تأملات دعوية
مع أحداث الأرض المباركة
محمد بن عبد الله الدويش
لقد تركت الأحداث التي حصلت في الأقصى أثرها العميق في نفوس
المسلمين، ولا خيار لمسلم أياً كان أن يقف موقف الحياد، أو يتغافل عن مثل هذه
الأحداث؛ كيف لا؛ والأمر يتعلق بالإيمان؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى» [1] .
ويزداد الأمر أهمية حين يتعلق بموطن مبارك قد وصفه تبارك وتعالى بذلك
في آيات كثيرة [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] (الإسراء: 1) , [تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا] (الأنبياء: 81) , [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى
ظَاهِرَةً] (سبأ: 18) .
وقد كثر الحديث عن هذا الموضوع والتفاعل معه؛ والمقصود هنا الإشارة
إلى بعض الوقفات الدعوية، ومن ذلك:
- مع أن المسلم يسوؤه ما حصل لإخوانه ويتألم لمصابهم، فإنه يؤمن أن
بعض ما يكرهه الناس قد تكون عاقبته إلى خير؛ فقد قال عز وجل عن حادث
الإفك الذي قُذفت فيه أطهر النساء بالسوء: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ]
(النور: 11) .
- لعل مثل هذه الأحداث تعيد لدى المهتمين بالقضايا الإسلامية الاهتمام
والاعتناء بشأن قضية الأرض المباركة التي نسيها الناس وغفلوا عنها، ومهما علا
شأن قضايا المسلمين فليست بأوْلى من هذه القضية التي تتعلق بمسرى النبي صلى
الله عليه وسلم والأرض المباركة والمسجد الأقصى وموطن الطائفة المنصورة،
ولن ينتهي الصراع حولها حتى يقتل مسيحُ الهداية مسيحَ الضلالة.
- لا بد من استثمار مثل هذه الأحداث في تقرير القضايا الكبرى في خلفية
الصراع، وربط المسألة بجذورها العقدية، وأن هذه الجرائم صدرت ممن يعتبرون
[أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا] (المائدة: 82) ومن هذه القضايا أيضاً التحالف
بين النصارى واليهود، ووقوفهم في خندق واحد حين يكون العدو المستهدف هو
الإسلام وأهله [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (المائدة: 51) . إن هذه المسلَّمات
الشرعية نسيها الناس في ظل المصطلحات السياسية التي روَّضهم الإعلام عليها
مثل: الصراع العربي الإسرائيلي، إسرائيل تريد السلام.
- اتضح من خلال هذه الأحداث أثر الإعلام في إثارة تفاعل الناس مع
القضية؛ فالصور والتقارير المؤثرة التي تناقلتها وسائل الإعلام فعلت فعلها في
النفوس. ألم يحن الوقت لدى الدعاة إلى الله عز وجل أن يدركوا تأخرهم في
التعامل مع هذه الوسائل المؤثرة، وأن يتعلموا فن الصنعة الإعلامية الذي يمكن أن
يثير تفاعل الناس مع قضايانا؟ !
- لا بد من السعي لبناء الأولويات لدى الناس - مع استثمار العواطف الخيِّرة -
فقتل طفل آمن جريمة نكراء، لكن قتل المئات والآلاف من خلال سياسة التجويع
والحصار الاقتصادي أشد جريمة، وترويع الآمنين وقتلهم جريمة بشعة، وأشد من
ذلك بشاعة صد الناس عن دينهم وفتنتهم فيه [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ]
(البقرة: 191) .
- لا بد من استثمار مثل هذه الأحداث في دعوة الناس للعودة إلى الدين
والرجوع إليه، وأن ما أصابهم إنما هو حين تركوا دينهم وأعرضوا عنه، وهذه
الأحداث فرصة للدعاة إلى الله في الأرض المباركة في أن يزيد حضورهم لدى
الناس، ويسعوا إلى إعادة الناس إلى دينهم.
- يقبل الناس في مثل هذه الأحداث على الاستماع إلى آراء المحللين
والمعلقين؛ فأين حضور دعاة الإسلام وأهل العلم في ذلك؟ وهل ما يقدمونه للناس
إن وجد على مستوى ما يسمعه الناس من غيرهم؟ أم ما زلنا نعتقد أن الحديث في
مثل هذه القضايا مما يشغل طالب العلم ويصرفه عما هو أهم؟
- إن تفريقَ الناس بين مَنْ يتحدث باسم القضية، وإصرارَهم على التعامل
مع الصادقين منهم، بذرةٌ من الوعي ينبغي أن تُستثمر وتنمى قبل أن تذبل وتموت.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد من حديث النعمان بن بشير.(157/31)
الإسلام لعصرنا
الحضارة الغربية
ضجة عن الحرية.. وممارسة للهيمنة الثقافية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
الحضارة الغربية حضارة يبوء كاهلها بالمتناقضات: تناقض في الأفكار،
وتناقض في القيم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأفعال. لكنها
رغم ذلك كله هي الحضارة السائدة التي يعدها أهلها ويعدها بقية العالم إلا من رحم
ربك حضارة العصر، الحضارة التي يجب أن يحذو حذوها كل من يريد أن يتبوأ
مكانة محترمة ومقبولة في هذا العصر، وإلا كان فيه بجسده، وخارجَه بروحه
وفكره.
ولعل من أبرز أنواع التناقض بين أقوال هذه الحضارة وأفعالها تناقضها بين
ضجتها الصوتية العالية عن حرية الأفراد والشعوب، وسلوكها كل سبيل لفرض
قيمها الخُلُقية، وتجربتها السياسية، ونظمها الاقتصادية، بل ومعتقداتها الدينية على
سائر شعوب الأرض، ووصم كل ما يخالفها، بل كل ما يتعارض مع مصالحها،
بكونه انتهاكاً للحقوق الإنسانية، أو إضراراً بالمصالح العالمية، أو ممارسة
للإرهاب، أو سبباً للتخلف، وما شئت من تهم جائرة، بل وأحيانا أقوال آفكة.
المتعصبون من أهل الحضارة الغربية ضد ثقافات الأمم الأخرى وما كلهم كذلك
مصابون بنوع من المرض الثقافي الذي يجعل على بصر صاحبه غشاوة تهول له
قيم ثقافته، بل وأباطيلها، حتى يراها هي القيم الإنسانية التي يجب على كل الأمم
أن تؤمن بها وتطبق مقتضياتها، بل وهي المعيار الذي تقاس به إنسانية الأمم،
ويحدد على أساسه استحقاقها للمصالحة والمساعدة أو المشاقَّة والإعنات. وقد عبر
عن شيء من هذا مندوب أو مندوبة باكستان في جلسة الأمم المتحدة الخاصة بقضية
المرأة. قالت لهم المندوبة كلاماً نقلته بعض الصحف الأمريكية فحواه: أن مشكلة
المرأة في باكستان أن تشرب ماءً نقياً، لا أن تتزوج امرأة مثلها، ولا أن تكون لها
حرية الاتصال بمن شاءت من الرجال.
هذا موضوع كبير نُشرت فيه أوراق وأُلفت فيه كتب منها كتاب مشهور
للأستاذ إدوارد سعيد اسمه: (الاستعمار الثقافي) لكن حديثنا اليوم عن آخر
مظهرين شهدهما الكاتب لهذه الهيمنة. أولهما: الاجتماع الخاص بالنساء الذي عقد
بالأمم المتحدة والذي تحدثت عنه في مقال سابق. وثانيهما: كتاب لرائدة من رواد
الحركة الأنثوية feminism.
من مظاهر الهيمنة الثقافية في اجتماع الأمم المتحدة أن المنظمات غير
الحكومية التي شاركت فيه كان أعلاها صوتاً وربما أكثرها عدداً المنظمات الآتية
من البلاد الغربية. وحتى التي أتت من البلاد غير الغربية كان كثير منها إن لم يكن
معظمها من الجماعات الدائرة في فلك المنظمات الغربية، بل ربما كان بعضها
مجرد صدى لها. كان منها مثلاً منظمة من بلد من أكثر البلاد الإفريقية فقراً وجوعاً،
لكن مستوى أدائه في الدعاية للقيم الغربية كان مضاهياً لأغنى المنظمات الغربية.
ومن مظاهرها: أن اللغة المسيطرة على الاجتماع كله كانت اللغة الإنجليزية؛
فالذي لا يعرفها لا يستطيع أن يشارك مشاركة فعالة.
ومن مظاهرها: أن كُبريات المتحدثات كن من الشخصيات الأمريكية
المرموقة؛ فقد تحدثت في اجتماع المنظمات غير الحكومية سيدة أمريكا الأولى،
وخاطبت الجمعية العمومية وزيرة خارجيتها، وكان معظم المتحدثين والمتحدثات
غير الغربيين من أبواق الغرب، حتى إن عدد المتحدثين والمتحدثات من بلد أفريقي
غير الذي ذكرت آنفاً لم يكن متناسباً قط لا مع أهميته ولا مع حجمه.
والقضايا التي أثيرت ونالت اهتماماً كبيراً كانت هي القضايا التي يهتم بها
الغرب؛ إما لأنها من القضايا التي تشغل بال الناس فيه، أو لأنها مما يعترض عليه
الغرب في ثقافات الآخرين. من ذلك قضية ختان البنات، التي حوَّلها الكُتَّاب
والساسة الغربيون وأتباعهم من المستغربين إلى قضية كبرى تكاد تكون من أهم
معاييرهم للولاء والبراء.
وهذا يقودنا إلى كتاب الرائدة الأنثوية الذي أسمته: المرأة كاملة، أو المرأة
بأكملها The WholeWoman تعرضت المؤلفة فيه لقضية الختان هذه، فذكرت
أنها كانت وما زالت معترضة على ختان النساء، لكنها بعد أن سافرت واتصلت
بالثقافات الأخرى، تبين لها أن اهتمام الغرب به هو تعبير عن احتقاره للثقافات
غير الغربية. واستدلت على ذلك بأدلة لا تخلو من طرافة:
منها: أنه لا فرق بين ختان الرجال وختان النساء؛ لكننا لا نعترض على
الأول ولا نثير حوله زوبعة؛ لأنه يمارس في الغرب.
ومنها: أن النساء في الغرب يجرين عمليات جراحية تجميلية هي أشد غرابة
من الختان. من ذلك العمليات التي تجريها بعض النساء لتصغير أثدائهن. قالت:
إنها عندما ذكرت هذا لبعض النساء السودانيات كان استغرابهن له كاستغرابنا
للختان، وأنها تعلمت منهن أن الختان أنواع، وأن منه ما لا ضرر فيه، وأنه
لا يؤثر على الاستمتاع الجنسي، وأنه ليس أمراً يفرضه الرجال على النساء كما
نظن في الغرب.
ومنها: أن بعض الناس في الغرب يخرقون ألسنتهم ليدخلوا فيها نوعاً من
الحلق كالذي يدخل في الآذان. بل إن منهم من يفعل ذلك لعضو الرجل!
لنفترض أن الحديث كان عن أسوأ أنواع الختان، وهو مضر ما في ذلك شك؛
لكن أهو أضرُّ من هذا الذي ذكرته الكاتبة؟ أهو أضر من شرب الخمر الذي
يموت بسببه المئات بل ربما الآلاف في الغرب في ليلة واحدة هي ليلة عيد الميلاد؟
أهو أضر من حمل السلاح الذي يرخص به القانون الأمريكي، والذي يُقتل بسببه
عدد من الأبرياء وأحيانا الأطفال في كل يوم وليلة؟ أهو أضر من الجمع بين السُّكْر
وحمل هذا السلاح؟ أهو أضر من السفور، وما ينتج عنه من أنواع الاغتصاب؟
أهو أضر من الزنا واللواط الذي تُحله القوانين الغربية والذي كان سبباً في مرض
الإيدز وأمراض أخرى جسدية ونفسية؟ أهو أضر من التدخين الذي صار من
أسباب الموت الأولى في البلاد الغربية، والذي لا مسوِّغ لإباحته إلا استفادة بعض
الشركات منه، كاستفادة أخرى من إباحة حمل السلاح؟
كلا والله! ولكن الأمر كما قال ربنا: [فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ
الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .
إن قوة الغرب المادية صارت فتنة تعمي الناس ومنهم منتسبون إلى الإسلام
عن رؤية عيوبه وشروره. كما أن ضعف المسلمين صار فتنة تصد الناس عن
رؤية ما عندهم من خير وعن قبوله.
[رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
(الممتحنة: 5) .(157/33)
دراسات تربوية
التعلق بالأشخاص لا بالمنهج!
سالم أحمد البطاطي
الأصل في العملية التربوية أنَّ الفرد الذي يدعى يجب أن تتركز الجهود
التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله تعالى
وبمنهجه القويم، وألا يتعلق بالبشر؛ لأنَّ البشر من الممكن أن يتغيروا، ولكن الله
الحي الذي لا يموت يُغيِّر ولا يتغيَّر كما قال سبحانه: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]
(الرحمن: 29) .
وإنَّ مشكلة التعلق بالأشخاص لها سلبيات منها: أن الفرد يتغير بتغير المتعلق
به، ولذلك جاء القرآن ليقرر هذه الحقيقة الأولية حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق
بالأشخاص ولو كانوا رسلاً. ففي سورة آل عمران وهو يتحدث عن غزوة أحد
يقول سبحانه: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: 144) يقول أحد الباحثين: «وكأنما أراد الله سبحانه
بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى
الله عليه وسلم وهو حيٌّ بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع النبع الذي لم يفجِّره محمد
صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق،
كما أومأ إليه من قبله الرسل، ودعوا القافلة للارتواء منه؛ وكأنما أراد الله
سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة،
وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط، حتى يستشعروا تبعتهم
المباشرة التي لا يخليهم عنها أن يموت الرسول أو يقتل فهم؛ إنما بايعوا الله، وهم
أمام الله مسؤولون، وكأنما كان سبحانه يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة
الكبرى حين تقع، وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم، فشاء أن
يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم
الدهش والذهول» .
ويضيف قائلاً: «والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد
كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً،
الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة، وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه
بظهره، والنبل يقع عليه ولا يتحرك، ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه
ويستشهدون واحداً إثر واحد، وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان
يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من
مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم، هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب
منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها
للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت؛ إنَّ الدعوة أقدم من
الداعية» .
وكما كان القرآن يربي الصحابة والأمة من بعدهم على التعلق بالمنهج وذم
التعلق بالأشخاص، كذلك كان صلى الله عليه وسلم هذا منهجه، ومنهج كل من دعا
إلى الله على بصيرة، وإليك بعض النماذج:
1 - عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم موعظة وَجِلَتْ منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول
الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا! قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة،
وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات
الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة « [1] .
الشاهد قوله:» كأنها موعظة مودع «،» فعليكم بسنتي «فربما كان قد وقع
منه صلى الله عليه وسلم تعريض في تلك الخطبة بالتوديع، وأنه مغادر الحياة،
فأوصاهم بالتعلق بسنته بعده، وقول الصحابة:» فأوصنا «فيه أنهم لما فهموا أنه
مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده.
2 - في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
» لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا.. « [2]
فأوصاهم بأخذ سنته واتباع هديه الذي هو الدين الذي بلغه عن ربه؛ ففيه تعليق
الصحابة بمنهج الله، وتربيتهم على ذلك وهو حيٌّ بين أيديهم.
3 - جمعه الناسَ بماء بين مكة والمدينة يسمَّى خُمّاً، وخطبهم فقال:
» يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب « [3] ثم حض
على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته. الشاهد تعريضه بأنه مغادر الحياة،
وحضه بالتمسك بكتاب الله وبمنهج الله.
4 - خرج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال:» أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث
مرات ولا نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة
النار وحملة العرش، وتُجُوِّز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما
دمت فيكم؛ فإذا ذُهِبَ بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه « [4] .
الشاهد قوله:» فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله «. فلم يعلقهم بنفسه الشريفة
ولا بذاته إنما علقهم بكتاب الله وبمنهج الله؛ وفي هذا تربيتهم على التعلق بالمنهج.
يتضح مما سبق من هذه الأحاديث كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يوجه الصحابة ويحضهم ويعلقهم بمنهج الله الذي هو الكتاب والسنة ولم يكن يعلقهم
بشخصه وذاته.
وكان يربيهم على هذه الحقيقة الأولية وهو بين ظهرانيهم، ويركز عليها
ويذكرهم بها في أكثر من موقف كما سبق؛ وما ذاك إلا لأهمية هذه الحقيقة التي
ربما يغفل عنها الناس؛ فكان الواجب تذكيرهم والتركيز عليها.
وأيضاً لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يربي بعضهم بعضاً، ولا غرابة
في ذلك؛ فقد رباهم صلى الله عليه وسلم على ذلك من قبل، ويذكِّر بعضهم بعضاً
بهذه الحقيقة المهمة حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص؛ فمتى جنحت
العاطفة نحو الأشخاص ضعفت النفوس وتقهقرت، ويظهر ذلك فيما يلي:
1 - قال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس:» أن أبا بكر خرج
وعمرُ يكلم الناس، وقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر: أما بعد: فمن كان يعبد
محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]
(آل عمران: 144) . قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية
حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم؛ فما أسمع بشراً من الناس إلا
يتلوها «، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال:» والله! ما هو إلا أن
سمعت أبا بكر تلاها فعرقتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى
الأرض «.
2 - قال ابن أبي نجيح عن أبيه:» إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل
من الأنصار يتشحط في دمه فقال له: يا فلان، هل شعرت أن محمداً صلى الله
عليه وسلم قد قتل؟ وكان ذلك في أحد فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد
بلَّغ. فقاتلوا عن دينكم « [5] .
3 - في غزوة أحد لما انهزم الناس لم ينهزم أنس ابن النضر رضي الله عنه
وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين
والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال:
يا سعد، واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، فقاتل حتى قتل، ووُجِد به بضع
وسبعون ضربة، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه.
إنه من واجب المربين ومن هم في موضع القدوة أن يربوا أتباعهم على
التعلق بالله وعدم التعلق بالأفراد.
مظاهر التعلق بالأشخاص:
1 - ترك الالتزام بعد موت المربي أو سفره أو سجنه.
2 - ترك العمل لهذا الدين بابتعاد المربي عنه.
3 - عدم الصبر على مفارقته.
4 - مقابلة أقوال المربي غير الصائبة بأقوال من تأخذ الأمة الفتوى عنهم.
5 - التساهل في الكثير من الأخطاء بحجة أن المربي يعملها.
6 - تعظيم المربي ومدحه وإطراؤه والثناء عليه إلى درجة الغلو.
7 - التسويغ الكثير لأخطاء المربي، وعدم قبول أن المربي قد يخطئ بل
يُجعل دائماً هو المصيب بلسان الحال أو المقال.
8 - عدم مناقشة المربي في بعض القضايا التربوية التي لم يفهمها المتربي
بحجة أن مربيه قد يغضب عليه عندما يناقشه.
9 - عدم الوضوح في كثير من قضاياه وأموره بحجة أن المربي ربما يتغير
تجاهه.
10 - التخفي في عمل بعض الأمور التي لا تنبغي فضلاً عن المعاصي
بحجة أن المربي يغضب عليه وتتغير نظرته له.
11 - التحرج من أن يعرف المربي أموره الخاصة حتى لا تتغير نظرته له.
12 - الطاعة العمياء للمربي في خطئه.
13 - نصرة مربيه عند الآخرين حتى في خطئه.
14 - تقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح والديه وأهل بيته.
15 - تقليد المربي في بعض الصفات المذمومة (عشوائية تهور عجلة
فوضوية) .
16 - الانصدام بواقع المربي إذا حصل منه خطأ مما يسبب له النكوص،
فيجعل زلة المربي سبباً في الابتعاد عن الحق، وكان الإمام سفيان بن عيينة يطلق
على مثل هؤلاء الذين يجعلون زلات القدوات والمربين سبباً للابتعاد عن الحق
صفة: (الحماقة) فقد لاحظ أحدهم منه خشونة وشدة على طلبته فتجرأ وسأله:
» إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا ويتركوك «
فرد عليه:» هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي «. فأراد سفيان
أن يفهم السائل القاعدة التي هي: (التعلق بالحق وترك التعلق بالأفراد) ،
فالمربي والقدوة لا يعني أنه هو الحق وهو الدعوة، وفرق أن يوجد عيب أو زلل في
المربي أو أن يوجد الزلل والخطأ في الحق.
أسباب داء التعلق بالأشخاص:
لبعض الأشخاص صفات شخصية من أهمها:
1 - بروز الصفات الجاذبة عند المربي (الخطابة العلم الذكاء ... ) .
2 - كثرة الجلسات غير الهادفة والمبنية على تجانس الطبع.
3 - فقدان القدوة منذ النشأة الأولى.
4 - عدم ربط المتربي بالقدوة المعصوم صلى الله عليه وسلم.
5 - عدم ربط المتربي بالاتصال بالله والتعلق بدين الله.
6 - تغليب جانب العاطفة في التعامل مع المتربي وتحكيمها.
7 - عدم التركيز على بعض المفاهيم الدعوية التربوية مثل: (الفرق بين
حب الله وحب الأفراد، وبين الحب في الله والحب مع الله) .
8 - عدم تحذير المتربين من خطورة التعلق بالأشخاص.
9 - التسويف في التحذير من خطورة التعلق بالأشخاص بحجة اجتذابه وعدم
تنفيره، والزعم أنه في أول الطريق.
10 - عدم انتباه المربي لهذه المشكلة مما يجعل الأمر مستفحلاً.
11 - عدم مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة.
12 - تزيين الشيطان للمربي بأنه مهم وجذاب مما يغبِّش عليه خطورة هذه
المشكلة.
13 - الخلل في عملية تقييم الأفراد.
14 - إهمال جانب التربية الذاتية وتغليب جانب التربية الجماعية على
الفردية.
آثار داء التعلق بالأشخاص:
1 - ترك الالتزام بالكلية بعد موت المربي أو سجنه أو سفره.
2 - ترك العمل لهذا الدين ببعد المربي عنه.
3 - الوقوع في معصية الغلو والتعظيم.
4 - الوقوع في كثير من الأخطاء.
5 - الوقوع في معصية الوالدين بتقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح
والديه.
6 - فقدان شخصيته المتميز بها.
7 - إخراج جيل هش تستملكه العواطف.
8 - جعل العاطفة هي الحكم في كثير من القضايا.
9 - عدم قبول العمل لهذا الدين في بيئة بعيدة عن بيئة مربيه.
10 - الرياء وعدم العمل إلا بمرأى من مربيه.
11 - عدم نصح المربي إذا أخطأ.
12 - الوقوع في التهور والعجلة والفوضوية المرتسمة في مربيه.
علاج داء التعلق بالأشخاص:
1 - التركيز في السنوات الأولى للعملية التربوية على معاني التعلق بالله
وحده، والمعنى الحقيقي للحب في الله.
2 - التركيز على الأصول الإيمانية ومعاني الشرك وخاصة في المحبة.
3 - الحث على صبغ الجلسات الخاصة بين الأفراد بالأهداف القيمة.
4 - مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة وعدم الانتظار حتى يتفاقم
الأمر.
5 - انتباه المربي لهذه المشكلة وتحذيره الدائم للفرد من خطورة التعلق
بالأشخاص.
6 - تكرار التقويم للأفراد حتى تتسنَّى معالجتهم قبل استفحال الأمر.
7 - مناقشة مثل هذه القضية في جلسة نقاش مفتوحة يشترك فيه جميع الأفراد.
8 - تعليق الأفراد بالله وبمنهجه.
9 - ربط المتربين بقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
10 - التركيز على جانب التربية الذاتية.
11 - التركيز على جانب الإخلاص وأن العمل لا يكون إلا لله، وما كان لله
فهو الذي يبقى، وما كان لغيره فإنه يفنى.
12 - بث روح العمل لهذا الدين في أي مكان وزمان كان.
وأخيراً.. اعلم:
1 - اعلم أن من الأخطاء في العملية التربوية التعلق بالأشخاص وضعف
التعلق بالمنهج.
2 - اعلم أن القرآن الكريم قد قرر هذه الحقيقة، وهي حقيقة التعلق بالمنهج
ونبذ التعلق بالأشخاص، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا هو منهجه
ومنهج كل من دعا إلى الله على بصيرة من الصحابة ومن تبعهم.
3 - اعلم أن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء.
4 - اعلم أن الدعوة أقدم وأبقى من الداعية.
5 - اعلم أن منهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى
الناس.
6 - اعلم أن الجهود يجب أن تتركز في توثيق صلة الناس بربهم.
7 - اعلم أن البشر من الممكن أن يتغيروا ولكن الله الحي الذي لا يموت يغير
ولا يتغير.
بارك الله في الجهود، وسدد الله الخطا، ورزقنا الله الإخلاص في القول
والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب السنة، ح (3991) ، والترمذي، كتاب العلم، ح (2600) ، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه مسلم، كتاب الحج، ح (2286) ، والنسائي كتاب مناسك الحج، ح (3012) واللفظ له.
(3) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة، ح (4425) .
(4) أخرجه أحمد، ح (6318) .
(5) رواه البيهقي في دلائل النبوة.(157/36)
وقفات
من وحي الانتفاضة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
منذ أن بدأ الصراع العربي الإسرائيلي في منتصف الأربعينيات الميلادية
والهوية الحقيقية للصراع مغيَّبة عن الأمة؛ فمن الشعارات القومية التي تعالت
صيحاتها من الخليج إلى المحيط، والتي تمخضت أخيراً عن شعار الحرب العربي:
(ارْمِ سلاحك وانسحب!) .. وإلى شعار: (سلام الشجعان!) . لقد جهد هؤلاء
العلمانيون في تزييف وعي الأمة، وخداعها بالمزايدات الإعلامية، ونصبوا لها
تمثالاً من الوهم، وراحوا يسبحون بحمده ويقدسون..!
حتى في ثنايا النكبات والدماء التي ملأت أرض الإسراء في الانتفاضة
الإسلامية الأخيرة، ما زالت الشعارات المجدبة المقفرة تقفز هنا وهناك، ترقص
على جراح الأمة، وتزايد عليها، وكأني باليهود يخاطبوننا بقول حافظ إبراهيم:
قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملؤوا الدنيا كلاما!
انتفاضة الأقصى رسالة إلى بني صهيون تذكِّرهم بأن جيل العزة والشموخ لم
يمت بحمد الله؛ فقد ظهر النور من جديد وعرف الناس حقيقة المعركة، وأن أبناء
جيل (عبد الناصر) و (ميشيل عفلق) و (أنطون سعادة) قد ولَّى، وجاء جيل
جديد تربى على آيات الأنفال والتوبة وآل عمران، وراح يردد بكل ثقة:
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليلَ النهارُ!
انتفاضة الأقصى رسالة إلى المهزومين من دعاة التطبيع تخبرهم بأن النفوس
الأبية الصادقة المتعطشة لنور الحرية قد عرفت طريقها، فرُبَّ حجر في كفِّ طفل
مستضعف أنكى في العدو من مؤتمرات تعقد، وقرارات تستنكر وتشجب.. ربّ
حجر يُقذَف باسم الله تعالى تحوطه تكبيرات الصادقين أبلغ في زعزعة كيان العدو
من أسلحة مهترئة تُرفَع باسم العروبة، فلا تلبث أن تسقط وتتهاوى؛ فقد نخرها
الصدأ وعلاها الوهن.
علمتنا انتفاضة الأقصى أن العقيدة الإسلامية إذا رسخت في القلب أثمرت يقيناً
راسخاً لا تهده الجبال، وعزيمة صادقة لا تردها الأعاصير، وإقبالاً سريعاً على
الموت في سبيل الله لا يعوقه الفزع أو الجبن.
أنا من ربوع القدس طفل فارسٌ ... أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلمُ
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي ... أن العقيدة قوةٌ لا تُهزَمُ [1]
انتفاضة الأقصى أظهرت عوار الاتفاقات والمعاهدات التي يتشدق بها أدعياء
السلام، وذكّرت الأمة بقول الله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (البقرة: 100) .
انتفاضة الأقصى بيَّنت حقيقة زعماء الوطنية الذين تتكشف سوءاتهم يوماً بعد
يوم، [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ] (المائدة: 13) ، عرف
الناس أن هذه الزعامات معاول هدم ترمي إلى وأد الانتفاضة، أو تغيير مسارها،
أو قطف ثمارها، ولهذا ليس غريباً أن يقول المفكر اليهودي (ياحوشفات هاركابي)
في كتابه العقل العربي: «إن العرب هم أفضل أداة وأمضى سلاح لقتل فكرة
المقاومة!» .
إن دهشتنا بلغت الذروة ونحن نسمع بعض من يسمون بالنخب المثقفة ودعاة
التطبيع يصرون على تجديد العهد على هذا المسار، على الرغم من الأشلاء
المتناثرة على عتبات المسجد الأقصى..!
ألا فليثق هؤلاء المهزومون أنهم لن يروا حقاً ينتصر، أو أرضاً تعاد، أو
كرامة ترتفع، ما داموا يتسترون وراء أقنعتهم الرقيعة، وأكاذيبهم الهزيلة..!
وصدق الرافعي إذ يقول: «إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس
كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم» [2] .
دربٌ سلكناه والرحمن غايتنا ... ما مسنا قطُّ في لأْوائه ندمُ
نمضي ونمضي وإن طال الطريق بنا ... وسال دمعٌ على أطرافه ودمُ
يحلو العذابُ وعين الله تلحظنا ... ويعذُب الموت والتشريد والألمُ [3]
__________
(1) من شعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي، ديوان: (شموخ في زمن الانكسار) .
(2) مجلة الرسالة، العدد (84) ، ذو القعدة 1353هـ.
(3) من شعر الأستاذ عصام العطار، انظر كتابه: (كلمات) ، ص (536، 556) .(157/40)
نص شعري
الحقيقة الْمُرَّة في مقتل الدُّرَّة
فيصل محمد الحجي
قصة مقتل الفتى الفلسطيني محمد جمال الدُّرَّة على يد المجرمين الصهاينة،
وهو يحتمي بوالده، أصبحت على كل لسان؛ فقد نقلتها مراراً كل وسائل الإعلام
المرئية والمسموعة والمقروءة.
ولم تكن حادثةُ قتل «الدُّرَّة» فريدةً في نوعها، وإنما كانت نموذجاً لحوادث
قتل كثيرة مثلها، بل أبشع منها، وهي من جملة الأدلة الكثيرة الواضحة على حقد
اليهود ووحشيتهم على مَرِّ التاريخ.
كما نقلتْ بعضُ وسائل الإعلام قصة الفتى المصري أحمد شعراوي (12 سنة)
الذي أخبر زملاءه أنه ذاهب ليشارك في الانتفاضة، وَفَرَّ من أهله في القاهرة،
وركب الحافلة إلى العريش حتى وصل إلى الحدود المصرية الفلسطينية، فأمسكت
به دورية الحدود وهو يحاول اختراق السلك الشائك، فطلب من الضابط أن يسمح
له بالعبور حتى يشارك إخوانه في جهاد اليهود، فاحتجزه الضابط وأخبر أهله
فحضروا وأخذوه. كما تحدثت بعض وسائل الإعلام عن قصة مماثلة للفتى الأردني
البراء محمود.
ويبقى السؤال الأخير: أبلغ اليهود ما بلغوه من الغطرسة بقوتهم، أم بفساد
الوضع العربي والإسلامي؟ الجواب شرحه يطول، وإليكم الموجز:
أدِيمي يا جراحاتي أدِيمي ... نزيفاً سال في الزمنِ الوَخيمِ
فلا يَبْقى لكي يصحوْ نيامٌ ... عن الْجُلَّى سوى الْجُرْحِ الأليمِ
قد احتكر السيوفَ به رجالٌ ... بَدَوْا عندَ الشدائد كالحريمِ
لِمَ احتكروا السيوفَ؟ ألِلْمَعَالي ... وَهُمْ رَهْنُ المذلَّةِ كاليتيمِ؟
قد احتكروا السيوفَ لكي يصونوا ... كراسيَهم من الشعب الْمَضِيمِ
قد احتكروا السيوفَ وأَلْجَمُوها ... فصُومي يا سيوفَ الذلِّ صومي
عصاباتُ الْوُصُوليِّينَ سَادَتْ ... مُذِ الْتَفَّتْ على وَغْدٍ زَنِيمِ
سَليلُ خيانةٍ وَرِثَ المخازي ... وكان ربيبَ تاريخٍ دميمِ
وَحَفْنَةِ عسكرٍ مَكَرُوا بِلَيْلٍ ... وقد وثبوا على القصرِ الْحُكُومي
وصاروا سادةَ الأوطانِ قَهْراً ... وأقْصَوْا سادةَ الْعَهْدِ الْقَديمِ
كذا احتكر السياسةَ جاهلوها ... فما عَرَفُوا الصحيحَ مِنَ السقيمِ
وقد حَشَرُوا الأنوفَ بكلِّ شأنٍ ... سوى شأنِ الدفاعِ أو الهجومِ
فما حَفِظُوا البلادَ مِنَ الأعادي ... ولاَ ردُّوا المظالمَ مِنْ ظَلُوم
وأدْنَوْا كلَّ مرتزقٍ جهولٍ ... وأَقْصَوْا كلَّ ذي عقلٍ عليمِ
وَلانُوا لليهودِ وللنصارى ... وَخَصُّوا المسلمين بكلِّ شُومِ
فراعينُ الشعوبِ ألا تراهم ... أرانبَ في مجاراةِ الخصومِ؟
إذا لم يهزموا الأعداءَ يوماً ... فما معنى التباهي بـ (النجومِ) [1] ؟
وما جدوى الْحِذارِ منَ الأعادي ... إذا خانَتْ نواطيرُ الكرومِ؟
بَنَوْا لمكارمِ الأخلاقِ قبراً ... كأنهمُ تربَّوْا في سَدومِ
فلا تعجبْ إذا فَرِحَ الأعادي ... وَبِتْنَا في المصائبِ والهمومِ
محمدُ دُرَّةَ الشهداءِ قُلْ لي: ... مَنِ الأنكى عليكَ مِنَ الخصومِ؟
أَمَنْ طعنوكَ تحتَ الشمسِ جهراً ... كَمَنْ طعنوكَ في الليلِ البهيمِ؟
وَمَنْ خذلوكَ في كلِّ السرايا ... وقد وعدوكَ بالنصر العظيمِ
وَمَنْ بَخِلوا عليكَ بنصلِ سيفٍ ... فهل يبقى سوى الْحَجَرِ الكريمِ؟
وَمَنْ مَنَحُوا الصهاينةَ اعترافاً ... وقد طعنوا القضيَّةَ في الصَّميمِ
وَمَا انحازوا لإسلامٍ وَعُرْبٍ ... كما انحازوا إلى فُرْسٍ وَرُومِ
فما وَرِثُوا الديانةَ عن قريش ... ولا وَرِثوا الشهامةَ عن تميمِ
فَمِنْ حَقِّ الحجَارةِ أن تُناديْ ... وتغضبَ مِن تخاذلِنا العقيمِ:
إلام نضيع الطاقات هدرا ... ونمشي خَلْفَ غِربانٍ وَبُومِ؟
إلام تظل أظهرنا عرايا ... لِطَعْنِ مُدَى الجبانِ المستديمِ؟
إلام نرى الحقائق في خفاء ... وقد راجَتْ أباطيلُ الخصومِ؟
إلام نظل في الأحداث عميا ... ولا نَرْنُو إلى الخطر الجسيمِ؟
أتمحى القدس من قاموس قومي ... لِنَعْقِد قِمَّةً في أُوْرشَليمِ؟
ويغدو المسجد الأقصى خرابا ... لهيكلِ حاقدٍ قَذِرٍ أثيمِ؟
جِراحاتُ الشبابِ لها سُؤالٌ ... يُوَجَّهُ للغَيُورِ وللفهيمِ:
أليس لنا صلاحُ الدينِ ثانٍ ... يسيرُ بنا إلى النصرِ العظيمِ؟
أليسَ له سِوانا مِن حفيدٍ ... يُوَحِّدُنا على الدربِ القويمِ
يسيرُ بنا إلى حِطّينَ فجراً ... وَيُمْسي القدسَ بالزحفِ الكريمِ؟
أَجَلْ.. أحفادُهُ كُثُرٌ.. ولكنْ ... هُمُ في ظُلمةِ السجنِ البهيمِ
رأى (التطبيعُ) دَفْنَهُمُ جميعاً ... مع الأحياءِ في السجنِ العمومي
بلا طِبٍّ.. بلا دفءٍ شتاءً ... بلا نومٍ يُريحُ ... بلا نسيمِ
صباحَ مساءَ خُبْزُهُمُ سِياطٌ ... تُقَطِّعُهمْ بلا قَلْبٍ رحيمِ
سِهامُ الموتِ أنواعٌ.. ومنها: ... غذاؤهمُ الملوَّثُ بالسُّمومِ
يكاد الموتُ يحصدهم.. فَبَارِكْ ... أيا (باراكُ) لِلْخِلِّ الْغَشُومِ
فلو أمسى صلاحُ الدين فينا ... لَبَاتَ بسجنِ شيطانٍ رجيمِ
وتسألُ: هل جَنَوْا؟ فيجيبُ وَغْدٌ: ... أَجَلْ.. قد خالفوا أمْرَ الزعيمِ
فهم قد آمنوا باللهِ حقَّاً ... وَسُنَّةِ أحمدَ الهادي الحكيمِ
وما التزموا برُوحِ العصرِ يوماً ... مُذِ التزموا بقرآنٍ كريمِ
وهذا مَارَسَ (الإرهابَ) لَمّا ... دَعَا لجهادِ (باراكَ) الوسيمِ
وذا (متطَرفٌ) في الدين.. يدعو ... لِحُكْمِ الشرعِ فينا ... كالقديمِ
وثالثهم (أصوليٌّ) .. وهذا ... بلا رأيٍ.. ولا عقلٍ سليمِ
وما حَفِظوا لإسرائيل أمناً ... وقد عَدُّوا السلامَ مِن السُّمومِ
كذا يغدو جمالُ الحقِّ قُبْحاً ... وأصحابُ الحُلوم بلا حُلُومِ
محمدُ درةَ الشهداءِ أَبْشِرْ ... رِفاقُكَ ما استكانوا لِلْخُصومِ
دروسُ التضحياتِ بكلِّ يومٍ ... قد انتقلَتْ إلى الطفلِ الفطيمِ
وعُشَّاقُ الشهادةِ قد أحالوا ... حياةَ بني يهودَ إلى جحيمِ
قلوبُ المسلمين تفور غيظاً ... وتدعو للدفاعِ عن التَّخومِ
إذا نَفِدَتْ حجارتُكم.. فنادوا: ... إلينا يا جنادلَنا.. وَقُومِي
سَتَأتي أَقْدَسُ الأحجارِ غَضْبى ... بكعبتِنا الشريفةِ والحطيمِ
وتلك حجارةُ (الأُمَوِيِّ) لهفى ... إلى حِطِّينَ.. تحيا كالرميمِ
و (أزهرُنا) العريقُ به صُخُورٌ ... تكادُ تطيرُ مِن فوقِ الغيومِ
وكلُّ مساجدِ الدنيا اشرَأبَّتْ ... لِتَرْفِدَكم بأشلاءِ الرَّضيمِ [2]
وهذا (أحمدُ) المصريُّ لَبَّى ... نداءَ المجدِ في الأقصى العظيمِ
مشى.. ومشى التحدِّي في خُطَاهُ ... مُعِدَّ النفسِ للأمرِ الجسيمِ
لعلَّ الله يجعلُه شهيداً ... يفوز غداً بجناتِ النعيمِ
ولم يذهب لشرمِ الشيخِ حتى ... يُطأطئ للرجالِ وللحريمِ
و (محمودٌ) من الأُرْدُنِّ وافى ... يناجي الانتفاضةَ: لن تنيمي
هَوَاهُ القدسُ.. مشتاقٌ إليها ... إلى فتيانِها الْغُرِّ الْقُرومِ [3]
بنفسي أيُّها الأقصى المُفَدَّى ... بأرواحِ الأشاوسِ والْجُسومِ
مُصَلَّى الأنبياءِ على إمامٍِ ... له الإسراءُ فالمعراجُ يومي
سنرفعُ رايةَ القرآن.. تعلو ... على التلمودِ والعهدِ القديمِ
فَطُوبى للمجاهدِ في رُباها ... وقبحاً للمخذِّلِ والنَّؤُومِ
لنا القدسُ الشريفُ وما تَلاهُ ... لنا الأقصى على رَغمِ اللئيمِ
لنا المستقبلُ المرموقُ حتماً ... بوعدِ الصادقِ القولِ الكريمِ
رضينا الحُسْنَيَيْنِ: نَنَالُ نَصراً ... أو السكنى بجنَّاتِ النَّعيمِ
أقولُ لأُمَّتي والأمرُ جِدٌّ ... وأوجُهُنا الحزينةُ في وُجُومِ:
إذا الأوطان لم تُعْلِنْ جهاداً ... يَصُونُ فَلَنْ تدومَ ولن تدومي
__________
(1) النجوم: الرتب العسكرية للضباط.
(2) البناء بالصخر.
(3) القروم: جمع قرم، وهو السيد.(157/42)
البيان الأدبي
الورد والهالوك وقفة مع شعراء الحداثة في مصر
د. حسين علي محمد
ظهر في مصر منذ السبعينيات جيل جديد من الشعراء أقله يجدد في تؤدة،
ولا ينفصل عن تراثه، ويُعانق هموم بلاده وعالمه الإسلامي، ويفيد من إنجازات
القصيدة المعاصرة دون أن يفقد اتصاله بالشعر العربي الذي أنجزته أمته خلال
خمسة عشر قرناً، ومعظمه يقطع أي صلة بالمنجز الشعري العربي، ويهرف بما
لا يعي، ويكتب نثراً «يظنه بل يسميه! ! شعراً» ، ويعادي عقيدة الأمة، ولا
يعبأ بمقدساتها، ويعبث بكل شيء: المقدَّس، والتراث، واللغة، وجسد الأنثى!
عن هذه الظاهرة كتب الدكتور حلمي محمد القاعود في 240 صفحة من القطع
المتوسط كتابه «الورد والهالوك: شعراء السبعينيات في مصر» الذي صدر عن
دار الأرقم بالزقازيق في مصر [1] ، ويهديه: «إلى عبده بدوي: الشاعر
والإنسان» .
وقد درس في القسم الأول «شعراء الورد» : أحمد فضل شبلول، وجميل
محمود عبد الرحمن، وحسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وعبد الله السيد
شرف.
وقال المؤلف عن أسباب اختياره لهؤلاء الشعراء الخمسة: «اخترت الخمسة
الأوائل من شعراء الأصالة للدراسة في السِّفْر الأول من هذا المبحث، وركزت
على أبرز الظواهر في الرؤية والفن عند كل منهم، مستخلصاً في النهاية العناصر
المشتركة التي تجمع بينهم، وتمثل قاسماً مشتركاً يدخل في نسيج أشعارهم،
والخمسة الأوائل من الذين لا يعرفون أضواء العاصمة، ولا يملكون سنتيمتراً مربعاً
في صحافتها أو مجلاتها. ولا يعرفون الطريق إلى منتدياتها ومهرجاناتها، وهم في
الوقت نفسه لم يحاولوا الانتماء إلى قبيلة أدبية أو عشيرة ثقافية تتبنى إنتاجهم وتدعو
إليه» [2] .
ينطلق هؤلاء الشعراء من خلال «رؤية عامة تهتم بالقضايا الكبرى التي
تشغل الأمة والوطن، وتؤثر في مسيرته سلباً وإيجاباً. وهذه القضايا تسبق ما هو
ذاتي وشخصي لديهم بخطوات كثيرة، مما يعني انصهارهم في بوتقة الواقع
وتواصلهم معه وانتماءهم إليه. وهم في معالجتهم لهذه القضايا يرتكزون على
تصور واضح وصريح ينتمي إلى هوية الأمة الحضارية، ولا يتنكر لها، وقد رأينا
التصور الإسلامي الناضج حاضراً وساطعاً في أشعارهم مما يعني أن هذا الجيل
يملك مفاتيح الرؤية الحقيقية الناضجة التي ترفض الانسلاخ والتبعية والتبشير
بالولاء للغير، كما ترفض الغمغمة واللجلجة والدمامة الفكرية التي تعتمد على
التراث الباطني، ومضمونه التخريبي» [3] .
ويعبر هؤلاء الشعراء عن ملامح الهوية الإسلامية الكامنة في ذلك السر الذي
يقوم على الجسارة ويزايل الخوف والتردد، والذي كان في البدء وما زال ترويه
الدماء. يقول صابر عبد الدايم في قصيدة: «المسافر في سنبلات الزمن» [4] :
كنتُ وحدي والتواريخ وأمشاج الليالي
في ظلام الرَّحم الكونيِّ تنمو وتُشكَّلْ
كنتُ وحدي وبعرش اللهِ آفاق تُظلّلْ
واندلاعُ السِّرِّ من جوفيَ كان الصَّرخة الأولى
لطفل العنفوانْ
كان في البدء وما زال تروّيه الدماءْ
طالما أسقيه ذاتي وأنا سرُّ البقاءْ
راحلاً عنهُ لألقاهُ وأحيي في بواديهِ النَّماءْ
وتفتَّحْتُ بعينيْهِ زهوراً،
ونبوءاتٍ،
وأمطاراً،
وجنَّاتِ إباءْ [5]
ويقول صابر عبد الدايم في قصيدته «أسماء: الثورة، والعطاء،
والتحدي» :
أسماءْ
في لُبِّ الأغصانِ نداءْ
لم يُصغ لسيْفِ الحجّاج الغارق
في بُركان دِماءْ
لمْ تهتزَّ جذورُ الحقل أمام الإعصار الأمويِّ
المصبوغ بأشلاءِ ابن عليّ
عيناها اختزنتْ كلَّ تجارب رحلتها
لليوم الموعودْ:
عبدَ اللهْ!
لا حاكمَ إلا الله
لا تُعط السارقَ بُستانَكْ
لا تتركْ في وجهِ الإعصار الأهوج أغصانَكْ
صغْ من أوتار هداكَ رماحاً
تُفني منْ يخنقُ ألحانَكْ
واجعلْ منْ نبضِ يقينِكَ صاعقةً
تنقضُّ على من يغتال اللحظة إيمانَكْ [6]
إن صابراً يتكئ على التراث هنا ليعانق هموم الحاضر، وليكون أكثر جرأة
في تناولها.
ومن الملاحظ على شعراء الورد أنهم يمتلكون كما يقول المؤلف: «قدرة
ملحوظة على الأداء الشعري من خلال الشعر العمودي، وإن غلب على معظمهم
النظم من خلال شعر التفعيلة، ويرتفع مستوى بعضهم إلى درجة عالية، مما يؤكد
على أصالة الشعراء أولاً، ويؤكد ثانياً على قدرة الشعر العمودي حين تتوافر
الموهبة والثقافة والوعي على حمل الرؤية الشعرية المعاصرة بأبعادها المختلفة،
وعناصرها المتعددة» [7] .
ودرس في القسم الثاني «شعراء الهالوك» الذين يمثلون كما يقول المؤلف:
«حالة من الادعاء والاستعلاء والعدوان في الواقع الشعري والاجتماعي المعاصر؛
فهم كالهالوك متسلقون، لا يملكون قدرة على العطاء ولا المنح؛ لأنهم عالة على
عناصر وأدوات وظروف غير شعرية بالمرة جعلت لحركتهم ضجيجاً يصم الآذان،
وما يقولونه عبر الآلة الإعلامية الرسمية لا قيمة له؛ حيث هو ثرثرة عقيم؛ لا
تبشر بأي جديد، ولا تعطي إضافة مفيدة» [8] ، ومن هؤلاء (الشعراء) : حسن
طلب، وأمجد ريان، ومحمد فريد أبو سعدة، وأحمد زرزور، وجمال
القصاص، ومحمد بدوي.
يقول أحدهم:
الأرض إمكانية واحدة
أنت تمر فوقها
كالغيم
من مصطبة
إلى مصطبة
تجلس في أروقة الشيوخ
تشهد الأطفال يكبرون
لكي تخط في حلوقهم
مشروعك الدائم
أن يحرروا جسومهم
بالموت
والمكوث فوقها
هذا الشاعر المليء
بالصفائح الفارغة
بالمنازل الفارغة
الصبيان
والبنات
والمعلمين
الكتل البيضاء من عظام الجد
والغاليوم
كافة المهدئات [9]
إنه كلام بلا معنى، لا يقول شيئاً.
ويقول آخر في نموذج سماه: «فهرس» (مع ملاحظة أنه لا توجد أخطاء
مطبعية) :
تقف البدائيات قرب سفائن الشحن المرام
أتى الصدام بالمرتجى يا بنت
دست رأسها جنب الحقائق
وهي تغلب فكرة رفت على شفة المؤرخ
كان رأس الصقر متسقاً مع العنق المُنَزَّل
صار جمر الكاشفات خبيئهن محركاً للموريات
وجلد بنتي مرهفاً بالكهرمان
أنا وأنت مؤيدان بمحنة
من صنع باب النصر [10]
ويقول آخر مجسداً الله (بأنه يجلس في الكعبة، ويوزع الخبز، ويمسح دموع
المنكسرين! !) في قصيدة بعنوان: «باب مكة» (محاكياً تصورات امرأة
تكرونية كما يتخيل! !) :
وتهمس في أذنيها الأمواجُ:
هناك بمكة بئر الله
وحجر الله
وأن الله هناك
يجلس وسط ملائكة سوداء
يوزع بين المقهورين الخبز
ويمسح بالجلباب دموع المنكسرين [11]
وفي قصيدة أخرى يقول عبد المنعم رمضان، وهو كما يقول المؤلف:
«يعبث بالذات الإلهية بطريقة لا تحتمل التأويل أو الدفاع عنها» ، يقول:
سمعت صرخة
عرفت أن الله كان ها هنا
وإنني بإذنه
أنحل كالغمام
إنني بإذنه أسرق بعض الريش
«فهو يتعامل مع الذات الإلهية كما يتعامل مع رفاقه الذين يأتون ويذهبون،
ثم يسخر من الله تعالى الله عما يقول علواً كبيراً حين يجعل من إرادته ومشيئته
وإذنه وسيلة لينحل، أو يسرق» [12] .
ويشير الدكتور حامد أبو أحمد إلى نص آخر للمذكور يقول فيه:
وهأنذا واقف كالإله المريض [13]
ويعلق عليه قائلاً: «إن هذا الكلام متهافت، ومعنى ملفق، والفرق بين
التعبيرين واضح، والبون بينهما شاسع؛ فعندما يشبه الشاعر نفسه هنا بأنه واقف
كالإله المريض، أو واقف كالإله يكون في مجال التعميم، ولعله يشبه نفسه بآلهة
الأساطير أو آلهة الوثنية، ولكنه عندما يحدد اللفظ بكلمة (الله) ندخل من مجال
التعميم إلى التخصيص، وتصبح المسألة كلها تلفيقاً لا معنى له، وخيالاً مريضاً،
وعنجهية كاذبة، خاصة إذا كانت القصيدة في حد ذاتها متهافتة لا قيمة لها» [14] .
«وأشد المتعاطفين معهم، وعرَّابهم أحمد عبد المعطي حجازي يقول في
كلمة عنهم كما ينقل القاعود عنه:» التعمية المجانية وتكلف الإبهام، وإعفاء النفس
من معرفة اللغة واحترام القارئ، وطلب الرضا من خارج الحدود نوع من الرفض
الذي يعدُّ انتحاراً، وليس الرفض الذي يعد نوعاً من النبل « [15] .
ويقول نزار قباني عن واقع القصيدة العربية التي صارت إليه على أيدي
أمثال هؤلاء:» إن القصيدة الجديدة تنتقل بتذاكر مرور مؤقتة، بعضها صالح،
وبعضها انتهت مدة خدمته، بعضها إنجليزي، وبعضها فرنسي، وبعضها مزدوج
الشخصية. وما لم تعثر القصيدة على جوازها العربي المناسب، فإن تشردها
سيطول « [16] .
ويقول عن فهم أمثالهم المغلوط للتجديد في كتابه» الكتابة عمل انقلابي «:
» إن الحرية الشعرية هي أخطر أنواع الحريات ولا سيما عندما تُعطى لمجموعة
من المجانين لم تكتمل أضراس العقل لديهم بعد، ولا يُفرقون بين الألف وعمود
التليفون، وبين الشاعر عمر بن أبي ربيعة والممثل عمر الشريف، وإنه لمن
المفارقة أن تكون كل الثورات الثقافية في العالم قد قامت على أكتاف المثقفين
والجامعيين، باستثناء الثورة الثقافية العربية التي يُراد لها أن تقوم على أكتاف
الفوضويين، والمشاغبين، وأنصاف الأميين « [17] .
بقي أن تعرف أن» الهالوك «نبات متسلق ينبت في شمال الدلتا بمصر،
لكن لا جذور له، فمن السهل اقتلاعه وتنظيف الأرض من شروره.
نحن لا نريد اجتثاث الآخر الهالوكي، بل نريد التبصير بخطره على الشعر
وعلى اللغة. وفي هذا السياق يأتي كتاب الدكتور حلمي محمد القاعود بعد خمسة
أشهر من كتابه:» الحداثة تعود «؛ ليؤكد أن الساحة ليست خلواً لنقاد الحداثة
وشعرائها، وأن النقاد المنتمين لهذه الأمة لديهم البصر والبصيرة ليبشروا بما يمكث
في الأرض، ويشيروا إلى الزبد والغثاء، ويُدلوا بشهاداتهم في هذا الزمان الأنكد
الذي استولى فيه الحداثيون والعلمانيون على مقاليد النشر؛ لكنهم لحسن الحظ لم
يتملكوا مقاليد الإبداع والنقد والتواصل مع روح هذه الأمة.
__________
(1) الطبعة الأولى، شعبان 1413هـ، فبراير، 1993م.
(2) د حلمي محمد القاعود، الورد والهالوك، الطبعة الأولى، شعبان 1413هـ، فبراير، 1993م، ص 6.
(3) المصدر السابق، ص 160.
(4) المصدر السابق، ص 112.
(5) المصدر السابق، ص 111، وانظر لصابر عبد الدايم: المسافر في سنبلات الزمن، ص 5.
(6) المصدر السابق، ص 123.
(7) المصدر السابق، ص 60.
(8) د حلمي محمد القاعود: الورد والهالوك، ص 165.
(9) المصدر السابق، ص 178، 179، نقلاً عن جريدة الحياة (لندن) ، العدد (9797) ، في
13/10/1989م، وصاحب هذا الكلام عبد المنعم رمضان.
(10) المصدر السابق، ص 180، 181، نقلاً عن» الصباحية «3/11/1990م، وصاحب هذا الكلام حلمي سالم.
(11) القصيدة لمحمد فريد أبي سعدة في مجلة» الثقافة الجديدة «، العدد (49) ، أكتوبر 1992 م، ص 62، انظر السابق، ص 208.
(12) المصدر السابق، 206.
(13) عبد المنعم رمضان: دمي صوب كل الجهات، البيان الكويتية، عدد 233 نقلاً عن السابق، ص 206.
(14) أدب ونقد، العدد (22) ، ص 140، نقلاً عن السابق، ص 206.
(15) كلمة أحمد عبد المعطي حجازي في الأهرام، 1/1/1992م، نقلاً عن السابق، ص 182.
(16) نزار قباني، ما هو الشعر، بيروت، 1981م، ص 186.
(17) الكتابة عمل انقلابي، بيروت، 1978م، ص 23.(157/46)
نص شعري
أمام صورة المسجد الأقصى
حفيظ بن عجب آل حفيظ
مساء النورِ يا أقصى..
مساء النورِ يا مسرى رسولِ اللهِ..
صلى اللهُ..
يا مهدَ الرسالاتِ
مساء النور يا روحَ
البطولاتِ..
مساء النورِ..
من قلبي، ومن ذاتي..
مساء النور يا بوابةَ التاريخِ..
والمجدِ..
ويا إشراقةَ الإسلامِ..
في أيامنا الرُّبْدِ..
مساء الخيرِ سلَّمناكَ..
لماذا لا يرى الأعداءُ إلاَّ المسجد الأقصى؟ !
وقدَّرنا..
وفكّرنا ...
وقرّرنا ...
وبعد سنينَ أدركنا..
بأنَّك مصدرُ العزّة..
وأنَّا حينَ سلَّمنَاك كُنَا نجهلُ المفهومَ والمنطوق، والقصة..
وسِرْنا نسألُ الأعداء..
نسترضي،
ونستجدي،
ونستهدي،
وحسبَ إرادةِ الأعداءِ..
حذو القذَّةِ القذَة..
إذا قالوا لنا شيئاً ...
سمعناهُمْ..
تبعناهُمْ..
أطعناهُمْ..
وقُلْنَا: القذَّةَ القذَّة..
ولو دخلوا لجحرِ الضبِ ...
كُنَّا خلفهم نجري،
ونستجدي،
ونسترضي،
ونستهدي،
فهذا مَنْطِقُ التفكير،
والتقدير، والحكمة..
مساء النور، والخيراتِ يا أقصى..
مساء الذُّل ...
قد بعناك، واخترنا مزايانا ...
وحين يزمجرُ الأعداءُ ...
ننسى كُلَّ دعوانا ...
لأنَّا في سَلامِ الذل قد بِعْنَا قضايانا..
مساء الخير يا أقصى ...
أجاءكَ آخرُ الأخبارْ ...
أتدري أنَّنا فُزْنَا «بغزة» ...
دونَ باقي الدَّارْ،
وصرنا في أراضينا ...
نُقاسمُ دولةَ الكفارْ ...
أتدري أنَّنا أحرارْ ...
تحت ولايةِ الكفارْ ...
أتدري أنَّه قد صارْ ...
في أرضِ الهُدَى سِمْسَارْ ...
يبيعُ بأبخسِ الأثمانِ للكفارْ ...
حتى يأخذَ الأمتارْ ... !
أتدري أنه قد صارْ ...
بين المسلمينَ مطارْ ...
مساء الخيرِ، والحسراتِ، والعبراتِ يا أقصى
مساء الخيرِ ...
إنا سوف نرقبهم،
ونبغضهم،
ونحسدهم،
وفي وقت الرضا منهم ...
سنشجبهم،
وننكرهم،
فإنْ غضبوا سنسترضي،
ونستجدي،
ونستهدي،
لأنَّا تحتَ قبضتهم..(157/50)
نص شعري
رسالة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي
د. محمد بن ظافر الشهري
أيُّهذا المؤتَمَرْ
أيها الحُلْم الجميل
أنا لن أطلب منك «المستحيل»
علّمَتْني كلُّ دوراتك أن أقنع بالشيء القليل
عمقت فيَّ لقاءاتُكَ أخلاقَ القناعة
وانضباطَ النفسِ والبالَ الطويلْ
كلّ ما نَمّيْتَه فيّ فمِن هذا القبيلْ
آهِ.. لو أنكَ حيّدتَ الشعارات وسوّدتَ الدليل
أيها الحلم لك الشكر الجزيلْ
نحن لم ننس قراراتك جيلاً بعد جيلْ
فقراراتك لا تُنسى ولا تخفى
و «هل يخفى القمر؟ !»
أيهذا المؤتمرْ
أنا لا أطمع في صدق أبي بكر
ولا عدل عمرْ
بل ولا في شعر حسان بن ثابتْ
إنما أطلب أن تبقى الثوابت
أتمنى..
أن أرى جهدكَ في دفع السفينة
وأرى قلبك في أم القرى أو في المدينة
وأرى كفك تمتد إلى القدس السجينة
وعلى رأسكَ تاجاً من أحاديث صحاحٍ وسُوَر
أيهذا المؤتمر
لا تحلّنَّ النزاعات
ولا تُنْهِ الخلافاتِ
ولا تطوِ المسافاتِ
ولا تلغِ جوازات السفر
جئتُ يا «عبد المعينْ»
ومرادي..
أن يسير الشرعُ مرفوع الجبين
في ديار المسلمينْ
ويجوزَ الدهرُ أيامَ التَّتَر
أيهذا المؤتمر!
أنا لا أطمع أن تقنع لي راعي البقر
أن في الغرب تماسيحَ
وفي الشرق بشرْ
لا تعنِّف عَبَدَ الطاغوتِ أو أهل الكتابْ
يوم أن ذقنا على أيديهمُ شتى العذابْ
لا تهزّنكَ صرخاتُ الثكالى
وعويلُ الحرة المفزع بعد الاغتصابْ
أنا لن أمعن في هذا العتابْ
كل ما أطلب أن تشعر يوماً بالخطرْ
أيهذا المؤتمر
خذ من الحكمة ما شئتَ وما شئتَ فَذَرْ
فعلى وجهكَ لا تظهرُ آثارُ الكِبَرْ
أنتَ والله في أعيننا أصغر من «طفل الحَجَرْ»
أيهذا المؤتمر
أيها الحلم الجميلْ
أنا لن أطلب منك «المستحيلْ»
علمتني كل دوراتك أن أقنع بالشيء القليلْ
عمقت فيّ لقاءاتُك أخلاقَ القناعة
وانضباطَ النفسِ.. والبالَ الطويلْ
أيها الحلم لك الشكر الجزيلْ
فأنا أدركُ أن الخيرَ خيرٌ.. وبأن الشرّ شرّ
وبأن الجِدَّ جِدٌّ.. وبأن المؤتمرْ
مؤتمرْ!(157/52)
حوار
حوار مع الدكتور محمد الراوي
أجرى الحوار: وائل عبد الغني
ضيفنا في سطور
* يعمل حالياً عضواً في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بعد عمر
بارك الله فيه جاوز السبعين.
* تخرج في كلية أصول الدين جامعة الأزهر.
* خدم القرآن الكريم أستاذاً وخطيباً وإذاعياً.
* عمل قرابة ربع قرن أستاذاً ثم رئيساً لقسم التفسير بجامعة الإمام محمد بن
سعود بالرياض.
من مؤلفاته:
* الدعوة الإسلامية دعوة عالمية.
* كلمة الحق في القرآن الكريم موردها.. دلالتها.
* حديث القرآن عن القرآن.
* الرضا.
* الإنسان في القرآن.
البيان: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فأهلاً برجل
نحسبه من أهل القرآن ولا نزكيه على الله، ومرحباً بمن عَمُر عُمُرُه بالقرآن على
صفحات مجلتكم.. مجلة البيان.
فضيلةَ الدكتور! بما أنكم من المتخصصين في القرآن وعلم التفسير؛ فهل لنا
أن نسأل عن درس التفسير: لماذا لم يعد له رونقه وحضوره على الساحة الإسلامية
العامة كما كان من قبل؛ حيث حرك الدعوات وسيَّر الحركات، كدروس ابن
الجوزي وابن تيمية قديماً وابن باديس حديثاً؟
* من رحمة الله بالأمة الإسلامية أن حفظ هذا الكتاب، وهو القرآن وتكفل
بحفظه، ولم يدع حفظه لأحد من خلقه كما قال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) .
من تدبر القرآن وكأنه نزل الآن فلا يحتاج إلى تكلف في فهمه ولا عسر ولا
مشقة، متى تفتحت له القلوب واستعدت النفوس، وتهيأ الجو المناسب لتوجيه الأمة
إلى العمل بكتاب الله؛ لأن التفسير الحقيقي للقرآن هو نفس القرآن؛ فالقرآن يفسر
بعضه بعضاً، والبيان إنما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما ثبت عنه
قولاً وعملاً وإقراراً.
إذا نظرنا للمسألة من هذه الناحية بالذات أدركنا أن هذا البريق لا يمكن أبداً أن
يضعف في يوم من الأيام، أما إذا كان التوجه للقرآن لأسباب شتى غير العمل به،
فهنا يمكن أن يردَّ ما قلت، أما عندما يراد العمل به فسيكون في متناول الجميع بلا
عسر ولا حرج ولا مشقة ولا تكلف؛ فالأمر كله مرتبط بالقرآن نفسه، ولا يمكن
أن يتبدل مع الزمان أو يغيب، كما قال تعالى: [قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 15-16) . وقال: [إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) فهو نور وهداية
لمن فتح ملكاته واتبع سبيل ربه، والأمر لا يتوقف في هذا على المفسِّر وحده.
البيان: إذن كيف ترون الأمر؟ لأن هناك مشكلة بلا شك في عدم تمحور
الناس حول كتاب الله تعالى كما كانوا من قبل، وأحسب أن درس التفسير ذا القبول
العام يمكن أن يعيد الناس إلى الجادة؛ فلماذا اندرس إذن؟
* صدقني المشكلة ليست في درس التفسير بقدر ما هي مشكلة الناس! الناس
اتخذوا هذا القرآن مهجوراً؛ وهذا القرآن لا يمكن أبداً أن يعطي من اتخذه مهجوراً،
ولا أعني بالهجر مجرد قول المشركين: [لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ] (فصلت: 26) .
وإنما هجره بالبعد عن تحكيمه واتباعه كما يجب أن يكون، واتباع الأهواء؛
فتدبر معي قوله تعالى: [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
(القصص: 50) .
هذا هو شأن القرآن نزل ليُتدبر وليعمل به، ومتى غاب التدبر والعمل يصبح
الكلام عن القرآن كلام تعالم وبحوث تُملأ بها الأدراج وتؤخذ عليها الشهادات،
فيصبح الناس في وادٍ والقرآن في وادٍ آخر.
البيان: ولكن المشكلة كما تقولون فيمن يبلِّغ هذا القرآن؟
القرآن في ذاته بلاغ، ومن فضل الله أنه يتلى على الناس صباح مساء حتى
من إذاعات الأعداء، ولكن المشكلة في الهجر؛ هجر الاتباع وهجر العمل به،
الحفَّاظ يملؤون الآفاق، وكليات القرآن وأقسام التفسير وعلوم القرآن كثيرة، لكن
القرآن نزل ليحكم سلوك الناس وروابطهم وأعمالهم؛ فهل يسمح له بذلك؟
البيان: لكن هناك حلقة أو حلقات مفقودة في ربط الناس بالقرآن، وأحسب
أن درس التفسير بمقوماته الناجحة والتي نسأل عنها يمكن أن يلعب دوراً كبيراً قد
لعبه من قبل في هذا الباب؟
* درس التفسير ليس هو كل شيء بعدما أصبحت الوسائل الآن أمام نظر
الناس متعددة ومتنوعة في جميع الاتجاهات.
والمشكلة التي ينبغي أن تُبحث هي: كيف نجعل هذه الوسائل على اختلافها
خادمة لرسالة القرآن في جعله موجهاً لحياة الناس؟ هذا لا يتوقف على التفسير
وحده في ظل الوسائل العصرية المتعددة والمتشابكة التي تحتاج إلى تفكير
موضوعي في كيفية الإفادة منها؛ وللأسف فإن هذه الوسائل أصبحت تشوش علينا
أكثر من كونها تخدمنا.
بالأمس كان الرجل يجلس على شاطئ الأطلسي غرباً وخليفة المسلمين في
الشرق والرابط بينهما هو القرآن، واليوم لدينا وسائل اتصال على تنوعها من
إذاعات موجهة وقنوات فضائية، لكنها فرغت من مضمونها فكان البون شاسعاً.
القرآن وحده كافٍ لو سمحنا له أن يطرق القلوب وأن يؤدي رسالته فينا، ولا يكون
نصيبه منا هو تشييع الموتى وإقامة الجنائز والإشعار بالتبرك، وإذا صُرِفَ القرآن
عن غايته فماذا يفيد الذي يدرسه؟
البيان: وكيف يمكن للأمة أن تستفيد من القرآن وهي في وضعها وحالها كما
ترون؟
لا يمكن أن تستفيد الأمة بالقرآن إلا إذا راجعت موقفها منه، وبحثت كيف
استفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟ كيف عملوا به؟ كيف كان
هو وسيلة الاتصال مع ما بعدت به الديار؟
الأمر يحتاج لأمة تتضامن لتعمل وتأخذ بالأسباب، ولا يصلح الأمر إلا
بأسباب الصلاح التي جعلها الله كذلك، والله تعالى جعل لكل شيء سبباً فلا نضع
سبباً مكان آخر.
ومن أولى الأسباب في أداء رسالة القرآن فينا أن نصحح أمر الإنسان، وأن
نعلم أنه هو الأصل في أي نهضة أو حضارة أو تصحيح؛ فالإنسان الصالح تصلح
به الأمور الفاسدة، والإنسان الفاسد تفسد به الأمور الصالحة.
والقرآن لم ينزل إلا من أجل الإنسان والمحافظة عليه في سلوكياته وروابطه
وعمله واعتقاده، وفي علمه ومعرفته بحكمة خلقه وغاية وجوده، إذا نجحنا في أن
نعيد الفرد ليتربى على القرآن وينهل منه كما نهل الصحابة رضوان الله عليهم إذ
كانوا يتعلمون الآيات عشراً عشراً يدرسونها ويحفظونها ويعملون بها، فأخذوا
القرآن فهماً وقولاً وعملاً.
أقول إذا نجحنا في هذا نكون قد نجحنا بتوفيق الله في تقديم المثل الحي الذي
يشار إليه، فيقال هذا نبت القرآن، ونكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح.
البيان: ولكن القرآن يحتاج إلى موقِّف يفسر للناس معانيه؟
* في رأيي الأهم هو المنهجية التي يتعامل بها الناس مع القرآن. نعم! دور
المفسر مهم في بيان الدلالة، ولكن لو نظرت إلى آيات القرآن لوجدت أن أغلبها لا
تحتاج إلى بيان الدلالة لو وُجِدت القلوب المقبلة المتفتحة، وهذه هي معجزة القرآن:
أنه ميسر ليس فيه تعقيد.
اقرأ معي قول الله تعالى: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
العَالَمِينَ] (غافر: 64) .
هل ترى كلمة واحدة تحتاج إلى تفسير؟ خاصة وأنت ترى دلالتها في الواقع:
الأرض قرار وأنت تمشي عليها وتأكل منها، وتنبت منها، وتدفن فيها.
البيان: لأهل القرآن المشتغلين العاملين به حلاوة وروح قلَّ أن تجدها في
غيرهم؛ فما السر في ذلك؟
السر هو العقيدة الحية التي يتربى عليها المرء وهو يعايش القرآن، والقرآن
كله كتاب عقيدة من أوله حتى آخره مدنيه ومكيه.
لكن العقيدة حين يعالجها القرآن تجد فيها حياة وحركة تكاد ألاَّ تنفصل عن
حياة الناس، ولو تدبرنا القرآن لوجدناه يوجه مظاهر الكون التي نراها كلها إلى
الاعتقاد. انظر على سبيل المثال كيف ربط الحر وهي ظاهرة كثيراً ما يعاني منها
الإنسان بحقيقة أخرى هي النار؛ وهذا توجيه دائم متكرر في القرآن؛ فحين قال
قائل في غزوة تبوك: [لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ] (التوبة: 81) .
جاء الربط مباشرة بالعقيدة: [قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ] (التوبة: 81)
لتظل هذه الظاهرة تذكِّر دائماً بالنار التي ينبغي أن يظل اتقاؤها وازعاً في حياة
الناس وإن شغلتهم الشواغل.
وقوله تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(فصلت: 39) كم يتكرر هذا المشهد أمام الإنسان يرى الماء أمامه ينبت به
الزرع، لكن القرآن ينقل هذه الصورة ليحقق اعتقاداً إن غاب عن المجتمع غاب
معه السلام الحقيقي والأمن الحقيقي؛ وهي قضية البعث؛ ولذلك تجد في أكثر من
آية: [كَذَلِكَ النُّشُورُ] (فاطر: 9) إلى [إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى]
(الروم: 50) .
استخدم حركات الكون أمامك ليربطك بالله: [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ] (النور: 44) .
حقائق وجود الإنسان خذ منها قوله تعالى: [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن
رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق: 6-8) انظر كيف جعل: [إِنَّ
إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق: 8) كافة لطغيان الإنسان.
انظر حين يأخذك في رحلة في سورة الأنعام أو في الروم أو في غافر تجده
يأخذك في الرحلة ثم يقول: [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ]
(الأنعام: 102) ومن قبلها يريك الحبة كيف تنبت ويجعلك تشاهدها:
[إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى] (الأنعام: 95) ثم يريك الليل والنهار:
[فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً] (الأنعام: 96) .
يريك النجوم، يريك نزول الماء وإنبات الزرع وتنوع النابت منه وبعد ذلك
كله يقول: [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ] (الأنعام: 102) الذي خلق وقدر وأوجد: [ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]
(الأنعام: 102) . ربط بين أن الأمر والخلق له وحده وبين توحيده بالطاعة
والعبادة: [أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] (الأعراف: 54) .
هذه المعايشة ربما غابت عن غير أهل القرآن في زحمة همومهم، وربما زاد
منها تعلق النفوس بأسباب الحياة الحديثة (التكنولوجيا والمادة) مع أن الله خلق
المادة وأوجد العقل، هذا الحضور نحن محتاجون إليه في كليات حياتنا وجزئياتها،
وهو ما يجده الإنسان في القرآن دون كتب العقيدة؛ فكتب العقيدة مع ما أدته من
دور مشكور في حفظ عقائد الإسلام وتصفيتها من الشوائب إلا أنها قدمت العقيدة
بأسلوب لا يخلو من جفاف؛ فهي قد قدمت العقيدة لكنها لم تقدم روحها العملية
الموجودة في القرآن، وهذه معجزة من معجزاته.
البيان: لكن القرآن عقيدة، وشريعة، وسلوك؛ والقرآن اهتم بها ثلاثتها؟
* العقيدة تمثل روح القرآن كله؛ وما كان للشريعة والسلوك أن ينتظما دون
عقيدة، والقرآن سواء مكيه ومدنيه اهتما بالعقيدة، وما يقال من أن المكي اهتم
بالعقيدة والمدني اهتم بالتشريع هو من باب التقريب لا من باب التحقيق؛ لأني لا
أرى آية في القرآن تخلو من العقيدة.
وأضرب لما قلت بمثل قضية الخطبة، انظر كيف ينتظم أمرها بالعقيدة:
يقول الله تعالى: [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي
أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِراًّ إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفاً
وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ] (البقرة: 235) والآية في سورة البقرة وهي مدنية، وما كان أمر
الخطبة يتزن في النفوس لولا اللمسة الأخيرة: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ] (البقرة: 235) هذه اللمسة جعلت التشريع أمامك يتزن ظاهراً وباطناً.
أعود فأكرر: هذه العقيدة الحية المبثوثة في آيات الله وفي آيات القرآن في
تشريعه في أحكامه وآدابه هي التي تكسو المتبع للقرآن بثوبها والله تعالى قد أمر
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصرح بما أمره الله به حيث أمره بأمور ثلاثة هي:
[إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
المُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ] (النمل: 91-92) وتلاوة القرآن مع قرينتيها هي
من أعظم أسباب الهداية.
البيان: لكن مثل هذه الحقائق: مَنِ الذي يجليها للناس؟ أليس هو المفسِّر؟
* طلبة العلم موجودون بوفرة ونحسبهم صادقين؛ لكن التوجه الذي أسرت
فيه الأمة بغارة لا نظير لها في تشابكها، في الأرض والهواء والماء وفي الكلمات
وفي المعاني، هذه الهجمة الشرسة دون سابقة دخلت غرف النوم وغزت صميم
الأسرة وتكوين المجتمع. أنا لست متشائماً؛ لأن القرآن باق، وأعني بالقرآن
القرآن والسنة؛ لأن الله تكفل بحفظهما، ولكن الإنسانية التي أعرضت عن القرآن
ستدفع الثمن غالياً جداً لهذا الانحراف الكلي؛ لأن مدنية العصر مع اعترافنا بما فيها
من إيجابيات قد خاطبت في الإنسان شهوته وأهملت فطرته.
البشرى ماثلة أمامي في آيتين من القرآن:
الأولى: قوله تعالى: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
(محمد: 38)
والثانية: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: 54) .
فتربة القرآن خصبة ولاَّدة للأجيال.
والأمة الإسلامية على الرغم من الحصار فما زالت روح الإيمان تسري فيها؛
نعم! هي مليئة بالمشاكل؛ لكن مشاكل غيرها أكثر، فمشاكلنا ببساطة يمكن توجيه
الشعوب فيها في ساعات حاسمة تأتي فيتوجه الكل إلى الله، لا ننكر أن ثيابنا من
نسجنا، وأن ما نزل بنا من أنفسنا فينبغي ألا نلقي اللوم على غيرنا، والمخرج مما
نحن فيه هو القرآن.. القرآن كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمه أصحابه
رضي الله عنهم.
البيان: هذا يجعلنا نسأل عن الجانب الأكاديمي: كيف نوظفه في خدمة
القرآن؛ فهو بالرغم من توسعه أفقياً فإنه لم يَرْقَ بنفس المستوى رأسياً؟
* المشكلة هنا في فلسفة التعليم عندنا، وارتباط التلقي فيها بالحفظ دون الفهم
وقدح الأذهان، والحفظ هنا ارتبط بعلة أخرى هي أن غايته نيل الدرجات
والشهادات، فأصبح العلم الأكاديمي نظرياً جامداً بعيداً عن مشاكل الأمة.
والقرآن علم وعمل هكذا وعاه السلف؛ ولهذا أرى أن الأسلوب العملي «العلم
للعمل» هو الأسلوب الناجح بإذن الله.
التطبيق العملي لآيات القرآن، والبحث عن الحلول للمشاكل اليومية للأمة
ينبغي أن يكون شغل الأكاديميين الشاغل. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
يقرؤون آيات الجهاد مثلاً ثم يرون التطبيق العملي للآيات مباشرة فكأنما عُجِنوا بماء
القرآن.
وإذا كانت الأمة الإسلامية غارقة اليوم في المشاكل والهموم فلماذا لا يوجه
الباحثون كل هذه المشاكل لبحثها من القرآن لنيل الدرجات العلمية؟ وفكرة المشروع
التي يطبقها الغرب ونادى بها البعض هي فكرة جديرة بالتطبيق في هذا المجال.
أما الدراسة التي تتم داخل حجرات مغلقة، والتي تفصل الطالب عن واقعه فهذه لا
تفيد كثيراً.
البيان: هناك قضية مهمة تقابل الناس اليوم في تعاملهم مع القرآن، وهي أن
كثيراً من الألفاظ قد فُرِّغت من مضمونها أو حُرفت عن معناها كما أشرتم، مثل
لفظ: السلام أو العلم أو الجهاد، في ظل واقع متراكم؛ ألا ترون أن هذا يؤثر على
التعامل المباشر مع القرآن؟
* الإقبال على القرآن ذاته يصحح كثيراً من المفاهيم، وإن كان الأمر يحتاج
جهداً دؤوباً من العلماء وطلبة العلم في ربط هذه الألفاظ بمعانيها القرآنية ونشرها
بين الناس. من المؤسف جداً أن كثيراً من كلمات الإسلام طُمست في حياة الناس!
وظلم هذه الكلمات جعلنا لا نحسن التصرف في كثير من الأمور. من هذه الكلمات
على سبيل المثال: الجهاد؛ مفهوم الجهاد وحده يستوجب عشرات اللقاءات من مثل
هذا اللقاء لكشف الخلط الذي حدث فيه؛ فهو أكبر من أن يوصف؛ لأن الجهاد الذي
أمر به الإسلام مصلحة لجميع المخلوقات، والمخلوقات جميعاً مصلحتها في أن
تكون كلمة الله هي العليا؛ لأنه عبارة عن دفع شر وإقامة خير في مجمله، لذلك من
الظلم البين أن يتبع العالم (إسرائيل) حين تلصق لفظ الإرهاب كما هي عادتها في
التحريف والتزييف بالمفهوم الشرعي للجهاد.
لا شك، فإن هذا الخلط يستوجب على الأمة هبَّة تستجلي فيها مفاهيمها بعيداً
عن التلقي من غير القرآن.
البيان: قلتم منذ قليل: إن الله تعالى قد جعل لكل شيء سبباً؛ وقضية السببية
من القضايا المهمة في واقع المسلمين اليوم، ألا ترى أنها قد ظُلمت بين التواكل
الذي ظلم به الإسلام وبين ردة مادية تُنزِل الغيب منزلة المعدوم؟
* لا بد للأسباب أن تكون مرتبطة بأمر راسخ هو العقيدة، وعقيدتنا هي
الأصل في تكويننا، هذه القضية قد جلاَّها القرآن أيما تجلية، وحياتنا مليئة
بالمواقف التي تحتاج لأن توزن بميزان القرآن.
والقرآن يضفي على الأسباب سَمْتَه، ويطلق الإنسان من أسرها حين يعلِّمه
أن الأخذ بالأسباب طاعة والتفريط فيها معصية، ويضبط هذا بجعل الركون إليها
من دون الله مضيعة ومفسدة، وقد ضرب القرآن كثيراً من الأمثلة لذلك مثل قوله
تعالى: [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] (الشعراء: 80) ، فالتداوي سبب مأمور به
لكن الركون إلى الطبيب أو الدواء في طلب الشفاء شرك وظلم قد نهانا الله تعالى
عنه.
ومرتبة أعلى من هذا أن الله تعالى قد جعل أسباباً تفضي إلى طاعته تعالى
وهي لم تكن أسباباً إلا أن الله جعلها كذلك ليدلنا على قدرته، وكون أنه مسبب هذه
الأسباب؛ فأمر الله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يضرب بعصاه
البحر، وهو أمر عجيب في النتيجة التي يوصل إليها؛ لأن العادة تقتضي أن
ضرب الماء بالعصا يطاير الماء في وجه الضارب؛ فهذه سبب لتلك، ولكن حين
يسبب الله السبب ويأمر به يكون الأخذ به طاعة وفلاحاً وإن بدا بادي الرأي غير
ذلك.
وضرب المثل بالعصا لقوم موسى المغرِقين في المادية هو رد لهم ولأمثالهم
عن غلوهم في المادة ليتقرر في النفوس حقيقة أن الله تعالى [لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ]
(الأعراف: 54) وهي حقيقة يجب أن تستقر داخل نفس كل مسلم.(157/54)
المسلمون والعالم
وجاؤوا بسحر عظيم! !
الدلالات الإعلامية في انتفاضة القدس
حسن قطامش
دخل أحد الجنود الصرب على أم بوسنية مسلمة في مطبخها، وكانت تعد
طعام الغداء، ففتح إناء الطعام الساخن، وسألها: ألا يوجد في طعامكم هذا لحم؟
فأجابته بالنفي، فبادر الجندي الصربي بوضع قطع من اللحم في ذلك الوعاء وهو
على النار.. كان هذا اللحم هو أشلاء ابن هذه المرأة، الذي قُطِّعت أوصاله أمام
عينيها! !
حادثة بشعة قرأناها في الصحف.. لم نرها، ولم تصورها عدسة مصور، لا
ثابتة ولا متحركة حتى تتحرك معها القلوب عطفاً وشفقة.
صور أخرى عُرضت في أحد المواقع الإسلامية الإندونيسية عن المجازر
البشعة التي ارتكبت في حق مسلمي جزر الملوك، رأيتها، ورآها كثير من الناس،
في هذا الموقع، وفي أماكن أخرى، جرائم تقشعر لها الأبدان، رؤوس مفصولة
عن الأجساد، أطراف ممزقة، بطون مبقورة ومحشوة بالأحجار، عُلِّق الأطفال
على الأشجار وهم أحياء، واستُخدِمُوا أهدافاً للتدريب عليها بالخناجر والبنادق،
وكان يُرفع بعضهم إلى الهواء ويتلقاهم النصارى على أسنة رماحهم التي تخترق
الأجساد الغضة.
هذا واقع حقيقي، ونشر في عدد من المطبوعات العربية، ونشرت بعض
المجلات تحذيراً لأصحاب القلوب الضعيفة من أن في الداخل صوراً مروعة! !
وجاءت انتفاضة الأقصى الأخيرة لتحمل في طياتها مجازر جديدة للمسلمين،
ولتضيف أرقاماً منهم إلى قوائم سبقتهم في ذات الطريق.
وجاء مقتل الطفل محمد الدُّرة ليزيد من آلامنا الكثيرة، كان أول إحساس
انتابني عندما شاهدت صورة الحادثة الأليمة أنني تخيلت نفسي مكان ذلك الأب،
وماذا عساي أن يكون شعوري في هذا الموقف، ولَكَم هو ألمي وعجزي؟ !
لم يكن مشهد قتل محمد الدُّرة بأشد بشاعة مما ذكرت عن تلك الأم البوسنية،
ولا يقارن بما حدث لأطفال جزر الملوك المسلمين بحال.
ولم يكن محمد الطفل الفلسطيني الوحيد أو الأول الذي قتل على يد يهود، بل
سبقه آلاف.. بنفس الرصاص.. من نفس البندقية.. من نفس العدو.. في نفس
البلد.. فلماذا فعل مشهد موته ما فعل، وهو مجرد طفل كغيره من أبناء الأرض
المباركة؟
ما الذي جعل صورته تصل إلى كل بيت، واسمه يردد على كل الألسن؟ وما
الذي جعلني أكتب هذه الأسطر عنه، وسبقني مئات سطروا المقالات والقصائد
حول موته؟ ما الذي صنع من موت طفلنا هذه القصة الكبيرة التي ألهبت الحماس،
وأججت الصدور حقداً وغيظاً؟
إنهم السَّحَرة [1] ! ! السحرة الجدد، سحرة الصورة المتحركة، والبث المباشر،
والإعلام الحي، وأكاد أجزم أن هذه الجريمة البشعة كانت ستلحق بأخواتها في
سجل النسيان المرير، لولا هذا التكرار، والنكء المستمر للجرح الأليم.
لقد كان للإعلام بلا شك دور رئيس في أحداث انتفاضة الأقصى، كما له
الدور ذاته في جوانب أخرى من حياتنا، إيجابية وسلبية، إلا أنه في هذه الأحداث
ظهرت دلائل هامة من خلاله، أظهرها هو، فكان منها ما يحسب له ومنها ما
يحسب عليه، أو ظهرت بتأثيره وبصدى الفاعلية المؤثرة التي صاحبته في تلك
الأحداث، فكان لا بد من قراءة لهذه الدلالات بإيجاز.
ولا أحسب أنني أذهب بعيداً إن قلت إن حجم التغطية الإعلامية لأحداث
الأقصى كان العامل الأكبر في تفاعل الجماهير المسلمة في كل مكان، وهو ما أدى
بدفع القمة العربية إلى الانعقاد في القاهرة، نزولاً على ضغط الشارع وغضبه
ومحاولة لإسكاته بالطبع ولم يكن هذا الغضب إلا صدى لهذه الحملة الإعلامية.
ولذلك من غير المستبعد أبداً أن يلعن بعض من الناس المصور الفلسطيني الذي قام
بتصوير المشهد، كما لُعنت القناة الفرنسية وأخواتها بسبب ما جرَّته تلك المشاهد
مما تلاها.
كانت الدلالات كثيرة ولها مغازٍ هامة، منها:
1 - كانت أهم النقاط الإيجابية التي ظهرت هي مدى وضوح العداوة
والبغضاء في قلوب الجماهير المسلمة لليهود، وإدراك أن الصراع معهم صراع
ديني، وأن تلك الحملات التي ما فتئت تحرض على التعايش السلمي مع اليهود،
وتَقبُّل الدولة الصهيونية كجارة يجب أن تُعطى حقوق الجيران التي حث عليها
الشرع! ! لم تؤثر في الأمة المسلمة بالحجم الذي يوازي ثقل هذه الحملات وثقل
المنافحين عنها والمحركين لها.
2 - أثبتت الجماهير المسلمة وبالرغم من عدم التوجيه المباشر لها أن الأمة
ما زالت حية، بل تنبض بالحيوية في كافة فئاتها، أرتنا الأحداث نماذج تنحني لها
هامات الرجال وقمم الجبال، لم يحتج الأمر لديهم لإظهار مشاعرهم وصدق إيمانهم
إلى فلسفة أو تنظير أو كثير تفكير أو تعمق واستعراض واستقراء للواقع وتحولاته
أو موازنات أو غير ذلك، سمعنا عن أطفال يغتسلون قبل نزول الميدان المفتوح في
كل فلسطين يرجون الشهادة، سمعنا عن أطفال قطعوا القفار رغبة في نصرة
إخوانهم المسلمين، وقرأت ذلك الحوار الذي أجري مع الطفل أحمد شعراوي
(13 عاماً) بعدما أعادته السلطات المصرية من حدود مدينة رفح إلى والده، وقد
سأله المحاور: ألم تفكر في أمك وأبيك، أختك، أهلك، والقلق على غيابك؟
أجاب وانظروا الإجابة من طفل قال: لو فكرت في ذلك فلن أقدر على فعل شيء،
هناك أشياء أكبر لا بد أن نحبها أكثر من أنفسنا وأهلنا، أكثر من أي شيء.
وسأله المحاور: هل أنت سعيد بما فعلت؟ أجاب: كنت سأبقى سعيداً جداً لو
نجحت ودخلت فلسطين واستشهدت هناك! ! وقد سأله والده: كيف ستصنع في
مراجعة المواد التي تأخرت فيها؟ فأجابه: الذي يذهب للجهاد لا يرجع مرة
أخرى! ! وسمعنا بالأمهات اللواتي يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت
والشهادة، وعن الشباب، فحدِّث ولا حرج، رأينا في الأمة كلها الحياة. رأينا
الأيدي البيضاء التي تصدقت من مالها، وجاءت بذهبها وفضتها طيبة نفوسها في
سبيل نصرة إخوانهم في الدين، كانت صورة التبرعات من أجلى صور صدق
الولاء مع المسلمين، ودليل حياة في القلوب.
3 - القناعة التي ظهرت لدى تلك الجماهير من أن الحل الأمثل لهذه القضية
إن لم يكن الوحيد هو الحل الإسلامي، الجهاد في سبيل الله؛ حيث ترسخت القناعة
بإخفاق كافة الحلول إلا هذا الحل، وقد أخبرني مَنْ شاهد إحدى المحطات الفضائية
أن إحدى المذيعات سألت فتاة متبرجة عن رأيها في القمة العربية الأخيرة، وهل
ستحل الأزمة الحالية؟ فأجابت: لن تقدم القمة أي حلول! ! ومن وجهة نظري أن
تعطوا (حماس) مالاً وسلاحاً وستقوم هي باللازم! !
قناعة وإن كان يشوبها بعض القصور والبراءة إلا أنها تحمل في طياتها
استقراراً لمفاهيم جديرة بالإشادة والتحفيز.
بل أصبحت هذه القناعة أكثر رسوخاً لدى أعداء الإسلاميين، وأنهم أهل
للأخطار الكبيرة، وإلا فما مغزى إطلاق عرفات لبعض أفراد حماس مهدداً بهم
إسرائيل، ثم عاد بعدما أعاد النظر وتعقل واعتقلهم مرة أخرى؟ !
حتى يهود أعادت تلك الأحداث هذه القناعة لديهم وأكدها الجنرال (داني
روتشيلد) مدير قسم الأبحاث السابق في جهاز الاستخبارات العسكرية حين قال:
«ويل لدولة إسرائيل إذا سمحت للأصوليين أن يكونوا بمثابة الجبهة التي تتطلع
إليها الجماهير العربية» ، أما المستشرق والباحث في شؤون الحركات الإسلامية
في مركز ديان للأبحاث (د. إيلي ريخس) فقال بصراحة: «كل نجاح
للإسلاميين يمثل خسارتين في آن معاً؛ فمرة لأن الخوض في مواجهة ذات طابع
ديني ويقودها متدينون مسلمون صعبة لنا، ومرة أخرى؛ لأن نجاح الحركات
الإسلامية يعني إفلاس الأنظمة العربية في نظر الجمهور العربي؛ وهذا أمر لا
يقل خطورة عن الأول؛ لأننا يجب أن نكون معنيين بأن تكون الأنظمة الحاكمة مقنعة
لجمهورها» ! !
ازدياد تلك القناعة لدى فئات عدة، لا بد أن يزيد قناعة الإسلاميين أنفسهم
بصحة قضاياهم ومنهجهم وطريقهم الذي يسلكونه طلباً لرضى الرب الكريم.
4 - لم يفلح الاستفراد الإسرائيلي بفلسطين بعد اتفاقية السلام مع عرفات في
عزل الشعوب المسلمة عن قضيتهم الكبرى؛ ففي الوقت الذي استراحت فيه دول
من حمل همِّ القضية، وأن لفلسطين رئيساً يحميها، وتخلت تلك الدول عما كانت
تسميه دعماً سياسياً للقضية بصورة مباشرة، واكتفت بالبروتوكولات الباردة من
شجب وإدانة وتأييد على صفحات الجرائد الرسمية، لم يحمل هذا الشعوب على
التخلي عن قضية فلسطين، وأثبتت الأحداث أنها ما زالت في بؤبؤ العين وعين
القلب.
ومن هنا فقد زاد اتساع الهوة بين الشعوب والحكومات، وإن كانت الشعوب
على حالها الراهن لا تستطيع تغييراً كبيراً في الأحداث لقلة حيلتها وهوانها على
الحكومات، إلا أن الحنق والغضب والازدراء ازداد في النفوس، والقناعة بعدم
أهليتها لتحقيق مطالب الأمة أصبحت يقيناً، وهو أمر إيجابي للغاية؛ فلم تعد
الشعوب تقنع بامتصاص غضبها بمؤتمرات قمة أو غيرها.
ولقد كان الموقف الشعبي من القمة الأخيرة ونتائجها في غاية الوضوح، بل
كان واضحاً قبل انعقادها؛ فمن خلال استبيان أجري في أحد المواقع على شبكة
الإنترنت أفاد 88% من المشاركين أن القمة لن تسفر إلا عن الإدانة والشجب.
ولا يدفعنا هذا الموقف من الجماهير المسلمة إلى الوقوع في الوهم الجماهيري،
وأنها قادرة بمفردها على التغيير بغير توجيه واستفادة قصوى من طاقاتها بحسب
ضوابط واضحة؛ فهي تقاد ولا تقود، ولا يدفعنا ذلك كذلك إلى إغفال دورها وثمين
حياة قلوبها مع قضايا الأمة.
كما شاركت الجماهير فئات من الناس يعدون من سقط متاعهم، كالفنانين
والراقصين، تفاعلوا مع القضية وتظاهروا واعتصموا وغنوا ورقصوا من أجل
القضية! ! يجب ألاَّ ينسينا هذا التفاعل حقيقتهم، وأن يوضعوا في الحجم الحقيقي
لهم، وإن كان الملمح هنا أنه حتى أولئك تأثروا وتفاعلوا.
5 - أسقطت هذه الأحداث ورقة التوت الأخيرة التي كان يستتر بها دعاة
السلام والداعون له والمنظرون لثقافته؛ فها هي المذابح تقع الآن تحت غصن
الزيتون الذي يرفعونه، وأظهرت أن غصنهم الملعون يسقى بدم الأبرار، وأن
ثماره بنادق وصواريخ تحرق القلوب والأجساد، وتخرب الديار، ورغم ذلك،
ورغم القناعة التي ترسخت لدى قطاع عريض من الناس، عامتهم وخاصتهم
بإخفاق ما يسمى مسيرة السلام إلا أن بعض أولئك لا يزالون يدافعون عن إسرائيل
ويراهنون على طاولة المفاوضات ويقبضون على شفاههم استنكاراً لفكرة الجهاد.
أحد أولئك التطبيعيين حتى النخاع وهو المسمى (علي سالم) يقول في ذروة
الأحداث الأخيرة: «إن إسرائيل تضم الملايين من دعاة السلام، ولكنكم في العالم
العربي ترون أن الحق في جانبكم فقط وأن الآخرين هم الجناة، نحن نعيش حالة
حرب في عقولنا فقط، ونرفض الاستماع إلى أصوات السلام داخل إسرائيل، إن
من العبث تصور أن إسرائيل وحدها المخطئة، لقد رأيت صورة محمد الدُّرة،
ورأيت أيضاً الجنود الإسرائيليين الثلاثة وهم يذبحون وتحرق جثثهم لماذا تتجاهلون
ذلك أيضاً، لقد انتصر اتجاه العنف في النهاية! !» .
ومن نفس جماعة كوبنهاجن يخرج آخر، وهو ناشر وكاتب يدعى (أمين
المهدي) ليزايد على قرينه في السوء ويقول: «نعم، ما يجري (من الفلسطينيين)
عودة لسيطرة الفاشية وإحراج قوى السلام في إسرائيل؛ فحركات السلام كانت
في الحكم! ! وكانت تضغط في اتجاه إقرار السلام، لكن ما جرى عصف بكل
شيء، فحتى المظاهرات التي خرجت في الشوارع العربية لم تكن إلا تمهيداً لهذه
الفاشية، والمقاومة التي تقوم بها حماس هي أيضاً قسم من هذه الفاشية وليست في
صالح الشعب الفلسطيني، أنا أتحدث لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهذا الشعب
عليه إدراك أن من يهتف بالقدس عربية أو إسلامية، لا يريدون الخير للشعب
الفلسطيني؛ لأن القدس فلسطينية، لا عربية ولا إسلامية! !» [2] .
ويبدي أحدهم أسفه الشديد، ويثير التعاطف مع اليهود؛ حيث إن قطاعات
مهمة وواعية بين الإسرائيليين واليهود عالمياً يؤمنون بمنهج اللاعنف، وما زال
الجميع منهم يعملون ضمن جماعة «السلم الآن» وغيرها من المنظمات اليسارية
الإسرائيلية، وكثيراً ما يشعر هؤلاء بالحرج والحيرة عندما يجدون الفلسطينيين
يضربون إخوانهم الإسرائيليين بالحجارة أو الرصاص أو العمليات الانتحارية [3] .
ونسوق لهذا التعيس خبر رفض المسؤولين في حركة «السلم الآن»
الإسرائيلية تنظيم أية مظاهرات تأييداً لعملية السلام؛ فقد قال إميرام جولد بلوم أحد
قادة الحركة: «إننا نشعر بالإحباط؛ لأن إسرائيل قامت بخطوة كبيرة نحو السلام
والفلسطينيين ولكن لم يحذُ الفلسطينيون حذوها، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي
إيهود باراك قدم للفلسطينيين تنازلات في قمة كامب ديفيد لم تحدث من قبل،
وخاصة في شأن القدس! ! لا يمكننا الدعوة حالياً إلى تنظيم مظاهرات تأييداً للسلام
إذا كان الفلسطينيون غير مستعدين لذلك» .
لا أحسب أن هذا الكلام من هذا اليهودي يختلف في شيء منه عن ذلك
المحسوب على المسلمين، أرأيتم كيف كانت الأحداث في بعض جوانبها إيجابية
برغم دمويتها؟ فما انكشف ستر أولئك مثلما انكشف مع تلك الأحداث.
6 - كان من أجلى ثمرات هذه التغطية الإعلامية، هو إثبات مدى القدرة
الفائقة لجهاز الإعلام في تشكيل رأي عام حول قضية بعينها، سلباً أو إيجاباً،
وعلى سبيل المثال فقد طلبت دولة موريتانيا من سفير لإحدى الدول لديها وقف
تكرار مشاهد الانتفاضة الفلسطينية في القناة الفضائية الخاصة ببلده، خوفاً من
غضبة الشارع الموريتاني الذي سوف يتفاعل مع هذه المشاهد! !
وبرغم أن هذه الماكينة الإعلامية العملاقة تتحرك من خلال سياسات مرسومة
حسب التوجه لأصحابها أو القائمين عليها إلا أنه بالإمكان استغلالها في خدمة قضايا
الأمة بشكل جيد.
ولم يكن للإعلام العربي فضل في السبق ببث حادثة مقتل الدُّرة، بل كان
تابعاً للإعلام الفرنسي، ولولا الحياء من الاتهام بالتخاذل لغض الطرف عن ذلك،
فتسابقت القنوات في رصد القضية ومتابعتها مجاراة للأحداث، كما تابعت في
الوقت ذاته مباريات كرة القدم وغيرها مما يُتابع، نعم! هذا واقع الإعلام العربي،
لكن بالإمكان استغلاله بصورة أكثر فاعلية كتلك التي حدثت مع انتفاضة القدس،
وإن كانت قضية فلسطين لها خصوصيتها باعتبارين:
- باعتبار العداوة المتأصلة في النفوس المؤمنة تجاه اليهود على مر التاريخ
الإسلامي، والتي تربت عليها أجيال الأمة إلى اليوم.
- وباعتبار أن اليهود السبب الرئيس والمباشر في مأساة فلسطين المعاصرة؛
فكانت القضية واضحة تماماً لدى الجماهير، وبرغم هذا فيمكن الاستفادة من هذه
الماكينة الضخمة التي اخترقت العالم أجمع في خدمة قضايا المسلمين.
وقد كان لعدد من المجلات الإسلامية حضور مشكور متميز، إلا أن هناك
وسائل أكثر تأثيراً ما زالت بحاجة إلى تفعيل واستغلال.
وإن كان وضوح القضية لدى الشعوب ساعد على تفاعلها؛ فإن ذلك لا بد أن
يلفت انتباهنا إلى ضرورة الطرح الصحيح لقضايا الأمة الأخرى وترسيخ القناعة
بصحتها وأهميتها حتى يؤتي زرعنا أُكله. ولقناعة دولة الكيان اليهودية بخطورة
الإعلام وقيمته فقد قامت بحملة إعلامية مضادة عقب تلك الحملات التي أظهرت
مشهد الطفل الدُّرة، فقد كشف السفير الإيطالي (سرجو فنتو) مندوب إيطاليا الدائم
في الأمم المتحدة أن إسرائيل قامت بالتضحية بالجنود الثلاثة الذين قتلوا في رام الله
حتى تستعيد التعاطف العالمي، وأكد السفير الإيطالي أن الحكومة الإسرائيلية
أرسلت جنودها الثلاثة إلى رام الله بدون مسوِّغ وحدهم وسط الانتفاضة الغاضبة
ليلقوا مصيرهم المحتوم، وهي تعلم هذا المصير، وأرسلت شبكات التلفزيون
لتسجيل الحدث الذي من شأنه أن يحقق توازناً دعائياً لإسرائيل أمام الرأي العام
العالمي [4] .
وأكد السفير أنها تمثيلية درامية قدمت فيها إسرائيل الجنود قرباناً لدعايتها ضد
العرب.
وبالفعل استغلت إسرائيل هذا الحدث إعلامياً من خلال السيطرة اليهودية على
شبكات الإعلام العالمية، وقد أدلى أحد المصورين البريطانيين وقد حضر مقتل
الجنود بدلوه في هذه المسرحية الإعلامية حين قال: لقد صورت الكثير من المشاهد
العنيفة في العالم خصوصاً في الكونغو وكوسوفا، لكن ما شهدته هناك كان أسوأ ما
رأيته في حياتي.
كانت دولة الكيان مقتنعة بأن ما تأتي به صورة تذهب به أخرى، ولهذا فقد
صنعوا صورهم، كما صنعوا مآسينا.
7 - أكدت الأحداث مدى بغض المسلمين لراعي الغنم، راعي حمامات
السلام؛ حيث كان التأييد لدولة الكيان أعمى من العمى، هذا ما أكدته الأحداث،
ولم يكن جديداً؛ كان الجديد هو ما نحن بصدده، فكما صنع الإعلام لدينا القناعات
السابقة وكانت له دلالات واضحة التأثير، في جلها إيجابية، كانت الصورة مغايرة
على الجانب الأمريكي، كانت الصورة لدى العالم في غاية الوضوح لا تحتاج إلى
تأويل، أو مزيد شرح وتفسير، أقوى جيوش الشرق الأوسط في مواجهة شعب
أعزل من كل سلاح مادي إلا الحجارة، مئات القتلى في مقابل قليل من قليل من
الجرحى، أشد الناس ظلماً وضيماً لا يستطيع أن ينحرف أو يجور أمام هذه المشاهد،
ولكن الإعلام الأمريكي كان أكثر من ظالم وأكثر من جائر، لقد حمل هذا الإعلام
الناس على لوم الضحية، والشفقة على الجاني، ولنأخذ مثالاً واحداً من هذا الجور
الإعلامي، من هذا السحر الذي صُنع في دولة بحجم الولايات المتحدة، صورة
أخرى غير التي لدينا، جريدة نيويورك تايمز، أهم الصحف الأمريكية كتبت في
افتتاحيتها عقب زيارة شارون للمسجد الأقصى، وحملت عنوان: (مواجهة دموية
في الشرق الأوسط) تقول: «بالأمس هاجم بعض الفلسطينيين الغاضبين
والمتطرفين القوات الإسرائيلية والمدنيين في أنحاء القدس، والضفة الغربية
وقطاع غزة والمناطق الإسرائيلية المأهولة بالسكان العرب، بالحجارة والقنابل النارية
والرصاص! ! وقد رد الجيش الإسرائيلي مستخدماً الأسلحة والصواريخ المضادة
للدروع» ! ! وحمَّلت الصحيفة السلطة الفلسطينية المسؤولية؛ لأن معظم هذا
العنف قام به الفلسطينيون، وتفهمت الصحيفة تصرفات باراك الذي يتحتم عليه أن
يدافع وبقوة عن حياة الجنود الإسرائيليين والمدنيين من هجمات الفلسطينيين، وقس
على ذلك ما شئت من الصحف.
وفي الوقت الذي كانت وسائل الإعلام في الشرق تتناقل صور القتلى
والجرحى الفلسطينيين، كانت شبكات الإعلام الأمريكية مثل الـ C. N. N.
تعيد وتزيد من عرض صور بعض اليهود وهم يهربون من جانب حائط البراق
خشية أن تصيبهم الحجارة الفلسطينية، ولا تخلو هذه الصور من تعليقات ذات
مغزى.
ولو تتبعنا ما قام به الإعلام الأمريكي فلن نقف إلا على ظلم وجور وغبن
وخداع، وما شئت أن تضيف إلى قائمة الباطل فأضف.
لقد صنع الإعلام لدينا أحداثاً ورسخ قناعات، وكانت له دلالات هامة تحتاج
إلى تأمل أكثر.. فلنتأمل.
__________
(1) على المعنى اللغوي لا الشرعي، قال الأزهري: وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره لسان العرب، ج 6/ 189.
(2) انظر هذه الحوارات وغيرها في مجلة الأهرام العربي، العدد: 187، 23/7/1421هـ 21/10/2000م.
(3) انظر: جريدة الأهرام، العدد: 41595، مقالة (المثقفون والغوغاء) ، 26/7/1421هـ 24/10/2000م.
(4) انظر: جريدة البيان الإماراتية، 23/7/1421هـ.(157/62)
المسلمون والعالم
نحو تفعيل أفضل لانتفاضة الأقصى
د. يوسف الصغير
لم يحر قلمي مثلما حار عند كتابة هذه الخواطر؛ لأنها تقتضي التخلص من
كثير من الرواسب العالقة في الذهن والمتمكنة من السلوك.
لقد كان دخول شارون إلى ساحة المسجد الأقصى هو الخطوة ما قبل الأخيرة
في خطوات بناء الهيكل، وكان المتابع للأحداث يصاب بالأسى ويحس بالعجز؛
فقد وصلت الأمور إلى أن نقطة الخلاف الأساسية ليست شرعية وجود دولة اليهود
في فلسطين، ولا حق اللاجئين بالعودة، ولا حقيقة شكل دولة فلسطين الموعودة
ومضمونها؛ بل ولا اسم عاصمة كل كيان وحدوده؛ فكل هذه الأمور تم تجاوزها
وحلها أو تجاهلها، ولكن بقيت القشة التي قصمت ظهر البعير ألا وهي أنه إذا
سلَّمت السلطة القدس لليهود وجعلوها عاصمة لهم وسموها أورشليم؛ فماذا سيكون
وضع المسجد الأقصى وقبة الصخرة؟ إن هذه القضية لم يستطع عرفات تجاوزها،
وكان الإعلام يركز على الخلاف حول هذه النقطة مما يعني ضمناً أن اتفاقاً ما قد
تم التوصل إليه حول بقية القضايا، وكانت مناورة السلطة في إظهار التمسك بحق
السيادة على الحرم من أجل جس النبض في مدى تقبُّل التنازل عن بقية القضايا.
والحقيقة أن موقف الناس ومنهم الدعاة لا يتعدى الحوقلة وبعض المقالات
والكتب التي توضح رأي المسلمين فيما يجري؛ ولكن لم تبرز أي مواقف عملية،
ولا أعْدُو الحقيقة عندما أؤكد أن عامة الناس لا يحسون بما يجري؛ بينما ساسة
اليهود وخدمهم في الإدارة الأمريكية ينتظرون على أحرِّ من الجمر إقدام عرفات
على التوقيع على آخر التنازلات.
نعم! لقد كانوا ينتظرون انتحار القضية، وعندما لم تستطع الضحية الانتحار
قام شارون بمحاولة قتل القضية وإثبات السيادة على آخر جزء متنازع عليه مع
السلطة، لقد كان اليهود مستعدين لاحتمال قيام مظاهرات واحتجاجات تستمر لعدة
أيام، ويتم قمعها بعد عدة أيام، ويسدل الستار على القضية أيضاً بعد أيام، ثم تبدأ
المرحلة الأولى من مراحل بناء الهيكل ألا وهي تدمير المسجد.
لقد بدأت الأحداث كما توقعوا: مظاهراتٍ، وقتلاً للعُزل، ومحاولات تنسيق
مع السلطة لإيقاف الاحتجاجات. ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، لقد كان محمد
الدُّرة عائداً مع والده من سوق للسيارات المستعملة عندما وقعا في منطقة يقوم فيها
جنود يهود بالتسلي بقتل رماة الحجارة، وكان اليهود من القرب بحيث يسمعون
صراخ الطفل المرعوب مع صياح الوالد يطلب منهم عدم إطلاق النار عليهم؛ فهما
أعزلان حتى من الحجارة، وبالطبع لم يزد ذلك اليهود إلا غياً وإجراماً فاستمروا
بإطلاق النار حتى خمد الطفل وأصيب أبوه؛ بل تم قتل سائق أول سيارة إسعاف
تأتي لإخلائهما. إن هذا حدث عادي ومتكرر، وكل واحد من المئة والستين الذين
وقعوا ضحية الأحداث له قصة مشابهة، ولكن الفرق أن الله قدَّر أن أحد المصورين
الفلسطينيين قد وقع مثلهما في مصيدة النيران، واختبأ بقربهما وقام بتصوير
مأساتهما وإرسالها إلى وكالة الأنباء الفرنسية التي قامت ببثها؛ وهنا حصل ما لم
يكن بالحسبان: لقد كانت المشاهد مؤثرة بشكل أجبر كثيراً من وسائل الإعلام على
عدم تجاهلها طويلاً.
وفي العالم الإسلامي كانت الصور مؤثرة بحيث أخرجت الناس إلى الشوارع
تعبيراً عن مساندتهم إخوانهم في فلسطين، وللاحتجاج على المجازر التي يرتكبها
اليهود، ودفعت هذه المشاهد القضية إلى الواجهة، وبدأت القنوات في التنافس على
المشاهدين عن طريق طرح قضية فلسطين من جديد.
وإذا كان شعار الانتفاضة هو: (لا إله إلا الله، والدعوة إلى الجهاد وطلب
الشهادة) ، فإن هذا انعكس على نبض الشارع، وبدأتَ تسمع كلمة الجهاد من جديد
وأنها السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق بعد أن نجح العدو في جعل الجهاد مرادفاً
للإرهاب حتى في وسائل الإعلام في العالم الإسلامي.
لقد اتضح لكل ذي لب أن الإعلام كان له أكبر الأثر في إبراز القضية من
جديد، وأن التغطية الإعلامية أساسية في تفاعل الناس مع أحداث الانتفاضة، بل
عامل أساسي في توجيه الرأي العام والحكومات، وتفوقت القنوات العربية لأول
مرة في متابعة الحدث، وبرز مراسلون متميزون لا يقلون مهنياً عن المراسلين
الغربيين، بل يفوقونهم في توضيح الحقائق وتصوير الحدث كما هو.
لقد كان الإعلام غائباً تماماً عن أحداث الفلبين وإندونيسيا وكشمير والجزائر
والبوسنة وكوسوفا، نعم! لقد كانت وجهة النظر الإسلامية غائبة والتغطية من
المسلمين لها غائبة؛ فأين التحقيقات الصحفية الميدانية؟ وأين البرامج الوثائقية
الجيدة عما جرى للمسلمين ويجري في الفلبين؟
وهل قضيتهم تختصر في اختطاف مجموعة من الرهائن الغربيين؟ بل ماذا
يجري في إندونيسيا، وماذا حل بالمسلمين في جزر الملوك من مجازر وإبادة؟
إن الذين يتجاهلون إبادة المسلمين في هذه الجزر هم الذين يسارعون إلى
تصوير جماهير المسلمين المقهورين هناك الذين يحملون السيوف ويدعون للجهاد
في جزر الملوك نصرة لإخوانهم، يصورون ذلك على أنها محاولة لإبادة النصارى،
ويطالبون بفرض الحماية الغربية!
أين الإعلام الصادق عما يجري في الجزائر من مجازر رهيبة؟ هل قام أحد
بإبراز الحقيقة؟ وأنا هنا أجزم أنه لو كان الجاني الحقيقي هم المسلمين لتسابقت
الأجهزة الإعلامية الصليبية لتسليط الضوء عليه ولكن..! !
أما كشمير أفلا يكفي عجز 600 ألف جندي هندي عن السيطرة على المنطقة
لإثبات أن وجود الهند مرفوض شعبياً؟
إن الإعلام الغربي يمارس التعتيم الشامل على أحداث الشيشان إلا ما ندر،
ولم يكسر هذا الحصار إلا تنبه المجاهدين لأهمية مواقع الإنترنت واستخدامها
بنجاح.
إن الذي أريد أن أخلص إليه أن غياب التوجه الإسلامي عن الإعلام،
وتقصيرهم في هذا الجانب أمر يجب تداركه بصورة عاجلة، وهو يحتاج إلى
استنفار عام لتدارك النقص في هذا الجانب؛ لأن الصراع يلعب فيه الإعلام دوراً
حيوياً، ولا يخفى أن أدوات اليهود في السيطرة تعتمد على الاقتصاد والإعلام.
إننا بحاجة إلى العمل الجاد في أوساط العلماء وطلبة العلم وأهل الخير من
أجل بيان أهمية هذا الثغر ووجوب سده.
كما أن هناك كثيراً من المشاريع العاجلة التي تحتاج لتضافر الجهود، ومن
أهمها:
- إنشاء عدد من مؤسسات الإنتاج الإعلامي المسموع والمقروء والمشاهد.
إن هذه المشاريع ضرورية جداً لتدريب الإعلاميين، وكذلك من أجل سد النقص
الشديد في المواد الإعلامية.
إن الربحية ممكنة في هذه المشاريع؛ ولكن أرى أن نجاحها في رسالتها
يقتضي أن تكون مؤسسات لا تسعى للربح.
- تشجيع الشباب الملتزم على الدخول في التخصصات الإعلامية والأدبية
بنيِّة الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام.
- التعاون مع الصحف ووكالات الأنباء العاملة ومحاولة إيصال الحقيقة.
- إن إنشاء وكالة أنباء إسلامية لكسر احتكار الأخبار هو ضرورة ملحة وأمل
ينبغي العمل على تحقيقه.
- الاستفادة من ثورة الاتصالات في الدعوة إلى الله لمواجهة الكيد، والعمل
على وقف الهجمة التغريبية الشرسة.
قد تبدو الاقتراحات خيالية لبعضنا؛ ولكن الأمر ليس كذلك.
إننا إذا أردنا أن نخرج من الأزمة التي نعيشها فيجب أن نكون جادين في
استثمار الهبَّات العاطفية التي تمر فيها الأمة والعمل على تفعيلها في أعمال مستمرة.
إن التعاطف مع الحدث يخبو ما لم يتم استثماره في عمل منتج، وإن الكثير من
الفرص قد ضاعت بسبب الاعتماد على العواطف فقط في التعامل مع الناس.
إن أهم استثمار ممكن للعواطف الحالية هو ثورة إعلامية إسلامية ملتزمة
تكون رائدة في نشر الإسلام والذب عنه، وإذا لم نقم بذلك فإن الله قد تكفَّل بحفظ
هذا الدين، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر» [1] وقال تعالى: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
فأين نحن من هذا الثغر الذي لم يُسدَّ بعد؟
__________
(1) البخاري، ح/ 2834.(157/70)
المسلمون والعالم
مستقبل الصراع مع اليهود
ومسؤولية الإعلام العربي والإسلامي
عبد القادر فؤاد
إن تعجب، فمن صراخ بعض وسائل الإعلام العربي وضجيجها وحديثها
المتهالك قبل الانتفاضة عن السلام، وحتميته وفوائده وتفرده بين الحلول بأن يكون
خياراً استراتيجياً؛ وكأن الأمر قد اختصرته شريعة هيئة الأمم ومجلس أمنها إلى
صراع بين فئتين مؤمنتين شغب بينهما إبليس بتحريشه، فتنادى العقلاء وأهل
الرأي لوضع حدٍّ لهذا الصراع.
إذن ما هو السبب في جعجعة الإعلام العربي باختلاف أشكاله في حديثه عن
السلام؟ وأين هو من كل حقائق القرآن والسنة النبوية، وما اشتملت عليه من حشد
هائل لأحداث الصراع؟ وأين الإعلام من الصفحات الدامية عبر التاريخ؟ .. هل
نسي الإعلام ما فعله ابن سبأ وما قام به من فتنة في صدر الإسلام، أم تراه نسي ما
فعله اليهود وعملاؤهم من الماسون في القضاء على الدولة العثمانية، أم قد عميت
عيناه عن حروب إسرائيل للمسلمين على أرض فلسطين وخارجها خلال الخمسين
عاماً الماضية؟ ! إن إعلاماً بلا ذاكرة كإعلام بلا عقيدة أو هوية. وإعلام هذا حاله؛
هل يرجى منه استشراف المستقبل، وصياغة استراتيجية محددة المعالم لمخاطبة
العقل العربي والإسلامي في ظل التهريج الإعلامي الدولي؟ !
في خضم أحداث العنف اليهودي وما قام به يهود من قتل للأطفال الأبرياء
فضلاً عن الكبار تفاجئك بعض وسائل الإعلام العربي بالحديث المغرق في التفاؤل
عن جهود القادة المجتمعين في سبيل وحدة الصف العربي. وحُقَّ لكل مسلم أن
يسأل: هل افترقوا بعد اتحاد حتى يتحدوا من جديد؟ وهل اتفقت وجهات نظرهم
المتباعدة جداً (!) على أمر أدهى مما يسمى زوراً وبهتاناً مشروع السلام،
ومحاربة التطرف واجتثاثه وتجفيف منابعه؟ نعم! إنهم متفقون كل الاتفاق وإن
اختلفت الأدوار باختلاف الجغرافيا، وما على القارئ أو المستمع لشيء من جرعات
التخدير تلك سوى الربط بين التصريحات المدوية والتهديدات الصريحة والمبطنة
ضد يهود، وبين الصورة الجماعية بعد المؤتمر وقد علت الوجوه ابتسامات مشرقة
رغم إرهاق الاجتماعات وعنائها (!) ثم لينظر القارئ والسامع، ولينتظر تنفيذ
شيء مما صُرِّح به. لينظر في الواقع: هل تحركت جيوش؟ هل بدأ تنفيذ مخطط
للتواصل مع تلك الجموع المجاهدة داخل فلسطين بدلاً من تركها نهباً للرافضة
الباطنيين؟ لن يتعب القارئ ولا السامع في الوصول إلى قناعة هي أشد ثباتاً من
الجبال الراسيات من أن الأمر تحصيل حاصل لقرارات قرأها أحدهم قبل انعقاد
المؤتمر الذي نجم عنه توحيد الصف ولمّ الشمل (!) .
حقيقة الصراع:
إن الإشكالية التي يعاني منها عقل المسلم وقلبه على السواء ناشئة من هذا
الاختزال العفوي أو المتعمد من بعض وسائل الإعلام لحقيقة الصراع وأبعاده، فلا
يكاد يصحو المسلم على حقيقة الصراع وجذوره إلاّ في ظل كارثة جديدة أو ما
يسمّى إعلامياً: «الانتفاضة» ، «موجة العنف» ... إلخ.
وجُلّ ما يأتي من الطرح الأصيل لحقيقة الصراع، إنما هو من الخطباء
والمنابر الإعلامية الإسلامية الملتزمة، ومن خلال مساهمات بعض الإعلاميين
الصادقين في منابر إعلامية غير إسلامية أو محسوبة على المسلمين، ثم لا يلبث أن
يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل هذه الحادثة أو تلك من تصوير للصراع على أنه
صراع على الأرض: على حدود معاهدة التقسيم عام 1948م، أو حدود هدنة عام
1967م، أو تنفيذ مبادرات السلام الهزيل.
وأخيراً وليس آخراً تنفيذ قرارات أوسلو ومدريد وما بعدها، وهذا الانكماش
في تصوير نوع الصراع من صراع عقدي إلى صراع على الأرض، يقابله
انكماش آخر في ساحة الصراع؛ حيث الراية عِمِّية مقابل الراية اليهودية؛ حيث
تردد وسائل الإعلام المختلفة المحلي منها والعالمي: «الصراع العربي الإسرائيلي»
رغم ما يحمله المصطلح من تناقض بارز؛ حيث أحد طرفي الصراع «ديني»
والآخر «قومي عرقي» ! !
إن المعركة كما يقول الأستاذ سيد قطب: «معركة عقيدة، إنها ليست معركة
الأرض ولا الغلة ولا المراكز العسكرية ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم
يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين؛ ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها،
فإذا نحن خدعنا بخدعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم ولأمته وهو سبحانه أصدق القائلين: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ
اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
كما أنها معركة متعددة الجبهات وليست مقتصرة على ساحة القتال العسكرية؛
حيث يدرك اليهود أنهم جميعاً لن يتمكنوا من قتل (180) مليون كبش ناهيك عن
(180) مليون عربي، ناهيك عن (1000) مليون مسلم؛ فإن ساحة الصراع
والحرب تمتد إلى عالم الاقتصاد والسياسة والعقيدة والفكر والتراث، وبكل ما
أوتوه من قوة.
إن الفارق بين عقلية الذي يفكر في السلام وقد تخلّى عن العقيدة والسلاح،
وبين عقل من يحارب ليستريح ويستريح ليحارب فارق كبيرٌ جداً، كالفارق بين
رسالة رئيس منظمة التحرير الطويلة إلى رئيس وزراء إسرائيل عام 1993م،
ورد رئيس الوزراء الإسرائيلي المقتضب، مع فوارق ظاهرية وجوهرية.
مستقبل الصراع:
مما سبق يتضح لنا أن اليهود وحلفاءهم سيصطدمون بالمسلمين في المنطقة،
وستجري حروب على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية،
وما هذه التيارات السياسية والاقتصادية العالمية المتتالية في القرن الميلادي الأخير
رغم قصر المدة إلا موجات تتناوب مع الخيار العسكري لمواجهة المد الإسلامي
ومحاولة القضاء عليه، وما تخدع كلمات دهاقنة السياسة الغربية المموهة إلا ذوي
العقول المشلولة والأفئدة السقيمة، [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ]
(الأنفال: 30) .
إن حقائق القرآن والسنة وشواهد التاريخ وتداعيات الواقع لتدل بما لا يدع
مجالاً للشك أن الصراع مع اليهود قائم ودائم ومستمر إلى قيام الساعة، ولن
يستطيع دهاقنة السياسة والاقتصاد تعطيل هذه النصوص القاطعة ولا السنن الربانية
الجارية، وبلا مبالغة هم أعرف بذلك من كثير من جهلاء المسلمين؛ حيث صرّحوا
أن الجولات السياسية ما هي إلا محطات استراحة يحققون من خلالها ما لم تحققه
الآلية العسكرية. يقول مناحيم بيجن في كتابه (التمرد) :» لن يكون هناك سلام
مع العرب ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله حتى لو وقَّعنا مع العرب معاهدة الصلح.
إن الأسلحة العبرية هي التي ستقرر حدود الدولة العبرية، ولا يمكن أن نشتري
السلام من أعدائنا بالمفاوضات. فهناك نوع واحد من السلام يمكن أن يشترى هو
سلام القبور «! كما يقول كارتر:» إن دولة إسرائيل أولاً وقبل كل شيء عودة
إلى الأرض التوراتية التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين. إن إنشاء إسرائيل
هو إنجاز للنبوءة التوراتية وجوهره «.
دور الإعلام والإعلاميين:
إذا علمنا كل ذلك وغيره مما لم يتسع المقام لذكره، رأينا كم هي التبعة الملقاة
على المنابر الإعلامية المختلفة، كما يتجلّى لنا جسامة المسؤولية الملقاة على كل من
تولى أمراً في هذه المنابر الإعلامية أو ساهم فيها.
إن معركة السلاح لا بد أن يسبقها إعادة صياغة لهذا الكيان بكل جزئياته؛
لتستعيد الأمة هويتها صافية من كل شائبة تسربت إليها من خلال وسائل الغزو
الإعلامي العالمي، أو من خلال العملاء أو الجهلاء الذين غرسوا في عقول
المسلمين الهزيمة النفسية وأصّلوها من خلال التبعية الفكرية والأدبية. وهذه
المسؤولية رغم ضخامتها يمكن للإعلامي المسلم أن يمارسها ولو مجزأة، ومن
خلال الوسائل المتاحة لا سيما في عصر الإنترنت وما تتيحه من انتشار لا يحتاج
معه إلى جواز لعبور الحدود والسدود التي بدأت تتهاوى بصورة أو بأخرى.
هذا بالنسبة للإعلامي المسلم.
أمّا الأجهزة الإعلامية فهي مطالبة بما هو أكبر من ذلك، إنها مطالبة ببرنامج
عمل متكامل، لعل من أبرز معالمه:
1 - عدم قطع الحديث عن عداء اليهود للأمة، حتى بعد إخراج آخر يهودي
من الأراضي المقدسة.
2 - توظيف الأحداث في تربية الأمة، ولنا في القرآن شواهد كثيرة، وكيف
أن الخطاب القرآني كان يستغل الحدث الواحد كتحويل القبلة لإبراز هذا العداء
الظاهر والمستتر.
3 - استعراض التاريخ القديم للصراع منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم،
وتجلية دور العقيدة السليمة في حسم النزاع لصالح المعسكر الإسلامي.
4 - توظيف طاقات الأمة المسلمة عربيها وأعجميها؛ لإعادة كتابة فصول
التاريخ المعاصر الذي تعاني كثير من طبقات الأمة من تجهيلها به وتشويه معالمه
على أيدي القوميين والعلمانيين، بسبب محاولاتهم المستميتة لستر عوار نكساتهم
وهزائمهم المتلاحقة.
5 - استخراج الدروس والعبر من أحداث 1948م، 1967م، 1973م،
1982م، وما تلا ذلك من اعتداءات اليهود وحلفائهم وتوظيفها لبث الوعي العقدي
والتاريخي والسياسي في أفراد الأمة المسلمة رجالاً ونساءاً.
6 - ألاَّ تنسينا كارثة فلسطين ما يجري في أندونيسيا والشيشان ... وغيرها
من البلدان المسلمة، فالأمة الإسلامية أمة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر.
ختاماً:
إن أطفالاً وشباباً يصنعون بحجارتهم ما لم تصنعه الجيوش والمدافع في زمن
الذل والانكسار حريّ بهم أن يحققوا انتصارات كاسحة إن شاء الله تعالى؛ إذا
توفرت لعقولهم وقلوبهم التربية العقدية، والإعداد اللازم في ظل إعلام ملتزم.
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .(157/74)
المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000.. عود على بدء
الألفية الثالثة وتفاعلاتها الخطرة
عبد العزيز كامل
تابع القراء على صفحات (البيان) الغراء، السلسلة التي نشرتها المجلة على
مدى ثمانية أشهر بعنوان (حُمَّى سنة 2000) وكانت السلسلة تهدف إلى الكشف
عن تفاعلات متوقعة مع بدء الألفية الميلادية الجديدة، تقف وراءها عقائد وأساطير
وأحلام وأوهام تنطلق من قناعات دينية يهودية ونصرانية، تدعو إلى الاستعداد
لأحداث اقتراب الزمان من نهايته، مع ابتداء الألف الجديد وفي سنواته الأولى.
وقد أسهبت الحلقات في عرض مظاهر هذا الانشغال الديني المتأثر بالعقيدة
الألفية التي جاءت الإشارة إليها أولاً في العهد القديم (التوراة) ثم أشار إليها العهد
الجديد (الإنجيل) ، وهي العقيدة التي يؤمن أهل الكتاب بمقتضاها أن من واجبهم
أن يهيئوا للتفرد بالسيطرة على العالم؛ كمقدمة لا بد منها للاستعداد لمقدَم المسيح
المخلِّص الذي سيأتي ليحكم هذا العالم في الألف الأخيرة من عمر الدنيا، فيكون هذا
هو العصر الذهبي للبشرية.
لقد ترتب على التأثر بتلك العقيدة أحداث ومخططات ظلت تتابع منذ أواخر
القرن الثامن عشر للميلاد، وطوال القرن التاسع عشر ثم طوال القرن العشرين؛
حيث كان النصارى، وبخاصة البروتستانت، يدفعون باليهود نحو التحرك للسيطرة
على الأرض المقدسة التي ستشهد في اعتقادهم أكبر أحداث فصول التاريخ الأخيرة.
حاولت في هذه الحلقات رصد الخلفيات التاريخية الماضية والتداعيات الحاضرة
والتوقعات المستقبلة لهذه القناعات الدينية عند أهل الكتاب، وخاصة تلك المرتبطة
بحلول العام 2000 للميلاد الذي جعلوه موعداً فيما يبدو لتدشين خطوات تأسيسية في
المخططات الكبيرة المستقبلية في منطقتنا العربية الإسلامية.
أما وقد آذن العام 2000م بالأفول، فمن حق القارئ علينا أن نطلعه على
خلاصة التفاعلات الحُمِّية الألفية التي وقعت منذ بداية العام 2000م وحتى كتابة
هذه السطور [1] ، وهي تفاعلات تبرهن مع غيرها، على أن العقائد الدينية الغيبية
لدى أهل الأديان لا تزال تمثل عامل دفع قوي يحرك الأحداث في عصرنا هذا،
عصر المادة وتقنياتها والفتنة بها.
نحن لا نريد هنا بداهة أن نثبِّت دعاوى الذين كفروا من أهل الكتاب في أن
الزمان يسير لصالحهم وفق رؤى كتبهم «المقدسة» ، ولكن نريد لفت الانتباه، أو
تكرار لفت الانتباه إلى أن أساطيرهم المستمدة من كتبهم بعد التحريف تتحرك إلى
عالم الواقع ودنيا الحقيقة، لا تبعاً لما يقولون إنه (نبوءات) ولكن طبقاً لما يرتبون
من خطوات ومخططات تقوم على تنفيذها قوى عاتية، تشق طريقها في ساحات
خاوية وميادين فارغة من كل أثر مؤثر في التصدي أو التحدي.
إن هذه القوى التي تتحرك بتلك البرامج الدينية المستقبلية في أرضنا
الإسلامية لا تستنكف عن الإعلان عن ولائها الديني الكفري الصريح، وعن سعيها
العنيد العنيف لفرضه بعد عرضه على جماهير الأمم المشغولة بصغائر الأمور.
لقد بدا أمام كل بصير أن هناك حزمة من الأحداث والتفاعلات المتجانسة في
طبيعتها يحاول الكتابيون أن يفتتحوا بها هذا القرن الميلادي ليثبتوا للعالم أن هذا
قرن (نهاية التاريخ) ، وكنت قد أشرت إلى أبرز موضوعاتها السياسية الدينية في
الحلقات الآنفة الذكر. والآن أعرض لأهم المستجدات المتعلقة بمشاريع تأجيج
الصراع الديني في المنطقة.
أولاً: الحرب السابعة: أوشكت على البدء.. أم بدأت بالفعل؟ !
انطلاقاً من مسلَّمة أن اليهود هواة حرب لا دعاة سلام كما دلت نصوص
الوحي، وتطبيقاً لهذه المسلَّمة على تاريخنا المعاصر، فقد كان متعيناً على أي
مراقب مدرك لهذه الحقيقة أن يفهم أن مسرحية السلام لن تستمر إلى آخرها، وأن
اليهود سوف يسدلون الستار عليها في الوقت الذي يريدون، ومن الفصل الذي
يحددون، وفي ضوء لجوء اليهود إلى افتعال حرب في كل عقد لتقليم أظافر العرب
وكسر شوكتهم وهو ما أسماه إسحاق شامير: (سياسة قلع الأسنان) [2] فقد كان
المرجح أن يُقبل اليهود على افتعال حرب جديدة هي (الحرب السابعة) على
التوالي، بترتيب العقود بدءاً من الأربعينيات الميلادية (التي أعلنت فيها دولة
اليهود) ، وإلى هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فهذا هو العقد السابع،
فهل تقوم فيه الحرب السابعة؟
لقد كانت هناك مرجحات لإشعال تلك الحرب في بدايات الألفية الثالثة: وعلى
رأسها اغتنام اليهود لفرصة هذه الفترة المفصلية في التاريخ، لتأجيج مشاعر
النصارى الدينية في العالم لصالحهم، باعتبار أن رأس الألفية، مناسبة دينية
نصرانية تربط بعمق بين مستقبل اليهودية ومستقبل النصرانية، على أساس أن
اليهود أداة قدرية لتحقيق ما أسموه: (خطة الإله لعودة المسيح) ، فإذا ما كانت تلك
الحرب قائمة على خلفية أحداث اعتقادية، فإن ذلك قمين بأن يلهب العواطف الدينية
لدى شعوب العالم النصراني، ويوحد مشاعرها خلف دعاوى اليهود الزاعمة بأنهم
محور أحداث ما يستقبل من الزمان.
والأمر الثاني من المرجحات: هو استغلال اليهود لتلك الأجواء بعد توفيرها
لضمان أكبر قدر من الدعم الغربي للوقوف أمام غضبة العالم الإسلامي، إذا ما
أقبلوا على تنفيذ المشروع التآمري الكبير: (هدم الأقصى وبناء الهيكل) ، أو
محاولة تمرير خطة التنفيذ وسط زحمة الأحداث، لكي لا تبدو عملاً مستقلاً مفرداً
ومقصوداً.
والأمر الثالث من المرجحات لإقبال اليهود على إيقاد تلك الحرب: قطع شوط
جديد على طريق المشروع القديم (إسرائيل الكبرى) ، ذلك المشروع الذي ما كان
لليهود أن يصروا عليه لولا استخفاف العرب به وادعاء بعضهم استحالة تحقيقه،
بدعوى عدم قدرة ذلك الشعب الإسرائيلي الضئيل، على السيطرة على تلك البقعة
المترامية من النيل إلى الفرات، ولسنا هنا بصدد تفنيد أسس هذا الاستخفاف العربي
(العقلاني) ولكن فقط نذكر بأن اليهود سواء في (إسرائيل) أو في أمريكا لا
يقصدون السيطرة العمرانية الجغرافية البشرية، ولكن: الهيمنة السياسية
والاقتصادية والعسكرية، أو بتعبير آخر: (إدارة المنطقة) وهو ما يتطور بانتظام
على أرض الواقع منذ أن بدأ الصراع.
- ومن المرجحات رابعاً: ما أشار إليه بعض خبراء الاستراتيجية، من
ترجيح احتمال نشوب حرب في المنطقة بسبب نقص موارد المياه [3] ؛ فاليهود
يضيفون بهذا سبباً آخر من الأسباب التي تجعلهم (مضطرين) إلى الكشف عن
أنيابهم المستترة خلف أقنعة السلام.
وفي ظل استمرار موجة الجفاف التي تعم أكثر مناطق الشرق الأوسط، والتي
استمرت عامي 1998، 1999م [4] ، وتبدو مستمرة هذه العام أيضاً كما توقع
الخبراء والله أعلم فإن دولة اليهود التي تحصل على 90% من المياه من موارد
جاراتها العربية، قد يستبد بها النزق الممزوج بالجبروت لمحاولة الاستحواذ على
نسب إضافية من الـ (10%) ، المتبقية لدول الجوار المسالم. ونحن نعلم أن من
أبرز أسباب الاختلاف في عملية السلام على المسار السوري الإسرائيلي مسألة
السيادة على المنطقة المحيطة ببحيرة طبرية؛ حيث يطمع اليهود أن يضمنوا
السيطرة على هذا المورد المائي الهام.
- أما المرجح الخامس: فهو الإصرار اليهودي النصراني المشترك على
استراتيجية الإخضاع التي تمارس بإصرار منذ زمان ضد أمة الإسلام بعامة
والعرب بخاصة ودول «الطوق» أو المواجهة المحيطة بـ (إسرائيل) بشكل
أخص.. وهي الاستراتيجية التي أطلق عليها شامير: (استراتيجية قلع الأسنان)
كما سبقت الإشارة إليها.
- وهناك مرجح سادس، وهو: أن الساحة العربية كما لمح أو صرَّح أكثر
قادة العرب في مؤتمر القمة الأخيرة، غير مستعدة للحرب الآن! ! كأن اليهود
سيقبلون هذا الاعتذار العربي لتأجيل وقت الحرب إن كانوا قد قرروها بالفعل!
وهل يطلب عاقل من اليهود إذا ما أرادوا أن يشعلوا ناراً للحرب أن ينتظروا
استعداد العرب لها؟ ! إنها ستكون بنظر اليهود فرصة ذهبية أخرى تقدمها إليهم
العلمانية العربية الفاشلة على طبق من فضة! حيث أعطوا اليهود هدنة مجانية
استمرت أكثر من عشرين سنة لكي يتمكنوا من تغيير خارطة الواقع بحسب تفاصيل
المتوقع، ولكي يتأكدوا من أن البقعة المباركة قد باعها أصحابها بثمن بخس سفارات
ومكاتب معدودة، ترفرف عليها أعلام نجمة داود في فضاء يضج بالصمت ...
صمت سلام القبور!
هذه هي أبرز المرجحات.
