يحترم إلا القوة ولا يحترم
إلا الأقوياء وكلما كان هناك ضعفاء زاد في استغلالهم وإذلالهم؛ وبناء عليه أقول:
إننا نريد استنهاض الهمم في الأمة العربية والإسلامية لمساندة الشعب الفلسطيني
بالوسائل التي تحدثت عنها سابقاً ولمواجهة العدو الإرهابي الذي يساند إسرائيل
بالوسائل السلمية؛ وهذا يعني مقاطعة اقتصادية وتجارية ... إلخ، والتي يمكن أن
تضغط على هذه الدول وتجعلها تركع أمام الإمكانات العربية والإسلامية، وأن تؤثر
في التجارة العالمية التي تشكل العمود الفقري في العالم، والاقتصاد العالمي،
بالإضافة إلى أن الشعب الفلسطيني يملك من إمكاناته المتواضعة، والدعم الذي
وصل من الشعوب العربية والإسلامية ما لعله يجبر هذا العدو على الركوع،
وعندما يسقط العدو لا يجد أحداً يقف جانبه؛ لأن خسائره ستكون كبيرة، وأنا
أضرب مثلاً بسيطاً جداً: أمريكا جاءت إلى لبنان تريد أن تنزل قواتها وتعمل
عربدة هناك بعمليتي المارينز لكنها رحلت من حيث أتت، وأمريكا دخلت إلى
الصومال تريد أن تعربد هناك؛ لكنَّ عمليةً دفعتهم إلى أن يحملوا حقائبهم ويغادروا؛
هؤلاء ناس لا يفهمون إلا لغة القوة، ولذلك أقول: مطلوب منا التعامل مع عدو
لا يفهم إلا لغة القوة؛ في (إسرائيل) الصهيونية هنا بالمقاومة المسلحة القوية التي
تستنزفه ويدفع ثمنها غالياً وكبيراً، وفي الوطن العربي والإسلامي بالمقاطعة
التجارية لهذا العدو. وإن لم تكن الأنظمة قادرة على تنفيذ ذلك؛ فالوطن العربي
والإسلامي قادر على أن يقاطع هذه البضائع؛ كما حصل في الخليج والسعودية من
مقاطعة البضائع الأمريكية، والمطاعم أفلست وأغلقت أبوابها؛ لأن المواطن قادر
على أن يغير المعادلة في الملابس والسيارات وغيرها، إذا فعلنا ذلك فإنهم سيأتون
إلينا ويجرون وراءنا؛ لأننا ربع العالم؛ مليار وربع مليار نسمة نستطيع تغيير
المعادلة كلها، وليس بالضرورة بالصدام العسكري، وهذا في نظري استخدام
الاقتصاد والتجارة إلى جانب مقاطعة بضائعهم المختلفة، والسلاح الذي نشتريه
اليوم وبعد خمس سنوات يصبح لا لزوم له، وندفع مليارات لهم، وبدل أن أدفع لهم
المليارات أستطيع أن أصنعه عندي في بلدي آخذ ما عندهم وأطوره عندي وأتقدم
إلى الإمام، ولا يجوز أن يبقوا هم يعملون وأموالنا تذهب لهم من أجل أن أواجه
واقعاً، كما يجب أن لا أجري وراءهم وهم يخلقون صراعات داخلية في المنطقة
حتى يدفعوني لشراء السلاح، وبدل أن آتي بسلاحهم لأحل مشاكل مع جيراني من
الدول العربية والإسلامية يجب أن أحل المشاكل بالطرق السلمية حتى لا أدخل في
حروب تستنزف القوة.
البيان: أي أنت لست مع مهاجمة المصالح الغربية المتحالفة مع الكيان
الصهيوني في الخارج؟
* في الحقيقة المهاجمة شرعاً جائزة ضد العدو وضد من يقف مع العدو وضد
من يساند العدو بالمال والسلاح، لكن هذا ليس قانوناً يؤخذ على إطلاقه؛ لأنه لو
قاومت هؤلاء الناس فهل يكون من مصلحتي أو ضد مصلحتي؟ أزيد من قوة العدو
أو أخفف قوته؟ أنا أريد أن أفرق هذه القوى عنه، ولا أريد أن أفتح معركة مع
آخرين وأزيد قوته عليّ، أنا في حاجة إلى أن أخفف أعدائي ومناصريهم لذلك يجب
أن أحصر معركتي معه هو، ولو كان مباحاً لي أن أقاتل غيره، لكنني لا أريد هذه
الإباحة اليوم؛ لأنها ليست فرضاً عليّ، ولا أريد أن استخدمها في الوقت الراهن.
البيان: يذهب كثير من المحللين إلى أنه لا سبيل إلى توجيه جهاد مؤثر ضد
العدو إلا بإيجاد جبهات مقاومة على غرار المقاومة الوطنية في لبنان مع الفارق
طبعاً فهل تلوح في الأفق إمكانية لقيام مثل هذه الجبهات بحيث تكون منطلقاً للمقاومة
المسلحة في فلسطين؟
* أولاً: أنا أحب أن أقول لك إن المقاومة المسلحة في فلسطين تقوم بدور
كبير جداً، وتعيش حياة أقسى مما هي في لبنان، اللبناني يخرج من بيروت ولبنان
إلى الحدود الإسرائيلية وظهره آمن بأن السلطة معه وأن الشعب معه وأن السلاح
مخزن وراءه، وأنه يستطيع أن يجلب السلاح كما يريد، لكن أنا أخرج لأقاتل
العدو اليهودي والسلطة ورائي تعتقلني، والسلطة ورائي تسحب سلاحي وتصادره،
فأنا لست آمناً لا من وجهي ولا من ظهري هذه واحدة.
الثانية: أن العدو الإسرائيلي نفسه يسيطر على الأرض كلها، وأنا كل
إمكاناتي تكون في حدود حاجة المقاومة ولا نملكها، في لبنان هو يملك مدافع ضد
الطيران؛ وأنا لو جلبت ذلك لعندي في ظل احتلال فأين أضعها؟ إنها تنكشف ولا
أستطيع أن أحميها أو أخفيها؛ وهذا يعني أن يكون عندي الوسائل التي أستطيع أن
أخفيها، ولا أستطيع أن أجلب وسائل أكبر من ذلك مثل صواريخ سكاد وغيرها،
فأين أضعها؟ وإذا استطعت إخفاء صاروخ أو عشرة صواريخ وبعد؟ ! يجب أن
لا ننسى أنني محاصر، وحدودي من كل الاتجاهات محاصرة، والحدود العربية
ليست مفتوحة حتى أجلب ما أشاء، كما أن (العدو الإسرائيلي) يحاصرني من كل
الاتجاهات براً وبحراً وجواً؛ فالإمكانيات من أين تأتي لي كلها تأتي تسللاً وتهريباً
ومطاردات، وتصل بعد شق الأنفس؛ فلذلك واقعنا هنا يختلف، وعندما تصبح
السلطة هنا، وعندما يصبح الواقع هنا فيه نوع من الحرية التي وجدت في لبنان
فسيرى العالم أن شعبنا يصنع المعجزات التي لم يصنعها أحد.
البيان: لو افترضنا جدلاً أن السلطة ظفرت بدولة معترف بها، وأُعطيت
جزءاً من القدس لتكون عاصمة لها فما طبيعة العلاقة التي ستكون بينكم وبين
السلطة في هذه الحالة؟
* نحن ننظر إلى القضية من طرفين: الأول: ماذا حصَّلت السلطة من هذا
العدو؟ . والثاني: ماذا فقدت السلطة من حق الشعب الفلسطيني لصالح هذا
الاحتلال؟ ونقول: إن أرض فلسطين وقف لا يملك أحد التنازل عنها، والتنازل
في نظرنا مرفوض؛ أما أن نحصِّل من العدو أرضاً ومقدسات فهذا جيد.. أن
نحصِّل من العدو سيادة على الأرض والحدود فأمر ممتاز، لكن هل هذا مقابل أن
أتنازل له عن أرضي المحتلة عام 1948م؟ هذا مرفوض عندنا وهل هذه السيادة
سيادة حكم ذاتي في ظل الأمن والقوة الإسرائيلية؟ أم سيادة حرية كاملة: معابر،
وحدود، ومداخل، وزوال الاحتلال ومستوطناته وآثاره وجيشه؟ أم هي مجرد
إعادة انتشار لـ (الجيش الإسرائيلي) الذي كان على جبل نابلس وأصبح على
جبل جنين أو انتقل من حدود رام الله إلى حدود نهر الأردن إلى الشرق؟ هذه هي
المواقف التي ننظر لها، ولذلك نقول: إن الاتفاقية القادمة هي نفسها التي تحدد
العلاقة، والتنازل القادم هو الذي يحدد العلاقة، وأي تنازل عن حقنا في فلسطين
مرفوض، ونحن سنستمر في المقاومة.
البيان: لكن ألا تخشون أن هذه المقاومة ستؤدي إلى صدام أنتم تسعون إلى
تجنبه؟
* نحن أخذنا هذا الخيار منذ اتفاقية أوسلو، وصممنا على المقاومة ورفضنا
الاتفاقية، واستمر خيارنا واستمرت المعاناة واستمرت المطاردة، ورفضنا السلام،
وسنستمر على هذا الخيار.
البيان: نرجو التفضل بإعطاء فكرة للقارئ حول موقف حماس من عمليات
السلام ومحاولة تجزئة فلسطين من خلال المفاوضات؟
* أقول إننا لسنا ضد السلام؛ لأن السلام هو الله؛ لكنه السلام الذي يأتي لي
بأرضي ووطني وحقي، أما السلام الذي يفقدني أرضي وبيتي وحقي ومقدساتي فهذا
ليس سلاماً وإنما هو استسلام، وأقول: رحم الله الخليفة الأول أبا بكر الصديق
رضي الله عنه الذي قال للمرتدين: «إما حرباً مجلية أو سلماً مخزية» ، فقالوا له:
«الحرب المجلية عرفناها؛ فما هي السلم المخزية؟» قال: «أن تلقوا السلاح،
وأن تأخذوا بأذناب البقر في الرعي، وممنوع أن تحملوا السلاح» ، والسلم
المخزية تحتاج إلى حرب مجلية، إن شاء الله، ولذلك نقول: إن هذا السلام هو
استسلام مرفوض تماماً، مرفوض تجزئة القضية الفلسطينية، مرفوض التنازل عن
أي ذرة من أرض فلسطين وتراب فلسطين، مرفوض التنازل عن أي شبر من
أرض فلسطين؛ لأن هذه الأرض هي وقف إسلامي، ولا يملك رئيس ولا جيل ولا
شعب التنازل عنها؛ لأنها ملك لأجيال المسلمين، ونحن لا نريد خداع الشعب
الفلسطيني ولا تجزئة القضية: أرض الـ 1948م راحت، وبعدها تدخل إلى
أرض 1967م ويضيع 9% أو 10% منها وتدخل ونخليها كلها مستوطنات وندخل
نقسم القدس ونجزئها، وندخل إلى الحدود التي لا سيطرة لنا عليها، ويسيطر العدو
على الأرض والهواء، كل ذلك خداع للشعب الفلسطيني واختزال للقضية
الفلسطينية شيئاً فشيئاً من بلد كبير واسع إلى نقطة أو نقطتين أو ثلاثة؛ ولذلك فإن
هذه التسوية مرفوضة ولا نعتبرها سلاماً، بل هي استسلام.
البيان: ما هي احتمالات قيام اليهود بتنفيذ مخططاتهم الإجرامية ضد المسجد
الأقصى ومسجد قبة الصخرة في ظل الظروف الراهنة؟
* الاحتمالات كبيرة، والمؤامرات خطيرة، والعقيدة الصهيونية تساندها
صهيونية نصرانية كلها تسعى لبناء الهيكل مكان المسجد الأقصى أو إلى جواره عند
أصعب الظروف، وهذه طبعاً عقيدة ينتمي لها كل الصهاينة واليهود في العالم وكل
النصارى المؤازرين لليهود في العالم؛ وبذلك ما دامت (إسرائيل) تملك زمام
الأمور فالمتوقع كل يوم أن يحدث نسف المسجد أو حرقه أو تدميره عن طريق
الحفريات التي تحته أو عن طريق متفجرات وهذا شيء وارد وما لم تنتبه الأمة
العربية والإسلامية انتباهاً قوياً وتقف موقفاً صلباً من كل من يدعم (إسرائيل)
حقوق في القدس أو مفارقة ومفاصلة وتدعم الشعب الفلسطيني في مقاومته ومقاتلته
لهذا العدو. أعتقد أن (الإسرائيليين) إذا وجدوا الفرصة السانحة بتخاذل الأمة
العربية والإسلامية فلن يتوانوا عن تنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم وبناء الهيكل الذي
يعتبرونه إيذاناً بقدوم المسيح المنتظر وإيذاناً بأن ينتصروا على المسلمين في
(معركة مجدو) لكن أنا أقول: في كل الأحوال ستكون الخاتمة والمعركة الحاسمة
لصالحنا نحن المسلمين، وإن هذه الأرض لا يمكن أن يثبت عليها الكيان
الإسرائيلي، وستلفظه كما لفظته من قبل، فإما أن يدفن فيها ويذبل في ترابها،
وإما أن يكنس منها [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) .
البيان: ما هي ملامح المرحلة الجهادية القادمة بنظركم لو استمر معدل
التصعيد الإسرائيلي المقترن بالإصرار على بسط السيطرة على القدس بشطريها
وتهديد المقدسات الإسلامية، وما هي ملامح تلك المرحلة لو قامت حرب جديدة في
المنطقة؟
* المستقبل هو استمرار الصدام مع العدو الصهيوني، واستمرار المواجهة
والتضحيات والشهداء، وإسرائيل محتمل أن تهاجم المناطق الفلسطينية الآن وتعتدي
عليها؛ لكن ستكون هي الخاسرة؛ لأن المقاومة الفلسطينية والشعب كله جاهز
للمواجهة شعبنا في الماضي لم يكن عنده الإمكانات مثل اليوم، ولذلك فإن أي
تصعيد من (الجانب الإسرائيلي) أضعه في صالحنا إن شاء الله؛ لأنه سيواجه
بتصعيد أكبر وأضخم من شعبنا، وأي تصعيد من إسرائيل ضد الأمة العربية
والإسلامية أيضاً في صالحنا؛ لأنه سيدفع بطاقة عربية إسلامية جديدة إلى الميدان.
ثانياً: لأنه إما أن ننتصر نحن على (إسرائيل) في المعركة القادمة مع أي
دولة عربية وستكون هذه خسارة وهزيمة لها وبداية السقوط الكامل، أو ستتوسع
وتنتصر من جديد؛ فإذا توسعت من جديد كانت هي الخاسرة؛ لأن الشعب
الفلسطيني أعطى درساً للعالم العربي، وإذا كانت (إسرائيل) غير قادرة على
السيطرة على ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الداخل فكيف يمكنها أن تسيطر
على أرض عربية جديدة فيها الملايين، وطبيعة البلاد الأخرى الميدانية للمقاومة
أكبر وأقوى؟ فستكون هي الخاسرة؛ ولذلك مهما كانت المرحلة القادمة فإنها ستكون
بداية الزوال الكامل إن شاء الله لدولة (إسرائيل) عن أرضنا [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
البيان: ألا تعتقد أن قضية الحرب بدأت تظهر علاماتها مع تشكيل حكومة
الحرب برئاسة شارون؟
* أنا قلت إن إسرائيل خاسرة في كلتا الحالتين إن انتصرت فهي خاسرة؛
وإن هُزمت فهي خاسرة.
البيان: لكن لا يلوح في الأفق أن الدول العربية تبدي استعداداً لمجرد احتمالية
قيام الحرب؟
* في الحقيقة أن الدول العربية لم تكن في يوم من الأيام مستعدة للحرب، لا
في الماضي ولا في الحاضر؛ لأن الاستعداد للحرب يحتاج إلى مقومات وبرنامج،
وخطط. فعبد الناصر الذي دخل في عام 1967م الحرب هو عبد الناصر الذي قال
في 1965م للمجلس التشريعي الفلسطيني الذي قابله: «أنا معنديش خطة لتحرير
فلسطين، والذي يقول لكم عنده خطة لتحرير فلسطين بيكذب عليكم» وكان هذا
رداً على الملك حسين الذي كان يقول: لا بد من وضع خطة لتحرير فلسطين؛
وكانت الدول العربية غير واضعة خطة للتحرير؛ لأن إمكاناتها غير متوفرة، لكن
إذا فرضت عليها الحرب فستدافع عن نفسها؛ والذي يدافع عنه نفسه يصنع
المعجزات رغم عدم تكافؤ القوة، وأنا أضرب مثلاً بسيطاً بحيوان هو القط: إذا
حشرته في زاوية في غرفة وهاجمته فإنه يتحول إلى وحش ويقتل من يهاجمه؛ فما
بالك في إنسان يهاجَم في أرضه ووطنه؟ ! وهم جربوا ذلك: توسعوا في سيناء
والقناة، وأنا أقول: إن الحرب القادمة إذا نوت (إسرائيل) أن تدخلها فهي من أي
اتجاه خاسرة وستخسر المعركة إن شاء الله تعالى.
البيان: سبق أن حددتم زمناً معيناً لزوال دولة اليهود كما نشر في بعض
الصحف؛ فما هي المرتكزات التي استندتم إليها في ذلك؟ أم أن هذا من باب
التفاؤل بالمستقبل فقط؟
* الحقيقة هذا عبارة عن استلهام من آيات القرآن الكريم واستلهام تاريخي من
الواقع. الاستلهام القرآني أن ربنا سبحانه وتعالى في كل أربعين سنة يغير الأجيال
ونفوس الأجيال وطبائعهم، وهذا جاء في سيرة بني إسرائيل في القرآن قال:
[فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ]
(المائدة: 26) حرمهم أربعين سنة؛ لأنهم رفضوا أن يدخلوا مع موسى عليه السلام
للقتال ليموت الجيل الضعيف الجبان ويخرج جيل يقاتل يَقتل ويُقتل هذه واحدة،
الثانية من التاريخ؛ ففي الحروب الصليبية الأمة الإسلامية ضعفت أربعين سنة
وبعد أربعين سنة ثانية بدأت المقاومة والمناوشات حتى بدأ زوال الصليبية؛ إذن
نظرية الـ 40، 40 هي معادلة تاريخية إيمانية صحيحة، وعندما خسرنا المعركة
وطردنا وشردنا وخرجنا من بلادنا عام 1948م واستكان الشعب الفلسطيني في
الداخل، وبدأت المقاومة من الخارج من الأردن ولبنان من 1948م إلى 1987م
هي الأربعين سنة الشعب الفلسطيني عندما انتفض وواجه مع أنهم كانوا غير
معترفين بحاجة اسمها الشعب الفلسطيني ولا بالقضية الفلسطينية كانوا متنكرين
تماماً؛ وكانت القضية ملقاة على رفوف الأمم المتحدة، الانتفاضة قلبت الموازين:
جلبت مبادرات، اعتراف بحق، اعتراف بوجود، اعتراف بشعب، وكشفت
الوجه اليهودي البشع في العالم، ودفعت شعبنا الذي كان يواجه بالحجر وغيره الذي
كان يخاف وبجيشه الذي هرب من فلسطين أمام مذبحة أو اثنتين أو ثلاثة وأمام
الدعاية الصهيونية، اليوم صاروا يقتلون فيه ويواجه العدو بالحجر، إذن الشعب
الفلسطيني بعد 40 سنة تغيرت موازينه ورؤيته الإيمانية: نقول إنه بعد الأربعين
سنة الثانية سيكون الانهزام والزوال لدولة إسرائيل إن شاء الله تعالى.
البيان: يعني زوالهم في عام 2027 تقريباً؟
* تقريباً، وليس شرطاً أن يكون 2027م بالضبط إذ يمكن أن يكون قبل
خمس سنوات، ويمكن أن تزيد عشر سنوات، المهم في هذا المعدل حول العام
2027م تدور الدائرة وتزول الدولة العبرية إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 438، مسلم، ح/ 521.(161/92)
المسلمون والعالم
اليورانيوم المنضب
وحقوق الإنسان بين الحقيقة والخيال
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
تصاعدت ردود الأفعال الأوروبية على قضية اليورانيوم المستهلك وأنه السبب
وراء إصابة بعض جنود الحلف الذين اشتركوا في العمليات في البلقان سواء في
البوسنة أو كوسوفا بسرطان الدم، وكان التركيز الإعلامي على إصابة ثمانية جنود
إيطاليين وبضعة جنود في البرتغال وهولندا وأسبانيا وفرنسا واليونان، والسؤال
هنا: وماذا عن حوالي 200 ألف جندي أمريكي يعانون مما يسمى بآثار حرب
الخليج؟ والأهم بالنسبة لنا: ماذا عن ملايين المسلمين الذين يعيشون في مناطق
العمليات؟ ما هي الأمراض السرطانية الجديدة؟ وما هو معدل التشوهات في
الأجنة؟ وأيضاً ماذا عن البيئة الحيوانية والنباتية في هذه المناطق؟ إنها أسئلة
تبحث عن إجابة، وليس هذا مجال بحثها، ولكن يهمنا هنا إلقاء بعض الضوء على
هذا الموضوع الحساس، ومعالجته بصورة تناسب غير المختصين، وسنركز على
موضوع اليورانيوم المستنفد، وخلفية استخدامه، وآثار هذا الاستخدام.
اليورانيوم:
يوجد اليورانيوم بصورة طبيعية في كثير من الصخور الجرانيتية والتربة
بدرجات متفاوتة، ويحتوي خام اليورانيوم على ثلاثة نظائر مشعة، وهي:
اليورانيوم 238 ونسبته 99.2 %، واليورانيوم 235 ونسبته 0.7 %،
وبعض النظائر الأخرى، ومنها اليورانيوم 234 ونسبتها 0.1 %.
يستخدم اليورانيوم 235 بشكل أساسي في صنع الوقود النووي والأسلحة
النووية، وحيث إن تصنيع الوقود النووي يحتاج إلى كميات كبيرة من اليورانيوم
235 وبصورة أقل اليورانيوم 234؛ فإن عملية تركيز الخام وفصل هذه النظائر
يخلف كميات كبيرة من اليورانيوم 238 مختلطاً بنسب صغيرة من اليورانيوم 235؛
وهذا يسمى اليورانيوم المنضب أو المستهلك. إن الفرق الأساسي بين نظائر
اليورانيوم هو في نوع الإشعاع الصادر؛ فبينما يطلق كل من النوعين: 235،
234 أشعة جاما وبيتا ذات الطاقة العالية فإن اليورانيوم 238 يطلق فقط أشعة ألفا
وهي أشعة لا تمثل خطورة عند التعرض لها من خارج الجسم.
إن معدل إشعاع اليورانيوم 238 يساوي 60% من الإشعاع الصادر من اليورانيوم
235 ولكن نوع الأشعة يختلف، وبذلك يعتبر نسبياً آمناً؛ ولكنه من ناحية أخرى
يعتبر من المعادن الثقيلة والسامة جداً، وله تأثير مدمر عندما يدخل الجسم سواء
عن طريق الاستنشاق أو الأكل؛ حيث إنه يدخل في الدورة النباتية والحيوانية؛
فلهذا فإن تلوث التربة باليورانيوم المنضب له تأثيرات طويلة المدى.
ولكن لماذا قامت أمريكا بتحويل اليورانيوم 238 إلى سلاح واستعماله بكثافة؟
هل السبب هو أن سباق التسلح أيام الحرب الباردة أو ما يسمى بالتوازن النووي
بالإضافة إلى التوسع الكبير في إنتاج الطاقة النووية قد أدى إلى تراكم كميات هائلة
من النفايات النووية المشعة التي يشكل اليورانيوم المستهلك أغلبها؟ وكانت الطريقة
المتبعة في التخلص منها هو دفنها في الصحاري أو أعماق البحار، ولكن نشاطات
الجماعات المناهضة لتدمير البيئة أو التي تسمى جماعات الخضر أدى إلى صعوبة
دفن النفايات داخل الدول الصناعية؛ ولذلك فقد أصبح البحث عن طرق للتخلص
من هذه النفايات أو أماكن لدفنها هو الشغل الشاغل لبعض الهيئات الحكومية أو
المتعهدين الذين يتسلمون النفايات ويتخلصون منها بطريقتهم الخاصة! ! وحتى
نتصور عمق المشكلة وتشعبها فإنه يتعين إلقاء بعض الضوء على مشكلة النفايات
سواء منها الكيميائية أو النووية.
النفايات السامة:
تنتج الدول الصناعية الكبرى في أوروبا خمسة ملايين طن من النفايات
الكيميائية والنووية سنوياً، أما أمريكا فتنتج سبعة ملايين طن، وكندا مليوناً واحداً،
وروسيا مليوناً واحداً أيضاً. أما دول العالم الثالث مجتمعة فتنتج مليون طن من
النفايات.
لقد كان التعامل مع النفايات يتم بعيداً عن روح المسؤولية؛ فقد كانت بريطانيا
تلقي بالنفايات في أنهارها وفي بحر المانش بل في الممر الفاصل بين اسكتلندا
وإيرلندا الشمالية وفي مواقع داخل بريطانيا وخارجها، ولم يكن الأمر في بقية الدول
الصناعية مختلفاً؛ ولكن مع تصاعد الوعي البيئي وقوة جماعات الخضر فقد تم
حظر إلقاء النفايات في البحار ابتداءً من بداية السبعينيات الميلادية، وأصبح من
الصعب على الدول المتقدمة دفن النفايات في أراضيها؛ ولهذا فقد اتجهت الأنظار
إلى إنشاء معامل للتعامل مع النفايات، وهي معامل مكلفة وكانت فرنسا رائدة في
هذا المجال وهي تعاني بسبب وجود 1083 موقعاً داخل أراضيها من مخلفات
إشعاعية نشطة تمثل مشكلة عويصة؛ حيث أثبتت الدراسات الميدانية إصابة عدد
كبير من سكان منطقة لاهاج، وهي إحدى مقابر النفايات في فرنسا باللوكيميا.
إن الحل الأمثل كما تراءى للدول الصناعية هو دفن النفايات في الدول النامية،
ويلاحظ أن تزايد الفساد أو تدهور سلطة الدولة أو سقوطها يمثل الضوء الأخضر
لقدوم الشحنات المرعبة في النفايات. وإليك بعض الأمثلة التي تمثل رأس الجبل:
- أفاد تقرير دولي أنه تم دفن نحو ستة ملايين طن من النفايات في 11 دولة
آسيوية خلال أربع سنوات فقط.
- في لبنان تم اكتشاف شحنة نفايات قادمة من ألمانيا.
- في الصومال كان انهيار الدولة عاملاً أساسياً في تحول المياه الإقليمية
والأراضي الصومالية إلى مقبرة للنفايات، وأصبح دفن النفايات مصدر دخل
للميليشيات المتقاتلة.
- تم اكتشاف مدفن نفايات في إحدى الولايات النيجيرية.
- وفي الصين يجري التحقيق في وصول شحنة نفايات أمريكية إلى ميناء
كينج داو.
- في البوسنة تتهم السلطات البوسنية قوات حفظ السلام ببناء مستودع كبير
لتخرين النفايات النووية والكيميائية بين سراييفو وتوزلا.
- أنباء عن دفن نفايات نووية إسرائيلية في موريتانيا، وهذا من أوائل آثار
التطبيع.
والذي ينبغي الانتباه له هو أنه يجب تنبيه رجال الجمارك وحرس الحدود إلى
خطورة هذه الشحنات، وأنها لا تقل خطورة بأي حال عن المخدرات؛ لأن آثارها
تمتد لأجيال عديدة. والذي يجب أن يكون واضحاً لدينا هو أن الدول الصناعية
لديها مشكلة نفايات نووية وأن المهم لديها هو التخلص منها بأقل تكلفة ممكنة.
وكان استعمال اليورانيوم المستهلك (238) في إنتاج أسلحة شديدة الفتك
مخرجاً مثالياً لأمريكا؛ حيث إنها جمعت بين التخلص من هذه النفايات من جهة،
ومن جهة أخرى فإنها بدلاً من تكاليف التخلص منها أصبحت ذات مردود اقتصادي
مجزٍ؛ وهذا يغير الإصرار الأمريكي على مقاومة أي توجه لحظر هذا السلاح،
ولكن خوف الجنود أنفسهم من التعامل مع هذا السلاح جعل البحرية الأمريكية
تستغني عن هذا السلاح، وتبعتها البحرية البريطانية بعد توقف إنتاج هذه القذائف
من قبل الشركة الأمريكية المنتجة.
طبيعة هذا السلاح:
إن ذرات المواد المشعة تتقادم التحول (delay) بصورة عشوائية، ولكن
الزمن اللازم وعدد الخطوات اللازمة ونوع الإشعاعات الصادرة في كل خطوة
معروفة جيداً. ويعرف نصف العمر بالزمن الذي يستغرق لتقادم نصف ذرات المادة
المشعة وهو يتراوح بين الثواني وملايين السنين؛ أو بصورة أخرى فإنه بعد مرور
نصف العمر لمادة ما فإن نشاطها الإشعاعي ينخفص للنصف، وهذا يعني بصورة
عامة أن النشاط الإشعاعي يظل كبيراً بالنسبة لليورانيوم 238 ما لم يبلغ نصف
عمره؛ والجدول المرفق يوضح التغيرات المختلفة التي تصاحب تقادمها الإشعاعي،
وأن سلسلة من المواد المشعة تنتج على التوالي حتى يتحول اليورانيوم إلى مادة
ثابتة هي مادة الرصاص 206. وعلى العموم فإن جميع ذرات اليورانيوم تعتبر
متوسطة الإشعاع.
وتأتي أهمية اليورانيوم المستنفد عسكرياً في كونه يتمتع بكثافة عالية (5.2
جم/سم3) وخصائص حرارية؛ بحيث إن القذيفة المغلفة باليورانيوم تستطيع
اختراق جسم أي دبابة أو تحصينات، وتمر فيها كما تمر السكين بالزبدة، وتشتعل
ذاتياً، وترتفع حرارتها عدة آلاف من الدرجات، وتدمر الهدف حتى ولو كانت
القذيفة صغيرة الحجم؛ لأن قوة الصدمة كبيرة جداً نظراً لوزن القذيفة الكبير
بالنسبة لحجمها.
ومن الناحية العسكرية فقد تفوقت هذه القذيفة على القذائف المغلفة بالتنجستين
من ناحية قوة التأثير، وهي أيضاً أقل من ناحية التكلفة.
استعمال هذا السلاح:
كما مر سابقاً فقد كان التخلص من نفايات الصناعة النووية عاملاً مهماً في
التوجه نحو اليورانيوم المستنفد؛ ولهذا فقد بدأ تصنيعه في السبعينيات الميلادية،
وكان أول استعمال واسع النطاق له في حرب الخليج الثانية؛ حيث استعمل منه
حوالي 350 طن أو 900 ألف قذيفة تقريباً في الكويت، وجنوب العراق،
واستعملت حوالي 10 آلاف قذيفة في البوسنة، و31 قذيفة في أحداث كوسوفا،
واعترفت دولة يهود باستعمال هذا السلاح في جنوب لبنان وفي بعض العمليات
البحرية، وهناك شكوك كبيرة في استعمال هذا السلاح في ضرب مقرات السلطة
الفلسطينية وأثناء الانتفاضة الحالية.
مخاطر هذا السلاح:
يمكن تقسيم آثار هذا السلاح إلى ثلاث مراحل أو أقسام:
القسم الأول: مخاطر التعامل مع القذائف قبل الاستخدام، ونعني بذلك
ملامسته أو البقاء قرب المقذوف أثناء النقل أو التخزين داخل منظومات السلاح في
مدفعية أو دبابات أو طائرات.
لقد راهن المصنعون على أن هذا السلاح يطلق فقط أشعة ألفا الضعيفة وتنعدم
خطورته الإشعاعية تقريباً على بعد حوالي عشرة سنتيميترات فقط، ولكنهم نسوا أو
تناسوا أن هذه القذائف مصنعة من نفايات نووية أي أنها مكونة أساساً من اليورانيوم
238، ويوجد فيها شوائب من مواد مشعة أخرى لا شك في تأثيرها على الجنود
المتعاملين معها أثناء فترات السلم الطويلة، وهذا في رأيي سبب أساسي في مطالبة
الدول الأوروبية خاصة إيطاليا وفرنسا حظر هذا السلاح، ولا شك أن الضجة
المصاحبة ستؤدي إلى صعوبة إقناع حتى الجنود الأمريكيين بسلامة التعامل معه،
وقد بدأت البحرية الأمريكية بالاستغناء عن هذا السلاح، مما يوحي أنه سيتم
الاستغناء عنه كلياً، ولكن السؤال هنا: هل ستقوم أمريكا بدفنه، أم بيعه للدول
الحليفة والصديقة؟
القسم الثاني: مخاطر استخدام السلاح الآنية:
عندما ينطلق المقذوف بسرعة عالية ويصطدم بالهدف فإنه يخترقه بسهولة
فائقة مولداً كمية هائلة من الطاقة مما يرفع درجة الحرارة؛ بحيث يحترق حسب
تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية من 10 إلى 70% من المقذوف، ويتحول إلى
أكسيد اليورانيوم، أما البقية فتتحول إلى ذرات دقيقة من غبار اليورانيوم الذي
ينتشر في المحيط سواء ضمن الهدف أو في التربة أو في الهواء، وتشير نتائج
تحليل النماذج الملوثة باليورانيوم المستنفد إلى وجود الثوريوم 234
والبروتوكتونيوم 234 والرديوم 6 وهي من بنيات اليورانيوم كما يوضح ذلك
الجدول السابق؛ وخطورتها تكمن في نشاطها الإشعاعي الكبير الذي يزداد كلما
نقص نصف العمر في أن تلوث الهدف المصاب والمنطقة المحيطة به يكون كبيراً،
وقد قامت بنقل حوالي عشرين مدرعة أمريكية مصابة بالخطأ وتم صرف ملايين
الدولارات من أجل تنظيف هذه القطع البسيطة، وتم التخلص من أربع دبابات في
المنطقة وذلك بدفنها؛ نظراً لتلوثها الشديد. وهنا يبرز السؤال الآتي: وماذا عن
آلاف المدرعات العراقية المدمرة سواء في الكويت أو في جنوب العراق؟ !
لقد تسابق جنود التحالف إلى تسلُّق الدبابات المدمرة وأخذ الصور، بل وأخذ
قطع تذكارية؛ ولم يتم تحذيرهم من الاقتراب منها، بل لقد بقيت هياكل الدبابات
في الكويت في المطلاع وغيره ثلاث سنوات حتى تم تحذير الحكومة الكويتية،
فقامت بنقلها إلى غرب الكويت؛ وهذا بالطبع غير كاف بصورة مطلقة؛ فماذا عن
تربة الكويت الملوثة ببقايا القذائف؟ وماذا عن جنوب العراق الذي تتناثر فيه هياكل
المدرعات مع بقايا القذائف؟ وهل التلوث سيبقى محصوراً في جنوب العراق
ومناطق تجميع الحطام الملوث في الكويت، أم أن خطر التلوث مستمر ومتنقل؟ !
وأيضاً ما هي مخاطر التعرض لأكسيد اليورانيوم المنبعث أثناء تدمير الهدف؟ وما
هي أيضاً مخاطر الغبار الناتج من ذرات اليورانيوم، وأيضاً هل احتكاك المقذوف
بماسورة المدفع أثناء الإطلاق يتولد عنه تطاير ذرات من اليورانيوم وبنياته؛ ومن
ثم تلوث حتى السلاح المستعمل؟ إنها كلها أسئلة تحتاج إلى إجابة!
القسم الثالث: مخاطر ما بعد الاستخدام:
إن استنشاق أكسيد اليورانيوم يؤدي إلى مشاكل في الكلى والكبد، ولكن
الأخطر هو الغبار المتكون من ذرات اليورانيوم التي عندما تدخل الجسم فإنها
تلتصق بالرئتين وتسبب السرطان، وأيضاً فإن أشعة ألفا المنبعثة تكون مدمرة من
داخل الجسم حيث تؤدي إلى تغيرات جينية؛ فقد ثبت انتشار سرطان الدم في أبناء
المتعرضين للتلوث، وأيضاً ظهرت التشوهات المتماثلة في أبناء الجنود الأمريكيين
المشاركين في العمليات والمواليد في جنوب العراق مما يوحي أن السبب المباشر
واحد.
إن اليورانيوم في حد ذاته مادة سامة وخطورتها أيضاً تكمن في أن وجوده في
التربة يؤدي إلى دخوله في الدورة النباتية والحيوانية، ومجرد دخوله في الجسم
سواء عن طريق الاستنشاق للغبار أو أكل نبات أو حيوان ملوث فإنه يعني بقاءه
بتأثيره المدمر حتى النهاية. وهناك خطر آخر وهو انتشار التلوث؛ حيث إن
المناطق الملوثة صحرواية؛ وعليه فإن كمية الماء اللازمة لتثبيت التربة الملوثة
قليلة؛ ولهذا فإن التربة الملوثة تتنقل نتيجة العواصف والرياح إلى جميع المناطق
المحيطة، وإذا كان الإنجليز أثبتوا وصول آثار تلوث تشيرنوبل النووي إلى
بريطانيا، وأيضاً أثبتوا وصول العوالق التربية والرمال من الصحراء الكبرى؛ فما
هي حدود دائرة التلوث حول العراق والكويت مما يوجب العمل الجاد من أجل
تجاوز هذا الخطر؟ وإذا كان مر على التلوث عشر سنوات ويتوقع استمراره على
قدر العمر الإشعاعي لليورانيوم فإنه يجب تحديد المناطق المتلوثة حالياً، والعمل
على تجميع العينات الملوثة من قطع معدنية وتربة ودفنها في مناطق محددة يحظر
دخولها أو الرعي فيها.
حقوق الإنسان بين الحقيقة والخيال:
إن السياسي الغربي الذي لا يكف عن التبجح بحقوق الإنسان، والدولة تخرج
سنوياً تقريراً لحقوق الإنسان هو أشبه بمقياس للعلاقات أكثر منه حكاية عن واقع
الإنسان المسحوق الذي هو أشبه بحيوان التجارب؛ وكثير من الحروب استُغلت
لتجربة الأسلحة الجديدة ودراسة تأثيرها أكثر من أن تكون ضرورة عسكرية؛ فقد
تم استعمال القنبلة النووية ضد اليابان في أواخر الحرب العالمية الثانية، وبعد
استسلام ألمانيا؛ وكذلك فإن اليابان الوحيدة المدمرة كانت قاب قوسين أو أدنى من
الاستسلام؛ ولكن السياسيين في أمريكا أصروا على استعمال هذا السلاح ضد
الشعب الأصفر لهدفين أساسيين وهما: إثبات التفوق، ومعرفة تأثير السلاح الجديد.
وتكرر الشيء نفسه في حرب فيتنام وفي حرب الخليج أيضاً التي يصدق فيها
صفة: (الحرب التلفزيونية) فهي حرب من طرف واحد وكأن أمريكا وجدت
فرصة لتدمير العراق وتجربة وتطوير ما لديها من أسلحة، ولم يكن هناك أي
ضرورة عسكرية لاستعمال هذا الكم الهائل من الأسلحة المشعة التي تعادل في قوتها
التدميرية 6 قنابل نووية مثل التي ألقيت على اليابان.
الآثار المحتملة لاستعمال هذا السلاح:
فقد تم استعماله بكثافة ولم يتم تحذير أحد حتى العسكريين الأمريكيين، وكانت
الطامة الكبرى أن الآثار على المستعمل كانت أكبر من المتوقع؛ حيث إن هناك
حوالي 200 ألف جندي أمريكي أي 30% من المشاركين في الحرب يعانون من
آثارها، ويطالبون بالتعويضات، وكانت الإدارة الأمريكية تصم آذانها عن المطالبة
بالتحقيق، وتطارد كل من يحاول إلقاء الضوء على هذه القضية، وتم طرد بعض
العسكريين الأمريكيين من مناصبهم ومطاردتهم بسبب هذه القضية، ولكن إصرار
هؤلاء نابع من أنهم أنفسهم ضحايا وكلهم مصابون بالسرطان ويحسون أنهم مجرد
عينات تجارب، وكانوا يرمون بأنهم متأثرون بالدعاية الإعلامية. أما المطالبة
العراقية بالتحقيق في آثار التلوث فهي لا تستحق حتى المناقشة، ولكن الأمر تطور
فقط عندما طالبت إيطاليا بفتح تحقيق حول وفاة ثمانية جنود إيطاليين شاركوا في
عمليات الحلف في يوغسلافيا، وكما هو متوقع فقد كان رد أمريكا وكذلك بريطانيا
سلبياً، ولكن ازدياد الضغوط وانضمام دول أخرى مثل فرنسا والبرتغال وأسبانيا
إلى قائمة الضحايا حرك القضية، وكانت العلامة البارزة في الضجة هي التركيز
على تأثيرها على جنود الحلف؛ أما حال السكان المدنيين في البوسنة وكوسوفا
والعراق والكويت فليس جديراً بالاهتمام إلا تبعاً!
وإذا كانت هناك إحصائيات توضح ازدياد حالات السرطان المختلفة والناشئة
عن الإشعاع والتشوهات في الأجنة في العراق بعد الحرب نظراً لحرص دولة
البعث في العراق على إحراج أمريكا فإنه ومن أجل مجاملة أمريكا؛ فإن هناك
صمتاً مطبقاً من حكومات الشعوب الأخرى؛ بل وحتى منظمة الصحة العالمية
ومؤسسات الأمم المتحدة ترفض حتى عهد قريب بحث هذه المسألة مراعاة للموقف
الأمريكي الرافض لوجود أي أثر مباشر لاستعمال هذا السلاح، وهذا الرفض في
حد ذاته إدانة لأمريكا؛ لأنه من الواضح أن رفض أمريكا إجراء أي تحقيق أو بحث
علمي ومحاولة التعتيم على الموضوع حتى إعلامياً يدل على ثبوت الأثر لدى
الدوائر العليا في أمريكا، وكانت ردة الفعل المبدئية محاولة للتغطية على
القضية بضرب العراق من جديد، ومحاولة توتير الأجواء في المنطقة من
جديد.
وهنا يتساءل المرء: هل من الأفضل لدول المنطقة إثارة القضية وإلقاء
الضوء عليها ومحاولة علاجها وضمان عدم تكرارها، أم مجاملة أمريكا والتعامي
عن القضية؟ والذي أراه أن استباق الأمر وإثارة القضية بل ومطالبة الحكومة
الأمريكية والشركة المنتجة لهذا السلاح بالتعويض على الضحايا المحتملين، وتحمُّل
تكاليف معالجة التلوث في المنطقة سيؤدي إلى توقف أمريكا عن استعمال المنطقة
حقلاً للتجارب، وأيضاً سيقلل من احتمال دفع دول المنطقة لفاتورة التعويضات
الهائلة التي ستضطر الحكومة الأمريكية؛ لدفعها للجنود الأمريكيين وذرياتهم!
إن عدم مطالبتنا بالتعويض سيؤدي غالباً إلى أن تطالبنا أمريكا بدفع
التعويضات للجنود الذين أصيبوا بسبب مشاركتهم بتحرير الكويت؛ ومَنْ لا يصدق
هذا الاحتمال فليعلم أن أمريكا اشترطت على فيتنام من أجل تطبيع العلاقات معها
دفع 300 مليون دولار لشركات أمريكية تعويضاً لها عن خسائر تكبدتها أيام حرب
فيتنام.
نعم أمريكا تطالب فيتنام بتعويضات! فهل ننتظر فاتورة تعويض 200 ألف
جندي أمريكي؟ ! ولن يقلَّ معدل التعويض بحال عن مليون دولار لكل شخص أي
على الأقل 200 مليار دولار!
__________
(*) أستاذ مشارك في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(161/104)
المسلمون والعالم
العهد الشاروني
د. سامي محمد صالح الدلال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ما أن أُعلن فوز إيرييل شارون زعيم حزب الليكود على إيهود باراك زعيم
حزب العمل برئاسة الوزراء في الانتخابات التي جرت بتاريخ 6/2/2001م، حتى
تطايرت ردود الأفعال في جميع أنحاء العالم بين مصفِّر ومصفِّق، وبين معارض
ومؤيد، وبين قانط ومستبشر.
فمن يكون شارون هذا؟ وما تاريخه وممارساته؟ وما رؤاه في طبيعة
الصراع بين اليهود والمسلمين، والعرب منهم بالذات؟ ما طموحاته السياسية؟
وهل يختلف مع باراك في المنظور الاستراتيجي أو يتفقان فيه لكنهما يختلفان على
سبيل الوصول إليه؟ هذه وغيرها من الأسئلة الهامة هي محل دراستنا المقتضبة
التي نقدمها بين يدي أعزائنا القراء.
شارون، السيرة الذاتية:
* أصله من يهود بولندا، وعاش أبوه بعض الوقت في القوقاز.
واسمه: أريئيل صموئيل مردخاي شرايبر، ولد عام 1928م في كفار ملال
في فلسطين.
* انضم إلى عصابة الهاغاناه الإجرامية الإرهابية عندما كان عمره 17 عاماً.
* اشترك في مذبحتي دير ياسين واللُّدّ عام 1948م، وأصيب في نفس
العام في بطنه في معركة اللطرون. ومن أبرز أساتذته في الإجرام بن غوريون
وشامير ورابين.
* في أغسطس 1952م شكل «الوحدة 101» وأطلق على رجالها اسم:
«الشياطين» اختارهم بنفسه من المجرمين وأصحاب السوابق واللصوص والقَتَلَة،
ونفذت هذه الوحدة بين عامي 1953م 1956م أكثر من خمسة مذابح، أشهرها
مذبحة «قبية» حيث دكت نيران المدفعية بيوت هذه القرية فقتلت 156 شخصاً،
نصفهم من النساء والأطفال، وجرحت المئات،ودمرت 41 منزلاً.
* انضم إلى دورة قادة كتائب عام 1951م، ثم درس الحقوق في الجامعة
العبرية في القدس.
* انضم إلى حزب الماباي ثم الحزب الليبرالي، ثم انضم إلى تكتل الليكود
بعد عام 1977م.
* عين قائد لواء مدرع في العدوان الثلاثي على جبهة سيناء، واحتل ممر
متلا مخالفاً للخطة العامة، ثم تلقى تعليماً عسكرياً في فرنسا بعد 1956م.
* تم تعيينه قائد لواء مدرع (1964م 1969م) ، ثم قائد المنطقة الجنوبية
(1968م 1973م) .
* كان قائد القوات الإسرائيلية التي عبرت في حرب أكتوبر 1973م قناة
السويس فيما عرف بـ «ثغرة الدفرسوار» ، حيث غير بذلك مجرى الحرب مما
أكسبه سمعة عالمية.
* بعد انتهاء الحرب أثار ما سمي في إسرائيل بـ «حرب الجنرالات»
وأحيل إلى الاحتياط.
* انتُخب في عام 1973م عضواً في الكنيست ضمن قائمة الليكود.
* من 1974م إلى 1976م عمل مستشاراً أمنياً لرئيس الوزراء، وخلال ذلك
أي في عام 1975م أسس حزباً يمينياً، وانضم إلى «حيروت» مع بيغن تحت
مظلة جابو تنسكي، ثم ضم إليه في «حيروت» مجموعات حزبية متطرفة من
المهاجرين، وفي عام 1977م حصل على مقعدين في الكنيست وانضم إلى الليكود.
ثم عُيِّن وزيراً للزراعة من عام 1977م إلى 1981م، ثم عُيِّن وزيراً للدفاع في
وزارة بيغن من عام 1981م إلى عام 1983م.
* في عام 1982م قاد غزو لبنان ووصل إلى بيروت واحتلها. ثم اقترف
وزبانيته المذبحة الكبرى في صبرا وشاتيلا، وقد أدانته بها لجنة تحقيق رسمية
وأوصت باستقالته، فرفض فعينه بيغن وزيراً بلا حقيبة لغاية 1984م.
* شغل بعد ذلك مناصب وزارية عدة، وزيراً للصناعة والتجارة (1984م -
1988م) ، ثم وزيراً للإسكان والتعمير (1988م - 1992م) .
* خاض انتخابات رئاسة الليكود بعد اعتزال شامير فخسرها أمام نتنياهو. ثم
عينه نتنياهو عام 1996م وزيراً للبنية التحتية، ثم وزيراً للخارجية عام 1998م،
وفي نفس العام تولى شارون رئاسة الليكود بعد سقوط نتنياهو في الانتخابات.
* دنس المسجد الأقصى بزيارته له في 28/9/2000م تحت حراسة ثلاثة
آلاف جندي يهودي باراكي مدججين بالسلاح.
* فاز في انتخابات رئاسة الوزراء في 6/2/2001م أمام رئيس حزب العمل
أيهود باراك الذي كان رئيساً للوزراء.
الملامح الشارونية من سيرته الذاتية:
لم أَسُق السيرة الذاتية لشارون لمجرد إشباع الجانب المعرفي، بل لنتلمس من
خلال ذلك الملامح الذاتية لهذا الرجل لما لذلك من أثر بالغ على ما يُتوقع من أحداث
في الفترة الشارونية القادمة.
إن أهم تلك الملامح ما يلي:
1 - نفسيته الدموية التي عبَّرت عن ذاته في وقت مبكر من سنِّه عندما انضم
إلى عصابة الهاغاناه وعمره 17 عاماً، ثم اتضحت من خلال المجازر التي ارتكبها،
وقد لازمته هذه النفسية الدموية إلى وقتنا الحاضر، مروراً بمجازر ومذابح متعددة،
منها مذبحة قبية ومذبحة صبرا وشاتيلا.
2 - نفسيته الطموحة؛ حيث واظب على الارتقاء في المجالات العسكرية
والسياسية حتى أصبح رئيساً للوزراء.
3 - نفسيته المغامرة والمقتنصة للفرص، وقد تجلى ذلك واضحاً في استغلاله
لثغرة الدفرسوار وقيادته الجيوش الإسرائيلية في اقتحام بيروت واحتلالها.
4 - نفسيته الحاقدة على المسلمين والعرب بالذات وخاصة الفلسطينيين، وقد
تجلى ذلك من خلال تعاملاته الوحشية والإجرامية مع العزل من النساء والأطفال
والشيوخ، وكانت أساليب القتل والتشريد التي مارسها تعبيراً عن هذه النفسية
اليهودية الممتلئة بالحقد والكراهية لغير اليهود.
5 - نفسيته المتغطرسة، فلا يطيع أوامر رؤسائه إلا بما كان مقتنعاً به،
ويعصيها إن لم يقتنع بها؛ ومثال ذلك احتلاله ممر متلا في العدوان الثلاثي عام
1956م خلافاً لأوامر الخطة العامة، وكذلك رفضه لتوصيات لجنة التحقيق
الإسرائيلية التي أوصت بإقالته إثر مذابح صبرا وشاتيلا.
6 - نفسيته المتعنتة؛ حيث قال في مقابلة تلفزيونية عام 1999م:
«أعترف بأنني متطرف، ولكن فقط بخصوص القضايا التي تمس حياة إسرائيل
وأمنها» . وقال كيسنجر بعد اجتماع ضمهما إنه «جلس مع أخطر سياسي في
الشرق الأوسط» وهذه شهادة لها مكانتها في التحليل السياسي.
7 - نفسيته المراوغة والاستغلالية والمتوجسة، وقد بدا ذلك واضحاً في
محاولته الظهور بمظهر المعتدل في الانتخابات الأخيرة عندما التقى مع الناخبين
المترددين وبمظهر المتطرف عندما التقى مع الناخبين الحازمين، وأشيع بأنه أرسل
مبعوثين شخصيين سريين إلى بعض الدول العربية لتهدئة مخاوفها ولتغيير تصورها
عنه.
8 - نفسيته المستعلية على كرامة المقدسات، وقد تجلَّت هذه النفسية في
تدنيسه للحرم القدسي الشريف، مع علمه بأن هذا الفعل الشنيع سيفجر الشارع
الإسلامي والعربي والفلسطيني.
وقد أكد ما ذكرناه من الملامح الشارونية الصحفي عوزي بنزيمان في كتابه:
«شارون لا يقف أمام الشارة الحمراء» والكتاب الأسود الذي صدر بعد حرب
لبنان 1982م بعنوان: «إرييل شارون سيرة حياة كهذه» ، وقد ذكر عشرة
خصائص للشخصية الشارونية: نقض القوانين، ونقض الأعراف، وعدم إطاعة
الأوامر، وعدم كتمان الأسرار، وانتهاج جرائم الإبادة ضد العرب، والخيانة،
وتزييف الوقائع، وتجسيد الميكيافيلية على قاعدة الغاية تسوِّغ الوسيلة، سوى
الفظاظة والإخفاق في القيادة السياسية [1] .
المجتمع اليهودي شاروني الملامح:
فاز شارون في الانتخابات التي جرت في 6/2/2001م بحوالي 62.5 %
من الناخبين، ولم يحصل باراك إلا على نسبة 37.4 % من الناخبين، وكانت
فحوى الشعارات الانتخابية المطروحة أن شارون يقود منهج الحرب وباراك يقود
منهج السلام. إن ذلك وإن لم يكن في رأينا صحيحاً؛ حيث إن باراك لا يقل دموية
عن شارون، إلا أنه يعكس شارونية المجتمع اليهودي، إن نتيجة الانتخابات
أعطت شارون دفعة قوية لتنفيذ تطرفه في المرحلة القادمة؛ إذ بات تطرفه يستند
إلى دعامة شعبية جارفة، ومعنى ذلك بلغة الإسقاط الواقعي أن طبيعة المواجهة مع
اليهود ليست متعلقة بشخصية من يقودهم فقط، بل هي مواجهة شاملة مع المجتمع
اليهودي ككل، ويؤيد ذلك ما قاله الباحث اليهودي الدكتور مولي بيليغ: «إن
أرييل شارون يمثل انعكاساً للمجتمع الإسرائيلي بشكله الفظ، وهو يمثل المجتمع
الإسرائيلي بجوهره القاسي المستند إلى منطق القوة» ، ويقول: «إن شارون ليس
شاذاً عن المجتمع الإسرائيلي، بل هو نتاج كامل للإسرائيلية، تربطه خيوط شبه
كثيرة مع إسحاق شامير وأيهود باراك أكثر من أوجه الاختلاف، منها النظر إلى
الأمور من وجهة نظر أمنية» .
وعلى هذا فإن صراعنا ليس مع شارون بل مع مجتمع يهودي غاصب،
دموي النزعة، طامح للتوسع، مستعد للمغامرة، مقتنص للفرص، طافح بالحقد،
تنطوي نفسيته على جميع معاني الغطرسة والتعنت والاستعلاء والاستغلال
والمراوغة، ويعشش فيه طائر التوجس والترقب.
شارون ومفاوضات السلام:
مر قطار الاستسلام (ويسمى السلام) في وديان كثيرة منطلقاً من مدريد
مخترقاً أودية أوسلو، وواي بلانتيشن، وواي ريفر، وكامب ديفيد 2،
وباريس، وطابا؛ وقد تناوب على توجيه دفة القطار من الجانب اليهودي حزبا
العمل والليكود، وليس في نية اليهود التوصل إلى اتفاق سلام بل توقيع اتفاقيات
استسلام مجحفة كسباً للوقت إلى حين انطلاقاتهم التوسعية التالية؛ فالذي يريده
اليهود، سواء كانوا باراكيين عمليين أو شارونيين ليكوديين، هو:
1 - تكريس الوجود اليهودي على كامل أرض فلسطين، ثم توسيعه بعد ذلك.
2 - إذلال الأمة الإسلامية، والعرب منهم خاصة، والفلسطينيين على
الأخص.
3 - عزل القضية الفلسطينية عن محيطها الإسلامي والعربي.
4 - فتح أبواب التطبيع بغية السيطرة على الأمة الإسلامية من داخلها؛ وذلك
عبر الهيمنة على جميع مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية
والثقافية والفكرية والإعلامية والإدارية والأخلاقية والأمنية وغيرها.
5 - بث روح الانهزامية واليأس في الأمة الإسلامية، وتهيئتها نفسياً لمزيد
من الانكسارات، والانهزامات في صراعاتها المستقبلية مع العدو اليهودي
الصهيوني.
6- الحصول على مدى زمني أرحب ليتمكن اليهود من إعادة ترتيب أولوياتهم
في شؤونهم الداخلية والخارجية استعداداً للمرحلة اللاحقة.
وفي إطار تلك النقاط الستة التي ذكرتها فإن شارون لن يمتنع عن الدخول في
مفاوضات سلام مع السلطة الفلسطينية، غير أن الرؤية الشارونية لإسقاطات تلك
النقاط أكثر تشدداً في الطرح المعلن من الرؤية الباراكية؛ ففي حين يرى باراك
أهمية المرحلية لتحقيق ذلك مما يعني زمناً أطول، فإن شارون يرى حرق المراحل،
واختصار الزمن لمسارعة الوصول إلى عتبة التوسع التالي.
كان من المفترض أن آخر عتبة يتركها باراك وتدب عليها قدما شارون هي
عتبة مباحثات طابا التي اختتمت في أواخر يناير 2001م، وكان من أبرز ملامح
الاتفاقات المذكورة ما يلي:
1 - تتسلم السلطة الفلسطينية ما بين 94% إلى 96% من مساحة الضفة
الغربية لإقامة الدولة الفلسطينية عليها.
2 - تخصص الـ 5% الباقية لإقامة ثلاث كتل استيطانية يهودية تشمل:
80 % من المستوطنين، وتضم إلى إسرائيل.
3 - بالنسبة للقدس، سيبقى ما للعرب للعرب وما لليهود لليهود، على أن
تستحدث إدارة مشتركة للأماكن للمقدسة لمدة خمس سنوات، يتفق الجانبان خلالها
على موضوع السيادة.
4 - تنتشر القوات الإسرائيلية في حالات الطوارئ، مع تواجد إسرائيلي في
غور الأردن لمدة ست سنوات باعتبارها فترة انتقالية.
5 - صيغة تتيح عودة اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية، وإلى منطقة حالوتسيا
في النقب؛ حيث ستساعد إسرائيل الفلسطينيين على إقامة مدينة جديدة هناك، مع
إيجاد آلية لتعويض اللاجئين.
لست بصدد نقد نقاط هذه الملامح التي فحواها:
1 - الاعتراف بالسيادة الأبدية للكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة
قبل عام 1967م.
2 - الاعتراف بالتبعية الأبدية للكيان اليهودي على أرض فلسطين المحتلة
بعد عام 1967م.
3 - مصادرة حقوق الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
ولكن ما أود ذكره موقفان:
الأول: موقف باراك؛ حيث أعلن إلغاء جميع ما توصل إليه في مباحثات
كامب ديفيد 2، ومشروع كلينتون ومباحثات طابا، وأن حكومة شارون لا يلزمها
شيء من ذلك. إن هذا الموقف فضلاً عن أنه يمهد للعهد الشاروني؛ حيث يبدأ
شارون عصره متحرراً من أية التزامات مسبقة وبذلك ينطلق كما يريد، فإنه كذلك
يعزز ما عرف عن اليهود من نقضهم للعهود وإخلافهم للوعود.
الثاني: موقف شارون، وله منظوران:
1 - المنظور الاستراتيجي، وخلاصته:
* الضفة الغربية (ويسمونها حسب المصطلح التوراتي يهودا والسامرة)
هي جزء من «إسرائيل الكبرى» .
* شرق الأردن جزء من إسرائيل التاريخية.
* إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.
* تجمع اليهود من الشتات ليكوِّنوا سكان إسرائيل الكبرى.
* لا عودة للاجئين الفلسطينيين.
* تكثيف وزيادة المستوطنات في الضفة الغربية لتتسع لأكثر من مليوني
مستوطن.
* القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، وتضم «الهيكل» الذي سيشيد
على أنقاض المسجد الأقصى.
2 - المنظور الآتي المؤقت، وخلاصته:
* إيقاف الانتفاضة الحالية مع التركيز على الاغتيالات للسياسيين والعسكريين
لجعل المنتفضين بغير قادة موجهين ومخططين، وقد أكد هذا التوجه رعنان غيسين
الناطق باسم الجيش الإسرائيلي سابقاً والمساعد الحالي لشارون.
* التمسك باللاءات الأربعة: وهي: لا لإقامة دولة فلسطينية على الضفة
الغربية والقطاع، لا لتقسيم القدس، لا لإزالة المستوطنات، لا لعودة اللاجئين
الفلسطينيين.
* لا مانع من إعطاء التجمعات العربية الكثيفة لوناً من الحكم الذاتي لا يتجاوز
السيطرة على الخدمات البلدية، وأما الدولة الفلسطينية فيمكن أن تقام على أرض
الأردن.
* أن لا تتجاوز مجموع الانسحابات الإسرائيلية من الضفة الغربية وغزة
42 % من مجمل المساحة، على أن تعتبر جميع المستوطنات جزءاً لا يتجزأ من
دولة إسرائيل؛ حيث يرتبط بها من خلال طرق تخترق الضفة الغربية طولاً
وعرضاً، وحيث تساهم هذه الطرق في تقطيع أوصال دويلة الحكم الذاتي، هذا
فضلاً عن عدم سيادتها على أجوائها، حيث سيكون كامل المجال الجوي تحت
السيطرة الإسرائيلية.
* دعوة الدول العربية إلى حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من خلال توطينهم
فيها.
* لا مانع من الدخول في مفاوضات سلام مع السلطة الفلسطينية ضمن حدود
النقاط المذكورة.
لقد طرح شارون تصوراته عن الأوضاع المستقبلية في حملته الانتخابية.
وكان مما قاله: «من يعتقدون أن القدس يجب أن تبقى جزءاً لا يتجزأ من
الإرث اليهودي يجب أن يصوتوا لي» ويرى شارون أنه لا يمكن له تحقيق
منظاريه إلا من خلال حكومة وحدة وطنية، ولذلك قال في حملته: «الوحدة
الوطنية ضرورية في الوقت الحالي لتحقيق الأمن والسلامة وإصلاح الانقسامات في
هذا البلد» لكن هل ينجح في ذلك؟ ! وخاصة أن مهمات الحكومة الوطنية الدخول
بإسرائيل في متاهات خطيرة! يقول المعلق السياسي اليهودي أفراهام طال: «إن
خطط شارون تقود إلى الحرب وإلى مزيد من بناء المستوطنات غير المشروعة»
ووصف توجهه إزاء الفلسطينيين بأنه «عنصري» ، وتوقع أن يؤدي برنامجه
السياسي إلى القضاء على عملية السلام.
شارون وانتفاضة الأقصى:
يعتبر شارون استمرار انتفاضة الأقصى قضية بالغة الخطورة؛ حيث إنها
حققت إلى الآن أهدافاً كثيرة، منها:
1 - أكدت للقاصي والداني استحضار الشعب الفلسطيني لهويته الإسلامية.
2 - أن الشعب الفلسطيني لم يندثر كما أراد له اليهود، بل لا يزال شعباً حياً
تتدفق دماء الحرية والنقاء في عروقه.
3 - أبرزت الانتفاضة رفض الشعب الفلسطيني لاحتلال أرضه وتدنيس
قدسه ومقدساته.
4 - رفض الشعب الفلسطيني للحلول الاستسلامية المطروحة على الطاولات.
5 - أججت مشاعر الشعوب العربية والإسلامية وأذكت فيها روح الجهاد.
6 - أحدثت شروخاً في داخل المجتمع اليهودي على كافة المستويات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
وبناء عليه، فالمتوقع من العهد الشاروني هو:
1 - استخدام أشد أساليب العنف للقضاء على الانتفاضة بما في ذلك إعادة
احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسحب الاعتراف باتفاقيات أوسلو.
2 - تهجير الفلسطينيين أو بعضهم بالقوة إلى الأردن.
ونظراً لأن تحقيق هذا المشروع سيكون خطيراً جداً فإن شارون سيكون
مستعداً للدخول في حرب شاملة مع الدول العربية المحيطة بإسرائيل تحدث في
المنطقة ظروفاً جديدة، وتقلب الطاولة رأساً على عقب؛ ذلك أنه يرى أن خوض
حرب مع الأنظمة العلمانية القائمة هو فرصة تاريخية؛ حيث سيضمن له النصر
الذي لا يمكن أن يتحقق فيما لو قامت بدلها أنظمة إسلامية؛ ولذا فهو في سباق مع
الزمن في هذا الاتجاه؛ حيث إن إقامة نظام إسلامي في أي من تلك الدول المحكومة
الآن بالأنظمة العلمانية سيوقف مسيرة اليهود في اتجاه تحقيق أهدافهم التي ينشدونها،
ومما يؤكد التوجه الشاروني للحرب ما ذكره رئيس الأركان الإسرائيلي شاؤول
موفاز ونائبه موشي ياألون من أن الصدام الشاروني الفلسطيني قد يؤدي إلى حرب
تتجاوز حدودها الطرفين، وهذا ما لا يريده الجيش في المرحلة الحالية؛ حيث قال
موفاز إن من أهداف الجيش الإسرائيلي ضمان أمن المدنيين الإسرائيليين وخفض
العنف، ومنع الانحدار نحو حرب إقليمية، ومنع تدويل النزاع مع الفلسطينيين،
وترك باب المفاوضات مفتوحاً، ونظراً لأن هذا التوجه مخالف لتوجه شارون فمن
المنتظر أن يحدث شارون تغييرات في القيادات العسكرية، لتتلاءم مع القيادات
السياسية من أمثال أفيغدور ليبرمان ورهافام زئيفي اللذين طالبا بضرب السد العالي
وسوريا، وهو الآن يريد ضم الرجلين إلى وزارته.
السلطة الفلسطينية وشارون:
وقَعَت السلطة الفلسطينية في «حيص بيص» بعد أن استلم شارون رئاسة
الوزارة الإسرائيلية، لكنها عبَّرت عن رأيها في ذلك بقول رئيسها ياسر عرفات:
«إنه يحترم إرادة الشعب الإسرائيلي» ! !
إن السلطة الفلسطينية الحالية مستعدة أن تسير في طريق التنازلات إلى نهايته،
إن كان له نهاية سوى القضاء على آمال الشعب الفلسطيني المتورط بقيادته؛
وبناء عليه فالمتوقع من هذه السلطة:
1 - العمل الحثيث على إيقاف الانتفاضة الحالية بشتى الوسائل والطرق.
2 - تكثيف التعاون الأمني مع السلطات اليهودية.
3 - مواصلة السير في طريق الاستسلام؛ وستعلن في البداية رفضها التام
لجميع ما طرحه شارون، ثم تبدأ التنازل عن هذا الرفض بنداً بنداً، كما تعوَّدنا ذلك
منها.
الدول العربية وشارون:
أظهرت الدول العربية إيجاسها الخيفة من اعتلاء شارون منصة رئاسة
الوزراء اليهودية، هذا من حيث الظاهر، وأما من حيث الحقيقة فستجري الأمور
مع شارون على نفس وتيرة ما جرت مع باراك، وأما ما سيقوم به شارون من قتل
وبطش وإبادة وتشريد وحصار وتجويع وتدمير للمنازل والخدمات، فإن بيانات
الشجب جاهزة وبرقيات الاستنكار معدَّة!
الغرب وشارون:
ستواصل الدول الغربية وخاصة أمريكا دعمها اللامحدود لشارون، وأتوقع
شخصياً أن الدعم الأمريكي لدولة الكيان اليهودي سيزداد في عهد الرئيس الأمريكي
بوش؛ وذلك من منظار تطلعاته الدينية التي تذكرنا بالرئيس السابق ريجان؛ حيث
إن بوش اعتبر أن المفكر المفضل لديه هو يسوع المسيح، وبعد بضع دقائق من
أدائه اليمين الدستورية واضعاً يده على «الكتاب المقدس» قال عبارة غامضة جاء
فيها: «إن ملاكاً يخيم فوق الزوبعة ويوجه هذه العاصفة» ، ثم طلب إقامة يوم
وطني للصلاة، وذلك غداة وصوله للحكم، ثم دافع بقوة عن مشروع يقضي
بتخصيص مبالغ من الأموال العامة للنشاطات الاجتماعية التي تشرف عليها
منظمات دينية أمريكية، مما دفع آلان ليشتمان، المؤرخ المتخصص في شؤون
الرئاسة الأمريكية في الجامعة الأمريكية في واشنطن إلى القول: «إن الربط بهذا
الشكل بين الدين والسياسة أمر لا سابقة له لرئيس بدأ مهامه منذ أسبوعين» .
ومعلوم أن بوش له علاقة وطيدة وصداقة حميمة مع القس الشهير بيلي
غراهام «المرشد الروحي» لعدد كبير من الرؤساء، ومعلوم أيضاً أن بوش لا
يتعاطى الخمر منذ حوالي خمسة عشر عاماً، وأنه يقرأ في الكتاب المقدس يومياً،
وقال في إفطار وطني خصص للصلاة: «إن الإيمان أعانني في النجاح والفشل،
ومن دون الإيمان لكنت شخصاً مغايراً، ومن دونه لما كنت بالتأكيد هنا» .
وبناء على ما ذكرته أقول: إن كان الرؤساء الأمريكيون السابقون قد قدموا
دعمهم اللامحدود لإسرائيل من وجهة نظر سياسية في أغلبها، فإن بوش سيقف مع
شارون ومع من يأتي بعده داعماً لهم بقوة، ليس من وجهة نظر سياسية فحسب،
بل من وجهة نظر دينية مقدمة عليها، خاصة مع اعتقادهم الراسخ أن قيام دولة
إسرائيل مقدمة لحدوث معركة هرمجدون التي هي بدورها مقدمة لعودة المسيح.