أما الذرائع، فلا تسل اليهود عن ذريعة.. إن جعبتهم ملأى بالذرائع
المزروعة كالألغام في كل مكان، ولكني أرى فيما يُسمى (حزب الله) ، وما يُدعى
من بطولاته المستوردة أو المصنعة محلياً ذريعة جاهزة أو يجري تجهيزها لإجراء
عملية إخضاع جديدة تقر بها أعين الشانئين المبغضين لهذه الأمة المسلمة من يهود
القلب أو يهود القالب، ولا نحتاج هنا إلى تعديد احتمالات التصعيد أو
(سيناريوهات) التنفيذ التي يمكن أن تترتب على اختيار هذه الذريعة أو تلك،
ولكن دعونا ننتظر لنرى ما ستسفر عنه التداعيات المحتملة أو المرتب لها من
وراء تفجير (انتفاضة الأقصى) في هذا التوقيت المريب..! هل يضربون
سوريا؟ ! احتمال وارد. هل يثنُّون بلبنان أو بالفلسطينيين في لبنان؟ أمر
محتمل.. هل يصعِّدون الموقف ويوسِّعون الدائرة؟ أمر غير مستبعد! هل
يضربون بتركيز أشد في الداخل الفلسطيني لإيجاد واقع جديد لمرحلة جديدة؟ أم
هل يُضرِبون عن كل هذا ويعدلون إلى أسلوب آخر؟ ! كل الاحتمالات يمكن
توقعها إلا توقع أن يقلع اليهود عن ديدن الإفساد، وخلق التخريب الذي أشار
إليه القرآن: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] (المائدة: 64) .
إن هناك شواهد كثيرة تدل على أن اليهود يُعِدُّون في هذه الآونة لإشعال حرب
جديدة؛ فمن تجميد لعملية السلام، إلى تهديدل سوريا ولبنان، إلى تجديد لأسلحة
المستوطنين، إلى اتجاه للتكتل بين الحزب الحاكم والأحزاب اليمينية الدينية
المتطرفة، إلى استدراج أو توظيف لـ (بطولات) (حزب الله) ، إلى مزيد من
إراقة دماء الفلسطينيين العزل، إلى اتجاه متزايد لعزل القدس ومنع المصلين من
الوصول للمسجد الأقصى.
كل هذه أعواد ثقاب من شأن الواحد منها فقط أن يضرم ناراً تشتعل بها
المنطقة كلها، ولكن هل يطفئها الله هذه المرة أيضاً؟ إنه على ذلك قدير، ولكن
مقاديره سبحانه تجري حسب حكمته لا حسب شهواتنا [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] (محمد: 4) .
ولكن هل هناك بوادر عملية، أو خطوات تنفيذية بدأها اليهود بالفعل على
طريق الحرب؟ ! هم يقولون كما صرح (شاؤول موفاز) رئيس هيئة الأركان
الإسرائيلي في (28 رجب 1421هـ 25 أكتوبر 2000م) : «بأن الجيش
الإسرائيلي يعيش حرباً بدأت بالفعل، وقد تستمر لمدة عام» ! وقد كرر هذا الكلام
في (3 شعبان 1421هـ 31 أكتوبر 2000م) .
هذا من الجانب الإسرائيلي، أما من الجانب الفلسطيني فلا نظن أن الحالة
التي يعيشها الشعب هناك منذ اندلعت أحداث الأقصى يمكن أن توصف بوصف أقل
من وصف الحرب، بل إن الحروب المعتادة تجري أحداثها في الغالب على جبهات
القتال بين جيوش معدة لوظيفة القتال، أما الحرب التي يصطلي الفلسطينيون
بويلاتها اليوم فهي بدع في الحروب، إنها حرب الطفولة المعزولة، في زمن غياب
الرجولة المسؤولة. وإلى أن تعود هذه الرجولة إلى مسؤوليتها، فهل هذه الحرب
الدائرة الآن هي بواكير حرب أكبر، أم مقدمات حرب أكبر، أم جس نبض، أم
(بروفة) لحرب أكبر؟ هذا ما ستسفر عنه أحداث الأيام والأشهر القليلة المقبلة،
ولكنها على أية حال البداية العملية الحقيقية للحروب الدينية المستقبلية التي ينبغي
أن نعد لها أجيالنا.
ثانياً: القدس.. أهذا هو الحل النهائي؟
كان العام 2000م، هو عام الحل النهائي حسبما قررت الدولة اليهودية وهو
عام الحسم النهائي كما وعدت السلطة الفلسطينية حيث توعد عرفات بإعلان الدولة
الفلسطينية فيها، على أن تكون عاصمتها القدس. لقد كان على رأس المسائل
المؤجلة لعام 2000م ضمن مفاوضات (الحل النهائي) قضية القدس التي تأتي في
مقدمة الموضوعات التي جرت دحرجتها منذ مؤتمر مدريد عام 1991م، حتى العام
2000م، بحجة إعطائها فرصة كافية للدراسة والتشاور. وكان معها من القضايا:
مسائل اللاجئون، الحدود، والمستوطنات والمياه، والدولة، وقد حشرت هذه
القضايا كلها ليتم الانتهاء منها في المباحثات الغامضة التي عرفت بـ (كامب ديفيد
الثانية) ، وقد تفاعلت الأحداث بعد هذا المؤتمر الذي أعلن عن تحطمه على صخرة
بيت المقدس؛ وكأنها رسالة أُريد لها أن تصدر في شكل توصية ضمنية عن
المؤتمر، مضمونها: أنه لا حل نهائياً لقضية القدس إلا بما يدبر اليهود ويخطط
النصارى، ولهذا فقد تتابعت التفاعلات المتنوعة عن مفاوضات الحل النهائي في
كامب ديفيد وكان من أبرزها كما لا يزال الناس يذكرون: توعد بيل كلينتون أن
يقدم موعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو الإجراء الذي من شأنه أن يجر
أكثر دول العالم إلى التتابع في هذا النقل، حيث يضع هذا العرب والمسلمين أمام
أمر دولي واقع، وكان هذا التوعد الأمريكي رداً على تهديد ياسر عرفات بإعلان
الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهو الإعلان الذي ظهر أن الأمريكيين لا
يقلون عن الإسرائيليين معارضة له؛ فهم وإن أظهروا في بعض الأحيان موافقتهم
على مبدأ إعلان الدولة الفلسطينية بشرط تجريدها من مقومات الدولة، إلا أنهم لم
يقبلوا في لحظة من اللحظات أن تكون القدس عاصمة لها، وهذا ما جعل (كلينتون)
يخرج عن تحفظاته المصطنعة، وحياده الكاذب، ويعلن أن السلطة الفلسطينية
تعرِّض نفسها لسحب الاعتراف بها، ومنع المساعدات عنها إن هي أعلنت عن قيام
هذه الدولة بتلك الصيغة التي يرددها عرفات بشكل دائم، أي أن تكون القدس
عاصمتها.
ومما شهده العام 2000م أيضاً فيما يتعلق بأمر القدس أن عرفات اضطر بعد
ضغوط من الدول (الصديقة والشقيقة) إلى تأجيل هذا الإعلان الذي كان مقرراً في
13 سبتمبر 2000م إلى أجل غير مسمى. وهو تأجيل يدل على أن الأطراف
المعنية تدرك تماماً أن الحل النهائي لمصير القدس له صيغة واحدة مقبولة لدى
(الشرعية الدولية) ومن يقومون عليها في العالم (الحر) ، وهي صيغة أن تكون
القدس عاصمة أبدية موحدة لدولة اليهود.
ومن التداعيات المتعلقة بمصير القدس ما قرره يهوذا باراك من العزم على
تنفيذ مشروع الفصل بين العرب والفلسطينيين، وهو الفصل الذي من شأنه أن
يجعل من المناطق الفلسطينية وعلى رأسها القدس الشرقية مناطق حصار يفرض
ويرفع عنها حسبما تقضيه الظروف الإسرائيلية.
وقد شهدت الفترة التي أعقبت (كامب ديفيد) مناورات للتعمية على ما يراد
للقدس أخذت شكل مشروعات معروضة للنقاش بشأنها من جديد، ومنها مشروع
التدويل: أي جعلها مدينة دولية مفتوحة، أو عاصمة للعالم كما اقترحت بعض
القيادات الفلسطينية أو يتم تقاسم السيادة عليها بشرط ألا يأخذ الفلسطينيون منها إلا
اسمها، بعد أن يخلع ذلك الاسم على مدينة (أبو ديس) ، كما اقترح أن تُسند
السيادة (المؤقتة) على القدس إلى الأمم المتحدة.
ولكن وفي حمأة هذا التنافس في اختراع صيغ تخرج القدس من إطار السيادة
الإسلامية التي رفضت رفضاً باتاً إذا بباراك وشارون يقلبان الطاولة، ويعلنان
بلعلعلة الرصاص في سماء الأقصى، وبلغة السحل في شوارع القدس؛ أن هناك
حلاً واحداً لمصير القدس وهو تفريغها من كل من يقول لا إله إلا الله، وقد أبان
اليهود خلال أحداث انتفاضة القدس أن أهل القدس مستثنون من الانتفاض، وكأن
الإسرائيليين يقولون: فلينتفض الفلسطينيون في أرجاء فلسطين، أما القدس التي
يتجمعون في أيام الجمع في أقصاها للذود عنه وعنها، فلا بد من التحكم فيمن
يدخلها ومن لا يدخلها، إن هذا يعني أنهم يقدرون على جعل القدس مدينة معزولة
عن الفلسطينيين والعرب، بل عن المسلمين والعالم في الوقت الذي يريدون. وقد
أثبتت الأحداث أنه لا اختلاف بين كل الفرقاء في داخل الكيان اليهودي حول مصير
القدس، وهذا ما أعلنه الرئيس الإسرائيلي الجديد (موشيه كتساف) بعد حلف
اليمين الدستورية في (1/8/2000م) حيث قال: «إن القدس الموحدة تحت
السيادة الإسرائيلية، لن تكون محل اختلاف بين الإسرائيليين، ولن ينقسموا بشأنها
إلى معسكرين» ، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي في اليوم نفسه على قانون
أساسي (يعادل قوة الدستور) ينص على أن القدس بشطريها هي عاصمة إسرائيل
الموحدة الأبدية، وهذا يعني أن أي حزب أو حكومة أو شخص أو جهة تدعو إلى
غير هذا، تكون خارجة على الدستور.
ثالثاً: المسجد الأقصى: هزة يهودية ... وصحوة إسلامية:
بعد الهزة التي أحدثها اقتحام (وليس زيارة) شارون للمسجد الأقصى مع
المئات من حراسة المدججين بالسلاح من طلائع الدجال، بعد هذه الهزة انقدحت
شرارة الانتفاضة من بؤرة المركز في القضية المركزية؛ فقد أحدث الاقتحام ما كان
يتوقعه أو ينتظره شارون ومن ورائه باراك؛ حيث تزلزلت الأرض المقدسة،
وتداعت لزلزالها بقية بلدان المسلمين، وقد ظهر كما لم يظهر من قبل أن الانتفاضة
هذه المرة لها وللتداعيات حولها طابع خاص؛ فهي في ملامحها الأولية تأخذ صورة
انتفاضة إسلامية، لا وطنية ولا قومية، يمكن لها إذا أُحسن توجيهها أن تكون بداية
لتصحيح المسيرة التي اعتراها الاعوجاج في المراحل السابقة من الصراع.
وتسلسل الأحداث بعد بدء الانتفاضة في 28 جمادى الثانية من عام 1421هـ
الموافق 25 سبتمبر (أيلول) من عام 2000م، لا يزال مستمراً، ولكن المخطط
اليهودي النصراني الإجرامي الرامي إلى هدم المسجد الأقصى، يلقي بظلاله القاتمة
على تلك الأحداث التي ضبطت برامجها فيما يظهر على تواقيت الفعل المستفز،
ورد الفعل المنتظر. فماذا كان يُنتظر من المسلمين في فلسطين أن يفعلوا وهم
يرون نجساً من الأنجاس يدنس بأقدامه الساحات الطاهرة [5] ؟ وماذا كان ينتظر
منهم وهم يشاهدون الدماء تسيل رداً على الاحتجاج؟ وماذا كان ينتظر وهم يرون
الدبابات تنضم إلى المصفحات، والرشاشات تساندها الطائرات؟ ! إنها ردود
الأفعال التلقائية المنتظرة لكي يبنى عليها ما بعدها.
ها هو العام 2000م تفتعل فيه الأحداث الجسام، ليؤكد بنو إسرائيل لبني
إسحاق أن عصر التحام الأمة الضالة مع الأمة الغضبية قد بدأ، وأن مسيرتهما
المشتركة لإنجاز ما تبقى من أشراط العلو الكبير تمضي بانتظام، وأن ذكرى ذلك
العام الميلادي التي لا يعترف اليهود بصاحبها، تمثل علامة فارقة في التاريخ،
ولهذا فلا ينبغي أن يكون عاماً ككل الأعوام في نظرهم.
رابعاً: الهيكل الثالث: حجر الأساس (الرسمي) يسبق كل الأحجار:
شهد هذا العام ما لم يسبق حدوثه على صعيد المسعى الخبيث لبناء الهيكل
الكفري الشركي المنسوب زوراً لسليمان عليه السلام [6] أما هذا الحدث فهو صدور
إذن رسمي من الدولة العبرية لجماعة أمناء الهيكل اليهودية الأمريكية بإرساء حجر
الأساس إيذاناً بمرحلة البدء في التنفيذ (في 15/10/ 2000م) ، ومن الغريب هنا
أن زعيم الجماعة (غورشون سلمون) قال للصحفيين في تلك المناسبة: «إن
مشروع البناء سيحتاج إلى مدة سنة كاملة للانتهاء منه» ، ووجه الغرابة في ذلك أن
رئيس هيئة الأركان الإسرائيليي (شاؤول موفاز) صرح بعد ذلك بأيام قليلة أن
الحرب التي اعتبرها قد بدأت قد تستمر لمدة عام! فهل يبقى اليهود على أوار
الحرب مع الفلسطينيين وغيرهم حتى ينجزوا مشروعهم المشؤوم؟ !
أمر آخر لافت، يتعلق بالهيكل الثالث وما يُعَدُّ له؛ فالبقرة الحمراء التي أعلن
عن ظهورها عام 1996م، يبدو أن اليهود قد استبدلوها بأخرى (موديل 2000)
فقد أُعلن في شهر أغسطس من عام 2000م عن ظهور بقرة أخرى مطابقة
للمواصفات (أمريكية هذه المرة) في ولاية تكساس، وقالت صحيفة يدعوت
أحرونوت في عددها الصادر في (16/9/2000م) : «إن البقرة الجديدة ستنقل
إلى القدس قريباً» .
وهنا أذكِّر بأن موضوع البقرة المنتظرة ليس قصة فكاهية يتندر بها اليهود في
مجالسهم بل هي عقيدة وشريعة لازمة عندهم، تتعلق بتطهير شعب يوقن بأنه
متلبس بالنجاسات منذ ألفي عام، ولن يتطهر منها إلا برماد تلك البقرة، ولذلك
يطلقون على عملية إحراقها قبالة الهيكل لتطهير الشعب اليهودي بها: (الشريعة
الأبدية) كما نصت على ذلك توراتهم.
خامساً: البصمات الألفية على السياسة الدولية:
بدت هذه المظاهر في أشكال متعددة أراد أصحابها فيما يظهر ألا يمر العام
2000م، دون بصمات يتركها محفورة في ذاكرة التاريخ؛ بحيث تظل مرتبطة
بتلك الذكرى النصرانية في الأصل التي تحولت إلى تقويم دولي. شهدت سنة
2000م أكبر هجمة تبشيرية في عقر ديار المسلمين؛ إذ أتيحت لرأس النصرانية
الكاثوليكية (بولس السادس) أن يقيم على أراضي المسلمين قداسات مفتوحة وعلى
الهواء، وذلك في زيارته للمنطقة التي شملت فلسطين والأردن ومصر في شهر
مارس 2000م، وكان مقرراً أن يزور العراق وسوريا أيضاً، إلا أنه أجَّل زيارة
سوريا، وألغى زيارته للعراق تجنباً للسخط والاحتجاج الأمريكي. لقد كانت تلك
الزيارة (الألفية) ذات معانٍ وإيحاءات متعددة، تترك انطباعاً بأن نصارى
الكاثوليك الذين يتحدث باسمهم (البابا) قد بدؤوا يجدُّون في السير على الدرب الذي
سبقهم إليه نصارى البروتستانت، للاقتراب من اليهود، والتحول الكبير إلى ما
يخدم أهدافهم في منطقتنا الإسلامية، وكان على رأس هذه الخطوات في ذلك،
إشعار رأس الكنيسة الكاثوليكية اليهود، بأنه لا مانع لدى النصرانية الكاثوليكية من
اتخاذ القدس عاصمة لهم (مؤقتاً) ، وقد ظهر ذلك من خلال زيارة بابا الفاتيكان
للقدس، وإقراره الضمني بكونها عاصمة لدولة (إسرائيل) بعد حضوره للعديد من
المناسبات واللقاءات التي ألقى اليهود فيها على أسماعه عبارة (القدس هي العاصمة
الموحدة الأبدية لدولة إسرائيل) دون أن يصدر عنه ما يدل على تحفظ أو اعتراض.
وكان من اللافت أيضاً أن يشهد العام 2000م عودة إلى الحديث عن الطرح
النصراني للحل النهائي لقضية القدس، وهو أن تصبح القدس (عاصمة العالم) ،
وهو الطرح الذي أصبح أكثر الصيغ قبولاً على المستوى الدولي بعد أن تعارضت
الصيغ المعروضة من الجانب الفلسطيني العربي، والجانب الإسرائيلي الأمريكي.
أما على الجانب السياسي المدفوع دينياً، فقد شهدت الولايات المتحدة
الأمريكية ولأول مرة في تاريخها معركة انتخابية، كانت المزايدة على الموقف من
القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها إحدى الورقات الكبرى للتنافس على كسب
أصوات اليهود، لا بل إن استرضاء اليهود قد بلغ حد أن يُعيِّن الحزب الديمقراطي
نائباً يهودياً أرثوذكسياً متديناً لمرشحه للرئاسة الأمريكية وهو السيناتور (جوزيف
ليبرمان) ، وهذا يعني أن نسبة من الشعب الأمريكي لا تقل عن نسبة من صوتوا
لآل جور تقبل أن يكون الرئيس الأمريكي يهودياً قلباً وقالباً. وهذا تحول في غاية
الخطورة، يدل على المدى الذي وصلت إليه قوى اليمين الديني النصراني
الصهيوني السائرة بإصرار في طريق تسلم زمام السلطة في القطب الوحيد في
الأرض؛ فهل تشهد الألفية الجديدة في مراحلها الأولى صراعاً تنافسياً بين النجوم
الخماسية والنجوم السداسية على العلم الأمريكي؟ أم ستصبح أمريكا القرن الحادي
والعشرين هي ولايات متحدة إسرائيلية؟ !
لقد ترادفت تلك التفاعلات، والألف الثالث للميلاد لم يبدأ بعد.. فالعام 2000 م
قد حل (خطأً) محل العام 2001م الذي يمثل العام الأول في ذلك القرن، فهل
تستمر التخاريف العلمية والعملية لبداية الألفية لعام آخر.. الله أعلم!
__________
(1) في 10/8/1421هـ 6/11/2000م.
(2) قال إسحاق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في كلمة له أمام حشد من اليهود الأمريكيين: «يتعين علينا في كل عشر سنوات مرة أن نُجِلسَ العرب على كرسي طبيب الأسنان، كي نقلع أسنانهم التي نبتت حتى لا يعضونا بها» ! .
(3) انظر (قراءة في فكر علماء الاستراتيجية) ، د جمال عبد الهادي، ص 20، طبعة 1999م.
(4) ظاهرة الجفاف في العامين الماضيين أوجدت وضعاً لم نسمع به من قبل في بعض الدول العربية، وهو الدعوة العامة إلى صلاة الاستسقاء، وقد حدث هذا في كل مصر والعراق وسوريا، وحتى الدولة المغتصِبة (إسرائيل) دعا حاخاماتها إلى إقامة صلوات يهودية خاصة من أجل طلب السُقيا من
السماء!.
(5) الحاخامية اليهودية الكبرى ظلت تمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى طوال السنوات الماضية، خوفاً من أن يطأ أحدهم موضع (قدس الأقداس) الذي لا يجوز ليهودي لم يتطهر برماد البقرة الحمراء أن يطأه برجليه ومع ذلك فإن هؤلاء الأنجاس لا يرون بأساً في تنجيس أرض المسجد الأقصى واستباحته رغم أنهم لم يطهروا بعد، ولن يطهروا أبداً! .
(6) صحيح أن سليمان عليه السلام شيد المسجد الأقصى تشييداً عظيماً في عصره، ولكنه بناه على أساس التوحيد والإيمان، لا على أساس الشرك والكفر والبهتان الذي يريد اليهود والنصارى أن يشيدوه على أساسه.(157/78)
المسلمون والعالم
معالم في قضيتنا الكبرى.. فلسطين
د. سليمان بن حمد العودة
مهما تحدث الناسُ عن اليهود، ووصفوا طباعهم ونفسياتهم فلن يبلغوا مبلغ
القرآن في ذلك، وكفى أن يستيقن المسلمُ شدةَ عداوتهم وهو يقرأ قوله تعالى:
[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] (المائدة: 82) ، وأن
يعلم نوعية سعيهم في الأرض من قوله تعالى: [وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً]
(المائدة: 64) أجل إنهم ملعونون على لسان أنبيائهم بما عصوا وكانوا يعتدون،
وقساةُ قلوب بشهادة الذي خلقهم وهو العليم الخبير: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً] (المائدة: 13) ، وهم أسرع الناس للإثم والعدوان بشهادة
القرآن على أكثرهم: [وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (المائدة: 62) .
والحديث هنا ليس وصفاً لليهود أو استجماعاً للنصوص التي تكشف طبائعهم
ومواقفهم وخبثهم؛ فذلك له حديث خاص وإنما يتركز حديث اليوم على قضيتنا
الكبرى مع اليهود بمعالمها وأبعادها وطبيعة الصراع فيها لا سيما ونحن نسمع ونرى
هذه الأيام أحداثاً دامية واعتداءً صارخاً على المسلمين، ومحاولات تتكرر للعبث
بمقدساتهم، واستفزازاً أهوج لمشاعرهم، وما الحوادث التي تدور رحاها الآن في
فلسطين وراح ضحيتها عددٌ من القتلى ومئات من الجرحى إلا حلقة في هذا
المسلسل الإجرامي الحقود.
وحتى ندرك حجم القضية ونعلم طبيعة المعركة مع اليهود نورد سؤالاً ثم
نجيب عليه أو على بعضه.. والسؤال يقول: ما هي أبرز المعالم في قضيتنا
الكبرى مع اليهود؟
والجواب:
1 - ليست قضيتنا مع اليهود قضية أرض مجردة يمكن أن نتقاسم فيها النفوذ
وأن نتعايش بسلام: كلا؛ فالقضية قضية مقدسات إسلامية، وحقوق مغتصبة،
قضية حق يمثله الإسلام والمسلمون تُطمس هويته ويُشرد أبناؤه، وباطل تمثله
اليهودية المحرفة، وينتصر له اليهود المغضوب عليهم والنصارى الضالون قضيتنا
لها بُعدها العقدي ولها امتدادها التاريخي.
2 - وليست قضية فلسطين بمقدساتها وتاريخها قضية العرب وحدهم كما يريد
الغرب ومن سار في ركابه أن يُشيعوه: بل هي قضية كل مسلم على وجه البسيطة
يؤمن بالدين الحق ويستشعر عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وينتمي لهذه
المقدسات.
3 - والقضية كذلك ليست حقاً خاصاً لمسلمي اليوم يتصرفون فيها كيفما
شاؤوا، ويتنازلون إذا اتفقوا: كلا.. بل هي ميراث وأمانة.. ميراث عن الآباء
وأمانة لا بد من تسليمها للأبناء؛ فقد فتحها أسلافنا بدمائهم، وحرروها بصدق
عقيدتهم وجهادهم، ولا يحق لنا أن نهدر هذه الجهود حين غاب المحررون، كما لا
يسوغ لنا أن نحجر على مسلمي الغد فنكبلهم بمعاهدات سلام هزيلة، ونبيع حقنا
وحقهم بأبخس الأثمان.
4 - ما هي اللغة التي تفهمها إسرائيل ويحتاجها العرب والمسلمون؟ إنها لغة
القوة، وبهذه القوة استسلم اليهود عبر التاريخ؛ وإذا تجاوزنا تاريخهم قبل الإسلام،
ووقفنا عند تاريخهم في المدينة مع محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين رأينا كيف
كان غدرهم ونقضهم للعهود، ورأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يتعامل معهم
بالحصار والإجلاء، بل وتقديم طوائف منهم لتحصد رؤوسهم ويساقون إلى الموت
وهم ينظرون، وكيف لا يكون ذلك وقد نقضوا العهود، وألَّبوا الأعداء، ودلُّوا
المشركين على عورات المسلمين في أُحُد، ثم كانت غزوة الخندق ومجيء الأحزاب
بتخطيطهم مع مشركي قريش؛ وآخر طائفة منهم تماسكت على العهد خوفاً من
المسلمين حتى إذا لاحت لهم الفرصة غدرت بنو قريظة في أشد الظروف وأحلكها
على المسلمين؛ وتلك التي قال الله عنها: [إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ
وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) .
ذلك نموذج لغدر اليهود في زمن النبوة، وذلك أسلوب نبوي للتعامل معهم،
وهدي المرسلين صالحٌ للاعتبار والاقتداء في كل زمان ومكان.
5 - ما مفهوم إسرائيل للسلام، وما هدفُها من إشاعة مفاهيم السلام؟ إننا
نخادعُ أنفسنا حين نعتقد أن إسرائيل جادةٌ في تحقيق السلام؛ والواقع يشهد بإفلاس
المسرحيات الهزيلة للسلام، ومن كامب ديفيد بمراحله المختلفة وأدواره المكشوفة،
إلى مدريد أو غيرها من محطات السلام استَسمن المخدوعون بالسلام ورماً، فإذا
الجبلُ يلد فأراً، وإذا الانتقام يعقب السلام ومدادُه لم يجف بعد، فتتحدثُ الديانة
المجنزَرة باسم السلام الذي تريده (يهود) وينطق الرشاس، وتحوم الطائرات
المروحية، وترمى الطلقات المطاطية وغيرها بشكل عشوائي لتصيب الأطفال
والنساء والشيوخ.. وتكون هذه وتكون هذه؛ وتلك لغة السلام المعبرة في ذهن
إخوان القردة والخنازير؟ !
وَمَن صنع مسرحية السلام؟
موقف إسرائيل من السلام ليس على ظاهره؛ بل دافعها للسلام إظهارُ نفسها
للعالم بصورة الإيجابية المحبة للسلام وذلك لتستقطب الاستثمارات وتفتح الأسواق
الخارجية؛ تعزيزاً لاقتصادها. أو هي باختصار كما يقول أحدُ اليهود [1] وهو
شاهد من أهلها: «ليست (عملية السلام) سوى حملة علاقات عامة لترويج
إسرائيل» [2] .
6- وقفة إشادة وتقدير لأطفال الحجارة الفلسطينيين الذين أرعبوا اليهود: لكن
السؤال المهم: هل بلغت أمة المليار حداً من الضعف حتى أنابت عنها في قتال
الأعداء أطفالاً لا يملكون إلا الحجارة يقاتلون بها اليهود ويرهبون بها مَنْ وراء
اليهود؟
وفي المقابل فإن أمة مدججة بالقوة وتعد ترسانة للسلاح النووي وغيره يرهبها
أطفال عزل من السلاح؛ ليست خليقة بالبقاء ولا قادرة على الصمود والتحدي حين
يتوفر المجاهدون الصادقون، عجَّل الله وجودهم.
7 - الغرب ومنظمات الجهاد والأصولية: ومن هنا يُعلم سر تخوف الغرب
واليهود من تنظيمات الجهاد وصيحات المجاهدين وما يسمونهم بالأصولية،
ومحاولاتهم تشويه صورتهم ووصف المجاهدين بالإرهابيين؛ ذلك لأنهم يدركون أن
هؤلاء عدوُّهم الحقيقي، وهؤلاء هم خطرهم المستقبلي يصرحون بذلك في كتبهم
ولا يكتمونه، يقول الرئيس الأمريكي (نيكسون) : «إن صراع العرب ضد
اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب وإسرائيل والدول
العربية المعتدلة من جانب آخر» [3] .
ومن جانب آخر يعلنون بكل صراحة ويقولون في ملتقياتهم العامة: على
روسيا وأمريكا أن تعقدا تعاوناً لضرب الأصولية الإسلامية.
ويقولون كذلك: «علينا نحن الأمريكان والروس تناسي خلافاتنا والتحالف
معاً لضرب الإسلام» [4] فهل يا تُرى يستفيق المغفلون الذين يرددون ما تردده
الدوائر اليهودية والنصرانية في الغرب والشرق عن إخوانهم المسلمين؟ وهل ندعم
الجهاد الحق وهو ذروة سنام الإسلام ليكون الفيصل بيننا وبين أعدائنا، وهو أقصر
الطرق وأنفعها لاسترداد حقوقنا وتحرير مقدساتنا؛ «وما ترك قومٌ الجهاد في سبيل
الله إلا ذلوا» .
يا للخيبة والعار حين يُسارع ممثلو الفلسطينيين لاستجداء الآخرين في صفقات
السلام الهزيل وهم المُعتدى عليهم في الوقت الذي يرفض فيه زعماء إسرائيل
حضور هذه الملتقيات وهم المجرمون المعتدون؟
لا بد من تحقيق الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وفي كتابنا العزيز:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] (المائدة: 51-52) .
8 - بين الحماس الشعبي والتَّراخي السياسي يبرز مَعْلَمٌ من معالم الموقف في
قضيتنا الكبرى: فالمتأمل في الأحداث الجارية مع اليهود في فلسطين يلاحظ حماساً
وعاطفةً إسلامية تنفذ في قلوب الشعوب العربية والإسلامية منددة باليهود، ليس فقط
في حدود فلسطين بل وخارجها، ومن أطفال الحجارة إلى المنظمات الجهادية إلى
المظاهرات الطلابية. وفي أرض الكنانة (مصر) نموذج لهذا الحماس الإسلامي
تجاه المقدسات وتجاه الدماء الإسلامية، وفي مقابل ذلك هناك فتور وتراخ في
الموقف السياسي ممن يملكون القرار، ولا يزالون يحملون حقائبهم للمفاوضات
الخاسرة على الرغم من النكسات المريعة والصلف اليهودي المثير، ولا تزال
الشعوب العربية والمسلمة تتطلع إلى قرار جماعي وموقف بطولي يضع حداً لعنف
اليهود وينهي مرحلة الذل والاستسلام.
9 - ضعف الإعلام العربي والإسلامي في خدمة قضية فلسطين: نلاحظ
ضعفاً في إعلامنا العربي والإسلامي تجاه قضية فلسطين الكبرى، وللإعلام دورُه
في إذكاءِ حماس الشعوب، بل وفي الضغط لاتخاذ مواقف جادة مع بني صهيون ,
وماذا يصنع الإعلام الغربي واليهودي لو أن طفلاً يهودياً قتله المسلمون؟ فكيف
بمجموعة من الأبطال والرجال والنساء يُقتلون؟ وكيف والعبث بالمقدسات
والاستفزاز في الزيارات ديدن اليهود؟ والمأساة هي التغفيل من قبل الإعلام إلا
عواطف مجردة تخرج عند الحدث ثم لا تلبث أن تخبو وكأن شيئاً لم يكن.
أما الإعلام الكافر فمعروف بتحيزه وخدمته لقضايا فكره والدفاع عن أبناء
جنسه وملته، وهو غير ملوم في ألاَّ نخدم قضايا المسلمين، ولكن الملوم إعلام
العرب والمسلمين؟ على أن أمر القضية الكبرى ليس مسؤولية الإعلاميين وحدهم،
بل ورجال الفكر وأساتذة الجامعات؛ وذلك بإثراء القضية بأحاديثهم وبحوثهم
ومقالاتهم وكتبهم؛ فأين هؤلاء جميعاً من قضيتهم وبكل نزاهة وتجرد وصدق
وإخلاص؟
10 - الهيئات والمنظمات الإسلامية والقضية: إن سؤالاً وجيهاً يطرح نفسه:
كم في العالم العربي والإسلامي من هيئة ومنظمة إسلامية، وأين دورها وما أثر
هذا الدور في خدمة القضية؟ وهل يقارن أثرها وجرأتها بالمنظمات والهيئات
الغربية؟ أم أصيبت بنوع من الإحباط لكثرة رزايا المسلمين، سواء كان هذا أو
غيره من الأسباب فلا يُسوَّغ صمتها في بيان الموقف الإسلامي بعيداً عن أي
مؤثراتٍ أخرى، ولا يعفيها من المسؤولية إن جاء صوتها متأخراً وهزيلاً؟ وأي
هيئة أو منظمة إسلامية لا يعنيها شأن المقدسات ولا تستنكر نزيف الدماء المسلمة،
ولا تندد بظلم الطغاة والمجرمين فماذا تُقِرُّ، وماذا تستنكر؟
وللحق أن يُقال: إن ثمة هيئات ومنظمات إسلامية تستنكر؛ لكن الحديث عن
الأعم والأغلب، وهو دون المستوى المطلوب في حجمه وفاعليته!
11 - بين خسارتين: لا شك أن سقوط عددٍ من القتلى والجرحى في أرض
فلسطين خسارة للفلسطينيين والمسلمين، ولا شك أن إرهاب الآمنين من المسلمين
في الأراضي المحتلة يُسيء للفلسطينيين وعموم المسلمين، ولكن الخسارة تصبح
أعظم لو سار قطارُ السلام واستثمره اليهود والنصارى لصالحهم ضد المسلمين، فتمَّ
التطبيع، وصدَّرت إسرائيل أفكارها وعقائدها، وروجت للمخدرات، وانتشر
الفساد الخلقي، وراج سوق البغايا. إن حُمق اليهود واستفزازهم أشعل فتيل العداوة
ضدهم وذكَّر المسلمين بأهدافهم ومخططاتهم، واستيقن من لم يستيقن من المسلمين
بعدم جدوى عمليات السلام وضرورة الاستعداد للمواجهة مع اليهود مستقبلاً، وهذه
وتلك إيجابيات للأحداث [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]
(النساء: 19) .
12 - تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى: تلك حقيقة قرآنية تكشف عن تنازع
اليهود واختلافهم فيما بينهم وهم كذلك في القديم والحديث، وينبغي أن يدرك
المسلمون هذا الخلل عند اليهود، ويستفيدوا منه لصالح قضيتهم، ولئن ظهر للناس
اليوم أن اليهود متفقون ومتماسكون في فلسطين فليس الأمر كذلك؛ بل تشير
الدراسات إلى عددٍ من المشاكل التي تُقلق مضاجعهم؛ فهم أحزاب متناحرون،
ووصل الأمر إلى قتل المتطرف منهم للمعتدل في نظرهم وإن كانوا في نظرنا
متطرفين، والهجرة المعاكسة والخروج من فلسطين لدى بعض اليهود بسبب عدم
توفر الأمن لليهود يقلق الإسرائيليين، كما يقلقهم عدم استجابة السكان اليهود لدعوى
تكثير النسل، ولا سيما أنهم اكتشفوا أنه مقابل كل شهيد فلسطيني يُولد عشراتٌ من
الفلسطينيين، وهكذا الطبقية المقيتة تزعج اليهود، ولو أن المسلمين صدقوا في
جهادهم لاكتشفوا كثيراً من طباعهم وعناصر الضعف فيهم.
وأقف ويقف غيري متسائلاً: وماذا ستتمخض عنه هذه المشاعر العربية
والإسلامية الغاضبة تجاه ما يصنعه اليهود اليوم في أرض المقدسات؟ ولئن قيل
إنها ستنتهي عند حدود الشجب والاستنكار كما حدث في مجزرة الخليل ومذبحة
صبرا وشاتيلا وسواها من أحداث دامية ارتكبها اليهود، وهي مسطورة في
تاريخهم الأسود؛ فهناك من يقول: إنها وإن كانت كذلك في المنظور القريب، فإنها
على المدى البعيد ستشكل هذه المآسي أرضية تنبت العزة والكرامة لدى الشعوب
العربية والمسلمة، وستكون سلاحاً يُقاتل به اليهود، وسينشأ في هذه المحاضن
الصعبة أطفال يرضعون كره اليهود ومن شايعهم مع حليب أمهاتهم، وسيكونون
رجال المستقبل يقاتلون وهم صادقون، ويصبرون حتى ينتصروا.
ولكنها مأساة بحق مسلمي اليوم حين يلوذون بالصمت وهم يرون الحقد
اليهودي يتزايد، والدعم الغربي لدولة الصهاينة يتفاقم، والهيئات والمنظمات الدولية
تتفرج، بل ربما تتلذذ بمشاهدة المسرحيات وهي تُنفذ وهم خلف الستار.
أجل لا يسوغ لأمة ولدت أطفالاً يقاومون بالحجارة أن تظل تتفرج على هؤلاء
الأطفال وهم يقضون نحبهم كما يتفرج غيرهم دون أن ينصروا مظلوماً أو يردعوا
ظالماً؛ وماذا سيكون موقف الحكومات الإسلامية التي تورطت بعلاقات واتفاقات
اقتصادية أو ثقافية أو عسكرية أو نحوها مع إسرائيل وهي تفعل اليوم ما تفعل
بأبناء فلسطين ومقدسات المسلمين وإخوانهم المسلمين؟ ! إنها مأساة حين يتفرج
أبناء الملل الأخرى على ما يحصل لأبناء المسلمين ولسان حالهم يقول: أين أهل
هؤلاء؟ أين أبناء ملتهم؟ أليس دينهم يقول لهم: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]
(الحجرات: 10) أليس بينهم من يقول لهم: «انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً» [5] ، فأين حقوق الأخوة؟ وأين وسائل النصرة؟
البعد الديني في القضية الكبرى:
قضيتنا في فلسطين وحربنا لليهود لها بُعدٌ ديني ليس فقط عندنا معاشرَ
المسلمين، بل وعند اليهود والنصارى، ولكن الفرق أن لنا وعداً حقاً ولهم وعدٌ
مفترى، أما وعدنا الحق فأساسه الكتاب المحفوظ وبشارات المصطفى صلى الله
عليه وسلم بقتل اليهود وبمساعدة الشجر والحجر على قتلهم..... إلا الغرقد فإنه من
شجر اليهود، وأحاديث نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان، وأنه سيقتل
اليهود والنصارى ويحكم بالإسلام، وما ورد أن بلاد الشام ستكون معقلاً للمسلمين،
ومنها يقاتلون الروم، إلى غير ذلك من وعودٍ صادقة تؤكد أهمية بلاد الشام
للمسلمين ومنها فلسطين، وما سيكون فيها من ملاحم بينهم وبين أعدائهم هذا كله
فضلاً عن تعلُّق المسلمين بالمقدسات هناك وشعورهم بضرورة حمايتها من الخطر
اليهودي والنصراني.
أما الوعد المفترى لليهود فيقوم على نصوص محرفة في التوراة يقول أحدها
كما في الإصحاح الخامس عشر: «يقول الرب تعالى عما يقولون لنسلك (يعني
يعقوب) أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» .
وفي الإصحاح السابع والعشرين تتمة ذلك: «يُستعبد لك شعوب، وتسجد لك
قبائل، ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين» ، ومن هنا قال ابن جوريون
(رئيس أول حكومة يهودية) : «تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين:
مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم
الشعب اليهودي ذاته وهو: الوعد الإلهي والأمل بالعودة ... » والملاحظ أن هذا
البعد الديني لا ينفرد به اليهود بل يشاركهم فيه النصارى، ولا يقتصر الأمر فيه
على بني صهيون بل يصرح به ساسة الأمريكان، يقول كارتر: «لقد آمن سبعة
رؤساء أمريكيين وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع
إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذرة في ضمير
الشعب الأمريكي نفسه وأخلاقه ودينه ومعتقداته، لقد شكَّل إسرائيل والولايات
المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون، ونحن نتقاسم ميراث التوراة» [6] .
ويقول الأصولي النصراني (مايك إيفانز) وهو صديق الرئيس (بوش)
وصاحب علاقات حميمة معه يقول: «إن تخلي إسرائيل عن الضفة الغربية سوف
يجر الدمار على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة الأمريكية من بعدها، ولو تخلت
إسرائيل عن الضفة الغربية وأعادتها للفلسطينيين فإن هذا يعني تكذيباً بوعد الله في
التوراة، وهذا سيؤدي إلى إهلاك إسرائيل، وهلاك أمريكا من بعدها إذا رأتها
تخالف كتاب الله وتقرها على ذلك» [7] .
ومن هنا يلتقي اليهود والنصارى على هذا الوعد المفترى، ويتكئون على
البعد الديني في سياستهم مع المسلمين؛ فهل يفقه المسلمون هذا؟ بل وهل يدركون
تخطيط اليهود والنصارى وخطواتهم في إيجاد إسرائيل أصلاً، ذلكم بُعْدٌ آخر يمكن
أن نسميه: (أساس المشكلة) فكيف وجدت وقامت إسرائيل؟ إنها ربيبة الغرب،
خاض من أجلها الحروب وعقد لها الاتفاقات والتزم لها بالوعود؛ ودونكم هذا
التحليل للحروب الكونية فتأملوه وانظروا في آثاره؛ فالحرب العالمية الأولى كان
من آثارها بل من أغراضها تقسيم الدولة العثمانية، والقضاء على الخلافة الإسلامية،
وإعلان حق اليهود في تأسيس دولتهم رغم أنف عبد الحميد (البطل) الذي رفض
عروضهم المغرية، وتأسيس دولة عظمى على العقيدة اليهودية الشيوعية، وحينها
دخل الجنرال اللَّنبي أرض الشام وركز الراية قائلاً: «الآن انتهت الحروب
الصليبية» ، وأصدر الإنجيلي المتعصب (بلفور) وعده المشؤوم بإنشاء وطن
قومي لليهود.
أما الحرب العالمية الثانية فكان من أغراضها ونتائجها القضاء على النازية
منافسة الصهيونية، وإعلاء شأن الحكومة اليهودية الخفية (الشيوعية) ، وإعلان
ميلاد إسرائيل.
أما الحدث الثالث فهو الوفاق الدولي (اليهودي والنصراني) حيث تقرر
انتهاء دور العقيدة الشيوعية، ليعود اليهود والنصارى عصا غليظة وأداة لتهشيم
رأس العدو المشترك (المسلمين) ويفتح الباب لهجرة أكبر تجمُّع يهودي في العالم
بعد أمريكا، وليصبح جيش الدفاع الإسرائيلي بوليس المنطقة كلها، وتبعاً لذلك فلا
بد من إجهاض أية محاولة عربية وإسلامية للحصول على السلاح النووي أو بديله
المحدود الكيميائي، والعمل على تمزيق الأمة، ومن هنا جاء سيناريو حرب الخليج
ليقضي على قوة العرب وليقضي معه على تجمع العرب ووحدة المسلمين، ولا
تزال التهديدات الغربية لباكستان المسلمة جارية، وكأن العرب والمسلمين سفهاء لا
بد من الحَجْر عليهم ومنعهم من صناعة أسلحة نووية أو حيازتها، والهدف حماية
اليهود والنصارى من الخطر المستقبلي؛ فهل نفقه اللعبة؟ وهل ننطلق في قضيتنا
من البعد الديني والتخطيط المستقبلي، أم أن ذلك حلٌّ لأصحاب الديانات المحرفة
حرام على أصحاب الدين الحق؟ !
سقوط الشعارات الخادعة
إن وعينا معاشرَ المسلمين بهذا التاريخ ومعرفتنا بهذه المسرحيات يجعلنا لا
ننخدع بالشعارات البراقة التي يروجها ويصدرها الغرب لنا، بل إن رؤيتنا للواقع
السيئ اليوم يكشف لنا زيف هذه الشعارات الوافدة كالعنف والتطرف والأصولية،
وما يسمى بحقوق الإنسان.
فماذا يقول الغرب عامة وأمريكا على وجه الخصوص وهي تتبنى فكراً عالمياً
ضد التطرف والعنف؟ ماذا تقول وهي ترى، والعالم من حولها يتابع عنف
إسرائيل وتطرفها واستهانتها بأبسط حقوق الإنسان؟ أم أن هذه المصطلحات لازمة
للمسلمين فقط؟ ، فيقال: العنف الإسلامي، والتطرف الإسلامي، والأصولية
الإسلامية ... وهكذا تقوم الدنيا ولا تقعد على من يسمونهم بالإرهابيين المسلمين
حين يدافعون عن حقوقهم، بينما يُغض الطرف عن الصهاينة وهم يعتدون على
غيرهم، ويندد بالأصولية الإسلامية حين يعود المسلمون إلى دينهم ويرفضون
التبعية للأمم الكافرة؟ وهكذا تقصر حقوق الإنسان على اليهودي والنصراني وإن
كانوا في ميزان الحق مغضوباً عليهم وضالين.
إنها شعارات مكشوفة من قبل لمن نور الله قلوبهم بالوعي والإيمان؛ وأحداث
اليوم تزيد في كشفها لمن في قلبه مرض أو على عينيه غشاوة.
إن واقع اليوم نكسة على العلمانيين والليبراليين أدعياء العلمنة ودهاقنة
العلمانيين، وضربةٌ على الليبراليين الغربيين الذين ما فتئوا يقتاتون مما يوضع في
أفواههم من الغرب؛ فهل يستسيغون اليوم هذا الطعم المرَّ النكد؟ أم يتجرعونه ولا
يكادون يسيغونه، لا كثَّرهم الله في الأمة إن ظلوا على غيهم!
صيحات أطلقناها ونشيد حفظناه:
سبق أن أطلقنا: «ادفع ريالاً تنقذ عربياً» فماذا نقول اليوم، والأقصى
برمته ومن فيه من المسلمين يتعرض للخطر، بل ويطال التهديد الإسرائيلي دولاً
مجاورة أخرى؟
وما رَجْع الصدى لنشيد حفظناه وردَّدناه أطفالاً وكباراً، وبه استصرخ الشاعر
عواطفنا حين قال:
أخي جاوز الظالمون المدى ... فحق الجهاد وحق الفدى
وليسوا بغير صليل السيوف ... يجيبون صوتاً لنا أو صدى
ثم ردد مع الشاعر الآخر قوله:
وتُردُّ بالدم بقعةٌ أخذت به ... ويموت دون عرينه الضرغام
انحياز الأمم وحرب المستقبل:
لقد أصبح واضحاً أكثر من ذي قبل انحيازُ الأمم حسب معتقداتها وفكرها
ومصالحها، فلم تُظهر الدول النصرانية والشيوعية امتعاضاً يُذكر لما يصنعه اليهود
بالمسلمين.
بل انسحبت أمريكا وامتنعت عن التصويت لإدانة (إسرائيل) مع أنها راعيةُ
السلام المزعوم، والمناديةُ بعالم لا عنف فيه ولا حرب؛ فماذا يعني ذلك؟ وجاء
قرار مجلس الأمن بشكل عام بارداً وضعيفاً. وحري بالأمة المسلمة أن ينحاز
بعضها إلى بعض، وتردم الخلافات الفرعية بين أبنائها لمواجهة الأمتين اليهودية
والنصرانية؛ فحرب المستقبل ليست صراعاً على النفوذ فحسب بل هي حرب
وجود، حرب عقائد وإن سُيِّست، والمعركة القادمة لن تكون نزاعاً بين الفلسطينيين
أو حتى العرب مع إسرائيل، بل هي حرب بين المسلمين وأعدائهم من اليهود
والنصارى، فلينتبه المسلمون لهذا، وليستعدوا للمعركة بما استطاعوا من قوة
ليرهبوا عدو الله وعدوهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى
مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (التوبة: 14-15) .
ثمن الانتفاضة:
لقد نجح الفلسطينيون في التعبير عن مشاعرهم، وأثبتوا لأنفسهم وللعالم أنهم
لن يستسلموا لبني صهيون وإن لم تكن قوتهم مكافئة أو مقاربة لقوة عدوهم، وصدق
المسلمون في صدق مشاعرهم ومؤازرتهم لإخوانهم، وجددوا أمام العالم حرصهم
وانتماءهم لعقيدتهم ومقدساتهم، ولكن هذه الانتفاضة التي راح ضحيتها عدد من
أبناء فلسطين قتلى وجرحى، وما نتج عنها من ألم وشكوى، وهذه الانتفاضة
والمشاعر الإسلامية المعبرة، ما ثمنها؟ لا سيما أنه يُراد لها أن تنتهي هذه الأيام؛
أفتنتهي بحلول بسيطة ومكاسب محدودة لا تساوي نزيف الدماء ولا تأوهات
الجرحى ولا صيحات المسلمين هنا وهنا؟ !
وحين يرقب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نتائج مؤتمر القمة فهل
كان هدف المؤتمرين امتصاص الغضبة وسحب الغليان، والرضى بالبيانات
المجردة.. أم أنهم كان ينبغي أن يتجاوزوا ذلك ويكونوا عند أو فوق تطلعات
شعوبهم؟ فما عاد العهد مع اليهود، ولا الوعود مع بني صهيون تجدي فتيلاً لا بد
من المطالبة بحلول عملية والانتهاء إلى قرارات جادة تكفي ثمناً لهذه الانتفاضة،
وتتجاوب مع هذه العواطف الجياشة، وعلى المسلمين جميعاً ألا يفتُروا ما دام الفتيل
أشعل حتى يضيء الحق في أرضنا ويُجلى اليهود عن مقدساتنا.
القضية أمانة وليست للمزايدة:
نعم إن قضية فلسطين مسؤولية إسلامية لا تقبل المزايدة! وسيحتفظ التاريخ
بسجلات مواقف البطولة المعاصرة كما حفظ البطولات والمواقف السابقة،
وسيسجل في مقابل ذلك كل موقف متخاذل، وكل مزايدة على هذه القضية العالمية
المشروعة، وعلى العرب والمسلمين شعوباً وحكومات أن يختاروا نوعية المداد
وطبيعة الموقف الذي يسجلونه ويتخذونه لقضية فلسطين، وما يخفى اليوم يظهر
غداً، وما يظل غائباً عن أعين البشر فسينكشف يوم التلاق.
إن العالم بملله وأديانه يسخر بالمتزيدين، ويرفض المتاجرة بقضايا الآخرين،
ولا تزال الشخصيات الإسلامية ذات الموقف الإسلامي البطولي من قضية فلسطين
لا يزالون يُذكَرون بخير وهم محل الحفاوة والتقدير، ليس من المسلمين فحسب بل
ومن غيرهم، وذكرى هؤلاء محفورة في أذهان المسلمين، وستظل كذلك
وسينضاف إليها من سار على نهجهم فنصح لنفسه ولأمته وأخلص لقضيته ودافع
عن مقدسات المسلمين.
جذوة الإيمان وإحباط الأعداء:
وعلى الرغم من سياسات تغريب الأمة المسلمة ومحاولة طمس هويتها
واستخدام العولمة للتغريب إلا أن الواقع أثبت بقاء جذوة الإيمان في تكوين المسلمين،
وما تزال العواطف والمشاعر الإسلامية مختزنة إذا ما استُجيشت جاشت؛ وهذه
وتلك تمثل رصيداً للأمة يمكن أن تستثمره في الوقت المناسب، وتؤكد هذه
الانتفاضة أن تعبئة الأمة ليست بالأمر العسير ولا المستحيل ولا يحتاج لمزيد وقت،
وحين يتوفر القادة الذين يصدقون مع الأمة ويأخذون بأيدي أبنائها فسيجدون من
يسير خلف رايتهم ويشد من أزرهم.
وهكذا تبقى أمة الإسلام أمة فيها خير، يتجدد الإيمان في نفوسها كلما تعاظم
الأعداء واشتدت الحاجة وادلهمَّ الظلام، وهذا كله محبطٌ للأعداء، ومشعر لهم
بإفلاس وسائلهم في الإفساد، ومؤشرٌ إلى أن النصر في النهاية لهم.
استدامة الشعور ويقظة المشاعر:
ينبغي ألاَّ نضيِّع هذا الرصيد من المشاعر بتفريغه في ساعات المحنة ثم تغيب
القضية عن أذهاننا؛ بل إن من أبرز مكاسب هذه الانتفاضة أن تظل قضية فلسطين
حُلماً ماثلاً في أذهاننا، وأن تظل المقدسات الإسلامية هدفاً مهماً نسعى جاهدين
لتخليصها ممن غضب الله عليهم ولعنهم، وأن يستمر دعمنا لإخواننا في فلسطين
بأموالنا وعواطفنا وأنفسنا حتى يرفع الظلم عنهم ويُجلى العدو من أرضهم؛ ذلك
درس مهم، وذلك تحدٍ يواجه المسلمين في المستقبل؛ فهل يستمرون في حماسهم
لقضيتهم حتى يقضي الله بينهم وبين عدوهم؟ ذلك ما نرجو ونأمل.
__________
(1) نعوم تشومسكي (يهودي مشهور) .
(2) عبد الوهاب الفايز، مقال في جريدة الرياض 7/7/1421هـ (بين أطفال لحجارة وترسانة الأسلحة النووية) .
(3) نصر بلا حرب، 1999م، ص 284.
(4) القدس بين الوعد والحق والوعد المفترى.
(5) البعد الديني في السياسة الأمريكية، د يوسف الحسن، ص 76.
(6) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، ص 42.
(7) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، ص 42.(157/87)
المسلمون والعالم
مقترحات للتفاعل الإيجابي مع قضية فلسطين
نبيل أبو صالح
أحداث الأسابيع السابقة في فلسطين أججت مشاعر قطاع كبير من شعوب
العالم الإسلامي، فخرجت المظاهرات والمسيرات المؤيدة للانتفاضة، والغاضبة
من ممارسات اليهود وأعوانهم، وواكبت الأحداثَ كثيرٌ من الفضائيات، وقامت
بتغطية شاملة لها، وعقدت الحوارات والندوات والمقابلات المختلفة، وأتيح لكثير
من المشاركين التعبير عن آرائهم ومشاعرهم، وقامت حملات لجمع التبرعات؛
فجمع من خلالها عشرات الملايين من الدولارات، ثم عقد لقاء القمة، فلم يشف
الغليل ولم يكن متوقعاً له ذلك فسبَّب ذلك إحباطاً عند شرائح عريضة من الجماهير،
ترى إخوانها يُقتلون ويقصفون ولا حول ولا قوة لهم في نصرتهم.
وأمام فقدان كل بارقة أمل في الخروج من الأزمة عند أولئك الذين علَّقوا آمالاً
عريضة على لقاء القمة رجع الناس كالشياه التائهة في الليلة الشاتية يسألون: ما
الحل؟
وقبل الدخول في محاولة الجواب على هذا السؤال نذكِّر بأن الوضع الذليل
الذي وصلنا إليه ليس وليد الساعة، بل هو تراكمات لكثير من الأوضاع الخاطئة،
ونتيجة طبيعية للانحرافات الخطيرة التي استشرت في الأمة، وتحقيق للسنة
الربانية: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم
الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» [1] .
كما أن التسلط والعلو الذي بلغه اليهود لم يبلغوه بين يوم وليلة، بل عملوا
الكثير من أجله، وساندهم في ذلك أعوان الشياطين.
ومن ثم فإن تغيير هذه الأوضاع لن يتم بعصا سحرية، بل بطريق طويل
لبناء مقومات النصر والتمكين التي ضيعناها على مدى أكثر من قرن، بل ولا تزال
طائفة كبيرة من بني جلدتنا تُعمل معاولها في البقية الباقية منها.
إن اجتراء اليهود على الشعب الفلسطيني وعجز المسلمين عن نصرتهم إنما
سببه ما آلت إليه أوضاعنا بعد إقصاء حكم الشريعة. فلماذا نعالج العَرَض ونترك
المرض؟
فلا بد من معالجة أصل المرض، دون اكتفاء بالعرض.
لقد أفرزت الأحداث الأخيرة مستجدات كثيرة ومكاسب جليلة ما كانت لتوجد
لولا هذه الأحداث التي قدرها الله، وهي تحتاج من الدعاة جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً
لتوظيفها واستثمارها؛ فهي تحوي فوائد وإيجابيات لم تكن موجودة؛ بل إن منها ما
كان تحت قائمة المنع، فلم يكن للدعاة أن يطرقوه دون أن يخاطروا بأنفسهم. ومن
ذلك اقتناع جماهير المسلمين بل وغير المسلمين أن اليهود لا يريدون السلام. ومما
أفرزته الأحداث أيضاً العودة بالدعوة إلى التطبيع إلى نقطة الصفر، وتجديد
الكراهية لليهود، وفضح مواقف المتخاذلين، وزيادة القناعة بأن الجهاد هو الحل،
وتشويش العلاقات مع أمريكا، وظهور صور التفاعل الشعبي مثل الدعوة إلى
المقاطعة الاقتصادية الشعبية، وبروز الخير في شرائح من الأمة لم يكن يظن بها
ذلك، إلى جانب أن الزَخْم الجماهيري يستطيع أن يؤثر على الإعلام والمواقف
السياسية إلى حد ما. وكل هذه مكاسب جليلة تدعو إلى الاستبشار بالحدث.
أما ثمن هذه المكاسب فهو الدماء الزكية الطاهرة، والإصابات الجسيمة
لعشرات من أبطال الانتفاضة؛ وهو ثمن باهظ ولكن لا بد من تحويله إلى مكاسب
للقضية برمتها حتى لا تضيع دماء الشهداء سدىً، وهي لن تضيع على كل حال في
الآخرة؛ فلهؤلاء الأبطال أجر الشهادة، والكَلْم في سبيل الله وأعظم به من أجر لم
يكونوا ليبلغوه بغير ذلك، ولكن الاستفادة بذلك من أجل القضية التي استشهد
الشهداء من أجلها هو أعظمُ وفاءٍ وتكريم لهم، والإنسان يموت على كل حال؛
ولكن شتان بين من يموت فلا يشعر بموته أحد، ومن يموت فيحيي بموته أمواتاً.
إن الدماء الزكية التي سفكت في البوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين
وغيرها لم تذهب هباء، بل أثمرت ثماراً يانعة، فأبقت جذوة الجهاد متقدة في الأمة،
وعرفتها بأعدائها، وفضحت المنافقين، وردت كثيراً من المسلمين إلى دينهم رداً
جميلاً.
لقد جعل الله شرط نصرتنا وتمكيننا وأمننا أن نعبده لا نشرك به شيئاً، وأن
ننصره بنصرة شرعه وحين لا نقوم بالشرط حق قيامه لا يبالي الله بنا، ومجتمعات
المسلمين اليوم تعج بصور من الشرك الأكبر في الاعتقاد والعمل وتحكيم القوانين
الوضعية.
إن شعوب المسلمين حين تُحكم بغير شرع الله فتخنع، يستخف بها حكامها،
فإذا رأى أعداؤها ذلك نزع من صدورهم هيبتها، ولم يحسبوا لها أي حساب؛ فإذا
هم يعيثون فيها قتلاً وسفكاً ونهباً لا يخافون نقمة ولا ردة فعل؛ فعلى الشعوب أن
تلوم نفسها على تقصيرها في نصرة دين الله كلما مرت بهم مثل أحداث فلسطين أو
الشيشان أو البوسنة أو غيرها [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) .
وينبغي أن نذكر هنا أن التعادل في التفوق التقني بين المسلمين وأعدائهم ليس
شرطاً في النصر، فلا يخوفنا الشيطان بكثرة سلاح العدو وتنوعه وتعقُّد تقنيته
وتحكُّمه في الإعلام، ودعمه من قبل القوى الكبرى؛ فنرى أن إدراك ذلك من
المحال، وأن البون شاسع، فنؤتى من قِبَل أنفسنا.
إن الله جعل شرط النصر واحداً فقط، وهو أن ننصره. أما عن العتاد والعدة
فقال: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: 60) فالتكافؤ في الإمكانات
المادية والبشرية ليس شرطاً للنصر، وشواهد التاريخ من عصر الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى فترة قريبة أوضح من أن تذكر.
وها هنا مسألة جديرة جداً بالتأمل، وكثيراً ما تنسى في غمرة الأحداث، وهي
أن الله خلقنا ليبتلينا، والأحداث التي تمر في حياة الفرد هي مفردات هذا الابتلاء،
وسيقف كل منا بين يدي ربه للحساب، وسيسأله عن التزامه بدين الله وتطبيقه
لشرعه فيما كان في استطاعته.
ولن ينفعه أن يكون عاش في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو
مفرط في دين الله، كما لن يضره أن يكون عاش في زمن هولاكو وهو مقيم على
شرع الله. بل إن أجره على التزامه بدين الله في الزمن الصعب أعظم، ولن يسألك
الله: لماذا لم تذهب إلى فلسطين لنصرة إخوانك؟ وأنت لا تجد إلى ذلك سبيلاً!
ولكنه سيسألك: لماذا لم تنكر المنكرات التي تراها حولك، على قدر طاقتك
في الإنكار؟ إن قلوب كثير من المسلمين تكاد تكون خلواً حتى من درجة الإنكار
القلبي لتحكيم القوانين الوضعية.
فلا فائدة من «النياحة» التي يمارسها كثير من أفراد المسلمين تجاه الأحداث،
وإنما عليهم أن يقوموا بعمل إيجابي يحتجون به بين يدي ربهم.
إن بلالاً كان يعذب، ويُلقى على الرمال الملتهبة عاري الظهر، ويوضع
الحجر على بطنه، والمسلمون القلائل لا يستطيعون نصره؛ لأنهم أضعف من ذلك.
وابن مسعود يجهر بالقرآن ليغيظ الكفار فينال الكفار منه ضرباً وشتماً، ولا
يتحرك لنصرته أحد، بل يوضع على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلا
الجزور وهو ساجد، فلا يملك المسلمون حينذاك حولاً ولا قوة لدفع ذلك عنه،
ويأتي خباب بن الأرت يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما
يلاقونه من الكفار ويستحثه أن يدعو لهم ويستنصر لهم، لا أكثر، ثم تمر السنون
والصحابة يقيمون على شرع الله، يعبدون الله لا يشركون به شيئاً، يحققون شرط
التمكين حتى هزموا المشركين شر هزيمة في بدر، ورقى ابن مسعود على صدر
أبي جهل، ثم تمر سنون أخرى فيفتح الله مكة ولا يبقى فيها كافر.
فلا بد أن نستثمر الأحداث الراهنة الاستثمار الأمثل من أجل عودة الناس إلى
دينهم بالمفهوم الشامل وهذا تتضافر عليه عدة عوامل، منها جهود المصلحين
والدعاة المنتظرة، ومنها الأحداث التي يجريها الله في الناس والكون، ويجب ألاَّ
ننسى أن بعض الأحداث أحياناً هي ثمرة سنين من الدعوة والوعظ والتعليم.
لقد كاد أن يكون الحديث عن اليهود والنصارى، والتذكير بالجهاد محرماً في
كثير من بلاد المسلمين قبل اندلاع هذه الأحداث؛ أما بعد هذه الأحداث فقد فتح
الباب على مصراعيه، بل أصبحنا نسمع من كبار المسؤولين كلاماًَ ما كنا نسمعه
من قبل، وعادت عبارات العدو الصهيوني، والأراضي المحتلة، وتحرير كامل
فلسطين، وغيرها مما غاب عن ساحات الإعلام العربي سنوات طوالاً.
إن الناس الآن مهيؤون لأن نحفر فيهم المبادئ والعقائد الإسلامية ذات الصلة
بالأحداث ومن ذلك:
أ - أن اليهود عدو أبدي أخبرنا الله بذلك في كتابه، بما لا يقبل التأويل، أو
الحصر في طائفة يهودية معينة، أو فترة زمنية محددة.
بل كل طوائف اليهود، في كل الأزمنة، عدو لنا. كيف يمكن أن يسالمنا
ويوادنا اليهود؟ أفلا يعلم الله مَن خلق؟ أفيختلف كلامه سبحانه وتعالى؟
ب - أن لب الصراع عقدي، وليس صراعاً على الأرض؛ ولذلك فالقضية
إسلامية وليست عربية. العرب فيهم المرتدون وفيهم النصارى، وهؤلاء ليست لهم
مشكلة عقدية مع اليهود، ولذلك فهم وإن بدا هناك اتفاق ظاهري بيننا وبينهم في
بعض المصالح والأهداف المرحلية ليسوا شركاء لنا في صراعنا مع اليهود.
وللأسف فإن الإعلام العربي مع دوره الإيجابي في إبراز أحداث الانتفاضة
يصر على إعطائها الوجه العربي، ويحرص في كل مناسبة على التذكير بالنصارى،
والحديث عن المساجد والكنائس، وعقد ندوات لمشايخ وقسيسين، وبث أغاني
النصرانية فيروز، وهل يشارك النصارى في الانتفاضة وإلقاء الحجر؟ المسلم وإن
كان طفلاً فإنه يؤمن بالشهادة ويسعى إليها، فما الذي يحرك النصراني إلى الموت؟
إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى العدل والإنصاف مع النصارى والتفريق
بين المحارب وغيره، نرفض أن تميع إسلامية القضية.
ج - أن الجهاد هو الحل، هذا أمر شرعي واضح لا جدال فيه، وهو أمر
تؤكده الحادثة تلو الحادثة، والمأساة تلو المأساة.
ونحن المسلمين يعلمنا ديننا أن الصلة بيننا وبين أعدائنا تدور بين الإعراض
عنهم، أو عقد هدنة مؤقتة حين الضعف، أو جهادهم حين القوة، وعقد الذمة حين
التمكين.
والسلام الذي يرجوه أعداؤنا منا هو فقط حين يكونون أهل ذمة، يدفعون
الجزية عن يد وهم صاغرون، حينها فقط لهم منا السلام والحماية والرعاية والكفالة،
ولقد أثبت التاريخ ذلك؛ فإن أكثر عصور اليهود سلاماً وأمناً هي تلك التي كانوا
فيها تحت الحكم الإسلامي.
أما أي سلام آخر فلا حاجة لنا به ولن يقبله الله منا. والله لم يخلقنا لنعيش
بسلام، بل خلقنا لنعبده، ونجاهد في سبيله، وفي أفضل حالات التمكين للأمة
كانت المعارك دائرة في الثغور.
الدار الدنيا دار امتحان، وهي للمسلم كراكب استظل تحت شجرة ثم راح
وتركها، فلا يعنيه أن يعيش فيها بسلام أو جهاد، إنما يعنيه أن يعبد الله لا يشرك
به شيئاً.
د - إعطاء الثقة للشعوب أنها بتحركاتها وضغطها تستطيع أن تفعل شيئاً
كثيراً فعليها أن تزيد من وعيها، وحساسيتها تجاه الأخطاء والانحرافات، فتواجهها
أولاً بأول، ولا ترضى أن تمرَّر عليها القرارات والأنظمة الجائرة، بل تعبر عن
استنكارها لكل منكر بكل وسيلة شرعية للتعبير، وأن تستعد لشيء من التضحية
واحتمال الأذى مقابل ذلك؛ فالجماهير قوة فاعلة، وقد رأينا أثر غليانها على مر
التاريخ في الواقع المعاصر، ومن الأمثلة القريبة جداً غليان الشعب اليوغسلافي
وإلجائه رئيسه المجرم إلى التنحي، وقبله سلسلة من التمردات الشعبية في الاتحاد
السوفييتي وأوروبا الشرقية، أفيُظَن بأهل لا إله إلا الله أنهم أعجز من أولئك وأقل
أثراً؟ وهل القوة والبأس حكر على أولئك العلوج؟
استمرارية التفاعل:
إن أحد مشاكلنا الجسام تكمن في أننا نتفاعل مع الأحداث وهي جديدة، فإذا
قدم العهد وطال أمدها خبا أوار التفاعل معها تدريجياً حتى ينطفئ، كما أن المصيبة
التي تصيب المسلمين تنسيهم سابقاتها، وإن كانت لا تزال قائمة؛ فأحداث الأقصى
أنست الكثير كأحداث الشيشان وغيرها وهكذا، وأحد أسباب هذه الظاهرة أن
عواطف قطاع كبير من المسلمين مُسلََّمةٌ إلى الإعلام وتبع له، فيكون حجم تفاعلها
وزمنه مرتبط بحجم التغطية الإعلامية وزمنها.
وأحد الوسائل الفعالة لاستمرارية التفاعل مع الحدث هو تحويل التفاعل
الفردي العشوائي إلى فعل جماعي منظم ينشأ عنه عمل المؤسسات والجمعيات
لتلقُّف الأفكار الجيدة ورعايتها والاستمرار بها.
فقد طُرحت على سبيل المثال من خلال الأحداث فكرة المقاطعة الشعبية
للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية. وهي فكرة جديرة بالاهتمام وقد تكون لها آثار
على المدى الطويل أبعد من الآثار الظاهرة للعيان. ومع أن ما يرجى من هذه
المقاطعة من التأثير على اقتصاد هاتين الدولتين محدود جداً؛ إذ إننا لا نطيق في
الوقت الراهن المقاطعة الكلية، لكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه، كما أن في
المقاطعة مصالح أخرى منها:
أ - رفع معنويات الشعوب بأنها استطاعت أن تقدم شيئاً.
ب - صورة من صور اتحاد الشعوب، تكون نموذجاً لصور أخرى من
الاتحاد.
ج - تحذير الدول الأخرى التي لا تشملها المقاطعة وحملها على أن تتخذ
سياسة منصفة تحفظ مصالحها.
د - إعطاء الثقة للشعوب أنها تستطيع أن تستغني عن الاعتماد على غيرها.
هـ - تعطي للشعب قيمة مستقلة عن قيمة حكومته في نظر الآخرين.
فيحسب العدو حساب الشعوب، ويدرك أن استحواذه على الحكومات لا يعني
استحواذه على الشعوب.
و تشجيع فرص الاستثمار المحلي أو الإسلامي على حساب الفرص التي
فقدتها الشركات المقاطعة.
ز - التذكير الضمني بمبدأ المعاداة الذي بنيت عليه هذه المقاطعة مع كل
عملية شراء، وبث هذه الروح في الأطفال والنساء والأجيال القادمة.
وربما غير ذلك مما يظهر للمتخصصين في قضايا التجارة والاقتصاد، ولكن حتى
تؤتي هذه الفكرة أكلها لا بد من تبنيها بصورة جماعية مؤسسية، ولا يكفي أن تبقى
محاولات فردية، ووسائل متناثرة بالبريد الإلكتروني هنا وهناك.
وهذا الأمر ليس خاصاً بقضية فلسطين؛ فإن المؤسسات التي تحتاجها الأمة
متنوعة، بل إن غياب الدور الإسلامي الذي كان ينبغي أن يضطلع به من نصَّبوا
أنفسهم قادة للمسلمين في أكثر البلدان يوجب على الشعوب أن تسعى لإنشاء جميع
أنواع المؤسسات الإسلامية، من المدرسة إلى البنك إلى الإعلام إلى المستشفيات.
خاتمة:
هذا بعض ما يتوجب علينا فعله؛ وإنما نفعله إنقاذاً لأنفسنا من النار، وإعداداً
للجواب حين الوقوف بين يدي الله، وإلا فإن الله ناصر دينه بنا أو بغيرنا.
وسيأتي اليوم الذي يقول فيه الحجر والشجر: «يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي
خلفي فتعال فاقتله» [2] .
وإن غداً لناظره قريب.
__________
(1) أخرجه أحمد، ح/4593، 4765، وأبو داود، ح/3003.
(2) أخرجه البخاري، ح/ 2926، ومسلم، ح/ 5203، واللفظ له.(157/97)
المسلمون والعالم
الآمال والتحديات تجاه الحكومة الصومالية الجديدة
(عوامل نجاح مبادرة الرئيس الجيبوتي في حل المعضلة الصومالية)
محمد عبده آدم
بعد انقضاء عقد كامل تقريباً منذ الإطاحة بحكومة سياد بري في 26/1/
1991م وما نجم عن ذلك من اندلاع عمليات الاقتتال الواسعة بين العشائر المتناحرة
في الصومال، واستمرار تردي الأوضاع والانقسام الوطني، وانعدام الأمن
والاستقرار؛ يعيش الصومال بدون دولة وبدون كيان وبدون سيادة؛ حيث انهارت
جميع المرافق العامة والبنية التحتية من المستشفيات والمدارس والجامعات
والوزارات والمؤسسات الخدمية الأخرى، كما نهبت وأتلفت المكتبات العامة
والوثائق الحكومية من جراء الحروب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس.
لماذا أخفقت مؤتمرات المصالحة السابقة؟
لقد تم عقد 12 مؤتمراً للمصالحة الوطنية وتشكيل حكومة مركزية للصومال
خلال عقد الفوضى، وقد تم عقد هذه المؤتمرات في كل من جيبوتي وأديس أبابا
ونيروبي والقاهرة، وكانت النتيجة لتلك المؤتمرات الإخفاق الذريع والوصول إلى
باب مسدود، بل كانت الأوضاع تتأزم بصورة أكثر بعد كل مؤتمر من هذه
المؤتمرات، ويرجع عدم نجاح هذه المؤتمرات إلى عوامل عديدة يطول شرحها؛
ولكن يمكن إجمال أهمها في النقاط الآتية:
1 - طغيان نزعة المصلحة الشخصية والقبلية على المصلحة العامة، وغياب
الحس الإسلامي والوطني؛ حيث كان المجتمعون في هذه المؤتمرات من رؤساء
الجبهات العشائرية الذين ساهموا في إسقاط الحكومة الصومالية، فيحضر كل واحد
من هؤلاء إلى قاعة المفاوضات وهو يفكر في أن يتاح له الجلوس على كرسي
الرئاسة أو ينال نصيب الأسد في توزيع التركة الصومالية. وبطبيعة الحال فإن
الكرسي الرئاسي لا يتسع لأكثر من واحد، ولذلك كان ينسحب كل من يشعر بالغبن
في توزيع التركة.
2 - العداوات والثارات القبلية بين الفصائل المتفاوضة؛ فمن المعروف أن
هذه الاجتماعات كانت تضم رؤساء الفصائل أو أمراء الحرب الذين قادوا البلاد إلى
خوض معارك بشعة لا يتحمل وصفها العقل السليم، فكانت مفاوضاتهم عبارة عن
نقلهم من جبهات القتال؛ حيث تبادل مدافع الهاون والرشاشات إلى قاعة
الاجتماعات مما جعل المفاوضات عبارة عن مواصلة خوض المعارك الدائرة في
جبهات القتال باستثناء عدم استخدام الذخيرة الحية.
3 - غياب دور المجتمع المدني من العلماء والمثقفين وسلاطين القبائل
والوجهاء ممن يفكر بالعقل السليم ويوازن الأمور بموازين شرعية سليمة بعيداً عن
المصالح الشخصية لشخص معين أو لفئة معينة، وإنما ينظرون إلى مصلحة البلاد
والعباد التي تهدمت وتعطلت منذ عشر سنين.
4 - كثرة التدخلات الأجنبية: يذهب البعض إلى القول بأن الحرب الدائرة
في الصومال منذ عقد من الزمن تدار من قبل جهات خارجية، وأن دور القوى
المحلية لا يتجاوز طور التنفيذ فقط أو الضغط على الزناد مما يجعل هذه الحرب
حرباً بالوكالة، وهذه المقولة تعتبر صحيحة إلى حد كبير وإن كنا لا نبرئ
الصوماليين؛ فهم المتحملون مسؤولية تدمير بلدهم أولاً وأخيراً؛ حيث انصاعوا
لمخططات الأعداء.
ومما يلاحظ بصورة جلية أنه كلما تقاربت وجهات النظر وكادت الجهود
المبذولة أن تنجح في رأب الصدع ولمِّ الشمل فإن أيدياً خفية وجهوداً شيطانية تتدخل
في الظلام الحالك لتصطاد في الماء العكر وتشتت وتفرق ما لمته الجهود؛ فتمد
بالشحنات العسكرية هذا، والشيكات المفتوحة ذاك، والوعود الكاذبة آخر بأن
فصيله سيتوج وتسلم إليه مقاليد الحكم في البلاد. وتعتبر الحكومة الإثيوبية أكبر قوة
إقليمية تتدخل في شؤون الصومال منذ الإطاحة بالحكومة الصومالية من الجبهات
المسلحة والمدعومة من قبلها في عام 1991م [1] ؛ حيث لم يقتصر دورها فيما بعد
على الدور الراعي والداعم بل قامت بهجمات وغارات متتالية لأجزاء واسعة من
الصومال، ودمرت مراكز ومدارس ومساجد كانت تدار وتُدعم بجهود ذاتية من
بعض المخلصين وذلك مثل ما حصل في إقليم جدو.
5 - التفاوض حول مكاسب السلطة التنفيذية وتوزيع الحقائب الوزارية بين
زعماء الفصائل المتناحرة قبل تكوين المجالس النيابية التي تعتبر المرجعية وحجر
الأساس الذي تستند إليه السلطة التنفيذية، وهو ما تنبه إليه الرئيس الجيبوتي في
مبادرته، فبدأ بتكوين مجلس الشعب الذي يُطلق عليه: السلطة التشريعية.
مبادرة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة:
في هذه الأثناء وحال الصومال على ما وصفنا من الفوضى والتشتت، وحيث
لا يظهر في الأفق أدنى أمل أطلق الرئيس الجيبوتي مبادرته الشهيرة في رعاية
مؤتمر للمصالحة الصومالية منسقاً مع الجهات الدولية والإقليمية، وألقى خطابه
الشهير في القمة الأممية في سبتمبر من العام الماضي التي سبقت القمة الألفية التي
انعقدت في نيويورك، وأوضح في خطابه أمام الأمم المتحدة ورسالته إلى رئيس
مجلس الأمن ضرورة تغيير رؤية العالم للمأساة الصومالية عبر الإقناع بأن
الاعتراف بأمراء الحرب أو التعامل معهم بالنظر إلى مصالحهم الذاتية الضيقة هي
التي أفسدت كافة مبادرات السلام، وتعهد بأن يبذل قصارى جهده في إنهاء المعضلة
الصومالية التي قد تتطور إلى احتمالات أسوأ قد تنعكس على العالم سلباً، وأخذ
الرئيس الجيبوتي الضوء الأخضر من المجتمع الدولي الذي لزم دور المتفرج منذ
انسحاب القوات الأمريكية في عام 1995م، وقد دعم الرئيس الجيبوتي مبادرته
بالخطوات الآتية:
1 - أخذ ضوءاً أخضر من المجتمع الدولي في إلقائه الخطاب أمام الجمعية
العامة للأمم المتحدة، كما أشرنا في الفقرة السابقة، كما نسَّق مع المنظمات الإقليمية
ودول الجوار وخاصة منظمة (إيجاد) التي تضم دول القرن الإفريقي، بالإضافة
إلى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في شأن تسلم ملف المصالحة
الصومالية من الحكومة الإثيوبية التي احتكرته منذ انهيار الصومال بمباركة القوى
العالمية وخاصة الولايات المتحدة بحجة أن المشكلة لها ارتباط بالأمن والمصالح
الإثيوبية.
2 - جعل الرئيس إسماعيل عمر جيلة ركيزة مبادرته المجتمع المدني من
المثقفين وسلاطين القبائل والوجهاء والجمعيات المحلية وغيرها من فئات المجتمع
المختلفة، وهمَّش دور أمراء الحرب، بل وجه إليهم في خطابه أمام الجمعية العامة
للأمم المتحدة إنذاراً شديد اللهجة، وذكر أن الشعب الصومالي لا يمكن أن يكون
أسيراً لشلة لا تفكر إلا في مصالحها الشخصية وأكد أن أي أمير حرب يحاول عرقلة
جهود المصالحة سوف يحاكم كمجرم حرب.
مؤتمر المصالحة والسلام الصومالي الأخير في (عرتا) بجمهورية جيبوتي:
بعد تلك الجهود الحثيثة أقام الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة خيمة كبيرة
في مدينة (عرتا) التي تبعد عن جيبوتي العاصمة نحو ثلاثين كيلو متراً، وقد
بدأت بدايات المؤتمر في 2 مايو (أيار) 2000م، وسبق المؤتمرَ الفعلي سلسلةٌ
من الخطوات أهمها:
1 - جَنَّد الرئيس الجيبوتي جميع إمكانات حكومته المادية والمعنوية لدعم
مؤتمر المصالحة الصومالي، فافتتح قناة تلفزيونية خاصة وموقعاً على الإنترنت
لنقل وقائع المؤتمر بصورة مباشرة إلى أنحاء العالم، واستدعى جميع الفرق
الإعلامية الصومالية والجيبوتية بالإضافة إلى بعض العلماء البارزين لاستثارة
الحماس الديني والوطني وتحرير الشعب من بوتقة دائرة القبيلة الضيقة؛ بالإضافة
إلى إقامة ندوات وحوارات بين المثقفين الصوماليين في كيفية الخروج من النفق
المظلم وكيف يكون شكل الحكومة المرتقبة.
2 - أقام ملتقى يضم كلاًّ من المثقفين والأساتذة في الجامعات الخارجية
والدبلوماسيين من الوزراء والسفراء في الحكومات الصومالية السابقة لأخذ مشورتهم
ورأيهم في حل المشكلة الصومالية.
3 - أرسل طائرات إلى المناطق الصومالية لنقل شيوخ القبائل والوجهاء
والسياسيين من كل قبيلة، وعقد اجتماعات خاصة بشيوخ القبائل وسلاطينها لتسوية
الصلح بين القبائل المختلفة قبل بدء أي خطوة أخرى، فأصدر شيوخ القبائل بياناً
يؤكدون فيه أنهم تصالحوا ونبذوا جميع الخلافات الجانبية وأنهم ينسون جراحات
الماضي لبناء مستقبل مشرق للصومال وذلك بتاريخ 13/6/2000م.
4 - كلف شيخ كل قبيلة أن يرشح الأعضاء الذين يشتركون في مؤتمر
المصالحة السياسي، وقدم السلاطين الأسماء المرشحة لتمثلها في طاولة المفاوضات
ضمن التشكيلة القبلية التي قسمت الصومال إلى خمسة قبائل كبيرة.
5 - اجتمعت الوفود المختارة التي يفوق عددها ألف شخص، وافتتح المؤتمر
في طوره الثاني، وتم تشكيل لجان مختلفة من بينها لجنة صياغة الدستور ولجنة
الأمن والأمان.
6 - تم صياغة دستور أطلق عليه: (الدستور الوطني المؤقت) ، وهو
مكون من 38 بنداً يتناول كيفية تكوين مجالس وسلطات الدولة الصومالية المنهارة
من جديد، وكيفية تسيير سياستها الداخلية والخارجية.
7- بعد إجازة الدستور تم توزيع أعضاء البرلمان المكون من 245 عضواًَ
على القبائل الكبيرة الخمسة، وقد كانت هذه الخطوة أكبر عقبة واجهت مؤتمر
المصالحة في عرتا؛ حيث حاولت كل قبيلة وكل فرع في داخل القبيلة أن يحظى
بنصيب الأسد في البرلمان، وقد انسحبت بعض القبائل من قاعة المفاوضات
احتجاجاً على قلة حصتها في عضوية البرلمان، إلا أنه بفضل الله ثم بفضل الجهود
التي بذلها الرئيس الجيبوتي وضغط الشعب الصومالي في الداخل والخارج الذي
نسي جميع الاعتبارات الأخرى عدا استعادة كرامته وإيجاد حكومة ترعى مصالحهم
تجاوز المؤتمر هذه العقبة وجميع العثرات الأخرى. والجدير بالذكر أن البرلمان
يضم بين أعضائه 25 امرأة! حيث اقترح الرئيس الجيبوتي تخصيص هذا العدد
من كراسي البرلمان للنساء، ولعله يهدف بهذه الخطوة أن تحظى مبادرته بدعم من
الغرب الذي يكرس جهوده في إظهار دور المرأة كشريكة للرجال في صنع
القرارات وإخراجها من بيتها، ووظيفتها الأساسية في تربية الأجيال [*] .
8 - عقد البرلمان أول جلسة له في يوم الأحد بتاريخ 13/5/1421هـ
الموافق 13/8/2000م، وأدى أعضاؤه اليمين الدستورية؛ كما انتخب في اليوم
الثاني رئيس البرلمان ونوابه وبقية أعضاء مكتب رئيس البرلمان من سكرتارية
وغيرها.
9 - اختيار رئيس الصومال: في يوم الجمعة 25/5/1421هـ الموافق
25/8/2000م، تم اختيار رئيس الصومال في جلسة مغلقة لأعضاء البرلمان في
ثلاث جولات متتالية بجلسة واحدة استمرت أكثر من عشر ساعات، فاز فيها
الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن لحصوله على 145 صوتاً من بين أعضاء البرلمان
البالغ عددهم 238 عضواً، بينما حصل منافسه عبد الله أحمد عدو على 92 صوتاً.
10 - حفلة تنصيب الرئيس الجديد: في يوم الأحد بتاريخ 27/5/1421هـ
الموافق 27/8/2000م، أقيم حفل رسمي كبير على شرف الرئيس الجيبوتي
إسماعيل عمر جيلة لتنصيب الرئيس الصومالي الجديد حضر فيه رؤساء مجموعة
دول منظمة إيجاد ومن بينهم الرئيس السوداني عمر حسن البشير، ورئيس الوزراء
الإثيوبي ملس زيناوي، والرئيس الإرتيري أسياس أفورقي؛ بالإضافة إلى الرئيس
اليمني علي عبد الله صالح، وعدد من ممثلي المنظمات الدولية والإقليمية، وقد أدى
الرئيس الصومالي الجديد اليمين الدستورية بحضور هؤلاء الرؤساء والوفود
الأخرى أمام أعضاء البرلمان الصومالي.
موقف المجتمع الدولي والإقليمي من مبادرة الرئيس الجيبوتي:
لم يكن الموقف العالمي والإقليمي واضح المعالم تجاه مبادرة الرئيس الجيبوتي
وما انبثق عنها من مؤتمر المصالحة الصومالي في عرتا؛ بل يمكن القول إن موقف
العالم أجمع كان في وضع المشاهد تجاه هذا المشروع الكبير الذي يرمي إلى انتشال
الصومال من المستنقع الذي يخوض فيه منذ عشر السنوات الماضية، وهذا يتضح
من التعتيم الإعلامي الذي فرض على وقائع المؤتمر الذي يعتبر أكبر مؤتمر من
مؤتمرات المصالحة الصومالية؛ حيث اشترك فيه ما يزيد عن ألفي شخص منتخبين
من جميع شرائح المجتمع الصومالي، بخلاف المؤتمرات السابقة التي كانت تضم
فقط مجموعة من أمراء الحرب، وهذا الموقف ينطبق على المستوى الدولي
والإقليمي بما فيه البلدان الإسلامية والعربية، ولعل هذا الأمر يعود إلى بعض
الأسباب، ومن أهمها:
1 - فقدان الأمل لدى المجتمع الدولي والإقليمي وإصابته بالخيبة تجاه
مبادرات الصلح الصومالية إثر إخفاق جميع تلك المحاولات السابقة إلى جانب
الإعراض عن الملف الصومالي ورميه في سلة المهملات، والتفرغ للصراع
العربي الإسرائيلي، وتحويل العاصمة اليهودية إلى القدس المحتلة ونقل السفارة
الأمريكية إليها.
2 - كان كثير من المحللين يرون أن السيناريو الصومالي لم ينته بعد؛
فالتحدث عن إقامة حكومة صومالية ما زال مبكراً بدليل أنه لم تقم أي محاولة جادة
سواء كانت دولية أو إقليمية في إنهاء المشكلة الصومالية التي لا تتجاوز كونها
تهارجاً بين العشائر حول مكاسب معينة باستثناء مبادرة جيبوتي الأخيرة التي
حظيت بالنجاح الكبير في غضون شهور. ويضيف هؤلاء المحللون أن هناك
مخططاً كان يرمي إلى تقسيم الصومال إلى عدة دويلات كرتونية ملحقة بإثيوبيا أو
تعيش تحت رحمتها وتدور في فلكها.
3 - تولد شعور لدى الشارع الصومالي بأن إخوانهم العرب لم يؤدوا واجبهم
تجاه بلدهم الصومال، ولم يدعموا مبادرة الرئيس الجيبوتي كما ينبغي؛ بل تعدى
الأمر إلى أن اتهم بعض البلدان العربية أنها ضد المصالحة الصومالية في جيبوتي؛
حيث تظاهر آلاف من الصوماليين ضد الدور المصري في المصالحة الصومالية،
وقد وصل الأمر إلى إحراق المتظاهرين العلم المصري إثر اتهام السفير المصري
في مقديشو بحثِّ العديد من زعماء الفصائل ومن بينهم حسين عيديد على عدم
المشاركة في مؤتمر السلام بعرتا، ولعل التحفظ المصري ينطلق من هاجس أن
المبادرة الجيبوتية تعتبر امتداداً للمبادرة الإثيوبية التي كانت مضادة للمبادرة
المصرية في مؤتمر القاهرة الذي ضم 26 من رؤساء الفصائل في 22/12/1997م.
وصدر عنه إعلان القاهرة الذي كان من أهم بنوده تشكيل حكومة وحدة وطنية،
إلا أن المبادرة المصرية ماتت بسبب التدخلات الإثيوبية التي استقطبت عدداً
كبيراً من رؤساء الفصائل.
وفي هذه الأثناء أطلق الرئيس الجيبوتي الذي يتمتع بعلاقات جيدة في الظاهر
مع إثيوبيا مبادرته، فتم تصنيفها على أنها مكملة للدور الإثيوبي، وكانت كثير من
القوى المحلية الصومالية قد أخذت هذا الانطباع في بداية الأمر، ولم تكن متفائلة
باعتبار أن أي مشروع له ضلع أو علاقة مع إثيوبيا لا يمكن أن يقود الصومال إلى
بر الأمان، لكن مع مرور الأيام ومع بدء المؤتمر أثبت الواقع خلاف تلك التوقعات
حيث التزمت الحكومة الإثيوبية نوعاً من التحفظ وعدم الارتياح تجاه سير الأمور
في مؤتمر عرتا؛ فهي بطبيعة الحال غير راضية عن إقامة حكومة صومالية
تمارس دورها وثقلها الإقليمي، وتفضل استمرار الصومال على ما هو عليه حتى
تستخدمه كحزام أمني ضد الحركات التحريرية في أوجادين وضد ما يسمونه
(الأصولية) في الصومال، وحتى تدخله وتغير عليه متى شاءت وتنسحب منه متى
شاءت، وحتى لا تقوم للصومال العدو التاريخي لإثيوبيا أي قائمة.
وفي مقابل ذلك ظهر بصورة جلية حسن نوايا الرئيس الجيبوتي، وأنه ما
يهدف من مبادرته وسعيه الحثيث في لمِّ شمل البيت الصومالي ورأب الصدع بين
الأشقاء الفرقاء إلا أن يستعيد الصومال دوره الإقليمي والدولي. وفوق هذا يشير
بعض المحللين إلى أن الرئيس الجيبوتي الذي يرأس دولة لا يتعدى عدد سكانها
نصف مليون نسمة يشعر بنوع من التهديد والخطورة تجاه جارتيه الإثيوبية
والإرتيرية، فعزم على هذه الخطوة الشجاعة حتى يعود التوازن الإقليمي في
المنطقة؛ وخاصة أن جيبوتي تعتبر جزءاً مكملاً للصومال ضمن ما يعرف
بالصومال الكبير الذي يأمل الصوماليون أن يروه يوماً ما وقد اتحد تحت سقف واحد،
كما أنه اعتبر هذه الخطوة نوعاً من رد الجميل عن التضحيات الغالية التي قدمها
الصومال في سبيل تحرير جيبوتي من الاستعمار الفرنسي في عام 1977م.
الموقف الدولي والإقليمي بعد تشكيل البرلمان وانتخاب الرئيس:
ما ذكرناه في الفقرات السابقة كان قبل أن تظهر نتائج مؤتمر عرتا ولكن بعد
أن انتهى المؤتمر بنجاح، وتم تشكيل برلمان وانتخاب رئيس حظيت الحكومة
الجديدة بتأييد إقليمي ودولي، وإن كانت دون المستوى المطلوب؛ فعلى الصعيد
الدولي أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً يحث فيه الصوماليين وقادة الفصائل على دعم
حكومتهم الجديدة، كما صرحت وزارة الخارجية الأمريكية بأنها متفائلة بنتائج
مؤتمر السلام الذي عقد في جيبوتي وتشكيل الحكومة الانتقالية للصومال بما فيها
انتخاب الرئيس، وعلى الصعيد الإقليمي؛ فقد اعترف بالحكومة الصومالية الجديدة
عدد من الدول العربية والإفريقية، كما سمح للرئيس الصومالي الجديد أن يجلس
على كرسي الصومال في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية اللذين ظلا شاغرين
طيلة السنوات العشر الماضية، ولكن يغلب على بعض تلك التأييدات لغة
الدبلوماسية والتحفظ خوفاً من تلك الدول بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه وخاصة
في ظل التهديدات التي يطلقها زعماء الحرب في الصومال تجاه الحكومة الجديدة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل لدى تلك الفصائل ما يمكنها من عرقلة
جهود السلام وتعطيل الحكومة المنتخبة في الصومال؟ هذا ما سيتضح بمشيئة الله
فيما يأتي:
الموقف المحلي:
يمكن تقسيم الموقف المحلي إلى موقف الشعب الصومالي من الحكومة الجديدة،
وموقف أمراء الحرب؛ فموقف الشعب في الداخل والخارج بجميع قبائله وفئاته
وطبقاته يؤيد الحكومة الجديدة بصورة كبيرة يمكن الإطلاق عليها أنها جنونية،
ومستعد لأن يضحي في سبيل إنجاحها بالنفيس والغالي بغضِّ النظر عن المكاسب
التي تحققها كل قبيلة في ظل التشكيلة الجديدة؛ ذلك أن الشعب هو الذي تلظى بنار
الحروب الأهلية، وذاق ويلاتها، وأصبح محروماً من جميع الخدمات التعليمية
والصحية وغيرها، ونشأ جيل جديد لا يعرف الكتابة ولا القراءة وسلبت الكرامة
والسيادة الصومالية، وأغلقت الأبواب أمامهم، وبجانب هذا أدركت كل قبيلة أنها
مهما أوتيت من قوة فإنها لا تستطيع أن تنتصر وتحسم الصراع لصالحها؛ فلا
غالب ولا مغلوب في الحرب الدائرة؛ ولذلك أصبح الشعار لدى الصوماليين في
الآونة الأخيرة: (فليحكم من شاء، وإنما يهمنا إيجاد كيان وحكومة تعيد لنا الكرامة
وتفكنا من أسر أمراء الحرب) .
أما موقف أمراء الحرب فيتضح في الفقرة الآتية التي تتناول التحديات
والعقبات أمام الحكومة الجديدة.
التحديات والآمال أمام الحكومة الصومالية الجديدة:
مما لا شك فيه أن الحكومة الصومالية الجديدة تواجه عقبات كبيرة وعديدة لا
يستهان بها، كما أن هناك عوامل نجاح وفرصاً مواتية لها، وفي السياق الآتي
نتناول هاتين النقطتين بشيء من الاختصار:
أولاً: العقبات أمام الحكومة الجديدة:
1 - المعارضة الداخلية: تتمثل في رؤساء الفصائل وأمراء الحرب الذين
قاموا بإسقاط الحكومة الصومالية السابقة ولم ينجحوا في تشكيل حكومة جديدة،
وقادوا البلاد إلى الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، واستمرت منذ عشر
سنوات، وراح ضحيتها آلاف الأشخاص من المدنيين الأبرياء؛ ويمكن تصنيف
هؤلاء حسب مناطقهم على النحو الآتي:
* زعماء الفصائل في مقديشو: وعلى رأسهم حسين عيديد، وعثمان علي
عاتو، وحسين بود الذين لم يشتركوا في مؤتمر السلام في عرتا بل ناصبوه العداء
واعترضوا عليه بشدة؛ حيث اعتبروا أن هذا المؤتمر يعتبر تعدياً على حقوقهم
الخاصة؛ حيث إنهم الممثلون الشرعيون كما يزعمون، وشعروا منذ البداية أن
مبادرة الرئيس الجيبوتي همشت دورهم؛ حيث سمح لهم أن يشتركوا في المؤتمر
بصفة شخصية فقط، وقد ساعدهم على هذا التمرد على المؤتمر الهالة الإعلامية في
الخارج التي تعظم دور هؤلاء وخاصة حسين عيديد والتي تروج أنه بغير وجودهم
فإن المؤتمر لن يحقق أي نجاح يذكر، كما يعتقد أن الأيدي الخفية التي تنشط في
مثل هذه الأوقات تعمل على قدم وساق لاستخدام هؤلاء في إخفاق الحكومة
الصومالية الجديدة كما فعلوا في مؤتمرات السلام السابقة؛ ولكن غاب عن هؤلاء
الذين يعظمون دور أمراء الحرب ويعولون عليهم حقائق كبيرة في الساحة
الصومالية يمكن إيضاحها بما يلي:
إن هذه الفصائل وخاصة عيديد الذي يضخم دوره ليس عيديد الموجود في
بداية التسعينيات الذي كان يحظى بتأييد وظروف مواتية له، كما أن الشعب
الصومالي ليس هو ذاك الشعب الذي يجري وراء عيديد وغيره من أمراء الحرب
مثل الرعاع؛ فالأمر قد اختلف تماماً عما كان عليه في تلك الأيام؛ فعيديد (الأب)
عندما حارب حكومة على مهدي المكونة في أول مؤتمر للمصالحة الصومالية الذي
عقد في جيبوتي عام 1991م وتمكن من الحجر عليها، وعندما حارب القوات
الأمريكية وأجبرهم على الانسحاب من الصومال لم يكن يخوض هذه الحروب وحده
وبشخصه وإنما كانت قبيلته بكل أفرادها بدءاً من سلاطينها وتجارها وميليشياتها بل
ونسائها وبكل إمكانياتها تقف وراءه وقفة الرجل الواحد.
ولكن هل بقي الأمر لعيديد (الابن) كما كان لعيديد (الأب) ؟ الجواب
بالنفي التام؛ حيث إن هذه القبيلة وبكل فئاتها التي ذكرناها أصبحت تساند وتشترك
بصورة فعالة في مؤتمر المصالحة في عرتا بدليل أن الرئيس الجديد اختير من بينها،
بل الأشد من ذلك أن البقية الباقية من ميليشيات عيديد ساهمت بصورة فعالة في
الترحيب بالرئيس الجديد عبدي قاسم صلاد حسن في زيارته الأخيرة إلى مقديشو؛
ولذلك ليس هناك خيار آخر أمام حسين عيديد إلا أن ينضم إلى الحكومة الجديدة،
أما بقية أمراء الحرب فليسوا أفضل حالاً من عيديد؛ بل ينطبق عليهم الكلام الذي
قيل في عيديد؛ فالبساط سحب من تحتهم جميعاً.
*منطقة الشمال الغربي التي أطلقت على نفسها: (جمهورية أرض الصومال)
إثر إعلانها الانفصال عن بقية أجزاء الصومال من جانب واحد في 18/3/1991
م والتي تتمتع باستقرار وهدوء بخلاف المناطق الجنوبية، كما أن رئيسها محمد
إبراهيم عقال نجح في تكوين إدارات وأجهزة فعالة، وتغلب على خصومه من
الناحية السياسية والعسكرية، هذه المنطقة تعارض الحكومة الجديدة بشدة لدرجة أنها
قامت بمظاهرات مضادة لمؤتمر عرتا وأشعلت النيران في العلم الصومالي، ولكن
المعتقد أن معارضتها لا يمكن أن تقف في وجه الحكومة الصومالية الجديدة لأسباب
عديدة من بينها: أن هذه المنطقة التي أطلقت على نفسها: (جمهورية أرض
الصومال) لم تحظ بأي اعتراف من المجتمع الدولي منذ إعلانها الاستقلال، كما أن
هناك قبائل عديدة داخل المنطقة أيدت وشاركت بصورة فعالة في مؤتمر المصالحة
في عرتا، ويرى بعض المحللين أن امتناع عقال عن الاشتراك في مؤتمر
المصالحة يعتبر مجرد مناورة سياسية وتكتيكاً مرحلياً؛ حيث يهدف أن يتفاوض مع
الحكومة الصومالية الجديدة على أساس شمال وجنوب انطلاقاً من فلسفة أن الشمال
كان مستعمرة بريطانية، والجنوب كان مستعمرة إيطالية، للحصول على مكاسب
سياسية كبيرة.
* منطقة الشمال الشرقي (بونتلاند) : تعتبر هذه المنطقة هي الأخرى من
المناطق التي تتمتع بهدوء واستقرار، وتنشط فيها تجارة المواشي وتصديرها إلى
بلدان الخليج العربي، واستيراد السلع. وفي 23/7/1998م تمكنت هذه المنطقة
من إقامة بناء إداري محلي للمناطق الشمالية الشرقية برئاسة العقيد عبد الله يوسف
الذي تمكن من إقامة بعض الأجهزة الإدارية وتكوين ميليشيات بمساندة من إثيوبيا؛
حيث يتمتع بعلاقات ودية معها أكثر من أي أمير حرب آخر، ويعارض عبد الله
يوسف مؤتمر المصالحة في عرتا والحكومة المنبثقة منه بشدة؛ فقد قال في مقابلة
مع هيئة الإذاعة البريطانية بتاريخ 16/7/2000م: «إن مؤتمر عرتا يهدد باندلاع
حروب أهلية في البلاد تستمر هذه المرة عشرين سنة قادمة وليس عشر
سنوات! !» ، واتهم أعضاء الحكومة الجديدة بأنهم أعضاء حكومة سياد بري
التي ارتكبت جرائم ضد الشعب الصومالي، كما وجه نداءً إلى محمد إبراهيم عقال
رئيس منطقة الشمال الغربي لإيجاد تعاون مشترك بين المنطقتين حتى ولو يصل هذا
التعاون إلى درجة الاندماج بين المنطقتين اللتين كان يسود بينهما التوتر طيلة
الفترات الماضية.
ومن جهة أخرى وفي ظل التنسيق بين أمراء الحرب لمواجهة خطورة
الحكومة الجديدة خوفاً من اقتلاع نفوذهم؛ فقد استقبل عبد الله يوسف خمسة من
رؤساء الفصائل على رأسهم حسين عيديد وعثمان عاتو بتاريخ 2/9/2000م،
وأصدروا بياناً مكوناً من ست نقاط يؤكدون فيها رفضهم نتائج مؤتمر عرتا وما
تمخض عنه من تكوين الحكومة الصومالية؛ والشيء الغريب في هذا البيان أنهم
ينادون بإقامة مؤتمر مصالحة جديد عن طريق رؤساء الفصائل (أمراء الحرب) ،
فهل سيختلف هذا المؤتمر الذي ينادون إليه عن مؤتمراتهم السابقة التي كانت تنتهي
بالإخفاق إثر تبادل الشتم واللعن بين أمراء الحرب؟ وما الذي جعل العقيد عبد الله
يوسف الذي كان يقول إنه لن يستقبل بعض رؤساء الفصائل مثل حسين عيديد فإذا
به يستقبلهم ويرحب بهم في عقر داره؟ إنه الشعور بالضغط الداخلي والخارجي
وتقلص دور قادة الحرب ونفوذهم في الصومال.
بقي في هذا الصدد أن نشير إلى أن موقف عبد الله يوسف أضعف بكثير من
موقف عقال؛ فغالبية الشعب في مناطق الشمال الشرقي تؤيد مؤتمر عرتا ونتائجه؛
كما أن حضور هذه المنطقة في مؤتمر عرتا كان قوياً وفعالاً رغم محاولة عبد
الله يوسف منع اشتراك الوفود وعرقلة وصولهم إلى جيبوتي؛ حيث انعقد
مؤتمر المصالحة.
2 - تحقيق الصلح بين العشائر المختلفة، وإعادة الثقة فيما بينها، وإزالة
المظالم وإعادة الممتلكات إلى أهلها، فهذه العناصر تعتبر محكاً واختباراً لدولة
الرئيس الجديد عبدي قاسم الذي ذكر في برنامجه الانتخابي أنه يكرس جهوده لعلاج
هذه المشكلات؛ فالجراحات التي تحتاج إلى الضماد كثيرة ومتشعبة؛ فهناك العديد
من الممتلكات من البيوت السكنية والعمائر والمزارع أخذت من أيدي أصحابها
واستولت عليها ميليشيات من عشائر أخرى، كما أن بعض المناطق يشعر أهلها
أنهم محتلون من قبل ميليشيات غزتهم من مناطق بعيدة؛ وذلك مثل مدينة كسمايو
الاستراتيجية التي تعتبر بؤرة المشاكل في جنوب الصومال حيث واجهت صراعاً
مريراً حول السيطرة عليها طيلة سنوات الحرب الماضية؛ فنجاح الرئيس منوط
بكيفية علاجه لهذه المشكلات التي نجمت عن الأوضاع المأساوية التي يأكل القوي
فيها الضعيف طيلة السنوات العشر الماضية؛ حيث كان نظام الغابة هو المعمول به
في الصومال، وأعتقد أنه ليس لدى الرئيس الجديد أداة حاسمة لعلاج هذه المشكلات
بين عشية وضحاها، ولكن الأمر يتطلب تعاوناً مشتركاً من الجميع، وصبراً طويلاً
إلى أن يستعيد الصومال عافيته.
3 - تكوين مؤسسات الدولة وإقامة البنية التحتية: عندما يأتي رئيس معين
إلى رئاسة دولةٍ ما فإنه يأتي إلى جهاز قائم متكامل بدءاً من الموظف الصغير
وانتهاءً إلى الوزير بالإضافة إلى المعدات والأجهزة والمكاتب المختلفة؛ مما يجعل
مهمة هذا الرجل سهلة وطبيعية، ولكن مهمة الرئيس الصومالي الجديد تختلف عن
هذا بكثير؛ حيث يأتي إلى حكومة لا يتوفر لها مكتب مؤثث واحد ولا سجلات ولا
أرشيف عدا تلك الأوراق التي في محفظة الرئيس من نتائج مؤتمر المصالحة في
عرتا، وكما أشرنا سابقاً فإن البنية التحتية والمرافق العامة التي تقدم الخدمات
الاجتماعية للشعب منهارة تماماً وسوف تؤسس من الصفر، ومع هذا إذا تضافرت
الجهود ونسيت آلام الماضي لبناء آمال المستقبل، وخلصت النيات فإنه يمكن
تجاوز هذه العوائق في فترة زمنية محدودة بمشيئة الله.
4 - تغيرت تركيبة المجتمع في خلال فترة الحروب الأهلية؛ فالطبقة المدنية
من سكان المدن المتعلمين والحرفيين وغيرهم هاجروا إلى خارج الصومال وخاصة
إلى بلاد الغرب، وحل محل هؤلاء سكان الأرياف والبوادي الذين نزحوا إلى المدن
بحثاً عن مصدر المعيشة، ولما كان هؤلاء لا يجيدون أي حرفة، ولانعدام
المؤسسات الحكومية التي تستطيع أن تؤهلهم لأي عمل، فقد التحقوا بصفوف
الميليشيات القبلية وانخرطوا فيها؛ فالعقبة أمام الحكومة الجديدة هي كيف تعيد
الكوادر والعقول المهاجرة إلى البلاد لتشترك في بناء الصومال الجديد؟ وكيف
تؤهل الطبقة النازحة من الأرياف التي حلت محل أهل المدن سابقاً حتى لا يكونوا
عالة على المجتمع؟
5 - عدم وجود جيش وجهاز شرطة يقوم بتنفيذ مهمات الحكومة الجديدة من
استتباب الأمن الداخلي والخارجي؛ حيث كان الجيش والشرطة أول مؤسستين
انهارتا في البلاد؛ فهل ترى تتمكن الحكومة الجديدة من تكوين الجيش والشرطة،
أم هي بحاجة إلى الاستعانة بقوات حفظ سلام خارجية؟ أعتقد أن بإمكان الحكومة
الجديدة تكوين هاتين القوتين في فترة وجيزة إذا توفر لها الدعم اللازم؛ وقد خطت
اللجنة التي كونها الرئيس الجديد من بعض الجنرالات بعض الخطوات الإيجابية في
هذا الصدد في مقديشو العاصمة.
6 - الملف الصومالي الإثيوبي: تناوُلُ هذا الموضوع قد يكون سابقاً لأوانه
حيث إن الحكومة الصومالية الجديدة لا تستطيع الالتفات إلى اليمين أو اليسار عدا
ترميم الدولة الصومالية ومؤسساتها إلا أن المشكلة (الصومالية الأثيوبية) أكبر من
أن تتناسى ولا يشار إليها في مثل هذا التقرير الذي خصص لتناول العقبات أمام
الحكومة الصومالية الجديدة؛ إذ من المعروف أن الحكومة الإثيوبية هي التي
أسقطت الحكومات الصومالية السابقة من خلال الجبهات الصومالية المنطلقة
والمدعومة من قبل إثيوبيا بدءاً من العقيد عبد الله يوسف الذي يعتبر أول من خرق
الإجماع الصومالي وسن سنة اللجوء إلى إثيوبيا في إثر المحاولة الانقلابية التي قام
بها هو ومجموعة من الضباط عقب العودة من حرب أوجادين عام 1978م،
وانتهاءً بسيلانو وعبد الرحمن تور والجنرال عيديد والعقيد أحمد عمر جيس في
بداية عقد الثمانينيات ونهايته من القرن العشرين، وقد كان هذا في عهد رئيس
إثيوبيا السابق منجستو وانطلاقاً من القومية الأمهرية. وفي حديث لمنجستو في
منفاه في زيمبابوي قال: «سيذكرني أبناء إثيوبيا بالدور الذي قمت به للقضاء على
عدو إثيوبيا التاريخي الذي كان الخطر الأكبر لوجودنا» ويقصد بذلك الصومال،
وعندما تسلمت حكومة ملس زيناوي مقاليد الحكم في إثيوبيا واصلت مسيرة العداء
والكيد للشعب الصومالي ولكن بأسلوب يختلف عن أسلوب الحكومات الإثيوبية
السابقة؛ حيث حاولت أن تقدم السم في خططها التدميرية بطبق من ذهب وكوب
من عسل في هذه المرة، فاستلمت ملف السلام الصومالي ورعت مؤتمرات السلام
في عاصمتها كرعي الذئب للغنم ولكن سرعان ما كشفت عن أنيابها فغارت على
أقاليم صومالية آمنة بحجج واهية، كما قامت بتوزيع السلاح بشكل عشوائي على
الفصائل المتحاربة في خطوة لا تهدف إلى حسم الصراع لطرف معين بقدر ما
تهدف إلى استمرار الحرب المستنزفة واستمرار حالة الفوضى وتغييب دور
الصومال الإقليمي والدولي؛ وحتى لا تتكرر المطالبة الصومالية بالأراضي
الصومالية المحتلة (أوجادين) من قِبَل إثيوبيا، وحتى لا تحظى الجبهات التي
تقاتل ضد الحكومة الإثيوبية في أوجادين بتقرير مصيرها بدعم من الحكومة
الصومالية كما كان يحصل سابقاً.
والمعروف أن القضية الأوجادينية تعتبر من أعقد القضايا في القرن الإفريقي
ولب الصراع الديني فيه؛ فهي امتداد للصراع والعداوات بين الصومال وإثيوبيا
التي تمتد جذورها إلى القرن التاسع الهجري في أيام الإمام (أحمد جري) ومَن قبله
من دول الطراز الإسلامي كإمارة الزيلع وإمارة هرر.
وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل الحكومة الصومالية
الجديدة ستواصل سياسة الحكومات الصومالية السابقة في المطالبة بإقليم أوجادين
ودعم جبهاته التحريرية، أم تتنازل عن هذه القضية وتترك شأنها، أم تعالجها
بطرق أخرى؟ البحث في هذه المسألة سابق لأوانه كما أشرت سابقاً حتى يستعيد
الصومال كيانه وعافيته، ولكن تبقى مشكلة الشعب الصومالي في أوجادين قائمة؛
فهي أم المشكلات في القرن الإفريقي، وما لم تحل بطرق عادلة فإن الحروب
والقلاقل لا تزال تندلع في هذه المنطقة الحساسة من حين لآخر.
ثانياً: مظاهر الآمال في نجاح الحكومة الصومالية الجديدة:
ما تناولناه سابقاً يعتبر جزءاً من العقبات التي تعترض الحكومة الصومالية
الجديدة، ومع كثرة هذه العقبات إلا أن فرص النجاح لهذه الحكومة أكثر من عدم
نجاحها، وفيما يلي نشير إلى بعض تلك الفرص:
1 - ما تحظى به هذه الحكومة من تأييد شعبي واسع في الداخل والخارج؛
حيث يمكن القول إن أكثر من 95% من الشعب مؤيد لهذه الحكومة؛ حيث إن
مؤتمر عرتا هو المبادرة الوحيدة التي حظيت بهذا التأييد المنقطع النظير من قبل
قوى المجتمع المختلفة من العلماء والتجار وشيوخ القبائل والمثقفين والمحاكم
الإسلامية والحركات الإسلامية والجمعيات الخيرية، ولا يعارضها إلا مجموعة من
أمراء الحرب الذين نأمل أن ينضموا إلى المسيرة السلمية واحداً تلو آخر.
2 - تجانس الشعب الصومالي: حيث تختلف الصومال عن المجتمعات
الإفريقية لشخصيتها المتجانسة أساساً؛ فلا يوجد انقسام ديني، أو انقسامات عرقية،
أو اختلاف في اللغة أو العادات والتقاليد وحتى في المذهب الفقهي، وإن ما
يفرقهم بعد أن اتحدوا في جميع عوامل الاتحاد الأخرى هو العصبية القبلية فقط،
والقبيلة قد تستخدم للخير كما استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته
عند توزيع جيوشه على لواءات عشائرية؛ حيث هذا أدعى للثبات والإقدام على
الجهاد، وقد تستخدم القبيلة للشر كالحالة الصومالية، وهي التي حذر منها الرسول
صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة.
3 - هناك بعض التقارير تشير إلى أن المجتمع الدولي يحبذ إيجاد دولة ونظام
في الصومال وإعادته إلى حظيرة الشرعية الدولية؛ وذلك خوفاً من ظهور حركات
إرهابية وأصولية حسب تعبيرهم تسيطر على هذا الموقع المهم من القرن الإفريقي
والبوابة الجنوبية للبلدان العربية.
4 - جميع العوامل التي ذكرنا أنها كانت سبباً في إحباط جميع المبادرات
والمؤتمرات السابقة والتي تحاشاها المؤتمر الحالي في عرتا وتجنب سلبياتها تعتبر
عوامل نجاح بالنسبة للحكومة الصومالية الجديدة.
5 - يتوقف نجاح الحكومة الجديدة إلى حد كبير على ما ستحظى به من دعم
من المجتمع الدولي والإقليمي من الناحية السياسية والاقتصادية، ولكن إذا استعانت
بالله، ووحدت الصف الداخلي للشعب الصومالي، وأخذت بالأسباب اللازمة لذلك
فإن الحكومة الجديدة سيتحقق لها النجاح بمشيئة الله ولو لم تجد أي دعم من الخارج.
توصيات واقتراحات:
1 - أوصي الرئيس الجديد أن يتقي الله في الأمانة التي تحمَّلها والتي امتنعت
من قبولها السماوات والأرض والجبال [وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً]
(الأحزاب: 72) .
2 - كما أوصي الرئيس الجديد أن يحقق ما تعهد به في برنامجه الانتخابي
وتصريحاته السابقة في أن يطبق شريعة الله في الأرض، وألاَّ يكون مثل أولئك
الذين يستخدمون الشريعة والدين ورقة انتخابية ثم إذا تمكنوا حاربوه وذبحوا أهله
من العلماء والدعاة إلى الله وزجوا بهم في السجون. وتطبيق الشريعة الإسلامية هو
المخرج الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ الصومال من ويلاته، والمعروف أن جميع
الأنظمة الوضعية من الرأسمالية والشيوعية الاشتراكية والقبلية كلها أثبتت إخفاقها
الذريع في الصومال، وأورثتنا ما نعاني منه الآن.
3 - لا بد أن يحرص الرئيس الجديد على تولية الأكفأ والأصلح للوظائف
والولايات المختلفة، وأن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن يتوخى
الصالحين في اختياره لأعوانه وبطانته، وأن يكون معياره في تقديم الرجال بعضهم
على بعض اختيار القوي الأمين.
4 - وليكن شعارك شعار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر
الصديق رضي الله عنه في خطبته التي يقول فيها عندما اختاره المسلمون وبايعوه
البيعة العامة: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وأن
أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى
أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء
الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في
قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإذا عصيت الله
ورسوله فلا طاعة لي عليكم» .
5 - في مقابل ذلك أوجه نداءاً إلى أبناء الشعب الصومالي أن يتحدوا
وينضموا وراء قائدهم الجديد، وأن يعينوه في الخير، وأن ينسوا مخلفات العصر
الجاهلي، وأن يترفعوا عن أية حسابات شخصية من شأنها تعطيل مسيرة المصالحة،
وأن يرموا أمراء الحرب عن قوس واحدة حتى لا يفسدوا هذه الفرصة النادرة التي
قيضها الله للرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة التي لا قدر الله إذا أحبطت فقد
تكون آخر فرصة للسلام في الصومال مما يجعل هذا البلد الهام في ذمة التاريخ.
وأملنا في الله كبير أن نرى الصومال قد استعاد عافيته وقُيِّض له رجال صالحون
أكفاء يطبقون شريعة الله فيه ويقودون السفينة إلى بر الأمان.
هذا وبالله التوفيق، والله من وراء القصد،
__________
(*) نعتقد أن جر النساء للعمل السياسي مهما كانت الأسباب إخراج لها عن فطرتها وانحراف بها
عن رسالتها
- البيان -.
(1) انظر لمزيد من التوسع حول هذا الموضوع مقالي: (الصومال بعد رحيل سياد بري) ، المنشور بمجلة البيان في عددها (39) عام 1991م، محمد حاج يوسف: (الاعتداءات الإثيوبية على الصومال) ، المنشور بمجلة البيان في عددها (153) عدد جمادى الأولى 1421هـ/2000م،
عبد يوسف فارح: (إثيوبيا وأكذوبة الوسيط النزيه بين الفصائل الصومالية) ، المنشور بجريدة المستقلة في عددها (190) بتاريخ 22 شعبان 1418هـ 22 ديسمبر 1997م.(157/101)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
أبشر بطول سلامة يا باراك!
أكد الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري حسني مبارك،
أن القمة العربية قبل اجتماعها لن تجتمع لإعلان الحرب على (إسرائيل) ،
فالدخول في الحروب لن يؤدي إلى حل، بل سيزيد من تعقيدات العملية السلمية،
وأشار إلى أن القادة العرب في قمة 1996م اجتمعوا على اتخاذ السلام كخيار
استراتيجي، ولن يتغير موقفهم بسبب الأحداث المأساوية التي وقعت! ! . وكان
الباز قد عقد مؤتمراً صحافياً مع المراسلين الأجانب بالقاهرة أعرب خلاله عن
اعتقاده بأن تغييراً سيطرأ على الأحداث في الأيام القليلة القادمة، ولكنه أكد على أن
الجروح الناتجة عن أحداث العنف الأخيرة ستحتاج وقتاً طويلاً لكي تندمل. وحول
إمكانية أن تنطوي قرارات القمة العربية على التلويح بالحرب، قال الباز: «إن
الحرب لا تحتمل أن تكون تلويحاً فإما إعلان حرب أو لا، وخيار الحرب سيفقدنا
التعاطف الذي كسبه الفلسطينيون والعرب جراء العنف الذي اتبعته (إسرائيل) ،
وعندئذ سيقول الإسرائيليون إن العرب كانوا يدخلون في إرهاصات حرب مما
يستوجب اتخاذها خيار العنف» . وأضاف الباز: «إن المسألة ليست مسألة توجه
نحو الحرب ولكن مخاطبة الجانب الإسرائيلي من موقع يقول لهم إن العرب لديهم
خيارات كثيرة ولديهم خطوط حمراء لا يمكن أن تتخطاها» . وأكد الباز على أن
العرب لن يقوموا بإجراءات غير محسوبة؛ كما أن توسيع نطاق العنف سيؤدي إلى
الدوران في دائرة مفرغة من العنف. وعادة عندما نواجه تراجعاً في موقف ما لا
يمكننا أن نقابله بتغيير 180 درجة، ولكن يمكننا اتخاذ إجراءات من شأنها التأثير
على الرأي العام الإسرائيلي ليفرض على حكومته اتخاذ مواقف أكثر تعقلاً.
وأضاف أنه يمكن للقمة العربية أن توجه رسالة قوية من دون استخدام الإنذارات
النهائية والتهديدات أو اتخاذ مواقف مجنونة! !
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (7990) ]
عالم الرفاهية
المصالح الفلسطينية تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل جيل من الزمن، فإذا
كان عرفات يوماً زعيم حركة سرية من المقاومة ينتقل خلسة من مخبأ إلى آخر في
بيروت وطرابلس الغرب وتونس، فإنه اليوم يعيش كأحد الباشاوات، عائماً على
بحر من بلايين الدولارات من المساعدات الغربية المقدمة إلى السلطة الوطنية
الفلسطينية، ومتجولاً بحرية وبذخ في كافة أرجاء العالم. وقبل انهيار عملية السلام
كان كبار أعوانه يتناولون الجمبري والنبيذ الفرنسي في مطاعم تل أبيب الفخمة،
كذلك عقد بعضهم شراكات مربحة جداً مع رجال أعمال إسرائيليين، ثم إنهم رفعوا
أعلامهم فوق أراضيهم، وأصدروا طوابعهم البريدية الخاصة، وكانوا يمرون دون
عائق عبر نقاط التفتيش ومعابر الحدود بواسطة تصاريح المرور الإسرائيلية التي
تمنح للشخصيات البارزة، حتى عندما كان مواطنوهم يساقون كالماشية من غزة
وإليها..!
[الكاتب الأمريكي مايكل هيرش، صحيفة نيوزويك العربية، العدد (20) ]
حُماة اليهود
«عندما اقتحمت الحشود الغرفة استلقيت على أحد الجنود الإسرائيليين
وحاولت أن أحميه بجسدي، ولكن الناس أبعدوني عنه بقوة هائلة باتجاه الحائط» .
هكذا وصف قائد شرطة رام الله كمال الشيخ في مقابلة في صحيفة «هآرتس»
روايته حول حادثة الإعدام الميداني من غير محاكمة للجنديين الإسرائيليين فاديم
نورجيتس ويوسي براهامي اللذين قتلا في رام الله. كما وصفتها الصحيفة «.
وفي مكتبه شبه المدمر من صواريخ الجيش الإسرائيلي في وسط المدينة بجانب
الغرفة التي قتل فيها الجنديان اعتبر كمال الشيخ عملية القتل» الفشل الأكبر للسلطة
الفلسطينية «وأنها» إهانة لشرطة رام الله ولي أنا شخصياً «! ومضى قائد شرطة
رام الله يقول:» أؤكد بشكل قاطع أن أي فرد من أفراد الشرطة لم يشارك في
عملية القتل أو الضرب! ! ولو كان هناك أحد مشاركاً لكان الآن في الحجز،
وهناك 13 شرطياً فلسطينياً أصيبوا واحتاجوا للعلاج الطبي إبان الحدث. لم نكن
قادرين على وقف المهاجمين بعد أن اقتحموا بوابة المحطة الحديدية «. وسوغ
كمال الشيخ إحجام أفراد الشرطة عن إطلاق النار بقوله:» كان بين المهاجمين
حوالي مائة مسلح، ولو أطلق أفراد الشرطة النار لتسببت في مذبحة فظيعة «.
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (357) ]
براءة من البداية
س: هنالك بعض الإشاعات تقول إنكم على صلة بالجماعات الإسلامية
المتطرفة؛ فما حقيقة ذلك؟
ج: لست بصدد المناقشة حول عقيدتي. أي إنسان في العالم له عقيدته.
والعلاقات بين الدول لا تحكم بالعقائد، ولسنا في القرون الوسطى، وعلاقات الدول
الاقتصادية والسياسية مبنية على الواقعية. أنا مسلم، أؤمن بالله. لكنني ضد
التطرف؛ فالإسلام حسب المفهوم الصحيح هو دين الاعتدال والتسامح، فأنا من
المعتدلين وليست لي أي علاقة مع المتطرفين ولا أحب التطرف ولا أشجعه. ولا
توجد في الصومال أي قوة متطرفة، ربما هنالك أفراد لهم مزاج تطرفي.
[الرئيس الصومالي: عبدي قاسم صلاد، مجلة الوسط، العدد: (453) ]
غربان السلام!
الشرق الأوسط معقد.. معقد: لأنه ما زال محكوماً بجنون اللامعقول الذي
يجعل الرموز والمباني أقدس من الحياة. معقد هو الشرق؛ لأنه لم يعرف قط ثقافة
السلام، أي التسامح والتسليم بالحق في الاختلاف والقدرة على وضع النفس موضع
الآخر لفهمه وتفهمه للتفاوض معه لا مع النفس. مهما تكن سيناريوهات تأجيج
الصراع، فاللوحة قاتمة، وجنون الهويات المتصارعة فاعل، والثأر ينادي الثأر،
والقادة يتنافسون في استثارة غرائز جماهيرهم، مما يجعل الحديث بلغة العقل ضرباً
من الدعابة السوداء. ومع ذلك فلا بد من إسماع صوت العقل البارد في هذا الوضع
الملتهب؛ لأن من أولويات الكاتب مساعدة قارئه على التفكير في مشاكل مجتمعه
وعصره برصانة وموضوعية. فماذا يقول صوت العقل لشعوب ونخب على شفير
الحرب؟ إذن الخيار الوحيد هو السلام الصعب والضروري في آن ليس
الفلسطينيون بأقل من الإسرائيليين حاجة للسلام، أولاً ليوجدوا كدولة، وثانياً
ليواجهوا المهام الجسام التي تنتظرهم. الوقت لا يعمل لصالحهم؛ فكل يوم يمر من
دون سلام يعقد أكثر مشاكلهم المزمنة ويطيل ليلهم وعذابهم. كل إغراء بتحويل
عملية السلام إلى عملية حرب، كما يُطالب بذلك زعماء» حماس «الذين يفكرون
خارج التاريخ، لن يقودهم إلا إلى نكبة ثانية، وكل مطالب تتعدى مطلب أن تكون
فلسطين وطناً لشعبين والقدس عاصمة لدولتين انتحار سياسي.
[العفيف الأخضر، جريدة الحياة، العدد: (13731) ]
فلسفة علمانية
إن الديمقراطية تستوجب التعددية الحزبية والفكرية وحرية المناقشة والتفاهم.
واستخدام الرموز الدينية في النظام الديمقراطي يلغي مبدأ المنافسة المتساوية بين
الأحزاب التي تمارس السياسة؛ لأن القواعد الدينية هي أمور يجب إطاعتها كما
هي. فلو تم استخدامها لأمور العامة؛ تلغي بطبيعة الحال حرية المناقشة والتعددية
الفكرية. هذا ما يعني نهاية الديمقراطية، وليست الديمقراطية هي المتضرر الوحيد
من هذه العملية؛ بل إن الدين أيضاً سوف يتضرر من كونه أصبح مادة مفتوحة
للنقاش، وبغاية السهولة سوف يلاحظ من لديه قليل من الاهتمام بالأمور الدولية
مدى الضرر الذي يتعرض له ديننا في بعض الدول. استطاعت تركيا بفضل
العلمانية فصل أمور الدولة عن الدين، وبذلك نجحت في حماية ديمقراطيتها من
جهة، وحماية ديننا من أي ضرر من جهة أخرى. والتاريخ التركي مملوء بالأمثلة
الخاصة بالأضرار التي ألحقها التطرف الديني بالحياة العامة عندما كان في السلطة.
لقد توصلت تركيا من تجاربها التاريخية إلى أن تقييم العلاقات الدولية من وجهة
النظر الدينية فقط لا يعطي نتيجة قوية، ولو كان عكس ذلك صحيحاً، لما انهارت
الامبراطورية العثمانية التي كانت مركزاً للخلافة في نهاية الحرب العالمية الأولى،
وهي التي رفعت راية الإسلام بعزة وشرف في ثلاث قارات؛ لذا فإن الجمهورية
التركية تنظر إلى العلاقات الدولية استناداً إلى الواقعية وإلى المصالح العليا.
[السفير التركي في الكويت، جريدة الأنباء، العدد: (8745) ]
أهكذا تحمون الدين؟ !
تشير وثيقة أعدت حول العلاقات العسكرية بين إسرائيل وتركيا إلى أن حجم
التعاون العسكري بين الدولتين زاد هذا العام بنسبة 40% بالمقارنة بالعام الماضي،
وأن جميع الاتفاقيات العسكرية الموقعة بين الدولتين تنفذ بالكامل، ولأول مرة في
تاريخ العلاقات بين إسرائيل وتركيا ستجري القوات الجوية والبرية والبحرية
مناورات مشتركة بهدف زيادة القدرة على المناورة. وتجدر الإشارة إلى أن التعاون
العسكري بين الدولتين يشمل ثلاثة مستويات: الأول يشمل المناورات العسكرية
ومعظمها سرية وتتم بحجم ومستوى لا شبيه لها بين جيش الدفاع الإسرائيلي وبين
أي جيش في العالم، باستثناء جيش الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من
المجالات. وأما المستوى الثاني فهو مجال الصناعات العسكرية. وأما المستوى
الثالث فهو المجال الاستراتيجي والذي يشمل أيضاً الاستعداد المشترك في مواجهة
انتشار الصواريخ البالستية والتهديدات من دول معينة وخاصة إيران والعراق.
[صحيفة هآرتس اليهودية مترجم]
في أي دولة! !
قرارات منع ارتداء الحجاب في تركيا تزداد ويتسع نطاقها يوماً بعد يوم،
فبعدما كان الحظر يقتصر على قاعات المحاضرات والمختبرات، شمل هذا العام
كامل الحرم الجامعي، والمستشفى الجامعي أيضاً والسكن الداخلي. ويجري قرار
الحظر أيضاً على المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة ودورات تعليم اللغات.
وتمنع القرارات المحجبات من الحصول على رخصة قيادة بحجة محاربة
» الرجعية «أي التيار الإسلامي. ويدعم هذه القرارات حملات توعية نفسية
في المدارس والجامعات؛ حيث يتم جمع الطالبات في قاعات كبيرة لتحاول المديرة
أو الاختصاصية النفسية إقناع الطالبات بأن الحجاب ليس واجباً دينياً، بل عادة
قديمة وأنه من العبث أن يضيعوا مستقبلهم من أجل قطعة من القماش.
وذكرت طالبات أن كثيراً ما يصحب محاولات الإقناع هذه أسلوب التهديد
والترغيب، إذ توعد من تخلع حجابها بالمساعدة أثناء الامتحانات، وتهدد
من ترفض الانصياع للأوامر بتسليمها إلى قوات الأمن والشرطة.
[جريدة الحياة، العدد: (13738) ]
معاندة! !
ربما قرر المسؤولون تغيير اسم وزارة التجارة إلى وزارة التجارة للشؤون
الدينية مسايرة مع تيار أسلمة الحياة الاجتماعية في الدولة من طب إسلامي إلى
اقتصاد إسلامي إلى نعوت مزايدات ورياء ديني تنتهي آخر الأمر إلى دولة الإسلام
السياسي. أما كفانا فتاوى دويلات الطبطبائي والبصيري والعرادة وغيرهم من
رموز الإسلام السياسي الشعبي، حتى تخرج لنا وزارة التجارة، وهي المؤسسة
الرسمية، بتقليعة الدروشة الدينية وزج الاجتهادات الفقهية المتخلفة إلى عالم التجارة
والاقتصاد فتصدر فرمانها بمنع شهادات الادخار للبنوك الوطنية بناءً على فتوى من
دائرة الإفتاء بوزارة الأوقاف؟ منذ متى أصبحنا نرهن حياتنا الاقتصادية والسياسية
لفتاوى مشايخ دائرة الأوقاف بعد فتاوى الأفراد المشرعين وجمعيات ولجان الإسلام
السياسي؟ ولماذا انتقت وزارة التجارة تحديداً» شهادات الادخار «للبنوك كي
تظهر لنا وجهها الديني، وكيف تتمسح بجلباب فقهاء وزارة الأوقاف؟ وماذا يحدث
لو قال هؤلاء الفقهاء إن الفوائد البنكية حرام. وقد قالوا هذا بالفعل، هل ستمنع
وزارة التجارة الدينية البنوك أو تحولها إلى نسخ بائسة من بيت التمويل، وليذهب
اقتصاد الدولة والقطاع الخاص وكل إنشائيات الإصلاح الاقتصادي ودعم القطاع
الخاص إلى الجحيم؟
[الكاتب الكويتي: حسن العيسى، صحيفة القبس الكويتية، العدد: (9808) ]
والرقيب الأعلى سبحانه! !
لست مع الرقابة بمعناها الفج والشامل، وفي الوقت نفسه مع الانفتاح وإعطاء
المُشَاهِد الحرية في أن يرى ما يريد، لكن من ناحية مقابلة ينبغي أن تضع في
اعتبارك التكوينات الخاصة بمجتمعك ومشكلاته وأوجه الصراع الموجودة فيه،
ومدى ما يمكن أن يسهم وجود هذا العمل أو ذلك فيه بالسلب، خاصة إذا لم يكن
عملاً عالي القيمة من الناحية الفنية. اختلفت مع أسامة أنور عكاشة وقلت له:
هناك أفلام لا أستطيع أن أراها مع أولادي مع أنهم كبار (! !) ، وأنا أشك في أن
أسامة يشاهد هذه الأفلام مع حفيدته، وهو مبدع عظيم معه حق في نسف الرقابة،
وأنا أتمنى ذلك، لكن إلى أن تكتمل الظروف، لا بد أن تضع مجموعة من
الاعتبارات لا القيود. موقفي أساء البعض فهمه، وهو باختصار قبول الرقابة في
الحدود التي تحقق درجة من المواءمة السياسية، دون أن يتسبب ذلك في تكبيل
حرية الإبداع. وأنا فخور بأن كل من أشرفوا على جهاز الرقابة في المجلس كانوا
متحرري الأفق، وكانت الشكوى الدائمة من أن الرقابة متساهلة، وهناك الآن
مشروع وافق عليه الوزير بإلغاء مسمى الرقابة وإنشاء جهاز جديد مستقل يكون
اسمه: الإدارة المركزية للمصنفات الفنية.
[د. جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، مجلة الأهرام
العربي، العدد (185) ]
وقذف في قلوبهم الرعب
عاد وزير إسرائيلي من أوروبا بالانطباع أن العداء المتصاعد لليهود في العالم،
منذ انفجار انتفاضة الأقصى هو الأعلى درجة منذ الحرب العالمية الثانية. وقال
وزير الشؤون اليهودية في حكومة إيهود باراك (ميخائيل ملكيئور) :» إنه بدأ
يلمس ظاهرة خطيرة لمواطنين يهود في عدة دول في الغرب يخشون من المشي
والظهور بالقبعة الدينية اليهودية، ولا يشاركون في نشاطات يهودية ويترددون في
تسجيل أولادهم في مدارس يهودية «. وأضاف:» إن هناك خوفاً حقيقياً من
اعتداءات إرهابية على اليهود وعلى المؤسسات اليهودية، وأن مئات الهجمات على
يهود وأهداف يهودية وقعت في مختلف دول العالم، من فرنسا وحتى جنوب إفريقيا
ومن أستراليا حتى كندا، بينها 200 هجوم بالمتفجرات «، وقال:» المميز لهذه
الاعتداءات أنها لم تقتصر على مواطنين محليين من قوى اليمين المتطرف أو
اليسار المتطرف بل من مسلمين يحظون بتعاطف السكان المحليين. الأمر الذي
يؤكد أن تلك ليست ظواهر هامشية، بل نوع من التضامن مع الفلسطينيين «.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (7998) ]
أشد الناس عداوة
1- كشفت صحيفة هندية واسعة الانتشار وصول فريق أمني إسرائيلي إلى
القسم الذي تسيطر عليه الهند من كشمير بدعوة من وزير الداخلية الهندي لآل
كريشنا أدفاني، وقالت صحيفة» ذي تايمز أوف إنديا «الصادرة باللغة الإنجليزية
من نيودلهي:» إن الفريق «الإسرائيلي» يرأسه مسؤول كبير في مكتب رئاسة
الوزراء، ويتشكل من مسؤولين كبار في الشرطة وقيادات في الأمن والاستخبارات
العسكرية الإسرائيلية «، وأشارت الصحيفة إلى أن الفريق الأمني» الإسرائيلي «
يدرس جدوى الاحتياجات الهندية الأمنية في ولاية كشمير التي تواجه تصعيداًَ مسلحاً
من قبل المقاتلين الكشميريين.
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (352) ]
2 - كشف زعيم حركة» لشكر طيبة «الكشميرية المقاتلة (حافظ سعيد)
أن أتباعه قتلوا ستة من رجال الكوماندوس الإسرائيليين في معارك عنيفة خاضتها
الحركة أخيراً في كشمير الخاضعة للسيادة الهندية.
وأضاف أن مجموعة من الكوماندوس الإسرائيليين وصلت إلى الهند قبل ثلاثة أشهر
تنفيذاً لاتفاق بين البلدين على مقاومة المجاهدين الكشميريين.
وحدد سعيد في لقائه ثلاثة أماكن يوجد فيها الكوماندوس الإسرائيليون وهي:
العاصمة سريناغار، ومدينتا سابور وبدغام. ووصف المهام التي يضطلع بها
الكوماندوس الإسرائيلي بأنها تدريبية وقتالية.
[صحيفة الحياة، العدد: (13713) ]
3 - قالت مصادر أمنية جنوب إفريقية أن جهاز المخابرات الخارجية
الإسرائيلي (الموساد) عزز وجوده هناك أخيراً، وعين عميلين ميدانيين في مدينة
(كيب تاون) لمراقبة نشاطات الجماعات الأصولية في البلاد. وبهذه الخطوة،
يرتفع عدد العملاء الذين يعملون لصالح» الموساد «في جنوب إفريقيا إلى سبعة،
استقروا جمعيهم في بيوت» آمنة «في الضواحي الغربية لكيب تاون، ويتلقون
الدعم من خبراء مكتب جنوب إفريقيا الجديد في مقر» الموساد «بتل أبيب.
ووجد عملاء» الموساد «في جنوب إفريقيا تعاونهم مع وكالة المخابرات الوطنية
المسؤولة عن الأمن الداخلي ذا قيمة.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (7976) ]
في زحمة الأحداث
ذكرت الإذاعة اليوغسلافية من بلجراد أن مبعوثاً ليبياً سلم الرئيس
اليوغسلافي الجديد فويسلاف كوشتونتسا مساعدة مالية قدرها مليون دولار أمريكي
هدية من ليبيا إلى شعب صربيا. وذكرت الإذاعة أن مبعوثاً خاصاً للزعيم الليبي
العقيد معمر القذافي هو أحد كبار المسؤولين في اللجنة الشعبية للعلاقات الدولية
رمضان المانعي التقى الرئيس اليوغسلافي كوشتونتسا وسلمه شيكاً بمبلغ مليون
دولار أمريكي مساعدة إنسانية إلى شعب صربيا. ولم تذكر الإذاعة نوع المساعدة
الإنسانية التي منحتها القيادة الليبية إلى قيادة صربيا الجديدة ولا سببها.
[جريدة الرياض، العدد: (11806) ]
الصيادون للعقول
وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على تشريع بزيادة ومضاعفة أعداد تأشيرات
الدخول للعاملين الأجانب المهرة في مجال الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات،
ويقضي القانون بزيادة تأشيرات الدخول المتاحة للعاملين في هذا المجال من 107
آلاف وخمسمائة تأشيرة سنوياً بموجب القانون الحالي إلى 195 ألف تأشيرة.
[صحيفة البيان، الإماراتية، العدد: (7414) ]
والله لتفتحن روما
1 -» ليست إيطاليا بلاداً مهجورة بلا تاريخ ومن غير تقاليد عريقة، ثمة
أضداد تتنافر ويستحيل الجمع بينها، إما أن تثبت أوروبا هويتها المسيحية، وإما
أنها سائرة إلى الارتماء في حضن الإسلام، لا بد من أن نحصن أنفسنا ضد تعدد
الزيجات، والتمييز ضد المرأة، والتطرف الإسلامي. اضربوا أخماسكم بأسداس
قبل الإقدام على أي قرار أو خطوة في هذا المضمار! «
ليست هذه التصريحات خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى من الدرر التي
يجود بها من حين لآخر زعماء الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا،
من أمثال الفرنسي لوبان أو النمسوي هايدير أو الإيطالي أومبرتو بوسي؛ بل هي
من بنات أفكار أسقف مدينة بولونيا التي تحتضن أقدم جامعة في أوروبا. ومن
اللافت أنها تأتي إبان الاحتفالات الضخمة التي تنظمها الكنيسة الكاثوليكية لمناسبة
مرور ألفي عام على ميلاد السيد المسيح، تحت شعار الانفتاح والتآخي مع الديانات
والمعتقدات الأخرى. قال الكاردينال مضيفاً:» إن لكل دولة أن تسمح بالدخول
إلى أراضيها لمن تشاء، فليأت الأمريكيون اللاتينيون والفيليبينيون وجيراننا من
إريتريا «. التصريحات اللاهبة التي صدرت عن أسقف بولونيا لقيت أيضاً تجاوباً
معها، حتى بين كبار المسؤولين في الفاتيكان، مثل الكاردينال أنجيلو سودانو الذي
يقوم مقام وزير الخارجية، فضلاً عن استقطابها تأييداً واسعاً في أوساط المحافظين
والأحزاب اليمينية؛ فقد رأى سيلفيو برلوسكوني أنها كلمات تستحق الاهتمام
والاحترام، بينما أثنى زعماء الحلف الوطني وعصبة الشمال على شجاعة
الكاردينال، واعتبروا أن الوقت قد أزف لكسر المحرمات وتسمية الأشياء بمسمياتها،
وأن أحداً لن يتجاسر بعد اليوم على القول بأن الهجرة ظاهرة إيجابية، إشارة إلى
التصريحات التي صدرت أخيراً عن مسؤولين كبار، بينهم رئيس الحكومة ورئيس
جمعية الصناعيين، مشددة على حاجة إيطاليا إلى عشرات الآلاف من المهاجرين
سنوياً للحفاظ على وتيرة النمو الاقتصادي وعلى التوازن بين الأعمار في التركيبة
الاجتماعية. حتى الآن لم يصدر عن الفاتيكان أي تصويب أو إدانة للتصريحات
التي صدرت عن أسقف بولونيا. ولكي يضمن الكاردينال بيفي أن تصريحاته
الاستفزازية ستعقد ثمارها، ختمها بالعبارات التالية:» أنا لم أنزعج قط من فكرة
الحروب الصليبية، أعرف أن كلامي سيساء فهمه، ولكن من واجبي أن أفصح عن
شواغلي «.
[صحيفة الحياة، العدد: (13717) ]
2 - نظمت» رابطة الشمال «الانفصالية في إيطاليا تظاهرات في مدينة
ميلانو احتجاجاً على الوجود الإسلامي في مقاطعة لومبارديا شمال البلاد، شاركت
فيها تنظيمات يمينية متطرفة. وتخللت التظاهرات خطابات حامية دعت إلى وقف
هجرة المسلمين إلى إيطاليا بحجة الدفاع عن» الهوية الثقافية والدينية «التي
يتهددها الاجتياح الإسلامي الذي بدأ يغزو البلاد. وشارك في إلقاء الخطابات عدد
من المسؤولين في الرابطة التي يتزعمها أومبرتو بوسي، وممثلون عن التنظيمات
الفاشية اليمينية، وعلى رأسها» الحركة الاجتماعية الإيطالية « (الفاشية الجديدة)
التي يقودها الفاشي المخضرم بينو رواتي. وتزامنت التظاهرات مع سلسلة
اعتداءات على عدد من المهاجرين العرب والمسلمين شهدتها مدن الشمال، ونفذ هذه
الاعتداءات شبان يعرفون بـ» أصحاب القمصان الخضر «تابعون للرابطة،
ووزع هؤلاء بيانات تندد بالوجود الإسلامي وتدعو إلى حملة صليبية جديدة للدفاع
عن التقاليد المسيحية الكاثوليكية. ولاقت التظاهرات والاعتداءات العرقية التي قام
بها أعضاء التنظيمات العنصرية تأييداً واسعاً في أوساط المحافظين والتحالف
اليميني الذي يقوده رئيس الوزراء السابق سيلفيو بيرلوسكوني. وفي هذا الإطار
صعدت التنظيمات اليمينية والانفصالية مساعيها للحؤول دون إكمال مشروع بناء
مسجد جديد في مدينة لودي القريبة من ميلانو رغم أن السلطات البلدية المحلية
وافقت على المشروع. وجاءت الحملة الجديدة بعد التصريحات التي أطلقها أسقف
مدينة بولونيا الكاردينال جياكيمو بيفي.
[صحيفة الحياة، العدد: (13725) ](157/112)
بأقلامهن
الإسرائيليات في التفسير
أمل القصيمي
علم تفسير القرآن من العلوم المهمة التي يجب على الأمة تعلمها، وهو من
أشرف العلوم الشرعية وأجلّها؛ فالشيء إنما يشرف بشرف موضوعه. وموضوع
علم التفسير كلام الله وهو أشرف الكلام وأصدقه، وهو أصل الدين ومنبع الصراط
المستقيم، وينبوع كل حكمة، وقد أوجب الله سبحانه على الأمة حفظ القرآن، كما
أوجب عليهم فهمه وتدبّر معانيه، قال تعالى: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) ، وقال سبحانه
[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (ص: 29) ،
وقال جل من قائل: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) .
والتفسير المعتد به عند جمهور العلماء سلفاً وخلفاً ينقسم إلى قسمين:
الأول: التفسير بالمأثور:
ويعتمد على القرآن وصحيح السنة، والمنقول عن الصحابة رضوان الله
عليهم والمنقول عن التابعين.
الثاني: التفسير بالرأي والاجتهاد: وينقسم إلى قسمين:
1 - التفسير المذموم المردود: وهو التفسير من غير تأهُّل له بالعلوم التي لا
بد للمفسر منها، أو التفسير بالهوى والاستحسان، أو التفسير المؤيد لمذهب فاسد أو
رأي باطل، وهذا اللون من التفسير كثيراً ما يشتمل على المرويات الواهية
والباطلة.
2 - التفسير الممدوح المقبول: وهو التفسير المبني على المعرفة الكافية
بالعلوم اللغوية والشرعية والأصولية وعلم السنن والحديث، ولا يعارض نقلاً
صحيحاً ولا عقلاً سليماً، مع مراقبة الله غاية المراقبة في كل ما يقول.
ومدار حديثنا عن النوع الأول وما يتصل به وهو التفسير بالمأثور؛ فكما
علمنا أن التفسير بالمأثور يشمل التفسير بالقرآن والسنة بما صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم؛ وليس لأحد أن يرفضه أو يتوقف بعد ثبوته، ثم تفاسير الصحابة،
ثم التابعين وهي أكثر من أن تُحصى؛ ففيها الصحيح والحسن والضعيف
والموضوع والإسرائيليات؛ فما هي الإسرائيليات؟
الإسرائيليات: «جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، وإسرائيل هو
يعقوب عليه السلام وبنو إسرائيل: هم أبناء يعقوب ومن تناسلوا منهم فيما
بعد» [1] . ولفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودي للتفسير،
وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أن المراد بهذا اللفظ عموم
اللون اليهودي واللون النصراني للتفسير وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية، ويُطلق لفظ الإسرائيليات من باب التغليب للجانب
اليهودي على الجانب النصراني؛ فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر
النقل عنه؛ وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة بالمسلمين [2] [*] .
أقسام الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى ثلاثة أقسام.. وهي:
القسم الأول: قسم علمنا صحته لموافقته القرآن وصحيح السنة: وفيه ورد
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» [3] . وهذا
القسم صحيح، وفيما عندنا ما يغنينا عنه، ولكن يجوز ذكره وروايته للاستشهاد به
ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم؛ وذلك مثل ما ذُكر في صاحب موسى عليه السلام
وأنه الخضر كما ورد في الحديث الصحيح.
القسم الثاني: قسم علمنا كذبه؛ لأنه يعارض القرآن وصحيح السنة، وعندنا
ما يخالفه، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته؛ ومثل ذلك: ما ذكروه في
قصص الأنبياء من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبعض
أخبارهم في قصة يوسف، وداود، وسليمان، وكقصة الغرانيق.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا ولا ذاك.
فلا نؤمن به ولا نكذّبه؛ لاحتمال أن يكون حقاً فنكذّبه أو باطلاً فنصدّقه،
ويجوز حكايته لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم» [4] ، وغالب هذا القسم
مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ومن هذا: أسماء أصحاب الكهف، ولون
كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، ونوع البضع الذي ضرب
به قتيل بني إسرائيل، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في
تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم [5] .
والحق أن رواية الإسرائيلية شيء وإيرادها في التفسير شيء آخر؛ فإيرادها
في صدد تفسير آية تصديق لها وأي تصديق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» [6] [7] .
قال ابن الملك في (مبارق الأزهار) : «إنما نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن تصديقهم وتكذيبهم؛ لأنهم حرّفوا كتابهم، وما قالوه إن كان من جملة ما
غيروه فتصديقهم يكون تصديقاً بالباطل، وإن لم يكن كذلك يكون تكذيبهم تكذيباً لما
هو حق» .
مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير:
بدأ تعرّف المسلمين على هذه القصص في عصر الصحابة رضوان الله عليهم
حيث كان هناك عدد من التابعين كانوا من أهل الكتاب قبل دخولهم الإسلام ومن
العلماء بدينهم، فلما أسلموا كانوا كثيراً ما يُسألون عما ورد في كتبهم اليهودية
والنصرانية مما يتصل ببعض قصص القرآن [8] ، فكان الصحابي إذا مر على قصة
من قصص القرآن يجد نفسه ميالاً إلى السؤال عن بعض ما طواه القرآن منها ولم
يتعرّض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في
الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار
والقصص الديني.
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء، ولم
يقبلوا منهم أي شيء، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحاً للقصة
وبياناً لما أجمله القرآن منها مع توقفهم فيما يُلقى إليهم؛ فلا يحكمون عليه بصدق أو
بكذب ما دام يحتمل الأمرين امتثالاً للحديث آنف الذكر. كما أنهم لم يسألوهم عن
شيء مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد
والتقوية لما جاء به القرآن، كما لم يسألوهم عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال
عنها نوعاً من العبث واللهو كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي
ضُرب به القتيل من البقرة.
أمّا التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم
الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في
الإسلام، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدّوا هذه الثغرات
القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من
القصص المتناقضة، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفى سنة (150هـ) ، ثم
جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات وأفرط في الأخذ منها إلى
درجة جعلتهم لا يردُّون قولاً.. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات والولع بنقل هذه
الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعاً من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير،
فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلي [9] .
سبب الاستكثار من الإسرائيليات:
لعل من المناسب إيراد مقالة ابن خلدون في مقدمته عن أسباب الاستكثار من
المرويات الإسرائيلية؛ فإنه خير من كتب في هذا الموضوع.
قال رحمه الله: «وقد جمع المتقدمون في ذلك يعني التفسير النقلي وأوعوا،
إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود؛ والسبب
في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية،
وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات،
وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنها أهل الكتاب قبلهم،
ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل
التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة
من أهل الكتاب، ومعظمهم من (حِمْيَر) ، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلمّا أسلموا
بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل
أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل:
» كعب الأحبار، ووهب ابن منبه، وعبد الله بن سلام «فامتلأت التفاسير من
المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما
يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون
في مثل ذلك، وملؤوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة
الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُدَ
صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتُلقيت
بالقبول من يومئذ» [10] .
ومن أسباب الإكثار من المرويات الإسرائيلية بالإضافة إلى ما ذُكر كثرة حذف
الأسانيد، وغلبة الدخيل في أواخر القرن الثالث الهجري وما بعده، حيث ألف في
التفسير خلق كثير، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال من غير عزوها إلى قائلها؛
فمن ثم دخل الدخيل أكثر من ذي قبل، والتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من
يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك من يجيء بعده
ظاناً أن له أصلاً غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يُرجع
إليهم في التفسير [11] .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله
الأمين.
__________
(1) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: محمد أبو شهبة، القاهرة، مكتبة السنة، ص 1.
(2) التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، بيروت، دار القلم، الطبعة الأولى، ج 1، ص 168، بتصرف.
(*) النصارى أيضاً ينسبون لبني إسرائيل بنص القرآن: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم] (الصف: 6) إلى قوله تعالى: [فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) فالذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم النصارى، والذين كفروا به منهم هم اليهود - البيان-.
(3) رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكر عن بني إسرائيل.
(4) رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» .
(5) انظر: بحوث في أصول التفسير: محمد بن لطفي الصباغ، بيروت، المكتب الإسلامي، ص 71- 73 وكتاب التفسير والمفسرون: الذهبي، ص 181 183، وكتاب: الإسرائيليات والموضوعات: لمحمد أبو شهبة، ص 106، 107.
(6) سبق تخريجه.
(7) بحوث في أصول التفسير، محمد الصباغ، ص73.
(8) المرجع السابق، ص 147.
(9) انظر التفسير والمفسرون، للذهبي، ص 172 179 بتصرف.
(10) مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون، بيروت، دارالهلال، 1986م، ص 279.
(11) الإسرائيليات والموضوعات: محمد أبو شهبة، ص 73.(157/118)
قضايا ثقافية
مقاربة الحقيقة
د. عبد الكريم بكار
ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة
المجهول. وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج
من العماء و (اللاتكوّن) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه
يسعى إلى فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته، وهو في سبيل ذلك مطالب
بأن يعرف الكثير الكثير من الحقائق، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات
الملائمة. إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود،
حتى إذا حاولت القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في
المادة الهلامية. وهذا ما يخدع كثيراً من الناس؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم
قبضوا على ما يشبه السراب.
ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة المهمة من خلال النقاط الآتية:
1 - إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه
للمعنويات والعقليات؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو
مساحة غرفة أو وزن هاتف، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في
حياة شعب، أو أثر اليتم في حياة طفل ومستقبله، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في
ذلك؛ حيث يكون التعامل مع عناصر غير ملموسة، وبعضها غامض جداً يصعب
الحدس به.
دعونا نقول: إن (الحقيقة) ليست ذات جوهر واحد، أو ذات طبقة واحدة،
وإنما هي ذات طبقات عدة، بعضها فوق بعض، وكلما صرنا للبحث في طبقة
أعمق احتجنا في إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة، ووجدنا
أنفسنا على أرض هشة؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة، كما يزداد الاعتماد
على عناصر ذات طابع يكاد يكون شخصياً.
حين نرى (قلماً) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة؛ فإذا أردنا أن
نعرف (ثمنه) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام
في السوق؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل منها
والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى، ووجدنا أن الاقتراب من
ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية؛
ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة، وإلا لأمكن اقتباس أسرار التقنية
المتقدمة بسهولة. ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس، لكننا تجاوزنا ما
يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة.
2 - في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة
والمستفيضة، ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية، وذلك كحكمنا بأن زيداً من
الناس موجود معنا في هذه الحجرة، وكإيماننا بوجود بلد اسمه (الصين) وشخص
مضى اسمه: حاتم الطائي أو الذهبي. ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من
الحقائق والمعارف مقدمات أو عناصر ذهنية؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية
أو شبه يقينية.
أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون
مختلفاً جداً. وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد المتباينة
أوالمتقاربة؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من المعارك،
والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها. في مثل هذه الحالة
يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو مباشر؛ ولا بد
من استخدام وسيط معرفي، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ (الإشكالية) . هذه
الإشكالية مكونة من عدد من العناصر، أهمها معتقداتنا، بالإضافة إلى الخلفية
الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ (الأهلية) ثم المعلومات المتوفرة حول القضية
موضع البحث. فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود (الجن) أو الذي لا يرى (الإصابة
بالعين) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند التشخيص والعلاج لكل
المرضى الذين يراجعونه، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة يمكن أن يصدِّق من
يقول له: إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو دفع ماله إليه.
والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه
يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية، وهكذا.
الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي
في أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة
المقدمات التي ولَّدته. وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول القضايا التي
نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد؛ وهذا ما يجعل
تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من (الاجتهاد) الذي يحتمل
الخطأ والصواب.
3 - كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور،
وكثيراً ما نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض
التصرفات، أو تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة
تاريخية معينة، وفي هذه الحالة نلجأ إلى (التفلسف) ، وليس من المبالغة القول:
إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من التفلسف
من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي.
نحن نستخدم (التعليل) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا
تبدو منطقية ومنسجمة، ونستخدم (القياس) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء
الناقص، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً، ونستخدم (التقنين) من أجل
تسهيل التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد. والسنن الواردة في القرآن الكريم
والسنن النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات
مركزة حول الماضي والمستقبل. حين نمارس (التحليل) فإننا نرمي إلى تفكيك
المعطيات المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها
بكفاءة. وحين نتوقع حدوث بعض الأمور، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية
استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من
الاستمرارية الشعورية والظرفية، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا.
إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض
الحقائق، ومناهزة استيعابها. وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من (المقاربة) لما
نبتغيه. وهي جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي. وفي هذه
العمليات التي أشرنا إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز. وتقدُّم الوعي
الإسلامي ولا سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل؛ بل إن كثيراً من
الصفوة من ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل
مع معطيات التفلسف والنظر العقلي. مع أن من الواضح أن (الفلسفة) لا تمنحنا
الدقة، ولا تساعدنا على التحديد، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا، وتساعدنا
على رسم الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية.
4 - في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة، نحن اليوم في
أَمسّ الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم
المختلفة. ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في
التطرف؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق؛ بين العقلانية
المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى
الحضارية المعاصرة في بلاد المسلمين.
أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال، فإنها تقوم على (الوسطية) المبصرة؛
فهناك اليقين، والظن القوي والظن الضعيف، والشك القوي والشك الضعيف.
والاقتراب من الحقيقة متفاوت، كما أن التورط في الخطأ متنوع، وحين وضع
الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية؛ ولذا ذهبوا
إلى أن النص قد يكون ظني الدلالة، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد.
ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب، بل قد ينصرف عند
وجود قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة،
وليس الحرمة. العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من
الآداب الغربية تميل اليوم إلى (التصلب) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى
التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر.
وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته
ذلك. وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم:
«والله أعلم» ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على اليقين.
وكان من لطيف ما قرروه قولهم: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا
خطأ يحتمل الصواب» ولو أنهم قالوا: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب
غيرنا صواب يحتمل الخطأ» لما أبعدوا النجعة؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن
كل مجتهد مصيب. ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء
مستقبلي: «إن شاء الله» و «بإذن الله» ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله،
وليشعرهم بوجود علاقة لينة بين ما نراه أسباباً، وما نراه مسببات. إن كل ما
نصل إليه من مقولات وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ، كما يحتمل
الوهم والغلط؛ وما ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني
عامة محدودة ومعقدة؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي
ومدلولات ترجيحية، ليس أكثر. وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا
يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي من البراهين عليها.(157/122)
في دائرة الضوء
لماذا تحارب الشريعة الإسلامية؟
د. محمد يحيى
تواترت في السنوات الأخيرة الهجمات من مصادر متنوعة وبأساليب وحجج
عديدة على الشريعة الإسلامية؛ بحيث أصبح لا يمر يوم دون أن نقرأ في بلد عربي
أو آخر مقالة أو نسمع حديثاً أو نشاهد إعلاناً عن كتاب يهاجم أو ينتقد الشريعة أو
يطالب بتعديلٍ أو محوٍ أو إلغاء فيها. وليست هذه مبالغة. والمسوِّغات التي تقدم
عديدة.
البعض يقول إن الشريعة الإسلامية أو بعض أحكامها كانت السبب وراء ما
يسمى كذباً بالتطرف أو الإرهاب الإسلامي أو الأصولية أو السلفية أو ما شابه ذلك
من أسماء. وهؤلاء يبنون على هذه المقدمة الفاسدة نتيجة أكثر فساداً، وهي
ضرورة تعديل وتغيير وإلغاء هذه الأحكام المزعوم أنها تروِّج للتطرف والإرهاب،
وهي أحكام لا يحددها إلا هؤلاء، ويدرجون تحتها عادة كل ما لا يروق لتوجههم
العلماني.
والبعض يهاجم الشريعة من منطلقات علمانية صريحة معلنة، لكن هؤلاء قلة
ولا توجد مشكلة معهم؛ لأنهم يعلنون جهراً وبلا خداع مفارقتهم للصف الإسلامي،
لكن الغالبية من ذلك التيار تتستر وراء شعارات براقة وجذابة؛ وذات أصل في
الوسط الفكري والشرعي الإسلامي كي تتوسل بها لتحقيق أغراضها.
وهكذا أصبح مألوفاً في السنوات الأخيرة أن نسمع ونرى طوفاناً من الدعوات
حول ضرورة الاجتهاد في الشريعة لمواكبة العصر ومتغيراته، وضرورة التحديث
والمعاصرة. ويتبحر البعض في هذه الدعاوى ليواجهنا طوفان آخر حول تطوير
الشريعة وتعديلها تحقيقاً لمقاصدها، وحول تغليب الأصول العامة على الفرعية،
والأحكام الشاملة على الجزئية، وحول إنزال الشرع على الواقع (وليس تغيير
الواقع بالشرع!) ، وحول فهم الشريعة وتفسيرها انطلاقاً من العصر، وليس من
فهم أهل العصور الغابرة وتفسيرهم، وحول الاستنارة والعقلانية (المبهمة التعريف)
في التعامل مع أحكام الشريعة.
ومؤخراً أخذنا نسمع عن الطابع «المدني» وحتى «العلماني»
و «الوضعي» للشريعة، وأنها لا تفترق عن أي نظام قانوني وضعي من حيث
أنها تترك أوسع المساحات للمشرعين كي ينطلقوا فيها لوضع ما يشاؤون من
تقنينات غير مستدلين إلا بأحكام العقل العام والمصلحة العامة كما تتحدد في كل عصر
أو في كل مكان، أو وفق كل ظروف اجتماعية وثقافية على حدة.
وكل من هذه الدعاوى يحتاج إلى المساحة الواسعة لتفنيده وتوضيح أبعاده،
لكن ما يجمع ويوحد بينها هو «مسكوت عنه» (حسب التعبيرات العلمانية
المنتشرة) عامٌّ يتعلق بالهدف الأشمل والسياق الأوسع لها. إن القضية ببساطة
والتي قلَّ أن ينتبه إليها أحد (على الأقل خشية التعرض للاتهام بأنه مؤمن
«بنظرية المؤامرة» ، وهي تهمة أصبحت تحمل معنى الجهل أو الغباء أو
الاستسهال الفكري) هي أن اليهود (وسمِّهم ما شئت باليهودية العالمية، أو
الصهيونية الدولية، أو المحافل والمنظمات السرية والعلنية التي تلف لفَّهم) لا
يريدون أن توجد في العالم أي شريعة أو نظام قانوني يمكن أن يزعم أنه إلهي
الوضع سوى شريعتهم.
هذه هي الحقيقة بلا مراء ولا لف أو دوران، وبكل تجرد.
إن أهم ما يقيم عليه اليهود شتى مزاعمهم بدءاً من أنهم شعب الله المختار،
إلى أحقيتهم بأرض فلسطين، إلى تميزهم عن سائر العالمين هو أنهم أصحاب شرع
أو قانون أنزله الله عليهم مكتوباً في الألواح من السماء مباشرة، وقام أحبارهم
بتفسيره ووضع أركانه وتفصيله.
إنهم يدَّعون تميزهم عن المسيحية بحجة عدم وجود شريعة فيها؛ بل إن
حركات «الإصلاح الديني» في المسيحية (الغربية بالذات) التي توالت منذ
القرن السادس عشر وحتى الآن، وكان في القرون الأخيرة للتيارات العلمانية
والماسونية التي يحركها اليهود الدور الأساس والفاعل فيها أسهمت إلى حد حاسم
وكبير في الإطاحة بما تبقى في المسيحية من بعض الرسوم والأحكام المحدودة جداً،
والتي كان يمكن وصفها بالشريعة.
ومن هنا لا يعود أمام اليهود من منافس في زعم الوضع الإلهي للشريعة سوى
الإسلام، ولهذا فليس من الغريب أن تتكاتف في الفترة الأخيرة ومع الهجمة العاتية
على الإسلام من جانب الغرب والصهيونية دعوات هدم الشريعة وتعطيلها، وبث
البلبلة والشكوك حولها. وليس من الغريب كذلك بل من الطبيعي والمنطقي أن تتخذ
هذه العملية أساليب الخداع والمواربة والتمويه أدوات أساسية لها، وأن تجتذب
الكثير من العملاء إلى الجهلة المخدوعين.
ليس هناك أفضل لهدم الشريعة من استخدام مصطلحات لها أصل في الشريعة
(الاجتهاد، المقاصد الشرعية، الأولويات الشرعية، الأصول والفروع، الأصل
في الأشياء الإباحة، إلخ) ثم تفريغ هذه المصطلحات من معانيها ومضامينها،
وفصلها عن سياقها وضوابطها الأصولية (شريطة أن يحدث ذلك في هدوء! وبلا
تعرض للنقد) ثم تحويلها إلى مجرد مصطلحات فكرية عامة مجردة، وأخيراً إعادة
ملئها بمضامين ومفاهيم علمانية متغربة وضعية، وإطلاقها وسط الفكر الإسلامي
لتعمل عملها في الهدم والزعزعة وهي تلبس الرداء الإسلامي القديم، وتحتفظ
بأصداء معانيها في الفقه الإسلامي بينما هي في الباطن وحسب استخدام مستعمليها
وفهمهم علمانية الجوهر.
ومع اطِّراد هذه العملية تتحول الشريعة الإسلامية (وربما بدون أن يشعر أحد)
إلى كَمٍّ من الأحكام المقلقلة والمشكوك فيها؛ بحيث يسهل التخلص منها، كما
يترسخ الفهم لها باعتبارها نظاماً وضعياً (أو «مدنياً» كما يسمونه على سبيل
التخفيف!) يتبدل ويتغير ويتكيف ويتمشى مع شتى الأنظمة ولا سيما العلمانية
الغربية بقيمها. ولن يعود من الممكن الرجوع إلى الشريعة الأصلية؛ لأن موجة
التحطيم والهدم (وكذلك تحت المسميات الجذابة نفسها) تكون قد امتدت إلى كبار
الفقهاء (هم رجال ونحن رجال!) وإلى الأصول الشرعية (الدعوة إلى أنواع من
«الفقه الجديد» ) ، وهذا هو المخطط أو الهدف اليهودي لهدم الشريعة الإسلامية
حتى لا يتبقى في العالم نظام يستطيع الزعم بأنه إلهي الوضع سوى شريعتهم التي
هي في حقيقتها أشد الأنظمة وأكثرها وضعاً وتحريفاً في التاريخ.
إن هذا التصور قد يبدو مغالياً في التخوف ومصادراً لحركة التفكير والاجتهاد
الفقهي الطبيعي التي يجب أن تحدث باستمرار لتجديد الفقه، ولكن الواقع المعاش
يدل على خطورة ما يحدث عندما نجد على سبيل المثال أن ممارسة «الاجتهاد»
أصبحت تسير في اتجاه واحد فقط هو لَيُّ عنق الشريعة الإسلامية لتصبح متمشية
مع المذاهب الوضعية العلمانية كما يتجلى في العديد من قوانين الأحوال الشخصية
التي وضعت مؤخراً (أو ما تزال تنتظر) في بعض البلدان العربية، وعندما نجد
أن غالبية الدعاة والممارسين الجدد لما يسمونه بالاجتهاد هم من العلمانيين الأقحاح
على امتداد الساحة العربية ممن لم يعرف عنهم اشتغال بالفقه الإسلامي فضلاً على
أن يحملوا هَمَّ هذا الدين.
إن القضية تتطلب وعياً ومتابعة بحقيقة ما يجري بتجاوز الظواهر ليصل إلى
الدوافع والمضامين الكامنة وراءها. ولا أشك في أن دراسة عملية علمنة الشريعة
وهز ثوابتها وخلخلة مفاهيمها ستكشف عن أن الهدف الصهيوني في الإبقاء على
شريعة واحدة فقط في العالم يزعم لها الأصل الإلهي هو الهدف الأصيل والدافع
الأول وراء هذه التحركات والدعوات.(157/125)
في دائرة الضوء
نظرات في العمل التطوعي
نوري بشير مبارك
العمل الخيري في بلاد الغرب يقدم الكثير والكثير لأداء هذا الدور الإنساني
في خدمة قطاعات المجتمعات الغربية؛ بينما العمل الخيري في كثير من البلدان
الإسلامية يعاني العجز والضمور؛ مع أن دوافع فعل الخير في أمتنا وديننا يفترض
أن تكون أكبر بكثير مما هو في العالم الغربي؛ لأننا حينما نفعل الخير ننتظر
الجزاء الأخروي من الله، ولكن العجب أن عملهم الخيري أكثر فاعلية منا وهذا هو
الدليل.
- البيان -
لقد بلغ إجمالي المساهمات التطوعية (نقدية وعينية) في الولايات المتحدة
الأمريكية في عام 1997م (143. 46) بليون دولار موزعة حسب مصادر
التمويل الآتي:
إن المطلع على هذه الأرقام العالية إما أنه لن يصدقها أو أنه سيتشكك فيها
على اعتبار أن واقع العمل التطوعي في البلاد الإسلامية يعاني الكثير، ولا يعتقد
المرء أنه سيصل إلى مصاف التجارب الغربية أو إنجازاتها على وجه الخصوص،
علماً بأن العالم الإسلامي يمتلك المقومات والإمكانيات التي تؤهله بأن يتخطى ما تم
ذكره. وأعني بذلك الموروث الإسلامي الحضاري الذي يقدم النماذج الكفيلة
بالنهوض بالبشرية جمعاء، والارتقاء بها لتحقيق الرفاهية والتنمية لبني البشر.
إن الأسباب المؤدية إلى هذه المساهمات أصبحت من البدهيات المعروفة ألا
وهو قانون الإعفاء الضريبي. ولكننا لسنا بصدد تحليل الأسباب والمسببات، ولكن
ما يعنينا في هذا الصدد هو الآتي:
على الجانب الحكومي والرسمي هناك أداة قد غفل عنها صناع القرار يمكن
أن تسهم بشكل فاعل في عمليات التنمية، هذه الأداة هي العمل التطوعي؛ وذلك إن
تم توظيفه بشكل عملي بعيد عن نظرة الشك والريبة التي يثيرها بعضهم خصوصاً
على الجانب الأمني للبلاد؛ فبنظرة إلى واقع المركز المالي لكثير من الدول النامية
وعلى الأخص الغنية منها (فما بال الفقيرة إذن) نجد أن هذه الدول تعاني من
تضخم في جانب المصروفات العسكرية والتسلح، هذا على حساب الجوانب
الأخرى وعلى الأخص الجوانب التنموية الاجتماعية؛ فنجد أن هناك تقليصاً في
بنود ميزانية الدولة للصرف على أنظمة التسلح، وهو ما انعكس على الجانب
التعليمي والاجتماعي على حد سواء، وأحدث تقهقراً في مستوى الفرد أدى إلى
هبوط في المستوى الاجتماعي للمجتمع كله، وهذا بطبيعة الحال زاد من فرص
بروز الأمراض الاجتماعية مثل ارتفاع في معدلات الفقر والجريمة والفساد
الأخلاقي ... إلخ.
وعلى الجانب الاقتصادي والتجاري حتى الشركات والمؤسسات التجارية لم
تستوعب الجوانب التجارية التسويقية لهذا العمل وأثره الفاعل في زيادة الربحية.
المثال الآتي قد يقرب الفكرة قليلاً: قامت شركة (IBM) للكمبيوتر بالتبرع لإحدى
المناطق التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية بتجهيز جميع المدارس فيها بأجهزة
الكمبيوتر الشخصية، وهذا قد ضمن للشركة عقود الصيانة وخلو الساحة من
المنافسة مع الشركات الأخرى إلى جانب السمعة والمكانة الاجتماعية في نفوس
الطلبة والأهالي والمسؤولين في تلك المقاطعة، كما حقق نوعاً من الولاء لدى كل
هذه الأطراف انعكس على نسبة في المبيعات في تلك المنطقة. إن القطاع التجاري
في معظم عالمنا الإسلامي غائب عن هذه المعاني الاجتماعية ذات الأبعاد التجارية.
أما على الجانب الاجتماعي فالحديث يطول؛ فالمؤسسات التطوعية هي
الرائدة في هذا المجال، والأمثلة كثيرة ومتعددة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر
أطباء بلا حدود، نقابات العمال والطلبة والمحامين والأطباء إلخ، ولا يخفى على
أحد هذه الأيام دور كل هذه المؤسسات وأثرها في تغيير كثير من المواقف. إن
المتتبع للشأن الاجتماعي في كثير من الدول يجد أن المؤسسات التطوعية هي ذات
السبق في التصدي لكثير من الأمراض الاجتماعية التي باتت تؤرق الدول
والحكومات. فخذ على سبيل المثال مشكلة المخدرات وسبل علاجها، الشباب
والفراغ، الفساد الأخلاقي، محاربة بعض العادات والتقاليد القديمة السيئة، القضايا
الأسرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، البيئة، السلام، والكثير الكثير من
الشؤون الإنسانية الأخرى التي لا تعد ولا تحصى.
إن مؤسسات العمل التطوعي يمكن أن تلعب دور الشريك الفاعل للحكومات
في مجال التنمية الاجتماعية، وإن خاصية التحرك السريع وسرعة اتخاذ القرار
والبعد عن الروتين والبيروقراطية لَتُعَدُّ من أهم الخصائص التي تميز هذا القطاع
وتجعله المرشح الأول للقيام بالدور التنموي المطلوب، ولكن مع الأسف الشديد فإن
هذا الجانب قد تم إغفاله بشكل كبير في منظومة العالم الإسلامي لأسباب منها
المعقول، والكثير منها عبارة عن شكوك وهواجس يثيرها من لا يتفق مع توجه هذه
المؤسسات، أو لأسباب منها بعض الضغوط الدولية مثل دعم الإرهاب والتطرف.
إن الفائدة التي ستجنيها الحكومات من جراء مشاركة المنظمات التطوعية في
المجال الاجتماعي سيتيح المجال لتلك الحكومات بأن يتم تركيزها على الجوانب
المهمة الأخرى مثل أمن البلاد الداخلي والخارجي والنمو الاقتصادي والتجاري.
وما أود التركيز عليه هو أن مشاركة المواطن في مجال التنمية الاجتماعية
وذلك من خلال منظمات القطاع التطوعي أصبحت من الضروريات التي يفرضها
الواقع؛ فالدولة منفردة لا تستطيع القيام بهذه الأعباء، ولهذا فإن المشاركة
المجتمعية باتت من المسلَّمات التي تفرضها معطيات النظام العالمي الجديد الذي
ألغى مفهوم الدولة ذات الهيمنة على كل المجالات التي يجب أن تقوم بكل الواجبات.(157/127)
مصطلحات ومفاهيم
الجهاد
د. عثمان جمعة ضميرية
إن كلمة «الجهاد» مصطلح إسلامي، أو حقيقة شرعية ذات معنىً محدّدٍ،
يستعملها الفقهاء وسائر علماء الإسلام، كما يستعملون غيرها من الكلمات التي
تؤدي معناها أو جزءاً منه، كالقتال والحرب والغزو ... وقد واجهت فريضة الجهاد
كثيراً من الشبهات والتشويه، كما عملت دوائر كثيرة داخلية وخارجية على
إضعافها في نفوس المسلمين أو حصرها في مجال ضيِّق، ولهذا كان من الضرورة
أن نعود بالأمر إلى نصابه، وأن نزيح ما علق بهذا المصطلح من شوائب، وأن
نتعرف عليه في مصادرنا الإسلامية الأصيلة، دون أن يكون عجزنا أو ضعفنا
مسوّغاً لتحريف الكَلمِ عن مواضعه، وبالله التوفيق.
- 1 -
أصل اشتقاق هذا المصطلح هو حروف: الجيم والهاء والدال. (والجَهْد) :
أصله المشقة. ثم يحمل عليه ما يقاربه من المعاني. وقيل: هو المبالغة والغاية.
(والجُهْد) : الوسع والطاقة. وجَهَده: حمّله فوق طاقته. وقيل: هما لغتان في
الوسع والطاقة. فأما في المشقة فيقال: الجَهْد بالفتح لا غير. وقيل بالضمّ والفتح
في كلٍّ منهما، والجهاد والمجاهدة مصدران لقولك: جاهدت العدوَّ، إذا قابلتَه في
تحمُّل الجَهْد، أو بذل كلّ واحدٍ منكما جُهْده. ثم غلب استعماله في الشرع على قتال
الكفار خاصة. بينما هو في اللغة أعمُّ من هذا المعنى الفقهي [1] .
- 2 -
وجاءت كلمة «الجهاد» في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعانٍ أربعة:
أ - الجهاد بالنفس: وهو جهاد الكفار، بالخروج للقتال ومباشرته بالنفس،
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة تعزّ على الحصر.
ب - الجهاد بالكلمة أو القول: ويشمل مجاهدة الكفار والمنافقين بالحجة
والبرهان والبيان، كما في قوله تعالى: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً]
(الفرقان: 52) أي: جاهدهم بهذا القرآن.
ج - الجهاد بالعمل: ببذل الجهد في عمل الخير ليكون نفعه عائداً على
صاحبه بالاستقامة، كما في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]
(العنكبوت: 69) .
د - الجهاد بالمال: ويكون بإنفاق المال في السلاح والإعداد، وبإنفاقه على
غيره ممن يجاهد، قال تعالى: [وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
(التوبة: 41) .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد في سياق واحد فقال:
«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» [2] . وفسَّر الجهاد لمن سأله عنه
فقال: «أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم» [3] .
- 3 -
كما أن النصوص الشرعية دلَّت أيضاً على مستويات الجهاد أو مراتبه، وهي:
مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة العدو الظاهر. وتدخل ثلاثتها في
قوله تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] (الحج: 78) ، وفي الحديث:
«المجاهد من جاهد نفسه في الله» [4] . وقال تعالى: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ] (فاطر: 6) ، وقال: [لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ....] (النساء: 95) .
- 4 -
وفي اصطلاح الفقهاء: عرّفه بعضهم بأنه: «بذل الوسع في القتال في سبيل
الله مباشرة أو مُعاونةً بمالٍ أو رأي، أو تكثير سوادٍ أو غير ذلك» . أو هو:
«بذل الجهد في قتال الكفار» ، وعرّفه بعضهم بأنه: «الدعاءُ إلى الدين الحقِّ،
والقتالُ مع مَنْ امتنع ولم يقبلْه إما بالنفس أو بالمال» . وهي مع غيرها من
التعريفات متلاقية من حيث المعنى والنتيجة.
وقد نصَّ الفقهاء في غالبية كتبهم على أن الجهاد يطلق أيضاً كما جاء في
المعنى الشرعي بالقرآن والسنة على مجاهدة النفس والشيطان والفُسَّاق والمنافقين؛
ولكنه عند الإطلاق ينصرف إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الله. ولهذا قال العلاَّمة
ابن رشدٍ الجدُّ: «كلُّ من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله؛ إلا أن
الجهاد في سبيل الله إذا أُطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى
يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون» [5] .
ويحسن التأكيد مرة أخرى: أن هذا اللفظ لفظ إسلاميٌّ لم يعرف أنه ورد في
أيِّ نصٍّ جاهلي، لا بمعنى الحرب والقتال ولا بغيرهما. وهو لا يضاف إلى أي
لفظ آخر في الاستعمال الاصطلاحي؛ فليس هناك جهاد مقدس، وإنما هو الجهاد،
فضلاً عن أن يكون هناك جهاد غير مقدَّس. فالجهاد لفظ ديني خالص لا يستعمل إلا
إذا كانت الشروط الواردة في الشريعة قد استوفيت حتى تكون الحرب مشروعة؛
فعندئذ تكون جهاداً. كذلك لا يقال: جهاد مشروع؛ لأنه ليس عندنا جهاد غير
مشروع [6] .
- 5 -
ومما يتصل بالجهاد من مصطلحات: القتال، والحرب، والرباط، والغزو،
أما القتل فهو في الأصل إزالة الروح عن الجسد كالموت، وقد جاءت هذه الكلمة
في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة بعضها يعني العمليات القتالية أو الحربية، ولكن في
بضع آيات فقط، ولم تأخذ صفة المصطلح العام المشتهر.
وأما الحرب فهي تعني المقاتلة والمنازلة والتباعد والبغضاء. وقد جاءت في
القرآن الكريم في ستة مواضع بمعنى الكفر، وبمعنى القتال. والرباط: جاءت في
القرآن والسنة بمعنى ملازمة الثغور والإقامة على جهاد العدو بالحرب. والغزو
أيضاً: جاءت في الحديث بمعنى قصد العدو للقتال.
وعند الموازنة بين هذه المصطلحات نجد أن الإسلام قد أعلى من مكانة الجهاد
حتى في استعماله مصطلحاً شائعاً دون غيره، ولعل ذلك بسبب ما تثيره تلك
الكلمات في النفوس وما يشوبها أحياناً من إسقاطات بخلاف كلمة الجهاد [7] .
- 6 -
وإذا كان الجهاد بمعناه العام الذي يشمل كلّ جهد لمجاهدة النفس والشيطان
مشروعاً منذ المرحلة المكية؛ فإن الجهاد بمعنى قتال الأعداء حتى يسلموا أو يعطوا
الجزية إنما جاء تشريعه متدرجاً تحقيقاً للحكمة الربانية في مواجهة الواقع الذي
عاصره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحكام مرحلية، تواجَه كلُّ مرحلة بما
تتطلبها وبما يتفق مع قدرة المسلمين وعلاقتهم بالأعداء؛ فقد نزل الأمر بالجهاد
مرتباً متدرجاً وفق خطوات الإعداد التربوي لهذه الأمة التي حمَّلها الله تعالى
مسؤولية إبلاغ هذا الدين للعالمين. فقد بدأ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم أمره الله تعالى بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالتي هي أحسن،
فكان القتال محظوراً قبل الهجرة، ثم أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة وتأسيس
المجتمع الجديد وأمره بالصبر والكفّ، ثم فرض القتال إذا كانت البداية من الكفار،
دفعاً لعدوانهم، وكان قبلها مباشرة مأذوناً فيه فحسب، ثم أمر الله تعالى بقتال
المشركين في بعض الأحوال والأزمنة. وأخيراً جاء الأمر بالقتال للمشركين كافة.
فكانت هذه هي المرحلة الأخيرة التي استقرَّ عليها أمر الجهاد. وصار أهل
الأرض عندئذ ثلاثة أقسام هي: مسلمٌ مؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومسالم له
آمن أهل ذمة وخائف محاربٌ [8] .
- 7 -
وقد أجمع علماء المسلمين منذ العصور الأولى على أن الجهاد فريضة مُحْكَمَةٌ
يكفر جاحدها، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنة، والنصوص في ذلك كثيرة
متضافرة. ولكن وقع الخلاف بعد ذلك في نوع هذه الفرضية: هل هي فرض عين
على كل مكلّف، أم فرض كفاية يطلب من مجموع المكلفين القيام به، فإذا قام به
بعضهم سقط التكليف عن الباقين؟ والحال لا يخلو من أحد افتراضين:
(أحدهما) : ألاَّ يكون النفير عاماً، وفي هذه الحال يكون الجهاد فرض
كفاية يقوم به بعض المكلفين، والباقون في سعة من تركه. وتحصل الكفاية بأن
يشحن إمام المسلمين أو رئيسهم الثغور بجماعة يكافئون مَنْ بإزائهم من الكفار، أو
أن يدخل الإمام دار الكفر بنفسه أو بجيشٍ يؤمِّر عليه نائباً عنه. وذهب بعض
التابعين إلى أن الجهاد فرض عَيْنٍ مطلقاً على كل مسلم، وقال آخرون: هو فرض
عين على من يكون بجانب الكفار.
(ثانيهما) : أن يكون النفير عامّاً؛ وهنا يجب على كل قادر مستطيع؛ لأن
دفع الكفار لا يحصل إلا بهم جميعاً؛ فالقادر يباشر الجهاد بنفسه، وغير القادر على
الجهاد بنفسه يخرج لتكثير سواد المسلمين ويجاهد بماله. ونصَّ العلماء على أن
الجهاد يتعيَّن فرض عين في الأحوال الآتية:
أ - أن يهجم العدو فجأة على بلدة معيّنة من بلاد المسلمين، أو أن يحيط بها
ويدخلها، فيجب الجهاد عيناً على أهل تلك البلدة وعلى من يكون قريباً منهم إن لم
يكن بأهلها كفاية.
ب - أن يعيّن ولي الأمر قوماً يستنفرهم للجهاد، فيصبح في حقهم فرضاً
عينياً إلا مَنْ له عذر قاطع.
ج - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفَّان: حَرُمَ على من حضر الانصرافُ
والفرار، وتعيّن عليه المقام والثبات؛ إذ قد تعيّن عليه الجهاد، إلا أن يكون متحرِّفاً
لقتال أو متحيّزاً إلى فئة.
وبهذا التفصيل الموجز يظهر حكم الجهاد في كثير من الحالات والأحوال
المعاصرة، ويظهر أيضاً تقصير المسلمين عامة وتخاذلهم عن القيام بواجبهم، وقد
ذكر العلماء أن امرأة لو سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها ولو جاء
ذلك على أموال بيت مال المسلمين. كما يجدر الإشارة هنا إلى أن العلماء قالوا: لا
يأثم من عزم على الخروج للجهاد في الأحوال الواجبة ولكنه لم يخرج لعدم خروج
الناس وتكاسلهم أو قعود الحاكم عن ذلك، أو منعه من الخروج. والله أعلم [9] .
- 8 -
وأما غاية الجهاد فقد حدّدها الإسلام بإعلاء كلمة الله، أو في سبيل الله؛ فقال
الله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ] (النساء: 76) ، وقال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن الرجل
يقاتل شجاعة ويقاتل حميَّة ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل» [10] .
والأصل في ذلك: أن القاعدة الأساسية التي ينبغي أن نذكرها دائماً هي أن
الإسلام هو قاعدة الحياة البشرية، وهو ضرورة إنسانية فطرية، وبذلك أصبح
الإسلام ديناً عاماً للبشرية كلها، ختم الله به جميع الدعوات وجعله مهيمناً عليها
وناسخاً لها، فلا يقبل الله من الناس ديناً غيره، ومن حق البشرية أن تستمع لهذا
المنهج وأن تتبيّنه دون أن يقف أحد في طريقها يصدُّها عنه ويثير الشبهات حوله،
ولا بدَّ أن تُتْرك البشرية بعدها في حرية تامة لاعتناقه إذا أرادته دون إكراه، وإن لم
تفعل فهي تخضع لنظامه العام وتسالمه بعقد الذمة وأداء الجزية، وينشأ عن هذا أن
واجب الجماعة المسلمة هو تحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس
في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها؛ ليكون الدين كله لله،
بمعنى استعلاء الدين ورفع كلمة الله وتبليغها، لا بمعنى إكراه أحد على الدخول في
الدين إذْ [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256) .
ومن هنا حدّد الإسلام غاية الجهاد بأن يكون في سبيل الله، دون أن يشوب
هذا المقصد غاية أخرى من حب الغلبة المجردة، أو الشهرة أو الظهور والتسلط أو
الإفساد. وبهذا يفترق الجهاد عن الحروب المعروفة اليوم التي تدفع إليها العصبية
العنصرية والمصالح المادية والقومية ونحوها [11] .
- 9 -
وهذه الغاية للجهاد تحدد لنا الأسباب التي يجاهد المسلم من أجلها، وهي كلها
مما ينضوي تحت شعار وكلمة «في سبيل الله» ، وهي:
أ - نشر الدعوة الإسلامية وتأمين حريتها، والتخلية بينها وبين من يريد
اعتناقها ليكون الدين كله لله. وهذا لا يعني كما تقدم الإكراه على العقيدة، فلا يجوز
الخلط بين هذا وذاك، وينبغي التفرقة بين الدخول في الإسلام: عقيدةً وإيماناً،
وبين الخضوع للإسلام بالتزام نظامه القانوني العام.
ب - الدفاع لردّ أيّ اعتداء يقع على المسلمين أو يتوقع وقوعه عليهم في
ديارهم أو نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم. وهي أيضاً مسألة أجمع عليها العلماء
قاطبة.
ج - حماية دار الإسلام وبلاد المسلمين وإنقاذ المستضعفين من المسلمين في
أي دولة كانوا؛ لأن بلاد المسلمين بلدة واحدة في حكم الإسلام والمسلمون جميعاً
إخوة.
د - المحافظة على العهود والمواثيق، ودرء الفتنة ومنع البغي في الداخل
والخارج [12] .
- 10 -
والجهاد في سبيل الله قد يكون دفعاً للأعداء عند هجومهم على المسلمين أو
عند الاعتداء عليهم وقد يكون ابتداءاً طلباً للأعداء وهجوماً بعد الدعوة والإنذار.
وقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن الإسلام لا يبيح جهاد الطلب والابتداء
(الهجوم) وإنما يبيح فقط الجهاد رداً على عدوانهم على المسلمين، واحتجوا على
ذلك ببعض الآيات الكريمة التي اقتطعوها من سياقها لتعطي المعنى الذي يريدون،
وببعض النصوص التي جاءت تواجه مرحلة معينة من مراحل تشريع الجهاد،
وببعض القواعد الشرعية وأحكام القتال في منع قتل الأطفال والنساء ... وهذا كله
لا يساعد على ما ذهبوا إليه؛ فقد انعقد الإجماع على أن الجهاد عند العدوان فرض
عين، ويبقى فرض كفاية فيما عدا هذه الحالات؛ وقد أجمع العلماء على فرضية
الجهاد فرض كفاية ما لم يكن عدوان. وهذا يعني أن الجهاد مشروع في هذه
الحالات وليس ممنوعاً. كما أنه من الناحية الواقعية هناك حرب مشبوبة على
الإسلام والمسلمين من كل الأعداء بصورة من الصور؛ والأدلة على هذا كثيرة
متضافرة [13] .
- 11 -
ومما يتصل بهذا: شبهة يثيرها المغرضون بهدف تشويه صورة الجهاد في
النفوس، وعند رد هذه الشبهة يصل الأمر ببعضهم إلى حدّ إسقاط فريضة الجهاد،
وهذه الشبهة هي أن الإسلام لم ينتشر إلا بالقوة والسيف. بمعنى إكراه الناس على
العقيدة.
وهذا الزعم لا يتفق مع النصوص الإسلامية كقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ] (البقرة: 256) ، وكقوله في رسم الصورة الصحيحة للدعوة: [فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ] (الغاشية: 21) ... إلخ، كما أن العقائد لا يمكن أن يؤثِّر فيها
الإكراه. ومن حيث الواقع العملي: نجد أن الإسلام قد انتشر في كثير من أصقاع
العالم دون أن يكون هناك قوة عسكرية أو قتال. ولذلك قام عقلاء الأوروبيين
والمسيحيين يفنّدون هذه الشبهة ويردون عليها كما فعله توماس كارليل في كتابه عن
«البطولة وتقديس الأبطال» والمستشرقة الإيطالية لورا فاغليري ... وغيرهما.
أما إن كان المراد بانتشار الإسلام بالسيف: أن الجهاد له دور في فتح البلاد
وضمها إلى دار الإسلام، وإخضاع الناس لنظام الإسلام دون إكراه على العقيدة..
فهذا أمر صحيح ولا غبار عليه، وهو أمر مشروع بحكم الإسلام. والعجب أن
هؤلاء النصارى الذين يثيرون هذه الشبهة ينسون أن كتبهم تبيح التدمير والقتال
وتقول: «ما جئت لألقي على العالم سلاماً..» وأن الحروب بين النصارى
المخالفين لهم في المذهب استمرت قروناً ولا تزال حتى وقتنا هذا! ! [14] .
- 12 -
وفي ختام التعريف بهذا المصطلح الشريف لا بد من الإشارة إلى بعض الأفهام
المغلوطة من باب الموازنة والمقارنة.
* فبعض الفرق أو الاتجاهات كالصوفية جعلت الجهاد محصوراً في مجاهدة
النفس؛ إذ إنه هو الجهاد الأكبر، واستدلوا على ذلك بكلام لبعض السلف ظنوه
حديثاً نبوياً، وحتى ولو كان صحيحاً لكان معناه: أن الإنسان ينبغي أن يجاهد نفسه
ويتغلب عليها ليكون ذلك سبيلاً للتغلب على العدو الخارجي. أما مفهومهم لهذا الأثر
ولموضوع التفريق بين الجهاد الأكبر والأصغر؛ فإنه يؤدي إلى إسقاط فريضة
الجهاد وإنزالها عن مكانتها العليا في دين الإسلام.
* وأما بعض الجماعات المنحرفة عن الإسلام والخارجة عنه كالقاديانية
والبابية والبهائية فإنها أسقطت فريضة الجهاد كي تقرَّ عيون أسيادها من المستعمرين
الإنجليز وعامة الصليبيين، وفي هذا يقول القادياني: «اليوم ألغي حكم الجهاد
بالسيف، ولا جهاد بعد هذا اليوم؛ فمن يرفع بعد ذلك السلاح على الكفار ويسمي
نفسه غازياً يكون مخالفاً لرسول الله الذي أعلن قبل ثلاثة عشر قرناً بإلغاء الجهاد
في زمن المسيح الموعود ... » وإن فرقة القاديانية لا ترى الجهاد بالسيف ولا
تنتظره ولا تستحلّه.
* وأما البابية التي أسسها علي محمد الشيرازي وأعلن نفسه بأنه: (باب
المهدي) فتقول: «إن البشارة الأولى التي منحت من أم الكتاب في الظهور
الأعظم لجميع أهل العالم: محو حكم الجهاد من الكتاب» ، وقال الباب: «حُرِّم
عليكم حمل آلات الحرب» . وقال عبد البهاء عن أبيه: «محا آية السيف ونسخ
حكم الجهاد» [15] .
* وأما المنظمات الدولية كعُصبة الأمم وهيئة الأمم فلها موقفها من الحروب
ومنعها، ووجوب اللجوء إلى التحكيم الدولي ونشر السلام العالمي كما تزعم ومنع
الفتح وكسب الإقليم عن هذا الطريق، ونزع السلاح، وهذا كله تطويق لفريضة
الجهاد، وإخضاع العالم الإسلامي لسيطرة الدولة أو الدول الكبرى التي تمتلك هي
أضخم ترسانة أسلحة، وتمدُّ يدها هنا وهناك لبسط النفوذ وإرهاب العالم بتلك
الحجج الواهية السابقة.
* وأما في المصادر الكتابية (أهل الكتاب) فلا نجد فيها مصطلح الجهاد،
وإنما نجد عندها إحالة إلى مادة «لعب» و «ألعاب» ! ! [16] ، ويقسمونها إلى
قسمين: فردية إظهاراً للقوة وتمريناً للجسد، وكان اليهود لا يستنكفون عنها؛
كالركض والسعي والمقاليع أداة لرمي الحجارة والقسم الثاني: عمومية، ولم يكن
مرغوباً فيها عند العبرانيين ... وأما في واقعهم المعاصر وغير المعاصر فإنهم هم
الذين كانوا يثيرون الحروب والعداوات بين الناس، ولا يتقيدون بشيء من المبادئ
الأخلاقية في حروبهم ولم يعرفوا الرحمة فيها، إلا ما استفادوه بعد حروبهم الصليبية
من المسلمين ثم نسبوه لأنفسهم تحت اسم مبادئ الفروسية ... والواقع التاريخي
شاهد صادق على ذلك.
__________
(1) انظر هذه المعاني بالتفصيل في: «الصحاح» : 2/460، «لسان العرب» : 3/133 135، «مقاييس اللغة» : 1/486، «النهاية في غريب الحديث» : 1/319، «مفردات ألفاظ القرآن» ، ص (101) ، «تفسير البغوي» : 4/79، «معاني القرآن» للفرّاء: 1/447.
(2) أخرجه أبو داود: 3/366، والنسائي: 6/7 وصححه ابن حبان، ص (390) ، والحاكم
2/81 ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه أحمد: 4/114، وعبد الرزاق، 11/127، والبيهقي في شعب الإيمان، 1/48، وإسناده صحيح.
(4) الترمذي: 5/250، وابن حبان برقم (25) والحاكم: 1/11، والبغوي: 10/353 وإسناده صحيح.
(5) «المقدمات الممهدات» لابن رشد: 1/342 وراجع: «أحكام القرآن» للجصاص: 3/ 118، «حاشية ابن عابدين» 4/121، «كشف القناع» : 3/28، «شرح السنة» : 10/345.
(6) انظر: «الجهاد والحقوق الدولية» للأستاذ ظافر القاسمي، ص (86، 87) .
(7) انظر بالتفصيل: «أصول العلاقات الدولية» ، عثمان جمعة ضميرية: 2/908 929.
(8) انظر: «زاد المعاد» ، لابن القيم: 3/160، «المبسوط» ، للسرخسي: 10/2، 3،
«تفسير القرطبي» : 3/38، «في ظلال القرآن» : 1/185، 186و 3/1439 وما بعدها.
(9) انظر: «المغني» ، لابن قدامة: 8/340 346، و «القوانين الفقهية» ، لابن جزي،
ص (151) ، «فتح القدير» ، لابن الهمام: 4/278 282، و «المحلّى» ، لابن حزم: 7/461، 462.
(10) أخرجه البخاري: 6/27، ومسلم: 3/1512.
(11) انظر: «منهج الإسلام في الحرب والسلام» ، عثمان جمعة ضميرية، ص (131 133) .
(12) انظر: «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» ، د محمد خير هيكل: 1/583 وما بعدها،
«أهمية الجهاد» ، د علي العلياني، ص (158) ، «أصول العلاقات الدولية» ، د عثمان جمعة ضميرية: 1/936 969.
(13) انظر: «أصول العلاقات الدولية» : 2/970 978، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» : 1/506 وما بعدها.
(14) انظر: «منهج الإسلام في الحرب والسلام» ص (134 142) .
(15) انظر: «أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية» ، د علي بن نفيع العلياني، ص (499) وما بعدها.
(16) انظر: «قاموس الكتاب المقدس» ، تأليف نخبة من اللاهوتيين، ص (276، 817) .(157/129)
متابعات
وقفات مع: قراءة سياسة لبيعة العقبة
د. محمد بن صامل السلمي [*]
لقد اطلعت على العدد (154) من مجلة (البيان) فوجدته حافلاً بالدراسات
والموضوعات المفيدة، وإني أشكركم وجميع إخوانكم في مجلة البيان على اهتمامكم
وحرصكم الدائم على الارتقاء بمستوى المجلة موضوعات وإخراجاً.
وفيما قرأت موضوع: «قراءة سياسية لنصوص بيعة العقبة» من إعداد
عبد الحكيم الصادق، والباحث قد بذل جهداً يشكر عليه، لكن طغت عليه
المصطلحات المعاصرة، وأسقط دلالة هذه المصطلحات على حوادث السيرة
النبوية؛ وهذا أمر فيه خطورة ومجانبة للمنهج العلمي.
يقول الباحث: «بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجولة السياسية
لمدينة الطائف ... ولقائه مع ممثلي الأمم من النبيين ... قام بعد ذلك بتعديل منهج
التغيير؛ حيث اعتمد العمل من خلال مؤسسات المجتمع الجاهلي وأعمدته ... »
إلخ.
وهذا الكلام خطير جداً ليس في استخدام المصطلحات فقط، ولكن من حيث
التقرير والاستنتاج الذي حمل عليه استخدام المصطلحات المعاصرة وقياس الحال
عليها؛ فكيف يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد العمل من خلال
مؤسسات المجتمع الجاهلي؟ ! وهل يسوغ للمسلمين قياساً على هذا القول العمل من
خلال البرلمانات والمحاكم القانونية، والإعلام الكفري، والأحزاب، ... إلخ وهي
مؤسسات المجتمع الجاهلي؟ !
انظر إلى ألفاظ أخرى مثل قوله في ص 30: «إقامة الجماعة السياسية
لضبط جدلية النظام والحركة» وقوله ص 31: «فالرسول يرى ضرورة السلطة
والتنظيم كضرورة الماء للكائن الحي» ، وهذه مبالغة، وقوله في العمود الثاني من
ص 31: «لقد كان رسول الله مدركاً تمام الإدراك للدور الذي تلعبه السلطة» .
وذكر في البعد السياسي لبيعة العقبة أن الهدف عند الأنصار من البيعة هو
إقامة الدولة (ص33) والذي صرح به الأنصار وحرصوا عليه هو إقامة الدين
ولهم الجنة على ذلك، ولم يعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير الجنة،
ففرحوا وقالوا: «ربح البيع؛ لا نقيل ولا نستقيل» ، وإقامة الدولة وسيلة من
وسائل إقامة الدين.
وقد كرر هذا وقريباً منه في دوافع البيعة، فجعل من دوافعها الدافع السياسي،
وعلل ذلك بتعليلات لا أرى أنها تصل إلى درجة أن تكون دافعاً للبيعة؛ فالبيعة
للرسول صلى الله عليه وسلم كانت مقصداً شرعياً وليست بهدف سياسي، لكن مما
صنعه الله لرسوله كما قالت عائشة رضي الله عنها قتل كثير من زعماء الأوس
والخزرج في حرب بعاث إذ هيأ الأمر لرسول الله في المدينة؛ حيث بذهاب
الزعماء الذين يعارضون الدعوة في العادة تهيأ الأمر لأهل المدينة فقبلوا الحق
وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكره الباحث من وجود دافع عسكري
ودافع اجتماعي لبيعة العقبة غير واضح، ولا يوجد في نصوص البيعة وأخبارها ما
يدل عليه، والبيعة كانت ذات هدف ديني وتصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
والتزاماً بما يأمر به وينهى عنه، وبواعثها ودوافعها كذلك؛ فليس منها مساومات
واقتسام مصالح دنيوية، بل هي بيعة على الإيمان وما يوجبه عليهم، وحماية
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاد معه بما شرع الله.
هذه ملاحظاتي على المقالة، وأرجو أن تقبلوها بصدر رحب؛ ولكم تحياتي
وتقديري.
__________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى مكة المكرمة.(157/134)
الباب المفتوح
مفهوم العبادة ومقاصدها في الإسلام
عمر إدريس الرماش
العبادة محبة وخضوع وإخلاص:
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وأوجده في هذا الكون من أجل عمارة
الأرض وعبادته وتقواه كما جاء في القرآن الكريم: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . وعبادة الله تستوجب الحب والخضوع، وحب الله
لا يصدق إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى:
[قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
(آل عمران: 31) ، وهكذا فإن العبادة الحقة تقوم على الخضوع لله وإخلاص
المحبة له وعدم الشرك به. يقول الله تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] (البينة: 5) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ما نوى» [1] . والإخلاص في العبادة هو جعلها لله وحده وترك الرياء فيها.
الإخلاص في العمل هو أداؤه متقناً بأمانة وصدق مراقبة. قال الإمام الجنيد:
«الإخلاص تصفية العمل من الكدورات» ، ومن هنا عرَّف العلماء الإخلاص
بأنه اتقان العبادة والعمل وإحسانهما كأن العابد أو العامل يرى ربه وهو يعبده، فإن
لم يكن العبد يرى ربه فإن ربه يراه. وهكذا فإن عبادة الله تحرر الإنسان من
وساطة الوسطاء مصداقاً لقوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ] (البقرة: 186)
كما أنها تحرر الإنسان من الشكليات، وتستوجب إخلاص النية كما قال تعالى:
[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] (البينة: 5) .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى» [2] . كما أن عبادة الله تحرر الإنسان من العنت والحرج والعسر
حسبما جاء به الإسلام مقارنة مع الأديان الأخرى؛ فلا حرج إذن ولا تكليف
فوق طاقة الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا]
(البقرة: 286) . وقوله تعالى: [هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ] (الحج: 78) ، وهكذا فإن بديل الوضوء بالماء التيمم، وبديل الصلاة
مع الوقوف عند العجز أن يصلي المرء قاعداً أو مضطجعاً، وكما يفطر الصائم
في المرض أو السفر، وتقصر الصلاة الرباعية في السفر من أربع إلى
ركعتين.
أنواع العبادات في الإسلام:
إن العبادة في الإسلام شاملة لكل أمور الدين والدنيا، وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أحد أحاديثه النبوية بأن «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها
قول لا إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» [3] وعبادة الله تتطلب النية
الصادقة والإخلاص في العمل والاستقامة. وتتمثل أنواع العبادات فيما يلي:
- عبادات يؤديها المرء بجسده كالصلاة والوضوء والطهارة والصوم.
- عبادات يؤديها المرء بماله كالزكاة والصدقات.
- عبادات بدنية ومالية كالجهاد والحج.
- عبادات هي عبارة عن أعمال بشرية عادية كالزراعة والتجارة والأعمال
الوظيفية إلا أنها يجب أن يقصد بها إرضاء الله تعالى.
- عبادات عقلية وفكرية كالتأمل في مخلوقات الله الذي يؤدي إلى تقوية
الإيمان وتعميقه واليقين في عظمة الله وقدرته. قال الله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] (آل عمران: 190-191) .
واجب التقيد بالشرع في العبادات:
إن العبادة تتطلب التقيد بالشرع وأوامر الله ونواهيه، وعدم الوقوع في البدع
والضلالات وتحليل الحرام أو تحريم الحلال مما يؤدي إلى الشرك وإحباط العمل.
قال الله تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ]
(الشورى: 21) . وقد ذكر القرآن الكريم أن بعض أهم انحرافات الأديان كانت
بسبب الغلو في الدين والخروج عن تعاليمه والابتداع، قال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] (الأعراف: 32) . وقال
تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
كما أن بعض المسلمين انحرفوا بالعبادة وذلك في التمسح بالأضرحة والقبور،
وإضفاء صفات القدسية على الأشخاص، وهي أمور مردودة وباطلة مصداقاً لقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [4] .
النوافل عبادات:
إن العبادة في الإسلام تشمل الفرائض والنوافل، والنوافل هي ما زاد على
الفريضة وهي الاستزادة من التقرب إلى الله والوصول إلى محبته وإرضائه، لكن
يجب ألاَّ تكون على حساب الواجبات حتى تنال القبول عند الله والأجر الكبير.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل:
«ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما زال عبدي
يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره
الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني
أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه» [5] .
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره، انظر صحيح البخاري (1) كتاب بدء الوحي، (1) باب: كيف كان بدء الوحي.
(2) أخرجه البخاري وغيره، انظر صحيح البخاري (1) كتاب بدء الوحي، (1) باب: كيف كان بدء الوحي.
(3) أخرجه البخاري وغيره، انظر صحيح البخاري (2) كتاب الإيمان، (16) باب الحياء من الإيمان.
(4) أخرجه مسلم، ح (1718) .
(5) أخرجه أحمد، (6، 256) .(157/136)
المنتدى
عندما يغيب الهدف
طاهر بن أحمد الزهراني
عندما يغيب الهدف فإنها تمر السنون الطويلة على الإنسان دون تحقيق أمر
منشود، ولا أقصد بالهدف هنا الهدف الدنيوي كصفقة تجارية أو النجاح في الدراسة
لا؛ فهذا نصيبنا منه كثير جداً، ولا تجد أحداً إلا عنده هدف أو أهداف دنيوية
يسعى وراءها، وربما لو نظرت إلى أهدافه الأخروية لم تجد شيئاً مع أنها أسهل
من بعض الأهداف الدنيئة أو الدنيوية، وأنا لا أقول لا تفكر في الدنيا، بل فكِّر،
وخذ ما يكفيك، ولكن لا تكن شغلك الشاغل الذي ينسيك أعمالك (الدينية) .
أنواع الأهداف:
1 - هدف يومي: مثل: قراءة جزء من القرآن أو سماع شريط.
2 - هدف أسبوعي: مثل: حضور درس أسبوعي، أو صيام الإثنين
والخميس.
3 - هدف شهري: مثل: قراءة كتاب، أو صيام الأيام البيض.
4 - هدف سنوي: مثل: ضبط وإتقان أحد العلوم، أو قراءة كتب مطولة
(مثل: التفسير أو التاريخ أو الحديث كفتح الباري أو الحج) .
5 - هدف عمري: رضا الله عز وجل.
هذه بعض الأمثلة للأهداف، ولكل إنسان أهدافه الخاصة التي يراها.
أسباب عدم وضع الأهداف:
1 - الغفلة وعدم محاسبة النفس.
2 - قرين السوء.
3 - الانشغال بالأشياء التافهة الحقيرة، فيضحك على نفسه ويظن أنها أهداف
عالية وسامية.
4 - الإفراط في الأهداف الدنيوية (حب الدنيا) .
5 - طول الأمل.
كيف تُكوّن هدفاً؟
1 - عليك بالمحاسبة والنظر إلى نفسك.
2 - بذكر الله، والثناء عليه، وتذكر ما أعده جل وعلا لعباده المؤمنين.
3 - عليك بالقرين الصالح.
4 - كن ذا همة عالية، ونفس رفيعة عن دنايا الأمور.
5 - ابدأ في وضع الأهداف، وعليك باستشارة أهل الرأي والمشورة.
6 - اطلب من الله عز وجل أن يوفقك ويفتح لك أبواب فضله؛ فإنه جواد
كريم، وبالإجابة جدير؛ فهو القائل: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) .
إن الإنسان صاحب الأهداف المركزة هو الفائز بلا شك. قال تعالى:
[فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] (آل عمران: 185) وقال تعالى:
[أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ] (الحشر: 20) . فإذا رأى ذلك المسكين هذه
الجوائز قال: [يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً] (النساء: 73) . اللهم
اجعلنا من عبادك الفائزين في الدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم.(157/138)
المنتدى
نحو تميز أخلاقي
خالد بن محمد الصغير
إنه شابٌّ أحبه الجميع، الكل يكن له المودة والإعزاز، لم تكد عيني تقع عليه
حتى أحسست بكثير من الارتياح والاستئناس، والطمأنينة والانشراح، وامتلأت
عيني منه بالإجلال والمحبة، وتساءلت: ما السر وراء ذلك التميز؟ لا بد أنه
يحمل مثاليةً ما، فما هي تلك المثالية؟
نعم! لقد عرفه الجميع بجميل السجايا، وحلو الصفات. إنه دائم الابتسامة،
حسن العشرة والمعاملة، سريع الاستجابة لنداء الله إذا ما صدح المؤذن للصلاة،
وأجمل أوقاته وأعذبها إذا ترنم بكتاب الله تالياً له بكل طمأنينة وخشوع، وأزكى
لحظاته إذا شرع في مناجاة الله عز وجل والتقرب إليه صلاة ودعاءاً، ذكراً وتفكراَ،
طلباً للعلم وتأملاً، وهو مع ذلك كله مناصحٌ لإخوانه، ذو عمل دؤوب، لا يفتر
من بذل معروف، أو مساهمة في خير، أو طلب لفائدة، أو اغتنام لبرٍّ وفضيلة،
يسابق في الخيرات، ويشمخ لأعالي الهمهم، من نصرة لدينه، ودعوة إلى سبيل
مولاه سبحانه وبحمده. حقاً: إنه مثالٌ فريد في عالم الأخلاق، ولبنة راسخة بناءةٌ
في بنيان المجتمع، وصرح الخير، وقلعة الدين. وهو بتلك المثالية ليس نسجاً من
الخيال، ولا أسطورة من التاريخ، إننا بحاجة ماسة إلى المزيد والمزيد من تلك
اللبنات البناءة نحو تميز أخلاقي! !(157/138)
المنتدى
إلى الأقصى.. إلى الأقصى
نجاح عبد القادر سرور
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ... نرُصُّ صفوفَنا رصّا
لِنقتلَ أهلَ صهيونٍ ... ولا نُبقي لهم شخصا
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
إليه نبيُّنا أسرى ... وصلى ليلةَ الإسْرا
لَسوْف نعانقُ النصرا ... ونطردُ ذلك اللّصا
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
به الفاروق قد نَزَلا ... ليغرس بالتُّقَى أمَلا
فلن نرضى به بَدَلا ... ولن نرضى به نقْصا
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
صلاح الدين نادانا ... سلاحي كان إيمانا
وتوحيداً وقرآنا ... به الرحمن قد وصّى
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
غزلتُ حروفه قلبا ... حفظتُ مكانه قُربا
فإن له هنا حُبّا ... وفي قرآننا نصّا
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
إلى المحراب يا جيشُ ... وغيرَ الله لا تخشوا
فلن يحلو لنا العيشُ ... سوى في عودة الأقصى
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...
فَطِيرُوا نحوه جُندا ... يَروْن دماءَهم شهْدا
هَلُمّوا مِن ذُرى صيْدا ... ومن مِصرٍ.. ومن حمِصا
إلى الأقصى.. إلى الأقصى ...(157/139)
المنتدى
الضّيفُ الكَرِيْم
محمد بن أحمد الخزمري
شَدَتِ البلابلُ في سَماءِ حَياتي ... فاسْتَمْطَرَتْ قَلَمي وحبرَ دَواتي
هَامَتْ بِضيفٍ مِنْ ضِياء وَجْهُهُ ... وأَكُفُّهُ بَحْرٌ مِنَ البَرَكَاتِ
رَكَضَتْ خُيولُ النّصْرِ فيهِ، يُعِزُّهَا ... صِدْقُ التُّقى وَطَهارةُ الصَّلَوَاتِ
رَفَّتْ حَمَائمُهُ على أرْواحِنا ... نُوراً ليُخْرجَها مِنَ الظُلُمَاتِ
مِنْهُ تَرَقْرَقَ نَهْرُ كُلِّ فَضِيلَة ... فِينا لِيُغْرِقَ زَوْرَقَ الشَهَوَاتِ
ضَاءَتْ بِطلْعَتِهِ النّفُوسُ، فأَورَقَتْ ... أَغْصَانُها ومَشَتْ بِدَرْبِ نَجَاةِ
اخْضَرَّتْ القَفْراءُ حَولَ مَعِينهِ ... وَسَقَى الصَّدِيَّ بِها نَدى الآياتِ
نِعَمٌ هُوَ انْسَكَبتْ.. فإنْ رُمْتَ اسْمَهُ ... فاجْمَعْ حُرُوفَ أوائلِ الأَبْياتِ!(157/139)
المنتدى
قوى الغوغاء وطواحين الهواء
منى السيف
في غمرة الخوض في أحداث القدس الأخيرة وملاحقة نتوءاته وتفاصيله
تنهض تساؤلات شتى عن موقف المثقف الداعي للتطبيع مع (إسرائيل) ، حيث إن
نفراً من «المناضلين» القدامى المتقاعدين يصرون على إعادة عقارب الساعة إلى
الوراء وتجنيد خبراتهم السابقة في توزيع «الوطنية» على هذا وحرمان ذاك منها،
ووصف ذاك بالأيديولوجي المنغلق والآخر بالعقائدي الجامد (!) محاولين عبثاً
البحث عن بارقة تعزز مزاعمهم التي ما زالت تخبط خبط عشواء في حقل الحراك
العربي الثقافي فتسممه وتدفعه برعونة هستيرية قلَّ نظيرها إلى الحائط الشاهق
الأصم بلا دليل ولا هادي له؛ في حين أن حسماً قاطعاً لهذا الأمر يتحقق يومياً على
أرض الواقع بمرأى ومسمع من العالم؛ بحيث يغدو التعاطي مع (إسرائيل)
والتعامل معها وفق نظريات «التطبيع» و «الأمر الواقع» مسوغاً لـ (إسرائيل)
في إزهاق المزيد من أرواح الناس لأنه «من أمن العقوبة أساء الأدب» .
والمفهوم من التطبيع (لغوياً) هو إقامة علاقة طبيعية بين شيئين أو كيانين
متوافقين ومنسجمين، على ما يشترط لذلك بداهة من تسليم كل منهما بنهج الآخر
وسياساته ومراميه؛ فكيف يكون هذا والله تعالى يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ
وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) فغياب المرجعية الدينية عند
كثير من المثقفين العرب هو ما جعلهم يتخبطون في مواقفهم ويجرون الأمة إلى
أنفاق مظلمة مسدودة.
إن من ينادي بالحوار مع الكيان الصهيوني بعد كل ذلك إنما يمهد للمزيد من
الوحشية والبطش لإخواننا الفلسطينيين مع موافقته لها على الاحتلال والتهديد والقوة
والتشريد والتفكيك بل والمحو لهم.
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .(157/140)
المنتدى
مناجاة أطلال
فهد بن علي العبودي
أرِقْتُ بِلَيْلٍ حَالِكِ الظلماتِ ... أنوحُ على مَجْدٍ هَوى وبُنَاةِ
بَكَيْتُ وهلْ يَشفي البكاءُ رفيقهُ؟ زَمَانَ العُلا والعِزِّ والوَثباتِ
أقَلِّبُ طَرْفي لا أرى غير أمَّةٍ ... تَئِنُّ، وأخْرَى في هوىً وسُبَاتِ
أنَاجِي بِلَيْلي إذ عَدِمْتُ مُنَاجِياَ ... من القومِ أطْلالاً وبَعْضَ رُفَاتِ
أُسَائِلُ أطلالَ المعالي عن العُلا ... فَتَبْكِي وتُبْكِيني مِنَ الحَسَرَاتِ
تُخَبِّرُنِي عما مَضى بتَلَهُّف ... وتُنْبئُنِي عما جَرَى بشَكَاةِ
تقولُ: هِيَ العَلْيَاءُ أمْسَتْ طُلُولُها ... تَئِنُّ، وأمْسَى أهْلُهَا بشَتَاتِ
أحِنُّ إلى أيَامِ عَمْرٍو وخالدٍ ... رعى اللهُ ما ولَّى من السَّنَواتِ
تقول: وقد ضَاقَتْ من العَيْشِ في الدُّنَى ... أسَائِلُ ربي أن تَحِينَ وَفَاتِي
رُوَيْدَكِ يا أطْلالُ كَدَّرْتِ خاطري ... وأجريتِ دَمْعِي فارتوتْ وجناتِي
وأطْرَقتِ الأطلالُ بَعْدَ سَمَاعِهَا ... حَدِيثِي، وَهَزَّتْ قَلْبَهَا كَلِمَاتِي
وَقَالَتْ: لَعَلَّ الله يَكْشِفُ كَرْبَنَا ... وَيَجْلُو ظلامَ الغَيِّ والشَّهَوَاتِ
لَعَلَّ شُمُوسَ النَّصْرِ تُشْرِقُ في غَد فَتَطْمِسُ لَيْلَ الذُّلِ والنَّكَبَاتِ
وَبَيْنَا نُنَاجي بَعْضَنَا إذ بدا لَنَا ... سَنَا الفَجْرِ أجْلَى وَحْشَةَ الظُّلُمَاتِ
فَقُلْتُ لها قَبْلَ الوَدَاعِ تفاؤلاً: ... سَتُصْبحُ حَقاً في غَدٍ رغباتي(157/140)
المنتدى
المسجد.. والمسرح.. وتبادل الأدوار
إبراهيم بن عبد العزيز أبا الخيل
قال لي صاحبي وهو يحاورني: أهناك فرق بين المسجد والمسرح؟ فقلت له:
وهل هناك علاقة بينهما حتى ننشد ذلك الفرق؟ وقبل أن أجيب طرح عليَّ سؤالاً
غريباً، فقال لي: وهل هناك عملية لتبادل الأدوار بينهما، يعني المسجد والمسرح؟
أثار صاحبي هذا في نفسي علامات استفهام كبيرة بإثارته أسئلة خطيرة؛ فهل
هناك حقاً علاقة بين المسجد والمسرح؟ وهل هناك أيضاً عملية لتبادل الأدوار؟
اختلفت مع صاحبي كثيراً في طرحه لمثل هذه القضية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك
حينما تهكمت عليه بسخرية، وعزفت عن الدخول معه في حوار يتطرق لمثل ذلك،
وعلى طريقة: (ما بني على باطل فهو باطل) . ولكن ثمة شيء قد حدث
أعادني لمناقشة مثل هذا الموضوع وجعلني أرتب أوراقي وأجمع قواي وأدلي
بدلوي؛ فقد تعلمنا في تجربتنا المدرسية الأولى وذلك عندما كنا أطفالاً أن هناك
أدواراً للمسجد أرسى من خلالها دعائم التربية؛ فقوَّم ما اعوج، وأصلح ما فسد،
فلم يقتصر دوره في كونه موقعاً للصلاة؛ بل كان مدرسة للعلم ومنبراً للثقافة
وميداناً للسياسة؛ اجتمع فيه المسلمون لأداء الصلاة وقراءة القرآن، فكان موقعاً
للعبادة ومكاناً للقاء العبد مع ربه، والتقوا فيه لدراسة السيرة والتاريخ فأصبح مدرسة
للعلم ومنبراً للثقافة، واجتمع المسلمون فيه للقاء قائدهم وهو يتحدث لهم عن
الجهاد، ويرسم معهم السياسة العامة لدولتهم، فكان ميداناً للسياسة، ولم يهتم
بالغني دون الفقير، أو الكبير دون الصغير، فكانوا كلهم سواسية [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات: 13) .
أين نحن اليوم من هذا وقد همش دور المسجد ليقتصر على أداء الصلاة فقط؟
تلك هي أسئلة ما زلت أبحث لها عن إجابة.
ولأنها سُنَّة الحياة هكذا دارت عجلة الأيام، فارتفعت أقوام وانتكست أعلام،
وأصبح هناك من يربط بين المسجد والإرهاب، وبين المسرح والمحراب، فبرز
من ينادي بإتاحة الفرصة للمسرح ليأخذ دوره في هذه الحياة، ونسي أو تناسى ما
بعد الممات؛ وكأن هذه الحياة انتهت بشهادة الوفاة، أين نحن من الاستعداد للقبور،
والبعث والنشور؛ فقد رفع بعضهم رايته وحاول الوصول إلى غايته، فأنشئت
مسارح للأطفال وكأنهم في حاجتها؛ فكانت الخطوة الأولى للاختلاط.
إن ما يقدم في هذا المسرح هو أبعد ما يكون عن أسس التربية السليمة التي
كان المسجد يقوم بها، فتذكرت حينها صاحبي وعملية تبادل الأدوار، لقد تحدث
بعضهم عن المسرح أنه مدرسة لتربية النشء يتعلمون فيه العادات الأصيلة والأشياء
الجميلة، ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك، وليس من رأى كمن سمع والتجربة خير
برهان.
إننا أحوج ما نكون وأكثر من أي وقت مضى لإحياء دور المسجد، ومنحه
الفرصة التي طال انتظارها ليعود مدرسة للعلم يتخرج منها أجيال تحمل على عاتقها
هموم الإسلام والمسلمين.(157/141)
المنتدى
صرخة على عتبة الدخول
عبد الله سالم الغامدي
رسالة إلى كل عيد يفكر في المجيء إلينا ...
ما عدت أعرف معنى العيد يا عيدُ ... أو عاد يطربني لحن وتغريدُ
قد كنتَ يا عيد بالأفراح تأسرنا ... واليوم يأسرنا قتل وتشريد
قد كنتَ يا عيد في أمن تقابلنا ... واليوم ساومنا في الأمن رعديد
أوطان أمتنا صارت ممزقة ... مقطوعة الوصل لا وجهٌ ولا جِيدُ
مسلوبة المال لا جند فتحرسها ... مهتوكة العرض والقناص مرصود
ممدودة الكف للأعداء تطلبهم ... عزاً وجذعهم في الشر ممدود
أواه يا عيد هذا وجه أمتنا ... قد أبدعت فيه يا عيد التجاعيد
ونحن يا عيد في ذل نعاقره ... ونشرب الكأس لا عزم وتجديد
جراح أمتنا يا عيد قد كثرت ... وعزمها من جبال الوهم مقدود
أواه يا عيد من همٍّ يقطعني ... فالقلب منصهر والجمر موقود
عذراً أيا عيد مما كنت تسمعه ... لو كنتَ تبصره ضاقت بك البيد(157/141)
المنتدى
ردود
* أرسل بعض الإخوة يستفسرون عن كيفية التواصل مع المجلة بالمشاركات،
ونقول لهؤلاء الإخوة الأفاضل: إن الباب مفتوح لجميع من أراد المشاركة في
جميع أبواب المجلة ما دامت الكتابة ملتزمة بمنهج أهل السنة والجماعة، مع مراعاة
القواعد العلمية في الكتابة كعزو النقول، وترقيم الآيات، وتخريج الأحاديث،
والكتابة بخط واضح وعلى وجه واحد من الورقة، وإرفاق وسيلة تواصل مع
المشارك: «عنوان بريدي بريد إلكتروني فاكس هاتف» .
* الأخ: عبد الحميد عبد العزيز المنصور: أرسل يشكر المجلة على التطوير
الأخير فيها، ويسأل عن موقع المجلة على شبكة الإنترنت، وهل صدر ملف
تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب؟ أما الموقع فيوجد موقع مؤقت الآن
على شبكة نسيج، ويُعد الآن موقع شامل لكل أنشطة المنتدى الإسلامي بما فيه مجلة
البيان، ونرجو أن يرى النور قريباً بإذن الله. أما الملف فلم يصدر حتى الآن في
كتاب، نشكر الأخ على حرصه واهتمامه جزاه الله خيراً.
* الأخ: أحمد بن سعود المزني: أرسل ملاحظة حول القصيدة التي نشرت
عن الشيخ ابن باز وعبارة: (بمناسبة مرور عام على وفاته) ، ويذكر أن هذا ليس
من هدي السلف، ونحن نوافقه على ذلك، وهو خطأ غير مقصود نسأل الله المغفرة،
كما أرسل ملاحظة حول إحدى فقرات مرصد الأحداث، والتي يأخذ عليها ذكرها
لتفاصيل الفساد في العالم الغربي، ونشكر الأخ الكريم على غيرته وتواصله، بارك
الله فيه وجزاه خيراً.
* الإخوة: د. محمد خليل جيجك، جلال راغون، محمد إكيج: نرجو
التكرم بموافاة المجلة بعناوين المراسلة الخاصة بكم، مع خالص التقدير.
* الإخوة والأخوات: د. محمد بن ظافر الشهري، د. عبد الرزاق حمود
الزهراني، د. محمد السيد البلاسي، مشبب القحطاني، حفيظ بن عجب الدوسري،
محمد شلال الحناحنة، يوسف عبد الله السالم، أحمد عطية الزهراني،
عبد الحميد سالم الجهني، مبارك عبد الله المحيميد، سليمان عز الدين سليمان،
فتحي الجندي، محمد بن أحمد الخزمري، حسين حسن عبده، سعيد يوسف
أبو عزيز، علي يحيى القحطاني، رياض عقيل بونهي، محمد علي البدوي،
صالح علي العمري، خالد الربيعة، أكرم مبارك الحضرمي، متوكل فياما،
زينب عبد الله السعود: وصلتنا مشاركاتكم، ونشكر لكم هذا التواصل الكريم،
ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر، مع تمنياتنا بدوام التواصل.
* الإخوة والأخوات: عبد الله إبراهيم جراد، محمد فال بن سيدي،
عبد اللطيف الكبري الألوري، هشام محمود، عبد الله عزام المطيري، سعد
عبد الرحمن النفيسة، ماجد الحجيلي، مصطفى موسى الهوساوي، عبد الرحمن
عبد الله الشريف، علي بحري اليامي، مسعد عبده، عبد الرحمن الهادي العمري،
يوسف بن عبد الله، أحمد الحازمي، شهاب أحمد الظفيري، مشعل ركابي الظفيري،
عبد الله حسن شقبيل، أيمن إبراهيم شحاتة، عبد الله سالم الغامدي، عبد الله موسى
بيلا، محمد صالح السويد، صالح سعيد المريسي، عباس شعيب حسن،
عيسى الخماشي، إبراهيم المشني الغامدي، بلال سالم، عبد الله سليمان النفيسة،
عبد الله غزاي البراق، أبشر خليف علمي، مها آل عمرو: سعدنا بتواصلكم الكريم،
بارك الله فيكم ومشاركاتكم مجازة للنشر في المنتدى إن شاء الله.(157/142)
الورقة الأخيرة
هوى الخلاف أم خلاف الهوى؟
وليد بن خالد الجهني
الخلاف سنة بشرية يعكس في حقيقته اختلاف الطبائع والنفسيات وتفاوت
المدارك والتصورات؛ ومع ذلك فإن التعامل مع السنَّة البشرية يجب أن يكون بعيداً
عن التسليم المطلق أو المواجهة المطلقة؛ فالنفس مجبولة على خصال من الشر،
كما أنها مجبولة على خصال من الخير، قال تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ]
(البلد: 10) .
والتسليم بهذه الحقيقة غير التسليم لها؛ فالتسليم لهذه الخصال بدعوى الواقعية
مهلك ولا شك، كما أن إنكارها والتعالي على فهمها في اتجاهات الآخرين وتسويغ
فعالهم هو جنوح إلى عالم الخيال أو المثال.
ويبقى بعد هذا وذاك أن المسؤولية الشرعية تقع على ما يملكه الإنسان من
التجرد لله من شوائب الهوى، وحظوظ النفس، لا على ما لا يملكه من طبيعة
التنشئة واختلاف المدارك، وفرق كبير بين الأمرين.
الخلاف رحمة باعتبار، وبلاء ونقمة باعتبارات أخرى، ويبقى وجود الهوى
أو عدمه العامل الأساس لقلبه من الرحمة إلى النقمة أو العكس؛ فانتفاء الهوى حتى
مع بقاء الخلاف يلقي بظلال الود ويزيح معاني التطرف في التعامل مع المخالف،
ويبقى الأمر في أشد الظروف في دائرة: «إخواننا بغوا علينا» كما قال علي
بن أبي طالب رضي الله عنه.
والمتأمل في ساحة العمل الإسلامي يلاحظ بوضوح أن بلايا الخلاف الواقع
ورزاياه في أحوال كثيرة ليست في ذات الخلاف الناشئ عن اختلاف المدارك
والتصورات والخلفيات بقدر ما هي في شطحات الهوى المصاحبة لهذا الخلاف التي
تخرج به عن دائرة العقل والدين! إن جمع الأمة على عقل واحد يبقى أمنية مغرقة
في الخيال، ولكن جمع الأمة على أدبيات واحدة يبقى غاية لا بد من أن تنال بإذن
الله تعالى.
والواقع المؤسف أن خلطاً واسعاً يجري بين الخلاف الذي تبقى ساحته هي
الآراء والأفكار بل والتطبيقات الفرعية القابلة للاجتهاد، وبين الاختلاف الذي لا
يقتات إلا صفاء القلوب، وسلامة الصدور، وطهارة الألسن.
فالخطاب الإسلامي يجب أن يتوجه من نبذ الخلاف إلى نبذ الهوى في الخلاف
أو خلاف الهوى، وهذا بدوره سوف يؤدي إلى توسيع دائرة المتفق عليه على
حساب دائرة المختلف فيه، ثم بعد هذا يبقى أن هناك فرقاً بين الخلاف في الآراء
والخلاف في الأداء.
فليس كل خلاف في التنظير يجب أن يتحول إلى خلاف في التطبيق؛ فساحة
التنظير أوسع من ساحة التطبيق، ومرونة الآراء أرحب من مرونة الأداء، وتبقى
قضايا التنوع والراجح والمرجوح والفاضل والمفضول، والحسن والأحسن، أيسر
من أن تترجم إلى مفاصلة عملية بين حدين متضادين! فالتطاوع في الأعمال لا
يعني التطابق في الأذهان وإلا لما نِيلَ التطاوع [1] وإن طال الزمان.
وعلى كل حال فستبقى هنالك ثوابت لا تقبل التطاوع؛ لأن التطاوع فيها نوع
من التنازل والتراجع، وليست المشكلة في خفاء هذا بقدر ما هي في التباس
الثوابت بالمتغيرات؛ فالشريحة الكبرى من الصحوة لا تعاني من التنازل عن
ثوابتها، بحجم المعاناة من المفاصلة على أمور ليست من الثوابت أو كبريات
القضايا في شيء، وفي كلٍّ شر.
ويبقى الجهل والهوى هو المحضن الخبيث لتفريخ بيض الخلاف في الأقوال
اعتداداً وغروراً وخوضاً في الأعراض وتمادياً في الإعراض، وفي الأعمال هجراً
وصدوداً وإيقافاً لعجلة الخير، ودفعاً لعجلة الشر.
وأخيراً فإن أحادية التفكير وتسطيح الأمور وإرجاع القضايا إلى بُعْدٍ واحد أمر
مرفوض ولا شك؛ ولكن يبقى أن في الأمور تبايناً، ولكل أمر ثقله، ولكل رأس
أُسَّه.
__________
(1) لفظة التطاوع مأخوذة من وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن بأن يتطاوعا ولا يختلفا، البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: 164،
ح/ 3038.(157/143)
شوال - 1421هـ
يناير - 2001م
(السنة: 15)(158/)
كلمة
المقاطعة أضعف الإيمان
العلاقة الاستراتيجية بين العدو الصهيوني وأمريكا هي علاقة لا نقول
تاريخية إنما هي علاقة مصلحية استغلها اليهود بأموالهم وإعلامهم ووصولهم لمراكز
القرار؛ مما أنتج تلك العاطفة المعروفة بين الطرفين، وأكدها ورسَّخها الصهيونيون
النصارى، أو النصارى الصهاينة الذين جعلوا من خزعبلاتهم وأساطيرهم الدينية ما
يربط بين قيام دولة يهود ونزول المسيح - عليه السلام - وأن بناء الهيكل المزعوم
على أنقاض المسجد الأقصى هو ذروة المجد النصراني الموهوم.
لذا وجدنا التعاون الكبير بينهم ووقوف الغرب بعامة والأمريكان بصفة خاصة
في صفهم، وتأييد العدو الصهيوني في عداوته المستمرة منذ قيام دولتهم عام
1948 م وإلى الآن، وما قامت به من مجازر ومذابح وحشية للشعب الفلسطيني
مؤخراً لم يحرك ساكناً في الجسد الغربي المتصهين بدعوى أن نصرة الصهاينة (قدر
إلهي) ! ولذلك فهم لا يفرقون بين الرجم بالحجارة من الأطفال والشباب
الفلسطيني وبين راجمات الصواريخ والقصف المدفعي والطائرات، وهدم
مقدرات الشعب الفلسطيني؛ بدعوى أن كلاً من ذلك عنف يجب أن يتوقف! !
هذه التصرفات الرعناء المعادية لأمتنا أثارت حفيظتنا وكراهيتنا للعدو
الصهيوني والمتعاطفين معه، وأن ما طرحه من أسلوب السلام ما هو إلا أكاذيب
ولعب على الذقون، وتحدث الإعلام العربي بكل صراحة في كل الدول العربية
بدون استثناء عن: لماذا تكره (أمريكا) ؟ وأرجعوا ذلك لمعاداتها لنا وتأييدها
للصهاينة؛ بدون مراعاة حتى لمصالحها مع دولنا وشعوبنا.
ونحن نقول: إن كل ذلك الانحياز يجعلنا نكره الغرب، والعدو الصهيوني،
والمتواطئين معه، والمكبلين باتفاقيات الاستسلام، ونعتقد أن واجب الولاء والبراء
يجعلنا نطالب بمقاطعة العدو وكل الشعوب المنحازة له؛ حتى يعلم أولئك قيمة أمتنا،
وقدرتها على تطويعهم بهذا الأسلوب البسيط، ولو قاطعنا أولئك مقاطعةً تامةً في
كل ما يُصدِّرونه لنا - وبخاصة أن هناك بدائل عنه - لأذعنوا لنا؛ ولكن هل نفعل؟
هذا ما يجب أن تفكر فيه الدول والشعوب بكل أطرها وفعالياتها. [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ] (الروم: 4-5) .(158/1)
الافتتاحية
صورتان متناقضتان تحيّران
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فلقد نال علماء الإسلام في المجتمع الإسلامي مكانةً كبرى، وحسبهم ثناء الله
عليهم في آيات قرآنية كثيرة، منها ما دلَّ على رفيع قدرهم، وفي ذلك يقول
الله - تعالى -: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ]
(المجادلة: 11) .
وأنهم أقرب الناس له - جل وعلا - معرفةً به وخشيةً له. يقول الباري -
عز وجل -: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) .
وأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث، ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» [1] ولا شك أن قيامهم برسالة
الأنبياء في الدعوة والبلاغ هو مؤهلهم لهذه المكانة؛ فقد كان ذلك السمةَ العامةَ لكل
من انتمى لهذه المهمة الجليلة في كل زمان ومكان.
فقد أدوا رسالتهم في الحياة؛ فكانوا نماذج مشرفة للعلم والفضل، والسمو على
زخارف الحياة، وبَذَل الكثير منهم النفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة
الحق [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]
(آل عمران: 146)
وسجل التاريخ لهم صوراً مشرفة كُتبت بأحرف من نور، مثل الصحابة -
رضي الله عنهم - وعلماء التابعين وتابعيهم بإحسان، ومثل الأئمة الأربعة، وشيخ
الإسلام ابن تيمية، والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام محمد
بن عبد الوهاب، وغيرهم رحمهم الله جميعاً.
وفي العصر الحديث عُرف كثير من العلماء بهذا الفضل أمثال (الشيخ محمد
بن إبراهيم آل الشيخ) ، و (الشيخ عبد العزيز بن باز) ، و (الشيخ ناصر الدين
الألباني) ، و (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي) ، و (الشيخ محمد رشيد رضا) ،
و (الشيخ عبد الحميد بن باديس) ، و (الشيخ أحمد شاكر) ، و (الشيخ محمد
حامد الفقي) ، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المقام لذكر أسمائهم فضلاً عن ذكر
مواقفهم الجليلة.
وهذه المكانة لهم لم تأت من فراغ، وإنما كانت نتيجة لأدائهم ما كلفهم الله به
من رسالة البلاغ والنصح والإرشاد والتوجيه للأمة؛ فقد عملوا ما وسعهم الوقت
والجهد في التحذير من الأخطار المحدقة بالأمة، والتنبيه على ما يحتوشها من
تيارات إلحادية وتغريبية، والتحذير من كل ما يبعدها عن سواء السبيل.
ومما يؤسف له أننا في هذا العصر وإن لم نفقد أمثلة مشرفة لهؤلاء العلماء إلا
أن التيار الإلحادي والتغريبي والنهج العلماني السائد في كثير من البلدان الإسلامية
كان بالمرصاد للاتجاهات الإسلامية، فعمل جاهداً على تهميش العلماء وإضعاف
أدوارهم في الحياة، وسلطوا وسائل الإعلام للإساءة لهم وإظهارهم بصور مزرية،
وما ذاك إلا للكيد لهم، ومحاولة إضعاف رسالتهم، بل وصل إيذاء المنتمين
للاتجاهات الإسلامية إلى حد بعيد؛ بحيث يعاقب كل من ينتمي لأسرهم حتى
الدرجة الثالثة ظلماً وعدواناً، وللحيلولة دون وصولهم إلى مراكز التوجيه في تلك
المجتمعات؛ ووضع العراقيل في طريقهم بشكل مكشوف؛ تارة باتهامات معدة سلفاً،
وتارة بادعاء العمالة للخارج، وتارة بدعوى أنهم تيارات إرهابية متطرفة؛ وهم
نخبة متميزة في تلك المجتمعات بل من صفوة أبنائها المتخصصين في شتى الفروع
العلمية والتقنية، وكل ذلك مرفوض في شرع العلمانية والتغريب ما دام الأخيار
منتمين للتيار الإسلامي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لمصلحة من يُنحَّى الدعاة والعلماء
والمنتمون للاتجاهات الإسلامية عن الساحة؛ وبخاصة أنهم مشهود لهم بالعلم
والفضل والإبداع في تخصصاتهم العلمية؟
والجواب واضح حيث تتمثل تلك المصلحة التي لا يُبغى بها وجه الله في أمور
كثيرة منها:
- حرمان الأمة من هذا التيار الذي عادة ما يكون أحرص الناس على هداية
الأمة والعمل المخلص لما فيه تقدمها ونهضتها.
- محاولة تحجيم أثر الإيمان في المجتمعات الإسلامية، والعمل على فصل
الدين عن الحياة، وهذا أسلوب معروفة آثاره السلبية منذ ابتليت أمتنا الإسلامية
بتلك الحكومات العلمانية المتطرفة؛ فما حصلت أمتنا في عهودهم إلا على الهزائم
المنكرة، والتبعية المطلقة، والإخفاق الذريع في شتى مناحي الحياة.
- إثارة النزاع والخلاف بين فئات المجتمع بتصنيف أفراده إلى فئات مهمشة،
وفئات مقربة، وفئات مرضي عنها، وفئات ممقوتة؛ مما يجعل الحياة في نزاع
وشقاق دائم لا تتسنى معه نهضة حقيقية ولا تنمية مستديمة.
- ظهور ردود أفعال خطيرة من اتجاهات الغلو والانحراف العقدي حينما
يهمش الحاكمون بأمرهم الفئات الإسلامية وينحُّونها عن خدمة مجتمعاتها؛ فهم
يعملون من حيث يشعرون أو لا يشعرون في خدمة التيارات الإلحادية والمنحرفة
لتؤدي دورها في تغريب المجتمعات وتضليل أفرادها، والعمل على انحرافها عن
صراط الله المستقيم؛ بحيث لا ينجو من نتائج هذا الانحراف السيئة لا الراعي ولا
الرعية.
والغريب حقاً أننا نرى أصحاب الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية
وهندوسية وغيرها أكثر ما يكونون تقديراً لعلمائهم والمنتمين للتيارات الدينية فيهم؛
من حيث فتح المجال لهم للعمل في كل فعاليات الحياة دون أدنى مضايقة. فدُور
أديانهم مفتوحة تؤدي رسالتها التوجيهية بغض النظر عن مدى صحتها، ورجال
الدين عندهم في مكانة سامية، ولهم تأثيرهم الملموس مما مكنهم من الوصول لشتى
المناصب الاجتماعية بل السياسية؛ حتى وصل نفر من رجال الدين عندهم إلى سدة
الحكم، وحكمت أحزاب دينية تلك الديار بأساليب ديمقراطية نزيهة تنأى عما هو
معروف في كثير من ديار الإسلام من تلاعب بالانتخابات لمصلحة الحزب الحاكم
أو المنتفعين في المجتمع.
ولا شك أن ذلك لم يأت من فراغ وإنما كان نتيجة طبيعية للمكانة المتاحة لهذه
الفئة من الناس؛ حيث لم ينلهم اضطهاد أو تهميش أو مضايقات، ولم يُستخدم
(القضاء) لتمرير الاتهامات ضدهم كما هو معروف في كثير من ديارنا، والله
المستعان.
ولعب الأدب والإعلام عندهم دوراً كبيراً ومؤثراً في إظهار رجال الدين
بصور مشرفة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد رجل دين معروفاً هو
(مارتن لوثر) قد كُتب عن حياته وإنسانيته وإصلاحاته ما لا يقل عن ثلاثين رواية،
ومثله (كالفن) ، و (توماس الأكويني) ، وقد مُثِّلت سِيَرهم وأدوارهم الحياتية
بصورة مؤثرة يظهر فيها التبجيل والاحترام لكل من يشاهدها. ولذلك لا نستغرب أن
يكون لرجال الدين هناك أثرهم الإيجابي الملموس.
ومما يؤكد تلك المكانة لرجال الدين عندهم ما قرأناه في الأخبار مؤخراً من
صور توضح هذا التأثير في مجتمعاتهم، ومن ذلك على سبيل المثال:
- قيام الكنيسة الكاثوليكية في الفلبين بتأييد المعارضة ضد رئيس الدولة
(جوزيف أسترادا) لما أخذ عليه من مخالفات مالية معروفة، ولم يجد هذا التأييد أي
نكير من القوى الغربية.
- احتجاج الكنيسة الأرثوذكسية على الحكومة اليونانية حول رغبتها في
شطب اسم (الديانة) من بطاقة الهوية؛ لا سيما أن الكنيسة والدولة في اليونان لا
تزالان غير منفصلتين، وهذا منصوص عليه في الدستور اليوناني [2] .
- وما أخبار رجال الدين الموارنة في لبنان عنا ببعيدة؛ فمنذ إعلان
(البطريرك صفير) دعوته لإخراج القوات السورية من لبنان لأنه يرى أنها تشكل
وصاية على لبنان أسهمت في أزماته الاقتصادية غير المسبوقة. ونقلت الصحف
ذهاب بعض الوزراء لطمأنة البطريرك وتهدئة خاطره، وأن رغبته محل الاعتبار؛
مما جعل البلدين يناقشان الموضوع، ونتج عن ذلك إعادة انتشار القوات السورية
كما هو معروف.
فهذه الأدوار لرجال الدين النصارى في العالم، وتدخلهم في شؤون دولهم لم
يعد خافياً على الجميع وهم المعروف عنهم جملتهم المشهورة: (دعوا ما لقيصر
لقيصر وما لله لله) ، لم يعد ذلك مجهولاً، وأصبح لهم كلمتهم في مجتمعاتهم؛ بينما
علماء الدين المسلمون في كثير من بلداننا مُهمَّشون. ومن بركات الحكومات
العلمانية في بلداننا نقل ذلك المقول النصراني المأثور إلى بلاد الإسلام ليعمل به
بالحديد والنار مع مخالفته للمنطلقات الشرعية الإسلامية ومنافاته للعقيدة ومناقضته
للإسلام، وهذا ما قرره كثير من العلماء عند بحثهم لهذه المسألة؛ حيث أوضحوا
مناقضة الإسلام لكثير من أعمالهم المعروفة ومنها:
1 - الاستهزاء بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه؛ فذلك مناقض للإسلام.
2 - من اعتقد أن بعض الناس يسعهم الخروج على شريعة محمد صلى الله
عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى فهو أيضاً يناقض الإسلام.
فماذا يسمى تهميش الدين وتنحيته عن الحياة إن لم يسمَّ استهزاءاً به؟ وماذا
يسمى ترك الشريعة ونبذها والحكم بغير ما أنزل الله سوى الاستهتار بهذا الدين
ورميه في عرض الحائط؟ تلك صورتان للعلماء: عند المسلمين في عصورهم
الحديثة، وعند غير المسلمين أيضاً بين تبجيل وتخذيل وتقدير وتزوير.. فإلى الله
المشتكى.
كلمة أخيرة:
لكثير من أدبائنا وصحفيينا الذين دأبوا على الهمز واللمز بحق علماء الإسلام
ودعاته وإظهارهم بصور منكرة والافتراء عليهم بمناسبة وبغير مناسبة: نذكِّرهم
بأن أساتذتهم الذين يدعوننا دائماً للاقتداء بهم - ونعني الغربيين - هم بعكسهم تماماً
في مواقفهم من علماء مللهم؛ فلماذا لا يأخذون عنهم تقديرهم لعلمائهم وإشادتهم بهم؟
أم أن النقل لا يكون إلا فيما لا يفيد، وفيما لا يصلح؟ !
هذه هي الحقيقة، والشيء من معدنه لا يستغرب.
واللهَ نسأل للجميع الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند: (5/196) .
(2) جريدة الحياة، العدد: (13629) في 3/4/1421هـ الموافق 5/6/2000م.(158/4)
إشراقات قرآنية
لطائف بلاغية في آية قرآنية
محمد بن عبد العزيز الخضيري
ما من مسلم في الأرض يشهد لله بالوحدانية إلا وهو يقر إقرارًا جازمًا لا مراء
فيه بأن القرآن الكريم تنزيل من حكم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه، وأنه قد بلغ الذروة من الفصاحة والبلاغة التي يتقاصر البلغاء - فضلاً عمن
سواهم - عن سبر غورها وإدراك أعماقها، وهذا الإقرار من كثير منهم قد جاء
بناءًا على خبر الصادق - كما نطقت به آي الكتاب وكلمات الرسول صلى الله عليه
وسلم - خلافًا لما كان عليه الناس في القرون الأُول حين كانوا يتذوقون تلك البلاغة
ويدركون حقيقة الإعجاز الذي أخبروا عنه.
ولكي أطلعك - أخي - على لون من ألوان بلاغة القرآن جار مجرى التمثيل
والتدليل لتنتقل بإيمانك من العلم إلى اليقين إلى عين اليقين فإني استعرض لك في
هذه المقالة بعض ما دوًّنه أئمتنا في بلاغة آية نرددها الدهر كله، لكن لفساد تذوقنا
اللغوي. وضعف تدبرنا وقلة زادنا؛ فإن ما أُدع في هذه الآية من بديع الحكمة
وعمق البلاغة لا يخطر لنا على بال فضلاً عن استرواحنا له واستلذاذنا به.
وإذا كان هذا الشأن في آية؛ فكيف يكون القول فيه بقية الآي؟
إنها قوله - تعالى -: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) . فإليك
لطائف من بلاغتها لترى بأم عينك ما انعقد عليه قلبك.
المسألة الأولى: حكمة تقديم المعمول (إياك) :
إن تقديم المعمول [إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) على عاملها [نَعْبُدُ]
(الفاتحة: 5) نموذج رائع على بلاغة القرآن وبلوغه الذروة العليا من الفصاحة
والبيان، فلا يشق له في ميدان البلاغة غبار؛ وحق له أن يكون كذلك؛ وكيف لا،
وهو كلام رب العالمين؟
ولعلي أطلعك على صدق مقالي في هذا البحث اللطيف لترى كيف تجول أقلام
أحبار الأمة في بيان بلاغة تقديم (إياك) على عاملها فتبصر العجب، وإنما هو
عجب في الأذهان، وليس بمستبعد ولا غريب على القرآن.
وقد بين العلماء - رحمهم الله تعالى - وجوهًا كثيرة في سر التقديم أسوق
موضحًا باقة منها يتضح من خلالها ما تضمنته الآي من آيات الصدق الشاهدة على
أن هذا الكلام من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الوجه الأول:
في التقديم إيذان بالحصر أو الاختصاص؛ فهو في قوة (لا نعبد إلا إياك،
ولا نستعين إلا بك) ، والحاكم في ذلك كما قال ابن القيم - رحمه الله -: (ذوق
العربية واستقراء موارد استعمال ذلك مقدمًا) [1] .
والحصر في الأول حقيقي؛ لأن المؤمنين الملقًّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا
الله، وأما في الثاني فهو حصر ادعائي إضافي كما ذكر ذلك الطاهر بن عاشور -
رحمه الله - ومعناه هنا: لا نستعين في عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس
إلا بالله - تعالى -[2] .
وقد زعم قوم أن التقديم هنا لا يفيد الاختصاص بل الاهتمام؛ والصحيح
خلاف ما قالوه. وسيبويه - رحمه الله - ذكر الاهتمام ولم ينف غيره [3] ، ولأنه
يقبح من قائل قد أعتق عشرة من الأعبد ثم قال لأحدهم: إياك أعتقت؛ فإن من
يسمعه ينكر ذلك عليه ويقول: وغيره أيضًا أعتقت: ولولا فهم الاختصاص لما قَبُح
هذا الكلام، ولا حسن إنكاره [4] . قال ابن القيم: ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه وفتح
عليها باب الشك والتشكيك؛ فهؤلاء هم آفة العلوم وبليًّة الأذهان والفهوم) [5] اهـ.
قال الشوكاني: (وتقديمه على الفعل: لقصد الاختصاص، وقيل للاهتمام والصواب
أنه لهما؛ ولا تزاحم بين المقتضيات) [6] .
الوجه الثاني:
إفادة الاهتمام فإن عادة العرب جارية على تقديم ما القصد الأول إليه،
والاهتمام متوجه نحوه من الفاعل والمفعول؛ وإن كان في ذكر الجملة القصد أن
جميعًا فإنك تقول: بالأمير استخف الجند. وإذا كان القصد الأول ذكر من وقع به
الاستخفاف، وتقول: الأمير استخف بالجند. إذا كان مقصودك الأول هو التنبيه
على من أقدم على الاستخفاف بهم.
ولما كان القصد الأول في الآية ذكر المعبود دون الإخبار عن إيجاد عبادتهم
كان تقديم ذكره أوْلى؛ وعلى هذا قوله - تعالى -[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الجَاهِلُونَ] (الزمر: 64) [7] .
ومنه أيضًا ما حُكي أن أعرابيًا سب آخر فأعرض المسبوب، فقال الساب:
إياك عني. فقال الآخر: وعنك أعرض. فانظر كيف قدم كل منهما ما قصده إليه
أول [8] .
الوجه الثالث:
فيها أدبهم مع ربهم - جل وعلا - حيث قدموا ذكره على ذكر عبادتهم، ومنه
يؤخذ تعليمهم الأدب مع المتفضل المنعم عليهم فيقدموا ذكره في كل شأن من
شؤونهم [9] .
الوجه الرابع:
أن الله - تعالى - قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد من أول وهلة على أن المعبود
هو الله؛ فلا يتكاسل في التعظيم، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالاً [10] .
الوجه الخامس:
وفيه التنبيه للعبد بأنه إذن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من
قيام وركوع وسجود فاذكر: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] (الفاتحة: 5) لتذكرني، وتخضر في
قلبك معرفتي؛ فإذا ذكرت ذلك سهلت عليك عبادتي [11] .
الوجه السادس:
من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة؛ كان نظره في وقت
الابتلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء فيكون في كل أحواله متعلقًا بالله، بخلاف من
يخالف ذلك، ولذا قال الله - تعالى - لأمة موسى: [اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ]
(البقرة: 40) ، وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]
(البقرة: 152) [12] .
الوجه السابع:
وليلفت نظر العبد إلى أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ثم إلى العبادة من
حيث إنها وصلة إليه وراحلة تفد عليه [13] .
الوجه الثامن:
إن الله هو الأول؛ فوجب أن يقدم ذكره ليوافق الوضع الطبع.
الوجه التاسع.
وليعرِّض بالمشركين الذين يعبدون مع الله غيره، ويستعينون بغيره، فقد
كانوا فريقين:
- فريقًا عبد غير الله على قصد التشريك، إلا أن ولعه بغير الله أنساه عبادة
الله كما عبدت الفرس النور.
- وفريقًا أشرك مع الله غيره؛ وهذا حال معظم العرب؛ فقد جعلوا الآلهة
بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله، فيجمعوا بين العبادة لهم والاستعانة بهم.
قال الطاهر بن عاشور: (وإنما قلنا: إن استفادة الرد على المشركين بطريق
التعريض؛ لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضًا، لأن
معناه حاصل على الحقيقة كما أشار السلكوتي في حاشية التفسير) [14] .
وإلى هنا أوقف سباحة الفكر في أوجه تقديم المعمول على العامل في الآية،
ففي ما ذكر ذكرى لمن ادّكر.
ويحسن بي أو أورد إشكالاً ذكره الرازي في تفسيره بقوله: (إن قال قائل:
جميع ما ذكرتم قائم في قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] (الفاتحة: 2) وقد قدم فيه ذكر
(الحمد) على ذكر (الله) .
فالجواب: إن قوله: [الْحَمْدُ] (الفاتحة: 2) يحتمل أن يكون لله ولغيره
(أي يجوز إطلاق الحمد لغير الله) ، فإذا قلت: (لله) تفيد بأن يكون لله، أما لو قدم
(نعبد) احتمل أن يكون لله، واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر: والنكتة أن
الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله؛ لا جرم حسن تقديم الحمد، أما
ها هنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله قدم قوله: (إياك) على (نعبد)) [15] .
المسألة الثاني: حكمة تكرار (إياك) :
كررت (إياك) في الآية مرتين وأعيدت مع العاملين (نعبد، نستعين) ،
وكان يمكن أن يقال: لو لم تكرر لكان أخصر، ولكنا حين نعلم اللطائف في
تكرارها نقضي عجبًا من فصاحة القرآن، ولا يكون عندنا ريب في أن ورودها
مكررة مع عامليها هو الحق الذي لا يكون غيره مكانه، مع أنه قد ورد في القرآن
الاقتصار على ذكر أحد المفعولين في آيات كثيرة منها قوله - تعالى -:
[مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى] (الضحى: 3) : أي ما قلاك، وكذلك الآيات التي
بعدها في معناها [16] (فآواك، فهداك، فأغناك) ، ولكن هذه الآية العظيمة [إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) لها شأن غير شأن سواها من الآيات , ونبين
حكمة ذلك فيما يلي:
أولاً: أنه لو حذفت [إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) في الثاني لفاتت فائدة التقديم،
وهي قطع الاشتراك بين العاملين؛ إذ لو قال: (إياك نعبد ونستعين) لم يظهر أن
التقديم (إياك نعبد وإياك نستعين) بل قد يحتمل غيره في التقدير ك (إياك نعبد
ونستعينك) مثلا [17] .
ثانيًا: وكرر للتنصيص على تخصيص: (الله تعالى) بكل واحدة من العبادة
والاستعانة [18] .
ثالثًا: ولأنه لو لم يكرر لصح أن يعتقد أن الاستعانة تكون بغير الله - عز
وجل -[19] .
رابعًا: وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف ما لو جاءت هكذا: (إياك
نعبد ونستعين) فإنه يحتمل أن يكون إخبارًا بطلب العون، أي: وليطلب العون،
من غير أن يعيّن ممن يطلب [20] .
خامسًا: ولأنه ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله - تعالى - إلا بالجمع بينهما،
والواقع خلافه [21] .
سادسًا: وليكون في التكرار تعليمًا للعباد بأن يجددوا ذكر الله - تعالى - عند
كل حاجة [22] .
سابعًا: وليكون في التكرار إبراز الاستلذاذ بمناجاة الله وخطابه [23] .
ثامنًا: وليشعر أن حيثية تعلق العبادة به - تعالى - غير حيثية تعلق الاستعانة
منه، ولو قال: (إياك نعبد ونستعين) لتوهم أن الحيثية واحدة، والشأن ليس كذلك،
إذ لا بد في طلب الإعانة عن توسط صفة، ولا كذلك في العبادة، فلاختلاف
التعلق أعاد المفعول ليسير بها إليه [24] .
تاسعًا: ولأن بين الحصرين فرقًا فالحصر في: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ]
(الفاتحة: 5) حقيقي كما تقدم والحصر في [إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5)
ادعائي؛ فإن المسلم قد يستعين بغير الله، ولكنه لا يستعين في عظم الأمور إلا
بالله، ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله.
ومن المفسرين من جعل التكرار للتوكيد كما تقول: (بين زيد وبين عمر
خصومة) فتعيد (بين) ، وقد رجح هذا الواحدي في بسيطه [25] .
وردّ عليه الآلوسي بأن التكرار إنما يكون توكيدًا إذا لم يكن معمولاً لفعل ثان،
(وإياك) الثاني في الآية معمول لـ (نستعين) ، مفعول له؛ فكيف يكون
تأكيدًا؟ [26] .
المسألة الثالثة: سر الإتيان بنون الجمع في الفعلين:
لسائل أن يقول: إن المتكلم بالآية واحد فما معنى الإتيان بالنون المفيدة للجمع
أو التعظيم في هذا المقام؟
ونقول: قد اختلفت مشارب العلماء في الإجابة على هذا التساؤل وكل منهم
بنى على ما رآه فوائد استنبطها من مدلول الآية حسب ما يراه.
فيرى جمع أن النون للجماعة؛ فهي بذلك على حقيقتها، فكأن المصلي أخبر
عن نفسه وعن جنس العباد وهو واحد منهم لا سيما إن كان في جماعة أو كان إمامًا
لهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه بالعبادة التي خلقوا لأجلها [27] .
قالوا: ففيه التنبيه على أن هذه الصلاة إنما بنيت على الاجتماع؛ فينبغي ألا
تفعل إلا جماعة [28] .
وفيه أيضًا إغاظة للمشركين بإعلامهم أن المسلمين صاروا في عز ومنعة [29]
وقالوا فيه أيضًا: بالغ الثناء على الله لئلا تخلو مناجاتهم لربهم عن ثناء له بأنه قد
شهد له الجماعات بأنهم عبيده وطلبوا منه العون، فكان الحامد لما انتقل من الحمد
إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقنص فيها الثناء إلا انتهزها [30] .
وفيه أيضًا إيذان بقصور نفسه، وعدم لياقته للوقوف في مواقف الكبرياء
منفردًا، وعرض العبادة، واستدعاء المعونة والهداية مستقلاً، وأن ذلك، إنما
يتصور من عصابة هو من جملتهم، وجماعة هو من زمرتهم [31] ، فلسان حال
العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث استحق أن أذكرها وحدها؛ لأنها
ممزوجة بجهات التقصير وأنواع التفريط؛ غير أني أخلطها بعبادات جميع العابدين
وأذكر الكل بعبارة واحدة [32] .
ثم إنه لو قال: (إياك أعبد) لكان ذلك بمعنى أنا العابد؛ لكنه عندما يقول:
(إياك نعبد) كان المعنى: إني واحد من عبيدك؛ وفرق بين الأمرين، كما يرشد إليه
قوله - تعالى - حكاية عن الذبيح: [سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]
(الصافات: 102) ، وقوله - سبحانه - حكاية عن موسى - عليه السلام -:
[سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً] (الكهف: 69) . فصبر الذبيح لتواضعه يعدِّ نفسه
واحدا من الصابرين، ولم يصبر كليم الرحمن لإفراده نفسه مع أن كلاً منهما قد قال:
(إن شاء الله) [33] .
ومع ذلك فهو يذكر نفسه مع إخوانه لينأى عن ساحة الكبر والاعتداد بالنفس،
فإنه لو قال: (إياك نعبد، أو إياك عبدت) لكان معظماً لنفسه قد ولج باب الكبرياء
وتدنس بالعجب؛ فإن هذا بمعنى: (أنا العابد) فكأنه وحيد الميدان هو الأهل لهذا
الشأن دون غيره، لكنه بقوله: (إياك نعبد) يكون متجلببًا ببُرد التواضع ولسان
حاله يقول: (لست أهلا لأن أتقدم إلى جنابك العظيم وحدي؛ بل أضم نفسي إلى
سائر عبيدك لأكون داخلاً في ضمنهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فعسى أن
أكون مقبول العبادة مجاب الدعوة [34] .
ثم إنه إذا قال: (إياك نعبد) كأنه قد صار ساعيًا في إصلاح نفسه وإصلاح
مهمات إخوانه المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته [35] وفيه أيضًا احتراز
من الكذب؛ فإن العبد لا يزال يذل لغير الله ويستعين به؛ فكيف يقول: (إياك أعبد
وإياك أستعين) ؟ [36] .
ومن العلماء من يرى بأن النون للتعظيم؛ ووجه ذلك عندهم: أن العبد لما
أشتغل قلبه وقالبه بعبادة الله يقال له: قد عظم قدرك عند ربك؛ فقال على سبيل
التعظيم: (إياك نعبد) ليظهر للكل أن كل من كان عبدًا لله كان ملكًا في الدنيا
والآخرة.
أما إن كنت خارج الصلاة فلا تقل: (نحن) ولو كنت في ألف ألف من
العبيد.
ومن العلماء من يرى بأن النون للتواضع؛ وقد مضى شرح كونها للتواضع؛
وحيث إن النتيجة واحدة فقد ذُكرت مع قول من يرى بأنها لحقيقة الجمع، والله أعلم.
المسألة الرابعة: سر تقديم العبادة على الاستعانة:
وثَمَّ مسألة نفسية جالت فيها أفهام المفسرين، وتنوعت في تأوليها أقوالهم،
وهي برهان ساطع على اتساع اللفظ القرآني للمعاني الكثيرة بلا تعارض بينها، بل
يصدق بعضها بعضاً، ألا وهي تقديم العبادة على الاستعانة، أو تقديم (إياك نعبد)
على (إياك نستعين) .
وللعلماء في ذلك مسلكان، إليك بيانهما، والله المستعان.
المسلك الأول:
وهو أن التقديم لم يكن لشيء من الحكم المقتضية له، بل لما كان في الآية
تلازم وارتباط شديد استوى تقديم إحداهما أو تأخيره. وفي هذا يقول الطبري -
رحمه الله -: (لما كان معلوماً أن العبادة لا سبيل إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه،
وكان محالاً أن يكون العبد عبداً إلا وهو معان، وأن يكون معانًا عليها إلا وهو لها
فاعل - كان سواءاً تقديم ما قدم منها على صاحبه، كما سواءاً قولك للرجل إذا
قضى حاجتك: (أحسنت إلي فقضيت حاجتي) فقدمت ذكر الإحسان على ذكر
قضاء الحاجة؛ لأنه لا يكون قاضيًا حاجتك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك
إلا، وهو لحاجتك قاضٍ؛ فكذلك سواء قول القائل: (اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على
عبادتك) ، وقوله (الله أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد) [37] .
ولذا فإن بعض من يرى هذا الرأي يستدل له بأن الواو لا تقتضي
الترتيب [38] بل لمطلق الجمع عند النحاة.
المسلك الثاني:
وهو أن التقديم كل لحكمة اقتضت ذلك، وقد أسهب العلماء - رحمهم الله -
في ذلك أيّما إسهاب، وجالوا في فنون القول حتى أطربوا وأغربوا وأروا غيرهم
اللطائف البيانية تناب في الآية كأنما الآية خزينة ملئت حكمًا، وسأذكر ما وقفت
عليه من ذلك، فالله المستعان، ومنه التوفيق، وعليه التكلان:
الوجه الأول:
أن تقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص [39] .
الوجه الثاني:
ولأن (إياك نعبد) متعلق بألوهية، واسمه: (الله) ، (وإياك نستعين)
متعلق بربويته، واسم: (الرب) فقدم (إياك نعبد) على (إياك نستعين) كما تقدم
اسم الله على اسم الرب في أول السورة [40] .
الوجه الثالث:
ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس؛ فكل عابد لله عبودية
تامة مستعين به، ولا ينعكس؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به
على شهواته، فكانت العبادة أتم وأكمل [41] .
الوجه الرابع:
ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص وغيره؛
فتقدم ما كان الإخلاص أساسه [42] .
الوجه الخامس:
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة،
وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته،
وتقديم مطلوبه أولى من تقديم مطلوب العبد [43] .
الوجه السادس:
ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يجب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه
لك، فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول
تحت رقها سببًا لنيل الإعانة من الله له أعظم [44] .
الوجه السابع:
ولأن [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] (الفاتحة: 5) له، و [إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
(الفاتحة:5) به، وما له مقدم على ما به؛ لأن ما له متعلق بمحبته أكمل مما تعلق
بمشيئته؛ فإن الكون متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار،
والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعتهم وإيمانهم، فالكبار أهل مشيئته،
والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه
به تعالى وبمشيئته [45] .
الوجه الثامن:
ولأن (إياك نعبد) قِسْم الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله
لكونه أولى به و (إياك نستعين) قِسْم العبد فكان مع قسمه [46] .
الوجه التاسع:
ولكون الأولى وسيلة للثانية فإن العبد يقر ويعترف بعبوديته لله، ويجعل هذا
الإقرار، والاعتراف وسيلة لحصول الثاني، فتقديم الوسائل سبب لحصول
المطالب [47] .
الوجه العاشر:
إن قوله: (إياك نعبد) يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى،
وذلك يورث العجب، فأردف بقوله: (وإياك نستعين) ليدل ذلك على أن تلك
الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصل من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله،
فالمقصود من ذكر قوله: (وإياك نستعين) وإزالة العجب، وإفناء تلك النخوة
والكبر [48] .
الوجه الحادي عشر:
أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي مما يضفي جمالا على النظم
القرآني [49] .
الوجه الثاني عشر:
ولأن الاستعانة مركبة على كونه معبودًا للمستعين منه [50] .
الوجه الثالث عشر:
أن العبادة هي المقصود الأعظم من العبد، والاستعانة وسيلة إليها، والحزم
تقديم ما هو الأهم.
الوجه الرابع عشر:
أن المصلي إذا دخل في الصلاة فكأنه يقول: شرعت في العبادة، فاستعين بك
على إتمامها؛ فلا تمنعني من إتمامها بالموت والمرض، وقلب الدواعي،
وغيرها [51] .
الوجه الخامس عشر:
ولأن العبادة فرض لازم على العبد؛ بينما الاستعانة تابعة للمستعان فيه في
الوجوب وعدمه [52] .
الوجه السادس عشر:
أن طلب العبد الاستعانة لا بد أن يكون مسبوقًا بملاحظة فعل من أعاله وهو
العبادة ليستعينه - تعالى - في إيقاعه [53] ، قلت: وهذا وجه لمن قال بأن الاستعانة
مقيدة بالعون على العبادة، وليست مطلقة؛ والصحيح الذي سنذكره فيما بعد خلافه
وهو إطلاق الاستعانة وإن كان أعظم مقاصدها العون على العبادة.
الوجه السابع عشر:
أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: (إياك نعبد) وما بعده يطلب به العبد من
ربه التمكين؛ فالأول كله حمد وثناء وتمجيد ثم إفراد للعبادة لله؛ فناسب أن يكون
الباقي في ذلك سؤالاً وطلبًا [54] .
المسألة الخامس: سر الالتفات في الآية وفائدة:
ومن القضايا التي لفتت أنظار المفسرين والبلاغيين في الآية الكريمة قضية
الالتفات، وهي من روائع ما في كلام العرب. وقبل ذكر الالتفات في الآية وذكر
فائدته نذكر مقدمة يسيرة بين يدي الموضوع في تعريف الالتفات وأضربه ليتسنى
لنا فهمه جليًا.
قال علماء البلاغة: (والالتفات من أجلِّ علوم البلاغة، وهو أمير جنودها
والواسطة في قلائدها، وعقودها، وسمي بذلك آخذًا من التفات الإنسان يمينًا وشمالاً،
فتارة يُقبل بوجهه، وتارة كذا، وتارة كذا، وهكذا حال هذا النوع من علم
المعاني) [55] ، وأبو الفتح بن جني يسمي الالتفات: (شجاعة العربية) كأنه
عني أنه دليل حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف الشجاع في مجال الوغي بالكر
والفر) [56] .
ومعناه في مصطلح علماء البلاغة: العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب
آخر مخالف للأول [57] .
وحكمته هي - كما قال الزمخشري - أنه إنما يكون إيقاظًا للسامع من الغفلة
وتطريبًا له بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، فإن السامع ربما ملّ من أسلوب
فينقله إلى أسلوب آخر، تنشيطًا له في الاستماع، واستمالة له في الإصغاء إلى ما
يقول له، وقد يكون له غير ما ذكره الزمخشري من الحكم التي يقتضيها سياق
الكلام [58] .
وأما أضربه: فهي ثلاثة:
الضرب الأول:
ما يرجع إلى الغيبة والخطاب والتكلم، ومنه ما في سورة الفاتحة؛ حيث
رجع من الغيبة في قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] (الفاتحة: 2) إلى الخطاب في قوله:
[إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) ثم رجع إلى الغيبة في قوله: [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ]
(الفاتحة: 7) .
الضرب الثاني:
مختص بالأفعال وهو الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، أو عن
الماضي إلى الأمر؛ وفي هذا رجوع من الإخبار إلى الإنشاء.
مثال للأول: [إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ]
(هود: 54) .
ومثال الثاني: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ]
(الأعراف: 29) .
الضرب الثالث:
مختص بالأفعال، وهو الرجوع من الماضي إلى المضارع أو العكس.
مثال الأول: [وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ] (فاطر: 9) .
فقال [أَرْسَلَ] (فاطر: 9) ثم قال: [فَتُثِيرُ] (فاطر: 9) ثم رجع إلى
الماضي [فَسُقْنَاهُ] (فاطر: 9) [59] .
ومثال الثاني: [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي
الأَرْضِ] (النمل: 87) .
ونعود بعد هذه التقدمة إلى ما استأثر به هذا المقام الجليل في الآية من النكت
الرائعة الدالة على تخصيص العبادة والاستعانة به تعالى، ولو جرى الكلام على
أصله لقال: (إياه نعبد) فعدل عن ضمير الغائب إلى ضمي المخاطب لنكتة
(الالتفات) . قال أبو حيان: (ونظير هذا أن تذكر شخصًا متصفًا بأوصاف جليلة
مخبرًا عنها إخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضرًا معك، فتقول له: إياك
أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ
(إياه) [60] .
هذا وقد صارت حكمة الالتفات معترك ألباب أولي التفسير فاختلفت وجهات
نظرهم في توجيهه، وليس بين كثير منها تعارض، بل يصح أن يكون بعضها مع
آخريات منها مرادًا، وها أنا أسوق ما ذكروه، وأنقل إليك ما كتبوه:
الأول: أن العبد لما ذكر لله نعوت الجلال وصفات الكمال التي أوجبت له -
تعالى - أكمل تميز، وأتم ظهور؛ بحيث تبدل جفاء الغيبة بجلاء الحضور،
فاستدعى ذلك استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف
من تفرده - تعالى - وكماله وجلاله أن ينتقل من عالم الغيبة إلى عالم الشهود حتى
كأنه واقف لدى مولاه ماثلا بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرع
بالضراعة باب المناجاة بـ (إياك نعبد وإياك نستعين) [61] .
الثاني: أن المصلي كان أجنبيًا عند الشروع في الصلاة؛ فلما أثنى على الله
بأنواع المحامد كأن الله قال له: حمدتني وأثنيت علي ومجدتني، فنِعْم العبد أنت قد
رفعنا الحجاب فتكلم بالخطاب [62] .
الثالث: أنه من أول السورة إلى هذه الآيات ثناء، والثناء في الغيبة أولى،
ومن البداية إلى النهاية دعاء، والدعاء في الحضور أولى، وأحسن السؤال ما وقع
على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء - عليهم السلام - لما سألوا ربهم شافهوه
بالسؤال [63] ؟
الرابع: أن الحمد لما كان لا يتفاوت غيبة وحضورًا، بل هو مع ملاحظة
الغيبة أدخل وأتم، وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى الله -
سبحانه - عن إبراهيم: [فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ] (الأنعام: 76) لا
جرم، عبَّر عن الحق بطريق الغيبة، وعنها بطريق الخطاب، إعطاءاً لكل منهما
ما يليق به النسق المستطاب [64] .
الخامس: أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم،
ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب، قرن - سبحانه -
العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية من الكلال، عارية من الفتور
والملال، مقرونة بكمال النشاط لتمام الانبساط.
بهذا - أخي القارئ - نأتي على نهاية ما تيسر لنا جمعه وعرضه من
اللطائف البلاغية، والنكات اللغوية في هذه الآية القرآنية سائلين المولى - جل
وعلا - أن ينفعنا به جميعاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) التفسير القيم , ص (68) نقلاً عن مدارج السالكين , البرهان , للزركشي (3 / 236) .
(2) التحرير والتنوير (1 /183 - 185) .
(3) التفسير القيم , ص (68) .
(4) التفسير القيم من مدارج السالكين، ص (68) , انظر: الكشاف (1 / 61) , والرازي (1 / 247) .
(5) المصدر السابق.
(6) فتح القدير، تفسير الفاتحة.
(7) التفسير الكبير، للرازي (1 / 246) .
(8) البحر المحيط (1 / 24) .
(9) التفسير القيم، ص (68) .
(10) تفسير الكبير، للرازي (1 / 247) , انظر: روح المعاني، للآلوسي (1 / 87) .
(11) تفسير الكبير، للرازي (1 / 247) , انظر: روح المعاني، للآلوسي (1 / 87) .
(12) تفسير الكبير، للرازي (1 / 247) , انظر: روح المعاني، للآلوسي (1 / 87) .
(13) روح المعاني (1 / 87) .
(14) التحرير والتنوير (1 / 185) .
(15) التفسير الكبير (1 / 247) .
(16) البرهان في توجيه متشابه القرآن، للكرماني، ص 20.
(17) البرهان في توجيه متشابه القرآن، ص 20 , وفتح الرحمن , لزكريا الأنصاري، ص 1.
(18) أبو السعود (1 / 27) .
(19) مقدمة جامع التفسير، للراغب الأصفهاني.
(20) البحر المحيط (1 / 25) .
(21) روح المعاني، للآلوسي (1 / 90) .
(22) روح المعاني، للآلوسي (1 / 90) .
(23) أبو السعود (1 / 27) .
(24) التحرير والتنوير (1 / 186) .
(25) البسيط (1 / 325) .
(26) روح المعاني، للألوسي (1 / 90) .
(27) تفسير ابن كثير (1 / 47 - 48) , نظم الدرر (1 / 37) , التفسير الكبير (1 / 247) , روح المعاني (1/ 88) .
(28) تفسير ابن كثير (1/47 - 48) , نظم الدرر (1 / 37) , التفسير الكبير (1 / 247) , روح المعاني (1/ 88) .
(29) التحرير والتنوير (1/ 186) .
(30) التحرير والتنوير (1/ 186) .
(31) تفسير ابن مسعود (1 / 28) .
(32) التفسير الكبير (1 / 247) .
(33) روح المعاني، للآلوسي (1 / 88) .