وقفة مع ما يجب:
1 - ينبغي ترشيد الانتفاضة ترشيداً شرعياً بغية أن تكون أهدافها منضبطة
بالكتاب والسنة ولأجل أن يكون الهدف الأساس أن ترفرف راية الإسلام خفاقة على
ربوع أرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
2 - الواجب القيام بدعم انتفاضة الأقصى بكل الوسائل المادية والمعنوية التي
تساعدها على الاستمرار واستدامة التوهج.
3 - تعبئة طاقات الأمة الإسلامية في المنظومة الإسلامية كلها.
4 - تهيئة الأمة للجهاد ولاستعادة الربوع المباركة في أرض فلسطين
ولتحرير المسجد الأقصى من براثن اليهود.
وبعد: فقد طفنا بسرعة خاطفة في دروب العهد الشاروني.
أسأل الله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز به دينها وينصرها به على
اليهود وجميع أعدائها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) انظر: الحوادث، 16/2/2001م.(161/111)
المسلمون والعالم
الدبُّ الروسي.. وصحوة الموت
آسيا الوسطى بين فكي كماشة
(1 - 2)
محمد أمين البخاري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الصراع بين الخير (الإسلام) والشر (الكفر) صراع مستمر لا ينتهي
حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال وينزل عيسى عليه السلام فيقتله عند باب لُدٍّ كما
جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. واستمرار هذا الصراع مقطوع به بنص كتاب
الله تعالى. يقول سبحانه وتعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ
إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ويقول: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) فسنَّة المدافعة هي من السنن الربانية التي تحكم
هذا الوجود الفاني إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) .
لذا فمكر الكفار من شياطين الإنس والجان بالمسلمين في الليل والنهار هو أمر
مقدور منذ الأزل لا تبدله ولا تغيره اتفاقيات السلام، ولا قوانين الأمم المتحدة،
ولا النظام العالمي الجديد، ولا تنازلات المسلمين المجحفة بحقوقهم الشرعية
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ؛
ولأن هذه العداوة متأصلة في نفوس الكفار بشتى مللهم وأطيافهم السياسية فليس
بمستغرب ما يحدث منهم ضد المسلمين في شتى بقاع الدنيا من قتل وتشريد لهم
ونهب لمقدراتهم وإلجائهم إما إلى الكفر والفجور أو الخنوع والتسليم بالأمور.
تشهد الآن مجتمعات آسيا الوسطى التركية - أوزبكستان، طاجكستان،
قرغيزستان، تركمانستان، قازاقستان تحولات جذرية خطيرة في البنى السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بتوجيه من معسكر الكفر أمريكا وروسيا
وأوروبا لإعادة تشكيل هذه المجتمعات الإسلامية الحديثة الاستقلال الصوري على
أسس من الأفكار العلمانية المناوئة للدين الإسلامي على الطريقة التركية. والكفار
بفعلهم هذا يستبقون الأحداث كعادتهم، ويستغلون الفراغ الديني والفكري والسياسي
والإداري، والضائقة الاقتصادية الملحَّة لهذه الشعوب التي أحدثها انفصالهم
عن روسيا؛ لأنهم يعلمون أن الإسلام لا يحتاج إلا لبعض الوقت حتى يملأ هذا
الفراغ الحادث في هذه المجتمعات، ويوجهها بعد ذلك الاتجاه الصحيح نحو
الإسلام؛ وخاصة أن الإسلام متجذر في ثقافة هذه الشعوب التركية، وآثاره
وشواهده ماثلة للعيان المدارس المساجد والتراث الفكري، وملموسة في التقاليد
والعادات الموروثة عندهم منذ القدم.
لأجل هذا فأعداء الله لا يتوانون عن عمل كافة الأفعال غير الشرعية للوصول
إلى الحد من دور الإسلام في المنطقة ولو بالعنف والإرهاب حتى لو خالفوا
شعاراتهم الجوفاء وقوانينهم الشوهاء حقوق الإنسان، حق تقرير المصير،
الديمقراطية.. إلخ ودليل ذلك ما يجري اليوم من أحداث مأساوية في منطقة آسيا
الوسطى التي يتفطر لها قلب كل مسلم يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ويحب الصحابة والتابعين وحملة العلم والدين؛ كيف لا يكون ذلك وهذه البلاد قد
أخرجت للأمة فحول أهل الحديث واللغة وأئمة الفقه والتقى وقادة الحرب وأولي
النهى؛ فمنها خرج صاحبا الصحيحين وأصحاب السنن وأئمة الزهد والفقه واللغة.
بلاد البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن المبارك؛ إنها أوزبكستان هذا
البلد الذي ما أن تنسم أهله الحرية وتخلصوا من سني الذل والعار تحت الاستعمار
الروسي المنهار وبدؤوا يعودون إلى الله وإلى الإسلام الصحيح بوتيرة أسرع بكثير
من وتيرة بقية إخوانهم في المنطقة حتى تسلط عليهم الشرق والغرب كما تسلط من
قبل على إخوانهم في طاجكستان.
إن ما يحدث اليوم في أوزبكستان من فظائع وجرائم هو في الحقيقة حرب
استئصالية لكل مصلح رشيد وناصح سديد، ولكل توجه للمجتمع نحو الإسلام
الصحيح، إنها حرب قذرة لتجفيف المنابع يشنها أعداء الله عن طريق الحكام
الخونة من أبناء المنطقة الذين كانوا بالأمس القريب من منظِّري الشيوعية وقادتها
من الذين لا يؤمنون إلا بالرأي الواحد والحزب الواحد، واليوم هم الديمقراطيون
كما يدَّعون الذين يعرفون معاني الحرية، وهم الغيورون على مصالح بلدانهم
وشعوبهم؛ ولذا فهم يشنون هذه الحرب الشاملة ضد مجتمعاتهم مستخدمين كل أنواع
الجبروت والاستبداد من إرهاب فكري، واضطهاد نفسي وقتل وتشريد وسجن
وتعذيب، وبلغوا درجة في ذلك يهون معها ما سمعناه من فظائع الشيوعيين الحاقدين
وجرائم اليهود الغادرين.
وإن مما يؤلم الضمير الحي ويدعو للأسف والحسرة هذا السكوت واللامبالاة
من قِبَل عامة المسلمين أفراداً وحكومات وشعوباً ومؤسسات أمام هذه النازلة المؤلمة
والداهية المفزعة؛ والتي نزلت بإخواننا في تلك الديار، وربما قال قائل منا: اللهم
لا علم لي بما يجري ولم أسمع ولم أدرِ!
ولذا جاءت هذه المقالة البلاغ لينقطع العذر بعدم المعرفة والعمل، موضحة
حقيقة ما يجري في أوزبكستان على وجه الخصوص وبقية أخواتها. وستركز هذه
الدراسة على إيضاح حقيقة الأوضاع في المنطقة وطبيعة الأدوار المؤثرة فيها لكافة
القوى وبالذات روسيا وأمريكا؛ لأنه ببيان ذلك يتضح لنا من هم العدو الحقيقي،
ومن هم أعوانهم من المنافقين، وأثر كل منهما على الأحداث؛ ومن ثم تتبين لنا
معالم منهج التغيير المناسب، وطريق الخلاص لهذه الشعوب من ربقة الهيمنة
الروسية والغربية الجديدة والعودة بها بعد ذلك إلى الله، وإلى الإسلام. ولا يخلو أمر
هذه الدراسة من إشارات إلى بعض القضايا المنهجية وبعض الدروس والعبر التي
يمكن الاستفادة منها لمن يمارس العمل في تلك المناطق، وما يدرينا لعل الله أن
يخرج من الإخوة القراء من يحمل الهمَّ ويقدِّر المسؤولية، فيبدأ العمل ويسد ثغرة
في هذا العمل الإسلامي الكبير في منطقة نرجو أن لا يكون قد فات وقت العمل لها
وفيها.
تمهيد:
إن من أهم أحداث العقد المنصرم هو تفكك ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي،
هذا الحدث الذي كان مفاجأة لكثير من الناس إلا لبعض المراقبين؛ لأنه كان متوقعاً
لهم حدوثه منذ الستينيات من هذا القرن؛ حيث ظهرت دراسات في فرنسا تتوقع
ذلك بناءً على استقراء لخط السياسة الداخلية وأساليبها القمعية والاستبدادية،
ومصادرتها لحريات التعبير في المجتمع، ومحاربتها للأديان بفرض العقيدة
الشيوعية عليهم، واستقرائها أيضاً لخط السياسة الخارجية وأساليبها الدموية في
نشر الشيوعية في العالم بدعمها للأنظمة الثورية التي ترفع شعارات براقة كما رفعها
اليساريون في السابق وما يرفعه اليوم علمانيو العالم العربي والإسلامي من المساواة
وإعادة توزيع الثروات والحرية والسيادة الوطنية.. إلخ، وسرعان ما كانت تظهر
تلك الأنظمة الانقلابية بعد تمكنها وهيمنتها على صورتها الحقيقية البشعة مما كان
يزيد في مشاعر السخط والكره لروسيا ولسياساتها وترسيخ النموذج الغربي
الديمقراطي أسلوباً في الحكم والحياة، ولعل تأخر انهيار الاتحاد الفيدرالي الروسي
(السوفييتي سابقاً) وتفككه إلى دول حتى بداية التسعينيات مرده إلى أن أجلها في علم
الله لم يحن بعد، فكان ما يزال لديها بعض من عناصر البقاء والاستمرار، ولكن
حينما اكتملت أسباب تحقق السنة الإلهية في زوال الدول والحكومات، وبلغ الكتاب
أجله أذن الله بسقوط إمبراطورية الإلحاد وتفرقت شذر مذر، وأبدلهم الله بعزهم ذلاً
ومهانة، وباجتماعهم تفرقاً وانقساماً، وبغناهم فقراً وإملاقاً، ولعل من المناسب في
هذا المقام أن يتأمل المسلم الحصيف هذه القضية من زاوية شرعية دينية، ويبحثها
بعمق علمي وباستشهادات واقعية ليعرف طبيعة هذه السنن الربانية التي تحكم قيام
الدول وزوالها؛ لأنها في الحقيقة سنن لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحداً على
أحد لتكون درساً وعبرة لكل عاقل لبيب له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) ، وإن من
أهم ما ظهر لي من أسباب تعتبر مقدمات لحدوث هذه السنن الربانية في كل حين
وأوان ما يلي:
1 - الظلم والاستبداد بشتى صورهما مما مارسته روسيا القيصرية والبلشفية
على الشعوب المستضعفة والأمم المغلوبة على أمرها من سفك لدمائها وانتهاك
لأعراضها ونهب لأموالها وتشريد لأبنائها ومحاربة لأديانها وأخلاقها. قال تعالى:
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» [1] .
2 - تبني نشر العقيدة الشيوعية المصادمة للفطرة وللأديان السماوية بدعمها
للأنظمة الثورية في العالم بشتى أنواع الدعم العسكري والأمني والسياسي
والاقتصادي، ومساعدتهم في البطش بشعوبهم وسلب مقدَّراتهم مما أظهر الوجه
القبيح للشيوعية التي كانت تتخفى وراء شعارات وعبارات براقة من دعاوى
المساواة، ونصرة العمال والفلاحين والمستضعفين، وإعادة توزيع الثروات: [إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ] (يونس: 81) .
3 - الخطط والسياسات الاقتصادية الفاشلة التي ألغت الملكية الفردية،
فألغت بذلك حافزاً من أهم حوافز العمل والإبداع، وأمَّمت وسائل الإنتاج
والمرافق الاقتصادية، وسخَّرت كافة موارد الإنتاج لنشر العقيدة الشيوعية
ولدعم الآلة العسكرية والأمنية للاتحاد السوفييتي وبالتحديد لروسيا.
4 - التبعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتدخل الروسي في أفغانستان
الذي أصاب الغطرسة الروسية في مقتل، ونال من كبريائها على أيدي المجاهدين
في أفغانستان الذين ألحقوا بها الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات، وزادوا عليها
الأعباء الاقتصادية التي تحملها اقتصادها المنهك أصلاً؛ مما ساعد على تحريك
المشاعر الإسلامية لدى الشعوب الإسلامية وزيادة تململ الشعوب السوفييتية الأخرى
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
5 - الاختلال السكاني الذي حدث في الاتحاد السوفييتي السابق بسبب طبيعة
العقيدة المادية التي تحكم الشعوب غير الإسلامية والعلاقات الاجتماعية المفككة،
وغياب التكافل فيما بينهم مما ساعد على ارتفاع نسبة المواليد بين المسلمين في
الجمهوريات الخاضعة للاحتلال الروسي مقارنة بالشعوب النصرانية الأخرى في
روسيا؛ حيث أوضحت دراسات روسية في الثمانينيات أن المسلمين في روسيا
سيصبحون في عام 2020م أكثرية مما يعني أن عددهم سيتجاوز 50% من سكان
الاتحاد السوفييتي إذا استمرت نسبة المواليد عند المسلمين وعند النصارى بالنسبة
نفسها؛ حيث كان عدد المسلمين في وقت إعداد الدراسة السرية حوالي 60 مليوناً
أي حوالي30% من تعداد السكان في روسيا، ويشكل العاملون منهم في القطاع
العسكري حوالي 30%؛ وهذا مؤشر خطر كبير في نظر أوروبا بأكملها؛ ناهيك
عن تهديد وجود روسيا ذاتها أمة ودولة.
ولقد فكر عقلاء الروس وساستهم قبيل وقوع هذا الأمر العظيم والانهيار العميم
لدولتهم بأنه لو سارت أمور دولتهم بهذه السياسات الحالية ولم يجاروا التغيرات
الجذرية المتسارعة التي حدثت في السياسة والعلاقات الدولية؛ فإن مصير الاتحاد
السوفييتي سيكون الانهيار السريع غير المنتظم، والتفكك الأكيد إلى دول متنافرة
متصارعة تخلق مشاكل لروسيا لا نهاية لها؛ بل إن روسيا ذاتها قد تصبح دولة من
دول العالم الثاني وربما الثالث، ولذا فقد رأوا أن من الحكمة والمصلحة التهيؤ لهذا
الوقت الآتي لا محالة والتي تلوح بوادره، والتخفيف من خسائره قدر الإمكان؛
وذلك بالاستعداد له بجملة من القرارات الاستراتيجية القاسية عليهم والمصادمة في
الوقت نفسه لمبادئهم التي قامت عليها إمبراطوريتهم المستبدة.
وقد حرصوا على أمرين هما: أولاً: التخفيف من الآثار السلبية لهذا الانهيار
المتوقع، وثانياً: محاولة الحفاظ قدر الإمكان على المصالح الاستراتيجية العليا
لروسيا على الأقل في الدول التي هي ضمن الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت؛ ولذا
فقد وضعوا استراتيجيات عديدة لمختلف القضايا المصيرية التي تؤثر على مصالحهم
العليا؛ ومن ضمن ذلك استراتيجيتهم في المحافظة على مصالحهم في دول آسيا
الوسطى التركية، وتتمحور هذه الاستراتيجية على تعزيز هيمنتهم العسكرية
والسياسية والاقتصادية والثقافية على هذه الدول؛ وفي الوقت نفسه يتخففون بصورة
شبه تامة من كل الأعباء الاقتصادية والإدارية والخدمية التي أرهقت كاهلهم إبان
استعمارهم الصريح لها، ومن أهم ملامح هذه الاستراتيجية التي ظهرت لي بعد
التأمل ما يلي:
1 - التخلي عن الإشراف المباشر على دول الاتحاد السوفييتي السابق كلها
والدول التي تدور في فلكها؛ وهذا يعني التخفف من كافة الأعباء الاقتصادية
والعسكرية والأمنية وغيرها التي كانت تستنزف مواردها، ثم توجيه تلك الموارد
بعد ذلك إلى داخل روسيا.
2 - استمرار فرض الهيمنة الروسية على تلك الدول وخصوصاً البلاد
الإسلامية في آسيا الوسطى عن طريق تقليد الموالين لها من أعضاء الأحزاب
الشيوعية المحلية مقاليد الحكم قبيل انفصال تلك الدول عن روسيا؛ لإظهارهم بأنهم
كانوا وراء الانفصال وتحقيق الاستقلال، وليكونوا رموزاً للوطنيين الشرفاء مع
أنهم عملاء خبثاء، كما فعل اليهود مع أتاتورك في المعارك المسرحية التي حدثت
أمام الحلفاء في الحرب العالمية وانتصر عليهم فيها؛ مما جعله رمزاً وطنياً وقائداً
قومياً، ولعل من المضحك في هذا الخصوص أن رئيس أوزبكستان الحالي كان
بالأمس القريب المنظِّر والسكرتير الأول للحزب الشيوعي في أوزبكستان، وبين
عشية وضحاها أصبح الحزب الشيوعي حزب الشعب الديمقراطي، والرئيس
الشيوعي أصبح رئيساً ديمقراطياً، ومن الديمقراطية أن يصبح رئيساً للجمهورية
(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
3 - الحد من الدور الإسلامي الذي يمكن أن تلعبه الشعوب الإسلامية في آسيا
الوسطى التي يمثل وعيها وعلمها وحركتها خطراً استراتيجياً لوجود روسيا ذاتها
على المدى البعيد، وهذا الإجراء يكون بضبط التوجهات الدينية لهذه الشعوب
وإخضاعها وقمعها إذا اقتضى الأمر عن طريق القائمين على الحكومات المحلية
العميلة الذين هيَّأتهم واختارتهم بأعيانهم وصفاتهم من الأحزاب الشيوعية المحلية
وبدعم من روسيا والغرب.
4 - تكبيل هذه الدول بالديون الكبيرة التي لا تستطيع سدادها لعقود طويلة؛
لضمان بقاء سيطرتها عليها، واستمرار ربط اقتصادياتها الوطنية بالاقتصاد
الروسي، وتحقيق الاندماج الكامل فيما بينهم؛ لانعدام البنى التحتية الصناعية
الاستراتيجية في هذه الدول منذ زمن بعيد؛ وكأن روسيا كانت تخطط لهذا اليوم،
بل كانت مخططة له بالفعل.
5 - استمرار روسيا في فرض مظلتها العسكرية النووية والتقليدية على دول
المنطقة بسبب هيمنة القوة العسكرية الروسية؛ حيث لا توجد عند هذه الدول جيوش
وطنية ولا تجهيزات عسكرية ولا خبرات قتالية؛ فهي في أيدي الروس منذ زمن،
مما يجعل دول المنطقة مدينة لروسيا في وجودها واستمرارها دولاً مستقلة، وهذا
يعني تبعية سياسية تامة لروسيا.
6 - العمل على استمرار الوجود الثقافي الروسي في المنطقة وتقويته عن
طريق استمرار النظام التعليمي الروسي بمناهجه التعليمية وطاقاته البشرية؛ وذلك
بسبب وجود أرضية تعليمية وثقافية مشتركة بين شعوب المنطقة، إضافة إلى خلق
المزيد من فرص التبادل الثقافي والعلمي بين الدول عن طريق الاتفاقيات الثقافية،
وإنشاء العديد من اللجان المشتركة، ولإحكام السيطرة على هذا الجانب.
7 - العمل على استمرار الهيمنة الروسية على إدارة المنشآت الحكومية
والاقتصادية والإعلامية بسبب سيطرة الطاقات الروسية والمتروِّسة المتعلمة
والخبيرة والمؤهلة على أغلب المناصب الحساسة؛ بل إنهم هم الذين يسيِّرون
بالفعل السياسة الخارجية والأمن والاستخبارات والتعليم والثقافة والإعلام في كل
دول آسيا الوسطى بلا استثناء.
البدائل الاستراتيجية للسيطرة:
وتحسباً للمستقبل من إمكانية ظهور مشاعر وطنية ومصالح سياسية تدعو إلى
الاستقلال الحقيقي والوحدة بين شعوب المنطقة؛ فقد وضعت روسيا قنابل موقوتة
في كل دول آسيا الوسطى التركية لاستخدامها عند الحاجة؛ لزعزعة استقرار أي
دولة تفكر بالخروج عن الخط المرسوم لها؛ ولإثبات ذلك فقد بعثت روسيا بعض
الرسائل لقادة المنطقة وشعوبها حينما أثبتت لهم قدرتها على إثارة النزاعات العرقية
بين شعوب المنطقة التي لا تنتهي بها عند حد، ومثال ذلك ما حدث في عام 1989 م
بولاية فرغانة في أوزبكستان بين الترك المسخيين والأوزبك، وكانت حصيلة تلك
المواجهات أكثر من 16 قتيلاً ومئات الجرحى وآلاف المشردين، وما حصل في
عام 1990م بين الأوزبك والقرغيز في ولاية أوش بقرغيزستان وأدى إلى مقتل ما
يزيد عن خمسة آلاف قتيل بين عشية وضحاها أغلبهم من الأوزبك.
وفي جعبة روسيا الكثير الكثير من المكائد لدول المنطقة؛ فقد قَسَّمتْ أراضي
الجمهوريات الخمس التركية كلها بطريقة خبيثة ماكرة، فانتزعت أقاليم من دول
وأعطتها لأخرى والعكس صحيح مثل نزع إقليمَيْ بخارى وسمرقند من طاجكستان
وإلحاقهما بأوزبكستان، وانتزاع إقليم خجند من طاجكستان وإلحاقه بأوزبكستان،
وقس على ذلك بقية دول آسيا الوسطى، بل ما قضية ناغورنو كاراباخ وتخنشيفان
بين أرمينيا وأذربيجان وإقليم أبخازيا في جورجيا إلا دليلاً على ذلك، فحتى لو
فكرت هذه الدول بالاندماج والوحدة بناءً على دينها أو عرقها أو نسيجها الاجتماعي
فستكون المشكلات الحدودية والعرقية من أكبر عوائق هذا الاندماج؛ أضف إلى ذلك
وجود إمكانية للتدخل المباشر من قِبَل روسيا بدعوى حماية الأقلية الروسية في
المنطقة والذين يعملون الآن كطابور خامس.
لأجل كل هذا فروسيا تحت أي ظرف من الظروف لن تتنازل عن هيمنتها
على المنطقة لأحد ولو للديمقراطيين الوطنيين أو غيرهم؛ فروسيا لا تخاف على
المدى المتوسط والبعيد إلا من التوجهات الإسلامية العلمية والجهادية والقادرة ليس
على هزيمة الاستعمار الروسي الجديد لدول المنطقة بل تهديد أمن روسيا ذاتها
ووجودها؛ وما ذلك على الله بعزيز.
الاستراتيجية الروسية في حرب الإسلام:
إن لمعرفة روسيا بالمسلمين أثراً كبيراً في توجهاتها وتحركاتها ضد دول
المنطقة وشعوبها؛ فهي لها صولات وجولات معهم، وهم وهي في تماس منذ ما
يقرب من 800 سنة؛ فالحرب بيننا وبينهم سجال، دال المسلمون خلالها عليهم
مرات عديدة، حتى إن المسلمين دخلوا موسكو ثلاث مرات فاتحين لها قاهرين
لقياصرتها حتى أخذوا الجزية من الروس عن يد وهم صاغرون؛ ولذا فإن تخطيط
روسيا ضد المسلمين مبني على هذه الخلفية التاريخية؛ ويجب أن يفهم على ضوئها.
وعليه فقد خططت روسيا كعادة الكفار في استباق الأحداث [وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ] (إبراهيم: 46) لإجهاض أي بوادر تحرك إسلامي شعبي أو
رسمي لمقاومة هيمنتها من جانب الشعوب الإسلامية ومثقفيها؛ لمعرفة روسيا
بطبيعة هذه الشعوب إذا تنسمت قدراً من الحرية وعادت إلى دينها على بصيرة
وعلم، وأنها لو حدث ذلك فستكون حينئذ قادرة بإذن الله على تحريك الجبال من
أماكنها؛ ولذا فقد وضعت خططاً ماكرة لضرب هذه التوجهات وقمعها في مهدها في
خطوات مدروسة وبتنسيق دولي وإقليمي، والتنفيذ بأيدٍ عميلة وطنية الانتماء
شيوعية الولاء، روسية الهوية والمشرب، والعمل تحت شعارات دولية براقة
ومضللة في نفس الوقت؛ بدعوى مكافحة الإرهاب والتطرف، والمحافظة على
الأمن والسلام الإقليمي، ومكافحة تجارة المخدرات وهكذا.
وتتحاشى روسيا في الظاهر الإشارة إلى مسؤوليتها تجاه قمع هذه الشعوب
وتقزيم توجهاتها الإسلامية، وفي الحقيقة هي صاحبة التوجيه والدعم لهذه
الحكومات القمعية العميلة في الخفاء؛ لأن روسيا في الحقيقة كما هي عادة دول
الكفر قاطبة لا تود الدخول في صراع ظاهر مع المسلمين فتتكرر معها تجربة
أفغانستان المؤلمة والمذلة لروسيا، وفي الوقت نفسه تعرِّض نفسها للانتقادات
الدولية من قبل البقية القليلة من حكومات العالم التي عندها قدر من العدل والإنصاف
المسيَّس؛ ولذا فإن ما تشهده الساحة السياسية الآن في آسيا الوسطى من تحركات
من مختلف القوى وبالذات روسيا وأمريكا يصب في هذا الإطار، وهو مقاومة
التوجهات الإسلامية العلمية ذات النفس الجهادي ووأدها في مهدها عن طريق
الحكومة العلمانية المحلية العميلة والذين هم الشيوعيون القدماء من أعضاء الأحزاب
الشيوعية المحلية بأعيانهم وأوصافهم.
ويمكرون ويمكرالله والله خير الماكرين:
ليس بمستغربٍ إعطاء روسيا الاستقلال لدول الكومنولث كلها، بل فرض
عليها فرضاً كما حدث مع أوزبكستان وبقية دول آسيا الوسطى التركية دون إراقة
نقطة دم أو إثارة اضطرابات؛ لعلم روسيا أن هذه الدول لا تستطيع الفكاك من
الهيمنة الروسية بسبب ما دبرته لها من المكائد والدسائس التي تبقيها تحت سيطرتها
وإلى أمد بعيد. ولأن روسيا تعتقد أنها من أقدر الأمم على فهم المسلمين؛ فقد
أحكمت تدبيرها عليهم وظنت أن مكرها بهم سينفذ وخططها عليهم ستنجح،
وستمارس روسيا بعد ذلك دور الدولة الاستعمارية الذكية ولكن بمفهوم حديث جديد
وبطش أكبر وهيمنة أشد، بل اعتقدت روسيا أنها إذا تخففت من الأعباء الاقتصادية
وغيرها التي كانت تقدمها للدول التي كانت تدور في فلكها أو التي كانت توجهها
عن بعد وأعادت توجيه هذه الموارد المالية إلى داخل روسيا مع استمرار احتفاظها
بقوتها العسكرية فستصبح دولة منافسة لأمريكا على أسس أقوى مما هي عليه الآن،
ويكفيها حينئذ أن تلوِّح بقوتها العسكرية حتى يستجيب الآخرون لها.
ولكن إرادة الله فوق إرادتهم، ومكره سبحانه فوق مكرهم؛ فلقد تسارعت
الأحداث عليهم، وأصابهم الله بالأزمات والكوارث مصيبة بعد أزمة، وكارثة بعد
داهية، وطامة بعد صاعقة؛ فلا يكادون يفيقون من واحدة منها إلا وتأتيهم أعظم
منها بطريقة لم يحسبوا لها حساباً أو يقدروا لها قدراً، ويكفي للدلالة على ذلك ما
سلطه الله عليهم من المشاكل الاقتصادية وسيطرة المافيا الاقتصادية التي نهبت البلاد
نهباً حتى أصبحت روسيا تتسول على موائد الغرب والشرق تبحث عما يسد رمق
شعبها ويشبع جشع ساستها، ونخر الفساد في النظام الإداري والسياسي فيها،
وظهر لهم عقم أنظمتهم وقوانينهم، وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فانهار النظام
الاجتماعي والأخلاقي كان هنالك ضبط للسلوك العام في المجتمع الروسي وتفجرت
الأزمات في داخل البلاد وخارجها حتى في مناطق نفوذها القريبة، ناهيك عن
البعيدة؛ كل ذلك والغرب يراقب ويتوثب بل ويشارك في إضعاف هذه الدولة وكأنه
ينتقم لنفسه من السنين الطويلة التي وقف فيها أمام هذا الدب الأحمر عاجزاً لا
يحرك ساكناً ولا يلوي على شيء يغضبه، فكال الغرب له الضربات المتوالية ولكن
بأساليب يهودية ماكرة، وبأيدٍ حديدية عليها قفازات حريرية حتى أصبح الاقتصاد
الروسي واقعاً بصورة شبه كاملة تحت الهيمنة الغربية اليهودية يلعبون به كيف
يشاؤون، وذلك بسبب الديون التي كبلوه بها؛ وصدق الله إذ يقول: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأنعام: 129) حتى أصبحت روسيا
اليوم تابعة في مواقفها السياسية لما يريده الغرب منها حتى في قضايا روسيا
الاستراتيجية (عملية السلام في فلسطين المحتلة، وكوسوفا، ويوغسلافيا) فإن
موقفها في الغالب هو صدى لموقف الغرب ولكن بتعابير روسية وبلسان المتحدث
الرسمي لهم.
كيف نفهم الواقع السياسي في آسيا الوسطى؟
ما سبق بيانه جزء مهم لفهم الواقع السياسي لمنطقة آسيا الوسطى؛ فبمعرفة
منطلقات روسيا الاستراتيجية وآثارها، وبمعرفة واقع القوى الأخرى الغربية
والإقليمية يزداد الأمر وضوحاً؛ إذ يرجع تدخل القوى الكبرى والإقليمية في هذه
المنطقة إلى أمور كثيرة؛ فقد أحست روسيا بالمهانة التي لحقت بكبريائها القومية
والمتمثلة في عجزها عن مجاراة أمريكا في مجال السياسة الدولية وإجبارها على
اتخاذ مواقف لا ترغبها في أغلب القضايا السياسية حتى في قضية يوغسلافيا
الحليف الاستراتيجي لروسيا لاعتبارات الدين والمواقف السياسية من الغرب بل
حتى في تأثيرها على دول المنطقة، وأيضاً أحست روسيا بالمهانة لعجزها عن
إنهاء الجهاد الإسلامي البطولي في الشيشان، فذهبت تعقد التحالفات مع دول إقليمية
كانت روسيا حتى عهد قريب تنظر إليها بمنظار التوجس، والقلق، وتصفها
بالإرهاب والتطرف، وتعتبرها من أعدائها المحتملين لتوجهاتها الأصولية، ولأن
الكفر ملة واحدة؛ فدائماً ما يجد السياسيون الوصوليون مسوِّغات لأعمالهم الخبيثة
وتحالفاتهم الماكرة؛ فهناك دائماً مصالح استراتيجية مشتركة بين مختلف الأطراف؛
والمصلحة الاستراتيجية المشتركة لهم هنا هي وأد المشاعر الإسلامية الأصيلة
المتنامية عند شعوب المنطقة، وقمع الحركات الإسلامية العلمية والجهادية الناشئة،
وعند هذه النقطة بالذات تتفق أمريكا وروسيا والغرب وإيران بل حتى إسرائيل
التي صرح رئيس وزرائها الأسبق نتنياهو أن لروسيا وإسرائيل عدواً مشتركاً وهو
التطرف والأصولية الإسلامية، وأيَّد كلام هذا اليهودي أخوه النصراني الآخر بوتين
الذي قال لصحفيين فرنسيين: إن تهاون روسيا والغرب في مقاومة الإرهاب
والأصولية الإسلامية أو أية أصولية دينية سيجعل أوروبا والجميع يدفعون ثمنًا
باهظاً. ولم يكن الرافضة المنافقون ممثَّلين بدولتهم بمعزل عن هذه التحالفات؛
حيث لعبوا بصورة ذكية بالتحالف مع روسيا ضد الهيمنة الأمريكية في المنطقة،
وبعودة انتهازية بتأييدهم الموقف الروسي في الشيشان والعالمي ضد طالبان فحققوا
مكاسب استراتيجية واقتصادية هامة، وحصلوا منها على ما كانوا يحلمون به من
قبل وهو القدرات المميزة في مجال التقنية النووية والصاروخية فيهما.
لذا فمن مصلحة أعداء الله أن يكون هنالك اتفاق على دور كل طرف لتتكامل
الأمور ويحصل المطلوب بزعمهم. والملاحظ أنهم قد اتفقوا على أن تكون اليد
الطولى في المنطقة لروسيا لا لغيرها ليستمر دورها قوياً ومؤثراً ومهيمناً على
المنطقة الإسلامية في وسط آسيا والقوقاز؛ لأنها من أكثر الأطراف تأهيلاً؛ كذلك
فهم متفاهمون مع روسيا تماماً على ذلك وحريصون على أن تقوم روسيا بدورها
كاملاً في هذه المنطقة بلا مضايقات، بل قدموا لها المساعدات بلا قيد ولا شرط.
وما التحالف الأمريكي الروسي الجديد في أفغانستان واستصدارهم قراراً من مجلس
الأمن بفرض الحصار الاقتصادي عليها ودعمهم للتحالف الشمالي العميل ضد
حكومة طالبان الإسلامية إلا واحداً من الأدلة الواضحة على تحالف الشرق الوثني
والغرب الصليبي على حرب الإسلام.
وفي الحقيقة أن الشخص غير المطلع إن استوعب أسباب اهتمام روسيا
بالمنطقة فلا يستطيع أن يستوعب تماماً هذا الاهتمام الكبير لدول الغرب الكبرى
والقوى الإقليمية الأخرى بهذه المنطقة الإسلامية إلا إذا عرف الأهمية الاستراتيجية
لهذه المنطقة الإسلامية وملاءمة الظروف المحلية والدولية من وجهة نظر الكفار
للقيام بضربة وقائية عنيفة وحاسمة ضد الإسلام وتياراته السياسية والعلمية
والجهادية لتأخير عودته إلى الحياة وإلى الحكم؛ ولذا فمعرفة زوايا نظر هذه القوى
للمنطقة ولشعوبها الإسلامية ولدينها وتاريخها تعيننا على فهم هذه القضية واستيعابها،
ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
1 - وقوع منطقة آسيا الوسطى ضمن الحزام الإسلامي الممتد من غرب
الصين إلى شرق أوروبا؛ وما يمثله ذلك من تهديد أمني مباشر لأوروبا الغربية
ولمصالحها الاقتصادية.
2 - العمق الاستراتيجي لهذا الحزام، والكثافة البشرية التي تتجاوز 300
مليون مسلم إذا أضفنا إليها تركيا والباكستان وأفغانستان.
3 - الثروات الاستراتيجية الهائلة التي تزخر بها هذه المنطقة الإسلامية
والأراضي الزراعية الخصبة التي فيها، والتكامل في البنى التحتية بين دولها،
ووجود الطاقات البشرية المدربة، ومراكز التدريب والسوق الضخمة التي تستوعب
منتجاتها جميعاً مما يجعلها مكتفية ذاتياً بالكامل بل وتصدر للآخرين.
4 - وجود ثقافة إسلامية متجذرة في المنطقة، وتوجهات علمية شرعية
وحركات جهادية مباركة وقيادات إسلامية واعية عند شعوب المنطقة أفغانستان
وباكستان وأوزبكستان وطاجكيستان وكشمير وهو ما يعني مؤشراً خطراً للبعيد قبل
القريب.
5 - وجود نقاط توتر ساخنة في هذا الحزام الإسلامي والمسلمون فيها طرف
رئيس، مثل الصراع في البلقان وألبانيا والشيشان وناغورنو كاراباخ وكشمير
وأفغانستان وأوزبكستان.
6 - الموقف العدائي للإسلام والمسلمين من قِبَل النصارى المشركين واليهود
إخوان القردة والخنازير والهنادكة عباد البقر، وعباد الطواغيت في الصين.
7 - الضعف والتشتت الذي عليه المسلمون في تلك المنطقة بصفة خاصة،
وفي العالم الإسلامي بصفة عامة، جماعاتٍ وحكوماتٍ، أعطى فرصة سانحة
لأركان المكر الأربعة لتعجيل ضربتهم ضد التوجهات والحركات الإسلامية في
المنطقة (ومن أمن العقوبة أساء الأدب) .
8 - وجود قاعدة متنفذة في المنطقة من المثقفين العلمانيين والعملاء المنافقين
وأصحاب المصالح السياسية وعباد الدنيا، يعطي الأعداء الحقيقيين فرصة ذهبية
في الاعتماد عليهم في تنفيذ خططهم ودسائسهم في المنطقة ضد شعوبها قبل أن تفيق
هذه الشعوب وتنتبه من رقدتها.
9 - المصالح المختلفة لأمريكا وأوروبا وروسيا والدول الإقليمية الأخرى في
المنطقة جعل منها مكاناً للصراع وبسط النفوذ، وفرصة لتحقيق المكاسب السياسية
والاقتصادية.
كل هذه النقاط تجعل من عودة الإسلام في منطقة آسيا الوسطى عند الكفار
الأصليين والمرتدين العلمانيين من الخونة والدهاقنة المنافقين وبمفهومه السلفي
وتوجهه العلمي وخطه الجهادي خطراً عظيماً وتهديداً كبيراً لمصالحهم المختلفة
ولهيمنتهم المتسلطة على شعوب المنطقة الإسلامية.
فبإدراك ما سبق يستطيع المتابع المهتم والمغتم لأحوال أمته أن يستوعب
حقيقة الأوضاع السياسية في المنطقة وأسباب الهجمة الشرسة الحالية من القوى
المحلية العميلة ومن ورائها روسيا والمعسكر الغربي والرافضي تجاه الحركات
الإسلامية الناشئة والمعبرة عن التوجهات الإسلامية لشعوب المنطقة، ويتعرف
أيضاً على حجم الأدوار المختلفة لكافة الأطراف وطبيعتها وأثرها على الأحداث في
المنطقة لتتحدد بعد ذلك لنا الاستراتيجية المناسبة الواجب اتباعها للمحافظة على
إسلام هذه الشعوب، والطريقة المناسبة لدعوتها نحو روضات الإسلام وجناته،
والوسائل الملائمة لحمايتهم من القوى المناوئة لهم المتمثلة بالغرب النصراني
والشرق الوثني والوطنيين العلمانيين والرافضة المنافقين.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) .
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 4318.(161/119)
المسلمون والعالم
طالبان.. وعاصفة تدمير الأوثان
(قراءة في تداعيات الأزمة)
عبد العزيز كامل
مناحة دولية، ومحزنة عالمية، وضجر إقليمي وعربي وعالمي، وإسلامي
أيضاً؛ على (الجريمة الكبرى) ضد الإنسانية! ! إنها جريمة تكسير الأصنام،
أصنام (بوذا) المعبود من دون الله من ثلث سكان أرض الله! فوثن البوذيين ليس
أثراً تاريخياً يُخلَّد، بل هو إله باطل ما زال يُعبد، يعبده ما لا يقل عن مليارين من
البشر، ومع ذلك يعدُّون تدمير تماثيله جريمة!
إن البوذيين يعتقدون أن بوذا ابن الله الذي تجسد بحلول روح القدس على
العذراء (مايا) ، وأنه سيعود إلى الأرض ويخلِّص البشرية من مآسيها وآلامها،
ويتحمل عنها كل خطاياها، وأن صنمه تسجد له كل الأصنام، والصلاة والعبادة لا
تُؤدى إلا له، والدين الصحيح لا يؤخذ إلا منه، والتعاليم السامية لا تُتلقى إلا عنه!
مئات من ملايين البشر في عالم اليوم يعبدون بوذا، ويؤمنون أن المستقبل
لديانته؛ لأنه مخلِّص البشرية [1] . ولما صدر قرار إمارة أفغانستان بتدمير تماثيله
على أرضها، ووفق أحكامها ونظمها قامت الدنيا ولم تقعد!
ردود الفعل العالمية والعربية تخطت التحليلات وفاقت التوقعات، مجلس
الأمن أدان، الجمعية العامة هددت، الأمم المتحدة شجبت، منظمة المؤتمر
الإسلامي ناشدت وتوسطت، منظمة (اليونسكو) العالمية ولولت واعتبرت التدمير
(كارثة) ، وشقيقتها منظمة (الإسيسكو) شقت جيوبها وعدَّت التدمير (مصيبة) .
العالم كله في هرج ومرج من أجل (بوذا) ووزارات الخارجية في العالم
أصدرت البيانات والمناشدات والتهديدات، وزير خارجية العالم (كولن باول)
اعتبر تدمير تمثالي بوذا في أفغانستان «جريمة في حق الإنسانية» ، والخارجية
الروسية اعتبرته عملاً تخريبياً يمثل اعتداءً على ثقافة الشعب الأفغاني وتاريخه!
وبينما عرضت الخارجية الهندية تأمين نقل التماثيل إلى الهند، سارعت إيران إلى
استهجان كسر الأوثان وعرضت شراءها من بيت المال محبة لآل البيت، ولم يكن
موقف حكومة باكستان أقل توتراً؛ فقد أعلن الناطق باسم خارجيتها أن بلاده تشاطر
العالم حزنه لمصير التدمير الذي لحق بالتماثيل، وعرضت مصر الوساطة،
وقررت قطر التصدي، بينما واصلت سيرلانكا وتايلاند والصين التحدي،
وخرجت مظاهرات الاحتجاج والانزعاج!
أكُلُّ هذا في حب بوذا؟ ! أم كل هذا بغض لـ (طالبان) ؟ !
فماذا فعلت طالبان؟ ! وما موضع الغرابة والشذوذ في موقفها الأخير، ولماذا
وصفها أكثر المعلقين والمراقبين، مسلمين وغير المسلمين، إسلاميين وغير
إسلاميين إلا من ندر، بالحقارة والتخلف، والتزمت والسطحية، وبالجهل
والظلامية وضيق الأفق، والانغلاق الفكري، إلى آخر هذا السيل من السباب القمئ،
غير الناصح ولا البريء. أكُلُّ هذه الصفات يستحقها من هدم صنماً في بلده،
وكسر تمثالاً قائماً في أرضه؟ ! تعالوا نسأل من ينبغي ألا يُتخطى عند السؤال وهو
القرآن، ونستفتي من لا يجوز أن يُقدم بين يديه في الفتيا في كل الأحوال، وهو
الرسول صلى الله عليه وسلم.
أخرج مسلم بسنده أن عمرو بن عبسة لما سمع عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جاءه وسأله: «ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله،
فقال: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن
يوحَّد الله ولا يُشرك به شيء؟ قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد» ، قال
راوي الحديث: وكان معه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به [2] .
لقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الهدف والمغزى من رسالته في
وقت مبكر، ولما مكنه الله حطم أصنام مكة في اليوم الأول للفتح، تلك الأصنام
التي كانت مصنوعة قبل الإسلام بقرون كما هو معروف، وفعل في المدينة مثلما
فعل في مكة، فلما هاجر إليها أمر ألا يترك فيها وثن إلا كُسر [3] . وقد وصى
أصحابه بأن يكملوا الطريق حتى لا يبقى في أرض الإسلام أثر للشرك في القلوب،
ولا في البيوت ولا في مجتمعات الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا
رؤوس هذه التماثيل» [4] . ولم يبح صلى الله عليه وسلم الإبقاء على تلك الأصنام
تحت أي تعلَّة، فمثلما منع من اقتنائها فقد حرَّم بيعها كما حرم بيع الخمر والميتة
والخنزير [5] ، ووصى صحابته بطمس كل صنم، حتى قال قائلهم: «أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسوِّي كل قبر، وأطمس كل صنم» [6] ، ولم
يقل صلى الله عليه وسلم نبقي عليها تراثاً للإنسانية، أو تذكاراً لانتصار الملة
الحنيفية، أو نشراً للمفاهيم الحضارية والمعايير الجمالية. وقد استقر هذا المفهوم
لدى الصحابة ال [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ] (الحج: 30-31) مهديين، امتثالاً لأمر الله الذي قال:،
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «لا تدع تمثالاً إلا طمسته» [7] .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا كله يعظم أمر ربه الذي أرسله
بالهدى ودين الحق [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 9) ، نعم، ولو
كره المشركون؛ فمتى كانت كراهة المشركين للحق حائلة دون إحقاق الحق؟ !
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يقوم بهذه المهمة الرسالية يترسم خطا
إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي كسر تماثيل الشرك وسط بيئة الشرك،
ولم ترهبه سطوة قومه ولا غضب أبيه ولا تخويف الشيطان بأوليائه، ولم يتعلل
وهو الوحيد الأعزل بضعفه وقوتهم، أو بتفرده واجتماعهم، بل صاح فيهم:
[وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] (الأنبياء: 57) قرر وأنذر..
ثم نفذ وكسَّر، [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] (الأنبياء:
58) .
ويصور القرآن الحكيم شدة إصرار إبراهيم على مَحْق تلك الأنداد المعبودة من
دون الله، وعدم اكتراثه بهياج عبَّادها ومناصريها ومحبيها الحريصين عليها
[فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ] (الصافات: 93-94) .
فانتهز إبراهيم عليه السلام هذه الزفة، وشرع يخاطب المدهوشين المشدوهين..
[قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] (الصافات: 95-96) .
وهذا نبي الله موسى عليه السلام يخاطب السامري صانع وثن العجل:
[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً] (طه:
97) . ثم جاء قول الله بعدها: [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً] (طه: 98)
إن هذه بعض معالم الصورة العملية لمنهج الرسالة التوحيدية فيما يتعلق
بالتعامل مع مظاهر الشرك والوثنية، إتلاف للشعائر الشركية، ثم مخاطبة للمشاعر
الدينية، فما الذي تغير؟ ! هل اهتدت البشرية حقاً في عصرنا وهجرت عبادة
الأحجار والأبقار والأشجار؟ ! أو هل انتهت رسالة أمتنا في إرساء دعائم التوحيد
في دورها وأرضها فضلاً عن دور الشرك وبلدانها؟ ماذا دهى العقلاء، وما حدث
لأتباع ديانات السماء؟ إننا نفهم أن ينبري للدفاع عن (بوذا) أحفاد العبَّاد الذي
عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، أو أنصار (حضارة) هُبَل واللات
والعزى، ولكن الذي لا نستطيع فهمه، ولا نستسيغ بلعه، ولا نطيق سماعه أن
نرى متحدثين باسم الإسلام يخاطبون جهال العالم وضلاَّلهم ويقولون: أنتم على حق
والإسلاميون في أفغانستان على الباطل، وكل ما تفعله حكومة الطالبان باسم الإسلام
باطل وزيف، وكل ما يأتي عن طريقها مردود، وكل متحدث باسمها مصدود،
وكل من يعاديها منصور، وكل من يناصرها متهم مقهور! !
مسكينة هذه الحكومة الأفغانية التي رمتها قوى العالم عن قوس واحدة، ولم ترَ في
صحائف عملها حسنة واحدة! ! فرغم كل ما أنجزته، وكل ما يمكن أن تنجزه يبدو
أن (طالبان) ستظل مغضوباً عليها، وستظل طريدة العدالة (الظالمة) للعالم
المتحضر!
* لقد وحَّدت طالبان أفغانستان كلها تحت قيادة مركزية وطنية واحدة، تجمع
القبائل والفصائل، وتحوز رضى غالبية الشعب بعد طول تفرق وتشرذم.. ولم يُعدَّ
هذا خيراً!
* ونشرت الأمن في ربوع المناطق التي سيطرت عليها، وقضت على
اللصوصية وقطاع الطرق، وجمعت السلاح المستعمل في الإفساد.. ولم يروا في
ذلك إصلاحاً!
* وكفت أيدي زعماء الحرب الأهلية، وأوقفت إراقة دماءهم فيما بينهم
واستهانتهم بدماء أهليهم، وقضت على بقايا الشيوعيين، فلم يحمدوا ذلك لها، ولم
يقبلوا ذلك منها!
وها هي اليوم تطهر أفغانستان، ولأول مرة في تاريخها المعاصر من تجارة
وزراعة الأفيون، لتتحول جميع حقول المخدرات إلى حقول للقمح (حسب آخر
تقارير الأمم المتحدة) ومع ذلك يتعامى شانئوها عن ذلك، ولا يمتلك مبغضوها
الشجاعة بحيث يكتب واحد منهم سطراً في الثناء على هذا الإنجاز البنَّاء بعد طول
الهجاء الذي سوَّدوا به صفحاتهم وصحائفهم قبل ذلك، بل لا يزالون يعيِّرون
الطالبان بجرم لم يرتكبوه ولم يُحدثوه في أفغانستان، وهو تصدرها بلدان العالم في
إنتاج الأفيون الذي اشتهرت به منذ عشرات العقود ولم ينته إلا في عهد طالبان؛
فأين إنصاف الشرفاء؟ وأين حكمة الأسوياء؟ بل أين أمانة الإخوة وروحها لدى
كثير من المسلمين العاملين الذي لا يزالون يبغضون لغير الله إخواناً لهم في الدين
أصلاء بسطاء، تعلوهم سيما الصدق، وشيم الرجولة والفداء؟ !
لقد كشفت إجراءات طالبان الأخيرة حقائق كثيرة، وعرَّت مواقف كثيرة،
وفضحت وأظهرت أموراً كثيرة، فيما يتعلق بشأن قضايا دين التوحيد، وفهم
الدعوة لها وتنفيذ قضاياها ومتطلباتها لدى شرائح مختلفة في الأمة الإسلامية وسائر
مجتمعات البشرية.
وهذه بعض المعالم البارزة التي كشفت عنها أزمة طالبان مع أنصار تخليد
الأوثان حتى وقت كتابة هذه السطور الذي أعلنت فيه حكومة طالبان الفراغ من
تدمير التماثيل المعبودة من دون الله.
* رغم أن مواقف علماء المسلمين إلا من رحم الله تراوحت بين السكوت عن
الحق، أو التكلم بالباطل إلا أننا لم نسمع إدانة من بابا الفاتيكان أو الحاخام الأكبر
لليهود باعتبار أن الأصنام مذمومة في التوراة والإنجيل، فهل نقول إن موقف علماء
الدين ورجاله من اليهود والنصارى أقل سوءاً من موقف بعض علماء المسلمين؟ !
* الإعلام العلماني كعادته استغلها فرصة للنيل من ثوابت الإسلام بالطعن في
أشخاص أتباعه ومنهم طالبان، فغمزوا ولمزوا، وسخروا وهمزوا، واستهزؤوا
بأعظم شعائر الإسلام وشرائعه المتعلقة بتجريد التوحيد لرب العالمين.
* سارع كثير من جهلة المثقفين من الكتَّاب والصحفيين وأدعياء الغيرة على
الدين إلى الإفتاء والتكلم بلسان العلماء، واستغلوا المنابر الإعلامية المسموعة
والمقروءة والمشاهدة للتباري في إرضاء الكفار والمشركين، بما يسخط الله ورسوله
والمؤمنين! وهذا نذير شر لدعوة الإسلام إن استمر تصدُّر هؤلاء للتحدث باسم
الدين.
* الحزبية والعصبية أسفرت عن وجه قبيح، فلأن طالبان لم تخرج من عباءة
أحد، ولم تنشط لحساب أحد، لم ينصفها إلا القليل من الأحزاب والجماعات
والحركات إلا بكلام قليل، بعضه هجاء في ثوب الثناء!
* بعض أطراف المعارضة الأفغانية (النزيهة) واصلت انتهازيتها ليتواصل
سقوط أقنعتها؛ فرباني ادعى أن طالبان تريد بعملية التدمير التغطية على عملية
منظمة؛ لتهريب كنوز أفغانستان [8] . وأما مسعود فأسعده انشغال طالبان بمواجهة
العالم الساخط من أجل التماثيل؛ فتقدم بقواته لاستعادة بعض الأراضي مستخدماً
أسلحة الروس والهندوس.
* الروافض الذين يزايدون دائماً على كل موقف إسلامي يدغدغ مشاعر
الجماهير المسلمة، لم يستطيعوا هذه المرة أن يزايدوا على الغيرة للدين، ولم
يتنادوا لنصرة المستضعفين، بل استنصروا عليهم بأهل الأرض قاطبة، وقال
وزير (الإرشاد الإسلامي) : «ندين تدمير التماثيل، ونناشد العالم التوحد لإنقاذ
كنوز الإنسانية في أفغانستان» [9] .
* الاعتبارات (الحضارية) والأوليات الثقافية والمجاملات الدبلوماسية غطت
على المعايير العلمية والدعوية لدى الكثيرين حتى طغت أولويات المحافظة على
آثار الأحجار المرصوصة على آثار الأخبار المنصوصة، وكأن رضى المخلوقين
مقدم على رضى رب العالمين، هذا بالرغم من أن القضية في الأصل قضية حق
وتوحيد ودين.
* هناك مغالطات كثيرة علمية وتاريخية تحتاج من علماء الدين، وحتى
علماء التاريخ أن يفندوها ويجلُّوها، فهل صحيح أن صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم ينفذوا وصايا رسولهم رغم قدرتهم وأبقوا على الأصنام والأوثان في
كل البلدان التي فتحت بالتوحيد ولأجل التوحيد؟ وهل صحيح أنهم كانوا قادرين
على تكسير صخرة بوذا وغيرها من الآثار المنحوتة في الجبال الصماء بالسيوف
والرماح، برغم صعوبة تدميرها بالديناميت والصواريخ؟ !
* الذين اتهموا الأولين بأنهم أبقوا على تلك التماثيل، تجاهلوا حقيقتين:
إحداهما: أن أكثر تلك التماثيل كانت مطمورة، مثل تماثيل مصر، وما ظهر منها
كان مطموساً في معظمه، وتمثال بوذا الكبير نفسه يدل على ذلك، فالصورة القديمة
له تدل على أنه كان مطموس معالم الرأس قبل أن تمتد إليه أيدي طالبان.
يضاف إلى ذلك أن بعضاً من تلك التماثيل انقرض عبَّاده كالفراعنة والإغريق
والرومان.
* لم ينقرض أصحاب الديانات الوثنية، مثل البوذية والهندوسية والسيخية
وغيرها، بل هم كثرة غالبة، ضاربة في أطناب الأرض، منهم مليار في الصين،
ومليار في الهند، ومليار في بقية أنحاء العالم، فهم أكثر من مجموع المسلمين
والنصارى واليهود.
* يقولون إنه لا يعقل أن يتجه إنسان عاقل في القرن الحادي والعشرين لعبادة
الأحجار.. ويتناسى هؤلاء أن أصحاب أعقد العقول في عصرنا، وهم اليابانيون،
لا يزالون أمة وثنية تعبد بوذا، ومعهم الصينيون والتايلانديون والسيرلانكيون
وغيرهم، بل الديانة النصرانية التي يدين بها أصحاب الحضارة الغربية تتحول
بانتظام إلى ديانة وثنية، بل الصليب نفسه وثن كبير.
* حتى أمة الإسلام، هل هناك ما يمنع، أو هناك ما منع من تورط بعضها
في الانخراط في مظاهر الوثنية، أليست القبور يطاف بها، وتعظم، ويذبح لها،
وينذر لها في أكثر بقاع المسلمين؟ !
هذا في زماننا وقبل زماننا، فما الحال في المستقبل حيث يمكن أن تزداد
غربة الدين في بعض المواطن! لقد بوَّب البخاري في كتاب الفتن من صحيحه باباً
بعنوان: (تغير الزمان حتى تعبد الأوثان) ، وروى بسنده عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب
أليات نساء دوس على ذي الخلصة» [10] . وذو الخَلَصَة هي صنم دوس التي كانوا
يعبدونها في الجاهلية، هذا في جزيرة العرب؛ فمن يضمن أن لا تعود عبادة بوذا
في أفغانستان إذا بقيت تلك الأصنام.
* قد تكون طالبان مخطئة في الكيفية أو التوقيت، فنحن لا نقول بعصمة
قرارات طالبان ولا غيرها، بل بوسعنا ووسع غيرنا أن نخالفهم في الاجتهاد، بل
نعارضهم في بعض المواقف، ولكن الجميع ينبغي أن يكون في المعارضة أو التأييد
منطلقاً من أساسات علمية، وثوابت منهجية، أما الشجب المطلق والتنديد المفتوح
فليس من شأن من يريدون الإصلاح.
* ظهر من أساليب الرفض المنهجي لكل ما يصدر عن طالبان، أن كل
البدائل التي كان يمكن أن يلجؤوا إليها كانت مدانة سلفاً، فلو فاجأت طالبان العالم
بهدم التماثيل لقالوا: جبناء.. أخذوا العالم على غرة ولم يملكوا الشجاعة لإعلان
قرارهم! ولو باعوا الأصنام كما اقترح البعض لقالوا: جاؤوا ليبيعوا تراث
أفغانستان ويأكلوا أثمانه! ! ولو وافقوا على نقلها إلى الهند أو غيرها لقالوا: فرطوا
في كنوز البلاد ليضلوا بها بقية العباد، ولو تراجعوا عن قرارهم، لقالوا: أرادوا
فقط شغل العالم ولفت أنظاره أو ابتزازه! !
* وأخيراً نقول: أعان الله القيادات الطالبانية على بقية معركتها ضد مظاهر
الشرك والوثنية، فلا تزال أمامها معركة أصعب وأصخب، وهي معركة تطهير
أفغانستان من المشاهد والقبور الشركية بعد تطهيرها من عار المخدرات المدمرة
للبشرية والأصنام المسيئة للإنسانية؛ فالذي أمر بتكسير الأصنام هو نفسه صلى الله
عليه وسلم الذي أمر بتسوية القبور؛ فقد قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج
الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع
تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» [11] .
أعان الله أفغانستان وحكومتها على إكمال مهمتها، والخروج من أزمتها،
وأعان الله دعاة الإسلام، وأعاننا معهم على أن نقول بالحق حيث كنا، ولا نخاف
في الله لومة لائم.
[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ
وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 173-175) .
__________
(1) انظر: مقارنة الأديان (الديانة القديمة) للشيخ محمد أبي زهرة، و (ديانات الهند الكبرى) ، للدكتور أحمد شلبي، و (في العقائد والأديان) للدكتور محمد جابر الحيني، وانظر: (الملل والنحل) ، للشهرستاني.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب (صلاة المسافرين) باب (52) ، ح (294) (1/ 569) .
(3) أخرجه مسلم في الجنائز (1609) ، وأحمد في مسنده، ح/ (622) ، ونصه عن علي رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدع بها تمثالاً إلا كسرته، ولا قبراً إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد» .
(4) أخرجه أحمد في مسنده، (1/320) .
(5) في الحديث الذي أخرجه البخاري في البيوع (112) ، ومسلم في المساقاة (71) .
(6) أخرجه أحمد في مسنده (1/89، 111، 139) .
(7) أخرجه مسلم في الجنائز، ح (1609) .
(8) جريدة الحياة، 2/3/2001م.
(9) جريدة الشرق الأوسط، 1/3/2001م.
(10) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، ح/ 7116، ومسلم في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس والخلصة، ح/ 2906.
(11) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما جاء في تسوية القبر (55) ح (1054) (4/ 150) .(161/129)
بأقلامهن
دور المرأة التربوي المأمول والمعوقات
د. أفراح بنت علي الحميضي [*]
من الأمور التي اجتمع عليها المربون إقرارهم بأهمية التربية بوصفها عاملاً
رئيساً في توجيه الأفراد نحو أهداف المجتمعات، ولمدى أهميتها فقد لفتت انتباه
العلماء المسلمين الذين دوَّنوا في موضوعات التربية الإسلامية مؤصلين لها،
ومبرزين عناصرها وأهدافها وسبلها، والمؤثرات التي تؤثر في نتائجها،
والتأثيرات التي تشعها التربية الإسلامية في المجتمع، بل كان من اهتمام علماء
التربية الإسلامية التركيز على التربية البيتية أو المنزلية باعتبارها قاعدة أساسية في
إعداد الأفراد موضحين بشكل بارز أهمية دور الوالدين في تلك المهمة.
وتبعاً لهذا فإن إبراز دور المرأة [1] التربوي والعوامل التي تساعد على إظهار ذلك
الدور بوصفها وظيفة من أهم الوظائف بل هي أهم ما يجب أن تتقنه المرأة،
والأمور التي تعيقها عن أداء وظيفتها تلك يعد موضوعاً جديراً بأن يهتم به كل من
يعنيه أمر التربية والنشء ومستقبل الأمة.
توطئة:
دور المنزل في تنشئة الفرد:
تعد السنوات الأولى التي يقضيها الطفل في منزله من أكبر المؤثرات
المسؤولة عن تشكيله في المستقبل؛ ذلك أن المجتمع المنزلي يعد أول مجتمع ينمو
فيه الطفل ويتصل به ويستنشق الجو الخلقي منه، بل إنه ومن خلال الجو العاطفي
الموجود في البيت فإن الطفل يعتمد على والديه في أحكامه الأخلاقية وفي مَدِّه بتقاليد
وعادات وأعراف مجتمعه [2] .
ولأجل ذلك فقد أرجع المربون أن إحساس الطفل بحب الأبوين ناشئ من
ممارسة الأسرة لوظيفتها في التنشئة الاجتماعية [3] ، بل إن تفعيل كل الوظائف
التربوية لن يتحقق إلا بتكاتف جهود وأهداف الوالدين.
فمن الأدوار التي يجب أن تمارسها الأسرة ويضطلع بها المنزل قبل وبعد سن
دخول المدرسة العنايةُ بالنمو الجسمي من خلال رعاية الطفل صحياً؛ وذلك
باستكمال أسباب الصحة في الغذاء، والراحة الكافية، والمسكن الملائم، والرعاية
الصحية الوقائية.
ومن الأدوار كذلك العناية بالنمو العقلي للطفل الذي يتأتى من خلال اكتسابه
للغة الأم في المنزل، وما يتبع ذلك من توسيع لمداركه وزيادة لمعارفه، كذلك فإن
من أهم الأدوار الوظيفية التي تمارسها الأسرة هي إشباع حاجات الطفل النفسية،
ومن خلال الأسرة يتحقق للطفل النضج الانفعالي؛ وخاصة إذا توفرت في المنزل
أسباب ذلك النضج؛ فمن خلال الأسرة يتعوَّد الطفل القدرة على التعامل مع الآخرين،
ومن خلالها أيضًا تساهم الأسرة في الارتقاء الأخلاقي لدى الطفل؛ إذ
تنمو شخصيته الأخلاقية؛ ويُعزز ذلك كله حين تقوم الأسرة بدورها في إكساب
الطفل الدين الذي تعتنقه [4] .
ومن أجل ذلك نستطيع أن نقرر حقيقة أن للوالدين دوراً هاماً في تربية الطفل
لا يستطيع المعلم أو أي شخص آخر أن يحل محلهما؛ فقد يستطيع المعلم أن يزوِّد
الطفل بحصيلة من المعلومات قد تجعل منه دائرة معارف، لكنه يفتقد ما للوالدين
من تأثير على اتجاهات الطفل نحو الحياة [5] .
ولهذا فقد حرص علماء التربية الإسلامية على تأكيد ضرورة إعداد المرأة
لممارسة دورها بل وانتقائها قبل إنجاب الأولاد مؤكدين على حقيقة أن تربية النشء
تحدث قبل ولادتهم باختيار الأمهات.
يقول أكثم بن صيفي لأولاده: «يا بَنيَّ! لا يحملنكم جمال النساء عن
صراحة النسب؛ فإن المناكح الكريمة مَدْرَجةٌ للشرف» .
وقال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: «لقد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً وقبل أن
تولدوا. قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم من الأمهات
من لا تُسَبُّون بها» .
ولهذا فإن من أول حقوق الوالد على والده أن يختار له الأم المؤمنة الكريمة
ذات الهدف من الحياة التي تحسن تربيته، وتقوم على شؤونه، وتتعاهد دينه
وعقيدته؛ لأن الطفل والطفلة ينتقل إليهما كثير من صفات أمهما النفسية والخلقية،
بل يمتد هذا التأثير مدى الحياة [6] .
الأدوار التربوية المناطة بالمرأة الأم:
مما هو معروف بالبديهة أن الأدوار التربوية المناطة بالمرأة الأم تتخذ أهميتها
من كونها هي لب العمل الوظيفي الفطري الذي يجب أن تتصدى له المرأة، وهذا
يعني ضرورة أن تسعى الأم إلى ممارسة دورها بشكل يحقق نتائجه التي يأملها
المجتمع، وهذا يعني أيضاً ضرورة إعداد المرأة الأم لأداء ذلك الدور قبل مطالبتها
بنتائج فعالة، وأعتقد أن ذلك الإعداد لا بد أن يشمل:
1 - غربلة المناهج الدراسية: بحيث يكون الغرض الأساسي من تلك الغربلة
وإعادة الصياغة إعانة (المرأة الأم) في وظيفتها داخل منزلها الذي يُعد المقر
الوظيفي الرئيسي لها؛ لا أن يكون دور المناهج الدراسية تهيئة المرأة لتمارس
وظيفة خارج المنزل، وفي حالة إعادة التكوين والصياغة هذه؛ فإن المناهج
ستساهم في دعم دور الأبوين في إعداد الفتيات للاقتناع أولاً بمهمتهن الأولى، ثم
في التعرف على صور وأنماط عديدة لأصول التربية السليمة وطرقها، والتي من
الممكن الانتقاء منها حسب عدد من المعطيات ووفقاً للظروف المواتية، وبهذا
ستؤدي المناهج الدراسية دورين أساسين:
أ - دوراً إعدادياً للمرأة للقيام بوظيفتها التربوية.
ب - دوراً مسانداً؛ حيث ستشكل المناهج معيناً نافعاً تستمد منه المرأة سبلاً
وطرقاً تربوية ناجحة ونافعة.
2 - الإعلام: نظراً لأن إعداد المرأة لممارسة وظيفتها التربوية يشكل ثقلاً
عظيماً في النظرة الشاملة لمصلحة الأمة عموماً؛ فإن إعادة اهتمامات الإعلام بتلك
المسألة من الأهمية بمكان؛ وهو أمر يستلزم قيام جميع القنوات الإعلامية بإبراز
ذلك الدور والتركيز على ممارسة المرأة دورها بنفسها؛ فهي وظيفة لا يجوز فيها
التوكيل، بل إن تصدي المرأة لدورها بنفسها بوصفها أيضاً مربية يعد مسلكاً عظيماً
في رقي الأمة، بل هو الطريق الأساسي لتحقيق آمال الأمة ثم إعادة صياغتها فعلياً
عبر التربية إلى نواتج قيِّمة تضاف إلى رصيد الأمة الحضاري، ولأجل ذلك فإن
من الضروري أن تضع وسائل الإعلام ضمن أهدافها تبني المفهوم القائم على أن
رقي الأمة مطلب إسلامي حضاري لن يتأتى إلا من خلال إعادة تكوين النظريات
التربوية وتأسيسها بما يتفق مع الأصول والمصادر السليمة التربوية المعتمدة على
المصادر الإسلامية، وأيضاً من خلال إعداد الكوادر التي تستطيع ترجمة تلك
النظريات إلى واقع؛ أي العناية والتشجيع لإعداد المرأة الأم المربية التي تمتص ما
يجب أن تفعله لتعيد تكوينه رحيقاً تربوياً يداوي جراح الأمة.
3 - تبني مسؤولية التربية: لا تستطيع المرأة أن تؤدي دورها التربوي ما لم
تتبنَّ تلك القضية وجدانياً من خلال حملها لهمّ التربية، ويقينها التام بدورها في
إعداد الفرد، وانعكاس ذلك على صلاحه وصلاح الأمة، ثم سعيها الدؤوب نحو
تزويد من تعول تربوياً بما صح وتأكد من مغانم تربوية كسبتها من خلال ما نالته
في رقيها التربوي الإسلامي، ويتأتى ذلك عن طريق دعم حصيلتها العلمية الشرعية؛
إذ إن جزءاً من مهامها التربوية يعنى بتشكيل عقيدة الأبناء ومراقبتها، وتعديل أي
خلل يطرأ عليها.
ولهذا، ولأهميته فإن أول دور يُناط بالأم هو:
1- التربية العقائدية:
لا تتمكن الأم من القيام بتلك المهمة ما لم تكن معدة لهذا الأمر من خلال علم
شرعي يعينها على أداء هذه المهمة، ولا يعني هذا أن تتوقف المرأة عن ممارسة
ذلك حتى تكون طالبة علم. إن على الأم معرفة الأساسيات التي لا يقوم دين العبد
إلا بها كأصول المعتقد وما تشمله من أصول الإيمان، وأقسام التوحيد وشروط لا إله
إلا الله ونواقض الإسلام، وأقسام الشرك والكفر وأنواع النفاق، كما أن عليها معرفة
الحلال والحرام خاصة ما استجد في هذه الأزمنة من مستجدات أوضح العلماء
حكمها.
إن دور المرأة الأم هو قيادة قاطرة التربية في أرض مليئة بشوك الشبهات
المضلة، والشهوات المغرية، والفتن السوداء.
على المرأة الأم أن تدرك أن منهج تربية النشء في الإسلام يقوم في أصوله
وأساساته على مرتكز الإيمان بالله وحده، وهو منهج متوافق مع نظرة الله التي فطر
الناس عليها. قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه
يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه» [7] .
إن التطبيقات الضرورية لهذا الدور التربوي الهام تتضح من خلال عدد من
الإجراءات منها:
تربية الأبناء على حب الله ورسوله، ربط قلوبهم بالله ومراقبته في كل
تصرفاتهم، ويكون ذلك منذ طفولتهم المبكرة؛ إذ يُعلَّمون النطق بالشهادتين،
ويُوجَّهون إلى إرجاع كل نعمة إلى الله وحده، وحينما تشب أعوادهم يُعوَّدون على
قراءة كتب العقيدة المناسبة لأعمارهم [8] .