(34) انظر تفسير ابن كثير (1 / 47 - 48) , وفتح القدير (1 / 22) ، والتفسير الكبير , للرازي
(1 / 247) .
(35) التفسير الكبير (1 / 247) .
(36) روح المعاني، للآلوسي (1/ 88) .
(37) تفسير ابن جرير (1 / 163) .
(38) مسائل الرازي وأجوبتها، ص 2 , فتح الرحمن , ص 10، مقدمة جامع التفاسير، للراغب الأصفهاني، ص 129 , وانظر: البسيط، للواحدي - رسالة دكتوراة (1 / 326) بتحقيق محمد الفوزان.
(39) تفسير ابن سعدي (1 / 35) .
(40) مدارج السالكين، التفسير القيم، ص (67) .
(41) مدارج السالكين، التفسير القيم، ص (67) .
(42) مدارج السالكين، التفسير القيم، ص (67) .
(43) مدارج السالكين، التفسير القيم، ص (67) .
(44) التفسير القيم ص (67) .
(45) التفسير القيم ص (67) .
(46) التفسير القيم ص (67) .
(47) فتح القدير، للشوكاني (1 / 23) مقدمة جامع التفسير (129) , البحر المحيط (1 / 25) .
(48) التفسير الكبير، للرازي (1 / 253) .
(49) روح المعاني، للآلوسي (1 / 88) والتحرير والتنوير (1 / 186) .
(50) التحرير والتنوير (1 / 186) .
(51) التفسير الكبير، للرازي (1 / 253 - 254) .
(52) تفسير أبي السعود (1 / 27) .
(53) تفسير أبي السعود (1 / 28) ، وانظر التحرير والتنوير (1 / 187) .
(54) انظر روح المعاني (1 / 88) .
(55) الطراز المتضمن أسرار البلاغة وحقائق الإعجاز , ليحيي بن حمزة العلوي اليماني 2 / 121 وانظر: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر , لضياء الدين ابن الأثير (2 / 181) .
(56) التحرير والتنوير (1 / 180) , وانظر البرهان، للزركشي (3 / 314) .
(57) الطراز المتضمن أسرار البلاغة وحقائق الإعجاز , ليحيي بن حمزة العلوي اليماني 2 / 131 وانظر: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر , لضياء الدين ابن الأثير (2 / 181) .
(58) الطراز المتضمن أسرار البلاغة وحقائق الإعجاز , ليحيي بن حمزة العلوي اليماني 2 / 131 وانظر: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر , لضياء الدين ابن الأثير (2 / 181) .
(59) انظر الطراز (2 / 133) وما بعدها، والمثل السائر (2 / 181) وما بعدها.
(60) البحر المحيط (1 / 24) .
(61) انظر تفسير أبي السعود (1 / 25 - 26) , وانظر البحر المحيط (1 / 24) .
(62) التفسير الكبير , للرازي (1 / 252) بتصرف.
(63) التفسير الكبير , للرازي (1 / 252) بتصرف.
(64) روح المعاني (1 / 89) .(158/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أحكام اللُّقَطَة
رأفت الحامد
أولاً: تعريف اللقطة:
اللقطة في اللغة: من اللقط، واللَّقْط - بسكون القاف - أخذ الشيء، ومنه
قوله - تعالى -: [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ] (القصص: 8) .
شرعاً: مال محترم، غير محرز، لا يعرف الواجد مستحقه.
توضيح التعريف: «مال محترم» : هو المال المعصوم الذي لا يجوز لأحد
التصرف فيه بغير إذن صاحبه [1] .
- ويخرج بقيد «غير محرز» الأموال المحفوظة في مواضع مصونة.
- ويخرج بقيد «لا يعرف الواجد مستحقه» ما عُرف مستحقه، وما ليس له
مستحق من الأموال العامة المباحة التي هي لآخذها.
ثانياً: أركان اللقطة؛ وهي ثلاثة:
1 - اللقط.
2 - الملتقط.
3 - الملقوط [2] .
الركن الأول: اللقط:
وهو وضع اليد على الملقوط، وفيه معنى الأمانة والولاية ابتداءاً، ومعنى
الاكتساب والتملك انتهاءً.
حكم اللقط:
مذهب الحنفية والشافعية هو استحباب اللقط، وعند المالكية [3] والحنابلة هو
كراهة اللقط. وقد يكون اللقط دائراً على الأحكام التكليفية الخمسة [4] :
1 - اللقط الواجب: إذا خيف على المال الضائع التلف، وتعين اللقط طريقاً
لحفظها.
2 - اللقط المندوب: عند عدم خوف التلف عليها، ووثوق الملتقط بنفسه
وقدرته على التعريف.
3 - اللقط المحرم: عندما يأخذ الملتقط المال الضائع لا لحفظه ورده إلى
صاحبه بل لتملكه.
4 - اللقط المكروه: وذلك في حق من يشك في أمانة نفسه.
5 - اللقط المباح: إذا استوى الترك واللقط.
قال الحافظ ابن حجر: «ومن ثم كان الأرجح من مذاهب العلماء أن ذلك
يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فمتى رجَح أخذها فوجب أو استحب، ومتى
رجَح تركها حرم أو كره وإلا فهو جائز» [5] .
الإشهاد على الالتقاط:
يجب الإشهاد على الالتقاط؛ بأن يُشْهِدَ الملتقطُ عليه رجلاً عدلاً واحداً فأكثر
لحديث عياض بن حمار مرفوعاً: «من وجد لقطة فليُشهِدْ ذا عدل في لفظ
(ذوي عدل) لا يكتم ولا يُغيِّب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه؛ وإلا فهو مال الله
يؤتيه من يشاء» [6] .
والوجوب مذهب الظاهرية [7] وقول عند الشافعي، وإليه ذهب
الشوكاني [8] والصنعاني [9] ، وذهب الحنابلة [10] والمالكية - وقول عن
الشافعي [11]- إلى استحباب الإشهاد احتياطاً.
وسبب الوجوب: أنه يمتنع به من الخيانة، وأنه قد يموت فجأة فتصير اللقطة
من تركته فتفوت على مالكها.
كيفية الإشهاد: فيه طريقتان:
الأولى: يُشهِد أنه وجد لقطة ولا يُعلِم بالعِفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك
الكاذب إلى أخذها.
الثانية: يُشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث.
وأشار بعض الشافعية إلى التوسط بين الوجهين، فقالوا: لا يستوعب
الصفات ولكن يذكر بعضها. قال النووي: «وهو الأصح» [12] .
- ما تقدم في حكم الالتقاط والإشهاد إنما في غير التقاط الحيوان من الجمادات
وما يشبهها.
التقاط الحيوان:
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى القول بعدم التقاط
الحيوان للنهي الوارد في حديث زيد بن خالد، وحمل بعضهم النهي على من التقطها
ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول للشافعية [13] ، وأما الحنفية فقد جعلوا
الحيوان كغيره في حكم الالتقاط.
والصحيح أنه لا يجوز لقط الإبل لما ورد مرفوعاً من حديث زيد بن الحارث:
«ما لك ولها؟ ! معها حذاؤها وسقاؤها: ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها
ربها» [14] ، وهو كما سبق؛ فإن الجمهور قاسوا على الإبل كل حيوان يقوى على
الامتناع من صغار السباع [15] ، ويقوى على ورود الماء، وذهبوا إلى جواز التقاط
الإبل من قِبَل الإمام أو نائبه عند الضرورة كحالة الخوف عليها من الهلاك، أو
النهب في أوقات اضطراب الأمن، وإن كان الملتقط من العامة لزمه تسليمها للإمام.
أما ضالة الغنم فيجوز التقاطها لما ورد في حديث زيد بن خالد صريحاً:
«خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» [16] ، وقاس عليها الجمهور
ما يشبهها في الضعف واحتمال الضياع [17] .
التقاط لقطة الحاج:
جاء في الشرع ما يدل على النهي عن لقطة الحاج، أي التقاط ما ضاع من
الحاج أو ما ضاع في مكة المكرمة لحديث أبي هريرة مرفوعاً: « ... ولا يلتقط
ساقطتها - أي مكة - إلا منشد» [18] . ولحديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لقطة الحاج» [19] [20] ، وحمل
الفقهاء هذا النهي عن التقاطها للتملك لا للتعريف كما هو نص الحديث، وهذا
مذهب الظاهرية [21] ، ورواية عن الشافعي [22] ، ورواية عن أحمد [23] واختارها
الشوكاني [24] . وذهب الحنفية [25] ، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في رواية
عنه [26] إلى أنه لا فرق بين لقطة الحرم وغيره.
والصحيح أن هذا الحكم من خصوصيات بلد الله الحرام.
الركن الثاني: «الملتقط» :
وهو من له أهلية الاكتساب أو الاحتفاظ. قال النووي في صفته: «أن يكون
حراً، مسلماً، مكلفاً، أمينا» [27] ، ومن أهل العلم من أجاز التقاط الذمي؛ لأنه
من أهل الاكتساب، فهو كالمسلم [28] .
وكذلك الصغير والمجنون والسفيه، فإذا التقط واحد منهم مالاً ضائعاً ثبتت يده
عليه؛ لأنه اكتساب فيصح منه، كالاصطياد والاحتطاب، ولكن يختلف ناقص
الأهلية كالمجنون والصغير في أن وليه ينزع اللقطة منه ويتولى حفظها وتعريفها،
هذا عند الشافعية [29] والحنابلة [30] ، فأما الحنفية فيصح عندهم التقاط الصبي ولا
يصح التقاط المجنون [31] .
تعدد الملتقط:
1 - لو التقط اثنان مالاً ضائعاً، ثم ترك أحدهما حقه منه للآخر لم يسقط
حقه [32] .
2 - لو أقام كلاهما البينة على أنه هو الملتقط وحده ولا تاريخ في البينتين،
تبقى اللقطة لمن هي بيده؛ لأنه صاحب اليد عليها.
3 - لو أمر إنسان آخر بالتقاط شيءٍ رآه فالتقطه فهو للآمر إن قصد ذلك
الملتقط، وإن قصد أنها له وللآمر فلهما [33] .
4 - إن رأياها معاً فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه
فأخذها فهي لآخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد [34] .
الركن الثالث: «الملقوط» :
وهو المال المحترم شرعاً الذي لا يعرف الملتقط مالكه، وهو إما حيوان
ويسمى «ضالة» أو غير حيوان ويسمى «لقطة» ، أما المال المباح فلا يصير
لقطة؛ لأنه ليس له مالك.
ذكر ما يشتبه في كونه لقطة أو مملوكاً لا يعرف مالكه:
1 - إذا أخذ ثياب غيره أو متاعه أو حذاءه قصداً أو سهواً وترك غيره؛ فهل
يعتبر المتروك لقطة عند المأخوذة ثيابه أم لا؟ الجواب: إن لم يتعمد الأخذ
فالمتروك لقطة، وإن تعمد الأخذ جاز للمأخوذة ثيابه بيع المتروك، واستيفاء حقه
منه، ومن أهم علامات تعمد الأخذ أن يكون المأخوذ أفضل من المتروك. ولو كان
المتروك خيراً من المأخوذ أو مثله دل ذلك على السهو والغفلة؛ فهو بمنزلة الضائع
تجري عليه أحكام اللقطة [35] .
2 - ومن ترك مختاراً دابة بمهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها من
الهلاك فهي له؛ لأنها كالمال المباح؛ لِمَا أخرجه أبو داود بسند حسن عن رجال من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: «من وجد دابة قد عجز عنها أهلها
أن يعلفوها، فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له» [36] . وهذا مذهب الحنابلة [37] ،
وقال مالك والشافعي وابن المنذر: هي لمالكها، والآخر متبرع [38] .
فإذا تحققت الأركان الثلاثة السابقة فعليه:
أولاً: معرفة اللقطة:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد بمعرفة اللقطة، فقال:
«اعرف عِفاصها ووِكاءها» .
والوِكاء: هو الخيط الذي يربط به، والعِفاص: هو الوعاء الذي تكون فيه
النفقة [39] .
والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة [40] .
يلحق بذلك كل ما يلزم لمعرفة اللقطة ويبين أوصافها مثل جنسها ونوعها
وقدرها وما تتميز به، وكل هذا لمعرفة صدق أوصافها إذا ادُّعي ملكيتها [41] ، وقال
الحافظ: «اختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر
الأمر» [42] .
وعند التعريف باللقطة يستحب بعض أهل العلم كتابة أوصافها خوف النسيان،
هذا قول الإمام أحمد والنووي [43] .
وجوب تعريف اللقطة:
معنى التعريف: إشاعة الخبر في الناس حتى يمكن وصول علمها إلى
صاحبها.
صورة تعريف اللقطة: بأن يذكر للناس عينها ولا يبين أوصافها بل يذكرها
بوصف عام، وأجاز الحنابلة [44] ذكر جنسها من ذهب أو فضة، وقال الشافعية:
يفصل ذكر أوصافها، ويحرم استيعابها، والأوْلى الأخذ بالاحتياط، والإيغال في
الإبهام.
ويؤخذ وجوب التعريف من قوله صلى الله عليه وسلم: «عرفها سنة» وقد
قال بهذا الجمهور [45] .
وقد ورد في السنة ما يدل على تحريم أخذ اللقطة بنية التملك وعدم التعريف؛
فمن ذلكم ما رواه مسلم عن زيد بين خالد مرفوعاً: «من آوى ضالة فهو ضال ما
لم يعرِّفها» [46] . وعن الجارود مرفوعاً: «ضالة المسلم حرق النار» [47] .
ويستثنى من هذا الوجوب ما يلي:
1 - ما يعلم أن مالكه لا يطلبه، كقشر الرمان أو النوى، ونحو ذلك مما
يرميه الناس، ولكنه إذا وجده في يد الملتقط فله أن يأخذه؛ لأن إلقاءه يفيد إباحة
الانتفاع به من ملتقطه، ولا يفيد التمليك، وملك المبيح لا يزول بالإباحة، وإن كان
للمباح له الانتفاع به [48] ، وعند الحنابلة يملكه الملتقط؛ لأن صاحبه تخلى عنه.
2 - اللقطة التافهة: إذا كانت مما يؤكل، ويتسارع إليها الفساد كالتمرة،
ونحوها لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال:
«لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها» [49] ، فظاهر الحديث يدل
على عدم اشتراط التعريف، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية [50] .
3 - اللقطة اليسيرة: إذا لم تكن مما يؤكل، فهذه لا يجب تعريفها عند
المالكية والحنابلة، وهو مما لا تتبعه همة أوساط الناس لما رواه أبو داود عن جابر
قال: «رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل،
وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» [51] ، ولكن يرد عليه ما رواه أحمد من حديث
يعلى بن مرة مرفوعاً: «من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهماً أو شبه ذلك فليعرِّفها
ثلاثة أيام؛ فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام» [52] ، وزاد الطبراني: «فإن
جاء صاحبها، وإلا فليتصدق بها» . قال الشوكاني: «وفي إسناده عمر بن عبد
الله بن يعلى، وقد صرح جماعة بضعفه؛ فإذا صح هذا الحديث حمل على الذي
قبله؛ فيكون تعريف اللقطة اليسيرة ثلاثة أيام حملاً للمطلق على المقيد [53] .
قال النووي:» أما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمناً يظن أن فاقده لا يطلبه
في العادة أكثر من ذلك الزمان « [54] .
4- إذا خشي الملتقط من الاستيلاء على لقطته ظلماً من قِبَل ذي سلطان جائر
لم يجز له التعريف، وتكون أمانة عنده، وهذا قول عند الشافعية [55] .
مدة التعريف:
الأصل في مدة التعريف سنة كاملة، وهو ما دل عليه حديث خالد بن زيد في
قوله صلى الله عليه وسلم:» عرفها سنة «متفق عليه، وهذا محل إجماع، قال
ابن قدامة:» لا نعلم فيه خلافاً « [56] .
ويستثنى من هذا الأصل ما يلي:
1 - إذا كانت اللقطة يسيرة فيعرفها ثلاثة أيام أو زمناً يظن بعده أن فاقدها لا
يطلبها.
2 - ما يخشى فساده إذا كان كثيراً أو يسيراً كالفاكهة والخضروات فإنه
يعرِّفها مدة لا يخشى فيها عليه الفساد، وهذا قول الحنفية والحنابلة.
زمن التعريف:
يكون التعريف في الأوقات المناسبة - كالنهار مثلاً - ويتكرر بالقدر الذي
يحصل به مقصود التعريف حتى يمكن وصول خبرها إلى صاحبها [57] .
قال ابن الهُمام:» واعلم أن الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفاً
وعادة، وإن ظرفية السنة للتعريف يصدق بوقوعه مرة واحدة، ولكن يجب حمله
على المعتاد من أنه يفعله وقتاً بعد وقت، ويكرر ذلك كلما وجد مظنة « [58] .
الفورية في التعريف:
الراجح في التعريف أنه واجب على الفور، ولا يجوز تأخيره عن زمن
تطلب فيه اللقطة عادة، وهذا يختلف باختلاف مقدارها [59] .
مكان التعريف:
يجري التعريف في الأماكن التي يظن فيها بلوغ خبرها إلى صاحبها، وأوْلى
هذه الأماكن مكان التقاطها [60] ، ويعرف في:
- مجامع الناس كالأسواق، وأبواب المساجد [61] ، الصحف، الإعلانات
الكبيرة المعلقة، الإذاعة.
من يتولى التعريف:
يتولى أمر التعريف الملتقط، أو نائبه [62] ، ويشترط أن يكون عاقلاً، فلا
يصح تعريف السفيه عند الشافعية إنما يجب على وليه [63] ، ولا يعتد بتعريف
الفاسق؛ لأنه يخون، وكذلك لا يعتد بتعريف الصبي غير المميز، والمجنون،
ويتولى ذلك وليهما، ويعتد بتعريف الصبي المميز [64] .
مؤنة التعريف:
يتحمل الملتقط مؤنة التعريف عند الحنفية والحنابلة [65] ، وعند المالكية
يتحملها صاحب اللقطة [66] ، وعند الشافعية لا يتحملها الملتقط إن كان قصده حفظها
لصاحبها، ويجعلها القاضي من بيت المال قرضاً أو يبيع قسماً منها لنفقة تعريفها.
وإن كان التقطها لتعريفها ثم تملكها إن لم يظهر صاحبها فمؤنة التعريف تكون على
الملتقط، وإذا كان الملتقط صبياً أو مجنوناً فيعرفها الولي، ولكنه لا يدفع مؤنة
التعريف من مال الصبي والمجنون؛ إنما يرفع الأمر إلى القاضي ليبيع قسماً من
اللقطة أو ليقترض على حساب مالك اللقطة، ومالَ صاحب» الإنصاف «الحنبلي
إلى قول الشافعية [67] .
مسألة: إذا قام الملتقط بالتعريف؛ فيتصور أحد حالين:
- أن يأتي صاحبها ويطالب بها أثناء مدة التعريف، أو أن تنتهي مدة
التعريف ولا يطالب بها أحد.
ففي الحالة الأولى: يجب دفع اللقطة إلى من يذكر أوصافها ولا يشترط إقامة
البينة، ولا اليمين لوجوب الدفع لقوله؛ لظاهر الحديث. قال عليه الصلاة والسلام:
» فإن جاءك أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها فادفعها إليه «رواه البخاري
عن أبي بن كعب، ومسلم عن سلمة بن كهيل، واللفظ له [68] ، ولا يضمن الملتقط
إذا ظهر مستحق للقطة، ولهذا المستحق الرجوع إلى الواصف الآخذ فقط، وهذا
ظاهر مذهب الحنابلة والمالكية وأهل الظاهر، وهو الراجح، وعند الحنفية
والشافعية لا بد من البينة [69] .
وأما الحالة الثانية: تدخل اللقطة في ملك الملتقط عند تمام مدة التعريف غنياً
كان أو فقيراً، وتورث عنه؛ فإن جاء صاحب اللقطة ضمنها له إن كان حياً أو
ضمنه له الورثة إن كان الملتقط ميتاً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة [70] ،
واستدلوا بما رواه زيد بن خالد مرفوعاً:» فإن لم تعرف فاستنفقها «، وفي لفظ:
» وإلا فهي كسبيل مالك «، وفي لفظ:» فشأنك بها «، وفي لفظ:» فاستمتع
بها «، وفي لفظ:» فاخلطها بمالك «، والمعنى واحد. قال الحافظ:» الأمر
للإباحة؛ فتكفي النية للتملك وهو الأرجح دليلاً « [71] .
وذهبت المالكية إلى أن الملتقط إذا كان فقيراً فإن له أن يأكل، وإن كان غنياً
فإنه يتصدق بها، ويجوز أكلها بعد الحوْل [72] ، وذهبت الحنفية إلى أن الملتقط إذا
كان فقيراً فإنه يملكها، وإن كان غنياً فإنه يتصدق بها ولا يأكلها [73] ، قلت:
الراجح قول الشافعية والحنابلة لقوة ما استدلوا به، والله أعلم، ونسبة العلم إليه
أسلم.
ضمان اللقطة:
تعتبر اللقطة أمانة، أو مضمونة بيد ملتقطها حسب نيته.
1 - فإن كان قد التقطها بنية حفظها وردها لصاحبها فهي أمانة فلا يضمنها
إلا بالتعدي والتقصير [74] .
2 - وإن كان قد التقطها بنية أخذها لنفسه وعدم ردها إلى صاحبها فهي
مضمونة عنده؛ لأنها بحكم المغصوب، وهذا قول الجمهور [75] ، وتعرف نية
الملتقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالتصديق والإشهاد [76] .
فإذا هلكت اللقطة وجاء صاحبها، وصدق الملتقط بأنه أخذها للحفظ والرد فلا
ضمان عليه لثبوت أمانته بهذا التصديق، وإن كذبه المالك وكان الملتقط قد أشهد
على التقاطه فلا ضمان عليه لظهور أمانته بالإشهاد، وإن لم يكن قد أشهد فتثبت
أمانته بيمينه؛ لأن القول قول الأمين مع اليمين، وهذا قول أبي يوسف، والمالكية،
والشافعية، والحنابلة.
3- وإذا التقطها بنية الحفظ والرد ثم رد اللقطة إلى مكانها الذي أخذها منه؛
فلا ضمان عليه عند الحنفية [77] والمالكية، وعند الشافعية والحنابلة [78] يضمن؛
لأنها صارت أمانة في يده فلزمه حفظها [79] ، ورُد عليهم بأنه قد يأخذها على ظن
قدرته على حفظها فتبين له عجزه فردها، أو يكون أخذها ليعرف صفاتها ثم يرشد
صاحبها إلى مكانها.
أحكام الضالة:
اعلم أخي الكريم أن وصف الضالة لا يقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال
له لقطة [80] . وضالة الحيوان على نوعين:
النوع الأول: ضالة الإبل، وما يشبهها.
النوع الثاني: ضالة الغنم، وما يشبهها.
فأما النوع الأول: وهو ضالة الإبل، وما يشبهها فوصفها كما يلي:
1 - أن تصل بنفسها إلى المرعى والماء.
2 - أن تمتنع على صغار السباع، إما: بقوة جسمها كالبقر والخيل، أو
ببعد أثرها لسرعة عَدْوِها كالظباء والأرنب، أو بجناحها لسرعة طيرانها كالحمام،
أو بنابها كالكلاب والفهود.
فهذا النوع لا يجوز التقاطه؛ لأنه يقوم بحفظ نفسه [81] .
مسائل تتعلق بهذا النوع:
1 - سبق أنه لا يجوز لقط الإبل وما في معناها، وهذا قول الجمهور،
وحكمة النهي عن التقاط الإبل:» أن بقاءها حيث فقدت أقرب إلى وجدان مالكها
لها من تطلُّبه لها في رحال الناس « [82] ، وقال بعضهم:» لاستغنائها عن الحافظ
والمتفقد « [83] .
2 - لولي الأمر أو نائبه أخذ ضوال الإبل، وما يشبهها في الامتناع من
صغار السباع، على وجه الحفظ لصاحبها، ولا يلزمه تعريفها [84] .
3 - على ولي الأمر أن يجعل لها حمى ترعى فيه حتى يأتي صاحبها، وإذا
رأى أن المصلحة في بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها جاز له ذلك [85] .
4 - ولو التقطها غير الإمام لم يجز له ذلك، ويكون ضامناً لها ولا يبرأ إلا
بردها إلى صاحبها، وإذا ردها إلى مكانها لا يبرأ ولا يمتلكها بعد مضي سنة إذا لم
يحضر مالكها [86] .
5 - وعلى مدعي ملكيتها إقامة البينة، ولا يكتفى منه بالوصف؛ لأنها كانت
ظاهرة بين الناس.
وأما النوع الثاني: وهو ضالة الغنم وما يشبهها؛ فوصفها كما يلي:
1 - أن يعجز عن الوصول إلى الماء والمرعى.
2 - ألاَّ يمتنع من صغار السباع فلا يدفع عن نفسه افتراس الأذى، كصغار
الإبل وهي الفصلان، وصغار البقر وهي العجول، وصغار الخيل وهي الأفلاء،
والدجاج والأوز [87] .
مسائل تتعلق بهذا النوع:
1 - سبق أنه يجوز التقاط ضالة الغنم، وما في معناه، وحكمة أخذ ضالة
الغنم: هي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على
مالكها [88] .
2 - يخير ملتقط الغنم بين ثلاثة أمور:
أ - أكلها، وعليه قيمتها إذا ظهر صاحبها، وهذا قول المذاهب الأربعة [89] ،
إلا أن الإمام مالكاً أجاز الأكل، ومنع القيمة على الملتقط، والصحيح الأول [90] .
ب - بيعها وحفظ ثمنها حتى يظهر صاحبها بعد معرفة أوصافها [91] .
ج - حفظها لصاحبها، والإنفاق عليها دون أن يتملكها، وتكون النفقة من قِبَل
الملتقط، على جهة التطوع عند الشافعية والحنابلة، وفي رواية أخرى عن
مالك [92] .
3 - وإذا تلفت ضالة الغنم فعلى الملتقط الضمان، وهذا قول الجمهور [93] ،
وعند الشافعية لا ضمان على الملتقط؛ لأن يده يد أمانة [94] ، وعند الحنابلة
التفصيل: فإن فرط فعليه الضمان، وإلا فلا [95] وهو الأظهر.
4 - يجب تعريف ضالة الغنم سنة كاملة عند الجمهور، وقال مالك: لا
تعريف في ضالة الغنم [96] . قال ابن قدامة:» ولنا أنها لقطة لها خطر؛ فوجب
تعريفها كالمطعوم الكثير، وإنما ترك ذكر تعريفها؛ لأنه ذكرها بعد بيانه التعريف
فيما سواها، فاستغنى بذلك عن ذكره فيها، ولا يلزم من جواز التصرف فيها في
الحول سقوط التعريف كالمطعوم [97] .
نماء الضالة:
ينقسم نماء الضالة إلى قسمين:
الأول: نماء متصل بالضالة كسمنها، وهذا يكون لمالكها إذا استردها.
الثاني: نماء منفصل عن الضالة كنسلها، وفي هذه الحالة ينظر إن حدث قبل
التملك فهي للمالك، وإذا كان النماء بعد التملك فهو للملتقط؛ لأنه نماء حصل في
ملكه فيكون له [98] [*] .
__________
(1) سبل السلام (3/120) .
(2) السلسبيل (2/ 597) .
(3) الاستذكار (22/326) .
(4) المجموع (6/137) .
(5) فتح الباري (5/111) .
(6) المسند (4/266) ، سنن أبي داود (2/335) برقم 1709، سنن ابن ماجه، (2/837) برقم 2505، موارد الظمآن، ص 284 رقم 1169، وهو صحيح.
(7) المحلى (5/257) .
(8) نيل الأوطار (5/339) .
(9) سبل السلام (3/119) .
(10) المغني (6/362) .
(11) روضة الطالبين (4/471) .
(12) نيل الأوطار (5/339) .
(13) الفتح (5/96) .
(14) البخاري برقم 2427 (5/96 الفتح) ، ومسلم برقم 1722 (12/20 27) .
(15) الفتح (5/97) ، نيل الأوطار (5/345) .
(16) البخاري (2427) ، مسلم (1722) .
(17) المغني (6/390) .
(18) البخاري برقم 2434، (5/104) الفتح، مسلم برقم: 1724، (9/126) النووي.
(19) رواه مسلم، ح/ 1724.
(20) أبو داود كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة رقم (1719) .
(21) المحلى (5/258) .
(22) المجموع (16/134) .
(23) المغني (6/360) .
(24) نيل الأوطار (5/344) .
(25) حاشية ابن عابدين (6/437) .
(26) المغني (6/360) .
(27) المجموع (16/134) .
(28) المغني (6/389) ، وفي المجموع (16/176) ، ذكر روايتين، أصحهما أنه يمكّن منه.
(29) المجموع (16/173) .
(30) المغني (6/386) .
(31) حاشية ابن عابدين (6/435) .
(32) المغني (6/356) .
(33) المصدر السابق.
(34) المصدر السابق.
(35) المغني (6/373) ، السلسبيل في معرفة الدليل (2/601) .
(36) صحيح الجامع رقم (6584) .
(37) المغني (6/400) .
(38) المغني (6/400) .
(39) المصدر السابق.
(40) الفتح (1/225، 5/ 98) ، وشرح مسلم (12/21 نووي) ، وإحكام الأحكام (2/159) .
(41) الفتح (5/98) .
(42) المصدر السابق.
(43) المغني (6/363) ، وروضة الطالبين (4/453) .
(44) المغني (6/350) .
(45) المجموع (6/141) ، وقد نقل الإجماع عليه، المغني (6/347) ، الإحكام (2/159) ، سبل السلام (3/117) ، نيل الأوطار (50/340) ، شرح مسلم (12/22) .
(46) مسلم برقم (1725) ، النووي (12/28) ، المسند برقم (16607) ، (4/116) ، وضال: بمعنى مائل عن الحق.
(47) سنن الترمذي (1882) ، المسند برقم (20230) ، (5/ 80) ، سنن الدارمي برقم.
(2602) ، (2/665) ، جامع الأصول (10/710) .
(48) حاشية ابن عابدين (6/436) .
(49) البخاري برقم (2431) ، الفتح (5/103) ، ومسلم بشرح النووي (8/177) .
(50) المغني (6/351) ، المجموع (16/146) ، السبل (3/116) .
(51) رواه أبو داود، ح/ 1459.
(52) رواه أحمد بسند ضعيف، المسند برقم (16908) ، ويحسنه بعضهم.
(53) نيل الأوطار (5/337 338) بتصرف.
(54) شرح مسلم (12/22) ، حاشية ابن عابدين (6/436) .
(55) نهاية المحتاج، للرملي (5/434) ، وما بعدها زيدان.
(56) المغني (6/348) ، وانظر: من هامش 2 6، فتح القدير (6/114) .
(57) المغني (6/349) .
(58) فتح القدير (6/115) .
(59) المغني (6/349) ، نيل الأوطار (5/340) .
(60) نيل الأوطار (5/340) .
(61) الفتح (5/98) ، شرح مسلم (12/22) ، المجموع (6/145) ، المغني (6/349) ، حاشية ابن عابدين (6/436) .
(62) نيل الأوطار (5/340) .
(63) المجموع (16/173) .
(64) المجموع (16/175) ، المغني (6/350) .
(65) حاشية ابن عابدين (6/349) ، السلسبيل (2/599) .
(66) المدونة (4/457) .
(67) السلسبيل (2/599) .
(68) شرح مسلم (12/23) ، نيل الأوطار (5/342) ، سبل السلام (3/117) ، السلسبيل.
(2/601) ، المدونة (4/456) .
(69) فتح القدير (6/121) ، المجموع (16/154) .
(70) المجموع (16/150) ، المغني (6/354) .
(71) الفتح (5/99، 101) ، شرح مسلم (12/23) ، سبل السلام (3/118) .
(72) المدونة (4/455) ، بداية المجتهد (2/229) .
(73) حاشية ابن عابدين (6/438) ، سبل السلام (3/118) ، بداية المجتهد (2/292) .
(74) المغني (6/366) ، شرح مسلم (12/24) ، نيل الأوطار (5/343) .
(75) المغني (6/361) ، فتح القدير (6/112) .
(76) فتح القدير (6/112) .
(77) حاشية ابن عابدين (6/435) .
(78) الإنصاف (6/421) ، الرملي (5/435) ، حاشية الدسوقي (3/121) زيدان.
(79) المجموع (16/158) ، المغني (6/368) .
(80) الفتح (5/99) ، شرح مسلم (12/21) ، سبل السلام (3/117) .
(81) المغني (6/396، 397) ، المجموع (16/107) .
(82) الفتح (5/97) .
(83) إحكام الأحكام (2/160) .
(84) المجموع (6/158) ، المغني (6/398) ، نيل الأوطار (5/345) .
(85) المغني (6/399) .
(86) المغني (6/398) .
(87) المجموع (16/159) ، المغني (6/390) .
(88) إحكام الأحكام (2/160) .
(89) المجموع (16/159) ، المغني (6/392) .
(90) الفتح (5/99) .
(91) المغني (6/392، 394) .
(92) المجموع (16/159) ، المغني (6/394) .
(93) الفتح (5/102) .
(94) المجموع (16/159) .
(95) المغني (6/395) .
(96) المجموع (16/159) ، المغني (6/390) ، شرح مسلم (12/23) ، السلسبيل (2/ 598) ، الفتح (5/99) .
(97) المغني (6/394) .
(98) المجموع (16/151) ، الفتح (5/120) ، شرح مسلم (12/22) .
(*) انظر: في هذا الموضوع أيضاً كتاب (أحكام اللقطة في الشريعة الإسلامية) ، د عبد الكريم
زيدان، ويحسن الرجوع إليه.(158/18)
دراسات في الشريعة والعقيدة
دمعة على حب النبي صلى الله عليه وسلم
نظرات متأملة للواقع في حب النبي صلى الله عليه وسلم
(2 - 2)
عبد الله الخضيري
في الحلقة السابقة أومأ الكاتب إلى أن الحب أسمى العلاقات وأرقها، ليقف بنا
على المستوى الذي يبلغه محب الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يلاقيه هذا الحب
في أيامنا هذه من إهدار من قبل وسائل الإعلام، وقد قدَّم لنا في تلك الحلقة صوراً
من حب المسلمين وتقديرهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وما كان يفعله علماؤهم إذا
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عندهم أو حدثوا عنه في دروسهم؛ فقد ذكر عن
مالك - رحمه الله - أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني،
ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله بن مهدي أنه كان إذا قرأ حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم،
وغير ذلك من المواقف والمشاهد.
- البيان -
ومن صور الجفاء الممض الذي طبقه الكثيرون - من غير استشعار للجفاء -
هجر السنن المكانية؛ وشواهد هذا الجفاء في حياتنا كثيرة؛ فترى من الناس من
يحج كل عام ويعتمر في السنة أكثر من مرة، ومع ذلك تمر عليه سنوات كثيرة لم
يعرِّج فيها على المدينة النبوية إلا أقل من أصابع اليد الواحدة، وقد يعتب بعضهم
على أهل الآفاق أو الوافدين الذين لا يقدمون الديار المقدسة في العمر إلا مرة،
ويأتون المدينة فيصلون فيها ويغتنمون أوقاتهم، وترى من أولئك الآفاقيين حرصاً لا
تكاد تجد بعضه عند سكان الجزيرة، بل يعتصر الإنسان أسى على أننا في هذه
الديار، وقلَّ منْ يهتم بالزيارة، وقد يزورها لكن على عجل وخوف من فوات
مصالح يظنها كذلك، وإن زارها فلا اهتمام بالسنن والشعائر، وهذا لعله من
النسيان والانشغال بغير السنن والبعد عن قراءة السيرة النبوية؛ فإن الإنسان بحمد
الله يجد من الأمن والأنس والطمأنينة القلبية في المدينة النبوية ما لا يجده في غيرها
إلا مكة:
ويا حبها زدني جوىً كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدكِ الحشرُ
وصلتكِ حتى قيل: لا يعرف القِلى ... وزرتكِ حتى قيل: ليس له صبر
وإني لتعروني لذكراكِ هزة ... كما انتفض العصفورُ بلَّله القَطرُ
هل الوجد إلا أن قلبي لو دنا ... من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمرُ
«وجديرٌ لِمَواطن عُمِّرت بالوحي والتنزيل، وتردَّد بها جبريل وميكائيل،
وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت
تربتها على جسد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وانتشر عنها من دين الله وسنة
رسول صلى الله عليه وسلم مدارس آيات، ومساجد، وصلوات، ومشاهد الفضائل
والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومواقف سيد المرسلين صلى الله عليه
وسلم، ومتبوّأ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم» [1] أن يُعتنى بها، وأن تحل في
القلوب وتخالط بشاشتها، وأن يكون في زيارتها ما يحدو إلى اتباع السنة وتعظيم
نبي الأمة صلى الله عليه وسلم.
ومن السنن في المدينة: الصلاة في المسجد النبوي، وهي صلاة مضاعفة،
كما قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما
سواه إلا المسجد الحرام» [2] .
ومن السنن المكانية الصلاة في مسجد قباء، وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم فيما رواه أُسيد بن ظُهير: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [3] .
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلي
في مسجد قباء ركعتين أحبُّ إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما
في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» . قال الحافظ في الفتح: «إسناده صحيح» [4] .
وهو محمول على عدم شد الرحال له خلا المسجد النبوي؛ فقد قال صلى الله
عليه وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا،
والمسجد الأقصى» [5] . «فيستحب السفر إلى مسجده» [6] .
ومما نسي في المدينة من السنن المكانية الصلاة في الروضة الشريفة، وهي
من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها؛ إذ هي من أماكن نزول
الرحمة وحصول السعادة وأسبابها [7] . وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:
«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» [8] .
قال ابن حجر - بعد أن ذكر الأقوال في المراد بمعنى الروضة -: «والخبر
مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها» [9] .
ولكن المحروم من حرم الخير وصدف عن طريقه:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر فقد راحا
ويلحق بزيارة المدينة النبوية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والسلام
عليه وعلى صاحبيه، رضي الله عنهما. وهل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
كلما دخل المسجد [10] ممن كان من أهل الآفاق؟ مسألة فيها خلاف [11] ؛ لكن
شرف الزيارة والسلام والصلاة مما أجمع عليها المسلمون، وأن يزور قبور البقيع
من الصحابة، وقبور الشهداء، وقبر حمزة رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يزورهم ويدعو لهم، ولعموم الأحاديث في زيارة القبور [12] ؛ وأن
يدعو لهم، وأن يستشعر فضائلهم، ومناقبهم، وجهادهم، وأن يلين قلبه ويتذكر
الآخرة لعل الله أن ينصر به دينه كما نصره بهم، وأن يجمعه بهم مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والله المستعان [13] .
والسنن المكانية لا تختص بالمدينة فقط، بل في غيرها، مثل مكة كالصلاة
داخل «الحِجْر» لأنه من الكعبة، أو خلف المقام، أو ما يتعلق بالبقعة في غيرهما
من الأرض مما هو مشروعٌ التعبد فيه مكاناً.
ومن الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم علمياً وتربوياً عدم معرفة
الخصائص والمعجزات التي خص الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا
مما ينبغي أن يتفطن له المتعلمون قبل غيرهم، وينبغي مراعاة الفروق بين
الخصائص والشمائل والمعجزات والكرامات، وأن الكرامات هي ما يبارك الله في
أصله مثل تكثير الطعام والاستسقاء، أو ما يحدثه الله - عز وجل -من الخوارق
التي يعجز عنها الإنس، والجن؛ فيهيئها الله لعباده من غير قاعدة سابقة [14] ، ولا
تكون الكرامات إلا لمن استقام ظاهراً وباطناً على الطريق المستقيم، وقد تجري
لغيرهم لكن ليس على الدوام. أما المعجزات فلا تكون إلا للأنبياء للاستدلال بها
والتحدي، وهي على الدوام على بابها في التعجيز، وليست من جنس الخوارق [15] .
وأما الخصائص فهي الأحكام التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم مثل
الجمع بين أكثر من أربع زوجات، والقتال في الحرم المكي. والشمائل هي:
الأخلاق الكريمة التي كانت محور حياة النبي صلى الله عليه وسلم كالعفو والصفح
والرحمة ولين الجانب.
ويزدادُ الجفاءُ سوءاً حين يبتعد المرء عن الجادة والشرع إلى سلوك الابتداع
في الدين ومشابهة حالة المخلِّطين من تعظيم مشايخ الطرق ورفعهم فوق منزلة
الأنبياء بما معهم من الأحوال الشيطانية والخوارق الوهمية، أو الغلو في الأولياء
الذين يُظَن أنهم كذلك، وإطراؤهم في حياتهم وتقديسهم بعد مماتهم، ودعاؤهم من
دون الله، والنذر لهم وذبح القرابين باسمهم، والطواف حول قبورهم أو البناء عليها،
وهذا هو الشرك الذي بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم لإزالته وهدمه وإقامة
صرح التوحيد مكانه في الأرض وفي القلوب، فأقام الله دينه، ونصر عبده، وأعز
جنده المؤمنين، وأقرَّ الله أعينهم بإزالة علائم الشرك وأوثان الجاهلية حين كان
النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها ويحطمها بيده وهو يقول: [جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ
البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] (الإسراء: 81) ، [جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ
وَمَا يُعِيدُ] (سبأ: 49) [16] . وقد قال الله - تعالى -: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]
(الأنعام: 162-163) .
ولا يخفى على عاقل مهتد عقله بنور الشريعة أن الطواف حول القبور
والأضرحة، والعكوف عندها وسؤال الموتى قضاء الحاجات، وشفاء المرضى،
أو سؤال الله بهم، أو بجاههم مما أُحدِثَ في الدين، وأن الطواف الشرعي لا يكون
إلا حول الكعبة، وأن النفع والضر والشفاعة لله وحده، كما في القرآن والسنة
والإجماع، وقد أبلغ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي نزل عليه من السماء في
سورة الجن مستجيباً لما أُمِرَ به: [قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي
لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ]
(الجن: 21-23) ؛ وهو من هو صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بغيره؟ ! ! وهذا
هو الفرقان الذي يتميز به أهل الإيمان عن غيرهم، فكل من صرف تعظيماً
للمخلوقين فإنما ينتقص من عِظَمِ الخالق تبارك وتعالى، وكل تذلل للمخلوقين فهو
ضعف وجهل، وهذا باب من الذل لا يخفى.
ومن الجفاء الذي يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويخالف هديه ودعوته، بل
يخالف الأصل الذي أرسله الله به وهو التوحيد من هذا الجفاء: الغلو في النبي
صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق منزلة النبوة وإشراكه في علم الغيب، أو سؤاله
من دون الله، أو الإقسام به، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم وقوع ذلك فقال
في مرض موته: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد
الله ورسوله» [17] .
ومعلوم أن النصارى تعبد مع الله عيسى ويسمونه: (الابن) ، تعالى
الله عما يقولون علواً كبيراً. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم من دون الله عبادة له،
والعبادة لا تصرف إلا لله وحده، وكذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ
قبره عيداً ومزاراً؛ حيث قال: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ؛ فإن
صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [18] .
ويبلغ الحد في التنفير من الغلو في ذاته صلى الله عليه وسلم أن لعن الذين
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود
والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [19] ، يحذر ما صنعوا.
ولما همَّ طائفة من الناس بالغلو فيه فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا
وابن خيرنا. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا
يستهوينكم الشيطان» [20] . ويلحق بالغلو فيه صلى الله عليه وسلم الحلف والإقسام
به، فإنه من التعظيم الذي لا يصرف إلا لله وحده، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» [21] .
ومجموع الأحاديث في هذا الباب ميزان عدل لا ينبغي الزيادة عليها ولا
النقص منها، وكل متجرد للحق يجد بغيته في تلك النصوص، والله وحده هو
الموفق.
ومن الجفاء أيضاً ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لفظاً أو خطّاً إذا مرّ
ذكره وهذا قد يحدث في بعض مجالسنا؛ فلا تسمع مصلياً عليه صلى الله عليه وسلم؛
فضلاً عن أن تسمع مذكِّراً بالصلاة والسلام عليه، وهذا على حد سواء في
المجتمعات والأفراد؛ وأي بخل أقسى من هذا البخل؟ وبهذا الجفاء يقع الإنسان في
أمورٍ لا تنفعه في آخرته ولا في دنياه، ومنها:
1- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنده
فلم يصلِّ عليّ» [22] .
2- إدراك صفة البُخل التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال:
«البخيل: من ذُكِرت عنده فلم يصلِّ عليَّ» [23] .
3- فوات الصلاة المضاعفة من الله عليه: إذا لم يصلِّ على النبي صلى الله
عليه وسلم وآله وسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليّ صلاة
صلى الله عليه بها عشراً» [24] .
4- ومنها فوات الصلاة من الله والملائكة لتركه الذكر النبوي، قال - تعالى-:
[هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]
(الأحزاب: 43) .
(فهذه الصلاة منه - تبارك وتعالى - ومن الملائكة، إنما هي سبب الإخراج
لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله - تبارك وتعالى -
وملائكته وأُخرجوا من الظلمات إلى النور، فأي خير لم يحصل لهم؟ ! ! وأي شر
لم يندفع عنهم؟ ! فيا حسرة الغافلين عن ربهم! ماذا حُرموا من خيره وفضله؟
وبالله التوفيق) [25] . كما أن في تركها وحشة القلب وفزعه لبعده عن الذكر؛ إذ
كلما أكثر المرء من الذكر ازدادت الطمأنينة في قلبه، كما قال تعالى: [الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد: 28) .
5- فوات أثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يصلِّ عليه،
كتفريج الهموم وغفران الذنوب. وفي حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم عند ذكره خلاف ليس هذا مكان بسطه [26] .
لكن من كان أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك فكيف أنت عند ذكره؟ أو
كيف أنت في الثناء عليه؟ والدعاء له؟
خيالك في ذهني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي؛ فأين تغيب؟
ورحم الله الشافعي؛ إذ يقول: «يُكرَه للرجل أن يقول: قال رسول الله،
ولكن: يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تعظيماً لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم» [27] .
ومن الجفاء ما يتقمصه الكثيرون على اختلاف في النيات، وتنوعٍ في صور
الجفاء يجمعها عدم معرفة قدر الصحابة ومنازلهم وفضائلهم وهم الجيل الأغر حظ
النبي صلى الله عليه وسلم من الأجيال، وهو حظهم من الأنبياء، لهم شرف
الصحبة كما لهم نور الرؤية، ولذا تزخر كتب السنة المطهرة بأحاديث الفضائل
والتعديل للأفراد وللعموم، للمهاجرين والأنصار، وما حظنا منها إلا الفخر بذلك
الجيل الأشم، وفي آيات التنزيل الثناء والتفضيل، ومنها قوله تعالى: [وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ]
(التوبة: 100) ، [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ العُسْرَةِ] (التوبة: 117) ، [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً] (الفتح: 10) ، وفي آية أخرى يقول تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) .
وكيف بمن ترك ماله وولده بل وخاطر بنفسه ليهاجر الهجرتين إلى الحبشة أو
يهاجر إلى المدينة مخلفاً حياة العز الظاهر في مكة؟ أَيُشَكُّ بعدُ في إيمانه وصدقه
وإخلاصه؟
وقد ألمح الله - تعالى - إلى من خالف جماعة المسلمين وشذ عنهم وترك ما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو أشار به أو ألمح إليه أو ما أقامه صلى الله
عليه وسلم مقامه فقال - تعالى -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً]
(النساء: 115) .
وأما ما وقع بينهم من الخلاف فهم بشر ليسوا بمعصومين، ومَن نحن حتى
ننصب أنفسنا حكاماً ومعدِّلين لهم؛ فلتسلم ألسنتنا كما تسلم قلوبنا، وهذا هو المذهب
الأسلم والأحكم، ثم إن «القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزرٌ مغمورٌ في جنب
فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة
والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة،
وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان
ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها
على الله» [28] .
كما ينبغي أن يعلم أن جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم لم يدخلوا في فتنة،
وقد ثبت بإسناد قال عنه ابن تيمية: «إنه من أصح إسناد على وجه الأرض» ،
عن محمد بن سيرين قال: «هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين» [29] . ولعل
حسنة من أحدهم تعدل آلاف الحسنات من غيرهم، كما في النص الآتي قريباً،
ولعل العاقل البصير المتجرد للحق وللحق وحده أن يدرك أن الله - عز وجل - لا
يختار لصحبة نبيه وملازمته من كان مفسداً للدين مُبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم؟
وقد سُئل النصارى فقيل لهم: مَنْ أفضلُ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى.
وسئلت طائفة ممن تنتسب للمسلمين: مَنْ شرُّ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم! ! وطائفتان إحداهما لمزت مريم عليها السلام بالزنا،
والأخرى لمزت عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها بالزنا؛ فتأمل - رحمك الله -
كيف يجتمع الهوى والضلال في تلك الطائفتين! ! وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدّ
أحدهم ولا نصيفه» [30] .
ولك أن تنظر في الذب عن الصحابة حينما دخل عائذ بن عمرو على عبيد الله
بن زياد كما روى مسلم فقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
» إن شر الرعاء الحُطَمة؛ فإياك أن تكون منهم «، فقال: اجلس فإنما أنت من
نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وهل كان لهم أو فيهم نخالة، إنما
كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم» [31] . وصدق - رضي الله عنه وأرضاه -:
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ
ويأتي في النهاية ما قد يكون السبب في التزام الجفاء والتقنع به وهو
الحساسية المفرطة من بعض المنتسبين إلى السنة والجماعة حيال كل ما يتصل
بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره وتعظيم أهل بيته الصالحين، سواء عند
ذكره أو ذكرهم أو القصد إلى ذكره أو ذكرهم، خشية التشبه ببعض الطوائف،
وهذا قصد في غير محله، وهذا التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يُقصد به
الخروج عن التعظيم الشرعي الوارد في الكتاب والسنة، ولا الاحتفال بالموالد، ولا
التواجد عند السماع، أو التلذذ بالمدائح وحدها، وضابط ذلك التعظيم ما كان عليه
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعرفة المحب الصادق من غيره في الاتباع،
ومن إذا ذكرت له هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثله، وانتهى عما أحدثه
في الدين، ومن إذا ذكرت له السُّنَّة تركها واتبع هواه.
وقد يحتاج هذا الكلام - أعني الحساسية المفرطة - إلى توضيح بالمثال؛ فلا
زلت أذكر أحد أهل العلم ممن له حضور في الساحة الدعوية، وكان كثير الصلاة
والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في دروسه ومحاضراته وأشعاره، فكان
يُنتقد من بعض المتعلمين بسبب ذلك؟ ! وأين هم من حديث أُبَيُّ بن كعب - رضي
الله عنه -: «أجعل لك صلاتي كلها» [32] ، وقد يقول بعضهم: إن الجافي ترى
عنده رقة في الدين وضعفاً في اليقين، بخلاف المحب الصادق؛ فإن عنده رقة
للدين وقوة في اليقين. وماذا يضير الإنسان إذا كان مقتدياً بالسنة المطهرة أن
يُصَنَّف أي تصنيف؟ أيُلام المحب على محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! ! أي
شرف هذا الشرف؟ وأي عز هذا العز؟
ولئن نطقتُ بحبهم فلي في الصالحين قبلي سلف وقدوة:
لا بد للعاشق من وقفة ... ما بين سلوان وبين غرام
وعندها ينقل أقدامه ... إما إلى خلف وإما أمام
وليمتثل القارئ الكريم بهذا العنوان الجميل لحياة المحب الصادق:
ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهمُ معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي
والزم - رعاك الله - الحقَّ، وإن كنت وحدك؛ فلا بد من أُنْسٍ وإن طال
الطريق وكثر قُطّاعه، والله وحده هو الهادي.
__________
(1) الشفا، لعياض، 2/622.
(2) البخاري: (119) ، ومسلم: (1394) .
(3) الترمذي ح/ 323، وابن ماجه ح/ 1414، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: ح/ 267.
(4) لمزيد من البحث في هذا الحديث وأسانيده وطرقه انظر: أخبار المدينة النبوية لابن شبة، تعليق الشيخ عبد الله الدويش، (1/43 45) وانظر الأحاديث الواردة في فضائل المدينة جمعاً ودراسة/ صالح الرفاعي رسالة دكتوراه، طبعة مجمع الملك فهد، ص 534 536 وانظر تعليق ابن باز على فتح الباري: (3/89 85) .
(5) البخاري: ح/1189، ومسلم: ح/ 1397.
(6) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 1/234.
(7) انظر فتح الباري، (4/125) ، مدارج السالكين، لابن القيم، (3/260) .
(8) البخاري، 1196، ومسلم: 1391، وانظر فتح الباري، (3/90) .
(9) فتح الباري، (11/580) .
(10) وهو غير الدعاء عند دخول المسجد.
(11) قال مالك - رحمه الله -: «وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء» ، قال أبو الوليد الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم وهذا على أن السفر ليس لأجله أصلاً وهنا يلاحظ أن الزيارة في أوقات الزحام ليست بلازمة الفتاوى (1/231) ، وانظر التحقيق والإيضاح، لابن باز.
(12) التحقيق والإيضاح، لابن باز، الجزء الخامس، قسم الحج والعمرة، 1/297.
(13) ومما ينبغي ذكره قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية؛ فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها» الفتاوى، (1/ 236) .
(14) انظر مجموع الفتاوى، (11/311) ، وشرح العقيدة الطحاوية، تحقيق التركي والأرناؤوط، (2/746) .
(15) انظر الفرقان بين الحق والباطل، لابن تيمية، ص 59 فما بعدها.
(16) البخاري: (4287) ، مسلم: (1781) .
(17) البخاري: ح/ 3445.
(18) أبو داود بإسناد صحيح ح/ 2042، وصححه الألباني في غاية المرام 125.
(19) البخاري: ح/ 1330، مسلم: 529.
(20) صححه الألباني في غاية المرام 127، وانظر تخريجه فيه.
(21) البخاري ح/ 2679، ومسلم ح/ 1646.
(22) رواه الترمذي: ح/ 3545، وأحمد: (2/254) ، وصححه الألباني في الإرواء: 6.
(23) الترمذي: ح/ 3546، وأحمد (1/201) ، وصححه الألباني في الإرواء: 5.
(24) مسلم: ح/ 284.
(25) صحيح الوابل الصيب، ابن القيم، ص: 134، تحقيق سليم الهلالي.
(26) انظر الخلاف في هذه المسألة في (جلاء الأفهام) ، لابن القيم ص: 540 حتى ص: 558، تحقيق مشهور بن حسن سلمان.
(27) أخرجه الهروي في ذم الكلام، ص: 255.
(28) العقيدة الواسطية، لابن تيمية، ص: 201.
(29) منهاج السنة: 6/ 236.
(30) البخاري: ح/3673، ومسلم: ح/2541.
(31) مسلم: ح/1830.
(32) رواه الترمذي وحسنه: (2587) ، وأبو نعيم في الحلية 8/377 وقال: غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم: 1999، وفي الصحيحة برقم 954.(158/28)
تأملات دعوية
يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا
محمد بن عبد الله الدويش
لقد ذم الله - تبارك وتعالى - طائفة من الناس بأن علمهم بعيد عن علم الآخرة
النافع لهم، بل نفى عنهم العلم فقال - تعالى -: [وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] (الروم: 6-7) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال فئة ممن يبغضهم الله تبارك وتعالى
بقوله: «إن الله يبغض كل جعظري جوَّاظ، سخَّاب في الأسواق، جيفة بالليل
حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة» [1] .
حين تستمع إلى ما يدور في كثير من مجالس المسلمين اليوم تجد طائفة ممن
ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فحين يأخذون بالحديث عن أمر من أمور الدنيا فهم
يملكون رصيداً من المعلومات، وربما يتحدثون بالأرقام الدقيقة عن كثير من
الظواهر، وحين تنقص أحدهم معلومة، أو يخطئ فيها يصحح له ذلك طائفة من
أصحابه.
لكنك تجد الشخص نفسه يجهل حكماً بدهياً من أحكام الطهارة أو الصلاة أو
الزكاة أو الصيام، وكثيراً ما يترتب على هذا الحكم الذي يجهله صحة العبادة
وبطلانها.
إنه يحفظ من أسماء الساسة ويعي من أخبارهم - وكثير منهم ممن لا يدين
بالإسلام - أضعاف ما يعيه من أخبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف
الأمة الصالح وسيرهم!
والأدهى من ذلك أن هؤلاء يحظون بالاحترام والتقدير من عامة المسلمين،
ويعدونهم من أهل الوعي والفكر والرأي.
أفلا يصدق على أمثال هؤلاء أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويغفلون عن
الآخرة؟
إن انتشار الوعي بين المسلمين أمر مطلوب، والجهل مذموم في الفطر
السليمة والعقول المستقيمة قبل أن يرد ذمه في الشرع، ومعرفة المسلمين لما يدور
في واقعهم وما يجري حولهم مطلب له أهميته، لكن الاعتراض ينصبُّ على سيطرة
هذه الأمور على الناس وجهلهم بأمر الآخرة، بل استهانتهم بما يؤدي إليها ويدل
عليها، واعتبارهم أن العلم بها من شؤون الوعاظ الذين يحتاج الناس إليهم أحياناً
بشرط ألا يطول حديثهم، ولا يتجاوز نطاق الوعظ والإرشاد. أما أهل الفكر
والرأي فلهم شأن آخر، ولغة أخرى في الحديث والتفكير.
إننا بحاجة إلى أن نحيي علوم الآخرة وما يدل على الله - تبارك وتعالى -
من العلم النافع، ومن وسائل ذلك:
* الاهتمام بهذه العلوم النافعة، وإعطاؤها منزلتها اللائقة.
* أن نسعى لاستثمار المجالس العامة بالحديث عما يفيد الناس من هذه العلوم،
بدلاً من استطراد الناس في الحديث فيما لا يغني ولا يفيد.
* الاعتناء بربط الظواهر الاجتماعية والإنسانية بالسنن الربانية والقواعد
الشرعية، واستثمار حديث الناس في ذلك بالتأكيد على هذه المعاني؛ فحين
يتحدثون عن صور من الترف والثراء، نعقِّب على ذلك ببيان منزلة الدنيا من
الآخرة وضآلة متاعها، ونبين عاقبة الترف وأثره على الناس، وحين يجري
الحديث حول مشكلة اجتماعية أو كارثة ومصيبة فيجدر أن نعلق على ذلك ببيان
أسباب هذه الظواهر وتفسيرها من خلال السنن الربانية.... وهكذا.
* لا بد من التفكير بتسهيل العلوم الشرعية وتقديمها للناس، وبخاصة العلوم
الضرورية التي تتوقف عليها صحة عباداتهم ومعاملاتهم، ولا بد من استثمار
منتجات التقنية المعاصرة، وتقدم وسائل الاتصالات ونقل المعلومات.
__________
(1) رواه البيهقي عن أبي هريرة، السلسلة الصحيحة، للألباني، (1/331) .(158/36)
دراسات تربوية
نظرات في التربية الحديثة
إبراهيم داود
ما زلنا نسمع ونرى من يتحمّس للتربية الحديثة، ويتحدّث عنها وكأنها البلسم
الشافي للعلل والمشكلات التي عانت وتعاني منها نُظم التربية والتعليم في بلاد
المسلمين، فما التربية الحديثة؟ وهل يجوز لنا أن نتحمّس لها وندعو إليها وهي
تربية غربية في منطلقاتها وأهدافها ومناهجها وبرامجها؟ نحاول من خلال هذه
النظرات أن نتبيّن الإجابة عن هذين السؤالين.
معلوم أن التربية الغربية ظلت متأثرة بالفلسفة إلى أن انطلقت بروح جديدة من
الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أسس (شتانلي هول) أول معمل لعلم النفس
سنة 1887م [1] ، وكانت مناهج التربية الغربية القديمة تعكس طبيعة مجتمعها القديم
بطبقيته وقسوته، حتى إنّ (أرسطو) كان يرى أن تشرف الحكومة على التربية
إشرافاً صارماً، وأن تتخلص من الأطفال الضعاف والمشوّهين [2] . ويرى كثير من
الباحثين أن آراء الفرنسي (جان جاك روسو) هي التي بشّرت بميلاد التربية
الحديثة، ويتحدّث عنه كثير من تربويينا المعاصرين بإعجاب شديد، ومنهم من
يسميه: (شيخ المربّين وحامي لواء التربية الحديثة) ويزعم هؤلاء أن رجال
تاريخ التربية كادوا يتفقون على أن (روسو) هو (رسول التربية) في العصور
الحديثة! [3] .
المذهب الطبيعي:
يُعدّ (روسو) رائد (المذهب الطبيعي) وواضع أصوله؛ ومن أصول ذلك
المذهب أنّ الفرد هو شعار التربية، وأنّ التعبير عن الذات هو الهدف النهائي لها؛
وبنى الطبيعيون على هذا أنّ التربية القويمة لا تتحقق إلا بإطلاق الحرية التامة
للأطفال، وأنّ من مقتضيات الحرية أن يكون التعليم مختلطاً، وأن يُسْمح بالرقص
والسباحة والتعري ومناقشة مسائل الجنس بلا تحفظ، أما المشكلات الجنسية فترجع
أسبابها بزعمهم إلى رغبة الآباء الذين يريدون حمل أبنائهم على مبادئ الدين وقواعد
الأخلاق! والصواب بزعمهم أيضاًَ أن تكون تربية الطفل بين سن الخامسة والثالثة
عشرة سلبية، لا يُعلَّم فيها الطفل شيئاً ولا يُربّى خلالها أيّ تربية، بل يُترك
للطبيعة، محاطاً بأجهزة وأدوات من شأنها أن تُوسِّع مداركه. ويؤمن الطبيعيون
بأنّ التربية هي عملية إعداد للحاضر لا للمستقبل، ومن الخطأ عندهم أن يُضَحّى
بالحاضر المتيقَّن في سبيل مستقبل مظنون [4] .
ولا يخفى خطأ هذه الآراء (الطبيعية) وضلالها، ومخالفتها للفطرة السليمة؛
فكون التربية إعداداً للحاضر لا للمستقبل لا معنى له؛ لأنّ الحاضر والمستقبل
متصلان اتصال الليل بالنهار، ولأنّ التربية عملية اجتماعية، والأفراد لا يعيشون
أشتاتاً كنبتات بريّة في صحراء، فإنّ أمكن جدلاً إعداد الطفل للحاضر بوصفه
الشخصي لم يتأتَّ ذلك بوصفه الاجتماعي، وإلا كانت العملية التربوية نفسها عبثاً
لا طائل تحته.
ولا معنى - كذلك - لإطلاق الحرية التامة للأطفال ما داموا يجمعهم مكان
واحد وزمان واحد، وإنما يُتَصَوّر إطلاق الحرية التامة لطفل واحد، أو لأطفال
مبعثرين قد تقطّعت بينهم الأسباب! ولا معنى لانتهاء حرية الفرد عندما تبدأ حرية
الآخرين إلا انتفاء الحرية المطلقة التي يدّعيها أو يدعو إليها الطبيعيون، والحرية
المطلقة إنْ وجدت عاقبتها تحويل المجتمع برمّته إلى بؤر فساد وإفساد.
والقول بأن التربية المقصودة هي إفساد لطبيعة الطفل الخيّرة.. تحكّمٌ بلا دليل،
وإذا كان الصغار كما تفترض المدرسة الطبيعية ملائكة فلِمَ لا يحافظ خريجو
المدرسة الطبيعية على نقائهم؟ ولِمَ لا يكونون هم المؤثرين فيمن سواهم من الناس؛
إذ هم كبار راشدون؟ ! بل الصواب كما قال (المناوي) في شرح حديث الفطرة
الذي رواه البخاري [5] : « ... أنّ الإنسان مفطور على التهيّؤ للإسلام بقوة، ولكن
لا بد من تعلُّمه بالفعل؛ فمن قدَّر الله كونه من أهل السعادة قيّض الله له مَن يعلّمه
سبيل الهدى فصار مهذّباً بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبَّب له مَنْ يغيّر فطرته ويثني
عزيمته» [6] .
واكتساب المعرفة ليس رهناً باتباع أسلوب التعلم كما يزعم الطبيعيون، وإلا
فمتى يكتسب كل طفل بذاته ذلك الكمّ التراكمي الهائل من المعارف والخبرات التي
جمعتها البشرية عبر العصور؟ ! أما إطلاق الحريات للغرائز الجنسية، والأخذ
بالتعليم المختلط، وإباحة التعري لمن شاء من الطلبة والطالبات فلا ريب أن ذلك
هو - عينه - المتسبب في إنتاج المشكلات وترويجها، ولا يمكن أن تكون مبادئ
الدين وقواعد الأخلاق هي المتسببة فيه، لا، حتى ولو كان الدين مُحَرَّفاً كدين
الغربيين، والأخلاق منحرفة كأخلاقهم!
ومعلوم أن الغريزة الجنسية لا تثور من تلقاء نفسها، بل لا بد لها من مثير
يثيرها؛ فكان القصد إلى إثارتها سَفَهاً وضلال رأي، وقد تواترت الأدلة، وأثبتت
الوقائع أنّ عاقبة ذلك لا تكون إلا الفتنة والفساد الكبير، وانظر تَرَ أن أكبر نسبة من
الأطباء النفسيين في العالم متجمّعون في (هوليود) مدينة صناعة السينما الأمريكية
والإباحة الجنسية، وأن السويد صاحبة قصب السبق في الحرية الجنسية هي أكثر
دول العالم اكتظاظاً بالمشكلات الناشئة من تلك الحرية، وأن دائرة هذه المشكلات قد
اتسعت فيها لتشمل الزنا بالبنات والأخوات والأمهات.. وكانت الاحصاءات قد
أحصت في أوائل الخمسينيات من هذا القرن في إنجلترا وحدها أكثر من نصف
مليون طفل من أبناء الزنا؛ فكم أصبح العدد في إنجلترا وأخواتها الأوروبيات، وقد
أصبحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين؟ !
حقيقة المذهب المثالي:
أمّا «المذهب المثالي» من مذاهب التربية الغربية فهو في حقيقته صدى
لفلسفة أفلاطون، وتعبير عن نظريته المسماة بـ «المثل» ، ومؤدى هذه النظرية
أن ثمة عالمين اثنين: عالماً حسياً يتألف من «الأجسام» ، وعالماً معقولاً يتألف
من المجردات التي هي «المُثُل» . وبناء على ذلك قال الغربيون: إن الإنسان
يعيش في عالمين: عالم مادي متغيّر، وعالم روحاني خالد، وهذا الأخير هو عالم
المثل العليا التي تشكل الهدف الأسمى للتربية والحياة. وهكذا رأى الغربيون في
الإنسان جانبيْن: جانباً روحياً سامياً، وجانباً جسدياً تحكمه النوازع الدنيا والشهوات،
وهذان الجانبان كالخطين المتوازيين يتجاوران ولا يلتقيان، ويتناقضان ولا
يتكاملان، وهو ما أدى إلى قيام سلطتين في بلاد الغرب: سلطة روحية تشرف
عليها الكنيسة، وسلطة زمنية قوامها حكم الواقع مفصولاً عن الدين، وترتّب على
ذلك الاعتقاد بأن الإنسان أوْلى بالدرس من العالم الخارجي، وأن العلوم الإنسانية
أهم من العلوم الطبيعية.
على أنّ دراسة الغربيين للإنسان - سواء قُدِّمت أم أُخّرت - في ظل عقيدتهم
القائمة على فصل الدين عن الحياة لا تأتي بخير؛ لأن المقدمات الخاطئة لا تقود
إلى نتائج صحيحة؛ ولذا لم تستطع الدراسات الغربية في مجال النفس والتربية
والاجتماع الرقي إلى مستوى العلم، وإن سُمّيت باسم العلم، وهو ما يؤكده إخفاق
الغربيين في وقف التدهور السلوكي الذي يُنذر المجتمعات الغربية بأوخم العواقب.
والنظرة المثالية الغربية بما ترتب عليها من فصل بين الدين والحياة خاطئة
ومدمرة، وهي - كما يقول (علي عزت بيجوفيتش) رئيس جمهورية البوسنة
والهرسك في كتابه المعروف: (الإسلام بين الشرق والغرب) [7]- هي المسؤولة
عن إخفاق الأيديولوجيات الكبرى في العالم؛ فهذه النظرة هي التي شطرت العالم
شطرين متصادمين بين مادية ملحدة، وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، والصواب
أنها «وحدة ثنائية القطب، تضم القضيتين المتصادمتين في العقل الغربي ألا وهما:
الروح والمادة، السماوي والأرضي، الإنساني والحيواني، الدين والدنيا. وهذان
المتناقضان يوجدان معاً وجود تفاعل وتزاوج وتكامل.. كما تتفاعل ذرات
الأوكسجين مع ذرات الإيدروجين لتنتج الماء الذي يشرب منه الإنسان والحيوان
والنبات» [8] .
وقد نبّه بيجوفيتش على أن طبيعة العقل الأوروبي (أحادي النظرة) كانت
سبباً في عجزه عن فهم حقيقة الإسلام؛ ولذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين
متعارضين؛ فقد أنكره الماديون منهم بوصفه اتجاهاً يمينياً أي دين غيبيات، بينما
أنكره المتدينون لأنهم رأوا فيه اتجاهاً يسارياً أي حركة اجتماعية سياسية [9] .
ولا تغني عن المذهب المثالي دعواه أنه إنما يريد - من خلال التربية - أن
يحيط الطفل بالمثل العليا؛ لأنه لا يدري ما المثل العليا على وجه التحديد. يقول
سير برسي نن: «نستطيع أن نحكم بأنه لا يمكن أن يكون هناك غرض عام
للتربية ما دام هذا الغرض يحقق مُثُلاً عليا؛ لأن هذه المثل تتعدد بتعدد
الأفراد» [10] .
المذهب البراجماتي:
وأمّا «المذهب النفعي الذرائعي» المعروف باسم البراجماتية أو البراجماسية
فقد ارتبط باسم (جون ديوي) [11] أشهر التربويين المعاصرين، وهذا المذهب ذو
صبغة عملية تجريبية لا يبدو فيها أي أثر للقيم أو الأخلاق.
هدف التربية في نظر (ديوي) هو النمو، والهدف - بزعمه - جزء لا
يتجزأ من عملية النمو، وليس أمراً خارجياً تتجه إليه خبرة المتعلم، فلا هدف
لعملية النمو إلا المزيد من النمو؛ ولذا أنكر (ديوي) أي هدف نهائي وقال:
«الفكرة القائلة بأن النمو والتقدم يرميان إلى هدف نهائي لا يتغيّر ولا يتبدل هي آخر
أمراض العقل البشري في انتقاله من نظرة جامدة إلى الحياة إلى نظرة مُفْعمة
بالحركة» [12] ومعنى هذا أن النمو والتربية والحياة هي مسميات لاسم واحد في
نظر (ديوي) !
ولا ريب أن «التسليم بوجود أهداف ثابتة يزود القائمين على التربية بمعايير
ثابتة وصادقة يستعينون بها للحكم على مدى تقدم التلاميذ في عملية التعلم، أما
القول بأن الأهداف جزء من عملية النمو ذاتها فإنه يزيد من حيرة المربين؛ فاللص
الذي يكتسب المزيد من المهارات في السلب والنهب ينمو في هذا المجال؛ فهل
تعتبر اللصوصية عملية تربوية هادفة؟ ! وإذا سلمنا جدلاً بصحة ما ذهب إليه فإن
السؤال الذي يظلّ قائماً هو: ما هي المعايير التي نستعين بها للحكم على نمو إنسان
نمواً شاملاً؟ ومتى يكون النمو مرغوباً فيه، ومتى لا يكون كذلك؟ [13] .
وطريقة التدريس في هذا المذهب هي طريقة المشروع التي تُنسب إلى
الأمريكي (كلباترك) تلميذ (جون ديوي) . والمشروع يأخذ شكلاً فردياً أو جمعياً،
وفي المشروع الجمعي يتعاون الأطفال لحل مشكلةٍ ما بتقسيم العمل بينهم.
ولـ (هيلين باركهرست) طريقة أخرى تسمّى طريقة (دالتن) ، وتقوم هذه
الطريقة على ثلاثة أسس هي: الحرية، والتعاون، وتحمل المسؤولية؛ وبمقتضى
هذه الطريقة يتمتع التلميذ بكامل حريته بعد أن يتفق على إنجاز قدر معين من
المقرر في مدة معينة، يستعين أثناءها بالمدرس متى شاء.
وقد قيل في الكلام عن مساوئ طريقة المشروع إنها سائبة ومتميعة وتجرّ
التلاميذ إلى دراسات متشعبة لا حصر لها، وإنها تكلّف كثيراً من الوقت والمال،
وتحتاج إلى مدرسين مدرّبين تدريباً خاصاً، وتنتج معلومات مفككة يصعب معها
وضع المناهج والأطر التعليمية. كما قيل في طريقة (دالتن) إنها تجانب الحكمة
إذ تحمِّل التلاميذ منذ الصغر مسؤولية إنجاز المقرر، وإنّ بينهم من الفروق الفردية
ما قد يُزكي روح الحسد والبغضاء، ولا سيما أنّ هذه الطريقة توازن بين التلاميذ
عن طريق الرسوم البيانية، ثم إن من التلاميذ مَنْ لا يميل بطبعه إلى العمل، ومن
شأن هذه الطريقة أن تشجّع هؤلاء على التمادي في الكسل، والتلاميذ عموماً
مضطرون في حياتهم الواقعية إلى مواجهة ما لا اختيار لهم؛ بالإضافة إلى أن هذه
الطريقة كغيرها من الطرق الحديثة تحتاج إلى مدرس موسوعي ليس من اليسير
إعداده [14] .
طريقة التعليم المبرمج:
وفي أمريكا طريقة حديثة تسمّى: (التعليم المبرمج) وهي طريقة ينتفي فيها
دور المدرس؛ إذ يتعامل الطالب مع آلة رُكّبت فيها أسئلة متدرجة في صعوبتها،
ويجيب الطالب على الأسئلة بوضع الإجابة على الآلة نفسها، والإجابة الصحيحة
هي التي تضمن استمرار دورة الآلة، وربما استخدم الكتاب المبرمج في هذه
الطريقة مكان الآلة، وفي الكتاب توجد المادة العلمية، مع سؤال يتعلق بها وفراغ
يُفترض وضع الإجابة فيه، وفي الصفحة التالية يوجد الجواب الصحيح، وما على
الطالب إلا أن يقارن إجابته بالإجابة الصحيحة [15] .
ولا شك أن للطريقة الحديثة التي اتبعها الغرب جوانب إيجابية أثّرت في
نهضته وتقدمه، ولكن منطلقات تلك الطريقة وأهدافها دائرة قطعاً في مجال الخطأ
والخطيئة، ونظرة منصفة واعية تكفي للدلالة على أنّ ما حققه الغرب كان في
حقيقته وبالاً عليه وعلى العالم أجمع، وحَسْبُ الغربيين أنهم إنما: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا
مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) . والغفلة عن الآخرة
تجعل كل مقاييس الغافلين تختلّ، وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم؛ فلا يملكون
تصور الحياة، وأحداثها، وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً،
سطحياً، ناقصاً» [16] .
ومن المؤكد أن من شأن أسلوب التعلم الذي يُتيح للطلبة فرص التفكير
والابتكار أن يخرّج علماء مبدعين ومفكرين بارزين، ولكن من الغفلة والسذاجة ردّ
الفضل فيما وصل إليه الغرب من تقدم علمي إلى تربيته الحديثة، مع التسليم بأنها
ساهمت - من خلال جوانبها الإيجابية في إحداث هذا التقدم.
إنّ من المحقق أن وراء ما وصل إليه الغرب من تقدم علمي عوامل تاريخية
وموضوعية كثيرة ومتداخلة، ومن المحقق أيضاً أنّ الأمور لا تُقاس وما ينبغي لها
بأعداد من يتخرج من العلماء والمخترعين فقط، ولا بمقدار القدرة المادية التي
يهيئها الخريجون لأمتهم، وليس من الصواب أن تُوزن الأمور مفصولة عن الغايات،
ولا أن ينظر إلى بعض النتائج ويُغض النظر عن بعضها الآخر، وإلا فإنّ من
الممكن أن يُقال: إنّ التربية الحديثة قد خرّجت - في الوقت نفسه - أعداداً لا
تُحصى من المجرمين والشاذين والمرضى النفسيين والمصابين بالإيدز ومروّجي
المخدرات والمدمنين عليها، وحسب النفعية - وهي روح التربية الحديثة - أنها
تدور بأصحابها حيث دارت، ولا تقيم وزناً لدين أو خلق، وتُضعف - وقد تُميت-
الالتزام الخلقي مما يجرّ على الفرد والمجتمع شروراً مدمّرة. والمنفعة - مهما مسّت
الحاجة إليها - لا ينبغي أن تكون الغرض النهائي للتربية والتعليم، وكثيراً ما يكون
الناس قادرين على تحقيق المنافع دون أن يدرسوا في المدارس والجامعات.
لماذا التربية الحديثة تفسد المجتمع؟
إن إقامة بناء التربية الحديثة على أسس إلحادية أو علمانية قد أفسد التربية
والمجتمع جميعاً؛ فالتربية لا يمكن أن تكون صالحة ومصلحة إلا في إطار غايتها
العظمى وهي تحقيق العبودية لله تعالى، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنّ التربية
النفعية قد ميّعت مفهوم الحق في أنظار الغربيين وربطته بمرادات حكوماتهم؟ !
إنّ العلاقة بين التربية الغربية من جهة وبين الفلسفة وعلم النفس من جهة
أخرى قد أورثتها كثيراً من الخلل والتناقض والاضطراب، وأكّدت القطيعة بينها
وبين الدين، بل جعلتها عدوة للدين تحاربه بسبب أو بدون سبب، ونسفت أساساً
عظيماً من أسس التربية الصحيحة وهو أساس التعليم بالقدوة.
والتربية الحديثة لم تحترم أنوثة المرأة، بل دفعتها إلى مخالطة الرجل
ومنافسته، حتى ظهر الانحراف الجنسي وتفشى الشذوذ، وفي الوقت الذي أهدرت
فيه هذه التربية كرامة المرأة دفعت بالغانيات والمومسات والساقطات إلى بؤر
الضوء ومراكز الشهرة [17] .
أما الذين فتنتهم - وما زالت تفتنهم - حضارة الغرب وتربيته فلا بد من
تذكيرهم بحقائق ثابتة لا تجوز الغفلة عنها ساعة من ليل أو نهار، ومن أهمها:
1 - أن الغاية من خلق الإنسان في هذه الأرض هي عبادة الله - تعالى -
على الوجه الذي أراده سبحانه، ولا سبيل إلى بلوغ هذه الغاية إلا بالتربية الإسلامية.
2 - أن حكم الوسائل في الإسلام كحكم الغايات لا بد أن تكون مشروعة، بل
النيات لا بد أن تكون خالصة لله عز وجل، وإلا حبطت الأعمال وإن كانت مفيدة
نافعة في ظاهر الأمر؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال
بالنيات» [18] .
3 - أن من شأن المسلم ألا يغترّ بما قد يغرّ ويُغري من مظاهر القوة ما دامت
ظالمة لا تهتدي بنور الله تعالى؛ فلو تعيّنت التربية الغربية سبيلاً وحيداً لقوة
المسلمين (وهذا مستحيل) لما جاز للمسلمين أن يأخذوا بها؛ لأن في الإسلام ما
يغني عنها ويفوقها؛ فكيف إذا كانت تلك التربية لا تُفضي بالمسلمين إلا إلى مزيد
من التخلف والهوان؟ !
4 - أن من قِصَرِ النظر نسبةَ الفضل فيما حققه الغرب من تقدم علمي إلى
طبيعة التربية الغربية، ولم تسلم تلك التربية من نقد الغربيين أنفسهم ومن إدخال
الإصلاحات عليها والتعديلات، وما تمتاز به التربية الغربية من اهتمام بالتعليم
وإعداد للمعلمين وتوفير للإمكانات، ومن الحرص على المتابعة والمراجعة، وإتاحة
الفرص للإبداع والابتكار وتغليب الطابع العملي التطبيقي؛ كل ذلك لا يرادف
التربية الغربية الحديثة، بل يشكل بعض جوانبها، فإن كنا - نحن المسلمين -
محتاجين إلى هذه الجوانب - وإنا لكذلك - كان علينا أن نأخذ بها؛ لأنها من قبيل
الصواب الذي نحن بحاجة إليه، لا لأن الغربيين قد أخذوا به؛ وإلا أخذناه وأخذنا
غيره معه وانسلخنا من ديننا عالمين أو جاهلين.
5 - ليست القوة دائماً دليلاً على صواب من تهيأت له أسبابها، واقرأ - إن
شئت - قول الله - تعالى -: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ *
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي
الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ
عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: 6-14) .
فاللبيب من نظر إلى العواقب، وعلم أن أعمار الأمم والعقائد كثيراً ما تكون
أطول من أعمار الأشخاص، وأن سنن الله لا تتخلّف أبداً؛ فمن لم يرَ بأم عينيه
انهيار أمم الباطل وعقائد الضلال اعتبر بما آل إليه الأوائل. قال - عز وجل -:
[أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً] (الروم: 9) .
لقد كان فينا من يجادل عن عظمة الاتحاد السوفييتي، ويزعم أن شمس
سلطانه لن تغيب أبداً، وما زال العقلاء والمصلحون من أهل الغرب يؤكدون أن
حضارة أمتهم تقف على حافة الهاوية، وأن مجتمعاتهم تتحول إلى مستنقعات آسنة
تعجّ بمظاهر الشذوذ والجريمة والانحراف.
6 - ولا يعني ذلك أبداً أن تكون القوة من نصيب الظالمين، ولا ليكون
الضعف قد كتب على المسلمين، كلاَّ؛ بل المسلمون أوْلى أن يكونوا وقد كانوا
أقوى الأمم، وكيف يؤدون شهادتهم ويبرئون ذمتهم أمام ربهم بدون قوة تهيئ لهم
أسباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ !
7 - أن «التربية الحديثة» مصطلح غربي يكتنز في دلالته كثيراً من
عناصر رؤية الغربيّ للحياة، وأن لكل مصطلح دلالته التي وُضع لها، وإن زعم
الزاعم أنه يطلق ذلك المصطلح بدلالة مختلفة هو يريدها، والتربية الحديثة مرتبطة
بالعقيدة الغربية وتصوراتها الضالة؛ فالصواب نبذ هذه التربية، والإقبال على
التربية الإسلامية التي شرعها الله - تعالى - وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم
وحققها الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان، وما يثبت فيه الخير
مما يأخذ به الغربيون وغيرهم من غير المسلمين يُقدّر بقدره من جهة، ولا يكون
الدافع إلى أخذه إلا خيريته من جهة أخرى.
8 - أن أكثر الدعاة إلى التربية الحديثة يجهلون أو يتجاهلون عن عمد حقيقة
مشكلتنا التربوية، وأنها مظهر من مظاهر مشكلتنا الكبرى المتمثلة في الانحراف
عن منهج الله - تعالى -؛ وقراءة أكثر ما كتبه ويكتبه هؤلاء يقطع بأن دعوتهم
ليست إلا حلقة في سلسلة الافتتان بالغرب الكافر، وإلا فكيف يُفسَّر خلوّ ما يكتبونه
من أية إشارة إلى التربية الإسلامية ومصدريها العظيمين وأعلامها الأفذاذ، مع أنهم
يرددون أن (روسو) رسول التربية الحديث، و (ديوي) نبي التربية الجديد!
ألا إن الإسلام هو النظام الأمثل الذي يقي من الوقوع في المشكلات، وهو -
في الوقت نفسه - السبيل إلى معالجة المشكلات الناشئة من الانحراف عنه، وكل
محاولة للإصلاح تُغْفِل هذه الحقيقة أو تَغْفَل عنها محكوم عليها بالإخفاق؛ «فحقيق
لمن لنفسه عنده قدر وقيمة ألا يلتفت لهؤلاء، ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفع
له علم السنة النبوية شمّر إليه ولم يحبس نفسه عليهم» [19] .
__________
(1) (التربية وطرق التدريس) ، لصالح عبد العزيز، وعبد العزيز عبد المجيد، الجزء الأول، الطبعة السادسة، ص 310.
(2) المرجع السابق، ص 53.
(3) المرجع السابق، ص 309، وانظر الجزء الثاني، تأليف صالح عبد العزيز، الطبعة السابعة، ص 265 و (روسو) عاش بين عامي (1712 1778م) ، وتميزت حياته بالبؤس والإخفاق والانحلال الخلقي، أنجب خمسة أطفال أودعهم جميعاً أحد الملاجئ! من آثاره: - كتاب (العقد الاجتماعي) الذي نادى فيه بالحرية والمساواة والرجوع إلى الطبيعة - كتاب (إميل) الذي وصف فيه الطريقة المثلى (كما يراها) في تربية الأبناء - (الاعترافات) التي صرّح فيها بشذوذه وانحراف أخلاقه مات (روسو) منتحراً أو إثر سكتة قلبية انظر: تطور الفكر التربوي للدكتور سعد موسى أحمد، ص 416، وما بعدها.
(4) انظر (التربية وطرق التدريس) الجزء الثاني، ص 168 وما بعدها، و (أسس التربية الحديثة) لسعد عبد السلام حبيب، ص 20 وما بعدها، و (تطور الفكر التربوي) للدكتور سعد مرسي أحمد، ص 415 وما بعدها ومعظم المعلومات المتعلقة بتعريف المذاهب التربوية - مما ذكرنا في هذه الصفحات - مأخوذ من هذه الكتب الثلاثة.
(5) «ما من مولود إلا يولد على الفطرة: فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» أخرجه البخاري: ح/ 1358، ومسلم: ح/2658.
(6) فيض القدير، 5/ 34.
(7) نشر مجلة النور الكويتية ومؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات، وصدر فيما بعد عن هذه الدار على هيئة كتاب متداول.
(8) الإسلام بين الشرق والغرب، مقدمة الترجمة العربية، لمحمد يوسف عدس، ص 18 (بتصرف) .
(9) المرجع السابق، ص 19.
(10) التربية: مادتها ومبادئها الأولية، ص 12.
(11) جون ديوي (1859 1952م) ، تعدت شهرته أمريكا، وتُرجمت كتبه إلى لغات كثيرة، واستشارته روسيا عقب ثورتها الشيوعية ليضع لها نظاماً تعليمياً تقدمياً، تأثر بآراء (دارون) حول أصل الأنواع، وبدراسات (وليم جيمس) النفسية، وأخذ عن (شتانلي هول) الاتجاه الحديث في علم النفس التجريبي، وتأثر أيضاً بآراء (كارل ماركس) حول الثقافة وارتباطها بالاقتصاد من كتبه (الطفل والمنهج) و (عقيدتي التربوية) و (الديمقراطية والتربية) وغيرها عن تطور الفكر التربوي، للدكتور سعد مرسي أحمد، ص 419 وما بعدها (بتصرف) .
(12) الديمقراطية والتربية، الطبعة الثانية، ص 58.
(13) (دراسات في الفكر التربوي الإسلامي) ، للدكتور عبد الرحمن صالح عبد الله، الطبعة الأولى، ص 20، 21.
(14) انظر: التربية وطرق التدريس، الجزء الثاني، ص 77.
(15) انظر: المسؤولية، للدكتور محمد أمين المصري، الطبعة الرابعة، ص 116.
(16) في ظلال القرآن، لسيد قطب، الطبعة العاشرة، المجلد الخامس، ص 2759.
(17) انظر: أصول التربية الإسلامية وأساليبها، لعبد الرحمن النحلاوي، ص 7.
(18) رواه البخاري، ح/1.
(19) مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية، ج 1، ص 8.(158/38)
قضايا دعوية
من آفات التساهل الدَّعْوي
أسيد بن عبد الرحمن الأثري
لقد طلع علينا في العقود الأخيرة فئامٌ وفرقٌ تمارس تساهلاً دعوياً عجيباً،
وهزالاً إصلاحياً فريداً، وتماوتاً في الخير لا يمتّ للحزم بصلة؛ حيث يأخذ نمطية
الدعة والسهولة، والراحة والليونة، والضعف والنعومة. قد صدع شامخاً باللين
والتيسير، وتسوّد متعاظماً بالبسمة والتبشير، وانبرى جاهداً بالتسلية والتحبيب،
جعلوا الوسائل غايات، والمقدمات خاتمات، والتوطئات مقاصد ساميات. لم يفرّقوا
بين مدخل ومقصد، وأصل وفرع، وجبل وتلّ، وذكر وأنثى؛ فلقد خلطوا الفروع
بالأصول، والوسائل بالمقاصد، والأبناء بالآباء، فضاعت الحرمات، وهانت
الأصول، واختلطت المفاهيم، وأضحت الدعوة (مزاداً) يؤمه غير فقيه، ويقصده
غير متقن، ويقوده غير متمكن: جميع الفئات الجاهلة والناشئة والفاترة والهازلة،
دون قيود أو شروط أو التزامات.
وهؤلاء يسلكون مع المدعوين لطيف الوسائل وخفيفها، وسهلها ولينها، وهي
تتمثل في ضروب واسعة من الترويح والتسلية والتلهية نحو: النشيد المشهد اللعبة
الطرفة حتى غلبت على معاني الدعوة الجادة، وأساسيات الإصلاح المتميز من همة
عالية، وحزمٍ متوقد، وصبرٍ شامخ، وتضحيةٍ جبّارة.
ولا ارتياب أن مثل هذا المسلك إجحاف بالدعوة، وإقصاء في فهم حقيقتها
واتجاهاتها وأهدافها، وجناية على قطوفها وثمراتها وبركاتها. وهؤلاء ينتشرون في
مجامع الشباب والمراكز والمخيمات التربوية التي تقصدها جموع غفيرة من الشباب
والناشئة الذين يحملون فكرها وثقافتها.
وربما تذرع هؤلاء بوجود طوائف غير سوية تحتاج ذاك المسلك لتحقيق
التآلف والتجاذب والتضامن والتأثير والتحبيب، والعلم ثقيل حجمه، عظيم كاهله
على هؤلاء، ومراعاتهم في الدعوة مقصدٌ مهم، لاحتوائهم والتأثير فيهم. والواعي
وهو يرى حتمية بروز العلم وضرورته وغلبته في دعوة هؤلاء وغيرهم، ويرى
أن تجريد الدعوة من العلم والهدى والجد والحزم خطأ محض، وفكرة شاذة - هذا
الواعي لا يختلف مع هؤلاء في أنه ينبغي مراعاة حال المدعوين في الدعوة
والنصحية، بل عندنا أصول شرعية، تعزّز ذلك وتعضّده، منها قول - علي
رضي الله عنه -: «حدّثوا النّاس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّبَ الله
ورسوله؟» [1] .
وقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغهُ
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [2] .
واللين والرفق مقامان ممدوحان في الشريعة، والنصوص فيها كثيرة وفيرة،
ولهما حدود وقيود تحفظ قدرهما وعدم التجني والتلاعب بمعانيهما؛ لأن إدراجَ
التساهل والتلاين والخضوع وسائر وسائل الترويح تحت اللين باستدامة وإطلاق
مسلكٌ مطروح مردود؛ وظهور المغالطة فيه أعظم من أن نقف لكشفها وبيانها
والتحذير منها.
والذي ينبغي تبيينه، ويُتأكد توضيحه هو أننا لا نعلم دليلاً يقصر الدعوة على
صنوف اللعب واللهو والترفيه إلى مدد سحيقة وآماد بعيدة يحملها جيل عن جيل،
وطائفة عن أخرى. وأيضاً لم نقف على طريقة للأنبياء والدعاة والهداة والصالحين
في ذلك. ومن كان عنده فضل علم فليدلنا عليه ونكون له من الشاكرين. بل الذي
يعتقده المصلحون الواعون أن هذا الدين عظيم جليل، وبناؤه متين، وأساسه قويٌّ
رصين كما قال تعالى: [ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ] (ق: 1) .
وقال تعالى: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) . وهو مع ذلك
كله سهل في أحكامه وشرائعه، لا يأمر بشدّة ولا بإجحاف أو ظلم أو انحراف، بل
يفيض رحمة وحناناً وسلاماً ونوراً على حامليه والقائمين تحت لوائه وسمائه.
ومباحاته تُساس بالأدب، وتُصان بالمروءة، وتُحفظ من كل ألوان السفه
والتكدير والإضاعة.
وجعل من شروط الدعوة إليه وأساسياتها: الرفق، واللين، والسماحة، ولم
يُقصر الدين كله على ذلك، هذا إذا علمت أن الرفق واللين عند من سلف غير ما
نحن بصدده، وهو عند المتلاينين يعني الترويح والتنفيس إلى أجل غير محدود
ووقت غير معلوم، واستخدام وسائل في ذلك لا تخلو من شبه وتحامل وانحراف
ومناكر؛ وفي بعضها التحريم ظاهر؛ فتخرج جيلاً عاطفياً متماوتاً، ألِفَ الدعة
والراحة، والليونة والدعابة لا يحمل همّ دينه وأمته والأمانة التي في عنقه؛ فلا
يطيق الحياة الجادة، ولا يحتمل التربية السامية؛ إذ يسأم من العلم، ويملّ الحزم،
ويخاف داعي الجهاد، ويفر من المسؤولية، ويُهزَم بالخوف مسيرة شهر.
إن هؤلاء ينظرون للعلم الشرعي (نظرة تآمرية) تتجسد في أنّه صعب شديد،
لا يلائم أكثر الطبقات ولا يحتملون نوعه ومادته. ولا يملكون أدوات استماعه
والنظر فيه، ولا امتلاك الفائدة منها؛ فمثلاً هم يعتقدون أن العلم عقيدة وتوحيد،
والعلم شروط الصلاة، وشروط النكاح والبيع، وتخريج الأحاديث والأسانيد
وأشباهها، وأغفلوا جوانب واسعة في العلم، جراء هذه النظرة الشانئة. والله
المستعان.
لذا فإنهم يرون إقصاءه وعزله عن أكثر المؤسسات الدعوية، وتبقى الدعوة
تساق في إطار التلاين والهزال الموصوف سلفاً.
وإننا نقول لهؤلاء: إن مثل هذا التصور جناية فادحة تعكس الصورة التي
يعيشها هؤلاء عقلاً ودعوة وثقافة، وينبغي أن يعلم هؤلاء أن العلم الشرعي يأخذ
صوراً شتى ويتنوع إلى فنون عديدة، يمكن أن يستفاد من جوانب عديدة في دعوة
هؤلاء، تحقق اللين الشرعي الصحيح لا التلاين السيئ الجديد.
فعلى سبيل المثال سوق الآيات الكريمات بأصوات حسنة خاشعة،
والأحاديث النبوية الشريفة المسوقة في جانب الوعظ والرقائق. وعندنا قصص
تربوية ومواقف بطولية قد زخرت بها كتب الفضائل والمغازي والمناقب، كما
في الصحيحين والسنن الأربعة، يمكن سوقها وعرضها لهؤلاء بديلاً نفيساً بهيجاً
عن الغثاء الهزلي والركام السقيم الذي تعج به هذه المؤسسات والمحطات؛ وفي ذلك
من الفوائد للمدعوين ما لا يخفى، ومنها:
1 - عرض دعوة جادة، مبنية على أصول شرعية صحيحة.
2 - ربطهم بالعلم الشرعي المفيد.
3 - تجسيد معاني الجد والتضحية والعلاء في حياتهم.
4 - توثيق صلتهم بتراثهم المجيد، وما يجب عليهم تجاهه.
5 - تحقيق الصفاء الدعوي المنشود.
6 - إلغاء جوانب السفه والترويح المبالغ فيها.
وإني لأعتقد أن قصة من السيرة النبوية تشع بمعاني النور والعلم والصبر
والبسالة، أو آثاراً لإمام أو عالم من كتب التراجم والسير لهي خير من كثير من
التشويش والتزوير المخترع المصنوع.
ويستطيع المشرفون الأمناء إذا امتلكوا (الثقافة الشرعية) و (السعة الفكرية)
أن يسهلوا كثيراً من أبواب العلم ومسائله وقضاياه، ويمكنهم الإفادة في جوانب
الاعتقاد والفقه بأساليب تربوية ميسرة يغشاها الرفق السديد، واللين الصحيح،
واليسر المحمود.
أما أن يتعمد هؤلاء قصر مؤسساتهم وتنظيماتهم على جوانب الترفيه والمرح
دون حساب أو مراجعة وتصحيح، فهذا مما لا يسوغ شرعاً ولا عقلاً ولا أدباً؛
فكيف يستجيز أقوام دعوة بهذا (الوصف المحقق) الذي يصل فيها جانب المرح
إلى 90%؟ ! !
كيف يحمدون دعوة نابذت العلم، وأهدرت الفائدة، وحطّمت الجد والعزة
والمصابرة؟ ! !
إن هؤلاء ما هُدوا لأحسن الطرق، ولا أصابوا قصد السبيل.
ولَكُم أن تتصوروا برنامجاً دعوياً يمكث سنين طوالاً على هذا المسلك مع
طبقة غزيرة من الشباب - تبحث عما ينفعها ويهديها ويشبع رغباتها - ما هو حالهم؛
وكيف تكون نهايتهم ومصيرهم؟ ! ! ثم يُراد منهم بعد ذلك العمل للدين، ورفع
رايته، والتضحية من أجله والثبات عليه!
ثم إن حصلت استجابة صار تلاميذ الأمس شيوخ اليوم، ومضوا على طريقة
مربيهم ومعلميهم حذو القذة بالقذة.
إن هذا المسلك المحدَث الغريب ذريعة لتغييب الدعوة عن العلم وتجهيل
المدعوين، وإيقاعهم في متاهات الجهل والشُّبه والتخلف، فينشأ هذا الجيل وقد حيل
بينهم وبين التعلق بحياة الجادين البارزين، وذوي الهمم الصامدين الذين عزت بهم
الدعوة الإسلامية وكبرت مجالاتها، واتسعت آفاقها.
قال - تعالى -: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .
قال ابن كثير - رحمه الله -: «يقول - تعالى - آمراً رسوله محمداً صلى
الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة» .
قال ابن جرير: «وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة، والموعظة الحسنة،
أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، وذكرهم بها ليحذروا بأس الله -
تعالى -، وقوله: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) أي من احتاج
منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب
كقوله - تعالى -: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت: 46) .
كيف تصح دعوة وتربية وهي خالية من العلم والرشاد، ومجردة من العلو
والحزم، وقائمة على اللهو والتسلية إلى مدى لا ينتهي بدعوى اللين والرفق
والحكمة؟ والله المستعان.
وأستطيع أن ألخص هُزال هذا المنهج وضعفه في الأمور الآتية:
أولاً: أنه منهج محدث مخترع، ليس له حظ من الأثر ولا النظر ولا الخبرة
والتجربة.
ثانياً: مجانبته لدعوات الرسل والأنبياء والمصلحين، فلا يعرف له سالف من
أهل العلم والفقه والأثر الذين حفظ التاريخ سِيَرهم وأخبارهم.
ثالثاً: أنه سبيل لفصل الدعوة عن العلم وتجريدها من الوعي والفقه والهدى؛
فتصبح مظاناً للجهل والتيه والتذبذب.
رابعاً: أنه تغييب لحياة العلم الوارفة، وآفاقه النيرة البهية؛ وفي هذا تقليل
لشأن العلم لا يخفى.
خامساً: أنه قضاء على أصول التربية الجادة، وإضعاف لأركانها ومناهجها.
سادساً: يثمر جيلاً مترفاً استروح نعومة العيش وليونة العمل؛ فلا يحتمل
بعدها أدنى قوة ولا جهاد أو مثابرة.
سابعاً: الواقع يشهد بفساد ثمراته وتكدر منابعه؛ إذ قد أسهم في قلب صورة
الدعوة الصحيحة ونال من مواهبها وطاقاتها، وأكسبها ضعفاً متيناً، وفتوراً رخواً
هزيلاً، والله المستعان.
ثامناً: فيه قلب لمعنى اللين الشرعي الصحيح، وإدراج ما لا يصح منه،
واستغلاله لمقاصد غير جادة.
تاسعاً: التلطخ بمخالفات شديدة وحمل شبهات أقل أحكامها الكراهة.
عاشراً: أنه يعالج خلاف الهَدْي النبوي السديد.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (3) كتاب العلم، (49) باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم.
(2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.(158/46)
قراءة في كتاب
لماذا يجب على النصرانية أن تتغير أو تندثر
اسم الكتاب:
(Why Christianity Must Change or Die)
المؤلف: (John Shelby Spong) .
عرض وتحليل: د. ممدوح نور الدين [*]
الناشر: (Harpersan Francisco) .
تاريخ النشر: 1998م.
حجم الكتاب: 257 صفحة من الحجم المتوسط.
مؤلف الكتاب كاتب أمريكي تقلَّد عدة مناصب في الكنائس الأمريكية حتى
أصبح أحد الأساقِفَة اللامعين؛ له عدة مؤلفات أشهرها: «إنقاذ الكنيسة من
الأصولية» ، ويتميز طرح الكاتب بالجراءة فيما يعتقد أنه إصلاح للكنيسة في
عقائدها ومناهجها وأفعالها.
يقدم المؤلف نفسه على أنه كاتبٌ مؤمن، ويحاول التركيز على هذا المعنى
بصورة واضحة توحي للقارئ أنه يحاول أن يدفع عن نفسه شبهة قد علقت في
أذهان الناس عنه. كما يفخر المؤلف بأنه قد اشتهر عنه في أوساط المؤلفين
والأساقفة ولعه بالجدل، وحبه للمناظرات، وجسارته في طرح الأفكار الغريبة التي
تتجاوز حدود الدين وتطلق العنان للعقل المتحرر من قواعد الدين؛ ومع ذلك فقد بلغ
منصب أسقف في الكنيسة الأمريكية، وما زال يفضل أن يُعرف عنه أنه يتصف
بصفة الإيمان.
يبدأ المؤلف كتابه بهجوم شرس على المؤسسات النصرانية وعلى رأسها
الكنيسة، ويتهمها بالجمود الفكري وعدم الانفتاح والتخوف من مناقشة عقائدها
البالية، ويوجه هجمته الأولى إلى عقائد النصارى واحدة تلو الأخرى، فيهاجم
اعتقادهم بأن الإله الذي يعتقده النصارى ذكر وليس أنثى. فيرى في هذا أنه زيغ
محض قد استخدم مسوغاً لاستعباد النساء عبر آلاف السنين؛ بيد أن المؤلف لم
يحدد موقفه من هذا الاعتقاد الذي أنكره.
ثم ينتقل المؤلف إلى التشكيك في قدرة الله بأنه ليس قديراً على كل شيء،
ويرى أنه لو كان قادراً على كل شيء لاستطاع علاج الأمراض الفتاكة كالسرطان
والطاعون، كما أنه يرى أن هذه الأمراض ليست مصائب من الله يبتلي بها الناس،
بل إنها نتيجة مباشرة لمشكلات عضوية مادية ملموسة!
والمؤلف يحاول جاهداً أن يظهر أنه يلتزم الموضوعية في طرحه قدر الإمكان
أثناء انتقاده لعقائد النصرانية؛ لكنه لا يستطيع أن يلتزم طويلاً بهذا المنهج. فيذكر
المؤلف أنه قد كتب «تحرير الأناجيل» عام 1996م؛ حيث ذكر فيه أن مؤلفي
الأناجيل وهم (متَّى وبطرس ويوحنا ولوقا) لم يكن أحد منهم من الذين عاصروا
المسيح أو التقوه، بل إنهم لم يعتمدوا على ذاكرة حواريي المسيح، وأن هذه
الأناجيل مبنية على مصادر يهودية؛ فكيف يرى أتباعها أنها صحيحة؟
وبغضِّ النظر عن صحة الانتقادات التي وجهها المؤلف إلى عقائد النصرانية
إلا أنه لم ينجح في الوصول إلى الحقيقة التي يزعم أنه ينشدها. بل كان جل همه
أن يشكك الناس في عقائد النصارى المنحرفة، بل تجاوز الحد إلى التشكيك في
قدرة الله سبحانه وتعالى [سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ] (الصافات: 159) .
فالكاتب يرى أن عالم الطب اليوم ليس له علاقة البتة بقدرة الله، وأن هذا
الأمر خارج عن ملكوت الله وسلطانه! فالفيروسات والبكتيريا والأورام التي يتعامل
معها الطب لا علاقة لها بقدرة الله! وكذلك الأدوية والعقاقير فإنها من نتاج العقل
البشري ولا دخل لله بها، ثم يزعم أن الذي يعتقد أن الله هو مسبب هذه الأمراض
ليس إلا مجرد إنسان تغلب عليه السذاجة! وهنا يلحظ القارئ أثر الحياة المادية
على منهج مؤلف الكتاب الذي أصبح لا يرى إلا من خلال الماديات والمحسوسات،
وينكر الغيبيات، بل يتهم الذين يؤمنون بها بأنهم رجعيون ومتخلفون! كما تظهر
عليه النزعة التجديدية في الدين.
وفي موضع آخر من كتابه يناقش قضية ألوهية عيسى ابن مريم عليه السلام
ويتهكم قائلاً: «إذا كان عيسى هو ابن الله الوحيد، فليس أحد آخر من البشر من
أبنائه؟» ويفسر هذا الاعتقاد بأن مصدره أساطير الأولين التي سيطرت على
عقول الناس قروناً طويلة، ويبدو أن الكاتب لم يستطع أن ينفك عن دينه الذي
يؤمن بأن اليهود هم أبناء الله وأحباؤه، لذلك يستغرب عدم وجود مكان لليهود إذا
كان عيسى هو ابن الله الوحيد!
ويطلق المؤلف عنان قلمه ليطعن أيضاً في عذرية مريم أم المسيح عليه السلام
فيقول: إن جميع قصص النساء التي أنجبن أولاداً وهن عذارى إنما هي من وحي
الخيال وليس لها أساس علمي بما في ذلك قصة مريم أم المسيح عليه السلام، ويؤكد
وجهة نظره مستنداً إلى علم الأحياء الذي يحتم وجود البويضة في رحم الأم.
ويستنتج من ذلك ضرورة حدوث تلقيح بين روح الإله وبين بويضة الأم، وإذا كان
ذلك كذلك فإن مريم أم عيسى عليه السلام تعد شريكاً لله في خلق عيسى عليه السلام
إذ إنها في مقام الزوجة! ! [وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً]
(الجن: 3) ولا شك أن مرد هذا التفكير لدى المؤلف يرجع إلى عدة عوامل هي:
1 - عدم إيمان المؤلف بالغيب.
2 - تصوره السطحي عن الله خالق الكون كله.
3 - التشويه الموجود في عقائد اليهود والنصارى عن الله من أثر تحريف
كتبهم.
4 - أثر المذهب المادي والمذهب العقلاني في حياة هؤلاء القساوسة
والأساقفة الذين نهجوا منهج الملحدين.
5 - إيمان الكاتب بمذهب التجديد في الدين والسعي لنشره سعياً حثيثاً.
ثم ينتقل المؤلف إلى مرحلة أخرى هي مرحلة التنظير والتأصيل، فيشجع
القراء على الخروج على الكنيسة بأسلوب عصري فيقول: «إن ما أطلبه من
المؤمنين من أهل دينه العصرانيين أن يعترفوا بأن الكلمات والمعاني التي وردت
في المصادر الإنجيلية في العصور الغابرة ليست في حقيقتها إلا كلمات خاوية لا
معنى لها؛ إذ إننا أصبحنا نرى الحقيقة في عصرنا هذا بصورة مختلفة» .
وكلما وجد المؤلف فرصة سانحة تحدث عن كيف أنه يعيش في عزلة عندما
يتعامل مع نصوص الإنجيل، فيشعر أن المعاني الموجودة فيه لا يقبلها عقل
الإنسان المتحضر (وكأن الحضارة في عصرنا هذا سبب في إدراك زيغ الماضي)
ويستمر الكاتب في خلطه بين الحق والباطل؛ فهو يرى خطأ بعض عقائد النصارى
لكنه لا يصحح هذا الباطل بالحق؛ وإنما يصححه بباطل آخر اسمه: العصرانية،
ومن ثم فهو ينتقل من ضلال إلى ضلال آخر، ومن ظلمة إلى أخرى.
وقد نالت الخصومة بين العلماء والكنيسة في القرن الخامس عشر نصيباً من
الكتاب؛ فقد تناولها الكاتب تناولاً معتدلاً نسبياً، فذكر أنه عندما رفضت الكنيسة
معطيات العلم الذي أتى به جاليليو إذ أثبت أن الأرض تدول حول الشمس ثارت
ثائرة القساوسة وأهل الإنجيل في ذلك الوقت، ثم ذكر كيف اعترف الفاتيكان في
28/12/1991م أن العالم جاليليو كان على صواب، وأن الكنيسة والإنجيل كانا
على باطل في تصورهما للكون ومكانة الإنسان فيه.
وهنا تجدر الإشارة إلى تفسير المسلمين لهذا الأمر؛ فإن الإنجيل قد حُرِّفَ كما
أشار القرآن الكريم إلى هذا، وأن علماء الكنيسة لم يبذلوا جهداً في التحقق من هذا
التحريف؛ بل قبلوه دون تمحيص؛ ولو كان الإنجيل غير محرف لما وجد الناس
فيه اختلافاً كبيراً، وهو ما يراه مؤلف الكتاب وغيره من المؤلفين، ولما تعارض
مع حقيقة علمية قط؛ فإن خالق الكون هو الله الخبير العليم.
ويسترسل المؤلف في انتقاده لعقائد النصارى واحدة تلو الأخرى، فيعرض
إلى قضية صلب المسيح والحلول والخطيئة الأولى، لكنه عندما ينتقد هذه العقائد
ينتقدها من منطلق الهوى المحض؛ فهو يرى حقيقة الخلل في هذه العقائد؛ لكنه
عندما يعمد إلى تفسيرها يستخدم هواه فيقع في مشكلات أكبر.
والكتاب بصفة عامة خليط بين الحق والباطل؛ فهو ينتقد أخطاء النصارى
التي نجمت عن تحريف الإنجيل وهذا حق، لكنه يبني هذا النقد على هواه وعلى
مفهوم العصرانية المادية، وهذا باطل [**] .
في الفصل الثاني عشر من الكتاب يضع المؤلف تصوراً جديداً للصورة التي
يجب أن تكون عليها كنيسة المستقبل، وقد بنى تصوره على فلسفته وهواه وعلى
معطيات العلم الحديث وعلى مفهوم العصرنة، واقترح مفهوماً جديداً للعبادة تصور
فيه عدم وجود معبود، ولقد بلغ بخيال المؤلف أن يعتقد أن العبادة يمكن أن تتم دون
وجود معبود؛ لأن المعبود في زعمه وَهْمٌ قد سيطر على أذهان الكنيسة في العصور
الوسطى.
أما في الفصل الثالث عشر فإن المؤلف قد أعلن في تصريح دون تلميح بأن
«عهد الإيمان قد مضى وأدبر» ! (هكذا) إذ صار الناس لا يحتاجون إلى
المعتقدات الإيمانية في العصر الحديث حسب زعمه وبذلك فقد سلك المؤلف سبل
الفلاسفة الملحدين، فأنكر وجود الجنة والنار إنكاراً مطلقاً، وزعم أن هذا المعتقد
إنما هو أسطورة قد حشت أذهان الناس في الماضي الغابر لكن عهدها قد ولى
وانصرف.
وفي خاتمة الكتاب يرى المؤلف أنه على يقين من أن صورة الدين عامة
والنصرانية خاصة ستتبلور خلال 100 عام تبلوراً صحيحاً في أذهان الناس عندما
تندثر الخرافات. ولم ينس المؤلف في نهاية المطاف أن يذكِّر القراء بأنه مؤمن بالله
بالرغم من كل ما ذكره من تشكيك، ثم اختتم كتابه بتحية اليهود (شالوم) ومعناها
السلام.
من خلال صفحات الكتاب كشف المؤلف بوضوح عن غايته من هذا الكتاب
وهي التحرر المطلق من قيود الدين؛ فقد صرح بإيمانه بضرورة منح اللوطيين
والشواذ جنسياً الحرية المطلقة في ممارسة ما يرونه في طبيعة علاقتهم الجنسية مع
الآخرين.
ولا شك أن الكتاب صورة من صور تجسيد الانحراف الفكري والخواء
الروحي والضلال المبين الذي يصيب كل من تنكَّب عن الصراط السوي، وكذلك
فإن هؤلاء القساوسة والأساقفة يتحملون وزراً عظيماً في تضليل أتباعهم الذين ليست
لديهم القدرة على فهم الحقائق، ولذلك فهم يتبعون أهواءهم التي هوت بهم في
مكان سحيق لا يستطيعون الخروج منه؛ ومن ثَمَّ يأتي الدور الذي يمكن أن يلعبه
علماء المسلمين ودعاته في إظهار العقيدة الصحيحة وتقديمها بالأساليب المناسبة
للعقلية الغربية التي تنكبت عن صراط ربها سعياً لإنقاذ البشرية من ضلالها المبين.
وجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم يواجه أية معارضة من قِبَل الكنيسة ولا علماء
النصارى ولا عوامهم، ويرجع هذا إلى عدة أسباب منها:
أولاً: ضعف تأثير الدين في حياة الناس الذين صاروا لا يعبؤون بما يسمعون
ويقرؤون.
ثانياً: انغماس الغربيين في الحياة المادية انغماساً يشغلهم عن عظائم الأمور.
ثالثاً: مهارة المؤلف في طرح أسلوبه التشكيكي ونسبته إلى غيره من الناس
حتى لا يكون مستمسَكاً عليه، وفي الوقت ذاته لا ينفي عن نفسه صفة الإيمان مما
يجعل السذج من القراء يجهلون حقيقة موقفه.
رابعاً: سكوت علماء النصارى عن مثل هذه الأطروحات يؤكد أن بعضهم
يؤمن بما في الإنجيل من تحريف وتزييف.
خامساً: إن فتح الباب على مصراعيه أمام الملاحدة وأفكار الفلاسفة لن يقف
عند حدود النصرانية بل قد يتعداها إلى غيرها.
سادساً: إن علماء المسلمين يجب أن يكون لهم دور فاعل في الرد على
هجمات هؤلاء الفلاسفة الذين يهاجمون رب العالمين ليلاً ونهاراً.
تعقيب:
لا شك أن الكتاب تجسيد لمفهوم العصرانية في الدين التي تعني أن الاعتقاد
بأن التقدم العلمي والحضارة المعاصرة يستلزم إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية
على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة، والمتأمل في منهج الكاتب يدرك كيف
أن العصرانيين العرب قد أخذوا منهجه نفسه في مهاجمة الإسلام لكن بدرجة أقل
وضوحاً من الكاتب الذي يعيش بين أناس لا يرون للخالق مكاناً بينهم ولا حتى في
كتاباتهم؛ بيد أن العصرانيين العرب لا يجدون في القرآن ولا في محمد صلى الله
عليه وسلم ولا في سنته ما يمكنهم من ذلك، فيلجؤون إلى مهاجمة التراث عامة؛
ولا يقدرون أمام الملأ أن يجهروا بما يبطنون حتى لا ينفضحوا أمام أهليهم وذويهم
ومن في الأرض جميعاً؛ فما زال ثوب الحياء يمنعهم من ذلك؛ ولكن إلى متى
سيصبرون؟ !
__________
(*) أستاذ وعضو الهيئة التأسيسية للجامعة الأمريكية المفتوحة.
(**) هناك نقد موضوعي أثبت صحة القرآن أمام الكتب المحرفة كالتوراة والإنجيل، في كتاب
(القرآن والتوراة والإنجيل في ضوء المعارف الحديثة) ، للكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) ، وإن
كان لا يخلو من ملحوظات ومآخذ؛ لكنه أحسن من الكتاب محل البحث، وللعلم فإن (بوكاي) أسلم
بعد بحثه هذا.
- البيان -(158/50)
نص شعري
اجتماع سري لمجلس الخوف بين الحيوانات عام 2000م
رياض عقيل بونمي
قال الأسد الأعور الأمريكي:
ها هو العام على الغاب أتى ... ما أُريكم فيه إلا ما أرى
إن عيني قد أبتْ إلا ترى ... كل أرض فيها أمري قد سرى
واعلموا بغضي لإسلام بدا ... وعلى هذا اجتمعنا ها هنا
قال الخنزير النصراني: سيدي!
قد سرى التنصير خفَّاق الخطا ... باسْمِ إطعام المساكين فشا
سترى (إفريقيا) يوماً بها ... مرتعاً أحوى لتبشير الورى
مثلما ذقنا دماء (البوسَنا) ... فَلِ (كُوسُوفا) عذابٌ لو عتا
قال الكلب اليهودي:
أيها الليث المُفدّى عندنا ... أنت مولاي وبأسي والندى
مُنْيتي: النيل أراه جارياً ... تحت عيني وفراتٌ في الحمى
وانعزالي مفرداً حتى متى؟ ... فُكَّ أسري حتى أسقيهم لظى
قال الدبُّ الروسي:
أنا صارعتُ الرزايا والشتا ... ءَ على الشيشان لاقيتُ الأذى
فأعينوني بقرضٍ هبةً ... إن بالقوقاز داءً كالدُّجى
قال النمر البريطاني والفهد الفرنسي والقرد الصيني:
بارك الربُّ عليكم فأبيدوا ... كل (ضادٍ) لا نجونا إن نجا
الشاة العربية تسمع الحوار فقالت لأولادها الثلاثة:
قد سمعتم كيدهم كيف انجلى ... ما عليكم لو نؤاخيهم غدا
علَّ قلب الوحش يحنو ربَّما ... يحفظ الأولاد من ذئب (القطا)
قال الولد الأكبر (وهو تيس أجلح) :
أنا أرضيه وآتي وَكره ... أطلب السلم وإمحاءِ العِدا
لستُ أبغي غير عيش ناعمٍ ... وأماناً وسلاماً وكفى
قال الولد الأوسط (وهو عنزة سمينة)
أُمّيَ النجلاء رأيي من أخي ... نحن لا نخشى احتلالاً أو ردى
إن في التطبيع ربحاً ومُنى ... وانطلاقاً نحو آفاقِ العُلا
قال الولد الأصغر (وهو جَدْي أملح أقرن)
ما أرى من إخوتي غير الخنا ... والرزايا مُحدقاتٍ والهوى
ما أرى (أماه) إلا قتلنا ... من وحوشٍ ضاريات بالضحى
فاتبعوني واذْكروا من قال قبـ ... ـل: نصحتُ القوم منعرج اللِّوا(158/54)
نص شعري
ستشرق شمس
فتحي الجندي
متى نسمع: الصبح القتيل تنفّسْ؟ ... وحتام نحيا في أتُون مُرَجَّسْ؟
أيا أمة الإسلام قلبي ممزقٌ ... فدينك - لولا الله - قد كاد يُدرس
فمنك غثاءٌ يصدعُ القلب بالأسى ... وألفُ قطيعٍ تائهٍ يتحسس
وألف عميل أدرجوا في صفوفنا ... وجيش كلابٍ للعدا يتجسس
نهارك مصلوبٌ على باب مسجد ... وبدرك مخسوف وليلك عسعس
إذا ذُبح (الألبان) : خزيٌ مروّع ... وإن قُتل (الشيشان) : رأسٌ منكّس
جيوشك حُمْلانٌ إذا جاءت الوغى ... ولكن علينا ذئبُ غدرٍ عملّس [1]
وزارات (عدْل) يلعنُ اللهُ عدلها ... تُشيّد (سجناً) ، والتقي المحض يحبس
ويُقتل (عبد الله) والهالك الذي ... تلطخ بالإلحاد يحمى ويحرس
ويُعتمد (الإرهاب) ستراً لحلفهم ... وأقسم إن الحلفَ حلفٌ مُدنّس
يريدون طمس الحق بالقهر ويحهم ... وما علموا أن الضلال سيطمس
وزارات إعلام تدور مع الخنا ... تواصل تخديراً بزورٍ مُلبّس
فجورٌ وإلحادٌ وهزْءٌ بديننا ... يشاع ويحمى بينما الحق يدهس
وكلّ غراب للرذيلة مطلقٌ ... ويُتحفه الوالي بحزب مؤسس
وكل حقير قائدٌ ومحنّكٌ ... حكيمٌ، عظيمٌ، مُقْدم وعنبس [2]
وعولمة الأشرار تسعى لخنقنا ... بكف عميل فارغ العقل مفلس
تكالبت الأعداء من كل ملة ... وقام لهم من بيننا من يلبس
شيوخ وأوباش طغوا وتمشيخوا ... فتُمتهن الآياتُ والحق يُعكس
رويبضة الإرجاء باضوا وفرخوا ... يعيثون شراً بالكتاب المقدَّس
وأعجب من شيخ عميلٍ مُدجّنٍ ... ينافح عن إجرامهم ويوسوس
سيظهر دين الله في الأرض كلها ... وكل ضلالات الهوى سوف تخرس
أيا أمة ضاعت بهجر كتابها ... وأطلقت الأوغاد والحق يطمس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كُلاها، وحتى سامها كل مفلس
ولكن برغم الليل والويل والأسى ... ستشرق شمس، والضلال سيكنس
__________
(1) عملّس: خبيث.
(2) العنبس: الأسد.(158/55)
نص شعري
يا بني صهيون
فواز بن عبد العزيز اللعبون
كلُّنا أبدَى لهُ شَجَبَهْ ... لَمْ نُمَتِّعْهُ بما سَلَبَهْ
الشعاراتُ ارْتَمَتْ حُمَماً ... والقوافي فيهِ مُلتهِبَةْ
ما تَركنا الحرف محتبساً ... مُذْ تركنا القدسَ مُغتصَبَةْ
كلُّ ثرثارٍ نضا فمَهُ ... شاهراً في جمعِهِمْ خُطَبَهْ
شعبُنا ما كفَّ عن لغة ... لم يُطَرِّزْ وَشْيُها أَدَبَهْ
هَبَّ يستبقي كرامتَهُ ... فانبْرَى باللوحِ والقَصَبَةْ
هل حَجبنا الضيْمَ عن شَرَف ... والسيوفُ الحُمْرُ مُحتجِبَةْ؟
يا بني صهيونَ معذرة ... قومُنا يومَ الوَغَى كَتَبَةْ
ألفُ مليون ولا أحدٌ ... سَلَّ في ميدانِكُمْ خَشَبَةْ
ما أَمنتُمْ غيرَ حاضرِنا ... واسْألوا التاريخَ والحَسَبَةْ
حاضرٌ يبكي على زَمَن ... أيُّ خَطْبٍ يا تُرَى نَكَبَهْ؟
رُبَّ وا مُسْتَسْلِماهُ عَلَتْ ... تَندُبُ الماضي ومَن نَدَبَهْ
ضاعتِ الآمالُ.. وا عَجباً ... للذي يُبدي لنا عَجَبَهْ
اجْتماعاتٌ ولا أَثَرٌ ... واتِّفاقاتٌ ولا غَلَبَةْ
ذاكَ يُلقي الشَّجْبَ مُنتقِداً ... صولةَ الباغي وما ارْتَكَبَهْ
وابنُ مَعْدٍ في ضلالتِهِ ... يلعنُ الأوغادَ والكَذَبَةْ
وابنُ عمرٍو خلفَ غايتِنا ... يَجتني من عارِها ذَهَبَهْ
وابنُ شدَّادٍ إذن رَفعوا ... رايةً ولاَّهُمُ عَقِبَهْ
والفتى الطائيُّ ما بَرِحَتْ ... كفُّه تزهو بما وَهَبَهْ
بينَما صهيونُ ماضيةٌ ... لا تَرَى في دربِها عَقَبَةْ
يا بني الإسلامِ ويْحَكُمُ ... ضعفُكُمْ لم أكتشِفْ سَبَبَهْ
لو أَرقنا دمعَ خيبتِنا ... فوقَهُمْ ما جاوزوا لَجَبَهْ
لو نَفخنا في جموعِهِمُ ... مُعلِناً إعصارُنا غَضَبَهْ
ما رأينا فيهمُ وقحاً ... رافعاً مِن بعدِها ذَنَبَهْ
ما عزائي يا بني أهلي ... غيرَ أن الحالَ مُنقلِبَةْ
في الغَدِ الآتي سيَحصدُهُمْ ... مِن بَنِينا معشرٌ وَثَبَةْ
دورةُ الأيامِ ما اكْتمَلَتْ ... والأماني بَعْدُ مُرتقَبَةْ(158/56)
نص شعري
طيَّب المولى ثراك
علي بن جبريل أمين
إلى كل داعية على منهاج النبوة.. ينطلق مستمداً دعوته من دستور الأمة..
جاعلاً شعاره: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ
اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
أيُّ داعٍ هو ذاكم طلَّق الدنيا هناكْ!
بل رماها بالرزايا طالباً منها الفكاكْ
مسرعاً في الدرب يمضي بين شدٍّ وانفكاك
يستحث الخطو.. يسري.. لا يبالي بالشراك
من كتاب الله يبني مجده، رغم الشباك!
* * * *
أيها الداعي تقدم وانطلق مهما اعتراك
انطلق نحو المعالي (سدَّد المولى خطاك)
خذ كتاب الله واقدُم واقتبس منه سناك
كن على الدنيا أميراً.. وارمها دوماً وراك!
واجعل الأخرى مراداً نحوها وجّه خُطاك
طأْ على الأرذال واصعد وابق شهماً في عُلاك!
أيها الداعي تذكّر أن ربي قد حباك
قد حباك الله علماً ذا ضياء.. واصطفاك
قد ورثت المجد فاهنأ بالهدى، طابت يداك
قد ورثت الأنبيا فالخير حقاً قد حواك
أنت قد أُعطيت حظاً.. إن ربي قد رعاك
فلتكن في الناس تدعو أسمِع الدنيا نداك
وابتعد عن كل قولٍ يُستقى منه العراك!
كن على منهاج حق كي تلاقيه هناك
عندها فاسعد إذا ما (طيبَ المولى ثراك!)(158/57)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء - البيان - على ما يتيسر لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة
لقارئها ... سيكون لنا - بإذن الله - وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد
وآخر، والله الموفق.
* قبل الكارثة (نذير ونفير) ، الأستاذ عبد العزيز مصطفى كامل،
الناشر (المنتدى الإسلامي) 1421هـ.
وهو صرخة إيمانية، ونداء عاجل لكل المسلمين للتحذير مما يحاك من
الصهيونية العالمية ضد الأرض المقدسة في فلسطين أمام صمت العالم وعجز
المسلمين، وهو النداء الحار الذي سبق أن أطلقه المؤلف منذ 15 عاماً تحت عنوان:
(قبل أن يهدم الأقصى) ، وحذر فيه من تداعيات ما يسمى بـ (أزمة الشرق
الأوسط) وآثارها الخطيرة فيما آلت إليه الأمور من استسلام مهين وجبروت
وعنجهية، وبمتابعة دقيقة من المؤلف لتطورات هذه الأزمة، واستمرار اليهود في
مخططهم، والصمت حياله يضيف أموراً كثيرة في هذا الباب من أهمها:
1 - العداء المعاصر هو العداء القديم.
2 - بيت المقدس قبل الرسالة الخاتمة.
3 - بيت المقدس في ظل الإسلام.
4 - أهل الكتاب والبعد الاعتقادي للصراع.
5 - المتآمرون وأبعاد المؤامرة.
ويؤكد في الخاتمة أن الجهاد واجب تكليفي شرعي روحي ديني لا يحل للمسلم
أن يتخلف عنه إذا قامت شروطه ووجدت مسوغاته، وأنه لا حل مع اليهود
وغطرستهم سوى الجهاد وإعداد العدة له.
فهل من إعذار إلى الله - تعالى - بقول أو عمل لوقف قطار المؤامرة قبل أن
يهدم الأقصى؟
* مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية الإسلامية،
تأليف الأستاذ: صالح بن سليمان البقعاوي، الناشر دار ابن الجوزي،
1421هـ / 2000م.
البحث رسالة للباحث نال بها درجة الماجستير من جامعة أم القرى تناول فيها
أهمية هذا المبدأ وآثاره الإيجابية في التلقي، فشرع الباحث في بيان إطار الدراسة
وأهميتها وأهدافها ومنهجها، ثم بيان الرفق في ضوء القرآن الكريم، ثم بيان هذا
الخلق الكريم في السنة النبوية ومضامينها التربوية ذاكراً نماذج من التطبيقات
التربوية لمبدأ الرفق في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكيف استفاد
المعلمون المسلمون من سلفنا الصالح من هذا المبدأ في تعاملهم مع المتعلمين،
ومظاهر رفق المعلم بالمتعلمين عند المربين المعاصرين، وأنهى الباحث دراسته
بخاتمة لمَّ فيها أطراف الموضوع، وأنهاه بتوجيهات قيمة لترسيخ هذا المبدأ في
واقعنا التربوي المعاصر، وهو بحث قيم في بابه.
* حقيقة المقاومة (حزب الله رؤية مغايرة) ، الناشر دار الصفوة،
للأستاذ: عبد المنعم شفيق، الطبعة الأولى 1421هـ / 2000م.
الكتاب قراءة في أوراق الحركة السياسية الشيعية في لبنان للأستاذ عبد المنعم
شفيق الذي سبق أن أمد المكتبة الإسلامية بعدد من الدراسات الفكرية، من أشهرها:
(ويل للعرب: مغزى التقارب الإيراني مع الغرب، والعرب) .
وهذا الكتاب رؤية تتبَّع فيها الكاتب هذه الحركة مجيباً عن أسئلة شتى حولها؛
فتحدث عن مسيرة تلك الحركة السياسية في لبنان منذ نهاية القرن التاسع عشر
الميلادي عارضاً بدايات (موسى الصدر) وانتقاله من إيران إلى لبنان، وحركة
المحرومين، وحركة أمل، وبدايات الشيخ محمد حسين فضل الله، ودوره في
توطيد الأقدام الشيعية في لبنان، ثم يفصِّل بدايات حزب الله ومنهاجه وتحالفاته مع
إيران وسوريا، والتطورات التي حدثت في المنهج العلمي والحركي لذلك الحزب،
وأثر التغيرات الدولية على الحزب، ويختم بحثه بالنجاح العسكري للحزب
وحقيقته. والكتاب رؤية مغايرة ومختلفة لجل ما كتب حول موضوعه؛ وقد استند
الباحث إلى العديد من الدراسات والأبحاث المختصة للعديد من الباحثين من شتى
الاتجاهات، وتابع مسيرة هذا الحزب حسبما نشرته الصحف والمجلات، وبكل
تواضع يختم المؤلف كتابه بأنه محاولة لدراسة هذه الحركة، وتساءل في الخاتمة:
ماذا يمكن أن نستفيد من خطواتها؟ الكتاب يثير تساؤلات وحوارات؛ إلا أنك
ستخرج بفوائد شتى من جراء ما تضمنه البحث من محاور وآراء، وهو جهد مهما
اختلف القارئ معه فإنه لا يملك إلا أن يثني على ما فيه من جهد ودراسة وتحليل.
* المسلمون والعولمة، الدكتور يوسف القرضاوي، 1421هـ /
2000م، الناشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية في بورسعيد.
العولمة مهما اختلف الباحثون في تحليلها وتعريفها إلا أن المدقق في أهدافها
وغاياتها لا يشك في أنها اسم جديد (لاستعمار جديد) خلع أرديته القديمة واستبدل
أساليبه البالية ليمارس عهداً جديداً من الهيمنة على العالم، في كل النواحي السياسية
والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وأي دولة تحاول التمرد أو الخروج عن هذا
التيار ستواجه بالتهديد والحصار، وربما بالضرب العسكري المباشر بدعاوى ليس
أقلها الإرهاب وتهديد السلم العالمي، والمؤلف تحدث عن هذا الموضوع في أربعة
أبواب تناول فيها: ماذا تعني العولمة؟ والفرق بين العولمة والعالمية وتأكيد أنها
استعمار جديد. والباب الثاني: وقفات مع عولمة السياسة والاقتصاد والثقافة والدين.
والباب الثالث: تطرق فيه للعولمة والمستقبل، وما كتب في بحثين مشهورين هما
(نهاية التاريخ) ، (صدام الحضارات) . والباب الرابع: المواقف من العولمة:
ما بين رفض تام أو أخذ تام أو وسطية؛ وهو الحري بنا أن نأخذ به، وهو أن
نستفيد من إيجابياتها ونتجنب سلبياتها متحصنين يإيماننا معتزين بأنفسنا عاملين بكل
ما نستطيع لتطوير قدراتنا وتحسين إمكاناتنا؛ حتى يكون يومنا خيراً من أمسنا،
وغدنا خيراً من يومنا.
* منارات في الطريق، للأستاذ عبد العزيز ناصر الجليل، الناشر دار
طيبة 1421هـ / 2000م.
وهو مقالات في الدعوة والتربية تجمع بين بساطة الأسلوب ودقة التحليل
لكثير من المسائل الدعوية والتربوية استقاها الكاتب من قراءاته لكثير من كتب
السلف والمحدثين قد لا تخفى على الدعاة، إلا أن المرء قد يغفل عنها وعن العمل
بمقتضاها بسبب تداخل الأعمال وتأثير الواقع وضغطه؛ ولهذا سلط المؤلف
الأضواء عليها تذكيراً وتبياناً، ومن أهم المواضيع التي تطرق لها الكتاب:
(ضعف التأصيل وتأصيل الضعف) ، (خطر الهوى والتعصب على الدعاة وطلبة
العلم) و (فتنة مسايرة الواقع) ، و (المداراة لا المداهنة) ، (أسباب النصر
وأصول التمكين) ، (الفهم الصحيح للورع والزهد) ، وغيرها من المسائل العلمية
التي يواجهها المسلم في خضم الحياة ويلزم أن يسير وفقها على منهاج صحيح،
وهذا ما تجده في هذه المنارات العلمية والوقفات الدعوية.
* الموسوعة الميسرة للتاريخ الإسلامي، مجلدان كبيران، الطبعة
الثانية 1421هـ/ 2000م، إعداد فريق البحوث والدراسات (ندا) ،
الناشر مكتبة علاء الدين بالقاهرة.
التاريخ حقاً ذاكرة الأمة به تعي ماضيها وتفسر حاضرها وتستشرف مستقبلها،
ولما كانت موسوعات التاريخ ضخمة ومن الصعوبة بمكان استقراؤها جاء هذا
الكتاب ليجمع التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى العصر الحديث
بأسلوب سهل، وعرض مختصر متضمناً كل ما ينبغي أن يعرفه المسلم من أحداث
التاريخ الإسلامي، وختم الكتاب بملاحق عن العطاء الحضاري للمسلمين والفرق
الإسلامية والمذاهب والمنظمات التي تعمل ضد الإسلام، وآخر الملاحق الدروس
والعبر التي يستفيد منها القارئ من خلال قراءاته للتاريخ.
* الآثار المحتملة لمنظمة التجارة العالمية على التجارة الخارجية والدول
النامية، تأليف الأستاذ: فضل علي مثنى، الناشر مكتبة مدبولي، عام
2000م.
الكتاب رسالة ماجستير تناول فيها الباحث بالدراسة والتحليل فكرة قيام وإنشاء
منظمة التجارة العالمية وإرهاصاتها الأولى منذ مؤتمر هافانا 1947م مروراً
بجولات المفاوضات التي عقدتها (الجات) حتى جولة أورجواي
(1986م 1994 م) ، كما تطرق المؤلف للهيكل التنظيمي للمنظمة، وآلية عملها
والعضوية فيها، وعملية الانضمام إليها والانسحاب منها، وطرق حل المنازعات،
ومسائل أخرى تتصل بعمل المنظمة ونشاطها وقضايا تحرير التجارة في كافة
المجالات، وأثر كل ذلك على الدول النامية بوجه خاص وعلى اليمن بوجه أخص؛
حيث تناول الباحث ذلك في ثنايا بحثه من عام 1980م / 1990م موضحاً الآثار
المحتملة للمنظمة على التجارة الخارجية اليمنية.
وخلص في نهاية بحثه إلى عدد من النتائج المستخلصة من الدراسة، وإلى
عدد من التوصيات التي تساعد بلاده على مواجهة المستجدات في ظل النظام
التجاري الدولي الجديد الذي يرسيه قيام هذه المنظمة العالمية.(158/58)
الإسلام لعصرنا
مفهوم العقل
أ. د. جعفر شيخ إدريس
العقل جزء من الشرع؛ فكما أنه لا عقل كاملاً بلا شرع، فكذلك لا شرع
كاملاً بلا عقل، والشرع هو كل ما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فما العقل؟
كان السلف يقولون: إن العقل عقلان: غريزي، ومكتسب. فالغريزي هو
ما نسميه بالمقدرات العقلية مِن فَهمْ، وإدراك، وفقه، واتساق في الكلام، وحسن
تصرف إلى آخر ما سنبينه بعد إن شاء الله. هذا العقل الغريزي هو موضوع مقالنا.
العقل الغريزي هذا هو مناط التكليف؛ فمن لا عقل له لا يكلف، ومن فقد
بعض مقدراته العقلية؛ فإنما يُكلف بحسب ما بقي له منها.
والذي أعطي عقلاً ثم ألغاه فلم يستعمله الاستعمال الصحيح، ولم يلتزم بمبادئه
لا يفقه الدين، فلا يؤمن به، لكنه يحاسب على عدم فقهه؛ لأنه كان نتيجة لتعطيله
الاختياري لعقله [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ
لاَ يَعْقِلُونَ] (يونس: 100) .
فلا غرو أن جعل الله عقاب الذين لا يعقلون هذا هو نفسه عقاب الذين لا
يؤمنون: [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 125) ، الرجس في أصله اللغوي هو النتن، فكأن الآيتين
الكريمتين تدلان على أن نقاء القلب لا يتأتى إلا بنور العقل ونور الشرع.
وللعقل في القرآن معان بحسب نوع المعقول أعني نوع الشيء المراد عقله
وفهمه من هذه المعاني:
1 - فهم الكلام: [أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (البقرة: 75) . [إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (يوسف: 2) . فبين أن السبب في جعله
عربياً هو أن يفهمه ويعقله أولئك المتحدثون بهذه اللغة.
2 - عدم التناقض في القول: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 65) ، فالذي
يقول: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً كأنه يقول: إن إبراهيم كان سابقاً في
وجوده لليهودية والنصرانية لكنه كان أيضاً لاحقاً لهما. وهذا كقوله - تعالى -:
[وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ
الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ
كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ]
(الأنعام: 91) هذا الكلام موجه لليهود الذين يزعمون أنهم يؤمنون بنبوة موسى؛
فكأن الآية الكريمة تقول لهم: إن من التناقض أن تقولوا: إن الله أنزل التوراة على
موسى، ثم تقولوا: ما أنزل الله على بشر من شيء.