- ربط أصول العقيدة وفروعها بمناحي الحياة؛ مما ينتج عن ذلك حماسهم لها
ودفاعهم عنها؛ فيتأكد لدى الطفل أنه لأجل الإيمان بالله وعبادته خُلق؛ فيعيش
تأكيداً لمعاني ذلك الإيمان محققاً العبودية لله وحده ويموت دفاعاً عنها.
ومهمة المرأة الأم في هذه الأمور واضحة؛ فهي من يُشربه عند نُطق
الحروف الأولى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ، ثم هو يراها نموذجاً قائماً أمامه
يحاكيه ويقلده حين تكون كل حركاتها وسكناتها تهدف إلى تأكيد معنى كلمة
الإخلاص؛ فهي حريصة على ألا يُعبَد في المنزل إلا الله وحده؛ فلا يدعى إلا هو،
ولا يسأل إلا إياه، ولا يستعان أو يستغاث إلا به، ولا يُخاف إلا منه، ولا يُتوكل
إلا عليه، ولا يُذبح إلا له، ولا يُصرف أي شيء من أمور العبادة إلا لله وحده،
فيشب الناشئ وينشأ الطفل وهو يرى العقيدة الصافية تشع في كل أنحاء البيت.
ويندرج ضمن هذه التربية تعويد الطفل منذ مرحلة تمييزه على الأداء الصحيح
للعبادات؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً،
واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» [9] إذ على الأم أن
تُعوِّد مَنْ تعول على البعد عن الأمور المستنكرة شرعاً وعُرفاً، وتعرفهم على أحكام
الحلال والحرام حتى يعتادوا ذلك ولا يأنفون منه، وعلى الأم أن تُعوِّد الأطفال على
الطاعات كالصلاة والصيام وقراءة القرآن، وتحذرهم من ارتكاب المعاصي كالكذب
والسرقة والخيانة والغش [10] .
التربية السلوكية:
بتأكيد أهمية البيت في تبني السلوكيات الطيبة تتضح مسؤولية ما تقوم به
المرأة في تفعيل دورها العظيم في زرع هذه السلوكيات، وقلع أي سلوك سيئ ينشأ
في حديقتها التربوية حيث رعيتها الصغيرة، وتهذيب أي سلوك ينشأ منحرفاً عن
مساره.
إن مهام المرأة في ذلك الدور كما هو في جميع مهامها التربوية لا بد أن يسير
بمشاركة الوالد تدعيماً وعوناً، وفيما يخص مهمته التربوية؛ فإن تعاضد المرأة
والرجل في بذر السلوك الحسن وتكوين القدوة الصالحة له أنجع الأمور للوصول
إلى نتائج سريعة ومثمرة، ولأن المربين قد أدركوا أن من ضمن الأسس التي
ترتكز عليها المنهجية التربوية الإسلامية في التربية هو إيجاد القدوة الحسنة؛ فقد
حرصوا على ذلك الأمر من منطلق أن الطفل يبدأ إدراكه بمحاكاة ذويه ومن حوله
حتى يتطبع بطبائعهم وسلوكياتهم وأخلاقهم [11] .
وفي مقابل غرس السلوكيات الحسنة كان إهمال أي سلوك يأخذه الطفل من
البيئة المحيطة يعني تشرُّبه السلوكيات الخاطئة واستنكاره أي نصيحة مقومة له.
وغالباً ما يأتي الإهمال من قِبَل الوالدين جميعاً أو باتكال أحدهما على الآخر، أو
كما قال ابن القيم: «وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله،
وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد
ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت
الفساد في الأولاد رأيت عامته من قِبَل الآباء» [12] .
ولهذا أيضاً كانت المنهجية التربوية الإسلامية تعتمد على مراقبة سلوك الطفل
وتصرفاته وتوجيهه في حينه إلى التعديل المناسب لذلك السلوك مهما كان ذلك
السلوك حقيراً أو عظيماً [13] .
وتبعاً لذلك فإن من تطبيقات تلك المهمة التربوية:
1 - حفظ الطفل من قرناء السوء.
2 - أن تمارس المرأة مهمتها -بإخلاص- في غرس الفضائل، والعناية
بالواجبات، وتعويد الصغار على معالي الأمور.
3 - ربط النشء بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتعليقهم
بما تشمله سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتراجم الصحابة من علو ورفعة
وعزة.
4 - أن تضع المرأة شعاراً تطبقه في تربية من تعول تعتمد على تفعيل حديث
الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها،
وخالِقِ الناس بخُلق حسن» [14] .
التربية النفسية:
تعتمد تلك المهمة على إقرار حقيقة في الصحة النفسية هي أن العطف والحنان
بلا إفراط ولا تفريط هما أساس الصحة النفسية لدى الأفراد؛ فينشأ الأطفال ويشب
النشء وهم مترفلون بهذه الصحة؛ ولهذا فقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
صفة الحنان في نساء قريش بقوله: «صالح نساء قريش، أحناه على ولد في
صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» [15] .
وهذه التربية النفسية لا تتأتى فقط بما تمنحه الأم من رعاية وحنان وعطف
جُبلت النساء عليه، وإنما لا بد من تعاضد الوالدين جميعاً في تهيئة البيئة المنزلية
لتكون بيئة صالحة هادئة ينشأ فيها الطفل متزناً واثقاً من نفسه؛ إذ ثبت أن الحياة
العائلية المضطربة والمشاحنات بين أفراد الأسرة وبخاصة قطبيها الأب والأم
يؤثران بشكل ملحوظ على تكوين شخصية مضطربة تنفر من الحياة وتكرهها،
وثبت أيضاً أن أغلب الأمراض الخُلُقية مثل الأنانية والفوضى وفقدان الثقة بالنفس
وعدم الإحساس بالمسؤولية والنفاق إنما تبذر بذرتها الأولى في المنازل، وأن من
الصعوبة على المدرسة والمجتمع استئصال تلك الأمراض إذا تزمَّنت وتمكنت في
نفس النشء أو الأطفال [16] .
التربية الجسمية:
تبدأ تلك التربية منذ وقت مبكر حين تركز المرأة عنايتها بما خُلق في رحمها
من خلال اهتمامها بالتغذية والراحة، ثم تستمر تلك التربية بعد الولادة حين يضع
المنهج الإسلامي مسألة الرضاعة وتغذية الرضيع من المسائل الأساسية التي تُكلَّف
بها المرأة. قال الله تعالى: [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ
أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] (البقرة: 233) .
ولكي تمارس الأم ذلك الدور لا بد أن يكون لديها وعي تام بأهمية هذا الجانب
التربوي المعتمد على الثقافة الصحية المتوازية مع التطبيق العملي لهذه الثقافة.
معوقات في أداء الأدوار التربوية:
إذا كانت تلك بعض الأدوار التربوية المناطة بالمرأة بوصفها أُمّاً فإن مما
يُعطل تلك الأدوار عن أداء مهمتها بفعالية، ومما يعيق المجتمع عن الحصول على
ثمار يانعة معوقات من الممكن حصرها في:
1 - معوقات ذاتية تتمثل في:
- قصور في الإعداد النظري للمرأة لممارسة دورها التربوي.
- قلة وعي المرأة بأهمية دورها التربوي وأهمية ناتجها على المجتمع.
- إشغال الأم أو انشغالها بممارسات ثانوية تعطل وظيفتها الأساسية كانشغالها
بوظيفة خارج المنزل.
2 - معوقات خارجية تتمثل في:
- الاعتماد على شخصيات بديلة تمارس دور الأم كالمربية الخارجية والخادمة
ويتأتى ذلك الاعتماد السلبي حين تعتقد الأم أن التربية عبء لا ناتج له معطل
لقدراتها.
- تشجيع وسائل الإعلام المرأة للخروج من المنزل وممارسة أدوار بديلة
لدورها الأصلي الأساسي، بل الدعاية لتلك الأدوار والوظائف واعتبارها خدمات
أولية تقدمها المرأة للمجتمع تفوق في ناتجها دورها التربوي، وهذه الدعاية ساهمت
في صرف المجتمع عن تأكيد دور الأم المربية إلى تشجيع دور الأم العاملة أو المرأة
العاملة؛ وذلك بتشجيع تأخير الإنجاب.
- عدم قيام المؤسسات التعليمية بأدوارها في إعداد المرأة الأم وتشجيعها
لممارسة دورها التربوي إضافة إلى ازدحام قائمة المناهج الدراسية بمواد بعيدة
الصلة عن الحاجات الفعلية للمرأة مما يترتب على ذلك عدد من النتائج أبرزها طول
فترة اليوم الدراسي باعتبارها أول تلك النتائج، وثانيها طول فترة المرحلة الدراسية،
ثم ثالثها ضعف إعداد المرأة تربوياً، وتبعاً لذلك فقد تتأخر المرأة أو تتعطل في
أداء دورها التربوي.
توصيات:
أَخلُص من ذلك كله إلى عدد من التوصيات تتعلق بالمرأة المربية والنشء
والطفولة بل والأسرة مما يعزز فعالية المرأة:
أولاً: تكثيف البرامج التعليمية في مدارس تعليم البنات فيما يخص إعداد
المرأة إعداداً فعلياً لأداء دورها الوظيفي.
ثانياً: إنشاء مراكز لأبحاث الطفولة والناشئة تكون غايتها بحث أفضل السبل
لوضع منهجية تربوية قائمة على أصول شرعية قادرة على مواجهة المتطلبات
المتصاعدة للحياة العصرية؛ بحيث تمد تلك المراكز الأمهات ودور الحضانة
ومدارس المرحلة الابتدائية بالأبحاث والدراسات فيما يخص الطفولة والناشئة وكيفية
تواؤمها مع المجتمع بما يحافظ على أصالة التربية.
ثالثاً: إنشاء مراكز لسلامة الطفولة ودعمها، غايتها بث وعي إعلامي وقائي
للأمهات والآباء فيما يخص سلامة أطفالهن من كافة أنواع المخاطر كحالات الحرق،
والغرق، والخنق، والسقوط، ... إلخ.
رابعاً: تكثيف المواد الإسلامية وخاصة مسائل التوحيد في مناهج ما قبل
المدرسة، وعرضها بطريقة تناسب عقول الصغار؛ ففي هذه المرحلة تغرس مبادئ
التوحيد بأنواعها الثلاث في عقولهم الغضَّة، مما يشكل دعماً لجهود الوالدين في تلك
القضية.
خامساً: إنشاء هيئة عليا للدراسات الأسرية التربوية تختص بتذليل كافة
السبل لدعم البرامج التربوية في مناهج التعليم، وتهيئة الظروف لتحقيق توافق
أسري داخل البيوت من خلال البرامج والدورات التدريبية التي تشمل فيما تشمل
دورات أسرية لمرحلة ما قبل الزواج ثم مرحلة ما بعد الزواج، كما يكون من ضمن
اختصاصها فتح قنوات اتصالية مع الأمهات لبحث ما يعتريهن من مشاكل تربوية
تعيقهن عن أداء دورهن.
__________
(*) وكيلة الإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بالرئاسة العامة لتعليم البنات في السعودية.
(1) سيُركز هنا على دور المرأة الأم فقط التربوي، وإلا فإن استعراض الدور التربوي الذي تقوم به المرأة معلمة أو مربية إلخ يحتاج إلى وريقات أخرى.
(2) التربية الحديثة، مادتها، مبادئها، وتطبيقاتها العملية، صالح عبد العزيز، دار المعارف، ص 53.
(3) أصول التربية الإسلامية، الأستاذ الدكتور/ محمد شحات الخطيب، الطبعة الأولى، دار الخريجي، 1415هـ، ص 23.
(4) المرجع السابق، ص 236، 237.
(5) التربية الحديثة، مادتها، مبادئها، وتطبيقاتها العملية، صالح عبد العزيز، دار المعارف، ص 54.
(6) نظام الأسرة بين المسيحية والإسلام (دراسة مقارنة) دار العلوم، الرياض، الدكتور محمود عبد السميع الشعلان، ج 2، ص 603.
(7) رواه البخاري، ح/ 1385، ومسلم، ح/ 2658.
(8) التقصير في تربية الأولاد (المظاهر، سبل الوقاية والعلاج) ، محمد بن إبراهيم الحمد، دار ابن خزيمة، الرياض 1416هـ، ص 60.
(9) المسند، لأحمد، 2/180، سنن أبي داود، رقم 495، سنن الترمذي، رقم 407 وقال: حسن صحيح.
(10) الزواج: فوائده وآثاره النافعة، عبد الله جار الله بن إبراهيم الجار الله، الرياض 1409هـ، ص 239.
(11) نظام الأسرة بين المسيحية والإسلام (دراسة مقارنة) دار العلوم، الرياض، الدكتور محمود عبد السميع الشعلان، ص 642، 643.
(12) تحفة الودود بأحكام المولود، الإمام ابن قيم الجوزية، المكتبة القيمة، ص 143، 144.
(13) نظام الأسرة بين المسيحية والإسلام (دراسة مقارنة) دار العلوم، الرياض، الدكتور محمود عبد السميع الشعلان، ص 644.
(14) رواه أحمد في المسند، (5/153) ، والترمذي، ح/ 1987، وقال: حديث حسن، والحاكم في المستدرك، كتاب الإيمان، (1/54) .
(15) رواه البخاري، ح/ 5365، مسلم، ح/ 2527.
(16) التربية الحديثة، مادتها، مبادئها، وتطبيقاتها العملية، صالح عبد العزيز، دار المعارف، ص 54، 56.(161/134)
الباب المفتوح
الهجمة على العقيدة والنظام
الاجتماعي في الإسلام
أحمد عبد الدايم أبو نصرة
الجديد في الهجوم على العقيدة هو الجرأة عليها وإسقاط رموزها ومسلَّماتها
التي لا تمس عند المسلمين ولا تقبل النقاش؛ لأنها من الثوابت التي استقرت
وترسخت، ويُتخذ في حق من يمسها ما يستحقه حين تكون الأمة بوعيها وعافيتها؛
وذلك مثل الذات الإلهية المقدسة والمنزهة، ورسول الإسلام الكريم صلى الله عليه
وسلم وقرآنه العظيم. ومن أوجه هذه الجرأة على سبيل المثال لا الحصر:
1 - الاستبيانات العلمية في المدارس والجامعات والصحف من مثل أن الدين
فكرة، وأن الإسلام منطق.
2 - مؤتمر الأديان؛ حيث يجتمع من يمثلون الإسلام مع من يمثلون الوثنيين
من عبّاد الفأر، وعباد البقر، وعبّاد الخشب، بما يوحي أن ما في مثل هذه الأديان
من خرافات وترهات لا يسمو عليه الإسلام، وأن جميعها أفكار قابلة للصواب
والخطأ والنقاش، لا يجوز التعصب لها ولا الدعوة إليها، وخير من ذلك كله ما
يجمع الناس على فكر واحد وثقافة واحدة وهو دين العولمة، ولذلك لا عجب أن
نرى مقررات مؤتمرات الأديان تخرج علينا بأفكار العولمة بوصفها ديناً جديداً بديلاً
من الأديان، مثل: البيئة، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والحرية، وحقوق
المرأة وتميزها، إلى غير ذلك دون ذكر كلمة واحدة عن أفكار الأديان أو عقائدها.
3 - استهداف رموز الإسلام ومسلَّماته من مثل الذات الإلهية المنزهة،
وشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم، والتطاول عليها
لإسقاط عظمتها وهيبتها من نفوس المسلمين ليسهل في النهاية عدم التصدي لمن
يتطاول عليها ثم التنازل عنها للدين البديل.
وتتلاقى هذه الهجمة الشرسة على ثوابت العقيدة مع كل ما يخطط من الكفر
للمسلمين والمساس بثوابتهم؛ وأبرزها الهجمة الشرسة على النظام الاجتماعي وما
يراد للمرأة المسلمة أن تكون.
1 - فمن تسخير البرلمانات والمجالس الشعبية لسنِّ القوانين لإخراج المرأة
المسلمة عن طبيعتها وكونها أمّاً وربَّة بيت وعِرض يجب أن يصان إلى أن تصبح
ألعوبة للشهوات ودمية للأهواء، يلغي بهذه القوانين دور الأسرة فتكون المرأة
المسلمة نسخة عن المرأة الأوروبية في بلاد المسلمين لنشر ثقافة الإيدز، والعري،
والشذوذ الجنسي، ومن هذه التشريعات والقوانين الإباحية: إباحة السباحة لها بدلاً
من قوله تعالى: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] (النور: 30) ،
[وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] (النور: 31) .
2 - إلغاء أو تعديل المواد التي فيها حد من الفحش، وما أسموه جرائم
الشرف من مثل المادة 340 في الأردن، والمادة 240 في مصر، تعديل قوانين
الأحوال الشخصية والنظام الاجتماعي من مثل: الخلع، سفر الزوجة، قبول طلاق
المتزوجة عرفاً، وإلغاء لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وجواز الإجهاض مما
يخفف متاعب الجنين على الحامل.
3 - السماح بالمناداة لعري المرأة، وحريتها في جسدها، وحقها في إقامة
علاقات منحرفة خارج البيت.
4 - عقد المؤتمرات النسوية والصحفية للمناداة بإلغاء قانون الاجتماع
الإسلامي وإيجاد قانون أحوال شخصية لا علاقة له بالإسلام تكون فيه تشريعات
نسوية علمانية لا يكون لله فيها أي سلطان أو حق على حد تعبير نوال السعداوي.
5 - إحياء ذكرى من نادوا بحرية المرأة من مثل قاسم أمين، وما نادت به
مَنْ أحيَيْنَ هذه الذكرى مما يندى لذكره الجبين.
6 - عقد المؤتمرات الدولية بعنوان تنظيم الأسرة؛ فمن مؤتمر في المكسيك
سنة 1975م الذي دعا إلى حرية الإجهاض للمرأة، والحرية الجنسية للمراهقين
والأطفال، وتنظيم «الأسرة لضبط سكان العالم الثالث» ، إلى مؤتمر نيروبي عام
1985م تحت عنوان: «استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة» ثم
مؤتمر القاهرة سنة 1994م تحت عنوان: «المساواة والتنمية والسلام» وبرز فيه
عولمة المرأة، وكذلك مؤتمر بكين الذي يمثل مخططاً واضحاً لهدم الأسرة وتدمير
الحضارة البشرية، والذي لا يتحدث عن الزواج باعتباره رباطاً شرعياً بين الرجل
والمرأة، وبدلاً عن مصطلح الزوج تستعمل عبارة: الشريك أو الزميل.
هذه الحضارة التي يريدونها بفرض أفكارهم المتعلقة بالمرأة، ومنها حق
الإنسان في تغيير هويته الجنسية، ومن ثم الاعتراف رسمياً بالشواذ أو المخنثين
واللوطيين والسحاقيين؛ وذلك بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان،
ومنها الحصول على أطفال بالتبني. وتطالب وثيقة بكين التي هي مرجعية هذه
الحضارة بحق المرأة والفتاة بحرية جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء؛
وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي. ووثيقة بكين هذه قد وقعت عليها مائة
وثمانون دولة، وقد نادى الرسميون في بلاد المسلمين بما يحقق هذا في الواقع،
ومن ذلك تزويج الفتاة دون إذن الولي.
وفي مسيرة الإدماج الاجتماعي التي أشرفت عليها الدولة في المغرب نادى
أصحابها بمنع تعدد الزوجات أسوة بتونس، وأن يكون الطلاق بيد القاضي لا بيد
الرجل، ورأوا المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وذلك عند الطلاق أو
الموت.
إن ما يراد بالمسلمين وما يخطط لهم يستهدف مقدساتهم الفكرية وعرضهم
وعلاقاتهم الاجتماعية؛ ليتم التحكم في حياتهم من جميع جوانبها؛ فهل يُقابَل هذا
بالصمت أم بالشعور بالويل والمرارة؟ ! أم تكفي فيه ردة فعل غاضبة يعبر عنها
بمسيرة صاخبة، أو بمقالات ساخنة في الصحف ثم تخبو جذوتها ويُتناسى ما جاء
فيها؛ لتصحو من جديد على تشريع جديد أو رواية أخرى أو مؤتمر يقرر فيه إلغاء
دينهم؟ لقد تعرضت ديارهم وهويتهم ومقدساتهم لمثل هذا فآثروا السكوت والحياد
إلى أن ساموها خسفاً وتضييعاً؛ فضاعت وهم ينظرون؛ فهل يقفون نفس الموقف
لتضيع عقيدتهم، ويضيع عرضهم فيكون مصيرنا الضياع والاندثار؟ !(161/140)
المنتدى
ردود
الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة البيان الغراء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقبل أن أبدأ رسالتي الأولى إليكم أحب أن تبلغ إليكم هذه الدعوات الحارة
المنبعثة من أعماق قلب يتلهف على كلمة حق صادقة قوية لدين الله، تأخذ مكانها
في الساحة وتعلو، هذه الساحة التي اكتظت بالدنس من كل لون حتى أغرقت البلاد
والعباد وملأت الأصقاع. ولا أكتمكم يا أخي الكريم كم كانت فرحتي حين التقيت
بقدر الله بمجلتكم الغراء وأنا في رحلة لي في مكة المكرمة، حيث وجدت المجلة في
بيت شقيقي هناك، لا أكتمكم مدى عمق تلك الفرحة، ولا أصور لكم كيف التهمت
نفسي ومشاعري وأفكاري كل جملة فيها من الغلاف إلى الغلاف! ولا كيف تمنيت
في حينها لو أملك الحصول على كل أعدادها التي فاتتني! ولا كم رغبت في أن
أسرع بالاشتراك فيها حتى لا يفوتني المقبل منها! وها أنا ذا، وقد عدت إلى مقر
إقامتي في باريس، فإني أبادر بالكتابة إليكم لأشترك لمدة عام في البيان حتى
أستمتع بقراءتها.
وأخيراً.. ففي انتظار وصول «البيان» فإني أدعو لكم وللقائمين على
إخراجها إلى النور بكل خير وبكل توفيق من الله ورضوان، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حميدة قطب
والبيان إذ تشكر الأديبة الفاضلة على هذا الإحساس والمشاعر الطيبة لترجو
الله تعالى أن تكون المجلة عند حسن ظن قرائها بها، وأن يوفقنا وإياهم لخدمة دينه.
* الإخوة والأخوات: محمد إبراهيم الطرفي، إبراهيم الفاضل، عبد الله بن
محمد الجفير، عبد الرحمن البشري، أحمد عبد الهادي الأموي، أم يوسف
«الرياض» : وصلتنا ملاحظاتكم واقتراحاتكم، ونشكر لكم هذا الحرص
الطيب، سائلين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى طريق الحق والصواب.
* الإخوة: د. ماهر عباس جلال، محمد شلال الحناحنة، سلطان بن محمد
الغامدي، عبد الله الخضيري، أحمد عكور، عبد الرزاق زعال، فواز بن عبد
العزيز اللعبون، سعود بن سليمان اليوسف: سعدنا بتواصلكم الكريم، بارك الله
فيكم، ومشاركاتكم مجازة للنشر بإذن الله.
* الإخوة: حسن أحمد القرني، أحمد عزيز كنعان، محمد أبو العز، محمد
بن سليمان القشعمي، أبو عبد الله الرحابي، أبو بكر عبد القادر سيسي، سامي
محمد العبودي: نشكر لكم تواصلكم آملين دوام الصلة مع المجلة، ومشاركاتكم
مجازة للمنتدى.
* الإخوة: محمد فريد فراج، منصور الزغيبي، عبد الله عبد العزيز الحميدة،
محمود يحيى أبو بكر، محمد فساري علي، عبد العزيز صالح العسكر، محمد
مفتوح، الريامي سميرة: نرجو التكرم بإرسال عناوينكم الخاصة للتمكن من
مراسلتكم، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
* الأخ: صاحب مقال: (التربية الجماعية، أهميتها، أهدافها، ووسائلها،
ومعوقاتها) ، نرجو التكرم بإرسال اسمك حيث نسيت كتابته.(161/142)
الورقة الأخيرة
الابتلاءات
عبد الله بن سليمان القفاري
كثيرون نحن الذين قد نجهل معنى الابتلاء والامتحان أو على الأقل نجهل
جانباً مهماً وخطيراً من جوانب الابتلاء، إننا عندما نسمع بالابتلاءات التي تحدث
لدعاة الإسلام وعلمائه أو غيرهم كثير في عالمنا اليوم من سجن واضطهاد وتشريد
يتبادر إلى أذهاننا مبلغ العزيمة والصبر الذي يتحلى به أولئك الرجال، ويحضر
أمامنا معنى الابتلاء والتضحية، وحُق لتلك العزائم أن تقدَّر.
لكن الجانب الأخطر والأشد الذي ربما غفل عنه الكثيرون: جانب الابتلاء
بالسراء: النعم، المناصب، الصحة، الشهرة.
حيث إن عدداً ليس قليلاً قد ينجح في الاختبار الأول أعني الضراء لكنَّ
الكثيرين قد ينهزمون في مواجهة الاختبار الثاني أعني السراء ذلك أن الابتلاء
الأول ربما أعطى النفس مبدأ التحدي والمواجهة خشية الرأي العام المؤثر أو غير
ذلك من العوامل التي قد تساعد في الثبات على المبدأ.
أما الابتلاء الثاني فقد يُفقِد النفس عوامل التحدي، ويخترق الذات حيث
الباطن يوافق شيئاً مما تشتهي النفس بعيداً عن هذا وذاك مما تخشاه تلك الروح
البشرية الضعيفة! والنفس والهوى والشيطان ثالوث ينمو في مثل هذه البيئات إن لم
يجد الوقاية الكافية والمكافحة لهذا الوباء الخطير.
ومن هذا الابتلاء وذاك: تُجسِّده لنا تلك النفس الطاهرة في شخصية
الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه عندما ابتلاه الله هو وصاحبَيْه
لتخلُّفهم عن غزوة تبوك في الحديث المتفق عليه؛ فقد وقع رضي الله عنه أسيراً
بين هذين الابتلاءين: الأول: بالمقاطعة والهجران، والثاني: بالترغيب والتشويق
من ملك من ملوك الأرض في حديث طويل رواه بنفسه؛ حيث قال: «نهى النبي
صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة قال: فجعلْتُ أخرج إلى السوق
فلا يكلمني أحد، وتنكَّر لنا الناس حتى ما هُم بالذين نعرف، وتنكَّرت لنا الحيطان
التي نعرف حتى ما هي الحيطان التي نعرف، وتنكَّرت لنا الأرض حتى ما هي
الأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج فأطوف بالأسواق» .
إنه بلاء يتلوه بلاء، فهل انتهى عند هذا الحد؟ .. «فلمَّا مضت أربعون ليلة
إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال: اعتزل امرأتك. فقلت:
أطِّلقُها؟ قال: لا، ولكن لا تقربنَّها. فلما طال عليَّ البلاء اقتحمت على أبي قتادة
حائطه وهو ابن عمي فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة!
أتعلم أني أُحب الله ورسوله؟ فسكت، ثم قلت: أنشدك الله يا أبا قتادة! أتعلم أني
أُحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فلَمْ أملك نفسي أن بكيت، ثم
اقتحمت الحائط خارجاً» .
ومع شدة البلاء بالضراء كان الصبر واليقين، وفي أثناء هذا الابتلاء لكعب
جاء الابتلاء الثاني الأشد والأنكل..! إنه الابتلاء بالنعمة والثراء؛ حيث يقول:
«فبينا أنا أطوف السوق إذا رجل نصراني جاء بطعام يبيعه يقول: من يدل
على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان
فإذا فيها: (أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك، ولست بدار
مضيعة ولا هوان؛ فالْحَقْ بنا نواسِكَ) فقلت: هذا أيضاً من البلاء والشر،
فسجرت لها التنور وأحرقتها فيه» .
لم يكن هذا الابتلاء يحتاج إلى مجرد تفكير، بل سارع إلى حسم مادته من
جذورها، وذلك بتسجِيرها لأول وهلة وعدم الجواب على تلك الرسالة؛ فالأمر جد
خطير، والبلاء عظيم، هكذا الصبر والعزيمة.
ولهذا وذاك جاء الفرج: «حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي
صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا صليت على ظَهْر بيت لنا صلاة الفجر، ثم
جلست وأنا في المنزلة التي قال الله عز وجل قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت
وضاقت علينا أنفسنا؛ إذ سمعت نداءً من ذروة سَلْع أن أبشر يا كعب بن مالك!
فخررت ساجداً وعرفت أن الله قد جاءنا بالفرج» .
والله يقول جل وتقدس: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]
(الأنبياء: 35) .
وما أجمل ما قاله صاحب الظلال في ظلال هذه الآية: «إن الابتلاء بالخير
أشد وطأة وإن خُيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشر، إن كثيرين يصمدون للابتلاء
بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكنَّ قليلين هم الذين
يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم
الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكنَّ
قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان.
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد
والوعيد فلا يرهبهم، ولكنَّ قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب
والمناصب والمتاع والثراء» .
فمن منَّا يعي هذه الحقيقة ويبادر إلى الوقاية في الحالين؟ وإن كانت حالة
السراء أشدَّ وآكد، ومن توكل على الله كفاه.(161/143)
صفر - 1422هـ
مايو - 2001م
(السنة: 16)(162/)
كلمة صغيرة
الدولة الممسوخة
لم يُرَ في دولة تنتسب إلى الإسلام تناقض وقلق واضطراب مثلما هو الحال
في الدولة التركية، ولم يُرَ كذلك خوف وهلع وحرب لا على الأصولية والرجعية
والظلامية - وما إلى ذلك من التهم التي يحارب بها الدعاة - فحسب بل الحرب
على الإسلام بصراحة شديدة ووقاحة أشد.
ولم تُرَ أيضاً مثل هذه الاستماتة الذليلة «للباب العالي» للارتماء التام في
أحضان النصارى بحجة الانضمام للاتحاد الأوروبي.
هذا التوجه الخانع للحكومة التركية جعلها تنقلب على المقدسات الكمالية
التركية التي كان المس بها أو الاقتراب منها جريمة لا تغتفر، ولا يكفرها إلا الدم
والهدم! ! هذه المبادئ تذبح الآن تحت أقدام الاتحاد الأوروبي حتى يرضى بقبول
مبدأ مناقشة انضمام تركيا إليه؛ فها هي الدولة الممسوخة تمحو آثار المؤسس
بتعديلات وانقلابات كبيرة لدستور الدولة، وتغيير السياسات الاقتصادية
والاجتماعية والقانونية بناءً على توجيهات الاتحاد الأوروبي حتى يسمح لها بمناقشة
فكرة الانضمام، «مجرد المناقشة» ! !
وفي الوقت الذي تهرب فيه كل دول العالم النامي بطبيعة الحال من توصيات
البنك الدولي وتوجيهاته التي خربت اقتصاديات هذه الدول، تستجيب تركيا
للتوصيات الأوروبية والأمريكية بتعيين «كمال درويش» ، النائب السابق لرئيس
البنك الدولي، وزيراً للاقتصاد بصلاحيات رئيس حكومة! وهو تركي من يهود
الدونمة، والذي أوصى أولياءه بإقراض تركيا 25 مليار دولار لحل أزمتها، ووافق
السادة الأمريكان على الإقراض بشروط إضافية تضيف إلى الذل التركي ذلاً آخر،
وتزيد من اليد الطولى للسادة الأمريكان في المنطقة ذراعاً أخرى.
والعجيب أن الذي أدى لهذه الأزمة الاقتصادية الخانقة هو تطبيق تركيا
لسياسات البنك الدولي! !
توافقت التغييرات الجذرية في السياسات التركية مع مجيء «كمال» آخر
لكي ينقلب على كمال الأول!(162/1)
الافتتاحية
ففروا إلى الله!
لقد كان لانتفاضة الأقصى المباركة دور كبير في تفعيل الجامعة العربية
ونفض الغبار عنها؛ فقد كان واضحاً أن هناك حظراً أمريكياً يمنع اجتماع الزعماء
العرب إلا تحت المظلة الأمريكية، وكان هذا نابعاً من سياسة الاستفراد والحرص
على التعامل مع كل كيان بمفرده؛ فبعد مؤتمر مدريد الجامع ظهرت المسارات
الأردنية والفلسطينية والسورية واللبنانية وقنوات الاتصال العمانية والقطرية
والموريتانية في اختراق واضح للجامعة العربية ولمجلس التعاون الخليجي والاتحاد
المغاربي، وكان واضحاً للجميع آثار هذه السياسة اليهودية؛ فقد كان الاستفراد
بالخصم الضعيف يؤدي بالضرورة للحصول على أكبر قدر من المكاسب وأحياناً
بدون ثمن يدفع، ولكن الانتفاضة العارمة وعجز مؤتمر شرم الشيخ عن التصدي
للمشكلة وانهيارها أقنع الراعي الأمريكي بالسماح بالدعوة لمؤتمر قمة طارئ في
القاهرة، عقد وسط موجة غضب عارمة في الشارعين العربي والإسلامي،
وصدرت قرارات تؤكد دعم الانتفاضة مالياً، وتم الاتفاق على عودة الاجتماعات
الدورية، واتفق على عقد مؤتمر قمة عادي في عمان، وفي هذه الأثناء استمرت
الانتفاضة، وكان التخبط الإسرائيلي نتيجة ضغط الانتخابات عاملاً مساعداً
بالإضافة إلى الانتخابات الأمريكية، وتعرقل انتقال السلطة الذي ساعد على بروز
قضية العراق وتصدع حلقة الحصار حوله، وانتشر الحديث حول المصالحة مع
دول الخليج واستئناف الرحلات الجوية؛ وهنا تدخلت الإدارة الجديدة التي يبدو
عليها شدة الاندفاع وافتقادها للحكمة، وكان اختيار الجنرال كولن باول وزيراً
للخارجية مظهراً من مظاهر عسكرة الإدارة، وباتت الدبلوماسية الأمريكية التي
كانت في الأصل تفتقر للكياسة تلوح بالعصا، فقامت بضربة استعراضية لبغداد،
وقام باول بجولة في المنطقة الهدف منها ينحصر في تأكيد دعم إسرائيل وإعادة
إحكام الحصار حول العراق.
ويستطيع أي مراقب أن يرصد الكثير من الكبوات التي تفضح الإدارة الجديدة،
وتوضح أسلوب تعاملها خلال فترة قصيرة من الزمن، وإليك بعضها؛ فقد أطلق
وزير الخارجية الجنرال باول تصريحات حول التزام الرئيس بوش بنقل السفارة
الأمريكية إلى القدس وقد اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية إلى تأكيد عدم تغير
السياسة الأمريكية حول هذا الموضوع، بل اضطر هو شخصياً للاعتذار. والذي
يهمنا هنا هو أن التصريح حول هذه القضية الحساسة في هذا الوقت بالذات لا يعدو
كونه نوعاً من الحمق السياسي، ولا يختلف عنه كثيراً التدخل المباشر والعلني في
جدول أعمال مؤتمر القمة والإعلان الأمريكي أن الإدارة سترسل مقترحات مكتوبة!
وفي وقت انعقاد القمة وبينما كان شارون يمارس حصار المدن الفلسطينية
ويقصفها بالطائرات والدبابات طرح مشروع قرار حول إرسال قوات دولية لحماية
الفلسطينيين. ولم تتورع أمريكا زعيمة العالم الحر وحامية الديمقراطية وحقوق
الإنسان عن الوقوف وحيدة في استعمال حق النقض وإسقاط القرار، وكان هذا
التصرف الأمريكي صفعة لأدعياء السلام في المنطقة، ولكن الصفعة هي تأكيد
مندوب أمريكا لدى مجلس الأمن على أن هذا التصويت لن يؤثر على مواقف
أصدقائنا العرب.
وإذا كان الرئيس بوش تكلف تأنيب عرفات وإفهامه بأهمية وقف الانتفاضة
التي يتعرض فيها اليهود للعنف الفلسطيني! ! فإن موظفاً من الدرجة الثالثة أو
الرابعة هو مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط (إدوارد ووكر)
هو الذي تولى طرح المطالب الأمريكية نحو أكبر حليف لأمريكا في المنطقة
العربية. ومن الغريب أن هذا الموظف لم يتردد في وصف الرئيس المصري بأنه
لا يرى إلا بعين واحدة نتيجة لعدم وجود السفير المصري في تل أبيب، وماذا نقول
نحن عن الإدارة الأمريكية ونظرتها للصراع في المنطقة؟ وهنا لا يفوتنا التأكيد
على أن الزعماء العرب سيتعرضون لسيل من المطالب العلنية التي تركز على
تحقيق مصالح إسرائيل، ومن يجرؤ على رفض هذه المطالب فلا ينسى أن
المندوب الأمريكي في مجلس الأمن لم يتورع عن تهديد كولومبيا علناً؛ لأنها
أحرجت أمريكا وطرحت مشروع القرار على مجلس الأمن، وقال إنها سترى
عواقب هذا التصرف!
إن وضع عرفات مثال حي لكيفية تعامل اليهود ومن ورائهم أمريكا مع كل من
مد لهم يد التعاون وربط حباله معهم وقطع حباله مع شعبه. إنه الصديق عندما
يحقق رغباتهم وهو العدو عندما يعجز عن إطفاء نار أشعلوها هم. وإذا كانوا
ساعدوا في بناء قوى عرفات الأمنية فلا مانع لديهم من تحطيمها عندما تفشل في
تنفيذ مطالبهم الحقيرة في المشاركة الفعالة في إبادة الشعب الفلسطيني المبتلى.
إن الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق ومقاومة الإملاءات لا يمكن إلا
باستعمال ورقة الرفض الشعبي وتفعيل دور الشعوب، ولا يكون هذا إلا بإعادة
التلاحم مع الشعوب والعودة إليها واحتضانها والاندماج معها، ولا يمكن هذا إلا
بالعودة إلى البوتقة التي ينصهر فيها الجميع ألا وهي بوتقة الإسلام. إن تغييب
الشعوب وإذلالها له دور كبير في تحطيم إرادة البلدان، وجعل حكوماتها رهينة
بالتوجيهات العلنية والخفية وقوى الطغيان؛ فمتى نفر إلى الله متى متى..؟ !(162/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تعظيم الآثار رؤية شرعية
(1 - 2)
محمد بن عبد الله الهبدان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فتعظيم الآثار ظاهرة قديمة، تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة عند كثير من
الشعوب والأمم، وقد درجت بعض الدول في العصور المتأخرة على إحياء آثارها
التاريخية لأسباب سياسية واقتصادية، ونشطت كثير من المنظمات الدولية في
رعاية تلك الآثار ودعوة الدول إلى العناية بها.
وبعد حادثة تحطيم الأصنام التي جرت في أرض أفغانستان كثر حديث الساسة
والمنظمات الدولية والقنوات الإعلامية عن الآثار التاريخية وضرورة العناية بها،
فكتبت هذه الدراسة المتواضعة توضيحاً للمنهج الشرعي الصحيح، وبياناً للحق
مستعيناً بالله - تعالى - فأقول، وبالله التوفيق:
تعريف الآثار لغة واصطلاحاً:
1 - تعريف الأثر لغة [1] :
الهمزة والثاء والراء، لها ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم
الشيء الباقي.
فالأول وهو تقديم الشيء: كأن تقول افعل يا فلان هذا آثِراً ما، أي: إنْ
اخترت ذلك الفعل فافعل هذا إما لا. قال ابن الأعرابي: معناه: افعله أوَّلَ كلِّ
شيء.
والثاني وهو ذكر الشيء: ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: «ما
حلفت بعدها آثِراً ولا ذاكراً» فقوله: آثِراً: أي مخبراً عن غيري أنه حلف به.
والثالث وهو رسم الشيء الباقي: قال الخليل: والأثر بقية ما يرى من كل
شيء، وما لا يرى بعد أن تبقى فيه علقة. والآثار الأثر، كالفلاح والفلح، والسداد
والسدد، قال الخليل: أثر السيف ضربته، وتقول: من يشتري سيفي وهذا أثره،
يضرب للمجرب المختبر.
وقال الأصفهاني: أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده، يقال: أَثَر
وإثْرٌ، والجمع: الآثار، قال - تعالى -: [ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا]
(الحديد: 27) ، [وَآثَاراً فِي الأَرْضِ] (غافر: 21) .
ومن هذا يقال: للطريق المستدَل به على مَنْ تقدم: آثار، نحو قوله -
تعالى-: [فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ] (الصافات: 70) ، [قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى
أَثَرِي] (طه: 84) .
2 - تعريف الآثار اصطلاحاً:
من خلال البحث لم أجد أحداً عرَّف الآثار، ومجمع اللغة العربية عرَّف علم
الآثار بقوله: علم الوثائق والمخلفات القديمة [2] .
وهذا التعريف قاصر؛ إذ لا يتناول المواقع التي لا يوجد فيها أمور عينية، وهي
من الآثار.
ويمكن أن يقال في تعريفها بأنها: ما يدل على أثر مَنْ سلف من الأمم.
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده وموقفهم من الاهتمام
بالآثار:
من خلال تتبع بعض الأحداث يتبين لنا منهج رسول الله، فمن ذلك:
1 - الأماكن التي زارها النبي قبل البعثة وبعد البعثة لم يرد دليل واحد على
أن النبي قصد زيارتها أو أمر بزيارتها أو حث على الاهتمام بها، ونحو ذلك. قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فإن النبي بعد أن أكرمه [الله] بالنبوة لم
يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة
بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح،
وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده، لم يكن أحد
منهم يأتي غار حراء..» [3] ويقول أيضا: «وكذلك قصد الجبال والبقاع التي
حول مكة غير المشاعر؛ عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند
منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله
زيارة شيء من ذلك بل بدعة» [4] .
2 - عندما فتح النبي مكة وطاف بالكعبة كسر الأصنام التي حول الكعبة كلها
كما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِي اللَّه عَنْه - قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ مَكَّةَ
وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُباً فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: [جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
(الإسراء: 81) [5] وهذه الأصنام تعتبر من الآثار التي يحافظ عليها في مثل
هذا الزمن؛ فلماذا لم يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتني بها،
ويجعلها في متحف ونحوه؟ ! !
وعلى هذا المنوال سار أتباعه الكرام، وإليك البيان:
لقد كان هدي السلف الصالح الاهتمام بالآثار الفعلية والقولية من أقوال
المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ولا أدل على ذلك من هذه الكتب التي
تزخر بالكثير من الآثار الفعلية والقولية.. فأفنوا أعمارهم من أجل المحافظة عليها،
وقطعوا القفار وكابدوا مشقة الأسفار؛ وواصلوا الليل بالنهار؛ كل ذلك جمعاً لآثار
النبي المختار صلى الله عليه وسلم وتدوينها ليعمل بها.. وبلغ من حرصهم على
تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية أن يُنقَل لنا حتى شؤون النبي
صلى الله عليه وسلم الزوجية في غسله ووضوئه، في أكله وشربه، وفي نومه
واستيقاظه.. في كل شيء.. هذا كان ديدنهم، وتلك كانت همتهم. ولم يكن معروفاً
عنهم تتبع الآثار المكانية والعينية والاهتمام بها وتشييدها أو عمل مزارات. يقول
الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم - ورضي الله عنهم - أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار، ولم يعظموها،
ولم يدعوا إلى إحيائها.. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي
صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا
إليه..» [6] .
ومما يدل على ذلك:
1 - موقفهم من الآثار الموجودة في مكة والمدينة وبيت المقدس: فلم يعرف
أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها، بل كانوا يسدون هذا الباب؛
فإن المسلمين لما فتحوا تُستَر، وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه «دانيال»
ووجدوا عنده كتاباً فيه ذكر الحوادث، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به، فكتب
في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر، فكتب إليه أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً،
ثم يُدفَن بالليل في واحد منها ويعفَّى قبره؛ لئلا يفتتن الناس به [7] ولذلك يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «لم تَدَعِ الصحابة في الإسلام قبراً ظاهراً
من قبور الأنبياء يفتتن به الناس؛ ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه
مسجداً؛ بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه
بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان؛ إن كان الناس يفتتنون به،
وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره..» [8] .
وفي بعض الأحايين تحصل مناسبة لزيارة تلك الأماكن الأثرية ومع ذلك لا
يزورونها كما حصل لعمر ابن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - فقد
زارا بيت المقدس ولم يأتيا الصخرة ولا غيرها من البقاع [9] ، بل إذا خشيت الفتنة
أمروا بإزالتها كما أمر عمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان.
2 - وجود الأهرامات في مصر: فبعد دخول الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن
العاص - رضي الله عنه - لم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أن أحداً منهم
زار تلك الأهرامات مع أنها تعتبر معلماً من معالم مصر فضلاً عن الاهتمام بها
وتشييدها.
وكم هم العلماء الذين رحلوا إلى مصر لطلب العلم والحديث! ! فهل نقل أن
أحداً منهم زار تلك الآثار؟ ! ! فهذا الإمام الشافعي والعز بن عبد السلام وابن
خزيمة وأبو حاتم وغيرهم كثير.. وقد سئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول
ونحوها: «هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال: كان أكثرها مغموراً
بالرمال ولا سيما أبا الهول» [10] .
بل إن كثيراً من هذه الآثار لم تكتشف إلا أخيراً؛ فمعبد أبي سمبل مثلاً الذي
يعد من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل
قرن أو نصف قرن تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا
الوقت لم تكتشف إلا قريباً.
«ومما يدل دلالة واضحة على عدم الاهتمام بها أن بعض تلك الآثار يعلو
عليها التراب، يقول ياقوت الحموي: وفي سفح أحد الهرمين صورة آدمي عظيم
مصبغة وقد غطى الرمل أكثرها» [11] مما يدل على أنها مهملة.
وأشد من ذلك صدور محاولات عدة من الولاة لهدمها كالمأمون [12] والملك
العزيز الأيوبي [13] . وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة الرشيد حاول كسر إيوان
كسرى على ضخامته مع أن بعضهم أشار عليه بتركه؛ لا من أجل التفاخر به؛
ولكن من أجل أن يستدل به على عظم ملك آبائه الذين سلبوا الملك لأهل ذلك
الهيكل [14] ؛ ومع ذلك لم يستجب فقام بمحاولة تكسيره - رحمه الله -.
وقال أبو علي الأوقي: سمعت أبا طاهر السِّلَفي [15] يقول: «لي ستون سنة
بالإسكندرية ما رأيت منارتها إلا من هذه الطاقة، وأشار إلى غرفة يجلس
فيها» [16] . مع أنها معلم من معالم الإسكندرية.
ولكن بدأ هذا النوع ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها وهو: العناية بالآثار،
وعمل المزارات لها وارتيادها، والاهتمام بها، والحفاظ عليها، بل هذا يعتبر من
أبرز اهتمامات وزارات السياحة، وإدارات الآثار.
بيان أن الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين:
من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام
لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي.. فها هو (جب) يقول بصراحة تامة:
«وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث
الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن،
فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي
فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من
الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم
مقوماتها» [17] .
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع
الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية
الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة، مثل الاهتمام
بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه، والاستعانة
على ذلك بالأناشيد، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب
المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي
خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص، بعد أن
كانت تشترك في كثير من مظاهره [18] .
وحتى يحصل لهم ما يريدون، ويتحقق لهم ما يشتهون «أعانت الدول
المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس
بأسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه
الأقطار، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في
كل من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر؛ لتوهين عرى
الجامعة العربية، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة؛
فاستيقظت العصبيات الجاهلية، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق،
وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات
البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة.
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود؛ فقد عاش المسلمون دهوراً
وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها حين
يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث عنهم
شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون
بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم.
وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء
الآثار الغربيين، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد
بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة
الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق، بوصفه وارث هذه
الحضارة، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته، مطمئنين إلى أنه
سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له.
والأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث؛ فقد بلغ من اهتمام
الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن
العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على
الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة (21) التي تنص على:» أن تضع الدولة
المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار
والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية.. «، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا
ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية
الأولى لجاناً في دمشق وبيروت لكتابة تاريخ الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان
وأهملوا تاريخ سوريا، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من
رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة
عصور: العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر
العربي.
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل
روكفلر (ابن روكفلر الكبير) صاحب الملايين، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه
بعشرة ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، يلحق به
معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لمنح هذه الهبة أن يوضع
المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة مكونة من ثمانية أعضاء ليس فيها إلا عضوان
مصريان فقط، على أن تظل هذه اللجنة هي المسؤولة عن إدارة المتحف والمعهد
لمدة ثلاث وثلاثين سنة.
وقد استرد الثري الصهيوني الأمريكي هبته وقتذاك، بعد أن أرسل مندوباً
يمثله من علماء الآثار الأمريكيين المعروفين وهو الأستاذ بْرِسْتِدْ ومعه أحد محاميه،
وذلك لرفض الحكومة شرط إشراف الأجانب الفني على المعهد، وقد كان واضحاً
من تحديد صاحب الملايين مدة الإشراف بثلاث وثلاثين سنة أنه يهدف إلى خلق
جيل من المتعصبين للفرعونية ثقافياً وسياسياً، ومصلحة الصهيونية في ذلك ظاهرة؛
لأنها إذا نجحت في سلخ الدول العربية عن عروبتها فقد سلختها من إسلامها، وإذا
انسلخت هذه الدول من إسلامها ومن عروبتها أمن اليهود كل معارضة لاستقرارهم
في فلسطين، وعاشوا مع جيرانهم في هدوء يمكن لهم من الإعداد لوثبة جديدة
يأكلون فيها جيرانهم النائمين؛ لأن معارضة الدول العربية لمطامع اليهود في
فلسطين إنما تستند إلى الإسلام والعروبة، فإذا انسلخ المصريون مثلاً من الإسلام
والعروبة ولبسوا ثوب الفرعونية مات الحافز الذي يدفعهم إلى مجاهدة اليهود
ومعارضة دولتهم في فلسطين؛ إذ يصبح اليهود والعرب لديهم عند ذلك
سواء» [19] .
وقد وضح الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - أن إحياء الآثار القديمة تعتبر
من دسائس الأعداء فقال: «ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء
الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر
بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام، وإلا فما
فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة! والرسوم البالية الدارسة! وما
فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو ألعاب قد فنيت وبادت! في وقت هم في
أمسّ الحاجة إلى العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا
كثيراً من بلادهم وبعض مقدساتهم! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة
إلى دينهم وإحياء سنَّة نبيهم، والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم
وسلطانهم، وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم، وأن يعتزوا
برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في
الحياة، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم، أما أن ينشغلوا
بالبحث عن آثار الديار، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار، وإقامة مشاهد
تحاكي العادات القديمة؛ فكل ذلك مما لا جدوى فيه، وإنما هو استهلاك للوقت
والمال في غير طائل، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية، والعوائد الجاهلية» [20] .
أسباب الافتتان بالآثار:
إن الله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب تبياناً لأهم قضية خُلقت
الخلائق من أجلها ألا وهي قضية التوحيد والنهي عن الشرك، وقد ركز القرآن
والسنة في بيان هذه القضية ووضحها غاية الإيضاح، وبينها غاية البيان حتى غدت
من ضروريات هذا الدين التي لا يمكن جهلها، ولكن لما اشتدت غربة الإسلام
وتباعد عصر النبوة؛ انتشر الشرك في الأمة وعظم الخطب في آثار الأنبياء
والصالحين، وأصبحوا يعتقدون فيهم الاعتقادات الباطلة، والخرافات الساقطة،
فلما كان ذلك كذلك احتاج الأمر إلى دراسة الأسباب التي جعلت الكثير من أفراد
الأمة يفتنون في مثل هذه الآثار، حتى يتم علاجها وإيجاد الحلول المناسبة لهذه
القضية الجلل «لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة
شبهاتهم» [21] وهذه الأسباب متفاوتة من جهة تأثيرها على الناس ومتعددة،
وسأذكر إن شاء الله - تعالى - بعض هذه الأسباب مقدماً الأهم فالأهم، فأقول وبالله
التوفيق:
السبب الأول: الجهل بحقيقة هذا الدين:
لقد كان الناس قبل البعثة في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، حتى جاءهم
بمن أخرجهم من ظلمات الجهل، إلى نور العلم، جاءهم خاتم الأنبياء محمد صلى
الله عليه وسلم جاءهم ليعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) . فما مات
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على
المحجة البيضاء، ثم قام أصحابه بتبليغ رسالته لمن بعدهم فكانوا أعلم الناس بنبيهم
صلى الله عليه وسلم ثم حمل عنهم العلم مَنْ بعدهم، وهكذا كل جيل يحمل العلم عن
سلفه، وفي هذا كله لا يزال العلم ينقص، ويكثر الجهل كلما امتد الزمان؛ وذلك
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقبض العلم ويظهر الجهل
والفتن» [22] .
وقد حصل بالفعل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشر «الجهل
بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب
الشرك، فقلّ نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم
من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا
بقدر ما معهم من العلم» [23] بل وصل الأمر عند بعض دهماء الأمة إلى جعل
المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ ولذا يقول ابن القيم - رحمه الله -: «قد غلب
الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً،
والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه
الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء،
ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك
والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين» [24] .
وقد بين ابن الجوزي - رحمه الله - أن «الباب الأعظم الذي يدخل منه
إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا
يدخل إلا مسارقة» [25] . وقال القرافي المالكي «.. أصل كل فساد في الدنيا
والآخرة إنما هو الجهل؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أن أصل كل
خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله - تعالى -
هو المعين على الخير كله» [26] .
وهذا الجهل الذي وقعت به الأمة ناتج والله أعلم عن أمرين:
الأول: الإعراض عن الكتاب، والسنة تعلماً وتعليماً، وتدبراً وتفهماً لما
فيهما:
فمن أعرض عن السنة اشتغل بالبدعة، «وأما من أصغى إلى كلام الله بقلبه،
وتدبره وتفهمه، أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم بكليته، وحدّث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن
البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس
وتخيلاتها، ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من
غمر قلبه بمحبة الله - تعالى - وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه،
أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور،
وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أي شيء استحسنه ملكه واستعبده.
فالْمُعْرِض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع
ضال، شاء أم أبى.. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم» [27] .
الثاني: أنهم حملوا نصوص الكتاب والسنة على أناس قد مضوا، وأما هم
فغير مخاطبين بهما؛ وهذا ما يتصوره «أكثر الناس، [حيث] لا يشعرون بدخول
الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا
وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك
قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله
لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-:» إنما تُنقَض
عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية «، وهذا لأنه
إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره، ودعا إليه
وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر
منه، أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه..» [28] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله -:
«.. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن
المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا
وانقرضوا، ولم يعقبوا وارثاً، وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين:
هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه في النصارى، هذه في الصابئة؛ فيظن الغُمْر أن
ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين
العبد وبين فهم القرآن والسنة» [29] .
السبب الثاني: علماء الضلال:
من أسباب انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين علماء أهل الضلال،
وهؤلاء ابتليت الأمة بهم حتى وصل الأمر ببعضهم - كما قال شيخ الإسلام - أنهم:
«يُصنِّفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك، ويتقربون إليهم
بالتصنيف فيما يوافقهم..» [30] ، وقد صنف شيخ الرافضة ابن النعمان المعروف
عندهم بالمفيد كتاباً سماه: «مناسك المشاهد» جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج
الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، وهو أول بيت وضع للناس فلا
يطاف إلا به، ولا يُصلى إلا إليه، ولم يأمر الله إلا بحجه [31] . وهؤلاء الذين
صنفوا هذه الكتب لهم أغراض فاسدة؛ منها التقرب إلى الأئمة، ومنها إضلال الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وهذا إنما ابتدعه وافتراه في
الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله، ويفسدوا عليهم
دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله.. ولهذا صنف
طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم
والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أمماً كثيرة وصدوهم عن دين
الله. وأقل ما صار شعاراً لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد؛ فإنهم يأتون من
تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه
وسلم؛ بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين. وأما المساجد فيخربونها؛ فتارة
لا يصلون جمعة ولا جماعة بناءً على ما أصلوه من شعب النفاق، وهو أن الصلاة
لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم..» [32] . بهذا تعرف مدى
تأثير هؤلاء العلماء في انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين.
السبب الثالث: الأئمة المضلون:
لا يشك عاقل في خطر الأئمة المضلين، وكما قيل: الناس على دين ملوكهم،
وقد حذر صلى الله عليه وسلم الأمة منهم بقوله كما في حديث ثوبان - رضي الله
عنه -: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» [33] ، وعن زياد بن حدير قال:
قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة
العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين « [34] .
فمثلاً القبة التي على الصخرة لم تكن موجودة في عهد الصحابة رضي
الله عنهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بل كانت مكشوفة
حتى تولى عبد الملك بن مروان الملك فبنى القبة على الصخرة وكساها في
الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس [35] . وقال في موضع
آخر:» وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن
المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في
تعظيمها « [36] .
وذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد العباسي رحمه الله المتوفى في القرن العاشر
الهجري في كتابه:» عمدة الأخبار في مدينة المختار «أنه لما كان عام ثمان
وسبعين وستمائة هجرية أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي والد
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ببناء قبة على الحُجرة الشريفة، ولم يكن
قبل هذا التاريخ عليها قبة ولها بناء مرتفع وإنما كان حظير حول الحجرة الشريفة
فوق سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر مقدار نصف قامة بحيث يميز سطح الحجرة
الشريفة على سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر فعملت هذه القبة الموجودة
اليوم..» [37] .
والمشاهد لم تكن معروفة في العصور المفضلة، ولكن ظهرت وكثرت في
دولة بني بويه، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة
كفار، مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على
بعض ذلك [38] ، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه -
بناحية النجف [39] .
السبب الرابع: الشبهات التي يتمسكون بها في تسويغ فعلهم:
ومن الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين بعض الشبهات
التي يتشبث بها أصحاب الأهواء والشهوات، وهي شبه كبيت العنكبوت في
الضعف والوهن، وكما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسور [40]
فمن تلك الشبهة مثلاً قولهم: «إن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك،
والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين،
أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل
الرشيد» ، واستدل على هذا التفريق بقوله الله - تعالى -: [يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ] (سبأ: 13) فسليمان - عليه السلام - كانت تصنع له
التماثيل، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء [41] .
والجواب على هذا:
أولاً: أن ما فُرِقَ به بين التمثال والصنم لا دليل عليه لعموم النصوص
الشرعية؛ فالحكم واحد؛ سواء جعل للعبادة أو لم يجعل لما رواه الترمذي
(2806) وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك
البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام
ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب؛ فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع
فليصيَّر كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن،
ومُرْ بالكلب فيخرج. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم» . «ومن المعلوم
أن هذا التمثال الذي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متخذاً للعبادة، ولا
يشك في ذلك مسلم؛ ومع ذلك فقد أمره جبريل بإزالته. وروى مسلم من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا
تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير « [42] .
أما استدلاله بالآية فقد وضح الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره وغيره
أن هذه الآية تدل على أن تصوير التماثيل كان مباحاً في ذلك الزمان، ونسخ بشرع
محمد صلى الله عليه وسلم [43] . والنصوص في تحريم صناعة التماثيل المجسمة
كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها وهذا قول جماهير العلماء قاطبة، بل نقل كثير من
المالكية الإجماع على ذلك [44] .
السبب الخامس: الغلو في التعظيم [45] :
من الأسباب التي أدت إلى انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين هو الغلو في
التعظيم، وقد جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من هذا الداء العضال على سبيل
العموم سواء كان ذلك في جانب العقيدة أو العبادة، يقول الله - تعالى -: [قُلْ يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ] (المائدة: 77) ، وقوله سبحانه: [يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ] (النساء: 171)
فهاتان الآيتان وإن كان الخطاب موجه فيهما إلى أهل الكتاب فإن أمة محمد صلى
الله عليه وسلم تدخل فيهما تبعاً [46] لأنها قد نُهيت عن اتخاذ سبيلهم والسير على
منوالهم واتباع نهجهم، وهذا واضح غاية الوضوح لمن تتبع الأدلة واستقرأها [47] .
وجاء في حديث الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
» إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين « [48] . قال شيخ
الإسلام رحمه الله:» وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال،
وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة بناءً على
أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا
إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من
الهلاك « [49] .
وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن سبب شرك بني آدم هو الغلو
في تعظيم قبور الصالحين فقال:» والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولها:
تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها
ابتدع الآدميون، وهو شرك قوم نوح.. « [50] . وقد ذكر ابن القيم أن من أعظم
مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله - تعالى -
فتنته» ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر
فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وبنيت
عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل،
ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله - تعالى -، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم
نوح، كما أخبر - سبحانه - عنهم في كتابه، حيث يقول: [قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لاَ
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً] (نوح: 21-24) . قال غير واحد من السلف: «كان هؤلاء قوماً
صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا
تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم» . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة
القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها -:
«أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من
الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» أولئك قوم إذا مات فيهم العبد
الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور،
أولئك شرار الخلق عند الله « [51] . فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور،
وهذا كان سبب عبادة اللات؛ فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور
عن مجاهد [أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] (النجم: 19) قال:» كان يلت لهم السويق
فمات، فعكفوا على قبره «. وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما:» كان يلت السويق للحاج «.
فقد رأيتَ أن سبب عبادة وَدّ، ويغوث ويعوق ونسر واللات، إنما كانت
من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوهم كما أشار إليه النبي صلى الله
عليه وسلم..» [52] .
السبب السادس: الحرص على تحصيل المال والجاه:
من أسباب الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين ونحوها الحرص على الحصول
على الأموال والجاه والشرف والمكانة بين الناس؛ فمن ذلك ما ذكره عبد القدوس
الأنصاري أن الحجر الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني
ظفر [53] رآه في خزانة زجاجية عالية بمدخل دار الكتب المصرية، وعلم من
المدير العام لها أن شخصاً من أهل المدينة نقله إلى مصر فيما بعد وباعه إلى الدار
بثمن كبير! ! ! [54] .
يقول العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى -: «وربما يقف جماعة من
المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور
ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود
عليهم، وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر
لذلك الميت بتهويلات، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون
في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة
يتجمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج
الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده،
والاستغاثة به والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع
خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف
النحائر» [55] .
السبب السابع: التأثر بأصحاب الديانات الضالة:
من أسباب الاهتمام بالآثار اختلاط المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى من
يهود ونصارى وغيرهم، وهؤلاء عندهم اعتقادات وأباطيل كثيرة، تأثر بها بعض
ضعاف المسلمين، فتعظيم القبور كان موجوداً عند اليهود والنصارى، وفي
النصارى أكثر وأشد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا» [56] ، ولأن النصارى يعيشون بين
المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كان التأثر بهم أكثر؛ فشيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يذكر أن كثيراً: «من جهال المسلمين ينذرون
للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس
النصارى، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم» [57] .
ولو تأملت بعض ما يفعله القُبوريون لعلمت أنه امتداد لعادات وثنية كانت
سائدة قبل الإسلام: «وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت
رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ؛
ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر
الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..» [58]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ
اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: «هذا عين ما كان يحتج به المشركون
الأولون وحكاه الله - تعالى - عنهم ... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور
القديسين» .
ويقول أيضاً: «ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم
الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري.. واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين،
ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله - تعالى - بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء
المعتقدين ليقربه إليه زلفى» [59] .
ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء
والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير
المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب
والضراعة إليهم كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم ... » [60] .
ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: «في بنارس
[في الهند] قبر أبي البشر آدم - عليه السلام -، وقبر زوجه وقبر أمه! ويقال:
» إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة «، وقبور قضاته، وهي تحت قباب
مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف، وقباب غيره.. وجميع هذه
القبور تعبد بالطواف حولها، والتمسح بها، وتلاوة الأدعية والأوراد عندها،
كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها
وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء
وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في
عبادتها» [61] .
بهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم، ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في
الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار
الاهتمام بالآثار.
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الاهتمام بالآثار والبحث عنها في
بلاد الإسلام حتى عمت البلوى بها في كل مكان حتى لا تكاد ترى من يسلم من ذلك
إلا من وفقه الله لسلوك سبيل المؤمنين الموحدين.
فنسأل الله - تعالى - أن يصلح حال الأمة، وأن يزيل عنها الغمة، وينصر
السنة ويقمع البدعة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) انظر: مقياس اللغة (1/53) ، لسان العرب (4/5) ، مفردات ألفاظ القرآن، ص 62.
(2) المعجم الوجيز، ص 5.
(3) مجموع الفتاوى (11/18) .
(4) مجموع الفتاوى (26/144) .
(5) أخرجه البخاري (2478) .
(6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 338 339) .
(7) مجموع الفتاوى (27/ 170 171) بتصرف، وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (27/270) ، وقال: «رواه يونس بن بكر في: (زيادات مغازي ابن إسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال» ثم ذكر الخبر.
(8) الفتاوى (27/271) .
(9) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/809.
(10) شبه جزيرة العرب (4/1188) .
(11) معجم البلدان (5/400) وما بعده، وانظر: الموسوعة العربية العالمية (1/98) .
(12) انظر: مقدمة ابن خلدون ص 346، معجم البلدان (5/400) وما بعده تحفة النظار في رائب الأمصار وعجائب الأسفار (1/57 58) لابن بطوطة وقد بين سبب امتناع الخليفة عن الهدم؛ وهو بسبب إشارة بعض مشايخ مصر.
(13) انظر: التاريخ المنصوري (1/5) .
(14) انظر: مقدمة ابن خلدون، ص 346.
(15) قال الذهبي في ترجمته في السير: هو الإمام العلاَّمة المحدِّث المفتي، شيخ الإسلام شرف المعمرين أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني الجرواني السير (21/5) .
(16) سير أعلام النبلاء (21/22) .
(17) انظر: أساليب الغزو الفكري، ص 78.
(18) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/141) .
(19) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/137140) ، محمد محمد حسين.
(20) الخطب المنبرية (3/85 86) .
(21) الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 80.
(22) أخرجه البخاري في كتاب العلم، ح/ 85، مسلم في كتاب العلم، ح/ 157.
(23) إغاثة اللهفان (1/214) .
(24) زاد المعاد، (3/507) .
(25) تلبيس إبليس، ص 130.
(26) الفروق (4/265) .
(27) إغاثة اللهفان (1/214) بتصرف يسير.
(28) مدارج السالكين (1/343 344) .
(29) تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس، ص 59 60.
(30) الاستقامة (1/43) .
(31) انظر: منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام (1/476) .
(32) مجموع الفتاوى، (4/517) .
(33) رواه أحمد، ورقمه (21359) ، والترمذي (2229) وقال (حسن صحيح) ، وأبو داود (4252) .
(34) سنن الدارمي، (216) .
(35) انظر: مجموعة الرسائل الكبرى 2/62.
(36) الاقتضاء 2/810.
(37) ص 124، وانظر رياض الجنة في الرد على أعداء السنة، للشيخ مقبل الوادعي، ص 272 وما بعده.
(38) انظر: مجموع الفتاوى (27/176) .
(39) انظر: المرجع السابق (27/466) .
(40) قاله الخطابي في الرد على المتكلمين، انظر نقض المنطق ص 26، ومجموع الفتاوى 4/ 28، والحموية، ص 114.
(41) مقال في صحيفة الشرق الأوسط، لفهمي هويدي بتاريخ 24/11/1421هـ.
(42) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب اللباس والزينة، ح/ 2112.
(43) انظر: الجامع لأحكام القرآن (14/174) .
(44) انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي، ص 208.
(45) انظر في هذا: الفتاوى (17/460) ، و (27/124) ، جامع الرسائل (2/53) .
(46) فقد بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه باب (ما يكره من التعمق والتنازع والغلوّ في الدين والبدع لقوله - تعالى -: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ] (المائدة: 77) : «واستدلاله أي البخاري بالآية ينبني على أن لفظ أهل الكتاب للتعميم ليتناول غير اليهود والنصارى، أو يحتمل على أن تناولها من عدا اليهود والنصارى بالإلحاق) ، وانظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص60، لمحمد الطاهر عاشور.
(47) انظر في ذكر الأدلة التي تأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم اقتضاء الصراط المستقيم، ص 12، وما بعده.
(48) أخرجه النسائي، ورقمه (3057) ، وابن ماجه (3029) ، وأحمد (1/215، 347) ، والحاكم (1/466) ، وابن خزيمة (4/274) ، وابن حبان، ورقمه (1011) ، والحديث صححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان وشيخ الإسلام ابن تيمية، كما في الاقتضاء ص 106، وقال:» هذا إسناد صحيح على شرط مسلم «، وصححه من المعاصرين العلامة الألباني في السلسة الصحيحة، ورقمه (1282) .
(49) نقلاً من تيسير العزيز الحميد، ص 275، ويوجد نحوه في الاقتضاء (1/289) .
(50) الرد على المنطقيين، ص 285، الفتاوى (17/460) .
(51) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح/ 434، مسلم في كتاب المساجد، ح/ 528.
(52) انظر: إغاثة اللهفان (1/183 184) بتصرف واختصار وانظر زاد المعاد (3/458) .
(53) ولا يعني هذا التسليم بصحة أن هذا الحجر هو الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(54) آثار المدينة المنورة، ص 131.
(55) الدر النضيد، ص 93 94.
(56) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح/ 435، 436، مسلم في كتاب المساجد، ح/ 531.
(57) مجموع الفتاوى 27/461.
(58) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 128.
(59) مجلة المنار ج 3، م33، ص 216 218.
(60) عن: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 780.
(61) مجلة المنار ج 3، م33، ص 216 218، نقلاً من مجلة البيان عدد 131، ص 81.(162/6)
دراسات في الشريعة الإسلامية
الإصلاح التشريعي
موجز تاريخي وخطوات عملية صراع الفقهاء والتحديثيين قبيل
العلمانية الشاملة نماذج منتصرة
(2)
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
أسباب التغريب التشريعي الذاتية:
لم تكن الضغوط الأجنبية لتمكين هيمنة الدول المنافسة أو المعادية بأدواتها
المختلفة ومنها الغزو التشريعي أمراً جديداً في تاريخ العلاقات الدولية، وقد مارسته
الدول باستمرار بمختلف ثقافاتها، فمارسته دول الغرب على الدول الإسلامية كما
مارسته على اليابان والصين ودول أفريقيا ومناطق أمريكا الجنوبية، كما مارسته
فرنسا في كندا؛ ومن هنا تبرز أهمية العوامل الداخلية التي أدت إلى توفير المناخ
للغزو التشريعي الملائم لتأثير تلك الضغوط، ومن أهم عناصر المناخ الملائم ما
يلي:
1 - الضعف المادي والعسكري: لقد غطَّ العالم الإسلامي في سبات طويل
في مجالات الإنتاج وتطوير أدواته، ودعم العلم التقني، وتحسين وسائل المنافسة
مع الدول المعادية، وكان من أخطر أسباب هذه الظاهرة انتشار الظلم وبغي
السلاطين، وصراعهم، وتفرق الممالك، وفرض الجباية المنهكة، واضطراب
التجارة، والملكيات العقارية عبر المصادرة والتعدي، وقد لاحظ ذلك في وقت مبكر
العلماء. يقول ابن مسكويه: «صار الرسم جارياً أن يخرب الجند إقطاعاتهم ثم
يردوها ويعتاضوا عنها حيث يختارون» ، وبذلك «فسدت المشارب وبطلت
المصالح.. فمن هارب جالٍ، وبين مظلوم صابر لا ينصف، وبين مستريح إلى
تسليم ضيعته إلى المقطع العسكري ليأمن شره ويوافقه؛ فبطلت العمارات» [1] .
ويقول المقريزي: «وعظمت نكاية الولاة والعمال واشتدت وطأتهم على أهل
الفلح.. فخرب بما ذكرنا معظم القرى، وتعطلت أكثر الأراضي من الزراعة
ونقصت الغلات..» ، ويروي المقريزي نفسه ما أحدثه المماليك من نظام الرق
الزراعي المقتبس من الإقطاع الأوروبي فيما يظهر؛ حيث عرفه المماليك من
الصليبيين في مواجهاتهم المختلفة؛ وهو الذي يجعل الفلاح قنّاً مملوكاً لصاحب
الأرض، فيقول عن تحول الفلاح ليكون: «قنّاً.. لمن أقطع تلك الناحية، إلا أنه
لا يرجو قط أن يباع ولا أن يعتق» [2] .
وفي الأعمال المدنية يذكر العلماء المظالم التي أفسدت معايش الناس حتى كثر
تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة في مصر كما يذكر ابن تيمية [3] .
وساءت الأحوال حتى قال ابن خلدون كلمته المشهورة: «كأنما نادى لسان حال
الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة» [4] .
وقد انتقلت تلك الآفات من مصرٍ إلى مصرٍ، وضاعف أضرارها انتشار
الصوفية في كافة الأقطار، وكان من آثار ذلك ضعف الدول الإسلامية عن مواجهة
العدو الخارجي، ومن ثم محاولة تقليده التماساً لأسباب القوة كما جرى للدولة
العثمانية على سبيل المثال بعد معركة كارلوفجا سنة 1111هـ سيأتي الحديث عنها
التي قادت الدولة العثمانية إلى النقل الأعمى من الغرب دون منهجية تبين ما يجب
تغييره وما يحسن استيراده، وكيفية تهذيبه وتطويعه.
2 - انتشار الجمود والضعف الفقهي؛ بحيث أدى ذلك إلى فتح الأبواب
للحلول الوضعية المجافية للشريعة، وهو ما خاف عاقبته الفقهاء المفكرون في
عصور سابقة، وقد نقلنا في الحلقة الأولى من هذا المقال كلام ابن تيمية عن
الحلول الوضعية العباسية، وتداول الفقهاء في مصادرهم الفقهية تأصيل السياسة
الشرعية وتطبيقاتها لظهور انحراف السياسة الوضعية عن المعايير الشرعية، وهو
حديث مشهور فلا نكرره، وقد بذل الفقهاء المجددون جهوداً رائدة لمواكبة
المتغيرات وملاحقتها بالتأصيل، وتيسير تدوين مصادر الفقه لتحقيق هذا الغرض.
ومن أمثلة ذلك في العصور المتأخرة الفتاوى الهندية التي كتبها ثلاثة
وعشرون فقيهاً من أقدر فقهاء الهند، كلفهم بتدوينها ملك الهند أبو المظفر محيي
الدين محمد أورنك الشهير بـ (عالمكير) في القرن الثاني عشر الهجري السادس
عشر الميلادي، وكان غرض تأليفها تيسير الوصول إلى الراجح. ومن أمثلة
التقريب ما أنجزه الفقيه الحنفي إبراهيم الحلبي الرومي في كتابه: (ملتقى الأبحر)
ليقرب الراجح من الفقه الحنفي كما ذكر في مقدمة كتابه.
وقبيل وضع مجلة الأحكام العدلية كانت الظنون تسوء بقضاة الشرع الأحناف
لتعدد الأقوال وتغير الأحكام مما جعل الفقيه المغربي محمد الحجوي المعاصر لأوائل
عصر تطبيق المجلة يقول بعد نقل كلام الفقهاء في جواز مخالفة المذهب: «تأليف
قانون يدعى المجلة.. كان القصد منه ضبط نصوص الأحكام التي يُتلاعب بها..
حتى إن القضية الواحدة يحكم فيها القاضي اليوم بالإباحة وغداً بالمنع، ويجد في
النصوص فسحة وإجمالاً.. وكم رأينا لهذا من نظير..» [5] .
3 - أن الصياغة الفقهية المتأخرة تميزت ببعض الخصائص التي كانت تعوق
ضبطه وتيسر الوصول إليه، وفهم حكمته، والمصالح التي يرعاها، ويظهر ذلك
مما يلي:
أ - صعوبة صياغة المصادر الفقهية وتعقيدها:
لاحظ الفقهاء قديماً بعض عيوب صياغة المصادر الفقهية وحاولوا الإسهام في
إصلاحها؛ فوفق بعضهم؛ لكن ذلك لم يتحول إلى ظاهرة عامة، بل تحول الفقه في
العصور الأخيرة إلى تعقيد أغلق الفقه على كثير من أصحابه فضلاً عن غيرهم
خاصة في المذهبين المالكي والحنفي.
يقول الحجوي عن مصنفات ما بعد القرن الثامن إنهم: «قضوا على الفقه أو
على من اشتغل بتواليفهم وترك كتب الأقدمين من الفقهاء.. وتخدرت الأنظار بسبب
الاختصار، فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك
الرموز.. فضاعت أيام الفقهاء في الشروح.. وتحمل الفقهاء آصاراً وأثقالاً بسبب
إعراضهم عن كتب المتقدمين.. وأحاطت بعقولنا قيود فوق قيود.. فالقيود الأولى:
التقيد بالمذاهب.. الثانية: أطواق التأليف المختصرة المعقدة التي لا تفهم إلا
بواسطة الشروح.. أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه
فوق جبل وعر بعدما صيروه غثاً.. حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه
حُكْرة بيد المحتكرين ليكون وقفاً على قوم من المعمَّمين، وأن ليس القصد منه العمل
بأوامره ونواهيه وبذله للناس.. وحاشاهم من أن يقصدوا شيئاً من هذا؛ لأنه ضلال
في الدين؛ وإنما حصل من دون قصد؛ فيا لله! أين نحن من قوله عليه السلام:
» سددوا وقاربوا « [6] ، وقوله:» بلِّغوا عني ولو آية.. « [7] .. ولله درُّ عبد
العزيز اليحصبي حيث قال:» هذه الأعمار رؤوس أموال يعطيها الله للعباد
يتَّجرون فيها، فرابح وخاسر؛ فكيف ينفق الإنسان رأس ماله في حل مقفل كلام
مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله، ورسوله الذي بعثه إليه « [8] .
ب - أن التعليم الفقهي مبني - في الغالب - على حفظ المسائل والخلاف فيها،
وقد أشغل ذلك عن ضبط الكليات وتنظيم الفروع تحت أصول تشدها وتيسر تنمية
الملكة الفقهية في التطبيق الفقهي. يقول القرافي في كتابه الذخيرة:» وأنت تعلم
أن الفقه وإن جلَّ، إذا كان مفترقاً تبددت حكمته وقلَّت طلاوته وبعدت عند النفوس
طَلِبَتُه، وإذا رتبت الأحكام مخرَّجة على قواعد الشرع، مبنية على مآخذها نهضت
الهمم حينئذ لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها « [9] .
ج - عدم بيان حكمة الشريعة ومعناها، والمصالح التي ترعاها في الأحكام،
وقد تنبه الفقهاء لأهمية ذلك في تمكين الشريعة وبسط أحكامها. يقول ابن تيمية:
» ومعرفة الحِكَم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم؛ فمنه الجلي الذي
يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم « [10] .
وبيَّن أثر معرفة الحكم والمعاني وكليات الدين الجامعة لمصالحه فقال:» فإن
معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله.. من أعظم العلوم نفعاً؛ إذ
المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة « [11] .
4 - خضوع رجال التحديث - المفكرون والساسة - للحلول الجاهزة التي
أنتجها من يقتبسون منه، وضعف مقدرتهم النقدية للنماذج المستوردة؛ بحيث لم
يمكن إخضاع تلك الإصلاحات للشريعة ومقاصدها، وكثيراً ما يتسبب ذلك في
الضعف النقدي في حركات المقاومة أو التمرد، وفي أحسن الأحوال تواجههم مشكلة
سلبية المجتمع وصعوبة انتمائه إلى مشروعاتهم، ويتضاعف هذا الجانب في حالات
التطرف التغريبي؛ إذ يصاحبه بخس للتراث وواقع المجتمع ومزاياه يصل إلى
مستوى الشتيمة المجافية لمكارم الأخلاق ومناهج العلم، كما حصل في كثير من
مشروعات التنمية المعاصرة.
وقد يصل خطاب هذا التيار إلى مستوى السذاجة والخرق كمقولة استنساخ
حضارة الغرب بعنبها وشوكها، وحلوها ومرها التي أطلقها بعض مفكري النهضة
المعاصرة، أو ترديد بعضهم لسجعات خاوية يستغفل بها المخاطب عن برهنتها،
وهل يغني هذا النثر المرسل عن الدراسات التي تؤسس عليها النظم الاقتصادية مثل
قول بعضهم: لا اقتصاد بلا بنوك، ولا بنوك بلا فوائد، ويؤدي هذا التقليد المطلق
إلى تقليص الأعمال النقدية التي تستلهم الصالح من التراث والمجتمع، وتضم إليه
الصالح من الحضارات بعد إخضاعه لأصول الشريعة ومقاصدها.
ومن عجائب هذه الظاهرة أن روادها يتغنون بالحرية النقدية وهم أعجز ما يكونون
عن ممارستها بأنفسهم، فتحول فكرهم إلى حفظ وتقليد محض لما تعلموه بعيداً عن
وسائل النقد والمنهجية التي تعلموها؛ فلم تغادر مقاعد دراستهم في جامعات
الغرب [12] .
ومن آثار ظاهرة العجز النقدي لدى التحديثيين عدم مبالاتهم بالرأي الفقهي
والفكر الإسلامي مما أدى إلى قطيعة خاصة في البيئات المحافظة التي لا تحسن
التعامل مع الآراء المخالفة وتقريبها، وهذا بدوره ما يغذي انفراد التغريب بالعملية
التشريعية أو تعميق انقسام المنظومات القانونية بحيث يتحكم كل قطاع في ما تحت
يده من مؤسسات.
5 - ازدهار المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي تؤسس نظريات وضعية
تستغني عن وظيفة الدين الكنسي في الغرب؛ وذلك بعد انهيار الكنيسة بوصفها
مرجعية في الأمور الدنيوية، وانهيار الإقطاع بوصفه نظاماً اجتماعياً وسياسياً، وقد
جاءت تلك التغيرات بعد نهضة العلوم في الغرب واقتباس مناهج لتحصيل الحقائق
في المجالات الإنسانية. وبالفعل انتشرت في فجر القرن التاسع عشر - وهو
العصر الذهبي لانتشار القوانين الغربية في العالم كما سيأتي - الفلسفات المؤسسة
للعلوم الاجتماعية خارج النظام الديني بل وخارج النظام القيمي التقليدي، ويكفي
لمعرفة ذلك مراجعة أشهر الفلاسفة مثل (جريمي بينتام) الذي توفي سنة 1832م،
وهو فيلسوف القانون الإنجليزي الداعي إلى تأسيس التشريع على مبادئ المنفعة،
ويرفض بناء التشريع على أساس التقاليد والدين، ويمنع تجريم أي فعل لا يؤذي
أحداً بعينه، وقد أصدر مجلة للدعوة إلى الإصلاح القانوني [13] .
و (ستيوارت ميل) الذي توفي سنة 1873م، الداعي إلى إفساح المجال
للحرية الشخصية لدعم الفكر والعلوم ما لم ينتج عن الحرية ضرر بالآخرين،
و (أوجيست كونت) الذي توفي سنة 1857م مؤسس الفلسفة الوضعية، وكان يرى
أن تراجع القيم الدينية والتقليدية بسبب تغيرات أوروبا التي أشرت إليها قد أوجد
أزمة اجتماعية في أوروبا، وسعى من خلال الوضعية إلى تأسيس نظام اجتماعي
وضعي [14] .
لقد كان أولئك وغيرهم من الفلاسفة إزاء أزمة عميقة في أوروبا بعد انهيار
النظم القديمة - الكنيسة، الإقطاع - وقد أوجد هذا الفراغ مناخاً ملائماً لابتكار
أنظمة اجتماعية جديدة، ومنها النظم القانونية والسياسية. أما في العالم الإسلامي
فالظرف مختلف تماماً؛ فمع كل عيوب التقليد الفقهي إلا أننا أمام مؤسسة عظيمة
قادرة بين حين وآخر على تجديد نفسها، ويكفي للبرهنة على هذا التجديد أن تنظر
في مصادر الفقه المذهبية وتقارن حجم التغيير الذي أحدثه المجددون المذهبيون في
العصور المتأخرة. انظر مثلاً في حاشية ابن عابدين تجد أن النقل عن مجدد
مشهور هو شيخ الإسلام أبو السعود العمادي الحنفي يبلغ حوالي 250 مرة ليضخ
في المذهب من اجتهاداته ما يزيل كثيراً من مواضع الحرج والضيق ليتسع الأمر
مرة أخرى بعيداً عن قيود المذهب. أما في المذهب الحنبلي فيتكرر النقل عن ابن
تيمية في كتاب الإنصاف ما يزيد عن 1190 مرة، ويطعِّم ذلك النقل فقه المذهب
بتجديد متين ينقله إلى رحابة النصوص ورعايتها مصالح الناس بعد ضيق التقليد.
ومن خلال هذه المقارنة بين انهيار أنظمة المجتمع الأوروبي وقابلية الفقه
للتجديد بل وممارستهم له بين حين وآخر وإن لم تكن حركات التجديد بمستوى واحد
وإذا قارنا ذلك بموجات الهجرة الابتعاثية التي نشطت في القرن التاسع عشر،
وتذكرنا ضعف المقدرة النقدية يتبين لنا واحد من أهم أسباب تمكين القوانين الغربية؛
ذلك أن الفلسفات الاجتماعية كانت توهم الطلاب والمثقفين بشمولية انهيار الدين
والمجتمع فيزهد المسلمون في أنظمتهم؛ مما يدفعهم لاقتباس أنظمة نشأت وفق
شروط اجتماعية وثقافية وسياسية معينة. وقد تزامن ذلك مع ضعف المقدرة النقدية
لدى الفكر الإسلامي الذي تأخر بضعة عقود، فلما عادت القدرة النقدية أيقظت الفكر
الإسلامي المضاد، لكن بعد تمكُّن المستعمر، وفي هذا السياق المعقد يمكن إعادة
قراءة الاجتهادات الفكرية الإسلامية التي وقع أصحابها في أخطاء منهجية عديدة
كجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وغيرهم.
6 - عزلة الجمهور عن قضايا الأمة الكبرى وقلة وعيه في هذا المجال، مما
يسهل تسخيره لمناصرة ما فيه إضرار بمصالحه وقيم الدين، ويعزز هذا ضعف
بيان المتخصصين الشرعيين لهذه القيم والمصالح وتقديمها في صورة واضحة
مقارَنة تبيِّن حكمة الشريعة وجلالها، وتعمق العلم الشرعي بما يستوعب المصالح
والحقوق المتجددة وفق هدي الشرع وضوابطه، وهذا ما يفسر سهولة انقياد
الجمهور للحركات المناوئة للشريعة ومصالح الأمة لمجرد تبني تلك الحركات
لمشروعات إصلاحية في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة؛ لكنها قد تهدم من
المصالح ما يزيد عما تصلحه إذ أعرضت عن الشريعة، أو قد تبطن بعض حركات
الاصلاح من المقاصد ما لا تظهر كما فعل حزب الاتحاد والترقي وغيره. والعاصم
من كل ذلك هو اليقظة الفكرية الإسلامية التي تضمن استيعاب كل مصلحة ودرء
كل مفسدة بالقدر الذي يمنع انفراد تلك الحركات بمصالح الناس بعيداً عن هدي
الشريعة ومقاصدها، وهذا وظيفة التعليم الشرعي الكلي، وربما يتيسر تفصيل ذلك
في مقال مستقل.
إن الظروف التي أحاطت بالعالم الإسلامي - كما يظهر مما تقدم وغيره - لم
تكن وحدها قادرة على تمكين التغريب التشريعي لو لم يتدخل المستعمرون لفرض
التشريع، ذلك أن لدى الفقهاء المقدرة على التجديد وملاحقة التغيرات بالتأصيل
والمراجعة والضبط، وهذا ما يبينه تاريخ التجديد الداخلي يوم يترك الفقهاء وميادين
العمل مهما تأخرت حركتهم؛ ففي أصعب الظروف كان وهج الشريعة ونور الكتاب
والسنة يمدان العلماء بما يضيء الطريق في ظلمات المحن التي تحيط بالأمة.
ومن شواهد ذلك تلك النهضة الجليلة للفقه الإسلامي التي أثارتها ظروف
الحروب الصليبية؛ إذ تزامن معها نهضة علمية كانت تقدم الزاد والهداية لأعمال
الجهاد المقاومة للغزو الصليبي على المستويات الفكرية والاجتماعية، لتلمع تلك
الأسماء الكبيرة المعروفة كالجويني، وابن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية،
وابن القيم، والشاطبي، وهم متوالون في الميلاد والوفاة، ولتقدم الزاد العلمي
والفكري الذي نهضت به الأمة يوم تصدى لها الرجال العاملون في حركات التجديد
الحديثة منذ دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب إلى الدراسات والدعوات
الحديثة.
نماذج للتغريب التشريعي:
أ - تغريب التقنين في الدولة العثمانية.
ب - تغريب التقنين في مصر.
أ - تغريب التقنين في الدولة العثمانية:
تميزت الدولة العثمانية بقدراتها الحربية، وأنشأت تنظيماتها العسكرية التي
حققت نجاحاً مدوياً في القارات الثلاث، وكانت فرنسا تطلب المعونة العسكرية من
الخلافة، كما فعل فرانسوا الأول سنة 1525م مع السلطان سليمان القانوني.
وكانت الدولة في عهد سليمان هذا قد بلغت ذروة تنظيمها وقوتها؛ فقد كان
حريصاً على إقامة العدل، وتنظيم القضاء، وكان شعاره الذي كتبه على ديوانه
يتضمن بيان ترابط قوة الدولة بقوتها الاقتصادية، وارتباط قوة الاقتصاد بالعدل؛
فأصدر بمعونة شيخ الإسلام تنظيمات للقضاء، وبعض القوانين لضبط جوانب مما
لم يستطع تركه للاجتهاد، كتنظيم أراضي بعض المناطق الصربية المفتوحة،
وتقرير بعض القواعد مثل منع نظر الدعوى المتقادمة لدى القضاء العام وغير ذلك،
ويمكننا أن نقسم مراحل التغيير القانوني في الدولة العثمانية إلى مراحل رئيسية،
أحاول تقريب شتاتها فيما يلي:
1 - مرحلة التنظيم الأصيل المؤسس بإرادة ذاتية: ويشمل هذا التنظيمات
التي افتتحها السلطان سليم الأول المتوفى سنة 1520م بتبني المذهب الحنفي مذهباً
للدولة، وشهدت ذروتها مع السلطان سليمان القانوني، وكان التقنين يصدر في هذه
المرحلة على شكل فتاوى يصدرها شيخ الإسلام بناءً على استفتاء السلطان، وكانت
تتم وفق أصول الشريعة في الغالب، ويرعاها فقهاء متخصصون، من أشهرهم
شيخ الإسلام أبو السعود [15] .
وقد انتاب هذه المرحلة تجاوزات عديدة، وكانت في مجملها - رغم تدين
السلطان سليمان - أعمالاً سياسية تهدف إلى تعزيز قدرة الدولة العثمانية بعد تحقيق
البرتغاليين لنصرهم الكبير بالسيطرة على طريق تجارة الشرق باكتشافهم لطريق
رأس الرجاء الصالح، وتحول التجارة عن البحر المتوسط والموانئ العربية
والإسلامية إلى لشبونة مما أفقد اقتصاد المنطقة أخطر وسائله الإنتاجية، غير أنها
كانت محلية المصدر عميقة التأثير.
2 - مرحلة تقديم الامتيازات القانونية للدول الأجنبية: وأول ما بدأ هذا
التنظيم بمعاهدة بين الخلافة وفرنسا في سنة 1536م، تقدم للرعايا الفرنسيين
حصانة ضد القضاء العثماني، وتولية القنصل الفرنسي القضاء بين الفرنسيين ومن
يخاصمهم [16] . وقد تلاها فيما بعد معاهدات مماثلة مع دول أخرى.
في تلك الفترة كانت الدولة قوية العود مرهوبة الجانب، وفي سنة 1699م =
1111هـ هزمت الدولة العثمانية في معركة (كارلوفجا) وواجهت فيها تكتلاً
أوروبياً قوياً يتكون من ألمانيا وروسيا وبولونيا، وقد فوجئ العثمانيون بتقنيات
تلك الجيوش، وهزت هذه المعركة الدولة، فالتفتت إلى إصلاح مؤسساتها، فتوجه
السلطان أحمد الثالث 1703م 1730م يفتح النوافذ على أوروبا القوية يستلهم منها
وسائل القوة؛ فأغضب ذلك قادة الجيش الإنكشاري الذي كان عمود الجيوش
العثمانية خوفاً من تقليص نفوذه بالإصلاحات العسكرية الجديدة، فتآمر الإنكشاريون
على الخليفة فعزلوه، واستمر نفوذهم حتى قررت الدولة القضاء عليهم في معركة
شهيرة، وانفتح بذلك الطريق أمام إصلاح الجيش، وفي سنة 1734م بدأت عملية
إصلاح عسكرية جديدة يشرف عليها التقنيون الفرنسيون، وفي سنة 1792م أعلن
السلطان سليم الثالث إصلاحات جديدة؛ فعين سفراء في أوروبا يستطلعون وسائل
القوة والإدارة، فتواردت عليه التقارير، وعين مجلس شورى للإصلاح ناقش تلك
التقارير، وقرر سلسلة من الإصلاحات في الأنظمة المالية والعسكرية والتعليمية،
وقد افتتح ذلك عهد تغريب التعليم الحديث، وفصله عن التعليم التابع للمؤسسات
الشرعية، وسنتناول ذلك في الفقرة التالية.
3 - مرحلة تأسيس التعليم الحديث في مدارس تسمى المكاتب، لتكون
مؤسسة موازية للمدارس العامة التابعة لمشيخة الإسلام، وكانت تلك المكاتب
فرنسية المناهج، وتعليم اللغة الفرنسية فيها إجباري منذ سنة 1793م، وقد نتج عن
نظام التعليم الحديث كليات مثل الطب التي أسست سنة 1827م، غير أن ازدواجية
التعليم قد أدت إلى استقطاب عميق متنافر بين خريجي المدارس التقليدية والمدارس
الحديثة أدى إلى تقسيم المجتمع إلى تيارين رئيسين: أحدهما: تقليدي محافظ لا
يحسن رطانة التحديث وغاياته، والآخر: مبهور بالنموذج الجديد الذي استعلى
بقواته على مقام الخلافة رغم قرون التمكين والقوة، ومرغ عزتها في معارك
متوالية كان آخرها حرب القرم، وتعديات روسيا التي لا تنقطع، واحتلال مصر
سنة 1798م.
وازداد الإقبال على التعليم الحديث لتقديمه العلوم الحديثة، وكونه الطريق
النافذ إلى مناصب الدولة. ومن أسباب تعاظم النفور من التعليم التقليدي: ضعفه،
وعجزه عن استيعاب المتغيرات وملاحقتها بالتأصيل والبيان في الوقت المناسب قبل
استيراد الحلول المستغربة وفرض هيمنتها [17] .
4 - مرحلة إصدار القوانين العثمانية الحديثة التي بدأت بما يعرف بـ
(شريف كلخانة) نسبة إلى المكان الذي أعلنها فيه السلطان عبد الحميد سنة 1255
هـ = 1839م، وقد أعادت تنظيم مؤسسات الدولة وقررت المساواة بين المواطنين
وبدأت الدولة تنظم القوانين الخاصة لكل فرع من فروع القضاء كالقانون التجاري
الذي صدر 1850 م، وقانون الأراضي وقانون الجزاء و ... ، وفي هذه المرحلة
كانت القوانين تتنازعها مرجعيتان هما القوانين الأوروبية، والشريعة الإسلامية.
يقول المحامي محمد فريد بك:» وكل هذه القوانين مقتبسة من القوانين الفرنسية
مع مراعاة الشريعة الإسلامية « [18] .
وكان مرجع هذه القوانين القضائي محاكم مدنية، يراجع أحكامها قضاة تمييز
برئاسة قضاة شرعيين [19] .
5 - مرحلة الاستنساخ الكثيف المباشر؛ ففي سنة 1272هـ = 1856م
حدث تحول في مسار التشريع العثماني بسبب ضغوط هائلة من التيار الإصلاحي
الذي قرأ الإصلاح السياسي الأوروبي، وأعجب به، فتشربه ولم يكن يملك رؤيته
الخاصة، وعلى رأس هذا التيار مدحت باشا الصدر الأعظم، وكان هذا التيار
مدعوماً من بعض القوى الغربية، ومع ذلك فالمصادر تشير إلى أن مدحت باشا كان
حافظاً للقرآن الكريم، وانتظم في حلقات العلم الشرعي في جامع الفاتح في الآستانة،
كما تعلم اللغة الفرنسية ودرس الأنظمة السياسية والاجتماعية، وكان محافظاً على
الصلاة عارفاً بمدارس المدنية في العالم، وقد أظهر براعة متميزة وحزماً في عدل
في الولايات التي حكمها كالصرب وبلغاريا رغم الفتن التي كانت تموج فيها،
وكان فيه:» دروشة ويقظة « [20] .
ومع تدينه وما ظهر من صدقه فيما تولاه من أعمال إلا أنه اصطدم ببعض
العلماء الذين وقفوا في وجه تغيير الحال دون تفصيل أو برهان، فاستقطبت حركة
مدحت باشا رجالات الثقافة الحديثة المتغنين بالحريات نسجاً على منوال الغرب مثل
الكاتب الشهير نامق كمال، فصارت المعركة بين تيارين: أحدهما يدعو إلى
التحديث، والآخر يمجد الواقع ويزجر من يروم تغييره. فوقع من الفتن ما انتهى
بعزل الخليفة وتولية السلطان عبد الحميد ومن ثم إعلان التعديلات الجديدة بصدور
ما يسمى بإصلاحات: (خطي هُمايوني) أي مرسوم السلطان الإصلاحي ليتضمن
كثيراً من المكاسب كتأسيس مجلس نيابي، وبيان الحقوق والواجبات لرجالات
الدولة ومؤسساتها، وفي الوقت نفسه ما يماثلها من المخاطر وخاصة تعزيز مواقع
الأقليات غير المسلمة من النصارى واليهود وغيرهم، ومنحهم من الامتيازات ما
يفوق حقوق المسلمين [21] ؛ ليتكون من كل ذلك وسيلة فاعلة لخلخلة وحدة الشعب
العثماني بين التحديث والتقليد والوطن والقوى الغربية، وقد حدث ذلك رغم وعي
مدحت باشا بمخاطر استنساخ النظم القانونية والمؤسسية الغربية؛ فقد كان يشبِّه أخذ
قوانين أوروبة باستيراد آلة نسج لا يعرف أهل البلاد تشغيلها، إلا أنه مع ذلك لم
يزد على أن:» يدرس قوانين أوروبة ونظمها ويختار أنسبها «. ويلاحظ أن
مشروعه يعتمد على الاختيار بين الأنسب من القوانين الموجودة، ولم يكن التطوير
الذاتي متاحاً.
فهل كان يملك من الوقت أو الرجال القادرين على ابتكار الحلول النابعة من
مؤسسات المجتمع وشريعته، وإدخال ما تحتاجه من وسائل الأداء الحديثة الناجمة؛
فأعرض عن ذلك وتنكبه، أم أن العلاقة بين هذا التيار والفقهاء والقوى المحافظة لا
تساعد على تحقيق ذلك الهدف، أم أنه الضغط الأجنبي، أم هي غفلته ودروشته
التي أشار إليها أحمد أمين تحت هاجس الإصلاح الضروري لبعث القوة في الدولة
التي تدهورت وأنهكتها الديون والفساد؟ وما دور حزب تركيا الفتاة وأحراره، وما
مدى صلة فروع الحزب بألمانيا في فرع مدينة سالونيك الذي استغله الألمان، وفرع
الحزب في مانستر بيوغسلافيا الذي استغله البريطانيون من خلال علاقاتهم السرية
المعقدة؟ وما الذي كان يفعله السلطان عبد الحميد مقتنعاً، وما الذي فعله تحت
الضغط وأمل جمع المعارضين؟
أسئلة كثيرة تتوقف إجابتها على مزيد من التحقيق والبحث، وربما تتيسر
العودة إلى دراسة التطورات الدستورية في دولة الخلافة في وقت لاحق.
إن أشد ما يلفت النظر في تلك التغييرات ما تضمنته من دعم للتغيير
الاجتماعي واللبرالية وتعطيل حد الردة، وفتح الأبواب للمؤسسات الغربية لتنتشر
في المجتمع العثماني كالمدارس التبشيرية، والمؤسسات الثقافية الأوروبية؛ ففي
المراحل اللاحقة بلغ عدد الطلاب المترددين على المدارس الفرنسية وحدها ما يزيد
عن ثمانية وسبعين ألف مواطن عثماني في السنة الواحدة، ولنقرأ آثار تغريب
التعليم بهذا الشكل في نص للشيخ مصطفى صبري - رحمه الله - يقول:
» والعجب أن الضغط على الدول الإسلامية لكفها عن العمل بقوانين الشرع الإسلامي
كان يأتي في الزمن القديم من الدول الصليبية، وكان يقتصر على مسألة التسوية
بين المسلم والذمي، والآن ينوب عن تلك الدول فريق من المسلمين المتعلمين في
مدارس تلك الدول نيابة تعدت حدود الأصالة « [22] .
إن الاستطراد في بيان نفوذ التغريب الثقافي في هذا المقام هدفه بيان الضغط
الذي تولده الثقافة الناشئة عن الثقافة الجديدة، وأهدافها.
لم تكن الأهداف التغريبية الاستعمارية سراً؛ فقد تأسست هيئات متخصصة
في رعاية تلك الأعمال منها البعثة العلمانية الفرنسية سنة 1902م وكان هدفها
» نشر التعليم العلماني والعمل من خلاله على توسيع دائرة النفوذ الفرنسي في
الخارج «. أما استهداف النخب في البلاد التي تعمل فيها تلك المؤسسة فقد جاء
صريحاً في خطاب وزير الخارجية الفرنسي أمام مجلس الشيوخ قال فيه:» أعتقد
أن بالإمكان تقديم دعاية وطنية حقاً، وذات فائدة كبيرة في بلدان المشرق إذا دعمنا
بقوة البعثة العلمانية التي تضم أعداداً كبيرة من القوى المتنورة « [23] .
وفي تقرير لمؤسسة أخرى ورد:» كانت تركيا دوماً في رأس
اهتماماتنا « [24] .
وتعمل مؤسسة أخرى على دعم اليهود في تركيا تسمى: (الأليانس
الإسرائيلية العالمية) تأسست سنة 1860م. يقول عنها أحد النواب الفرنسيين:
» هكذا نفهم إلى أي مدى كانت هذه المؤسسة بأعمالها العظيمة في خدمة مصالح
بلادنا.. وفي توسيع دائرة نفوذ الأفكار والحضارة الفرنسية « [25] .
وقد كانت مدارس هذه المؤسسة في الخلافة العثمانية تضم قرابة خمسين ألف
طالب في مرحلة تالية. ومن جهتها أظهرت الجهود الفرنسية اليهودية نموذجاً
للمثابرة الغربية الدؤوبة لتقويض اللحمة الوطنية وخلخلتها لتمكين النفوذ الأجنبي
بدعم شامل من التشريعات التي ضغطت تلك الدول لإصدارها.
ويدعم هذا التيار العام صحافة ليبرالية قوية تبنت إصلاح الوضع السياسي
المتدهور، ومزجت معه دعوات التغريب الشامل، في الدولة، والأخلاق،
والتشريع، والإعلام.
لقد أدرك المفكرون بشكل عام والفقهاء بشكل خاص خطر موجة التغريب
التشريعي الجارية، والظروف التي تؤدي إلى إقبال رجال الدولة على استنساخ
النماذج الغربية ومنها القوانين؛ وخاصة أن الاندفاع الهائل للثورة الفرنسية قد
أدهش العالم، وضاعف ذلك الزخم النفسي الذي ولدته حملات نابليون بونابرت
على دول أوروبا، وانتصاراته التي توجته سيداً لأوروبا غير منازع من قواها
التقليدية؛ اكتمل ذلك في فجر القرن التاسع عشر، وحمل معه مبادئ الثورة المدوية
فاستجابت له المجتمعات الأوروبية التي كانت ترزح تحت نير الإقطاع وسلطان
الكنيسة، وتشدها آمال النهضة التي تجسدت في البرجوازية الناشئة في قطاع
التجارة والصناعة، وبريق العلم الذي أجاب عن كثير من أسئلة تلك المجتمعات.
امتدت ظاهرة تغريب القوانين أو فرنستها لتشمل اليابان والصين والهند
وإيران ومصر وشمال أفريقيا، وأفريقيا السوداء، فضلاً عن دول أوروبا وبعض
ولايات أمريكا وكندا [26] .
أمام هذه التحديات بادر أحمد جودت باشا وزير العدل المرشح لهذا المنصب
من قِبَل شيخ الإسلام وأحد فضلاء فقهاء الخلافة المطلعين على القوانين الغربية؛
فتبنى حماية الحصون الفقهية من خلال تدوين الفقه الحنفي بطريقة حديثة تزحم
القوانين الوافدة، وترعى مصالح المجتمع الحديثة دون إخلال بأصول الشرع، وقد
نجح في مسعاه فأنجز مجموعة من كبار الفقهاء وضع المجلة في بضع سنين،
ويظهر من تقرير اللجنة إلى الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - سنة 1286هـ =
1867م أن هدف المجلة تقريب الفقه الحنفي إلى رجال القانون الذين يطبقون
القوانين الجديدة حتى لا تؤدي صعوبة الوصول إلى الفقه الشرعي إلى سن القواعد
الوضعية في المجال المدني. يقول التقرير:» والحال أن أعضاء مجالس تمييز
الحقوق - أي القانونيين - لا اطلاع لهم على مسائل علم الفقه.. الدعاوى التجارية
التي لا حكم لها في قانون التجارة فيحصل بها مشكلات عظيمة.. وإذا قيل لأعضاء
محاكم التجارة أن يراجعوا الكتب الفقهية فهذا أيضاً لا يمكن؛ لأن هؤلاء الأعضاء
على حد سواء مع مجالس تمييز الحقوق في الاطلاع على المسائل الفقهية.. بناءً
على ذلك لم يزل الأمل معلقاً بتأليف كتاب في المعاملات الفقهية سهل المأخذ لكل
من نواب الشرع، ومن أعضاء المحاكم النظامية، والمأمورين بالإدارة، فيحصل
لهم بمطالعته انتساب إلى الشرع.. فيصير هذا الكتاب معتبراً مرعيَّ الإجراء في
المحاكم الشرعية، مغنياً عن وضع قانون لدعاوى الحقوق التي ترى في المحاكم
النظامية.. وبموجب الإرادة العلية اجتمعنا في دائرة ديوان الأحكام، وبادرنا إلى
ترتيب مجلة مؤلفة من المسائل الكثيرة الوقوع.. « [27] . وقد صدر الأمر العالي
بتطبيقها سنة 1293هـ = 1876م.
آثار صدور مجلة الأحكام:
يبين تاريخ التشريع الدور المؤثر لمجلة الأحكام العدلية في حماية مرجعية
الشريعة على مستويات عديدة، من أهمها:
1 - تقديم بديل شرعي أدى إلى ضمان مرجعية الشريعة في النظام القانوني
العثماني والبلاد التابعة له مدة طويلة في وجه التغريب؛ فقد استمر تطبيقها حتى
ألغيت سنة 1926م في تركيا ضمن عمليات التغريب الشاملة الأتاتوركية، واستبدل
بها قانون الديون السويسري. أما في العالم العربي فقد استمر تطبيقها إلى سنة
1976م في الأردن، ولا زال بعضها مطبقاً في لبنان وقبرص وبعض البلاد [28] ،
وأسهمت المجلة في حماية عدد من البلدان من هجمات التغريب القانوني حيث
ورثت التشريعات العربية مكان المجلة بعد عودة روح الاستقلال والعودة للشريعة
كما في الأردن وسوريا والعراق والإمارات، وإن كانت العودة في مراحلها
الأولية.
2 - إقامة الصلة الوثيقة بين المحاكم الحديثة والفقه الشرعي في المسائل
المسكوت عنها في القوانين الحديثة وهي مسائل واسعة، ويظهر ذلك من تقرير
النظارة العدلية المشار إليه أعلاه، وهو منشور بكامله في مقدمة درر الحكام للعلامة
علي حيدر شارح المجلة ورئيس محكمة التمييز ووزير العدل وأستاذ الحقوق في
كلية الحقوق بالآستانة.
3 - أن المجلة أوجدت فرصة عظيمة لإعادة تدوين مسائل الفقه الإسلامي
المتناثرة في مراجع الفقه الحنفي في مرجع واحد سهل المأخذ، منظم وفق الهيكل
المعتاد في الدراسات القانونية الحديثة؛ مما أقام الصلة بين خبراء القانون والفقه
الحنفي، ويعرف هذا بمراجعة الدراسات القانونية المقارنة على امتداد أكثر من مائة
عام.
4 - أن المجلة أصبحت هي اللبنة الأساسية التي أقيم عليها مشروعات
القوانين المدنية في الدول الإسلامية بعد انفراج ضغوط الاستعمار وإن لم تبلغ تلك
القوانين مستوى التحرر المطلوب، وكان للمجلة أثر ملموس في التعبئة المعنوية
للأمة في مراحل الانبهار بالغرب الغازي.
5 - أن المجلة كانت وسيلة فعالة لتخليص الفقهاء من الجمود المذهبي الذي
كاد أن يؤدي إلى إحلال القوانين الغربية إحلالاً شاملاً، وخاصة مع ضيق الفقه
الحنفي في أبواب المعاملات والشروط بوجه خاص؛ فتقرير تقديم المجلة المذكور
أظهر صعوبة مواجهة التقليد المذهبي الذي كاد يعصف بمشروع المجلة كله، لكن
الله - تعالى - يسر لها أن ترى النور. ويبين التقرير أمثلة على المسائل المذهبية
التي اختيرت في المجلة مما قرره الفقهاء مما يخالف المذهب الحنفي، وقد صدرت
تعديلات للمجلة توسع مجال الشروط لتأخذ بما قرره ابن تيمية من جواز الشروط.
أود أن أختم هذه الحلقة بتسجيل نجاح التحديثيين وانتصارهم بقيادة الصدر
الأعظم مدحت باشا في مشروعهم الدستوري بالمقاييس التي فكروا في إطارها؛ فقد
أدخلوا الدولة التي دمرها الفساد والاستبداد في دائرة الدولة النيابية والدستورية،
غير أن المسار العام الذي اختاروه لم يحقق ما كانوا يطمحون إليه لتنهار الأمة
العثمانية في المشروع الاتحادي نسبة إلى حزب الاتحاد والترقي فتتهاوى مؤسسات
الدولة وأقاليمها، ثم يعلن الاتحاديون تصفية الخلافة التي ضحى مدحت باشا ورفاقه
لتعزيزها وتطويرها من خلال التحالف على مفاهيم وآليات لم تتواءم مع نسيج الأمة
الراسخ وثقافتها التي تحقق لحمة سوادها العريض، فكان ذلك النصر سبباً لتفويت
مصالح كبرى لم تكن لتضيع لو قدر لذلك الإصلاح أن يستنبت في نسيج الأمة
ويترقى بها على مهل وروية فكرية وسياسية.
أما النصر الثاني فهو ما حققته المجلة وفقهاؤها؛ فقد حفظت للأمة الفقه
الحنفي، بل وسلمته لأجيال تالية فتلقفته وقد ذهب وهج انتصارات أوروبا
وتطويحها بأنظمة الإقطاع وسلطة الكنيسة ليكون فقه المجلة وسيلة التواصل بين
القانونيين والفقه الإسلامي، ويكفي لبيان هذا الأثر العميق للمجلة أن أحد أشهر
مراجع الفقه الإسلامي في كليات الحقوق وأقسام الفقه في الجامعات العامة هو كتاب
(المدخل الفقهي العام) للشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - وهو تنظيم وتطوير
للمادة الفقهية مستقى من الفقه الحنفي ومجلته على وجه الخصوص، وبهذا قادت
المجلة قوافل العودة إلى الفقه الإسلامي في أبحاث الحقوق رغم أنها لا تؤدي إلا إلى
مذهب الحنفية، فكانت هذه الظاهرة نصراً لتيار تجديد الفقه، وقارن هذا النجاح
الفقهي مع تيارات المجتمع التركي المتذمرة من مشروع التغريب العلماني المتطرف
التي لم تبتكر وسائل فاعلة لمقاومة التغريب واستيعاب المصالح المشروعة التي
نشأت حركة التغريب لتحصيلها [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .
في الحلقة التالية سوف نتدارس - إن شاء الله - التجربة المصرية وما فيها
من العبر لنصل إلى خطوات العمل التي يفتقر إليها واقعنا بعون الله - تعالى -.
والله الموفق.
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.
(1) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، عبد المجيد الصغير، ص 310.
(2) الخطط للمقريزي 1/106-107، نقلاً عن عبد المجيد الصغير، مرجع سابق، ص 311.
(3) المرجع السابق، ص 314.
(4) المقدمة، ص 52، انظر الفكر الأصولي، عبد المجيد الصغير، مرجع سابق، ص 317.
(5) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد الحجوي، دار التراث، 2/418.
(6) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، ح/ 39، مسلم في كتاب صفة القيامة، ح/ 2818.
(7) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، ح/ 3461.
(8) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الحجوي، مرجع سابق، 2/393 394.
(9) الذخيرة، شهاب الدين القرافي، تحقيق د محمد حجي، دار الغرب الإسلامي 1/36.
(10) مجموع الفتاوى 20/569.
(11) مجموع الفتاوى 10/369.
(12) انظر مراجعة شاملة لهذه الظاهرة أعني العجز العلماني النقدي في التعامل مع الحضارة والمجتمع العربي في مؤلفات الدكتور برهان غليون، مثل (مجتمع النخبة) ، و (اغتيال العقل) ، و (الدولة ضد الأمة) وغيرها، ومؤلفات المستشار الفاضل طارق البشري.
(13) الموسوعة الفلسفية، عبد المنعم الحفني، ص 110 111.
(14) موسوعة العلوم الاجتماعية، ميشل مان، تعريب عادل الهواري وسعد مصلوح، مكتبة الفلاح، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1414هـ، ص 140.
(15) الأوضاع التشريعية في الدول العربية، صبحي محمصاني، دار العلم للملايين، ط الرابعة، ص 178، 183م، هوامش د محمد سراج وزميله ص 202، في تاريخ التشريع الإسلامي، كولسون.
(16) انظر نص المعاهدة في (تاريخ الدولة العلية العثمانية) ، محمد فريد بك، تحقيق د إحسان حقي، دار النفائس، ص 223.
(17) الأوضاع الثقافية في تركيا القرن الرابع عشر، رسالة دكتوراه، د سهى صابان، كلية الشريعة بالرياض، قسم الثقافة الإسلامية.
(18) تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد، مرجع سابق، ص 702، الأوضاع التشريعية، مرجع سابق، ص 192.
(19) انظر: الأوضاع التشريعية، صبحي محمصاني، هوامش الدكتور محمد سراج، مرجع سابق ص 202.
(20) زعماء الإصلاح، أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 32.
(21) الأوضاع الثقافية في تركيا، مرجع سابق، ص 4 6، زعماء الإصلاح، ص 46.
(22) الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، د مفرح القوسي، الطبعة الأولى، مركز الملك فيصل بالرياض، ص 531.
(23) الإمبريالية الفرنسية والولايات العربية في السلطنة العثمانية، جاك توبي، تعريب مسعود ظاهر, الفارابي، 1990م، ص 130.
(24) جاك توبي، مرجع سابق، ص 131.
(25) جاك توبي، مرجع سابق، ص 132.
(26) الدولة المستوردة تغريب النظام السياسي، برتراند بادي، ترجمة لطيف فرج، دار العالم الثالث، بالتعاون مع البعثة الفرنسية للأبحاث والتعاون القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1996م، ص 175 فما بعدها، مدخل إلى النظام القانوني في الولايات المتحدة، أآلان فارنثورث، ترجمة عبد الهادي عباس، دار الحصاد دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1996م، ص 145، 151.
(27) تاريخ الدولة العلية العثمانية، مرجع سابق، ص 546 553.
(28) الأوضاع التشريعية في الدول العربية، صبحي المحمصاني، مرجع سابق.(162/18)
الإسلام لعصرنا
ماذا وراء كسر طالبان للأوثان؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
ما هذا الذي أقدمت على تكسيره طالبان؟ إنه حجر في صورة إنسان! فلو أن
الناس رأوه على حقيقته الظاهرة هذه حجراً في صورة إنسان لما حرصت على
تكسيره طالبان، ولا أمر بكسره دين من الأديان. لكن الناس رأوا فيه ما ليس فيه؛
رأوه إلها وما هو بالإله، ورأوا أنهم يضاهون به خلق الله، ولا أحد يخلق مثل خلق
الله؛ فكان كسره كسراً لهذا التصور المفسد لقلب الإنسان.
[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً]
(طه: 97) .
فالكسر وسيلة لإقامة الدليل القاطع على بطلان ذلك التصور الفاسد.
[فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى
أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ
الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ] (الأنبياء: 58-67) .
والكسر هذا ليس مختصاً بالتماثيل التي تعبد من دون الله، وإنما هو شامل
للبشر الذين يرون أنفسهم آلهة من دون الله، فيصدقهم ضعاف العقول ويتخذونهم
فعلاً آلهة من دون الله. وكسر البشر كسران: كسر بالحجة والبرهان، وإلا فهو
كسر ككسر الأوثان.
[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
(البقرة: 258) .
وكسر الذين ينصبون أنفسهم آلهة من دون الله هو أيضاً كسران: فكسر قدري
يتولاه المولى - عز وجل -: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] (القصص: 38-40) .
وكسر شرعي يقوم به العباد المؤمنون تنفيذاً لأمر الله - عز وجل -.
فكسر الأوثان ليس إذن بدعة جاء بها خاتم أنبياء الإسلام، وإنما هو سنَّة
مطردة دعا إليها وطبقها كل رسل الإسلام. إنها أمر لازم للدعوة إلى إخلاص
العبادة لله. إنها سنَّة ذات جذور عميقة في تاريخ الأديان التوحيدية. وهذا هو
الإرث الذي ينبغي أن تحافظ عليه وتعتز به البشرية، لا إرث بوذا وفرعون
وهامان.
وقد أشار إلى شيء من هذا كاتب أمريكي منصف في مقال له بجريدة
الواشنطن بوست [1] بدأ الكاتب مقاله بنص من التوراة عن تحريق موسى عليه
السلام لإله السامري. ثم قال: «إن ما تفعله طالبان بالتماثيل في أفغانستان يبدو
كأنه عمل تدميري لا عقل فيه، بيد أنه ذو جذور عميقة في تقاليد مشتركة بيننا
وبينهم» . ثم ذكر كلمة إنجليزية قال إنها كانت تعني في الأصل محطم الأوثان،
لكننا صرنا نتذبذب بين تحطيم الأوثان وعبادة الأوثان. ثم ذكر أن أفلاطون كان
يريد منع الفن التصويري؛ لأنه كان يعده خداعاً، وأن النصارى كسروا صور
الآلهة الرومانية واليونانية في كل أنحاء الإمبراطورية، وأن المبشرين بالنصرانية
فعلوا الشيء نفسه في كل أنحاء العالم. وقد كانت الدعوة الإصلاحية للوثر وكالفن
إلى حد ما رد فعل لعبادة الكاثوليك لمريم والأولياء. وقد حطم البروتستانت صوراً
كاثولوكية لا حصر لها. ثم قال: «إن تحطيم الأوثان أمر لا يمكن فصله عن
التوحيد» ، ثم انتقد تحطيم طالبان لتمثالَيْ بوذا لكنه عاد ليقول: «إن فهم طالبان
للإسلام متصل اتصالاً مباشراً بالفهم السائد لدين موسى» .
ثم ذكر ملاحظة طريفة جديرة بالتأمل والاعتبار فقال: «إن الأوثان التي
حطمتها طالبان ليست أصناماً يعبدها البوذيون؛ فالبوذية ماتت في أفغانستان منذ
ألف عام. إن الأصنام التي حطموها هي أصنامنا نحن. نحن أهل الغرب العلماني
قد استبدلنا - إلى درجة ما - الفن بالدين. صار الفن عندنا شيئاً مقدساً تجب
المحافظة عليه، في مبان أشبه بالقلاع نحج إليه» .
ثم قال: «الفن عندنا روحي، خالد، متعال. لقد جعلنا الفن عبادة صنمها
العمل الفني. ولذا فإن محطمي التماثيل المحدثين يرعبوننا كما أرعب محطمو
التماثيل في العالم القديم عباد الأصنام. لقد بدا أحياناً في الأيام القليلة الماضية أن
مشاعرنا يحركها الكرب الذي أصاب التماثيل أكثر من الكرب الذي أصاب شعب
أفغانستان ... لكن طالبان يعرفون جيداً كيف يخيفوننا. إنهم يعرفون ديننا،
ويعرفون دينهم. إنهم يقومون بعمل هو من صميم دينهم، وفي الوقت نفسه يثيروننا
إثارة قصوى بمهاجمة ديننا» .
قلت: ذاك تفسير معقول للضجة التي أثارها الغربيون العلمانيون؛ فما بال
بعض المسلمين يضجون مثل ضجيجهم؟ حاشاهم أن يكونوا عباداً للأصنام، وهم
حتى لو كانوا علمانيين لم يصلوا إلى درجة تقديسهم للفن تقديس الغربيين.
ما بالهم إذن؟ أما خيارهم فلا يشكُّون في أن كسر الأصنام عمل مشروع أمر
به النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم يقولون إن الرسول إنما كسر الأصنام العربية
بعد أن هزم العرب المناوئين له في ساحة القتال، وبعد أن دانت له الجزيرة العربية
ودخلت في الإسلام. لكننا اليوم مستضعفون نخشى أن يثير هذا العمل ثائرة بعض
البوذيين فيلحقون الضرر بأرواح المسلمين أو مساجدهم، ونحن نقرأ في
كتاب ربنا: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]
(الأنعام: 108) . فهذا اعتراض يستند إلى أصل شرعي، وهو لذلك جدير
بالاعتبار.
أما غيرهم فقد اتخذوا من الغرب مثالاً يحتذى؛ فحتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلوه. إنهم يخشون من أن يعيرهم الغرب بأنهم أناس متخلفون غير متحضرين لا
يتذوقون الفن ولا يحترمون الآثار.
يقال لهؤلاء وللغربيين العلمانيين من ورائهم: إن كان الفن هو تذوق الجمال
وصناعة الجمال فإنه لمقصد مشروع من مقاصد ديننا؛ فالله جميل يحب الجمال.
لكن من قال إن الجمال محصور في الصور والتماثيل؟ إن الجمال يكون في السلوك
[فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] (الحجر: 85) .
ويكون في التعبير؛ بل إن جمال التعبير هو أرقى أنواع الفنون؛ ونحن
أمة كتابها الهادي هو مثلها الأعلى في جمال التعبير، ونبيها رجل أوتي جوامع
الكلم. بل ويكون في الثياب: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ
وَرِيشا] (الأعراف: 26) ، [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ]
(الأعراف: 31) .
لكن جمال الحق عندنا فوق كل جمال، وهو المعيار الذي يحكم به على كل
دعوى من دعاوى الجمال. فما وافق الحق قبل وما خالفه رد، مهما كان مظهره.
وما دامت الحقيقة الكبرى التي يصلح العباد بالاعتراف بها هي أن الله وحده هو
المستحق للعبادة؛ فلا يتسامح مع أي فن تعبيري أو تصويري يتناقض مع هذه
الحقيقة.
وجمال الخلق هو جزء من جمال الحق؛ فهو كذلك معيار لقبول دعاوى
الجمال الأخرى أو ردها.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________
(1) Crispin Sartwell, Saturday, March 10, 2001, page A21.(162/30)
قضايا دعوية
إدارة الأزمات في حياة الدعاة دراسة على حادثة الإفك
محمد بن علي شماخ
يتعرض المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة لصنوف مختلفة من أنواع الحروب
والتضييق من أجل وأد هذا الدين، واجتمع في سبيل ذلك المشركون واليهود
والمنافقون والنصارى في بوتقة واحدة لتحقيق هذا الهدف، متناسين ما بينهم من
عداوة واختلافات؛ فمنذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم واجه المسلمون الكثير
من الأزمات مختلفة الأشكال اتسمت قبل البعثة بالتعذيب لكل من أسلم، ثم بالحصار
في شِعْب أبي طالب، وبعد البعثة أخذت المواجهات بين الطرفين الطابع الحربي
إلى أن توجت بحشد جيش عرمرم من مختلف قبائل العرب لحصار المدينة،
وبخيانة اليهود والمنافقين من الداخل، فكان هذا الموقف من أصعب المواقف التي
مرت بالمسلمين [إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) .
فهزم الله كيد هذه الأحزاب وعادت هذه الجيوش إلى ديارها تجر ذيول
الهزيمة والعار، فكان من أعداء الإسلام أن «عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة
خمس سنين أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن بطريق استخدام السلاح،
فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد،
وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية، ولما كان المنافقون هم
الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم من سكان المدينة، كان يمكن لهم
الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين» [1] فواجه المسلمون عدة فتن
داخلية حاول المنافقون إشعالها في الصف الإسلامي، فكان أن دارت رحى أزمات
عاتية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم الإمساك بزمام هذه الصعاب والوصول
بالمسلمين إلى بر الأمان.
إن دراسة كيفية استطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إدارة الأزمات التي
مرت به تبين «أن نظام إدارة الأزمات على الجوهر والأساس العلمي في المفاهيم
الحديثة واقع سبق أن عرفته الدولة الإسلامية العظمى منذ بداية تأسيسها على يد
رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبالبحث العلمي الدقيق في سيرته العطرة، سواء في
حياته الاجتماعية الأولى أو حياته السياسية والإدارية والحربية، سيجد المرء ما لا
يعد ولا يحصى من أصول منهجية لعلم إدارة الأزمات» [2] .
وقبل البداية في الحديث عن هذا الموضوع لا بد من تعريف مصطلح إدارة
الأزمات.
يعرِّفه لسان العرب بأن (الأزم: شدة العض بالفم كله، وقيل بالأنياب،
والأنياب هي الأوازم، وقيل: هو أن يعض ثم يكرر عليه ولا يرسله، وقيل هو
أن يقبض عليه بفيه، أزمه، وأزم عليه أزماً وأزوماً، فهو أزم وأزوم، وأزمت يد
الرجل آزمها أزماً، وهي أشد العض. قال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: كانت
لنا بطة تأزم. أي تعض؛ ومنه قيل للسنَّة أزمة وأزوم وأزامِ، بكسر الميم، وأزم
الفرس على فأس اللجام: قبض؛ ومنه حديث الصدِّيق: نظرت يوم أحد إلى حلقة
درع قد نشبت في جبين رسول الله، فانكببت لأنزعها، فأقسم عليَّ أبو عبيدة فأزم
بها بثنيتيه. ومنه حديث الكنز والشجاع الأقرع: فإذا أخذه أزم في يده أي عضها.
والأزم: القطع بالناب والسكين وغيرهما، والأوازم والأزم: الأنياب، فواحدة
الأوازم آزمة، وواحدة الأزم آزم، وواحدة الأزم أزوم. والأزم: الجدب والمحل،
قال ابن سيده: الأزمة الشدة والقحط، وجمعها إزم كبدرة وبدر، وأزم كتمرة وتمر،
قال أبو خراش:
جزى الله خيراً خالداً من مكافئ ... على كل حال من رخاء ومن أزم [3]
ويورد لنا المعجم الوسيط هذا التعريف بقوله (أزم على الشيء أزماً: عض
بالفم كله عضاً شديداً، يقال أزم الفرس على اللجام، وأزم فلان على كذا لزمه
وواظب عليه، وأزمت السنة اشتد قحطها، وأزم الحبل أحكم فتله، وأزم الباب
أغلقه، تأزم: أصابته أزمة، الأزمة: الشدة والقحط، جمع أوازم (الأزمة الأزمة)
الضيق والشدة، يقال أزمة مالية سياسية مرضية) [4] .
يحدد قاموس WEBSTER الأزمة بأنها (فترة حرجة أو حالة غير مستقرة
تنتظر حدوث تغيير حاسم، هجمة مبرحة من الألم، كرب أو خلل وظيفي) [5] .
وإجمالاً يمكن تعريف إدارة الأزمة بأنها: «عملية إدارة خاصة من شأنها إنتاج
استجابة استراتيجية لمواقف الأزمات من خلال مجموعة من الإداريين المنتقين
مسبقاً والمدربين تدريباً، والذين يستخدمون مهاراتهم بالإضافة إلى إجراءات خاصة
من أجل تقليل الخسائر إلى الحد الأدنى» [6] .
ومن خلال التعاريف السابقة يمكن تحديد (الهدف من مواجهة الأزمات بأنه
«السعي بالإمكانات البشرية والمادية المتوفرة إلى إدارة الموقف، وذلك عن طريق:
* وقف التدهور والخسائر.
* تأمين وحماية العناصر الأخرى المكونة للكيان الأزموي.
* السيطرة على حركة الأزمة والقضاء عليها.
* الاستفادة من الموقف الناتج عن الأزمة في الإصلاح والتطوير.
* دراسة الأسباب والعوامل التي أدت للأزمة لاتخاذ إجراءات الوقاية لمنع
تكرارها أو حدوث أزمات مشابهة لها) [7] .
وقد تم اختيار حادثة الإفك لهذه الدراسة لعدة أسباب منها:
1 - المدة الزمنية التي مرت بها الأزمة:
لا شك أن عامل الوقت في أي أزمة تواجه الإنسان له دور فعال في سهولة
الخروج منها، والآثار الانعكاسية لهذه الأزمة؛ فكلما طالت المدة كلما زاد تعقيد
المشكلة واتسعت دائرة الأزمة، ونظراً لما مثَّله عامل الوقت في حادثة الإفك؛ فقد
ظل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن شهر كامل يسمع الأذى في أهله كما
تقول عائشة - رضي الله عنها -:» وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني
شيء « [8] وكاد أن يقتتل الأنصار فيما بينهم (الأوس والخزرج) بهذا الخصوص
مما زاد في ثقل هذه القضية على النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - إيجاد حالة من عدم الاستقرار الأسري للرموز الدعوية:
فلم يكن من قبيل المصادفة أن يتم التشهير والقذف بحق عائشة - رضي الله
عنها - بل إن المنافقين وجدوا في إمكانية رمي عائشة - رضي الله عنها - بالزنا
فرصة لا تعوض في النيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالعائلة
تمارس» ضغطاً هائلاً قد يكون سلبياً أو إيجابياً؛ فعائلات العاملين قد تكون نصيراً
لما يقوم به الفرد في عمله أو قد تكون عائقاً في عمله « [9] ولقد كانت زوجات
الرسول صلى الله عليه وسلم من أكبر الدعامات في سبيل دعوته؛ فلقد كانت
خديجة (من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيت معه ربع
قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته،
وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها. يقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس،
وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد
غيرها «) [10] .
3 - النيل من القيادات الدعوية:
لا شك فيما تمثله القيادة من أهمية في وسط أي مجتمع؛ فهي تعتبر الواجهة
الفعلية له، وفي حالة المجتمع الإسلامي تعتبر القيادة الدعوية هي صمام الأمان لهذا
المجتمع أمام الظروف غير المناسبة سواء كانت هذه الظروف داخلية أو خارجية،
ولذلك نجد مدى الأثر الكبير على الأمة الذي يولده النيل من هذه القيادة، ولنا في
التاريخ الإسلامي خير عبر وشواهد؛ فما مر على الرسول صلى الله عليه وسلم في
هذه الحادثة التي هي محط الدراسة، كذلك أثر غزوة أحد وما حدث للجيش
الإسلامي، وما تعرض فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى، كذلك يمكننا
الاستشهاد بما حدث في الصف الإسلامي عند مقتل عمر بن الخطاب، والفتنة التي
حدثت أواخر خلافة عثمان - رضي الله عنه - والتي كان من أبرز نتائجها مقتل
عثمان - رضي الله عنه -؛ كلها شواهد تبين مدى العاقبة على المجتمع من جراء
النيل من القيادة.
4 - إثارة البلبلة في الصف الإسلامي وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى
المسلمين:
من خلال الانسياق في بحر الأزمات مما يولد حالة من عدم الثقة بين المسلمين
فهذا يرمي بالتهمة والآخر يصدق ويكون صراع داخلي، هذا الصراع يزيد من
الفرقة بين الأمة، وفي وسط هذه الحالة من الفرقة بين أبناء الصف الإسلامي يسهل
تسلط الأعداء والابتعاد عن القيادة الدعوية، مما يولد حالة من الإحباط النفسي بين
الصفوف، والضعف والاستكانة أمام العدو.
5 - صرف اهتمامات القيادة الدعوية من أمور الدعوة إلى الفتن والأزمات
الداخلية:
عندما تشتعل الأزمة في أي مجتمع تتعطل حركة التنمية ومسيرة العطاء مدة
من الزمن تطول أو تقصر بحسب حجم هذه الأزمة وآثارها ما لم يتم العمل بحسب
الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الأزمة، والمجتمع الإسلامي حاله حال أي مجتمع في
ذلك؛ فالأزمات تعطل عجلة العطاء، وتهدر الكثير من الطاقات والوقت، ويفقد
الصف الإسلامي بسببها الكثير من الإنجازات التي تم تحقيقها؛ فبعد انتصارات
عظيمة حققها المجتمع الإسلامي بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على الجبهات
العسكرية أو على جبهة بناء المجتمع المسلم أو على الصعيد الدعوي، نجد الصف
النفاقي يحدث مثل هذه الفتنة لكي يصرف اهتمامات القيادة الدعوية من إرساء دعائم
المجتمع المسلم إلى إشغاله بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها. كل
هذه العوامل ساهمت بشكل كبير في اختيار هذه الحادثة بالذات، والتقارب العجيب
بين هذا الأسلوب في ذلك العصر وأسلوب المحاربة الداخلية في الوقت الحاضر.
ويرى بعض علماء الإدارة (أن هناك ثلاث مراحل أساسية للتعامل مع
الأزمة) :
1 - مرحلة ما قبل الأزمة.
2 - مرحلة التعامل مع الأزمة.
3 - مرحلة ما بعد الأزمة [11] .
ومن خلال استقراء للمراحل الثلاث نستطيع أن نقوم بدراسة أسلوبه صلى الله
عليه وسلم في مواجهة حادثة الإفك، وكيف عانت الأمة الإسلامية من هذه الأزمة
الكثير والكثير، لقد عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي للتخلص من جميع
بذور فتن المنافقين، وبينما نجد مثل هذه البذور تتكاثر وتتوالد بين الصف
الإسلامي بين فينة وأخرى فلا بد من وضع أهداف واضحة في كيفية التخلص من
هذه المشكلات وخصوصاً في زمن الفتن الذي نعيشه، ومن هنا يتبين أن أول
وضع للأهداف يكون بالتخلص من المشاكل المستمرة، والعمل على إيجاد مستقبل
خال من المشاكل.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الأزمة:
وفيها تبدأ الإرهاصات الأولى لحدوث أزمة ما، وتتميز هذه المرحلة بعدة
مميزات منها (المفاجأة نقص المعلومات التدفق المتصاعد فقد السيطرة عقلية
الحصار التركيز قصير المدى) [12] .
* المفاجأة:
من الصعب منع الأزمات من الوقوع أو تحديد وقت الانفجار لأي أزمة،
ولذلك تتسم الأزمات بعنصر المفاجأة، وعندما تقع الأزمة لا يستطيع إلا قلة من
الناس التعامل معها بهدوء ورباطة جأش، ولقد هال عائشة - رضي الله عنها - ما
رماها به أهل الإفك؛ فتصفه أم رومان - رضي الله عنها - بقولها:» فخرَّت
مغشياً عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض « [13] من عظم الأمر الذي رميت به،
» وهي كانت لما تحققته من براءة نفسها ومنزلتها تعتقد أنه كان ينبغي لكل من
سمع ذلك أن يقطع بكذبه « [14] ؛ لذلك يجب على المرء أن يحاول قدر المستطاع
التخفيف من هول المفاجأة على من وقعت به أزمة، وليعلم أنه [مَا أَصَابَ مِن
مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ] (الحديد: 22-23) .
* نقص المعلومات:
تشكل المعلومة أهمية بالغة في اتخاذ القرار، وكلما توفرت المعلومات
الصحيحة كان القرار أقرب للصواب، ويجب التحقق من صحة المعلومة أو غير
ذلك، ف» البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على
من قيل فيه، وهل وقع منه قبل ذلك ما يشبه أو يقرب منه؟ واستصحاب حال من
اتهم بسوء إذا كان معروفاً بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك « [15]
يقول رب العزة والجلالة في كيفية التعامل مع الخبر سواء كان ذلك للقيادة أو
القاعدة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] (الحجرات: 6) يقول العلاَّمة السعدي - رحمه
الله تعالى -:» وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها
واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ أي خبر أن يتثبتوا في خبره ولا يأخذوه
مجرداً؛ فإن في ذلك خطراً كبيراً ووقوعاً في الإثم؛ فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر
الصادق العدل حكم بموجب ذلك ومقتضاه؛ فحصل من تلف النفوس والأموال بغير
حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق
التثبت والتبين « [16] .
وفي حادثة الإفك عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمع المعلومات وجمع
الآراء في كيفية علاج هذه الأزمة؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن
أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت:
» فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في
نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله! هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي
بن أبي طالب فقال: لم يضيِّق الله عليك؛ والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية
تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيْ بريرةُ! هل رأيت
من شيء يريبك من عائشة؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق! إنْ رأيت عليها
أمراً قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي
الداجن فتأكله « [17] لذلك كان» من الضروري أن تتم عملية إدارة الأزمة في ظل
تدفق المعلومات [18] ؛ لأن فريق إدارة الأزمة في موقف مساومة، يجب أن يكون
محاطاً وبصفة مستمرة بكل البيانات التي تمكنه من التقدير المتجدد للموقف؛ بحيث
يمكنه الاستفادة من تلك المعلومات في معالجة الموقف « [19] .
* التدفق المتصاعد:
فبمجرد ظهور طلائع الأزمة يتناول هذا وذاك الموضوع فتكون هناك حالة من
الغليان - وفي العصر الحديث تجد للحادثة الواحدة ألف قصة وقصة في وسائل
الإعلام المقروء والمسموع - فيحتار اللبيب ويعجز عن معرفة الحقيقة الأريب،
ويعيش المجتمع الأزموي حالة من البحث عن الحقيقة؛ بينما تقوم وسائل الإعلام
باستقطاب الرأي العام إلى تفسيرها للحادثة بحسب الصياغة التي تراها مناسبة؛
فعندما رأى المنافقون عائشة - رضي الله عنها - مقبلة على الجمل يقوده صفوان
بن المعطل - رضي الله عنه - طاروا بمقالتهم وبهتانهم» وكان الذي يجتمع إليه
فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان
آخذاً بزمام ناقة عائشة، فقال: واللهِ ما نجت منه، ولا نجا منها، وقال: امرأة
نبيكم باتت مع رجل! « [20] حتى اغتر بذلك المؤمنون وصاروا يتناقلون هذه
المقالة، ويمكن تقدير الحالة بعد ذلك، مما يساهم للميزة التالية (فقد السيطرة) لولا
قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم الرشيدة في معالجة الأزمة.