3 - فهم الحجج والبراهين: [ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (الروم: 28) ، [قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (يونس: 16) .
4 - موافقة القول للعمل: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (البقرة: 44) ، ولذلك قال النبي الصالح: [قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88) . لكن تصحيح هذا التناقض إنما يكون بجعل
العمل موافقاً للقول الصحيح لا العكس؛ فالذم في هذه الآية منصب على نسيانهم
لأنفسهم لا لأمرهم بالبر؛ لأن الأمر بالبر شيء حسن، ولا يغير من حسنه كون
الداعي إليه لا يلتزم به. وقد يأمر الإنسان به بإخلاص وإن لم يعمل به. فالذي
يأمر أولاده بعدم التدخين أو عدم شرب الخمر مثلاً، مع فعله لذلك، خير من الذي
يأمرهم بالتأسي به في فعله، بل خير من الذي لا يأمرهم ولا ينهاهم.
5 - اختيار النافع وترك الضار سواء كان مادياً أو معنوياً: [وَمَا الحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (الأنعام: 32) ،
[لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (الأنبياء: 10) .
6 - التضحية بالمصلحة القليلة العاجلة من أجل مصلحة كبيرة آجلة:
[وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (القصص: 60) ، ويؤيد هذا آيات أخرى لم يرد فيها ذكر
العقل، منها قوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] (التوبة: 38) .
7 - استخلاص العبر الصحيحة من الحوادث: [وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (العنكبوت: 35) ، يشير سبحانه وتعالى هنا إلى قرى قوم لوط
التي قال عنها في آية أخرى مبيناً عدم إدراك الكفار لمغزاها بسبب إنكارهم للبعث:
[وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القَرْيَةِ الَتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ
يَرْجُونَ نُشُوراً] (الفرقان: 40) .
8 - استخلاص العبر مما جرى في التاريخ: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (يوسف: 109) .
9 - فَهْم دلالات الآيات الكونية: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ
الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (البقرة: 164) ،
[وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (النحل: 12) .
10 - حسن معاملة الناس ولا سيما الأنبياء: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ
الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] (الحجرات: 4) .
هذه كلها مقدرات عقلية زود الله - تعالى - بها الناس أجمعين؛ فهم جميعاً
يقرون بها، ويرون من عدم العقل ترك الالتزام بها؛ لكن ما كلهم يلتزم في الواقع
بها. ولذلك يكفي أن ينبه من خرقها إلى أنه أتى بفعل غير عقلي كما رأينا ذلك في
آيات القرآن السابقة.
لكن ينبغي أن ننبه إلى أن بيان القرآن للمسائل العقلية وإقراره لها ليس
محصوراً في الآيات التي ذكرت فيها كلمة العقل، فهنالك آيات تذكر فيها كلمات
أخرى تشير إلى المقدرات العقلية بذلك المعنى العام الذي ذكرناه، بل إنه يبدو أن
كل سؤال استنكاري في القرآن يدل على أن المسؤول عنه أمر بدهي ما ينبغي لذي
عقل أن يماري فيه.
بل إن القرآن الكريم مليء بالآيات التي يمكن أن يتخذها المسلم موازين عقلية.
ولعل هذه هي المرادة بالمعنى الثاني لمفهوم العقل، أعني كونه علوماً يهتدي بها
الإنسان.(158/61)
وقفات
مع الناس في حاجاتهم
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
لبث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً يحذر الناس من
الشرك، ويدعوهم إلى التوحيد، ويربي المؤمنين عليه. ولكنَّ العجيب اللافت
للنظر أنَّ ذلك الأمر العظيم لم يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن العناية بحقوق
الناس الدنيوية، وحاجات المستضعفين؛ ففي العهد المكي تنزل عليه قول الله -
تعالى -: [وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ
أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] (المطففين: 1-6) . وقوله - تعالى -: [إِنَّهُ كَانَ لاَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ] (الحاقة: 33-34) .
وقوله - تعالى -: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ] (الماعون: 1-3) ، ونحوها من الآيات كثيرة جداً،
ومثلها كذلك الأحاديث النبوية التي تواترت في الحث على السعي في قضاء حاجات
الناس وتفريج كرباتهم؛ فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن
فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلماً ستره
الله يوم القيامة» [1] . وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» . وأحسبه
قال: «كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر» [2] .
إنَّ أولويات الدعوة والتغيير في هذه الأمة كثيرة جداً، والحكمة الشرعية
تقتضي البدء بالأوُلى فالأوْلى، ولكن هذا لا يعني إلغاء العناية بالحاجات الدعوية
والاجتماعية المفضولة؛ فالأمور تقدر بقدرها، والفقه الناضج هو الفقه الذي يوائم
بين تلك الحاجات بتوازن تام.
ومن ذلك السعي الحثيث لكفالة ضروريات الناس وتوفير حاجياتهم التعليمية
والاجتماعية والصحية.. ونحوها؛ فهي من الطرق الرئيسة للتأثير على نفوسهم
وتأليف قلوبهم. قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسان
وقد التفت إلى هذا الأمر في عصرنا فرق كثيرة من أهل الضلال، منهم:
1 - الشيوعيون الذين طالبوا بحقوق العمال والطبقات الكادحة - زعموا! -،
وأصبحت شعاراتهم البراقة - في يوم من الأيام - تكتسح صفوف المستضعفين
والبسطاء..!
2 - المنصّرون الذين استغلوا ثالوث الفقر والمرض والجهل الذي يضرب
بجِرانه في أنحاء المعمورة لترويج باطلهم.
ونحن الدعاة أوْلى الناس بهذا الأمر، فمن الخطأ الجسيم الذي قد يرتكبه بعض
الدعاة أن يتغافلوا عن مشكلات جمهور الأمة، وأن يهمشوا قضايا رجل الشارع
العادي واحتياجاته اليومية؛ فليس من فضول البرامج الدعوية أن تُؤسس الجمعيات
الخيرية التي ترعى العجزة والأرامل والأيتام، وليس من العبث أن نسعى في
حاجات الفقراء والمستضعفين والمرضى، وليس من الفقه والسياسة الشرعية أن
نتعامى عن التصدع النفسي والاجتماعي الذي ينخر في ديار المسلمين، وليس من
المروءة أن نقصر الجهد في مواساة المنكوبين، وإغاثة الملهوفين. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛
إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [3] .
وإنك لتعجب أشد العجب من أن بعض الدعاة يدع كثيراً من الهموم العامة
للأمة، ولا يلقي لها بالاً، ويترك العلمانيين وأدعياء الوطنية يَلْغون فيها،
ويتشدقون بأطروحاتهم. ألا تتيح لنا ثقافتنا الإسلامية وأوْلوياتنا الدعوية أن نطرح
قضايا التنمية والنهضة، ونعالج مشكلات البطالة، وتعلو لنا يد جادة تدعو إلى
العدل الاجتماعي، ويكون لنا صوت مؤثر ورائد في انتشال الأمة من حمأة التخلف
والانحطاط الحضاري..؟ ! !
لقد رأيت لبعض فضلاء المفكرين الإسلاميين أطروحات فكرية تزري ببعض
الأعمال الاجتماعية والإصلاحية، وتهوِّن من شأن المؤسسات الخيرية، ويزعم أن
ذلك يستهلك طاقات الدعاة ويشتت جهودهم، ويبعدهم عن الهدف الحقيقي، والتغيير
الشامل لمسار الأمة..!
وهذا صحيح بلا شك إذا كانت تلك الأعمال الاجتماعية هي البرامج
الإصلاحية الوحيدة التي نقدمها للناس، ولكنها حلقة مهمة من حلقات النهضة الشاملة
للأمة إذا كانت تقدم في رؤية علمية واضحة المعالم ضمن سلسلة من الإنجازات
التي تأتلف مع بعضها، وتتكامل في رسالتها، وتخرج من مشكاة واحدة يتمم
بعضها بعضاً؛ فمنا من يعتني بالإصلاح الاجتماعي، وآخر يتخصص بالإصلاح
التربوي، وثالث يتصدر للإصلاح الفكري، ورابع للإصلاح السياسي.. وهكذا.
وأحسب أن من أبرز جوانب التحدي الذي تواجهه الصحوة الإسلامية هو
الدخول المتوازن لكافة شرائح المجتمع وطبقاته؛ فالطرح الإصلاحي النخبوي وحده
يبقى محدود التأثير منغلقاً في قاعات الدرس وبطون الكتب، والطرح الجماهيري
وحده يبقى ضعيف التأثير لا يستوعب إمكانات الأمة وقدراتها، ولا يحسن توظيفها
واستثمارها. وأما المواءمة بين الأمرين فهو التجديد الذي يحيي الأمة ويسلك بها
في سبيل النهضة والتغيير المنشود.
__________
(1) أخرجه: البخاري، في كتاب المظالم (5/97) رقم (2442) ، ومسلم، في كتاب البر،
(4/1996) رقم: (2580) .
(2) أخرجه: البخاري، في كتاب الأدب (10/437) رقم (6007) ، ومسلم، في كتاب الزهد.
(4/2286) رقم (2982) .
(3) أخرجه: البخاري، في كتاب الأدب (10/438) رقم (6011) واللفظ له، ومسلم، في كتاب البر (4/1999) رقم (2586) بلفظ: «مثل المؤمنين إذا اشتكى منه عضو» .(158/64)
قضية للمناقشة
عوائق في طريق المراجعات
(1 - 2)
محمد مصطفى المقرئ
أحسنت مجلة «البيان» إذ أفردت لقضية المراجعات حلقات للمناقشة نرجو أن
تطول، كما نرجو للموضوع أن يلقى اهتماماً يكافئ حجمه، وإيجابية تضعه موضع
التمثل والتطبيق.
ففي تقديري أننا لم تُمْسِ حاجتنا للمراجعة - أمة وأفراداً وجماعات - مثل
حاجتنا إليها اليوم، وإذا كانت الحركة الإسلامية تمثل طليعة الأمة ونواة التغيير
فيها.. فهي الأحوج للمراجعة باعتبارها القدوة، ولما يناط بها من مهمة تغييرية
إسلامية عظيمة.
وإذ نتفق على أن هذه المشاركات المحدودة عبر مجلة أو أكثر لن توفِّي مسألة
المراجعات حقها؛ فحسبنا منها تفتيح نوافذ تطل على مجالاتها الرحيبة؛ فهي دعوة
نطرح من خلالها رؤوس أقلام وحسب، ويبقى على العلماء العاملين والدعاة
المربين توفيتها حقها من التنظير والتجذير واستنبات الثمار [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ] (الأعراف: 58) .
وقد اخترت أن تكون مشاركتي المتواضعة في جانب لا بد من تذليله أولاً؛
ذلك إن شئنا أن تأخذ المراجعة موقعها اللائق من خارطتنا التربوية، وتصير عملاً
إصلاحياً قيد التطبيق، وهذا الجانب أسلِّط من خلاله الضوء على عوائق أراها
معرقلة لهذه المهمة الصعبة، ومؤخرة للإصلاح المنشود.
المعوق الأول: إحسان الظن بالنفس.
المرء منا يلحظ عيوب غيره، ويغفل عن عيوب نفسه؛ فيحسن الظن بها،
ويخالها خيِّرة صفية، وما يدري أن في ذلك هلاكه! !
وكذلك تُستدرَج الجماعات والأمم؛ فحين يتسرب إلى نفوسنا هذا النوع من
الوثوق المغرِّر، والطمأنينة الخادعة فإننا نتواكل على صلاح موهوم، ونركن إلى
استقامة منتحلة! ! نرى أننا وافينا بلوغ الكمال أو كدنا، ولا حاجة بنا إلى إصلاح،
بل لا حاجة بنا إلى التفتيش عن نقص أو عيب؛ فهذا أمر مستبعد، أو هو لا يَرِدُ
على خواطرنا أصلاً! !
لما أصيب الصحابة - رضي الله عنهم - يوم أحد نزل قول الله - تعالى -:
[أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ]
(آل عمران: 165) فأنى لجماعة أو جيل بعد خير القرون أن تخلو من نقص
وقصور؟
لقد كان مَن هُم خير منا على العكس مما نحن فيه من إحسان الظن بأنفسنا؛
فكانوا يمقتون أنفسهم في جنب الله - تعالى -؛ حتى لا يرى أحدهم نفسه إلا شراً
من المسلمين أجمعين.
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «لا يفقه الرجل
كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد
مقتا» [1] .
وقال مطرِّف - في دعائه بعرفة -: «اللهم لا تردَّ الناس لأجلي» [2] .
وقال بكر بن عبد الله المزني: «لما نظرتُ إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِرَ
لهم لولا أني كنت فيهم» [3] .
وقال أيوب السختياني: «إذا ذُكِرَ الصالحون كنت عنهم بمعزل» [4] .
ولما احتُضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال
له حماد: «يا أبا عبد الله! أليس قد أمنتَ مما كنت تخافه، وتَقدِم على من ترجوه،
وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال:
إي والله! إني لأرجو لك ذلك» [5] .
وذُكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد أن
أباه أخبره قال: «خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل
الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع (صلة) ، فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس
غفلة الناس، حتى إذا قُلْتُ: هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريبة منا، فدخلت
على إثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة،
فتراه التفت أو عدَّه جرواً؟ ! فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس، ثم سلم، ثم
قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر. فولَّى وإنَّ له لزئيراً، أقول:
تصدع الجبال منه. قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد
الله - تعالى - بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من
النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة. قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات
على الحشايا (يعني حيث ينامون كأنه لم يستيقظ) ، وأصبحت وبي من الفزع
شيء الله به عالم» [6] .
وقال يونس بن عبيد: «إني لأعد مائة خصلة من خصال الخير، ما أعلم أن
في نفسي منها واحدة» [7] .
وروى الإمام أحمد عن مسروق قال: «دخل عبد الرحمن على أم سلمة -
رضي الله عنها - فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» إن من
أصحابي لَمَنْ لا يراني بعد أن أموت أبداً «فخرج عبد الرحمن من عندها مذعوراً،
حتى دخل على عمر - رضي الله عنه - فقال له: اسمع ما تقول أمك! فقام عمر -
رضي الله عنه - حتى أتاها، فدخل عليها فسألها، ثم قال: أنشدك الله، أمنهم
أنا؟ قالت: لا، ولن أبرئ بعدك أحدا» [8] .
قال العلاَّمة ابن قيم الجوزية: «ومقت النفس في ذات الله من صفات
الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله - تعالى - في لحظة واحدة أضعاف ما يدنو
بالعمل» [9] .
إن المسافة بين إحسان الظن بالنفس وبين مقتها في ذات الله - تعالى - هي
كالمسافة بين الكبر والتواضع، بين الدعوى والحقيقة، بين الكذب والصدق، بين
العلم والجهل.. ويخطئ من يحسب أن مقته لنفسه إهدار لمكانته، فيدع ذلك بدعوى
اتقاء تجرؤ السفهاء، مع أن مقتها لا يكون بالضرورة جهرة بين الناس.
إننا مع الأسف لا نطرق مسألة المراجعات إلا وتذهب أذهاننا إلى غيرنا؛
فكل الناس يحتاجها إلا (أنا.. جماعتي.. منهجنا! !) .
المعوق الثاني: الإعجاب بالعمل:
إذا نسي الناس عظمة المنعم جل وعلا، وتغافلوا عن عظيم نعمه استكثروا
أعمالهم، وأعجبتهم هيئاتها! !
قال مسروق: «كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله» [10] .
فمن الذي يوفق لعمل الصالحات ويهدي إليها ويعين عليها؟ [وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: 40) .
يقول أحدنا لنفسه: ولكن جهدي في تزكية نفسي هو الذي جلب توفيق ربي! !
فليجب هو نفسه: [وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ] (النور: 21) فهو محض فضل الله تعالى لا غير.
فتقول النفس: ما زكيت دون كثير غيرك إلا لما في قلبك من محبة الله ومحبة
طاعته! ! فليقل هو لها: [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً]
(الحجرات: 7-8) .
ولربما يعجب أحدنا بملكاته، وعلو مهاراته، وتفننه وإتقانه، وعلمه
وعرفانه.. وإن هي إلا أرزاق مقسومة من الله لعباده؛ فإن يكن لنا في تحصيلها جهد
فالعون منه - تعالى - وحده، ولا ريب أن في الخلق من يفوقنا فيها [وَفَوْقَ كُلِّ
ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (يوسف: 76) وما يأمن امرؤ نعمة أنعمها الله عليه أن تسلب،
لا سيما إن رآها حاصلة منه إليه.
أين تبلغ بنا هذه الأعمال - إن قبلت - بغير رحمة الله وفضله؟ والنبي
المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يُدخِلَ أحداً منكم عمله الجنة»
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضل
ورحمة» [11] .
إن المرء إذا لم يتجرد من الحول والقوة عند شروعه في عمله، ويلقي أحماله
على توفيق ربه؛ ويستجلب المدد والعون من رحمته وفضله؛ إذا لم يكن ذلك كذلك؛
رأى نفسه هي الصانعة المبدعة، وعندئذ يوكَل إليها، وإذا وُكِلَ العبد إلى نفسه
فقد وكل إلى عجز وضيعة، وفقر وفاقة، وهو ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وبأعظم أسماء الله - جل وعلا -: «يا حي يا قيوم، برحمتك
أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من
خلقك» [12] .
لقد كان الدرس يوم حنين عظيماً، العظة فيه لنا نحن؛ فجيل الصحابة
استوعب الدرس وفهمه، وورثنا منه العبرة والعظة، وهم خير القرون قدوة
ومثلاً.. [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ
بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] (التوبة: 25) .
وترانا نتيه بالجماهيرية والكثرة، ونفاخر بالسبق والقدم، ونزهو بتميز
المنهج وتفرده، مع كوننا بهذا وبغيره لم نزل نعاني الاستضعاف والهوان [فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئاً] (التوبة: 25) .
وثَمَّ أمور تزكي نيران العجب وتغذيها:
منها: الاعتداد بالنفس، ومشاهدة فضلها وملاحظة عطائها، وهو لون
من عدم إنكار الذات، والتنكر لفضل الله - تعالى -، ونسيان فضل
الغير.. [فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] (النجم: 32) ، [وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن
يَشَاءُ] (النور: 21) ، [وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ] (البقرة: 237) ، [وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
ومنها: تحقير عمل الغير، وغمط فضله، والتقليل من شأنه، وهو - لعمر
الله - الكبر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطر الحق، وغمط
الناس» [13] ، وهو هضم لحق من حقوق الأخوة في الدين ف «المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» [14] .
ومنها: مغالاة الأتباع، ومدحهم لطوائفهم، وإطراؤهم لمشايخهم، وثناؤهم
عليهم في وجوههم؛ ولَذاك انتهاك صارخ للنهي الشرعي؛ حيث يقول صلى الله
عليه وسلم: «انثروا في وجوه المداحين التراب» [15] ؛ ذلك أن المرء إذا مُدِحَ
في وجهه دخله العجب، وإذا دخله العجب هلك، لقول رسول الله: «ثلاث
مهلكات..» ، وذكر: «فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء
بنفسه..» [16] .
وفي حديث آخر: «.... حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا
مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك» [17] .
وهذه الخصال الأربع بينها ارتباط وصلة، وكذلك شأن أمراض القلوب،
تخالها كأنها شبكة فيروسية، أو كأنها ميكروب انشطاري؛ فغالباً ما تجد الشح
واتباع الهوى وإيثار الدنيا والعجب مجتمعة كلها في حالة مرضية واحدة، وقد يعافى
المرء من تلك الثلاثة الأُوَل، إلا إعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فهي أشدها، وهي
التي منها المعاناة عند الخلاف.
قال علي - رضي الله عنه -: «الإعجاب آفة الألباب» ، وعن أبي
الدرداء - رضي الله عنه -: «علامة الجهل ثلاثة: العُجب، وكثرة المنطق فيما
لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه» ، وعن مسروق: «كفى بالمرء علماً أن
يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله» ، قال أبو عمر ابن عبد البر:
«إنما أعرفه بعمله» [18] .
المعوق الثالث: تقديس المقدمين والمغالاة فيهم:
وهو ما نهينا عنه حتى في حق أكمل الخلق وأحبهم إلينا: رسول الله صلى
الله عليه وسلم القائل فيما صح عنه: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح
ابن مريم؛ إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» [19] ، وترانا نستنكف أن
نذكر بغير ألقاب تضاف إلى أسمائنا؛ فالفضيلة والسماحة والمشيخة والأستاذية
وغيرها.. لها في آذاننا رنين محبوب مرغوب! ! في حين ندرج أسماء الصحب
الكرام - رضي الله عنهم - بغير ألقاب..؛ فنقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، وسعد، وسعيد....، ولا نرضى للمعظم فينا أن يدرج اسمه غير مضاف
إلى (الإمام.. العلاَّمة.. الشيخ..) وربما يُجمَع له ذلك كله وغيره! !
وإن تعجب فعجب: أن تقابل هذه المغالاة في المقدمين فينا بتفريط يضع من
قدر المقدمين في غيرنا ممن هم من ذوي الفضل والسبق والعلم أيضاً! ! إذن هي
العصبية المقيتة، والموالاة حمية [حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ] (الفتح: 26) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومما يتعلق بهذا الباب: أن يعلم أن الرجل
العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل
البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى
الخفي، فيحصل بذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك
الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره
وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان! !
وكلا الطرفين فاسد: الخوارج، والروافض، وغيرهم من أهل الأهواء،
دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم
وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل
الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه
ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة، والجماعة خلافاً للخوارج،
والمعتزلة , ومن وافقهم» [20] .
المعوق الرابع: الجهل والهوى:
الجهل ظلمة لا تلغي وجود المعارف، ولكن تحول دوننا ودون رؤيتها، وآلة
الرؤية كائنة ميسورة، ولكن لا بد لها من شعاع ضوء يعكس عليها صور المعارف
وماهياتها.. وذلك هو العلم. فالعلم: هو النور، والجهل ضده. والهوى: ظلمة
تحرمك الرؤية؛ وإن ملكت آلة الإبصار.. فكأن نور العلم أضعف من أن يخترق
حجاب الهوى، فهو معه غير نافع لآلتك.. [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] (الجاثية: 23) .
قال الحافظ ابن قيم الجوزية: «فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها
بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله - تعالى -
في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم، فقال: [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ] (القصص: 50) ، وقال: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ
وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى] (النجم: 23) ، فأصل كل خير: هو العلم والعدل،
وأصل كل شر: هو الجهل والظلم» [21] .
والجهل: ليس جهل الحرام، والحلال، وحسب، بل من أعظم الجهل:
جهل المرء بنفسه، وبأدوائها، وبما يجب عليه في تزكيتها، وإصلاحها، ومجاهدة
ميولها، ومغالبة هواها، وفي الأثر: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما
جئت به» [22] .
والمرء عدو ما يجهله، ويأبى الهوى على صاحبه أن يوقفه أحد على أخطائه،
ولا حتى أن يقف عليها هو بنفسه، يكره أن يخطَّأ في أعين أتباعه، فيهرب من
مكاشفة نفسه، ويفر منها إليها، ولو رزق هذا التوفيق لفر منها إلى ربه.. [وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى]
(النازعات: 40-41) .
قال العلاَّمة ابن القيم: «والإنسان خلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك
عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده؛ فمن أراد به الخير
علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم،
ومتى لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة، كما في المسند من حديث عبد الله بن
عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى
عليهم من نوره؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل « [23] .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العلم والعدل في سؤاله الله - جل
وعلا -:» اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا « [24] ؛ فالرشد هو العلم بما
ينفع، وشرور النفس هو ظلمها، وهو اتباع الهوى.
وفي الحِلْم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك أهواء الفؤاد المتيم
بصائر رشد للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم
المعوق الخامس: الإرهاب الفكري:
يبدو لي أن أجواء القهر والاستبداد والظلم التي تعيشها أكثر بلداننا قد أصابتنا
بلوثتها، فصرنا نعاني من الإرهاب الفكري حتى فيما بيننا نحن الإسلاميين! !
فأنت دائماً متهم بالإفراط أو التفريط؛ ذلك بعدما صارت الوسطية أمراً نسبياً يقيسه
كل من جهته، وعلى أساس من مقرراته هو.. فإذا كتبت في الاعتقاد: فأنت
متزمت وهَّابي، أو مبتدع حشوي، وإذا كتبت في الإيمان: فأنت خارجي أزرقي،
أو مرجئي جهمي، وإذا كتبت في المنهج: فأنت سلفي متعصب، أو خلفي متسيب،
وهكذا..! !
وما أسهل أن تطالك أحكام جاهزة، شبه عسكرية واستثنائية، ولكن من لون
آخر تعلوه مسحة شرعية، ليس في الحقيقة ولكن في إهاب يبدو كذلك؛ فتُخلَع
عليك ألقاب من نحو: منافق، مبتدع، مرجف، مداهن، خارجي، مرجئ،
مخرف، صوفي....! !
فإذا كنت واحداً من هؤلاء ولا بد فأبشر بألوان من التشهير والتعيير والتنفير
والذم والحض على الكراهية.... فما يدَعونك إلا وسيرتك جثة هامدة ينأى عنها
أتباعهم قابضين على أنوفهم، يريدون ليوهموا الناس أنها كريهة! !
يعلم المراجِع لنفسه أنه متجه نحو هذا الكمين، فيتردد ألف مرة، يُحب أن
يراجع فيقدم، ثم يتراجع.. ينمق العبارات، ويدبج الصياغات، يريد أن يكون
لوقع تراجعه أخف الوطء على نفوس هؤلاء المتحفزين، وبينما هو يهم بالتراجع
مجرد همٍّ، تنهمر فوق رأسه اتهامات بالانحراف المنهجي، وعدم الثبات على الحق،
والفتنة في الدين، والتخاذل والنكوص، ونكث العهود! !
ألا فلا تتردد وقد عزمت؛ فإنه متى بان لك خطأ لم يحل لك أن تتوانى أو
تسوِّف في التراجع عنه، [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ]
(النمل: 79) ، وثق أن رضا الناس غاية لا تدرك. قال صلى الله عليه وسلم:
» من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مُؤْنَة الناس، ومن التمس رضا الناس
بسخط الله وكله الله إلى الناس « [25] .
المعوق السادس: خشية شماتة المخالف:
من المؤسف أننا لا نفرق بين النصيحة والتعيير، وفي الحديث:» من عيَّر
أخاه بذنب لم يمت حتى يفعله « [26] ، وللحافظ ابن رجب الحنبلي مصنف مفرد
لهذه المسألة وحدها، موسوم بـ:» الفرق بين النصيحة والتعيير «، فما أن
يرجع مخالف عن خطأ كان عليه إلا وتنهمر عليه عبارات التبكيت والتأنيب
والتقريع.. ألم ننصح لك؟ ألم نبين لك خطأ ما درجت عليه؟ هل أدركت الآن
أننا كنا على حق؟ ألم نقل لك إن منهجنا هو المنهج؟ ! ! وتدبج المقالات،
وترصف الأسطر الطوال، تحقر من شأن المتراجع وتزدريه، وتنعى عليه منهاجه
كله، بل يظهرون الشماتة فيه، أنه قد أقر على نفسه بالخطأ، واعترف بما كان فيه
من مخالفة، ولو يدري هؤلاء لعلموا أن ما يشنعون به عليه من الإقرار بالخطأ
والتراجع عنه: فضيلة ومنقبة تذكر له لا عليه، ولعلهم هم أعجز من أن يرجعوا
عن خطأ هُم عليه كذلك، وربما كان خطؤهم أشنع من خطئه، وعلى كل فقد تراجع
هو، فأين هم من أخطائهم؟ وفي التحذير النبوي البليغ:» لا تظهر الشماتة
بأخيك فيرحمه الله ويبتليك « [27] .
فلماذا يشمت الشامتون؟
أليس التزام الحق هو مطلب كل صادق؟ فلِمَ إذن نرى الشامتين يتخذون من
تراجع المخالف فرصة لمهاجمته، بل وللمزايدة عليه، وإظهار منهجهم على حساب
التحقير من منهاجه؟ ! أوَ ننسى أن الكثير منا وممن نحب ونقرب، وممن نعظم
ونوقر؛ قد هداهم الله من هنات وهنات، وزلات وزلات؟ فليسمع هؤلاء وأولئك
لقول الله - تعالى -: [كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] (النساء: 94) .
فيا أيها العازم على الرجوع إلى الحق: امض لما عزمت؛ فإنها والله فضيلة
تجعلك فوق من يحقرونك [وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]
(الأحزاب: 48) .
المعوق السابع: توهم فتنة الأتباع إن طالعوا المخالفة:
يلقي الشيطان في روع أحدنا: أن اعترافنا بالخطأ، وإقرارنا بما كنا عليه من
المخالفة سوف يفتن الأتباع، ويصدهم عن التمسك بالمنهج، وربما ينفرهم عن
الطريق كله..
أفتريد يا هذا أن تكون جذوة نار تحترق لتضيء للناس الطريق؟ وقد دلَّك الله
كيف تضيء لهم من الحق مصباحاً، فتهتدي ويهتدون تبعاً، وتنجو وينجون
جميعاً.. [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
إن الرجوع إلى الحق ولزومه حيث كان: هو الدرس العظيم الذي يجب أن
نعلِّمه أتباعنا، ومن كان فيه خير فسيلزم التصويب، وليس في لزوم الحق فتنة،
وإنما تكون الفتنة بالنكوص المنهجي عن ثوابت الحق، والتنكر لما أثبته الدليل من
غير حجة شرعية، ففرق بين الرجوع إلى الحق والتراجع عنه، والخلط بين
المفهومين هو سبب هذا الغلط.
المعوق الثامن: بطر الحق وغمط الناس:
إنه الكبر.. وبذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم:» الكبر بطر الحق،
وغمط الناس « [28] ، هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ولله دره، بأبي
هو وأمي؛ فالبطر للحق والغمط للخلق: بينهما وشيجة وصلة؛ إذ قد يحمل المرء
على المكابرة في الحق والتنكر له وردِّه؛ أنه جاءه ممن يراه دونه! ! كما أن بطر
الحق يشتمل على نسيان فضل الغير وهضم حسناته.
والمرء إذا تسرب إلى نفسه الكبر منعه ذلك من طلب التصويب، وحال بينه
وبين الحرص على التصحيح؛ فأنَّى للمتكبر الذي يحسب نفسه فوق الناس أجمعين،
وأكمل من أقلَّته الأرضون؛ أن يرى به حاجة للمراجعة، فضلاً عن مظنة تلبُّسه
بخطأ، أو تعثره بكبوة؟ ! وفي جامع الترمذي عن سلمة بن الأكوع - رضي الله
عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا يزال الرجل يذهب بنفسه
حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم « [29] .
ثم إنه قد ينبه إلى غلط عنده، بل وقد يستشعر خللاً مَّا في عمله، ولا يقدم
أبداً على مراجعته، لئلا يصير هو ومخالفه في عموم الخطأ سواءاً، ومثل هذا إن
قدر له الوقوف على خطئه كره أن يقر به وإن استيقنته نفسه! ! وهذا من أكبر
بواعث المراء المذموم والجدال بالباطل.
فيا طالب الآخرة: هلمَّ إلى مراغمة نفسك، وضع من تعاليها؛ فذلك سبيلك
إلى المراجعة، وقنطرتك إلى حسن العاقبة [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ
يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (القصص: 83) .
المعوق التاسع: الخطأ في مفهوم الثبات على الحق:
الحق قديم لا يبطله شيء، والثبات عليه واجب حقيقة: بالاستقامة عليه،
وحكماً: بالرجوع إليه، كلما وقع انحراف عنه، قال - تعالى -: [فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112) ، فرحى
الإسلام دائرة، ونحن مأمورون أن ندور معها حيث دارت، وهذه المناهج
والتجارب التي هي اجتهادات بشرية: تصيب وتخطئ، وتصلح وتفسد، لسنا
مطالبين بالتمسك بها على كل حال؛ بل المتجرد في طلب الحق لا يتردد في تجاوز
منهجه إلى ما فيه تصويب له، وتكميل لنقصه، وإصلاح لعيبه، أما أن يكون
التمسك بالرأي الأول، أو المذهب الأقدم، أو المنهج الذي أقرته الطائفة واتبعت
عليه؛ هو الثبات المطلوب: فتلك مغالطة كبيرة؛ وإلا كان مذهب الإمام أبي حنيفة
النعمان هو الأوْلى بالاتباع مما تبعه من مذاهب، بل لما جاز أصلاً إحداث مذهب
بعده، وأحج من ذلك: أن الأئمة لم يذهبوا إلى حرمة الخروج على اجتهاداتهم، ولم
يمنع فقهاؤنا من إحداث اجتهادات مخالفة للمذاهب الأربعة المقررة عند الأمة.
وقد نقل الحافظ ابن عبد البر ما يربو على عشرين أثراً في» جامع بيان
العلم « [30] في اختلافات جرت بين الصحابة، أو بين التابعين كذلك، ثم قال -
رحمه الله -:» هذا كثير في كتب العلماء، وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والتابعين ومن بعدهم من الخالفين، وما رد فيه بعضهم على
بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب، فضلاً عن أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه
دليل على ما عنه سكتنا، وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعضهم إلى بعض، وردِّ بعضهم على بعض: دليل واضح على أن اختلافهم
عندهم خطأ وصواب؛ ولولا ذلك لكان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلتَ أنت،
وجائز ما قلتُ أنا، وكل نجمٌ يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا « [31] .
ثم ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - آثاراً أخرى في رجوع الصحابة بعضهم
إلى آراء بعض.
وتراثنا العلمي غني مكتنز بروائع من التصويبات والردود التي تداولها
علماؤنا سجالاً بينهم.. ومن أمثلة ذلك:
1 - الرد على أبي حنيفة، لأبي بكر بن أبي شيبة - رحمهما الله تعالى -،
وذلك ضمن كتابه المصنف.
2 - الرد على محمد بن الحسن الشيباني، للإمام الشافعي، رحمهما الله
تعالى.
3 - الرد على سِيَر الأوزاعي، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، رحمهما
الله تعالى.
4 - بيان خطأ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه، لأبي
محمد بن حاتم الرازي، رحمهما الله تعالى.
5 - بيان الوهم والإيهام الواقعيْن في كتاب الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، لابن
القطان، كما نقد النقد الحافظ الذهبي، رحمهم الله أجمعين» [32] .
فإذا أخطأ هؤلاء ورد عليهم أفلا يخطئ أمثالنا؟
ولكنك إذا رددت على مخطئ - فيما تعتقد - قوله أو مذهبه؛ قوبل ردك
بالغضب، والعداوة، وإعلان الحرب، والدعوة إلى النزال! ! وفي أحسن الأحوال:
تدعى إلى الاعتذار وطلب المسامحة! !
قال ابن قتيبة الدينوري: «وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن
نحتاج إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا
نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير
الزمان، وفي الله خلف وهو المستعان» [33] .
والأحج من جميع ما سبق: «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ورضي الله عنهم -، وهم قادة الأنام، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، وأوْلى
البشر بكل فضيلة، وأقربهم من التوفيق والعصمة: ليس منهم أحد قال برأيه في
الفقه إلا وفي قوله ما يأخذ به قوم، وفيه ما يرغب عنه آخرون» [34] اهـ.
__________
(1) رواه أحمد في (الزهد) ، وابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 46.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 47.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 47.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 47.
(5) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 48، 49.
(6) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 50، وأبو نعيم في (الحلية) 2/240.
(7) رواه ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) ، ص 51.
(8) رواه أحمد (6/290، 298، 307، 312، 317) ، وأبو يعلى (12/436) برقم (7003) ، والبزار (3/172) برقم (2496) ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/72) : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
(9) إغاثة اللهفان: (ص 96) ط: مكتبة الإيمان المنصورة مصر 1416هـ.
(10) سيأتي تخريجه.
(11) أخرجه البخاري، ح/ 6467، مسلم، ح/ 2816، واللفظ له.
(12) أخرجه أحمد، المسند (5/42) ، أبو داود، كتاب الأدب، ح/ 101.
(13) رواه مسلم، ح/ 131.
(14) رواه مسلم، ح/ 4650.
(15) رواه مسلم، ح/ 5322.
(16) حديث حسن بمجموع طرقه كما ذكره المنذري في «الترغيب» (1/162) ، والألباني في «الصحيحة» ح/1802.
(17) رواه الترمذي، ح/ 2984.
(18) أوردها ابن عبد البر في «الجامع» وانظر «صحيح الجامع» (ص186) ط: مكتبة ابن تيمية القاهرة 1416.
(19) رواه البخاري، ح/ 3189.
(20) منهاج السنة، (4/543 545) .
(21) إغاثة اللهفان، ص 494، طبعة: مكتبة المجلد العربي القاهرة 1416هـ.
(22) (الأربعون النووية) ، وقال النووي: «رويناه بإسناد صحيح» ، وقال الألباني: «إسناده ضعيف» ، تحقيق كتاب السنة لابن أبى عاصم، للألباني، 1/12.
(23) رواه أحمد (2/176، 197) ، والترمذي (2642) ، وابن حبان (6169، 6170) ، والحاكم (1/30) وقال: هذا حديث صحيح تداوله الأئمة، وقد احتج بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة، وقال الذهبي: على شرطهما ولا علة له.
(24) رواه الترمذي، ح/ 2566.
(25) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(26) رواه الترمذي، 3/ 318، وقال: حسن غريب، ضعيف الجامع، رقم: 5722، كشف الخفاء، 2/ 265.
(27) رواه الترمذي، ح/ 2430 وقال حسن غريب ضعيف الجامع، رقم: 6258، كشف الخفاء، 2/356.
(28) رواه مسلم، ح/ 131.
(29) رواه الترمذي، ح/ 1923، وقال: حديث حسن.
(30) جامع بيان العلم، (1201 1224) .
(31) صحيح جامع بيان العلم وفضله: (ص 355) طبعة: مكتبة ابن تيمية القاهرة 1416هـ.
(32) الحوار، للصويان، ص 7.
(33) مقدمة «إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» لابن قتيبة الدينوري (ص42 47) ت: عبد الله الجبوري.
(34) مقدمة «إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» لابن قتيبة الدينوري، (ص42 47) ت: عبد الله الجبوري.(158/66)
المسلمون والعالم
الولايات «غير المتحدة» الأمريكية
معالم على طريق السقوط
عبد العزيز كامل
عندما سقط الاتحاد السوفييتي السابق لم يكن أحد يتوقع أن يحدث ذلك بمثل
هذه السرعة. صحيح أن سقوطه كان محتماً ولو بعد حين بحكم النظر في دورات
التاريخ ومصائر الأمم المسيَّرة حسب السنن الإلهية، إلا أن النظر البشري للمحللين
والمراقبين تقاصر عن استشراف الموعد المحتوم الذي كان أقرب مما يظنون.
نحن اليوم أمام حالة مشابهة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تتتابع
الشواهد الدالة على أن تلك (الإمبراطورية) الآخذة في الصعود الأحادي، إنما هي
في الوقت ذاته تقترب جداً من أعلى درجات السلَّم التي تسلم كل درجة منها إلى ما
بعدها حتى لا يعود بعد ذلك مجال إلا للعودة؛ فالذي يرقى مرتقىً أياً كان في هذه
الدنيا، لا بد أن ينزل منه ولو بعد حين. فالنزول حتمي وفق سنن الله لكل ما علا
في الأرض، وهذا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: «حق على
الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» [1] . والإشكال هنا ليس في حتمية النزول،
ولكن في كيفيته؛ فقد يكون سقوطاً مدوياً سريعاً، وقد يكون هبوطاً تدريجياً بطيئاً،
وقد يكون دحرجة وانحطاطاً يدق الأعناق ويحطم العظام.
الولايات المتحدة ستسقط حتماً - إن شاء الله -؛ فكهذا تقول السُنن، وهكذا
تنبئ الأحداث، وهكذا تقول وقائع السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة في
العقود الأخيرة؛ حيث نراها تسلك الدرب نفسه الذي سارت عليه ثم خرجت به
إمبراطوريات سابقة من خارطة المجد والعلياء.
قد يقول قائل: وأين أنت من الكلمة المشهورة: «دولة الظلم ساعة، ودولة
العدل إلى قيام الساعة» ؟ ! [2] وأين نحن من كلام ابن تيمية - رحمه الله -
وغيره أن الله يؤيد الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويعاقب الدولة الظالمة ولو كانت
مسلمة؟ أليست الولايات المتحدة مثالاً لإقامة العدل بين رعاياها؟ أوَ ليس النظام
الأمريكي هو النظام الأمثل في عالم اليوم لضمان حقوق الإنسان، وعدالة القضاء،
ونزاهة التمثيل والشراكة الشعبية في الحكم؟ !
نقول: نعم! قد يكون أكثر هذا صحيحاً عن العدالة الأمريكية الداخلية، ولكن
أين العدالة الأمريكية الخارجية؟ ! إن العدل قيمة لا تقبل التجزئة؛ فمن العدل أن
يُلتزم العدل في كل شيء.
أما عدالة الأمريكيين (الظالمة) خارج الولايات المتحدة فإن أكثر من يُصْلَى
بنارها هم العرب والمسلمون الذين يتبرع الأمريكيون ببغضهم ومضاعفة الكراهية
لهم، حتى إن استطلاعاً أجراه معهد (جالوب) للإحصاء أثبت أن أكثر شعوب
الأرض التي يكرهها الأمريكيون هم الباكستانيون والعراقيون والصينيون! ! إننا
نفهم أن يكره الأمريكيون العراقيين لارتباط العراق في ذاكرتهم الجمعية بصدَّام،
ونفهم أن يكرهوا الصينيين؛ لأن الصينيين في اعتقادهم الديني هم قوم يأجوج
ومأجوج، أما غير المفهوم فهو بغضهم للباكستانيين؛ مع أن الشعب الباكستاني
معروف بأنه شعب مسالم! ! وعلى أية حال فنحن لا نعرف شعوباً أبغض إلى
الأمريكان من الشعوب العربية بعامة والإسلامية بخاصة؛ ودليل ذلك أن الكونجرس
الأمريكي الصادق في تمثيله لإرادة الشعب الأمريكي ورغباته، والذي ينوب عنه
في كل ما يتخذ من مواقف؛ قد درج منذ عقود طويلة على انتهاج سياسة عدائية
تجاه العرب والمسلمين، وكانت المساندة البلهاء، والمحبة العمياء للدولة اليهودية -
تاريخياً - هي التعبير الواضح عن (عدالة) نواب الشعب الأمريكي وشيوخه تجاه
أهم قضية تهم المسلمين وهي القضية الفلسطينية.
وهذه بعض بطاقات المحبة الأمريكية لقضيتنا العربية والإسلامية:
- في عام 1951م أقر الكونجرس أول مساعدة لـ (إسرائيل) ، وكانت
بمبلغ 65 مليون دولار لاستيعاب الناجين من المحرقة النازية، ولتوطين المهاجرين
اليهود، وقد أدت هذه (المساعدة) إلى زيادة عدد اليهود في الأرض المغتصبة في
ثلاث سنوات من 650 ألفاً إلى مليون و 250 ألف نسمة.
- وفي عام 1955م طالب عدد كبير من أعضاء الكونجرس - تبلغ نسبتهم
ثلث الأعضاء - الرئيس الأسبق (أيزنهاور) أن ترفع أمريكا الحظر عن بيع
الأسلحة لـ (إسرائيل) .
- وفي عام 1965م، أعد أعضاء الكونجرس الأمريكي تشريعاً يتصدى
للمقاطعة العربية لـ (إسرائيل) .
- وفي عام 1970م عارض 60 عضواً في مجلس الشيوخ، و 280 عضواً
في مجلس النواب مبادرة (روجرز) وزير الخارجية الأمريكية الأسبق التي كانت
تدعو لبدء مفاوضات سلام بين العرب و (إسرائيل) .
- وفي عام 1973م، صوَّت 71 عضواً في مجلس الشيوخ، و 296 عضواً
في مجلس النواب لإعطاء دولة اليهود منحة طارئة بمبلغ 2. 3 مليار لمواجهة
أعباء حرب أكتوبر.
- وفي أواخر السبعينيات صوَّت 76 عضواً في مجلس الكونجرس، و 288
في مجلس النواب لحرمان الاتحاد السوفييتي السابق من أي أفضلية تجارية مع
الولايات المتحدة ما لم يسمح بهجرة اليهود السوفييت إلى (إسرائيل) ، وقد أثمر
هذا الضغط على الاتحاد السوفييتي ما أريد منه، فبلغ عدد المهاجرين منذ ذلك
الوقت وحتى الآن أكثر من مليون مهاجر.
- وفي عام 1980م صوَّت الكونجرس لإعطاء (إسرائيل) مساعدات
وقروضاً بمبلغ 9. 4 مليار دولار، إضافة إلى ثلاثة مليارات من الدولارات على
سبيل أنها هبة مقطوعة.
- وفي عام 1983م، وبعد أن صدرت مذكرة التفاهم الأمريكي التي اعتبرت
(إسرائيل) حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة - دعا الكونجرس إلى توسيع نطاق
هذه المذكرة لتشمل الاشتراك مع الإسرائيليين في تصنيع الصواريخ المضادة
للصواريخ.
- وفي عام 1985م صوَّت الكونجرس بغالبية ساحقة على اتفاق (التجارة
الحرة) بين الولايات المتحدة و (إسرائيل) ، وكان هذا أول اتفاق من نوعه بين
أمريكا وبلد آخر.
- وفي عام 1987م، رفض الكونجرس الأمريكي قرار الجمعية العامة للأمم
المتحدة الداعي إلى اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وفي العام نفسه
أصدر الكونجرس قراراً بتخصيص اعتمادات مالية لـ (إسرائيل) لكي تطور
صاروخاً إسرائيلياً خاصاً بها، وهو الصاروخ (آرو) ، بالتعاون مع الولايات
المتحدة.
- وفي عام 1991م، وافق الكونجرس الأمريكي علي إعطاء إسرائيل 660
مليون دولار معونة طارئة؛ لمواجهة خطر الصواريخ العراقية التي أطلقت عليها
أثناء حرب الخليج.
- وفي عام 1992م، وافق الكونجرس على الطلب الذي كان قد تقدم به
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (إسحاق شامير) لإعطاء (إسرائيل) ضمانات
قروض بمبلغ عشرة مليار دولار لإسكان 600 ألف مهاجر يهودي وإثيوبي تدفقوا
على (إسرائيل) بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
- وفي عام 1993م، استجابت الإدارة الأمريكية لضغوط من الكونجرس
لتأسيس لجنة ثنائية بين أمريكا و (إسرائيل) لتطوير القاعدة التكنولوجية في القرن
الحادي والعشرين.
- وفي عام 1995م، أصدر الكونجرس مشروع قانون بنقل السفارة
الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في موعد أقصاه مايو 1999م إلا إذا اقتضت
مصلحة الأمن القومي الأمريكي [3] تأجيله، وهو الموعد الذي كان مضروباً لانتهاء
الفترة الانتقالية لعملية السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي بموجب اتفاقية
أوسلو.
- في عام 1996م، وبعد عقد المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب [4] في شرم
الشيخ أصدر الكونجرس قراراً بإعطاء (إسرائيل) مبلغ مليون دولار مقدمة
لمساعدات في برنامج إسرائيل: (الإرهاب في الشرق الأوسط) .
- وفي عام 1998م، احتفل الكونجرس الأمريكي رسمياً بمناسبة مرور
خمسين عاماً على إنشاء دولة (إسرائيل) .
- وفي عام 1999م، جدد الكونجرس الأمريكي التأكيد على القرار الملزم
للرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى (القدس) بدلاً من (تل أبيب) .
- وفي سبتمبر 2000م أعلن في الولايات المتحدة أن الكونجرس يعد مشروع
قانون ضد اعتراف الحكومة بدولة فلسطينية.
- وفي أكتوبر 2000م حمَّل أعضاء الكونجرس الفلسطينيين مسؤولية
(العنف) الذي اندلع بعد (زيارة) شارون للمسجد الأقصى.
قد يقال إن هذه المواقف مجرد تعبير عن (صداقة) تربط بين شعبين تصل
بينهما وشائج الآصرة الدينية المستمرة تقليدياً وتاريخياً أحدهما من الشعب الضال
المحتار، والآخر وهو شعب المغضوب عليهم «المختار» ، ولا علاقة لهذه
الروابط الحميمية بالمشاعر العدائية تجاه العرب والمسلمين!
وهنا تأتي الحقائق من الجهة الأخرى، لتثبت أن الأمر ليس مجرد تعامل
أمريكي (نزيه) مع الصديقة (إسرائيل) ، بقدر ما هو انعكاس لروح العداوة
العميقة ضد الشعوب العربية والإسلامية، وإنه الظلم المركب الذي ترتكبه دولة
العدالة والحرية و ... وحقوق الإنسان، ضد العدالة والحرية وحقوق الإنسان، وإلا؛
فماذا يعني سكوت الأمريكيين، حكومة وشعباً على هلاك ستمائة ألف طفل عراقي
من جراء الحصار الظالم المستمر منذ عشر سنوات؟ وماذا يعني إقرار الأمريكيين
وإصرار حكوماتهم على فرض العقوبات الاقتصادية على ثماني دول، منها ست
إسلامية وعربية تشملها تلك العقوبات وهي: أفغانستان، والسودان، والعراق،
وليبيا، وأخيراً باكستان، وإيران!
إن تلك العقوبات لا تتضرر منها الحكومات - كما هو معروف - بقدر ما
تتضرر منها الشعوب، ومما يبعث على الاشمئزاز أن تكون الحجة الأمريكية
الجاهزة لتسويغ ذلك الظلم الواقع على الشعوب أن حكوماتها تشجع على
(الإرهاب) ؛ أما دولة المسالمة والسماحة (إسرائيل) فلم تشفع لها مذابح دير
ياسين، ولا صابرا وشاتيلا، ولا قانا، ولا غيرها في أن تُدرَج ولو لحظة في
قائمة الدول الراعية للإرهاب! بل لم يُدِنْها عند الأمريكيين (الأحرار) تشريد
أربعة ملايين فلسطيني خارج فلسطين، وإذلال ثلاثة ملايين داخلها.
لكل ما سبق - وغيره كثير - نقول: نعم! ستسقط إمبراطورية الظلم التي
أسست من أول يوم على الظلم الذي أوقعه مؤسسوها على الشعوب التي أبادها
الأنجلو ساكسون، وضنوا عليها بمجرد حق الحياة في القارة الأمريكية منذ قرنين
ونصف!
ولكن.. أتسقط أمريكا في قاع التفكك كما سقط الاتحاد السوفييتي إلى غير
بديل قوي، أم تتحول إلى كيان آخر بعد سقوطها تحت قيادة اليهود؟ كِلا الأمرين
وارد، ولكن الاحتمال الثاني أقرب، ولقد أبانت تداعيات الانتخابات الأمريكية
الأخيرة أن اليهود يتهيؤون لهذه المرحلة، مرحلة تسلم السلطة في أمريكا.
إن من المقولات الدارجة بين الناس أن: «من أعان ظالماً سُلِّط عليه» ،
ولقد تسبب اليهود في الولايات المتحدة في تمريغ كرامة أمريكا - إن كان لها
كرامة - في الوحل؛ فبعد أن تفرج العالم على الفضائح المتلفزة للرجل الأول في
أمريكا (بيل كلينتون) على مدى الأعوام السابقة؛ بسبب العاهرة اليهودية (مونيكا
لوينسكي) ، ها هو ذا العالم يقف مشدوهاً وهو يتفرج أسبوعاً بعد أسبوع إلى ما
يقارب الشهر [5] على ديمقراطية الأمريكيين (المثالية) التي تحولت إلى أمثولة
تترنح آيلة للسقوط بعد أن كثرت الاتهامات بين الحزبين الرئيسيين بالتزوير
والخداع والسرقات الانتخابية التي لم تحسم التهم فيها إلا عن طريق القضاء. فلأول
مرة منذ الحرب الأهلية الأمريكية عام (1861 - 1865م) [6] ، ينقسم الشعب
الأمريكي هذا الانقسام الحاد ليس بسبب العبيد هذه المرة؛ ولكن بسبب الأسياد أو
الرؤساء، ولأول مرة يتحدث كثير من المحللين والمراقبين بجدية عن احتمالات
تعرض الولايات المتحدة لأزمات دستورية حقيقية، وربما نزاعات أهلية أو
انقسامات شعبية تهدد وحدة الولايات المتحدة حاضراً أو مستقبلاً.
لقد انطلقت تلك الأزمة التي ستكون علامة فارقة في التاريخ الأمريكي من
بقعة صغيرة جداً من الدولة الأمريكية الكبيرة جداً، إنها إقليم (بالم بيتش) الواقع
في ولاية فلوريدا، ذلك الإقليم الذي تسكنه غالبية يهودية من المسنين الأثرياء، وقد
قلب هذا الإقليم الطاولة في وجه المرشح الجمهوري (جورج بوش) الابن،
انتصاراً لـ (ألبرت أرنولد جور) المرشح الديمقراطي، أو بالأدق لصالح
السيناتور (جوزيف ليبرمان) ، هذا (اليوسف) غير الصدِّيق، الذي أراد اليهود
أن يجعلوه على خزائن الأرض في أعظم دولة على الأرض.
إن المعركة التي أدارها (آل جور) بعناد ضد منافسه (بوش) هي في أحد
وجوهها معركة لاستشراف مستقبل قيادة اليهود للولايات المتحدة، وإمكانية أن
يتسلل يهوديٌّ - حاضراً أو مستقبلاً - إلى منصب الزعامة لأكبر قوة في العالم.
لقد أثبتت تلك المعركة - بغض النظر عن نتيجتها - أن نصف الشعب الأمريكي لم
يستنكف عن التصويت الحر، والاختيار (الواعي) ليهودي أرثوذكسي متدين لكي
يكون رئيساً محتملاً للولايات المتحدة إذا ما غاب (آل جور) أو غُيِّب. ولم يجد
الأمريكيون النصارى غضاضة في أن يكون الرجل المتباهي دائماً بيهوديته وتدينه
رئيساً لدولتهم. إن وصول الأمريكيين إلى هذه المرحلة من المهانة الدينية أمام من
يعدونهم (قتلة المسيح) لم يأت مصادفة ولا دفعة واحدة، وإنما سُيِّروا فيه ضمن
مسلسل التخدير الديني الذي يقوم عليه دجالو (الصهيونية والمسيحية) الذين يرون
في اليهود رغم كل جرائمهم أمة جديرة بالسيادة وبالقيادة ما داموا سيصبحون
يوماً من أتباع المسيح. مرت وجوه يهودية كثيرة على أخطر كراسي
المسؤولية الأمريكية في وزارات الدفاع والخارجية والأمن القومي والزراعة
وغيرها في عهد كلينتون، حتى إذا ما أنس الأمريكيون بوجوه يهودية قبيحة مثل
وجوه كوهين، وأولبرايت وصمويل برجل، ودينيس روس، وغيرهم، أطل
عليهم وجه آخر أقبح، ولكنهم لم يلحظوا قبحه، ولم يستغربوا قدومه وتقديمه لنفسه
بأنه نائب المنقذ، الجاهز دوماً ليكون هو المنقذ إذا ما غاب من أنابه أو غُيِّب. إذن
نجحت التجربة، وجربت (البروفة) سواء كان فارق الأصوات بين بوش وآل
جور خمسمائة أو خمسين ألفاً؛ فالمهم أن الأمريكيين قد قبلوا بقدوم الزعامة اليهودية
الخالصة، وما على اليهود إلا أن يستعدوا من الآن لتسلم الزمام.
لم ينس ليبرمان - وهو يحارب بصحبة آل جور لركوب كرسي الزعامة
الأمريكية - أن يرسل رسالة جوهرية للزعامة الإسرائيلية وللشعب الإسرائيلي
أيضاً، يذكِّرهم فيها أنه على العهد (القديم طبعاً) ؛ فقد تعهد في إحدى خطبه
الانتخابية في (26/9/2000م) بأنه سيدعم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس حال
استقرار الأوضاع الأمريكية بعد ظهور نتائج الانتخابات، وقال: «أنا وآل جور
نعتقد أن القدس هي عاصمة إسرائيل، ويتوجب نقل السفارة الأمريكية إليها،
ونأمل أن يتحقق هذا قريباً، كجزء من اتفاقية سلام نهائية بين إسرائيل
والفلسطينيين» .
إن تجربة (آل جور - ليبرمان) قابلة للتكرار؛ فما دام المال اليهودي الذي
تشترى به الأصوات؛ بل تشترى به المناصب موجوداً فسيظل يهود أمريكا ويهود
(إسرائيل) ويهود العالم يحلمون بسقوط أمريكا.. سقوطها في أيديهم. لكن لا بد
قبل ذلك من الفراغ من تبديد وحدة أمريكا وتحويلها من ولايات متحدة خلفها
زعاماتها النصرانية، إلى ولايات غير متحدة لتنقض عليها وسط فوضى الاختلاف
زعامة يهودية تلمودية توراتية، متسنمة ظهر (الفيل) الجمهوري الكسول، أو
(الحمار) الديمقراطي الغبي، وليتواصل إلى منتهى التاريخ ذلك التحالف غير
المقدس وغير المنطقي بين أمتَي الغواية لإغواء بقية البشر.
حقاً «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى» [7] .
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 2872.
(2) هذه العبارة قالها بطريرك القدس لما رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قادماً بكل التواضع لفتح القدس وانظر: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، 1/257.
(3) الذي يُعد الأمن القومي الإسرائيلي جزءاً مهما منه.
(4) عقد هذا المؤتمر بعد تعرض (إسرائيل) لعدد من العمليات الاستشهادية التي نفذتها منظمة حماس.
(5) في وقت كتابة هذا المقال، 4/9/1421هـ - 30/11/2000م.
(6) انقسم الأمريكيون في هذه الحرب إلى معسكرين في الشمال والجنوب، بسبب الاختلاف على إلغاء الرق الذي كانت تقوم عليه مصالح الجنوبيين، وخسر الشماليون في تلك الحرب التي استمرت أربع سنوات 360 ألف جندي من أصل مليوني جندي شاركوا في أعمال القتال، أما الجنوبيون فقد بلغت خسارتهم حوالي 250 ألف من الجنود، وهم يمثلون ثلث عدد مقاتليهم.
(7) حديث أخرجه أحمد في المسند (4/378) ، الترمذي، كتاب التفسير، سورة الفاتحة.(158/76)
المسلمون والعالم
الانتخابات الأمريكية وأثرها في التغيير
حسن الرشيدي
مع احتدام الصراع بين فرسي سباق الرئاسة الأمريكية برز السؤال الأكثر
إلحاحاً: هل هناك تغيير سوف تشهده السياسة الأمريكية وتوجهاتها؛ خاصة بالنسبة
للسياسة الخارجية وما يتعلق منها بالشرق الأوسط؟
للإجابة على هذا السؤال يجب الإحاطة بكل العوامل التي من الممكن أن تؤثر
في التوجهات السياسية الأمريكية، وهي في نظرنا عاملان: طبيعة الرئاسة
الأمريكية نفسها ومكانتها داخل مؤسسات صنع القرار في أمريكا، والعامل الآخر
الاتجاهات التي تشكل الفكر السياسي الأمريكي.
الرئيس الأمريكي ودوره في صناعة القرار السياسي الأمريكي:
تعتبر مؤسسة الرئاسة واحدة من ضمن عدة مؤسسات تتحكم في صناعة
القرار السياسي الأمريكي؛ فهناك المؤسسات الدستورية (الرئاسة، والكونجرس،
والجهاز القضائي) ، كما توجد أيضاً الأجهزة التنفيذية (كالجهاز الإداري، ومجلس
الأمن القومي، ووكالة المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، والجهاز الدبلوماسي) ،
والمجموعة الثالثة التي تتحكم في القرار السياسي الأمريكي: هي الهيئات
والجماعات المؤثرة (الأحزاب السياسية والجماعات الضاغطة، والمؤسسات
الاقتصادية، ووسائل الإعلام، والاتصال، والجامعات، ومراكز البحوث) .
ويتحدد وضع الرئيس داخل النظام الأمريكي من عدة أمور منها التشريعي،
والتاريخي، والواقع الأمريكي نفسه:
* فالدستور الأمريكي يجعل من الرئيس المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بجميع
سلطات الحكومة، وهو وحده الذي يملك سلطة حق التقرير منطلقاً من قول
(إبراهام لنكولن) الذي أعلن به قراره عندما لاحظ مخالفة وزرائه السبعة له:
«إن سبعة في هذا المجلس يقولون: لا. وإن واحداً (يعني بها نفسه) يقول: نعم.
إذن (نعم) تغلبت على (لا) » .
وينص الدستور على أن الرئيس هو القائد الأعلى لجيش الولايات المتحدة
وأسطولها، ورغم أن الكونجرس يتمتع بسلطة إعلان الحرب فإنه من الناحية
العملية لم يعلن الحرب إلا في خمس مناسبات؛ بينما نفذت القوات الأمريكية
وبأوامر من الرئيس عشرات العمليات العسكرية دون إعلان رسمي من الكونجرس،
وهو ما دفع الكونجرس لإصدار قرار سلطات الحرب عام 1974م في محاولة
لكبح سلطات الرئيس في مجال إعلان الحرب، ويتضمن القرار المذكور أن يبلغ
الرئيس الكونجرس في مدى 48 ساعة إذا ما أرسل قوات عسكرية إلى بلد آخر،
وأن يسحبها بعد 60 يوماً إذا لم يقر الكونجرس مبادرة الرئيس.
«ولكن من الناحية العملية فإن القرار العسكري والعمليات الحربية التي
تترتب عنه تظل بيد الرئيس إلى حد كبير؛ وذلك لأن فترة الستين يوماً كافية لتنفيذ
قرار أو عمل عسكري يكون بالغ التأثير والتدبير بحكم التقدم التكنولوجي الهائل
الذي تتميز به القوات المسلحة الأمريكية، كما أن الرئيس يمتلك إمكانيات تقنية
وعملية لإقناع الكونجرس بأي قرار عسكري ينوي الإقدام عليه» .
* وتبين التجربة التاريخية لعدد من الرؤساء الأمريكيين أن التكوين
والشخصية يلعبان دوراً حاسماً في توجيه السياسة الأمريكية؛ فشخصية مثل الرئيس
(روزفلت) التي تتميز بالقوة كان لها أكبر الأثر في توجهات الإدارة الأمريكية.
وبالمقابل كان لشخصية الرئيس (جيمي كارتر) التي تتسم بالميل إلى عدم
المواجهة سواء إزاء الخارج أو مع المساعدين كان لها دور في بروز العجز في
القدرة على التعامل مع القضايا المختلفة؛ بينما أثر التكوين الديني على شخصية
الرئيس (رونالد ريجان) ؛ إذ كان يطلق عبارات وتقويمات أخلاقية على الأحداث،
وشهدت فترة رئاسته صدور عدة قرارات على مستوى داخلي وخارجي لتشجيع
النشاط الأصولي المسيحي، وكان يرفع الإنجيل خلال حملته الانتخابية.
أما من ناحية الواقع الفعلي لسلطة الرئيس؛ فهناك جدل كبير يسود أوساط
الباحثين في علوم السياسة الأمريكية؛ حيث يبرز اتجاهان:
الأول: يعتبر أن سلطة الرئيس مقيدة بكوابح الدستور التي وُضعت للحد من
نزوعه للهيمنة؛ كإجراءات المراقبة، واستقلال السلطتين التنفيذية والتشريعية.
كما أن الأجهزة السياسية التنفيذية رغم كونها تابعة رئاسياً لسلطته فهي في
الحقيقة تعمل وفق آليات تجعلها مستقلة عن إرادته إلى حد كبير بسبب تدخل
قوى ومجموعات اللوبي التي تنسج شبكة من العلاقات التحتية والخفية كالعلاقات
بين أعضاء الكونجرس ومسؤولي الأجهزة البيروقراطية، والتحالفات بين
جماعات سياسية واقتصادية كالمؤسسة العسكرية والشركات الكبرى وأجهزة
المخابرات، وهو ما حدا بالرئيس أيزنهاور في الخمسينيات للإشارة إليه عندما
تحدَّث عن وجود تحالف عسكري صناعي؛ ومما يعزز هذا الاتجاه أن الولايات
المتحدة دولة ضخمة، ومن باب الاستحالة أن يتمكن شخص من الإحاطة بقضاياها
الداخلية والخارجية والهيمنة على مقاليد قرارها السياسي، وهو ما يبرز بشكل
خاص في إشكالية التوفيق بين السياسة الخارجية والقضايا الداخلية.
الاتجاه الثاني: يعتبر أن سلطة الرئيس هي المحور الأساسي للنظام الأمريكي،
ويستند في ذلك إلى الناحية التاريخية التي ذكرناها سابقاً.
ولكن يبدو أن الرأي الأول هو الغالب بالنسبة لدارسي السياسة الأمريكية؛
حيث يؤيده الواقع الذي يبدو فيه دائماً الرئيس كحلقة ضمن إطار كبير يدور خلاله
ولا يتعداه.
الفكر السياسي الأمريكي:
هناك ثلاثة مؤثرات شكلت معاً الفكر السياسي الأمريكي؛ هذه المؤثرات
تداخلت فيما بينها وامتزجت لتخرج لنا نسيجاً متواصلاً تتوارثه الطبقة السياسية
الأمريكية عبر العقود المختلفة بعد أن شكلت ذاكرة الأمة الأمريكية.
هذه المؤثرات هي: فكر الآباء المؤسسين - التأثير البروتستانتي في
السياسة - صانعو الفكر الأمريكي.
أولاً: فكر الآباء المؤسسين:
تعتبر أمريكا دولة حديثة المنشأ؛ ورسخ لدى مؤسسيها أفكار ومبادئ استمرت
حتى الآن ترمي بظلالها في الوجدان، والفكر السياسي الأمريكي، ومن هذه
المبادئ:
مبدأ: المصلحة الذاتية المستنيرة:
وهذا المبدأ هو المفتاح والعامل المحرر لنشاط أمريكا على الساحة العالمية؛
وهو يمثل وجهة النظر للسياسة الخارجية الأمريكية من منظور المدى الطويل،
وعلى وجه التحديد؛ فلقد كانت درجة الأفضلية الممنوحة لانتصار استراتيجي
طويل المدى بالنسبة إلى ميزة عابرة مرحلية هي التي اتخذت مقياساً للاستنارة
والمصلحة القومية؛ فإذا تشبث قادة دولة بمكاسب قليلة الأهمية وفورية متغاضين
عن المصالح الأكثر جوهرية التي يمكن تحقيقها بواسطة التضحية بمكسب مرحلي؛
فإن معنى ذلك أنهم (ليسوا مستنيرين) بما فيه الكفاية، وأن معرفتهم بالأهداف
العظمى للطبقة الحاكمة في السياسة الخارجية ضئيلة، وهم لهذا يُخفقون في تطبيق
مبدأ (المصلحة المستنيرة) ، وحينما تترجم مسلَّمة (المصلحة الخاصة المستنيرة)
في السياسة الخارجية إلى لغة الاستراتيجية؛ فإنها تعني الاحتفاظ بحرية المناورة
للولايات المتحدة في أي ظرف من الظروف. ويقول جورج واشنطن مطوراً مفهوم
حرية المناورة: «لماذا نترك أرضنا لكي نقف على أرض أجنبية؟ لماذا نعرقل
سلامنا ورخاءنا بحبائل ومعاداة مصالح أوروبا ومنافساتها في مصالحها وأمزجتها
وأهوائها إذا جعلنا مصيرنا ملتحماً بأي جزء من أوروبا؟ إن سياستنا الحقة هي أن
نوجه سفينتنا بعيداً عن التحالفات الدائمة مع أي جزء من العالم الأجنبي» .
ويمضي قائلاً: «إنه يجب اعتبار أي تحالف مع دولة أجنبية مؤقتاً، أي لا تلتزم
به الولايات المتحدة إلا إذا كان هذا التحالف مفيداً لتنمية مصالحها، ولكن بمجرد أن
يصير هذا التحالف عبئاً على الولايات المتحدة ويزج بها في غمار الصراع من أجل
المصالح الأجنبية؛ فإن من الواجب تصفيته وإحلال تحالف آخر مكانه إذا كان ذلك
ضرورياً؛ حتى ولو كان ذلك مع عدو الأمس إذا دعت الحاجة إليه للدفاع عن
مصالح الولايات المتحدة الخاصة» .
مبدأ «القدر المرموق» :
أو المصير الذي سبق به القضاء، أو قضاء الله السابق.
في هذا المبدأ تتجلى العقيدة الدينية النصرانية في السياسة الأمريكية؛ حيث
تصور النموذج الأمريكي على أنه (رسالة إلهية إلى العالمين) !
لقد كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة شديدي التدين، وقد وجدوا
بالإضافة إلى تسويغ أفعالهم باعتبارات العقل والضرورة الاقتصادية.. إلخ أن من
الواجب التصديق على أن كل ما أنجزته الثورة الأمريكية من جانب سلطة إلهية
غير أرضية هي إرادة الخالق، وكل ذلك أدى إلى ولادة مبدأ: (القدر المرموق) .
وبما أن الجمهورية الأمريكية - أي النظام الأمريكي وفقاً لتعاليم (الآباء
المؤسسين) - أفضل ما تم إيجاده قبل هذه الجمهورية أو النظام؛ فلا بد أن تكون
في رأي هؤلاء الآباء نموذجاً ومثالاً لسائر الجنس البشري، نموذجاً على جميع
الأمم أن تقتدي به.
ويؤكد (مورجنتاو) بناءً على ذلك قائلاً: «وهنا يمتزج المفهوم التنصيري
عن العلاقة بين وضعنا الداخلي وبين سياستنا الخارجية ليشكلا شيئاً ثالثاً هو
الحملات الصليبية؛ فنحن باعتبارنا (مبشرين) برسالة التجربة الأمريكية كنا نقدم
مساعدتنا للآخرين وهم أحرار في قبولها أو رفضها. أما نحن وباعتبارنا فرساناً
طيبين فسنفرضها فرضاً على بقية العالم بالنار والسيف إذا كان ذلك ضرورياً،
وستكون الحدود العقلية لهذه الحملة الصليبية هي حدود القوة الأمريكية؛ فإن حدودها
الممكنة ستكون حدود الكرة الأرضية. لقد تحوَّل النموذج الأمريكي إلى صيغة
فكرية للخلاص الشامل ستلتزم بها الأمم ذات التفكير الصحيح طوعاً. أما الأمم
الأخرى فيجب أن تخضع لها كرهاً» .
ومن الحقائق الفعلية كما يسلم (مورجنتاو) : «أن فكرة الرسالة الأمريكية
إلى شعوب العالم الأقل حظاً، هي بكل تأكيد أيديولوجية سياسية أي هي إضفاء
طابع عقلاني وتسويغي على السياسات التي تجري ممارستها لأسباب أخرى هي
أسباب أنانية في المحل الأول» .
ويقول المؤرخ الأمريكي البارز (جوليوس وبرات) بمزيد من التخصيص:
«إن (القَدَر المرموق) أصبح تسويغاً لأي استيلاء على أرض إضافية يكون لدى
الولايات المتحدة النية والقدرة على أخذها» .
مبدأ الحرب العادلة:
هذا المبدأ نشأ عن مفهوم إشباع حاجات الشعوب الأخرى من خلال جذبها إلى
طريقة الحياة الأمريكية بقوة السلاح؛ فوفقاً لنظرية الرسالة الأمريكية يتم القيام بهذه
الأفعال لا لأي غرض آخر سوى تحرير هذه الشعوب؛ ولذلك فأي حرب - على
وجه الإطلاق - تخوضها الولايات المتحدة هي من وجهة النظر الأمريكية حرب
تحرير؛ ولذلك فهي حرب عادلة. يقول البروفيسور (روبرت تكر) من جامعة
جون هوبكنز: «يمكن اعتبار أي استعمال للعنف وأي وحشية حرباً عادلة» .
مبدأ (مونرو) :
في عام 1823م في رسالة الرئيس (مونرو) إلى الكونجرس قال: «إنه من
الآن فصاعداً؛ فإن بلاد القارة الأمريكية لا يمكن اعتبارها موضوعاً للاستعمار من
جانب أي دولة أوروبية، ومن حقنا ألا ننظر إلى أي تدخل يستهدف إخضاعها
أوالتحكم بأي طريقة أخرى في مصيرها من جانب أي دولة أوروبية إلا في ضوء
أنه انعكاس لنوايا غير ودية تجاه الولايات المتحدة» .
كان هذا المبدأ أول بداية حقيقية عملية لتدخل أمريكا في العالم، وإن اقتصر
على قارتي أمريكا أو نصف الكرة الغربي؛ فإنه طبق المبادئ السابقة باعتبارها
نتيجة لها، وأظهر السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة عندما تنظر إلى أي جزء
من العالم وكأنها منطقة نفوذ لها.
خطاب (مسيرة الراية) :
في 16 سبتمبر 1898م أُلقي خطاب ممتلئ بالحماسة في مدينة (أنديانا
بوليس) دفاعاً عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وقد عرف هذا الخطاب في
التاريخ الأمريكي باسم: (مسيرة الراية) وكان مُعد هذا الخطاب هو (ألبرت
بفريدج) الذي كان مرشحاً لمجلس الشيوخ في انتخابات ذلك العام؛ وكان يعتمد
على تأييد الدوائر الصناعية والمالية ذات النفوذ، وقد أعلن: «أن مسألة التوسع
الاقتصادي أكبر من أن تكون مسألة حزبية؛ إنها مسألة أمريكية تقول: هل
سيواصل الشعب الأمريكي زحفه نحو السيادة التجارية على العالم؟ وهل سنحتل
أسواقاً جديدة لما ينتجه مزارعونا، وما تصنعه مصانعنا، وما يبيعه تجارنا؟ إننا
اليوم ننتج أكثر مما نستطيع استهلاكه، ونصنع أكثر مما نستطيع استعماله؛ ولذلك
يجب أن نجد أسواقاً جديدة لمنتجاتنا» .
لقد كان مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية حيوياً بالنسبة إلى دائرة رجال
الأعمال، وفي الشهر نفسه في ذلك العام ظهر في المجلة الأمريكية الشمالية مقال
بقلم (تشارلس كونانت) في مجلة نيويورك للتجارة عنوانه: (الأساس الاقتصادي)
جاء فيه: «إن الميل الذي لا تمكن مقاومته إلى التوسع الذي يؤدي بالشجرة
النامية إلى أن تفجر أي حاجز هو الميل الذي ساق القوط والوندال والساكسون في
موجات متعاقبة لا يمكن مقاومتها للتغلب على أقاليم روما المتدهورة. هذا الميل
يبدو الآن فعالاً مرة ثانية؛ ولذلك فلا بد من منافذ جديدة لرأس المال الأمريكي،
ولفرص جديدة للمشروع الأمريكي. إن قانون المحافظة على النفس وكذلك قانون
البقاء للأصلح يدفعان شعبنا في طريق هو بلا جدال تحوُّل عن سياسة الماضي؛
ولكنه طريق لا يحيد عن أن ترسم حدوده شروط الحاضر ومتطلباته» .
استنتاج روزفلت: ...
في عام 1904م أثرى (تيودور روزفلت) نظرية العلاقة بين الدول الأمريكية
بتفسيره الخاص لمذهب (مونرو) ، وقد عرف هذا التفسير في التاريخ
باسم: (استنتاج روزفلت) أعلن فيه: «إن تدخل الولايات المتحدة في الشؤون
الداخلية لأمريكا اللاتينية سيعتبر أمراً مسوغاً قانونياً إذا وجدت هذه البلاد نفسها
عاجزة عن القيام بحل مشكلاتها الداخلية، أو إذا قامت من جانبها بأفعال قد تؤدي
إلى تدخل الدول الأوروبية في شؤون بلدان في القارة الأمريكية، وإن أي بلد يحسن
شعبه السلوك يستطيع أن يعتمد على صداقتنا المخلصة القوية، فإذا أظهرت إحدى
الأمم أنها تعرف كيف تسلك بكفاءة ولياقة معقولتين في المسائل الاجتماعية
والسياسية، وإذا حافظت على النظام وأدت التزاماتها فهي ليست بحاجة إلى أن
تخشى تدخلاً من الولايات المتحدة. أما ارتكاب الأخطاء على نحو متكرر أو حدوث
عجز ينجم عنه تحلل لروابط المجتمع المتحضر فقد يتطلب في أمريكا كما يتطلب
في أي مكان آخر تدخلاً في النهاية تقوم به أمة متحضرة، كما يتطلب في نصف
الكرة الغربي تمسك الولايات المتحدة - مهما يكن ذلك على كره منها - بأن تلعب
دور قوة شرطة عالمية في الحالات الصارخة من ارتكاب الخطأ، أو العجز» .
هذا الاستنتاج الخطير يؤكد أن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي لها الحق
المطلق في تحديد شرعية أية أفعال معينة تصدر عن بلاد تكون للولايات المتحدة
مصلحة فيها! !
ثانيا: التأثير البروتستانتي في السياسة الأمريكية:
مع نشأة حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس
عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما حدث تغيير جوهري للنصارى في موقفهم
من اليهود؛ ولذلك يصف بعضهم هذه الحركة بأنها ساهمت في بعث اليهود من
جديد. فلقد دعا (لوثر) إلى وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم
الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها، فأصبح كل بروتستانتي حراً في
دراسة الكتاب المقدس وفهمه وتفسيره؛ وفي ظل هذا الفهم ازداد الاهتمام بالعهد
القديم (التوراة) تحت شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة
النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناولها الباباوات
الواحد عن الآخر والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر العقيدة المسيحية، وهكذا
أصبح العهد القديم يشكل جزءًا مهمًا من مصادر العقيدة البروتستانتية وأصبح هو
المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، ومصدرًا للتعاليم الخلقية والمعلومات التاريخية.
ومن المعلوم أن أغلب التوراة هي عبارة عن سجل لتاريخ بني إسرائيل في
فلسطين؛ وبذلك بدا الذهن البروتستانتي مهيأً للاعتقاد بأنه لم يكن في فلسطين إلا
الأساطير والقصص التاريخية الواردة في العهد القديم والتي منها ارتباط اليهود
بفلسطين وضرورة عودتهم إليها.
وعندما بدأ الاستيطان الأوروبي لأمريكا كان معظم المهاجرين الجدد من
البروتستانت الذين فروا من الاضطهاد الديني الذي ساد أوروبا في ذلك الوقت،
وكان هؤلاء يحملون معهم تراثهم الديني مستمداً من العهد القديم الذي أخذ يلعب
دوراً رئيساً في تشكيل الفكر الأمريكي في ذلك الوقت، ومما قوى من أهمية هذا
الدور هو ربط هؤلاء المستوطنين بين تجاربهم التي مروا بها منذ رحيلهم من
أوروبا وإنجلترا - بالذات - وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا
من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين؛ فهم مثلهم مثل اليهود فروا من الظلم بحثاً عن
الأرض الموعودة التي تدر لبناً وعسلاً، وجابهوا الصعاب في رحلتهم عبر المحيط
كما حدث لليهود في صحراء سيناء؛ كما أنهم جُوبهوا بمقاومة السكان الأصليين كما
جُوبه اليهود بمقاومة أهل فلسطين، وعندما كانوا يعلنون الحرب على أصحاب
البلاد الأصليين كانوا يستحضرون العهد القديم؛ حيث ثمة تشابه بين تجاربهم في
حربهم مع الهنود الحمر وتجربة اليهود في حربهم ضد الفلسطينيين.
لقد عانوا من الانقسام ومن تجارب الحرب الأهلية المريرة كما حدث مع
اليهود القدماء عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين: إحداهما في الشمال، والأخرى
في الجنوب. لقد كان هؤلاء المستوطنون يعلمون أن الأرض التي استولوا عليها
من سكانها الأصليين ليست أرضهم؛ كما أنهم يعلمون أن ما يقومون به من عمليات
اضطهاد وقتل وتشريد للسكان الأصليين يتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية؛ فكانوا
لذلك بحاجة إلى شيء يسوِّغ لهم أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية
والأخلاقية ولو مزيفة، فلم يجدوا لها التسويغ إلا في العهد القديم.
فكما أن اليهود القدماء سوَّغوا احتلالهم لفلسطين بالادعاء بأنها الأرض
الموعودة التي وهبها الله لشعبه المختار كما يقولون؛ فإن هؤلاء المستوطنين فعلوا
الشيء نفسه بالادعاء بأن الله اختار العنصر الأنجلوسكسوني الأبيض لقيادة العالم.
ويكتب (هيرمان ملفيل) في بداية القرن التاسع عشر متحدثاً عن الشعب الأمريكي؛
حيث قال: «نحن - الأمريكيين - شعب خاص، شعب مختار، وإسرائيل
العصر الحاضر» .
وفي الثمانينيات من القرن العشرين تنامى التيار المسيحي المؤيد لليهود؛
خاصة بعد أن امتد نفوذه إلى عقول الملايين وجيوبهم، وامتلك شبكات تلفزيونية
وإذاعية هائلة وبتقنية متقدمة للغاية استخدم معها أساليب الاستعراض التلفزيوني فيما
أطلق عليه: (الكنيسة التلفزيونية) أو: (الديانة في الأوقات المناسبة) .
وعندما عقدت منظمة (إيباك) اليهودية مؤتمرها السياسي السنوي في
عام 1981م ألقى السيناتور (روجر جبسون) كلمة أمام المؤتمر قال فيها:
«إن من أسباب تأييدي الحيوي الذي لا يتغير لإسرائيل هو ديني المسيحي ... ،
إن المسيحيين وبخاصة الإنجيليين هم أفضل أصدقاء إسرائيل منذ
ولادتها الجديدة عام 1948م، أعتقد أن أسباب البركة في أمريكا عبر السنين أننا
أكرمنا اليهود الذين لجؤوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا؛ لأننا دافعنا عن إسرائيل
بانتظام، وبورك فينا؛ لأننا اعترفنا بحق إسرائيل في الأرض» .
وهذا أيضا (جيري فالويل) - زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية، والصديق
الشخصي لمناحيم بيجين وإسحاق شامير - يجسد الصلة المتنامية بين البروتستانتية
واليهودية حين قال في كتاب صدر له بعنوان: (جيري فالويل واليهود) : «إن
إسرائيل تحتل الآن مكان الصدارة في نبوءات الكتاب المقدس، وإني أؤمن أن عهد
الوثنيين يقصد المسلمين قد ولى بسيطرة اليهود على الأرض المقدسة في عام
1967م، وإني على قناعة بأن معجزة إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948م كان
بفضل العناية الإلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأن الإله وعد مراراً في العهد
القديم بأنه سيجمع الشعب اليهودي في الأرض التي وعدها إبراهيم، وأعني بها
أرض إسرائيل الآن، ولقد أوفى الإله بعهده» .
و (جيري فالويل) هذا يقوم بإنتاج برنامج ديني اسمه - ساعة من أزمان
الإنجيل - يتم إذاعته من 392 محطة تلفزيونية، ومن حوالي 5000 محطة إذاعية
كل أسبوع، كما أنه يقوم بتنظيم رحلات إلى إسرائيل للمسيحيين الذين ولدوا من
جديد كما يزعم.
لقد نجح هذا التيار المسيحي في الحصول على ما يريد في أغلب الأحيان
بسبب تنظيمه وتوحيد جهوده من خلال منظمات وجمعيات منتشرة في طول أمريكا
وعرضها يزيد عددها على أكثر من 250 منظمة وجمعية، من أبرزها منظمة
(الأغلبية الأخلاقية) ، ومؤسسات (روبرتسون) الإعلامية التي تمتلك محطة
تلفزيون الشرق الأوسط في جنوب لبنان، ومؤسسة (السفارة المسيحية الدولية) ،
ومؤسسة (المعبد) ، وجماعة (حق الدين) ، وغيرها.
ولم يقتصر الدعم الأمريكي لإسرائيل على المستوى الشعبي، بل امتد إلى
المؤسسات الصانعة للقرار السياسي وعلى رأسها مؤسسة (الرئاسة) .
فهذا الرئيس (توماس جيفرسون) واضع وثيقة استقلال أمريكا يقترح أن
يمثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة، وفي الليل عمود من النار بدلاً من الرمز المعمول به حالياً؛ وواضح من
هذا الشكل المقترح أنه يتفق مع النص الوارد في التوراة الذي يقول: [كان الرب
يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب يهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نور
ليضيء لهم] .
ولعب الرئيس (ويلسون) دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور؛ حيث شارك
في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد، وفي عام 1918م قال (ويلسون) :
«أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في
فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا» ، كما بعث برسالة إلى الحاخام
(ستيفان وايز) رحب فيها بالتقدم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في الولايات
المتحدة وفي البلدان الحليفة، وكان يقول دائماً: «إن ربيب بيت القسيس
(يقصد نفسه) ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة إلى
أهلها» .
لم يرافق التأييدَ الشعبيَّ الأمريكي الجارف للحركة اليهودية موقفٌ عملي
واضح للحكومة الأمريكية؛ لأنه في الفترة قبل الحرب العالمية الثانية كانت
بريطانيا تقدم كافة التسهيلات والمساعدات لليهود على أكمل وجه، ولكن (روزفلت)
رئيس أمريكا أبدى في هذه الفترة تعاطفاً مع اليهود؛ فقد اتخذ نجمة داود شعاراً
رسمياً للبريد والخوذات التي يلبسها الجنود وعلى أختام البحرية الأمريكية، وعندما
تولى (ترومان) منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت طلب من رئيس الوزراء
البريطاني إدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين، وفي عام 1946م قال ترومان:
«إن تأييد وطن قومي لليهود كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة
مع نفسها» .
وكان (ترومان) هذا أول من اعترف بدولة إسرائيل بعد دقيقة من قيامها،
وتوالى بعد ذلك الدعم والمساعدات، فعلى سبيل المثال بلغت المنح التي قدمتها
أمريكا لإسرائيل - من عام 1950م وحتى 1959م -: (4035 مليون دولار،
وقروضاً بلغت 369 مليون دولار، ومساعدات فنية بـ 35 مليون دولار، وأجهزة
علمية قيمتها 10 ملايين دولار، واستثمارات بـ 95 مليون دولار، وحصيلة بيع
السندات الإسرائيلية وصلت إلى 347 مليون دولار) ، هذا عدا الإعفاءات من
الضرائب والرسوم التي تمنحها الحكومة الأمريكية على ما يصل من اليهود، وما
يتم جمعه عن طريق الجمعيات، والمنظمات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل.
وبينما نلاحظ أن فترة الرئيس كنيدي كانت من الفترات النادرة التي تم فيها
ضبط السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، حيث كان يرى: «أن
الانحياز الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب؛
بل يهدد العالم بأسره» ، والتفسير المنطقي لهذا أن الرئيس كنيدي كان الرئيس
الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا.
وفي عهد (جونسون) حصلت إسرائيل على صفقات كبيرة من الأسلحة
والمعدات التي مكنتها من هزيمة الجيوش العربية في عام 1967م، وفي عام
1968م صرح جونسون أمام جمعية (بنات برث) قائلاً: «إن بعضكم إن لم يكن
كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني المسيحي ينبع
منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً؛ مثل قصص الكفاح البطولي
ليهود العصر الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد» .
لقد ساهم انتصار اليهود في حرب 1967م في تزايد التيار البروتستانتي
المؤيد لإسرائيل باعتبار أن ما حدث على أرض فلسطين ليس سوى تحقيق لنبوءات
توراتية ولمشيئة إلهية؛ فانظر مثلاً لعناوين صحف أمريكا في هذه الفترة:
(وانتصروا في اليوم السابع) ، (حرب إسرائيل المقدسة) ، (عملية السيف
البتار) ، (داود وجوليات) (اضربي يا صهيون) .
وبالرغم من أن اليهود لم يعطوا نيكسون سوى 17% من أصواتهم أثناء
انتخابات الرئاسة؛ فقد كان من المتأثرين بالأفكار والنبوءات التوراتية إلى حد أن
قال: إنه مستعد أن ينتحر سياسياً أكثر من أن يستعد لإلحاق أي ضرر بإسرائيل.
وعندما وصل (كارتر) لحكم أمريكا كان أول ما صرح به هو التزامه بأمن
إسرائيل؛ ففي مؤتمر صحفي عام 1977م، قال: «إن لنا علاقة خاصة مع
إسرائيل، وإنه من المهم للغاية أنه لا يوجد أحد في بلادنا أو في العالم أصبح يشك
في أن التزامنا الأول في الشرق الأوسط إنما هو في حماية إسرائيل في الوجود..
الوجود إلى الأبد.... والوجود بسلام؛ إنها بالفعل علاقة خاصة» .
وفي عام 1979م فسَّر كارتر الخصوصية في هذه العلاقة؛ حيث قال:
«إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة؛ لقد كانت وما زالت علاقة فريدة
لا يمكن تقويضها؛ لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه وفي أخلاقه
وديانته ومعتقداته» .
وفي احتفال أقامته - على شرفه - جامعة تل أبيب وضَّح هذا الأمر أكثر
بقوله: «إنه بوصفه مسيحياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء
دولة اسرائيل» . لقد كان كارتر معلماً وشماساً في مدرسة الأحد، ويساهم كل
أسبوع لإيقاظ الروح الدينية في المجتمع.
أما ريجان فقد صرح بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح
يأخذ بيده، وأنه سوف ينجح ليقود معركة (الأرماجيدون) التي يعتقد أنها ستقع
خلال الجيل الحالي في منطقة الشرق الأوسط.
وحين وجه خطاباً إلى يهود أمريكا قال لهم: «حينما أتطلع إلى نبوءاتكم
القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة أرماجيدون - أي نهاية العالم -
أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً، ولا أدري إذا
كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، ولكن صدقني إنها تنطبق على زماننا
الذي نعيش فيه» .
وعندما جاء (كلينتون) أثرت خلفياته الدينية على موقفه من إسرائيل؛ فهو
يحكي تأثره كثيراً بموت أحد رجال الدين النصارى حيث كان هذا القس تحدث إلى
كلينتون قبل موته قائلاً: «إنه - أي القس - يأمل في أن يصبح كلينتون رئيساً
للولايات المتحدة؛ ولكن يجب عليه المحافظة على إسرائيل» ، لقد وضح التحالف
البروتستانتي اليهودي جلياً خلال محادثات كامب ديفيد الأخيرة؛ حيث ذكرت
الصحف قول كلينتون لعرفات: «إن المسيحيين في العالم كله يقدسون جبل
الهيكل» ، ويقصد به مكان المسجد الأقصى، وكان ذلك ردًا على عرفات الذي
ادعى أنه لا يستطيع التنازل عن الأقصى؛ لأنه مقدس عند المسلمين.
إن علاقة الرؤساء الأمريكيين بإسرائيل يصدق عليها قول الكاتب اليهودي
الأمريكي جون بيتي الذي قال: «إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام
اليهود كما ينحني المؤمن أمام قبر مقدس» .
أما (جورج بوش الابن) فحضر وزوجته قداساً في مدينة (جاكسونفيل) ؛
حيث حصل على تأييد علني من أحد مشاهير رجال الدين الأمريكيين ويدعى (بيلي
جراهام) ، ويقول بوش: «إن الفضل يرجع لجراهام في هدايته وإقناعه بالتمسك
بتعاليم الديانة المسيحية في عقد السبعينيات» .
وقال جور - عندما بدأ حملته - بأنه ينوي حمل قيمه الإيمانية، وحرصه
على الترابط الأسري معه إلى سدة الرئاسة.
ثالثاً: التأثير الفلسفي على السياسة الأمريكية:
لقد تبنى الأمريكيون نهجاً براجماتياً في السياسة والحياة؛ حيث الغاية والنجاح
فيها هما الحَكَم والفيصل؛ ولم تكن السياسة - من الناحية العملية وليست النظرية -
أبداً معركة بين الخير والشر، بل هي صراع مصالح والمصالح متغيرة، ولذا فإن
السياسة شأنها شأن التجارة والأعمال لا تلتزم بمبادئ ثابتة، بل تلتزم بالمصلحة؛
فجورج بوش الابن على الرغم من محافظته الشديدة فهو يحاول جاهدًا أن يستقطب
الجهات الأخرى من خلال تسمية نفسه بـ «المحافظ المتعاطف» ، وفي هذه
التسمية إشارة إلى أنه سيكون لينًا ومتعاطفًا عندما يستلزم الأمر. فمثلاً، بخصوص
موضوع زواج الشذوذ يُظهر بوش اعتراضه الشديد ورفضه القاطع لمثل هذه
المسألة، ولكنه في الوقت نفسه يُظهر «تعاطفه» عندما يُضيف قائلاً: «إن كل
إنسان لا بد أن يُعامل باحترام وكرامة» . وهكذا «يتحايل» بوش بحذق ومهارة
كي يكسب المعركة ضد خصمه آل جور؛ فهو - أولاً وأخيرًا - يرغب في الفوز.
والحقيقة الثابتة في الفكر السياسي الأمريكي أنه إذا ما اقتضت السياسة
الخارجية تعديلاً في المبدأ السياسي الداخلي؛ فإن هذا التعديل سرعان ما يتحقق؛
وهذه حقيقة عبر عنها جيفرسون قائلاً: «إن ما هو عملي يجب أن تكون له الغلبة
والسيطرة على النظرية الخالصة» .
لقد حاول كثير من الفلاسفة الأمريكيين صياغة الفكر الأمريكي وخاصة
السياسي منه، فكان أشهرهم (شارلز بيرس، ووليم جيمس، وسكينر) ، هؤلاء
الثلاثة صاغوا نظريات استمدت من المذهب البراجماتي أساساً لها، وسار عليها
أغلب صناع السياسة الأمريكية.
فبيرس يتساءل: «ما هي أهمية فكرة ما؟» ويجيب عليها: «طريقة
السلوك المتولدة عنها» أي النتائج العملية المتولدة عنها؛ فالسلوك أو المصلحة إذا
تحققت كانت الفكرة جيدة، ولكن: «كيف نمنع الناس من التفكير الخاطئ؟»
يقول بيرس: «لندع الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد، ولننشئ مؤسسة هدفها أن
تضع نصب أعين الناس مذاهب صحيحة تجعلهم يرددونها دائما وأبداً ودون انقطاع،
ونلقنها للصغار، وأن تكون لها في الوقت نفسه القدرة على حظر تعليم أي مبادئ
معارضة.... ولنجعل كل أولئك الذين ينبذون الفكر الرسمي للسلطة يلزمون جانب
الصمت في هلع، ولندفع بالناس لكي يمزقوا هؤلاء أو لنجري تحريات وتحقيقات
عن طريق تفكير المشتبه فيهم؛ وإذا تبين أنهم مذنبون وآمنوا بمعتقدات محظورة
فلنوقع عليهم عقوبة ما، وإذا لم ننجح في ذلك فلنبدأ مذبحة عامة لكل من لم يفكر
على هذا النحو» ، ولنا أن نسأل: أليست هذه البضاعة الأمريكية التي استوردتها
بعض سلطات عالمنا الإسلامي لتثبيت الأفكار الأمريكية؟ !
أما (وليم جيمس) فهو في نظر الشعب الأمريكي صاحب نظرية الحرية؛
ولكن أي حرية يريدها جيمس؟ إنه يوضح أن الحرية هي الفوضى؛ فما يراه الفرد
مصلحة له فله أن يفعله، وما تراه أمة أنها مصلحتها فلها مطلق الحرية في جلبها
دون مراعاة مصالح الآخرين، وهذه المصلحة ليست رهناً بالحقوق أوالوثائق أو
وقائع التاريخ، بل هي رهن بالمنفعة، فمثلاً إذا رأت إسرائيل أن منفعتها
ومصلحتها في إنكار أي قيمة للشعب الفلسطيني؛ فإن ما تقوله صواب، وهو أيضاً
الخير.
ويجيء في الختام (سكينر) الذي تبلورت على يديه النظرية الفلسفية كاملة؛
فعند (بيرس) يمكن التحكم في سلوك الناس بجعل السلوك الذي نريده منهم عادة،
وجاء (جيمس) لينقلنا خطوة أخرى؛ حيث ذكر أن الإنسان كالحيوان عبارة عن
حزمة من العادات؛ والعادات التي يكون ثمة ميل فطري لها نحوها تسمى غرائز.
أما بعض منها مما يرجع إلى التعلم فيسمى أفعال عقل.
وأخيراً فقد وضع (سكينر) القواعد التي يمكن بها الإجابة عن سؤال: كيف
يمكن التأثير في عادات العقل للناس للتحكم في سلوكهم؟ أجاب سكينر عن ذلك بما
يسمى تكنولوجيا السلوك التي هي عنده: «أداة لتغيير الإنسان من الخارج؛ فهو
الربط بين المثوبة والعقوبة لتكوين ذخيرة سلوكية لدى الإنسان على نحو ما نرى في
التجارب على الحيوانات» ، وهذا ما يطبق بالفعل في نظام الإعلانات التي تتكرر
لترسخ اسم سلعة في الأذهان وتتحول إلى وسواس يدفع المشاهد قهراً إلى الشراء
والاقتناء، أو على ما نرى في عمليات غسيل المخ من خلال التعذيب والدعايات
المتكررة في مجال الأمن السياسي، وهي أساليب دعمتها وسائل التطور التكنولوجي
التي يطلق عليها الآن اسم: برمجة الأفكار.
هناك ما يبدو تناقضاً في الفكر بين التأثير الديني البروتستانتي، وبين هذا
الفكر الفلسفي القائم على البراجماتية، وهذا بلا شك يحدث تناقضاً وصراعاً بين
هذين النقيضين في عقلية السياسي الأمريكي، ولكن عند التأمل في القرار السياسي
الأمريكي نجد التأثير الديني يتركز في صياغة الغايات والأهداف، أما البراجماتية
فهي عند التطبيق العملي واستخدام الوسائل الموصلة لتلك الغايات.
من خلال استعراض موقع الرئاسة الأمريكي في صياغة عملية صنع القرار
السياسي، وخصائص الفكر السياسي الأمريكي، والمؤثرات التي تعمل فيه يمكن
اعتبار عدة ثوابت تتحكم في توجهات الرئيس الذي يتولى زمام الأمور في البيت
الأبيض؛ بصرف النظر عن انتماءاته لأي من الحزبين الجمهوري، أو
الديموقراطي:
* أن الرئاسة مرتبطة بمؤسسات تتحكم في عملية اتخاذ القرار في الولايات
المتحدة، وإن كانت الرئاسة لها دور كبير، ولكنها تبقى في النهاية مؤسسة ضمن
غيرها تشارك في صنع القرار السياسي الأمريكي، ولذلك يمكن إجمالاً عدم تصور
حدوث تغيير ذي أثر في مجمل السياسة الأمريكية.
* التأييد الأمريكي لإسرائيل ليس مرتبطا بتأثير اليهود في أمريكا بقدر ما هو
مرتبط بالعقيدة البروتستانتية نفسها التي يعتنقها غالبية الشعب الأمريكي؛ وعلى هذا
فإن اختيار ليبرمان اليهودي نائباً لجور لا يمكن أن نستنتج منه أن بوش سيكون أقل
انحيازاً لإسرائيل؛ فالسياسة الأمريكية في هذه المسألة بالذات يغلب عليها المفهوم
البروتستانتي، ولكن ربما يزيد التأييد المسيحي لجور نتيجة لوجود ليبرمان إلى
جواره؛ حيث المصلحة البروتستانتية المعروفة في التمكين لليهود في فلسطين.
* أن الفكر السياسي الأمريكي البراجماتي في تعامله مع شعوب العالم الثالث
لن يتغير؛ لاستناده لأسس فلسفية ذات جذور في الفكر الأمريكي؛ فهذا الفكر في
ممارساته يعتمد على المصلحة حيثما وجدت.
المراجع:
1 - النظم السياسية المعاصرة - عبد الهادي أبو طالب - دار الكتاب - الدار
البيضاء.
2 - صناعة القرار السياسي الأمريكي - منصف السليمي - مركز الدراسات
العربي الأوروبي.
3 - العقل الأمريكي يفكر - شوقي جلال - سينا للنشر.
4 - تاريخ التدخلات الأمريكية المسلحة - المجلد الأول والثاني - ي.
جريجوريفتش - ترجمة سعد الفيشاوي - دار العالم الجديد - القاهرة.
5 - الصليبيون الجدد - الحملة الثامنة - دراسة في أسباب التحيز البريطاني
لإسرائيل - يوسف العاصي الطويل - مكتبة المدبولي.
6 - جذورالبلاء - عبد الله التل.
7 - الولايات المتحدة وإسرائيل - برنارد ريتش - ترجمة مصطفى كمال.
8 - القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني - مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
9 - قبل أن يهدم الأقصى، عبد العزيز مصطفى.(158/82)
المسلمون والعالم
وقفة مع الخطاب الإسرائيلي والخطاب العلماني العربي
عبد الكريم بن عبد الله بقنه
يلاحظ المتابع للساحة العربية والإسلامية أن (الخطاب الإسرائيلي) يتطابق
مع الخطاب العلماني العربي في مسألة تبدو مهمة بل هي غاية في الأهمية؛
إذ تتعلق بازدراء الجماهير الإسلامية واعتبارها جحافل من الدهماء التي
تستجيب لخطاب «التطرف» والعنف و «الأصولية» أكثر من استجابتها
للخطاب «الحضاري» و «العقلاني» الرافض للأصولية من جهة
والمنسجم مع خطاب العولمة أو «الأمركة» بتعبير أكثر دقة وتحديداً؛ حيث إن
العولمة أصبحت تعني ديكتاتورية النموذج الأمريكي وهيمنته على العالم، كما
يذهب الفرنسي (رجاء جارودي) ؛ فالخطاب الأمريكي الإسرائيلي يعتبر الجماهير
العربية لا تبدو منسجمة ومتوافقة مع منظومة السلام في الشرق الأوسط؛ فإذن لا بد
من الضرب على يديها ومن ثم ترويضها بعد ذلك لقبول خطاب «السلام» .
ففي الدول العربية على الحكومة أن تبادر إلى فرض توجهات التطبيع على
الشارع العربي، وعدم ترك هذا الشارع لمشاعره الذاتية «تلك التي تحركه في
اتجاه الرفض» ؛ فعلى النظام أن يلجم التوجهات الرافضة بالقوة بوصفها واقعاً لا
بد من القبول به تحت كل الظروف، ومن جهة أخرى على السلطة الفلسطينية مثلاً
ألاَّ تسمح بالتوجهات الرافضة والمعارضة بالتعبير عن نفسها بحرية، بل ملاحقتها
بضرب بنيتها التحتية وزج ناشطيها في المعتقلات ما دام ذلك ضرورياً لبناء وَهْم
السلام والثقة المزعومة!
ولكن هل يحدث مثل ذلك في (الجانب الإسرائيلي) ؟ بالطبع لا. فإذا تحدث
أحد المجاهدين في غزة عن الجهاد باعتباره حلاً وحيداً للتعامل مع (إسرائيل)
نجده يصبح قضية ثابتة على أجندة أحاديث كلينتون وأولبرايت، وعلى قادة
السلطة اعتقاله دون محاكمة، وذلك بصفته شخصاً خطيراً على تقدم عملية السلام.
أما عندما يطالب (حاخام كبير) بالقيام بعمليات انتحارية ضد الفلسطينيين
واستحلال دمهم، بعد استحلال أرضهم ومقدساتهم، وعندما تكون ثمة عصابات
وجمعيات علنية بعضها موجود في الولايات المتحدة تتحدث عن العنف ونسف
عملية السلام، ونسف المقدسات وبناء الهيكل وغير ذلك فإننا لا نجد أحداً يطالب
بقمع هؤلاء وفتح باب السجون لهم.
والخطاب العلماني العربي تجده - بوعي أو بغير وعي - ينحو في هذه
القضية المنحى الأمريكي الإسرائيلي ذاته؛ فهو يرى أن الجماهير العربية تملك
استعداداً وافراً للاستجابة للخطاب الأصولي «المتطرف» ، ولا تتوقف القضية
عند موضوع التعاطي مع (الشأن الإسرائيلي) ، وإنما يمتد إلى الشؤون الأخرى؛
وإلا فكيف يفسر انحياز الشارع العربي أو جزء كبير منه إلى الخطاب الإسلامي
وإدارة ظهره للخطاب العلماني «التنويري» ؟ !
الإشكالية أن الفريقين يتبنيان الدعوة إلى الديمقراطية، وهذه الأخيرة تقول
بالقبول برأي الأغلبية؛ فإذا كانت الأغلبية رافضة وتنحاز بالضرورة إلى الرافضين
الإسلاميين فما العمل؟
الطرف (الأمريكي - الإسرائيلي) في هذه الحالة لا يبدو حريصاً على القيم
الديمقراطية ما دامت القضية عندهم تعني «المصلحة العليا» لهم.
لكن ماذا يفعل الطرف التابع «الطرف العلماني» ؟ إنه يجد نفسه ينحاز إلى
المهرولين للسلام! بشيء من التأويل وقمع القوانين، بل صياغة قوانين تناسب
المرحلة أو تصادر حق الغالبية في تقرير مصيرها، ولكن من خلال صياغة قوانين
انتخابية وغير انتخابية تحجم رأي الغالبية بالإكراه.
إنها إذن عملية جر للجماهير إلى مربع «التنوير المزعوم» بالسلاسل،
والإبقاء بكل الوسائل على سيوف الناس في جهة وقلوبهم في جهة أخرى؛ غير أن
من المستحيل الوصول إلى حالة جعل سيوف الناس وقلوبهم معاً ضد الحق؛
فالجماهير قد تستكين لسلطات القمع، وقد تحمل سيفه عندما تختل موازين القوى،
غير أن قلوبها ستظل في الطرف الآخر؛ فمتى يعلم أصحاب الطرح العلماني أن
تلك معادلة مستحيلة؟(158/92)
المسلمون والعالم
سياسة الكيل بمكيالين
وموقف الغرب من قضايا المسلمين
د. عبد الرحمن أمين
حفل القرن الحالي بقضايا ومآسٍ كثيرة غالبها - إن لم يكن كلها - كانت تدور
على أرض المسلمين؛ فمأساة فلسطين ما زالت تتفاعل في حنايا كل مسلم ومشاعره؛
كيف لا، وهي أرض معراج نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وأرض
الأنبياء، وأولى القبلتين، وفيها المسجد الأقصى؛ حيث الصلاة فيه تعدل خمسمائة
صلاة؟ هذه الأرض المباركة سقطت أسيرة في أيدي اليهود الذين قال عنهم الله -
سبحانه -: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا]
(المائدة: 82) ، فما هو موقف الغرب من هذه القضية؟ فالغرب الذي يدَّعي
الحضارة والتطور والديمقراطية والانفتاح وقف وقفة ظالمة منذ أن بدأت هذه
القضية تظهر على مسرح أحداث العصر الحديث، وبدلاً من الانتصار للحق ونصرة
المظلوم راح وبكل الوسائل يفرض سياسة الأمر الواقع على أصحاب الأرض
الحقيقيين، وينتصر لمغتصب الأرض ابتداءً من وعد بلفور المشؤوم، ومروراً
بالحروب التي دارت بين اليهود وجيرانهم من العرب، حتى آلَ الحال إلى ما هو
عليه الآن، والبقية معروفة للجميع.
الصراع مع الهندوس:
ثم برزت بعد ذلك قضايا إسلامية أخرى وفي مناطق أخرى من الأرض
الإسلامية من أبرزها قضية كشمير، وفي هذه المرة فإن الصراع ليس بين اليهود
والمسلمين، وإنما بين الهندوس والمسلمين؛ فما كان من الغرب إلا المسارعة
للوقوف بجانب عبدة البقر مع وجود الفارق الكبير بين الحضارتين؛ ولا سيما أن
أهل الغرب محسوبون على أهل الكتاب، والهندوس عبدة أوثان.
ثم طلعت علينا قضية أخرى أحداثها هذه المرة تدور في قلب أوروبا وهي
قضية البوسنة.
قضية أخرى بل مأساة؛ فما أن استطاع المسلمون الإفلات من قيد الشيوعية
الذي دام أكثر من سبعين عاماً حتى وجدوا أنفسهم أمام عالم لا يهمه سوى المصالح
المشتركة ودائماً على حساب الطرف الأضعف وهم المسلمون للأسف، ولم يقترف
مسلمو البوسنة أي ذنب سوى رغبتهم في العودة إلى دينهم واسترداد هويتهم
المسلوبة من قِبَل أعدائهم، فجاءهم الرد كالصاعقة: لا للإسلام في أوروبا ولا سيما
إذا كان هذا الإسلام بصورة دولة أو تجمُّع أو كيان؛ فأخذ الصرب الأرثوذكس على
عاتقهم مهمة تصفية شعب بأكمله وسحقه على مرأى ومسمع من أدعياء الحضارة
والتمدن في بلاد الغرب، فاستمرت خطة القتل والإبادة ثلاث سنوات ولغ فيها
الحاقدون في دماء الأبرياء العزل، ولما انتفض المسلمون ليدافعوا عن دينهم
وأعراضهم وبدؤوا يحققون الانتصارات وجد الغرب نفسه في حرج شديد؛ فهنا لا
بد أن يتدخل ليحسم الأمر قبل أن ينفلت الزمام وينقلب السحر على الساحر، فأوقفوا
الحرب؛ ولكن بعد أن ارتوت وديان البوسنة وسهولها بدماء الأبرياء من النساء
والأطفال، وبعد أن هتكت أعراض الآلاف من المسلمات وهن يندبن حظهن
وينتظرن معتصماً ليثأر لهن، ولكن أين نحن من زمان استأسد فيه الفأر ونام فيه
الأسد؟ وأين نحن ممن هان على كثيرين دينهم؛ فهان عليهم كل شيء؟ وصدق
الشاعر حينما قال:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
والغريب في الأمر أن طريقة الأعداء في معاملة المسلمين هي نفسها، سواء
كانت في البوسنة أو كشمير؛ فقتل الأبرياء وهتك الأعراض وارتكاب المجازر هي
السمة المشتركة للقضيتين.
جرح كوسوفا والموقف نفسه:
ثم جاءت قضية كوسوفا، وبدا الغرب هذه المرة أكثر جدية من سابقتها،
واستعمل طريقة جديدة في معاملة الصرب وهو الضرب عن بعد، ولكنه رفض أن
يتدخل على الأرض حتى أكمل الصرب مخططهم في إذلال مسلمي كوسوفا وكسر
شوكتهم بذات الطريقة التي استعملها في البوسنة، وفي نهاية المطاف قال الغرب
كلمته: لا لدولة مسلمة في كوسوفا ولا للاستقلال؛ فبقيت قضية كوسوفا كقضية
البوسنة معوَّمة ضائعة، وبالمقابل فتحت الأبواب أمام المنظمات التنصيرية لغزوها
بعد أن غزتها جيوشهم؛ فما داموا هم لا يريدون دولة مسلمة في أوروبا فلعلها تكون
دولة نصرانية وحينها يكون لكل حادث حديث.
انتصار لنصارى إندونيسيا:
وفي هذه الأثناء برزت إلى السطح قضية جديدة ولكن من نمط آخر؛
فالأرض أرض مسلمة، ولكن أبطالها هذه المرة نصارى.. إنها تيمور الشرقية
التابعة لدولة إندونيسيا المسلمة؛ فبعد أن تنازلت عنها البرتغال رجع الغرب ليطالب
بانفصالها واستقلالها عن إندونيسيا، وهنا يبرز وبكل وضوح لا مراء فيه منهاج
الكيل بمكيالين الذي يزن به الغرب أمور المسلمين؛ فهذه المرة بادر الغرب
وبسرعة متناهية فأصدر القرارات تلو القرارات لاستقلال هذه البقعة عن إندونيسيا،
وأصر على استقلال تيمور الشرقية وبأي ثمن. وللعلم فقط؛ فإن النصارى في
تيمور الشرقية كانوا طيلة الفترة السابقة يشنون حرباً منظمة ضد إندونيسيا حتى
ظفروا بمرادهم وأنشؤوا دولتهم في قلب أكبر بلد مسلم.
مأساة الشيشان وهمجية الروس:
هكذا تتوالى الأحداث وتتسارع، وفي كل مرة نسمع عن قضية جديدة: مرة
في الشرق، وأخرى في الغرب. والغريب دوماً أن الضحية هم المسلمون، فجاءت
قضية الشيشان لتتوج هذه الأحداث؛ فبعد أن طالب شعب بأكمله بالاستقلال عن
دولة متهرئة متمزقة ومتقطعة الأوصال، وحينما بدأ يحكم نفسه بنفسه وجد أن أمر
الاستقلال بعيد بُعد المشرقين في موازين الغربيين؛ فإنه لا يتناسب مع نظريتهم
القائلة: لا لدولة إسلامية في أرض أوروبا؛ ففي الوقت الذي ساعد الغرب على
إقامة دول نصرانية في بقايا الاتحاد السوفييتي وقف وقفة صارمة رافضة لأي فكرة
مبناها إقامة دولة مسلمة في إحدى بلدان القوقاز المسلم، وماذا كان موقف الغرب
الحضاري حامي حمى العدل والحرية من الحرب الأخيرة التي تشن ضد الشيشان،
وهو يذبح بالإيعاز من زعيم أرثوذكسي مخمور؟ لم يكن موقفه سوى إشارات
هزيلة باهتة تدعو إلى عدم الإكثار من استعمال الأسلحة المحرمة؛ لأنه يتنافى مع
الاتفاقيات المعقودة سابقاً! وها نحن نعيش مأساة جديدة من مآسي المسلمين، يذبح
فيها الأطفال والنساء والشيوخ ذبح النعاج ليثبت الغرب وبكل جدارة أنه أمثل من
يجيد لعب دور المتفرج في قضايا المسلمين، وأفضل من يطبق شعار الكيل
بمكيالين في حق الشعوب المسلمة. ولكني أرجع فأقول: إن هذه المواقف
سيكتبها التاريخ حتماً، والأيام دول، والله - تعالى - خالق الخلق، ومالك
الملك ومدبر الأمر هو القائل - جل وعلا -: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] (آل عمران: 140) فما علينا نحن المسلمين إلا التحلي بالصبر
والعودة إلى الدين، والأخذ بأسباب النصر والتمكين، والعمل بكتاب الله وسنة نبيه
الأمين عليه الصلاة والسلام واللجوء إلى مفرج الكربات وقاضي الحاجات ربِّ العزة
والجلال؛ أما قال عنهم الله - سبحانه وتعالى -: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) فلا ننتظر منهم إنصافاً أو إحقاقاً
لحق وإن زعموا أو تظاهروا بغير ذلك.
إن الأحداث سالفة الذكر وغيرها من الأحداث هزَّت وما زالت تهزُّ كيان الأمة
ووجدانها، وصارت تؤرق المخلصين منها وتقض مضاجعهم وهم يحاولون أن
يجدوا حلاً لما آل إليه حالها باحثين عن الأسباب التي أدت إلى تمكن عدوهم منهم
وإدالته عليهم بعد أن كانت الدولة لهم. ولكن علينا الأخذ بالحذر الشديد ولا سيما في
مثل هذه الظروف الصعبة من دخول الشيطان علينا محاولاً - كعادته - تثبيط
العزائم، وإضعاف الهمم، وزرع اليأس والقنوط في نفوس أبنائنا وهم يرون حال
الضعف والهوان التي تمر بنا؛ فما تمر الأمة المسلمة به الآن هو حلقة من حلقات
التاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات والنصر المؤزر، ولقد مرت في
ماضي عهدها بظروف صعبة وقاسية، ما لبثت أن خرجت منها وهي أقوى عوداً
وأصلب عزيمة وأكثر تفاؤلاً بتحقيق الأمل المنشود؛ وهنا أتركك أخي القارئ مع
كلمات لإمام كان له يوماً شرف المشاركة في إيقاظ همم الأمة والخروج بها من
ظروفها الحالكة، ولنسمع ولنصغِ إلى تفسيره لمثل هذا الواقع، وكيف يجيب عن
التساؤلات التي قد تخطر ببال أحدنا لنزداد يقيناً بأن مصير الأمة بيد بارئها، وأن
أقدار الله لا محالة نازلة، وحِكَمه نافذة، والله غالب على أمره، وأن العاقبة للمتقين
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «إن ما يصيب المؤمن في هذه الدار
من إدالة عدوه عليه وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه وهو
كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم؛ فهذا أمر لازم للطبيعة
والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم
الحاكمين» [1] .
فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع، وعن الضر واللذة، وعن
الألم لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة
التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار؛ وإنما يكون
تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار؛ كما قال - تعالى -:
[لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] (الأنفال: 37) .
إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة
عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله - عز وجل - فمنها استخراج عبوديتهم
وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا
دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين
منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق دولة.
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين
تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له،
وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر
وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه. ومنها أنهم لو كانوا دائماً منصورين غالبين
قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى
من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين لم يدخل معهم أحد، فاقتضت
الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدُّولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد
الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه، وقال ابن القيم أيضاً: «ومنها أن
امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم، ويهذبهم كما قال الله - تعالى -
في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 139-142) ، ثم قال
ابن القيم أيضاً:» ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء؛ فإن الشهادة درجة
عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل
درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد، ثم أخبر - سبحانه -
أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره
من الذنوب التي أديل بها عليهم بالعدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين
ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا. ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم ودخول
الجنة بغير جهاد ولا صبر، وإن حكمته تأبى ذلك؛ فلا يدخلونها إلا بالجهاد
والصبر، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما
يصبرون عليه من أذى أعدائهم. فهذه بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته
في بعض الأحيان «.
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، ج 2، ص 272 - 275.(158/94)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
الصورة الخلفية للانتفاضة
على مدى 40 يوماً، منذ بدايتها خلفت انتفاضة الأقصى أكثر من 205 قتلى،
و8 آلاف جريح؛ منهم ثلاثة آلاف يعانون من عاهات دائمة أقعدتهم عن العمل
مدى الحياة؛ نتيجة بتر أعضاء وأطراف، وتهشيم عظام؛ خاصة أن غالبية هؤلاء
من العمال الذين تتطلب طبيعة أعمالهم قدرات بدنية عالية، وهذا العدد مرجح
للتصاعد مع استمرار انتفاضة الأقصى التي يتوقع أن تتواصل لسنوات أو حتى
تحقق أهدافها بالاستقلال والانسحاب الإسرائيلي.
وخلال الأيام الماضية لوَّح رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك باستعداد جيشه
لقتل ما يزيد عن ألفي مواطن فلسطيني إن كان ذلك سيوقف الانتفاضة. وهذا يعني
سقوط عشرات الآلاف من الجرحى، ويعني أيضاً أن مزيداً من الأسر الفلسطينية
ستفقد مُعيليها.
تضاف إلى ذلك حالة الخنق الاقتصادي التي تفرضها سلطات الاحتلال على
مجمل الضفة الغربية وقطاع غزة حيث ينتقل منهما يومياً - قبل الانتفاضة -
حوالي 150 ألف عامل للعمل في إسرائيل، ومع هذا الحصار فقدت عشرات
الآلاف من الأسر الفلسطينية مصدر رزقها؛ فزاد ذلك من عدد العاطلين وعدد
الأسر التي باتت على حافة المجاعة، ويشكل الحصار عبئاً على الاقتصاد
الفلسطيني الضعيف أصلاً.
يقول الدكتور حسن الخريشة عضو المجلس التشريعي: «لدينا الآن في
مناطق السلطة الفلسطينية حالة يمكن تسميتها بـ» الجوع الصامت «؛ فغالبية
الأسر ترفض الحديث عن معيشتها؛ لأن المسألة ترتبط بكرامة الأسرة، وأنا
أعرف عشرات الحالات من الذين يجدون صعوبة في توفير لقمة العيش والأمور
الحياتية الأساسية، ويرفضون تلقي أي مساعدة من أي جهة رغم ظروفهم القاسية،
وهم الذين قد يحسبهم البعض أغنياء» .
وقال: «إن الوضع العام هو أن غالبية الأسر الفلسطينية - باستثناء فئة
معينة - تعيش على الكفاف، وترفض أن تفصح عن حقيقة ظروفها، ويمكن أن
نقول إنها تعيش حالة الجوع الصامت» .
ويقول الدكتور واصل أبو يوسف، عضو المجلس المركزي الفلسطيني:
«نجد في المخيمات الفلسطينية بشكل عام ظروفاً معيشية قاسية للغاية، فغالبية سكان
المخيمات هم فئات محرومة تعيش دون خط الفقر، ومصادر دخلهم غير ثابتة،
وهذا لا يعني أن الفقر والاحتياج مسألة تخص المخيمات فقط، وإنما توجد في
المدن والقرى الفلسطينية حالات كثيرة تعيش ظروفاً مأساوية» .
وأضاف الدكتور أبو يوسف: «البطالة تتزايد، فحتى الذين يعملون في
مصانع ومنشآت فلسطينية تم فصل جزء كبير منهم، بسبب توقف هذه المصانع؛
نظراً لعدم وصول المواد الخام التي تصل عادة عن طريق الموانئ الإسرائيلية، أي
أن المشكلة معقدة وتحتاج إلى حلول جذرية؛ فالأرقام تشير إلى أن المشكلة تشمل
300 ألف عامل يعملون في إسرائيل ومناطق السلطة» .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8028) ]
ومع ذلك.. تتفاوضون! !
أكد رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية السيد فاروق
القدومي أنه بعد سبع سنوات من المفاوضات لم تتراجع إسرائيل عن عمليات القتل
والعنف والإرهاب والمماطلة وتعطيل ما تم الاتفاق عليه، وأنهم مستمرون في
بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي.
وتحدث عن خطة إسرائيلية للتحرش بالشعب الفلسطيني واستفزازه، لافتاً إلى
أن هذه الخطة يتم تنفيذها من عهد رئيس الوزراء الأسبق (إسحاق رابين) الذي
ارتكب مجزرة الخليل، ثم جاء (بنيامين نتنياهو) وافتتح النفق في الأقصى،
والآن يقوم (باراك) باستفزازنا بالسماح (لشارون) بدخول المسجد الأقصى.
وأشار إلى أنهم يريدون احتواء الضفة والقطاع وليس الخروج منها، وأن
المستوطنات تُبنى الآن بكثافة. وقال: إن رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك
رفض التوقيع على ورقة اقترحها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون من أجل وقف
المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. وقال: إن ما تم في شرم
الشيخ هو مذكرة تفاهم فقط من دون توقيع أي طرف من الأطراف، وهي مناشدة
للطرفين لوقف العنف. ودعا قدومي الدول العربية إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية
مع إسرائيل، واستقطاب الرأي العام العالمي ليقوم بإجراءات ضدها في مجلس
الأمن والأمم المتحدة، وطالب الدول العربية بتعزيز تضامنها مع الشعب الفلسطيني؛
مشيراً إلى أن القيادة الفلسطينية طلبت من العرب أن تتولى الأمم المتحدة مسؤولية
حماية الشعب الفلسطيني بشكل دائم.
[جريدة الحياة، العدد: (13743) ]
حصاد جهاد الشعب
أفادت مؤسسة حقوقية أن السلطات الإسرائيلية أصابت قرابة 70 ألف
فلسطيني بالأعيرة النارية والمطاطية منذ اندلاع الانتفاضة الأولى في الثامن من
ديسمبر عام 1987م وحتى 11نوفمبر 2000م، من بينهم 6250 مواطناً أصيبوا
منذ انذلاع انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000م. وقال مركز
غزة للحقوق والقانون في إحصائية حديثة: إن عدد المصابين الذين جرحوا منذ 8
ديسمبر 1987م، وهو اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة الأولى، وحتى نهاية عام
1988م بلغ 22256 مصاباً، وأنه خلال عامي 1989م، 1990م أصيب
17230 فلسطينياً، وفي عام 1991م بلغ عدد المصابين 9709 فلسطينيين، وفي
1992م بلغ عددهم 5806 فلسطينيين، كما سجل في عام 1993م إصابة 4649
فلسطينياً. وأشار إلى أنه في عام 1994م الذي دخلت في منتصفه السلطة الوطنية
الفلسطينية إلى قطاع غزة وأريحا سجل إصابة 1369 فلسطينياً وأن هذا العدد
انخفض في عام 1995م إلى 98 جريحاً، وعاد ليرتفع في عام 1996م إلى 2090
جريحاً؛ إذ اندلعت في سبتمبر من العام ذاته «هبة الأقصى» حينما أعلن عن
افتتاح الكيان الصهيوني نفقاً تحت المسجد الأقصى المبارك، ليعود العدد وينخفض
إلى 217 في عام 1997م، كما سجل في عام 1998م إصابة 238 فلسطينياً،
انخفض في العام 1999م إلى 73 جريحاً، ليعود هذا العام ويرتفع مسجلاً 6250
جريحاً حتى منتصف نوفمبر 2000م؛ ليكون بذلك إجمالي كل المصابين
الفلسطينيين 69985 جريحاً منذ بداية الانتفاضة الأولى.
[السبيل الأردنية، العدد: (361) ]
وجهاد رجال السلطة! !
قالت صحيفة معاريف الإسرائيلية إن نحو 50 شخصية كبيرة في السلطة
الفلسطينية هرَّبوا عائلاتهم إلى خارج البلاد، ونقلوا حساباتهم المصرفية إلى فروع
في دول أخرى لم تذكرها نقلاً عن حسام خضر عضو المجلس التشريعي الفلسطيني
خلال برنامج تلفزيوني يقدمه مروان كنفاني أحد كبار مستشاري عرفات. وذكر
خضر الذي يعتبر من المعارضة داخل فتح أن عرفات يعرف كل شيء عن الكبار
الذين أرسلوا نساءهم وأولادهم إلى خارج البلاد. وأضافت معاريف أنه قُدمت
لعرفات مؤخراً قائمة لعائلات مسؤولين كبار غادروا الضفة الغربية من أجل البحث
عن (حياة أفضل) في الخارج. وقالت مصادر في الضفة: «إن رجال تونس
الذين لم يخوضوا تجربة الانتفاضة الأولى غير قادرين على الصمود في وجه ضغط
النضال» .
[السبيل الأردنية، العدد: (361) ]
هل نسيتم الشيشان؟ !
منظمة «أطباء بلا حدود» ، ومنظمات إنسانية أخرى تصف الخراب الذي
خلفته الحرب في الشيشان؛ حيث يعيش الناس في أكواخ بلا ماء ولا كهرباء،
وحيث المستشفيات أو ما تبقى منها تعاني من نقص الأدوية والأدوات الطبية
الأخرى، في بلد أكثر من نصف سكانه مهجرون تتفشى بينهم الأمراض والأوبئة.
تواجه المنظمات الإنسانية العاملة في الشيشان وضعاً كارثياً: في القرى
المدمَّرة التي تفتقد إلى برامج لإعادة إعمارها، وفي أعداد الجرحى، إضافة إلى
آلاف المهجرين، ويتوج كل ذلك بانعدام الأمن.
وأفادت منظمة «أطباء بلا حدود» التي عادت إلى الشيشان في يوليو
الماضي بعد غياب استمر ثلاث سنوات أنه نظراً إلى تعدد نقاط التفتيش والحواجز،
وخوفاً من المضايقات والابتزاز أو الاعتقال، يتردد السكان - خصوصاً الشبان
منهم - في التنقل حتى من أجل تلقي عناية طبية. وأضافت: «يشجع الخطاب
الروسي اللاجئين على العودة؛ لكن ماذا يفعلون عندما يشاهدون منازلهم التي لم يبق
منها شيء؟» . وفي مناطق الوسط والجنوب حيث خلفت المعارك دماراً، لا
وجود لأي مشروع لإعادة الإعمار. فلم يبق شيء في وسط مدينة غروزني؛ حيث
أزيلت جميع المباني، وانتقل ما بين 40 و 180 ألف شخص، إلى ضواحي
العاصمة؛ حيث يعيشون في سيارات أو في مبان نصف مهدمة من دون كهرباء أو
ماء، وفي كل مكان يعمد أطباء محليون إلى إقامة غرف عمليات جراحية في
الأقبية، أو نصب خيم في الحدائق، ويتلقون معدات طبية من منظمتي
«أطباء بلا حدود» ، و «أطباء العالم» ، إضافة إلى «مساعدات» طبية
روسية. وأشار عضو بالمنظمة إلى عينة مساعدات أرسلتها وزارة الصحة
إلى مستشفى غوديرميس (قوتها 300 سرير) ؛ وهي عبارة عن كرتونة واحدة
في حين يحتاج المستشفى إلى ثلاث شاحنات.
وبالإضافة إلي هذا الوضع ازدادت نسبة الاحتياجات الطبية؛ فهناك آلاف
المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات أو عناية، و «الدفق مستمر» من ضحايا
الحرب والمدنيين المصابين بانفجار الألغام، فضلاً عن المشاكل الصحية العادية
والعقلية، والالتهابات التنفسية، والسل الذي من المحتمل انتشار عدواه. وتعترف
«أطباء بلا حدود» أن وجود المنظمات الإنسانية «باهت» قياساًَ إلى حجم
الدمار؛ مشيرة إلى أن «المشكلة سياسية في الأساس» .
وبدوره، قال كيني غوليك - مسؤول «أطباء بلا حدود» فرع هولندا، في
اتصال هاتفي من نزران (أنغوشيا) -: «إن الكارثة الإنسانية الحقيقية هي
الطريقة التي يعامل بها المدنيون من الجرحى، والمعاملة السيئة في السجون،
والناس الذين يقتلون» . وأضاف: «قبل ستة أشهر استمر الأطباء في العمل في
الظلام والصقيع، والفارق الوحيد اليوم هو إقرارهم بفقدان الأمل» .
[جريدة الحياة، العدد: (13745) ]
متى يحين.. ومتى تحنو؟ !
أعلنت مسؤولة الأمم المتحدة لشؤون تنسيق المساعدات الإنسانية (كارولاين
ماكاسكي) في موسكو لدى عودتها من مهمة أنه لم يحن الوقت بعد للمنظمة الدولية
للعمل في الشيشان لأسباب أمنية، وقالت ماكاسكي في مؤتمر صحافي: بالنظر إلى
الوضع الأمني الحالي، لا أوصي بتواجد الأمم المتحدة في الشيشان. وروت كيف
انتقلت إلى الجمهورية برفقة مسلحين من دون أن تتمكن من التحدث بحرية مع
السكان، وخلصت إلى القول: لم يحن الوقت بعد للأمم المتحدة للعمل في الشيشان
بحرية. وأشارت المسؤولة إلى أن اللاجئين الشيشان في جمهورية أنجوشيا
الحدودية غير متحمسين لفكرة العودة إلى ديارهم، وقالت ماكاسكي: إن الشعور
العام لدى اللاجئين في أنجوشيا هو أنه ليس بوسعهم العودة إلى ديارهم بسبب فقدان
الأمن والمساكن.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7466) ]
تونس المنسية
روى أربعة طلاب تونسيين أن (الصفع واللكم والركل والتعليق والحرق
والصدمات الكهربائية والخنق والاغتصاب) ممارسات شبه يومية في مراكز
الشرطة والسجون التونسية. وأوضحت إيمان درويش - طالبة العلوم الاقتصادية،
خلال مؤتمر صحافي للجنة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان في تونس،
وجمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان في المقر الفرنسي للبرلمان الأوروبي -: أن
«التعذيب ممارسة منهجية تنطبق على الرجال والنساء كحد سواء، في النهار كما
في الليل، وهي منتشرة في إدارات الأمن الوطني في العاصمة وكل أنحاء البلاد،
ومراكز الشرطة والسجون» . وروت درويش وزملاؤها زهير عيساوي، ونور
الدين بنتيشا، ونزار شعري: كيفية «استقبال» الموقوفين في مقر إدارة الأمن
الوطني «حيث كل طابق مجهز بتقنيات خاصة وعاملين مختصين» ، وأوضحت
درويش التي أوقفت في 4/3/1998م لمشاركتها في إضراب مرخص له للجامعة
حول مطالب طلابية -: أنها تعرضت بعد الضرب، وسيل الإهانات، والبصق،
وفقدانها لوعيها؛ للاغتصاب. وأضافت: «إن الهدف عادة من الاغتصاب الذي
يصوره رجال الشرطة على الفيديو هو تحطيم سمعة النساء في المجتمع التونسي» ،
وأعلنت ممثلة عن الاتحاد الدولي لرابطات الدفاع عن حقوق الإنسان أن لجنة
الدفاع عن حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تنتظر منذ أكثر من عام الحصول
على تقرير من الحكومة التونسية حول التعذيب.
[جريدة الحياة، العدد: (13751) ]
صافرة إنذار ... من صفير! !
أكد البطريريك الماروني الكاردينال (نصر الله صفير) أن وجود المسيحيين
في الشرق على عتبة الألف الثالثة هو موضوع حياة أو موت بالنسبة إلى المسيحيين،
وهو موضوع بقاء أو رحيل؛ ولو أثار مثل هذا التعبير الهواجس والمخاوف.
وأضاف: «هذه هي الحقيقة - وإن كانت مُرة - إذ ليس في الإمكان
تجاهلها» . وسأل: «كيف نتجاهلها عندما نرى هذا النزف المتواصل الذي
يقتلع أبناءنا من قراهم ومدنهم ومواقعهم ليجرفهم إلى المجهول؟» . وأعطى
(صفير) مثالاً على ذلك (لبنان) الذي هاجر من أبنائه في السنوات العشر الأخيرة
مليونا لبناني، ولا يزال يغادره كل شهر ما يزيد على خمسة عشر ألف مواطن
معظمهم من الشباب حملة الشهادات العليا. وقال: «إن هذا الأمر ينسحب على
باقي بلدان هذا الشرق التي يغادرها المسيحيون خصوصاً؛ فيتناقص عددهم يوماً
بعد يوم بعدما كان هذا الشرق بأكمله مسيحياً» ، مؤكداً أن: «المسيحيين متشبثون
بهذه الأرض أياً تكن المخاطر» . كلام (صفير) جاء خلال افتتاح اجتماع
رؤساء الكنائس أعماله في الصرح البطريركي في (بكركي) تحت عنوان:
«المسيحية في الشرق على عتبة الألف الثالث» . وسأل: «هل تكون هذه
هي إرادة الله أن يفرغ الشرق المسيحي من مسيحييه، بعد أن كان كله
مسيحياً؟» .
[جريدة الحياة، العدد (13768) ]
قرابين تركية لأوروبا
قالت مصادر تركية مطلعة: إن الحملة التي يقودها وزير التعليم التركي لمنع
تدريس كتب دينية في المدارس التركية قد استمرت هذا العام (2000م) ، حيث
تشير إحصائيات العام الماضي إلى أن عدد الكتب المحظورة التي تم جمعها من
المدارس قد وصل عددها إلى ثلاثمائة كتاب، وجميعها كتب دينية.
فقد أصدر وزير التربية والتعليم التركي «بوسطانجي أوغلو» قراراً جديداً
يحظر تدريس كتاب «الأحاديث الأربعين» في المدارس، والعمل على عدم تداوله
بها بأي شكل من الأشكال. وألغى بذلك التوصية التي كانت قد أصدرتها لجنة
التربية والتعليم بالوزارة من قبل؛ وحثت على تدريس هذا الكتاب الذي أعده الشيخ
أحمد نعيم واعتمدته وزارة الشؤون الدينية وتولت إصداره.
[مجلة الإصلاح، العدد: (434) ]
وجه صربيا القبيح
1 - س: ليس خافياً أن صورة الصرب أصبحت سوداء عند غالبية العرب
والمسلمين بسبب أحداث البوسنة وكوسوفا، فهل لديكم توجه لسبب ذلك؟
ج: أرجو أن يثق قراء صحيفتكم، بأن الصرب طيبون، ولكن ذنبهم أنهم
واجهوا ظروفاً صعبة معلومة، وأؤكد أن من أهداف الرئيس (فويسلاف
كوستونيتشا) تصحيح صورة الصرب في أنحاء العالم، وخصوصاً عند العرب
والمسلمين الذين للصرب مصالح كثيرة متبادلة معهم، سياسية واجتماعية واقتصادية
وتاريخية.
[وزيرة الإعلام الصربية، جريدة الحياة، العدد: (13750) ]
2 - أعلن الرئيس اليوغسلافي الجديد (فويسلاف كوستونيتشا) أنه سيكون
أول رئيس صربي في التاريخ يقيم علاقات مع إسرائيل ويزورها. وقال
(كوستونيتشا) للإذاعة العبرية: «من المفارقات أن هناك دولاً بعيدة عن
بعضها جغرافياً لكنها في الوقت نفسه قريبة جداً من بعضها» . وتابع: «أعتقد
أن هذه الحالة تنطبق على يوغسلافيا، والجبل الأسود، وإسرائيل» ، وقال:
«إنه يعتزم زيارة الدولة العبرية بصفته أول رئيس يوغسلافي يزور إسرائيل منذ
إنشائها في العام 1948م» .
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (11/11/2000م) ]
3 - قال الرئيس اليوغسلافي (فويسلاف كوستونيتشا) أمام المشاركين في
قمة زغرب (الأوروبية البلقانية) : «إن الوضع في كوسوفا يمثل المشكلة الأبرز
في أوروبا، وإنه قد يتسبب بإثارة نزاعات أخرى في المنطقة» .
وأضاف: «إن كوسوفا تمثل بالطبع المشكلة الأبرز في أوروبا، وقد تتسبب
بإثارة نزاعات أخرى عديدة يُعتقد أنها هدأت، في البلقان وفي مناطق أخرى» ،
وقال: «إن كوسوفا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي يسيطر عليها الرعب،
ويتم فيها إجلاء شعب بكامله من أرض أجداده» ؛ في إشارة إلى أعمال العنف
المناهضة للصرب في الإقليم اليوغسلافي ذي الغالبية من الألبان.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: 8033) ]
هي بدعة.. وهذه ثمراتها! !
للمرة الألف نقولها - ولن نمل من تكرارها - ما يحدث ونراه من تجاوزات
في الاحتفالات بموالد الأولياء سلوكيات لا يقبلها الإسلام ولا تقرها شريعته.
ولو أننا عدنا إلى سيرة هؤلاء الأولياء، وتدارسنا منهجهم؛ لعلمنا أنهم ما
كانوا ليقبلوا هذه الأفعال غير المعقولة التي تحدث من رواد هذه الموالد.