* فقد السيطرة:
في خضم معترك الأزمة قد ينفلت الأمر من بين يدي القيادة - بسبب عدم
معرفة الدور المطلوب في إدارة الأزمة - فتتصاعد الأزمة وتتوسع هوة الخلاف
والشقة بين صفوف المجتمع الأزموي؛ مما قد يؤدي إلى ظهور تيارات وانقسامات
داخل المجتمع، وقد يتطور الأمر إلى القتال بين فئة المجتمع الواحد. ولذلك كان لا
بد للقائد المحنك من العمل على الإمساك بزمام الأمر، والعمل على السيطرة على
الوضع ف» القائد برغم كل الضغوط من جميع الاتجاهات وهو يشعر بالحرارة
المتزايدة والمتصاعدة عليه أن يبدو هادئاً في كيفية عدم الاستسلام للضغوط
والهروب منها. وتمثل فداحة الخسائر وحياة الناس التي تتعرض للخطر اختباراً
قاسياً للقائد، وتؤدي في أغلب الأحوال إلى استنفار مهارات وقدرات قيادية في
الأوقات العادية، ويحتاج القائد في وقت المواجهة مع الأزمة إلى أن يستخدم ما
يتوفر لديه من مهارات الابتكار والمرونة في الاستفادة من مشاركة الآخرين بالرأي
والمشورة « [21] فنجد القيادة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام استطاعت
السيطرة على الوضع من خلال اتجاهين:
الاتجاه الأول: الفئة الواقعة بالأزمة، وفي هذه الحادثة عائشة - رضي الله
عنها - فقد قلَّت ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم لها حتى إنها شعرت بذلك،
ولم يهجرها بالكلية، وفي ذلك» إشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة، فإذا
كان السبب محققاً فيترك أصلاً، وإن كان مظنوناً فيخفف، وإن كان مشكوكاً فيه أو
محتملاً فيحسن التقليل منه لا العمل بما قيل؛ بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما
قيل في حقه؛ لأن ذلك من خوارم المروءة « [22] .
الاتجاه الثاني: المجتمع الأزموي: وهو الذي يعاصر الأزمة، فعندما صعد
النبي صلى الله عليه وسلم المنبر يستعذر من عبد الله بن أُبَيّ (ثار الحيان من
الأوس والخزرج حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر، فلم يزل
يخفضهم رسول الله حتى سكتوا وسكت) ، والأمثلة في الأسلوب النبوي على
السيطرة على الأزمات التي سببها المنافقون بالذات كثيرة جداً، منها قوله صلى الله
عليه وسلم:» فكيف يا عمر! إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ! «في
غزوة بني المصطلق، ويمكن الاستزادة منها في كتب السير.
* عقلية الحصار:
مع تفاعل الأزمة وتسابق الأحداث وتلبد السماء بالغيوم السوداء نشعر أننا
أصبحنا ضحايا سقطنا جراء إساءة الفهم، وليس هناك من يهتم بروايتنا للأحداث أو
يوافق قصتنا، ويرمقنا الجميع بسهام الاتهام؛ فلا نجد الإجابة للسؤال. تقول
عائشة - رضي الله عنها - صاحبة المعاناة:» دخل علينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ ما قيل قبلها، وقد لبث
شهراً لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
جلس، ثم قال: أما بعدُ يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة
فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا
اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله
فيما قال! قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت
لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: والله ما أدري ما أقول
لرسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً
من القرآن: إني والله لقد علمت؛ لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم
وصدقتم به؛ فلئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك،
ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقُنِّي، والله ما أجد لكم
مثلاً إلا قول أبي يوسف: [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]
(يوسف: 18) . قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ
أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكنْ والله ما كنت أظن أن الله منزل
في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر
يتلى « [23] .
* التركيز قصير الأمد:
في خضم معمعة الأزمة لا بد من العمل على ضبط النفس وعدم الثوران
والغضب، ومحاولة استجماع القوى، والتفكير الصحيح في كيفية الرد المنطقي
السليم، ومن أقوى السبل في الحصول على حالة من الثبات النفسي» اتباع نظام
العزلة المؤقتة عند التعرض للمشاكل، والفكرة هنا أن الفرد يحتاج إلى مسافة أكبر
بينه وبين المشكلة التي يتعرض لها؛ إذ إنه من المرجح أن يفقد المرء قدرته على
تصور الأمور بشكل سليم عند بقائه قريباً جداً من القضايا الصعبة « [24] ولذلك نجد
الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على طلب عائشة - رضي الله عنها - الانتقال
إلى بيت والدها عندما شاع الخبر، مع يقينه الكامل ببراءتها مما نسب إليها.
المرحلة الثانية: مرحلة التعامل مع الأزمة:
هي المحور الرئيس في المعالجة الفعلية للأزمة، وفيها يتم العمل على حل
هذه الأزمة مع جمهور المجتمع الأزموي على ضوء المعطيات السابقة، والملَكة
الإدارية لدى القيادة في حل هذه المشاكل، وذلك من خلال ثلاث خطوات:
1 - التعامل مع الجمهور المتأثر:
فمن خلال ما سبق من الروايات يجب علينا مراعاة الآتي عند التعامل مع
الجمهور وقت الأزمة:
- تحديد فريق العمل المسؤول عن إدارة الأزمة، ويجب أن يكون ذا قدرات
في التعامل مع هذه الجماهير.
- ضبط النفس والسيطرة على ردود الأفعال.
- (المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين
الغضب) [25] .
- على القيادة التعامل برفق مع المسببين للأزمة، وأن أمر الخطأ وارد،
وعدم التنصل منهم وطردهم وجعلهم عرضة للهجوم من الغير، ومد يد العون لنقله
إلى بر الأمان؛ فالواقع في أزمة أو في محط اتهام قد يبلغ به الضعف والانهيار
الاعتراف بذنب لم يقترفه، ويطلب التوبة؛ فعلى القيادة الفطنة إفهامه أن التوبة
(تُقْبَل من المُقلع المخلص، وأن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها، وأن الاعتراف
بما لا يقع لا يجوز ولو عرفت أنه يصدق في ذلك، ولا يؤاخذ على ما يترتب على
اعترافه بل عليه أن يقول الحق أو يسكت) [26] .
- طلب الرأي والمشورة من أصحاب الرأي في كيفية معالجة الأزمة.
- أخذ العذر لردود الفعل من بعض الأشخاص في خضم الأزمة؛ فهذه عائشة
- رضي الله عنها - تبين هذا الموقف عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم من
على المنبر:» من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ «، فكان اقتراح سعد
بن معاذ ضرب عنقه، ولكن سعد بن عبادة عارض ذلك، فتصف سعد بن عبادة:
» وكان رجلاً صالحاً، ولكن اجتهلته الحمية «.
2 - دمج التغذية الاسترجاعية في خطة الأزمة:
والمقصود من ذلك العمل على توظيف ردود أفعال الجماهير لصالح حل
الأزمة، ويتمثل ذلك في هذه الحادثة بالآتي:
- غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم يدفع ذلك [27] .
- توجيه مشاعر التعاطف الجماهيري في اتجاه عدم انتشار الأزمة.
- العمل على إظهار الحقائق للجماهير، ليكون ذلك سبباً في الحد من الأزمة،
والانطلاق نحو الحل النهائي.
- عدم التقليل من شأن آراء الناصحين والساعين في إيجاد الحلول، حتى ولو
كانت بعض هذه الحلول صعبة ومرة في بعض الأحيان.
3 - تحديد الرسالة الإعلامية الموجهة إلى الجمهور:
لا شك أن للأعلام أهمية بالغة في التأثير على الرأي العام بصفة عامة،
ولذلك كان لا بد من تحديد الرسالة الإعلامية وتوقيتها، ولا بد من وضوح أهدافها
ونوعيتها لمعالجة الأزمة، ومن هنا يجب التنبه إلى عدم السراع في توجيه هذه
الرسالة دون الأخذ بالروية والهدوء، ومن هنا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما
تعجل في توجيه خطاب معين إلى المجتمع المدني؛ فبعد السؤال والاستشارة قام إلى
المنبر وقال:» يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل
بيتي؟ «، وتحمل هذه العبارات الكثير من الفوائد الجليلة في صفات الرسالة
الإعلامية، ومنها:
أ - أن الخطاب كان في كلمات موجزة ذات هدف واضح.
ب - لم يقطع الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفي أو الإثبات في الأمر،
وإنما قال:» فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً «، وفي حق صفوان:» ما
علمت عليه إلا خيراً «.
ت - تسعى هذه الرسالة إلى توصيل أمرين:
الأول: حقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم إلا بما علمه الله.
والثاني: معرفة آراء الصحابة بخصوص موضوع الإفك؛ فقد جمعت في
محتواها حقيقة معينة ثم معرفة الآراء.
ث - تعليم القادة عدم التسرع بالحكم بالنفي القاطع، وأن الشخص المتهم
(فوق مستوى الشبهات) أو إثبات التهمة عليه بمجرد السماع، وإنما يكون حكمنا
على الظاهر مع التأكيد أن الشخص يصيب ويخطئ، وليكن لدينا هذا الرد الجميل:
(لا نعلم إلا خيراً) في التزكية، وإن كان ذلك كافياً في حق من سبقت عدالته
ممن يطلع على خفي أمره) [28] .
غير أنه يجب التنبه إلى عدم تحديد شخص بعينه أنه هو وراء هذه الأزمة
مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:» من يعذرني في رجل بلغ أذاه في أهلي؟ «
وفي ذلك عدة فوائد منها:
1 - قد ينساق أشخاص من داخل الصف الإسلامي في معمعة هذه الأزمة،
ويشارك في إثارتها، دون قصد للشر، فتبقى هذه التهمة وصمة عليه، ومثال ذلك
مشاركة بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - أجمعين في حديث الإفك مثل حسان
بن ثابت، ومسطح بن أثاثة.
2 - قد يكون من بين الصف النفاقي من ليس له أي علاقة بالموضوع من
ينسب إليه التهم بأنه المسبب لهذه الأزمة أو تلك، وبعد بيان الحقيقة يظهر أنه
بريء مما نسب إليه، فيجد في ذلك ذريعة للتهجم على الصف الإسلامي.
3 - عدم رمي الآخرين بأسباب الأخطاء أو المشاكل التي نقع فيها دون بينة
وإثبات، بل يجب التثبت أولاً، ومواجهة الأزمة مواجهة حقيقية سعياً إلى إيجاد
العلاج الناجع.
ومن خلال ما سبق ذكره يمكن وضع ثلاث نقاط مهمة عند توجيه الرسالة
الإعلامية:
(1 - الحصول على الوقائع المتصلة بمشكلة معينة بأسرع ما يمكن؛ فأسوأ
الأمور هو التصريح لوسائل الإعلام بمعلومات غير صحيحة.
2 - إذا لم تكن تعرف الجواب عن سؤال فلا تجب بأي شيء، فإذا أعطيت
الأجوبة فإنه يكون من الصعب نفيها.
3 - اطرق جوهر المشكلة ولا تحاول الالتفاف حولها، وهنا ينبغي تكوين
مصداقية مع وسائل الإعلام بإبداء التجاوب والثقة) [29] .
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الأزمة:
من الخطأ الذي تقع فيه بعض القيادات الإدارية بشكل عام والقيادات الدعوية
بشكل خاص أنه بعدما تنتهي عاصفة الأزمة وتنقشع غيومها وتنفرج تلك العقدة التي
كانت محكمة، أن يُظَنَّ أن القضية قد انتهت فيُغفل عن أهمية الاستفادة من هذه
الأزمة وتحديد الدروس المستفادة من تلك التجربة التي مرت، والأدهى من ذلك كله
أنها تمر أزمة وأختها دون العمل على إغلاق منافذ الفتن أو العمل على حصر
دورها وقدراتها، ومن خلال حادثة الإفك وبعد إعلان براءة عائشة - رضي الله
عنها - يتبين لنا عدة فوائد تحققت بسبب هذه الأزمة التي كان يراد منها إلحاق أكبر
قدر ممكن من الخسائر، ولكن بفضل الله ومنته تحولت الخسائر إلى مكاسب
والهزيمة إلى نصر، نذكر منها:
* إن الأزمة التي يمر بها الشخص قد تكون سبباً لخير كثير لم يكن ليحصل
عليه لولا الوقوع في الابتلاء، ولذلك يجب أن يكون العمل بعد الأزمة السعي
للانطلاق في طريق البناء، من خلال هذه المكاسب وعدم النظر للأزمة بأنها شر
محض؛ ودليل ذلك قوله - تعالى - عن حادثة الإفك: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ] (النور: 11) لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها والتنويه
بذكرها حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولما
تضمن ذلك من بيان الآيات المضطر إليها العباد التي ما زال العمل بها إلى يوم
القيامة؛ فكل هذا خير عظيم ولولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله
أمراً جعل له سبباً، ولذلك جعل الخطاب عاماً مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح
بعضهم ببعض كقدحٍ في أنفسهم» [30] .
* «تدريج من وقع في مصيبة فزالت عنه لئلا يهجم على قلبه الفرح من أول
وهلة فيهلكه، يؤخذ ذلك من ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي
ببراءة عائشة بالضحك، ثم تبشيرها، ثم إعلامها ببراءتها مجملة، ثم تلاوته
الآيات على وجهها، وقد نص الحكماء على أن من اشتد عليه العطش لا يُمَكَّن من
المبالغة في الري لئلا يفضي به ذلك إلى الهلكة بل يجرع قليلاً قليلاً» [31] .
* يجب النظر بعد الأزمة إلى تصفية النفوس داخل المجتمع، والعمل على
الاهتمام بالأثر النفسي الذي خلفته هذه الأزمة في صفوف المجتمع، بل يجب
الإحسان إلى المسيء بعد أداء العقاب الخاص به، وأن لا تكون هذه الأزمة سبباً
لمقته من المجتمع؛ فهذا مثال حي للمعالجة الربانية لبعض الآثار التي خلفتها مقولة
الإفك على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين نزلت الآيات «تتناول الأمة
إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر
روي في الصحيح أن الله - تبارك وتعالى - لما أنزل: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِّنكُمْ] (النور: 11) العشر الآيات قال أبو بكر - رضي الله عنه - وكان
ينفق على مسطح لقرابته وفقره:» والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال
لعائشة «، فأنزل الله تعالى: [وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي
القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ] (النور: 22) قال عبد الله بن المبارك:» هذه أرجى آية في كتاب
الله - تعالى - «. فقال أبو بكر - رضي الله عنه -:» والله إني لأحب أن يغفر
الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه
أبداً « [32] .
* إن خطأ الفرد في المجتمع لا يكون أبداً سبباً في تعطيل طاقات ذلك الفرد
وعدم أهليته للمشاركة في البناء، ويجب العمل على الاستفادة منه في عملية البناء
بعد بيان الخطأ الذي وقع فيه، كذلك يجب التنبه إلى عدم رمي المذنب أو المخطئ
بإحباط العمل ونجعل منه أسير خطئه، ونسيان حسناته السابقة، ف» القذف وإن
كان كبيراً لا يحبط الأعمال؛ لأن الله - تعالى - وصف مسطحاً بعد قوله بالهجرة
والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال -
تعالى-: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] (الزمر:65) « [33] .
ومن خلال ما سبق نستخلص هذه الآلية في التعامل مع المجتمع بعد الأزمة
على النحو الآتي:
(1 - الاستمرار في إيلاء الاهتمام بالجماهير.
2 - الاستمرار في مراقبة المشكلة إلى أن تتناقص حدتها.
3 - تقييم كيفية عمل خطة الأزمة، وكيفية استجابة الإدارة والعاملين.
4 - دمج التغذية الارتجاعية في خطة الأزمة وتحسينها ومنع أي أزمات
مستقبلية.
5 - تطوير استراتيجية طويلة الأمد للاتصالات لتقليل الأخطار الناجمة) [34] .
__________
(1) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، مكتبة الصحابة، جدة , طبعة 1411هـ، ص 388، 389.
(2) إدارة الأزمات في التشريع الإسلامي، رضا عبد الحكيم رضوان، مجلة الفيصل، العدد 277، تاريخ رجب 1420هـ، ص 67، 68.
(3) لسان العرب، ابن منظور.
(4) المعجم الوسيط، الجزء الأول، ص 17.
(5) إدارة الأزمات، سيتي هيو، مجلة الثقافة العالمية، العدد 79، تاريخ نوفمبر 1996م، ص 9.
(6) إدارة الأزمة في الحدث الإرهابي، الدكتور أحمد جلال عز الدين، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، ص 23.
(7) مهارات إدارة الأزمات، الدكتور محمد عبد الغني حسن، ص 115.
(8) تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، (سورة النور آية 11) ، ج 3، طبعة 1417هـ، دار المعرفة، بيروت.
(9) القيادة في الأزمات، ترجمة: هاني خلجه، وريم سرطاوي، فريق بيت الأفكار الدولية، طبعة 1998م.
(10) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ص 138، 139.
(11) إدارة الأزمة في الحدث الإرهابي، الدكتور أحمد جلال عز الدين، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، ص 29 30.
(12) إدارة الأزمات، سي تي هيو، مجلة الثقافة العالمية، العدد 79 تاريخ نوفمبر 1996م، ص 10 بتصرف.
(13) تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، ج 3، ص 282.
(14) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10.
(15) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10، ص 497.
(16) تيسير الكريم الرحمن في تفسير المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، 1407هـ.
(17) صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، حديث رقم (2770) ، ص 118.
(18) للاستزادة طالع: المعلومة وأهميتها في إدارة الأزمات، المجلة العربية للمعلومات، محمد صدام جبر، مج 19 العدد الأول، تونس 1998م.
(19) إدارة الأزمة في الحدث الإرهابي، الدكتور أحمد جلال عز الدين، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، ص 36.
(20) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، تفسير سورة النور، ج 12.
(21) مهارات إدارة الأزمات، الدكتور محمد عبد الغني حسن، ص 143.
(22) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10، ص 496، دار أبي حيان.
(23) رواه البخاري في كتاب التفسير، حديث رقم (2548) ، ومسلم في كتاب التوبة، حديث رقم (2770) .
(24) القيادة في الأزمات، ترجمة: هاني خلجه، وريم سرطاوي، فريق بيت الأفكار الدولية، طبعة 1998م.
(25) شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك، ص 131.
(26) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10، دار أبي حيان.
(27) شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب التوبة، حديث الإفك، ص 132.
(28) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10، دار أبي حيان، ص 497.
(29) توجيه الرسالة الصحيحة عند وقوع الأزمات، آراك لو ستبر غوبيفرلي سيلفربيرغ مجلة الثقافة العالمية، العدد 79، تاريخ نوفمبر 1996م، ص 47.
(30) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مركز صالح بن صالح الثقافي، عنيزة، ج 5، تفسير سورة النور، ص 395.
(31) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، سورة النور، ج 10، ص 498، دار أبي حيان.
(32) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، سورة النور، ج 12، ص 207.
(33) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، سورة النور، ج 12، ص 208.
(34) الفونسو جونزاليس وكور نيليوس بزبرات، إدارة الأزمات قبل حدوثها وبعدها، مجلة الثقافة العالمية، ص 22.(162/33)
قضايا دعوية
يعرفون الحق وهم له منكرون
محمد جلال
لم يزل بخاطري ريْحانة قريش الوليد بن المغيرة وهو يجلس بين قومه يصف
القرآن بعدما سمعه: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن
أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فيصيح القوم: صبأ الوليد، ويقوم إليه
شيطانهم أبو جهل ويهمس في أذنيه بكلمات ثم يعود ثانية إلى مجلسه. وأقبل الوليد
على القوم بوجهه، وظن القوم أن الوليد سيقف موقف الداعي لهذا الدين الجديد؛
فالأمر ليس ببعيد؛ فمِن قَبْله عَدَا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله،
وعاد من عنده مسلماً، ولكن الوليد خيّب ظنهم فلم يكن إقباله عليهم إقبال المخلص
الداعي لهذا الدين الجديد بل كان المخلص الداعي لدينهم.
ويتكلم الوليد.. يصيح فيهم بأن قولوا في الرجل قولةً واحدةً.. ولا تختلفوا
حتى لا يظهر كذبكم.
ويعرض القوم آراءهم: نقول ساحر.. نقول شاعر.. نقول كاهن.. نقول
كاذب.. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردّه.
ويُسند إليه الأمر: قُل أنت يا أبا عمارة نسمع. ويصمت الوليد.. يجولُ
بفكره.. يحاول أن يجد نقيصة في الرجل أو في منهجه [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ]
(المدثر: 18-23) .
يحاول الوليدُ ويحاول.. ولكن أنّى له؟ !
فالرجل هو الصادق الأمين، ومنهجه هو هو الذي وصفه من قبل بأن له
حلاوة وعليه طلاوة.
ويعجز الوليد، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل،
يقول: قولوا ساحر، ثم يُدَلل على قوله وما أكذبه: ألا ترون أنه يفرق بين الرجل
وزوجته، والابن وأبيه [فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ]
(المدثر: 24-25) .
ويصيح القوم فرحاً بهذا! !
قاتلك الله يا وليد! ما حملك على ألا تفعل ما فعل عمر، وقد وصفت القرآن
بما هو حق، ونفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس بحق؟ ! كأني
بقريش وقد أقسم الملأ منهم أن ما يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند
هذا الغلام الأسود الذي يعتكف بجواره في غار حراء، كأني بهم وقد كلمت وجوههم
وهم يرون هذا الغلام لا يتكلم العربية [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ] (النحل: 103) .
كأني برسلهم تعدو في الصحراء تقصد اليهود يسألونهم عن خبر هذا النبي،
ويعطيهم اليهود الأمارة: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ سلوه
عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟
سلوه عن الروح ما هي؟
ويُعطونهم صفة الإجابة، وتعود الرسل، ويحشر الملأ القوم منادين فيهم:
جئنا بالقول الفصل بيننا وبين محمد صلى الله عليه وسلم، ويعطيهم الصادق الأمين
الأمارة تامة.
ثم.. ماذا حدث؟
الموقف لا يتغير ولا يتبدل، يظهر الحق ويستيقن فريق من الناس، ثم
يعاندون.
وما كانت قريش بدعاً؛ فقد كان لهم سلف فيمن مضوا قوم نوح [قَالُوا يَا
نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (هود: 32)
جُودِلوا ودحضت حجتهم؛ فالطبيعي بعد هذا هو الإيمان، ولكن انظر إلى كلامهم
ما أعجبه [جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ]
(هود: 32) .
وقوم عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام -: [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ
وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (الأعراف: 70)
فهم إذن يفهمون الرجل، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين، ثم انظر
إلى موقفهم بعد هذا البيان، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم.
وقوم ثمود يطلبون الآية فتأتيهم، ثم ماذا؟ هل آمنوا؟ أبداً لا بل عقروا الناقة
وقالوا قولة من قبلهم [فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ] (الأعراف: 77) .
وقوم لوط [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: 82) لِمَ يا قوم؟ [إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ]
(الأعراف: 82) ألهذا؟ ! !
وقوم خليل الله إبراهيم - عليه السلام -: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ
أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]
(العنكبوت: 24) .
وإن تعجب فمن أهل مدين قوم شعيب - عليه السلام - نبي الله؛ إذ يبلِّغ
رسالة ربه فيؤمن البعض، ويكفر البعض الآخر، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة:
[وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ
اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] (الأعراف: 87) ، أفي هذا عيْب؟ ولكن انظر
ما ردّ الملأ [قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] (الأعراف: 88) .
الموقف من الدعوة ورجالها هو هو، المنطق نفسه يتكرر، ولا يكاد يتغير،
يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه، وليت الأمر بقي على هذا فالبلية
به خفيفة، بل يعلنون أنه لا هوادة، ولا مقام مع الحق وأهله. وانظر إلى هذه
الآيات من سورة إبراهيم كيف أنها تكلمت بألسنتهم مجتمعين على تفرقهم زماناً
ومكاناً - كأنهم فردٌ واحد - قال - تعالى -: [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ
مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى
مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ
أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] (إبراهيم: 9-13) .
فانظر كيف أن الخيار بين أمرين لا ثالث لهما: [لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] (إبراهيم: 13) ، وكيف أن هذا هو كلام الكفار جميعهم في
مختلف أزمنتهم [قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ] (إبراهيم: 9) .
يا ليت أن السائرين إلى ربهم، الداعين إلى صراطه المستقيم يعلمون هذا..
يعلمون أنه لا التقاء بين الفريقين فيعدون العدة، ويشمرون عن الساق، ويجدُّون في
الأمر فقد طال النّوم! !
وبقي شيء هو أن هذا ليس حال الكفار جميعهم، بل هو حال الملأ منهم
وخاصة من لهم مصالح تتعارض مع تطبيق الشريعة، وهناك ممن هم ليسوا من
أهل الإسلام من لو سمع به وعلمه على حقيقته لسارع إليه، وهؤلاء هم من يُرجى
من الله هدايتهم، وأما أولئك فهم من زاغت قلوبهم، وأبتْ إلا الزيغ.
فاللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين.(162/43)
تأملات دعوية
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
يتكرر في كتاب الله - تبارك وتعالى - المقابلة بين الحق والشرع، وبين
اتباع الهوى؛ فهما نقيضان لا يجتمعان؛ فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع يأتي النهي
عن اتباع الهوى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) .
والحكم بالشرع يأتي مناقضاً للهوى: [فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ] (المائدة: 48) وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: [يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ] (ص: 26) . قال الشاطبي:
«فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى؛ فلا ثالث لهما.
وإذا كان كذلك فهما متضادان. وحين تعيَّن الحق في الوحي توجه للهوى ضدُّه؛
فاتباع الهوى مضاد للحق» [1] .
ولقد جاء هذا الأمر متسقاً مع فطرة الله - تبارك وتعالى - التي فطر الناس
عليها، وبدون ذلك تفسد السماوات والأرض ومن فيها: [وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ] (المؤمنون: 71) .
وقد أخبر - تبارك وتعالى - أن الناس قد زينت لهم الشهوات: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ]
(آل عمران: 14) .
ومع طول عهد الناس بعصر النبوة، وبُعدهم عن الصدر الأول، زادت
الأهواء واستولت الشهوات على النفوس، ورقَّ الدين لدى الناس، وهان شأنه
عندهم.
وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالعالم الغربي الذي سيطرت عليه المادة،
واستولت على حياة الناس، وضمرت لديهم المعاني الجادة، وتقلصت في حياتهم.
وقد يترك هذا الأمر أثره على بعض الدعاة والغيورين، فيحرصون على
مجاراة واقع الناس، ويعيدون النظر في كثير مما كانوا يقررونه من الأحكام
الشرعية؛ لأن الناس قد ثقل عليهم الالتزام بها.
ولا شك أن الشرع لم يأت بتكليف الناس بما لا يطيقون، وأن الدين يسر ليس
فيه عسر ولا مشقة، وأن من قواعد الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، وأنه لا
ضرر ولا ضرار.
لكن الاستطراد في هذا الباب قد يوقع صاحبه في مجاراة أهواء الناس،
وتطويع الشرع وفق شهواتهم ورغباتهم؛ ومن ثم فلا بد من الانضباط والاتزان في
ذلك؛ بالحذر من التضييق على الناس والمشقة عليهم فيما وسعه الشرع، والحذر
من الانزلاق في السير وراء الأهواء وتمييع الشريعة.
ومما ينبغي مراعاته في ذلك:
* تربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض
عليها، وأن النص الشرعي حاكم على حياة الناس ولا مجال لاجتهاد يعارضه.
* تربية الناس على التعلق بمتاع الآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء
وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات.
* اليقين بأن ما دل عليه الشرع فهو في مصلحة الناس، وهو وفق طاقتهم
وقدرتهم.
* أن من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين، وتخليصهم من رق
الهوى، وأسره. قال الإمام الشاطبي: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة
إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله
اضطراراً» [2] .
* أن مجاراة الناس في الترخُّص والتيسير لا تقف عند حد؛ فماذا نفعل بمن
تتبرم من لبس الحجاب، ومن يتبرم من صيام رمضان في الحر، والسفر للحج لما
فيه من جهد ومشقة؟ بل ماذا نصنع بمن يضيق بالجهاد لما فيه من إراقة الدماء،
وإزهاق النفوس، وذهاب الأموال؟
إن من واجب الدعاة إلى الله اتباع المنهج الشرعي، والتيسير فيما يسر فيه
الشرع، وأخذ الناس بالحسنى، ومع ذلك فلا يؤدي الترخص إلى تهوين شأن
العبودية والتسليم لله - تبارك وتعالى -، وتعويد الناس على الجرأة على معصيته
عز وجل، وألا يدعونا فساد الواقع إلى تطويع الشرع لتسويغه.
اللهم ارزقنا الفقه في الدين، واتباع سبيل المرسلين.
__________
(1) الموافقات 2/129.
(2) الموافقات 2/128.(162/45)
نص شعري
قصة القدس
د. عبد الغني أحمد مزهر التميمي [*]
ليس للتين أو الزيتون نغضبْ ...
نحن للإسلام لا للأرض ننسبْ ...
ليس للموز أو الليمون أو قمح الموانئ ...
نحن لسنا من عبيد الطقس ديدان الشواطئ ...
ما عشقنا في فلسطين صِباها ...
أو صَباها، أو رباها ...
ما عشقناها عروساً في بهاها تتطيّبْ ...
كفّها في ليلة الحنّاء تخضبْ ...
ما عشقناها مناخاً وفصولاً ...
وجبالاً وهضاباً وسهولا ...
بل عشقناها دويّاً وصليلا ...
وغباراً في سبيل الله يُسفى، وصهيلا ...
وسطوراً بل فصولاً في كتاب المجد تكتب ...
عبر أجنادين، أو حطين، أو غزة طولا ...
وسرايا أمّة الكفر على صدر صليب الكفر تصلب ...
* * *
وعشقنا في فلسطين من الأهوال جيلاً ...
جعل التكبير والأحجار أقوى خطبة للعصر تخطبْ ...
جيل أبطالٍ من الأطفال في الضفة ينجبْ ...
هكذا تبقى فلسطين ضميراً، وكياناً في دمانا يتلهبْ ...
هي في عمق هوانا درة من درر الإسلام تسلبْ ...
ولهذا ليس للتين أو الزيتون نغضبْ ...
* * *
مزقونا وانثروا اللحم على كل طريقْ ...
لا تبالوا، حرّقونا وارقصوا حول الحريق ...
وزعونا في الصحاري، أطعمونا للحواجز ...
كل هذا في نظام الغاب جائز ...
غير أنا لن نبيع القدس أو أيَّ مدينةْ ...
هل يبيع المؤمن الصادق للأعداء دينهْ؟ ...
* * *
ارحمونا من تفاهات حلولٍ في المزادْ ...
ودروسٍ من مساق الذلّ تقرا وتعادْ ...
ما رضينا، فقبول الظلم ظلمٌ، والرضا بالعار عارْ ...
قد نذرنا دمنا لقنديل الجهادْ ...
حلُّنا يأتي عزيزاً فوق صهْوات الجيادْ ...
ليس في الأكفان محمولاً إلى «أرض الميعاد» ...
* * *
جرِّدونا من رداء المجد من نبض الفضيلةْ ...
أسعروا الحرب علينا بقوانين القبيلةْ ...
لم نكن يوماً على دين (غُزَيّةْ) [1] ...
بل على أقدامنا تنهار دعوى الجاهليةْ ...
عهدنا باق إلى آخر مسجدْ ...
لن نبيع القدس يوماً ما بقيْ فينا موحِّدْ ...
* * *
ثم ماذا قيل عن هذي القضيّةْ؟ ...
قال حكامٌ، وقوادٌ كبارٌ وجنودْ ...
أرضكم أرض ككلِّ الأرض في هذا الوجودْ ...
لا تزيدوا وجع الرأس علينا واتركوها لليهودْ ...
هي لا تُنبت دُرّاً أو زبرجدْ ...
ليست الأحجار فيها من عقيق لا ولا التربة عسجدْ ...
قلت: يا قوم أقلوا إنها مسرى محمّدْ ...
إنها معراجه المفضي لأطباق السماءْ ...
وبها صلى بكل الأنبياءْ ...
هل رأيتم في رؤى الماضي، أو الدنيا الجديدةْ ...
هل علمتم، أو سمعتم، أو قرأتم في كتاب أو جريدةْ ...
أن فينا مؤمناً يطرح للبيع (عقيدةْ) ...
* * *
أرضنا القدسُ مزيجٌ من صمود ومرارةْ ...
لم تكن يوماً لبيع أو إعارةْ ...
هي للأمة (ميزان الحرارةْ) ...
ناطق التاريخ في أحيائها يطلب ثارهْ ...
كل شبر من ثراها فيه للتلمود غارةْ ...
هذه القدس نسيج من سناء وطهارةْ ...
ها هو الفاروق في أفيائها يرفو إزارهْ ...
وصلاح الدين يمحو أثر الكفر الصّليبيِّ وعارهْ ...
ثم في غفوة قومي ...
قبض الرايةَ أطفالُ الحجارةْ ...
* * *
ثم ماذا؟ ولماذا؟ ...
تسعة الأصفار تبقى أمةً تلهو وتلعبْ ...
أدمىً نحن؟ رجال من عجين نتقولبْ ...
أم ظهورٌ ومطايا «كل من يرغب يركبْ» ؟ ...
سخر التاريخ منَّا ...
دمنا يرخص كالماء، ولا كالماء يُشربْ ...
إن تكن تعجب من كثرتنا، فالجُبنُ أعجب ...
قد يخيف الذئبُ من أنيابه مليارَ أرنبْ ...
* * *
آهِ! واقدساه من ظلم قريبي ...
وهو يكويني، ومن كيد البعيدْ ...
لا تلوميني على غمي وحزني ...
لا تلوميني على بؤسي ووهني ...
لا تظني غيْبتي من سوء ظنّي ...
أو قعودي عن لظى الحرب لجبني، أو لسنّي ...
لا تلوميني فإني ...
زرعوا قيدين في رجليّ: قيداً من حديدْ ...
مدمنَ العضِّ، وقيداً من حدودْ ...
كلما جئت مطاراً أو قطاراً للعبورْ ...
قدَّم القوم اعتذاراً: أنت ممنوع المرور! ! ...
هذه أوراق إثباتي بأني عربي ...
مولدي، أمي، أبي، عمّي، أخي، جد أبي ...
سحنتي، لوني، لساني، نسبي ...
عشت في هذي البراري منذ عاش الدينصورْ ...
وأكلت الحنظل المرّ ومنقوع القشورْ ...
قذفوا الأوراق في وجهي ولفوا طلبي ...
وجهاراً أقسموا لي: أن سرّ المنع أني عربي ...
هذه التهمة مهما بلغت نصف الحقيقةْ ...
نصفها الآخر يكمن في تلك (الوثيقةْ) ...
كتب الكاتب فيها أنني من أهل (غزةْ) ...
قرروا أن يشطبوها، كرهوها ...
إنها تشبه في الأحرف (عزّةْ) ...
* * *
ثم ماذا؟ ! ...
حرموني من صغاري، من عيوني ويديَّا ...
حرّموا الحبَّ عليَّا ...
جربوا كل سياط القهر فيّا ...
صادروا الحرف الذي أقوى على النطق به ...
قلعوا الأضراس من فكيّ قصوا شفتيَّا ...
حطموا كل عظامي ...
وبعنف مارسوا الإرهاب في ذاك الحطامِ ...
وتلا القاضي على الناس اتهامي: ...
أنني شخص أصولي أجيد العربيةْ ...
ولدى نفسي بقايا من حميةْ ...
أنني (مُعدٍ) لكوني فيّ (فيروس) القضيّةْ ...
ثم ماذا؟! ...
ذات يوم أبصروا في شعر وجهي بعض آيات الصلاحْ ...
هذه الشعرات عنوان الرجولةْ ...
فتنادى علماء النفس والخبرة من كل البطاحْ ...
درسوني وطنيّا ...
درسوني عربيّا ...
درسوني عالميّا ...
فإذا التقرير قد أوصى بنتف الشعر بحثاً عن سلاحْ ...
ثم ماذا؟! ...
ذات يوم هدموا جدران بيتي ...
ورموني في العراءْ ...
تحت نهش البرد والظلمة في فصل الشتاءْ ...
ليس شي بين جلدي وصقيع الأرض أو قطر السماءْ ...
رجفت أعضاء جسمي واستقر الموت في لحمي وعظمي ...
فتنادوْا لاكتشافي ...
رصدوا كل خفايا حركاتي باهتمامْ ...
فحصوا نبضات قلبي ودمائي بانتظامْ ...
درسوني وطنيّا ...
درسوني عربيّا ...
درسوني عالميّا ...
وأداروا آلة التنقيب عن أسرار همي ...
فأتى التقرير مختوماً بتوقيعي وختمي: ...
هو شخص دموي حركي ...
قلبه يخطر في أعماقه (قلب النّظام) ...
* * *
ثم ماذا؟ ! ...
ذات يوم وقف العالم يدعو لحقوق الكائنات ...
كل إنسان هنا، أو حيوانٍ، أو نبات ...
كل مخلوق له كل الحقوق ...
هكذا النصّ صريحاً جاء في كل اللغات ...
قلت للعالم: شكراً أعطني بعض حقوقي ...
حقَّ أرضي، وقراري، وحياتي ...
فتداعى علماء الأرض والأحياء من كل الجهات ...
درسوني عالميا ...
فأتى التقرير: «لا مانع من إعطائه حقَّ الممات» ...
* * *
كيف أمسيتِ بلادي؟ كيف أصبحتِ بلادي؟ ...
كيف أمسى البدر في جوّك مغلول الأيادي ...
آه يا قدسي الحزينة، كيف أنسى شامة الشام السجينةْ ...
لا تلومي صارخاً يصرخ في كل النوادي ...
لا تلومي باكياً أبحر في الدمع سفينهْ ...
لا يلام المقعد المكروب إن أدمى عيونهْ ...
لا يلام الهائم المشتاق إن أبدى أنينهْ ...
قصة القدس دماء، وجراح، وكرامات طعينةْ ...
ليست القدس شعاراً عربيّاً كي نخونهْ ...
ليست القدس مناخاً للسياحات المشينةْ ...
ليست القدس يتامى، وطحيناً، ومعونةْ ...
إنها القدس، وحسبي أنها أخت المدينةْ ...
بسط البغي لها كفاً من الغدر، لعينةْ ...
كفَّ جزار رهيب، جعل الإرهاب دينهْ ...
قبل أن يبسط للسلم يديه وقرونهْ ...
مدّ للأغوار رجليه، وللنفط عيونهْ ...
واقرؤوا القرآن يا قومي لما لا تقرؤونهْ ...
كم نبي، وتقي دون حق يقتلونهْ ...
كم عهودٍ خفروها، واتفاق يهدرونهْ ...
لو هدمتم لهمُ الأقصى ودمرتم حصونهْ ...
وبنيتم لهمُ الهيكل أو ما يطلبونهْ ...
ثم أهديتم فلسطين لهم دون مؤونةْ ...
طالبوكم عبر أمريكا وأوروبا بإبداء المرونةْ ...
* * *
هذه القصة لا سلم ولا ما يحزنونهْ ...
قصة القدس انتقامٌ، صفقاتٌ، ومجازرْ ...
قصة القدس خياناتٌ، وعهرٌ، وكبائرْ ...
وذروني أُجمل القصة في هذا المقامْ: ...
قام قُصَّاصٌ، ووُعَّاظٌ، وتجار كلامْ ...
بشرونا بسلامٍ، ونظام عالمي لا يضامْ ...
هكذا يزعم أقطاب النظامْ ...
يا لقومي! منحة السلم عصا، طبخة السّلم حصى ...
هل سنطهو من حصى السّلم طعامْ؟ ...
يا بني قومي اسمعوها ...
صرخة مني تدوي في الأنامْ: ...
عن قريب، عن قريب، تلد الأجواءُ إعصارَ السلامْ ...
وعلينا، وعليكم، وعلى الدنيا السلامْ ...
__________
(*) شاعر وأديب فلسطيني، أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه.
(1) (دين غزية) كناية عن متابعة الجماعة في الحق والباطل، وهو مأخوذ من قول الشاعر:
... وهل أنا إلا من غُزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد.(162/47)
ندوات ومحاضرات
العلمانية والفن
(2 - 2)
وائل عبد الغني
في الحلقة السابقة تحدث ضيوف الندوة عن جوانب من مسألة العلمانية والفن،
فبينوا ماهية العلمانية وأنها نتاج المجتمعات الأوروبية، وأن الفن جزء من ثقافة
أي أمة، ويتوقف أثره على هدف من يستعمله، وأن الفنان المسلم يهدف إلى قيمه
بالدرجة الأولى، ولو نظرنا إلى فلسفة الفن خلال نصف القرن الماضي لتبين لنا
مدى التجني والخبث العلماني، وفي هذه الحلقة نمضي مع ضيوفنا نتلمس أبعاد
المسألة وأطوارها.
- البيان -
* أ - محمود خليل:
هذه السقطة التي سقطها نجيب محفوظ.. سقطها جيل كامل من الروائيين
السوريين والمغاربة والمصريين؛ ف (أولاد حارتنا) .. هي (قنديل أم هاشم)
ليحيى حقي، و (انتصار العلم على العقيدة) .. هي (نهر الجنون) لتوفيق
الحكيم.. هي (محمد رسول الحرية الثائر على العبيد) .. وهي (الحسين شهيداً
والحسين ثائراً) ... ، كان سقوطاً لجيل كامل؛ لأن تلك الفترة كانت فترة مد
ماركسي، وكان الدافع الأول كما قال أستاذنا هو التشويش والشغب على العقيدة
ليصبح بعد ذلك ما ينادون به واقعاً.
لكن أريد أن أنقل الكلام إلى الفنون المرئية باعتبارها صناعة تكنولوجية
معقدة، وإذا كانت الأقصوصة والرواية المسرحية والعمل الملحمي لها أصول
عربية وأصول إسلامية.. فهذا لا نقاش فيه، لكن الآن أصبحت هذه كمالئات
الفراغ، كالمحتوى للكمبيوتر.. مع دخول الآلة الجهنمية.. ومع دخول رأس المال
القوي جداً.. ومع دخول الأيديولوجيات العالمية المنظمة لمثل هذه الألعاب
الشيطانية العالمية.. ومع وجود الحكومات الخفية في العالم أصبح الأمر أعقد
وأكثر تركيباً وغموضاً مما نظن.
نعم الرواية فن عربي، والحكاية فن عربي. نحن أمة حكاءة وأمة تتلقى
وتحفظ.. وأمة ذاكرتها في التلقي والإمتاع، والاستماع فن أصيل عندنا، لكن
التوظيف المعاصر والتركيب الذي دخلت فيه هذه الفنون أصبح فناً لا يمكن أن نقول
إن لنا فيه ناقة أو جملاً، نحن نتلقى، وللأسف نتلقى، ونعرف أننا نتلقى..
ونعرف أننا ضمن دائرة المؤامرة، ونحسن التفسير التآمري لهذه الأحداث ولا
نصنع شيئاً؛ لأننا لا نملك أن ندخل الملعب الجهنمي العالمي الذي خطط ووزعت
أدواره بعيداً عنا، ولا نملك إلا أن نكون في مقاعد المشاهدين المهزومين، ليس هذا
إلغاءً لدورنا ولكنه توصيف لواقع نبحث له عن حل مستقبلي، والحل من وجهة
نظري ليس في الخصام؛ لأنه سيقتحم عليّ، وسيدخل على الرغم مني.. الآن تم
توزيع المناطق غزيرة الإشعاع في المنطقة الإسلامية، واحتُل الفضاء كما احتُلَّتِ
الأرض في اتفاقية: سايكس بيكو، وسيقتحم الإرسال علينا دون حاجة إلى أطباق.
لا بد أن نبحث عن الحل إذا كنا نريد أن نحيا هذا الواقع، وأن نعلن تحريراً
ولو جزئياً لمعنوياتنا وعقولنا وتربية أبنائنا، لا بد أن نكون شيئاً في عالم الكبار
الذي يرفض الصغار، ويرفض الأعمال الفردية مهما كانت همة أصحابها.. لا بد
من عمل إسلامي عالمي يمثل رأس المال الركيزة الأولى فيه، وأن تكون الأقمار
الصناعية الإسلامية ليس لنقل مباريات الكرة ولا مهرجانات السينما ولا السياحة
الترفيهية.
* د. عبد العظيم المطعني:
أتأذن لي بسؤال تجيب عليه؛ باعتبارك إعلامياً؟ قلتَ إنهم هم يملؤون الفراغ؛
ولو وجدوا فضاءنا مملوءاً لما ملؤوه ... باعتبارك إعلامياً قد يكون المنتج لنماذج
فن إسلامي موجود لكن هل تضمن له أن يملأ الفراغ أو يزاحم ما يسمى بالفن وهو
ليس فناً ولا أدباً..؟ هذه هي مشكلتنا.
* أ - محمود خليل:
الفنون العالمية تعاني من جدب في النتاج الإنساني الذي يرد الإنسان إلى
إنسانيته، الأفلام الإيرانية حققت نجاحات عالمية من باب التقييم البحت، وقد رأيت
عدداً منها ليس فيها ملاحظة عقدية واحدة، وهي تعرض لمتطلبات إنسانية بحتة
بصورة نظيفة بعيداً عن الإسفاف العلماني. الأفلام الهندية البوذية لأنها أفلام طبيعة
وأفلام انطلاق لا تتاجر بالجنس لها مكانتها في عالم الفن [*] . نحن لدينا انتاجنا
الأدبي الذي يمكن أن يمثل ذاتيتنا؛ فعلى سبيل المثال الأستاذ نجيب الكيلاني -
رحمه الله - وإن كان للبعض ملاحظات عليه كان يقول: سأموت محسوراً؛ لأن
عملي الذي أبدعته لم يجد تجسيداً إسلامياً يسد تصويرياً ما وقعت فيه إبداعياً، ولكن
للأسف.. رغم ما عرض عليَّ من عروض سخية جداً، لم أرد أن أقضي نصف
حياتي في السجن، ونصفها الآخر يعبث بها المنتجون غير المسلمين، أو أن أكون
كالجاحظ مع تلميذه؛ أُملي عليه ما أقرأ.. فيسمع غير ما يقول.. ثم يكتب غير ما
يسمع.. ثم يقرأ غير ما يكتب! فأترك أشياء منسوبة لي وما أنا في شيء منها!
وقد كان أمله قبل أن يموت أن يعد فيلماً سينمائياً يجسد جهاد الحركات الإسلامية
المعاصرة ويتركه كأنما هو عمل ملحمي.
البيان: مع الاعتراف بخطر هذه الإشكالية إلا أنه لا يمكن التغاضي عن
الأعراف العلمانية التي تفرض فرضاً سواء في مجال الإنتاج أو حتى في مجال
الترويج والتوزيع؛ لأن الحرمان العلماني الذي يقاسي منه الإسلاميون اليوم لا يكاد
يقاربه شيء إلا الحرمان الكنسي الذي عرفته القرون الوسطى، وهذا الأمر يشكل
هاجساً ملحاً إن لم يكن في مجال الإنتاج وهو حاضر ملحّ ففي مجال التسويق
والترويج والتوزيع.
* د. حلمي القاعود:
للأسف، فإن جهود الإسلاميين في مواجهة هذا الواقع الفني المتردي كانت
محدودة للغاية.
* أ - محمود خليل:
في مصر توجد 16 هيئة علمية لتدريس الفنون ليس بينها واحدة تتبنى النظرة
الإسلامية، إذا كنت أعتبر أن السينما يمكن أن تصبح وسيلة من وسائل الدعوة
المعاصرة؛ فعليَّ أن أشجع الإبداع الذي تحمله صناعة وعناصر موهوبة، وأن أقدم
سينما في مواجهة سينما.. ومسرح في مواجهة مسرح، ونحن لا نملك إلا ما نقوله!
* د. إبراهيم الخولي:
بداية ليسمح لي الأخ محمود أولاً بملاحظة جديرة بالانتباه؛ أقول: إن هناك
فرقاً مبدئياً بين موقفنا وموقف الغرب في المجتمع العلماني.
المجتمع العلماني نفض يده من الالتزام بحرام أو حلال نفضاً كاملاً من نقطة
البدء الأولى على مستوى النظم والشعوب؛ يقول بريجنسكي مستشار الأمن القوي
الأمريكي السابق في كتابه (الانهيار) : «نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة؛
الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء، ولم يعد في قاموسه كلمة حرام أو
محرم؛ وبهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر. السفينة كلها تغرق ولا يملك أحد
إنقاذها! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق!» .
أما نحن فللأسف الشديد في موقف التبعية ولا نستطيع أن نفطم أنفسنا عنه..
«لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب
تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهودُ والنصارى؟ ! قال: فمن؟» [1] .
الإنسان في الغرب عبد نفسه وأحل نفسه محل الله، وأصبح هو مصدر كل
شيء ومحور كل شيء ومعيار كل شيء، دستوره من وضعه.. الأخلاق نسبية،
وهذا ما يردده بعض وزرائنا اليوم.
ثم الغاية تسوِّغ الوسيلة.. الإنسان حر في أن يعيش وجوده، وأن يعبر عن
هذا الوجود كما يريد دونما قيد عليه!
على هذا علينا أن ندقق فيما نقول.. فماذا نعني بسينما إسلامية؟ وهل يمكن
أن نواجه سينما بسينما؟ كيف يتم هذا دون اقتباس من المجتمع الغربي العلماني
الذي لا يصلح مطلقاً أن يكون نموذجاً ولا مصدراً للاقتباس أو المحاكاة لمجتمع مسلم
ما زال يلتزم بالإسلام شعباً وجماعة وإن انحرف النظام؟
هذا إلى جانب ما تتحدثون أنتم عنه كإعلاميين من أن العالم اليوم أصبح قرية
أو ربما غرفة، كيف لي أن أنافس في ظل عالم مفتوح؟
* أ - محمود خليل:
السينما الإيرانية - بغض النظر عن موقفنا من المذهب الشيعي - استطاعت
أن تقدم فناً راقياً دون أن يقع فيما يمارسه الفن العلماني بصورة نالت إعجاب الغرب
نفسه، ودون تلبُّس بما تعتقده من عقائد تخالفنا نحن أهل السنة، وهي في هذا مثال
يمكن احتذاؤه. الأفلام الهندية كذلك؛ لأنها أفلام طبيعة ولا تعرف العنف والابتذال
اللذين تعرفهما السينما الغربية.
وإذا كان الإنسان الغربي قد بدأ ينتابه الملل من هذا التكرار الشديد، والبعض
يعترف بأنها أزمة يحياها الفن الغربي باختلاف مدارسه وتياراته وهي ظل لأزمة
الفكر التي يحياها التيار العلماني بعامة اليوم؛ فإننا يمكننا بما نملكه من مقومات -
متاحة دون أن تستغل - أن ننافس وبقوة.
البيان: ربما نختلف معك فيما يتعلق بالأفلام الإيرانية والهندية، فهي إن
صحت سلامتها من الإسفاف الأخلاقي، إلا أنها لا تسلم من إشكالات عقدية
ومنهجية كثيرة.
* د. إبراهيم الخولي:
بالنسبة للأفلام الإيرانية لو اتفقنا على ما يقال حولها من انضباط؛ فإن مسألة
الاستمرار مسألة مشكوك فيها - وأنا أول الشاكين - في ظل التطور الذي طرأ على
المجتمع الإيراني من أيام الثورة ومروراً برفسنجاني وما بعد رفسنجاني، وبغض
النظر عن رأيي في إيران وتياريها، فإن تيار الإصلاح يمحو كل ضوابط الثورة.
إذن مسألة الاستمرار مسألة فيها نظر، وخاصة أن العوامل التي تأبى
الاستمرار أقوى من أن يقاومها المجتمع الإيراني وغير المجتمع الإيراني.
أما الفن الهندي فقد نشأ في أحضان الديانة الهندية التي لا تقبل هذا اللون من
الفجور الغربي ولا تعرفه، بل وليس ذلك من مطالب الإنسان الهندي وفلسفته في
الحياة.
وكيف لنا بإنجاح مبدأ سينما في مواجهة سينما مثل هوليود التي تنفق على
الفيلم قرابة نصف مليار دولار أو يزيد؟ ! المنافسة هنا أراها غير منطقية؛ لأن
هاجس الربح لا يزال ملحّاً لدينا!
عملية الغزو مستمرة وستستمر، ونحن في كل يوم نفقد من أدوات المواجهة
بقدر ما يزدادون هم في قدرة الهجوم، هذه المعادلة لا ينبغي أن نخطئها!
حين تنتشر الأوبئة وتعم حرب الميكروبات؛ فإن العلاج تحصين الناس في
وجه العدوى، والمشكلة الآن أننا لا نحصِّن المسلمين في بيئاتٍ الإنسان فيها
معرضٌ لأن يصاب بكل الأوبئة من حوله! الأوبئة الآن لا تأتي عفوية؛ وإنما
ترسل إلينا إرسالاً.
إذن القضية ليست أن أحاكي الغرب، وأن أستخدم أسلحته بنفس القوة التي
يستخدمها؛ لأن السلاح نفسه ذو حدين. القضية الآن أننا نواجه عدوى دون
تحصين، وهجوماً دون مقاومة؛ فقد أضحينا جسماً يتعرض لكل أسباب الإصابة
دون مناعة، فعلينا أن نفكر!
* د. المطعني:
كيف تكون المواجهة من هذه الزاوية وأنت ترفض بدائل الأستاذ محمود؟
* د. إبراهيم: نعم أرفضها.
* د. المطعني: ماذا نصنع في ظل الخطر القائم فعلاً مما سمي بالغزو
الفكري لهذه القضية ثم الغزو الأخلاقي ثم الغزو العقدي؟ وعلى حد تعبير الشيخ
الغزالي - رحمه الله -: «إن الغرب نظر إلى الشرق الإسلامي فاتخذ منه مثل ما
يتخذ من المصارف الصحية: يطرد من هناك النفايات والمياه العفنة لتتسرب فينا» .
نحن نملك وسائل المناعة نظرياً، ولكن لا نطبقها عملياً كما يقول الشاعر:
كالعيس في البيداء يهلكها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول
والتطبيق العملي له منبعان:
الأول «الشعوب» : وتبدأ الشعوب بالأسرة.. وتبدأ الأسر بالآباء والأمهات،
ونحن ندرك للأسف الشديد أن كثيراً من هؤلاء يحاولون تربية أبنائهم تربية
إسلامية، ولولا هذا الصنف لأخذ الإسلام رحله وخرج من كثير من ديارنا.
المنبع الثاني «الدولة» : والمفترض في الدولة ألا تسمح بما يبدد عقائد الأمة
ويبدل أخلاقها، وكي نتجنب هذا الخطر فعلى الدولة أن تتبنى مشروعاً إسلامياً
أعلى بإخلاص، وتضع الخطط لرعاية هذا المشروع لتنميته؛ لا نطلب بأن تتحول
الدولة فجائياً وإن كنا نطمح إلى ذلك لتتبنى مشروعاً إسلامياً كاملاً يبنى من خلاله
المجتمع على منهج الإسلام، وعلى أقل تقدير ألا تسمح لنفسها أن ترى في المجتمع
ما يدمر شخصية المسلم، هذا بالدرجة الأولى، وأن تضرب على يد الذين يكرهون
ما أنزل الله، ولا تسمح لهم بأن يطلعوا شعوبنا الإسلامية صباح مساء على ما
يزهدهم في الإسلام ويبعدهم عنه.
هاتان خطوتان لا بد منهما.
وعموماً نحن علينا أن نهيئ الأرض ونضع البذرة؛ أما الإنبات فعلى الله
تعالى.
* أ - محمود خليل:
لعل الدكتور الخولي يرى أن المناعة هي الحل الوحيد.
* د. إبراهيم الخولي: لا بل هي الحل الأول.
* أ - محمود خليل:
المناعة والتحصين هذه ضرورة شرعية سواء كان هناك عدو منتظر أو غير
منتظر..
لكن ماذا نصنع إذا كان هذا العدو قد احتلنا على الرغم منا، ولا نملك مناعة
لا من فيروسات هذا العدو التي لا تقف عند طور، ولا تحدها حصانة أو مناعة
معينة، ولا يحدها الحجر أو العزل الصحي ونحن لا نملك حتى مفهوم: «فِرَّ من
المجذوم فرارَك من الأسد» ؟ ولو أن الفرار من هؤلاء يجدي فتيلاً لفررنا. الآن
يكاد ألاَّ يخلو بيت من جهاز استقبال في زمن احتلت فيه السماوات كما احتلت
الأرض.
والسينما باعتبارها من الوسائل العصرية تأتي ضمن هذا المسلسل لا نقول
الجهنمي إلا لملئه بمحتوى فاسد، وكون الحرام غلب عليها فحرمناها، هذا لا يعني
عدم إمكانية استغلالها كأداة من قِبَل المصلحين. ولعل هذه الحساسية من السينما
موروثة منذ أن جاءت السينما إلى بلادنا في عام 1897م، وليس غريباً أن أول ما
قامت بتقديمه جماعة أجنبية في سينما بجوار حمام سباحة للعراة! يعني من أول يوم
يعلنون أن بضاعة العلمانية الجسد الرخيص! لكن تبقى الوسيلة بعد تصفيتها
وتحليتها وسيلة مشروعة.
البيان: هناك تعليق معبر للمنفلوطي - رحمه الله - في (نظراته) بمناسبة
أول عرض مسرحي قدم في القاهرة، وهو شهادة مهمة على عصره يقول: «كان
الشر مفرقاً في البلاد فجاء كشكش فجمعه في مكان واحد» .
* أ - محمود خليل:
نعم.. ولعل هذا الفساد بل الإفساد من أول يوم هو الذي أوجد هذه الحساسية
لدى الشباب المسلم، وحاول بعض المصلحين أن يرشِّدها ويستثمرها في إيجاد
نموذج للإبداع الصحيح. ويظل بعد ذلك السؤال المفتوح لنا: ما الحل؟
البيان: تبقى احترازات الدكتور الخولي لها وجاهتها وخاصة أن تجارب عدد
غير قليل من الذين اعتزلوا الفن قد انتهوا إلى غير ما بدؤوه حين اعتزلوا، وهو
أمر يدعو إلى التريث وإعادة تقويم الأمور.
* أ - محمود خليل: مسألة الحرام خارجة تماماً عما نطرحه من تصور
لعلاج هذه المشكلة.
البيان: لكن المشاكل تظهر دائماً في التطبيق ولم تنتف بعد؛ ولذا ينبغي
الحذر والاحتراز.
* د. عبد العظيم المطعني:
الدكتور إبراهيم يرى الاحتراز ليس حلاً، وإنما تجنباً للشر.. أما المناعة
فتنبت من داخل الإنسان نفسه، هناك فرق بين الأمرين.
هناك حلان: حل سريع وهو المنع من الخارج؛ والثاني أنه بعد منع الخطر
لا يمكن أن نترك الإنسان في حالة ضعف؛ إذ لا بد أن نمنحه قوة ليتقي بنفسه
الشرور.
البيان: لكن الفن وإن تزايدت الحاجة إليه باعتباره وسيلة من وسائل الحماية
والبناء يبقى الوضع القائم له كمؤشر عليه، إلى جانب الخلاف الفقهي في مسألة
التمثيل التي تجعل المرء أكثر حذراً في التعامل، بل ربما احتاجت ممارسة الفن
إلى مزيد من التحصين المسبق والمستمر، بحيث تبقى المعضلة الكبرى هي إيجاد
فن هادف ملتزم بالضوابط الشرعية التي تطلق الإبداع في مجال البناء وتكفه عن
مجال الهدم.
* د. إبراهيم الخولي:
دائما يجب أن يوضع في الاعتبار أننا حين نتحدث في ظل مجتمع يلتزم
بشريعة الإسلام، ويلتزم بالحكم فيه بهذه الشريعة يختلف عما إذا كان حديثنا عن
مجتمعٍ النظامُ فيه علماني والشريعة معطلة؛ لأن ضمانات ألوان النشاط في المجتمع
في مثل هذه الحالة أنت لا تملكها، ومن ثم يصبح التجريد كلاماً بغير إنتاج، أنت
ضربت مثلاً بإيران.. إيران بعد مرحلة من مد الثورة وعنفوان التشدد والحمية بدأ
التحلل من كثير من الضوابط بغض النظر عن رأينا فيها، وأنا أعتقد أنه لو استمر
الوضع في ظل الحكومة الحالية فإن المسألة ستختلف بعد 5 سنوات اختلافاً كبيراً
جداً عن الصورة التي رآها الناس عندما كانت الثورة مهيمنة على كل شيء في
توجيه المجتمع الإيراني. هذا الأمر لا يخص إيران فقط وإنما يمتد لمجتمعات سُنِّية
عرفت بالمحافظة لفترات طويلة.
ولهذا أقول إن الفتوى مرتبطة بزمانها ومكانها وملابساتها، وليس يجوز أن
أحلل الفتوى من قيود الواقع؛ إذن وجود نظام بالمفهوم الصحيح وحكومة مسلمة
ملتزمة بشريعتها لا تعطلها ولا توقف جزئية منها هذا الأمر أو عدمه يضع قيوداً
عليَّ حين أعالج قضية كقضية الفن الإسلامي.
* أ - محمود خليل:
العمل على إيجاد النظام الإسلامي المتكامل يحتاج لجميع الوسائل المشروعة،
والتي منها الفن المنضبط بالضوابط الشرعية، والتي ما زلت أرى إمكانية بروزه
واكتساحه متى وجد.
* د. عبد العظيم المطعني:
بمناسبة ما يقال عن الفتوى فإن الفتوى الأخيرة التي أفتى بها البعض بجواز
ظهور الصحابة عدا العشرة المبشرين بالجنة على خشبة المسرح وفي التلفاز تطرح
إشكالين كبيرين:
الأول: حول الجهة التي أصدرت الفتوى وكون فتواها غير ملزمة لعدم
انضباط الحكم فيها؛ إذ لا فرق بين العشرة وغيرهم من هذه الجهة.
الأمر الثاني: وهو الإلحاح العلماني المتواصل في تكسير الثوابت الشرعية
وهزها، وقد نجح بعد حين في استصدار الفتوى ومن ثم توظيفها في إسقاط الضابط
الشرعي، ولكن هذه المرة تم اسقاط الضابط باسم الإسلام. وانظر كيف يأتون
بإنسان شرب الخمر ليمثل خالد بن الوليد أو ابن عباس - رضي الله عنهما -[**] ؟ !
الحصاد:
البيان: الناظر في أحوال المجتمعات الإسلامية لا يمكنه أن يغفل أثر الفن
المعلمن في عملية التفكيك سواء على مستوى الفرد الذي أصبح يحيا بين غريب
ومتغرب وازدواج، أو على مستوى المجتمع الذي بدأ بتغيير كبير في بعض أنحائه،
وبثنائية ثقافية أقرب إلى الصراع منها إلى التعايش.
* د. حلمي القاعود:
هكذا يبدو تشكيل الشخصية في المجتمع المسلم وفقاً للمفاهيم العلمانية يصب
في خانة سلبية، وفي السنوات الأخيرة، راح صناع السينما والمسرح يقلدون ما
يجري في أوروبا وأميركا تقليدًا شبه كامل، وينتجون أعمالاً مطابقة للأعمال
الأوروبية والأمريكية، مع تغيير الأسماء والأماكن فحسب، فحفلت أعمالهم بالعنف
والجنس والعبث والتفاهة واللهو بألوانه المختلفة، مما جعل شبابنا العربي المسلم
يقلد أبطال هذه الأعمال في الملبس والسلوك والفكر، ولأول مرة نواجه جيلاً لا
يشعر بالانتماء إلى وطن أو قومية أو دين.. شباب متغرِّب لا يجد غضاضة في
احتقار هويته والإشادة بالآخرين.
البيان: بشهادة إحدى ممثلات الإغراء؛ فإن حصيلة الأفلام السينمائية خلال
الخمسين عاماً الماضية بلغ 3000 فيلم؛ نصفها على الأقل أخذ السيناريو فيه كاملاً
بمشاهده وأحداثه من فيلم أجنبي، هذه الشهادة تجلي بمرارة قدراً من الجرم العلماني
في هذا المجال.
* د. حلمي القاعود:
ثم - وهو الأخطر - مدى التأثير الفادح الذي وقع على الأسرة المسلمة؛
حيث أخذ الشباب والفتيات يقلدون النماذج الدرامية في العلاقات والسلوك مما أدى
إلى شيوع العزوبة والعنوسة والتفكك الأسري.. صحيح أن المسألة لم تصل إلى
المستوى الذي يحدث في الغرب، ولكنها ستصل إذا لم تحدث مواجهة إسلامية جادة
وعاقلة.
لقد دخل إلى مجال الفن بعض الأفراد المدعومين غربياً، وخاصة من فرنسا،
مهمتهم الأساسية تشويه التاريخ الإسلامي، وتقطيع الروابط التي تربط بين الأمة
الإسلامية، وتجعل من المحتلين الغزاة أو المستعمرين الغربيين رسل حضارة
وتنوير وتقدم.. وقد أشرت في كتابي: «أهل الفن وتجارة الغرائز» إلى هذه
النقطة بتوسع، وسأكتفي هنا بضرب مثال حول صلاح الدين الأيوبي بطل تحرير
القدس وفلسطين فقد صوّره أحد الأفلام في صورة «الكاوبوي» ، و «زير
النساء» ، و «رجل الأعمال الغامضة» الذي يحقق انتصاراته بطريقة مريبة،
مع أن صلاح الدين كان رجلاً زاهداً عابداً فقيهاً بالشريعة مخلصاً لربه ودينه،
واضحاً كل الوضوح حتى مع أعدائه الذين حاربهم أو هادنهم، وكان مثالاً للخلق
الإسلامي الكريم في أرقى صوره ونماذجه، ولولا ذلك ما حقق انتصاره التاريخي
الذي أشاد به الأعداء قبل الأنصار!
ينبغي أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي دور الدراما، وخاصة المسرح في
نشر النظريات والدعوات المعادية للإسلام والتدين بصفة عامة؛ فقد استطاع
الماركسيون والوجوديون والعدميون والعبثيون أن يتخذوا من المسرح تكأة يروجون
من خلالها لأفكارهم وتصوراتهم، وفي الوقت ذاته كان هناك تعتيم أو إقصاء لكتَّاب
المسرح الذين يتبنون مواقف إسلامية أو قومية تنطلق من تصور إسلامي؛ كما
حدث مثلاً مع الكاتب الشهير الراحل «علي أحمد باكثير» الذي خصص معظم
إنتاجه المسرحي لمعالجة القضية الفلسطينية من منظور إسلامي، ولكنه للأسف تم
التعتيم على إنتاجه وإزاحته من خشبة المسرح، ليخلو المكان لدعاة الشيوعية
وأشباههم من العلمانيين.
ثمة ملامح عديدة يمكن الحديث عنها في إطار تناول الحصار الفني للدراما
على مدى نصف القرن الأخير، ولكننا سنكتفي بملمح واحد فقط يتناول الجانب
اللغوي.
ومن ناحية أخرى؛ فإن انتشار التليفزيون وتعدد قنوات الإرسال القُطْرية من
العواصم العربية، دعا هذه العواصم إلى محاولة إشاعة لهجاتها الإقليمية والمحلية،
مما كان له تأثير ما في تكريس الإقليمية، ووضع عقبة جديدة ضد التقارب القومي،
وهناك مسلسلات وتمثيليات يصعب فهمها؛ لأن لهجتها المحلية تستغلق على
المشاهد الذي لا ينتمي إليها.
ومهما يكن من أمر؛ فينبغي أن نشير إلى أن بعض شركات الإنتاج
ومؤسسات التليفزيون ذات التوجه الإسلامي أخذت على عاتقها إنتاج بعض الأعمال
الملائمة التي لا تتعارض مع التصور الإسلامي سواء كانت تاريخية أو واقعية..
وهذا يستدعي أن نشد من أزرها بالكتابات الدرامية الجيدة التي لا تتنافى مع قيمنا
وأخلاقنا، وأن نشجع على التوسع في إنتاج الأعمال المؤثرة والمفيدة والجذابة التي
تجمع بين صفاء التصور وقوة الأداء. والأعمال الجيدة قادرة بذاتها على الاستحواذ
على الجمهور الذي يسعى إلى المثل العليا والقيم الفاضلة والأخلاق الرفيعة.
إذا كانت الهيمنة الكنسية ومظالمها البشعة من الأسباب الرئيسة في ازدهار
العلمانية وانتشارها في أوروبا؛ فإن العلمانية لم تحقق للفرد الأوروبي أو
المجتمعات الأوروبية والأمريكية تبع لها الاستقرار النفسي أو الإشباع الروحي؛
ذلك أنها منحت الفرد والمجتمع على السواء الإشباع المادي وحده، ونتيجة لذلك
انهارت قيم المسيحية العليا، وسقطت المرجعية الدينية بالنسبة للسلوك الفردي أو
العلاقات الاجتماعية، ولعل هذا يفسر كثرة الحروب الطبقية والطائفية والقبلية في
أوروبا عقب العصور المظلمة، ناهيك عن الاستعمار العسكري المباشر، والثورات
الداخلية الدامية.
لقد انسحبت هناك مرجعية العلمانية إن صح التعبير على الفنون جميعاً، بما
فيها الفنون الدرامية؛ حيث انغمست في التعبير عن العري والانحلال والرذيلة
بصورة مكشوفة وسافرة، وكأنها تدعوه للإباحية والشر والعنف، وقد ضجت بعض
المجتمعات الأوروبية سخطاً وغضباً على بعض الكتَّاب والشعراء كما رأينا في
فرنسا حين ثارت الكنيسة على رواية «مدام بوفاري» ، وديوان «أزهار الشر»
لبودلير في القرن الماضي، ولكن المسألة اليوم تعدت الرواية والديوان المذكورين
إلى إنتاج الأفلام الإباحية الصريحة التي تسمى بالأفلام الزرقاء على نطاق واسع،
وأصبحت المرأة تظهر عارية تماماً في العديد من المسرحيات، كما أصبحت مشاهد
الجنس الكاملة موجودة في معظم المسلسلات التليفزيونية.
وقد انتقل إلى بلادنا العربية المسلمة شيء كثير من هذا، وصار الدفاع عنه
يرفع راية حرية الإبداع وحرية التعبير، وكأن حرية الإبداع أو حرية التعبير تعني
إسقاط كل القيم وثوابت المجتمع وعدم مراعاة خصائص الأمة وأخلاقها ومرجعيتها
الأساسية.
وقد شهدت السنوات الأخيرة بعض الصراعات بين دعاة العلمانية والمدافعين
عن الإسلام حول قضية التعبير بالجسد؛ سواء في الفنون الدرامية أو الكتابية،
وذهب غلاة العلمانيين إلى ضرورة أن تتحرر الأمة من عقدة الجسد، وطالب أن
تدخل المرأة اللوحة كما تدخل الحمام!
كما انتشرت الكتابات الإباحية مؤخراً عبر الروايات والقصص القصيرة
والأشعار والمسرحيات؛ اختباراً لمدى قدرة المجتمع على تقبل هذه النماذج التي
ترتبط عادة بالتجديف والإساءة إلى الذات الإلهية والمقدسات.. وتبنى بعض
المسؤولين هذه النماذج وأعلن عن علمانية المجتمع الذي يضم مسلمين وغير
مسلمين.
ولكن الأمة في مجموعها عارضت هذا التوجه معارضة فعالة، ورفضت
العلمانية، وأعلنت تمسكها بدينها ومقدساتها.
إن الفنون الجميلة تهب الناس متعة الجمال والراحة النفسية حين تضع في
حسبانها أن تكون فنوناً رفيعة ترقى بالروح وتسمو بالوجدان وتغرس في النفس
البشرية قيمة إنسانية عليا، ولكنها تتحول إلى فن شيطاني خبيث حين تدعو إلى
الرذيلة والشر والعنف، أو تسلخ الإنسان عن هويته وقيمه وعقيدته وأخلاقه.
وللأسف الشديد؛ فإن معظم ما أوحت به العلمانية وما أنجزته كان مخاطبة
الجزء الأسفل من الإنسان، أي مخاطبة الغرائز دون مخاطبة القيم، وهي كارثة
بكل المقاييس.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* د. المطعني:
الحصاد له جملة وله تفاصيل.. جملته أنهم نجحوا في أن يجعلونا شعباً
أوروبياً يعيش على أرض إسلامية أو عربية، بمعنى أنهم نجحوا في اللعب في
تكويننا الثقافي، وانعكس هذا على السلوكيات حتى على الناس الذين صلتهم بدينهم
قوية تجد تأثير الفن عليهم من قريب أو من بعيد؛ وهذا ما يمكن أن نسميه علمانية
السلوك.
دائماً تبقى العقيدة هي الحصن المنيع. نعم قد ينجحون في المستقبل في
التأثير في قطاع واسع من الشباب غير المحصَّن؛ لكن الشباب المحصَّن بالعلم
والتنشئة الأسرية الطيبة لا يقع - بمشيئة الله - تحت تأثيرهم. ثم هناك علمانية
الأخلاق: التعامل بالربا في البنوك والاقتصاد، وما نسمع عنه اليوم من زنا
المحارم، والفساد الأسري، وانفلات المعايير الاجتماعية، كل هذا انعكاس للتسيب
العلماني الذي أوصلونا إليه؛ حتى أصبحنا اليوم نتصرف ونحن لا نشعر أننا نخدم
أعداءنا!
* أ - محمود خليل:
الحصاد على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي والأخلاقي يلخصه قول
الله - عز وجل -: [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ
نَكِداً] (الأعراف: 58) .
إذا كانت العلمانية تتزيا بأثواب تجددها كل حين حتى لا تَخْلَق؛ فإن آخر
أثوابها الحداثة.. وإذا كانت الحداثة في مجملها: هي الخروج على ما تم تقعيده في
المجتمع من أطر عقدية وأخلاقية ولغوية؛ بمعنى أنها هي التطبيق الفلسفي لنظرية
النسبية التي تعني الوصول إلى نسبية الأشياء بحيث تنتفي أي مرجعية وهذا ما
تعنيه الحداثة، أما ما بعد الحداثة: فهي الهجوم على المقنن والمقدس وإنزاله منزلة
المدنس إلى الحد الذي وصل فيه التطبيق العملي أن تخرج إحدى المجلات التي
عرفت بعدائها للإسلام بملف خاص عنوانه: الله في السينما! وفي عدد آخر تحت
عنوان: حوريات الجنة! ويصورون أشكالهن وكيفية جلوس الشهيد وحوله اثنتان
وسبعون منهن، وجمالهن وعيونهن وعريهن! .. هذا هو التطبيق العملي لما بعد
الحداثة حتى ننتهي إلى ما قاله أستاذنا الدكتور الخولي ألا تكون هناك حصانة ذاتية
ولا مرجعية ذاتية ولا تمييز بين الصواب والخطأ في نفوس الناس؛ فتنتفي
الاستقلالية الذاتية والأهلية الذاتية الإسلامية الخاصة بحيث يصبح المسلم غير
مؤهل.
أما على المستوى الفكري والاجتماعي والأخلاقي فهذه تفريعات لشجرة تنبت
في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين؛ لأن الفكرة تنزل اجتماعياً وتؤثر
أخلاقياً، وهنا تحضرني كلمة للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - يقول فيها:
«إن السيل ربما ضرب القمة حيناً بأمواجه لكن في النهاية لا تظفر به إلا
الوهاد والمستنقعات» .
نجح العلمانيون عن عمد في استقطاب الموهوبين وأنصاف الموهوبين
وأعشار الموهوبين في ثلاثة عقود سابقة وعبؤوهم هذه التعبئة الفاسدة، فأصبح
النتاج الروائي والقصصي والمسرحي من فساد إلى فساد.
* د. إبراهيم الخولي:
النسبية التي تحدث عنها الأستاذ محمود معناها تحديداً أن الأخلاق ليس لها
أصل إلهي، ولا أصل ديني، وأن الأخلاق بالمواضعة؛ فما يكون فضيلة اليوم قد
يكون رذيلة في زمن.
الدور الذي يقوم به الفن لصالح الغزو العلماني يأتي متضافراً ومواكباً لغيره
من أدوات الغزو؛ وعلى سبيل المثال حين يقول محمد سعيد العشماوي: إن
اليهودي المؤمن بالتوراة والنصراني المؤمن بالإنجيل والمسلم كلهم على قدم المساواة
في صحة الاعتقاد وفي المصير المضمون أي النجاة ودخول الجنة! ويقال للشباب
المسلم: إن الإسلام لا يكفر أحداً على خلاف ما تنطق به الآيات.. حين يقرأ المسلم
هذا الكلام فما الذي يمنعه أن يقبل من منصِّر أن يتنصر؟ !
البيان: الفن يقدم مثل هذا وأخطر بأسلوب أعمق أثراً.
* د. إبراهيم الخولي:
هذا ما كنت أبغي الوصول إليه، نحن نعلم أن الإسلام ليس دين كهنوت،
لكن طبيعة الحياة اقتضت أن لكل شيء رمزياته وظواهره، ومن هنا نسأل: لماذا
شخصية العالم المسلم دائماً هي الشخصية المهينة في كل أجهزة الإعلام وفي كل
الفنون؟ وحين يريدون أن يسخروا من شخصية فإنهم لا يختارون إلا شخصية
دينية! .. ثم أخطر من هذا حين يصبح واعظ المجتمع أحد المهرجين! .. يسمعه
الناس في الصباح يتحدث عن القيم والمثل ثم يرونه في المساء مهرجاً، هنا تهتز
القيم!
في ظل هذا الخلط - وهذا جانب منه - كيف للشباب المسلم الذي لم تعلِّمه
مدرسة، ولم تربِّه أسرة، ولم تبرز أمامه قدوة صالحة وإن برزت تشوه كيف له في
ظل هذا التشتت الذي أنتجته العلمانية أن يقيس الأمور؟
المواجهة:
البيان: في ضوء هذا كيف تكون المواجهة؟
* أ - محمود خليل:
أولا: تهيئة عناصر فنية متعددة تنطلق من أرضية إسلامية عميقة وراسخة
وشاملة.
ثانياً: ضرورة الاقتناع أن التمويل المتكامل في مجال الفنون أصبح ضمن
عناصر التربية الإسلامية التي بدون العمل بها وشغل هذه المساحة ستظل مساحة
فارغة ضمن حقل التربية الإسلامية يتقدم غيرنا لملئه.
ثالثاً: ضرورة الإنفاق على مشروع إسلامي عالمي ضمن المنطقة غزيرة
الإشعاع لقمر إسلامي يضع له المتخصصون استراتيجية واسعة في العمل، وهذا
مشروع استثماري مادي في المقام الأول قبل أن يكون استثماراً في مجال التربية،
بعيداً عن الأطر الجغرافية والضغوط الحزبية والعصبيات السياسية.
رابعاً: تشجيع فنون الأدب الإسلامي بكاملها ليتوفر المكان الذي يمثل المادة
الخام لملء هذه الوسائل الإعلامية التي تحتاج إلى زاد يومي لا ينتهي.
خامساً: الاتفاق على بعض الوسائل اللازمة لنا بوصفنا مسلمين والتي تدخل
ضمن وسائل التعبير المباح، وعدم الانشغال بساحة الفن الواسعة التي لا تعرف
لانفلاتها حداً ولا قيداً؛ وعلى سبيل المثال: النحت والموسيقى لا حاجة لنا إليهما.
* د. عبد العظيم المطعني:
أركز مع هذا الكلام على التربية بأن نتوجه إلى الآباء لكي تنشأ المناعة مع
الطفل منذ نعومة أظفاره، ولا تعجز الأسرة عن تربية أبنائها تربية عملية.
البيان: لا بل قد عجزت في ظل موجة إفساد لم تعرفها الأمة من قبل ولا في
الأندلس.
* د. عبد العظيم المطعني:
السلوك الإسلامي بين الوالدين داخل الأسرة الملتزمة يمكن إلى حد كبير أن
يؤثر في سلوك أبنائها.
ثانياً: مهمة الدعاة أن يكونوا حكماء أشداء رحماء في آن واحد.
ثالثاً: فك الأسر الذي يقع فيه خطباء المساجد الآن في عدة بلاد إسلامية،
والحفاظ على المناهج الإسلامية نقية كاملة دون حذف أو تشويه، ومن أسف فإن
الخطباء الذين حققوا نجاحاً في المجتمع أغلبهم لم يتخرج من مؤسسات علمية
شرعية؛ ولهذا أقول إن هذه المؤسسات حتى في حال قوتها لا تعطي العلم وإنما
تعطي مفاتيح العلم؛ ولهذا فإن إعداد الدعاة لا يقف عند مجرد التعليم الجامعي،
وإنما يبدأ من انتقائهم من وسط أخلاقي طيب، وأن يكون الداعية مولعاً بمهمة
الدعوة وليس مرغماً أو مكلفاً بها، إلى جانب هذا لا بد من إعطاء الدعاة حصانة
كحصانة رجال القضاء ليؤدوا واجبهم بكفاءة؛ وأعني الحصانة عن المساءلة؛ لأن
الخطيب إذا اعتلى المنبر وأدرك أن قوة ما سوف تحاسبه فسيجبن، وربما رأى
الباطل حقاً والحق باطلاً، وفي مقابل هذا الحق أن يكونوا في أنفسهم موضوعيين
لا يتحاملون على أحد أو يجاملون أحداً لكي يكونوا أهلاً لهذه الحصانة.
وعلى الدول كذلك أن تحسّن من الحالة المادية للدعاة.. فهذه الدول عندما
أرادت نزاهة القضاء فإنها وضعت لرجاله مخصصات مالية لا يوقع عليها إضافة
إلى الراتب الذي يوقع عليه وأكثر منه؛ بحيث تضمن التفرغ التام للعدل والإنصاف
وتضمن له عيشة كريمة، والداعية حين يجد الكفاية فإن ذلك يعينه ولا شك على
القيام برسالته.
ثم علينا أن نعيد حق الشعب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الشارع؛ بحيث لا يصور هذا على أنه تطرف أو تدخل في حريات الناس؛ لأن
رجل الشرطة اليوم لم يعد يهمه منكر يكون حراماً، وإنما المنكر عنده ما تحظره
الدولة وإن كان واجباً دينياً، إضافة إلى كون رجال الشرطة غير متواجدين في
جميع الأماكن، هذه الشعيرة ليست حقاً بل هي واجب على جميع المكلفين، والدولة
حين تعترف للشعب بمزاولة هذا الحق فإنه يستطيع أن يقضي على ثلاثة أرباع
الفساد المنتشر في الشوارع.
* أ - محمود خليل:
ألفت النظر كذلك إلى ضرورة التنبيه الدائم على أخطار العلمانية؛ بحيث لا
يتسرب اليأس أو الفتور أو شعور العاملين في الحقل الإسلامي بطول المسافة وبُعد
الشقة؛ لأن التنبيه الدائم تتسلل من خلاله الحصانة الوقتية، والمواكبة للأطوار
الخبيثة للعلمانية.
البيان: نشكر الأساتذة الفضلاء، ونؤكد في الختام على أن الواجب علينا
جميعاً الاهتمام بضرورة التأصيل الشرعي العميق للعمل الإسلامي بكل مجالاته،
والانطلاق من الثوابت العلمية والمنهجية بكل تجرد واتزان، والحفاظ على الهوية
الإسلامية المتميزة المعتزة بدينها وعقيدتها.
__________
(*) مع تقديرنا لرأي الأستاذ الفاضل، إلا أننا نرى أن الأفلام الإيرانية والهندية لا تخلو من إشكالات شرعية ومنهجية كثيرة، بل ولا يخلو بعضها من انحرافات عقدية خطيرة! ! .
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، ح/ 7320، مسلم في كتاب العلم، ح/ 2669.
(**) للصحابة - رضي الله عنهم - منزلة جليلة، وحقهم هو الإجلال والتقدير، وتمثيل الصحابة - رضي الله عنهم - لا يخلو من تعد على مكانتهم، وامتهان لقدرهم، ولذا يجب التوقي والحذر.(162/51)
وقفات
حسن الاتصال بالناس
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
نجاح الداعية في تحقيق أهدافه ونشر رسالته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على
الاتصال بالناس؛ فالدعوة إلى الله - تعالى - تفاعل تبادلي بين الداعية،
والمدعوين.
وتنمية مهارات الاتصال للدعاة في غاية الأهمية؛ لأنها هي - بعون الله
تعالى - الأداة الفاعلة للنجاح الدعوي.
ويعتمد حسن الاتصال على أمور رئيسة، من أهمها:
أولاً: القدرة على نقل المبادئ والعلوم بإتقان:
ويتطلب ذلك قدرة فائقة على ضبط المعلومات وفهمها فهماً صحيحاً، ثم
ترتيبها حسب الأوْلى، ثم نقلها إلى الناس بدقة واتزان، وهذا مصداق قول النبي
صلى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها،
فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» [1] .
والحرص على ذلك يحول - بإذن الله - دون سوء الفهم، أو تداخل العلوم.
قال إبراهيم بن محمد: «كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السمع من سوء إفهام
الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع» [2] .
ثانياً: معرفة أحوال المخاطبين:
إنَّ معرفة اتجاهات الناس الفكرية، والنظم الاجتماعية السائدة بينهم، تعين
في التزام الأسلوب العلمي المناسب في التواصل البنَّاء معهم، ولهذا لما أراد النبي
صلى الله عليه وسلم أن يرسل معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له: «إنك
تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله؛
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم.. الحديث» [3] .
فعرَّفه أولاً بالبيئة التي أرسله إليها، ثم بيَّن له سبيل التواصل معهم. فالاتصال
بالناس يتطلب مخاطبتهم على قدر عقولهم وفهومهم؛ ليكون ذلك أبلغ في التأثير
عليهم، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «حدّثوا الناس بما
يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟ !» [4] . وقال ابن مسعود - رضي الله
عنه -: «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [5] .
ثالثاً: القدرة على الإقناع:
وهذه مهمة صعبة لا يتقنها كلّ أحد؛ فكم من متحدث متقن للعلوم التي يتحدث
عنها، لكنَّه يُخفق في إقناع الناس بما عنده؟ ! وربما تجد شخصاً أقل بضاعة
وأضعف فهماً، لكنه أَلْحن حجة وأحسن بياناً، وهذا المعنى أحد فوائد قول النبي
صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من البيان لسحراً» [6] . فالعرض الجيد يملك القلوب،
ويؤثر في النفوس، ولهذا عرَّف بعضهم البلاغة بقوله: «إهداء المعنى إلى
القلب في أحسن صورة من اللفظ» [7] .
وإذا أردت أن تقف على أمثل درجات الإقناع وأعلاها منزلة، فاقرأ سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي عامرة بالشواهد والأمثلة، ومن ذلك أنَّه لمَّا أفاء
الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم الفيء في المؤلفة قلوبهم، ولم
يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم حزنوا إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:
«يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ! وكنتم متفرقين فألَّفكم الله
بي؟ ! وعالة فأغناكم الله بي؟ !» . كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمَنُّ.
قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !» ، قال: كلما قال
شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: «لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون
أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم.
لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي
الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أَثَرة
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» [8] .
فانظر إلى عظيم حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنَّه ربَّى الأنصار -
رضي الله عنهم - أحسن تربية، ونقلهم من التطلع إلى فيء الدنيا وزخرفها
الزائل، إلى عظيم أجر الله تعالى لهم ونعيمه الدائم، ولهذا جاء في بعض روايات
الحديث: أن الأنصار بكوا بعد سماع كلامه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: رضينا
برسول الله قَسَماً وحظاً [9] .
ولأهمية الإقناع في إيصال المبادئ والأفكار إلى السامعين أضحت وسائله
علماً يُدرَّس، ووضعت له قواعد وأصول، فإذا كان التلقين المجرَّد عن البرهان قد
يستسلم له طائفة من الناس، فإن طوائف أخرى كثيرة لن تقبل إلا ما تؤمن به
وتطمئن إليه، وأحسب أنَّ الدعاة إلى الله أوْلى الناس بدراسة هذا العلم ومعرفة
فنونه وطرائقه؛ فهم حَمَلَةُ رسالة عظيمة، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) . وسلامة المنهج الذي
يحملونه ليس كافياً وحده في إقناع الناس، بل لا بد من سلامة العرض وقوة الإقناع.
رابعاً: الجاذبية الشخصية:
وهي عامل رئيس في مخاطبة الناس والتأثير عليهم، فإذا لم يحب الناسُ من
يدعوهم إلى الخير ويألفوه؛ فإنهم لن يسمعوا منه أو يلتفتوا إليه.
ومن أهم مقومات الجاذبية الشخصية:
1 - إظهار المحبة والشفقة على الناس، حتى على المقصرين منهم؛ فالداعية
الصادق همُّه أن يهتدي الناس إلى الحق، ولا يظهر الشماتة أو التشفي أو الرغبة
في الانتصار.
2 - حسن الخلق في تواصله مع الناس: فذلك يجعل الداعية يألف ويؤلف،
والكلمة الطيبة مفتاح القلوب، وعنوان النجاح، وربّ كلمة لطيفة يسديها الداعية
إلى بعض الناس لا يلقي لها بالاً تفعل فعلها في نفوسهم، وتثمر خيراً كثيراً، وما
ظنك بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد؛ فثار عليه الناس ليقعوا به، لو أنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنَّفه وشدَّد عليه، فهل كان من الممكن أن يبقى
على دين الإسلام..؟ ! ولكن تأمَّل موقف النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا غلَّب
جانب الهداية على جانب الطهارة، حتى يُعلِّم الأعرابي ويفقهه في الدين، ثم انظر
أثر ذلك في قلب الأعرابي عندما قال: «اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا
أحداً» [10] .
3 - الحلم وسعة الصدر: فالإنسان المتشنج الغضوب سريع الانفعال لن يجد
من المدعوين إلا النّفرة والإعراض، أما الحليم الذي يصبر على جهل الجهول وأذاه
فهو الذي يفلح في تبليغ رسالته البلاغ المبين، وينجح في استمالة الناس إليه، ومن
الدلائل اللطيفة على ذلك ما رواه معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال: «بينا
أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت:
يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: واثُكْلَ أمِّياه! ما شأنكم تنظرون
إليَّ؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يصمِّتونني، لكني
سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي! ما رأيتُ
معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني،
قال:» الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير
وقراءة القرآن «. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [11] .
خامساً: القدرة على التفاعل الإيجابي مع المدعوين:
أحسب أن كثيراً من الناس يأسرهم ويشدهم إلى قلب المتحدث تفاعله الحي
معهم. وكثير من الإخفاق الدعوي الذي يعرض لبعض الدعاة من أسبابه الرئيسة
قصورهم في التجاوب مع آراء الناس ومشكلاتهم، وقصورهم في إدراك ردود
الأفعال بحجمها الصحيح؛ فهو لا يعرف ما إذا كان السامعون فهموا مراده، وآمنوا
برسالته، أم أنه يتحدث في وادٍ والناس في واد آخر..!
لقد رأينا دعاة يعتقدون أنهم أدوا الواجب وأبرؤوا الذمة بمجرَّد وقوفهم أمام
الناس متحدثين، وهذّهم ما عندهم هذّاً، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء النظر في نتائج
ذلك العمل، ومقدار احتفاء الناس به وتفاعلهم معه.
لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على كسب قلوب الناس،
ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:» كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا « [12] . ووصفت عائشة -
رضي الله عنها - حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقولها:» كان يتكلَّم بكلام بيِّن
فصل، يحفظه من جلس إليه « [13] .
إنَّ ثمة حقيقة ناصعة الوضوح يجب على الدعاة أن يستصحبوها في جميع
مناشطهم الدعوية، وهي أن الساحة الحالية ساحة منافسة وسباق مع شتى التيارات
الفكرية، والأقدر على تحسين أدوات الاتصال بالناس؛ هو الذي سوف يحظى بلا
شك بقلوبهم.
__________
(1) أخرجه: أبو داود، في كتاب العلم، رقم (3660) ، والترمذي، في كتاب العلم، رقم (2656) وقد رجح عبد المحسن العباد أنَّه حديث متواتر في كتابه: (دراسة حديث نضَّر الله امرأً سمع مقالتي، رواية ودراية) .
(2) مقدمة ابن خلدون، (ص 35) .
(3) أخرجه: البخاري، في كتاب الزكاة، رقم (1458) ، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم (16 /31) .
(4) أخرجه: البخاري معلقاً، في كتاب العلم، رقم (124) .
(5) أخرجه: مسلم في المقدمة، (1/11) .
(6) أخرجه البخاري في النكاح، رقم (5146) ، وفي الطب، رقم (5767) .
(7) البيان والتبيين، (1/136) ، وقال أحد الكتاب الغربيين:» إن طريقة التعبير عن فكرة معينة لا تقل أهمية عن الفكرة نفسها «فن الاتصال، لبرت دكر، ترجمة الدكتور عبد الرحمن الشمراني.
(8) أخرجه: البخاري في المغازي، رقم (3985) ، ومسلم في الزكاة، رقم (1758) .
(9) سيرة ابن هشام، (3/67، 76 77) من طريق ابن إسحاق، بإسناد حسن لذاته، انظر السيرة النبوية الصحيحة، (2/514) .
(10) أخرج هذا المقطع من الحديث: البخاري، في كتاب الأدب، رقم (5551) .
(11) أخرجه: مسلم، في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (1/381 382) .
(12) أخرجه: البخاري، في كتاب العلم، رقم (68) .
(13) أخرجه: أحمد (6/257) ، والترمذي، في كتاب المناقب، رقم (3639) .(162/61)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ صفوت نور الدين
لأن يهتدي الناس على يد غيري..
أحبُّ إليّ من أن يبقوا على الضلال
ضيفنا في سطور
ضيفنا عالم وداعية سلفي جليل، تربى في حلقات أنصار السنة المحمدية
بمصر صغيراً وشاباً حتى وصل إلى مركز رئاسة الجماعة، وله جهود موفقة في
الدعوة إلى الله والتحذير من البدع والمنكرات مما سنتعرف عليه في هذا اللقاء الذي
يسعد مجلة البيان أن تحظى به. فإلى الحوار مع فضيلته، وفقنا الله وإياه لخيري
الدنيا والآخرة.
البيان: نستفتح هذا الحوار مع فضيلتكم بأن تعرِّفوا القراء الكرام بموجز
يسير عن حياتكم والفترة الزمنية التي أمضيتموها مع أنصار السنة المحمدية؟
* بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما عن علاقتي مع أنصار السنة فبدأت منذ كنت
طالباً في المدرسة المتوسطة (الإعدادية) ؛ حيث كانت الجماعة بدأت الدعوة في
القرية التي أسكنها، وكان عمي - رحمه الله - هو الذي تعرف عليهم وجاء
بدعاتهم وعلمائهم إلى القرية؛ وبدأنا ونحن صغار نسمع الحوار، وتعلمون أن
القرى في مصر كانت مليئة بالبدع والخرافات والموالد، ولم يكن هناك من بيت إلا
وينتمي إلى طريقة من الطرق، فكانت الحوارات شديدة وكثيرة، فتفتحت أعيننا
على هذه الحوارات والمناقشات في أمر البدع والشركيات فضلاً عن مسائل
المعاصي؛ فالمعاصي واضحة، لكن البدع والشركيات هي التي كانت تخفى على
الناس؛ فلما انتقلت إلى المرحلة الجامعية كانت فترة اتصال أكثر بالمركز العام
لأنصار السنة، فكنت أقضي كثيراً من الليالي هناك، وأحضر دروس شيوخ
أنصار السنة، حتى إذا تخرجت وبدأت العمل بدأنا ندعو مع الجماعة في مساجدها
في بلدنا بلبيس، إلى أن يسر الله - عز وجل - فتكونت فروع كثيرة منها فرع
بلبيس، فطلب مني إخواني في المركز العام أن أسهم معهم في العمل الإداري،
فاشتركت في الإدارة من سنة 1398هـ، ثم لما توفي الشيخ محمد علي عبد
الرحيم - رحمه الله - تحملت الأمانة من بعده، في رئاسة أنصار السنة
المحمدية.
البيان: أين كانت دراستكم النظامية؟
* تخرجت في كلية العلوم، وكنت مدرساً للكيمياء في التعليم الثانوي، هذا
من حيث الدراسة النظامية، أما الدراسة الشرعية فكانت كلها في أنصار السنة.
البيان: لعلنا نعود إلى البدايات الأولى في تأسيس جماعة أنصار السنة،
ونأخذ طرفاً من تاريخ التأسيس.
* تأسست جماعة أنصار السنة المحمدية سنة 1345هـ = 1926م. وكان
المؤسس محمد حامد الفقي ومعه مجموعة من رفاقه من مشايخ الدعوة السلفية في
مصر، مثل الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، والشيخ محمد محمد مخيمر. وكانت
الدعوة السلفية ممثلة في أفراد في مناطق مختلفة من مصر مثل الشيخ عبد العزيز
بن راشد، وعبد الله بن يابس وهما من طلبة العلم والدعاة من المنطقة الوسطى
بالسعودية حيث عمل الأول في البحيرة، والثاني في الإسكندرية وكانت لهما
جولات هناك، والشيخ درويش في سوهاج، وكان هناك الكثير من القائمين بهذه
الدعوة السلفية لكنها كانت دعوة فردية، فلما قام الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه
الله - بهذه الدعوة انضم إليه كل هؤلاء، وصارت الدعوة السلفية تحت اسم:
(أنصار السنة) في أنحاء مصر، وتعاون معهم الشيخ عبد السلام الشقيري الذي كان
مؤسس جماعة اسمها الجماعة السلفية في الحوامدية من أعمال محافظة الجيزة، هذه
الدعوة لاقت الكثير؛ لأنها بدأت في تاريخ كانت البدع والخرافات هي المنتشرة
والمسيطرة. كان في الأزهر الشيخ عبد ربه سليمان والشيخ صالح الجعفري
وغيرهم يقومون بالتدريس في الجامع الأزهر، وهم من متعصبة الصوفية، ولما
خرج الشيخ حامد بهذه الدعوة أخذت العداوة تظهر، وكانت هذه العداوة التي ظهرت
السبب في مجيء الكثير من الناس يسألون: مَن هو الشيخ حامد؟ ! لأن عبد ربه
سليمان كان في تدريسه يقول (الجاحد الشقي) يعني به الشيخ حامد الفقي، فيسمع
تلامذته هذا الكلام فيأتون للشيخ حامد ويسمعون فيجدون أحاديثه هي: قال الله،
وقال الرسول؛ يدعو بدعوة التوحيد؛ فالكثير منهم ممن جاء لأنصار السنة جاء
بهذا السبيل؛ فقد عانى رجال الدعوة حقيقة معاناة كبيرة، وكان منهم رجال
مغمورون في مختلف المناطق في مصر، لا يعرفهم أحد، ولكن الله - سبحانه
وتعالى - يعرفهم، فتجاوبت هذه الدعوة مع دعوة أنصار السنة، وأخذ يتسع نطاقها
حتى يسر الله - عز وجل - فصارت الدعوة اليوم والحمد لله لها قبول في كل مكان؛
خاصة لما حصل إدماج بين الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة.
هذا الإدماج مع أنه كان إدماجاً بقرار حكومي لكن الله - عز وجل - جعله
سبب خير في أن تغير الجمعية الشرعية من نهجها الذي يميل إلى الصوفية ويدعو
إليها إلى نهج الدعوة السلفية؛ فضلاً عن أن كثيراً من أبناء السنة انتشروا خارج
مساجد أنصار السنة، وعملوا في مساجد ليست تحت مظلة أنصار السنة، فانتشرت
الدعوة السلفية تحت شعار أنصار السنة، وغير هذا الاسم، والحمد لله رب العالمين.
البيان: بعد فترة التأسيس على يد الشيخ محمد حامد الفقي - رحمة الله
عليه -، مرت دعوة أنصار السنة بأطوار؛ فما أبرز هذه الأطوار حتى وقتنا
هذا؟
* الشيخ حامد - رحمه الله - حرص على نشر دعوة التوحيد في كل موقع
يصل إليه، ويسر الله - عز وجل - له ذلك، فجعل هيئة كبار العلماء يسمعون له
بسبب وشاية ذهبت ضدّ الشيخ حامد إلى الأزهر طالبوا فيها بسحب العالمية منه؛
لأنه كما زعموا رجل وهابي رجل خامسي رجل فوقي يدعو بهذه الدعوة التي
يسمونها دعوة المجسمة، فاجتمعت هيئة كبار العلماء للتحقيق مع الشيخ حامد،
وطال هذا الأمر حتى تعرف رجال من هيئة كبار العلماء على دعوة الشيخ،
وعرفوا أن الرجل عالم، وأنه صاحب دعوة صحيحة، فأيده الكثير من أهل العلم،
ولذلك لما خرجت مجلة الهدي النبوي بعد عشر سنوات من تسجيل جماعة أنصار
السنة خرجت قوية، وكان الكثير من كتَّابها وأقلامها من كبار العلماء مثل محمد
محيي الدين عبد الحميد، والشيخ محمد مخيمر، والشيخ أحمد شاكر، وغير هؤلاء
من الشيوخ الذين ساندوا دعوة أنصار السنة المحمدية. ولما أصدر جمال عبد
الناصر قراراً بإدماج أنصار السنة في الجمعية الشرعية أحدث هذا الإدماج الخير
الذي ذكرناه من تلاقي الأفكار وحدوث المناقشات وانتقال الجمعية الشرعية إلى أن
تدعو بدعوة سلفية.
البيان: ذكرتم في الحوار أن هناك عدداً من الدعاة الفضلاء المغمورين الذين
كان لهم جهود مباركة في نشر الدعوة، ومن هؤلاء فيما نعلم الشيخ أحمد ليل -
رحمه الله -؛ فهل بالإمكان أن تحدثونا عن شيء من حياته؟
* الشيخ أحمد ليل كان في شبابه وصباه يعمل سائق عربة (كارُّو) [*]
ويسمى (عربجي) ، كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، كان كسائر أصحاب
مهنته من الضائعين الذين لا علاقة لهم بأمر شرع، ولا دين؛ ولكن الله - عز
وجل - ساق إليه الخير؛ إذ كان على طريقه إلى المسجد رجل فاضل وداعٍ من
دعاة السلفية اسمه الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، كان كثيراً ما يقول له: يا أحمد
صلّ، فيذهب معه مرة ولا يذهب أخرى، فحضر معه درساً في يوم فقال له الشيخ
الرمالي: ما فهمتَ من الكلام الذي قلتُه؟ فأعاد عليه الدرس وكأنه جهاز تسجيل،
فاندهش الشيخ من هذا الذي سمعه، وقال له: أنت لا تُتْرَك. وعهد به إلى من
علَّمه القراءة والكتابة، ثم بعد تعلُّمه القراءة والكتابة كان رجلاً نهماً للقراءة، وكان
من نهمه ذاك أنه يقف ليلاً إلى جوار عمود النور، وكانت مصابيح أعمدة النور في
الشوارع في ذلك الوقت من الجاز، ومعه الكتاب لا يكف عن القراءة إلا عند أذان
الفجر، وكان يشتري كل ما يقابله من كتب حتى تجمعت عنده مكتبة كانت في
زمانه من أكبر المكتبات في مدينة دمياط، وكان الرجل لا يلقي خطبة جمعة، ولا
يؤم الناس في المساجد؛ لكن كان له درس أسبوعي بعد صلاة الجمعة حتى صلاة
العصر وهو درس مشهور، وكان يحاور فيه المبتدعة ويتكلم فيه وكان بارعاً. قرأ
في الطب، وقرأ في الجغرافيا، وقرأ في الهندسة، وقرأ في أشياء كثيرة، وكان
واسع الاطلاع، وكانت له حوارات مع المبتدعة، فإذا جاءه أحد من المبتدعة كان
يناقشه في أمر التوحيد ويسأله: ما مذهبك؟ فيقول: مذهبي كذا، فيقول: يا ولد
هاتِ الكتاب الفلاني، الجزء كذا فقرة كذا اقرأ ... ! ويقرأ كلاماً من مذهب شيوخه
رداً عليه.
كان الرجل لا يكف عن دعوة التوحيد، وكان كثير من العوام يسألونه في
مسائل الميراث، والطلاق وغير ذلك، لكنه وجد أن هيئة الزي ضرورية في إقناع
العوام؛ لأن الرجل لما انتقل بعد ذلك ليعمل سروجياً حيث يصنع سروجاً للخيل
والبغال، فصار يأتي الناس ليسألوه وهو يعمل في هذه المهنة، فلا تطيب أنفسهم
بسماع الجواب منه! فصار إذا جاءه أحد يسأله، قال: انتظر لأرسل لك الشيخ.
فيخرج ويلبس العمامة وينزل، فيقول: من الذي يريد أن يسأل؟ فيقول: أنا.
فيجيبه، ثم يذهب، وإنما كان يعمد إلى ذلك؛ لأنه لا يريد أن يجعل من اللباس
حاجزاً يمنع السائل من العلم والتصديق. وظل الرجل على دعوة التوحيد حتى مات،
ولذلك كان على فراش موته يقول: يا إخوان! التوحيدَ التوحيدَ؛ أنا أموت
وعقلي صاحٍ.. التوحيدَ.. حافظوا على التوحيد. وظل ينادي بهذه الكلمات حتى
مات. رحمه الله رحمة واسعة.
البيان: هل تحدثوننا عن الواقع الحالي لجماعة أنصار السنة من حيث
انتشارها في المدن والقرى والأحياء المختلفة في مصر؟
* الحمد لله رب العالمين، إن دعوة التوحيد صار لها القبول في كل المساجد
إلا مساجد أهل البدعة والمساجد التي فيها قبور، أو غالب المساجد التي فيها قبور؛
لأن كثيراً من المساجد التي فيها قبور مغمورة يحاول أهلها إزالة القبور منها، لكن
وجود الفتن وتعصب الناس لها يجعل هذا الأمر من الأمور العسيرة جداً، كان
الصوفية قديماً موجودين في كل بيت وفي كل مسجد، كان كل شخص لا بد أن
يكون له طريقة، وكل مسجد لا بد أن تكون فيه حلقة ذكر من أذكار الصوفية
والمبتدعة؛ فقد كانت الصوفية يومئذٍ قوية في كل مكان، أما الآن فالصوفية قوية
في معاقلها فقط حيث يسود الجهل.
الذي يريد أن يرى التصوف يذهب إلى قبر البدوي أو يذهب إلى مسجد
الحسين، أو يذهب إلى الموالد التي تقام. أما دعوة التوحيد التي حملها أنصار
السنة فالواقع أنه لما حدث الإدماج سنة 1965م أصبحت كل فروع أنصار السنة
فروعاً للجمعية الشرعية، فلما أعيدت بعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات بدأت تتأسس
من جديد، وبلغت الآن فروعها 150 فرعاً، وبلغت مساجدها ما يزيد عن 1700
مسجد، ولها معاهد إعداد دعاة، ولها مرافق أخرى كالعيادات الطبية والمستشفيات
وبعض المدارس، ودور تحفيظ القرآن، ولها أنشطة في كفالة الأيتام، وفي رعاية
الأرامل، وفي مساعدة المرضى، وفي إعانة الفقراء، وفي كفالة طلبة العلم. هذه
الأنشطة من فضل الله تغطي رقعة كبيرة، وظهرت فرص التعاون مع الجمعيات
والجهات الأخرى ولم تعد هناك حدة في الصراع كما كان الأمر في الماضي؛ لإقبال
الناس على التوحيد، كان الخلاف بيننا وبين هؤلاء في أمر العقيدة، ولما أصبحوا
لا يخالفوننا فيها أصبح التعاون قائماً.
أما مجلة التوحيد فإنه يطبع منها شهرياً 65000 ألف نسخة. بينما كنت
أراجع في مجلة الهدي النبوي في سنة 1371هـ قرأت ما قاله سكرتير التحرير:
إن المجلة نشطت وتحركت، فبعد أن كان يطبع منها 2000 نسخة أصبح يوزع
أكثر من ضعف هذا العدد. هناك 2500 عن طريق شركة التوزيع، و 2500 عن
طريق الاشتراكات، يعني 5000، وعندما نقارن هذه الكمية بـ 65000 ألف
نسخة تطبع الآن نجد أنها انتقالة - بفضل الله - واسعة.
البيان: التوجهات الصوفية التي تنتشر في أنحاء متفرقة من مصر، ما هي
العوامل الرئيسة التي رسخت وجودها وساعدت على انتشارها؟
* الصوفية في مصر قديمة، ولعل من أشد حلقات تاريخها الدولة الفاطمية
التي استمرت قروناً في مصر، واتخذت مصر ركيزة لها بمجيء الدعوة الفاطمية
مع جوهر الصقلي الذي غزا مصر، ثم مجيء المعز لدين الله الفاطمي، وفي زمن
العزيز بالله، ثم الحاكم بأمر الله. استمرت هذه الدولة قروناً تدعو إلى الضلالة
حتى إنها كانت تبعث بالدراويش ليجمعوا حولهم الأتباع مثل البدوي في طنطا،
والدسوقي في دسوق، والمرسي أبي العباس في الإسكندرية، وهؤلاء في مناطق
مختلفة اجتمع حولهم الناس يدعونهم إلى الضلالة. ثم انكشف هؤلاء الدراويش
وبان أنهم يتبعون لهذه الدولة ويروجون لها.
ومما ساعد في القرون الأخيرة على انتشارها أيضاً أن أبناء هذه الطرق الذين
يأكلون من النذور التي تقدم إلى القبور دفعوا بأبنائهم إلى معاهد الأزهر، فصاروا
يأكلون من السحت ويتعلمون في الأزهر، ولا ينقدون هذه الأساليب ولا يرون أنها
مخالفة للشرع.
لما استمر هذا الأمر أصبحوا أساتذة في الأزهر، وخريجين منه، ومن حملة
لوائه؛ حتى إنك ترى إلى اليوم كثيراً من رجال القراءات متصوفة، والكثير من
شيوخ علوم الحديث متصوفة ومبتدعة، بل كثيراً من شيوخ الفقه، فصَبْر المبتدعة
بحمل أبنائهم ودفعهم إلى معاهد الدعوة الشرعية جعل الصوفية تنتشر بيد هؤلاء،
فيحضرون الموالد ويروجون لها ولا يستنكرونها، ويأتي تلامذتهم ليروا الشيوخ
يفعلون هكذا، هذه المسألة مما روج للصوفية وللبدع ترويجاً خطيراً.
البيان: هل نتعرف على مواقف أئمة الأزهر وشيوخه من هذه الدعوة السلفية
على وجه التحديد؟
* موقف شيوخ الأزهر لم يكن واحداً: من الشيوخ من كان لهم فهم سلفي
صحيح مثل الشيخ عبد المجيد سليم، كان رجلاً سلفياً صاحب دعوة، بينما نجد
غيره مثلاً الشيخ الظواهري كان رجلاً متصوفاً، حتى إن بعض شيوخ الأزهر
عندما يرى جَوْراً لشيخ الأزهر عليه فإنه يشكوه إلى السيد البدوي، ولما جاء الشيخ
شلتوت كان صاحب توجه صحيح، فانحسرت الصوفية في أيامه، لكن لما جاء
الشيخ عبد الحليم محمود وهو مغرق في التصوف زاد التصوف وانتشر في أيامه.
فشيوخ الأزهر لم يكونوا على وتيرة واحدة في هذا الأمر؛ فمنهم المغرق في
التصوف يحضر حفلاته ويرى ولاء هؤلاء الشيوخ، ويدافع عنهم بل ويكون هو
منهم، وهناك من يخالف ذلك، فكتاب الفتاوى الذي أصدره جاد الحق - رحمه الله -
واشتمل على فتاوى دار الإفتاء المصرية من أيام الشيخ محمد عبده إلى أيام الشيخ
جاد الحق، تجد الفتاوى فيه متباينة.
فكل فتوى تبع للشيخ الذي أفتى فيها؛ فمنهم من يفتي بالبدعة والترويج لها،
ومنهم من يفتي بفتوى توافق السنة وتخالف البدعة.
البيان: الآن في ظل الصحوة الإسلامية التي بدأت تنتشر، هل ترون أن
الدعوة السلفية المبنية على منهاج السلف الصالح - رضوان الله عليهم - تنتشر في
أوساط الشباب وفي مختلف طبقات المجتمع؟ أو أن العامة غلبت عليهم الصوفية
وأصبحت هي المسيطرة عليهم؟
* الصوفية كانت هي الغالبة على العامة قبل 30 سنة؛ لكن الصوفية الآن
تدافع عن نفسها في معاقلها، كانت قديماً كل الطرق تتصارع فيما بينها، أما الآن
فإن الطرق تتعاون لأنها ترى نفسها تندحر، الذي يحارب الشاذليين هو الذي
يحارب البيوميين؛ فكلهم يرون في أنفسهم حرباً في اتجاه واحد، ولذلك يحضرون
موالد الجميع معاً، ويشهدون الحفلات التي تقام معاً؛ فالحمد لله انتشرت الصحوة
وزاد الانتباه بين الشباب وبين الشيوخ وبين الكثيرين؛ فعرفوا أن هذه ضلالات
وبدع؛ لكن ليس معنى هذا أن التصوف انتهى. التصوف قوي في معاقله، وله
رجال وله منتفعون، هؤلاء المنتفعون لا تكفي القناعة عندهم حتى تقوم عليهم
الحجة فينتهوا عن أمرهم؛ لأن تقليدهم الآباء والأجداد وتتلمذهم على شيوخ من
المتصوفة وأكلهم النذور أسباب هامة في تثبيت هذه البدع والخرافات.
البيان: هناك من يزعم ممن ينتسبون إلى العمل الإسلامي أن الصوفية
وتقديس القبور والأضرحة خرافات تاريخية ولَّت وانتهت، وظهرت في هذا العصر
ألوان من الانحرافات المختلفة، ويزعمون أن أنصار السنة والمنتسبين إلى العمل
السلفي جملة لا زالوا يفكرون بالمنظار التاريخي القديم، وأنهم غفلوا عن الواقع
الذي تعيشه الأمة!
* المؤسف أن أصحاب هذا الكلام هم الذين غفلوا عن الواقع الذي تعيشه
الأمة بل العالم. إن رب العزة - سبحانه - أنزل آدم إلى الأرض موحداً، وكان
الناس على التوحيد عشرة قرون من بعده، ثم حدث الشرك بسبب تعظيم القبور
والصور، فبعث الله - عز وجل - نوحاً، فعلَّم الناس التوحيد وأهلك الله - عز
وجل - المشركين؛ فإذا بهم في زمان هود وزمان صالح يقعون في الشرك، ثم
أهلك الله - عز وجل - المشركين وأبقى الموحدين؛ فإذا بهم في زمان إبراهيم
يعبدون الأصنام؛ وعبادة الأصنام لا يزيلها التقدم العلمي؛ فالتقدم العلمي في القديم
مذكور في قول الله - عز وجل -: [إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ] (الفجر: 7-9) هذا تقدم علمي،
ومع ذلك كانوا جميعاً عباد أوثان، واليابان رأس التقدم العلمي عباد أوثان،
والأمريكان والأوروبيون الذين يقفون أمام تمثال العذراء ويقولون: يا أم النور؛
فهؤلاء عباد أوثان، والذين يتجهون إلى هذه القبور ويرفعونها عباد أوثان، وكل
إنسان يتصور أن عبادة الأوثان انتهت أو تغيرت وأصبحت شرك قصور فقط لا
شرك قبور فهذا تصور شيطاني يراد به إبعاد الناس عن محاربة الشرك الذي وقعت
فيه مختلف الأمم. الخوف الفطري كالخوف من ثعبان أو من سلطان لا يكون شركاً،
لكن الخوف من القبور خوف يجتمع فيه الخوف مع الحب، هذا هو الخوف
الشركي، الخوف الشركي هو أن يخاف من الجن، فينبغي أن نحذر من هذا الاتجاه
الذي يريد نزع دعوة التوحيد ليركز الحرب على النظم، وهذا الاتجاه يشبه دعوة
الأحزاب العلمانية التي تريد أن تدعو الناس إلى العدل بعيداً عن عقيدة التوحيد.
والعدل لا يتحقق إلا بالتوحيد، ولا يمكن أبداً لدعوة العدل وحدها أن تأتي
بالتوحيد، لكن دعوة التوحيد تأتي بالعدل؛ فنحن لو جعلنا الناس يؤمنون أن الرزاق
هو الله، وأن المعطي المانع هو الله، وأن الخالق الرازق هو الله، فإنهم يعلمون أن
المطَّلع يحيط بهم ويطلع عليهم فلا يفعلون إلا ما يرضيه.
فيصبح الحاكم عادلاً إذا وحَّد، إذا عرف أسماء الله وصفاته، إذا عُرِف بدعوة
التوحيد، لكن لا يصبح الحاكم موحداً إذا دعا إلى العدل فقط.
فدعوة التوحيد هي دعوة التوحيد، والشيطان هو الشيطان كما هو؛ وإنما جاء
للناس ليدعوا غير الله عز وجل، وليسألوا غير الله - عز وجل -. والشرك إنما
دخل على سائر الأمم من الصور والقبور؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب - رضي
الله عنه لأبي الهيَّاج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله
عليه وسلم؟ ألاَّ ترى قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها» [1] . هذا
ينبغي ألا يحرفنا الشيطان عنه؛ فهذه هي دعوة التوحيد، أما الذين يقولون: أنتم
تحاربون القبور، هذه دعوة قبوريين، أنتم تكلمون الأموات، هناك شرك القصور
هؤلاء ينسيهم الشيطان أصل الدعوة الصحيحة حتى ينحرفوا عنها ليبيض
الشيطان ويفرِّخ، وينقل الناس من التوحيد إلى الشرك.
البيان: ننتقل إلى محور آخر وهو النظر في العمل الإسلامي في مرحلته
الحالية: هناك تيارات مختلفة، وفي دائرة أهل السنة على وجه التحديد يوجد هناك
أطروحات مختلفة، ويوجد ما يوجد من التهارش والتقاطع والبغي بين أصحاب
الدعوة الواحدة في كثير من الأحيان؟ فما هي أسباب هذا، وما توجيهكم للإخوة
العاملين في الحقل الإسلامي؟
* أولاً أريد ألا نكبِّر الأمر الصغير ونصوِّره للناس على أن هذا الخلاف
تهارش؛ فالإمام الشافعي تتلمذ على مالك، وتتلمذ على أصحاب أبي حنيفة، وتتلمذ
عليه أحمد، وكل هؤلاء اختلفوا وما عاد عليهم الاختلاف بالتدابر، إنما جاء بعض
الأتباع ليقول: أيجوز للحنفي أن يتزوج بشافعية؟ هذا لا شك لا نستطيع أن نقول
له إن المخطئ هو الشافعي أو أبو حنيفة إنما المخطئ هو الذي أساء الفهم في ذلك
وتخطى الحدود، وعقد الولاء والبراء على هذه الأسماء؛ فالدعوات الشرعية
والدعوة السلفية والدعوة الإسلامية لا بد أن تقوم بعقد الولاء والبراء على اسم
الإسلام، ومن الضروري أن يكون لكل دعوة اسمها. الاسم ضرورة فطرية
وشرعية. لكن لا يجوز أن نعقد الولاء والبراء على الأسماء إنما يبقى عقد الولاء
والبراء على اسم الإسلام. فنحن أنصار السنة، ولنأخذ أي دعوة أخرى تدعو إلى
الله - عز وجل -، فإذا رأيت أن أخي الذي يخالف الحق لأنه ينتسب إلى جماعتي
يكون عندي أفضل من شخص آخر من الجماعة الأخرى مع أنه موافق للحق؛ فهذا
عقد للولاء والبراء على غير اسم الإسلام.
فالمسألة علاجها ميسور جداً؛ لكن يأتي الصغار يأتي كثير من الناس الذين
يريدون أن يرفعوا أنفسهم كما حدث من بعض عبيد الأنصار مع عبيد للمهاجرين،
واقتتلوا على ماء، فقال أحدهم: يا للأنصار! وقال آخر: يا للمهاجرين! مع أن
أحدهما من عبيد الأنصار، والآخر من عبيد المهاجرين. يعني يريد أن يرتفع
بنفسه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: «دعوها فإنها منتنَة» [1] .
لم يقل: دعوا اسم المهاجرين أو الأنصار، إنما قال: «دعوها» يعني
العصبية الجاهلية. فنأتي إلى هذه الطفيلية التي تظهر ولا بد من معالجتها، وبيان
أن هذه الدعوات لا تعقد الولاء والبراء لا على أسماء أصحابها ولا على شيوخها،
وهذه الولاءات لو أننا وجدنا جماعات الدعوة جماعة واحدة لوجدت هذه الولاءات
في داخل الجماعة الواحدة. ونحن نرى كثيراً من الجماعات التي اتسعت رقعتها
وكبر نطاقها أصبحت الولاءات في داخل الجماعة الواحدة على غير اسم الإسلام مع
أنها جماعة واحدة.
إذن العيب ليس في تعدد الجماعات لكن العيب في أنهم يعقدون الولاء والبراء
على غير اسم الإسلام. ولذلك كل جماعة تعقد هذا الولاء تفقد مشروعيتها. فلا بد
أن ترى الجماعة وجودها في القرآن والسنة بفهم سلف الأمة. وألاَّ تعقد ولاءاً ولا
براءاً إلا على الإسلام؛ أما الأسماء من حيث هي أسماء فإنها ضرورة، فأنا سموني
فلاناً ولو لم يسمني أهلي لما استطعت أن أعيش. مثلاً يقولون: اسقوا فلاناً،
أطعموا فلاناً. إذن من لم يملك الاسم يموت. الاسم ضرورة فطرية وشرعية،
ووجوده ضرورة، لكن عقد الولاء والبراء على هذا الاسم هو الخطأ الشرعي الذي
يفقد هذا العمل مشروعيته.
لذلك فإن الذين يقولون: نوحِّد هذه الجماعات. أقول له: لا يا أخي هذه
مدارس لا تعقد الولاء والبراء على أسمائها، إنما كل المدارس ترجع إلى مرجعية
أصلية وهي القرآن والسنة بمنهج سلف الأمة.
البيان: مع انتشار الخير الكثير في أوساط العاملين للإسلام إلا أن من
الملاحظات التي تلاحظ في كثير من الأوساط نقص العلم الشرعي؛ وهذا أدى إلى
ظهور كثير من الأخطاء في الفكر أو العمل؛ فما توجيه فضيلتكم للإخوة العاملين
في الحقل الإسلامي؟
* نحن ندعو إخواننا العاملين في الحقل الإسلامي إلى أن يعلموا أن التعاون
على البر والتقوى أمر من الله - عز وجل -، وأن رب العزة جعل خيرية هذه
الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد قال - سبحانه -: [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
(آلعمران: 110) فأهم شيء نتعاون عليه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الذي هو سبب خيرية هذه الأمة، وهذا العمل الذي نقوم به وندعو الناس إلى
التعاون فيه لا بد أن يكون أصله نابعاً من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، كما
قال الرسول - عليه الصلاة والسلام - في وصيته: «إنه من يعش منكم من
بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا
عليها بالنواجذ» [2] .
والخلاف على قسمين: إما خلاف في التنوع، مثل: هل نوتر قبل النوم أم
قبل الفجر؟ نقرأ قراءة ورش أم قراءة حفص؟ خلاف تنوع أو خلاف خطأ
وصواب في الفروع العملية كالواقع بين المذاهب الفقهية. وإما خلاف في الهدى
والضلال كالواقع بين فرق الأمة: فرق الضلال الخوارج والشيعة والمرجئة
والمعتزلة، أو الخطأ الكفري مثل الأخطاء المتعلقة بأخطاء الإيمان الستة أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. هذه الخلافات لا
يجوز أن نقر عليها، فعلينا أن نعرف كل نوع من أنواع الخلافات لنعرف كيف
نتعاون.
كذلك ونحن نقوم بأمر الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ فإذا وجدنا أناساً برعوا
في أمر من أمور الدعوة أو البر مثل كفالة اليتيم، وأنا جماعة ليس عندي كفالة
اليتيم فلا أقول: هم أحسن مني في كفالة اليتيم؛ ولا بد أن أكفل، لا؛ بل عليَّ أن
أتعاون معهم وأقول لهم: أنتم تكفلون الأيتام، وهذا مال أقدمه لكم لتكفلوا به الأيتام
أي أتعاون معهم، وهذا لا يؤثر في عملي؛ لأن المطلوب منا أن نتعاون لا أن
نتصارع، وأن يكون التنافس بيننا تنافس مَنِ الذي يستطيع أن يدعو الناس أكثر؟
وأن يهتديَ الناس على يد غيري أحبُّ إليَّ من أن يبقوا على الضلال، بل وأسعد
لاهتدائهم على يد غيري كما أسعد باهتدائهم بدعوتي.
البيان: من أبرز الأصوات الإعلامية الموجودة عند أنصار السنة مجلة
التوحيد، وهذه المجلة المباركة ولله الحمد لها حضور مبارك في الوسط الإسلامي
في مصر، وكان فضيلة الشيخ صفوت الشوادفي هو آخر رئيس تحرير لها حتى
وفاته، وكان له جهود مباركة في تطوير المجلة، ثم فوجئنا بفقده - رحمه الله -،
ولعل من المناسب في هذا اللقاء أن نسمع شيئاً عن مجلة التوحيد وعن الشيخ
صفوت رحمة الله عليه؟
* مجلة التوحيد هي لسان حال جماعة أنصار السنة المحمدية خلفاً لمجلة
الهدي النبوي التي أسسها الشيخ حامد الفقي، ثم تتابع على رئاستها من بعده الشيخ
عبد الرحمن الوكيل، ثم حدث الإدماج في أيام الشيخ عبد الرحمن الوكيل، فتوقفت
المجلة عن الصدور بعد حوالي 31 سنة كانت تصدر فيها، ثم بعد أن أعيدت
جماعة أنصار السنة للوجود مرة أخرى أصدرت مجلة الهدي النبوي، وكان رئيس
تحريرها الشيخ رشاد الشافعي أو اسمه محمد عبد الحميد الشافعي، ثم خلفه على
رئاسة التحرير الشيخ عنتر حشاد الذي ظل أشهراً ولم يكمل عاماً، ثم جاء من بعده
الشيخ أحمد فهمي الذي استمر في رئاستها 17 سنة، وكان رئيس الجماعة الشيخ
محمد علي عبد الرحيم.
ثم لما توفي الشيخ محمد عبد الرحيم أسندت رئاسة التحرير إلى الشيخ صفوت
الشوادفي - رحمه الله - فكانت له أيادٍ بيضاء، وكانت له اتجاهات طيبة، وانتقل
بالمجلة نقلة واسعة؛ فالمجلة كانت تمثل جهداً فردياً إذ يقوم فرد بتجميع مجموعة
مقالات، ثم تنشر على الناس في أول كل شهر عربي، وبعد ذلك أصبحت المجلة
تتمثل في لجنة تضع خطة لها، وترسم سياسة للمجلة، وتنوع المقالات. هذا كان
جهد الشيخ صفوت الشوادفي - رحمه الله -. فضلاً عن تطوير الشكل في الغلاف
الخارجي، إضافة إلى التطوير الداخلي؛ فأخذت فهماً جديداً، ثم كان حادث السيارة
الذي توفي فيه الشيخ صفوت - رحمه الله -؛ بعد أن أصدر 105 أعداد من مجلة
التوحيد بدءاً من عدد شهر شوال في سنة 1412هـ إلى عدد جمادى الآخرة 1421
هـ الذي غُيِّر كله إلا مقال التحرير والفتاوى ومقاله الأخير؛ لأنه متعلق بالمناسبة.
والشيخ - رحمه الله - كان نشيطاً في أمر الدعوة محاضراً وكاتباً ومناظراً
بارعاً، وله في ذلك مناظرات بارعة مع الصوفية ومع العلمانيين والمبتدعة،
وكانت له كتابات حول اليهود وكشف دسائسهم وكانت من أطول الكتابات التي كتبها،
وكتب ردوداً على العلمانيين، وكتب دفاعاً عن الأزهر، وكانت له جهود تربوية
سواء في بيته أو مع تلامذته، وكان على صغر سنه شيخاً معروفاً في أوساط الدعوة،
وبين علماء الأزهر، وبين الدعاة في مختلف أنحاء مصر، بل زار كثيراً من
البلاد الإسلامية ومنها السعودية التي عمل فيها وقتاً طويلاً. وزار الإمارات وقطر
والكويت، فكانت له دعوات وجولات في هذه البلاد فرحمه الله.
البيان: معنى ذلك أن الشيخ كان مسؤولاً عن قطاع الدعوة في جماعة أنصار
السنة؟
* نعم! لما توليت رئاسة الجماعة أخذ الشيخ إدارة الدعوة بما فيها المجلة
التي استمر فيها 3 سنوات، ثم انفصلت إدارة الدعوة عن المجلة، فتولى بعض
إخواننا إدارة الدعوة، وتولى هو مجلة التوحيد، وكان له في تلك الأيام أنشطة
كثيرة منها إصدار الكتب والرسائل، واللوحات التعليمية مع الدعاة، والأسابيع
الثقافية والدورات الشرعية، وغير ذلك من الأنشطة.
البيان: في ختام هذا اللقاء نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يبارك في
جهودكم جميعاً، وأن يكتب لكم الأجر، وأن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر
والتقوى، ونسأل الله أن يتغمد فضيلة الشيخ صفوت الشوادفي في واسع رحمته،
وأن يتقبله في الصالحين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ولعلنا قبل أن نختم لقاءنا نحظى منكم بكلمة
أخيرة للمجلة!
* نسأل الله عز وجل أن يكتب لمجلة البيان الانتشار، وتبليغ دعوة التوحيد،
وتعريف المسلمين بدينهم، وجمع شملهم، وأن ييسر لهم الخير، وأن يجمعنا وإياكم
على الخير والبركة.
__________
(1) عربة يجرها الحمار أو الحصان، لنقل الأشياء بالأجرة.
(2) أخرجه مسلم، ح/ 969.
(3) أخرجه البخاري، ح/ 4905، 4907.
(4) المسند، (4/126، 127) ، سنن أبي داود، كتاب السنة، ح/ 6.(162/65)
المسلمون والعالم
الألبان والغرب تصفيات حديثة
لحسابات قديمة
(1 - 2)
عبد العزيز كامل
عجيب أمر تلك القارة الأوروبية العجوز؛ فقد عاشت أحقاباً من عمرها
بوجهين متناقضين: وجه مسفر مضيء، ووجه كالح مظلم. أما وجهها المشع
بالضياء فذاك حظها من الحضارة المادية والثقافة الدنيوية، وأما وجهها المكفهر
ظلمة وسواداً فهو موقفها من الديانات التوحيدية؛ حيث يصدق في أهل تلك القارة
قبل غيرهم قوله - تعالى -: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
لقد عاشت أوروبا طوال عصورها قلعة للوثنية، ومهداً للإلحاد، وملاذاً
لأنواع الفلسفات المناقضة للفطرة المعادية للحق المنزل في رسالات السماء، وظلت
عواصم حضاراتها السابقة واللاحقة مهبطاً لوحي الشياطين [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] (الأنعام: 112) .
عبدت أوروبا وألَّهت كل ظواهر الطبيعة، وقدست واحتفت بكل مظاهر
المادة، أما الإله الحق، ودينه الحق، ورسله المبعوثون بالحق، فقد وقف
طواغيت الفلاسفة الأوروبيون منهم - غالباً أو دائماً - موقف الجفاء والعداء.
لم تحفل أوروبا بديانة إبراهيم، ولم تقبل رسالة موسى، ولم تدخل في ملة المسيح
- على الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه - إلا بعد أن حولتها إلى ديانة وثنية
تقدس الصليب، وتثلث الآلهة.
ثم جاء الدين الخاتم، فرماه الروم عن قوس واحدة، وأوصدوا أبوابهم دونه،
بل حاولوا اقتحام أبوابه علَّهم يقتلونه! ! لم تقف شعوب بعناد أمام دعوة الإسلام
مثلما وقفت شعوب أوروبا الضالة، وظلت (ذات القرون) [1] تناطح الحق على
أرضها وأرضه، ولم ييأس المسلمون من محاولات ترويض تلك الوحشية المتلفعة
بهندام المدنية، فحاولوا مرات الدخول إليها بالدين من بوابتها الشرقية عبر
القسطنطينية، وجربوا تارات من غربها عن طريق الأندلس لفتح رومية، وحتى
تلك البقعة التي أضاءت في غرب أوروبا المعتم، لم تصبر قارة الظلام عليها،
وتواطأ النصارى جميعاً لإخراج الإسلام من الأندلس لتتحول إلى (إسبانيا) ، وليتم
تنصير من تبقى منهم قسراً في ملحمة عار تاريخي على جبين الرجل الأبيض ذي
المعتقد الأسود.
وما أن انطفأ السراج في غرب أوروبا، حتى شع نور في شرقها، فمكَّن الله
رجلاً من فتح حصن من حصون تلك القلعة العنيدة، واستحق بذلك اسم (الفاتح) ،
وأضاءت (القسطنطينية) لأول مرة في تاريخها بنور الدين الصحيح، وتحولت
العاصمة الحامية للكفر إلى عاصمة حاملة للواء الإسلام ليصبح اسمها: (إسلام بول)
[*] ولكن.. هل قَرَّ لتلك القارة الظالم أهلها قرار بالدين الجديد؟ وهل تقبلت بقية
شعوب أوروبا كتاب الله أو دخلت في دين الله؟ إن الواقع الدامي لتاريخ الدولة
العثمانية المجاهدة مع جحود وكنود أوروبا ليخبرنا بأن تلك القارة لم تقبل هذا الحق،
ولم تكن أهلاً لذاك الشرف؛ فلقد تمنعت أكثر شعوب أوروبا وتأبت في وجه دعوة
الإسلام لله رب العالمين، وظلت في المشاقة والشقاء حتى لا تدع وثنيتها المعهودة
وجاهليتها العتيدة.
لقد أسهبتُ شيئاً ما في هذه التقدمة لسبب مهم وهو: أن نضع الأحداث
الراهنة في البلقان، والممتدة منذ سنوات في سياقها من التاريخ؛ فأحداث البلقان
هي فورة جديدة من فورات البركان الأوروبي الثائر دوماً على كل ما كان حقاً من
الأديان، وقد مثَّلت مآسي الأمة الألبانية التي أنجاها الله من الكفر الغالب على
أوروبا، مثالاً حياً على ذلك الموقف العنادي التقليدي لأوروبا من دعوات الرسل
وأتباع الرسل.
جذور الجذور:
الألبان هم أقدم الأعراق التي استوطنت البلقان؛ فقد استوطنوها قبل الميلاد
بمئات السنين، في حين أن السلاف الذين انحدر من نسلهم الصرب والبلغار
والكروات لم يكن لهم وجود في المنطقة قبل القرن الرابع الميلادي الذي أغاروا فيه
على بلاد البلقان.
ولكن السلاف الوافدين، وبخاصة الصرب؛ خاضوا حروباً عنيفة من أجل
تأسيس إمبراطورية صربية تشمل حكماً مطلقاً يحكمون بموجبه الألبان والبلغار
واليونان، واستمر صراعهم من أجل ذلك قروناً عديدة.
وفي القرن الثالث عشر للميلاد، جد السعي لدى الصرب لتحقيق هذا الهدف،
وبالفعل فقد تحقق قيام الإمبراطورية الصربية عام 1348م، ولكن الصرب لم
يهنؤوا ببقاء طويل لتلك الإمبراطورية المفروضة المرفوضة، إذ لم يكد يمر ربع
قرن من الزمان على قيامها حتى دق العثمانيون أبواب البلقان، وعبثاً حاول
الصربيون صدهم فلم يستطيعوا، ودخل العثمانيون أراضي الإمبراطورية الصربية
تحت لواء السلطان مراد الأول، وحققوا نصراً مظفراً حاسماً في معركة (كوسوفا)
الشهيرة عام 1389م.
ساق وأوراق:
ترعرعت نبتة الديانة الجديدة في قلوب الألبان، ودخل سوادهم في دين الله،
فلم يمر قرن على دخول الإسلام أرضهم حتى أصبح جُلُّ الألبانيين مسلمين،
وتحولت (ألبانيا) إلى ولاية إسلامية عثمانية، وأصبحوا رعايا في دولة الخلافة
مع أنهم تأبوا قبل ذلك على الذوبان في أية قومية أو ديانة أخرى، ولم يدخل في
الإسلام طوعاً إلى جانب الألبان إلا البوسنيون، بينما تمنعت غالبية شعوب البلغار
والصرب وغيرهم عن الدخول فيه. وحمل الصرب أحقادهم على عواتقهم وشهروا
سلاح الغل ورماح الحقد على الدين القادم إلى أوروبا من شرقها، الذي شرِقت به
قبل ذلك في غربها!
كان للألبان بلاء حسن ودور مميز في الولاء للإسلام ورفع لوائه، وقاموا
بجهود صادقة للتمكين له تحت مظلة دولة آل عثمان. وقابل العثمانيون صنيعهم
الطيب بمثله، حتى إن ما لا يقل عن ثلاثين رجلاً من الألبان تولوا في عصور
متوالية منصب (الصدر الأعظم) ، وهو أعلى المناصب في دولة الخلافة بعد
منصب الخليفة، وهو يعادل منصب رئيس الوزراء في عصرنا، وكان القادة
العسكريون الألبان من أكثر القادة العثمانيين بروزاً وتميزاً، حتى لكأن العثمانيين
صدَّروهم لمهمة حل آصار أوروبا وأغلالها التي ألقت بها في قعر الوثنية قروناً
عدداً، ولكن أوروبا المعاندة أجمعت أمرها على الاحتفاظ بأغلالها، وتواطأ
أشقياؤها على الوقوف في وجه الإسلام في الشرق بعد أن أخرجوه من الغرب،
واجتمعت القارة بنصاراها المختلفين من كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس على
اقتحام حصن الإسلام من الخارج بعد تخريبه على يد أوليائهم من اليهود والزنادقة
المرتدين من الداخل؛ فقد تفاعلت الجراثيم اليهودية العتيدة مع الفطريات العلمانية
الوليدة في تركيا لإنهاك جسد الخلافة من داخله، حتى انهارت مناعته، وأصبح
طريح فراش الفتنة، وأطلق على تركيا وقتها وصف (الرجل المريض) . وأثناء
مرضه الطويل قسمت تركته، ثم قُسم هو ذاته في قصة تختلط فيها الإثارة
بالغموض؛ حيث تم تقطيع المريض وما ترك إلى أشلاء ممزعة قبل أن تطلق على
الرأس (رصاصة الرحمة) لا بل رصاصة الحقد! وبعد الوفاة.. ظل الانتقام
مستمراً في التمثيل بالأشلاء، وكان من بين تلك الأشلاء شعب الألبان.