فالثابت أنها تتحول إلى سوق تجاري كبير: للحمص، والحلوى، والبمب،
وفتح عينك تأكل ملبن، وألعاب القمار، ويجد المتسولون الذين يفترشون مداخل
ومخارج المساجد والأضرحة سوقاً رابحة لهم. ناهيك عن الاختلاط المرفوض بين
الرجال والنساء، وقعدات الشيشة في ساحات المساجد، وبهذا فهي تخرج عن
مضمونها والهدف المنشود منها، ولا أبالغ إن قلت: إنها عدوان صريح على حرمة
مساجدنا، وآن الأوان لموقف حازم يتخذ لوقف هذا الاعتداء الصارخ. آخر هذه
الموالد التي تم الاحتفال بها مولد العارف بالله السيد أحمد البدوي بطنطا الذي استمر
أسبوعاً كاملاً. ومن بعده بدأت الاستعدادات لمولد السيدة زينب - رضي الله
عنها -، ثم مولد إبراهيم الدسوقي. وهكذا تتوالى علينا الموالد - واحداً بعد
الآخر - والآلاف من المواطنين يتركون منازلهم ومصالحهم، ويلهثون وراء هذه
الموالد من قرية إلى مدينة، وحتى العزب والكفور لا تكاد تخلو واحدة من مولد أو
ضريح. قال الشيخ عبد الشكور أحمد عيسى إمام المسجد الأحمدي: «يجب على
كل رواد المولد التخلق بأخلاق الولي الذي جئنا من أجل المشاركة في الاحتفال
بمولده؛ فقد كان متحملاً لأذى الناس، صبوراً على ما يبدر منهم، أما ما يحدث في
المولد من بعض المظاهر التي تخالف هذه الأخلاق؛ فهي ليست راجعة إلى تقصير
الولي في حق نفسه أو ربه؛ وإنما هي ذنب المقصرين فيما طلبه الإسلام منهم من
واجبات وآداب وأخلاقيات وسلوكيات حميدة يجب أن يتمسك بها
الناس» .
[جريدة عقيدتي، العدد: (415) تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم القاهرية]
لو كان القائل إسلامياً؟ !
ما زالت الحرب احتمالاً بعيداً، لكن الحديث عن إمكانية اندلاعها يكاد ينافس
الحديث عن إمكانية «اندلاع» مفاوضات السلام مرة أخرى تحت وطأة
«تخجيل» كلينتون لعرفات.
الأنظمة لا تريد أن تحارب، وهي تعتقد أن الحرب ليست في مصلحة العرب
حالياً، ليس لأن الجيوش علاها الصدأ فحسب، ولكن لأن منطق الأنظمة يختلف
كلياً عن منطق الانتفاضة؛ بل يختلف عن منطق الشارع العربي الذي يزداد حسرة
وألماً وغضباً أمام المشهد التلفزيوني المفجع والمثير للحمية والتعاطف. لقد أحكمت
الأنظمة حماية نفسها خلال بقائها الطويل في السلطة، وفرضت نوعاً من «سلام
الرعب والردع» على المجتمعات التي تحكمها، ولم تعد تخشى غدر الجيوش
وانقلاباتها الليلية؛ فقد باتت تعددية الأجهزة الأمنية المخيفة أقوى من الأحزاب
والجيوش، بل تم تحويل هذه الجيوش من مهمة الدفاع عن الوطن إلى مهمة أمنية
بحتة؛ هي مهمة الدفاع عن الدولة والنظام. وفي موازاة هذه العلاقة الخارجية
الظاهرة والخفية، تمكنت الأنظمة المحيطة بإسرائيل من تشكيل قاعدة اجتماعية
تستند إليها، قاعدة ضيقة لكنها نافذة وقوية ومعارضة بشدة للحرب. فهناك اليوم
حلف المصلحة بين النظام (الأمني العسكري) والشرائح البورجوازية التي تدفع
لشرائح النظام ضريبة باهظة من أرباحها المتزايدة مع «الانفتاح» الاقتصادي
العشوائي. هذه المكاسب الداخلية والخارجية هي من الوفرة والثراء بحيث يصعب
التخلي عنها، وعن التنعم والتمتع بها، وخوض حرب غير مأمونة مع إسرائيل قد
تنتهي بانكسار النظام أو سقوطه.
[غسان الإمام، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8022) ]
جهود هندوسية
بعد التقارب الهندوسي الأمريكي والهندوسي الصهيوني خلال الأشهر الماضية
جاء الدور على التقارب الهندوسي الروسي ليكمل الخطة الهندوسية في مواجهة
الإسلاميين في كشمير وغيرها فلم يتأخر الرئيس الروسي فلادمير بوتين وقام بزيارة
سريعة ومخطط لها عقب عودة رئيس الحكومة الهندوسية من أمريكا والاستقبال
الرسمي والشعبي الذي لقيه فيها.
وكان (أتال بهاري فاجباي) قد عقد عدة صفقات مهمة خلال وجوده في
أمريكا، منها المعلنة ومنها غير المعلنة.
هذا التقارب (الأمريكي الهندي) لم يعجب روسيا؛ لأن ذلك من شأنه أن
يعرقل إنجاز العديد من المشاريع الروسية في المنطقة، وبسط نفوذها في آسيا
الوسطى وجنوبها، ويجعلها معزولة عن مناطقها الاستراتيجية، ولجأت إلى عقد
عدة مشاريع شراكة، واتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية بلغت نحو 15 مليار
دولار، ومن دون أن يعلن الجانبان؛ فإنهما قد أنشآ تحالفاً عسكرياً وأمنياً يهدف إلى
ردع الجيران، ومن بينهم الصين وباكستان، وهذا ما دفع أمريكا وباكستان إلى
إصدار بيانات تعرب عن قلقهما من هذا التعاون. وتوصل الطرفان أيضاً إلى إنشاء
لجنة لمكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الأمنية، واعتبار أفغانستان مصدر
الإرهابيين الضالعين في العمليات العسكرية بكشمير والشيشان. وتوصل كذلك
الطرفان إلى ميثاق شراكة استراتيجية بينهما تقضي بعدم انخراط أي منهما في عمل
معادي للدولة الأخرى، وعدم الانضمام إلى أي تكتل عسكري أو اقتصادي أو
محوري قد يهدد مصالح البلد الآخر. وبتعاون البلدين العسكري والأمني واستخدام
أجهزتهما الاستخباراتية لتعقب المقاتلين في الشيشان وكشمير، يحاول البلَدان القفز
على مطالب الشعب الكشميري الداعية إلى تقرير المصير التي كفلتها له الأمم
المتحدة قبل (53) سنة، وعلى مطالب الاستقلاليين في الشيشان المطالبين
بحريتهم ودولتهم مثل الجمهوريات الأخرى. وكانت ألفاظ بوتين واضحة حينما
تحدث عن التطورات في كشمير؛ إذ أيد بشكل علني القبضة الحديدية الهندية في
كشمير، ودعا إلى تشكيل جبهة موحدة ضد الإرهاب، ودعا إلى التعاون مع دعاة
الانفصال في إشارة واضحة لتشجيع الهند على قمع دعاة الاستقلال في كشمير،
واستعداد بلاده لمد الهند بالمساعدات المطلوبة في سبيل ذلك.
[مجلة سياحة الأمة الكشميرية، العدد: (34) ](158/98)
اقتصاديات
مقومات نجاح السياسات الإصلاحية في الدول والمجتمعات
من خلال نموذج الخليفة
عمر بن عبد العزيز الإصلاحي
ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
يكثر الحديث في وقتنا الراهن عن تبني السياسات الإصلاحية سواء في
المجال السياسي أو الاقتصادي أو القانوني أو الثقافي أو غير ذلك، وتؤكد الأحاديث
على أهمية تبنيها، ومتابعة أنشطتها، والتغني بأدنى نجاح لها؛ وتحتل ساحتنا
الإسلامية مساحة أكبر في الدعوة إلى هذه الإصلاحات والاهتمام بتطبيقها وتنفيذ
بنودها، وترتفع أصوات سدنة النظام الدولي الجديد ناصحة - أو بالأصح آمرة -
بضرورة التغيير للأوضاع القائمة التي أصبحت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم في كل
مجالات الحياة.
إصلاح مفسد:
إن ما يتحدث به الغربيون وصنائعهم عن الأحوال المتردية في عالمنا
الإسلامي هو جزء من كلمة حق يراد بها كل الباطل؛ فهم حينما يشيرون إلى
مساوئ الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها لا يبتغون من ذلك أن نعود
إلى ديننا وشرعة ربنا وتاريخ أمتنا لنصحح الأوضاع على أسسها مع الاستفادة من
معطيات العصر، بل إنهم يخططون ويمكرون ليتم التغيير وفق رؤاهم وتبعاً للحلول
التي يلزمون بها بعض ولاة المسلمين وحكوماتهم رغبة ورهبة.
إذا أردنا أن نستعرض وصفاتهم لعلاج الأوضاع السياسية فإننا نجدهم يحثون
على تبني الديمقراطية أولاً، ثم الاستسلام للعدو الصهيوني والتطبيع معه ثانياً،
ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل: أي ديمقراطية يريدون؟ إنها تلك الصورة التي
تمكِّن السفهاء والعملاء والأذيال من أن يتربعوا على عروش أمتنا دون أن يكون
للأمة أي فرصة للاحتجاج أو الرفض وإلا اتهمت بالعداء للديمقراطية، حتى
نموذجهم في الديمقراطية لا يجرؤون على تصديره إلينا وتطبيقه عندنا؛ لأنهم
يخشون ظهور الإسلاميين وصعودهم إلى سدة الحكم؛ وإذا حدث ما لا يتوقع في
ظل الديمقراطية الزائفة وانتصر الإسلاميون في بلد ما، فإنهم لا يخجلون من موقف
الصمت وغض الطرف عمَّا يحدث من التفاف على نتائج الديمقراطية ولا يصفونه
بالعداء لها، هذا إذا لم يكونوا هم من دبر الانقلاب وخطط للالتفاف ومصادرة
صوت الأمة.
أما الحل الذي يقضي بارتماء أمتنا في أتون الاستسلام وجحيم التطبيع مع
اليهود فإن آثاره على العقيدة والدين والمقدسات والأخلاق والعقول والاقتصاد
والثقافة وكل جوانب الحياة أصبحت معلومة من الواقع بالضرورة، وبادية واضحة
لا نحتاج فيها إلى مزيد بيان.
وإذا أردنا أن ننظر في معالجتهم لاقتصادنا وجدناها إصلاحاً لاقتصادهم
وضخاً إلى بنوكهم ورعاية لاستثماراتهم، بينما تحصد أمتنا مزيداً من الأعباء
والديون والفقر وإضاعة الثروات والانشغال بالقوت الضروري، والعديد من
المشاكل والأزمات.
وفي مجال الإصلاح القانوني والقضائي تجد أن الحل يتم بالقضاء على ما
تبقى من حكم الشريعة في جوانب الأحوال الشخصية وما شابهها، وجعل الحكم
لغير ما أنزل الله من تعاليم وقوانين الجاهلية المعاصرة.
أما في المجال الثقافي فالعلاج أن يدين الناس جميعاً بالتصورات الغربية،
وأن تصاغ عقول أمتنا الإسلامية من خلال مفردات الحضارة الغربية وتعاليمها
القائمة على الخروج على كل ما هو رباني، والسير بالبشر نحو حيوانية سافرة؛
وإن كان من ضرورة روحية واعتناق لديانة فلتكن المسيحية المتهوِّدة.
إلا أنت أمة الإسلام:
ليس غريباً أن ترى الأمم وأتباع الديانات الباطلة المنحرفة يستجيبون لداعي
الحضارة الغربية ويسيرون خلفها حذو القذة بالقذة تدخل بهم جحر الضباع وأوكار
التيه، بل المستغرب المحزن أن ترى في الركب الضال فئاماً كثيرة من المنتسبين
لدين الإسلام.
من اليسير أن نتوقع إذعاناً فخرياً لأمم الأرض تجاه القوة المادية الغربية،
وأن نتوقع خضوعاً ذليلاً منها نحو ثقافة الغرب وحضارته؛ لكنه ليس من اليسير
أن يتوقع ذلك من أمة الإسلام التي تمتلك ما لا تملكه أمةٌ غيرها من مقومات القيادة
والريادة والخيرية، ومن أسس العيش بأمن وطمأنينة ورفاه، ومن أركان الحياة
الطيبة المهتدية، ومن أسباب القوة المادية والمعنوية.
إن أمتنا تملك العقيدة الإسلامية السليمة والدين الحق والملة القويمة، وهي
تملك الإرث المجيد والتاريخ التليد، وهي تملك النظرة السوية للإنسان والكون
والحياة، وهي - بفضل الله - تملك الكثير من مقومات القوة المادية متمثلة بالتعداد
السكاني والثروات الهائلة والمواقع الاستراتيجية، بل المستقبل الواعد بالتمكين
والخلافة. لذا فإننا نربأ بأمتنا العظيمة أن تتردى في مهاوي التبعية للضالين، وأن
تهوي في سحيق البُعد عن هداية الله، ونهتف بها أن ننظر في واقعها، وأن تفكر
جدّياً في إصلاح حالها، ثم تستنفر كل جهودها لإحداث التغيير مستهدية بنور
الوحي والشريعة ومستفيدة من تاريخها المشرق.
صفحات من التاريخ:
لنقلب معاً صفحات بيضاء من ماضي أمتنا المجيد، ننظر في ثناياها إلى
واحدٍ من النماذج المتميزة في إدارة إصلاح الدول والمجتمعات، نموذج لم تُعق
القائمين عليه قلة الإيرادات ولا قصر الفترة ولا استشراء الفساد، مَثل من أمثلة
الإدارة الناجحة للأزمات الكبرى وتحقيق الإنجازات العظمى، ودرس من دروس
الإفاقة الحكيمة لاستعادة النقاء الغابر واسترجاع السداد المنسي.
إن نموذج خلافة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وإصلاحاته الشاملة
وصفه المؤرخون بأنه كان تجديداً للدين، واعتبروا أن الخليفة عمر كان مجدداً
ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على
رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [1] .
ومن أسباب اختيار هذا النموذج أنه حدث في فترة بعيدة نسبياً عن المرحلة
النبوية والخلافة الراشدة، وكان الفساد قد ظهر في جوانب عدة بسبب ما طرأ على
مسيرة الحكم الإسلامي من تغيير إلى الملك العضوض، وكثرة سفك الدماء وإضاعة
الأموال والتعلق بالدنيا وطغيان الشهوات، مع وجود جوانب خير متمثلة في تنمية
القدرات الإسلامية على الجهاد، وكثرة الفتوحات وتوسيع رقعة الإسلام، إضافة
إلى ذلك فإن الفترة الزمنية التي تحققت فيها نجاحات عمر لم تكن طويلة بل قصيرة
جداً بالمقارنة مع حياة الأمم والدول، فهي لم تتعدَّ السنتين والنصف، كل هذه
الميزات تجعل هذا النموذج جديراً بالدراسة والمقارنة غير الكاملة مع أوضاعنا
الراهنة.
وهدف هذا المقال استنباط المقومات والأسس التي كانت - بعد فضل الله -
من أسباب نجاح الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - في إدارته
للسياسات الإصلاحية إبان خلافته، والاختصاصيون مدعوون لإثراء مثل هذه
الجوانب وربط الماضي بالحاضر وترشيد مسيرة الأمة.
أما المقومات التي يمكن استنباطها واعتبارها أساساً لنجاح السياسات
الإصلاحية في المجتمعات فيمكن إيراد بعضها كما يلي:
1- خلفية الإصلاحات:
من المعلوم أن لكل سياسة إصلاحية خلفية عقائدية فكرية (أيديولوجية)
تشكل أساساً لها وتتحكم في صورة أهدافها، ووسائلها، ونوعية الأشخاص الذين
يقومون بها، وسمات العمليات الإدارية التي تمر بها من تخطيط وتنفيذ ومراقبة
ومتابعة.
والإصلاحات الإسلامية تنطلق من عقيدة القرآن والسنة، والنظرة الشاملة
للإنسان والكون والحياة، وشمولية التغيير والإصلاح، وسعة الأهداف التي تتخطى
حاجز المكان والزمان المقيد بالدنيا وحواجزها، كما تتميز بوسائلها الشرعية
الطاهرة، وصفات المتولين لتنفيذ سياستها؛ وهذا بالضبط ما يجعلها تنفرد عن
غيرها من خلال اتصالها بالله واتصافها بالربانية التي نحميها من قصور البشر
وأهوائهم وجهلهم وأخطائهم، ولا تحصر نفسها في معالجة الأسباب المادية الظاهرة
فقط؛ بل هي تعترف بالأسباب المعنوية المتمثلة في تقصير البشر في الأخذ
بالأسباب والاستقامة على أمر الله وارتكابهم للمعاصي، ثم هي لا تعترف بمعالجات
جزئية مبتورة تمسُّ جانباً دون الآخر بل تأخذ الإصلاح والدين كُلاًّ لا عِضين.
والقائمون على الإصلاحات الإسلامية الشاملة يستمدون العون من الله؛ ولذا
فهم لا يرجون إلا الله، ولا يخافون إلا الله، ولا يسعون لإرضاء أحد أو يخشون
غضب أحد إلا الله، يعبدونه ويعبِّدون الناس له، ولذا تراهم من أكثر الناس عبادة،
وأزهدهم في الدنيا، وأشدهم طلباً للآخرة، وأوفرهم نشاطاً وعملاً وسهراً وتعباً.
هكذا كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وهكذا أعلن من أوائل أيام
خلافته: «يا أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل إليكم
كتاب؛ فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حلال إلى يوم القيامة،
وما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة. ألا
إني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع، يا أيها الناس إن
أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم» [2] .
بينت خطبته الخط السياسي الذي انتهجه، ولذا كان عاملاً بالشرع لا يحيد
عنه، ولم يتخذ من الوسائل ما تتعارض معه، بل اهتم بالوسائل الشرعية مثل
الزكاة في حل المشكلة الاقتصادية فأغناه الله بها، ولم يرض بأخذ الجزية ممن أعلن
إسلامه بالرغم من إلحاح بعض الولاة وتخوفهم من أن تنضب موارد الدولة إن
رفعت الجزية عن الداخلين إلى الإسلام، وقال قولته المشهورة: «إن الله بعث
محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً» كما أنه رفع الضرائب عن الأمة وهي ما تسمى
بالمكس؛ وتحكي سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كان من أشد الناس خوفاً من الله
وأكثرهم قياماً في الليل وبكاءاً من خشية الله، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم،
وزهد في الدنيا بل زهد في حقه الشرعي وأخذ نفسه بالشدة وطلب الآخرة؛ وكان لا
يرتاح إلا قليلاً.
2 - التخطيط:
كان عمر - رضي الله عنه - قد شارك في إدارة شؤون الخلافة والياً
ومستشاراً، فتوفرت لديه معلومات كافية عن شؤون الدولة وأخطاء الحكام، وهذه
المعلومات الشاملة الدقيقة ساعدته على اتخاذ القرارات المناسبة، وعلى الرغم من
هذا لم يكتف بذلك، بل نقل عنه ابن عبد الحكم أنه: «احتجب عن الناس ثلاثاً لا
يدخل عليه أحد، ووجوه بني مروان وبني أمية وأشراف الجنود والعرب والقواد
ببابه ينظرون ما يخرج به عليهم منه، فجلس للناس بعد ثلاث وحملهم على شريعة
من الحق فعرفوها، فردَّ المظالم، وأحيا الكتاب والسنة» [3] .
اختلى بنفسه ليخطط ويبني سياساته القادمة، ولم ينس أن يجعلها متدرجة
ومرحلية كما ظهر من حديثه مع ابنه عبد الملك حينما استعجله على تطبيقها [4] .
3 - البدء بالنفس وتقديم القدوة:
من هراء القول ومن كاذبات الأماني أن يتوقع القائمون على أمر الإصلاحات
من أفراد شعوبهم أو شيعهم استجابة صادقة وصبراً وتضحية وحماسة مندفعة في
الأخذ بالإجراءات المتخذة للقيام بالإصلاح، بينما يرون قيادتهم وريادتهم تخالف
ذلك وترفل في ثياب النعيم؛ بل التبذير والعبث بأموال الأمة، وإضاعة أقوات
رعاياهم في إشباع رغباتهم وشهواتهم.
بل إن هذا الموقف المشين ليولِّد النقمة والحقد ويدفع إلى فقدان الانتماء
وانتهاز الفرص للانتقام والعمل على عدم نجاح سياسة الولاة، ويحث على التسابق
على الكسب الحرام والسلوك الخاطئ.
إن مما يعارض العقل والعُرف لا الشرع فقط، أن يطالب كبراء الناس
صغراءهم بربط الأحزمة ووضع الحجارة على البطون والصبر على اللأواء من
جراء تبعات سياسات الإصلاح، ثم يختالون - أي الكبراء - أمام أعينهم بمظاهر
الترف والبذخ، ويسلكون سبيل السفهاء في التعامل مع مقدرات الأمة.
عمر يقدم القدوة:
أعطى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من نفسه القدوة السامقة
والأسوة الرائعة؛ فقد بدأ بنفسه وأخذها بأكثر مما هو مطلوب؛ إذ تبنى معها كل
القسوة وألزمها العنت، ونأى بها حتى عن حقوق وضروريات؛ كل ذلك لأنه علم
أنه لا يمكن أن يحدث الانقلاب في دولته ما لم يحدث انقلاباً سابقاً في نفسه يدفع
الآخرين إلى احترامه والإذعان لسياسته، وقد تجلّى هذا الأمر في عدد من المواقف
نقتطف منها ما يلي:
* لما دفن الخليفة السابق سليمان بن عبد الملك، وقام عمر قُرّبت إليه
المراكب، قال: ما هذه؟ قالوا: مراكب لم تُركب قطُّ يركبها الخليفة أول ما يلي،
فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم، ضمّ هذا إلى بيت مال المسلمين.
ثم فعل مثل ذلك مع السُّرادقات والحُجر التي نصبت له، ثم انصرف إلى الفراش
والوطاء الذي فرش له وجعل يدفعه برجله حتى أفضى إلى الحصير. ثم تآمر عليه
الوزراء في عرض الجواري لعلّهم يجدون منه ضعفاً أو ثغرة يستغلونها فيه، فلما
عُرضن عليه كأمثال الدُّمى سألهن عن أصلهن، وأمر بردّهن إلى أهليهن، فلما
رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق [5] .
* دخل عليه أحد أصدقائه (عنبسة بن سعيد) يريد الحصول على مبلغ كبير
من المال كان قد أعطيه من الخليفة السابق، ولم يبق من إجراءات التسلُّم سوى
القبض بعد أن انتهت إلى ديوان الختم، فأبى عمر وبين له أن المبلغ يُغني آلافاً من
بيوت المسلمين وليس له فيه حق، فما كان من عنبسة إلا أن ألمح إلى قطيعة لعمر
أعطيه قبل خلافته؛ إذ قال: «فما بال جبل الورس؟ فقال له عمر: ذكرتني
الطعن وكنت ناسياً (مثلاً سائراً) ، يا غلام، هات ذلك القفص! فأُتي بقفص فيه
قطائع بني عبد العزيز، فقال: يا غلام اقرأ عليَّ! فكلما قرأ قطيعة قال: شقها.
حتى لم يبق في القفص شيء إلا شقه» [6] .
فخرج صديقه بعد ذاك ليخبر من كان في الباب من بني أمية يطلبون
مصالحهم، فلما أعلمهم بذلك، قالوا: «ليس بعد هذا شيء! !» ثم طلبوا منه أن
يأذن لهم بأن يلحقوا بالبلدان (يعملون في التجارة) بعد أن يئسوا من أموال
المسلمين، فأذن لهم.
* عندما بدأ بردِّ المظالم قال: «إنه لينبغي ألاَّ أبدأ بأول من نفسي. فنظر
إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى نظر إلى فص خاتم، فقال:
هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاء به من أرض المغرب، فخرج
منه» [7] .
4 - اختيار البطانة الصالحة:
شاء الله أن يختص ذاته بالكمال، وأراد بحكمته أن يكون لدى الإنسان مثالب
وجوانب قصور مهما بلغ من العلم والتقوى والورع والنجابة والحكمة، وهذا ما
يجعله في حاجة إلى من يشركه أمره ويشد به أزره، وأحوج الناس إلى ذلك هم
أصحاب الأمانات الكبرى والولايات العظمى، حتى الأنبياء - رضوان الله عليهم -
مع عصمتهم وتأييدهم بالوحي، احتاجوا إلى الحواريين والأصحاب والبطانة
الصالحة.
عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من
خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره
بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله» [8] .
وعند أبي داود بإسناد جيد من حديث عائشة قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر
أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكِّره، وإن
ذكر لم يعنه» [9] .
لذا فإن القائمين على شؤون الأمة بحاجة إلى من يعينهم على حمل المسؤولية،
ومن يبصرهم السداد، ويأخذ على أيديهم عند الخطل، ويحجزهم عن الغواية
والظلم، ويقدم لهم المشورة الحكيمة؛ أما اتخاذ بطانة النفاق والسوء الذين تتقشر
أكفهم من كثرة التصفيق، وتبح أصواتهم من وفرة الحديث عن المنجزات، فإنهم لا
يزيدون الخلفاء والسلاطين إلا خبالاً، ولا يهدونهم إلا سوء السبيل، وتظل تخدعهم
بما ترتضيه نفوسهم من زخرف القول والعمل، ثم يستيقظون على خزي الدنيا
والآخرة.
اهتم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - من أول يوم بتوفير البطانة
الصالحة؛ فقد ورد في سيرته أنه قال لعمرو بن مهاجر: «إذا رأيتني قد ملت عن
الحق فضع يديك في تلبابي: ثم هُزني ثم قل: يا عمر ما تصنع؟» [10] .
كما جاء في سيرته أنه لما استخلف قال: انظروا إلى رجلين من أفضل مَنْ
تجدون؛ فجيء برجلين، فكان إذا جلس مجلس الإمارة ألقى لهما وسادة قباله فقال
لهما: إنه مجلس شرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إليّ، فإذا رأيتما مني
شيئاً لا يوافق الحق فخوِّفاني وذكراني بالله - عز وجل - « [11] .
إضافة إلى ذلك فقد سخَّر الله له من أهل بيته من أعانه على تحقيق ما أراد
من إصلاح أمور المسلمين؛ فقد كانت زوجته فاطمة نعم الصابرة والمحتسبة
والمضحية، وكان ابنه عبد الملك من أكثر أهل بيته شداً لأزره وتقديماً للنصح
ودفعاً إلى الخير وموافقة له عليه، ومما يذكر في هذا المقام موقفه في أول أيام
الخلافة بعد أن أعلن أبوه عن رد المظالم، ذهب الخليفة عمر يتبوأ مقيلاً، فقال له
ابنه عبد الملك:» تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني! قد سهرت البارحة في
أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له: من أين لك أن
تعيش إلى الظهر؟ فخرج عمر، ولم يقِل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له
مظلمة، فليرفعها. ولابنه عبد الملك مواقف تبتغى في مظانها « [12] .
كما أن عمر نادى في الأمة أن تعينه على الخير، وتقدم له الآراء
والمقترحات، ووعدها على ذلك المكافأة الجزيلة؛ إذ كتب لهم:» أما بعد: فأيما
رجل قدم علينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين فله
ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار بقدر ما يُرى من الحسبة وبُعد الشقة، رحم الله
امرأً لم يتكاءده بُعدُ سفر، لعلّ الله يحيي به حقاً، أو يميت به باطلاً، أو يفتح من
ورائه خيراً « [13] .
5 - اصطفاء الولاة الأكفاء:
القائمون على تنفيذ السياسات الإصلاحية هم دوماً بُعدٌ أساس في أي عملية
إصلاحية، ولا يمكن لسياسات الإصلاح أن تكون ذات شأن وأن تحقق أهدافها دون
أن تعتمد على الأكفاء، ودون أن تسند مهامها العامة والتفصيلية إلى كل ذي قوة
مكين أمين، خاصة عندما تكون المهام ذات علاقة بالمال وبأوعية الإيرادات المالية
مباشرة، وما أجمل المثل الذي حكاه الله - تعالى - لنا في سورة يوسف: [قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (يوسف: 55) .
وليس المقصود أن يولَّى مَنْ ظاهره العبادة والنسك الضعيف أمام إغراء المال
والحريص على تولي الإمارة، أو العابد الزاهد الذي لا يمتلك الخبرة والدراية
والقوة اللازمة، أو القوي الذي يفتقر إلى تقوى تحجزه عن إتيان ما لا يليق، بل
المقصود القوي المكين الأمين ظاهراً وباطناً.
أعطى الخليفة عمر بن عبد العزيز هذا الجانب أهمية قصوى، وتمكن -
بفضل الله - من تأمينه من خلال العمل على أربعة محاور هي:
أ - عزل ولاة السوء.
ب - تولية الأكفاء.
ج - الاختبار ثم المراقبة.
د - إعطاؤهم ما يكفيهم.
أ - عزل ولاة السوء: كان من أوائل ما قام به عمر بن عبد العزيز أنه عزل
اثنين من ولاة السوء، وقد جاء أنه كتب كتابَيْ عزلهما بعد دفن الخليفة السابق
مباشرة، وقد بدأ بعزل أسامة بن زيد التنوخي الذي كان على خراج مصر، وأمر
بحبسه في كل جندٍ سنة نكالاً به؛ لأنه كان غاشماً ظلوماً معتدياً؛ كما عزل يزيد بن
أبي مسلم الذي كان ينفذ سياسة جور ومخالفة للحق مع إظهار التعبد والتأله [14] .
ب - تولية الأكفاء: كان في ذهن عمر أن خير الولاة هم العلماء الذين
يعرفون أحكام الشرع، على أنه حين لا يجد بين العلماء من يصلح للإمارة فإنه
يختار أشخاصاً نزيهين أمناء عاقلين حكماء، وكان يثق في الفقهاء؛ ويحكى أنه
كان يقول دائماً: ولُّوا الفقهاء. فإن قيل: قد وليناهم فخانوا، رُدَّ عليهم: إن خان
الفقهاء فغيرهم أخون. واعتمد في الولايات أيضاً على القضاة، ويعتقد أن القاضي
يلي الوالي في الأهمية، واختار العمال الصالحين على الخراج.
ج - الاختبار ثم المراقبة: لم يكن الخليفة عمر ينخدع مباشرة بالمظهر
الناسك للناس، فقد تعلَّم ألاَّ يفعل ذلك، ولذا كان يتخذ مبدأ الاختبار قبل الإقرار،
وقد مكنه ذلك من التخلص من بعض المتظاهرين، وقد ذكر الشيخ أبو حفص عمر
الملاء واقعة مفادها أن بلال بن أبي بردة دخل على عمر وعليه ثياب وسيماء
الصلاح، وعندما كلمه وجد فيه رجلاً راجح العقل سديد الرأي، فأراد أن يوليه
غير أنه رأى اختباره أولاً، فأوعز بذلك إلى مولاه مزاحم، فجاء مزاحم إلى الرجل
وأظهر له أنه يستطيع السعي لتوليته أحد العراقين غير أنه يريد ثمناً مقابلاً لذلك؛
فعرض الرجل مبلغاً كبيراً ينقده منه حالاً ثم يسلم الباقي عند تولي الإمارة؛ فعاد
مزاحم إلى خليفته يقول له: عدو الله لص. وأخبره الخبر، فقال عمر: والله! إن
كاد ليغرني بسجدته وعمامته، ثم حذَّر منه الولاة [15] .
أما المراقبة فكانت تتم من خلال الزيارات، وسؤال القادمين، وهي التي
مكنته من التخلص من بعض من اغتر بهم أولاً كما حدث من عامله على مكة عروة
بن عياض الذي شكا منه مظلوم أخذ ماله وتخويفه، فلما ثبت الأمر له أشار
بالخيزران إلى سجدته وقال له: هذه غرتني منك. ثم أنصف المظلوم [16] ؛ وما
حدث كذلك من أمره والي المدينة بالاقتصاد في الوقود والورق [17] .
د - إعطاؤهم ما يكفيهم: فقد ورد في سيرته أنه كان يعطي عماله ثلاثمائة
دينار، فلما سئل عن ذلك، قال: أردت أن أغنيهم عن الخيانة [18] .
6 - الاستفادة من الخبرات السابقة:
ليس من المقبول أن يبدأ المصلحون من حيث بدأ مَنْ قبلهم، بل من حيث
انتهوا؛ إذ إن جهود سياسات الإصلاح وخبراتها ونجاحاتها تتراكم لتكون إرثاً ثرياً،
ولا يقتصر ذلك على الساحة الإسلامية، بل إن الإنجازات الإنسانية في مجال
إدارة الدول والمجتمعات تعدُّ حكمة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها،
والكيِّس من استفاد ممن سبقوه، من أولئك الذين يشاركونه عقيدته وشريعته أولاً،
ثم من غيرهم، وفي تاريخ الإسلام إبان النبوة والخلافة الراشدة دلالات واضحات
على الاستفادة من المعرفة الإنسانية سواء من الروم أو الفرس أو غيرهم، بما لا
يتعارض مع التوجه الإيماني المتميز للمسلمين؛ وليس شرطاً أن يكون الاحتذاء
كاملاً، بل يمكن الاستفادة من التجارب السابقة جزئياً في إحدى جوانبها وتفصيلاتها
دون الجوانب الأخرى.
وفي نموذج عمر بن عبد العزيز نجد أنه - رضي الله عنه - أراد الاستفادة
من نموذج مثالي قريب منه وهو نموذج جده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛
فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد أنه كتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر ما يلي:
» أما بعد فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من هذا الأمر من غير مشورة ولا
طلب له، ولكن كان ما قدَّر الله عز وجل، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني أن
يعينني عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث إليَّ بكتب عمر ابن الخطاب وقضائه
وسيرته في أهل العهد والذمة؛ فإني متبع أثره وسائر بسيرته إن أعانني الله على
ذلك، والسلام « [19] .
7 - التوعية:
الجميع يذعن لأهمية العلم والفقه الراشد والوعي السديد أساساً للعمل الناجح
والتصرف السوي؛ ولذلك كثرت في تعاليم الإسلام النصوص التي تحث على طلب
العلم واكتساب الفقه واعتباره شرطاً لالتزام سبيل المسلم المؤمن المحسن، وقد
أدركت الدول المتقدمة أهمية العلم بل اعتبرته ربّاً، وأدركت كذلك أثر الإعلام
والتوعية في صياغة الرأي العام وتطبيع الناس على تقبل ما تريد تنفيذه من
سياسات، فأخذت به واحتفلت بأجهزته وسخرته أيما تسخير لإقناع شعوبها بما تبغي.
لذا كان لزاماً على ولاة الأمر القائمين على سياسات الإصلاح التمهيد لها
بالتوعية الكاملة المقنعة التي توضح الأسباب والمسوغات، وتبين النتائج والثمرات،
حتى تكون الأمة على اطلاع، وحتى تندفع للموافقة والمشاركة بعلم ووعي.
أما إجراءات تطبيق السياسات التي تصاحبها مواقف الإلزام والجبر، وتُقدَّم
فيها معلومات مضلَّلة، ومعاذير واهية، وتعتمد سلطة القمع والتخويف، فإن الواقع
يحكم عليها بالوأد أو عدم تحقيق نجاحات تذكر. لا يفوت هنا التأكيد على أن توعية
الأمة يجب أن يستند على تعريفها بدينها أولاً، ثم بمتطلبات عصرها بما لا
يتعارض مع دينها، على ألاَّ تكون هذه التوعية مقصورة على الواجبات دون
الحقوق، ولا تكون مرتبطة بظروف تجبر عليها، بل تكون سياسة دائمة نحو
تربية الأمة ورفع قدراتها لتؤدي دوراً حاضراً مؤثراً في واقع حياتها.
كان لدى الخليفة عمر بن عبد العزيز من الفقه الشرعي والعلم بأمور إدارة
الخلافة ما مكَّنه من الانتباه إلى هذا الأمر الحيوي والأخذ به؛ ولذلك اهتم بتوعية
الأمة ونشر العلم فيها، وبعث من يعلِّم الناس الإسلام في أنحاء الدولة الإسلامية،
وكان يوصي الأمراء والعامة (بحسب إمكاناته الإعلامية المتوفرة) ، وأمر بجلوس
العلماء في المساجد وإظهار العلم، وأكد على أن العلم لا يموت حتى يكون سراً.
8 - الحزم مع المخالفين:
لا يخلو مجتمع من المارقين أصحاب القلوب المريضة والطباع الجفولة الذين
يعارضون بل ويحاربون سياسات الإصلاح إرضاءاً لرغباتهم وخوفاً على مصالحهم
الأنانية التي يرونها مقدمة على مصالح الأمة؛ وهناك عدد غير قليل من هؤلاء لا
تنفع معهم وسائل التوعية والإقناع وتقديم الأسوة الحسنة؛ فهم لا يرون الحق إلا من
خلال هواهم وأطماعهم؛ ولذا كان لا بد من اتخاذ موقف صارم مع أمثالهم وأَطْرِهم
على الحق أَطْراً، وإلزامهم سواء السبيل بوسائل التهديد والوعيد ثم العقاب الملائم.
هكذا فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - مع أضرابهم من
الخارجين عن تنفيذ أوامره واتباع سياسته، وكان ذلك مع الأقربين قبل الأبعدين،
ومما ترويه كتب السيرة في ذلك أنه:» أتى عمر بن عبد العزيز كتابٌ من بعض
بني مروان فأغضبه، ثم قال: إن لله في بني مروان ذبحاً، وايم الله! لئن كان
الذبح على يدي ... ، فلما بلغهم ذلك كفوا، وكانوا يعلمون صرامته وأنه إن وقع في
أمرٍ مضى فيه « [20] .
أما خبره مع ابن عمه (روح بن الوليد بن عبد الملك) فيقصه علينا ابن عبد
الحكم:» أن ابن عمه (روحاً) تخاصم مع بعض المسلمين من حمص في حوانيت
أقطعه إياها أبوه الوليد بن عبد الملك، فردها إليهم عمر بعد أن تحاكموا إليه، فلما
قام روح توعد خصمه الحمصي، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بذلك، فقال عمر
لكعب بن حامد الذي كان على حرسه: اخرج إلى روح يا كعب؛ فإن سلَّم إليه
حوانيته فذلك، وإن لم يفعل فائتني برأسه.
فأخبر روح بذلك فانخلع فؤاده، وخرج إليه كعب وقد سل من السيف شبراً،
فقال له: قم، فخلِّ له حوانيته، قال روح: نعم! نعم! فخلى له حوانيته « [21] .
وهكذا كان يفعل مع الولاة المخالفين، حتى قال عنه أحد الشعراء:
ينهى الولاة بحد السيف عن سرف ... كفى بذاك لهم من زاجر ناهي
9 - إصلاح أخطاء الماضي:
لم يخدع عمر بن عبد العزيز نفسه بأن ما سبق من أخطاء يتحملها غيره،
وأنه لا يشترك في وزرها؛ وعلى ذلك فإنه لا يعد مسؤولاً عن تلافيها، بل كان
يرى أنه وليّ ذلك وصاحب المسؤولية فيه. ينقل عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني
في محاوراته للذين أرادوه التخلي عمَّن سبقوه وما وُلُّوا من خير أو شر، وأنه
أجابهم بقوله:» إني وجدت كتاب الله الأقدم؛ فأنا حاملٌ عليه من أتاني ممن تحت
يدي؛ فإني وجدت كثيراً ممن قبلي من الولاة عزُّوا الناس بقوتهم وسلطانهم،
وعزهم بها أتباعهم، فلما وليت أتوني بذلك، فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من
القوي، وعلى المستضعف من الشريف « [22] .
هكذا لم يشأ الخليفة عمر - بمشيئة الله - أن يبني على شفا جرف هار، بل
أراد أن يصحح الأوضاع ليبني على أساس متين من العدل والإنصاف.
يضاف إلى ما سبق: إصلاح الاختلالات الفكرية من خلال التعامل مع
الخوارج، وكذا العصبيات الجاهلية التي ظهرت، وإزالة المنكرات [23] .
ثمرة السياسة الناجحة:
كان من كرم الله ومنته ثم من جراء السياسات الناجحة لعمر بن عبد العزيز -
رضي الله عنه - في إدارة شؤون الدولة الإسلامية في الفترة من (99هـ) إلى
(101 هـ) أن تحققت نجاحات عظيمة إذا ما قورنت بقصر الفترة المتاحة
واستشراء الفساد السابق، ومن ذلك أن عطاء الدولة للأمة كان أكثر من جبايتها،
فسعدت الأمة بذلك، وزال الفقر عن فقرائها في مدة وجيزة، وأقيمت الخدمات
العامة، وفاض المال عند الولاة حتى أرسلوا يستشيرون أمير المؤمنين في كيفية
صرف المال الفائض.
ذكر ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى واليه على
الكوفة يقول له:» كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعط
منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوج فلم يقدر على نقد، والسلام «.
ثم بعد أن كتب له الوالي: إنه قد بقي عندنا بعد ذلك، كتب له عمر:» أن
قوِّ أهل الذمة؛ فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين « [24] .
وكان الفقراء حين يُؤتى لهم بالزكاة يقولون: قد أغنانا (كفانا) الله من فضله،
وكذلك فعل السُؤَّال، بسبب عطاياه؛ ولم يكن هذا النجاح مقصوراً على الجانب
المالي، بل تعدى إلى الجانب الأخلاقي؛ فقد صلح حال العديد من الولايات التي
كانت تشتهر بالفساد والظلم، ومن ذلك بلاد الموصل التي اشتكى واليها إلى عمر
فأرشده باتباع الشرع في إصلاحها، ففعل الوالي، فكان نتيجة ذلك ما حكاه الوالي
بنفسه قائلاً:» فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقاً
ونقباً «.
وبلغ من نجاحه في إدارة الأمور ونشر العدل ورعايته للضعفاء من المسلمين
ولأهل الذمة أن ترحَّم عليه حتى أولئك الذين تضرروا من سياسته، بل ترحم عليه
ملوك الروم وأثنوا على سيرته، ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو نعيم الأصفهاني أن
رجلاً جاء إلى هشام بن عبد الملك (الخليفة اللاحق) فقال: يا أمير المؤمنين! إن
عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرها الوليد وسليمان حتى إذا استخلف عمر - رحمه
الله - نزعها، فاستعاد منه هشام المقالة فكرر الترحم على عمر، فقال له: والله!
إن فيك لعجباً، إنك تذكر من أقطع جدك قطيعة ومن أقرها فلا تترحم عليهم،
وتذكر من نزعها فتترحم عليه!» [25] .
كما أورد أبو نعيم: «أن عمر أرسل من يفادي أسرى المسلمين بأسارى من
الروم، فلما دخل على ملك الروم وجده جالساً على الأرض مكتئباً حزيناً، قال:
فقلت: ما شأن الملك؟ قال: وما تدري ما حدث؟ قلت: وما حدث؟ قال: مات
الرجل الصالح. قلت: من؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قال: ثم قال ملك الروم:
لأحسب أن لو كان أحدٌ يحيي الموتى بعد عيسى عليه السلام لأحياهم عمر بن عبد
العزيز [26] . ثم قال: لست أعجب من الراهب أغلق بابه ورفض الدنيا وتعبد،
ولكن أتعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها ثم ترهب» [27] .
وشهد له الآخرون وبجلوه، كتب (أرنولد سير توماس) في كتابه: (الدعوة
إلى الإسلام) أن أحد كتاب النساطرة كان يضيف كلمات التبجيل والتقديس إلى اسم
الرسول وإلى أسماء الخلفاء الأول كلما عرض ذكرهم، ويستنزل رحمة الله على
عمر بن عبد العزيز [28] .
خاتمة:
لا يسعنا في نهاية هذا التطواف الماتع في ثنايا سيرة عطرة لأحد الخلفاء
الصالحين إلا أن نستنزل شآبيب الرحمة عليهم جميعاً، ونسأل الله لولاة
أمرالمسلمين أن يهديهم الله طريق سلفهم الصالح، وأن يرزقهم العمل بشريعته.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، كتاب الملاحم، ح/1، وسنده صحيح.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 41 42، نقلاً عن التاريخ الإسلامي مواقف
وعبر، للدكتور عبد العزيز الحميدي، المجلد الثامن، ص 35.
(3) المرجع السابق، ص 40.
(4) انظر: التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، المجلد الثامن، ص 51، 52، 67.
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 38 - 40، نقلاً عن التاريخ الإسلامي
مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي، ص 191، 192وهو المرجع الرئيس.
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 58.
(7) طبقات ابن سعد، 5/341.
(8) أخرجه البخاري (93) كتاب الأحكام (42) باب بطانة الإمام وأهل مشورته.
(9) أخرجه أبو داود في كتاب الإمارة باب (4) .
(10) أخرجه أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، 5/292.
(11) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي.
(12) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص 86، 89، وانظر حلية الأولياء، 5/281،
تاريخ دمشق، 45/179، 180.
(14) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 137.
(15) انظر: التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، ص 31، 32.
(16) المصدر السابق، ص 83، 84.
(17) المصدر السابق، ص 59.
(18) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص 64 65.
(19) المصدر السابق، ص 46.
(20) انظر نص الرسالة كاملة والرد عليها في: التاريخ الإسلامي، مواقف وعبر، ص 38.
(21) حلية الأولياء: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، 5/281.
(22) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، 60 61.
(23) حلية الأولياء، 5/282، وانظر التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، ص 52 53.
(24) انظر التاريخ الإسلامي من مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي، المجلد الثامن، ص
121، 122، 123، 108، 111، 128.
(25) سيرة ابن عبد الحكم، ص 68، وانظر طبقات ابن سعد، 5/374 (2) حلية الأولياء، 5/
245.
(26) في الكلام مبالغة فيها شطط، وما كان عيسى يفعل ذلك إلا بإذن الله.
(27) حلية الأولياء، 5/ 290.
(28) نقلاً عن تاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم، 1/ 268.(158/104)
قضايا ثقافية
الازدواجية اللغوية.. والمرض الثقافي
خميس بن عاشور [*]
ما من شك في أن العلاقة بين اللغة والثقافة تكاد أن تكون عضوية أو ترادفية؛
فالثقافة هي مجموعة المعارف المكتسبة في مجالات العلم والدين والفن التي يتميز
بها المجتمع، وأما اللغة وعلى الرغم من اعتبارها وسيلة وأداة للتوصيل فهي
العنصر الأساسي في التركيبة الثقافية؛ إذ لا يعقل وجود ثقافة من غير لغة مهما
كانت صفة هذه اللغة بوصفها أداة للتوصيل والاكتساب المعرفي بالإضافة إلى أن
اللغة هي مخزن للثقافة.
وقد يبدو من الوهلة الأولى أن الازدواجية اللغوية هي تدعيم للثقافة وإثراء لها؛
وهذا من الناحية الصورية صحيح، ولكن من الوجهة الواقعية نرى أن الاختلال
الحاصل على نطاق عريض يجعل من هذه الازدواجية المزعومة أداة هدم لا بناء؛
ولا سيما في حالة عدم حصول توازن من حيث الإجادة والاتقان للُّغة الأم؛ ففي هذه
الحالة تُحدث الازدواجية صراعاً خطيراً قد يؤدي إلى الانفصام الثقافي أو الانسلاخ
الثقافي مثلما هو حاصل في بعض الأقطار المغاربية كالجزائر على الخصوص؛
حيث ينص دستورها وقوانينها على أن العربية هي اللغة الوطنية الرسمية؛ ومع
ذلك فإن اللغة الفرنسية لا تزال تحتل الصدارة على المستويين الرسمي والعرفي،
ومثل هذه الازدواجية المختلة تتسبب في إذكاء ذلك الصراع والتناقض بين القيم
الثقافية التي تتضمنها كل لغة بالضرورة؛ فنجد على سبيل المثال تعارض قيم
الحرية المسؤولة في الثقافة العربية مع قيم الإباحية والتهتك في الثقافة الفرنسية
الحديثة، وقيم الإيمان بالألوهية مع قيم الإلحاد!
إن الشخصية في علم النفس التحليلي تتكون من جانب موروث وجانب
مكتسب. وفيما يتعلق بالشخصية الجمعية وشخصية الأمم فإن الجانب الموروث هو
التراث؛ فإذا كانت اللغة الدخيلة أي الاستعمارية تعمل جاهدة على تشويه التراث
وإزاحته عن الميدان؛ فإنها بذلك تعمل على إذكاء ذلك الصراع الذي يهدف إلى
تدمير حصون المقاومة حتى يتحقق لها الانتشار والسيادة. واليوم وقد رحل
الاستعمار عسكرياً فإن الصراع الثقافي لا يزال مستعراً؛ ومن أهم مظاهره تلك
الازدواجية اللغوية المختلة، ومن ثَمَّ المرض الثقافي؛ حيث ينعدم ذلك التوازن
المطلوب الذي يعطي اللغة الأم حق السيادة في عقر دارها.
إن أشهر العلماء والمفكرين والأدباء قديماً وحديثاً كانوا يكتبون ويفكرون بلغة
واحدة رغم احتمال معرفة الكثير منهم بلغات أخرى؛ فهل عُرف «كونفشيوس»
بغير لغته الصينية؟ وهل عُرف «سقراط» و «أرسطو» و «أفلاطون» بغير
اللغة اليونانية؟ أم هل عُرف «ابن رشد» و «ابن تيمية» و «ابن خلدون»
بغير اللغة العربية؟ وفي العصور الحديثة: هل عُرف «كانط» و «ماكس فيبر»
بغير الألمانية؟ وهل عرف «ديكارت» و «روسو» بغير الفرنسية؟ أم هل
عرف «باكون» ، و «وليام جيمس» ، و «جورج أورويل» بغير اللغة
الإنجليزية؟ أما نحن في ثقافتنا المريضة بالفصام فإنه يفرض علينا أن نستوعب
لغة غيرنا وثقافته حتى وإن كنا لم نستوعب الحد الأدنى من لغتنا وثقافتنا الثرية
والأصيلة.
إن مثقفينا يحملون لواء الدفاع عن الازدواجية اللغوية والثقافية على الرغم من
عدم براءة هذه الدعوة؛ وحتى الدول التي تشجعنا على ذلك لا تؤمن بها في بلدها
مثل فرنسا؛ مع العلم أن كل الفرنسيين الذين تلقوا دراسة حكومية منتظمة يلمُّون
باللغة الإنجليزية على الأقل؛ فالازدواجية عندهم وظيفية وبذلك لا تعتبر مرضاً
ثقافياً كما هو الحال عندنا. ومع افتراض بعض المحاسن من هذه الازدواجية فإن
الترجمة كفيلة بتحقيقها على أحس وجه دون مخاطر الوقوع في المرض الثقافي أو
الانسلاخ الثقافي؛ فالترجمة كان من المفروض أن تكون هدفاً لهذه الازدواجية.
ولكن الحقيقة المؤسفة أن هؤلاء المزدوجين - ولا سيما في الدول المغاربية -
لم يحققوا ذلك الهدف، بل صاروا يكتبون ويفكرون باللغة الاستعمارية أي الفرنسية
حتى إن بعضهم اعتبر الفرنسية غنيمة حرب! ولنا أن نتساءل: كيف تكون غنيمة
حرب عند مَنْ فَقَدَ روحه؟ فالترجمة هي الوسيلة الصحيحة التي تدعم الثقافة الأم؛
وليست هذه الازدواجية المفروضة إلا مظهراً من مظاهر المرض الثقافي، والعبرة
في النتائج، والأعمال بخواتيمها؛ فقد أصبح العديد من الأدباء المغاربيين رُواداً في
الأدب الفرانكفوني المعاصر، ولذلك فإن المستفيد من ذلك هو الأدب الفرنسي
والثقافة الفرنسية. ومع ذلك فإن بعضهم قد شعر بوخز الضمير، فكان دائماً
يستحضر هذه العقدة عقدة الكتابة بغير اللغة الأم، ومنهم من آب ورجع بعد جهد
جهيد إلى أحضان لغته وثقافته العريقة في ثرائها وتنوعها؛ في حين ارتد بعض
آخر وصار يكتب باللغة الأخرى وخاصة الفرنسية التي سحرتهم بما تختزنه من
ثقافة لائيكية، هذه الثقافة التي تعتبر نادرة إن لم تكن منعدمة في الثقافة العربية.
إن الترجمة مدعوة اليوم لأن تكون العلاج الفعال للمرض الثقافي؛ وذلك عن
طريق التركيز على نقل المعارف الإنسانية والعلوم النافعة التي تخدم استراتيجيتنا
الثقافية لا أن تساهم في تعميق مرضنا الثقافي والحضاري المستشري، وفي إطار
هذه الاستراتيجية فهي مدعوة أيضاً إلى نقل ثقافتنا إلى الغير؛ لأن لها وزناً يوجب
علينا المساهمة في تطوير الفكر الإنساني والقيم البشرية وتحقيق الواجب من الدعوة
نحو الشعوب والقبائل والأمم الأخرى.
والغريب في الأمر هنا أن أُولى التراجم لصحيح البخاري لم يقم بها مسلمون،
بل قام بها رجل دين مسيحي أسلم هو «ليوبولد فايس» «محمد أسد» وأن أول
فهرسة لألفاظ الحديث النبوي الشريف في العصر الحديث قام بها جماعة من
المستشرقين الغربيين؛ وهذا دليل ساطع على قوة الثقافة العربية الإسلامية حتى في
أزمنة الانحطاط هذه التي يسمونها: عصر النهضة عصر الاستعمار والاحتكاك
المباشر بالثقافة الغربية بإيجابياتها وسلبياتها. وكلنا يتذكر تلك البعثات التي كان
الفرنسيون والألمان والإنجليز يحرصون على إرسالها إلى جامعاتهم من أبناء البلاد
المستعمَرة لتعلُّم القوانين الفرنسية والإنجليزية والآداب والفنون اللاتينية؛ فماذا
كانت النتيجة؟ لقد تعرضت هذه النخب إلى عمليات غسل مخ ثقافي، وعند
رجوعهم إلى الأوطان عملوا على تخفيف المؤونة التي أنفقها الاستعمار المباشر
بتنفيذ مقاصده وفلسفته في الميدان، ولذلك فإن أول ما عرفناه من مؤلفات مترجمة
إلى العربية هي كتب القانون والفلسفة والآداب الغربية بالإضافة إلى
كتب المستشرقين، ومَنْ من الباحثين لا يعرف كتاب «العقيدة والشريعة»
لـ «جولد زيهر» أو كتاب «تاريخ آداب اللغة العربية» لـ: «كارل
بروكلمان» أو «دائرة المعارف الإسلامية البريطانية» وما فيها من اعتداء على
المنهجية العلمية وعلى تراثنا الإسلامي العريق؟
إن أول خطوة يتحتم علينا القيام بها اليوم هي الاعتراف الرسمي بالذنب الذي
ارتكبته النخب المثقفة والنخب الحاكمة في عالمنا العربي والإسلامي؛ فهؤلاء ذهبوا
بأنظارهم بعيداً مع أن زادهم قليل قليل في رحلة الاستغراب والخراب الفكري،
فبحثوا في حقائب الغير كأنهم لصوص، واستوعبوا ما أريد لهم أن يستوعبوا،
ولبسوا ما أريد لهم أن يلبسوا من أثواب الزيغ والعقوق، وركبوا كل المراكب التي
تسخط الرحمن وترضي شياطين الفكر الغربي وساسته؛ وبعد ذلك ظنوا أنهم قد
وصلوا، ففرحوا بما عندهم من العلم، وعندما نظروا ذات مرة إلى مواطئ أقدامهم
قالوا: من نحن؟ فمنهم الذين أدركوا أنهم قد وقعوا في شراك أُجِيدَ حبكها في دوائر
الغزو الثقافي ومراكز الاستدمار الفكري، ولكنهم أدركوا بعد حين من الدهر أن
ثعالب الاستغراب أرادوا لهم أن يكونوا لقطاء مع أن نسبهم شريف.
إن الخدمات التي قدمتها هذه النخب المستغربة بثقافتها المهجَّنة لم تحظَ حتى
باعتراف أولئك الذين يفترض أن يباركوا هذه المجهودات الانسلاخية؛ فهذا زعيم
الوجودية الفرنسي «جان بول سارتر» يصف الإنتاج الأدبي لهؤلاء المهجَّنين
والمدجَّنين فكرياً بقوله: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وكان الأجدر أن يضيف كلمة:
«مشوهة» .
ومع ذلك لنا أن نتساءل: لماذا منحت جائزة «نوبل» للآداب لأديب مصري
كبير هو «نجيب محفوظ» سنة 1988م، ولم تُمنح لطه حسين [**] الذي توفي
سنة 1973م والذي يعتبر في رأي جمهور النقاد عميد الأدب العربي المعاصر؟
فهل كان الوقت لم يحن بعدُ؛ لأن العرب لم يخرجوا من طور الحضانة؟ أم أن
هناك حسابات أخرى؟ ففي سنة 1955م كتب الشيخ «محمد الغزالي» - رحمه
الله- مع ثلاثة أزهريين تقريراً ودفعوه إلى الرئيس «جمال عبد الناصر» ذكروا
فيه أن رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ التي كانت جريدة «الأهرام»
تنشرها آنذاك متسلسلة تنال من الذات الإلهية، فما كان من الرئيس إلا أن أمر
بسحب الرواية ومصادرتها وانتهت القضية.
ولكن غضب الأزهريين سجلته خلايا مؤسسة «ألفريد نوبل» واحتفظت به
إلى غاية سنة 1988م بعد وفاة عميد الأدب العربي. لقد نال «نجيب محفوظ»
الجائزة؛ لأنه مؤلفها أولاً، ومجَّد الفراعنة ثانياً، وثالثاً: لأنه كان يدعو إلى رفع
درجة الأقباط من مرتبة الأقلية الدينية إلى مرتبة الشريك المقاسم. لقد كوفئ لأنه
ساهم في تنفيذ الخطة التفكيكية للوحدة السياسية والثقافية للأمة العربية الإسلامية؛
فقد حظي بدخول جحر الضب ولم يحظ «طه حسين» بذلك رغم استغرابه
الفرنسي؛ لأن سليقته العربية تغلبت على مرضه الثقافي.. ومع ذلك نجد أكبر
الأدباء الفرنسيين وهو «سارتر» يترفع عن استلام جائزة نوبل للآداب سنة
1964م؛ لأن هذه «الضفدعة اليائسة» كانت ترفض نفاق الثقافة الغربية
وإنسانيتها الكاذبة أمام أعين أطفال آسيا وإفريقيا وبطونهم الجائعة عكس أخيه في
فلسفة اليأس «الوجودية» «ألبير كامو» الذي لم يستطع أن يخالف عقله وقلبه
عندما طرح سؤاله الجوهري: «هل الحياة تستحق منا أن نعيشها أم لا؟» فقد
استلم جائزة نوبل سنة 1957م؛ إنه أراد أن يعيش؛ لأن ذلك من طبيعة «الأقدام
السود» (مصطلح يقصد به في الجزائر المستوطنين الغربيين) ولا عبرة عنده
بمن اختار الانتحار انتقاماً من هذه الجبرية الوجودية. هذا «الكامو» عندما سئل
عن رأيه في استقلال الجزائر أجاب إجابة ذكية بقوله: لو خُيرت بين الحرية وأمي
لاخترت أمي. أي فرنسا.
واليوم وفي خضم مرضنا الثقافي يطل علينا الغرب بمشروع العولمة
الاقتصادية والثقافية، وهو بذلك يريد استغلال قوته الحالية التي قد لا تدوم طويلاً
من أجل تحقيق مآربه القريبة والبعيدة معاً، وأصبحنا نسمع كثيراً عن فكرة نهاية
التاريخ والحوار بين الأديان والثقافات، وقد علمنا أن الحوار لا يكون ناجحاً إلا إذا
كان بين أطراف متكافئة، ونحن وإن كنا أقوياء فعلاً بثقافتنا العربية الإسلامية فإننا
ضعفاء إلى درجة فقدان السيادة بسلوكنا المنحرف عن الصراط المستقيم الذي هو
المقياس الوحيد لرشدنا الثقافي.
وأمام هذه العولمة الجارفة فلا نملك إلا أن نقول: لا بيعة لمكرَه، إننا نرفض
النفاق؛ لأن ذلك ليس من شيم قيمنا الثقافية، وأمام ضعفنا المفتعل فلا يمكن أن
نقابل مثل هذه الدعوات إلا بعين الريبة والشك؛ فالاستعمار العسكري بعد أن تحول
إلى استعمار اقتصادي ها هو اليوم يبدل ملابسه القذرة ليخرج إلينا في طبعة ثالثة
أنيقة في ظاهرها متوحشة في باطنها هي العولمة الشاملة؛ وهذا موضوع قد ييسر
الله معالجته لاحقاً. والله الموفق.
__________
(*) باحث وكاتب جزائري.
(**) حتى طه حسين لم يسلم من المآخذ والأخطاء التي تطعن في الإسلام، ومن ذلك مقولته في
انتحال الشعر الجاهلي، وادعاؤه أن ذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - في القرآن لا يعني أنها
حقيقية، وهي مسألة نوقشت في حينه من فطاحل العلماء؛ حيث سفهوا رأيه أمثال (محمد الخضر
حسين، ومحمد عرفة، وغيرهم) .(158/114)
قضايا ثقافية
من سمات كُتاب الضلالة
محمد بن عبد الله الهبدان
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والهادي المجتبى
ومن سار على نهجه واقتفى. أما بعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل صراع مستمر إلى قيام الساعة؛ فأعداء
الإسلام لا يزالون يتربصون بأهل الإسلام الدوائر، ويسعون في الأرض فساداً،
وكلماً نفضوا أيديهم من مكيدة بدؤوا يعدون لمكيدة أخرى، ويزداد الأمر خطورة،
ويعظم الأمر خطباً حينما يكون أولئك ممن يتسمَّوْن بأسمائنا، ويتكلمون بلغتنا، وهم
من أبناء جلدتنا، ولكنهم جندوا أنفسهم لهدم مجتمعاتهم، ونشر الفاحشة بينهم، وبذر
الشر والفساد فيما يكتبون ويطالبون، فسخروا أقلامهم لإفساد الأمة عامة والمرأة
على جهة الخصوص، فأفرزت صدورهم نفثات حقد دفين، وفاحت كتاباتهم العفنة
بمقالات نتنة، وشَرِقت صدورهم لِمَا رأوا من انتشار الصلاح في أوساط النساء،
ومحافظتهن على الحشمة والحياء، والطهر والنقاء، فلَمَّا رأوا ذلك قامت الدنيا ولم
تقعد، فأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وأحيوا ليلهم، وشمروا عن ساعد الجد، فكتبوا
ونعقوا، فتارة يلوّحون، وتارة يصرِّحون، فلا تخلو كتاباتهم من شبهة فاسدة، أو
مطالبة فاضحة، أو دعوة حاقدة، وقد امتلأت أعمدة الصحافة في العالم الإسلامي
من أقلامهم المسمومة، وأفكارهم الموبوءة؛ ولكي تكون منهم على حذر فإني أذكر
لك أبرز سماتهم التي تكشف حقيقتهم، وإنما اقتصرت على ذكر السمات دون
الأسماء؛ لأن الأسماء تتغير وتتبدل، أما السمات فإنها ثابتة لا تتغير منذ ظهور
المنافقين وحتى قيام الساعة:
1 - أنهم يتفقون على إثارة قضية من القضايا، ويتواصون فيما بينهم على
الكتابة فيها، والمطالبة بتنفيذها، فتشعر أن الأمر قد حِيكَ بليل، وعملوا على
تنفيذه، وهذا أمر لا يخفى على صغار الناس فضلاً عن كبارهم وفضلائهم.
2 - أنهم يجعلون لمطالباتهم ومقالاتهم عناوين براقة، وبخط بارز عظيم،
وفي الصفحة الأولى أو الأخيرة، فيغتر العامي من الموحدين بمثل هذه العناوين،
ومن طيب نفسه قد يوافقهم على رغباتهم، ويؤيدهم في توجهاتهم، وما علم
المسكين أنهم ذئاب بشرية همهم الأول تحقيق مطامعهم الشهوانية، ونزواتهم
البهيمية.
3 - أنهم كثيراً ما يتحدثون عن قضية المرأة، وهذه القضية هي التي يراهن
عليها أعداء الإسلام عموماً، لعلمهم أن القضاء على الدين يبدأ من إفساد المرأة،
وإخراجها من حصنها الحصين، وفي هذا يقول أحدهم: «علينا أن نكسب المرأة؛
ففي أي يوم مدت إلينا أيديها فُزْنا بالحرام، وتبدد جيش المنتصرين للدين» .
وكلامهم يدور على محورين:
الأول: نزع حياء المرأة والقضاء على الحجاب الإسلامي؛ فكثيراً ما يلمزونه
في كتاباتهم شعراً ونثراً، ومن ذلك قول أحدهم: «عيشي كما تشائين، كوني كما
تريدين، انزعي الألم! ! ازرعي الأمل، حطمي القيود، اخلعي القيود، سافري
بلا حدود» .
وقول أحدهم: «تيه وأوهام وأقنعة تدار، وعلى الجميع على الجميع
الانتظار» .
والثاني: إلغاء القِوامة التي منحها الله للرجل على المرأة، والدعوة إلى
المساواة بين الجنسين في كل شيء، وهذه الدعوة الخبيثة تبدأ بالدعوة إلى استقلال
المرأة عن وليّها بحجج واهية، لتكون وليّة نفسها، ولتتمكن من التمرد على وليّها
متى أرادت.
4 - أنهم أحياناً يستضيفون بعض العلماء لطرح بعض القضايا عليهم، ثم
تُطْرح عليهم الأسئلة وتصاغ بطريقة ماكرة حتى يجيب العالم بجواب يريدونه
فيقتطعون من جوابه ما يريدون، ويُكتب بخط واضح عريض في الصفحة الأولى:
العالم الفلاني يقول كذا..! ! فيلبسون بذلك على الناس، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
5 - تتبّع الرخص والآراء الشاذة والضعيفة لبعض العلماء وبثها والإشادة بها
وبأصحابها، مع تجاهل الأقوال الصائبة التي لا تخدم أفكارهم وتوجهاتهم، وقد
كتبت إحداهن مقالاً في إحدى الصحف تشيد فيه بأحد المنتسبين للعلم بسبب أنه أباح
للمرأة أن تتولى أعلى المناصب، وأن تكشف وجهها، وأباح الغناء. وصحفي آخر
كتب مقالاً يثني فيه على هذا العالم نفسه؛ لأنه تبنى المنهج العقلي في تفسير
النصوص والحكم عليها. وهكذا. نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم بما يشاء إنه
هو السميع العليم.
6 - أنهم يؤيد بعضهم بعضاً، فإذا كتب أحدهم مقالة أشاد الجميع بقوة مقاله،
وجودة أفكاره، وحسن أسلوبه، وجمال عباراته، وهكذا من سلسلة المدح والثناء،
لذلك المقال، والذي لو تأمله صغار طلاب العلم لتبين له ضحالة الفكر، وسوء
الأسلوب، ولكنهم كما أخبر القرآن: [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (المائدة: 51) ،
خاصة إذا كان الكاتب ممن صُنع على أيديهم، وتربى في أحضانهم فيجعلونه فُوَّهة
لهم، من خلاله يبثون سمومهم في المجتمع؛ فهي خطوات متتابعة: كاتب ناشئ،
ثم ما يلبث حتى يكون ذلك الناشئ لامعاً بسبب تأييدهم لمقالته، وفي النهاية يكون
مُنَظِّراً مثلهم.
7 - أنهم أحياناً يتقمصون شخصيات العلماء؛ فتارة تجده من الفقهاء، وتارة
من المحدثين، وتارة تجده من علماء الأصول والتفسير، وهكذا، فتُجرى مع هذا
المتعالم مقابلة، فيتخلل تلك المناقشة أسئلة شرعية تتعلق بقضايا عقدية أو فقهية أو
اجتماعية لو طرحت على عمر - رضي الله عنه - لجمع أهل بدر لها، بينما ترى
ذلك الذي صدَّر نفسه عالماً، وليس له من علوم الشريعة فتيل ولا قطمير، أطلق
للسانه العنان في التحليل والاستنباط، حتى كأنه إمام زمانه، ووحيد قرنه، وفريد
عصره؛ وهذه والله من عجائب الدهر. والله المستعان.
8 - أنهم يُضمِّنون كتاباتهم بعض الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية التي
توافق أهواءهم، وهم مع ذلك لا يميزون بين النصوص الشرعية والأمثال والحكم،
وهذه سمة بارزة في كتاباتهم. وقد أرادت إحداهن أن تستشهد بآية فعجزت عن
استحضارها مع سهولة الرجوع إلى المصحف أو المعجم، فقالت: «قال الله بما
معناه..» ! ! ، وآخر - وهو دكتور - ذكر حديثاً نبوياً متفقاً عل صحته، فقال
قبل إيراده: «وفي المثل العربي» ! ! ، وهم لا يميزون بين صحيح الحديث من
سقيمه، ولا يعرِّجون على الأدلة التي تخالف مذهبهم وتبطل آراءهم، فيسهبون
حول حديث ما، ويعيدون ويكررون، كل ذلك تغريراً بعامة الموحدين، وإعطاء
آرائهم صبغة دينية، وصورة شرعية، وهذه طريقة يهود كما قال الله - تعالى -
في القرآن: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] (البقرة: 85) ،
وطريقة أهل الزيغ الذين قال الله فيهم: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ] (آل عمران: 7) . قال صلى الله عليه وسلم:
«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم» [1] .
9 - أنهم في غالب الأحايين يستشهدون بأقوال مفكري الغرب أو الشرق،
من أمثال: (بودلير) و (بلزاك) و (سومرت موم) ، وكذا الاستشهاد بأقوال
الزنادقة والضالين من أبناء هذه الأمة من أمثال الشاعر الفلسطيني
(محمود درويش) ، والشاعر السوري (أدونيس) [2] . فتراهم يأخذون أقوال أولئك
وكأنها نصوص من الوحي الكريم، فيبدأ أحدهم بالشرح والتفصيل، والمدح
والتبجيل، ومن ثم يطالب بترجمة تلك الأقوال ترجمة عملية في المجتمع المسلم،
بحكم أنهم قد تقدموا علينا فكرياً وصناعياً وثقافياً وغيرها من العبارات الساقطة
[كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً] (الكهف: 5) .
10 - ومن علاماتهم أيضاً: أنهم يستخدمون مصطلحات موهمة، ورموزاً
غامضة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كلفظ الحرية والمساواة، أو التقدم
والرقي، أو التوازن والإنصاف، أو عدم الرجعية والتخلف، والبعد عن الإرهاب
والتطرف، ونحو هاتيك العبارات، وذلك لتمرير أفكارهم الرديئة التي لا
يستطيعون المجاهرة بها، خوفاً من المجتمع، وهو أسلوب مرحلي مؤقت سرعان
ما يتخلون عنه إذا تهيأت الظروف، [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ
أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً] (البقرة: 9-10) .
11 - أنهم يكتبون أحياناً بأسماء نسائية مستعارة ليكون التأثير أبلغ [*] ،
والصدى في النفوس أكثر، فإذا أرادوا - على سبيل المثال -: تشجيع المرأة على
ارتياد النوادي الرياضية فإن أحدهم يكتب بتأييد فريق كروي أو تحليل رياضي باسم
فتاة، أو يكتب في القصائد الشعرية التي كلها سخف وهراء، فتغتر الفتاة المسكينة
فتراسلهم في الكتابة، وهم بعد ذلك يطبلون حولها حتى تظن نفسها شاعرة العصر،
وفريدة الدهر! ! وقد فاقت بشعْرها شعراء الجاهلية والإسلام! ! وأحياناً يوظفون
بعض الأقلام النسائية الهابطة التي تحررت من أدب الحياء والحشمة والطهر
والعفاف، فتطالب وتكتب عما يشتهون ويريدون، وصدق الله - تعالى - إذ يقول:
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) ، وقال -
سبحانه -: [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]
(إبراهيم: 46-47) .
12 - أنهم يتحينون وجود الأحداث الكبرى في الأمة، وانشغال المصلحين
عنهم في مثل تلك الأحداث، فيستثمرون ذلك في ترويج ضلالاتهم في المجتمع.
13 - أنهم يشغلون الأمة بمطالبات عدة، وفي وقت واحد، ويضخمون حدثاً
معيناً دون آخر، وهو في الحقيقة ليس بشيء عندهم ولكنها التغطية الإعلامية،
والخدع الشيطانية؛ فتكتب الأمة رفضاً لهذا الأمر، وتتم الموافقة على رفضها
فتتنفس الأمة بملء صدرها فرحة لذلك، وفي أثناء تلك الفترة التي فتر الناس فيها
يتم تمرير مطالبة أخرى، ولكن بدون ضجيج ولا هالة إعلامية، فلا يشعر بها أحد،
إلا وهي على أرض الواقع.
14 - أنهم يُجرون دراسات واستفتاءات حول قضية ما، ومن المفترض أن
تكون الشريحة التي تطبق عليها الدراسة متكافئة حتى تكون نتائج الدراسة صحيحة،
ولكنهم يسلكون غير هذا المسلك، ولعلي أضرب لكم مثلاً على ذلك:
أُجريت دراسة عن مدى تفوق أبناء العاملات وتفوق أبناء ربات البيوت -
هذا إن صح، - فأظهرت الدراسة أن أبناء العاملات أفضل دراسياً من أبناء ربات
البيوت، لكن كان من المفترض في مثل هذه الدراسة أن تكون الشريحة التي تم
البحث فيها متكافئة في المستوى التعليمي، ولكن الواقع كان خلاف ذلك؛ فغالب
ربات البيوت التي تمت الدراسة عليهن أميات لا يعرفن القراءة والكتابة، بخلاف
الشريحة الأخرى، وهذا مما لا يشك عاقل منصف أن فيه إجحافاً وشططاً، وهوى
في النفوس؛ ولذا فإنه لا بد لأهل الإيمان أن يتنبهوا لمثل هذه الدراسات التي
تصدر عن أمثال هؤلاء.
وأحياناً يُجرون استفتاءات مع شريحة معينة توافق أهواءهم، فيشعر القارئ
أن المجتمع كله يرغب في مثل هذه القضية، ومما يدل على سذاجتهم أن جميع
إجابات المشاركين أو المشاركات تتم وفق رغباتهم! ! فيا للعجب! ألا يوجد في
الأمة مخالف؟ ألا يوجد فيها معارض؟ وهل طبائع الناس وأفكارهم متوافقة إلى
هذا الحد؟ أم أنه الدجل والخداع وتغيير الحقائق والتلبيس بها؟ قال سبحانه:
[أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] (فاطر: 8) .
15 - غلبة الفكر الانهزامي عليهم، وعقدة النقص التي ركبها المستعمر
الغربي في أذهانهم، يقول أحدهم بمناسبة سقوط بوش الأب في الانتخابات
الأمريكية قبل السابقة وتولي كلينتون: «إن الأمريكيين هم الجديرون بالحضارة
والحياة منا نحن أهل الشرق» ، والسبب في نظره أننا: «أغبياء لا نفهم أو
يصعب علينا أن نفهم» [3] .
16 - الاستهزاء بالنصوص الشرعية، ومحاكاتها وإقحام أجزاء منها في
كتاباتهم الغامضة التي يسمونها شعراً وإبداعاً، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
يقول أحدهم: «خذوا زينتكم، واتبعوني، ثمة واد يهيم فيه الشعراء» .
إلى أن يقول: «أيها العشاق، أفتوني في رؤى صاحبي، رأسه وكر
للوطاويط» [4] .
وتقول أخرى: «تمهل حبيبي، وخذ حفنة من رماد الحقول، وخذ راحتي،
نقشت فوقها آية للعذاب المبين، إلى أن تقول:» قلت اهبطي من سمائك « [5] ،
وتقول ثالثة:» وماذا أريد، وكل الدروب، تقد قميص البراءة « [6] .
هذا ما يتعلق بالقرآن.
أما الأحاديث فلم تسلم من سخريتهم ابتداءاً من الأسانيد، وانتهاءاً بقول النبي
صلى الله عليه وسلم، وإليك بعض الأمثلة:
يقول أحدهم:» حدثنا الشيخ الإمام، عن صالح بن عبد الحي عن سيد
درويش عن أبيه عن جده، قال: يأتي على هذه البلاد زمان إذا رأيتم فيه الفن «،
إلى أن قال - قبحه الله وأخزاه -:» قالها وهو ينتحب، فتغمده الله برحمته وغفر
له ذنوبه « [7] ، فأي استهزاء بعد هذا..! ! وتقول إحداهن مستهزئة بقول النبي
صلى الله عليه وسلم:» ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم
من إحداكن « [8] ، تقول:» يرضع الطفل من ثدي أمه حتى يشبع «، إلى أن
تقول:» وعندما يصبح رجلاً، يضع ساقاً فوق ساق في أحد مقاهي المثقفين،
ويعقد مؤتمراً صحفياً يقول فيه: إن المرأة بنصف عقل، وبنصف دين، فيصفق له
الذباب، وغرسونات المقهى « [9] .
وبعد؛ فهذا غيض من فيض من كتاباتهم وضلالاتهم، وترهاتهم، ومع ذلك
نرى من ينخدع بهم ويصفق لهم ويثني عليهم؛ فإلى متى نصفق لأعداء أمتهم؟ ! !
17 - تمجيد الغربيين والثناء عليهم؛ واعتبارهم القدوة والمثل الأعلى في
كل شيء، واختيار أرق الألفاظ وأحسن العبارات للاعتذار عن مساويهم، واحتقار
الشرق وأهله.
18 - أنهم يأخذون بمبدأ خط الرجعة، فإذا وجدوا معارضة قوية لمقالاتهم،
قالوا:» نحن لم نقصد ما تقولون؛ ولكن أردنا كذا «، ثم يبدؤون في ليِّ الكلام
والعبارات حتى تتسق مع المخرج الذي يخرج به من المأزق الذي وقع فيه.
دورنا في درء هذا الفساد:
ما دورنا تجاه أولئك الساقطين والساقطات؟ وما واجبنا في مواجهة هذا الزَخْم
من الشبهات والضلالات التي تتكاثر يوماً بعد يوم؟ إن دورنا يكمن في أمور:
أولاً: الحذر من هؤلاء الكتّاب وما يدعون إليه من أفكار مضللة، وعدم الثقة
بهم.
ثانياً: رصد كتابات أولئك الدخلاء والرد عليهم من قِبَل أهل العلم
والاختصاص.
ثالثاً: تحذير الناس من كتاباتهم ومقالاتهم، وفضح مؤامراتهم حتى لا ينخدع
فيهم عامة المسلمين.
رابعاً: مراسلة أولئك الكُتاب وتحذيرهم بالتي هي أحسن من مغبة هذا
الطريق الذي يسيرون عليه. يقول الله - تعالى - لموسى وهارون عندما أرسلهما
الله - تعالى - لفرعون الطاغية: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]
(طه: 44) .
خامساً: ألا تكون مواقفنا دائماً ردود أفعال فحسب؛ بل لا بد أن تهاجم
مبادئهم التي قد تمكنت، وأفكارهم التي قد رسخت، حتى يخر عليهم السقف من
فوقهم وهم لا يشعرون.
سادساً: إن من الأمراض التي نعاني منها: تهرُّب كثير من الناس من
مسؤولياتهم تجاه دينهم، والاستظلال بظلال التواكل والتسويف، حتى تعطل من
جراء ذلك خير كثير؛ ومن العجب أن هذا الخلل يقل أو ينعدم عند أهل الكفر،
فبنظرة إلى تكاتف أهل الديانات الباطلة، والمذاهب المنحرفة يرى عجباً من قوة
تكاتفهم، وشدة ترابطهم في سبيل نشر مبادئهم، مع اختلافهم المتباين في المكان
والزمان والحال، إلا أن العمل لمصلحة مبادئهم هو المحور والمرتكز الذي يؤمه
الجميع.
ولذا فليجعل كل مسلم على نفسه مسؤولية العمل للدين بكل ما يستطيع من
الوسائل والسبل؛ فإن الجهود إذا تضافرت وتكاتفت، أينعت ثمارها، وآتت أكلها.
سابعاً: على المسلم أن يحذر من دخول اليأس، والتقاعس عن القيام بما
يستطيعه، ويتأكد هذا في حق الدعاة والمصلحين؛ فعليهم أن يحذروا من دخول
اليأس إلى قلوبهم عند رؤية الباطل قد انتفش، وأن دعوتهم لم تقبل؛ فإن مهمة
الداعية هي البلاغ، والنتائج على الله - تعالى -؛ كما قال القائل:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ... وليس عليه أن تتم المقاصد
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:» عُرِضَتْ عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه
الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد « [10] .
فإذا كانت دعوة نبي قد لا يستجيب لها أحد، فأين مقام الدعاة والمصلحين من
مقام الأنبياء؟ ! !
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 4547، ومسلم، ح/ 2665، واللفظ له، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(2) وهو نصيري باطني، واسمه: (أحمد علي) ، وكلمة أدونيس تعني: إله الخصب عند الفينيقيين.
(*) ومن أشهرهم الكاتب النصراني (مفيد فوزي) الذي يقدم كتابات نسائية متحررة تحت اسم (نادية عابد) وهناك الكثيرون من أمثاله ممن ينهجون النهج نفسه، فهل نعي هذا الدور الخطير، ولا سيما الفتيات المسلمات - البيان -.
(3) انظر: مجلة اليمامة، عدد: (1231) .
(4) الجزيرة، عدد: (8584) ، ص 13.
(5) الجزيرة، عدد: (8538) .
(6) عكاظ، عدد: (10541) .
(7) أخرجه البخاري، ح/ 304، 1462، وتمامه:» قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم» قلن: بلى قال: «فذلك من نقصان دينها» .
(8) مجلة الشرق، عدد: (326) .
(9) مجلة اليمامة، عدد: (1079) .
(10) رواه البخاري، ح/ 5705، ومسلم، ح/ 220، واللفظ له.(158/118)
في دائرة الضوء
بين التوراة كتاب الله والتوراة اليهودية المحرفة
د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
الإيمان بكتب الله التي أنزلها على رسله ركن من أركان الإيمان الستة، ولا
يتحقق هذا الإيمان إلا بالإيمان بالكتب؛ حيث يؤمن كل مؤمن من المسلمين أن الله
أنزل كتباً على رسله، وجعل هذه الكتب نوراً وهدى للناس.
ويجب على المؤمن أن يؤمن بالكتب التي ذكرها الله في القرآن، وأخبرنا أنه
أنزلها على رسله، وهذا إيمان «تفصيلي» بالكتب.
يجب على المؤمن أن يؤمن أن الله أنزل التوراة على موسى، وأنزل الزبور
على داود، وأنزل الإنجيل على عيسى، وأنزل القرآن على محمد عليهم الصلاة
والسلام.
هما توراتان اثنتان:
من أنكر نزول التوراة على موسى - عليه السلام - فهو كافر في حكم الإسلام،
مخلد في نار جهنم، ومن أنكر نزول الزبور على داود - عليه السلام - فهو كافر،
ومن أنكر نزول الإنجيل على عيسى - عليه السلام - فهو كافر.
لكن أي توراة تلك التي نؤمن بها؟ وأي زبور وإنجيل نؤمن بهما؟ إنها
ليست التوراة الموجودة الآن بين أيدي اليهود، والتي أدخلوها ضمن ما يسمونه:
«العهد القديم» ! ! وليس هو الزبور الذي جعله اليهود أحد أسفار العهد القديم،
وسموه «مزامير داود» ! ! وليس هو الإنجيل الموجود بين أيدي النصارى الآن،
والذي يسمونه: «العهد الجديد» ! ! وهو أربعة أناجيل منسوبة (للوقا وبطرس
ومتى ويوحنا) .
إذن: هما توراتان وزبوران وإنجيلان! يجب أن نؤمن بأحدهما أنه كتاب الله،
ومن أنكر ذلك فقد كفر، بينما يجب أن نؤمن أن الثاني الموجود الآن ليس كتاب
الله، وإنما هو محرف مبدل، وهو من ثم منسوخ ملغى، ومن أنكر ذلك فقد كفر!!
ولنفصل القول قليلاً في هذه المسألة المهمة.
إنزال التوراة على موسى:
أنزل الله التوراة على موسى - عليه السلام - ألواحاً نازلة من السماء، وذلك
عندما خرج موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل من مصر، وبعدما أغرق الله
فرعون وجنوده؛ فلما كان موسى - عليه السلام - مع بني إسرائيل في سيناء
واعده الله أن يأتي إلى جبل الطور، فغادر موسى - عليه السلام - بني إسرائيل،
واستخلف عليهم أخاه هارون - عليه السلام -؛ لأنه سيغيب عنهم أربعين يوماً،
وبعد انقضاء الأربعين يوماً كلَّم الله موسى على جبل الطور تكليماً، وأنزل عليه
التوراة مكتوبة على الألواح، وأمره أن يأخذها إلى قومه بني إسرائيل، ليلتزموا
بها، وينفذوا ما فيها.
قال - تعالى -: [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ
المُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن
تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ *
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ
الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا] (الأعراف: 142-145) .
والتوراة الربانية التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - نور وهدى
وضياء ورحمة، وفرقان وحق؛ لأنها كتاب الله وشرعه وكلامه وحكمه.
من صفات التوراة في آيات القرآن:
وقد أثنت آيات القرآن على التوراة أحسن الثناء:
قال تعالى: [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] (الأنبياء: 48-49) .
التوراة في هاتين الآيتين موصوفة بأنها فرقان وضياء وذكر للعالمين، وهي
هكذا لأنها كلام الله، وكل كلام الله النازل في كتبه على رسله هو ضياء وذكر
للعالمين، سواء كان توراة أو زبوراً أو إنجيلاً أو قرآناً! !
وقال - تعالى -: [قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى
لِّلنَّاسِ] (الأنعام: 91) . التوراة نور وهدى للناس، والمراد بالناس هنا بنو
إسرائيل، وليس الناس جميعاً؛ لأن رسالة موسى - عليه السلام - خاصة ببني
إسرائيل، وليست للعالمين؛ فمن المعلوم أن كل رسول كان يُبعث إلى قومه،
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده المبعوث إلى الناس كافة.
وقال تعالى: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ] (المائدة: 44) .
وأمر الله المؤمنين أن يؤمنوا بهذه التوراة الربانية الصادقة، بهذه الصفات
الإيجابية الهادية، ضمن إيمانهم بكتب الله الأخرى التي أنزلها على رسله؛ وذلك
في قوله - تعالى -: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136) .
هذه التوراة جعلها الله تشريعاً وهداية لبني إسرائيل، وضمنها مجموعة من
الأحكام التشريعية لهم.
وقد أخبرنا الله في القرآن عن بعض ما حرم الله على بني إسرائيل كما في
قوله - تعالى -: [وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم
بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] (الأنعام: 146) .
وكما في قوله - تعالى - خطاباً لليهود: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] (البقرة: 84) .
هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام -، نؤمن أنها
كتاب من كتب الله، كتاب عقيدة وشريعة وأخلاق وتوجيه، كتاب نور وهدى
ورحمة وضياء وفرقان، روح وشفاء، ومن لم يؤمن بذلك فقد نقض ركناً من
أركان الإيمان كما قررنا.
الأحبار لم يحملوا التوراة فكانوا كالحمار:
لكن ماذا حصل لهذه التوراة النازلة على موسى عليه السلام؟
كلف الله اليهود - أحباراً وشعباً - العمل بالتوراة، والمحافظة عليها،
وأوجب عليهم حفظها وعدم تضييعها أو التفريط فيها.
قال - تعالى -: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 63) .
وقال - تعالى -: [يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] (المائدة: 44) .
ومعنى [اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ] (المائدة: 44) أوجب الله على
الربانيين والأحبار حفظ كتاب الله إليهم التوراة، ونهاهم عن تضييعه والتفريط فيه؛
فالله «أوكل» إلى الأحبار حفظ التوراة، ولم يتكفل - سبحانه - بحفظ التوراة كما
تكفل بحفظ القرآن. وذلك في قوله - تعالى -: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) .
فالله - تعالى - حكيم في طلبه من الأحبار حفظ التوراة، مع علمه أنهم لن
يحفظوها، وأنهم سيضيعونها ويحرفونها، وذلك ليقيم عليهم الحجة، ويُحذر
المسلمين كي لا يفعلوا فعلهم، وليس للمسلمين الانحراف الجذري الذي يصيب
أحبار اليهود قبل أن يصيب أتباعهم من الشعب! !
كلف الله اليهود حفظ التوراة فضيعوها، وحمَّلهم التوراة فلم يحملوها، ولم
ينفذوا ما فيها من أحكام وتشريعات، ولذلك شبههم الله بالحمار الذي يحمل على
ظهره أسفار الكتب، قال - تعالى -: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا
كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ] (الجمعة: 5) .
الأحبار يحرفون التوراة:
لو طبق أحبار اليهود ما في التوراة، وقاموا بالتكاليف والواجبات التي فيها
لكانوا علماء ربانيين صالحين؛ ولكنهم بانحرافهم عنها صاروا «حميراً» يحملونها
بدون انتفاع بها، كما تحمل الحمير أسفار الكتب على ظهرها، مع عدم انتفاعهم
بها! !
ولم يكتف الأحبار بتضييع التوراة - وهذا بحد ذاته جريمة عظمى - وإنما
أقدموا على جريمة أعظم وأبشع، وهي «تحريف» التوراة، وإحداث التغيير
والتبديل فيها، ومزج كلام الله الذي فيها بكلامهم هم!
الأحبار إذن حرفوا التوراة، وكتبوها بأيديهم، وأدخلوا فيها كلامهم، وزعموا
أن هذا الكتاب الجديد هو كتاب الله، وأن هذا الكلام المختلط الممزوج هو كله كلام
الله! وأسموا هذا الخليط: «العهد القديم» ، وزعموا أنه هو «الكتاب المقدس»
الذي أنزله الله على موسى - عليه السلام - وغيره من أنبيائهم!
آيات صريحة في تحريف اليهود للتوراة:
وقد أخبرنا الله في آيات القرآن عن تحريف اليهود للتوراة، وذمهم ووبخهم
وأوقع بهم غضبه ولعنته، وأعلن كفرهم وخلودهم في نار جهنم.
ومن الآيات الصريحة التي تقرر ذلك قوله - تعالى -: [أَفَتَطْمَعُونَ أَن
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ] (البقرة: 75) .
ومنها قوله - تعالى -: [فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ]
(البقرة: 79) .
ومنها قوله -تعالى -: [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ]
(النساء: 46) .
ومنها قوله - تعالى -: [فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] (المائدة: 13) .
ومنها قوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً]
(المائدة: 41) .
ومنها قوله - تعالى -: [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ
مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 78) .
هذه ست آيات صريحة من القرآن تقرر تحريف اليهود للتوراة؛ وهذا معناه
أن التوراة الموجودة بين أيدي اليهود محرفة أصابها الكثير من التغيير والتبديل
والتزوير، وهي المسماة الآن بأسفار العهد القديم من الكتاب المقدس.
التوفيق بين إيماننا بالتوراة الربانية وكفرنا بالتوراة المحرفة:
وهذا معناه أن «العهد القديم» الذي يؤمن به اليهود، ويزعمون أنه كلام الله،
ليس هو كلام الله، وليس هو التوراة التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام -،
وإنما هو بعض كلام الله النازل على موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل -
عليهم الصلاة والسلام -، وأضاف أحبار اليهود إلى هذا البعض «الكثير» من
كلامهم وآرائهم، ومزاعمهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم وأساطيرهم، وقالوا: هذا من
كتاب الله إلينا. وما هو من كتاب الله إليهم، وقالوا: هذا كله من عند الله. وما هو
من عند الله.
والخلاصة:
أنه كما يجب علينا أن نؤمن أن التوراة هي كتاب الله النازل على موسى -
عليه السلام - فإنه يجب أن نؤمن أن اليهود أضاعوا هذه التوراة، وأقدموا على
تحريفها وتبديلها، ومن ثَمَّ نسخَها الله، ويجب أن نؤمن أن التوراة الموجودة الآن
بين أيدي اليهود محرفة مبدلة، وليست كلام الله، ولا كتاب الله، وأنها مليئة
بالأكاذيب، والأباطيل، وأنه لا يجوز الإيمان بها؛ لأن البديل عنها هو القرآن
الكريم، الصحيح الثابت المحفوظ، الباقي حتى قيام الساعة.(158/124)
في دائرة الضوء
العرافة والوساطة الروحية رحلة ما بين أثينا وباريس
معمر فوزي الخليل
مهنة عمرها آلاف السنين:
العِرافة: - بالفرنسية - OARACLE مشتقة من اللفظ اللاتيني
ORACULUM بمعنى النبوءة، والمقصود بها هنا إجابة الآلهة عن طريق
عراف أو كاهن على أسئلة السائلين فيما يتعلق بمستقبلهم كالزواج والتجارة والسفر
والحروب ... إلخ.
أما الظهور الأول الذي تشير إليه كتب التاريخ لهذه الطقوس فيعود إلى القرن
السادس قبل الميلاد من خلال الحضارة الإغريقية في أثينا التي شكلت التحول
الكيفي لمجموعة التحولات الكمية البسيطة التي سبقت نشوء هذه الحضارة في العديد
من مناطق العالم.
ولو أننا قارنا بين الظهور الأول لطقوس العرافة وطبيعة الدين المستمد من
أساطير ألفها البشر - الذي كان سائداً في تلك المرحلة - لوجدنا أكثر من خيط
متصل بينهما؛ ذلك أن الخرافات من طبيعتها التوالد المستمر، والتخيلات
(الأساطير) الساذجة للآلهة في ذلك الزمن لم تجد صعوبة في إظهار العديد من
الخرافات المرتبطة بشكل مباشر بالدين الإغريقي؛ فالإغريق كانت لهم - دينياً -
العديد من الآلهة الوظيفية المتخصصة في مجال من مجالات الحياة الاجتماعية
والدينية والمالية وحتى السياسية؛ حيث كان لديهم اعتقاد بأن هناك إلهاً للحرب
وإلهاً للسلام وآخر للزراعة، وآخر للولادة، وكذلك للموت والزواج والعذاب
والحكمة والحب والرعد ... إلخ وفي مرحلة متقدمة من هذه الأساطير كان هنالك
إيمان بأن بعض البشر كانوا آلهة مثل هرقل المولود من أب إله وأم بشرية بعد
العديد من النزاعات بين الآلهة المزعومة والتي كانت في غالبية الوقت تتحارب فيما
بينها، وعلى هذا الأساس احتاج الناس لطرق اتصالية مع هؤلاء الآلهة المزعومة
المتعددة، وطقوس خاصة لعبادة كل إله على حدة، فكان أن ظهر في المجتمع
الإغريقي وظائف هامة وأساسية، كالكهنة والعرافين.
كان دور الكهنة القيام على خدمة الآلهة في معابدهم المنتشرة بكل أرجاء البلاد،
فكانوا يقيمون طقوس العبادة والتقديس، ويقدمومن القرابين والأضحيات،
ويعلِّمون الناس كيف يعبدون هذا الإله ويتقون شر ذلك ويستفيدون من آخر، أما
دور العرافين فقد كان يقوم على الوساطة المزعومة بين بني البشر والآلهة المتعددة!
ولما كان العرَّاف بحاجة لخاصيّة مميزة له عن بقية البشر فقد ظهرت الروحانية
التمثيلية التي من المفترض أنها حالة انتقالية من التعايش مع البشر إلى التعايش مع
الإله لسؤاله والحصول على الأجوبة منه، وكان الناس يصدقون ذلك!
فقد جرت العادة بين الناس أن تكون الاستشارة الدنيوية والدينية من خلال
العرّافين والعرّافات الوسطاء الروحيين والمتمتعين بقدرة مميزة من الإله على
التعامل معهم واستشارتهم.
كان من أشهر المتنبئات عندهم عرّافة (دلفي) وهي (بثيا Pythia) التي
تروح في غيبوبة بسبب التركيز العقلي والروحي الكامل - حسب اعتقاداتهم - ثم
تنطق بأصوات مبهمة غير مفهومة، فيقوم عرّاف آخر (لديه قدرة على فك شيفرة
الرسالة السحرية) بتحويل هذه الأصوات إلى أنباء مناسبة بلغة الشعر أو النثر
يفهمها الناس، ولما كان الناس يجدون الكثير من الاختلاف بين النبوءة والحدث،
أي بين كلام العرّاف والواقع؛ فقد كانت الإجابة: بأن معنى الإجابة التنبئية غامض
ويحتمل تأويلين أو أكثر؛ ذلك لأن الآلهة لا تخطئ، فإذا حدث ولم تنطبق النبوءة
على الواقع؛ فإن ذلك يرجع إلى أن السائل لم يفهم الإجابة التنبئية على وجهها
الصحيح، وأنه تأولها بشكل خاطئ.
ولعل من الإجابات التنبئية الغامضة المشهورة - حسب اعتقاداتهم - هي
الإجابة التنبئية عن سؤال للملك (كرويسيس) ملك (ليديا) حيث كانت الإجابة:
«إذا ما عَبَرَ (كرويسيس) (نهر هلليس) فسوف يدمّر امبراطورية هائلة» ! !
وحين دمّر امبراطوريته نفسها قالوا بأن النبوءة صحيحة وأن (كرويسيس) فهم أنه
سيدمّر امبراطورية أخرى بينما المقصود هنا هي امبراطوريته هو.
ثم مع الأيام تنوعت طرق العرافة وتعددت لتساير ذوق العامة ومطالبهم
السريعة والكثيرة فظهرت طريقة الحبوب الملوّنة؛ حيث كان السائل يسحب
مجموعة حبوب ملوّنة بألوان مختلفة تعني نعم، أو لا. وهناك أساليب أخرى
للعرافة كالأصوات والأشكال والأنواع ... إلخ.
ومن عرّافي هذه الأنواع عرّافة في (بلدة دودونا) التي كانت تفسّر أصوات
حفيف أوراق شجرة البلّوط، وعرافة (مدينة إيف) بين (شعب يوربا) التي كانت
تستخدم 256 تمثالاً صغيراً مرقمة على لوحة الرمل يقوم خبراء التنجيم بتأويلها؛
فإذا حدث خطأ فهو بسببهم لا بسبب النبوءة، وهنالك عرّافة (ديدما) ، وعرافة
معبد (كلاروس) التي طغت على الأخيرة وكان لها جوقة من المنشدين، وقد
وصلت شهرتها إلى مناطق بعيدة مثل ألمانيا ونوميدا وبريطانيا.
كما كان ينظر إلى حذاقة الغريزة الحيوانية ودقتها على أنها دليل قوة أو سر
كالذئب والدب والنسر والبوم والخفاش ... إلخ، ولم تكن الكهانة بواسطة الينابيع
والأشجار والأشياء كالماء والمرآة وغيرها أقل شيوعاً من غيرها.
ولعل من دلائل اهتمام الإغريق بالعرافة وتنوع أشكالها وأساليبها أنهم كانوا
يتفننون بتأويل الكلام، خاصة أسماء العلم، وأية كلمة تلفظ سهواً أو تسمع مصادفة
كان يمكن أخذها على محمل الإشارة الإلهية الغيبية، حتى إن سقراط نفسه كان
ينصح تلاميذه باستشارة الكهنة والعرافين حين لا يجدون جواباً عن تساؤلاتهم! !
البارابسكيولوجيا.. الوجه الآخر العصري:
على الرغم من أن العالم اليوم يتجه إلى العلوم التطبيقية والاختراعات المذهلة
التي تقفز بالإنسان العصري مسافات واسعة نحو التطور والرفاهية، فما يزال وفي
كل مكان من العالم أناس يعتقدون بقدرة السحرة والمشعوذين والعرافين على استقراء
الغيب واستحضار الأرواح وتحقيق المعجزات، شأنهم في ذلك شأن القدماء الأولين
ذوي القدرات العقلية البسيطة والساذجة، بل حتى في الدول التي تعتبر علمانية
وملحدة نجد هذا الامتداد الأعمى للعرافة والشعوذة.
ففي أمريكا مثلاً صدر كتاب منذ سنوات بعنوان: (عرّافة البيت الأبيض)
يتحدث عن العرافة التي رافقت الرئيس الأمريكي السابق (ريغان) طوال فترة
رئاسته، وقامت بدور (المستشار) الخاص بالرئيس، ويقال إن ريغان كان يثق
بها ثقة كبيرة، ويأخذ برأيها في كل أموره الخاصة والعامة، كما لم تكن الحال لدى
رؤساء الاتحاد السوفييتي السابق أفضل منها في أمريكا؛ إذ إن حياتهم لم تخل يوماً
من العرافات، من بريجينيف وصولاً إلى غورباتشوف الرئيس السوفييتي الأخير.
وفي باريس عاصمة فرنسا أكدت دراسة نشرت مرافقة لمعرض وندوة
(الطب الطبيعي وفنون التعرف على المستقبل) أن عشرة ملايين فرنسي يترددون
على العرَّافات بحثاً عن حلول لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وبينت
الدراسة أن (4800) عرافة تتلقى طلبات الفرنسيين إما مباشرة أو عن طريق
الهاتف بينما «يتعدى عدد العرافات في فرنسا عدد الأطباء النفسيين البالغ
(4300) طبيب! !
وفرنسا اليوم تعتبر موطناً لما يعرف بعلم (البارابسيكيولوجيا) وعلم الفلك
(التنجيم) ! وسواها، وقد أحصي فيها حسب آخر دراسة (50) ألفاً ممن يمتهنون
السحر والشعوذة بالإضافة إلى العرافين، منهم (40) ألفاً مسجلون في دوائر
الضرائب.
وقد تعدّت مجالات عمل هؤلاء الوسطاء الروحيين لتشمل التكهنات بالأرقام
السرية لحسابات طغاة مثل رئيس زائير السابق (موبوتو سيسي سيكو) أو نظيره
الفلبيني (فرديناند ماركوس) . ففي المؤتمر الدولي للوسطاء الروحيين وأصحاب
البصيرة الذي عقد في جنيف قبل سنتين تقريباً وحضره (500) منهم، قالوا إن
خزائن البنوك تنفتح أمامهم ليلقوا نظرة على ما بداخلها؛ وذلك عن طريق أوراق
اللعب والبندولات، وأحياناً عبر الحملقة في عيون الزبائن، وقد هتفت الوسيطة
الفرنسية إرلين:» أرى خزانة باتجاه لوزان، أرى بنكاً يواجه بحيرة جنيف،
يوجد في الداخل سجاد أحمر ومصرفيون قلقون «حملقت في الأفق أكثر بعينيها
الزرقاوين وأكملت:» أرى طائرة، وعلى المهبط أرى أناساً كثيرين يأتون إلى هنا
ليخرجوا نقود (موبوتو) ، أي امرأة زائيرية «، أما الوسيط الفرنسي جوليان فقد
حملق في ورق الجدران وكأنه يبحث عن الإلهام ثم هتف:» الأموال لن تجلب
السعادة للبنوك السويسرية «.
ربما استطعنا إيجاد العذر - الذي ذنبه أقبح منه - لتلك الدول بسبب الفراغ
الديني والروحي الذي يعيشه الغالبية منهم، ولكن ماذا سنقول في العالم العربي
والإسلامي الذي يتمثل هذه الصورة ويؤمن بهذه السذاجات؛ فالأمور الغيبية
الخارجة عما أخبر به الله ورسوله منها ما زالت موجودة بيننا، بل وتتطور في
العديد من الأمكنة، العرافات والدجالون هنا وهناك يجوبون القرى والمدن،
مكشوفين أحياناً، وأحياناً متسترين، يبصرون بالكف والفنجان، ويضربون بالمندل
وينجمون، ومنهم من يقنع زبائنه بلباقة وحنكة بقدرته على استحضار الأرواح
ومعالجة الأمراض المستعصية، ورغم المحاولات الهادفة التي تقوم بها بعض
وسائل الإعلام في محاربة هذه الظواهر المتخلفة، إلا أنها ما تزال تمارس في كل
مكان.
ففي مصر أحصي أكثر من (1000) كتاب لتعليم الدجل والشعوذة، يتم
ضبطها في القاهرة وضواحيها، كتب حمراء وصفراء ... سطورها وطباعتها
الركيكة صارت أداة مشتركة لمحترفي النصب؛ لأنها - كما يبدو - أُعِدت وألِّفت
خصيصاً لمن يرغب في امتهان الجهل.
من هذه الكتب (بحر بارنوخ) ، و (السحر الأحمر) ، و (الكباريت في
إخراج العفاريت) ، و (دليل الحيران في إخراج الجان) ، والكثير من الكتب
الأخرى التي حملت عناوين بعيدة كل البعد عما يدل على السحر والشعوذة خوفاً من
الرقابة مثل كتاب (شمس المعارف الكبرى) ، و (منبع الحقائق الكونية) وهي
في حقيقتها قواميس لحرفيات وطرق التعامل مع العفاريت والسحر وتسخير البشر
والسيطرة على إرادتهم.
وتحمل لنا بعض وسائل الإعلام - وللأسف - الأنباء والأخبار عن المنجمين،
وكأنهم أبطال قوميون وشخصيات مرموقة في الدولة، وليس غريباً أن تعرض
لكتبهم الجديدة في السحر، وقدرتهم المتزايدة على المعرفة وقراءة المستقبل، ناسين
أن هؤلاء المدعين ما هم إلا أناس مثلنا، يصيبهم ما يصيبنا، ويمتهنون هذه المهنة
من أجل لقمة عيشهم كما يمتهن الممثل التمثيل والمذيع المقابلات، وأنهم لو كانوا
يتمتعون بالفعل بما يدعون لاختلفت أوضاعهم ولكانوا في حرز مما يصيب الناس
بسبب معرفتهم المسبقة للأحداث، ولاكتفوا بقوتهم وجانِّهم وعفاريتهم عن العمل
والتأليف والمقابلات.
ليس غريباً أن نسمع الآن بأن كتاب (الأبراج) لماغي فرح، والذي يصدر
كل عام في لبنان يحطم الأرقام القياسية في مبيعات الكتب لمعارض الكتب العربية،
ومثله كتاب جديد صدر منذ عام تقريباً يحمل عنوان: (فراسة السماء) ، وهذا
ربما يكون مؤشراً على أن علم البارابسيكيولوجيا سوف يدخل عالمنا العربي السعيد،
ليصبح لدينا في يوم من الأيام مؤتمر عربي للدجل والشعوذة..! !(158/128)
متابعات
نقد مقال قراءة في الذهنية السلفية
د. عبد الله بن صالح العلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فقد نشرت مجلة البيان في عددها (156) قضية للمناقشة بعنوان: «قراءة
في الذهنية السلفية» للكاتب الأستاذ نواف الجديمي، وقد أحسن الكاتب في اهتمامه
بالنقد الذاتي لمناشط السلفيين، فهذا النقد ومحاسبة النفس أمر متقرر شرعاً،
والحوار العلمي الجاد وسيلة من وسائل البناء والتصحيح، كما أحسنت مجلة البيان
في قبولها لهذا النقد الذي يتوجه إليها ابتداءاً.
وثمة تعقيبات على بعض ما نشره الأخ الكاتب نواف - وفقه الله للصالحات-
أسوقها على النحو الآتي:
أولاً: ذكر الكاتب أن هذه المآخذ والإشكاليات تسود غالب الاتجاهات السلفية
المعاصرة، وهذا تعميم خاطئ؛ فالكاتب لم يحدد هذه المعاصرة لا زمناً ولا مكاناً
ولا حالاً، ولا سيما أن الكاتب أشار إلى قصور استقرائه ومحدودية تجربته.
ثانياً: ذكر الكاتب الفاضل ثلاث ملحوظات رئيسة في قراءته للذهنية السلفية،
وأحسب أن هذه الملحوظات توجد بنسب متفاوتة في التيارات الإسلامية الأخرى،
وتخصيص السلفيين بها لا يخلو من نقد ومراجعة، وخاصة أنه قد يشعر القارئ بأن
الكاتب يرى بأن هذا ممَّا تفرّد به السلفيون دون غيرهم..!
ثالثاً: قرر الكاتب أن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة المعلومات
ويهمل دائرة الأفكار، وأن السلفيين يهتمون بالحفظ ويهملون الفكر، وأن من حفظ
الكتب الستة فله شأن عندهم دون من تضلع في أصول الفقه.
وأحسب أنه لا يخفى على الكاتب الفاضل أهمية حفظ نصوص الوحيين، وأن
ذلك مطلوب شرعاً؛ فقد تواتر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:
«نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه» [1] وهذا لفظ الترمذي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، لا
سيما أن العرب قد خُصوا بالحفظ، وهذه الأمة موصوفة بأن إنجيلها في صدورها.
وكما قال الخليل بن أحمد - رحمه الله -:
ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
ولماذا يفترض الكاتب أن حفظ السلفيين للمعلومات كحفظ الحاسب؟ وهذا
قياس مع الفارق لمن له أدنى فكر وتأمل!
وها هو ابن عباس - رضي الله - عنهما وقد طُبع على الحفظ كان يكره
كتابة العلم، ومع ذلك فقد كان له من الإشراقات والفتوحات في التفسير ما لا
يحصى، كما كان صاحب مناظرات قوية مع الخوارج ونحوهم من أهل الأهواء،
فما كان هذا الحفظ إلا سبيلاً لنشر العلم و «المعلومات» الأصيلة، وإفحام
المخالفين، وحل المعضلات.
فلا إشكال في حفظ النصوص الشرعية، لكن الإشكالية أن يقتصر على الحفظ
مجرداً عن الفهم والفقه، ولو أن الكاتب عني بهذه الإشكالية، وطالب بإيجاد برامج
عملية لاستنهاض الفهم وتنمية ملكات التفكير والتجديد والإبداع لكان أليق وأنسب.
ولما هوّن الكاتب من شأن المعلومات هوّل من شأن الأفكار، وأقول للكاتب:
لماذا هذه التفرقة والانفصام بين المعلومات والأفكار؟ وهل يمكن أن تتأتى
الأفكار إلا بمعلومات، ولا سيما أن كل إنسان حارث ومفكر، كما قال صلى
الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام» ؟ [2] . ثم ألا ترى معي
أن الأفكار المجردة عن المعلومات الراسخة تؤدي إلى الخلط والاضطراب؟!
فالمعلومات والأفكار متلازمة لا ينبغي الفصل بينها. فالمعلومات أساس
الأفكار، والأفكار ثمرة المعلومات.
ولعل مقصود الكاتب أن بعض السلفيين أهملوا كتب الفكر واشتغلوا بالكتب
الشرعية، وأحسب أن العناية بكتب الفكر كانت في مرحلة سابقة، عندما كانت
الاشتراكية والقومية ونحوها من المذاهب المادية التي تشكك في الإسلام وتطعن في
الغيبيات رائجة في حقبة زمنية ماضية حيث ظهر - ولله الحمد - من كتابات
المفكرين الإسلاميين من يذبّ عن دين الإسلام ويفنّد شبهات الخصوم، كما هو
ظاهر في كتب سيد قطب والمودودي - رحمهما الله تعالى - ومحمد قطب
ونحوهم.
فكانت كتب الفكر الإسلامي الأصيل ضرورية تجاه تلك الأفكار المنحرفة،
وكما فعل من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما واجه تلك الأفكار
الفلسفية والكلامية والصوفية باللغة والأسلوب الذي يفهمه أولئك، فأظهر الحجة
عليهم وكشف ضلالاتهم، ومن المناسب أن نورد ما يقرر ذلك من كلامه - رحمه
الله -: «ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في
المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين في تحصنهم وتسلحهم على صفة غير الصفة
التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي
مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا
والآخرة ... إلخ» [3] .
وأحسب أن هذه الصحوة المباركة قد ارتقت - نضجاً وعلماً - بدءاً من الكتب
الفكرية الأصيلة في تقرير الثقة بالإسلام والرد على أعداء الإسلام إلى الاشتغال
بالعلوم الشرعية في تقرير منهج السلف الصالح والرد على المبتدعة إلى غير ذلك؛
فما كان للسلفيين أن يحقروا الكتب الفكرية الإسلامية الأصيلة وهم يقررون قبول
الحق من كل شخص ولو كان كافراً، وها هو العلاَّمة ابن باز - رحمه الله - يقرأ
كتاب (النظرية السياسية) للمودودي رحمه الله مقرراً له [4] ، وها هو العلاَّمة
الألباني - رحمه الله - يورد كلاماً طويلاً لسيد قطب - رحمه الله - في مقدمة كتابه
(مختصر العلو) للذهبي.
رابعاً: ادعى الكاتب أن السلفيين لا يعرفون جملة من المذاهب الفكرية
كالقومية العربية والماركسية والبعث العربي.. وأما آخر النظريات الفكرية فإن
غالب النخب السلفية لم يسمعوا بأسمائها فضلاً عن دراستها، هكذا قال الكاتب -
هداه الله -.
ويبدو أن الكاتب كان يتحدث عن هذا المأخذ وقد انقدح في ذهنه نمط محدد
من السلفيين، وليس من العدل أن يُحكم على جميع السلفيين أو غالبهم من خلال
الحكم على طائفة منسوبة إليهم، وإلا فكيف غاب عن الكاتب جهود الأستاذ محمد
رشيد رضا الإصلاحية ضد الأفكار المنحرفة؟ وأين جهود العلاَّمة عبد الرحمن
السعدي تجاه الملاحدة كما في رسالتيه: «انتصار الحق في الرد على الملاحدة»
و «الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين» ؟ بل كتبَ الشيخ
السعدي لمحمد رشيد رضا رسالة يؤكد عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على
الملحدين.
وأين إنجازات سيد ومحمد قطب في مواجهة التغريب والمذاهب المادية ومشكلات
الحضارة؟ وأين مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - في الرد على
المذاهب الأدبية والفكرية كما في مؤلفاته أمثال: (الاتجاهات الوطنية في الأدب
المعاصر) ، و (حصوننا مهددة من الداخل) ، و (الإسلام والحضارة الغربية) ؟
وأين مواقف العلماء تجاه الغزو التشريعي والتشكيك في تحكيم الشريعة مثل ما كتبه
الشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والعلاَّمة محمد بن إبراهيم آل
الشيخ، والشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمهم الله -؟ [5] .
وتأمل ما سطره العلاَّمة السعدي (ت 1376هـ) في الرد على تلك الدعوى:
«قد عُلِمَ من قواعد الدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل
لها أحكام المقاصد ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية والتوقي
لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم، وخصوصاً
السياسة الموجهة منهم للمسلمين؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع
وعدم الوفاء واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد؛ فجهل المسلمين بها
نقص كبير وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي
إليها نفع عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون كيف يقابلون كل
خطر» [6] .
ولا يزال باحثو أهل السنة وعلماؤها - في هذه السنوات الأخيرة - يسطرون
الكتب والرسائل العلمية تجاه جملة من الأفكار الوافدة [7] .
لا شك أننا - معشرَ السلفيين - نعترف بتقصير وإهمال تجاه جملة من
النوازل الفكرية المستجدة، ولا يخفى أن ثمة فرقاً بين الاعتراف بهذا التقصير وبين
أن يظن أن السلفيين إنما تركوها تديناً بهذا الترك والإهمال. وأحسب أن هذا
التقصير ليس خاصاً بالسلفيين وحدهم، بل هو مشكلة قائمة عند معظم التيارات
الإسلامية!
وأما انتقاد الكاتب السلفيين لعدم دراستهم الديمقراطية، والدراسات البنكية،
وعلم النفس..!
فأقول: وهل يتعين على السلفيين أن يدرسوا كل القضايا النازلة ولا سيما أنها
قد درسها غيرهم وبطريقة صحيحة [8] ، والحق ضالة المؤمن؟ أم يريد الباحث أن
تؤلف مؤلفات عن موقف أهل السنة من الديمقراطية؟ وما الفرق بين هذا العنوان
وبين: موقف الإسلام من الديمقراطية؟ ولا سيما أن ثمة كتابات ومؤلفات في هذا
الصدد، وأما الدراسات البنكية والبدائل الشرعية فهي موجودة، ولكن هل ترك لنا
عقيل من دار؟
وعلى كلٍّ فيبدو أن الكاتب يحتاج إلى مراجعة لنتاج أهل السنة قبل أن يصدر
هذه الأحكام. كما أن جملة من الإشكالات الواردة جاءت كرد فعل من الكاتب تجاه
بعض الممارسات الخاطئة لفصائل من أهل السنة، كما أن بعض إشكالاته قد
عالجها بما يقابل تلك الإشكالات؛ والانحراف انحراف على كل حال، والخطأ لا
يعالج بالخطأ مثل كلامه عن عداء الكفار للمسلمين ورغبته في تحريره واقعاً دون
مجازفة، مع أن من بدهيات هذا الدين أن عداء الكفار للمسلمين أصل ثابت ومحكم،
وما قد يقع خلاف الأصل فهو لمصالح وملابسات لا تشكك في هذا الأصل.
وأما عقدة المؤامرة عند السلفيين فقد توجد مبالغة عند بعضهم، لكن هذه
«العقدة» ، لم تكن ردة فعل تجاه السذاجة وحسن الظن بالأعداء عند الكثير
من المسلمين، بل كانت حصيلة أحداث ووقائع، ومع ذلك كله فلا حاجة إلى
تهويل المؤامرة أو تهوينها.
ختاماً: ينبغي التأكيد على أن الحوار الجاد والنقد العلمي البناء مطلب مهم من
المطالب الشرعية التي يجب التأكيد عليها، والتعاون في إشاعتها، ولهذا أشكر للأخ
نواف حرصه على النقد والتصحيح، وأرجو أن يتسع صدره لنقد النقد؛ وهذا هو
حسن الظن به إن شاء الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم.
__________
(1) أخرجه أحمد، (3/225) ، والترمذي في كتاب العلم، ح/7.
(2) أخرجه أحمد، ح/ 18258.
(3) مجموع الفتاوى، 4/107.
(4) ذكر الشيخ مسعود الندوي (ت 1373هـ) لقاءه بالشيخ ابن باز سنة 1368هـ وأن الشيخ ابن باز أفاده بأنه قرأ كتاب (النظرية السياسية) للمودودي، وأبدى الشيخ ابن باز اعتراضه على قول المودودي في الآية الكريمة: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] (الحديد: 25) بأن معنى الحديد هنا القوة السياسية ثم قال الشيخ: يمكن أن يكون الأصل قوة أساسية ثم جاءت الترجمة «قوة
سياسية» ، فقال الشيخ مسعود: في الأصل قوة سياسية والمترجم التزم الأصل فقال ابن باز: حسناً، هذا أمر يسير، لا أثر له على كتابه الأصلي انظر كتاب (شهور في ديار العرب) لمسعود الندوي، ص50.
(5) قد يظن بعض القراء أن ثمة تساهلاً في إطلاق السلفية على بعض المذكورين ك «محمد رشيد رضا، وسيد قطب» - رحمة الله عليهم -، ولا يخفى أن الأستاذ محمد رشيد رضا لا يخلو من نزعة صوفية سابقة، كما أن عنده لوثة عقلانية، كما أن سيد - رحمه الله - لا ينفك عن بعض الهنات اليسيرة التي صوبها بعض العلماء ونبهوا علىها ولم يغمطوا للرجل حقه، وفي الجملة فإن المآخذ على هذين العلمين لا تخرجهما عن دائرة أهل السنة، فلم تكن مخالفتهما فيما أحسب لقاعدة أو أصل كلي من قواعد الدين وأصوله، كما حرر هذه المسألة الإمام الشاطبي في الاعتصام.
(6) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين، ص: 13.
(7) انظر مثلاً: العلمانية، للحوالي، ومصادر المعرفة في الإسلام، لعبد الله القرني، والانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر، لسعيد الغامدي وغيرها كثير.
(8) درس بعض باحثي أهل السنة الديمقراطية كما في كتاب الثوابت والمتغيرات، للصاوي وبنود وسراب الديمقراطية، للرحال، وغير ذلك.(158/132)
متابعات
قراءة في جدارية محمد الدرة لمحمد السلام
وعلى اليهود السلاح
سليمان بن عبد العزيز الربعي
كانت صورة محمد جمال الدرّة وهو يقضي نحبه بسيل رصاص الحقد
اليهودي محتمياً بأبيه والجدار وحاوية النفايات، ناطقة بأكثر من مشهد، مؤكدة على
أكثر من معنى، منتجة لما لا يحصى من الدلالات، لقد أسمعتنا تلك الصورة -
رغم أنا وضعنا أصابعنا في آذاننا - صوت صراخه المستغيث يصدع جدار صمتنا
الطويل، وعكست على مرآتنا - رغم صقلها البديع لميع عينيه بالذعر الرهيب
يشرخ صفاء عيشنا الرغيد، واختصرت جغرافيتنا رغم فضائنا الفسيح - بتلك
المساحة التي ضاقت عن جسمه النحيل، لتبلغ القلوب منا الحناجر، فتضيق علينا
الأرض بما رحبت، وتضيق علينا أنفسنا.
كان الأب أمامَ (محمد) الضائع يتحسسه - كما تتكلم الصورة - بصدى
العويل المفزع، والتصاق الجسد بالجسد، وكان في الجدار الذي يستندان إليه حلم
الدفء بحضن الوطن المنتهك، ونصرة الأمة المغيَّبة، في حين كانت الحاوية رمزاً
لوأد الحقيقة والحلم معاً، فما هي إلا لحظات بمقاييس الزمن، الدهر كله عند محمد،
حتى دمدم الرصاص في الجسد الغضِّ، ليغفو في حضن والده موتاً، منكفئاً
بوجهه إلى الأرض، قد وضع يديه على عينيه كأنه يسترهما عن عارنا، في حين
استحال الأب إلى فسيفساء من ذهول، وما سلم الجدار؛ فكأنه الآن يريد أن ينقضّ،
وبقيت الحاوية شاهداً غير عدل! لقد كانت صورة معبِّرة بحق، وربما بأكثر مما
يحب المهرولون، تراجيدية بأكثر مما يجب بحسب شروط السلام، بل كان في
صدقها الذي لم يكن لمحمد فيه اختيار ما يدعو جمعيات الطفولة في العالم الأول
للاحتجاج على عرضها خشية تأثيرها على نفسيات الناشئة المتمدنة فتعيق فألهم
المنفتح على غد سعيد جديد! !
لقد قيل: إنها قد هزّت - لبشاعتها - مشاعر العالم! والسؤال الأدنى: وأي
صورة لأهل الأرض المباركة في يومياتهم مع يهود تحمل غير البشاعة: إزهاقاً،
واستحياءاً، إذلالاً؟ ! كما أن السؤال «الأقصى» : وأين هو ذلك العالم المهزوز
بالصورة عن حسّ الواقع لإقرار قيم الإنسانية المجردة في أبسط مظاهرها الفطرية:
دفعاً للظلم ونصرة للمظلوم على أرض الأقصى؟ وإذ يدرك المرء ارتباط النصرة
بمفهوم أعمق من مجرد عواطف آنية إن وجدت؛ إذ هو متصل بالهويات
العقدية في أخص مضامينها المشتركة، فليس القصد ألا نعي إخفاق مدنية القرن
«الجيني» في تطبيق معايير المجتمع المدني الذي تدعو إليه، والتي من أهم
بنودها: احترام الإنسان بوصفه قيمة مجردة بحقوق تبدأ ولا تنتهي! ! كما أن القصد
المراد: لفت نظر هذه الأمة إلى أن طبيعة الصراع مع يهود تتجاوز المحسوس
في مداه المهم إلى الأهم شعوراً بالهوية؛ في سبيل إعادة إنتاجها في صور
انتمائية إيجابية تسعى إلى تحقيق شروط النصر، سواء كانت شروطاً كونية
متعلقة بالاستعداد والقوة، أو شروطاً أخرى شرعية تتعلق بتجديد الصلة
بالله - تعالى - وصدق الالتجاء إليه.
فهذه الصورة التي تسابقت لبثها شبكات التلفزة لا تحكي - فقط - قصة القهر
الممنهج الذي يتعرض له الشعب المُعاني هناك صباح مساء، ولا تعكس فحسب
صورة ناجزة لهوان أمة كانت تنتصر في سالف الحقب لصيحة عفيفة لُطمت
بإحراق الأرض ومَن عليها! ! وإنما تكشف فيما هو أبعد من ذلك وأدل طرفاً من
نتائج تيهنا الطويل أكثر من نصف قرن من الزمان هي عمر قضيتنا المركزية كما
اعتدنا أن نقول، بُعداً عن مصادر التمكين، وخللاً في المناهج، وتغييباً لذاكرة
العزة التي لم تزل تلحّ علينا بحقيقة أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، وأنه ما ترك
قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا.
وحقاً؛ فأي ذلّ أمكن من هذا الواقع الذي يتفرج فيه مليار مسلم - فيما يقال-
على المسرى المحرم، ثالث المسجدين، وأولى القبلتين، وهو نهب لأرجاس
إخوان القردة، فلا يملكون من أمرهم سوى الشجب والتنديد؟ أم أي عار أخزى من
مقابلة شلالات الدم الزكي بالبيانات المجردة، وزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله
من إراقة دم مسلم؟ !
لقد قضى محمد الدرّة نحبه بثنتي عشرة سنة لم يعشها - كما هم أطفال العالم
من حوله - معطرة الأمل، وردية الحلم، وإنما هي ثنتا عشرة سنة «خريفية»
الهول «شتوية» الأنين، «صيفية» الهجير، «ربيعية» الوهم! ! فما أدري-
بعدُ - أقضى جزعاً عليها أم منها؟ ! غير أنه قضى وما زالت أمه تسترق النظر
عبر الباب تنتظره! قضى بالرصاص وما زال قلم الرصاص في مبراته، وفي
كراسه بقية من واجبات لم يتمها! قضى ولما يزل أقرانه في المدرسة ينظرون إلى
كرسيه الشاغر فيعجبون لجرأته على الغياب! ولئن غيَّبت هذه الصورة الرمز في
نفوسنا معنى التراتب المنهجي والعقلي في تناول قضايا أمتنا، فلم يعد لغير العاطفة
صوت وهو أضعف الإيمان فلا أقل من تأكيد دلائل الشرع، والعقل، والواقع على
إخفاق مشاريع «السلام» الطافحة بهوان التنازل حتى عن سلاح الموقف، وكذا
تأكيد أنه لا حل إلا بالجهاد الذي هو ذروة سنام الدين، ليقول الحجر والشجر: يا
عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله. لقد طال انتظارنا سيفَ خالد الذي
نستمطره في الغدو والرواح:
يا ابن الوليد ألا سيفاً تؤجره ... فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا! !
فجاء سيف آخر صقيل، هو سيف صلاح الدين الذي عُرِضَ للبيع - حسب
إعلان - في إحدى الصحف بتاريخ 16/5/1421هـ من هذا العام، فلم نحتج إلا
إلى شهرين من هذا التاريخ، كي نعرف أن له أصحاباً هم به أحفل، وهو إليهم
أنمى وأقرب، بعد أن تحاشى ثمنه «الغالي» آخرون، حيث استلمه طيب الذكر
والنشر محمود أبو هنود مؤكداً به جُبن يهود، وأنهم لا يقاتلون جميعاً إلا في قرى
محصنة أو من وراء جُدُر، بهذا السيف الذي هو سيوف يورق الأمل، ويستعيد
محمد ابتسامة شروق، ويبلغ أبناء الحجارة سنيّهم الأشد ليقيموا جدار محمد الذي
يريد أن ينقض، ويستخرجوا من تحته كنز الجهاد، والتمكين، والفتح، وهو فأل
محمد ومدلول اسمه. نعم مدلول «محمد جمال الدرّة» ؛ إذ الجهاد إرث النبوة
«المحمدية» وفي التمكين سيادة قيم الدين «الأجمل» ، وبالفتح تعود القدس
«درّة» مطهرة كما أراد الله لها أن تكون. هذه مفاهيم السلام في دين الله، فعلى
محمد سلام، وعلى اليهود السلاح.(158/136)
المنتدى
التنظيم في العمل الدعوي
أحمد بن محمد أشرف
العمل الدعوي مجال مفتوح، له طرق ووسائل عدة، الابتكار فيه لا مانع منه،
واستخدام بعض الطرق والوسائل التقليدية مشروع أيضاً؛ وذلك وفق ضوابط
وأصول متفق عليها من قبل الدعاة بناءاً على أسس الشريعة الإسلامية الراسخة،
ولكل داعية أسلوبه وطريقته.
لكنه من الملاحظ أن هناك آفة قد استشرت في بعض الصفوف، تلك
الصفوف التي يحرص أصحابها على الكسب الذاتي؛ فهم يحرصون على كسب
أكبر عدد من المدعوين، وهذا واقع حاصل، والآفة التي يقع فيها هؤلاء كثيراً هي
ما أسميه تجاوزاً: (الفوضى الدعوية) ؛ حيث يقوم كل واحد منهم بالتوجه إلى
شخص واحد، فيتوجهون كلهم إلى الشخص نفسه، ويبدأ كل منهم بسلوك أساليبه
وطرقه الدعوية معه، وأسباب توجههم له بهذا الشكل عديدة مثل حرصه على
المحافظة على الصلاة، أو حسن أخلاقه، أو أنه في بداية طريق الانتكاسة،
فيعملون كما سلف كل بحسب أسلوبه وطريقته، ويحرص كل منهم على أن يكون
التزامه واستقامته على يده، ويعمل على أن يضمه لمجموعته، وما إلى ذلك،
وبهذا يقومون بالهدم لا البناء، فلا يجد أحدهم غضاضة في التحذير من فلان ولو
بطريقة غير مباشرة ليكسبه هو في صفه، ولا مانع عندهم أيضاً من التصادم الذي
قد يبدو كله أو شيء منه أمام المدعو، إضافة إلى ما يحصل من هدم بسبب
الاختلاف في الطرق والوسائل الدعوية تبعاً لاختلاف وجهات النظر، وفي هذه
الحالة فإما أن يكون المدعو ذكياً ويصادمهم بعضهم ببعض، وإما أن يأخذ كلامهم
ويضرب به عرض الحائط، وإما أن يجامل الجميع فيصبح مذبذباً، وإما.. وإما..
وعندئذ يكونون كالمنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، حرصوا على الكسب
لحساباتهم الذاتية، فهدموا، أو جعلوا أساس البناء هشاً إن لم يهدموه.
وهذه الآفة علاجها سهل يسير، وهو أن يحرص كل من يعمل في المجال
الدعوي على نقاء النية وإخلاصها لله، إضافة إلى الوعي بأهمية العمل المنظم
المنسق، وهذا جانب مهم في العمل الدعوي، وهو أن هذا المجال يحتاج إلى تنظيم
وتنسيق وتضافر وتعاون، لئلا يحصل الهدم دون شعور، ونكون كالتي نقضت
غزلها من بعد قوة أنكاثاً.(158/138)
المنتدى
بناء جيل
حمود بن عبد الرحمن الصايل
لكي تقوم الأمة الإسلامية من رقدتها وتعود إلى مجدها وعزتها لا بد من بناء
جيل جديد بعد تجديد بناء جيل حالي، جيل أهدافه محددة واضحة، جيل يتجدد في
فكره وعواطفه، جيل لا يخرج بمنهجه من إطار هذا الشرع القويم، جيل يتجدد
عند كل خطأ. وهمته لا تتغير في هذه الحياة مع مرور الأيام وعند التعثر بالعقبات،
لا يعرف الرضى بالعجز ولا يقع نهبة لليأس، جيل لا ينخدع بالمظاهر ولا
بالمناصب، يعرف متى يتكلم وفي أي شيء يتكلم، وما فائدة هذا التكلم، ويعرف
متى يسكت وما فائدة سكوته وما ضرره؟ ويكون معيار سكوته هذا الدين القويم. لا
يكون خاوي الجعبة من العلوم، يعرف من أين يصعد؟ جيل يعرف كيف يتعامل
مع النصوص وإذا كان لا يعرف فإنه يتعلم، جيل يؤمن بهذه الآية حقيقة الإيمان:
[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] (النحل: 125) يعرف ما هو
الإيمان؟ يضع نصب عينه قوله - تعالى -: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال: 39) . جيل يوظف طاقاته كلها بلا استثناء،
باختلافها من شخص لآخر ومن جماعة عن جماعة ومن طبقة عن طبقة في خدمة
هذا الدين الشامل لجميع شؤون الحياة، لا بد لهذا الجيل باختلاف أشخاصه وطبقاته
وجنسه أن يعرف من أين يبدأ، وأي طريق يسلك؟ عندها وعندها فقط يصبح كل
فرد في هذا المجتمع له دور فاعل، عندئذٍ نعرف أخطاءنا السابقة التي نعتقد أن
بعضاً منها نفعله على صواب، في هذه الأثناء نجد أننا وضعنا بعض أخطائنا
طويلاً على شماعة اسمها الغرب. عندها نسترجع مجدنا وعزتنا بإذن الله.(158/138)
المنتدى
الفجر الجديد
محمد بن سعيد حجاب
في غمار هذه الفتن والمحن المتلاطمة وما يُلاقيه المسلمون من ألوان
العذاب والنكال في كل بقاع الأرض لا ترى مسلماً إلا ويذوب قلبه ويتفطر مما
يرى من تسلط الأعداء من حوله، ومما يرى من تخاذل المسلمين ونكوصهم عن
نصرة إخوانهم؛ ففي هذا العقد خصوصاً ظهرت أبشع العداوات السافرة
والحروب الضارية التي اصطلى المسلمون بنارها في كل مكان، ولك أن تنظر
إلى هؤلاء اللاجئين والمشردين لترى في وجه كل واحد منهم صفحة تقرأ في
سطورها كل معاني الفقر والفاقة والجوع والحرمان؛ فلكل مهاجر قصة، ولكل
لاجئ حكاية، ولكل أسرة ألف حكاية وحكاية.
نعم! فلقد أصبح جسدُ هذه الأمة جسداً مُثخناً بالجراح؛ فعن أي شيء أتحدث
يا أمتي؟ أأتحدث عن مستنقعات الدماء وكأنك ترى مذبحاً بشرياً؟ أم أتحدث عن
مصيبة هذه الأمة حين فارقت دينها وجهلت حدود ما أنزل الله على نبيها صلى الله
عليه وسلم؟ أم أتحدث عن مُصابها الفادح حينما حاربت دُعاة الإسلام ووصفتهم
بالتطرف والإرهاب والشطط الفكري؟ وهنا قد يتساءل سائل: ولكن أما لهذا الليل
من فجر قريب؟ فأقول: نعم فعما قريب إن شاء الله يبزغ فجر، وتعلو رايات أمتنا،
ويشهد الكون نصر دعوتنا وقيام دولتنا. قال - تعالى -: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (المجادلة: 21) . نعم! فإن ما نراه من حولنا
يوحي بأن هناك جولة جديدة للإسلام بإذن الله يغير الله بها هذا الواقع المرير الذي
يحكم الأرض، ويستبدل به صفحة مشرقة يعيش الناس في ظلها، ولسوف تملأ
الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والله الفعال لما يريد، وبالرغم من وجود
كثير من المعوقات إلا أن المبشرات أقوى منها وأجدر أن تكون هي صاحبة الكلمة
الأخيرة.
فنحن نرى أن الحرب التي خاضها الأعداء ضد الدعوة الإسلامية لم تكن
لتوقف هذا المد الإسلامي الذي يثبت جذوره في كل أنحاء المعمورة؛ فنحن أمة
يحركها قدر الله، ويقودها كتاب الله، ويجدد معالم طريقها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والمبشرات بنصر هذا الدين كثيرة تجيء في مقدمتها آيات الذكر
الحكيم، وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك قوله
تعالى: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]
(غافر: 51) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون
اليهود فيقتلهم المسلمون» [1] ، وغيرها من الآيات والأحاديث الصحيحة التي تبشر
بنصرة هذا الدين، ولكن ينبغي للدعاة ألا يركنوا، وعليهم أن يتوقعوا مزيداً من
المحاربة والبطش؛ فعليهم التسلح بالإيمان، وعلى الصحوة كذلك أن تحاول كسب
قلوب الناس لمناصرة الدعوة، وأن تكون قادرة على الالتحام بالمجتمع، وعليها
أيضاً أن تكون قادرة على التفكير الإيماني. وعلى التيارات الإسلامية أن تحذر من
مغبة التشرذم والتفرق، ولتتعلم كيف تختلف دون أن تفترق وتتخاصم، وعلى
المسلمين أن يستيقظوا من سباتهم العميق، وليعملوا على تغيير ما بأنفسهم حتى
يُمكِّن الله لهم دينهم، ويُعيد إليهم دورهم السالف؛ مصداقاً لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر إلا أدخله هذا الدين» [2] .
__________
(1) رواه البخاري من حديث أبي هريرة (6/261) .
(2) رواه أحمد في المسند عن تميم الداري، (4/103) والألباني في السلسلة الصحيحة، (1/ 7) .(158/139)
المنتدى
أزيزُ الحقد زاد
مبارك عبد الله المحيميد
كلمات من وحي صورة الفتى محمد جمال الدرة وهو في حضن والده.. لم
يسعفه الوقت لكتابتها..