بين الأكراد والألبان:
بين الألبان والأكراد وجوه شبه كثيرة؛ فالألبان شعب جَلْدٌ مقاتل، تواق
للحرية، ميال للكفاح دون مبادئه، ولقد هذب الإسلام تلك الخلال فيه، لولا ما ران
على الألبان من أدران المسخ المتعمد بعد سحبه من منظومة الانتماء الإسلامي، وقد
وجد الغربيون ألاَّ حل لإضعاف شوكته، إلا بحل رابطته وتفريق كيانه.
وفي مطلع القرن العشرين، وبينما كانت ألبانيا خارجة لتوها من تحت أنقاض
الحكم العثماني، أرادت أوروبا أن تضمن خروج الألبان النهائي من دائرة الجامعة
الإسلامية الآيلة للسقوط، حتى لا تعود مصدراً لخطر جديد، فمارست عليها
الضغوط لتحويلها إلى واقع مغاير، فجرى تقسيمها أولاً، ثم اقتطعت أجزاء منها،
واشترط الأوروبيون للاعتراف بها دولة مستقلة أن تعلن حيادها وعلمانيتها،
وخضوعها للمراقبة الدولية، وزيادة على ذلك أن تقبل بأن يكون على عرشها ملك
من الألمان، لا من الألبان!
واستفرد الأوروبيون بألبانيا (المستقلة) بعد أن مزقوها إلى كيانات واجتزؤوا
منها (مقدونيا، وصربيا، والجبل الأسود، وكوسوفا) لتصبح مساحة أراضي
ألبانيا 28 ألف كيلو متر مربع، بعد أن كانت 80 ألف كيلو متر مربع.
ومنذ ذلك اليوم أخذت معاول الثأر الأوروبي تضرب رؤوس الشعوب الألبانية
في انتقام متتابع يتنقل من شعب إلى شعب في أراضي البلقان المضطربة. ونظراً
إلى أن توابع الزلازل البركانية البلقانية في أي جزء من شرق أوروبا تهز تلك
المنطقة كلها، فسوف أتناول في عرض موجز أهم ما جرى من تحولات في تلك
الأجزاء من أراضي الإسلام في البلقان، بدءاً من ألبانيا ومروراً بكوسوفا والجبل
الأسود وانتهاء بما يجري في مقدونيا التي لا يمكن فصل ما يحدث فيها الآن عن
بقية الأحداث التي سبق جريانها في بقاع بلقانية أخرى خلال العقد المنصرم.
ألبانيا وفقدان الهوية:
كانت الحرب العالمية الأولى قد انطلقت شرارتها الأولى من البلقان، وبعد أن
انتهت الحرب بهزيمة تركيا وحليفاتها، عقد في باريس ما عُرف بـ (مؤتمر
الصلح) عام 1919م، وقامت الدول المنتصرة فيه بتفتيت البلقان، وبعد ذلك
اعترفت (عصبة الأمم) بألبانيا دولة مستقلة، ولكن تلك العصابة اشترطت على
الألبان الانسلاخ من هويتهم الإسلامية كما سبق البيان، ولم تكن هذه مجرد دعوة
نظرية، بل أُجبرت ألبانيا عليها بصورة عملية إذ أُخضعت لاحتلال مباشر من
إيطاليا، ثم تركت ألبانيا لتلقى مصيراً أشنع من السيطرة النازية وهو الهيمنة
الشيوعية، ووقعت تحت تسلط أكثر ديكتاتورات العالم المعاصر تخلفاً وانغلاقاً وهو
(أنور خوجه) زعيم الحزب الشيوعي الألباني الذي قام في ألبانيا بأسوأ مما قام به
مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، مع فارق واحد، وهو أن خوجه كان يعمل
لحساب الشيوعية، وأتاتورك يعمل لحساب اليهودية الماسونية.
مكن أنور خوجه للشيوعية في ألبانيا من خلال نظام ستاليني فولاذي قضى
على حرية الشعب وتدينه، واستهدف شرفه وآدميته، وأقام خوجه ستاراً حديدياً
على ألبانيا جعلها معزولة عن العالم، حتى يتمكن من استكمال عملية تغيير في
الأعماق لشعب كان يوماً من حماة الإسلام في العالم، لقد حوَّل ذلك المارد المارق
(خوجه) ألبانيا من الدولة الإسلامية الوحيدة في أوروبا، إلى الدولة الوحيدة الكاملة
الإلحاد في أوروبا بل في العالم أجمع، بشكل فاق ما أحدثته الشيوعية في روسيا
وما كان يتبعها، حارب الأديان كلها، وحول المساجد إلى متاحف ومتاجر ومخازن،
وحل كل المؤسسات الدينية وصفَّى أملاكها وأوقافها، وحظر مجرد ممارسة
الشعائر، وسن القوانين لمعاقبة من يخالف النظم الإلحادية!
لقد ظلت أوروبا (المستنيرة) تنظر بتشفٍ لعقود طويلة إلى هذا المصير
المروع لجزء منها، حتى هلك خوجه، وجاء شيوعي آخر وهو (رامز عليا) عام
1985م، في وقت كانت أوروبا الشرقية تترنح تحت رياح التغيير المعادية
للشيوعية، وبعد أربعة أعوام سقطت الشيوعية نهائياً في أوروبا الشرقية، وظن
الألبان أنهم سيتنفسون نسيم الحرية بعد الخروج من مستنقع الشيوعية الآسن، ولكن
اشتراكية الفقر ظلت تلاحقهم حتى بعد سقوط الشيوعية، فقد أجريت انتخابات في
عام 1991م فاز فيها الاشتراكيون [2] ، ثم بعد ذلك تبعهم في الحكم الديمقراطيون
[3] الذين لم يأخذوا من الديمقراطية إلا أسوأ ما فيها؛ حيث تكرست سيطرة
الرأسماليين على الحكم في عهدهم، وحدثت أزمة انهيار شركات توظيف الأموال
في عام 1997م التي أحدثت اضطرابات عنيفة في ألبانيا استدعت تدخل الأمم
المتحدة، وضاعت في تلك الأزمة مدخرات الشعب الفقير الخارج من أسر
الشيوعية، وأغرى ذلك الإخفاق الديمقراطي الاشتراكيين بالعودة إلى
الحكم.
ألبانيا وصراع المصالح:
مثلما أعيت المشاكل الداخلية الشعب الألباني الذي يُعد أفقر شعوب أوروبا،
فقد تكاثرت على ذلك الشعب مطامع الأطراف الخارجية؛ فإيطاليا (عاصمة
الصليب) التي احتلت ألبانيا مرتين (عام 1914م، عام 1939م) تحاول جاهدة
إذابة الألبان في ثقافتها وشخصيتها، ولقد نجحت للأسف الشديد في ذلك إلى حد
بعيد، حتى إن الشعب الألباني أصيب بعقدة الهزيمة وأصبح الإيطاليون مثار
إعجاب الكثيرين من جماهير ذلك الشعب المغيَّب، وأصبحت إيطاليا تعامل ألبانيا
على أنها محمية أو منطقة نفوذ، وكان من آخر المظاهر الدالة على ذلك دخول
الإيطاليين بقواتهم لإنهاء أزمة شركات توظيف الأموال لحفظ النظام هناك. وينافس
الإيطاليين على النفوذ في ألبانيا اليونانيون، وإذا كانت إيطاليا هي عاصمة
الكاثوليكية العالمية فإن اليونان هي عاصمة الأرثوذكسية العالمية، وبين الدولتين
خصومات تاريخية مزمنة، وقد أصبحت ألبانيا مجالاً للتنافس المشترك بينهما [4] ؛
غير أن اليونانيين يركزون على الجنوب الشرقي، بينما يركز الطليان على الجنوب
الغربي. والذي يظهر أن سيطرة اليونان على ألبانيا أكثر من سيطرة الإيطاليين
وبخاصة في المجال الاقتصادي لدرجة أن كثيراً من الألبان يعتبرون ألبانيا دولة
محتلة من اليونانين الذين يمكنون للصرب في ألبانيا ويسندون إليهم مهمة (حفظ
النظام) !
وإذا كانت اليونان تنافس إيطاليا على جنوب ألبانيا، فإن صربيا تنافسها في
شرقها، والجبل الأسود تنافسها في غربها، وبذلك نرى ألبانيا واقعة كفريسة ضعيفة
بين ثلاثة وحوش ضارية يريد كل منها أن يستحوذ على أثمن ما فيها، ولو اقتصر
الصراع على أرض ألبانيا على النواحي الاقتصادية والسياسية لقلنا: شدة وتزول،
ولكن المشكلة أن هناك تنافساً بين الأطراف المتحالفة على تنصير ذراري المسلمين
في ألبانيا.
إن التنافس على المصالح في ألبانيا لا يقتصر على دول الجوار الصليبي فقط،
بل إن هناك قوة طامحة ترمق الأوضاع من بعيد، وهي قوة الولايات المتحدة
الأمريكية؛ فبلاد البلقان بوجه عام، وأراضي الألبان بوجه خاص، يسيل لها لعاب
الثعلب الأمريكي الجائع على الدوام، ولأسباب عديدة تتوق أمريكا لفرض هيمنتها
عن طريق الأمم المتحدة طبعاً على أراضي الألبان، فمن هذه الأسباب:
- أن بلاد الألبان هي الطريق المؤدي إلى كل من القوقاز وشرق المتوسط
والخليج العربي.
- وهي محطة من محطات الحروب الاقتصادية بين أمريكا وأوروبا.
- وهي أيضاً إحدى الساحات المحتملة لأية مواجهة مستقبلة بين أمريكا
وروسيا، أو أي قوة من قوى الإسلام الناهضة في آسيا الوسطى.
- وألبانيا تعتبر أيضاً بنظر الغرب أحد المعابر لمنظومته الثقافية والحضارية
التي يراد تعميم نموذجها في العالم.
إن النظرة النفعية الأمريكية الأوروبية لبلاد الألبان المقسمة في ألبانيا وما
حولها لا تبعد كثيراً عن عمليات حلف الأطلسي التي قام بها عام 1999م، وإذا
كانت أمريكا قد تزعمت (الناتو) في تلك العمليات، فإن الأيام تثبت أنها قامت بما
قامت به لمصالح بحتة، لا لمجرد النصرة الإنسانية أو المشاعر العاطفية، ولكن
الألبان خدعتهم تلك العمليات على ما يبدو، فنظروا بإكبار إلى الأمريكيين بعد
ضرب الصرب في كوسوفا ظانين أن العداوات الغربية الصليبية القديمة قد تحولت
فجأة إلى مشاعر صداقة ووفاق ودفاع مشترك، ولكن ما آلت إليه الأمور في
كوسوفا بعد عامين من ضربات حلف الأطلسي تفضح النوايا التي كانت تقف خلف
جهود الغرب للتدخل في البلقان.
كوسوفا تُسقط الأقنعة:
في ذكرى مرور ستة قرون على معركة (كوسوفا) بين العثمانيين والصرب،
أعلن مجرم الحرب الرئيس الصربي السابق (سلوبودان ميلوسوفيتش) أن معركة
كوسوفا التاريخية لم تنته، وأنه قد آن الأوان لاسترداد الصرب لأرض كوسوفا،
وأعلن إلغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفا في عهد الرئيس الشيوعي
اليوغسلافي السابق (تيتو) منذ عام 1963م.
وقد مرت الأحداث منذ أن أعلن ميلوسوفيتش ذلك بثلاث مراحل:
الأولى: شن دعاية عنصرية صربية مكثفة ضد ألبان كوسوفا بهدف شحن
المشاعر ضدهم.
الثانية: بدء سن قوانين التمييز والتفرقة ضد الألبان.
الثالثة: بدء عمليات العنف والإرهاب ضد ألبان كوسوفا بدءاً من يناير
(كانون الثاني) 1998م إلى يونيو (حزيران) 1999م. وكان ذلك بهدف إلجاء
الألبانيين إلى الفرار خارج أراضيهم، وبالفعل فقد تمت خلال هذه المرحلة أحداث
محنة كوسوفا الدامية التي قتل وجرح وشرد بسببها مئات الآلاف من الألبان
الكوسوفيين.
كان رد فعل الألبان الكوسوفيين الإعلان عن بدء عمليات المقاومة المشروعة
تحت قيادة ما عُرف بـ (جيش تحرير كوسوفا) ، وذلك بعد إخفاق محاولات الحل
السلمي التي تزعمها الزعيم الألباني الموصوف بأنه (معتدل) : إبراهيم روجوبا،
والذي كان الألبانيون قد انتخبوه رئيساً لهم، ولكن محاولات الألبان لصد العدوان
الصربي ظلت محدودة بسبب غياب الدعم لهم بوصفهم شعباً يمارس حقاً مشروعاً
في الدفاع عن النفس حتى بحسب المواثيق الدولية، وكما كان حال البوسنة وغيرها،
فقد ظل المجتمع الدولي ينظر للدماء النازفة من جراح كوسوفا ببرود غير معهود،
وكأن هذا المجتمع الدولي الحر يريد أن يبعث رسالة لكل حركة تحرير تريد أن
ترفع رأساً بالإسلام أن قد تغير الزمان.
ولما أنهكت الجراح أرواح الكوسوفيين الذين أُدخِلوا حرباً مباغته وغير
متكافئة، تدخلت الأمم المتحدة عارضة كالعادة التفاوض بين الوحش والضحية! ولم
يكن أمام الضحايا إلا القبول بأي حل يزيح السكين عن رقابهم، ولكن الوحش أبى،
وتمرد على أسياد الغابة في واشنطن وما حولها. وهنا كان لا بد من التدخل
العسكري تحت راية حلف الأطلسي لتحقيق عدد من الأهداف جملة واحدة، كان
منها: منع روح الجهاد الإسلامي من العودة إلى بلاد البلقان، حتى لا تتكرر ظاهرة
الأفغان، ومنها: إظهار قادة النظام العالمي الجديد بمظهر الجديرين بقيادة العالم
والقادرين على ضبط الأمور في أي منطقة من مناطقه، ومنها تعزيز مصالح أمريكا
في قلب أوروبا، وإشعار الأوروبيين بأنهم لا يستطيعون التفرد بعيداً عن الهيمنة
الأمريكية، حتى داخل قارتهم التي عجزوا عن حل واحدة من أطول مشاكلها وهي
البلقان، وأخيراً إعطاء درس واضح لكل من يريد أن يمارس طغياناً لحسابه
الخاص، بأن زمن الطغيان الخاص قد ولى؛ لأن في العالم الآن طاغوتاً عاماً يلقب
بـ (العم سام) !
استمر القصف الأطلسي للصرب نحو شهرين كانت الفرصة فيهما كافية لأن
تفرِّغ العقارب الصربية فيها بقية سمومها في جسد الألبان المثخن بالجراح.
ولما وضعت الحرب أوزارها أقبل حلف الأطلسي على تنفيذ اتفاق
(رامبويه) الذي سبق أن رفضه الصرب رغم غبنه للألبان، فهو لا يمنح شعب
كوسوفا الاستقلال، بل يضعهم تحت (وصاية دولية) وكأن الاتفاق يقول
للطرفين: كوسوفا ليست لأي منكما الآن وحتى إشعار آخر!
إن الصليبية الدولية تبرهن مرة أخرى على إصرارها على عدم التمكين
للإسلام ولو بشكل رمزي في أي أرض من أراضي أوروبا، ومع وضوح الحق
الكوسوفي عياناً أمام كل ذي بصيرة، إلا أن أقطاب (الشرعية الدولية) المتفاخرين
دوماً بقدرتهم على فرض إرادتهم، لم يشاؤوا أن يفرضوا هذه القدرة بإعطاء شعب
أدنى حقوقه التي نصت عليها تلك الشرعية الكاذبة!
كوسوفا تحت الإدارة الأممية:
بعد إخراج الجيش الصربي من كوسوفا عمدت الأطراف الدولية المتنفذة إلى
إجراء عملية (إخصاء) لإرادة الألبان فيها، ففرضت على (جيش تحرير كوسوفا)
أن يحل نفسه، ويسلم أسلحته ويتحول إلى حزب سياسي (مسالم جداً) ! مع أن
حزب ميلوسوفيتش (العسكري) لم يُحَلَّ بعد، ولا يزال رجاله في أعلى درجات
المسؤولية في الجيش الصربي! فهو وإن كان قد ذهب بجرائمه التي قد طالت شعبه
نفسه، إلا أن أعوانه لا يزالون في السلطة.
وقد فرضت الأمم المتحدة منطقة عازلة بين حدود كوسوفا وصربيا ريثما تهدأ
الأمور، ولكن تلك الحدود بدأ التحالف الأطلسي في تخفيف وجوده عندها تمهيداً
لإلغاء مهمته فيها، وهذا معناه: إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه بعد نجاح عملية
الإخصاء المذكورة لجيش تحرير كوسوفا حيث تتهيأ الفرصة للصرب أن يعودوا
فيعيثوا في أراضي الألبان فساداً دون أن يكون هناك من يصدهم. إضافة إلى ذلك،
وبدلاً من تمكين الكوسوفيين من إدارة شؤونهم في أوطانهم ولو تحت حماية دولية،
إذا بالمجتمع الدولي يفرض على الكوسوفيين إدارة أجنبية مدنية وعسكرية أشبه بتلك
التي كانت سائدة في الحقب الاستعمارية، غير أن المستعمر هنا لا يرفع أعلام دولة
من الدول الاستعمارية القديمة بعينها، بل يرفع علم المنظمة الدولية الموقوفة الآن
على الهيمنة الأمريكية.
لقد حلت في كوسوفا بمقتضى قرار مجلس الأمن رقم (1244) إدارتان
إحداهما مدنية، والأخرى عسكرية.
- أما الإدارة العسكرية فهي تحمل اسم (كيفور) ، وتتشكل من قوة تقدر
بخمسين ألف جندي (وهو قوام جيش كامل لدولة متوسطة) ، وينتمي هذا الجيش
إلى 39 دولة، وتتوزع قواته على خمس مقاطعات، تحت قيادة خمس دول هي:
(أمريكا بريطانيا فرنسا ألمانيا إيطاليا) [5] ، وتؤول المسؤولية الموضوعة في أيدي
تلك الدول الخمس إلى دولة واحدة هي: أمريكا.
- وأما الإدارة المدنية فيطلق عليها اسم: (أونميك) ، ويترأسها رجل فرنسي
يدعى (برنار كوشنير) ، وهذا الرئيس الفرنسي لشعب كوسوفا الألباني المسلم هو
الحاكم الفعلي الآن لتلك الجمهورية التي طالبت العالم بالاستقلال، أسوة بكرواتيا
وسلوفينيا النصرانيتين البلقانيتين. ويقوم هذا الرئيس الفرنسي (المؤقت) بدور
تهيئة البلاد للرئيس (المؤبد) الذي يُعد الآن لحكم المسلمين في كوسوفا، وذلك
على طريقة حكم الانتداب الذي ظننا أنه قد أصبح من التاريخ! إن مهام ذلك
الرئيس الفرنسي تمثل سلطة حكم تنفيذي لا إشرافي، فهو يرأس تلك الإدارة في
إطار حكم يصور على أنه حكم ذاتي، أما مصير (الحل النهائي) لأزمة الشرق
الأوسط الأوروبي فإنه الآن بيد أرباب الديمقراطيات العالمية التي تصاب بالعَتَه
والعمى والصمم والبكم كلما طالبها شعب مسلم مسالم بحق تقرير المصير!
إن أمريكا والغرب لن يقبلوا حتى إشعار آخر بوجود إسلامي في أوروبا
الموهوبة منذ ولدت لخدمة الشيطان، وحتى لو قبلوا شكلاً من أشكال ذلك الوجود،
فلا بد أن يكون مفرغاً من المضمون، فلا يكون له وصف سياسي، أو ثقل
اقتصادي أو هوية ثقافية أو اجتماعية تنطلق من ثوابت إسلامية، فلا سماح لدولة أو
حلف أو مجموعة تتبنى الإسلام في جزء من أجزاء تلك القارة القارة دوماً في بيت
العصيان.
يمكن فقط السماح بوجود محدود للمسلمين في شكل جاليات أو محميات أو
تجمعات لأصحاب اللجوء السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي!
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم ما يدور في جمهورية مقدونيا التي يريد
مسلموها من الألبان أن يجربوا حظهم في المطالبة بحقوقهم في عالم لم يعد يعدل في
قضية إن كان أهلها من أصول إسلامية، ولو كانت أوروبية!
وإلى بقية في حلقة قادمة إن شاء الله.
__________
(1) هذا وصف أوروبا (الروم) في الحديث الشريف حيث سأل أبو حوالة - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قلت: يا رسول الله، ومن يستطيع الشام وبه الروم ذات القرون، قال: «والله ليفتحه الله عليكم، وليستخلفنكم فيها» أخرجه البيهقي في الكبرى (9/179) والضياء في المختارة (9/278) ، رقم (241) ، وعزاه للطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/212) ، رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير نصر بن علقمة وهو ثقة.
(2) يتزعم الحزب الاشتراكي (فاتوس نانو) .
(*) أي مدينة الإسلام.
(3) يتزعم الحزب الديمقراطي (صالح بريشا) وقد أطيح به من رئاسة ألبانيا بعد أحداث أزمة شركات توظيف الأموال التي يقال إن من أسباب تدبيرها محاولة بريشا التقرب من العالم الإسلامي، بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي.
(4) تتذرع الدول الأوروبية في تنافسها على إضعاف ألبانيا بدعوى أن الألبان ينزعون إلى التوحد تحت مظلة دولة واحدة تجمعهم بعد تحقيق مشروع (ألبانيا الكبرى) ، وهو مشروع يرى الألبان أنه وهم صنع منه الغرب ذريعة لتسويغ تدخلهم الدائم في شؤون الألبان للحيلولة دون تحقيقه.
(5) يلاحظ أن هناك وضعاً عسكرياً مشابهاً في البوسنة بعد اتفاق (دايتون) للسلام! .(162/76)
المسلمون والعالم
قبل فوات الأوان الخطر التنصيري يهدد
البوسنة والهرسك
محمد إسماعيل يوستش
تمثل أرض البوسنة والهرسك نقطة تماس مباشر بين العالمين: الإسلامي
والغربي، وما يزال الغرب ينظر إلى تلك الأرض وفي مخيلته جيوش الفتح
الإسلامي وهي تتقدم في قلب أوروبا. فهي في نظره عضو غريب مغاير في
التركيب الثقافي والحضاري ولا يمكن أن يزرع في جسد القارة؛ واضعاً بذلك
المعايير الثقافية والدينية أساساً للانتماء، متناسياً صيحاته التي صمّت الآذان،
ودعواته لأمم الأرض أن تقبل بالتنوع الثقافي داخل نسيجها الخاص.
وإذا كانت آلة الحرب الصربية والكرواتية لم تستطع أن تحوِّل البوسنة إلى
أندلس جديدة بقبضتها الحديدية؛ فها هي يد التنصير الملساء تلتف من خلف
الكواليس باحثة عن ذوي الحاجات الخاصة، منقبة عن الفئات الاجتماعية ذات
الأوضاع غير الطبيعية؛ لتبذر فيها بذورها دون أن تتعجل الحصاد، في ظل غفلة
العالم الإسلامي الذي تخاذل - إلا من رحم الله - عن نصرة إخوان العقيدة في زمن
الحرب وزمن السلم على السواء.
تزداد المؤسسات التنصيرية الدولية العاملة في البوسنة والهرسك مع الأيام،
وهي تقوم بأعمال إغاثية وخيرية ضخمة، دون أن يكون لها هدف تنصيري واضح؛
وذلك حتى تثبت شرعية وجودها، وتستهدف كثيرٌ من هذه المؤسسات «يتامى
البوسنة» ممن قُتِل آباؤهم دفاعاً عن شرف الأمة ودينها. ولا تزال هذه الشريحة
تسيِّل لعاب المنصِّرين وتفتح شهيتهم للعمل، وذلك لسهولة التأثير فيها وتوجيهها؛
حيث تقوم هذه المؤسسات بانتقاء الأطفال من المدارس ومن ثم توجيه الدعوة لهم
للمشاركة في رحلات خارجية ترفيهية بالمجان.
وعلى سبيل المثال تقوم مؤسستا IKRE و Dom Sindikata بتنظيم
رحلتين لليتامى سنوياً إلى إيطاليا وأسبانيا وباقي الدول الأوروبية؛ الأولى في
أواخر ديسمبر؛ حيث احتفالات رأس السنة وعيد الميلاد، وتستمر هذه الرحلة 20
يوماً، والثانية في الفترة ما بين يوليو وأغسطس وتستمر 40 يوماً، وتكون في
استقبالهم عائلات نصرانية متدينة وغنية تعاملهم كفرد من أفراد الأسرة طوال فترة
الرحلة.
تقول إحدى البنات - لم ترد أن تكشف اسمها - في مقابلة أجريت معها - إنها
تشارك في هذه الرحلات كل سنة؛ حيث تستقبلها عائلة نصرانية ميسورة الحال
توفر لها غرفة خاصة وتلفازاً وجهاز كمبيوتر ومسجلاً إلى ما هنالك من وسائل
الترفيه، وتضيف: إن تلك العائلة متدينة جداً، يصلي أفرادها ثلاث مرات في
اليوم، ويذهبون إلى الكنيسة يومي الأحد والجمعة، وذكرت أنها قد ذهبت معهم مرة
واحدة؛ لأنهم كانوا مصرِّين على ذهابها.
والذهاب إلى الكنائس بالأطفال شيء معتاد كما يقول: (Nezir
Halilovic) نزير هليلفتش - مدير أمانة الوقف بسراييفو والخطيب في مسجد
الملك فهد في العاصمة، ويذكر أيضاً - كما ورد في مقال له نشر في موقع رئاسة
المشيخة البوسنية الإسلامية على شبكة الإنترنت عن إحدى فتيات البوسنة أنها
شاركت في الصلاة داخل الكنائس ثلاث مرات.
وتستقبل هذه الأسر الأوروبية يتامى البوسنة وكأنهم أبناؤهم؛ حيث
يصحبونهم لزيارات الأقارب والمشاركة في الأعياد ذات البعد الديني أو الثقافي
وهي كثيرة عند النصارى. وفي هذه الأعياد والحفلات يعتاد الأطفال على شرب
الخمور وأكل لحم الخنزير والرقص، وغيرها من أنماط الحياة الغربية، كما
يقومون بإعطاء الأطفال هدايا ثمينة مثل المجوهرات والقطع الذهبية.
تقول (عملة) عن العائلة النصرانية التي تستضيفها في أسبانيا خلال فترة
الصيف إنهم يذهبون بها إلى شاطئ البحر وحفلات الرقص، كما أنها تذهب معهم
لمشاهدة حفلات الجمال، أما يوما الجمعة والأحد فهما مخصصان للذهاب إلى
الكنيسة. وعن كرم هذه العائلة تقول: عندما يذهبون للتسويق كان يُشترى لها كل
ما ترغب فيه مهما كان ثمنه!
وتقول (نرمينا) إنها كانت تذهب إلى إحدى المدن الأوروبية (لم تحددها)
وكانت العائلة المستضيفة تضع لها تكلفة التذكرة وكل احتياجاتها الأخرى عن طريقة
مؤسسة IKRA، وتقول: عندما كنت صغيرة جداً كنت أذهب معهم إلى الكنيسة
دائماً، وفي المرة الأخيرة رفضت الذهاب فانقطعوا عن المساعدة.. لا يريدون مني
أن آتي إليهم مرة أخرى.
وبعض هذه العائلات - كما يقول الشيخ نزير هليلفتش - تأتي إلى البوسنة
ويزورون اليتامى في بيوتهم ويحضرون لهم الهدايا القيمة إضافة إلى النشرات
التنصيرية، كما تتصل تلك العائلات باليتامى شهرياً، وترسل لهم مساعدات مالية
شهرية تتراوح ما بين (300 - 500) مارك ألماني. وعند رجوع الأطفال من
تلك الرحلات يكون معهم العشرات من الكتب عن النصرانية.
كتاب جديد يتحدث عن نشاطهم
صدر حديثاً كتاب يحمل عنوان: «كبِّر رؤيتك للكنيسة الصغيرة»
Magnify Your Visio For The Small Church للأمريكي جون روفل
(John Rowell) وهو القس الأول والمؤسس لكنيسة NCC (Northside
Cmmunity Church) التي مقرها الرئيسي في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا
الأمريكية.
وقد اعترف فيه المؤلف بالجهود التي تبذلها المؤسسات التنصيرية الدولية في
أرض البوسنة والهرسك، ويتألف الكتاب من جزأين: يتحدث الجزء الأول منه عن
التنصير العملي بين البشناق (أهل البوسنة) ، في حين يتناول الجزء الثاني
جوانب التنصير ومشكلاته عموماً ورؤية المؤلف لها، كما يحاول أن يثبت أن
الكنائس الصغيرة تملك إمكانيات أكبر للتحرك من إمكانية الكنائس الضخمة ذات
التنظيم المعقد.
وقد اختار جون روفل مسلمي البوسنة ليكونوا ميداناً للنشاط التنصيري التابع
لكنيسته ووضع أمام أتباعه هدفاً محدداً وهو نشر رسالة الإنجيل و «إيصال صوت
المسيح» لأهل البوسنة الذين وصفهم المؤلف بأنهم (استطاعوا مقاومة المسيح
لأكثر من 500 سنة) .
والعجيب أن المؤلف تحدث أنه بدأ بالتخطيط لتنصير البوسنة منذ سنة 1989
م أي قبل سقوط الشيوعية واندلاع الحرب وفي الحين الذي لم يكن العالم الإسلامي
يعلم بوجود مكان يقطنه مسلمون يدعى البوسنة.
وقد لاحت الفرصة الذهبية للرجل لتحقيق الهدف المنشود، حين تفجرت أزمة
البلقان ووقع أهل البوسنة تحت وطأة الحاجة الملحة التي يحسن المنصرون
استغلالها لتحقيق مآربهم.
ويعبر المؤلف عن هذا الأسلوب التنصيري المفضل بعبارة YOU GIVE
THEM SOMETHING TO EAT (أعطوهم شيئاً ليأكلوه) ، وهي عبارة
يزعمون أن المسيح - عليه السلام - قالها حين أطعم أهل (غاليليا) ، متناسياً أن
المسيح لم يكن هو المتسبب في تشريد أهل (غاليليا) بخلاف منتسبين إليه في هذه
الأيام الذين يسببون ويشجعون الأوضاع الإنسانية البائسة ثم يقومون باستغلالها.
وبهذه الصورة تتحول المشاهد الإنسانية المروِّعة في أذهان الغربيين المتدينين إلى
منح وفرص تستغل ولا تعالج.
ويورد المؤلف في الكتاب التقارير التي كان أتباعه المنصرون يرسلونها له
عن نشاطهم في أحد مخيمات اللاجئين البوسنويين في كرواتيا، ويسمى (غاشينسي)
(GASINCI) ، زمن الحرب، وكان هذا المخيم يضم ثلاثة آلاف وخمسمائة
مهاجر ممن نجوا من نار الدنيا ليتلقفهم المنصرون بالدعوة إلى نار الآخرة.
ويقدم الكتاب رصداً لتحركات المجموعات الصغيرة (من 4 إلى 8 أشخاص)
التي كان القس جون يرسلها إلى المخيم (غاشينسي) والتي تتناوب عليه،
والغرض من كل ذلك تشجيع المؤسسات التنصيرية الأخرى على اتباع منهجه في
التنصير حيث يقدم لهم توجيهات وينقل إليهم الخبرات.
وهكذا تمضي آلة التنصير عاملة في الخفاء، سائرة نحو تحقيق أهداف
مرحلية محسوبة بدقة، ولا تتعجل قطف الثمرة، وسلاحها طول النفس.
فيما أثبتنا نحن قلة التفاتنا للأخطار الخفية مهما كانت قوية، فيكفينا أن نشاهد
عرضاً عن الإسلام في البوسنة، ونرى بعض المساجد وقد بنيت، والمآذن قد
رفعت حتى نستهين بكل حديث عن مشاكل أخرى يواجهها مسلمو البوسنة، وعن
التنصير بالذات، وتعمى أبصارنا عن رؤية هذا الضباب الذي يحوم حول تلك
المآذن! !
فإن بقي العالم الإسلامي بمثل هذه النفسيَّة؛ فسنتحرك لأجل القدس لكن بعد
أن يهدم الأقصى، وسننشط في الدعوة في أرض البوسنة بعد أن تغدو نصرانية! !
فلا بد من نفسية أخرى أشد حساسية نحو الخطر، تتحرك عند بداية الأمر،
وتضمد عند نشوء الجرح، وعلينا أن لا نقصِّر في دعم المؤسسات الإسلامية
الدعوية بكل الوسائل.
بل علينا أن نفكر (مؤسسات وأفراداً) في استقبال طفل بوسني ليتعلم سورة
من القرآن، ويلعب مع أطفالنا ليشعر بأخوة الإسلام، ولينمو في نفسه معنى امتداده
في العالم الإسلامي وانتسابه لأمته.(162/84)
المسلمون والعالم
أقباط المهجر الدور والمخططات
حسن الرشيدي
«أنا مصرية قبطية مضطهدة في بلادي، إنهم ينظرون إليَّ بازدراء؛ لأن
على صدري صليباً ... الأقباط في مصر مطاردون ومقتولون ومعذبون، ولا بد أن
تتحرك أمريكا لوقف هذه الفظائع» ! !
هذه كلمات فتاة مصرية قبطية تصرخ بها في أمريكا في كل مؤتمر سياسي
سواء للحزب الديمقراطي أو الجمهوري في غرب الولايات المتحدة أو شرقها،
وحين تنتهي من كلماتها تجلس وسط تصفيق الحاضرين، وقبل ذلك تكون قد أخذت
قسطاً من أضواء كاميرات الصحف، والتليفزيون التي تغطي المؤتمر.
هذه الأفعال جزء من استراتيجية عامة وحملة مدروسة تقوم بها جهات قبطية
نشطة ليس في أمريكا فقط ولكن في سائر دول الغرب، صورت الأقباط أنهم أقلية
مضطهدة، واستغلتها الولايات المتحدة وأطراف أخرى في أهداف خاصة بها.
فمن هم أقباط المهجر؟ وماذا يريدون؟
الأقباط - عامة - هم أهل مصر عندما فتحها المسلمون بقيادة عمرو بن
العاص - رضي الله عنه - في عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه -، ويؤرخ للكنيسة المصرية بمجيء (مرقص) وهو أحد حواريي
المسيح كما تقول المصادر النصرانية. وقبل القرن الخامس الميلادي لم يكن هناك
حديث عن انقسام نصراني بين مذهبي الأرثوذكس والكاثوليك، ولكن بعد انعقاد
المجمع المسكوني الرابع في عام 451 ميلادية ظهر أول انشقاق في الجسم الكنسي؛
حيث انفصل التيار الذي وافق على قرارات المجمع عن التيار الذي اعترض على
قرارات المجمع، وكان الاختلاف حول طبيعة المسيح؛ فقد اتفق الجميع على أن
المسيح له لاهوت (من الله) وناسوت (من البشر) حيث قال بعضهم بأن
اللاهوت والناسوت يكوِّنان طبيعة واحدة وهم الذين رفضوا قرارات المجمع؛ في
حين قال بعضهم الآخر بوجود طبيعتين داخل أقنوم [1] واحد وهو ما صدر رسمياً
عن المجمع. والقائلون بالطبيعة الواحدة هم الذين سُمُّوا: الأرثوذكس ومنهم الأقباط،
والقائلون بالطبيعتين هم الكاثوليك. وآمن الرومان الذين كانوا يحتلون مصر
حينذاك بالمذهب الكاثوليكي وأذاقوا الأقباط أشد أنواع العذاب ليعدلوا عن مذهبهم
حتى كما تقول الروايات إن شقيق البطريرك القبطي قتلوه بإسالة شحمه بالشموع
المشتعلة، ووضعوه في جِرابٍ مثقَّب وأنزلوه في البحر عدة مرات، وهرب
البطريرك (رئيس الكنيسة) واختفى عشرات السنين في الكهوف والجبال والأديرة
البعيدة عن رقابة الرومان. وتتفق روايات ألد المؤرخين عداوة للإسلام على أنه لو
لم يقع الفتح الإسلامي لأبيد الأقباط بإبادة كنيستهم وفتنتهم عن دينهم.
أقباط المهجر:
تختلف التقديرات بالنسبة لعدد الأقباط المهاجرين؛ حيث يتراوح عددهم بين
600 ألف حتى يصل إلى 2 مليون في بعض المصادر القبطية، ولعل إشكالية
عددهم هذا تتشابه مع إشكالية تعداد الأقباط داخل مصر؛ فبينما يقول زعماء الأقباط
إن نسبتهم حوالي 20% من تعداد السكان تقول مصادر الحكومة المصرية إن
نسبتهم لا تتعدى 10%، وأن هذه النسبة تشمل الأقباط الأرثوذكس والكاثوليك
والبروتستانت وغيرهم من الطوائف النصرانية، وأن نسبة الأرثوذكس في حدود
5. 7% مع الأخذ في الاعتبار أن شكاوى الاضطهاد تأتي دائماً من جانب الأرثوذكس
كل ذلك طبقاً للإحصائيات التي يقوم بها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء
المصري كل عشر سنوات. ومن المعروف أن نسبة الأقباط هذه المعلن عنها من
قِبَل الجهات الرسمية المصرية ثابتة منذ أكثر من قرن من الزمان؛ حيث كان
يشرف على عملية التعداد حينئذ الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر.
أقسام الأقباط في المهجر:
يمكن تقسيم أقباط المهجر إلى فئتين رئيستين:
الفئة الأولى: الكنائس في المهجر.
الفئة الثانية: أقباط خارج الكنيسة أو الشعب بالمصطلح الكنسي: وهم الأفراد
من غير طبقة رجال الدين.
أولاً: كنائس المهجر:
كانت أول كنيسة قبطية تأسست في الولايات المتحدة هي كنيسة مار مرقص
في جيرسي سيتي، وكان ذلك في عام 1964م، وفي عام 1968م سجلت ثاني
كنيسة قبطية للمهاجرين في نيويورك، وتبعتها كنيسة في المدينة نفسها عام 1970م،
وبعد أن تولى الأنبا شنودة كرسي البابوية توالت الكنائس في جميع بلاد المهجر
حتى إنها بلغت 46 كنيسة في أمريكا، و 38 في أوروبا، و 15 في كندا و 23
في أستراليا وغيرها من البلدان. والمرء يندهش وتتملكه الحيرة من كثرة عدد
الكنائس في المهجر خاصة بعد تولي الأنبا شنودة شؤون بطريركية الأقباط في
مصر، ويزداد الاندهاش حينما يعلم أن بعض البلدان العربية توجد فيها
كنائس قبطية؛ حيث يقول الأنبا شنودة: «لنا كنائس في أبي ظبي، ودبي،
والبحرين، ومسقط، وبغداد، والأردن، والكويت، ولبنان، والقدس، وليبيا،
والسودان» .
ولكن ما الدور المنوط بهذه الكنائس؟ يقول الأنبا شنودة: «ولاهتمامي
بشؤون المهجر أنشأت مكتباً في المقر البابوي بالقاهرة لشؤون المهجر يتلقى أخبار
كنائس المهجر والرسائل والفاكسات، ويعد ملفاً لكل كنيسة ولكل موضوع ... » ،
ويضيف قائلاً: «نحن لا نعمل لليوم، ولكن نعمل للمستقبل، ونرى أن تمتد
الرعاية لكل قبطي في الخارج مهما يكن في أماكن بعيدة» .
ويقول في حديث آخر عندما سئل عن الأسباب التي أدت إلى تمدد الكنيسة
خارج الحدود؛ فأجاب مباشرة: «ربطهم انتمائياً إلى الكنيسة» ، ويقول في
موضع
آخر: «الجنسية شيء والولاء شيء آخر ... والأطفال في الصلوات يذَكَّرون
باستمرار بالكنيسة وآبائها ورئاستها وقوانين الكنيسة» .
ولكل كنيسة من كنائس المهجر مجلة فضلاً عن توزيع كنائس المهجر لمجلة
الكنيسة مترجمة باللغة الإنجليزية، وبخلاف ذلك تقوم كنائس المهجر بالتحرك على
محاور أخرى لربط أقباط الخارج بها مثل: إنشاء مراكز قبطية تعتبر بيوتاً للخلوة
وتلقى فيها المحاضرات، إقامة كليات لاهوت كالتي في سيدني بأستراليا وجيرسي
سيتي بالولايات المتحدة، ترجمة الكتب الدينية بلغات أبناء المهجر.
هل الرعاية هي غاية الكنيسة المصرية أم أن هناك دوراً لهذه الكنائس
الخارجية يخطط له شنودة؟ لقد ظهر فيما بعد هذا الدور؛ فعندما تبدأ كنائس مصر
إضراباً وصياماً تساندها كنائس المهجر؛ وبذلك يكون الصوت مدوياً في أرجاء
المعمورة وليس قاصراً أو منزوياً في دولة، ويقول شنودة متحدثاً عن زيارة
الرئيس مبارك إلى الولايات المتحدة التي جاءت في أعقاب حوادث قرية الكشح
المصرية وما تبعها - كالعادة - من اتهام الحكومة المصرية باضطهاد الأقباط:
«لقد أمرتُ كهنة الكنائس هناك يقصد بالخارج بالخروج لاستقبال الرئيس» ، والذي
يأمر بالخروج قادر على إصداره أوامر بالمقاطعة في الوقت الذي يريد.
ونتيجة لمحاولة الأنبا شنودة السيطرة على أقباط المهجر بواسطة الكنائس،
واتباعه الأساليب الحزبية المعهودة عنه لبسط نفوذه توالت الانشقاقات عليه في
الخارج كما حدث في الداخل.
ثانيا: الأقباط خارج الكنيسة:
عند استقراء حالة الأقباط المهاجرين تواجه الباحث صعوبات عدة لاعتبارات
عديدة منها: أنها لم تدرس دراسة علمية وحقلية حتى الآن؛ بحيث يمكن للباحث أن
يتلمس الخريطة المعلوماتية والسوسيولوجية للأقباط في كل دولة ومجتمع غربي
على حدة من زاوية أعدادهم الحقيقية والعاملين منهم والعاطلين وهياكلهم العمرية
وأجيالهم وسنوات الهجرة وتخصصاتهم ... كذلك ما زالت التضاريس السياسية لهذا
التعبير العام والغامض المسمى أقباط المهجر مجهولاً آخر: كم عدد المنخرطين في
الحياة السياسية في بلدان المهجر سواء في أحزاب سياسية في دول المهجر، ومدى
مشاركتهم السياسية في الانتخابات العامة وغيرها، وكم عدد النشطاء في المنظمات
القبطية التي تتخذ مواقف سياسية إزاء الدولة المصرية أو تمارس أدواراً معينة
سواء تجاه الكنيسة معها أو ضدها؛ وخاصة أن الكتلة الكبرى هي للأقباط
الأرثوذكس في المهجر، ومع ذلك فإن ثمة أقباطاً ينتمون إلى الكنائس الكاثوليكية
والإنجيلية، وهل يشاركون جميعاً في إطار هذه المنظمات ... ؟ كل هذه الأبعاد
المختلفة لموضوع أقباط المهجر لا تزال غائبة عن الدراسة الأكاديمية والمقاربات
الميدانية نظراً لغياب بنية معلوماتية دقيقة عن هؤلاء الأقباط، ولكننا سنحاول
الاقتراب قدر الإمكان من تاريخهم، وتنظيماتهم على ضوء المعلومات القليلة
المتوفرة.
بدايات الهجرة:
بدأت هجرة المصريين عموماً تتسع مع بدايات حركة الضباط الأحرار
المؤسسين لثورة عبد الناصر في 1952م حيث كان النزوح الأول لعدد كبير من
الناس، وهؤلاء انقسموا فئتين: فئة هاربة بدينها من اضطهاد رجال الثورة الذين
شنوا حملة لا هوادة فيها على الإسلام، والفئة الأخرى كانت من الرأسماليين
وأصحاب الأراضي التي استولت الثورة على أموالهم بدعوى توزيعها على الفقراء،
واستقر هؤلاء في أوروبا وأمريكا، وكان فيهم عدد كبير من الأقباط يمتلكون
حوالي 15% من ثروة مصر.
ومع بداية الستينيات كان النزوح الثاني الذي اشتد في السبعينيات
والثمانينيات، واستمر حتى يومنا هذا وشمل جميع فئات مصر، وهو يختلف عن
النزوح الأول الذي كان خروج أغنياء، أما الثاني فهو خروج بحث عن هوية مفتقدة
أو بطالة لا تفي بمتطلبات العيش وأعباء الحياة.
بينما اتجه الشطر الأكبر من هذه الهجرة إلى الدول العربية وكانت غالبيتهم
الساحقة من المسلمين، اتجه بعضهم صوب الغرب في أوروبا وأمريكا، وكانت
نسبة الأقباط فيهم مرتفعة.
وفي ظروف بدت غامضة لبعض الناس ظهرت منظمات الأقباط في المهجر،
وعند التحري عن توقيتها بدت وكأنها متصلة مع غيرها من الصدامات القبطية في
مصر.
أهم المنظمات القبطية في المهجر:
1 - الهيئة القبطية:
وتعد من أنشط المنظمات القبطية المعارضة وأقواها في المهجر وصاحبة
الصوت العالي، تأسست في جيرسي ستي بولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة عام
1974م على يد شوقي فلتاؤس كراس، ومن أهدافها المعلنة:
1 - العمل على احترام حقوق الإنسان.
2 - نشر الثقافة القبطية على الصعيد العالمي، وتأسيس معهد للدراسات
القبطية.
3 - إحياء القومية القبطية والتاريخ القبطي.
4 - إنشاء مركز ثقافي لنشر الثقافة القبطية، وللرد على أسئلة المستفسرين
عن تاريخ الأقباط وحضارتهم.
5 - مساعدة الأقباط المهاجرين.
وبمرور الوقت أصبح للهيئة العديد من الفروع في الولايات المتحدة وبلدان
المهجر الأخرى مثل كندا وأستراليا. وشوقي كراس هو رئيسها في الولايات
المتحدة، ويشغل سليم نجيب هذا المنصب في كندا، وصموئيل فهد في أستراليا،
وأطلق على هذا التجمع الدولي الجديد الاتحاد العالمي للهيئات القبطية.
وتصدر الهيئة مجلة (الأقباط) باللغتين العربية والإنجليزية، وهي مجلة
تطبع أكثر من 15 ألف نسخة، وتوزع بالمجان على رؤساء الدول والسياسيين
ورجال الدين وجمعيات حقوق الإنسان، كما تقوم الهيئة بإصدار نشرات صحفية في
المناسبات المختلفة وإرسالها إلى قادة دول العالم، وفي الوقت نفسه تعمل على نشر
الإعلانات في الصحف الأمريكية الكبرى مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست
لتوضيح وشرح ما تسميه قضية الشعب القبطي في مصر، وتولت الهيئة طباعة
الكتب القبطية التاريخية القديمة.
2 - المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان:
تأسست هذه المنظمة في أول يناير 1995م، ومن أهدافها المعلنة:
* تعزيز مبادئ السلام والتعايش بين الجماعات والتجمعات العرقية والدينية.
* الدفاع عن حقوق الإنسان الفرد وحقوق الأقليات.
* تقوية ودعم مبادئ الديمقراطية.
وتحددت الوسائل المعلنة لهذه المنظمة على النحو الآتي:
1 - القيام بالأبحاث والدراسات في مجال حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.
2 - المشاركة في أنشطة البرامج القانونية والاجتماعية والتعليمية
والاقتصادية والثقافية وتطويرها لتدعيم تحقيق أهداف المنظمة.
3 - تقديم منح دراسية للنشطاء والمهتمين بحقوق الإنسان.
4 - استضافة المؤتمرات وعقدها حول القضايا الخاصة بحقوق الإنسان.
5 - تأسيس روابط وعلاقات مع منظمات مشابهة.
وتصدر المنظمة نشرة باسم المساواة باللغتين العربية والإنجليزية، وصدر
العدد الأول منها في يونية 1996م ويرأسها نبيل عبد الملك.
ومن خلال استعراض أهداف المنظمة المعلنة يتضح أنها تعتمد على الأسلوب
غير المباشر في التعامل مع قضية الأقباط من خلال الولوج من موضوع حقوق
الإنسان بعكس الهيئة القبطية التي تتبنى قضية الأقباط بصورة مباشرة وتصادمية.
كما تتواجد أيضاً عدة هيئات وتجمعات صغيرة بعضها يصدر نشرات دورية
وغير دورية مثل نشرة الرسالة التي تصدرها جمعية الدراسات القبطية في نيو
جيرسي منذ عام 1982م وتعرِّف نفسها بأنها صوت الشعب القبطي الصارخ من
أجل الكنيسة وتقاليدها، ويرأس تحريرها (رودلف يني) من بنسلفانيا، وهناك
المؤسسة القبطية ويرأس مجلس إدارتها (عصمت زقلمة) ، والفيدرالية القبطية
ويمثلها (منير بشاي) ، والاتحاد القبطي ويمثله الدكتور (محب ميخائيل)
و (رفيق ميخائيل) ، وأخيراً أعلن في أمريكا عن تأسيس منظمة التحرير
القبطية.
ماذا يريد أقباط المهجر؟
هل أهدافهم هي أهداف أقباط الداخل المعلنة نفسها؟ أم تتجاوزها لتعبر بالفعل
وبالكلمة عن أمانٍ دفينة ورغبات مكبوتة يعجز من بالداخل عن إظهارها؟
تقول جريدة صوت الأقباط: «إنه علينا أن نعمل بكل جهدنا وطاقتنا وأموالنا
وذكائنا وأن نطرد الشر ونقاوم كل سهامه الشريرة، وأن نستأصل الاستعمار
الإسلامي من جذوره في مصر.. كل مصر؛ فأمة الأقباط ليست لبني إسماعيل فيها
جذور، وإذا كان المستعمر المسلم قد فقد كرامته وحياءه فوجب عليه أن يرحل
بإرادته عن مصر ويترك أصحاب الأرض الأقباط في حالهم؛ لذا وجب عيلنا نحن
الأقباط الذين هاجرنا بعيداً عن عبودية الإسلام أن نعمل جاهدين على طرد
المستعمر المسلم قبل أن يبيد المسيحيين ويطردهم من ديارهم؛ فإن كان طرد
الاستعمارالإسلامي قد يأخذ أجيالاً ولكنه في الإمكان طرده؛ فقد حدث في أسبانيا بعد
استعمار إسلامي لقرون طويلة، وحدث في الفلبين وبعض جزر اليونان، ولن
يخرج الاستعمار الإسلامي من مصر إلا بالقوة: القوة العسكرية الأمريكية أو
الإسرائيلية أو بتدخل دول العالم المحبة للسلام، إننا نعلنها بصراحة أننا سنستخدم
القوة السياسية لتحريك مجاري الأمور في السياسة الأمريكية، ونستخدم المخابرات
الأمريكية لضمان خدمة مصالح الأقباط أصحاب أرض مصر، وسنحررها من
الاستعمار الإسلامي آجلاً أم عاجلاً، نحن قوة لا يستهان بها، لقد أصبحنا صوتاً
قوياً سيزعزع عروشكم الإسلامية، وتذكروا أن غرابكم هو الذي نكش على خراب
عشه» .
ويقول أديب مجلي في مجلة صوت مصر الحر: «أنا القبطي الفرعوني
صاحب الأرض، أنا القبطي الشامخ صاحب هذا الوطن الذي سُلِبَ مني منذ الغزو
الإسلامي وإلى الآن، وسيرحل قريباً كما رحل من أسبانيا، فلم تعد النعرة
الإسلامية لها جاذبيتها الآن في جو أصبح الغرب المتحضر يفهم أن العرب جرب» .
إن هذه الأجزاء من مقالات نقطة في بحر من الذي ينشر في المجلات
والنشرات القبطية في المهجر، وتوزع مجاناً بالبريد وغيره.
ومن خلال هذه الكلمات التي تقطر حقداً وغلواً، وتفوح نتناً وعفناً تظهر لنا
نوايا الأقباط التي طالما حاولوا إخفاءها ومداراتها، ولكن عندما سنحت لهم الفرصة
عمدوا إلى نشرها وتبيانها، ولسنا هنا في مجال تحامل أو هجوم أو اقتطاف أجزاء
مبتورة عن الجو العام في مصر؛ فالذين يعيشون في هذا البلد واختلطوا بالأقباط
هذه الأيام من السهل عليهم تصديق هذا الكلام ويعلمون خلفياته ومراميه؛ فعندما
نسمع عن طالب قبطي لم يتجاوز عمره الثانية عشرة يقف ويقول لمدرسه المسلم:
إن لويس التاسع الذي قاد إحدى الحملات الصليبية على مصر وهزم في المنصورة
وتم اقتياده أسيراً يقول عنه هذا الصبي أمام زملائه في الفصل: إنه قديس، وجاء
ليحررنا من الاحتلال. عندما نسمع ذلك ندرك جيداً ما الذي يربى عليه الطفل سواء
في البيت أو الكنيسة؟ ! ثم ما هو الانطباع الذي يمكن أن يوحيه خروج طلاب
الجامعة الأقباط في الإسكندرية إثر صدامات وقعت بينهم وبين بعض الطلبة
المسلمين ليطوفوا شوارع المدينة هاتفين: لا إسلام بعد اليوم؟
إن أجواء التعصب المذمومة التي تم بثها في الأقباط والشعور الكاذب بالظلم
والاضطهاد لم يحس به أحد طوال القرون الماضية عندما دخل الإسلام مصر؛ لأن
العلاقة حينئذ كانت تقوم على أساس ودستور رباني جاءت به الشريعة الإسلامية،
وحددت طريقة التعامل وأسلوب التعاطي مع أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين،
فكانت الأمور واضحة مقننة، ولكن عندما نُحِّيَتْ شريعة الله واستُبدل منهج رب
البشر بمناهج قاصرة من وضع البشر كان من السهل أن تنهار العلاقة بين المسلمين
والأقباط في مصر؛ لأنها - أي العلاقة - أصبحت كالسراب يحسبها الظمآن ماء
حتى إذاجاءه لم يجده شيئاً.
أمريكا والأقباط:
مع نهاية الحرب الباردة وانفراد أمريكا بالهيمنة في العالم بدأت باتباع أساليب
جديدة تحاول بها فرض عولمتها ومناهجها وثقافتها واقتصادها وإعلامها على العالم،
فكانت سياسة أوراق اللعب وهي سياسة تقوم على البحث عن نقاط الضعف في
الطرف أو الدولة التي تحس منها أمريكا أنها تريد أن يكون لها دور إقليمي أو
عالمي على حساب الهيمنة الأمريكية؛ ونقاط الضعف تلك قد تكون اقتصادية
كالديون والعجز المالي، وقد تكون حيوية كالمياه والتحكم فيها، وقد تكون مصدراً
للطاقة لا غنى عنه للصناعة والتدفئة وغيره كالبترول، وقد تكون نقطة الضعف
دفاعية كدولة تحتاج للأسلحة أو قطع غيار لها أو تخشى جاراً طامعاً فيها أو صوَّرته
أمريكا طامعاً فيها وفي ثروتها، وقد تكون نقطة الضعف أيضاً وجود أقليات عرقية
أو طائفية داخل الدولة.
وعن طريق أوراق اللعب هذه والتحكم فيها تعيد الولايات المتحدة الدول
الشاردة إلى حظيرتها لتدور في فلكها ولا تخرج مرة أخرى عن الدور المنوط بها
من قِبَل الهيمنة الأمريكية.
وأدرك أقباط المهجر هذه الخاصية فسارعوا إلى استثمارها؛ ولكن كيف
السبيل إلى صانعي القرار في الولايات المتحدة للتأثير عليه؟
إن الطريق الميسر لكل صاحب فكرة في أمريكا يريد أن يصل بفكرته إلى
الأجهزة التنفيذية هناك هو الجماعات الضاغطة؛ وليس أسهل من الالتقاء بقوى
اللوبي الصهيوني المعروف بعدائه التقليدي لكل ما يمت للإسلام والعرب بصلة؛
وهنا لا يفتأ هذا اللوبي باحثاً عن كل وسيلة وسلاح ليحارب به الإسلام والمسلمين
وعندها يجد ضالته في أقباط المهجر عند ذلك تتقاطع المصالح: مصالح الحكومة
الأمريكية، ومصالح الأقباط، ومصالح اللوبي الصهيوني.
وتتعدد جماعات الضغط التي تحالف معها الأقباط ومن أهمها:
1 - التحالف المسيحي: وهو منظمة أمريكية تضم 60 جماعة دينية معظمها
من الأحزاب اليهودية الأمريكية، ويضم في عضويته اتجاهات اليمين المسيحي
برئاسة جيري فويل وهو مبشر بروتستانتي يؤمن بعودة اليهود إلى فلسطين وإعادة
بناء هيكل سليمان وهدم المسجد الأقصى كمقدمة لعودة المسيح، ومن أبرز أعضاء
هذا التحالف فرانك وولف صاحب مشروع أول قانون لمناهضة اضطهاد الأديان
وهو بروتستانتي متشدد. وقد أصدر هذا التحالف تقريراً جاء فيه: «إن الحكومة
المصرية تساعد وتساهم في بناء المساجد التي وصل عددها إلى 700 ألف مسجد؛
بينما تضع العقبات أمام بناء الكنائس، كما تقوم الجماعات الإسلامية المتطرفة التي
تناضل ضد الحكومة بأعمال عنف ضد المسيحيين؛ والكنيسة القبطية تجد نفسها في
وضع معاناة وهجمات من جانب المسلمين، وتتعرض السيدات المسيحيات للإجبار
على الزواج من مسلمين» .
2 - رابطة مناهضي التمييز: وهذه تتحالف مع الاتحاد القبطي وتدعمه
معنوياً ومادياً، ولها اتصالات كبيرة مع الكونجرس الأمريكي، ونجحت هذه
الرابطة في تنظيم اجتماع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نتنياهو وأعضاء
الاتحاد القبطي، واستخدم نتنياهو هذه الورقة أيضاً في محادثاته مع المسؤولين
الأمريكيين عندما قال لهم: «إن معاملة العرب في إسرائيل أفضل من معاملة
الأقباط في مصر» .
3 - لجنة مسيحيي الشرق الأوسط: وهو تحالف يضم بالإضافة إلى أقباط
مصر موارنة لبنان، ونصارى شمال العراق، ونصارى جنوب السودان. وأعلنوا
صراحة: «أن هدف هذا التجمع هو التصدي للسيطرة العربية والإسلامية على
الشرق الأوسط» ، وفي بيان لها قالت: إن ايجاد دولة إسرائيل يعد تطوراً إيجابياً
عظيماً في أعين غير العرب، فالمسيحيون في الشرق الأوسط يدركون أن إعادة
ولادة إسرائيل وتجميع الشعب اليهودي في أرضهم التاريخية بمثابة بشرى
لتحريرهم في المستقبل.
4 - بيت الحرية: وهو مؤسسة يهودية أمريكية يرأسها مايكل هوروفيتز،
وهو محامٍ يهودي عمل في إدارة الرئيس الأسبق ريجان، وهو أول من أطلق فكرة
ضرورة تدخل الولايات المتحدة لإنقاذ المسيحيين الذين يتعرضون للاضطهاد
والموت في العالم، وقد بدأ هوروفيتز حملته من القاعدة بإنشاء شبكة من التحالفات
مع عشرات الكنائس الأمريكية في عام 1995م؛ حيث أرسل خطابات إلى 150
كنيسة طلب من مجلس إدارتها أن يقوم المصلون بإرسال خطابات إلى أعضاء
الكونجرس الأمريكي لحثهم على تولية عناية أكبر لقضية اضطهاد المسيحيين. ثم
انطلق في تكوين تحالفات معقدة ومختلفة مع التجمعات الكنسية، والتجمعات
اليهودية، وعدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي لحثهم ومنظمات سياسية معظمها
ينتمي إلى اليمين المسيحي الإنجيلي في أمريكا. وفي يناير عام 1996م انضم
هوروفيتز إلى نيتاتشي رئيسة برنامج حقوق الإنسان في جماعة بيت الحرية ومؤلفة
كتاب: (في عرين الأسد) الذي يتناول اضطهاد النصارى في العالم، وقد أدلت
بشهادتها أمام الكونجرس الأمريكي، ومن ذلك قولها: «.. وفي مصر تتلاشى
الأقلية المسيحية تحت وطأة الاضطهاد والعنف؛ حيث أجبر آلاف ألأقباط على
الفرار وترك وطنهم خشية ورغبة في عدم اعتناق الإسلام قسراً بعد أن دمرت
الجماعات الإسلامية قراهم في صعيد مصر في عام 1996م» .
وغير هذه المنظمات كثير مثل منظمة مجلس أبحاث العائلة، ومنظمة تقوية
أمريكا، ومعهد الدراسات المسيحية، ومنظمة التضامن المسيحي الدولية، والرابطة
الدولية لليهود والمسيحيين في شيكاغو، ومنظمة الدفاع عن حقوق المسيحيين ضد
الأسلمة.
وأسهم هذا التحالف القبطي الصهيوني البروتستانتي من خلال وصوله إلى
صانعي القرار الأمريكي في صدور قانون الاضطهاد الديني؛ فقرب نهاية عام
1997م تم وضع خطوط أساسية لمشروع القانون هذا، وتضمن أسماء 15 دولة
من بينها مصر، وفيها اتهام كل دولة بإساءة استخدام أدواتها القمعية لاضطهاد أقلية
دينية ما على أرضها مع فرض العقوبات عليها، ووافق مجلس النواب الأمريكي
على مشروع القانون بأغلبية ساحقة بعد أن نجح الرئيس الأمريكي في إضافة بند
إليه يسمح للرئيس الأمريكي بتأجيل أو منع فرض عقوبات على أية دولة إذا كان
فرض العقوبات سيؤدي إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية.
وتبع ذلك زيارة وفد من الإدارة الأمريكية إلى قرية الكشح المصرية في صعيد
مصر، ومقابلته للقس المتعصب (ويصا) ثم زيارة عضو مجلس الشيوخ
الأمريكي وولف ممثلاً للكونجرس الأمريكي وإجراؤه تحقيقاً للمذابح التي يزعم أنها
تمت للأقباط هناك.
الحكومة المصرية وموقفها من هذه التطورات:
في فترة سابقة ومع نهاية حرب الخليج بدأ الاقتصاد المصري ينتعش تدريجاً،
وازداد معدل نمو الاقتصاد المصري ليصل ذروته 7%، وفي إبريل 1998م
طلبت الحكومة المصرية آنذاك من الجانب الأمريكي خفض المعونة الأمريكية
وزيادة الاستثمارات وهو ما أدى بالإدارة المصرية إلى النزوع نحو تبني سياسة
خارجية مستقلة بعض الشيء عن الأجندة الأمريكية، وتجلى ذلك في عدة مسائل
منها مساندة مصر للحكومة السودانية عندما أحكمت أمريكا عليها الحصار من جانب
الدول المحيطة بها خاصة أثيوبيا وأوغندة وأريتريا، وتجلى أيضاً في وقوف
الحكومة المصرية إلى جانب الشعب العراقي وتنديدها بالعدوان الأمريكي عليه، ثم
بروز مواقف مساندة للقضية الفلسطينية وللسلطة الفلسطينية أثناء مفاوضات السلام.
وهنا تحركت أمريكا مستغلة أوراقها فكانت ورقة السدود الأثيوبية عند منابع
النيل، والتلويح بتمويل مشروعات الحكومة الإثيوبية هناك على نهر النيل مما
يسبب تهديداً حيوياً لمصر في شريانها المائي الوحيد، وجاءت ورقة اضطهاد
الأقباط لتصب في ذلك الاتجاه.
تماسكت الحكومة المصرية في بادئ الأمر نظراً للانتعاش الاقتصادي الذي
كانت تمر به ولم تبد تجاوباً كبيراً مع الضغوط التي مورست عليها، ولكن مع
ازدياد حدة الضغوط وتنوعها وانهيار الإصلاحات الاقتصادية وتراجع الاقتصاد
المصري بدأت المكاسب القبطية تتوالى، ومنها:
* تعيين قبطي لأول مرة في وزارة سيادية وهي وزارة الاقتصاد، وهو
يوسف بطرس غالي.
* إنهاء احتكار الحكومة لأدوات الإعلام؛ حيث جرى تدشين أول قناة فضائية
قبطية وسميت: (سيفين سات) ، وأصبحت مطرانية شبرا الخيمة هي المقر الدائم
لهذه المحطة الفضائية إدارياً وفنياً، وتبث مواد فنية يشترك فيها كبار الفنانين
الأقباط، ولم يقتصر الأمر على القناة الخاصة بهم بل تعدى الأمر إلى التلفزيون
الحكومي نفسه؛ حيث تناولت قنواته أعمالاً درامية لأول مرة عن شخصيات قبطية
لإبراز تأثيرها على الحياة العامة في مصر وتحسين صورتها، وكذلك إظهار
الطقوس القبطية في المناسبات والأعياد وغيرها حتى إن أحد مؤلفي هذه الأعمال
عندما قوبل بحملة صحفية ضده بسبب هذا صرح في إحدى الصحف بأنه قام
بتأليف العمل بناء على توجيهات مباشرة من وزير الإعلام.
* تقويض الخط الهمايوني: ففي يناير 1998م قام الرئيس المصري بإصدار
قرار جمهوري يقضي بتفويض المحافظين المصريين في مباشرة اختصاصات
رئيس الجمهورية بالترخيص للطوائف الدينية بتدعيم الكنائس وترميمها، وهو
الاختصاص الذي كان من سلطة رئيس الجمهورية فقط يمارسه مع سلطة إصدار
تراخيص البناء للكنائس، ويبدو أن العملية تسير في خطى متدرجة.
* رد الأوقاف القبطية: ففي أول مارس عام 1998م قامت الحكومة المصرية
برد أموال الأوقاف القبطية إلى الكنيسة المصرية، مع العلم أن الأوقاف الإسلامية
في حوزة الحكومة تنفق منها حيث شاءت ولا تردها إلى الأزهر الذي أُوقِفت هذه
الأموال له في الأساس.
* تعديل مناهج التعليم: ليتناول التاريخ القبطي المجهول للطالب المصري
على حد تعبيرهم، وقد أعد هذه المناهج مركز ابن خلدون الذي عرف بأنشطته
التجسسية لصالح المخابرات الغربية وأشرف عليها داخل المركز وزير التربية
والتعليم المصري حسين كامل بهاء الدين بنفسه، وقام بوضعها أحمد صبحي
منصور وهو الذي حكم عليه الأزهر بالكفر والزندقة وشاركه بعض الباحثين
الأقباط، وسمي المشروع: (نحو حساسية أكبر لهموم الأقباط) . ونسوق فقرة من
التي تم تعديلها في المناهج بدون تعليق لنعرف مدى الخطورة التي وصل إليها هذا
التغيير المنشود لعقول أبنائنا المسلمين؛ ففي كتاب: (رؤية في دليل المعلم
للتربية الإسلامية) ورد ما يلي: «كانت الحقبة القبطية هي فترة الاستشهاد، ولم
ينقطع اضطهاد الأقباط بعد الفتح الإسلامي؛ إذ اضطهدهم الأمويون الذين تعصبوا
للجنس العربي ضد الأمم المفتوحة، ثم اضطهدهم العباسيون الذين تعصبوا ضد
غير المسلمين» .
* ولكن أخطر المكاسب القبطية التي تحققت تمثلت في انهيار الحاجز النفسي
الاعتقادي بين المسلمين والأقباط لحساب علو الرابطة الوطنية التي يراد رفعها فوق
رابطة العقيدة، فأصبحت كل الفئات والهيئات والأحزاب تتنافس في موالاة الأقباط
ومودتهم حتى بعض الاتجاهات والشخصيات المحسوبة على التيار الإسلامي في
مصر لم تتردد في تهنئتهم في أعيادهم وإظهار المودة لهم، والحرص على رضاهم
وكسبهم في صفوفهم.
إن الحملة الأمريكية الصهيونية القبطية لم تنته، والضغط الأمريكي قائم،
والمستقبل يحمل في طياته الكثير.
نسأل الله أن يلطف بمصر الإسلام، وأن يبطل كيد المبلطين؛ إنه ولي ذلك
والقادر عليه.
__________
(1) الأقنوم: الجوهر والأصل، والجمع أقانيم، وفي اصطلاح النصارى: أحد الأقانيم الثلاثة التي هي: الأب، الابن، الروح القدس.(162/86)
المسلمون والعالم
موجز الأنباء العلمانية قضية فلسطين بين الإسلام
والممارسة السياسية العلمانية
(2 - 2)
خالد محمد حامد
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى من مقالته عن فلسطين بين العروبة والإسلام؛
فجعل من هذا العنوان نبأه الأول؛ إذ لم يكن لفلسطين مكانة مرموقة في حس
العربي الجاهلي، ولكنها ظفرت بها بعد الإسلام، ثم توالت عناوين الأنباء فمرت
بفلسطين قبل النفق العلماني، ثم كيف صارت في عهدة العلمانية، وانتقل بنا إلى
آثار دخول فلسطين النفق العلماني، وما جر على الأمة من ويلات عدَّد منها نقاطاً
أربعاً. ويمضي بنا الكاتب في رحلة مع بقية أنبائه.