حكاياتي حكاياتٌ ... من الألمِ.. ومأساةُ
تكدَّرتْ الحياةُ وك ... ان ملء النفس ضحكاتُ
وكان لديَّ في الآم ... ال حاجاتٌ وحاجاتُ
وجاء عليَّ يومٌ كلُّ ... هُ غضبٌ وويلاتُ
جنودٌ ها هنا صفُّوا ... وخلف الصفِّ قوَّاتُ
كلابٌ من بني صهي ... ونَ تلحقني وتفتاتُ
إلى أن صدَّني وأبي ... سدودٌ أو بناياتُ
أصيحُ:.. أبي وماذا قد ... تفيدُ اليومَ صيحاتُ
أبي:.. ويضمني فزعاً ... وملءُ الصدر آهاتُ
أزيزُ الحقدِ زادَ وسُدِّ ... دتْ فيَّ الرصاصاتُ
أرى عمري يمرُّ وخلـ ... فهُ تعدو النهاياتُ
سلامُ الزُّور تحفظهُ ... لدى الصمت القراراتُ
وتفضحهُ مجازر كُلُّ ... ها حقدٌ وثاراتُ
سلامُ الحقد معناهُ ... حروبٌ أو صراعاتُ
بَنِي قومي ألا حسٌّ ... يَهِيجُ.. ألا انْفعالاتُ
ألا خَيْلٌ تُثيرُ النق ... عَ مُورِيَةٌ مُغِيراتُ
بَنِي قومي لقد تَعِبَتْ ... من الرَّكضِ الريالاتُ
ودِينُ الله يا قومي ... أمانٌ وأماناتُ
سلام الله أبعثُهُ ... تعطِّرُهُ التحيَّاتُ
سلامٌ إنَّ موعدنَا ... بفضلِ الله جنَّاتُ(158/140)
المنتدى
حي على الجهاد
محمد فال بن سيدي
تَأَمَّلْ أخي هَديَ الرَّسُولِ المُعَظَّمِ ... وَلا تَكُ فِي نَهْجِ الضَّلال المذمَّمِ
أترضَىَ بأنْ تبقَى رُبُوعُ بلادنا ... أَسِيرَةَ حُكْمٍ ضَارِبٍ وَمُخَيِّمِ
يسَومُ جُمُوعَ المُسلمين مَذلَّةً ... ويُدْخِلهُمْ في الكفر بالنَّار والدَّمِ
فغابَت عَن الأوطان شِرْعةُ رَبِّنا ... ليَحْكُمَ شَرْعُ الكفر باسْم التّقدمِ
وأصبَحَ أهلُ الحق يَشكُونَ غُرْبَةً ... تَدَاعَى عَليْهِم كل وغد وَمُجْرِمِ
سَنَرْفَع عنا العَارَ بالسَيْفِ جَانباً ... ونمضي على نهج الرسول المعُظمِ
يَقُولُ لَنَا إنَّ الجِهَادَ سَبِيلُنَا ... لِعِز وإنْ حدنَا فَذل التشَرْذُمِ
عَشِقْنا رَصَاصَ العِز يشْدُو بألحُن ... تُزيلُ طغاة الأرض عن كل مسلمِ
سيَشْهد هذا الكون فجرَ خلافَةِ ... تحكم دين الهاشِميِّ المُعِلِّمِ
تُجاهدُ أَعْداءَ الإلَهِ تُذيِقُهُمْ ... لَدَى مَعْمَعَان الحَرْب كأسَ التّحطُّمِ
وَيَغْدُو كِتَاب الله نَهجاً مُحَكَّما ... وَتَحْيَا رُبوع بالعقِيدة تَحّتمِي(158/140)
المنتدى
المبادئ الأساسية للدعوة الإسلامية
عبد السلام سعيد كريم
بالبحث والتأمل يتجلى لنا أن الدعوة الإسلامية دعوة فطرية، ومبادئها
النظرية والعلمية تناسب كل طاقة، وليس فيها إتعاب للفكر ولا قهر للذهن ولا
إرهاق للتصور. سئل أحد الحكماء: لماذا أسلمت؟ فقال: نظرت في الإسلام فلم
أجد فيه أمراً يقول فيه: افعل، ويقول فيه العقل: لا تفعل، وكذلك لم أجد فيه أمراً
يقول فيه: لا تفعل، ويقول فيه العقل: افعل، ولكن وجدت كل ما جاء به من
أوامر ونواه يوافق العقل والشرع، أما مبادئه المحورية الأساسية فهي:
1 - الدعوة إلى عقيدة التوحيد: وهو أن يفرد الله بالربوبية والألوهية
والأسماء والصفات الواردة في القرآن والسنة النبوية من غير تمثيل أو تكييف أو
تعطيل، أو تحريف، تلك العقيدة السهلة التي لا تركيب فيها ولا تعقيد، ولا
غموض ولا إبهام، قال الله - تعالى -: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]
(الأنبياء: 22) .، وجميع الرسل - عليهم السلام - دعوا قومهم إلى التوحيد
الخالص كما جاء في القرآن: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) .
2 - الدعوة إلى عقيدة البعث والإيمان باليوم الآخر؛ وهي ترتبط بعقيدة
التوحيد بأوثق الروابط؛ فالإيمان بإله واحد يستجمع جميع صفات الكمال ويستلزم
الإيمان بحكمته البالغة، ومن الحكمة ألا يسوى بين مؤمن وكافر، وبرّ وفاجر،
ومحسن ومسيء؛ فلا بد من يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت، قال الله - تعالى-:
[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ] (المؤمنون: 115) .
3 - الدعوة إلى الإيمان برسل الله: وبينها وبين العقيدتين السابقتين أقوى
الأواصر وأمتن الروابط، والإيمان بالرسل يقتضي الإيمان بما جاؤوا به من العقائد
والأحكام والكتب، وما جاؤوا إلا بما يصل العبد بربه ويحدد طبيعة علاقة الفرد
بالخلق، ويجلب له الهناءة في دنياه وآخرته: [وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن
قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى]
(طه: 134) .
فيجدر بالدعاة أن يشرحوا الأصول الثلاثة المتقدمة على غرار منهج السلف
الصالح في القرون المفضلة؛ أما بعد تلك العصور المشهود لها فقد نشأت أنواع من
البدع الخلافية والجدل الكلامي والأفكار المتنوعة، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا
بما صلح به حال أولها.(158/141)
المنتدى
شيشان البطولة والصمود
أيمن إبراهيم شحاتة
الدين يأسى وصرح الكفر يزدان ... وأبحر الشعر أتراح وأحزان
بينا نذيع على الأسماع شقوتنا ... جاءت إلينا تحث السير شيشان
جاءت إلينا وقالت عند رؤيتنا: ... أفيكم اليوم أبطال وشجعان؟
ألا ترون صمودي؟ قلت: نشهده ... لكننا اليوم في الأحزان إخوان
أبطال (شامل) باتوا فخر أمتنا ... ومجد دولتنا يبنيه (أصلان)
(خطاب) يحمي حمى الأوطان مصطبراً ... أجناد ربك في الآفاق أعوان
رأيت في عينها شكوى مخبأة ... وطرفها في شعاب الأرض حيران
قالت: وأنتم، فقلت: اليوم عزتنا ... بعد الضياع لها في النفس سلوان
من بعد ما كمموا أفواهنا وسرى ... فينا الهوان وجفن الشرق وسنان
قالت: محال! ففكوا القيد وانطلقوا ... من قبل أن تصطلي بالنار أوطان(158/141)
المنتدى
التمرد
زاهر بن محمد الشهري
ما أجمل أن ترتبط الحياة بخالقها! ! وما أروع أن تهفو القلوب إلى
بارئها! ! وما أبدع أن ينتظم الوجود كحبات اللؤلؤ في عقد يطبق حقيقة [إِنِ الحُكْمُ
إِلاَّ لِلَّهِ] (يوسف: 40) في السياسة والحكم.. وفي الاقتصاد.. وفي العلاقات
الاجتماعية.. وفي كل صغيرة وكبيرة لتكون حتمية النتيجة [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128) .
فإلى دعاة التحرر من الدِّين والقيم والأخلاق، وإلى أصحاب الفكر المستنير
زعموا وهل تمارس الخفافيش عملها في رابعة النهار وفي وضح الشمس؟ !
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويعمي أعين الخفاش
أو كما قال الآخر:
خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
فإلى هؤلاء وهؤلاء نقول: عودوا إلى جُحوركم، ودعوا الخلق للخالق [أَلاَ
لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف: 54) فقد كُشفت أستاركم وهُتكت عوراتكم،
وفُضح الفكر المستميت المنهزم تحت ضربات الواقع [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا ... بما قد رأوا مالوا جميعاً إلى السلم
ولكن لا سلم حتى تُكسر الأقلام المفسدة، ويكفَّ كل متمردٍ عن «التمرد» .(158/142)
المنتدى
ردود
* الأخ: صالح بن محمد باشاقيب: أرسل يقول: إنني أتابع مجلة البيان من
أول عدد صدر ولله الحمد، وكنت أرى فيها المنهج الوسط (الاعتدال) ، ولكني
من خمس سنين أو أكثر ألاحظ أن هذا المنهج تلاشى، وبعدت عنه المجلة كثيراً،
فأطلب منكم إعادة النظر في الاعتدال، والعدل.. العدل.. العدل، وجزاكم الله
خيراً.
ومجلة البيان تقدر رأيك، ولكن نتمنى أن تذكر ملحوظاتك حتى نستفيد منها؛
فنحن لا نبرئ أنفسنا من الخطأ، ونسعد بالتقويم والمناصحة.
* الإخوة: الذين أرسلوا مشاركات عن شهر رمضان، نشكر لك تواصلكم
الكريم، ونفيدكم بأن المشاركات جاءت متأخرة، فلم نتمكن من نشر المناسب منها.
آملين دوام التواصل.
* الأخت: أم صهيب من الرياض: أرسلت تطلب كتابة بعض القضايا التي
تتعلق بالأرض المباركة فلسطين ونشكر الأخت على تواصلها مع مجلة البيان،
ويمكنها مراجعة الكتاب الذي صدر مؤخراً عن المنتدى الإسلامي بعنوان: قبل
الكارثة.. نذير ونفير.
* الأخ: سعود بن سليمان اليوسف: قصيدتك «نغم في أذن الصمت»
مجازة للنشر، مع رجاء أن تقوم باختيار عشرين بيتاً فقط، حسب المساحة
المخصصة للنشر، وجزاكم الله خيراً.
* الإخوة: خميس بن عاشور، عبد الله بن شبيب الدوسري، رياض بن
عقيل بونمي، فيصل عبد العزيز المخايطة، محمد عبد العزيز المبرد، ياسر
جياكتا، ممدوح القديري، سليمان عز الدين سليمان، عبد الخالق القحطاني، طلال
الجابري، عثمان بن عطية المزمومي: نشكر لكم مشاركاتكم الطيبة، ونفيدكم بأنها
مجازة للنشر، آملين دوام التواصل.
* الإخوة: أحمد عزيز كنعان، عبد الله موسى بيلا، محمد إبراهيم العلوي:
وصلتنا مشاركاتكم، جزاكم الله خيراً، ونفيدكم بأنها ستعد للنشر في المنتدى بإذن
الله.(158/142)
الورقة الأخيرة
دعوة إلى وقف العلم
د. محمد بن صامل السلمي [*]
إن أشرف ما تنفق فيه الأموال نشر العلم وتعليمه للناس، وأشرف العلوم علم
الشريعة، وأعلاها كتاب الله ووحيه القرآن الكريم، وقد نبّه النبي صلى الله عليه
وسلم إلى أهمية تعلم كتاب الله وتعليمه فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [1] .
وإن من رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن هيأ لهم أسباباً ووسائل تجعل أجورهم
وحسناتهم مستمرة ولا تنقطع بعد وفاتهم ومفارقتهم الحياة الدنيا.
وإن مما ينتفع به المسلم بعد وفاته أموراً منها [2] :
1 - دعاء إخوانه المسلمين له إذا توفرت فيه شروط القبول.
2 - قضاء الدَّين عنه من أي مسلم كان ولياً له أم غير ولي.
3 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة؛ فإن للوالد مثل أجر الولد
دون أن ينقص من أجره شيء.
4 - ما يعمله الولد الصالح من الدعاء والصدقات عن والديه. ويدل على ذلك
أحاديث من أشهرها:
أ - حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا
من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [3] .
ب - حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين: «أن رجلاً أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتُلتت نفسها - أي ماتت فجأة -
ولم توصِ، وأظنها لو تكلمَتْ تصدقَتْ؛ فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال:
نعم!» [4] .
ج - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في صحيح البخاري: «أن
سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت
وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم! قال: فإني
أشهدك أن حائطي المِخْرَاف صدقة عليها» [5] .
قال ابن المبارك: ليس في الصدقة اختلاف. كما حكى ابن تيمية الاتفاق على
ذلك [6] .
5 - ما خلفه بعده من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله - تعالى -:
[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُّبِينٍ] (يس: 12) .
قال الحافظ ابن كثير [7] قوله: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا] (يس: 12) أي من
الأعمال. وفي قوله: [وَآثَارَهُمْ] (يس: 12) قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من
بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. قال: وهذا القول
هو اختيار الإمام البغوي.
القول الثاني: أن المراد بذلك خُطَاهم إلى الطاعة أو المعصية. ثم قال: وهذا
القول لا تنافي بينه وبين الأول؛ بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأوْلى
والأحرى؛ فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب؛ فلأن تكتب التي فيها قدوة بهم من خيرٍ
أو شرٍ بطريق الأوْلى.
وقال العلاَّمة عبد الرحمن بن سعدي: «قوله: [وَآثَارَهُمْ] (يس: 12)
هي آثار الخير، وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد
وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. فكل خيرٍ عمل به
أحد من الناس بسبب علم العبد، وتعليمه أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه
عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب يُنْتَفعُ بها في حياته وبعد
موته، أو عمل خيراً، من صلاة أو زكاة، أو صدقة، أو إحسان، فاقتدى به غيره،
أو عمل مسجداً، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك؛
فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.
ولهذا من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن
سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من
أوزارهم شيئاً.
وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبيله بكل
وسيلة وطريق موصل إلى ذلك. ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه
أسفل الخليقة وأشدهم جرماً وأعظمهم إثماً» [8] اهـ.
ويدل على هذا أيضاً عدد من الأحاديث منها:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: إلا من صدقة جارية، أو
علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [9] .
ب - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً عَلّمه
ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل
بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد
موته» [10] .
قوله في الحديث الأول: «أو علم ينتفع به» دليل على فضيلة وقف العلم
والترغيب في ذلك. ووقف العلم يكون بتأليف الكتب ونشرها بين الناس، وإيقافها
في المكتبات العامة والمساجد والمدارس والأماكن التي ينتفع بها، كما يكون بتعليم
العلم ونشره وإيداعه عند طلابه الذين يحفظونه ويبلغونه لغيرهم.
كما أن وقف العلم قد يكون من غير العالم؛ وهذا من سعة فضل الله على
عباده؛ إذ يستطيع غير العالم مشاركة العالم في وقف العلم واستمرار أجره، وذلك
بالنفقة على شراء كتب العلم النافعة وطباعتها وتوزيعها على المحتاجين لها، ووقفها
على المكتبات والمدارس الخيرية بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن
ماجه: «ومصحفاً ورّثه» فإن المصحف ليس من تأليفه، وإنما ورّثه بالإنفاق
على طباعته أو شرائه ثم يجعله وقفاً، وهكذا كتب العلم إذا أنفق على طباعتها
ووقفها؛ فإنه يشارك العالم في نشر العلم، وكذا الإنفاق على المعلمين والمتعلمين
وتجهيز أماكن التعليم، وأدواته ووسائله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على
تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال» [11] .
أخي المسلم: إن مشاركتك في نشر العلم وإيجاد الأوقاف الثابتة للإنفاق على
تعلم القرآن والعلوم الشرعية من أعظم الوسائل لاستمرار عملك وحسناتك سنيناً
ودهوراً بعد وفاتك، وهي من أعظم البر لوالديك، وأقاربك، وأصدقائك، فاحرص
على نفع نفسك ونفع إخوانك المسلمين، بنشر الشريط الإسلامي، والكتب النافعة،
ودعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم والتعاون في ذلك مع أهل الخير والفضل، والله
الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك، جامعة أم القرى.
(1) رواه البخاري، ح/ 5027.
(2) راجع أحكام الجنائز، للشيخ ناصر الدين الألباني، وانتفاع الموتى بأعمال الأحياء، لابن تيمية وابن القيم، جمع مروان كجك.
(3) رواه مسلم، ح/ 1631.
(4) رواه البخاري، ح/ 1388، مسلم، ح/1004، واللفظ له.
(5) رواه البخاري، ح/2756.
(6) مجموع الفتاوى، 24/309.
(7) تفسير ابن كثير، 6/551.
(8) تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 639.
(9) سبق تخريجه.
(10) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن، باب ثواب معلم الناس الخير، وهو حديث حسن، وقد صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، وفي أحكام الجنائز، ص 176.
(11) مجموع الفتاوى، 24/316.(158/143)
ذو القعدة - 1421هـ
فبراير - 2001م
(السنة: 15)(159/)
كلمة صغيرة
رسالة من الحاخام الأكبر
منذ أن بدأ الصراع مع اليهود والنخب العلمانية المتنفذة سياسياً وفكرياً
وإعلامياً تسعى لطمس معالم الصراع الحقيقية، وتغييب وعي جماهير الناس.
وإذا كانت انتفاضة الأقصى أحيت من جديد شعلة الجهاد في سبيل الله،
ورفعت لواء المواجهة الجادة مع اليهود؛ إلا أن لؤم التطبيع العلماني ما زال كامناً
في بعض النفوس المريضة؛ فقد ذكرت وكالات الأنباء أن الاتصالات بين الأجهزة
الأمنية الفلسطينية والحكومة اليهودية لم تنقطع على الإطلاق حتى في ظل الجبروت
اليهودي والقصف العشوائي على الأراضي الفلسطينية، بل زادت حدتها للسيطرة
على الانتفاضة ووأدها، أو تغيير مسارها وقطف ثمارها.
ولمَّا أُعلن عن هذه الاتصالات في وسائل الإعلام اليهودية صرَّح زعماء
السلطة بأن اللقاءات مع اليهود لم تصل إلى حد المفاوضات وإنما هي في مرحلة
المشاورات! وكأن جراحات الأمة ودماءها لا قيمة لها على الإطلاق، ولا تستحق
ولو قليلاً من الحياء..! !
لقد حدد (مردخاي إلياهو) الحاخام الشرقي الأكبر لـ (إسرائيل) حقيقة
الصراع، فقال في خطاب له أمام عدد من الدارسين في الدينية العسكرية
على وشك الالتحاق بالجيش اليهودي: (لنا أعداء كثيرون وهناك من
يتربص بنا وينتظر الفرصة للانقضاض علينا، وهؤلاء بإمكاننا عبر الإجراءات
العسكرية أن نواجههم. لكن ما لا نستطيع مواجهته هو ذلك الكتاب الذي يسمونه
القرآن، هذا عدوُّنا الأوحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية المباشرة
مواجهته!) .
ثم يتساءل قائلاً: (كيف يمكن أن يكون هناك سلام في الوقت الذي يقدس فيه
المسلمون العرب كتاباً يتحدث عنا بكل هذه السلبية؟ ! على قادة الدولة عندنا أن
يبلِّغوا قادة الأنظمة الحاكمة في الدول العربية أن يختاروا بين السلام معنا أو
القرآن! !) .
هذه هي حقيقة المعركة التي يتربى عليها الجيش اليهودي.. ألا فلتنكسر كل
الأقلام الهزيلة التي ما زالت تزين السلام الموهوم بزينة كالحة.. ولتسكت كل
الأصوات النشاز التي تريد أن تخدع الأمة وتبعدها عن حياضها الكريمة ومنابعها
العذبة الأصيلة، وإن دماء الصالحين لن تثمر بإذن الله إلا نفوساً أبيَّة لن ترضى
الدنية في دينها.(159/1)
الافتتاحية
رسالة مفتوحة إلى المجاهدين في الأرض المقدسة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فقد أذن الله لجهادكم أن يكون حقاً وواجباً، وشاء سبحانه أن يجعل أرضكم
ميداناً لأكبر ساحات جريان سُنَّة التدافع بين الحق والباطل، وفي القرآن آية أنتم
أهلها ما دمتم أنصاراً لدين الله. قال تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا
اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ] (الحج: 39- 40) .
ولذلك فإننا ننطلق من عموميات هذه الآية المباركة لنرسل إليكم هذه الرسالة
الأخوية النابعة من رغبة خالصة في التناصح والتذاكر؛ فالمؤمن مرآة أخيه.
أيها المجاهدون: نقرر بادئ ذي بدء أمام الجميع حقيقة لا مراء فيها، وهي
أنه لا مجال لأحد في المزايدة على جهادكم المبارك وأنتم تقدمون من العطاء أعلاه
ومن البذل أغلاه، كيف لا وأنتم تبذلون ما لا بَذْلَ بعده، وهو الروح، وتجودون
بما لا أثمن منه وهو الدم؟
إلا أن فرض التناصح الواجب بين المسلمين خاصتهم وعامتهم، يحتم علينا
أن نشارككم المشورة في كيفية توجيه هذا الجهاد الذي تشرعون في رفع أعلامه في
الأرض المقدسة نحو غاياته الأسمى، وبما يليق بأكبر قضايا المسلمين في هذا
العصر؛ ذلك أن الجهاد عبادة وفريضة دينية تحكمها شرائع وتضبطها شعائر،
وتحفُّها أحكام؛ فجهادكم ليس كمثل (كفاح) الثوريين أو (نضال) اللادينيين الذين
لا يلتزمون شريعة ولا يثبتون على مبدأ.
وقبل أن نَشْرَع فيما نحن بصدده من تناصح وتذاكر، نريد أن نسجل اغتباطنا
أيها المجاهدون برباطكم الأغر على رُبَى الأقصى، وثرى المقدسات في الأرض
المباركة، وهنيئاً لكم بشرى رسول الله بقيام طائفة ظاهرة على الحق في أرضكم،
يقاتلون عليه في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لا يضرهم من خالفهم ولا من
خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وهنيئاً لكم انتدابكم للوقوف في وجه أشد
الناس عداوة للذين آمنوا، وهنيئاً لكم انتصابكم لمهمة النيابة عن الأمة كلها في الذود
عن حرمات أرض الأنبياء، من لدن إبراهيم إمام الموحدين عليه السلام إلى محمد
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، هنيئاً لكم أنكم أهل الأرض التي جعلها الله في
رباط إلى يوم القيامة، وهنيئاً لكم أن تلك الأرض ستشهد عودة آخر خلافة على
منهاج النبوة، وستكونون بإذن الله أنتم أو أبناؤكم أو أحفادكم طلائع الممهدين
لسلطانها حتى يتحقق قول الله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 9) . ولكن هذا الشرف
كله، وذلك الفضل كله مشروط أيها المجاهدون بتحقق أوصاف الطائفة المنصورة
فيكم شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً، تلك الطائفة التي اختُصر وصفها في الحديث
الشريف في كلمات قليلة هي: «ما أنا عليه وأصحابي» [1] .
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم:
أيها المجاهدون: قدَرُكم - وهو قدْركم أيضاً - إن شاء الله - أن تكونوا أهل
هذه الأرض التي لم يبارك الله لكم فيها فقط، بل بارك فيها للعالمين، كما نص
القرآن، ولهذا فهي لكم خاصة، ولأهل الإيمان عامة؛ لأن صك وراثتها مشروط
بالتقوى [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]
(الأعراف: 128) .
إن قانون الوراثة هذا قد جاء على لسان نبي الله موسى الذي أُرسل لبني
إسرائيل، ولهذا فإن بني إسرائيل لم يكن لهم حظ في وراثة هذه الأرض في أي
زمان من الأزمنة إلا بهذا الشرط، شرط الإيمان والتقوى، فلما فقدوا هذا الشرط لم
يكن لهم إلا توارث اللعنة والغضب، ولم تعد الأرض المقدسة هي الأرض التي
كتب الله لهم، بل إنها الأرض التي كتب الله لكم، ولكل الموحدين الحائزين صفة
المتقين. لقد كانت دعوة موسى عليه السلام لقومه بدخول الأرض المقدسة مقرونة
باتباع هدي الأنبياء والتميز بالتوحيد عن بقية الأمم كما حكى القرآن: [وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم
مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ] (المائدة: 20) ، ثم قال لهم: [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]
(المائدة: 21) ، فوَعْد الحيازة حق إلهي أُعطي لبني إسرائيل لما كانوا على الدين
الصحيح، وليس حقاً تاريخياً ولا جغرافياً ولا قانونياً ولا عنصرياً.
إنهم يحدثونكم عن (الحق التاريخي) في وراثة الأرض، ويحدثونكم عن
قرارات الأمم المتحدة ومقررات الشرعية الدولية، وضمانات راعيي عملية السلام،
ولكنا نحدثكم عن الوعد الشرعي الحق الذي سيظل قائماً ما دمتم على الحق قائمين،
وما دمتم دونه مقاتلين وتحت رايته وحده مجاهدين؛ فهذا وصفكم في خبر الصادق
المصدوق صلى الله عيه وسلم: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب
دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم،
ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة» [2] .
ولهذا نقول لكم بقول الله - تعالى -: [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (المائدة: 21) .
من أخبار المنقلبين:
لقد رأيتم أيها المجاهدون كيف ارتد أقوام من بني جلدتنا على أدبارهم فانقلبوا
خاسرين، كيف تقلبوا في درجات التعالي بالباطل، ثم انحطوا في دركات الحيدة
عن الحق؛ لا لشيء إلا لأنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، عندما رفعوا
كل الرايات إلا راية الإسلام الصادق، وصادقوا كل المعسكرات إلا معسكر الإيمان
الثابت، إنهم وقفوا وافتخروا بكل نسبة إلا النسبة للدين الحق، فها هو إعلام
السلطة يخاطب الفلسطينيين بوصف (الكنعانيين) ولا يخجل عرفات أن يكرر في
كثير من المحافل قوله: (نحن شعب الجبارين المذكورين في القرآن) ! وكأنه
يقول لليهود: أنتم أتباع الأنبياء، ونحن الجبارون الوثنيون الذين قاتلهم الأنبياء في
الأرض المقدسة!
إنهم وثقوا بكل وعود الأعداء وأمانيهم، ولم يثقوا بوعد الله الذي أجراه على
ألسنة الأنبياء: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) . فلنكن نحن على ثقة بهذا الوعد، وليتحقق فينا
وفيكم وصف العبودية والصلاح.
إن صلاحكم أيها المجاهدون وعبوديتكم يكمن في إصلاح مسيرتكم وتقويم
مناهجكم، فقوِّموها وراجعوها ولا تسأموا من مراجعتها؛ لتكون كاملة التطابق مع
المنهاج الشامل المتكامل الذي جعله الله عدة للنصر، وسبيلاً للتمكين؛ فو الله لن
يكون نصر إلا بذلك [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] (الحج: 40) ، ووالله ما أُتينا
من قَبْل، ولن نؤتى من بَعْد إلا بالتفريط في نصرة الله بنصرة دينه ومنهاجه
وشرعه [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) .
إن هذه الآيات تحكي لنا ولكم باختصار أسرار الخذلان والذل والانكسار الذي
عانت وتعاني منه الأمة في فلسطين وغيرها؛ فلن ينصرنا أحد إذا خذَلَنا الله، ولن
تستطيع أمم الأرض ولو اجتمعت أن تعيد لكم حقاً أو تحقق لكم نصراً إلا بإرادة الله
وحده.
غطاء الحماية الدولية، أم مظلة الحماية الإلهية؟
إنهم يتسوَّلون لكم الآن ولأهلنا في الأرض المغتصبة (الحماية الدولية) ،
ناسين أن هناك حماية إلهية قد ضمنها الله لكم وللأمة كلها من كيد يهود وغيرهم.
قال تعالى: [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ]
(آل عمران: 111) ولكن ما الذي جرى؟ ولماذا لم تعد تظلنا هذه الحماية
الإلهية؟ ! إن الخطاب موجه إلى المؤمنين الذين ينصرون دين الله؛ فهل حققنا
وصف الإيمان وقمنا بواجب النصرة؟ قال تعالى: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً] (الفتح: 22) قال ابن كثير في تفسيرها:
«يقول الله عز وجل مبشراً لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله
رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار فاراً مُدْبِراً لا يجدون ولياً ولا
نصيراً؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين، ثم قال تبارك وتعالى:
[سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 23) . أي
هذه سنة الله وعادته في خلقه: ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فَيْصَلٍ إلا نصر
الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل» [3] . فما بال جيوشنا قد
أدمنت تولية الأدبار أمام الكفار؟ ! أليس هذا أمراً جديراً بأن يجعلنا نخاف على
أنفسنا، بل نخاف على إيماننا؟ إن أحداً لن يفهم هذا الخطاب أيها المجاهدون إلا
أنتم؛ فكونوا طليعة شعبكم في العودة الصادقة إلى منهاج النصر والتمكين الخالي
من شوائب المخالفة والعصيان والابتداع في الدين. وتلك لعمرُ الحق مسؤولية
جسيمةٌ جسيمةٌ جسيمةٌ لا بد أن تتصدوا للقيام بأعبائها مهما كلف الأمر من وقت
وجهد وإلا ... فلا خروج لنا أو لكم من ذاك التيه المضروب على الأمَّة كلها في
مسيرة صراعها.
حذارِ من المبتدعة والابتداع!
إذا كانت القوة والعزة نتيجة مباشرة لنصرة الدين، فإن الضعف والذلة من
ثمرات الانحراف والابتداع في الدين، نعم! فهكذا أخبر من بيده الخلق والأمر
سبحانه عن المبتدعين الأوائل قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ] (الأعراف: 152) .
قال أبو قلابة: «هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة» ، وقال سفيان بن
عيينة: «كل صاحب بدعة ذليل» [4] . نقول هذا بمناسبة ما طيَّرته وكالات
الأنباء عن تشيُّع عدد من قادة الحركة الإسلامية في فلسطين (احتجاجاً) على
الموقف المتخاذل لكثير من الهيئات والجماعات والدول المنتسبة لأهل السُّنَّة حيال ما
يحدث للفلسطينيين وعدم مبادرتهم إلى اتخاذ مواقف قوية في نصرتهم كما يفعل
الشيعة، إننا نقول: مهلاً يا أنصار دين الله في الأرض المقدسة! مهلاً يا أحفاد
الصحابة الذين روَّوْا بيت المقدس بدمائهم؛ فليس بنهج مبغضي الصحابة يُعاد فتح
القدس. إنهم يخدعونكم بادعائهم محبة أهل البيت، في حين أنهم يلعنون سيدة أهل
البيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها! إنهم يراودونكم عن السنَّة ببدعتهم،
ويزايدون عليكم بدعاوى بطولاتهم وفدائياتهم! ! مع أن جهادكم أنقى وأتقى وأبقى؛
فأين جهاد عزِّ الدين القسام، والشيخ أمين الحسيني، وأحمد ياسين، ويحيى
عياش، وغيرهم كثير؟ أين تضحيات هؤلاء الشرفاء من شهدائكم وجرحاكم
ومجاهديكم، أين ذلك كله وغيره كثير من مغامرات حفنة من روافض الشام الذين
ما سقط بيت المقدس بيد الصليبيين إلا في عهد أسلافهم العُبيديين، وما اجتاح التتار
ديار المسلمين إلا بدعوة وإطماع من أجدادهم العلقميين؟
إنهم يدعونكم إلى الاقتداء والتأسي بمسلك من يدعونه (حزب الله) الذي
قالوا إنه أول من حقق نصراً حاسماً على دولة اليهود في تاريخ الصراع
العربي الإسرائيلي! مع أن هذا الحزب كما هو معلوم للجميع يعمل لحسابه وحساب
طائفته فقط، وهذا ما صرَّح به كبير القوم هناك عندما قال: «لا علاقة لما نقوم به
ضد إسرائيل بالفلسطينيين أو الانتفاضة» (مهدي شمس الدين، الشرق الأوسط،
10/ 12/2000م) ، وهم ما فتئوا يرددون ويكررون أن حركتهم ستنصرف إلى
العمل السياسي بمجرد الإفراج عن الأسرى اللبنانيين الشيعة طبعاً وبعد تحرير
مزارع (شبعا) في جنوب لبنان، ذلك الجنوب الذين يريدونه مُنطَلَقاً لمدٍّ رافضي
آخر في المنطقة، ولكنه عربي هذه المرة. وعندما سئل أمين حزبهم عن نية
مجموعته في تقديم العون العسكري للانتفاضة رد بلا تقيَّة: «العون العسكري
ليس وارداً، ولكننا نساند الانتفاضة مساندة معنوية» !
إننا نرجو ألاَّ يُفرط بعض قادتكم أيها المجاهدون في حسن الظن في هؤلاء
القوم الذين يرون في أهل السنة أعداءهم التاريخيين، وليس بين أيدينا ما يدل على
كل حال على أن موقفهم هذا قد تغير أو هو قابل للتغير.
أهل السنة هم فئتكم المتحيزون إليكم:
إذا كان أهل الزيغ يراودونكم على السنَّة فإن أهل الانحراف يراودونكم على
الإسلام نفسه، فيريدون لشعبكم أن يظل في غياهب الظلمات العلمانية منقسماً إلى
فصائل متخالفة يعمل كل منها لحساب راية من الرايات العِمِّية؛ والعجيب أن هؤلاء
لا يعترفون بأهل السنة منكم ولو كفصيل من الفصائل التي لها حرية الحركة
والمشاركة؛ ولكنهم يجعلون منكم فقط الفصيل المنبوذ المطارد دائماً؛ ولهذا نقول:
أنتم أولياؤنا دونهم، نعم أيها المجاهدون! إن فصائل أهل السنة الصادقين في أنحاء
العالم هم فئتكم، وأنصاركم، وهم العمق الذي يمتد في أرجاء المعمورة دعماً
لقضيتكم؛ لأنها القضية الأولى عند كل صادق في انتمائه للكتاب والسنة، أما
الوثوق بأصحاب الرايات العلمانية من أحزاب الثوريين والشيوعيين والقوميين
والبعثيين وغيرهم فإنهم هم الذين جلبوا على قضيتكم المصائب، وتسببوا في فضِّ
الناس من حولها، بعد أن نزعوا رداء القداسة الدينية والصبغة الإسلامية عنها.
لقد تجاوبت الأمة كلها مع انتفاضتكم، وتدفقت التبرعات المالية بسخاء
وعفوية لدعمها وضمان استمرارها، ولكن هناك عقبة وحيدة وقفت دون وصول
عون إخوانكم إليكم، إنها عقبة (عدم الثقة) ، نعم! عدم الثقة في القيادات التي
برهنت دائماً على أنها أدنى من مستوى الشبهات، وما نادي القمار في (أريحا)
الذي تكلف ملايين الدولارات، إلا أحد الشواهد على سوء توظيف أموال الدعم
العربي والإسلامي لقضيتكم.
إن هؤلاء العلمانيين على اختلاف ألوانهم كانوا ولا يزالون لعنة على القضية
ولعبة في أيدي أعدائها، يستعملونهم في العبث بمصائر شعوب المنطقة ومقدراتها،
وقد آن الأوان لأن تتحقق المفاصلة بين دعاة الحق وأدعيائه، بين أولياء الدين
وأعدائه؛ وقد أثبتت تداعيات الأحداث الأخيرة، وما قبلها أن أمثال هؤلاء لا
يمثلون أي هاجس لدى الأعداء الظاهرين، إنما الخطر كل الخطر على اليهود
وأوليائهم يأتي من قِبَلكم ومن قِبَل أمثالكم من المقاتلين في سبيل الله لا في سبيل
الطاغوت.
أيها المجاهدون: سيقولون لكم: إن دعوتكم هذه ستفرق الشعب، وستقضي
على (الوحدة الوطنية) التي تجمع بين المسلمين والنصارى والإسرائيليين العرب.
فقولوا لهم: إن القضية الإسلامية تحتاج إلى وحدة إسلامية، وهي نفسها التي
ستؤدي إلى وحدة أهل الوطن تحت راية واحدة، لا رايات متخالفة.
الرهانات الخاسرة:
كان العلمانيون دائماً يُراهنون على مرِّ العقود الماضية على الشرق الشيوعي
تارة وعلى الغرب الصليبي أخرى، والآن وقد دالت دولة الشيوعية، ولم يبق في
الشرق والغرب إلا الدول الصليبية، فإنهم يريدون من شعوبنا أن تضع ثقتها فيهم
وفي خيوط العنكبوت التي يتعلقون بها؛ فمرة يتعلقون بأهداب المجموعة الأوروبية،
ومرة بأطراف ثوب الدولة الروسية، ومرة بحبال الأسرة الدولية في المنظمة
العالمية، فإذا لم يجدوا فائدة هنا أو هناك انقلبوا إلى أحضان الراعي الأمريكي الذي
يُسلِّم رقابهم في كل مرة إلى الدولة اليهودية.
إن هذا التقلب وذاك التخبط وارد ومنتظر من هؤلاء العلمانيين الذين
يتحركون دائماً بلا ثوابت، بل بلا مبادئ، أما ما لم يكن وارداً ولا منتظراً فهو
رهان بعض الإسلاميين من الفلسطينيين وغيرهم على الأحصنة الخاسرة مرة
أخرى، ولعل أبرز ذلك انصياع بعضهم لأوهام الرعود الصدامية الخادعة والوعود
البعثية الكاذبة التي لم تستطع تحرير جزء من شمال العراق حتى تُنصِّب نفسها
الآن لتحرير كل فلسطين! !
إن ستة ملايين متطوع تحت رايات البعث العربي القومي في العراق لن تغير
في موازين القضية شيئاً، بل إن هذه الستة، ولو وضعت أمامها ستة أصفار أخرى
فإنها لن تغير من سنن الله شيئاً؛ فسنن الله التي لن تتبدل تقول عن أقوام أصلحوا
الظاهر ولم يصلحوا الباطن: [لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا
خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] (التوبة: 47) .
ونحن على يقين أن انتصار الأمة على أعدائها في بيت المقدس وما حوله
شرف لا يستحقه صدَّام ولا أتباعه ولا أمثاله إلا أن يتوبوا؛ ومشكلتنا مع هؤلاء أننا
لم نسمع عنهم توبة معلنة، بل لا زالت راياتهم المرفوعة علمانية صريحة.
أيها المجاهدون: إن قوى الشر تجتمع ضد انتفاضتكم الباسلة تريد إجهاضها
وفض الناس من حولها، كما حدث في الانتفاضات السابقة، ونقول: سواء
استمرت هذه الانتفاضة أو أُوقفت بمكر المكَّارين، فإن الذي لا نبغي أن يتوقف أبداً
هو زخم الجهاد وروحه الوثابة التي ينبغي أن تسابق (قطارات السلام) المتهالكة
على الخضوع ومشروعات الاستسلام المتسابقة للركوع؛ فلا استسلام لليهود ما دام
دين الحق باقياً.
ولهذا نقول لكم صادقين: إن شرف انتصار أمة الإسلام لن يكون إلا على
أيدي جند الإسلام [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ *
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) فكونوا إخواننا المجاهدين
طلائع جند الإسلام ونحن وراءكم، والأمَّة كلها وراءكم، والله حسبنا وحسبكم،
وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير. وإلى لقاء في رسائل قادمة.
__________
(1) رواه الترمذي، ح/ 2565.
(2) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، انظر مجمع الزوائد (10/63، 64) .
(3) تفسير ابن كثير، 4/202.
(4) تفسير ابن كثير، 2/277.(159/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الاستدلال العلمي في العقيدة الإسلامية
خميس بن عاشور [*]
يعتقد الكثير ممن يُحسبون على الثقافة أن العقائد الدينية كلها «دوغمائية»
أي مؤكدة من غير دليل؛ وإن كان ذلك ينطبق على كثير من الأديان الوضعية أو
السماوية المحرفة فإن العقيدة الإسلامية بعيدة كل البعد عن هذه التهمة، ولذا لا نخال
الحاكمين بهذه المقالة قرؤوا كتاب الله عز وجل بتدبر، أو درسوا شيئاً مما يعوَّل
عليه من فنون الإسلام وعلومه وعلى رأس ذلك علوم السنة النبوية الشريفة؛ لأننا
في دوائر العلوم الإسلامية نجد أن الإجماع منعقد على أن العلم قبل القول والعمل؛
وذلك أن الاعتقاد هو تصور جازم سواء طابق الواقع أو خالفه، وسواء كان ذلك
الاعتقاد صحيحاً أو خاطئاً على مقتضى أحكام العقول أو النقول، بينما العلم هو
اعتقاد الشيء على ما به مع شرط مطابقة الواقع؛ ولذلك فإننا نجزم بما لا مجال
للريب فيه أن العقيدة الإسلامية هي عِلْم أولاً وقبل كل شيء؛ لأنه لا مكان في
الإسلام لاعتقادٍ لا يؤسس على دليل علمي سواء كان عقلياً صريحاً أو نقلياً صحيحاً
. قال - تعالى -: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] (الإسراء: 36) ، وقوله - تعالى -: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (محمد: 19) .
وهؤلاء الزاعمون من أهل الثقافة المنحرفة لا يعيرون أي اهتمام لأبسط
الأبجديات الإسلامية، وكأنهم لا يعلمون أنه من أول ما نزل من القرآن الكريم
الدعوة إلى وجوب القراءة؛ فقد قال - تعالى -: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
(العلق: 1) ، والقراءة هي أول مدارج العلم والمعرفة، وفضل العلم في الإسلام لا
يضاهيه أي فضل؛ وقد وجه الإسلام أتباعه إلى الاستزادة منه فقال - تعالى -:
[وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] (طه: 114) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً
من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن
العَالِم ليستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن
فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء
ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذ به
أخذ بحظ وافر» [1] .
وجاء في كتاب العلم من صحيح البخاري رحمه الله باب: العلم قبل القول
والعمل، وقال جل ذكره: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) ،
وقال سبحانه: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) .
إن من أساسيات المنهج العلمي الملاحظة والافتراض، ثم التجربة والاستنتاج؛
ولقد نعى القرآن الكريم على الكفار عدم استعمالهم لوسائل الإدراك التي يتحقق بها
هذا المنهج العلمي الذي يقود حتماً إلى الحقيقة الإيمانية، قال - تعالى -: [وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ]
(الأعراف: 179) .
ولقد حفلت آيُ القرآن الكريم بتطبيقات كثيرة لهذا المنهج العلمي؛ فهذا
إبراهيم الخليل عليه السلام رأى قومه يعبدون الكواكب ويشركونها مع الله عز وجل
فأراد أن يقنعهم ويستدل لهم على بطلان ما هم عليه من الاعتقاد، فاستعمل المنهج
العلمي الذي يحقق تلك الغاية النبيلة فافترض، ثم جرَّب، ثم استنتج النتيجة
المطلوبة وهي بطلان الشرك أمام حقيقة التوحيد السامية. قال - تعالى -:
[وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي] (الأنعام: 75-76) إلى قوله - تعالى -:
[فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (الأنعام: 78-79) .
فقد كانت التجربة والاستنتاج هي الوسيلة الدافعة التي أظهرت أن
هذه المخلوقات السماوية لا يجوز لها عقلاً أن تكون أرباباً وآلهة معبودة من دون الله
عز وجل؛ لأنها تختفي وتزول، وهي خاضعة لنواميس الكون التي خلقها الله عز
وجل لحفظ الكائنات حتى تؤدي دورها الذي من أجله وُجدَت، وحتى تتحقق حكمة الله
في خلقها. فاعتقاد التوحيد في قصة إبراهيم مع قومه أساسه علمي راسخ،
ودليله ظاهر لا مجال فيه للشبهات والريب؛ ولكن قومه «الدوغمائيين» وأمام
حجة إبراهيم الدافعة تعنتوا واستعملوا العنف والقوة الظالمة لرد الحق الذي جاءهم به
قال تعالى: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ
النَّار] (العنكبوت: 24) ، وكذلك كان ردهم عندما ألزمهم الحجة الباهرة على بطلان
عبادة الأصنام بقوله: [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ]
(الأنبياء: 63) .
وأمام انقطاع حجتهم: [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ]
(الأنبياء: 68) ، وفي قصة موسى مع سحرة فرعون عندما هزمهم الله ونصر
نبيه عليه السلام: [قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ]
(الشعراء: 47-48) . واعتقاد هؤلاء السحرة بعد توبتهم وعلمهم بالإيمان
الصحيح كان مؤسساً على منهج علمي أكيد؛ وذلك أنهم كانوا أعلم الناس في
مملكة فرعون بالسحر، وعندما رأوا معجزة موسى علموا أن ذلك لا يمت بصلة
لجنس السحر الذي علموه، فانقدح في رُوعهم نور الإيمان عن علم ودليل وتوفيق
من الله عز وجل. ولذلك يرد كثيراً في القرآن الكريم اقتران العلم بالإيمان،
واقتران الذين يعلمون بالذين يؤمنون. قال تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ
وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ] (الروم: 56) . وقال سبحانه: [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن
رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (الحج: 54) . وقال سبحانه: [لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ] (النساء: 162) . وقال
سبحانه: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ] (المجادلة: 11) .
وفي قوله تعالى: [وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ
مُّسْتَقِيمٌ] (الزخرف: 61) . وردت قراءة أخرى: (وَإِنَّهُ لَعلَمٌ لِّلسَّاعَةِ) ، أي
أمارة، وقد فرق الأصوليون بين الدليل والأمارة من حيث إفادة اليقين أو الظن،
ولكن المقصود هنا أن مادة العلم في القرآن العربي المبين تدور حول الدليل
والأمارة؛ حيث ذهب المحققون من أهل الأصول أنه لا فرق بين الدليل والأمارة
من حيث إفادة اليقين أو الظن [2] ، وهذا ما يعني أن الإيمان في الإسلام علم سواء
كان عن استدلال ونظر أو عن اعتقاد فطري؛ لأن كل ذلك مطابق للواقع وموافق
لنصوص الكتاب والسنة التي تصحح الإيمان الفطري وتحث كذلك على الاستدلال
والنظر العقليين لزيادة اليقين وترسيخ العقيدة، والآيات في ذلك كثيرة من مثل قوله
تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (العنكبوت: 20) . وقوله: [أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ] (ق: 6) . وقد ذهب
بعض المحققين إلى أن معرفة الدلائل العقلية قد تجب في حق من تساورهم
الظنون وتراودهم الشكوك؛ وذلك من أجل أن يُدعِّموا قاعدة الإيمان عندهم؛
فلا يلقوا ربهم إلا بقلب سليم خالٍ من الشُّبَه المهلكة [3] .
والإيمان بالنبوة والرسالة أساسه صدق الرسول؛ وهذا الصدق قد يُعرف
بأوصاف معينة، وقد يكون عن طريق المعجزة؛ فكثير من الناس دخلوا في دين
الله أفواجاً عن طريق ما عرفوه من صفات الرسول صلى الله عيه وسلم الحميدة،
وشرف ما يدعوهم إليه من المكارم؛ ومن ذلك ما قاله جعفر بن أبي طالب للنجاشي:
إن الله بعث لهم رسولاً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعاهم إلى التوحيد
وترك الشرك، وأمرهم بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار
والكف عن المحارم والدماء، ونهاهم عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم
وقذف المحصنات، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصيام. قال جعفر بن أبي طالب:
«فصدَّقنا وآمنا به، واتبعنا ما جاء به من الله» [4] .
وأساس العقائد الدينية هو الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وصدقُ الرسول
صلى الله عيه وسلم ثبت ضرورةً؛ فكان كل ما أخبر به صدق؛ لأن الصدق لا
يولّد إلا صدقاً وهذا استنتاج علمي.
وخلاصة القول أن العلم الذي سبيله الاستدلال العقلي أو النقلي هو منهج
العقيدة الإسلامية، وهذا ما أثبتته نصوص الكتاب والسنة، وأن «الدوغمائيين»
الحقيقيين هم الذين يوظفون الجهل والتدليس لتحقيق أغراضهم في الصد عن سبيل
الله، ولكن إذا كان الصراع بين العلم والجهل، والعالم والجاهل فلا ريب أن النصر
سيكون حليف العالم؛ فكيف بمن هو أعلم؟ ولا أعلَمَ من كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عيه وسلم.
__________
(*) باحث وكاتب جزائري.
(1) المسند، لأحمد: 2/252، صحيح الجامع الصغير وزياداته الألباني، 2/1079.
(2) انظر: شرح اللمع، أبو إسحاق الشيرازي، 1/155، 156.
(3) انظر: الفِصَل، لابن حزم، 4/38، دار المعرفة، إرشاد الفحول، الشوكاني، 266، فتح الباري، 13/352.
(4) مختصر سيرة ابن هشام، محمد عفيف الزعبي، ص60.(159/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
حاجتنا إلى أصول الفقه
هيثم بن جواد الحداد
haitham1234@hotmail.com
أصول الفقه هو ذلك العلم الذي نستنبط بواسطته الأحكام الشرعية الفرعية من
نصوص القرآن والسنة [1] ؛ وعلى هذا فإن علم أصول الفقه عبارة عن مجموعة
من القواعد والضوابط التي تحكم استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب
والسنة.
والدارس لهذا العلم بناءاً على ذلك سيتناول ثلاثة أقسام رئيسة: أدلة الاستنباط،
وهي أصالة القرآن والسنة والإجماع وما يتعلق بها، ثم يدرس الأحكام التي كلف
الله بها العباد (الأحكام الشرعية) ، وهي الوجوب والاستحباب والإباحة، والكراهة
والحظر، مع دراسة الأحكام الوضعية مثل الشرط والسبب والمانع والعلة، والقسم
الثالث: قواعد استنباط هذه الأحكام من تلك الأدلة، مثل كيف نستنبط الوجوب من
النصوص؟ وإذا عدم النص فماذا نفعل؟
ويلحق بهذه الأقسام قسم رابع هو حال الناظر في هذه الأدلة، وحال المستفتي
والاجتهاد وما يتعلق به.
جاء في كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) : «والداعي إلى
وضعه: أنهم نظروا في تفاصيل الأحكام والأدلة وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى
الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب والندب
والإباحة والكراهة والحرمة، وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك
الأحكام إجمالاً من غير نظر إلى تفاصيلها إلا على سبيل التمثيل، فحصل لهم
قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام إجمالاً، وبيان طرقه
وشرائطه، ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من الأحكام الجزئية من
أدلتها التفصيلية، فضبطوها ودوَّنوها وأضافوا إليها من اللواحق، وسمَّوا العلم
المتعلق بها أصول الفقه، وأول من صنف فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه» [2] .
وبمجرد تأمل هذه التعريفات لأصول الفقه والمسائل التي تدرس في هذا الفن
تظهر أهمية هذا العلم واضحة جلية لكل من له أدنى اهتمام بعلوم الشريعة.
لكننا مع ذلك سنحاول إبراز مزيد من فوائد هذا العلم وثمراته، وتسليط
الأضواء على حاجتنا المعاصرة إليه.
فائدة أصول الفقه وحاجتنا إليه:
أولاً: أصول الفقه أداة للفهم للسليم:
فالله أنزل القرآن ومعه السنة هدايةً للبشرية جمعاء، أنزلهما وفيهما جميع ما
يُصلح أمور الناس في الدنيا والآخرة.
وكفل الله لنا حفظ نصوص الوحيين؛ فها هي تتلى على مسامع الأمة صباحَ
مساءَ، ومع ذلك فقد ضلَّت طوائف كثيرة من الناس، وأسباب الضلال كثيرة من
أهمها الخطأ في فهم نصوص هذين الوحيين.
فلا تقتصر الهداية على مجرد التلقي من هذين الوحيين، إذا لم يكن التلقي
مضبوطاً بضوابط الفهم الصحيح.
هذه طائفة تمسكت بحديث صحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات
وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [3] ، أو قوله صلى الله عيه وسلم: «من
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول حرَّم الله عليه النار» [4] ، وما في معناه
من أحاديث، واقتصرت عليها وأهملت ما سواها، فجعلت الإيمان مجرد اعتقاد لا
يجاوز القلب [5] وإن اقترف صاحبه ما اقترف من الكبائر والآثام، فسوَّغت للناس
من حيث تدري أو لا تدري التساهل بالمعصية، والتمرد على أمر الله، فضلَّت
وأضلَّت، ونتج عن هذه العقيدة شر مستطير.
فلم يكن باب الخطأ الذي وَلَجَته هذه الطائفة، العمل بحديث مكذوب، أو
مقولة محرفة من كتب أهل الكتاب.
لا، وإنما حصل لها الانحراف من طريقة فهمها لنصوص الوحي، وقُل مثل
ذلك في كثير ممن زاغت أبصارهم عن تناول الشريعة بالطريقة الصحيحة
المنضبطة.
وعليه؛ فإن الفهم السليم الذي يحفظ من الزيغ والانحراف لا بد أن يعتمد على
أصلين عظيمين:
أولهما: التلقي من نصوص الوحيين وما دلاَّ عليه، لا شيء سوى ذلك.
ثانيهما: فَهْم هذه النصوص فهماً سليماً وفق القواعد المقررة عند أهل العلم.
وأصول الفقه كما تقدم وسيلة لاستنباط أحكام الشريعة؛ فهي جزء بل هي أهم
جزء في فهم نصوص الوحيين.
ففي طيّات هذا العلم نجد كمّاً هائلاً من قواعد الاستنباط والفهم والجمع.
فلو عملت تلك الطائفة التي ضلَّت في فهم قول النبي صلى الله عيه وسلم:
«من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [6] بهذه القواعد، لكان يتوجب
عليها أن تجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى. قال النووي: «وهذا لا بد
من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة؛ فلا بد من تأويل هذا
لئلا تتناقض نصوص الشريعة، وفي قوله صلى الله عيه وسلم: (وهو يعلم)
إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة: إن مُظهِر الشهادتين يدخل الجنة
وإن لم يعتقد ذلك بقوله، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عيه وسلم:
(وهو غير شاك فيهما) [7] .
لو نظرت هذه الطائفة في قواعد الاستنباط القاضية بأن من النصوص ما هو
عام ومنها ما هو خاص، وأنه لا بد من الجمع بينهما، وأن العام قد يُحمل على
الخاص، لنَأَت بها هذه القواعد عن هذا الفهم المنحرف لذلك النص.
ففي أصول الفقه نجد حديثاً عن العام والخاص والمطلق والمقيد وكيفية الجمع
بينها، وفيها حديث عن الناسخ والمنسوخ، وفي أصول الفقه بيان لدلالة أفعال
النبي صلى الله عيه وسلم ومكانتها من التشريع، وفيه بيان لمعاني الأدوات
والحروف اللغوية من وجهة النظر التشريعية، وفيه كذلك بيان لأسباب النزول،
ونجد فيه كذلك قسماً خاصاً بالسُّنة يتناول أقسامها وحجيتها ومنزلتها من القرآن.
كل هذه قواعد تُعين على فهم نصوص الوحيين فهماً سليماً، فلا تقتصر
وظيفة هذه القواعد - وأمثالها كثير - على استنباط الأحكام الفقهية، بل تتجاوزها
إلى جميع ما يتعلق بفهم الوحيين، سواء من ناحية علوم التوحيد والعقيدة، أو علم
التفسير، أو غيرها.
ولذا فإنك تجد في علوم القرآن مثلاً مباحث كاملة مستقلة تتحدث عن أسباب
النزول ودلالاتها، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وما هذه إلا موضوعات
رئيسة من علم أصول الفقه.
إن إهمال قواعد الفهم والاستدلال والاستنباط، أو إلغاء العمل بالأصل الثاني
من أصول الاستدلال المشار إليها آنفاً ساق على الأمة أنواعاً من البلايا والمحن
لا يعلم مداها إلا الله، وما المنهج المنحرف الذي تبنته الخوارج إلا نتاج لهذا
الانحراف.
انظر إليهم في مناظرتهم لابن عباس يحتجون بنص صريح من كتاب الله
بوصفه أحد الأسباب التي دعتهم للخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه
حين سألهم: ماذا تنقمون عليه؟ فأجابوا بقولهم:» حكّم الرجال في دين الله «،
والله يقول: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ] (يوسف: 40) .
وما زالت الأمة إلى عصرنا الحاضر تعاني من ظهور صور متعددة لمنهج
الخوارج وإن اختلفت عنه في الأسماء، وما ظواهر الغلو في التكفير، وما يقابلها
من تميع وإرجاء إلا أشكال متعددة لمنهج منحرف واحد، متمثل في إهمال فهم
النصوص الشرعية وفق القواعد المقررة، والتي يمثل علم أصول الفقه جزءاً كبيراً
منها.
وليس من نافلة القول أن نقول إن العلماء قد تنبهوا قديماً إلى خطورة
إهمال النظر في دلالة النصوص وفقه معانيها بحجة الاقتصار على العمل
بظواهر نصوص القرآن والسنة، قال ابن المديني:» التفقه في معاني الحديث
نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم « [8] كما قال أبو عاصم النبيل:
» الرئاسة في الحديث بلا دراية رئاسة نذالة « [9] وهذا ابن عبد البر يقول بعد أن
ذكر باباً في ذكر مَن ذمّ الإكثار من الحديث دون التفهم والتفقه قال:» وأما طلب
الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه
فمكروه عند جماعة من أهل العلم « [10] .
أما ما ورد في الحث على الاشتغال بالحديث، وذم الرأي، فذلك محمول على
الرأي المجرد الذي لا يعتمد ولا ينظر في الأدلة البتة، وهذا لا شك في ذمه.
وعليه؛ فإن كل فائدة تنتج عن اتباع المنهج الصحيح في النظر والاستدلال
يصح أن تكون من فوائد أصول الفقه.
فلا يخفى عليك بعد ذلك أن تعلم أنّ أول فائدة لأصول الفقه وأهمها أنه يمثل
الجزء الأكبر من المنهج الصحيح في النظر والاستدلال..
ثانياً: أصول الفقه طريق للعبادة الصحيحة:
وهذا واضح جداً من التعريف. قال الآمدي:» وأما غاية علم الأصول
فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية
والأخروية « [11] ،» فإن المجتهد متى كان عالماً بأحوال الأدلة الكلية مثل علمه
بأن الأمر للوجوب، إذا لم تقم قرينة على خلاف ذلك، وأن النهي للتحريم، ما لم
تقم قرينة على الكراهة، استطاع أن يستنبط وجوب الصلاة من قوله تعالى:
[وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] (البقرة: 43) وتحريم الزنا من قوله تعالى: [وَلاَ تَقْرَبُوا
الزِّنَى] (الإسراء: 32) فيقول: [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] (البقرة: 43) أمر،
والأمر للوجوب، فأقيموا الصلاة للوجوب، [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى] (الإسراء: 32)
نهي، والنهي للتحريم، فلا تقربوا الزنا للتحريم؛ فالمقدمة الأولى في الدليلين يعلمها
من اللغة، والمقدمة الثانية في كل منهما يعلمها من الأصول، ولولا معرفته
لأصول الفقه ما استطاع أن يستنبط هذين الحكمين؛ فأصول الفقه جعلته قادراً
على استنباط هذين الحكمين من دليليهما، ومثل ذلك يقال في غيرهما من
الأصول « [12] .
وقد يقول قائل: لكن هذا للعلماء المجتهدين. فيقال جواباً على ذلك: ليس
هذا بصحيح؛ بل إن من أصول الفقه ما يمكن أن يتعلمه كثير من طلبة العلم وأفراد
الصحوة الإسلامية، بل إن كل من له أهلية التعلم قادر على أخذ طرف من هذا
العلم، حتى يفهم ولو بشكل إجمالي كيف جاءت الأحكام التي يعمل بها؛ ولهذا أثر
كبير على عبادة الإنسان؛ ف» شتان بين من يأتي بالعبادة تقليداً لإمامه بمعقوله،
وبين من يأتي بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله، وهذا لا يحصل إلا بالاجتهاد،
والناس في حضيض عن ذلك، إلا من تغلغل في أصول الفقه، وكرع من مناهله
الصافية، وادَّرع ملابسه الضافية، وسبَحَ في بحره، وربح من مكنون دُرِّه « [13] .
وهاتان الفائدتان هما أُسُّ فوائد هذا العلم، وعليهما تقوم كثير من الفوائد
الأخرى؛ ولهذا فقد نص كثير من العلماء على أن أصول الفقه من أشرف العلوم
[14] ، بل قال عنه العلاَّمة ابن خلدون وهو من علماء الاجتماع والتأريخ:» اعلم
أن علم أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلِّها قدراً، وأكثرها فائدة « [15] .
وتأمل كلام الغزالي حيث يقول:» وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل
والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه
يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرُّفٌ بمحض العقول بحيث
لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد العقل له
بالتأييد والتسديد ... « [16] .
ثالثاً: أصول الفقه ميزان عدل:
فأصول الفقه ميزان توزن به كثير من الآراء المتصلة بالمسائل الشرعية،
مقبولها من مردودها، وصحيحها من ضعيفها وراجحها من مرجوحها، فنعرف ماذا
نأخذ وماذا نترك وما الذي ندين الله به؟
ولا يقتصر أثره على تمييز الصحيح من المردود، بل يتجاوز ذلك إلى
تمكيننا من معرفة درجات المردود نفسه؛ فبه نميِّز بين ما يُردُّ كليّة من الأقوال
والآراء وبين ما له وجهة من النظر، بين الاجتهاد المردود بالكلية وبين الاجتهاد
المقبول والمردود.
وعليه؛ فإننا سنتمكن من المفاضلة الصحيحة المبنية على أسس شرعية بين
المخالفين، ومن ثمّ الموقف الشرعي الصحيح الذي ينبغي أن يتخذ تجاه كل طائفة؛
فمن يكون اجتهاده معتبرًا ليس كمن يكون رأيه مردوداً بالكلية.
إنّ المساواة بين المخالفين - وإن اشتركوا في المخالفة - ليس من الشرع
والعدل في شيء، ولقد تباينت مواقف الإسلاميين من هذا المبدأ؛ فطائفة ضيقت
دائرة الخلاف المعتبر إلى حد أصبحت معه تعتبر أن كل قول يخالف ما سارت عليه
قول ساقط مردود، بل ربما وصَمَتْ صاحبه بالضلال والابتداع والخروج عن
الصراط المستقيم، ومن ثَمَّ وقفت منه موقف المبغض المتبرئ المعادي.
ثم ما لبث ذلك المبدأ حتى أصبح مِعْولاً يهدم بنيان ما كان متماسكاً من بنيان
هذه الصحوة، وأحدث فيها شروخاً عميقة، فزاد من فرقة المسلمين، وزاد من
التناحر بين جماعات الصحوة، وهو نتيجة تلقائية لعدم وضوح الميزان الذي ينبغي
أن توزن به الأقوال وقائلوها..
وفي مقابل من ضيَّق دائرة الخلاف ظهر من وسَّعها عن حجمها المطلوب
حتى أوغل في التسامح مع جميع الأقوال المخالفة، بل ربما أظهر تسامحاً ومودة
مع أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ظناً منه أن هذا المسلك يوحِّد صف
المسلمين، ويقوي شوكتهم، فأخطأ الطريق، ومن أخطأ الطريق فلا بد أن يخطئ
الوجهة.
لقد جرّ هذا المسلك المنحرف على المسلمين أفراداً وجماعات مصائب عقدية
واجتماعية بل وسياسية، ولقد انتهى الأمر بهؤلاء إلى أنهم أخضعوا الدين لأهوائهم
ومصالحهم بحجة المصلحة.
ومن فوائد هذا الميزان أنه يتيح لنا المقدرة على التمييز بين أصول الدين
وفروعه ومراتب كلٍّ منها، وهذا مهم جداً؛ فإن العالِم، أو طالب العلم إذا أتقن
استخدام هذا الميزان فإنه قد حاز ملكة مهمة لا يستغني عنها الناظر في فقه
الموازنات والأولويات، فالموازنات الصحيحة لا بد أن تكون مبنية على معرفة
مراتب أحكام الشريعة: مراتب المصالح، ومراتب المفاسد.
وكذا فإن هذا الميزان يعين صاحبه على الإلمام الجيد بنظرية الضرورة وما
يترتب عليها من أحكام فقهية متعددة وصور شتى ولا سيما في عصرنا الحاضر،
وما من شك أن هذه النظرية وأمثالها أضحت من أهم القواعد التي تبنى عليها
الاجتهادات الفقهية المعاصرة.
لقد وقع خلط كبير في هذه القواعد والضوابط، وما ذلك إلا لفساد منهج
الاستدلال بالكلية أو حدوث خلل فيه.
فمثلاً: ظهرت بعض الدعاوى المعاصرة لإباحة الفائدة الربوية البنكية بحُجة
أن هذا التعامل أصبح من ضرورات العصر، وفي بلاد الغرب تساهَل كثير من
المفتين في بعض القضايا التي تعرض للمسلمين هناك بحُجة الضرورة، ولمَّا
تتحقق فيها شروط الضرورة؛ فربما أجازوا الجمع بين الصلوات مطلقاً بدون عذر،
وأجازوا كثيرًا من المعاملات الربوية، وتساهلوا في كثير من المواقف مع
النصارى ممتطين إلى ما يريدون صهوة الضرورة والمصلحة ليعبروا بها إلى ما
يريدون من أحكام الشريعة، وأخذ هذه النظرية كثير من العامة واستخدموها حجة
بحسن نية للتحلل من أحكام الشريعة.
فمن الذي يضع حدود الضرورة والمصلحة ومعالمهما وضوابطهما
وشروطهما [17] ؟
رابعاً: أصول الفقه أداة الاتباع:
نخطئ كثيرًا حينما نَقْصر فائدة أصول الفقه على العلماء وأهل الاجتهاد؛ فإذا
كنا نطالب الناس باتباع الدليل، لا سيما طلبة العلم منهم، وننهاهم عن التقليد
واتباع أقوال الرجال، فأنَّى لهم العمل بالدليل إذا لم تكن لديهم الآلة التي تمكنهم من
فهم هذا الدليل؟
لعلِّي لا أبعد القول في أن مطالبة الناس وطلبة العلم باتباع الدليل مع عدم قرن
ذلك بضرورة اتباع المنهج السليم في فهم النص هو الذي أفرز الظواهر المَرَضيّة
التي تحدثنا عنها سابقاً، وكيف نطالب الناس باتباع الدليل وكثير منهم في كثير من
المسائل يجهل كيفية فهم الدليل؟
وعليه؛ فحتى نكون معتدلين في مطالبتنا باتباع الدليل وترك التقليد لا بد أن
نقرن هذه المطالبة بضرورة التنبيه على الأخذ بآلة الفهم الصحيح، فتكون دعوتنا
بذلك متكاملة واضحة المعالم.
» وقصارى القول في هذه القضية: أن كل من اشتغل بالفقه الإسلامي لا بد
له من معرفة هذه الأصول؛ لأنها تُكوِّن العقل السليم المنتج، ولذلك كانت دراسته
بعد أن كملت قواعده واشتغل العلماء بتدريس العلوم الإسلامية، تسير جنباً إلى
جنب مع دراسة الفقه من غير تفرقة بينهما إلا في ترتيب سِنيِّ الدراسة « [18] .
خامساً: أصول الفقه أداة لتمييز السُّنَّة من البدعة:
من الأخطاء التي وقع فيها كثير من الإسلاميين في هذه الأيام لا سيما الشباب
منهم، اعتقادهم أنّ كل حديث ثبتت صحته فظاهره سنة وما يخالفه بدعة، وقد
أوقعهم هذا الاعتقاد الخاطئ في مخالفة سنن صريحة أخرى متفق عليها، وما لبثوا
أن أصبحوا بذلك فرقاً وأحزاباً يبدِّع بعضها بعضاً؛ وواقع شباب الصحوة في كثير
من البلدان يشهد بهذا.
ومما ترتب على هذا أن اعتمد أصحاب هذا الفهم الخاطئ مبدأهم هذا قاعدة
لمبدأ آخر لكنّه أشد منه خطورة ألا وهو وَصْم كل من لم يعمل بالسنن التي ظنوها
سنناً بمخالفته للسنة، أو تفريطه في السنة، ثم تبديعه وتفسيقه، ولا تسل بعد ذلك
عن آثار هذه الفتنة!
إنّنا حينما نُحذِّر من هذا المنهج الغالي في فهم النصوص فإننا في المقابل نُحذِّر
كل الحذر من الطرف المقابل ألا وهو إهمال النص والاعتماد على العقل، وهو
منهج المدرسة العقلية التي تمثلت في المعتزلة قديماً، وتتمثل في بعض أفراخهم من
العصرانيين حديثاً.
لقد شارك هؤلاء بجناية مقابلة؛ حيث ردُّوا كثيرًا من الأحكام الشرعية بحُجة
مناقضتها للعقل؛ فبعضهم ردّ حديث الذبابة، وضاق عقل بعضهم أن يفهم كيف
جعل الشارع دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ وكيف يكون الإنسان ولو
كافرًا مملوكاً لإنسان آخر يبيعه ويشتريه؟ وكيف يقاتل غير المسلمين من نصارى
وغيرهم، إذا لم يدخلوا تحت لواء الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية
القائمة منذ عهد التشريع إلى قُبَيْل زماننا هذا؛ حيث تسلط أولئك على رقاب
النصوص بالنقض بحجة معارضتها للعقل.
إن جناية الفريقين ربيبة إهمال ضوابط الفهم والاستدلال المتمثل جزؤها
الأكبر في أصول الفقه.
سادساً: والعامة يحتاجون أصول الفقه:
نعم، العامة يحتاجون أصول الفقه! أليس من مباحث أصول الفقه: الفتوى
وآدابها، والمفتي والمستفتي وما يتعلق بهما من أحكام؟ ومن هو المستفتي؟ أليس
العامي؟ ألا يجب أن يعرف كيف يسأل ومن يسأل؟ !
ألسنا نلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب؛ فالعامة لا يعرفون من هذه الأحكام
شيئاً؛ فلذلك لا يعرفون كيف يسألون، ومن يسألون؟ فللفتوى يسألون كل من
تصدَّر حتى ولو لم يُشتهر بالفقه والفتوى؛ فنشاهد كثيراً من العامة يتجهون بأسئلتهم
إلى كل من يحلو لهم، إما لجمال صوته في قراءة القرآن، أو لحسن أدائه لخطبة
الجمعة، أو لاشتهاره بالتسهيل على الناس.
ثمّ إذا استفتوا أحداً ذهبوا إلى آخر يستفتونه في المسألة نفسها، فإذا أجابهم
بغير ما أجاب الأول وقعوا في حيرة، فذهبوا إلى ثالث يحكم بين سابقيه، ثم يقعون
في دوامة.
أليس من مباحث أصول الفقه: الاجتهاد، والمسائل الاجتهادية، وموقف
المسلم منها؟ ألا يحتاج العامي أن يعرف ماذا يفعل في مسألة قال له أحدهم إنها
حلال، وقال له الآخر: بل حرام، بِمَ يأخذ ومن يتبع؟ ! كل هذا مفصل في
أصول الفقه.
قد يقول قائل: دع العامي يتعلم أولاً ما يهم دينه، فإذا أتقن ذلك فلينتقل إلى
أصول الفقه! ولهذا القائل نقول: أصول الفقه من الدين، ولا سيما المباحث التي
ذكرناها، ثم ألا يحسن بالمتعلم أن يتعلم أولاً كيف يتعلم، وممن يتعلم؟ نعم! لا
نقول للعامة: اذهبوا فاقرؤوا رسالة الشافعي في أصول الفقه، ولا روضة الناظر
لابن قدامة، ولا مختصر ابن الحاجب.... ولا غيرها، ولكن نقول لأهل العلم
والخطباء والدعاة: ادرسوا هذه المسائل، وقربوها للناس وعلموها لهم.
لقد أدى إهمال الدعاة لهذه الجوانب العلمية إلى بروز مشكلات كثيرة متعلقة
بالاجتهاد والمسائل الخلافية، وما الفوضى الفقهية التي نعيشها هذه الأيام إلا من
إفرازات هذه المشكلة.
فوائد متفرقة لعلم أصول الفقه:
- منها أنه يعين على معرفة مراتب العلماء وطلبة العلم والمشتغلين به: المقلد
منهم الذي يحفظ الأقوال مجردة، من ذلك العالم الذي استنبط واستدل، فليس الأول
كالثاني، وهذا مهم، فلا شك أن قول المستدل ليس كقول غيره ممن اكتفى بالتقليد،
ولم يعرف مأخذ الدليل ووجه الدلالة.
وعليه فإننا سنتمكن من إنزال أهل العلم منازلهم اللائقة بهم فيما نأخذ عنهم،
كل حسب تخصصه، فليس المحدِّث كالفقيه، والعكس صحيح، وليس اللغوي
والمؤرخ كالمحدِّث وهكذا، فهل يصح أن نسأل اللغوي عن صحة حديث،
والمحدِّث عن مسألة أصولية.. وهكذا؟ وهذا طبعاً إذا لم تتنوع معارف المشتغل
بالعلم ويبرز فيها، وهو قليل في هذه الأزمنة.
إن عدم تقديرنا لهذا الأمر، ووجود الرؤية الضبابية حول هذا الأمر جعلنا
نزج بالمحدِّث الذي لا يحسن الفقه والأصول في حلبة الفقه بل في أشد المسائل
الفقهية وُعُورةً، وأصبح كل من اشتهر بصرف النظر عما اشتهر فيه مفتياً، بل
عالماً علاَّمة يُسأل عن كل فن؛ فالواعظ يُسأل عن الأصول، والمفكر يُستفتى،
والأديب يُسأل عن صحة حديث، والفقيه عن اللغة.. وهكذا، وقد يغتر المسؤول
بكثرة سائليه؛ فيظن من حيث لا يشعر أنه أهل للجواب في هذا الفن، فيقتحم
المخاطر فيهلك ويُهلك. نسأل الله العافية.
ثم تجاوز الأمر هذه المحنة إلى أخرى أشد منها، فأصبح هذا المسؤول عند
أصحابه ومحبيه، أو لنقل مقلديه، حاكماً على كثير من القضايا والنوازل، حتى لو
لم يمتَّ إليها بصلة، أو ليس له بها أدنى اطلاع، بل تجاوزت أهليته للحكم عند
بعض الناس إلى أهليته للحكم على غيره من المشتغلين بالعلم، فأصبح الإمام الذي
على قوله يسيرون، وبهديه يهتدون، القول قوله، والحكم حكمه، ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم.
إنّ من إنزال أهل العلم منزلتهم أن نعرف تخصصاتهم، وماذا يجيدون وماذا
يحسنون، وليس في هذا انتقاص ولا ازدراء.
ليس كل من أُطلق عليه عالم هو عالم حقيقةً؛ فكثير من المشتغلين بالعلم في
هذا الزمان لا تصدق عليهم هذه الكلمة ألبتة، وهل من اقتصر على معرفة أقوال
الفقهاء وعلى مذهب واحد أيضاً، ولم يعرف الأدلة ولا مآخذها وكيفية استنباط
الأحكام منها، يُدعى عالماً ... ؟
وقُل مثل هذا في من اقتصر على جملة من الأحاديث واشتغل بالمصطلح
والتخريج والتحقيق.
إن اندراس العلم في هذه الأزمنة هو الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة، ولم يكن
هذا ليحدث لو أُنزل كل صاحب علم منزلته بناءاً على ما يُحسن، والله الهادي إلى
الصواب.
- ومنها أهميته في الردّ على المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ فأصول الفقه
تعيننا على الرد على كل من أخطأ التعامل الصحيح مع النصّ، سواء كان من
عقلانيي العصر الحديث، أو من أهل الجمود الظاهري. وفي ما تقدم بيان واضح
على ذلك.
- ومنها أنه يعين الإنسان على سرعة الفهم والحفظ؛ لأنه بتمكنه من أصول
الفقه يتمكن من معرفة أصول المسائل وما بنيت عليه، ثم يستطيع أن يُلحق
المسائل المتشابهة بعضها ببعض، ولا شك أن هذا من أقوى أسباب سرعة الفهم
والحفظ.
- ومنها أنه يورث الإنسان الدقة في التعبير، سواء كان كتابيًا أو شفهيًا،
فيتوخى الدقة في اختيار الألفاظ وبناء التراكيب، ويرتب النتائج على المقدمات
ترتيباً سليماً، ثم ينظم الأفكار في سلسلة مترابطة مُحكمة الصياغة قوية البناء.
- ومنها أنه يورث الإنسان الطريق الصحيح للحوار والجدل، وجودة
المناظرة، وقوة الحجة؛ فلا تطول المناظرة بلا داع كما يحدث في كثير من
المناظرات اليوم.
- ومنه أنه يعين الإنسان على اتساع الصدر للمخالف الذي بنى خلافه على
دليل يُعتد به، وقبول رأيه، وعدم اعتداده برأي نفسه؛ فإدراكه لوجود الاختلاف
في هذه المسألة، وقوة دليل المخالف يجعله منفتح الذهن، متسع الصدر للرأي
المخالف في المسائل الاجتهادية، مرن التعامل من غير تساهل محرَّم ولا تعصب
مذموم.
نسأل الله عزّ وجل أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا
اتباعه إنه سميع عليم، والصلاة والسلام على سيد الأنام خير ولد عدنان وآله
وصحبه وسلم.
__________
(1) انظر جملة من تعريفات الأقدمين لأصول الفقه في كتاب الدكتور يعقوب الباحسين» أصول الفقه، الحد، والموضوع، الغاية «، ص 88 120، والتعريفات متقاربة.
(2) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ص 110.
(3) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (1/218 مع شرح النووي) .
(4) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (1/ 229 مع شرح النووي) .
(5) وهو ما تقول به المرجئة انظر مقالتهم في الإيمان لابن تيمية، ص 184، ط 3، المكتب الإسلامي، وشرح الطحاوية تحقيق، د التركي والأرناؤوط، ص 458، وما بعدها الطبعة الثامنة.
(6) رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه.
(7) شرح صحيح مسلم (1/219) ، وقد استدل الإمام أحمد بهذه القاعدة أعني الجمع بين النصوص وحمل بعضها على بعض في الردّ على المرجئة في رسالة بعثها إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني، أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى في كتاب الإيمان 7/390 393، حيث تناولها بالبيان والتعليق مع التأييد لهذه الطريقة في الرد على المرجئة.
(8) الجامع لأخلاق الراوي والسامع، للخطيب البغدادي (2/211) .
(9) المصدر السابق (2/181) .
(10) جامع بيان العلم 2/127، الطبعة المنيرية.
(11) الأحكام، 1/9.
(12) أصول الفقه، لأبي النور زهير، 1/4.
(13) البحر المحيط، للزركشي، ط الكويت، 1/12.
(14) المستصفى، للغزالي، 1/3، البحر المحيط، للزركشي، 1/12.
(15) مقدمة ابن خلدون، ص 379، ط الاستقامة، 1348هـ.
(16) المستصفى، 1/3.
(17) للاستزادة حول موضوع الضرورة يراجع كتاب: (نظرية الضرورة الشرعية) ، لجميل مبارك، طبع دار الوفاء بالمنصورة، وانظر (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) للدكتور البوطي، ط مؤسسة الرسالة.
(18) أصول الفقه الإسلامي، د مصطفى شلبي، ص 46.(159/11)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الختان من الإسلام وحق من حقوق الإنسان
أبو أنس ميمون باريش [*]
لم أكن لأُنفق وقتاً قل أو كثر للكتابة في موضوع حَسَم فيه الشرع سلفاً لو أن
القضايا الشرعية لا يتكلم فيها إلا من له إلمام بأصول الشرع: ضبطاً لمصادره،
وإحاطة بنصوصه، وتفقهاً لاجتهادات مجتهديه، لكن والأمر ليس كذلك أجدني
أحياناً مضطراً لأقول كلمتي في بعض القضايا التي تطلعنا عليها بعض المؤلفات
المعاصرة، أو وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة على السواء؛ ومن أمثلتها
القضية التي أثارتها في صفحة قضايا ساخنة جريدة الأحداث المغربية مشكورة، في
إطار الحوار الذي أجرته مع أحد الباحثين المدرسين لمادة القانون بسويسرا،
والمتخصصين في العلاقة بين الدين والقانون.
وقد دار الحوار حول موضوع: «ختان الأطفال» وهو منشور بتاريخ 27
28 ذو القعدة 1420هـ الموافق 4 5 مارس عام 2000م، تحت عنوان: «ختان
الأطفال عادة تمسُّ الحق في سلامة الأبدان، وإلغاؤه جزء من تحرير الإنسان» .
ما أروعه من عنوان لما فيه من السجع والبيان لولا ما فيه من الزور والبهتان
؛ إذ هو عبارة عن صورة مصغرة عن المقال المنشور، والمقال صورة مصغرة
عن كتاب ألفه الباحث نفسه في الموضوع ذاته، ومن خلال العنوان تتضح جلياً
أهداف صاحب المقال ومقاصده ومراميه وطبيعة دعوته، واللبيب تكفيه الإشارة.
وبكل وضوح فإن الباحث المذكور يدعو بصراحة وثقة في النفس لا نظير لها
إلى محاربة عملية الختان والقضاء عليها، ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل
امتد به إلى درجة التدليس والاختلاق على الأديان السماوية بما في ذلك الدين
الإسلامي؛ إذ الباحث يدَّعي أنه قضى ست سنوات من الدراسة والبحث والتنقيب
والتفتيش والتقميش انتهت به إلى تأليف كتابه المطبوع المتداول: «ختان الذكور
والإناث في الديانات السماوية الثلاث» أعلن فيه مسروراً نتيجة بحثه التي أعرب
عنها أيضاً في الحوار الذي أجري معه، وإليك مضمونه مختصراً ومركَّزاً، مع
المحافظة على عبارته في الغالب الأعم.
فبعد أن حاول الباحث يائساً أن يبين أن عملية الختان هي عادة ضارة ومخالفة
لحقوق الإنسان من حيث إنها عنف واضطهاد، وتعدٍّ على سلامة الأبدان عمد إلى
نفي الطابع الشرعي لهذه العملية الجراحية مدعياً أنها عرف يهودي سيئ نقله من
أسلم من اليهود وفرضوه على المجتمع الإسلامي فرضاً؛ هذا مع تأكيده على أن
القرآن الكريم لم يذكر الختان بتاتاً ولا نص عليه، وأنه على خلاف ذلك ينص على
كمال الخلقة، ويدعو إلى احترام الأبدان ثم يقول: «وعلى هذا الأساس فسكوت
القرآن عن الختان ليس عبثاً؛ فالختان بوصفه تعدياً على سلامة جسد الإنسان يعتبر
خرقاً للمفهوم الفلسفي للقرآن بأن الخلق كامل» .
ثم بعد محاولته اليائسة هذه لنفي الشرعية القرآنية على الختان يحاول يائساً
كذلك نفي الشرعية السنِّية عنه فيقول: «وهناك المصدر الثاني للشريعة الإسلامية
وهي السنة؛ فبعد تمحيصي لكل النصوص التي صدرت في ختان الذكور يمكن
القول: إن كل هذه النصوص ضعيفة، وكل الأحاديث التي وردت في ختان الذكور
مختلقة، وما روي منها أكثره عن الرواة اليهود، إلى درجة أنَّ ختان النبي صلى
الله عليه وسلم غير معروف؛ فهناك أربع روايات متضاربة تماماً بخصوص ختان
النبي صلى الله عيه وسلم، وأكثر الظن أنه لم يختن» اهـ.
والذي يظهر من هذه النقول وهي غيض من فيض أن كلام الباحث يفتقر إلى
أدنى مستوى من العلمية والمصداقية، بل أغلب ما فيه عبارة عن تمويه وتدليس
وتزوير وبهتان ما أنزل الله به من سلطان، ولا يقوم عليه دليل ولا برهان، ولا
سيما أن الباحث يستعمل عبارات الجزم والدقة واليقين، ويدَّعي اعتماد المنهج
الاستقرائي في أرقى مظاهره وهو الاستقراء التام للنصوص الشرعية، وهو يعلم
أن الاستقراء التام لا يدَّعيه عاقل حتى في العلوم الدقيقة المجردة. وإليك أخي
القارئ بياناً لمكانة الباحث العلمية، وكشفاً عن جهله التام بالأديان السماوية؛ وذلك
باستقرائه الناقص للنصوص القرآنية الكريمة وللأحاديث النبوية الصحيحة
والحسنة، ولأقوال علماء الأمة، ولما تقتضيه العادة والفطرة في عملية
الختان.
مشروعية الختان من القرآن الكريم:
الأمر الذي لا يختلف فيه عاقلان أن القرآن الكريم لم ينص تنصيصاً على
جميع جزئيات الشرع؛ بل ذكر بعضها بصيغة الإبهام، وبعضها الآخر بالإطلاق،
وبعضها بالعموم تاركاً المجال واسعاً للسنة النبوية الشريفة لتبيين المجمل وتقييد
المطلق وتخصيص العام؛ فلا نجد في القرآن الكريم ذِكراً لعدد ركعات الصبح أو
الظهر أو العصر أو غيرها، ولا نجد ذكراً لنصاب المال الذي تجب فيه الزكاة ولا
لمقدار ما يجب في المال منها، إلا أن السنَّة فصَّلت ذلك تفصيلاً سواء كان ذلك
بالخدمات المذكورة آنفاً، أو بإضافة أحكام جديدة باعتبار أنها وحي يوحى بلغة
صاحب الشرع الذي لا ينطق عن الهوى. ولكن كان من منهج السلف الصالح في
مناظراتهم مع من أنكر مشروعية أمر لعدم وروده في القرآن الكريم تنصيصاً، أن
يقيموا عليه الدليل بنص من النصوص القرآنية الداعية إلى ضرورة اتباع محمد
صلى الله عيه وسلم والاقتداء به في أفعاله وأقواله وتقريراته.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود
قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلِّجات
للحسن المغيِّرات خلق الله.
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن فأتته،
فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات
والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ ! فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن
رسولُ الله صلى الله عيه وسلم؟ ! وهو في كتاب الله. فقالت المرأة، لقد قرأت ما
بين لوحي المصحف فما وجدته! ! فقال: لئن كنت قرأته لقد وجدته! قال الله
تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) [1] .
هذا إذن هو المنهج الذي كان الصحابة خاصة والسلف الصالح عامة يسلكونه
مع منكري الأحكام الشرعية غير المذكورة لفظاً في القرآن الكريم، وهو المنهج
نفسه الذي سنسلكه مع كل من أنكر تنصيص القرآن على عملية الختان، فنقول له:
لو قرأت فعلاً القرآن قراءة تأمل وتدبر وإمعان وإنصاف لوجدت فيه ذكراً صريحاً
للختان وما في معناه من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها وكانت في المرسلين
أوْكد، والدعوة إلى الاقتداء بهم دعوة صريحة إلى الأخذ بها، وبيان ذلك في الآتي:
أ - القرآن يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم عليه السلام ومن ملته الاختتان.
والنصوص الداعية إلى ذلك كثيرة أذكر بعضاً منها:
- قوله تعالى: [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
المُشْرِكِينَ] (النحل: 123) .
- قوله عز وجل: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (البقرة: 130) .
ومن مظاهر ملة إبراهيم الاختتان؛ إذ ورد في نصوص شرعية عدة أن
إبراهيم هو أول من اختتن من البشرية، ومن ملته التي يجب اتباعه فيها الاختتان،
وقد ثبت في الصحيحين وعند الإمام أحمد عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم:» اختتن إبراهيم
عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم « [2] .
وإبراهيم عليه السلام لم يكن ليختتن من تلقاء نفسه مع ما يسببه الاختتان من
المشقة لكبار السن لو أن الأمر لم يكن أمراً إلهياً؛ وهذا ما يرشد إليه ما رواه أبو
يعلى من طريق علي بن أبي رباح قال:» أُمِرَ إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم
(وهي آلة النجارة) فاشتد عليه، فأوحى الله إليه أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته.
فقال: «يا رب! كرهت أن أؤخر أُمرك» [3] فالختان إذن مظهر من مظاهر الملة
التي أمر إبراهيم الخليل بإظهارها والتي أمرنا باتباعه فيها، والأمر يفيد حكماً
شرعياً يقتضي الامتثال. يقول العلاَّمة الفقيه أبو العباس القرطبي: «قلت: قد
تقدم أن إبراهيم أول من اختتن، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته
وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم» [4]
وإذا كان إبراهيم الخليل قد أُمِرَ بالختان، وإذا كان المسلمون قد أُمِروا باتباع ملة
إبراهيم، فإن ضرورة البرهان تقتضي أن المسلمين مأمورون بالختان، والأمر
يقتضي الوجوب «؛ إذ الملة هي الفطرة وهي الدين؛ ومحال أن يأمر الله سبحانه
باتباع إبراهيم في مجرد الكلمة دون الأعمال وخصال الفطرة؛ وإنما أمر بمتابعته
في توحيده وأقواله وأفعاله، وهو عليه السلام اختتن امتثالاً لأمر ربه الذي أمره
وابتلاه به، فوفَّاه كما أمر؛ فإن لم نفعل كما فعل لم نكن متبعين له» [5] .
ب - القرآن يحث على ضرورة الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم،
ومن سنته الختان:
النصوص المرشدة إلى ذلك كثيرة جداً؛ باعتبار أن سنة محمد صلى الله عيه
وسلم تمثل جزءاً من الوحي مكملاً للقرآن وخادماً له، وسأكتفي في هذا المقام
بالنصوص الآتية:
1 - قوله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (الحشر: 7) .
2 - قوله عز وجل: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الكَافِرِينَ] (آل عمران: 31-32) .
3 - قوله جل شأنه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: 59) .
هذه النصوص وغيرها كثير تنص على أن محبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم من محبة الله تعالى، وأن طاعته من طاعة الله تعالى، وأن اتباع سنته أمر
واجب على المكلف، وفي القرآن الكريم نصوص أخرى تحث آمرة على ضرورة
الاحتكام إليه صلى الله عيه وسلم في كل شيء تنازع فيه المكلفون سواء كان من
أصول الشريعة أو من فروعها، وذلك بعرضه على ما جاء به من الوحي قرآناً
وسنة، وهذا الحث طبعاً لا يستجيب له إلا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً
وبالقرآن دستوراً ومنهجاً، وبمحمد صلى الله عيه وسلم نبياً ورسولاً وقاضياً وحكماً،
والرسول صلى الله عيه وسلم نفسه، فيما ثبت عنه بسند صحيح رغَّب في ذلك
وأكده بقوله: «عليكم بسنتي» [6] ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، وإنما تبرأ من
كل راغب عن سنته معرض عنها؛ حيث قال كما ورد في الصحيحين وغيرهما من
كتب السنن: «من رغب عن سنتي فليس مني» [7] . واعلم أن من سنة نبينا
عليه الصلاة والسلام الختان سواء تعلق الأمر بسنته الفعلية أم القولية أم التقريرية.
أما بخصوص الأولى فعلى خلاف ما يدعيه المدعي من تضارب الروايات فيه؛
فالذي ترشد إليه هذه الروايات بغض النظر عن درجتها في الصحة أو الضعف أن
التضارب لم يحصل في إثبات ختانه أو نفيه، وإنما وقع في بيان طبيعة ختانه:
هل ولد مختوناً؟ أم ختنه جبريل عليه السلام يوم شق صدره؟ أم أن جده عبد
المطلب هو الذي تولى الأمر؟ وإلا فإن ختانه أمر مسلَّم به في جميع الروايات [8] .
ويلحق بهذا أيضاً ما تذكره بعض الروايات الحديثية من أن الرسول صلى الله عيه
وسلم قد تولى هذه العملية في حياته، ومن ذلك حديث جابر رضي الله عنه أنه قال:
«عق رسول الله صلى الله عيه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة
أيام» [9] .
هذا بخصوص سنته الفعلية. أما بخصوص سنته القولية؛ فإن أحاديث نبوية
عدة فيها أقوال الرسول صلى الله عيه وسلم خرجت مخرج الأمر بالختان أو المدح
لفاعله أو الذم لتاركه، وأما التقريرية فمن الصحابة من خَتن أو خُتن ولم ينكر عليه
الصلاة والسلام ذلك، فكان هذا بمثابة تقريره للختان [10] .
مشروعية الختان من السنة النبوية الشريفة:
وإن كان المحاور قد ادَّعى أنه لم يجد نصاً صحيحاً في سنة رسول الله صلى
الله عيه وسلم، يشرع فيه الختان؛ فإن النصوص الصحيحة والحسنة مما يتضمنه
هذا المبحث يفيد خلاف ذلك تماماً فمن ذلك:
- ما روى البخاري ومسلم وغيرهما من أهل السنن عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «الفطرة خمس: الختان،
والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط» [11] .
وتأملاً في هذا الحديث الصحيح وهو في أعلى مراتب الصحة يقول ابن القيم
رحمه الله: «فجعل الختان رأس خصال الفطرة، وإنما كانت هذه الخصال من
الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أُمِرَ بها إبراهيم وهي
الكلمات التي ابتلاه ربه بهن» [12] .
- حديث أبي أيوب الأنصاري بسند حسن أن النبي صلى الله عيه وسلم قال:
«أربع من سنن المرسلين: الختان، والتعطر، والسواك، والنكاح» [13] .
- أخرج الإمام أحمد والإمام أبو داود بسند حسن عن غثيم بن كليب عن أبيه
عن جده «قال للنبي صلى الله عيه وسلم: (أسلمتُ) . قال له النبي صلى الله عيه
وسلم:» ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن « [14] .
- حديث عائشة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وغيرهم رضي
الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عيه وسلم قال:» إذا التقى الختانان فقد وجب
الغسل « [15] .
وهذا حديث صحيح يفيد وجوب الغسل إذا التقى الختانان في الجماع، وأراد
بالختانين الموضع الذي قطعت منه القلفة أو الغرلة بالنسبة إلى ذكر الغلام في إطار
الإعذار، والجلدة التي كعرف الديك بالنسبة إلى فرج الجارية في إطار الخفض.
والدليل على ذلك ما قاله ابن منظور مادة ختن:» ختن الغلام والجارية يَخْتِنُهما
ويَخْتُنُهما خَتْناً، والاسم الختان والختانة. والختان موضع الختن من الذكر وموضع
القطع من نواة الجارية. قال أبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأنثى
ومنه الحديث: (إذا التقى) ... « [16] .
- حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:» سبعة من السنة في الصبي يوم
السابع: يسمى، ويختتن، ويماط عنه الأذى، ويثقب أذنه، ويعق عنه، ويحلق
رأسه، ويلطخ بدم عقيقته، ويتصدق بوزن شعره في رأسه ذهباً أو فضة « [17] .
فهذه كما تلاحظ نصوص حديثية في التنصيص على الختان إن وجوباً أو سنة،
وهي من قبيل ما روي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم بطرق صحيحة أو
حسنة، وكلها في مستوى واحد من الاحتجاج إذا لم يحصل التعارض.
أقوال العلماء في مشروعية الختان:
لم أجد بعد البحث والتقصي في حدود طاقتي ومبلغ علمي أحداً من العلماء قد
قال بعدم مشروعية الختان سواء تعلق الأمر بعلماء السلف أم بعلماء الخلف، وأقل
ما يمكن أن يذكر هنا أن علماءنا قد اختلفوا في مشروعيته بين قائل بوجوبه، وقائل
بسنيته. فأما القائلون بوجوبه فهم: الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد
الأنصاري ومالك والشافعي وأحمد والبيهقي. وأما الذين قالوا بسنيته فهم: الإمام
الحسن البصري والإمام أبو حنيفة وبعض الحنابلة. والقائلون بالسنية منهم
مَن شدد وأكد على ذلك باعتبار أن السنة هي الطريقة المتبعة وجوباً، والشرع الذي
يأثم بتركه من حيث إنها تقع بين الفرض والندب.
وإليك أقوال بعض علماء السلف في شأن الختان [18] : قال ابن عباس:
» الأقلف لا تقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته، ولا تجوز له شهادة «قال البيهقي
بعد أن ساق هذه الفتوى:» وهذا يدل على أنه يوجبه «.
وقال عكرمة: لا تأكل ذبيحة الأقلف، وقيل له: أله حج؟ قال: لا.
قال الإمام مالك: من لم يختتن لم تجز إمامته، ولم تُقبل شهادته.
وقال الخطابي:» أما الختان فإنه وإن كان مذكوراً في جملة السنن؛ فإنه عند كثير
من العلماء على الوجوب؛ وذلك أنه شعار الدين «.
وقال ابن القيم:» الختان عَلَم الحنفية، وشعار الإسلام، ورأس الفطرة،
وعنوان الملة « [19] .
هذه بعض أقوال علماء السلف في مشروعية الختان وإليك أيضاً بعض فتاوى
الخلف المعاصرين الذين عايشوا حقوق الإنسان عموماً وحقوق الطفل خصوصاً،
وهم ممن ينادي بها ويدافع عنها متى ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهي كالآتي:
- سئل فضيلة الشيخ عبد الله جبرين: ما حُكم الختان للمسلم الجديد؟ فأجاب
جزاه الله خيراً: ورد الأمر بالختان، وأنه من سنن الفطرة، وشُرع لإتمام الطهارة
في حق الرجل؛ فلذلك نرى أنه واجب لقوله صلى الله عيه وسلم:» ألق عنك
شعر الكفر واختتن «، وظاهر الأمر الوجوب، لكن إذا خيف أن يكون منفراً عن
الإسلام جاز لهم تأخيره وإخبارهم بحكمه بعدما يثبت في الإسلام ويحبه» [20] .
- وسئل فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي عن الختان عامة؟ فأجاب حفظه
الله: «أما الختان للنساء، فأعدله الختان الخفيف، وأما الختان للذكور فهو من
شعائر الإسلام، ولا يجوز تركه، وتركه كترك الأذان وغيره من شعائر
الدين» [21] .
الدليل العقلي على مشروعية الختان:
كل الدلائل العقلية من عادة وطبيعة وتجربة وغيرها تؤكد أن السلامة الصحية
في الختان أوكد لا في عكسه. وقد تتبع العلماء من فقهاء ومتخصصين وأطباء ذلك،
فانتهى بهم الأمر إلى التنصيص على ما يأتي:
أ - أن الأقلف أي الذي لم يختتن في حكم من به سلس البول أو غيره
لاحتباس البول في القلفة؛ إذ إن «الأقلف مُعرَّض لفساد طهارته وصلاته؛ فإن
القلفة تستر الذكر كله فيصيبها البول، ولا يمكن الاستجمار لها، فصحة الطهارة
والصلاة موقوفة على الختان» [22] .
ب - الختان يساهم في تحقيق التوازن الجنسي عند بني آدم. يقول ابن القيم:
«هذا مع ما في الختان من الطهارة، والنظافة، والتزيين، وتحسين الخلقة،
وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإذا عدمت بالكلية
ألحقته بالجمادات؛ فالختان يعدلها» [23] .
إضافة إلى ما سبق أو تأكيداً له ذكر الأطباء فوائد صحية جمَّة للختان؛ أكتفي
هنا بما ساقه الدكتور صبري القباني في كتابه: «حياتنا الجنسية» ، ومن ذلك:
1 - بقطع القلفة يتخلص المرء من المفرزات الدهنية، ويتخلص من السيلان
الشحمي المقزز للنفس، ويحال دون التفسخ والإنتان.
2 - بقطع القلفة يتخلص المرء من خطر انحباس الحشفة أثناء التمدد.
3 - يقلل الختان إمكان الإصابة بالسرطان؛ وقد ثبت أن هذا السرطان كثير
الحدوث في الأشخاص المتضيقة قلفتهم؛ بيد أنه نادر جداً في الشعوب التي توجب
عليهم شرائعهم الختان.
4 - إذا شرعنا في ختان الطفل أمكننا تجنيبه الإصابة بسلس البول الليلي.
5 - يخفف الختان من كثرة استعمال العادة السرية لدى البالغين « [24] .
وفي حوار علمي أجريته مع فضيلة الأستاذ الدكتور صلاح الهسكوري [25] ،
وهو المتخصص في أمراض الأطفال بمدينة مراكش. أكد لي حفظه الله أن الختان
خير كله بالنسبة لصحة الطفل البدنية والنفسية؛ شريطة أن يتم وفق شروط معينة،
وبأدوات متميزة، وفي ظروف مناسبة؛ لوقاية الطفل من كل مكروه إن عاجلاً أو
آجلاً، ثم ذكر أن الطفل في أمريكا يختتن يوم ولادته، وهذه المبادرة دليل على
أهمية الختان الصحية.
وهذه المفاهيم نفسها أكدها فضيلة الأستاذ الدكتور محمد توفيق جسوس وهو
متخصص أيضاً في علاج أمراض الأطفال بمراكش، ثم أضاف حقيقة طبية مفادها
أن الأقلف أي غير المختتن قد يتسبب لزوجته في مرض سرطان الرحم.
ولولا ما تقتضيه السرعة الإعلامية للرد على ما أثاره صاحب النظرية الفاسدة
من مغالطات لجمعت عشرات الأقوال لأطباء مرموقين يشهد لهم بالسبق في ميدانهم
بهذه المدينة المباركة كلها في صميم الدحض لطروحاته اللاعلمية والتقويض لها،
فلنحترم التخصص.
وأخيراً: لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة هي من الأهمية بمكان، ومضمونها
أن وسطية الإسلام ويسره وما يرومه من جلب المصلحة ودرء المفسدة كل ذلك
يرخص للمكلف بإسقاط فرضية الختان إذا خيف التلف أو الضرر، لا سيما إذا كان
الطفل أو المسن الذي أسلم بعد الشيخوخة ضعيفاً لا يقوى على احتماله.
__________
(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش.
(1) أخرجه البخاري، ح/ 4886، مسلم، ح/ 2125، واللفظ له، وفيهما:» قرأتيه ووجدتيه «.
(2) أخرجه البخاري، ح/ 6298، ومسلم، ح/ 2370، وأحمد في المسند، (2/418) ، واللفظ له.
(3) أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، كتاب الأنبياء، 1/481، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، وساقه أيضاً الحافظ أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم، 6/183، دار ابن كثير، بيروت، ط 1.
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6/183.
(5) تحفة المودود بأحكام المولود، للإمام ابن قيم الجوزية، ص 156، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1.
(6) أخرجه أحمد في المسند، (4/126) ، أبو داود، كتاب السنة/ 5، والترمذي، كتاب العلم/ 16.
(7) أخرجه البخاري، ح/ 5063، ومسلم، ح/ 1401.
(8) انظر المصدر السابق، ص 172، وما بعدها، الفصل الثالث عشر في ختان النبي صلى الله عيه وسلم.
(9) رواه البيهقي في السنن، 8/324، والهيثمي في مجمع الزوائد تحت رقم 6200، وساقه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 10/343.
(10) الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يختتنون على عهد رسول الله صلى الله عيه وسلم، ولم يكن ينكر ذلك، وفي صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما: مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عيه وسلم؟ قال:» أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك «.
(11) أخرجه البخاري، ح/ 5891، مسلم، ح/ 257.
(12) تحفة المودود، ص 145.
(13) ذكر بعض الرواة مكان الختان» الحناء «وقال بعضهم الحياء قال ابن القيم:» وسمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول: كلاهما غلط، وإنما هو الختان وكذلك رواه المحاملي عن الشيخ الذي روى عنه الترمذي بعينه، فقال: الختان «، تحفة المودود، ص 144.
(14) وروي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم أنه قال:» من أسلم فليختتن وإن كان كبيراً «وهذا الحديث كما يقول ابن القيم:» وإن كان مرسلاً فهو يصلح للتقوية والاعتضاد «، تحفة المودود، ص 144.
(15) أخرجه ابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح/ 1261، وصحيح الجامع الصغير، ح/ 130.
(16) لسان العرب، 13/137 وما بعدها.
(17) رواه الطبراني في الأوسط تحت رقم/ 562، والهيثمي في مجمع الزوائد تحت رقم / 6204، ثم قال: رجاله ثقات، واعلم أن الصحابي إذا قال: من السنة كذا، فإن روايته تعد من قبيل الحديث المرفوع الصريح في الرفع إلى النبي صلى الله عيه وسلم.
(18) انظر هذه الأقوال وغيرها في الكتب الفقهية عامة، ومنها كتاب تحفة المودود بأحكام المولود لابن قيم الجوزية، ص 147 وما بعدها.
(19) انظر المصدر السابق، ص 154.
(20) فتاوى وأحكام إلى الداخلين في الإسلام، ص 37، دار ابن خزيمة، الرياض، الطبعة الثانية.
(21) فتاوى معاصرة، 1/443، دار القلم، الكويت، الطبعة الخامسة.
(22) تحفة المودود، ص 150.
(23) المصدر السابق، ص 163.
(24) نقلاً من كتاب تربية الأولاد في الإسلام، لعبد الله ناصح علوان، 1/87، وما بعدها، دار السلام، الطبعة الثلاثون.
(25) مكالمة هاتفية صباح يوم الجمعة 10/3/2000م.(159/19)
تأملات دعوية
الدعوة بين الاحتساب والاكتساب
(1 - 2)
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
لقد أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعدَّه عبادة، ونهى عن سؤال الناس
وتكففهم؛ فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود عليه
السلام كان يأكل من عمل يده» [1] .
والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تحتاج إلى المال لنصرتها وهي اليوم أحوج ما
تكون إلى ما يغنيها عن سؤال التبرعات من الناس وكثرة التطواف عليهم، ولذا
يأتي الحديث كثيراً عن الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله عز وجل، وعن بذل
المال ابتغاء وجه الله.
فهذه نصوص تحثُّ على طلب قدر من الدنيا، وثمة نصوص تنهى عن
التعلق بالدنيا وتذمها.
والمسلم يأخذ بالنصوص جميعاً، وينظر إليها بمنظار واحد؛ إذ النظر إلى
جانب واحد من النصوص يؤدي بصاحبه إلى سوء فهم للشريعة.
وثمة أخطاء في تعامل بعض الدعاة مع الدنيا نتيجة تغليب جانب على آخر،
وفي هذه المقالة بعض الإشارات حول جانب إهمال القدر المشروع من طلب الدنيا:
* إهمال الاكتساب المشروع، واعتباره انشغالاً عن العلم والدعوة، وعيش
الشاب في معاناة وضيق، أو استمراره في الاعتماد على والديه، ولهم أسوة حسنة
في النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعمل ويكتسب ليأكل من عمل يده؛ فعن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبياً
إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم! كنت أرعاها على قراريط
لأهل مكة» [2] .
* يهمل بعض الشباب اختيار العمل الذي يوفر له دخلاً يتناسب مع احتياجاته،
ويختار عملاً دون المتاح له من الأعمال التي تسد حاجته الحقيقية، ثم يصبح بعد
ذلك عالة يتكفف الناس، وقد يلجأ إلى سؤالهم الصدقات لإتمام الزواج أو سداد
الديون إلى غير ذلك.
* إهمال المربين هذا الجانب في إعداد الشباب؛ فمع تضاؤل كثير من فرص
العمل اليوم لا بد من الاعتناء بتربية الشباب على المسؤولية، وتعويدهم على
الاستغناء عن الناس، وهو أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه،
ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو أحسبه قال إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل
ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» [3] ولئن كان الاحتطاب وسيلة طلب الرزق
في عصر مضى ففي هذا العصر ثمة وسائل وأساليب أخرى [4] .
* العمل في المؤسسات الدعوية أصبح اليوم مصدر دخل لطائفة من الشباب،
وهذا من خير ما ينشغل به المرء حين تصلح نيته، لكن لا يسوغ أن تضاع حقوق
هؤلاء باسم دعوتهم إلى الاحتساب، ومن حقهم أن يعيشوا عيشة كريمة كما يعيش
غيرهم.
* هناك فئة من الشباب الصالحين ممن لهم مشاركة في الأعمال الدعوية
يعانون من ضيق ذات اليد، ويتحمل بعضهم قدراً من الديون، فجدير بأصحاب
القلوب الرحيمة من الدعاة إلى الله عز وجل، وجدير بالمؤسسات والجمعيات
الإسلامية أن تعنى بأمثال هؤلاء؛ بل لو تعاون إخوانهم وأقرانهم وشعروا
بمسؤوليتهم تجاههم لحلُّوا كثيراً من مشكلاتهم، ولهم أسوة حسنة في الأنصار الذين
آوَوْا إخوانهم المهاجرين، وقاسموهم ثمارهم وأموالهم، بل طلق بعضهم بعض
نسائه لصاحبه، ويكفي ثناء القرآن عليهم في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] (الحشر: 9) .
* ضعف اعتناء كثير من المؤسسات الدعوية بتنمية الموارد المالية، وضعف
إدارتها لما هو متاح لها من ذلك، ولقد كان للمال أثر في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم في دخول طائفة من الناس في الإسلام؛ فكيف بهذا العصر الذي هو عصر
الاقتصاد والمال.
__________
(1) رواه البخاري (2072) .
(2) رواه البخاري (2262) .
(3) رواه البخاري (1480) ومسلم (1042) .
(4) مع ضرورة مراعاة الاعتدال في ذلك.(159/27)
قضايا دعوية
نحو أخلاقيات أمثل للاختلاف
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
الاختلاف حقيقة لا مناص منها للنوع البشري ما دام البشر غير مكتملين، أي
ما داموا قد خُلقوا من طبيعة غير طبيعة الملائكة، وهم كذلك، وسيظلون كذلك ما
بقوا على ظهر هذه البسيطة؛ ولذلك فليس المطلوب إزالة الخلاف أو إلغاءه؛ فذلك
غير ممكن، وإنما المطلوب فقط التقليل من دائرته والتعايش السويّ السليم معه.
في المجتمعات المطمئنة الواثقة من نفسها يكون الاختلاف أقل خطراً،
والتعاطي معه أقل توتراً؛ وقد قمت من ناحيتي بإعداد بحث حول اختلاف الصحابة،
وأصدُقُكم القول: لقد دُهشت من هذا الاتساع الكبير من الاختلاف الذي كان بينهم،
والذي حفظته لنا كتب السنة والتاريخ والتفسير؛ لكن دهشتي كانت أعظم من
الأخلاقيات العالية التي كانت سائدة بينهم رغم هذا الاختلاف؛ فإنّ أحدهم مثلاً لا
يبذل أي جهد كي يَقْسر الآخرين على قناعاته أو يُلزمهم بما يراه صواباً.
كما أنّ أحدهم لا يمكن أن يشكك في مقاصد الآخر أو يطعن في مقاصده
ونواياه، كما أن الجدال بينهم لا يستمر ويتشعب حتى يتحول إلى خصومة ولدد؛
بل يكتفي كل من الأطراف ببيان وجهة نظره حتى يظن أنها قد ظهرت للآخر
ظهوراً كافياً؛ ثم لا عليه بعد ذلك قَبِلها الآخر أو ردها، والأمر في ذلك سيَّان، لا
يشعر كما يفعل كثيرون الآن بأن من لم يقبل قوله رقيق الدين أو ضعيف العقل،
فضلاً عن أن يعتبره معادياً له، أو ناظراً إليه نظرة ازدراء واحتقار، وكأنه يقول
له: ومن أنت حتى أدع رأيي لرأيك..؟ !
وهو فوق ذلك لا يتخذ أي موقف عدائي، أو خصومة أو مقاطعة لأخيه لمجرد
اختلافه معه؛ إنه يعطيه كامل الحق في الموافقة أو المخالفة، كما يعطيه كل الوقت
الذي يحتاجه لكي يقلِّب النظر ويعيد التأمل في الحجج والآراء التي سمعها، ثم لا
يبالي بعد ذلك: هل اقتنع بقول صاحبه أو بقي على رأيه؟ لأن قول صاحبه
وحججه لا تكفي لتغيير ما كان عليه من قول ورأي. تلك كانت حالهم؛ حيث لا
يحتاج المرء إلى كثير جهد كي يعرف ذلك من تاريخهم. وفي كتاب «الإجابة عما
استدركته عائشة على الصحابة» للزركشي مصداق ما أقول، وهو كتاب حاشد مهم
جمع فيه صاحبه رحمه الله تعالى نماذج كثيرة من الاختلافات بين أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، وظهر فيه سمو أدب اختلافهم العلمي، ومنه يظهر سرّ
نجاحهم وسيادتهم وقدرتهم على تغيير الشعوب وتربيتها وتقديمهم النموذج الراقي
للإنسان المسلم، وللأمة المسلمة المتماسكة المتحابة المتآلفة، وبذلك دخلت الأمم
بفضل الله تعالى ثم بفضل النموذج الراقي للجماعة المتحابة المتماسكة دخلوا في دين
الله أفواجاً؛ كيف لا؟ وهم نتاج للتربية النبوية الكريمة التي علمهم فيها النبي صلى
الله عليه وسلم القيم العليا؛ حيث كان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره
لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» [1] وكان صلى الله عليه
وسلم يقول: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر» [2] .
وعلى النقيض من ذلك أعرف بعض الدعاة الذين لا همَّ لهم إلا تسقُّط أخبار
إخوانهم.
حتى إن أحدهم ليفرح بالخطيئة يجدها على أخيه، ويسارع في نشرها كأن
ليس لهم من عمل إلا ذاك ناسياً قول الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ]
(الحجرات: 12) .
وإن تعجب فعجب أن أقواماً من هؤلاء يزعمون أن دافعهم الغيرة على الدين
والذب عن حياض الشريعة والعقيدة؛ فإذا تكشفت لك حاله ظهر لك أن هذا الدافع
من أضعف دوافعه وأبعدها عن الحقيقة، بل الكثير من هؤلاء دفعه حسده وغيرته
وعجزه وضعفه عن أن ينفع الناس؛ فما كان منه إلا أن شُغِلَ بالعاملين المنجزين
يضع العقبات في طريقهم، ويثير حولهم الزوابع والشبهات كي يصد الناس عنهم
[وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: 40) ، وإني لأعرف
باحثاً من الفضلاء درس مسألة من تلك المسائل الاجتهادية التي يعاملها بعض الناس
بشيء من التقديس كأنما هي واحدة من قواطع الدين وثوابته التي لا يجوز الخروج
فيها عن الشائع والمألوف من القول في هذا الوقت، فلقيه بعض أنصاف المتعلمين
أو أرباعهم وانتحى به جانباً وعاتبه قائلاً: كيف تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها
فلان من أهل العلم؟ فأجابه صاحبنا: ولكن هذا العالم قد بحثها. فأجابه المتعالم:
مسألة بحثها فلان لماذا تبحثها؟ ! !
أيُّ غيرة على الدين، أو ذبٍّ عن الشريعة ذاك الذي لا يتورع صاحبه عن
الاختلاق والكذب والتلفيق وسوء التأويل كي يصل لمراده ... ؟ ! !
أيُّ صدق في التوجه ذاك الذي يدفع صاحبه إلى أن يُلزم الناس باجتهاده هو،
ووجهة نظره في القضايا المثارة، ويطلب منهم أن يَلجُوا من ثقب الإبرة الذي وََلجَه،
وإلا فما هم على شيء؟ !
هل راجع هؤلاء وأمثالهم مقاصدهم وأهدافهم، وأعادوا النظر في مراداتهم
وشهوات أنفسهم فتساءلوا صادقين: ألِلهِ ولدينه غضبنا، أم لقولنا وآرائنا؟ ! هل
أعطينا للقضايا المشابهة نفس الاهتمام والغيرة، أو نحن نغار في مسائل دون
غيرها لمجرد روابط عاطفية أو نفسية تربطنا بها، وثمة ما هو أخطر منها وأكثر
حيوية وضرورة ووضوحاً، ومع ذلك لا نحرك لها ساكناً..؟ ! !
إنني أعتقد جازماً بأن بعض المراجعة والنقد الذاتي سوف تعيد الكثير من
القضايا إلى حجمها الحقيقي بعيداً عن المبالغة أو التهميش.
حدثني بعض الباحثين من طلبة العلم أنه كان ينوي كتابة مقدمة بحثية لكتابه
يشير فيها إلى أن الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه؛
يلزمه أن يقول كلمة الحق لا يجامل فيها طائفة ولا أهل مذهب أو محلة، لا
يحركه في ذلك إلا الإخلاص في الاستجابة لله وللرسول، وأن يقول ما أدى إليه
بحثه العلمي ولا يخاف في الله لومة لائم، لكن بعض أصحابه نهاه أن يفعل كي لا
يغضب منه أقوام أو يسيئوا فهمه، فقلت له: أيها الأخ الفاضل! تخيل لو أن ابن
تيمية أو ابن عبد الوهاب أو غيرهم من المجددين والمصلحين فعلوا ما تفعلون من
تحفظات وتخوفات أترى بقي لهم ذكر، أم عُرف لهم مزيد فضل على أقوامهم؟ !
وعندما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لم يأت رجل قط بمثل ما
جئت به إلا عودي» [3] فإنما قال ذلك وهو يستقرئ التاريخ مصداقاً لقول الله
تبارك وتعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً
وَنَصِيراً] (الفرقان: 31) .
وذاك الذي لقيه الأنبياء يلقاه ورثتهم من بعدهم، كما قال لقمان لابنه وهو
يعظه: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان: 17) . كأنه رأى أنه لا يقوم قائم بمهمة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويصيبه بعض ما أصابهم، وفي التاريخ قديمه
وجديده خير شاهد. إننا أيها الأخ الحبيب! ونحن نعلِّم الناس العلم؛ فإنما نعلمهم
مفردات العلم التي قد يختلف فيها الناس ويتفاوتون، ولكننا كذلك نعلمهم المنهج
الصحيح في الطاعة لله ورسوله، والطريقة السديدة للوصول إلى الحق الصراح من
الكتاب والسنّة كي يسعدوا بثمارهما، وينعموا بعطائهما، وهذا المنهج وسداده
واستقامته أهم من نتائج العلم التفصيلية؛ فتلك قد تُنسى، وقد يُختلف حولها، ولكن
الذي يبقى ولا ينسى إنما هو المنهج السديد، والطريق القاصد، ولذلك فلا تتلجلج
في بيان الحق والذب عنه مهما كانت التكاليف. نعم! تلطف إلى الناس كي يقبلوه،
ولكن حذار، ثم حذار من أن تبدل فيه أو تعدل كي لا يرفضوه؛ فإنما أنت وأدوية
الكتاب والسنة كالطبيب يصف الدواء ولا يغيره من أجل أنهم لا يستسيغونه
[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ]
(آل عمران: 187) .
هذا واجبكم فلا تترددوا فيه، وهذا وإنني على يقين أن كثيراً مما يصيب
الدعوة والدعاة من كلالة وعجز، أو مما يصيبهم من بلاء ومحنة وتسلط للأعداء؛
فإنما هو من مثل هذه الذنوب: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
وربما ظهر لك أن هذه المسألة من مسائل العلم العملية التي تتفاوت فيها
الاجتهادات، أو هي من مسائل الوسائل التي أذن لنا الشرع فيها بالتعدد والاختلاف،
وليست هي كذلك إنما هي من مسائل أصول الدين ومبانيه الكبار؛ إذ هي من
إجابة السؤالين الكبيرين اللذين تُسأل عنهما الأمم يوم القيامة.
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ] (القصص: 62) .
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ] (القصص: 65) .
[وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ] (فصلت: 47) .
عسى الله أن يرزقنا الثبات عند مزلة الأقدام، ويغفر لنا؛ وهو الغفور الرحيم.
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 6473، ومسلم، ح/ 1714، واللفظ له.
(2) أخرجه أحمد في المسند، (1/396) ، أبو داود، كتاب الأدب/ 28، الترمذي، كتاب المناقب/ 63.
(3) أخرجه البخاري، ح/ 3، مسلم، ح/ 160.(159/29)
نص شعري
عذراً فلسطين
أحمد بن عطية الزهراني
عذراً فلسطينُ إذ لم نحمل القُضُبا ... ولم نَقُد نحوك المَهرية النجبا
عذراً فإن سيوف القوم قد صدئت ... وخيلهم لم تعد تستمرئُ التعبا
عذراً فإن السيوف اليوم وا أسفاً ... تخالها العين في أغمادها حطبا
عذراً؛ فإن عتاق الخيل مُنْهَكَةٌ ... قد أورثتها سياط الغاصب الوصبا
عذراً فلسطينُ! إن الذلَّ قيَّدنا ... فكيف نُبقي عليكِ الدُّرَّ والذهبا؟
عذراً؛ فذا الدُّرُّ يُشْوَى خلف والده ... بنار باراك لا يدري لها سببا
عذراً؛ فذا طفلكم يشكو فجيعته ... فلم يجد بيننا أمّاً له وأبا
عذراً فقومكِ قد ماتت شهامتهُمْ ... وثلَّم الذلُّ منهم صارماً عضبا
رأوكِ في الأسر فاحمرّت عيونهُمُ ... لذاك، وانتفخت أوداجهم غضبا
يستنكرون وما يُغنيكِ ما فعلوا ... ويشجبون وما تدرين مَن شجبا
وا حسرتاه على الأقصى يدنّسُهُ ... قردٌ ويهتزُّ في ساحاته طربا
قد كان فيما مضى عِزاً فوا كبدي ... أضحى أسيراً رهين القيد مُغتصَباً
كأنه لم يكن مسرى الرسول ولم ... يُصلِّ فيه يؤمُّ الصفوةَ النُجُبا
كأنه ما أتى الفاروق يُعتقه ... يوماً، وما وطئت أقدامه النَقَبا
كأنه لم يُؤذِّن للصلاة به ... بلال يوماً، ففاض الدمع منسكبا
كأنما الأرض قد أخفت معالمهم ... ومزّقت ما حَوَوْا من عزَّة إرَبا
لهفي على القدس كم جاس الظلوم بها ... وكم تقاسي صروف الدهر والنُوَبا
تعيث فيها اليهود الغُتم مفسدةً ... وتزرع الشرَّ والإرهاب والشغبا
يستأسد القرد فيها بعد خِسَّته ... ويرفع الهامة الخنزير مغتصبا
كم أشعلوا نارهم فيها وكم هدموا ... من منزلٍ، وأهانوا والداً حَدِبا
وكم أسالوا دموع المؤمنات ضحىً ... وكم ظلوم بغى، أو غاصب غصبا
وكم أداروا كؤوس الموت مترَعةً ... فأيتموا طفلة أو شرَّدوا عزَبَا
صبراً فما اسودَّ مِن ذا الليل جانبه ... إلا ليُؤْذن أن الفجر قد قَرُبا
إنِ استضاء بنار الحرب جمعهُمُ ... فعن قليل سيغشى جمعنا اللهبا
لن نستكين ولن نرضى بها بدلاً ... غداً نردُّ أذان الحق والسلبا
غداً نعيد فلسطين التي عُهِدَت ... من قَبلِ خمسين عاماً دوحةً ورُبى
غداً نعيد لها التكبير تسمعه ... أُذْن الدُّنى، ونعيد الفقه والأدبا
غداً نعيد لها الزيتون نغرسه ... غرساً ونزرع فيها التين والعنبا
غداً سنقلع منها كُلَّ غرقدةٍ ... ونضرب الهام كيما نقطع الصخَبَا(159/31)
الإسلام لعصرنا
فصل الدين عن الدولة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة
عن الكنيسة، من القضايا المسلَّم بها في الفكر الغربي السياسي، ومن ثم في الفكر
السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد
يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية، وبالديانة
النصرانية؛ لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة، ويسوِّغون
هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة، وما دام المواطنون في الدولة
الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد، بل تتقاسمهم أديان متعددة، وقد يكون
بعضهم ملحداً لا يؤمن بدين؛ ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئات
على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه:
- يفرض عليهم ديناً لا يؤمنون به.
- ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه.
- ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة، وقد
يكون سبباً لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها.
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه
ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما
يريدون من قِيَم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد
المدافعون عنها أن تكون، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة.
ومن ذلك:
أولاً: أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان؛
لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة، أي إذا كان
الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماسَّ بينهما، وأن دعاة الدولة
الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة.
فهل هذا الافتراض صحيح؟ إنه لا يكون صحيحاً إلا إذا كان الدين
محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع
السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة، لكن
الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة:
اليهودية والنصرانية والإسلام؛ فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين،
وفي العلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه، وما يحرم،
وهكذا. وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة.
كيف حل الغربيون هذا الإشكال؟ حلوه بنوع من المساومة: فهم قد أخذوا
بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة، وهم يجعلون اعتباراً كبيراً لقيمهم
الدينية في سياستهم الخارجية، ولا سيما في معاملة الإسلام. لكنهم في الجانب
الآخر تركوا أشياء من دينهم، وساعدهم على ذلك تاريخهم المليء بتحريف الدين
إما في نصوصه أو في تأويله، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية
تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله تعالى، وأنه من
كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها،
ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي ألا ينظر إليها
إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة. هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب،
وإنما يقوله كثير من رجال الدين، والمختصين بدراسته، لكن حتى هؤلاء
المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان، بل
صارت هي نفسها ديناً يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية، وأذكر أن
أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحاً: لا تُخدَعوا كما خُدِعنا، فتظنوا أن
العلمانية موقف محايد؛ بل هي الآن دين، أو كما قال ذاك الناصح.
فكيف تُحَل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله
تعالى لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو أيضاً وحي الله؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة،
بل يتعداها إلى أخرى هي من أخص خصائص الدولة؟
ماذا يفعل هؤلاء؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية، أو
الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى.
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد
الواحد. يقولون: بأي حق تفرض على أناس ديناً غير دينهم، وقِيَماً ليست قيماً
لهم؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون، أو كان غير المسلمين أفراداً قلائل؟
لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم؟
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى
يمثلون نسباً كثيرة، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل؛ لأن أصحاب هذه
الديانات إما أن يكونوا في السياسة علمانيين، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن
تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها. فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد
تنازلوا عن دينهم بينما هو لم يتنازل عن شيء؛ لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان
هنالك مسلمون أو لم يكن. أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا
في السودان: إنكم لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكياً كما كان الحال في
أوائل حكم الرئيس نميري، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية؛
لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل، فلماذا إذن تعترضون على الحكم
الإسلامي؟ إن الإسلام لا يفرض عليكم ديناً بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه، أعني
العبادات والأحوال الشخصية، فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للاشتراكية
والرأسمالية؛ لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيكم إياه العلمانية؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية: إن هذا قد يكون
صحيحاً؛ لكنكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم، فتمنعون غير
المسلم من أن يكون رأس دولة، وأقول لهم دائماً: ولكن العلمانية هي الأخرى تفعل
ما نفعل. إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانياً لكي يكون رأس دولة، تشترط
عليه أن يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة، أي أنها تشترط على
المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه. وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافراً خارجاً عن
الإسلام، وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة أن يكون دائناً بدين
الإسلام؛ فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائناً بدينها، فما الفرق؟
يقولون: لكن العلمانية ليست ديناً. ونقول هذا في مفهومكم أنتم. أما في لغتنا
العربية، وديننا الإسلامي، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد، ومن
باب أوْلى من قيم وعقائد، هو دينه، سواء كان مبنياً على إيمان بالله أو كفر به.
ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شددت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ ... أما ... أما يقيني؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال ديناً فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك؟ ألم
يقل الله تعالى عن سيدنا يوسف: [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ] (يوسف: 76) . يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه؟ العلمانية ليست إذن
حلاً لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية، بل ولا حتى أقلية معتبرة؛ إذ إن ما تطلبه
العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين.(159/33)
وقفات
نحن والغرب
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
علاقة الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية المعاصرة لها جذور تاريخية عريقة
ممتدة منذ فجر الإسلام، وقد أخذ الصراع بين الأمتين في هذا العصر مناحي
ومجالات متعددة.
وتواجه الأمة الإسلامية تحدياً حضارياً وعقدياً كبيراً؛ فالحضارة الغربية
امتدت بأذرعها المختلفة ساعية لابتلاع الأمم والحضارات الأخرى، وتدمير كافة
البنى الثقافية والفكرية والاجتماعية، وانطلقت بطوفان جارف من التغريب يتخطف
كافة الشعوب والأمم التي أصبح كثير منها يركع إثر انهيار مقاومته الفكرية..!
ولكن هل استطعنا أن نفهم الغرب حقاً وندرك كيف يفكر؟ ! وكيف ينظر
إلينا؟ وهل استطعنا أن نفهم الواقع الغربي فهماً حقيقياً، ونحلل مواطن القوة
والضعف فيه؟ !
إن الشجب والذم المطلق هو الأسلوب الوحيد والدائم عند طائفة من الناس في
فهم الغرب والتفاهم معه؛ فهم لا ينظرون إلى الواقع الغربي مثلاً إلا من خلال
التصدع الاجتماعي وغياب دور الأسرة، وانتشار المخدرات، والشذوذ والإيدز
والأمراض الجنسية!
وحتى في هذا الجانب ربما تطغى السطحية في تلمُّس السلبيات والأمراض
التي يعاني منها الغرب؛ فقد يغفل الكثيرون عن الطبقية الاقتصادية الضاربة
بأطنابها في أعماق الغرب، والتي ولَّدت الظلم الاجتماعي، واستغلال الرأسماليين
لحقوق العامة والطبقات المستضعفة، وقد يغفل الكثيرون عن الديون الهائلة التي
تُثقل كاهل الخزانة الأمريكية والبالغة أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. كما يغفل
بعضنا عن التنافر العرقي الذي يطغى على التركيبة السكانية في الولايات المتحدة
الأمريكية مثلاً، وينذر بانفجار يصدِّع أركانها. ويغفل آخرون عن الهُلامية
الديمقراطية التي يغلِّف الغرب بها نفسه بأغلفة برَّاقة، وفي داخلها من التصدُّع ما
الله به عليم؛ فصُنَّاع الرأي وأباطرة الإعلام هم الذين يشكِّلون العقول، ويصنعون
القناعات والمواقف، ويوجهون الرأي العام من حيث يشعر أو لا يشعر ... إلى
أمثلة كثيرة من الأمراض الغربية التي تنخر بناءه الحضاري من الداخل.
وفي المقابل فإن الاغترار والإعجاب المطلق هو الأسلوب الوحيد عند طائفة
أخرى من الناس في فَهْم الغرب ودراسة حضارته؛ فهُم لا يرون في الغرب إلا
تقدُّمَه التقني والتجريبي في كافة العلوم التطبيقية، ويغفلون عن جوانب أخرى
إيجابية تستحق الرصد والمتابعة لاستثمارها والاستفادة منها، مثل: تأسيس قواعده
الحضارية من حيث الجملة على أسس علمية بعيدة عن المحاباة أو المجاملة،
والتزامه بالعقلية المؤسسية التي لا ترتبط ارتباطاً تاماً بالأفراد؛ بل تعتمد على
الأنظمة والسياسات العامة، ومثل: سيادة الدستور والقانون بغضِّ النظر عن صحة
ذلك القانون أو الدستور على كافة الجوانب الحياتية، والتزام كافة الطبقات السياسية
والفكرية والاجتماعية به، ومثل: الالتزام بالقواعد الإدارية والأصول التنظيمية
التي تحكم كافة المناشط الحياتية ... إلى جوانب أخرى عديدة من جوانب التقدم
والتفوق.
وهذان الأسلوبان السطحيان المتباينان سيؤديان حتماً إلى خلل وقصور
واضطراب في الفهم؛ لأن كلتا الطائفتين ستبقيان مطوقتين بهذه الرؤية الجزئية
المحدودة.
إن فهم الواقع الغربي ورؤيته برؤية عميقة ناضجة من الداخل باب رئيس من
أبواب المواجهة القادمة معه، بل من أبواب التغيير في واقعنا إذا أخذنا في الاعتبار
تأثر كثير من المتنفذين في بلادنا الإسلامية بالغرب. ولن نستطيع مدافعة الغرب
ومنازلته ثم اختراقه ما لم نقرأ واقعه قراءة شاملة ودقيقة وأمينة، وما لم نتعرف
عليه التعرف الصحيح الذي يضع الأمور في نصابها وحجمها الصحيح؛ وإنه لمن
الخطر البالغ أن ننظر إلى الواقع الغربي ببدائية تفتقر إلى أيسر الأسس العلمية في
المواجهة والمدافعة، ونحن نقرأ قول الله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .
وإصلاح الوضع الداخلي للأمة الإسلامية لن يكون بمعزل عن تفهُّم الواقع
العالمي بكل أبعاده؛ فقد تداخلت الحضارات، وتشابكت الأمم، وأصبحنا نعيش
وضعاً كونياً جديداً لم يمر مثله على الناس في العقود الماضية.
وتفهُّم الواقع الغربي خصوصاً، والواقع العالمي عموماً لن يحيط به رجل
واحد من خلال زيارة عابرة لبعض الدول، بل يتطلب رصداً دقيقا لمنطلقات الغرب
وأهدافه والمؤثرات عليه، ويتطلب رصداً لتطور كافة الوقائع والمتغيرات، وهذا
بالطبع لن يكون إلا من خلال جهود متكاملة لعدد من المهتمين والمتخصصين،
للتحليل والدراسة واستشراف آفاق المستقبل، وتوظيف شبكات الاتصال
والمعلومات في تحقيق المصالح الإسلامية.
إننا في حاجة إلى مراكز علمية متخصصة في هذا الشأن، لكن المشكلة أن
كثيراً من الناس حتى من بعض النخب الدعوية ربما لا تحفل بمثل هذا العمل؛
لأنهم تعوَّدوا على العناية بالنشاط العاطفي، والتقليل من شأن النشاط الفكري،
وغلَّبوا النظر إلى النتائج العاجلة القريبة على النتائج الآجلة البعيدة؛ على الرغم من
التلازم الوثيق بين الأمرين.(159/35)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
كلام خارج الظل
هي شجرة غريبة، جلبوها من أحراش الغرب الفكرية، وغرسوها في تربة
ليست بتربتها.. لم تنبت كما أرادوا، فراحوا يعملون في أشجار هذه التربة تقطيعاً
وتحريقاً؛ لاستنبات الشجرة الغريبة.. قالوا: إن هذه الشجرة لا تنبت وسط أشجار
من غير فصيلتها، حرثوا الأرض لها، اقتلعوا كل ما عداها، ثم راحوا يجففون
المنابع عن كل ما سواها؛ لتوفير التربة المناسبة والمناخ الملائم.. شجرة مدللة
محمية! ..
وعَدُونا بقطف ثمارها عندما تينع باسقة، ووعَدُونا بالراحة في ظل رخائها،
ووعدُونا بالتمتع بشمس الحرية وبالتنعم بنور العلم اللذين حُرمنا منهما عندما حجبتها
الأشجار المقتلَعة.. هكذا وعدُونا وهكذا زعموا! .
استوت الشجرة الغريبة الغربية وأينعت، فإذا بنا نطعم ثمارها حنظلاً، وإذا
بظل رخائها يُتخم بطوننا فقرًا وفسادًا، وإذا بشمس حريتها تُلهب ظهورنا قمعاً
وقهرًا، وإذا بنور علمها يغشى بصيرتنا وهمًا وسرابًا..! .
قالوا: صبراً! فلا بد من دفع ضريبة التقدم، ولا بد من تحمل مشاق
الطريق.. فمَن زرع حصد، ومَن جدَّ وجد.. صَبَرْنا وصَبَرنا وتحملنا، نعم.. هم
حصدوا وهم وحدهم وجدوا، أما نحن فوجدنا أنفسنا نجلس في العراء لنشاهد تساقط
أوراق شجرتهم غير مأسوف عليها.. عندها قالوا: إن ما ذقتموه ليس حنظلاً؛
بل هو شهد مصفَّى، والعيب في ذائقتكم، وإن تساقُط أوراق الشجرة ليس علامة
مرض واحتضار، بل علامة صحة وتجديد، والعيب في بصيرتكم.. عليكم بتجرع
المزيد..!
تلكم هذه قصة العلمانية في بلادنا..
فحتى متى المخادعة؟ وإلى متى نستمرئ الدجل؟ متى نقتلع هذه الشجرة من
أرضنا المباركة ونتخلص من سمومها وحنظلها؟
إلى الذين ما زالوا يشكُّون في هذه المخادعة، ويترددون تجاه هذا الدجل،
ويتحيرون في الموقف من العلمانية والعلمانيين.. نقدم هذا الملف: ليس
تصيُّداً لأوراقهم المتساقطة؛ فتساقط الأوراق لم يبق من شجرتهم الخبيثة إلا
عصا هراوة.. وليس جمعاً لكل حصاد العلمانية، فحنظلهم علا وطمَّ..
وهذا الملف للعلمانية أقل من جرد حساب لكامل التجربة العلمانية، وأكثر من
مجرد هجاء لها؛ فهو يكشف نقطة من بحر.. عفواً: نقطة في مستنقع.. مستنقع
آسن تُرفع على حدوده لافتة تقول: ممنوع دخول الطهر والمتطهرين.. محمية
محظورة!(159/37)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
العلمانية التاريخ والفكرة
د. عوض محمد القرني [*]
يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح
«العلمانية» ، والقليل من الناس من غير المتخصصين مَنْ لديه معلومات دقيقة،
أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية، ولعلِّي في هذه الكتابة أُسهم في بيان هذه
الجوانب عن العلمانية وتوضيحها وكشفها؛ مع الاعتراف بصعوبة ذلك في الكتابة
الصحفية، لما تستدعيه من الاختصار والإيجاز، ولما عوَّدت الصحافة الناس عليه
من البساطة والخطابية؛ وعدم التوثيق العلمي الأكاديمي المتعارف عليه في
الجامعات.
أصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية: (Secularism) ، وهي من
العِلْم؛ فتكون بكسر العين، أو من العَالَم فتكون بفتح العين، وهي ترجمة غير
أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة؛ لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي «لا دينية،
أو لا غيبية، أو الدنيوية، أو لا مقدس» ، لكن المسوّقين الأُوَل لمبدأ العلمانية
في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس، ولردُّوها
ونفروا منها، فدلَّسوها تحت كلمة (العلمانية) لإيهام الناس أنها من العلم، ونحن
في عصر العلم، أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير
المنحاز لأمة أو ثقافة.
وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد
الشام في القرن التاسع عشر، وكان أول من طرح هذا المصطلح حسب علمي
«إلياس بقطور» نصراني لبناني، في معجم أعده (عربي/ فرنسي) ، ثم
طرحه بَعدُ «البستاني» في معجميه اللذين ألَّفهما.
العلمانية بضاعة غربية:
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية:
دينية واجتماعية وسياسية وعلمية واقتصادية خلال قرون من التدرج والنمو
الطبيعي، والتجريب والتكامل، حتى وصلت إلى صورتها التي هي عليها اليوم،
وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب
هي:
1 - طبيعة الديانة النصرانية: ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين
الدين والدنيا، أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة؛ فهي ديانة روحية
شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشؤون الحكم والمجتمع؛ يعبر عن ذلك الشعار
النصراني الشهير: «دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر» ، ولهذا فإن النصارى
أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم في العلمانية أو غيرها لا
يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقدهم؛ بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا
الأمر؛ ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر
طبيعي.
2 - الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة
المختلفة: فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية ديانة روحية صرفة؛ إلا أن
المؤسسة الكنسية تبنت بعض النظريات العلمية القديمة في بعض العلوم، ثم بمرور
الزمن جعلتها جزءاً من الدين يُحكَم على كل من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة،
وحين تطورت العلوم الطبيعية تبين أن الكثير من تلك النظريات كان خاطئاً وخلاف
الصواب والحقيقة، وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها الدين،
واشتعلت الحرب، وسقط ضحايا التزمُّت الخرافي والتعصب الأعمى غير المسوّغ
من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق، ومارست الكنيسة أقصى
درجات القمع الفكري والبدني على معارضيها بزعمها، وجنت الكنيسة على الدين
حين صوَّرته للناس دين الخرافة والدجل والكذب بسبب إصرارها على أن تنسب
إليه ما هو منه براء. وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على
صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنيسة ودينها، أو على الأصح ردُّوا
الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها وطبيعتها وحقيقتها، لا شأن لها بالعلم والحياة
والنظم والكشوف، فكان ذلك دفعة جديدة لسيادة العلمانية تدعمها الكشوف العلمية
والعقول المفكرة.