- البيان -
خامساً: ضياع الأرض والشعب:
مر بنا سابقاً التحول الذي تم لصالح اليهود في مجالي الأرض والمهاجرين
بدخول فلسطين النفق العلماني؛ حيث لم تتعد نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين
سنة 1914م 9. 7% لا يحوزون أكثر من 1. 5% من مساحة فلسطين، تقام
عليها 47 مستوطنة، وبين سنة 1914م - 1917م حاز اليهود 245. 58 دونم
أخرى (الدونم = 1000م2) ، وفي سنة 1918م كان اليهود يحوزون نحو مليون
و333 ألف دونم من مجموع 7 ملايين دونم زراعية، لترتفع نسبة ما يحوزونه إلى
2. 8 % من مجموع أراضي فلسطين، ومنذ هذا الوقت إلى قبيل سنة 1948م
(صدور قرار التقسيم ثم إقامة الدولة الصهيونية) أضاف اليهود إلى حيازتهم نحو
أقل من 4% من مساحة فلسطين، ليصل مجموع الأراضي التي يحوزونها نحو
مليون و807 ألف دونم، تمثل نسبة 6. 6% من مساحة أراضي فلسطين، مقام
عليها نحو 277 مستوطنة، ووصلت نسبة السكان اليهود في هذا الوقت إلى
35. 1% من مجموع السكان.
ولم تكن هذه المساحة من الأراضي - رغم تميزها نوعاً وموقعاً - بهذه النسبة
من السكان.. لم تكن كافية لإقامة الدولة الصهيونية، يعبر عن هذا حاييم وايزمان
بقوله: «لا يمكن أن يكون في فلسطين وطن قومي بدون أرض ... » [1] ، وهذا
يبين أهمية الاستيلاء على الأراضي لتحقيق المخطط الصهيوني.
وبعد صدور القرار رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين، والذي يعطي اليهود
نحو 56% من أراضي فلسطين، لجأ اليهود إلى تنفيذ القرار بالقوة المسلحة، وعن
طريق حروب عصابات قامت بأعمال عسكرية وإرهابية، صاحبتها حرب نفسية
مدبرة، ساهمت فيها أجهزة دعائية متنوعة، أعلن اليهود دولتهم على نحو
77. 5 % من مساحة فلسطين، متجاوزين ما خصصه لهم قرار (الشرعية
الدولية!) ، ونتج عن ذلك: تشريد أهالي نحو 530 مدينة وقرية وقبيلة فلسطينية.
والذي نود الإشارة إليه هنا: أن النظم العلمانية في معرض تنصلها من
مسؤوليتها عن ضياع فلسطين، وسترها على عارها العسكري المتمثل في هزيمة
جيش غير نظامي يبلغ تعداده (127) ألف جندي [2] لجيوش ست دول عربية
يفوق تعدادها عدد اليهود أربعين ضعفاً، ومع ذلك لم تستطع هذه الدول حشد إلا أقل
من (22) ألف جندي [3] غير مؤهلين تسليحياًّ ولا تدريبياً ولا معنوياًّ.. إزاء ذلك
راحت النظم العلمانية تروِّج فرية مفادها أن سبب ضياع فلسطين هو بيع أهلها لها.
والحقيقة: أن الأراضي التي اشتراها اليهود كانت 261. 400 دونم تمثل
نسبة 9. 7% من الأرضي التي استولوا عليها قبل الحرب، أي أقل من 1% من
مجموع مساحة فلسطين، وقد اشترى اليهود معظم هذه الأراضي من عائلات كبرى
يقيم معظمها في سورية ولبنان، ولم يبلغ ما اشتراه اليهود من فلاحي فلسطين سوى
64. 201 دونم، أي: ما يعادل 0. 25% من مساحة فلسطين [4] .
فالعامل السياسي والعامل العسكري - اللذان صادرتهما النظم العلمانية لحسابها
باعتبارهما من خصائص الدولة التي أصبحت هذه النظم قيِّمة عليها - كانا من أهم
العوامل التي ساهمت في ضياع أرض فلسطين آنذاك، والتي مثلت نسبة
77. 5 % من مجموع مساحة فلسطين.
ثم جاءت هزيمة سنة 1967م - وفيها ما فيها من مخاز وعلامات استفهام -
ليضيف اليهود إلى سيطرتهم بقية أراضي فلسطين، بالإضافة إلى مساحات متفاوتة
من أراضي دول الجوار.
لم يقف السقوط العلماني عند هذا الحد، بل استمر بشكل أخطر عندما
توشحت العلمانية برداء الواقعية الانهزامية، وفرضت على الأمة تسويات سياسية
مع دولة العدو من خلال ما سمته بعملية السلام، فحولت - باعترافها بشرعية دولة
إسرائيل أرض فلسطين من كونها أرضاً محتلة - أو حتى مفقودة - إلى أرض
متنازل عنها أو ضائعة إلى الأبد، وبعد أن تحول الصراع بهذا الاعتراف من
صراع وجود إلى نزاع حدود، دخلت النظم العلمانية - وهي الطرف الضعيف
والمهزوم - في مفاوضات مريبة حول فتات من (المرعى والماء) .
وكما ضاعت الأرض ضاع الشعب، فبعد (النكبة) شرد أكثر من 940 ألف
مواطن فلسطيني، فكانت بداية ما عرف بمشكلة اللاجئين، وعقب احتلال
(إسرائيل) للضفة الغربية وقطاع غزة في حرب 1967م شرد نحو 200 ألف
مواطن فلسطيني آخر من ديارهم، نصفهم من لاجئي 1948م، ثم تضخمت هذه
المشكلة ليصل عدد اللاجئين الآن إلى 5. 498. 186 يمثلون 66. 5 % من
مجموع الشعب الفلسطيني.
ومثلما حاولت النظم العلمانية التنصل من مسؤولية ضياع الأرض حاولوا
التنصل من مسؤولية تشريد الشعب ملمحين إلى هروب هذا الشعب وعدم ثباته،
مثلما ألمحوا إلى تفريطه في أرضه، وأحياناً إلى خيانة قطاعات منه.
والحقيقة - التي بينتها الملفات الإسرائيلية نفسها (د. سلمان أبو ستة 200) -
أن هجرة أهالي 89% من القرى التي احتلها الصهاينة كانت بسبب عمل
عسكري صهيوني، و10% بسبب الحرب النفسية (نظرية التخويف وإثارة
الرعب) ، و1% فقط بسبب قرار أهالي القرى بتركها.
فكما كان عاملا الإخفاق السياسي والعسكري سبباً رئيساً في ضياع أرض
فلسطين، كانا كذلك سبباً في ضياع أهلها.
والحقيقة أيضاً: أن النظم العلمانية ساهمت، بشكل أو بآخر، بقصد أو بغير
قصد، في تنفيذ المخطط الصهيوني الاستيطاني في فلسطين من وجهة أخرى، فلم
يكن الإخفاق العسكري والسياسي للنظم العلمانية وحده الذي ساعد المخطط
الصهيوني على تحقيق مآربه، بل كانت هناك (أخطاء) أخرى ساهمت في تحقيق
هذا المخطط، ومن ذلك:
مشاركة أجهزة الإعلام العربية - وخاصة الإذاعات - بغباء في حملة
التخويف والترهيب التي قصد بها العدو تحطيم نفسية العرب في فلسطين وإشاعة
الذعر في صفوفهم؛ لحملهم على الهروب خارج قراهم ومدنهم، وقد يكون إبراز
أجهزة الإعلام لأنباء المجازر الصهيونية وتضخيمها وترويجها كان بقصد إظهار
وحشية اليهود وخطرهم والتحذير منهم، ولكن المعالجة غير الحكيمة لهذه الأحداث
صبت في النهاية لصالح اليهود على النحو الذي أسلفنا.
أما من جهة مخطط الاستيطان الصهيوني فمنذ أبي الصهيونية السياسية
(هرتزل) ترسخت سياسة الاستيطان الصهيونية - حسبما يقول في (يومياته) عام
1895م -: «يتوجب علينا أن ننزع الملكية الخاصة لأراضي فلسطين من أيدي
ملاكها، وينبغي أن يكون ذلك في لطف، وفي منتهى السرية والتكتم والحذر الشديد،
وعلينا أن نقوم بتهجير السكان المعدمين (الفلسطينيين) عبر الحدود، بعد أن
نسد أمامهم كل مجال للعمل في بلادنا (فلسطين) ، بينما نحاول تأمين استخدامهم
وتشغيلهم (!) في بلدان العبور» [5] .
وكان هذا التوجه مضمون اقتراح أمريكي (لطيف) للرئيس روزفلت قبل
إقامة دولة إسرائيل، وقضى بأن «على اليهود إذا رغبوا (!) في الحصول على
أراضٍ أكثر في فلسطين أن يقوموا بالتفكير بشراء أراض زراعية خارج فلسطين
(!) ، وبتقديم المساعدة المادية للعرب للخروج من فلسطين إلى تلك المناطق» [6] .
ثم جاء آباء الدولة الصهيونية ليزيدوا هذه السياسة رسوخاً وتعميقاً، فجاء في
يوميات موشيه شاريت السياسية أنه «على الرغم من محاولات الصهيونيين الزعم
أن فكرة الترانسفير، أي ترحيل الفلسطينيين من بلدهم أو من أجزاء منه لإخلاء
مكان لليهود، وردت أساساً في تقرير لجنة بيل البريطانية لسنة 1937م، أي إنهم
ليسوا أول من طرحها، ومن ثم فإنهم (براء) منها؛ فقد كانوا عملياً هم الذين
أوحوا بها للَّجنة التي قبلتها بناءً على رغبتهم» [7] .
وكانت هذه السياسة هاجساً لدى القادة الصهاينة، حتى إن حاييم وايزمان
رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عرضها على السفير السوفييتي في لندن أثناء
اجتماع مكتب لندن لمجلس إدارة الوكالة اليهودية في فلسطين يوم 30/1/1941م.
يقول هذا السفير: «يطرح وايزمان بقلق السؤال التالي: ماذا يمكن أن يجلب
انتصار بريطانيا [في الحرب العالمية الثانية] لليهود؟ إنه يطرح هذا السؤال
ويستخلص الاستنتاجات التي لا تبعث على الاطمئنان؛ لأن (الخطة) الوحيدة التي
يمكن أن يضعها وايزمان من أجل إنقاذ يهود وسط أوروبا (لا سيما يهود بولندا)
تتلخص بما يلي: نقل مليون عربي يعيشون في فلسطين الآن إلى العراق،
وتوطين 4 - 5 ملايين يهودي من بولندا والبلدان الأخرى في أراضيهم بعد إخلائها
لكن هيهات أن يوافق البريطانيون على ذلك، وإن وافقوا فماذا سيحدث بعد ذلك؟
وقد أعربت عن دهشتي بصدد كيف يعتزم وايزمان نقل 5 ملايين يهودي إلى
الأراضي التي يقطن فيها مليون عربي؟
فضحك وايزمان وقال: لا تقلق بهذا الصدد، غالباً ما يوصف العربي بأنه
(ابن الصحراء) فهو بكسله وبسذاجته يحول البستان المزدهر إلى صحراء مقفرة،
فأعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي وسأوطن فيها خمسة أمثال هذا العدد
من اليهود بأفضل حال» [8] .
والجديد هنا هو بروز معالم (خطة) ومواطن بديلة «إن المسافات ستكون
أقصر كثيراً بالنسبة لفلسطين؛ فمن الممكن إجلاء العرب إلى العراق أو شرق
الأردن» - كما جاء في محضر الاجتماع المشار إليه -.
وهكذا قامت دولة (إسرائيل) على سياسة ملء (المجال الحيوي) باليهود
بعد تفريغه من الفلسطينيين، وقد مر بنا حديث بن جوريون عن أمن (إسرائيل)
الذي تعرض فيه للهجرة والاستيطان.
وكانت هذه السياسة دائماً أحد اهتمامات قادة العدو، ففي اجتماع للجنة شؤون
العرب عقد أثناء الحرب الأولى في 18/8/1948م تم طرح هذه الموضوعات
للمناقشة: «إعادة العرب أم لا؟ هناك حاجة إلى تجميع مادة تتعلق بوجود
اللاجئين، وتسجيل ممتلكاتهم، من هم الذين قد يعودون؟ هل يجب إعادتهم إلى
أماكنهم السابقة أم إلى أماكن أخرى؟ استجلاء إمكانات التوطين في دول عربية
(!) أين؟ تعويضات للاجئين، المساعدة (!) في توطينهم في بلاد أخرى،
هل يمكن استبدال عرب بيهود [بترانسفير (نقل) متبادل بين الدول] ؟ !» [9] ،
وفي هذا الاجتماع اقترح يوسف فايتس أنه «يجب إعداد خطة لتوطين العرب في
البلاد المجاورة، يجب أن تعين منذ الآن هيئة تتولى معالجة استجلاء هذه المشكلة،
ولا تكون الهيئة حكومية» ، كما اقترح بيخور شطريت أنه «يجب التجرؤ على
مبادلة يهود عرب (من دول عربية) بعرب (إسرائيليين) » [10] .
وكان من (الأخطاء) الأخرى للأنظمة العلمانية أيضاً: مساهمة تلك الأنظمة
المباشرة - أو غير المباشرة - في هذه الخطة الاستيطانية منذ وقت مبكر، فبخلاف
ما ذكرناه عن موقف حكومة الاتحاد والترقي العلمانية في تركيا عقب خلع السلطان
عبد الحميد ثم إلغاء الخلافة، جاء في اتفاقية فيصل / وايزمان المعقودة سنة 1919 م
ما يلي: «يجب أن تتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين
على مدى واسع، والحث عليها! وبأقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار
المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة المكثفة..» [11] .
ثم ساهمت هذه الأنظمة بعد ذلك، وأثناء مدها الثوري! في تهجير يهود
يعيشون في كنفها إلى الكيان الصهيوني؛ فلقد كان كثير من اليهود الذين يعيشون في
البلاد العربية لا يؤيدون الصهيونية ويفضلون الإقامة في مواطنهم التي نشؤوا فيها،
فتضافرت جهود الصهيونية مع (أخطاء) النظم العلمانية لدفع هؤلاء اليهود
المترددين إلى حسم خيارهم والهجرة خارج البلاد، إما إلى (إسرائيل) أو إلى
البلاد الغربية خادمين لدولة اليهود أيضاً، هكذا يذكر رئيس الطائفة اليهودية في
العراق، فيقول: «استمر اليهود العراقيون في أعمالهم حتى سنة 1948م حين
أُعلنت دولة إسرائيل، وأخذت الحكومة بسياسة اضطهاد اليهود العراقيين المواطنين
المخلصين، فقلصت تجارتهم، وطردت موظفيهم، وسجنت شبابهم، تمهيداً
لإصدار قانون إسقاط الجنسية العراقية، فاضطر المواطنون اليهود سنة 1950م
1951م إلى ترك بلادهم والنزوح إلى إسرائيل، وشرد الآلاف منهم في مختلف
أقطار المعمورة، واستطاع عدد قليل منهم البقاء في العراق أمثالنا، لكننا اضطررنا
نحن أيضاً إلى الهجرة بعد نحو من ربع قرن، وفي العراق الآن نحو 40/45
يهودياً، جلهم من العجزة والعجائز» [12] ، بالطبع لا حاجة لقوة (إسرائيل) بهم.
فعندما «شارفت الصهيونية على الفشل الأيديولوجي في أن تكون الحل
النهائي، بل وتأسيس دولة فقيرة السكان تدخلت الفاشية العربية وأمدتها بما
ينقصها» [13] ، وقد «تم التنكيل باليهود أولاً تحت شعار (تأمين الجبهة الداخلية)
وفي انتظار تحقيق حلم اليقظة المعنون (المعركة الفاصلة) مع إسرائيل. وتم ذلك
عبر الكثير من السياسات، منها المعلن ومنها غير المعلن، ومن النوع الثاني:
مداهمة زوار الفجر لمنازل العائلات اليهودية وتخييرهم بين الذهاب إلى السجن أو
الذهاب إلى المطار أو الميناء، وبعد ذلك يتم نهب ممتلكاتهم. أما السياسات
المعلنة: فيندرج تحتها الاعتقال التحفظي في أماكن لا إنسانية، ثم جاء دور
قانون وزير الداخلية المصري رقم 183 لسنة 1964م، وطبقاً للمادة 7 فقرة ثامنة:
تم وضع كل اليهود المصريين في القائمة السوداء، ونص القانون على أن
اليهودي لا يستطيع أن يغادر البلاد إلا نهائياً (!) ، وبعد التنازل عن الجنسية
والإقامة، والحرمان من حق العمل في المؤسسات العامة، ومعاملة الزوجة أو
الزوج غير اليهودي معاملة اليهودي.
وهكذا تم اقتطاع قطعة من الجسد المصري تحتوي على 85 ألف نسمة،
وضع أكثر من نصفهم في فم الصهيونية من دون أن تبذل مجهوداً يذكر.
ومثل ذلك وأكثر اتبع مع يهود العراق: منذ أحداث الفرهود في أول وثاني
أيام حزيران (يونيو) سنة 1941م خلال انقلاب رشيد علي الكيلاني، حيث قتل
حوالي 300 يهودي على أيدي المعدان، ونهبت ممتلكات اليهود وأحرقت وبتواطؤ
رسمي، ثم قانون إسقاط الجنسية في ظل حكومة توفيق السويدي الذي لم يهاجر
بمقتضاه سوى ألف يهودي، فبدأت عمليات الترهيب على أيدي قوات الأمن
العراقية وعملاء الموساد في وقت واحد، ثم سلسلة تفجيرات القنابل في أماكن
تجمع اليهود، وحيث زال الفاصل ما بين أفعال الحكم العراقي وأفعال الموساد
والمنظمات الصهيونية تحت قيادة الإسرائيلي من أصل عراقي موردخاي بن
بورات، وتم تأسيس شركة طيران في جنوب إفريقيا لحمل اليهود إلى قبرص في
البداية، وعندما كانت نسبة منهم تهرب إلى دول أخرى بدأت تلك الشركة التي
هي في الأصل شركة (العال) تنزل رأساً من بغداد إلى مطار اللُّد.
ويحدد الكتاب السنوي لإسرائيل للعام 1952م عدد المهاجرين العراقيين
بمليون و50 ألفاً و 96 مهاجراً من 1948م إلى 1952م، ونسبة 15 في المئة منهم
من كردستان، ويلاحظ أن ذلك ليس العدد الكلي؛ فهناك من هاجر قبل وبعد
ذلك» [14] .
وبنظرة سريعة إلى تطور عدد السكان اليهود في العالم العربي على مدى
أربعين عاماً [15] يتوضح جليّاً مدى (الجهود) التي بذلتها العلمانية في (صراعها)
مع الصهيونية! :
البلد/السنة عدد سكان اليهود 1958م 1969م 1986م ... 1992م
... عام 1950م
مصر ... 75.000 ... 40.000 1.000 250 ... 200
العراق 120.000 ... 6.000 ... 2.500 200 ... 200
... (110ألاف حسب باتاي) [*]
لبنان ... 6.700 ... ... 6.000 ... 2.500 250 ... 200
(6 آلاف حسب باتاي)
سوريا ... 6.000 ... 5.000 ... 4.000 4.000 ... 1.200
... (13 ألف حسب باتاي)
اليمن (وحضرموت) 11.200 3.500 ... - ... 1.200 ... 1.600
... ... (50ألف حسب باتاي)
ليبيا ... 4.00 ... ... 3.750 100 ... - ... ... -
... (38 ألفا حسب باتاي)
تونس ... 100.00 ... ... 85.000 10.000 3.700 ... 2.000
الجزائر 120.000 ... ... 140.000 1.500 ... 300 ... 300
... (130 ألفا حسب باتاي)
المغرب 246.700 ... ... 200.000 50.000 17.000 7.500
... (280 ألفًا حسب باتاي)
البحرين 400 ... ... ... ـ ... ... ـ ... ... ـ ... ـ
المجموع 700.000 ... 489.250 72.100 26.900 13.200
... (802.400 حسب باتاي)
أما في في تركيا - حيث كان نفوذ اليهود قوياً، وبقاء بعضهم فيها أكثر خدمة
للصهيونية - فقد تطور عددهم على النحو التالي [16] :
العام ... ... ... العدد
1935م ... ... 78.720
1945م ... ... 26.960
1960م ... ... 43.920
1973م ... ... 36.000
1992م ... ... 26.000
بل ساعدت أطراف عربية علمانية بلا حياء في عمليات تهجير يهود من بلاد
غير عربية إلى (إسرائيل) ، وعملية تهجير يهود الفلاشا المسماة بـ (عملية
موسى) ما زالت ماثلة في الذاكرة السياسية العلمانية - لمن له ذاكرة! -.
ولا تخجل بعض النظم العلمانية عندما تدعي بعد ذلك أنها اكتشفت - فجأة! -
خطأها السابق، فتدعي أن لمواطنيها عرقاً ممتداً في دولة (إسرائيل) ، هم
اليهود العرب الذين هاجروا من بلادهم من قبل، فيستخدمونهم ذريعة للتطبيع مع
دولة العدو، ويستخدمونهم جسراً معاكساً نحو بلاد المسلمين، يحاولون من خلاله
فتح باب للصهيونية بدعوى أن هؤلاء اليهود هم من جذورنا وأبناء بلادنا!
والآن تطالب (إسرائيل) بتعويضات لهؤلاء اليهود؛ لأنهم هُجِّروا من
مواطنهم، أي أنها تريد أن ندفع لها ثمن دعم النظم العلمانية لإقامة كيانها!
هكذا ضاع الشعب وضاعت الأرض على يد النظم والمنظمات العلمانية، أما
مستقبل هذه الأرض وهذا الشعب وما يدور بصددهما الآن في ظل تلك النظم
والمنظمات، فذلك حديث آخر.
النبأ الخامس: من افتقاد الهدف إلى افتقاد الانتماء:
كما أوضحنا سابقاً: فإن العلمانية لم تكن تملك رؤية (حضارية) مخالفة (أو
مناقضة) للرؤية الغربية التي تساند الصهيونية، لذا: كانت إمكانية الالتقاء مع
الخصم (الذي يسمونه عدواً) متحققة، وعندما حاولت النظم العلمانية استبعاد
رسالة الإسلام عن الصراع مع العدو فإنها بذلك كانت تعمل على دفع الأمة إلى
هاوية السقوط (الحضاري) ؛ فإن «الأمم التي تتخلى عن رسالتها والتي تنبع من
مقومات وجودها ويرشحها لها التاريخ: تسقط وتنتهي بالتحلل، وهذا ما تعيه جيداً
الدول الكبرى في الوقت الراهن» [17] ، ولأن العلمانية أضحت لا تقود الأمة
برسالة خالدة - وإن ادعت ذلك في شعاراتها - فلم يبق أمام النظم العلمانية إلا
إعلان سعيها لتحقيق أهداف جزئية محددة في صراعها مع الدولة الصهيونية.
والآن لننظر نظرة مجملة إلى هذه الأهداف: كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟ :
الموضوع ... ... ... الهدف (كان) ... ... النتيجة الآن
1- قرار تقسيم فلسطين ... رفض قرار التقسيم ... قبول جميع قرارات ...
... ... ... ... ... ... ... ... الشريعة الدولية
2- الاعتراف دولة إسرائيل رفض الاعتراف بها ... اعتراف بها وقبول ...
... ... ... ... ... ... ... ... العيش معها في سلام
3- تحرير فلسطين ... ... وجوب تحريرها من ... تنازل رسمي عن 77.5
... ... ... ... البحر إلى النهر ... % والتفاوض على الباقي ... ... ... ...
4- التفاوض مع إسرائيل الكفاح المسلح هو الطريق حرب أكتوبر آخر الوحيد ...
... ... ... ... لتحرير فلسطين ... ... الحروب، ولا طريق إلا
... ... ... ... ... ... ... ... المفاوضات
5- العلاقات مع إسرائيل مقاطعات تصل حتى ... تسابق إلى علاقات
... ... ... الدرجة الثالثة من المتعاملين معلنة وخفية مع
... ... ... ... ... ... ... ... إسرائيل
6- اللاجئون الفلسطينيون عودة جميع اللاجئين إلى اقتراحات بالتوطين
... ... ... ديارهم وأرضهم ... ... خارج فلسطين ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... والتعويض أو عودة
... ... ... ... ... ... ... ... بعضهم
7- القدس ... ... القدس الموحدة عاصمة ... تنازل عن القدس الغربية
... ... ... فلسطين وتفاوض ... ... على القدس الشرقية.
وعندما أخفقت النظم العلمانية حتى في الحفاظ على (الماء والمرعى)
تراجعت أهدافها المعلنة عقب كل هزيمة، حتى انجلى الهدف الحقيقي في النهاية،
وهو: الحفاظ على بقاء النظام (العلماني) حتى وإن فنيت البلاد، ثم اختزل هذا
الهدف بعد ذلك في الحفاظ على شخص (الزعيم الأوحد) و (القائد الملهم) .
فكما زعم النظام الناصري عقب هزيمة 1967م أن إسرائيل لم تنتصر في
الحرب؛ لأن النظام الحاكم في مصر لم يسقط.. ردد ذلك أيضاً النظام البعثي في
سورية، فادعى هذا النظام أنه خرج من الحرب منتصراً، فأعلنت جريدة الثورة
السورية الناطقة بلسان الحكومة البعثية يوم 13/6/1967م أن « ... أهم نصر
حصل عليه العرب في حربهم مع إسرائيل هو تلك الاندفاعية الثورية التي امتدت
من المحيط إلى الخليج» [18] ، ويدعي ذلك أيضاً مسؤولون رسميون، فيقول أحمد
سويداني قائد الجيش السوري قبل الحرب وخلالها وبعدها: «إن المعركة لا تقاس
نتائجها بعدد الكيلومترات التي خسرناها ... بل بأهدافها وما استطاعت أن تحقق.
فقد كان هدف إسرائيل، ليس احتلال بضعة كيلومترات من سورية، بل إسقاط
الحكم التقدمي فيها، وهذا ما لم يتم لها، ولذا يجب أن نعتبر أنفسنا الرابحين في
هذه المعركة!» [19] .
ومن الرجل العسكري إلى الرجل السياسي؛ يقول إبراهيم ماخوس وزير
خارجية سورية قبل الحرب وخلالها وبعدها: «ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق،
أو حتى حمص وحلب! .. فهذه جميعاً أراض يمكن تعويضها وأبنية يمكن إعادتها،
أما إذا قضي على حزب البعث، فكيف يمكن تعويضه وهو أمل الأمة
العربية؟» .
« ... لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم الإسرائيلي، هو إسقاط
الحكم التقدمي في سورية، وكل من يطالب بتبديل حزب البعث، عميل
لإسرائيل ... » [20] .
فهكذا أصبح من السهولة بمكان التضحية بالبلاد وإفنائها من أجل الإبقاء على
النظام، وهذا النظام ليس إلا شخصيات رجاله، هكذا يلقنون شعوبهم: فمساء يوم
الهزيمة قال معلق راديو دمشق: «الحمد لله، لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية
مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرئيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على
أهدافه الجهنمية، إن إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر طالما أن حكام دمشق
بخير! !» [21] ... وأبشر بطول سلامة يا مربع! ! .
وفي هذا (الصراع) مع العدو! ليس فقط يمكن التضحية بالأرض من أجل
الإبقاء على النظام - أو على رجالات النظام -، بل يمكن التضحية أيضاً بالشعب
نفسه، فيذكر نصر الدين البحرة (وهو عضو سابق في مجلس الشعب السوري)
أن أحد ضباط التعذيب أيام الوحدة (!) مع مصر قال له حرفياًّ: «كم عدد سكان
سورية؟ أربعة ملايين؟ بالناقص مليون! يكفينا ثلاثة ملايين يؤمنون بالرئيس عبد
الناصر» [22] .
وهكذا كان من السهل جداً إلغاء الآخر (غير المنتمي إلى النظام) وتهميشه،
بل وتخوينه والطعن فيه بشتى الطرق، على العكس من سلوك قادة العدو: «فعلى
الرغم من العداوة المستعرة بين ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل تلك الأيام،
وبين موشي دايان ... فلقد كُلِّف هذا الأخير مهام وزارة الدفاع، وأعطي
الصلاحيات الكاملة لقيادة الحرب ضد العرب، أي: وضع موشي دايان - وقت
الحاجة إليه - في موضعه الذي منه يستطيع أن يقدم أفضل خدمة لدولته وشعبه.
أما الحزب.. فقد أبعد - حتى أيام الحرب - أهل الاختصاص والخبرة،
وأصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ على تراب البلاد وصون أمنها والفئة الأكثر
استعداداً للبذل والفداء لحمايتها.. استبعدوا، وشردوا، ولوحقوا، وسجنوا،
وحوكموا، وصدرت بحقهم أحكام شتى.. كل ذلك لصون أمن الحزب وسلامة
الحكام، على حساب أمن البلاد وسلامة أرضها وأهلها» [23] .
ويصبح من السهل أيضاً أن يشعر الفرد العادي بالهزيمة النفسية قبل
العسكرية، الهزيمة التي تولدها التفرقة الطبقية، فتؤدي إلى الشعور بالدونية وعدم
الانتماء، على العكس من مجتمع العدو! وليس أدل على ذلك مما تذكره يانيل
ديان (ابنة موشي ديان) في كتابها (يوميات جندي) ، حيث تقول: «الآن، وبعد
ستة عشر عاماً من قيام الثورة [في مصر] ، وبعد أن تدرب الضباط في روسيا،
وبعد قدوم الخبراء الروس إلى مصر، أين هي روح اشتراكيتهم؟ .. كان الضباط
على درجة من النظافة والأناقة، بينما ملابسهم مصنوعة من نوع من أنواع
الحرير، لقد أعطونا مناديل نظيفة عندما هممنا بتعصيب عيونهم (!) أما الجنود:
فكانوا طوال الذقون وعلى درجة من القذارة، وكانت ملابسهم عبارة عن خرق
ممزقة.
وكان جنودنا يعرفون أن الجنرال أريك [إريل شارون] وسائقه يورام
يرتديان نفس بذلة الميدان (الباتل دريس) ، ونفس الأحذية، إنهم يعرفون أيضاً أن
قائد فرقة المشاة والمدفعجي يأكلان نفس الطعام في الميدان، وأن الجنود يخاطبون
ضباطهم وينادونهم بأسمائهم الأولى..» [24] .
وعندما يتحرك الانتماء ليتحول في النهاية إلى ولاء لنظام - وليس لدين ولا
حتى لوطن - ثم لأشخاص - وليس لمبادئ ولا أفكار - يصبح استمراء النفاق
السياسي هو قاعدة السلوك الشخصي لدى المواطن العادي، يحكي الطاهر إبراهيم
أنه «عندما أذيعت البلاغات العسكرية صبيحة يوم الانقلاب [على الوحدة مع مصر]
قامت مجموعة من المواطنين السوريين بمظاهرة في مدينة دمشق تأييداً للانفصال،
وكانوا يحملون صور عبد الناصر وهي منكسة، ويهتفون بشعارات معادية لعبد
الناصر، وعندما أذيع البلاغ رقم (9) معلناً انتهاء التمرد، قامت المجموعة نفسها
من المتظاهرين برفع صور عبد الناصر التي كانت منكسة، ورددوا هتافات التأييد
لدولة الوحدة!» [25] .
وهكذا أدخلت العلمانية أيضاً المواطن الذي يُعِدُّونه لدخول معركة (التحرير)
مع العدو الصهيوني.. أدخلته في دائرة من الاغتراب السياسي، فبات هذا المواطن
يشعر أنه لاجئ في وطنه، لا يعيش لهدف سام، ولا يحس باهتمام أو مساواة،
مهمش مهمل، ومع امتدادات التمزقات الداخلية والدخول في (سلام) مع عدوه،
وضياع (الثوابت) التي كان يعيش للدفاع عنها.. افتقد (كيانه) وحار في انتمائه:
أإلى دينه وأمته، أم إلى وطنه وعشيرته، أم إلى قادته وحكامه، فعاش في فصام
قيمي ونفسي أدخلته فيه النظم العلمانية، فانكفأ على ذاته ومعيشته، غير مبالٍ بما
يدور حوله، ودخل كهف العزلة والسلبية.
إن أكبر مثالب العلمانية لم تكن فقط تضييع البلاد، بل كانت أيضاً القضاء
على (إنسانية) الإنسان الذي يقع تحت سيطرتها.
وفي معركة تحرير فلسطين: كيف ندخل المعركة بلا إنسان؟ لا بد أولاً من
تحرير هذا الإنسان..
* جاءنا الآن ما يلي: حرصاً على أنوف مستمعينا الكرام نأسف للتوقف عن
بث أنباء العلمانية السياسية.. أفٍ لهم ولعلمانيتهم! .
__________
(1) الموسوعة الفلسطينية، المجلد الأول، ص 179، نقلاً عن: البعد الإسلامي في الحركة الوطنية الفلسطينية، ص 113.
(2) حسب الوثائق التي عثرت عليها الحكومة البريطانية عندما داهمت دار الوكالة الصهيونية في أواخر عهد الانتداب.
(3) حسب تقدير جلوب باشا لمجموع القوات العربية النظامية عند إعلان قرار التقسيم نهاية عهد الانتداب، انظر: بحث (بين فلسطين والدولة الإسلامية) للدكتور بسام العموش، ضمن كتاب (المدخل إلى القضية الفلسطينية) ، ص 261.
(4) انظر: غازي فلاح، مصدر سابق، ص 66، إبراهيم فؤاد عباس، البعد الإسلامي في الحركة الوطنية الفلسطينية، ص 111 120، واصف عبوشي، فلسطين قبل الضياع، ص 134، د هند أمين البديري، فلسطين وأكذوبة بيع الأراضي، جريدة الأهرام، ع /41437، 19/5/2000 م.
(5) نقلاً عن: صحوة الرجل المريض، ص 218.
(6) فلسطين قبل الضياع، ص 317.
(7) هامش ص 506 من إضافات المحررين على (يوميات الحرب) لديفيد بن جوريون.
(8) العلاقات الروسية الإسرائيلية من واقع الوثائق التاريخية (1941م 1953م) ، إعداد وتقديم سامي عمارة، جريدة الشرق الأوسط، ع/8118، 18/2/2001.
(9) يوميات الحرب، ص 503.
(10) السابق، ص 505.
(11) يقظة العرب، لجورج أنطونيوس، ص 594.
(12) جريد الشرق الأوسط، ع/8086، 17/1/2001.
(13) أمين المهدي، كيف ساعدت الفاشية العربية الصهيونية؟ ، جريدة الحياة، ع/ 13412، 17/11/1999م.
(14) السابق.
(15) انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج 4، ص 262 263.
(26) لم أقف تحديداً على مقصود المشرف على الموسوعة من الإحالة على (باتاي) ، ولعله يقصد الكاتب رافائيل باتاي في كتابه: (إسرائيل بين الشرق والغرب) .
(16) عزة جلال هاشم، مصدر سابق، ص192.
(17) د حامد ربيع، تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي، ص 106.
(18) سقوط الجولان، ص 162.
(19) السابق، ص 190.
(20) نفسه، ولم يكن هناك ما يمنع إسرائيل عسكريّاً من إسقاط هذا النظام، ولكنها كانت في الحقيقة حريصة على دعمه، حتى إن مجلة (تايم) الأمريكية قالت: «أنقذ الهجوم الإسرائيلي على سورية خلال حرب حزيران / يونية، النظام البعثي المتطرف فيها» (عن سقوط الجولان، ص 265) ، والحقيقة أن (إسرائيل) انتصرت في الحرب عسكرياً وخسرتها سياسياً بالفعل، ليس لأنها لم تستطع إسقاط هذه الأنظمة العلمانية، بل لأنها لم تستطع تحقيق هدفها السياسي آنذاك، وهو فرض نفسها على شعوب المنطقة كياناً يمكن قبوله والتعايش معه، أي: تحقيق الأمن والسلام بما يعنيه من اعتراف بالشرعية، وهي الخسارة التي لم يكن للأنظمة العلمانية يد في إلحاقها بها، والصحيح: أن المنطقة لم تكن قد اكتمل تهيؤها لتحقيق ذلك الهدف، وهو ما تحقق بعد حرب 1973م واكتمل بعد حرب الخليج الثانية، وساهمت فيه تلك الأنظمة العلمانية (انظر: تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي، د حامد ربيع، ص 57) .
(21) المؤامرة ومعركة المصير، ص 110 111.
(22) قراءة في مذكرات عبد المحسن أبو النور، جريدة الحياة، ع/13712، 26/9/2000م.
(23) خليل مصطفى، مصدر سابق، ص 168.
(24) نقلاً عن: النكسة والغزو الفكري، محمد جلال كشك، ص 112.
(25) انفصال قبل 39 سنة وانقلابات وجرائم، جريدة الحياة، ع/13721، 5/10/2000.(162/95)
المسلمون والعالم
العرب بين الصليبيين والصهيونيين
خالد الربيعة
إن من يقرأ في تاريخ العرب قبل الهجمات الصليبية وأثناءها يجد تشابهاً
كبيراً بينه وبين وضع العرب قبل الاحتلال الصهيوني وأثناءه، وعند هذا التشابه
يبرز السؤال المتكرر: أيعيد التاريخ نفسه؟
الجواب الصحيح من وجهة نظري: أن التاريخ لا يعيد نفسه 100% في
الزمان والمكان والأشخاص؛ فكل زمان له وضعه كما قال - تعالى -: [وَتِلْكَ
الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران: 140) ، ولكن العقول البشرية كثيراً ما
تتشابه مما يجعل البشر يكررون تصرفاتهم، وما التاريخ إلا تصرفات البشر -
بتقدير من الله طبعاً -. لقد تشابه القرنان الهجريان الرابع والخامس مع القرنين
الرابع عشر والخامس عشر الهجريين في أمور كثيرة منها:
1 - التشرذم الذي أصاب العرب والمسلمين:
ما كان للحروب الصليبية ولا الصهيونية أن تحقق أهدافها لولا حالة العداء
والانقسام والتشرذم التي خيمت على علاقات القوى العربية الإسلامية في ذلك
الزمن؛ فكانت الخلافة العباسية متضائلة حتى وصلت حدود سلطة الخليفة على بغداد
فقط، وتقسمت الخلافة الإسلامية إلى دويلات متطاحنة وذلك بسبب:
أ - الانقلابات الكثيرة على الحكم الإسلامي.
ب - الأنانية المفرطة في التمسك بالحكم ولو كان على حساب الإسلام
والشعب المسلم؛ فلقد كان بعضهم لا يطلب المساعدة من المسلمين في الدولة
الأخرى خوفاً من زوال حكمه على يدهم، كما حدث مع ملك دمشق (معين الدين
آنار) عندما لم يستعن بملك الموصل (سيف الدين غازي) ، وكان بعضهم يتعاون
مع الصليبيين خوفاً على ملكه من المسلمين كما فعل وزير الفاطميين الذي استعان
بالصليبيين خوفاً على منصبه من امتداد حكم السلطان (نور الدين محمود) على
مصر، وهناك الكثير من الوقائع يطول الحديث عنها.
2 - سوء الحالة الاقتصادية:
إن انشغال الحكام العرب في القرنين الرابع والخامس الهجريين بأمور الدنيا
عن الجهاد جعلهم يُحوِّلون بيوت الأموال إلى حساب خاص يصرف على ملذاتهم
وترفهم، وتحويل الشعوب العربية إلى شعوب فقيرة تعيش على الكفاف وهم يرون
أموالهم تنهب أمام أعينهم بالضرائب والمكوس، والصرف ببذخ على اللهو
والفجور.
3 - عزلة العلماء عن السياسة:
لقد كان ذلك الوقت عصر ازدهار علمي في جميع النواحي والمجالات والعلوم
لكثرة العلماء وغزارة إنتاجهم العلمي والثقافي، ولكن السؤال المهم: ما سبب
تدهور وضع الأمة مع هذا التقدم العلمي؟
الجواب هو: انعزال العلماء (الأغلبية منهم) عن أمور الناس الواقعية،
وأصبح العالِم الذي ينعزل عن الحاكم هو المثل الأعلى، وهذا هو بداية المرض!
لأنه لا يوجد من هو أتقى من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كان الحاكم والقائد
والموجه الديني والسياسي، وكان هذا سبباً في انفصال الحكم إلى جزأين: شرعي،
وسياسي.
4 - الاتجاهات المذهبية الخاطئة ومحاولتها السيطرة:
نبدأ بالعبيديين (الفاطميين) ، فقد استغلوا ضعف الدولة العباسية، فأخذوا
شمال إفريقيا وكوَّنوا دولتهم الفاطمية نسبة إلى فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه
وسلم (ونسبهم إليها غير صحيح) ، وكان زعيمهم هو عبيد الله من ذرية عبد الله
ابن ميمون القداح الفارسي الباطني، وكانت لهم جرائم كثيرة منها:
1 - الفتك بعلماء أهل السنة.
2 - الاستهانة بمقدسات المسلمين.
3 - حرق القاهرة.
4 - الاستعانة باليهود والصليبيين ضد المسلمين.
وليست الدولة البويهية عنهم ببعيدة؛ فقد نهجوا نهج العبيديين نفسه ولكن في
بغداد وبلاد فارس؛ فقد استولوا على الخلافة، وسلبوها حق الحكم والتصرف
وحولوها إلى خلافة صورية؛ وعلاوة على ذلك لم تكن الحدود الإسلامية تهمهم في
شيء؛ فلقد كانت البلاد الإسلامية تحت نير غارات الروم ولم يحركوا ساكناً،
بالإضافة إلى سياسة الإقطاع العسكري التي حطمت الاقتصاد الزراعي في بغداد
وأفقرت خزينة الدولة.
وعند ذكر هاتين الدولتين تظهر لنا دولة القرامطة التي هاجمت الحجاج في
الحرم، وسرقت الحجر الأسود، وألقت جثث الحجاج في بئر زمزم، ولا ننسى
دولة الحشاشين التي نشرت الرعب في العالم الإسلامي؛ وذلك عن طريق الاغتيال
للخلفاء والأمراء والعلماء والوزراء ولم يسلم منهم أحد، وكان مقرهم في (قلعة
ألاموت) في إيران، وكان نشاطهم في جميع بلاد المسلمين، وغيرهم من الفرق
الضالة؛ ولكن العامل المشترك بينهم هو ضرب دولة الخلافة الإسلامية لأسباب
ومصالح شخصية حتى ولو كان على حساب الإسلام الذي يدَّعون انتسابهم إليه.
هذه بعض الأسباب، وأضيف إليها أسباباً أخرى ترجع إلى الصليبيين في ذلك
الوقت والصهاينة في هذا الوقت:
5 - مشاكل داخلية في أوروبا:
إن الصليبيين والصهيونيين كأنهما فلقتان أخرجتا من بذرة واحدة؛ فلقد كانا
نتاج مشكلات أوروبية داخلية خالصة: اجتماعية واقتصادية، زيادة سكان، تدني
مردود الزراعة، زحام قومي، وكان الحل هو إلقاء هذه الفضلات البشرية على
البلاد العربية والإسلامية.
6 - التظاهر أو التحجج بالحمية الدينية:
كلا الحملتين تحركتا بجموع بشرية من مختلف أنحاء أوروبا مع القوافل
الهائلة؛ فقد كانوا حجاجاً ومحاربين وتجاراً ونبلاء وكهنة ومغامرين يدفعهم باطناً
إغراء الشرق والأرض العربية التي تفيض لبناً وعسلاً، وظاهراً تطهير أرض
المسيح من أيدي العرب (المسلمين) ، أو زعمهم وعد الله باسترجاع أرض الميعاد
لليهود من أيدي العرب أيضاً.
7 - البدء بالحج السلمي، ثم تحوُّله إلى المسلح:
إن الغزو الصليبي بدأ حجاً سلمياً إلى آثارهم الدينية، ثم تحول إلى حج مسلح
فيما بعد، والغزو الصهيوني بدأ حجاً إلى حائط البراق (المبكى) كما يسمونه،
وممهداً الطريق إلى وعد بلفور وإلى المجازر التي كانت منذ سنة 1948م وما زالت.
8 - اللقب الديني:
لقد كان الصليبيون يسمون أنفسهم: «فرسان المسيح» و «الشعب المقدس»
و «شعب الرب» ، والصهاينة يسمون أنفسهم: «شعب الله المختار»
ويدعون غيرهم: غوغائيين رعاعاً لا ثمن لهم.
9 - تشويه صورة العرب والمسلمين للعالم:
لقد استغلت الصليبية والصهيونية الجهل الأوروبي بتاريخ المنطقة قديماً
وحديثاً بأمور عدة منها:
أ - صوَّرتا فلسطين أرضاً بلا شعب.
ب - شوَّهتا قدسية الإسلام ونبيَّه.
ج - أوهمتا الغرب: أن العرب برابرة، أنذال، مخادعون، إرهابيون.
10 - الاعتماد على المعونات الخارجية:
من مال وسلاح ورجال كلها تأتي من أوروبا؛ فقد كان الأمراء يأتون بأموالهم
لينفقوها على الحرب، ولقد بحث (رتشارد قلب الأسد) عمن يشتري لندن منه
ليمول حملته إلى الأرض المقدسة، وماذا يكون لو أضفنا كلمة الولايات المتحدة؟
إذن لأصبحنا في هذا الوقت؛ حيث تتدفق المساعدات على إسرائيل من الغرب!
وفي النهاية فإن الحروب الصليبية لم تنته مصادفة ولكنها توقفت نتيجة عمل
وكفاح ورفع راية الجهاد الإسلامي تحت لواء صلاح الدين ونور الدين إلى أن
أنهاهم الظاهر بيبرس.
والسؤال الذي يطرح نفسه: متى سيأتي من يرفع أيدي أحفاد القردة
والخنازير عن فلسطين؟ ماذا ينتظر العربُ أم ماذا ينتظر المسلمون؟ أينتظرون أن
يخرج اليهود من أنفسهم؟ ! إن هذه الفكرة يمكن أن تحصل مع الصليبيين في ذلك
الزمان؛ لأن لهم أوطاناً، لكن اليهود لا وطن لهم؛ إذن سيكون قتالنا معهم حتى
ينتصف منهم المسلمون.
أسأل الله أن يحرر بيت المقدس بأيدي عباده المسلمين، والله الهادي إلى سواء
السبيل.(162/105)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
إنصاف
عندما ذهبنا إلى هناك اكتشفنا أن الواقع في أفغانستان مخالف تماماً لما رسمه
وأذاعه الإعلام الغربي عن طالبان وإجراءات القمع وحبس المرأة وزراعة
المخدرات، نحن جميعاً كوفد كانت الصورة التي انطبعت في أذهاننا عنهم أنهم
رفعوا شعار الإسلام حلاً ثم يزرعون المخدرات للإنفاق على حركتهم، وأذاع
الإعلام الغربي أنهم حبسوا المرأة وقيدوها ومنعوها من التعليم وقيادة السيارات
وغير ذلك وأنهم.. وأنهم.. وهناك اتضحت الحقيقة الغائبة.. إنهم لا يزرعون
المخدرات نهائياً بل كوَّنوا فرقاً لمكافحة زراعة المخدرات وأحرقوا مزارعها تماماً،
وتحدوا أن توجد شجيرة واحدة من المخدرات في إمارتهم!
أما المرأة فقد رأيناها في الشارع على طول الطريق، وقالوا: إن ما أذيع
خطأ، والصحيح أننا بسبب نقص المدارس والأماكن بها لسوء الحالة التعليمية عندنا
فقد قدرنا الظرف، وهو أن الولد وخاصة الأكبر سيكون العائل الأساسي والمهم
لأسرته؛ ولذا فقد فضلنا أن يقوم الأخ الأكبر على إخوانه ولو كانوا ذكوراً لنجد له
مكاناً في المدرسة فهو الأوْلى. إذن المسألة ليست بنتاً وولداً ولا رجلاً ولا امرأة
وإنما الظروف هي التي تحكم عملنا ووضعنا وعندما تتحسن الحالة التعليمية سوف
يكون لكل بنت مكان مثل الولد.
الحقيقة أن دهشتنا كانت كبيرة لهذا الواقع الذي زيفه إعلام الغرب، وأنا
أعترف أنني شخصياً كنت مصدقاً لكل ما أذيع عنهم، ولكن بعد الزيارة اقتنع الوفد
كله بلا استثناء بظلم الإعلام الغربي وتضليله للعالم فيما يخص واقع أفغانستان
وطالبان.
بصراحة أيضاً أنا أعتبر هذه الزيارة كلها إيجابيات؛ لأننا عرفنا عن كثب
كذب المزاعم الغربية.
أقول: آن الأوان لأن تبادر الدول الإسلامية وتعترف بحكومة طالبان.. وهذا
رأي وفد منظمة المؤتمر الإسلامي ورأيي شخصياً.. أقول آن الأوان لأن ندرك أن
كثيراً من الدوائر السياسية العالمية تريد هذا الوضع المؤلم والمؤسف، وهي تعمل
على تكريس الفرقة بين الإخوة في الدين، لذا أنا أدعو العالم العربي والإسلامي
لإعادة النظر في موقفه من حكومة طالبان.
[مفتي مصر، د. نصر فريد واصل، مجلة آخر ساعة، العدد:
(3465) ]
أول القصيدة.. فلاشا! !
ذكرت الإذاعة العبرية أن وزارة الاستعمار «الإسكان» الإسرائيلية وضعت
مخططاً جديداً لاستقدام خمسة آلاف يهودي أثيوبي إلى إسرائيل خلال العام القادم.
وقال تالاي مريدور رئيس الوكالة اليهودية أن تنفيذ هذه الخطة سيتكلف 660
مليون دولار ستدفع بكاملها من صندوق الوكالة، وتبرعات
من قبل الروابط اليهودية في الولايات المتحدة.
[صحيفة الدستور الأردنية، العدد: (12060) ]
جزائر المجازر
1 - ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أن مجموعة تطلق على نفسها الحركة
الجزائرية للضباط الأحرار وتضم عسكريين منشقين أفادت بمقتل 47 ضابطاً
جزائرياً داخل ثكنة جنوبي الجزائر على يد فرقة كوماندوز خاصة؛ وذلك لرفضهم
المشاركة فيما أسمته الحركة جرائم ضد المدنيين.
ونقلت الوكالة عن بيان صادر عن الحركة أن الضباط كانوا يقضون عقوبة
لرفضهم تنفيذ أوامر في زنزانات تحت الأرض في ثكنة (بوقار) الواقعة على بعد
150 كلم جنوبي العاصمة الجزائر.
وذكر البيان أن الضباط كانوا على وشك إنهاء عقوبتهم وإطلاق سراحهم،
لكن تم جمعهم في جناح منعزل من السجن، وقامت فرقة كوماندوز خاصة تابعة
للجيش والمخابرات بقتلهم «بدم بارد» .
وقال البيان - الذي لم يذكر أسماء الضباط أو رتبهم، وحمل توقيع العقيد
(علي بعلي) - إن القتلى تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب بسبب رفضهم «المشاركة
في الجرائم ضد المدنيين أو رفضهم تنفيذ أوامر شيطانية» .
موقع الجزيرة نت
www.aljazeera.net
2 - س: عاد سؤال: مَن يَقْتُل مَن في الجزائر؟ في الآونة الأخيرة ليطرح
بقوة الآن، فمَن يَقْتُل في الجزائر حقيقة؟
ج: الذي يَقْتُل في الجزائر أساساً هو النظام الحاكم، العنف الذي نشهده في
الجزائر هو عنف يخدم النظام وليس ضد النظام، وهو عنف محسوب ومرتب تتم
الزيادة في قوته ونسقه أو الخفض منها حسبما يطلبه أو ما يسعى إليه النظام أو
الجناح الرئيسي داخل السلطة، وهو الجناح المتكون من قيادة المخابرات وقيادة
الجيش، وهناك أدلة كثيرة وعلى مستويات عدة؛ فهناك أشخاص هم أنفسهم كانوا
في الجيش أو في الشرطة أو في مخابرات النظام، أعني أن هناك أفراداً منهم
مارسوا هذا الأمر واعترفوا به، ومن آخرهم صاحب كتاب: (الحرب القذرة)
حبيب سوايدية الذي اعترف أنه كان يتلقى أوامر من قادته، وهو مستعد للمحاكمة
الآن.
[محمد العربي زيتوت، النائب السابق للسفير الجزائري في ليبيا، القدس العربي، العدد: (3681) ]
3 - تتزايد التكهنات في الجزائر بتدخل إسرائيلي مباشر في تصعيد أعمال
العنف، وتطرح مصادر معلومات قريبة من عبد المجيد بوزيدي «أحد مستشاري
الأمن في عهد الرئيس السابق الأمين زروال» فرضيتين.
الأولى: تلقي جهات فرانكفونية تدريبات عسكرية في الكيان الصهيوني.
الثانية: وصول فرق كوماندوس إسرائيلية إلى المدن الجزائرية المعنية
بالمواجهات.
وتعترف مصادر بوزيدي أن طاقم المكتب الأمني لزروال ناقش أكثر من مرة
هاتين الفرضيتين لا سيما في عامي 1996م، 1997م على خلفية مذبحة (سيدي
عبد العزيز) جنوب العاصمة، ومجزرة (بوقر) التي أودت بحياة 93 مدنياً؛ فيما
تؤكد أوساط في جبهة الإنقاذ أن هناك دوراً للكيان الصهيوني في أوروبا وتحديداً في
بلجيكا وفرنسا وألمانيا وسويسرا لجمع المعلومات عن الإسلاميين الجزائريين
والإسهام اللوجستي في توقيف وتعقب آخرين من طرف أجهزة أمن أوروبية،
ويعتقد إسلاميون أن ميليشيات متشددة مجهولة ربما تضم بين مقاتليها خبرات بشرية
إسرائيلية ينفذون عمليات ذبح بحق عائلات الجماعات الإسلامية المسلحة!
ويؤكد وثيقو الصلة بحزب أحمد بن بيلا أن الصهاينة باتوا طرفاً مهماً في
الأزمة الجزائرية في غضون الأعوام الثلاثة الماضية لعدة أسباب؛ تكشف آخر
المعلومات الواردة من (تيزي أوزو) ومناطق القبائل الكبرى عن اكتشاف العديد
من حالات حمل السلاح الإسرائيلي «عوزي» وهذا يعني أن الدولة الصهيونية
أضحت جزءاً من أنشطة تصدير السلاح إلى الجزائر.
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (370) ]
المنسيون في تركستان الشرقية
مصدر معلوماتنا عما جرى في الصين هو السلطات الصينية ذاتها التي تعتبر
الناشطين المسلمين إما انفصاليين أو إرهابيين، وهم في كل الأحوال «مجرمون»
خارجون على القانون، لا حل لهم سوى القمع الذي يتراوح بين السجن والإعدام.
بهذه الخلفية ينبغي أن نقرأ التقارير التي خرجت من العاصمة الصينية حول
تفكيك ما يسمى بحزب الله الإسلامي، وهي تسمية لم يُسمع بها من قبل، ولا
يُستبعد أن يكون لها ظل من الحقيقة، كما لا يُستبعد أن تكون السلطات الصينية هي
التي أطلقت ذلك الاسم لأسباب إعلامية في الأغلب؛ فطيلة العقد الأخير والصحف
ووكالات الأنباء تنشر أخبار الإعدامات بين المسلمين. ويبدو أن عملية الإعدام
أصبحت سهلة لدرجة أن حكومة بكين ضغطت على الحكومة الباكستانية قبل أكثر
من عام لتسليمها بعض المسلمين من أبناء إقليم (سينكانج) الذين اتهمتهم بإثارة
الشغب هناك، وكان هؤلاء (عددهم 13 شخصاً) قد نجحوا في الهروب من
ملاحقة الشرطة الصينية، وعبور الحدود إلى باكستان، وإزاء استمرار الضغوط،
فإن حكومة إسلام آباد التي تربطها علاقات وثيقة مع الحكومة الصينية؛ ألقت
القبض على أولئك الشبان اللاجئين إليها، وقررت تسليمهم إلى السلطات الصينية.
وقد رتبت عملية التسليم في أحد مواقع منطقة الحدود المشتركة بين البلدين،
وحسبما ذُكر في العاصمة الباكستانية، فإنه جيء بالمسلمين الصينيين الهاربين،
وتم تسليمهم إلى مجموعة من العسكريين الصينيين الذين تم إيفادهم من قبل الحكومة
لهذا الغرض. غير أن القوة الصينية ما أن تسلمتهم عند الشريط الحدودي حتى
طلبت منهم الوقوف صفاً، ثم أطلقت عليهم النار واحداً تلو الآخر. وتم قتل الـ
13 شخصاً في موقع التسلم ذاته، على مرأى من العسكريين الباكستانيين الذين
فوجئوا بما حدث، ولم يكن بمقدورهم فعل أي شيء. هؤلاء لو قدر لهم أن يلجؤوا
إلى أي عاصمة غربية لاختلف مصيرهم، ولكان لهم شأن آخر.
[فهمي هويدي، مجلة المجلة، العدد: (1097) ]
إرهاب.. وإرهاب
ذكرت مصادر إعلامية أمريكية أن المخابرات المركزية الأمريكية قررت
تكليف وحدة مراقبة شبكة الإنترنت بشن حملة لمكافحة ما تسميه «الإرهاب»
بالإنترنت.
وقالت وكالة الإعلام الأمريكية: إن خبراء الأجهزة الأمريكية اتفقوا مع
قراصنة إنترنت أمريكيين لاختراق وتخريب مجموعة كبيرة من المواقع الإسلامية
المشتبه بتعاونها مع الحركات المتطرفة أو بدعوتها إلى الجهاد والتعاون في نقل
المعلومات وتلقي المساعدات المالية المموّهة أو التدريب على وسائل التفجير ووضع
القنابل.
وتتحدث المعلومات الأمريكية عن أن الأجهزة رصدت أكثر من مائتي موقع
تزعم أنها «خطيرة» تعمل في أكثر من 50 بلداً، وأنها بدأت بشن حملة قرصنة
لا سابق لها لتخريبها.
[مجلة الإصلاح، العدد: (438) ]
السلام دائماً.. ليكودي
س: يقول بعضهم إنك ستكون مثل الرئيس المتشدد ريتشارد نيكسون الذي
فتح من دون توقع علاقة بين أمريكا والصين، بمعنى أنك ستكون الصقر الذي يقدر
على صنع السلام مع الفلسطينيين.
ج: أعتقد أنني أستطيع صنع السلام لأنني شاهدت كل أهوال الحرب.
شاركت في كل الحروب، وفقدت أعز أصدقائي في المعارك المختلفة، وقد أصبت
بجروح بليغة مرتين. ولذلك فإنني أفضل إدراكاً لأهمية السلام من السياسيين الذين
يتحدثون عن السلام ولكنهم لم يمارسوا تجربة الحرب أبداً.
[أرييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل، مجلة نيوزويك العربية، عدد: (20/
3/2001م) ]
ولن تفعل أمريكا شيئاً
كشف تقرير أمريكي النقاب عن أن القوات الروسية العاملة في الشيشان
ارتكبت انتهاكات خطيرة في الشيشان من بينها التعذيب والقتل والنهب والطرد
الجماعي للسكان، بالإضافة إلى غيرها من الجرائم التي لا ترتكبها إلا دولة
(فوضوية) .
وذكر التقرير الذي أصدرته منظمة تطلق على نفسها اسم منظمة (أطباء
حقوق الإنسان) وهي منظمة غير حكومية مقرها واشنطن أن القوات الفيدرالية
الروسية تورطت - وما زالت - في القيام بانتهاك حقوق المدنيين، وتتمثل في
الاعتقالات غير القانونية للمواطنين وفرض عقوبات السجن دون أحكام قضائية
والضرب والتعذيب والقتل والسلب والنهب والطرد الجماعي والهجمات على
المدنيين وعدم احترام حيادية الفرق الطبية، بالإضافة إلى مسؤوليتها عن اختفاء
بعض الأفراد.
وقد اشتمل التقرير على روايات العديد من الشيشانيين من ضحايا هذه
الانتهاكات، كما تضمن التقرير الدعوة إلى الرئيس الأمريكي الجديد جورج بوش
لكي يضع قضية الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون الشيشان على رأس قائمة
أولوياته فيما يتعلق بعلاقاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
[صحيفة الأهرام، العدد: (41688) ]
نشاط تنصيري
ألقت السلطات الإماراتية في دبي القبض على ثلاثة من الأمريكان! !
واتهمتهم بمناهضة الدين الإسلامي والتبشير بغيره، حيث قبض على الثلاثة
وبحوزتهم 1970 إسطوانة مدمجة (CD) يقومون بتوزيعها على المواطنين
وزوار إمارة دبي.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد: (7606) ]
أما زال هذا الفكر حياً؟ !
العداء المستحكم بين العرب وإسرائيل منذ ما يزيد على نصف قرن من
الزمان لا يعني كراهية اليهود تالياً. فنحن ما زلنا نفرّق بين إسرائيل التي نكرهها،
واليهود الذين لا نكنّ لهم كراهية إسرائيل نفسها. قد يقول قائل: إن إسرائيل تعني
اليهود وإن اليهود هم إسرائيل، أبادر إلى القول والتوضيح إننا لا نكره إسرائيل
لأن شعبها من اليهود وإنما نكرهها لأن حكامها من الصهاينة، إذن نحن ضد
الصهيونية العالمية وأحلامها التوسعية، ولسنا ضد اليهود كبشر أو عرق أو جنس.
اليهودي بشر كالمسيحي والمسلم تماماً، وهو يعبد الله مثلنا؛ لأن الديانة اليهودية
التي نزلت على موسى - عليه السلام - هي إحدى الديانات السماوية الثلاث، ومن
عاشروا اليهود العرب في الزمن الماضي قبل قيام إسرائيل وهجرتهم إليها بعد
حرب فلسطين، من عاشروهم يشهدون بأنهم كانوا يحترمون كلمتهم. صحيح أنهم
كانوا تجاراً يسيطرون على معظم أنواع التجارة الكبيرة، وكان بعضهم من المرابين
إلا أنهم كانوا يقفون مع التجار الصغار في أي بلد ويعاونونهم إذا تعثروا في سداد
قيمة البضاعة التي استلموها منهم. أذكر في صباي أني كنت أسكن مع أهلي في
عمارة بأحد أحياء القاهرة وكان ثلث سكانها من اليهود، ولا أذكر أن أحدهم أثار
يوماً مشكلة أو تسبب في مشكلة كانوا جيراناً مريحين يكاد المرء لا يحسّ بهم.
المؤكد أني لا أحمل في ذاكرتي أي ذكرى غير طيبة لليهود سوى حرصهم الشديد
على المال وهو ما يشترك معهم فيه أهل دمياط من المصريين على سبيل المثال.
[مصطفى نجيب! ؟ جريدة النهار اللبنانية، العدد: (20900) ]
نعم.. هي أقدر على الفهم! !
1 - أبدى وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ثقته في قدرة الإدارة
الأمريكية الجديدة برئاسة جورج بوش على فهم عملية السلام أكثر من إدارة بيل
كلينتون، وقال الشرع: إن الإدارة الجديدة (ستكون أقدر على فهم مجريات عملية
السلام) .
وأوضح الشرع: (لا ننسى أن إدارة بوش المنتخبة تدرك أكثر من غيرها أن
المبادرة الأمريكية التي عقد على أساسها مؤتمر مدريد (للسلام في الشرق الأوسط
عام 1991م) جاءت من قِبَل الجمهوريين وبرئاسة جورج بوش الأب) .
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد: (7515) ]
2 - أمر الرئيس الأمريكي جورج بوش وكالة الاستخبارات الأمريكية بوقف
أداء دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، ويعد قرار الرئيس الأمريكي نموذجاً
لسياسة الإدارة الجديدة التي تهدف إلى رفع يدها عن عملية السلام في الشرق
الأوسط، وقالت المتحدثة باسم الرئيس بوش في شؤون الأمن القومي ماري إيلين
كانترمان: إن هذه الخطوة تنسجم مع نهج الإدارة الجديدة الرامي إلى تشجيع
الأطراف الضالعة في القضية على المفاوضات والتنسيق المباشر فيما بينهما، وقد
كان دور وكالة الاستخبارات يتناغم مع سياسة إدارة الرئيس كلينتون التي كانت
ترمي إلى الانحراط المباشر في قضايا المنطقة.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
عين الرضا.. والعين الحمراء! !
خفف الرئيس الأمريكي جورج بوش من القيود على بيع قطع غيار طائرات
هليكوبتر أمريكية الصنع للهند، في خطوة وصفت بأنها قد تكون توطئة لرفع
العقوبات الأمريكية التي فرضتها واشنطن على نيودلهي عقب إجرائها تجارب
نووية قبل ثلاثة أعوام.
وتشمل الخطوة الأمريكية كذلك رفع الحظر على بيع قطع غيار أمريكية
لطائرات الهليكوبتر البريطانية الصنع التي تخدم في الأسطول الجوي الهندي.
وكان النقص في قطع غيار تلك الطائرات قد أرغم الجيش الهندي على إخراج
بعضها من الخدمة، ويقول المراسلون إن الولايات المتحدة قد خففت بالفعل من
القيود على الهند في مجال الاستثمارات، وإن ثمة ضغوطاً في الوقت الحالي لرفع
جميع العقوبات الأمريكية.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
فاقدو الصواب.. والصابئة
تعهد الرئيس العراقي صدام حسين ببناء معبد لطائفة الصابئة المندائيين في
بغداد، وذلك خلال اجتماعه مع رئيس الطائفة وأعضاء بارزين بها حيث امتدح
صدام الطائفة، وأكد على العمل لمساواتهم والمسيحيين.
وأهدى (ستار جبار حلو) رئيس الطائفة صدام نسخة مترجمة للعربية من
كتاب الطائفة المقدس «كنزا ربا» (الكنز العظيم) . وأوضحت الصحف أن هذه
هي المرة الأولى التي تجرى فيها ترجمة كتابهم المقدس.
وقال صدام لحلو واتباعه: «سنبني لكم معبداً إن شاء الله.. العراقيون
أحرار في دياناتهم سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين أم صابئة» .
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7549) ]
ليس تكفيراً عن المحرقة
من بين رماد المحرقة «الهولوكوست» تولدت علاقة صداقة فريدة من نوعها،
فبعد 56 عاماً على انهيار الرايخ النازي و 36 عاماً على إقامة العلاقات
الدبلوماسية، أصبحت ألمانيا أهم حلفاء إسرائيل بعد الولايات المتحدة؛ فهي تمدها
بدعم ثمين على المستويات العسكرية والاستخباراتية والسياسية والاقتصادية. ففي
حين عمقت ألمانيا في السنوات الأخيرة من علاقاتها مع إسرائيل، وقدمت لها دون
ضجيج إعلامي ثلاث غواصات غير أنه وقبل وقت طويل من إقامة علاقات
دبلوماسية في العام 1965م، حصل التقارب الأول بين ألمانيا وإسرائيل عند
التوقيع على اتفاق التعويضات عام 1952م بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن
غوريون والمستشار الألماني كونراد أديناور. وقد شملت تلك التعويضات دفع أكثر
من 50 مليار دولار ليهود إسرائيليين ولدولة إسرائيل نفسها، ولأن بعض هذه
التعويضات جرى دفعه على شكل معدات واستثمارات صناعية وقطع غيار وسفن
وقاطرات، ساهمت في تقارب الألمان والإسرائيليين بصورة لا يمكن مقارنتها
باليهود الأمريكيين.
وتشير التحريات الحالية في ألمانيا وإسرائيل، إلى أن الدعم الألماني أساسي
بالنسبة لأمن إسرائيل، حتى مع بقائه بعيداً عن الأضواء بسبب المخاوف الألمانية
من رد فعل العالم العربي والرأي العام المحلي، أما العلاقات بين جهازي
استخبارات كل من البلدين فهي نشطة بشكل لافت، حسبما يفيد مسؤولون؛ إذ تزود
ألمانيا إسرائيل بمعلومات واسعة عن العالم العربي، أما إسرائيل فإنها تزود ألمانيا
مقابل ذلك بمعلومات عن أوروبا الشرقية وروسيا، وعلى حد تعبير أحد المسؤولين
الإسرائيليين: «لدينا أفراد يتحلون بتفهم واسع» .
كما أن ألمانيا تعتبر الحليف العسكري الثاني في الأهمية لإسرائيل بعد
الولايات المتحدة؛ إذ تتعاون كل منهما في تطوير بعض الأسلحة وتوفير التكنولوجيا.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8133) ]
الود باق! !
قال الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إنه لو كان يملك حق التصويت في
إسرائيل لكان صوته لصالح أرييل شارون، وأضاف أنه سيعطي شارون صوته
ليس «لأنه شخص جيد؛ فنحن نعرف شارون جيداً ونعرف ماذا فعل في حرب
لبنان وغيرها، ولكن مع شارون تعرف أين تقف. يقول لك حقيقته في وجهك
وليس كباراك الذي يتحدث عن السلام، ويوقع اتفاق سلام لكنه لا يصنع السلام
على الأرض» .
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8093) ]
رسائل الهدم الهندوسية
دمر متعصبون هندوس مسجداً تاريخياً في مدينة «أيودهيا» في شمال الهند،
وادعوا أن مسجدين آخرين يقعان على مقابر هندوسية، ويحاولون الاستيلاء على
مسجد آخر في نيودلهي.
وقد منعت الشرطة ناشطي حركة (فيشوا هندوباريشاد) ومنظمة الشباب
التابعة لـ (بارانج دال) من أداء شعائر هندوسية في مسجد «قوة الإسلام» في
مجمع قطب. وتقول المجموعات الهندوسية إنها تريد إعادة بناء معبد هندوسي
زاعمة أن الحكام المسلمين دمروه، وكان يقع في مكان المسجد الحالي.
[مجلة الكوثر، العدد: (17) ](162/108)