3 - ظهور حركات اجتماعية فكرية سياسية: وقد أدى انتصار العلم في
النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية، فكان أن قامت في الغرب حركة
اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي، وثارت على كل قديم،
واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة
التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء، وانحازت الكنيسة أيضاً للقوى القديمة، بينما
كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات والمساواة، وترفع شعار حقوق الإنسان،
ويدعمها العلم وحقائقه، وتطور الحياة وسننها، فالتفَّت الشعوب والجماهير حول
القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي، وكان يدعم
هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة،
وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها،
وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية، واندحرت الديانة النصرانية، وأخذت
القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتحل جميع مشكلاته، ويعم
السلام والرفاهية والإخاء جميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه كما سنرى
بعد قليل.
نتائج العلمانية في الغرب:
حين تحرر الإنسان الغربي من سيطرة الكنيسة والإقطاع تحرر من سيطرة
الخرافة والدجل والظلم، ورافق ذلك بزوغ فجر التقدم الصناعي والثورة العلمية
التقنية، وحين أخذت الشعوب الغربية بالنهج العلماني الجديد في إطار المستجدات
العلمية والاجتماعية والفكرية والسياسية الجديدة كانت نتائج ذلك:
1 - التقدم العلمي الهائل: إذ إن العقل الغربي الذي كان أسير الأساطير
تاريخياً، والخرافة دينياً وعلمياً، تحرر من ذلك كله وانطلق يبحث ويجرب ويفكر
ويستقصي، فأبدع في هذا المجال بما لم تعرفه البشرية في تاريخها، وقدم الغرب
للإنسانية من نتائج علمه ثورة صناعية هائلة غيرت وجه الأرض، وطبيعة علاقة
الإنسان بالبيئة المادية من حوله.
2 - الرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية ولم
تحرمه شعوب العالم الأخرى: إذ إن منجزات العلم وُظفت في العديد من جوانبها
لرفاهية الإنسان في ضرورياته من غذاء وكساء وعلاج وسكن وخدمات، بل تجاوز
كثير من الشعوب توفير الضروريات إلى التوسع في الكماليات بصورة متميزة لم
تعرف لها البشرية مثيلاً في الجملة وبصورة عامة.
3 - الاستقرار السياسي: واستبعاد صور العنف وأشكاله في التعبير عن
الآراء والتوجهات السياسية، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار أو
الصراع السياسي، وتوفير ضمانات للحريات السياسية، وعدم الاضطهاد، وتنظيم
العلاقة بين الشعوب وحكامها؛ فكان هذا النهج السياسي في آلياته ووسائله وأساليبه
لا في فلسفته ومحتواه الفكري أمناً وسلاماً على الشعوب الغربية بعد عصور الدماء
والتطاحن والثورات، وأصبح مثالاً يُحتذى من كافة شعوب الأرض، ويسعى
الجميع لاستيراده وتطبيقه باعتباره نهاية التاريخ، وغاية التطور، وسقف الحضارة
الذي لا يمكن تجاوزه.
4 - احترام حقوق الإنسان وحرياته: وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم
الغربي أيضاً للحقوق والحريات؛ حيث أصبح زعيم أكبر دولة في العالم وأقواها
يُحقق معه، ويُحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت
السيادة للقانون، ودَور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه، وخدمة الأمة وحمايتها،
والنزول على رأيها ورغبتها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاهيم الغربية عن حقوق
الإنسان والحريات ليست هي المفاهيم الصحيحة، ولا الأولى والأجدى لحياة
الإنسان، بسبب منطلقاتها المادية الإلحادية الإباحية، لكنها بلا شك تحتوي على قدر
لا بأس به من قيم العدل والمساواة والإنصاف بمعايير القوانين الوضعية.
5 - انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين: نتيجة لهزيمة
الكنيسة والدين في مواجهة العلمانية، مما أدى لتحييد الدين عن شؤون الحياة العامة،
واقتصاره على الجانب الفردي الاختياري في حياة الإنسان، ولأول مرة في تاريخ
البشرية تقوم دول وأنظمة ومعسكرات عالمية تتبنى الإلحاد في أشد صوره غلواً
وتطرفاً ومادية، وتصادم فطرة الإنسان، وتصادر ضرورات العقل في الإيمان
ومستلزماته تحت شعار تقديس العقل، وإنما هو تسفيه العقل والعياذ بالله.
6 - السيطرة الغربية على شعوب العالم الأخرى، واستعمارها، واستعبادها،
واستغلال خيراتها، والتنافس بين الدول الغربية في ذلك مما تسبب في قيام
حربين عالميتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، وما زال التهديد قائماً
بحرب ثالثة قد تكون سبباً في دمار الأرض، والقضاء على الحضارة البشرية،
ومنجزاتها عبر التاريخ. فالغرب نتيجة للثورة العلمية، والقوة الاقتصادية،
والكشوف الجغرافية، وتراجع المد الإسلامي في الأندلس وغيرها، أخذت أساطيله
تمخر عباب البحار والمحيطات، وتتسابق للاستيلاء على الممالك والأقاليم،
وتقاسمت العالم، ونهبت ثرواته، واستغلت شعوبه، وصادرت عقائده، وتجاهلت
خصائص كل أمة وقيمها وثقافتها، وقامت حروب التحرر والمقاومة للاستعمار،
وسالت دماء الشعوب أنهاراً، وتم في النهاية جلاء القوى العسكرية الاستعمارية من
أغلب بقاع العالم، ولكن بعد أن فرض الغرب رؤيته وأفكاره وأيديولوجيته، وربَّى
على ذلك النخب الفكرية والسياسية في شعوب ما سُمي بالعالم الثالث، وسلمها زمام
الأمر من بعده، فواصلت حمل راية العلمانية، وتطرفت في تطبيقها بالحديد والنار
كما سنرى فيما يأتي من حديث.
7 - العجز عن حل المعضلة الإنسانية التاريخية في غرس اليقين والطمأنينة
في نفس الإنسان، والإجابة عن تساؤلاته الكبرى المصيرية الملازمة له عبر
تاريخه عن حقيقة وجوده وبيان ماهيته، ورسالته، ودوره ووظيفته، وإلى أين مآله
ومصيره ونهايته؟
هذا الأمر الذي كان محور اهتمام المذاهب والفلسفات والمبادئ والنظريات،
وموضوع الملل والنحل والرسالات السماوية هو ما بشرت به العلمانية في بداياتها
من أنها بالعلم ستصل فيه إلى الإجابات الشافية الكافية، وأنه لا مشكلة للإنسان بعد
اليوم.
ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل
العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقاً نفسياً روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً
وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته، على الرغم من التقدم المادي
والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام، وصدق القائل سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً] (طه: 124) .
وسائل وطرائق انتقال العلمانية من الغرب للشرق:
لقد بزغ نجم العلمانية وعلا شأنه في الغرب في ظل الظروف التي أشرنا إليها،
وقد صاحب ظهورها في الغرب انحطاط وتخلف وهزائم في الشرق، مما أتاح
للغرب أن يتسلم زمام قيادة ركب الحضارة البشرية بما أبدعه من علم وحضارة،
وما بذله من جهد وتضحية، فكان أمراً طبيعياً أن يسعى الغرب لسيادة نموذجه
الحضاري الذي يعيشه، وأن يسوقه بين أمم الأرض؛ لأنه بضاعته التي لا يملك
غيرها، ولأنه أيضاً الضمانة الكبرى لبقاء الأمم الأخرى تدور في فلك التبعية له،
وتكدح في سبيل مدنيته وازدهار حضارته.
وكان تسويق الغرب للعلمانية في الشرق الإسلامي من خلال الوسائل والطرق
الآتية:
1 - من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري: فقد وفدت العلمانية إلى
الشرق في ظلال الحراب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية،
ولئن كانت العلمانية في الغرب نتاج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر
أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى
والأيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه كمن يصرُّ
على استنبات نبتات القطب الجليدي في المناطق الاستوائية، وفي هذا من
المصادمة لسنن الله في الحياة ما يقطع بإخفاق التجربة قبل تطبيقها؛ لأن
الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً
جذرياً عن ظروف البلدان التي جُلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية
والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية؛ فالشرط الحضاري الاجتماعي
التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في الشرق، بل في
الشرق نقيضه تماماً وأعني بالشرق هنا الشرق الإسلامي ولذلك فلا عجب إن
كانت النتائج مختلفة تماماً كما سنرى. وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت
عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين من خلال الهيمنة الغربية في المنطقة،
ومن خلال المستشارين الغربيين، أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية؛
فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة
تأسيسها، وهكذا بُذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش
الاستعمار عن البلاد التي ابتليت بها.
2 - من خلال البعثات العلمية التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم
والتقدم، فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء
والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد
والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل بدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي
في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق يحمل الشهادة الثانوية
ويُلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد
سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي، وما أوجده كل ذلك لديه
من صدمة نفسية واضطراب فكري ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب
الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمية، بل القيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها
بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها في أحسن
الأحوال بشفقة ورثاء؛ إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علَّموه وثقَّفوه
ومدَّنوه، وهو لا يملك غير ذلك، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس
عاماً فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات، وما «طه حسين»
و «رفاعة الطهطاوي» إلا أمثلة خجلى أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة
الفاقعة اللون مثل «زكي نجيب محمود» و «محمود أمين العالم» و «فؤاد
زكريا» و «عبد الرحمن بدوي» وغيرهم الكثير، ولئن كان هذا الدور للبعثات
العلمية تم ابتداءاً من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية
الكبرى مثل «القاهرة بغداد دمشق» أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني
للبلاد العربية الأخرى من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات
لدول الجزيرة العربية.
وقلَّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة
طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه
الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
3 - من خلال البعثات التبشيرية: فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي
جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت
هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين بدينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه، حتى
وإن لم يعتنقوا النصرانية، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض، والأمر
ليس من باب التخمين والافتراض؛ بل نطقت بهذا أفواههم، وخطَّته أقلامهم، وإن
شئت فارجع إلى كتاب: «الغارة على العالم الإسلامي» مثلاً ليتبين لك ذلك،
وهؤلاء المبشرون إما من الغربيين مثل «زويمر» و «دنلوب» ، وإما من
نصارى العرب مثل «أديب إسحاق» و «شبلي شميل» و «سلامة موسى»
و «جرجي زيدان» وأضرابهم، ومنهم من كان يعلن هويته التبشيرية ويمارس
علمنة أبناء المسلمين «كزويمر» ، ومنهم من كان يعلن علمانيته فقط، ويبذل
جهده في ذلك ك «سلامة موسى» و «شبلي شميل» .
4 - من خلال المدارس والجامعات الأجنبية: ففي أواخر الدولة العثمانية
وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سُمح للبعثات التبشيرية
والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول
انتشار النار في الهشيم، وخرَّجت أجيالاً من أبناء المسلمين وبناتهم أصبحوا بعد
ذلك قادة الفكر والثقافة، ودعاة التحرر والانحلال، ومن الأمثلة على ذلك الجامعة
الأمريكية في بيروت، والتي في أحضانها نشأ العديد من الحركات والجمعيات
العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية
الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية، وقد قام خريجو هذه المدارس
والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض
البلدان الأخرى. وإن المتابع لما ينشر من مذكرات بعض العلمانيين في البلاد التي
لم تبتلَ بهذه المدارس ليتبين له بجلاء ووضوح الدَور الكبير الذي قام به العلمانيون
العرب من الذين استقدموا للتدريس في تربية طلابهم وإقناعهم بالعلمانية، سواء من
خلال التنظيمات الحزبية أو من خلال البناء الفكري الثقافي لأولئك الطلاب.
5 - من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في
الأقطار العربية والإسلامية، ما بين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية
واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان؛ حيث إن
النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو
الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا
إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح
العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد
تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كلٌ
من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله. ومن الأمور اللافتة للنظر أن
أشهر الأحزاب العلمانية القومية العربية إنما أسسها نصارى بعضهم ليسوا من
أصول عربية! أمثال «ميشيل عفلق» و «أنطون سعادة» و «جورج حبش» ،
والكثرة الساحقة من الأحزاب الشيوعية العلمانية إنما أسسها يهود مليونيرات أمثال
«كوريل» .
6 - من خلال البعثات الدبلوماسية: سواء كانت بعثات للدول الغربية في
الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب؛ فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر
من خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الاقتداء، ومن
خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات
والحفلات، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بسرٍّ أن
بعض سفارات الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي، أو مجلس
الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة!
7 - من خلال وسائل الإعلام المختلفة: من مسموعة أو مرئية أو مقروءة؛
لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية صحافة أو
إذاعة أو تلفزة فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان
الرواد في تسويق هذه الوسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو
العلمانيين من أبناء المسلمين، فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات
الأمة، ونشر مبادئ العلمانية وأفكارها وقيمها، وبالذات من خلال الفن، وفي
الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن
يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، فكان كما يقول المثل:
«ضغث على إبالة» ، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنتج العصري تعيش
في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل الإعلامية توظيفاً آخر يتفق
مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها.
8 - من خلال التأليف والنشر: في فنون شتى من العلوم وبالأخص في
الأدب والفكر؛ فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات
المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء
والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون، وفي الأسلوب والمحتوى،
ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس، والعلوم
الإنسانية المختلفة؛ حيث قدمت لنا نتاج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه
الحق المطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون، وتجاوز الأمر
التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنسب لأمتنا
اسماً، ولغيرها حقيقة، وإن كان الأمر في أقسام العلوم الأخرى من طب وهندسة
ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأمثالها يختلف كثيراً ولله الحمد والمنة، وهي الأقسام
أيضاً التي توجه لها أبناء الأمة الأصلاء ممن لم يتلوثوا بلوثات العلمانية، فحاولوا
أن ينقلوا للأمة ما يمكن أن تستفيد منه من منجزات التقدم الغربي مع الحفاظ على
هويتها وأصالتها وقيمها.
9 - من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة
في الجانب الاقتصادي؛ لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية، وقيمها
وأنماط حياتها الاجتماعية؛ وهذا أمر طبيعي، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات
إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سبباً مهماً في نشر الفكر العلماني
وقيمه الاجتماعية، وانعكاساته الأخلاقية والسلوكية، ولعل من المفارقات الجديرة
بالتأمل أن بعض البلدان التي كان يعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من
أمريكية وبريطانية لم تبتلَ بالتنظيمات اليسارية، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في
أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي.
بعض ملامح العلمانية الوافدة:
لقد أصبح حَمَلَةُ العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودها تياراً
واسعاً متنفذاً غالباً على نخبة الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة، من فكرية
واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان:
أ - الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري: ويمثله في الجملة أحزاب وحركات
وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن، فشتَّتت شمل الأمة ومزقت صفوفها،
وجرّت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد
السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين أمميين، أو قوميين عنصريين.
ب - الاتجاه الليبرالي ذو الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول
الغرب: وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بما أشاعوه من
الإباحية، والتحلل، والتفسخ، والسقوط الأخلاقي، والعداء لدين الأمة وتاريخها.
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها:
1 - مواجهة التراث الإسلامي: إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات
عصور الظلام والانحطاط والتخلف كما عند غلاة العلمانية أو بإعادة قراءته قراءة
عصرية كما يزعمون لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما
يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية، ولم
ينجُ من غارتهم تلك حتى القرآن والسنة، إما بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه
نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنه مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ
ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة، ولا بيان العلم وحقائقه، ولعل من الأمثلة
الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له «أدونيس» ، و «محمود
درويش» ، و «البياتي» ، و «جابر عصفور» ، ومن لفَّ لفَّهم وشايعهم، وهم
كُثر لا كثَّرهم الله.
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم: «حسن
حنفي» ، و «محمد أركون» ، و «محمد عابد الجابري» ، و «حسين أحمد
أمين» ، ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع
جوانبه.
2 - اتهام التاريخ الإسلامي: بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير
حضاري، وتفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية
على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى
والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات
مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والمنهج الإسلامي
الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها،
والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة،
والثورة على الظلم مثل: «ثورة الزنج» ، و «ثورة القرامطة» . ومثل تلك
الحركات الفكرية الشاذة، والبعيدة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام،
بل هي الإسلام، مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور
تؤدي في نهاية الأمر إلى تشويه الصورة المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة
وأجيالها المتعاقبة.
3 - السعي الدؤوب لإزالة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم،
والمسيِّرة والمؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله أو زعزتها، من خلال
استبعاد الوحي مصدراً للمعرفة والعلم، أو تهميشه على الأقل وجعله تابعاً لغيره من
المصادر كالعقل والحس، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب،
والسخرية من الإيمان بالغيب، واعتباره في أحسن الأحوال جزءاً من الأساطير
والخرافات والحكايات الشعبية، والترويج لما يسمى بالعقلانية والواقعية والإنسانية،
وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل، وكسر
الحواجز النفسية بين الإيمان والكفر؛ ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر
العولمة، وفي كتابات «محمد عابد الجابري» ، و «حسن حنفي» ، و «حسين
مروة» ، و «العروي» ، وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر.
4 - خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيِّرة للعلاقات
الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار، والطهر والعفاف، وحفظ العهود،
وطلب الأجر، وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدالهم بها قيم الصراع، والاستغلال
والنفع، وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل والإباحية، من خلال
الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هزّ
المجتمع الشرقي من أساسه، ونشَرَ فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه
في تاريخه، ولعل رواية «وليمة لأعشاب البحر» السيئة الذكر من أحدث الأمثلة
على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج «محمد شكري» ، و «الطاهر بن جلون» ،
و «الطاهر وطار» ، و «تركي الحمد» ، وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي
دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى.
5 - رفع مصطلح الحداثة لافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد:
والحداثة بوصفها مصطلحاً فكرياً ذا دلالات محددة هذه الحداثة تقوم على مادية
الحياة، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية، وأنسنة الإله، وتلويث
المقدسات، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية، والدراسات الاجتماعية، مما
أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي.
6 - استبعاد مقولة: (الغزو الفكري) من ميادين الفكر والثقافة، واستبدالها
بمقولة: (حوار الثقافات) ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية
قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سُنّة التدافع التي فطر الله عليها الحياة، وأن
ذلك لا يمنع الحوار؛ لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار
العلماني، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني بعد أن تفقد الأمة
مناعتها وينام حراس ثغورها، وتتسلل في أجزائها جراثيم الغزو العلماني القاتل
وفيروساته.
7 - وَصْم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري عبر
غوغائية ديماجوجية إعلامية غير شريفة، ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام
بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء وأحياناً الفظيعة من
بعض المنتمين أو المدَّعين للإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب
العلماني الذي يُمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين؛ لكنه عدم
المصداقية، والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية النصرانية واليهودية الموغلة
في الظلامية والعنصرية والتخلف.
8 - تمييع قضية الحِلِّ والحُرمة: في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة،
وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في
تحليل المواقف والأحداث، ودراسة المشاريع والبرامج، أي فك الارتباط بين الدنيا
والآخرة في وجدان الإنسان وفكره وعقله، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير
من جوانب الحياة الذي يعجب له من نوَّر الله قلبه بالإيمان، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
9 - دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا خلاص
إلا به: دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية؛ بل
إنهم ليصرحون بأن أي شيء في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق
بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد المشرق إلى سوق استهلاكية
لمنتجات الحضارة الغربية، والتوسل لذلك بذرائعية نفعية محضة لا يسيِّرها غير
أهواء الدنيا وشهواتها.
10 - الاستهزاء والسخرية والتشكيك: في وجه أي محاولة لأسلمة بعض
جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين، ولعل الهجوم
المستمر على المملكة العربية السعودية بسبب احتكامها للشريعة في الحدود
والجنايات من هذا المنطلق، وإن مرَّروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق
الإنسان وحرياته، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغتصب
بعشرات الآلاف، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها
ويدافع عنها، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق، وتدمير تلك
الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية.
11 - الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية: وبخاصة في الفن، والرياضة،
والطبابة، وشركات الطيران، والأزياء، والعطور، والحفلات الرسمية، وقضية
المرأة، ولئن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية، ومنطلقات
عقائدية، وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضوع
المرأة، والسعي لنزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا
يمكن أن يقوم به غيرها في تربية الأسرة ورعاية الأطفال، وهكذا العلمانيون
يفلسفون الحياة: يُعطَّل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة، وتُستقدم
مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسدَّ مكان المرأة في رعاية الأطفال والقيام
بشؤون المنزل، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة، فما
المسوغ لمزاحمتها للرجل في كل موقع؟ !
12 - الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية: في
الاجتماع والأدب، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام، بل وفي الكليات والجامعات
على أنهم رواد العلم، وأساطين الفكر، وعظماء الأدب، وما أسماء
«دارون» ، و «فرويد» ، و «دوركايم» ، ولا «الألسنية» و «البنيوية»
و «السريالية» ، وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا الشأن، حتى إن
بعض هذا قد يتجاوزه علمانيو الغرب، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع
في الشرق، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه أبناؤنا عن أساتذتهم هذه
المراجعات.
__________
(*) أستاذ في كلية الشريعة بأبها سابقاً.(159/38)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
تُعد العلمانية (فصل الدين عن الحياة) أحد الانحرافات الكبرى التي أصابت
الأمة الإسلامية؛ إذ إنها حملت في طياتها مجموعة من التشوهات والمفاسد التي
مسَّت أو تغلغلت بدرجات متفاوتة في تصورات أفراد هذه الأمة وقيمهم، أو
نشاطاتهم وعلاقاتهم، أو نُظُمهم ومؤسساتهم.
ومن المعروف في دراسة أحوال المجتمعات وتحولاتها أنه من غير الممكن
الوقوف على نقطة محددة (زمنية أو فكرية) في مجتمع ما والإشارة إليها على أنها
نقطة التحوُّل العمراني (الحضاري) هبوطاً أو صعوداً في هذا المجتمع؛ فهذه
النقطة قد تكون (محطة) في منحدر الهبوط أو سُلَّم الارتقاء، ولكنها لا تكون
منعزلة أو منبتَّة الصلة بغيرها من الأفكار والأحداث والشخصيات الأخرى التي
تكوِّن (المحطات) الأخرى في مسيرة هذا المجتمع.
ومن هذا المنطلق فإننا لا نستطيع دراسة نشأة العلمانية في العالم الإسلامي من
غير البحث في الحامل الذي جاء بها (التغريب) ، ومن غير البحث في الخلفيات
والعوامل الثانوية التي ساعدت على هذه النشأة، وبعد ذلك يمكننا تتبع شبكة
التطورات التي انتهت إلى ما نحن فيه.
نظرة من بعيد:
يمكن القول: إن العلمانية إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن
الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: « ... ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان؛
فلا تفارقوا الكتاب ... » [1] ، وقد بدأ هذا الانفصال التدريجي بشكل خافت بعد
الخلافة الراشدة إثر انفصال أهل العلم والتقوى عن أهل السلطان والغلبة؛ حيث
تغيرت معايير اختيار أصحاب السلطان، وإن بقي أهل العلم يمثلون مرجعية للأمَّة
وفي كثير من الأحيان لأهل السلطان أنفسهم، ولكن هذا الانفصال لم يكن في مبدأ
أمره انفصالاً عن الأفكار والتصورات والعلاقات والتشريعات الإسلامية بقدر ما كان
انفصالاً بين (جهاز) التفكير و (جهاز) التنفيذ، وإن قُدِّر وحدث انحراف ما في
التنفيذ فإنه كان يقع في دائرة الاجتهاد الخطأ أو الهوى والمعصية، ولكن لم يتعد
إلى دائرة التصورات والأفكار وتغييرها بغية إيجاد مسوِّغ وتشريع لهذا الانحراف
والتعدي كما هو حادث في العلمانية، أقول ذلك على الرغم من وجود بعض الفتاوى
التي كانت تصدر أحياناً من علماء السلطان لإيجاد مسوِّغ لمعاصيهم وتفلتهم من
الأحكام الشرعية، ولكن المدقق يمكنه أن يرى أن هذه الفتاوى لم تكن أكثر من
استخدام سيئ وبمهارة لأصول شرعية يُسلِّم المجتمع بمرجعيتها.
غير أننا لا نعدم أيضاً في بواكير (التراث الفكري الإسلامي) بعض الجذور
العميقة لتصورات ومفاهيم منحرفة عن الإسلام الصحيح ساهمت إلى حد كبير في
إخصاب الأرضية الفكرية التي عملت عليها العلمانية.
فمن ذلك: الأثر الذي تركته الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية على فكر
بعض الفرق وخاصة المعتزلة؛ حيث شاع عندهم تقديم العقل على النقل عند توهم
تعارضهما، حتى عدُّوا ذلك أصلاً من أصول الاستدلال، فكانوا ينكرون ما
يستطيعون من الأحاديث النبوية التي تتعارض مع المعقول بحسب تصورهم لهذا
المعقول بدعوى عدم ثبوتها أو عدم حجيتها لكونها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين،
وهذه الفكرة في أحد جوانبها من شأنها تضييق نطاق النصوص الشرعية وما يستنبط
منها لحساب توسيع مجال عمل العقل الذي أخذ يحتل مكانة النصوص في منهجية
الاستدلال.
كما أخذوا يؤولون الآيات القرآنية تأويلاً أياً كان بُعْده ليوافق أصولهم
ومعارفهم العقلية التي عدُّوها يقينية، فكان استخدام هذا الأصل بقدر ما يُعلي من
قيمة العقل البشري بقدر ما يحط من قوة الإيمان بالغيب وصفاء التسليم للشريعة.
ومن ذلك أيضاً: الأثر الذي تركه الفكر الإرجائي على تصور كثير من
المسلمين لحقيقة الإيمان؛ فقد ابتدع المرجئة القول بخروج الأعمال من حقيقة
الإيمان؛ وعليه: بات يُكتفى في الإيمان بتصديق وقول على اختلافٍ بينهم، ومن
ثم: كثرت الأعمال التي لا تنسب إلى الإيمان، وهي تشمل الحياة كلها، وبتعبير
آخر: اتسعت المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها العصيان والتبديل والانحراف
بأمان تاركاً الإيمان قابعاً في زاوية ضيقة تسمى القول، ثم تحول هذا القول على يد
المرجئة الجدد إلى مجرد ألفاظ خالية من مدلولاتها ومعانيها.
ومما زاد من أثر آراء المرجئة على حياة الأمة: اندثار المرجئة الفرقة،
وبقاؤها بل وانتشارها أفكاراً وآراءاً.
ثم كان للصوفية نصيب من هذا الإخصاب: إذ تعانق مع الفكر الإرجائي
انحراف مفهومي (العبادة) و (القضاء والقدر) عند المتصوفة؛ حيث تحوَّل
مفهوم الزهد الإيجابي الذي كان عليه السلف على يد المتصوفة إلى سلوك انسحابي
أخذ شكل التفرغ (للعبادة) في مسجد أو زاوية أو خلوة أو حتى كهف، وأما من
انصرف إلى معالجة شؤون الدنيا فقد كان ينظر إليه عند هؤلاء على أنه انصرف
عن العبادة، وكما رأينا اضطراب العلاقة بين العقل والنقل عند المعتزلة الذي
تطور لاحقاً عند (التنويريين) إلى اضطراب في العلاقة بين العلم والدين، نجد
هنا على يد المتصوفة علاقة متنافرة غريبة بين الدين والدنيا، أو بين الآخرة والدنيا،
فمن أراد الدين والآخرة فله المسجد لا شأن له بالدنيا، فلمن تترك هذه الدنيا؟ !
... يتصدى لها أهل الفساد والانحراف، ولا يكون ذلك مستهجناً، كما لا يكون
مستغرباً أن يُنظِّموا هذه الدنيا بمنأى عن الدين الذي ترك في خلوات العبادة وحلقات
الفقه، وفي قول أو شعائر يؤديها الفرد المسلم، بل يتم التسليم بذلك الانحراف على
أنه قضاء وقدر.
أضف إلى ذلك: أن ما روَّجه الصوفية عن الفَرْق بين الحقيقة والشريعة كان
بابًا واسعاً للانسلاخ من الشرع والتفلت من الدين تحت مظلة ادِّعاء (الولاية) ،
وقد كان هذا المفهوم مطية لتأويلات عديدة غير منضبطة بأصول شرعية أو لغوية
أو عقلية.
ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في إخصاب الأرضية التي قامت عليها
العلمانية: الفصل الحاد بين (العبادات) و (المعاملات) الذي اقتضته (الأصول
الفنية) للمنهجية العلمية التي قامت عليها الكتب الفقهية المتأخرة.
وكذلك بعض الآراء الأصولية الفقهية الشاذة أو الاستخدام السيئ لبعض
الأصول والقواعد الفقهية، فلقد ناقش الفقهاء مسألة (نسخ القياس والإجماع للقرآن
والسنة) وردُّوها [2] ، ولكن إثارتها من بعض العلماء وإن كانوا قلة يدل على
استعداد فكري مبكر لتطويع الشريعة.
كما ساهم في ذلك: الانحراف عن ضوابط بعض الأصول والقواعد الفقهية،
مثل: الخروج بالاستحسان والمصالح المرسلة من كونها المصالح الشرعية إلى
المصالح التي يرتئيها المتنفذون حسب عقولهم وأهوائهم [3] ، ومثل الانحراف
بنظرية العرف أو قاعدة (العادة محكَّمة) ليكون العرف والعادة هما الأصل الذي
يُقدَّم على ما سواه.
ومن هذه العوامل: إغلاق باب الاجتهاد منذ أواخر القرن الرابع الهجري،
هذا الإغلاق وإن كان دافعه حُسن النية حتى لا يدَّعي في دين الله من ليس أهلاً
للنظر والاجتهاد، إلا أننا نلاحظ أن آثاره كانت عظيمة؛ فهو وإن كان فيه نوع من
إعلاء لقدر عقول علماء السلف واجتهاداتهم، إلا أن فيه أيضاً نوعاً من الحَجْر على
الكتاب والسنَّة، وتقليص المعاني والحكم المستنبطة منهما بما لا يتجاوز ما قاله
هؤلاء العلماء الأجلاء، كما أن فيه أيضاً تصوراً خاطئاً عن طبيعة تطور الحياة
الإنسانية؛ فمن منعوا الاجتهاد المطلق تصوروا أن من سبقهم من العلماء افترضوا
وتخيلوا كل ما يمكن وقوعه من حوادث في حياة البشر ووضعوا لها الحلول
والفتاوى الشرعية، وهذا وذاك أدى إلى مرضين خطيرين في الحياة الفكرية
والفقهية لدى المسلمين، هما: التقليد وما يتبعه من تعصب، والجمود وما يتبعه من
انغلاق وتحجر.
وفي عصر الدولة العثمانية عندما تطورت الحياة أكثر كانت الحاجة ملحة
لإعادة فتح باب الاجتهاد، ولكن العلماء رفضوا ذلك ولم يُقدِّموا في الوقت نفسه
الحلول البديلة أو يُبدوا الاستعداد لتهيئة من يكونون أهلاً لهذا الاجتهاد، عندها
استغل رواد العلمانية الأوائل ومن يريدون الكيد بالأمة الفرصة وتقدموا هم بالبديل:
التغريب والعلمانية.
حرث الأرض الهامدة:
لم يُفتح باب الاجتهاد، بل انكسر ليلج منه كل مدَّعٍ وصاحب هوى باسم
(التجديد والإصلاح) .
ولا شك أن مجرد وجود هذه العوامل والمؤثرات كان لا يعني حتمية نشوء
العلمانية في العالم الإسلامي؛ ذلك أن في الإسلام ذاته وفي العالم الإسلامي في
مجمله من القيم الأخرى الأصيلة والقوى المعادلة لهذه العوامل والمؤثرات ما يبطل
أو يضعف أثر هذه العوامل، ولكن الحقيقة أيضاً أن هذه العوامل والمؤثرات شكلت
عندما انتشرت وتعاظمت حالة يمكن أن نطلق عليها: (القابلية للعلمنة) ، شبيهة
بتلك (القابلية للخضوع) التي قصدها الشيخ عبد الحميد بن باديس، والمفكر مالك
بن نبي، والتي أطلقوا عليها: القابلية للاستعمار، إضافة إلى أن هذه العوامل مثلت
ثغوراً نفذ منها العلمانيون إلى البناء الفكري الإسلامي.
وعلى ذلك: فإن هذه العوامل والمؤثرات رغم وجودها في مسيرة الأمة، إلا
أنها لم تكن عناصر فاعلة إلا في القرنين الأخيرين؛ ذلك لأن العوامل المساعدة
المنشطة التي تحث هذه العناصر على التفاعل لم تكن متوفرة بشكل كافٍ قبل ذلك،
ومن أبرز هذه العوامل المساعدة: الهزيمة النفسية لدى المسلمين، وتوجه الغرب
إلى الغزو الفكري مع (أو بدلاً من) الغزو العسكري الذي ثبت إخفاقه وحده عبر
حروب صليبية طويلة.
ولكن كيف أثيرت هذه العوامل؟
يرى بعض الباحثين أن الشرارة الأولى لهذا التوجه الغربي الصليبي (الغزو
بالفكر والقيم) اتقدت في ذهن لويس التاسع (1214م - 1270م/611هـ - 669
هـ) ملك فرنسا وقائد آخر حملتين صليبيتين كبيرتين على العالم الإسلامي؛
فحينما هُزم في الحملة الصليبية السابعة، وأُسر بالمنصورة سنة 1250م
(648هـ) [4] ، أتيحت له فرصة التأمل والتدبر، فوضع مخططاً من أربعة
محاور لغزو جديد (سلمي) للعالم الإسلامي [5] .
وقد نشط هذا المخطط مجدداً بدءاً من عام (1082 هـ = 1671م) على يد
الملك لويس الرابع عشر بواسطة وزيره الشهير (كولبير) الذي كلف بعض
المعتمدين في الشرق بالبحث عن المخطوطات العربية [6] . يقول الدكتور محمود
المقداد: «وقد تلقن الفرنسيون هذا الدرس القاسي باشتراكهم مع الأوروبيين
الآخرين في هذه الحروب، وخلاصة هذا الدرس أن (الحملات المسيحية الأولى
إلى الأرض المقدسة، وإلى مصر جاءت من غير خطة مدروسة جيداً، ومن غير
معرفة شيء عن أخلاق الشعوب التي ذهبوا لقتالها أو عن تسليحها) » ، ثم يقول:
«وهكذا حاول الفرنسيون أن يتعرفوا أخلاق العرب والشرقيين وعاداتهم وتقاليدهم
وما لهم من معارف وثقافات ... ولهذا اتجه الغربيون عامة والفرنسيون خاصة إلى
جمع أعداد من المخطوطات ... وقد جُنِّد لهذا الغرض رهبان ومبشرون وتجار
وجواسيس ودبلوماسيون وسفراء في العالم العربي والإسلامي ورحَّالة وسواح
ومستعربون، كُلِّفوا خصيصاً بهذا العمل» [7] .
ففي أرض مصر إذن بدأ المخطط يدور في رأس لويس التاسع ملك فرنسا،
وبعد أكثر من 500 عام، وعلى ثغر الإسكندرية من أرض مصر أيضاً نزل القائد
الفرنسي نابليون بونابرت يُنفِّذ الحملة الفرنسية (علمانية العقل صليبية القلب) على
العالم الإسلامي سنة (1213هـ/1798م) .
لم تستغرق هذه الحملة عسكرياً أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها خلفت وراءها
زلزالاً كبيراً كانت أعدت له عدته، وكانت أحوال المسلمين مهيأة له؛ وأهم ملامح
هذا الزلزال ما يلي:
أولاً: أنها ابتدئت بالتلبيس بادعاء تحلي نابليون وجنوده بحُلَّة الإسلام
والمبادئ والأهداف السامية؛ فقد كان أول منشور لنابليون متصدراً بما يلي: «بسم
الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه» ، وفيه أيضاً:
«يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم؛
فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قَدِمْت إليكم إلا لأخلِّص
حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم
نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن
الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو (العقل) و (الفضائل) و (العلوم) فقط
(! !) ... أيها المشايخ والقضاة والأئمة ... قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً
مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخرَّبوا كرسي
البابا ... » [8] .
لقد كان هذا الأسلوب خطاً ثابتاً في سياسة نابليون أينما حل؛ فقد كان يحرص
في مثل هذه المسائل أن يستعمل دواءً من جنس الداء! ، ولما كان نابليون يُشخِّص
داء الشعب المصري في تدينه؛ حيث إن «الأفكار الدينية كانت على الدوام
مسيطرة على الشعب المصري في شتى العصور» ... كان دواء هذا الداء عند
نابليون هو استخدام «لقاح ضد الدين» ، فسياسة نابليون كانت قائمة على
(ترويض) الدين لا مقاومته [9] ، وهذه السياسة ذات أبعاد خطيرة، وسيكون لها
أثرها الذي لا يستهان به في آلية إدخال العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي.
ولكنا نشير هنا إلى الثغرة التي حاول نابليون ورجال حملته استغلالها
لاختراق الفكر والشعور الإسلامي، ألا وهي الفكر الإرجائي؛ إذ يبدو أن نابليون
وقواده وخاصة ساعده الأيمن (فينتور دي بارادي) الذي قضى أربعين سنة يتجول
في العالم الإسلامي قبل أن يلتحق بالحملة [10] كانوا يدركون جيداً تأثير الفكر
الإرجائي على مشاعر المسلمين ومواقفهم؛ ولذا: كانوا يستغلون رصيد انفصال
القول (أو الشعارات) عن العمل بمهارة واطمئنان، وقد كانوا أيضاً امتداداً لهذه
السياسة حريصين على إنفاذ الحج وإقامة الموالد! وإظهار البهجة بأعياد المسلمين
واحترام شعائرهم.
ثانياً: بدء تنحية الشريعة وإحلال بعض التنظيمات والدواوين (مجالس
الشورى) مكانها، وقد أسندوا معظم الدواوين إلى أناس غير علماء بالشريعة، بل
إن بعضها كان يرأسه نصارى؛ فمن ذلك ما يحكيه الجبرتي: «شرعوا في ترتيب
ديوان آخر وسمَّوْه محكمة القضايا، وكتبوا في شأن ذلك طوماراً [أي: وثيقة]
وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط، وستة أنفار من
تجار (!) المسلمين، وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي ... وفوضوا إليهم
القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وجعلوا لذلك الديوان قواعد
وأركاناً من البدع السيئة ... » [11] ، بل وصل الأمر إلى حد مناقشة النصارى
الأقباط والفرنج للمشايخ في مدى صلاحية أحكام شرعية منصوص عليها في القرآن
ومقارنتها بقوانينهم [12] .
ثالثاً: التوجه إلى تهميش القوى الإسلامية المناهضة للتبعية للغرب وتنحيتها،
الذي تطور بعد ذلك إلى محاربة تلك القوى، كما وضح التوجه إلى تدجين بعض
المشايخ واستمالة أصحاب النفوذ والتأثير بشد وثاق متين بينهم وبين الغرب
وإدخالهم في نطاق التبعية لفرنسا، ومن الحوادث ذات الدلالة على ذلك: محاولة
نابليون تقليد شيخ الأزهر باعتباره رئيساً للديوان وشاحاً يحمل ألوان علم فرنسا
ورَفْض شيخ الأزهر لذلك ... [13] .
ومنذ ذلك الحين يحرصون على ألا يرقى الرئاسة إلا من يضع على صدره
وسام الرضى الغربي! .
رابعاً: في مقابل ذلك: ظهر التوجه الواضح إلى إبراز دور النصارى
والأقليات الدينية الأخرى وإعلاء قدرهم وإشراكهم في مراكز التأثير واتخاذ القرار
بصورة ملحوظة، وأحداث الحملة الفرنسية زاخرة بالدلالة على ذلك [14] .
خامساً: كما أشاعوا الفجور والتحلل الأخلاقي بواسطة نسائهم وبغاياهم،
وشجعوا الفسقة وضعاف النفوس من المسلمين على الخوض فيه والتبجح به، وكان
واضحاً حرصهم على إخراج المرأة المسلمة من إطارها المعتاد [15] .
سادساً: تدشين عهد النبش في الحضارات القديمة السابقة على الإسلام،
وإثارة النعرات الوطنية وروح الفخر بهذا الماضي الوثني، مع عد المسلمين ضمن
الغزاة لمصر؛ فمن ذلك قولهم في أحد المنشورات الموجهة إلى الشعب المصري:
« ... وإن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أُخذت عن
أجداد أهل مصر الأُوَل، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه،
فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن ... » [16] ، وهذا أحد
أسباب بذل جهودهم المعروفة في التنقيب عن الآثار الفرعونية وإبرازها والاهتمام
بها، ومن ضمن هذه الجهود تأسيس معهد الآثار الفرعونية.
سابعاً: ظهور الحملة الفرنسية بمظهر الدولة الحديثة من تنظيمات إدارية
وعسكرية وعمران مدني، بل بمظهر الحرص على الرحمة والعدل بين الناس في
بعض الأحيان، تلك المظاهر التي بَعُد عهد المسلمين بها في عهود تخلفهم
وانحطاطهم، ففوجئوا بها تأتيهم على يد (الكفار) [17] .
ثامناً: وفي مقابل ذلك: وضح استعراض الحملة لقوتها العسكرية وقدرتها
العلمية؛ وذلك من خلال مظاهر البطش والتنكيل وإحراق القرى والبيوت وإذلال
المسلمين الذي كان أبرز أحداثه اقتحامهم الأزهر بخيولهم وسكرهم وتغوُّطهم فيه،
كما كانوا يتعمدون إظهار الفارق العلمي بينهم وبين المسلمين، وذلك بإجراء بعض
التجارب الكيميائية والفيزيائية التي كان المسلمون يومها يحارون في تفسيرها [18] .
تاسعاً: حاول نابليون إيجاد قاعدة دعائية له ولمبادئه العلمانية التغريبية
بإرسال (بعثات) إجبارية لبعض الأشخاص؛ ليشكلوا بعد عودتهم تياراً يدعو إلى
التغريب ويغير من تقاليد البلاد وعاداتها، كما عمل على غزو المسلمين اجتماعياً
باستخدام (الفن) والتمثيل، وقد ذكر ذلك صراحة في رسالة بعث بها بعد رحيله
من مصر إلى خليفته كليبر، يقول في ختامها: «ستظهر السفن الحربية الفرنسية
بلا ريب هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في
البرلس.
اجتهد في جمع (500) أو (600) شخص من المماليك، حتى متى لاحت
السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفِّرهم إلى فرنسا، وإذا لم
تجد عدداً كافياً من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب أو مشايخ البلدان،
فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها
عظمة الأمة (الفرنسية) ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمَّا يعودون إلى مصر
يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.
كنتَ قد طلبتَ مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك؛
لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد!» [19] ، ولكن يبدو أن مقتل
كليبر على يد سليمان الحلبي وما تلاه من أحداث حال دون تنفيذ هذا المسعى.
هذه هي أهم ملامح الحملة الفرنسية على قلب العالم الإسلامي
(مصر والشام) ، وقد ظلت هذه الملامح نفسها هي ملامح الحملات العلمانية
(المحلية!) اللاحقة، ونلاحظ في نتائج هذه الملامح أنها ولَّدت الآثار المطلوبة
لقيام العوامل المساعدة بدورها التفاعلي، فإذا كان الغزو الفكري المنظم لم يظهر
بصورة كاملة، فإن الحملة حققت نجاحاً ملحوظاً في الغزو النفسي والاجتماعي
للمسلمين، وهو ما أدى إلى هزيمة نفسية أمام الغرب لدى كثير من المسلمين، ومن
ثم استعدادهم للتلقي عن هذا المنتصر (حضارياً) ، فالحملة الفرنسية أطلقت قبل
رحيلها رصاصة العلمانية والتغريب التي أصابت عقل الأمة بعد حين من هذا
الرحيل، أو بعبارة أخرى: قلَّبت الأرض الهامدة وأثارتها حتى تهيأت لغرس
البذور الفكرية الأولى للعلمانية والتغريب، وقد تولى من جاء بعد الحملة مهمة غرس
هذه البذور ورعايتها ثم قطف ثمارها.
غرس البذور:
لم ترحل الحملة الفرنسية عن مصر مكتفية بتقليب الأرض الاجتماعية
الإسلامية الهامدة، بل خلّفت وراءها بذوراً ملقَّحة فكرياً يمكن استنباتها في هذه
الأرض، ويعد الشيخ حسن العطار (11901250هـ/1776 1834م) نموذجاً لهذه
الشريحة من المتأثرين فكرياً بالحملة، فقد اندمج إلى حد كبير في علوم الحملة
الفرنسية وكثيراً ما تغزل في أشعاره بأصدقائه منهم، كما إنه نقل عنهم علومهم،
وفي الوقت نفسه تولى تعليمهم اللغة العربية، وهو الذي أطلق قولته الشهيرة:
«إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها» [20] لذا:
يعده العلمانيون المعاصرون «رائداً من رواد النهضة؛ حيث تتلمذ على يديه جيل
من الرواد كرفاعة الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي» [21] .
غير أن هذه البذور ما كانت لتنبت بغير رعاية لها، وهذا ما كان؛ فبعد
خروج الحملة الفرنسية من مصر استطاع الجندي الألباني تاجر الدخان سابقاً محمد
علي (1769م 1849م/ 1183هـ 1265هـ) الوثوب إلى رأس السلطة في
مصر، وبعد أن اطمأن الحاكم الجديد إلى قوته ضرب العلماء بعضهم ببعض،
وتخلص من خصومه المماليك (القوى الرجعية!) في مذبحة شهيرة سنة
(1226 هـ /1811م) .
وبعد أن قضى على القوى المناوئة له في الداخل والقوى المهددة له في
الخارج تفرد بالحكم وتفرغ (للإصلاح) و (التحديث) ، وهما الاسمان اللذان
استخدما مطية للعلمنة والتغريب!
ونقف هنا لنلاحظ:
* أن تفوق أوروبا الحربي والصناعي ورغبة الشرق الإسلامي وخاصة مصر
وتركيا في اللحاق بهذه القوة وهذا التقدم.. كان دائماً وراء انفتاح كثير من بلاد
المسلمين على الغرب ونظمه، بل وقيمه ومبادئه، وهذا ما دعا الإصلاحيين إلى
استقدام الخبراء والمدرسين من أوروبا وابتعاث الطلاب المسلمين إليها، ولكن
هؤلاء (المصلحين) لم ينتبهوا أو ربما لم يكترثوا إلى أن من العبث كما يقول
المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: «من العبث القول بأن في وسع مجتمع
إقامة جيشه على النمط الغربي، وترك جوانب حياته الأخرى تجري على ما كانت
عليه ... فإن الأمر لا يقتصر على جيش يقام على النمط الغربي ويدعمه العلم
والصناعة والتعليم المقتبس من الغرب؛ ذلك لأن ضباط هذا الجيش أنفسهم
يحصلون على أفكار لا تمت بصلة إلى مهاراتهم في فنهم، ولا سيما إذا ما ابتعثوا
إلى الخارج ليحذقوا مهنتهم.
ويوضح تاريخ هذه البلاد الثلاثة [مصر وتركيا وروسيا] ظاهرة عجيبة،
هي: قيام جماعات من ضباط الجيش بتزعم (ثورات تحريرية) » [22] .
* أن البذور الأخرى المعاكسة للعلمانية والتغريب بدأت تغرس أيضاً في العالم
الإسلامي في هذا الوقت المبكر، وإن لم تتضح هذه الهوية أو يلتفت إليها، فقضاء
الدولة العثمانية عن طريق محمد علي، القوة العلمانية الصاعدة على الواقع الذي
انبثق من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقض على الدعوة نفسها؛ فصحيح
أن دعوة الشيخ لم تكن من القوة أو الكبر بحيث تحتوي الأمة كلها احتواءً شاملاً،
أو توقف انهيار الدولة العثمانية وتعيد الصعود بمدها، أو تواجه القوة العلمانية
الصاعدة وتقضي عليها، إلا أنها أيضاً لم تكن من الضعف والصغر بحيث يقضى
عليها بدون أن يبقى لها أثر على العالم الإسلامي وحركته الفكرية، بل لعل في
القضاء عليها سياسياً في هذا الطور أدى إلى عدم الانتباه إلى انتشار ما تدعو إليه
في أنحاء كثير من العالم الإسلامي.
لقد كان الأثر المباشر الواضح لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو محاربة
البدع والخرافات والأوهام والقضاء على شرك القبور والأضرحة، ولكنها أيضاً
أصَّلت وجوب رد الأمر كله إلى الكتاب والسنة وهو ما يناقض فصل الدين عن
الحياة الذي هو جوهر العلمانية، إضافة إلى أنها رسخت مفهوم الولاء والبراء على
أساس الدين والعقيدة، وهو ما يناقض مفهوم الوطنية والقومية العلمانيين.
نعود إلى بذور العلمانية:
لم يكتف الغارسون باستيراد بذور علمانية أوروبية صرفة، بل دأبوا على
تصنيع بذور هجين من العالم الإسلامي نفسه، واستخدموا في هذا التصنيع كافة
أساليب الهندسة الفكرية.
فقد شرع محمد علي أيضاً في تنفيذ ما طلبه نابليون من خليفته كليبر ولم يمتد
به الأجل لتنفيذه، ولكن محمد علي استطاع تنفيذه بصورة أدق وأخطر مما اقترحه
نابليون نفسه، فقد انتقى بعض الشباب المختارين بعناية ثم أرسلهم في بعثات إلى
أوروبا وخاصة فرنسا؛ ليكونوا في باريس تحت إشراف أحد أعضاء المعهد العلمي
الذي أسسه نابليون في مصر من قبل، ويدعى: جومار.
وعندما فتح محمد علي ودعاة النهضة المدارس والمعاهد وأرسلت البعوث إلى
أوروبا بهدف اللحاق بنهضتها.. كان بدهياً أن تُمَد هذه المدارس «بالأساتذة
الأوروبيين أو بالمتعلمين في أوروبا، ورغبوا بطبيعة الحال في أن يدرِّبوا أساتذة
من عندهم، وبهذا أوسعوا المجال للمؤثرات التي كانوا يرجون تجنبها وزادوا في
قوتها، فليس هناك طالب ذكي يقضي ثلاث أو أربع سنين في عاصمة أوروبية
مختلطاً بأهلها كل يوم وقارئاً ما يكتبون خيره وشره من غير أن يشرب في نفسه
شيئاً أكثر من قشور المدنية الغربية، ثم عاد الطلبة أفراداً وبعوثاً، لا بدراسات فنية
بحسب، ولكن بجراثيم الأفكار السياسية، بل بجراثيم العادات الاجتماعية أحياناً،
مما كان متضارباً مع تقاليدهم الموروثة، وقد كان الأثر في مجموعه ضعيفاً في
الجيل الأول، ولكنه تضاعف في الجيل الثاني، وظل يتضاعف باطراد» [23] .
كان من أبرز المتأثرين في هذه البعثات والمؤثرين في غيرهم: الشيخ رفاعة
رافع الطهطاوي الذي ذهب إلى باريس بترشيح من أستاذه الشيخ حسن العطار سنة
(1241هـ/1826م) مع بعثة كبرى ليقيم الصلاة في أعضائها، فكان سبَّاقاً إلى
قراءة كتب آباء الثورة الفرنسية! كجان روسو ودومونتسكيو وفولتير، كما نهل
من كبار المستشرقين الفرنسيين وعاين الحياة الفرنسية (بحلوها ومرها) .
وبعد رجوعه إلى مصر أثَّر الطهطاوي في الحركة الفكرية لدى قطاعات
كثيرة من مثقفي الشعب المصري، بل نستطيع القول: إن القسم الأكبر من
المصريين الذين دخلوا المدارس الحديثة بين عامي (1831م و1880م) (1246
هـ 1297هـ) هم من تلاميذ رفاعة المباشرين أو غير المباشرين عن طريق من
تخرجوا على يديه، هذا إذا لم نأخذ في حسابنا قراءه خارج هذه الحلقة، ولا شك
أنهم كانوا كثيرين [24] .
وإضافة إلى كونه أول الداعين إلى (تحرير المرأة) وإلى استعمال العامية
لغة للكتابة والتصنيف، ساهم الطهطاوي في تحبيذ بزوغ وعي وطني مصري
بمفهوم تغريبي، ف «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة
الإسلامية) ... وها هو كل شيء يبدو في صورة جديدة: لقد بدَّد ابن طهطا
ظلمات القرون الوسطى التي غمرت الجماعة الإسلامية واستعاد جذوره
الفرعونية ... » [25] .
وهكذا لم يرحل الطهطاوي عن الدنيا عام 1873م (1290هـ) إلا وقد ترك
مصر واقعة في شَرَك العلمانية والتغريب:
ففي مجال التعليم: عمل محمد علي على (إصلاح) التعليم بما يخدم أهدافه
(الإصلاحية) والتوسعية، فنحَّى الأزهر جانباً، وشرع في تأسيس المدارس
النظامية والمعاهد المتخصصة التي يقوم عليها أوروبيون.
وفي مقابل تهميش الثقافة الإسلامية وتنحية الأزهر عن مكانته في قيادة العملية
التعليمية والجور على أوقافه التي كانت تكفل له الكفاية والاستقلال المادي، وفي
موازاة لعمل البعثات التعليمية الخارجية.. توسع التعليم الذي أسسه محمد علي،
وانتشرت مدارسه وخاصة في عهد الخديوي إسماعيل.
وفي الوقت نفسه: فتح المجال لمدارس الأقباط ومدارس الإرساليات
(التبشيرية) ، بل كانت بعض هذه المدارس تتلقى الدعم المادي من الخديوي نفسه
أحياناً [26] ، «وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تسودها روح الإلحاد فإنها شجعت
رجال الدين الذين ينشرون الثقافة الفرنسية في الخارج، وأرسلت البعثات
(العلمانية) إلى مصر، فأسست عدداً من المدارس» [27] ، فكان الهدف الظاهر لهذه
البعثات نَشْر الدين الكاثوليكي، ولكنها عملت على خدمة الاستعمار الفرنسي
والتمكين لنفوذ فرنسا الفكري والأدبي في مصر [28] هذا في مجال التعليم.
أما في مجال القضاء والتشريع: ف «مع بناء الدولة الحديثة في مصر،
سعى محمد علي لتقليص نفوذ القضاء الشرعي، حتى يحقق هدفه في التحديث،
عن طريق استيراد المدنية الغربية والتقرب للقوانين الأوروبية من ناحية، والعمل
على تخفيف سيطرة الدولة العثمانية التي ارتبط بها القضاء الشرعي من ناحية
أخرى» [29] .
تركيا [30] :
في هذه المرحلة الزمنية نفسها (1830 1881م) خرج من سلطان الدولة
العثمانية بعض البلدان؛ مما عمق إحساس الدولة العثمانية بالانكسار والهزيمة،
ودفعها إلى إجراء مزيد من (الإصلاحات) في الجيش ونظم الحكم، ولكن الدولة
كانت تهوي في الحقيقة إلى هاوية التبعية والتغريب بتشجيع الغرب؛ فقد زود
السفير الإنجليزي (ستراتفورد كاننج) بتعليمات من وزير خارجيته اللورد
(إبردين) خلال سفارته الثانية لدى الباب العالي عام 1842م (1258 هـ) لتأييد
الإصلاحات الحكيمة التي درست دراسة جيدة «مما يوفر لحكومة السلطان
الاستقرار والثبات اللازمين لها» [31] ، وهذا السفير نفسه كان يعتقد أن
«الإمبراطورية التركية تحث الخطا نحو تفككها بصورة واضحة، والفرصة
الوحيدة التي تمكنها من البقاء متماسكة لأي فترة زمنية أطول يتيحها لها تقربها من
حضارة العالم المسيحي» [32] .
وفي هذا الإطار وبذريعة (الإصلاح) صدرت (التنظيمات) ، «وقد
استندت حركة (التنظيمات) إلى مرسومين سلطانيين صدرا خلال عهد السلطان
عبد المجيد.. أولهما في عام 1839م (خط شريف همايوني) ، المشهور بـ
(منشور كُلْخانة) الذي وضعه [الصدر الأعظم] مصطفى رشيد باشا تلميذ المستشرق
[الفرنسي] سلفستر دي ساس، ووزير الخارجية [محمد أمين عالي باشا] في مطلع
عهد عبد المجيد.
وقد كفلت [هذه] (التنظيمات) مساواة المسلمين والذميين من الرعايا
العثمانيين أمام القانون، مقابل الحفاظ على كيان الدولة العثمانية بعد أن هددها محمد
علي [في الفترة] (1839 1841م) بموجب معاهدة لندن.
وثانيهما في عام 1856م (خط شريف همايوني) الذي عرف بـ (منشور
التنظيمات الخيرية) ، وقد صدر عقب حرب القرم (1854-1856م) .. فكان
ثمن هذه الهزيمة أيضاً منشور التنظيمات الخيرية الذي أكد كسابقه المساواة في ذلك
بالضرائب (إلغاء الجزية) وتمثيل الطوائف غير الإسلامية بمجالس محلية وفي
مجلس القضاء الأعلى» [33] .
وقد كان وراء هذه التنظيمات رشيد باشا الصدر الأعظم للسلطان الشاب عبد
المجيد، أكبر شخصية ماسونية في وقته، ومن ثم: احتضن الماسونيين العثمانيين،
ووجه أجهزة الدولة نحو التمسك بتمثل أوروبا والبعد عن التوجه الإسلامي.
وفي عام (1282هـ/1865م) وفي ظل الحماية التي وفَّرها مدحت باشا
(تلميذ رشيد باشا) للتيار التغريبي قامت مجموعة صغيرة (6 أفراد) من العناصر
العثمانية ذوي الميول الليبرالية بعقد اجتماع سري اتفق فيه على تأسيس (جمعية
شباب العثمانيين) [34] على غرار جمعية إيطالية أقرب إلى الماسونية العسكرية،
هي جمعية الكاربوناري (إيطاليا الفتاة) ، وقد أطلق الأوروبيون على (جمعية
شباب العثمانيين) اسم: (تركيا الفتاة) ، وكان من أبرز أعضائها: الشاعر نامق
كمال، وضياء باشا، وآية الله بك، وإبراهيم شناسي، وقد اصطبغ نشاطها في
البداية بالصبغة الأدبية الثقافية، باعتبارها حركة تهدف إلى الدعوة لإصلاح الدولة
العثمانية من منظور غربي علماني، وتجلت أهدافها في أربعة مبادئ: الحرية
الفردية، وقيام النظام الدستوري، والقضاء على الإقطاع، والتحرر من السيطرة
الأجنبية.
وقد تلاقت أفكار هذه الجمعية مع أفكار دعاة (الإصلاح) المتنفذين في الحكم
وعلى رأسهم مدحت باشا فكوَّنوا تياراً قوياً يرى أن الإصلاح الذي يجب أن يسود
الدولة العثمانية هو الحكم الديموقراطي على نمط الحكم في إنجلترا وفرنسا، ومظهر
هذا الحكم هو الدستور وإنشاء المجالس النيابية، واستطاع هذا التيار التحكم في
السلطان عبد العزيز ودفعه إلى هذا السبيل، فتابع (الإصلاحات) السابقة.
بلاد الشام [35] :
أما في الشام التي كانت خاضعة آنذاك للدولة العثمانية فقد نشطت الإرساليات
التنصيرية الأجنبية فيها، ومدت جسوراً من التواصل والتعاون مع نصارى المنطقة
منذ حُكم إبراهيم باشا بن محمد علي أثناء احتلاله للشام. وبعد عهد التنظيمات في
الدولة العثمانية بدأ التغلغل الصليبي يزداد في الشام مستفيداً من الامتيازات
والتسهيلات الجديدة، ومستغلاً إمكاناته المالية والبشرية الهائلة وغطاء حماية الدول
الأوروبية؛ حيث كانت كل من هذه الدول تدَّعي حماية الأقلية النصرانية التابعة
لمذهبها (فرنسا للكاثوليك، وروسيا للأرثوذكس، وأمريكا وإنجلترا
للبروتستانت) ، وتنفذ من خلال ذلك مخططاتها التغريبية والاستعمارية التي كان
هدفها العلمانية والتغريب ووسيلتها الثقافة والتعليم.
ففي عام (1263هـ/1847م) تشكلت تحت رعاية الإرساليات (التبشيرية)
الأمريكية (جمعية العلوم والفنون) ، ومن مؤسسيها بطرس البستاني وناصيف
اليازجي وكانا ماسونيين على صلة بهذه الإرساليات الأمريكية وضمت أيضاً بعض
(المبشرين) الأمريكيين من هذه الإرسالية، مثل: فان دايك، وإيلي سميث،
وكان هدفها: نشر العلوم الغربية والدعاية لدول أوروبا! ولكن لم ينضم إلى هذه
الجمعية خلال عامين سوى خمسين عضواً كلهم من نصارى الشام، وتعد هذه
الجمعية البذرة الأولى للقومية العربية العلمانية.
وفي عام (1273هـ/1857م) وهي السنة التالية لصدور منشور التنظيمات
الخيرية العثماني الذي ساوى بين أصحاب جميع الديانات في الولايات العثمانية
حدث تطور مهم على النشاط التغريبي العلماني في الشام؛ فعلى إثر حل الجمعية
السابقة مع صنوتها الكاثولكية (الجمعية الشرقية) تكونت بدلاً منهما جمعية أكبر
باسم: (الجمعية العلمية السورية) ، كانت غاياتها ووسائلها وقانونها وأنظمتها كلها
على غرار جمعية العلوم والفنون أيضاً، ولكنها ضمت لأول مرة بين أعضائها
الخمسين والمئة: دروزاً، ومسلمين، إضافة إلى النصارى من جميع الطوائف،
كان يجمعهم اهتمامهم بتقدم البلاد على أساس (الوحدة الوطنية) ، كما أن جميع
أعضائها كانوا من العرب، ولذا: أصبح الرباط الذي يؤلف بينهم هو اعتزازهم
بالتراث العربي.
ولم تأت سنة (1275هـ/1858م) إلا وكانت الإرسالية الأمريكية قد افتتحت
أكثرمن ثلاثين مدرسة ودار طباعة تنشر مبادئها وثقافتها من خلالها.
وفي عام (1276هـ/1860م) حدثت فتنة كبرى بين الموارنة والدروز أَوقَفت
إلى حين تصاعد المد القومي وحفزت في الوقت نفسه جهود الداعين إليه، وبعد هذه
الفتنة أصدر بطرس البستاني صحيفة سياسية أسبوعية باسم (نفير سوريا) ،
«ودعا فيها إلى الاتحاد والتعاون بين أبناء الطوائف المختلفة، وإلى ضرورة
فصل الدين عن الدولة، وإحلال الشعور القومي العربي مكان التعصب
الطائفي» [36] .
وفي عام (1281هـ/1862م) حدث تطور آخر مهم؛ إذ افتتحت (الكلية
السورية الإنجيلية) في بيروت، التي عرفت فيما بعد باسم: (الجامعة الأمريكية)
لتكون بديلاً محلياً عن البعثات الخارجية التي كانت لا تؤتي الثمار المطلوبة،
ولتلعب دوراً كبيراً في مجريات الأحداث فيما بعد، حيث كانت معقلاً من معاقل
الحركة القومية العلمانية وموئلاً ضم الداعين إلى العلمانية والتغريب في الشام.
وفي سنة 1863م (1282 هـ) أنشأ بطرس البستاني (المدرسة الوطنية)
على أساس وطني لا ديني.
ثم في سنة (1285هـ/1868م) نالت الجمعية العلمية السورية اعتراف
الحكومة بها، وفسحت المجال للاشتراك فيها حتى ضمت أعضاءً كثيرين بارزين
من الذين كانوا يقطنون خارج البلاد، وخاصة في إستانبول والقاهرة، وتحسنت
الصلات بين بعض الساسة من أوروبا وأعضاء فيها، وفي هذه الجمعية ظهر أول
صوت يدعو بوضوح وصراحة لحركة القومية العربية، وذلك عندما ألقى إبراهيم
بن ناصيف اليازجي على ثمانية من أعضائها قصيدة اتخذت صورة النشيد الوطني،
وَرَد فيها تحريض للعرب على الثورة على الترك، وفخر بأمجاد العرب وأدبهم،
وقد ذاعت هذه القصيدة ذيوعاً واسعاً.
وفي سنة 1870م (1287هـ) أصدر بطرس البستاني صحيفة (الجنان)
وهي صحيفة سياسية أدبية دعا فيها إلى أن ازدهار الشرق يقوم على «الحكم
الصالح الذي لا يمكن أن يقوم إلا بفضل اشتراك الجميع فيه، وفصل الدين عن
السياسة، وقبل كل شيء: إقامة العدل والاتحاد بين أبناء الأديان المختلفة، وتقوية
الشعور الوطني الموحد بين جميع المواطنين العثمانيين» [37] ، وقد جعل شعار
صحيفته: (حب الوطن من الإيمان) ، وهو شعار لم يكن يعرفه العالم العربي
حتى ذلك الزمن، وهكذا بات الطريق مفتوحاً أمام الجيل الأول من دعاة الوطنية
الذين ينادون صراحة بأن الولاء الديني لا يصلح أساساً للحياة السياسية.
وفي سنة 1875م (1292هـ) أسَّس خمسة شبان تلقوا العلم في الكلية
السورية الإنجيلية في بيروت وهم جميعاً نصارى من مريدي اليازجي والبستاني،
ومن أبرزهم: إبراهيم اليازجي والدكتور فارس نمر [38] أسَّسوا جمعية سرية قامت
على أساس قومي هي (جمعية بيروت) «، وهي تعد أول حزب سياسي في هذه
البلاد، فعادت العثمانيين وسمَّت دولتهم باسم تركيا، وكان من أهم مبادئها: فصل
الدين عن الدولة واعتبار الجنس العربي هو الأساس، والغريب من تلك الجمعية
اتهامها الدولة العثمانية باغتصاب الخلافة الإسلامية من العرب والتفريط في الدين،
مع العلم أن أعضاءها المؤسسين ليسوا بمسلمين كما ذكر سابقاً، وأن من انضم
إليها لاحقاً كان قومياً علمانياً، بل إن كاهناً كاثوليكياً كان يدعو في جريدته (النحلة)
في الفترة نفسها إلى» الإصلاح الديني [الإسلامي] بلهجة العربي القومي، وهاجم
عبد الحميد واصفاً إياه (بمغتصب لقب الخليفة) « [39] .
وإضافة إلى الاهتمام بالتعليم وتكوين الجمعيات السرية والعلنية، نشط
نصارى الشام في نشر أفكارهم المتمثلة في العلمانية والقومية العربية عن طريق
إصدار الصحف والمجلات التي كانت الوسيلة الإعلامية العامة الوحيدة آنذاك.
ولكن لم يكن النصارى وحدهم الدعاة إلى هذه الأفكار الجديدة في الشام، بل
كان هناك بعض (علماء المسلمين) الذين تأثروا بهذه الدعوة، وعلى رأس هؤلاء
برز في هذه المرحلة: عبد الرحمن الكواكبي (12651320هـ/1848 1902م)
الذي أخذ على عاتقه الدعوة إلى (الوحدة الوطنية) وفصل الدين عن الدولة، فكان
كما يقول حفيده سعد زغلول الكواكبي عنه:» أول رائد لفلسفة العلمانية مجاهراً بها
بين المسلمين « [40] .
الجزائر [41] :
يعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1246هـ/1830م) ، نقطة تحول كبرى
في تاريخ المنطقة، وقد كان لهذا الاحتلال عوامل دينية وعمرانية (حضارية) لا
تخفى، عبَّر عن هذا بورمون قائد الحملة على الجزائر عندما أقام صلاة الشكر
احتفالاً بالنصر، وبعث للملك الفرنسي وصفاً لهذا الاحتفال قال في نهايته:
» مولاي! لقد فتحت بهذا العمل باباً للمسيحية على شاطئ إفريقيا، ورجاؤنا أن
يكون هذا العمل بداية لازدهار الحضارة التي اندثرت في تلك البلاد «، ولم
يُخف المؤرخون المحدثون هذه الحقيقة، فوصف إدوارد يور المؤرخ الفرنسي
المعروف حادث الاستيلاء على الجزائر بأنه:» كان أول إسفين دُقَّ في ظهر
الإسلام « [42] .
وفي هذه الفترة المبكرة وبعد أن استقرت أقدامهم عمل الاحتلال الفرنسي على
مصادرة الأوقاف وإغلاق مراكز التعليم بالمساجد والكتاتيب، وإذا ما سمحوا بالتعليم
ورخصوا بالكتاتيب على قلة ذلك» فمن شروط الترخيص ألا يُدرَّس تفسير القرآن،
أو تاريخ الجزائر ... « [43] .
وفي القضاء انتزع الفرنسيون تدريجياً اختصاصات المحاكم الشرعية
وحولوها إلى محاكمهم المدنية.
كما عمل (جنرالات الجيش الفرنسي) وسياسيوه بالتعاون مع (رجال الدين
المسيحي) على استنبات بذور تغريبية جزائرية النسب وفرنسية الولاء، فاستمالوا
في هذه المرحلة المبكرة بعض مشايخ الطرق الصوفية ورجال الزوايا والأعيان
وأشباه الفقهاء ممن أنابهم الاحتلال عنه، فشرع الاحتلال ينظم لهم الرحلات إلى
فرنسا، وربما أقدم على تسريب الفتيات الفرنسيات زوجات لبعضهم مؤثِّرات
وجاسوسات، فتحولت بعض هذه الزوايا وأصحابها إلى بؤر لترويج التغريب
وتشويه الدين ومسالمة الاستعمار معتبرة إياه (قضاءً وقدراً) ؛ حيث أفتى بعضهم
بقبول الاحتلال كقدر.
أما من جهة المقاومة: فقد بايعت بعض القبائل عام 1832م (1248هـ)
الأمير عبد القادر على الأساس الديني (للجهاد ضد الكفار) فاتخذ لقب أمير
المؤمنين ودعا القبائل لطاعته بدافع الدين، وأطلق على الأراضي المحتلة اسم
(دار الكفر) وعلى البلاد التابعة له (دار الإسلام) .
ولكن في الوقت نفسه استعان عبد القادر بالأوروبيين من مختلف الجنسيات
لتدريب الجيش ولإقامة مصانع للذخيرة، وقرّب بعضهم، وقد اشتهر من بين هؤلاء
المستشرق الفرنسي (!) ليون روش الذي اتخذه الأمير مستشاراً له بعد أن اعتنق
الإسلام، فأقام عنده نحو أربع سنوات، وعندما انقطع الصلح بين الأمير وجيش
الاحتلال سنة 1839م (1255هـ) رفض روش اتِّباع الأمير في استئناف القتال،
واعترف له بأنه تظاهر باعتناق الإسلام، ومع ذلك فقد أخلى سبيله، ثم تبين بعد
ذلك أنه كان جاسوساً.
ويقدم لنا الأمير عبد القادر الجزائري نموذجاً واضحاً لأثر العوامل المساعدة
التي ذكرناها سابقاً (كالهزيمة النفسية وانحراف مفهوم القضاء والقدر، إضافة إلى
البعثات والرحلات المنظمة والمقصودة) في التحول نحو القبول والميل تجاه
التغريب والعلمنة، فهذا الأمير الذي قضى من عمره خمسة عشر عاماً في (جهاد
الكفار) حدث له تحول كبير بعد ذلك؛ فبعد هزيمته العسكرية في آخر سنة 1847م
(1263هـ) التي أعقبها إيقافه للقتال ثم غدر الفرنسيين به وأسره وترحيله إلى
فرنسا.. أطلقه نابليون الثالث من الأسر» وأمر بنقله إلى (بروسة) من أملاك
الدولة العثمانية، وأثناء مروره بباريس قدم تعهداً كتابياً بألا يفعل شيئاً ضد فرنسا.
ومنذ ذلك الوقت أصبح يسوده شعور بالعرفان بالجميل نحو نابليون ونحو
فرنسا بصفة عامة! حتى إنه طلب الاشتراك في الاقتراع على الإمبراطورية في
نوفمبر 1852م [1269هـ] (لأن الأخوَّة تجعلنا مواطنين فرنسيين!) .. كذلك ساد
الأمير شعور بالتفاوت الحضاري وتفوق قوة فرنسا المادية، وأصبح مقتنعاً (بأن
الله هو الذي أراد هزيمة المسلمين لأنهم انحرفوا عن دينهم، وعليهم أن يقبلوا
بالمصير الذي انتهوا إليه) .. بل إنه أظهر في مناسبات كثيرة تعاونه مع فرنسا،
كما اشتهر بإنقاذه للمسيحيين في أحداث سنة (1276هـ/1860م) بدمشق « [44] ،
ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الأمير عبد القادر كان راسخ القدم في التصوف [45] ،
كما أنه شايع الماسونية بعد انتقاله إلى سورية [46] .
__________
(*) هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يُعِدُّه الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في
العالم الإسلامي، وقد آثر - جزاه الله خيراً - مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب.
- البيان -
(1) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير (20/90) والصغير (1/264) ، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (4348) .
(2) انظر على سبيل المثال: إرشاد الفحول للشوكاني، ج 1، ص 329، المسودة لآل تيمية، ج 1، ص 202، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 4، ص 517، الإحكام للآمدي، ج 3، ص 9، أصول السرخسي، ج 2، ص 66، المستصفى للغزالي، ج 1، ص 262، شرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي، ج3، ص 748.
(3) انظر في التحذير من ذلك على سبيل المثال: كلام الإمام الشافعي في (الرسالة) مع تعليق أحمد شاكر، ص 110، 505.
(4) مات بالطاعون في تونس أثناء حملته الثامنة سنة (669هـ/1270م) .
(5) انظر: العلمانية، للدكتور سفر بن عبد الرحمن، ص 536، وفي الغزو الفكري، د أحمد عبد الرحيم السايح، ص 47.
(6) انظر: تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، د محمود المقداد، ص 58.
(7) السابق، ص 56 57.
(8) تاريخ الجبرتي، أحداث شهر محرم سنة 1213هـ.
(9) انظر: بونابرت في مصر، لكرستوفر هيرولد، ترجمة: فؤاد أندراوس، ص 251.
(10) انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 124، ومصر: ولع فرنسي، لروبير سوليه ص 37.
(11) تاريخ الجبرتي، أحداث شهر ربيع الآخر.
(12) انظر مناقشتهم لأحكام الميراث في تاريخ الجبرتي، أحداث شهر جمادى الأولى من سنة 1213هـ.
(13) انظر: تاريخ الجبرتي، أحداث شهر ربيع الأول سنة 1213هـ.
(14) على سبيل المثال: يمكن مراجعة الصفحات رقم: 15، 20، 28، 29، 36، 61، 82، 105، 106، 231، 264 من الجزء الثالث من تاريخ الجبرتي، طبعة الأنوار المحمدية، القاهرة.
(15) انظر على سبيل المثال: ص55، 60، 71، 98، 110، 230، 231، 272 من المصدر السابق.
(16) السابق، أحداث شهر ربيع الثاني، 1213هـ.
(17) انظر: ص20، 31، 32، 25، 45-48، 56، 58، 72، 162، 190، من المصدر السابق ذكره.
(18) انظر مثلاً: ص 11، 12، 34، 48، 52، 79، 80، 112، 127، 137، من المصدر السابق، وانظر أيضاً: مصر: ولع فرنسي، ص 38 39.
(19) نقل الرسالة الشيخ محمود محمد شاكر، في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ، ص 108، عن كتاب أحمد حافظ عوض: (فتح مصر الحديث) ، وقد ذكر أن أصل هذه الرسالة محفوظ في وزارة الحربية الفرنسية، وثيقة رقم 4374.
(20) انظر: في الفكر المصري الحديث، د عزت قرني، ص 164.
(21) تقرير الحالة الدينية في مصر، الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، سنة 1995م، ص 32.
(22) مختصر دراسة للتاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، ج 3، ص415 416، وهو يشير إلى الثورة العرابية في مصر، والثورة البلشفية في روسيا، والانقلاب الأتاتوركي في تركيا.
(23) وجهة الإسلام، هاملتون جب، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص 34 35، وانظر: ص 37.
(24) انظر: العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، د عزت قرني، ص 59، 106.
(25) مصر: ولع فرنسي، روبير سوليه، ص 80، وانظر: الرحالون العرب وحضارة الغرب، د نازك سابا يارد، ص 52.
(26) انظر: في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، ج 1، ص 72.
(27) انظر: المصدر السابق، ج 2، ص 10.
(28) انظر: السابق.
(29) د لطيفة محمد سالم، مصدر سابق، ص 128.
(30) انظر: العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، د محمد سهيل طقوش، ص 527 528، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، د إسماعيل أحمد ياغي،، ص 172 175، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، د زكريا سليمان بيومي، ص 170، 213، 216، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ساطع الحصري، ص 92 95، د محمد حرب، مصدر سابق، ص 431، الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 78.
(31) الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب، د سيد رجب حراز، ص 21، نقلاً عن: صحوة الرجل المريض، ص 73.
(32) العلماء العثمانيون والتغريب في زمن سليم الثالث ومحمود الثاني، أورييل هيد، بحث ضمن كتاب (الشرق الأوسط الحديث) ، إشراف: ألبرت حوراني وآخرين، ترجمة: د أسعد صقر، ج 1، ص 47.
(33) بتصرف عن: صحوة الرجل المريض، د موفق بني المرجة، ص 71.
(34) أو (العثمانيين الشبان) ، ويذكر بعض الباحثين أن جذورها تعود إلى عام (1860 م) ، انظر: د محمد سهيل طقوش، مصدر سابق، ص 431، ود زكريا سليمان بيومي، مصدر سابق، ص 210.
(35) انظر: يقظة العرب، لجورج أنطونيوس، ترجمة: الدكتور ناصر الدين الأسد، والدكتور إحسان عباس، ص 97 - 126، والفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، ترجمة كريم عزقول، ص 104- 111، 276- 283، والدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية، د علي حسون، ص 142- 149، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، ج 8، ص 183.
(36) الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث والمعاصر، د محمد كامل ضاهر، ص 99.
(37) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 270، وانظر: ص 110، 251، 280.
(38) هاجر إلى مصر سنة 1883 م (1300 هـ) ، وكان أحد مؤسسي مجلة (المقتطف) وجريدة (المقطم) المواليتين للإنجليز.
(39) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 276.
(40) الإمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة، لجان داية، ص10.
(41) انظر: المغرب العربي دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، للدكتور صلاح العقاد، والإسلام والاستعمار، وعقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، لرودلف بيترز، ص 73 83، وعبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، لمصطفى محمد حميداتو، ص 45 - 51.
(42) المغرب العربي دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، للدكتور صلاح العقاد،
ص 79.
(43) الاستبداد والاستعمار وطرق مواجهتهما عند الكواكبي والإبراهيمي، د أسعد السحمراني،
ص 41.
(44) د صلاح العقاد، مصدر سابق، ص 122.
(45) انظر: تعليقات الأمير شكيب أرسلان على كتاب حاضر العالم الإسلامي، ج 2، ص 172 - 173.
(46) انظر: د زكريا سليمان بيومي، مصدر سابق، ص 170، 219، وصحوة الرجل المريض، ص 340، وانظر الإشارة إلى نفي هذه التهمة عنه في مقال حفيدته الأميرة بديعة الحسني الجزائري، بجريدة الحياة اللندنية، ع/ 13275، تاريخ 30/3/1420هـ - 13/7/1999م.(159/46)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
الليبرالية العربية..
هدم «النص» والسقوط في التبعية..!
محمود سلطان
الخطاب الليبرالي العربي، منذ كان غضاً أي وهو يحاول أن يعبر عن نفسه
في عالم الفكر والمعرفة وحتى الآن ظل محصوراً داخل نطاق ضيق لا يتخطى
حدود خطاب «إطراء وإعجاب» بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية، ولم
يستطع أن يتجاوز تلك الحدود ليشيد قاعدة فكرية واجتماعية تكون بمثابة «شريحة»
مناضلة تقود التغيير بمعناه الشامل، أي أنه لم ينتظم في حركة تملك مشروعاً أو
رؤية نجد بالفعل أثر آلياتها في المجتمع، ولكنه خط لنفسه حدوداً، وأرسى أبنية
فكرية هي أقرب إلى الترف والدعة منها إلى الجدية المتوخاة في مثل هذا الموقف،
وظل حبيساً داخلها! ! فكان مجرد صوت مخنوق جلُّ همِّه وحَسْب تمجيد الآخر
«المتقدم» ، ومقت حاضره «المتخلف» وماضيه أيضاً..!
وغاب عنه حقيقة أن الأزمة الخانقة التي تفترس الفكر (الليبرالي العلماني)
العربي، ولا تزال، ومن ثم موضوعه (أي الواقع العربي) ترجع في المقام الأول
إلى «التخندق» داخل نسق أيديولوجي مغلق عبَّر عن نفسه من خلال الثقة إلى
مرتبة القداسة في النزعة المتطرفة نحو «النمذجة» واقتفاء أثر الآخر: «في
حلوه ومره، خيره وشره» كما عبَّر عنها طه حسين وأقرها أقرانه الليبراليون
المتطرفون أمثال شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وأحمد لطفي
السيد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين وغيرهم.
بل إن الأمر اتخذ أبعاداً أكثر جرأة مع أول تنظير فكري مصاغ بعقلية أزهرية
تحاول علمنة الإسلام، وتأويل «النص القرآني» أو قسره كي يوازي في
مضامينه ومحتواه النص المسيحي الشائع: «دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله»
تلك القضية التي فجرها القاضي الأزهري الشيخ «علي عبد الرازق» في كتابه:
«الإسلام وأصول الحكم» [1] والذي لا يزال حتى الآن يعد الإطار المرجعي
الذي يستند إليه العلمانيون المعاصرون في مواجهة التيار الصاعد الداعي إلى أسلمة
الدولة العلمانية العربية المعاصرة.
ففي إطار منطق «اقتفاء الأثر» السقيم الذي أصَّل له طه حسين في كتابه:
«مستقبل الثقافة في مصر» ظل المجتمع العربي على مدى العقود السبعة الماضية
انظر المثقف الليبرالي العربي بناءاً يستند إلى قاعدة لبنتها الأساسية «النص» ؛
ومن ثم شُغلت هذه الثلة المثقفة بمهمة تكاد تكون هي الوحيدة التي حشدوا من أجلها
آلياتهم المستوردة من كل حدب وصوب: وهي كيفية تقويض «النص» والماضي
العربي الذي أفرز هذا «النص» ؛ إذ إن بتقويضه وفق هذا التصور وفي ظل
هيمنة الفكر الاستشراقي سينهار الصرح الاجتماعي العربي «التقليدي» برمَّته..!
معتقدين أن ذلك يمهد لهم السبيل نحو بناء عالم جديد مستحدث وإلحاقه ثقافياً
وحضارياً بالغرب!
ولئن كان التراث (أو الماضي) جملةً ظل مرفوضاً في الخطاب الليبرالي
العربي فإن تهافت هذا الخطاب وانزلاقه إلى الانفصام الكامل عن الموضوعية وعن
الواقع أيضاً وتحوُّله إلى دوغمائية مغلقة، لم يكن في رفض التراث في حد ذاته ولا
في مسعاه إلى تقويض الأطر المرجعية التي تؤسس التراث وتشكله؛ إذ إن هذا
المنحى لم يتبلور في شكل موقف إزاء الماضي عامة بغض النظر عن هويته عربياً
كان أم غير عربي، ولكن المشكلة في أن الماضي عند المثقف الليبرالي ظل
مرفوضاً ومطلوباً في آن واحد؛ ومعيار المفاضلة عنده هو هوية هذا التراث
ومصدره، فهو يدَّعي على حد تعبير «سلامة موسى» أنه يريد «تخريج الرجل
العصري» ، وأن الطريق الذي يراه إلى ذلك، هو طرد القدماء «!
ولكن أي قدماء؟ ! إنهم القدماء العرب واستبدالهم بفريق آخر من القدماء
الغربيين! ! بحيث يحل فرويد وفوكو وفولتير وروسو ونوتسيكو، محل
الشافعي وابن حنبل وابن رشد وسيبويه والأصمعي! !
لعل الدافع الأساس والرئيس لنزوع الليبرالي العربي نحو القطيعة مع تراثه
وماضيه قد تأسس على الطريقة التي اعتمدها وهو يُعيد قراءتها من جديد، وهي
طريقة تعوزها الحيدة والمنطق في آن؛ إذ إنه كان يقرأ التاريخ والثقافة
العربية و» أوروبا «المتقدمة في رأسه، أي إنه قاس» الماضي «العربي
على» حاضر «العالم الغربي المتقدم الآن، وهو خلل معياري كانت نتيجته
الطبيعية والمترتبة عليه هو الحكم الظالم بجمود التراث أو تخلفه أو أي
مرادف آخر لهما! ! فهو يدَّعي أن ماضينا» متخلف «. ولكن ألم يسأل
نفسه: متخلف بالنسبة لمن؟ ! أبالنسبة إلى الحاضر العربي الآن، أم بالنسبة
إلى المنظومات الحضارية الأخرى التي عاصرت ماضينا نفسه؟ ! أم بالنسبة إلى
الحضارة الغربية المعاصرة؟ ! إن» الأخير «هو الذي كان مهيمناً على عقل
الليبرالي العربي، وهو ما جعله يطلق وصف» التخلف «على تراثه
بالكامل! ! بالإضافة إلى أن انتصار أوروبا عسكرياً وكذلك تفوقها التقني على
معظم دول العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر وإلى ما بعد الحرب
العالمية الثانية زاد من حالة الانبهار بما تفرزه» أوروبا «المنتصرة» من قيم
ومفاهيم ونظريات ومدارس فكرية وفلسفية؛ مما رفعها بمضي الوقت، في نظر
المثقف الليبرالي، والأكثر انبهاراً بها إلى مرتبة الحضارة «النموذج»
التي تتحدث دائماً من موقع المصداقية، وتملك من وجهة نظره مشروعية
الحكم على «المهزومين» ! ومن ثم نظر المثقف الليبرالي العربي إلى
حاضره وماضيه من خلال نظرة أوروبا إليهما! ولا يخفى على أحد نظرة
الاحتقار والازدراء التي كان ولا يزال ينظر بها إلينا العالم الغربي.
وفي ظل هذه الهيمنة الاستعلائية للنموذج الحضاري الغربي أثير هذا السؤال:
«لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟ !» . وفي غياب الوعي بالأسباب الحقيقية
للتحديث اختار المثقف الليبرالي العربي الطريق الأسهل: وهو التقليد والتشبه
بالغالب المنتصر، ويبدو أنها كانت حالة اختلط فيها «الوعي» بـ «اللاوعي»
مدفوعة بروح الإعجاب بالغالب المنتصر، والمؤدية إلى التبعية الكاملة له والتبرؤ
من كل ما يتعلق بالذات «العربية الإسلامية» من خصوصية، وهوية واستقلال
تاريخي، وأكثر تجسيداً لما صاغه ابن خلدون بـ «أن المغلوب يتبع الغالب
في الملبس والمذهب» [2] ، ألم يقل أحد الليبراليين العرب بأن أوروبا المنتصرة:
«هي المرشد الأول والقبلة التي يجب أن نحج إليها» ؟ [3] ، ألم يقل سلامة
موسى: «فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف
عائلاتنا على غرار عائلاتها» ؟ [4] أوَ لم يقل فرح أنطون: «يجب أن تكون
مدارسنا كالمدارس الفرنسوية معزولة عن الدين عزلاً قطعياً» ؟ [5] .
هكذا كان حال المثقف الليبرالي العربي كما يصفه الباحث الليبرالي السوري
هاشم صالح: «كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر، يقف
مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي، وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير
اللائق و (لغته غير الحضارية) ، و (دينه المتخلف) ويستحسن المثقف الغربي
منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو
يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً!» [6] . هذا الموقف ربما
نلتمس العذر لأصحابه، وخاصة هؤلاء الذين عاشوا مناخ «الصدمة» التي أفقدت
العقل العربي اتزانه في بدايات القرن الماضي حين أذهلته المنظومة الحضارية
الغربية بتفوقها الهائل وديناميتها السريعة وهو ما أدى إلى سقوط المثقف العربي
دون أن يدري إلى التبعية، ولكن بعد ذلك كان الوقت كافياً لالتقاط الأنفاس،
وإعمال الفكر والنظر لاحتواء الصدمة، وانبثاق فكر ليبرالي جديد متحرر من
تأثيرها، وغير ملتفت إلى فكر «التبعية» السابق عليه، والذي يمكن أن نقول إنه
صيغ في إطار خصوصيته التاريخية؛ ولكن ما حدث هو إنتاج وإعادة إنتاج الفكر
السابق (فكر القطيعة مع الهوية العربية الإسلامية) ، والوقوف عنده، دون تقديم
جديد يستحق الاهتمام به، فما نقرؤه الآن هو النص نفسه الذي كتبه طه حسين،
وسلامة موسى، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وغيرهم، ولكن منسوباً لأسماء
جديدة دخلت عالم الفكر حديثاً.
فنحن حين نقرأ لأدونيس قوله بأن «الحداثة هي ظاهرة تتمثل في تجاوز
القديم العربي لتصهره في قديم أشمل يوناني، مسيحي، كوني» [7] وحين نقرأ
لفرج فودة قوله: «إن هوية مصر فرعونية، قبطية، إسلامية، متوسطية» [8]
حينذاك نجد أنفسنا أمام الفكرة نفسها والنص نفسه الذي كتبه طه حسين من قبل في
«مستقبل الثقافة في مصر» !
وكذلك حين نقرأ لـ «هشام ترابي» قوله بأن «التراث الذي ينبغي دراسته
والحفاظ على إنجازاته هو التراث الذي صنعته الأجيال الثلاثة أو الأربعة
الماضية» [9] فإننا نجده النص ذاته الذي كتبه من قبل سلامة موسى حين قال إن
هدفه من النهضة: «هو تخريج الرجل العربي العصري الذي لا يرجع تاريخه إلى
أكثر من خمسمائة سنة فقط» [10] .
إن هذا الموقف يحمل دلالات عدة تطرح إمكانية وصفه بالجمود أو الركود أو
الإفلاس الفكري، غير أن هذه النتيجة ربما تنفيها احتمالات أخرى؛ إذ إنها يمكن
أن تكون إعلاناً عن إغلاق باب «الاجتهاد الليبرالي» ، ورفضاً لإعادة تجديد
الرؤى حول وظيفة التراث في النهضة المنشودة على أساس أن «الحكم» السابق
بإقصائه من قبل السلف الليبرالي أصبح عند المثقف الليبرالي العربي المعاصر
القول الفصل، أما ظاهرة اجترار الفكرة نفسها بصورة أو بأخرى في وقتنا الراهن؛
فربما تكون على سبيل التأكيد والثبات على الموقف. وفي رأينا أن كل هذه
الاحتمالات ليس لها إلا معنى واحد وهي الدوغمائية الرافضة للحوار ليس مع
الطرح الإسلامي السائد والمتنامي الآن؛ ولكن مع الواقع العربي الذي يرفض
تغريب قيمه وتزييف ذاكرته الجماعية.
والنتيجة كانت جلية وواضحة، وهي أن المجتمع العربي وبعد مرور مائتي
عام من عمر العربي الحديث لا يتجه نحو «العلمنة» ولا نحو «الحداثة»
المستندة في مضامينها ومحتواها إلى الإطار المرجعي القيمي الغربي، ولا يعتمد
النمط الرأسمالي الليبرالي، ولم يتخذه نمطاً أمثل للفرد والدولة والمجتمع، ولم
تستطع «الاشتراكية» المدججة بالسلطة وبزعامات «كاريزمية» في عقدي
الخمسينيات والستينيات أن تجد لنفسها موطئ قدم من المحيط إلى الخليج؛ ولكنه
أي المجتمع العربي يتجه نحو إحياء تراثه والتمسك أكثر بمرجعيته الدينية متمثلة
في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، متحدياً ما يحيط به من ترتيبات
وتحولات دولية تحاول إيهامه بأن العالم كله يتجه نحو «الليبرالية» !
__________
(1) صدر هذا الكتاب عام 1925م، فأثار أكبر معركة فكرية في تاريخنا الحديث؛ إذ غدا هذا الكتاب كما يقول د محمد عمارة أهم وثيقة في يد «العلمانيين» الذين يريدون للشرق أن يعزل الإسلام عن الدولة والمجتمع كما عزل الغرب المسيحية عنها، راجع د محمد عمارة «أزمة الفكر الإسلامي المعاصر» ، دار الشرق الأوسط للنشر، القاهرة، د ت، ص 92، وأشير هنا إلى أن الشيخ علي عبد الرازق شُكل له بسبب كتابه هذا مجلس تأديب من مفتي الديار المصرية، وبعض مشايخ القضاء الشرعي في 17 من سبتمبر 1925م، وقرر بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته وإخراجه من زمرة العلماء، راجع: «من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي» د غالي شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة القاهرة، 1993م، ص 158، 159.
(2) يقول ابن خلدون: «ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله» ، ويقول أيضاً: «والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في مَنْ غلبها» انظر المقدمة، طبعة دار ومكتبة الهلال، بيروت 1991م، ص 151، 152.
(3) من آثار مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق (جمع وتقديم) ، دار المعارف، القاهرة، ط 1957م، ص 80.
(4) اليوم والغد، سلامة موسى، المطبعة العصرية، القاهرة، 1927م، ص 241 257.
(5) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د غالي شكري، الدار العربية، للكتاب، ط 1983م، ص 178.
(6) الفكر العربي المعاصر، هاشم صالح، ومسألة (الحركات الأصولية) ، مجلة الوحدة، السنة (8) ، العدد 96 سبتمبر 1994م، ص 74، 75.
(7) صدمة الحداثة، أدونيس (د علي أحمد سعيد) ، طبعة دار العودة بيروت، طبعة الرابعة، ص 156.
(8) في حوار أجراه معه أحمد الشيخ، نشر بعد اغتياله في مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 22/6/ 1992م، ص 8.
(9) النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، د هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، مايو 1995م، ص 30.
(10) التثقيف الذاتي، سلامة موسى، القاهرة، مطبعة التقدم (د ت) ، ص 80.(159/58)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
القومية وأثرها المدمّر على وحدة الأمة الإسلامية
كمال حبيب
يذهب هذا المقال إلى أن القومية واقعة نفسية؛ بمعنى أنها ليست قاصرة على
الظهور التاريخي للكلمة فقط كما عرفها الغرب، ونعني بأن القومية واقعة نفسية أي
أن إحساس أمة بذاتها ووجودها ووحدة مصيرها يكون في اللحظات الحاسمة من
تاريخها؛ وبهذا المعنى فإن الإسلام حين ظهر في العرب انتقل بهم إلى مرحلة الأمة
التي تقوم على رسالة عالمية، وفي الواقع فإن الأمة العربية التي صنعها الإسلام
رغم شعورها بالتميز والخيرية إلا أنها لم تكن تستند إلى العرف في تميزها، وإنما
استندت إلى ما يمكن أن نطلق عليه: «وظيفتها الإيمانية والحضارية» فالإسلام
كان هو الحدث الأهم في تاريخ العرب، وهو الذي انتقل بهم من الفراغ القبلي إلى
أن يكونوا أصحاب رسالة عالمية ووظيفة حضارية، وباعتبارنا ننظر إلى
«العروبة» بوصفها عملية حضارية واسعة وكبيرة تفاعل فيها المسلمون مع
البلدان المفتوحة عبر آليات عديدة منها العلاقة الوثيقة بين العربية والإسلام، بل
بين العرب والإسلام؛ ومن ثَمَّ كان تعريب الدواوين وإقبال الناس على تعلم
العربية.
وباعتبار أن «العروبة» عملية حضارية أوسع من مجرد الانتماء إلى العرق
العربي، فإنها قد تمَّت بعد ظهور الإسلام؛ أي أن العروبة متأخرة في الحقيقة عن
الإسلام، وأن الإسلام كان البوابة والسبب الذي انتشرت العروبة عبره.
وبقراءة التاريخ الإسلامي فإن ظهور الحركة الشعوبية في العصر العباسي
الأول التي استندت إلى العرق وتمجيد الحضارات السابقة على الإسلام هي التي
فصلت بين العروبة والإسلام لأول مرة فيما أعلم وقد كانت الشعوبية إلى حد ما
تعبيراً قومياً يستند إلى العرق في مواجهة العرب بكونه عرقاً أيضاً، وكانت
الشعوبية تهدف إلى استعادة الحضارات التي قامت لهذه الشعوب قبل ظهور الإسلام
بقصد منازعة الوجود الإسلامي العربي وزلزلته.
ولحكمة إلهية فإن الاجتماع الإسلامي لم ينفرد به عرق معين؛ وإنما تداولته
الشعوب الإسلامية الأساسية؛ فالمماليك دافعوا عن الإسلام عقب سقوط الخلافة
الإسلامية في بغداد على يد التتار 1258م 658هـ، والبربر والأكراد كانوا جنوداً
للإسلام ومنهم صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس من أدران الصليبية المجرمة،
وانتصر في معركة حطين سنة 1187م، ثم جاء الأتراك السلاجقة ثم العثمانيون
فبدؤوا جهادهم وفتوحاتهم في عالم جديد يتكامل مع عالم الفتوحات العربية الإسلامية،
واستطاعوا الانتصار على البيزنطيين الروم وإسقاط «القسطنطينية» عاصمة
العالم المسيحي في ذلك الوقت عام 1453م على يد الشاب المسلم «محمد الفاتح»
ولمَّا يبلغ عمره حينذاك خمسة وعشرين عاماً. وبمراجعة الثقافة التركية فإنها لم
تكن تستند إلى العرق أو روابط الدم؛ ولذا فإن الإسلام كان وجودها وحياتها، ولم
يكن العثمانيون في أي وقت يصفون أنفسهم «بالأتراك» ؛ إذ كانوا يعتبرون أن
ذلك دلالة على التخلف الاجتماعي، أي أن التداول الحضاري في الإسلام لم يستند
إلى العرق، وإنما استند بشكل أساس إلى رسالة الإسلام.
كان الإسلام يكسر عنصر الامتناع في القبلية أو القومية؛ بحيث لا تتحول
إلى عصبية ينتصر المنتسبون إليها لبني جلدتهم بالحق والباطل على السواء أما
الانتصار للعصبية بالحق فأمر ممدوح قد يكون واجباً أو مندوباً وكانت القبائل تخرج
تحت راياتها لتتنافس في تحقيق غايات الإسلام ورسالته، فلم يعرف الإسلام برامج
القوميات المعاصرة التي تستهدف صهر الأعراق الأخرى لصالح القومية المتسلطة
أو السائدة.
القومية الجديدة:
ظهرت القومية (Nation) باعتبارها مصطلحاً في الغرب في القرنين
السابع عشر والثامن عشر، وارتبط ظهورها في الغرب بالقضاء على الإقطاع
وظهور الدول الحديثة كألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وفرنسا وغيرها،
وارتبط ظهورها بظهور الثورة الصناعية وطبقة التجار والصناع في الغرب
«البرجوازية» ثم الرأسمالية، كما ارتبطت القومية بالعلمانية؛ حيث أدت
التطورات التي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر إلى
الفصل بين الدين والدولة؛ أي أن القومية في ظل التطورات الغربية التي صاحبتها
كانت حركة توحيد وتحرر؛ لأنها وحدت الأمم الأوروبية المبعثرة والمتناثرة في
دولة مركزية واحدة، فحققت هدف الوحدة، كما كانت حركة تحرير؛ لأنها خلَّصت
أوروبا من تسلط الكنيسة الكاثوليكية التي فرضت التخلف على العقل الغربي،
وحاولت التحكم في كل الأشياء.
وفي إطار موجة التأثر في العالم الإسلامي بالأفكار الغربية ظهرت الفكرة
القومية في أوائل القرن العشرين مطلباً أساسياً روجت له النخبة العلمانية في العالم
الإسلامي، وكان نفوذ هذه النخبة يتعاظم مع تعاظم التفوق الغربي في المجال
المادي وتراجع دولة الخلافة الإسلامية الدولة العثمانية؛ إذ إن الفكرة المهيمنة على
عقول النخبة المتغربة في هذا الوقت: إنه لكي نحقق الإصلاح والتقدم في العالم
الإسلامي لا بد من انتهاج خط الغرب، ونسي هؤلاء أن ما يصلح في مجتمع ويُنتج
خيراً قد ينتج خبيثاً في مجتمع آخر؛ لأنه لا يوجد مجتمع واحد وإنما مجتمعات؛
ومن ثم فلكل مجتمع خط إصلاح مختلف، وكما يقول «زين نور الدين زين» في
كتابه الهام: (نشوء القومية العربية) : في الغرب كانت القومية السياسية جزءاً من
حركة علمنة الحضارة المسيحية، وأسفرت المعركة بين القومية والمسيحية عن
انتصار القومية، أما في الشرق العربي فالإسلام لا يزال عميق الجذور؛ فلم
تستطع الأفكار القومية أن تحدث ثغرة فيه؛ بل استطاع الإسلام أن يقف في وجه
كل محاولة للعلمنة، والمسيحيون القلائل وإلى جانبهم قلة قليلة من المسلمين ممن
كانوا يحلمون بإنشاء دولة عربية علمانية تقوم على حدود جغرافية وطنية معينة لا
على أساس ديني لم يلقَوْا تشجيعاً ولا تعضيداً من قِبَل غالبية سكان البلدان
الإسلامية «.
بدأت الحركة القومية تعبيراً رومانسياً في أواخر القرن التاسع عشر عبر عنه
أدباء ومفكرون مسيحيون من لبنان مثل» بطرس البستاني «و» أحمد فارس
الشدياق «و» إبراهيم اليازجي «و» أديب إسحاق «و» شبلي شميل «وغيرهم،
وكانوا جميعاً مرتبطين بالإرساليات النصرانية الغربية، وهؤلاء عملوا على إبراز
تاريخ العرب قبل الإسلام وإثارة الشعور القومي العربي، وهؤلاء هم الذين فَصَلوا
في العصر الحديث بين العروبة والإسلام فتابعوا فعل الشعوبية في العصر العباسي
الأول، ويعترف» صليب كوراني «بذلك فيقول:» الأثر الأول للحضارة الغربية
في الحياة العربية بعث القومية العربية، وقيام الحركة الاستقلالية التي تشمل العالم
العربي في الوقت الحاضر، وكانت هذه الحركة نتيجة مباشرة للتعليم الغربي «.
ثم بدأت الحركة القومية العربية في طور العمل السياسي ممثلة في جمعية
(بيروت السرية) التي كان طلبتها من خريجي الكلية البروتستانتية، وكانوا كلهم
نصارى، ثم بدأ المسلمون ينضمون إليها.
وبدأت الجمعيات السرية والعلنية القومية المطالبة بإصلاح الوضع في الدولة
التركية مطالبة بحق العرب في الحصول على حقوق سياسية وثقافية في إطار الدولة
التركية؛ وكان التطرف القومي التركي الذي مثلته جمعية» الاتحاد والترقي
الحاكمة «هو الذي أدى إلى ظهور تيار قومي عربي؛ لكنه لم يكن مطالباً بتفكيك
الدولة وكما يقول زين نور الدين زين:» إن فكرة الانفصال العربي عن الدولة
العثمانية لم تظهر إلا في إطار التطرف القومي للاتحاد والترقي بعد عام 1909م «،
وإبَّان الحرب العالمية الأولى، ومع انضمام تركيا إلى ألمانيا بدأت بريطانيا
توظف رغبة العرب في الانفصال عن تركيا بقطع عهود على نفسها بإقامة خلافة
عربية على رأسها الشريف حسين إذا هم ساعدوا الحلفاء في الحرب، وبعد مساعدة
العرب المخلصة للحلفاء وحربهم تركيا وكانوا سبب هزيمتها خدعتهم بريطانيا،
وقُسِّمت الدول العربية في الاتفاق المعروف باسم: (سايكس بيكو) .
في كل الفترات التي ظهرت فيها القومية قبل الحرب العالمية الأولى كان
للنصارى وللأيدي الغربية ولسفارات الدول الأجنبية المعادية للدولة العثمانية دور
في تحريك الحركات القومية بقصد تفتيت الدولة العثمانية، ويلاحظ أن القومية في
المشرق كانت ترفع راية العروبة حتى تقضي على الدولة العثمانية لصالح الإنجليز؛
حيث كانت الدول المشرقية لا تزال ضمن الدولة العثمانية؛ أما في مصر فإن
الإنجليز شجَّعوا الدعوات الطائفية كالفرعونية والمصرية، ولم يسمحوا للعروبة
بالظهور؛ لأنها ستكون ضد المصالح البريطانية.
القومية بعد الاستقلال:
الجامعة العربية هي صنع بريطانيا؛ لأنها خشيت أن تقوم رابطة قوية للعرب
تهدد مصالحها؛ فعملت على إيجاد الجامعة العربية كياناً يحمل بذور فنائه في تكوينه
وبنيته، وفي عام 1948م ومع ظهور التحدي الصهيوني في فلسطين هُزمت
الجيوش العربية مجتمعة، وبدأ الوعي بأهمية وجود عالم عربي موحد، لما هو
مقرر دولياً من حق كل شعب في أن يكون له دولته السياسية التي تعبر عنه، ومع
بزوغ دولة ما بعد الاستعمار طرح الفكر القومي مشروع الوحدة العربية استناداً إلى
وجود اللغة والتاريخ والمصير المشترك، لكن الوحدة (المصرية السورية) عام
1958م انحلت عام 1961م، ونشبت الخلافات بقوة بين حزب البعث العربي
السوري وحزب البعث العربي العراقي، وعقدت اتفاقيات للعمل العربي المشترك
مثل معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتعاون الاقتصادي عام 1950م، والوحدة
الاقتصادية عام 1957م، والاتفاقيات المنشئة للعديد من المنظمات العربية
المتخصصة، والاتفاقيات المنشئة للتجمعات الإقليمية الجزئية كمجلس التعاون
العربي، والإنماء المغاربي ... إلخ.
ولم تستطع القومية العربية أن ترقى إلى مستوى التحديات المنوطة بأمتها
فأخفقت في تحقيق الوحدة العربية، كما أخفقت في تحقيق أي مستوى من مستويات
التعاون الاقتصادي فلم تحقق التنمية، كما لم تستطع أن تنجز مهمة التحرير
والتحدي للهيمنة الغربية وربيبتها الكيان الصهيوني، ولم تفلح كل محاولات الوحدة
حتى الجزئية، لكن النهاية الكارثية القومية كانت مع هزيمة يونيو 1967م؛ حيث
كانت الهزيمة مفاجأة للقوميين العرب، كما كانت خاتمة أفول القومية العربية، وبدأ
الحديث عن وجود خلل في البنية الذاتية للمشروع القومي العربي، وبدأت النزعة
القُطرية في التصاعد إلى حد أن الصراعات (العربية العربية) جعلت بعض الدول
العربية تستجدي أمنها من دول غربية، وكان الغزو العراقي للكويت عام 1990م
قمة المأساة للقومية العربية وللنظام العربي الذي عرف كثيراً من الصراعات؛ لكنها
لم تصل إلى حد غزو دولة من دولة لأخرى.
ولم يعد العرب قادرين حتى على اجتماع القمة بوصفها آلية لحل المشاكل
المستعصية لهم؛ لأن قرار هذا الاجتماع لم يعد بيدهم وإنما بيد أعدائهم.
تجاوز القومية:
بالطبع فإن الحركة القومية العربية كانت مقصودة من أعداء الأمة الإسلامية
ببث الفكر القومي فيها لما للعرب من ثقل بالنسبة للإسلام، ثم انتشرت هذه الفكرة
كانتشار النار في الهشيم في كل البلدان الإسلامية. وفي الواقع فإن الفكرة القومية
التي تؤسس للرابطة على أساس العرق تؤدي إلى ظهور أفكار طبقية أقل لشعوب
داخلها مثل الفرعونية والقبطية والآشورية والفينيقية وغيرها من أفكار ذات طابع
تجزيئي وطائفي، ومع التحديات والهزائم التي واجهتها القومية باتخاذها حركة
تستبعد الإسلام بدأ الحديث بين القوميين عن العلاقة بين العروبة والإسلام، وبدأت
مراجعات واسعة عند القوميين العرب؛ حيث أصبح الإسلام بالنسبة لهم هو مادة
العروبة التي لا يمكن أن تنفصل عنه، وكما يقول جميل مطر في مقاله (مستقبل
العروبة) :» لم تعد القومية قادرة بظروفها الراهنة وظروف السياسة والسياسيين
في العالم العربي على ملء فراغ الفكر السياسي؛ وهو الفراغ الذي تدور فيه النخب
السياسية والقوى الحاكمة العربية، وتجر شعوب المنطقة بأسرها لتدور معها في هذا
الفراغ المدمِّر «.
ويقول محمد حسنين هيكل:» على مدى خمسين عاماً كانت قضية تحرير
فلسطين فكرة ملزمة للجميع؛ فالأمَّة العربية سوف تشعر وكأنها كتلة رخوة تنجذب
إلى بؤرتها بالمعتقدات الأساسية للدين، وسوف يعود مزيد من الناس إلى الهوية
الأصلية للمنطقة؛ ليست هوية قومية ولا عروبية وإنما هوية إسلامية. إن الإسلام
هو مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي، ولا يمكن لأي مشروع للنهضة أن
يتحقق بدونه، وكما قال الشاعر الألماني (غوته) : «من كان عليه أن يرفع حملاً
ثقيلاً فإنه ينبغي عليه أن يعرف مركز الثقل» ، ومركز الثقل في المجتمع العربي
هو الإسلام «.
* * *
المراجع:
1 - محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، القاهرة، دار
الفرقان، د. ت.
2 - محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة،
مكتبة الجماميز، ج2، د. ت.
3 - زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في
العلاقات العربية التركية، بيروت، دار النهار، 1979م.
4 - برهان غليون، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، القاهرة، سينا
للنشر، د. ت.
5 - أحمد يوسف أحمد، مصر وتجديد المشروع القومي العربي، رؤية ذاتية،
بحث مقدم إلى المؤتمر السنوي العاشر للبحوث السياسية، ديسمبر، 1996م.
6 - أحمد ثابت، تجديد المشروع القومي في الفكر المصري، بحث مقدم إلى
المؤتمر السنوي العاشر للبحوث السياسية، ديسمبر، 1960م.
7 - جميل مطر، مستقبل العروبة، الهلال، يوليو 1993م، ع 7.
8 - MOHAMMED H. HEIKAL , ISREAL & Palestine
The Independent, sep, 13, 1993.
9 - كمال السعيد حبيب، الأقليات والممارسة السياسية في الخبرة الإسلامية،
رسالة ماجستير في العلوم السياسية، 1995م، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،
جامعة القاهرة.
10 - محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي (1514 1914م) ،
القاهرة، الأنجلو، 1985م.
11 - عصمت سيف الدولة، العروبة والإسلام، بيروت، مركز دراسات
الوحدة العربية.(159/61)
ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(1 - 3)
كشف حساب العلمانية - العلمانية والعولمة
وتأثيرهما على مقومات التنمية
د. مصطفى محمود أبو بكر [*]
من مظاهر التضليل ادعاء أن العولمة يقتصر مفهومها على البعد المكاني،
وأنها لا تخرج عن كونها دعوة لرفع الحواجز المادية المكانية لكي تتداخل وتتفاعل
العمليات والعلاقات بين المجتمعات، ومن مظاهر هذا التوجه أيضاً القول بأن
العولمة هي مفهوم اقتصادي فقط يقوم على إلغاء الحواجز والقيود التي تقلل من
حركة الأموال والاستثمارات والشركات بين دول العالم. والحقيقة أن إعلان
المنتفعين الخارجيين أو المحليين من العولمة بأن هذه العولمة ليس لها بعد ثقافي أو
قيمي أو أخلاقي ما هو إلا مجرد تكتيك مرحلي ينفُذون من خلاله إلى عقول البسطاء
والعوام لتهيئتهم ذهنياً ونفسياً لقبول حتمية العولمة المعاصرة والتعايش معها.
ولكن الحقيقة أن كافة التجارب العملية والنظريات العلمية، فضلاً عن
الممارسات الفعلية للدول الغربية وحكوماتها وشركاتها تؤكد على استحالة أن يسود
مفهوم أو اتجاه اقتصادي معين ومنها المفهوم والاتجاه الاقتصادي للعولمة المعاصرة
دون أن يتم تهيئة المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي لنجاح هذا المفهوم
أو الاتجاه الاقتصادي واستمراره؛ بل الأخطر من ذلك أن الأمر قد يتطلَّب استخدام
التقدم العلمي والتقني والعسكري إذا تطلَّب الأمر لتوجيه الدول والحكومات وإجبارها
على تهيئة مجتمعاتهم لقبول هذا المفهوم، أو الاتجاه الذي تقوم عليه العولمة
المعاصرة. وأصحاب المصلحة في العولمة لا يشعرون بحرج في ممارسة تلك
الضغوط؛ حيث يقومون بكل هذا تحت شعارات تحقيق «السلام الدولي» أو
«التوازن العالمي» أو «الأمن القومي» أو لافتات «الشراكة» أو حماية
«حقوق الملكية الفكرية» أو زعم «حماية حقوق الإنسان» أو «حماية الأقليات»
أو «حقوق المرأة» أو بادعاء مقاومة «الإرهاب الدولي» أو مواجهة
«التيار الأصولي» .
وفي كل الأحوال لم يكن أمام أنصار العولمة المعاصرة والمستفيدين منها سوى
خيارين اثنين لا ثالث لهما:
إما الإعلان بأن العولمة لا دخل للدين فيها وأنه لا مجال للربط بين مفهوم
العولمة ومتطلباتها وبين الدين؛ وعليه: فلا بد من إخراج الدين من مفهوم العولمة
وتطبيقاتها، وبهذا الإعلان تكون العولمة هي العلمانية نفسها في حقيقتها، وهي
بمثابة جسم قديم في ثوب جديد.
وإما الإعلان بضرورة استبعاد الدين من دائرة الاهتمام والتأثير شأنه في ذلك
شأن الشيوعية والاتجاهات الإلحادية الأخرى، على اعتبار أن الإسلام هو العدوُّ
الأول والحاجز المانع أمام انتشار العولمة الدولية وسيطرتها عامة والعولمة
الأمريكية خاصة، ومن ثم يحرص أصحاب العولمة المعاصرة على تدمير التصور
والاتجاه الإسلامي الصحيح مستخدمين في ذلك كل السبل والوسائل التي منها:
طمس المفاهيم والتصورات الإسلامية الصحيحة، وتفتيت العمل الإسلامي، وتبنِّي
التيارات غير الواعية أو غير المخلصة منها بديلاً للنموذج الإسلامي الصحيح.
وبناءاً عليه يتضح أن العلمانية باعتبارها ديناً هي البوابة الحقيقية التي تفتح
المجتمعات الإسلامية وعقول أبنائها أمام العولمة المعاصرة.
ويمكن التدليل على ذلك بالاكتفاء بالإشارة إلى موقفين:
1 - إعلان «بوش» الأب عقب حرب الخليج الثانية قيادة النظام العالمي
عبر الآليات العسكرية لحفظ السلام العالمي في منطقة الشرق الأوسط الساخنة.
2 - ظهور «كلينتون» عقب تحويل اتفاقية الجات إلى منظمة، وبعد
موافقة العالم على الاتفاقية بدقائق معدودة؛ ليعلنها بصراحة واضحة أن توقيع
الاتفاقية هو نتاج جهد متواصل لسنوات عديدة جاء ليعزز مكانة أمريكا في زعامة
الاقتصاد العالمي وتوجيهه.
العلمانية بين محدودية النظرة وغياب المنهجية:
وإذا كنت أعتقد أن الانشغال الفكري المستمر بالحديث عن العلمانية والعولمة
والحداثة وغيرها هدف لأصحاب هذه التوجهات؛ لكي تتجه اهتماماتنا ومجهوداتنا
نحو حوارات فكرية ومناقشات متواصلة لا تنتهي إلى شيء ولا تنفع بشيء، إذا
كنت أعتقد ذلك؛ إلا أنني أرى أن من الضروري إيضاح المفاهيم والمصطلحات
التي نتناولها وتحديد دلالاتها، حتى يتحدد الإطار الذي نتحدث فيه حسب منظور
المنهجية العلمية في الدراسة والتحليل.
وبما أنه ليس من أهداف هذا المقال الذي يخاطب غير المتخصصين تناول
قضيتي العلمانية والعولمة بالتفصيل، ولا تناولهما من الجانب الشرعي؛ فلذلك كله
مجال آخر؛ فإني أعرض بعض التساؤلات المفتاحية والفرعية التي تساعد القارئ
على فتح مجالات البحث والتأمل للوصول إلى حقيقة العلمانية الحديثة، وأقول:
(الحديثة) لأني أعتقد أن العلمانية تعود بجذورها إلى قوم «شعيب» عليه السلام،
عندما استنكروا عليه ربط الدين بالدنيا؛ حيث قال له قومه: [قَالُوا يَا شُعَيْبُ
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ]
(هود: 87) ، فَهُم أرادوا بهذا ألاَّ يكون للدين دخل في الحصول على الأموال
واستثمارها وإنفاقها، ومن هنا: يتأكد أن الاتجاه بفصل الدين عن الحياة ليس
ظاهرة جديدة، وإنما هو سمة دائمة من سمات الجاهلية في غالبية مراحلها
وعصورها.
تساؤلات مفتاحية، من الأهمية استعراضها:
عادة ما تدور عدة تساؤلات في ذهن المهتمين بموضوع العلمانية سواء
المتخصصون منهم أو غير المتخصصين، وتمثل هذه التساؤلات عند حصرها
وترتيبها الإطار العام الذي يجب أن نتناول فيه موضوع العلمانية سواء لأغراض
تحليلها أو تقييمها. ومن الأهمية أن يقف القارئ عند كل سؤال من هذه التساؤلات،
وألا يقرأها كلها دفعة واحدة، ومع كل سؤال عليه أن يتدبر مضمونه ودلالاته
وتوابعه:
1 - ما هو المفهوم الحقيقي للعلمانية؟
2 - ما هو تاريخ نشأة العلمانية؟
3 - من هم الذين أنشؤوا العلمانية؟
4 - ما هي البيئة أو الظروف التي نبتت فيها العلمانية؟
5 - ما هي الجهات والمنظمات والهيئات التي تبنَّت العلمانية؟
6 - من هم الأفراد المتحمسون للعلمانية والمدافعون عنها؟
7 - ما هو الهدف الحقيقي والغاية الجوهرية لتبنِّي العلمانية؟
8 - ما هي المجالات والأبعاد التي تمسها العلمانية عند اعتناقها؟
9 - هل العلمانية مجرد رؤية أو فكرة أو مبدأ، أو أنها نظام حياة متكامل
مترابط؟
10- ما هي المجالات أو الميادين التي تصطدم مع العلمانية وتتعارض معها
وتناقضها؟
تلك هي التساؤلات العشر التي تُكوِّن الإطار العام لتناول العلمانية. وفيما يلي
بعض التساؤلات الفرعية التي تساعد القارئ على إعادة قراءة التساؤلات العشر
أعلاه والوقوف عند كل واحد منها:
هل للعلمانية دور في بناء المجتمعات والأمم؟
هل للعلمانية دور في بناء الفرد والأسرة؟
هل للعلمانية تأثير في نظم التربية والتعليم؟
هل للعلمانية علاقة بالقيم والأخلاق؟
هل مفهوم العلمانية وتداعياتها تمس الأديان والغيبيات؟
هل العلمانية تمس رسالات الأنبياء ودعوتهم للتوحيد والعبودية لله سبحانه
وتعالى؟
هل للعلمانية تداعيات على الأنظمة السياسية وعلاقة الحكومات بمواطنيهم،
ووضع الأنظمة التي تحكم الشعوب؟
هل للعلمانية دور في تنظيم العلاقات الدولية بين الدول في المجتمع العالمي؟
هل للعلمانية تداعيات على قضايا الاقتصاد والاستثمار والتنمية؟
هل توجد علاقة بين العلمانية والقضايا الدولية المعاصرة؟ مثل:
* اتفاقيات الجات وحرية التجارة.
* العولمة والانفتاح الفكري والإعلامي.
* أسلوبBOOT وقيام الشركات الكبيرة بإنشاء مشروعات البنية التحتية
(الأساسية) وامتلاكها وإدارتها.
ثم يبقى سؤالان لا غنى عنهما:
1 - هل للعلمانية وجود حقيقي في المجتمعات الإسلامية؟
2 - هل توجد علاقة بين الواقع الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية ووجود
العلمانية فيها؟
في: العلمانية ... العولمة ... فقدان الهوية ... ومقومات التنمية:
من المحتمل أن يتساءل القارئ بشأن مسوِّغات الربط بين المحاور الأربعة
المذكورة أعلاه؟ ! ودون الدخول في مقدمات، ودون الاستناد في ذلك والتدليل
عليه من نصوص القرآن والسنة يكفي أن نرجع في ذلك إلى نظريات الغرب
وعلومهم في التخطيط والإدارة والسياسة، والتي من أحدثها ما يطلقون عليها:
(مدخل الأنظمة) ، و (المدخل البيئي) ، وملخص هاتين النظريتين: أن العالم أو
الدولة أو الأمة شأنها شأن أي منظمة يحكمها نظام متكامل مترابط متفاعل، وأن أي
خلل في أي جزئية من جزئيات هذا النظام ينتج عنه حتماً خلل تراكمي يؤدي في
النهاية إلى خلل عام في النظام كله، كما أن أي نظام سواء كان سياسياً أو اقتصادياً
أو تقنياً يستحيل أن يحقق أهدافه إذا لم يتم تهيئة البيئة الكلية له من الناحية
الاجتماعية والثقافية والقيمية والأخلاقية بما يتفق مع أهداف هذا النظام.
ومعنى هذا: أن العلمانية بوصفها نظاماً أو عقيدة، والعولمة بوصفها سياسة أو
نظاماً أو توجهاً، يستحيل أن تنشأ وتنمو في المجتمعات الإسلامية ما لم تكن التربة
خصبة لها، وكذلك ما لم تتوفر الأساليب والأدوات المتكاملة لإحداث الإخصاب
المستمر لهذه التربة لكي تصبح حاضنة مناسبة لمفاهيم العلمانية والعولمة وأفكارهما
وقيمهما ومعتقداتهما.
وهنا نتساءل: ما هو جوهر أخلاقيات وقيم ومعتقدات كلٍّ من العلمانية
والعولمة؟
ودون الدخول في تفاصيل نكتفي فقط بالإشارة إلى التعاريف المستقرة لكل
منهما:
* العلمانية تعني الدنيوية أو اللادينية، وتقوم على العقل والعلم والمناهج
والأدوات العقلانية التي تقف موقف التضاد مع كل ما هو دين أو عبادة أو روح،
ولا يعتد بذلك (الدين، العبادة، الروح) أسساً للقيم أو الأخلاق أو التربية، ولا بد
في العلمانية من استبعاد كل ذلك من السياسة والاقتصاد والاجتماع لإنشاء الحياة
المعاصرة اللادينية!
* والعولمة تقوم بهدم الحدود والفواصل وتوسيع فرص التجانس والتوحد بين
شعوب العالم، وتهدف إلى إزالة الفوارق بين الأفراد، وتشمل مجالات السياسة
والاقتصاد والاجتماع والفن والثقافة، بما يؤدي إلى تعميق المجتمع المدني لحسم
قضية الصراع الأيديولوجي بين الحضارات لتكون الهيمنة للثقافة الدولية وقيم
المجتمع الدولي وأخلاقياته!
ونرى أن مجرد التدقيق الموضوعي المحايد لمضمون مفهومي العلمانية
والعولمة يوضحان مدى الارتباط القوي بين نشأتهما وبقائهما، وبين تمييع الهوية
الإسلامية وفقدانها؛ حيث يؤدي ذلك إلى تهيئة المجتمع الإسلامي لدخول العلمانية
والترحيب بالعولمة ونموها؛ لأنه مع تمييع الهوية أو فقدانها يتعمق ضعف القيم
والأخلاقيات اللازمة لرفع معنويات الفرد وزيادة فعاليته وتعميق إسهاماته في أسرته
ومجتمعه وأمته أو انتفاؤها؛ هذا بجانب أن غياب الهوية يعمق الصراع النفسي لدى
الفرد ويشتت توجهاته، ويجعله أسيراً للفردية والانعزالية والحيرة والتوتر الذي قد
يوصله إلى الهزيمة النفسية أو الانفصام الشخصي أو على الأقل التبعية الكاملة لأي
فكر علماني لا ديني.
وتتمثل خطورة الإفلاس في مجال الأخلاق والقيم وشيوع الانحلال بصورة
تؤدي إلى الصدام الحتمي مع فطرة الإنسان، مما يؤدي في النهاية إلى إتلاف
الخامة البشرية، والتي تؤدي في النهاية إلى سقوط حضارة الأمة وتعميق تبعيتها
الثقافية والقيمية والأخلاقية، والتي تؤدي حتماً إلى التبعية الاقتصادية والسياسية
لغيرها من الأمم العلمانية أو الرأسمالية، ويؤكد هذا المقارنة اليسيرة بين قدرة القارة
الأوروبية بغيرها من حضارات دول العالم الثالث في مقاومة اتجاهات الهيمنة
الأمريكية.
ولذا يمكن القول: إنه لا يمكن نجاح أي مشروع تنموي أصيل وحقيقي دون
الحفاظ على هوية الأمة وقيمها ومبادئها وأخلاقها، وهذا ما يتنافى مع تطبيق
العلمانية والارتباط بالعولمة الغربية في عالمنا الإسلامي.
مفهوم النمو الاقتصادي بين الوهم والحقيقة:
فإذا استعرضنا مفهوم النمو من منظور اقتصادي علمي بحت نجد أن هذا
المفهوم يشير إلى تزايد نصيب الفرد في المتوسط من الدخل الكلي للمجتمع، أي أن
النمو الاقتصادي لا يتحقق بإزالة عجز زيادة الدخل أو الناتج الكلي للمجتمع، وإنما
لا بد أن ينعكس على مستوى معيشة الفرد، ويتطلب تحقيق ذلك شرطين أساسيين:
الشرط الأول: ارتفاع معدل نمو الدخل القومي عن معدل النمو السكاني أو
معدل تزايد احتياجات السكان.
الشرط الثاني: ارتفاع مستوى الدخل النقدي للفرد عن زيادة المستوى العام
للأسعار (معدل التضخم) .
ونستنتج من هذين الشرطين أنه قد لا يتحقق النمو الاقتصادي بالمفهوم
الصحيح رغم حدوث زيادة في الدخل القومي.
فالتنمية الحقيقية تتمثل في: النجاح في تحقيق التحسن الفعلي المستمر في
متوسط الدخل الحقيقي لكل أفراد المجتمع بصفة عامة والفئات الفقيرة التي تمثل
الأغلبية بصفة خاصة، مصاحباً للتحسن الشامل في نوعية الحياة الاجتماعية
والثقافية والأخلاقية والسياسية، وذلك من خلال التغيير الشامل المتواصل لهيكل
الإنتاج والدخل في المجتمع.
ويتطلب تحقيق التنمية بالمفهوم ذاته استيفاء الشروط الآتية:
الشرط الأول: تحقيق الارتفاع المستمر، خلال فترة طويلة من الزمن، في
متوسط الدخل الحقيقي لمعظم أفراد المجتمع.
الشرط الثاني: التخفيف الحقيقي من ظاهرة الفقر، من خلال إحداث تحسن
حقيقي مستمر في توزيع الدخل لصالح الفئات الفقيرة، على اعتبار أن عدم تحقيق
ذلك يمثل تهديداً حقيقياً لكل جهود التنمية وخاصة على الأجل الطويل. وتتضح
أهمية ذلك عند مراجعة الإحصاءات الرسمية التي تمثل جزءاً ضئيلاً من الحقيقة
بشأن عدد الأسر الواقعة تحت حد الفقر سواء في الدول الغنية أو الدول الفقيرة.
الشرط الثالث: تكامل جوانب التنمية وترابطها لتشمل الجوانب الاجتماعية
والثقافية والقيمية والأخلاقية والسياسية فضلاً عن الجانب الاقتصادي؛ فعلى سبيل
المثال: لا يدخل ضمن متطلبات التنمية تبنِّي ما قد يطلق عليه معرفة أو علوم
حديثة إذا ما كان يترتب عليها تخريب في القيم وتدمير في الأخلاق، وهذا يعني أنه
لا بد أن ينعكس سلبياً وبقوة على جودة الحياة.
الشرط الرابع: عدم كفاية تحسن مستوى الدخل الحقيقي أو النقدي للفرد
للادعاء بتحقق التنمية، وإنما يتطلب إحداث التنمية الحقيقية أن يُوجَّه دخل الفرد
إلى تشكيلة متوازنة نافعة من السلع والخدمات التي تحقق جودة الحياة للفرد
والمجتمع، وتتضح أهمية هذا الشرط عند تناول الإحصاءات التي تشير إلى نسبة
الدخول التي تُوجَّه إلى السلع الاستهلاكية أو الترفيهية فضلاً عن حجم الإنفاق على
المخدرات بكافة أنواعها في المجتمعات الغنية والفقيرة على السواء.
الشرط الخامس: تحقيق تحسُّن حقيقي شامل ومستمر في خدمات البنية
الأساسية أو التحتية التي تمس الحاجات الضرورية لغالبية المجتمع، والتي بدونها
قد تكون حياة الشعوب هابطة، وتشمل هذه الخدمات: محطات توليد الكهرباء،
وحقول البترول، والطرق الرئيسة، والمطارات، ومشاريع النظافة، ومعالجة
القمامة، والخدمات الصحية، ومحطات المياه والصرف الصحي.. وغيرها.
ولا يقتصر التحسين الحقيقي في مجالات خدمات البنية الأساسية على مجرد
زيادة عدد منشآتها أو إعادة تأهيلها، وإنما تقتضي التنمية الحقيقية تحديد الأسلوب
الصحيح لتمويل هذه المنشآت وملكيتها وأسلوب تشغيلها وإدارتها، وهذا ما يؤدي
إلى إلقاء ظلال الشكوك والريبة على التوجه الكاسح لدى غالبية الدول النامية إلى
الاعتماد على أسلوب (BOOT) [1] في إنشاء مشروعات هذه الخدمات الأساسية
وتشغليها وملكيتها.
الشرط السادس: وضع الاستراتيجيات والسياسات التي تحقق العدالة
المتواصلة للمنافع التي تحصل عليها الأجيال المتعاقبة، بما لا يدع المجال لجيل
معين أن يتصرف في الموارد والإمكانات وكأنه المالك الوحيد لها. وتتضح أهمية
هذا الشرط عند تناول قيام بعض الدول في زيادة معدل استخدامها للموارد الطبيعية
وخاصة الاستراتيجية لإشباع الاحتياجات غير المحدودة للجيل الحاضر أو استجابة
لضغوط الدول القوية في هذا الشأن، دون مراعاة حقوق الأجيال القادمة، أو قيام
بعض الشركات الدولية بممارسة أنشطة أو تصدير مصانع تستخدم تكنولوجيات
قديمة تُلوِّث البيئة وتدمرها.
العلاقة المتشابكة بين العلمانية والعولمة والتنمية:
تقتضي منهجية التفكير ورُشْد التصرف أن ندرك حقيقة عصرنا، وأن نتلمس
الحقائق المستقرة التي نحياها ولا ينبغي أن نتجاهلها، ومن هذه الحقائق ما يلي:
1 - تنامي العلاقات العضوية بين أصحاب رأس المال على مستوى العالم،
وتشابك الأهداف والمصالح، وخاصة بين كبار المستثمرين، وتعمق الروابط بينهم
تحت رعاية المؤسسات والهيئات النقدية الدولية.
2 - عدم صحة ادعاء أصحاب الأموال باقتصار أهدافهم ونشاطاتهم على
الجوانب الاقتصادية وقضايا الاستثمار، وتأكد توجيه قدر كبير من خططهم
وجهودهم لإعادة تشكيل البناء الثقافي والقيمي والاجتماعي والسياسي، بما يخدم
إعادة تشكيل المجتمعات بصورة تحقق تنمية استثماراتهم وتعظيم عوائدها.
3 - تنامي دور رجال الأموال وتعاظم تأثيرهم السياسي سواء في صورة
وجودهم في/ أو تشكيلهم للمجالس النيابية، أو في صورة مشاركتهم القوية المؤثرة
في توجيه السياسات والقرارات السيادية في الدولة بما يخدم توجهاتهم وأهدافهم
الاقتصادية.
4 - اتساع دائرة التمسك والتأييد لفكر العلمانية، وخاصة من غالبية
الحكومات والعاملين في مجالات الفن والفكر والثقافة والإعلام، فضلاً عن كثير من
العاملين في المؤسسات البحثية وبصفة خاصة في الدول النامية في مجالات العلوم
الاجتماعية والسلوكية.
5 - اتساع دائرة الاقتناع بحتمية العولمة وحرية التجارة وسيطرة الاقتصاد
العالمي، ومن ثم: زيادة سطوة رجال الأعمال والمستثمرين، والتوسع في استخدام
أسلوب (BOOT البووت) في إنشاء مشروعات البنية التحتية «الأساسية»
وتشغيلها وإدارتها، والإلغاء التدريجي لدور الحكومات في هذا المجال.
6 - وضوح قوة ثورة تكنولوجيا الاتصالات وما تمتلكه الدول الرأسمالية
والشركات العالمية من أجهزة وبرامج إعلامية لها مقدرة عالية على غسل عقول
الأمة ومحو ذاكرتها وتراثها، ثم إعادة ملئها بمفاهيم وقيم وأخلاقيات تطمس هوية
الأفراد وتفقدهم قيمهم، وتهيئهم لكي تعيد تشكيلهم ذهنياً ونفسياً بما يخدم مصالحهم
ويحقق أهدافهم.
7 - وجود شركات دولية عملاقة تمتلك رؤوس أموال تزيد عن موازنات
بعض الدول، وتسيطر على رصيد تقني كبير، وذات ولاء قوي للدولة التي نشأت
فيها و/أو يوجد فيها مركزها الرئيسي، وتعطي هذه الشركات أولويات استثماراتها
وخاصة الاستثمارات ذات المردود الاقتصادي المرتفع للدولة المضيفة وإلى الدول
أو المناطق ذات الرضا السياسي من حكوماتها. والدليل الواضح على ذلك موقف
هذه الشركات من الدول التي تدخل في خلاف سياسي مع حكوماتها (مثل إيران
وكوبا) ، أو ما تفرضه هذه الشركات مع المؤسسات والهيئات المالية الدولية على
الدول لضمان حماية أموالها وتعظيم مكاسبها (كوريا مصر) .
8 - إننا نحن العرب والمسلمين نقع الآن في مؤخرة القافلة، ويتم تصنيفنا
سواء وفق معايير أصحاب الفكر العلماني أو وفق معايير مؤيدي العولمة في مرتبة
تقع في مؤخرة القافلة وفي موضع التبعية السياسية والاعتمادية الاقتصادية، وأنه
رغم أن العالم الإسلامي يقترب تعداده من ربع سكان العالم، إلا أنه قد لا يكون له
أي قدر ملموس من التأثير على النظام الاقتصادي أو السياسي العالمي.
9 - وضوح تراجع مكانة العلماء والباحثين والمخترعين والمبتكرين،
وضعف تأثيرهم في تشكيل كيان المجتمع بالدول النامية في مواجهة أصحاب الفن
والإعلام والصحافة المؤيدين والمؤمنين بالعلمانية والمؤيدين للعولمة الغربية.
10 - استمرار الضعف المتزايد للحس الأخلاقي والقيمى في قضايا الاقتصاد
والاستثمار والتجارة، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، ويدعم هذا
الضعف ضغط إعلامي تعليمي تثقيفي لتحييد الأخلاق والقيم الدينية في مجالات
الحياة عموماً، وفي السياسة والاقتصاد على وجه الخصوص.
العولمة ورسم السياسة الاقتصادية للدول النامية:
إذا كانت العلمانية التي تعيشها بلادنا إلا من رحم الله قد ربطت سياساتها
العامة والاقتصادية خاصة بالمنظومة العالمية التي تمثلها الآن العولمة المعاصرة؛
فإن من ظواهر هذه العولمة المعاصرة تدخُّل المؤسسات والهيئات المالية المقرِضَة
للدول النامية في وضع السياسات التي تنظم عمل القطاع الخاص، وزيادة مساحة
مشاركة رأس المال الأجنبي في الاقتصاد الوطني، وإلغاء أي ضوابط أو قيود على
الواردات، وتعديل القوانين التي تحمي الصناعة الوطنية ... وغيرها من التدخلات
التي تقلل الدور الوطني للحكومات، ومن ثم تأثيرها على تشكيل البناء السياسي في
المجتمع، ومع تضاؤل الدور الوطني (التأثير السياسي) للحكومات في الدول
النامية تزداد حاجة هذه الحكومات إلى الدعم المالي والأمني من حكومات الدول
الغنية، مما يزيد حاجة الدول النامية إلى قروض ومساعدات إضافية، وبما يزيد
هذا الأمر خطورة، ومع زيادة العجز في ميزان مدفوعات الدولة الفقيرة يزداد
اعتماد هذه الدول على مصادر موارد غير مستقرة تتأثر بأي تغيرات أو شائعات في
المجتمع المحلي أو الدولي مثل أنشطة السياحة والفن وغيرها، ويقترن بهذا
انخفاض الاعتماد على المنتجات والصناعات الاستراتيجية (القمح الذرة القطن
الزيوت التعدين الأجهزة.. الخ) .
هذا بجانب الدور الكبير المؤثر الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسيات في
اقتصاديات الدول المقترضة، والتي لا تصبح مفاتيح السياسة الاقتصادية بيد
حكوماتها أو شعوبها، وما زال ماثلاً أمامنا نموذج ما حدث في إندونيسيا وماليزيا
رغم ما حققته كل منهما من نمو اقتصادي وتنمية شاملة، إلا أن نقطة الضعف
الرئيسية في هذه التجربة هي ربط مقومات هذه التنمية بالتأثير الغربي في مجالات
الاستثمار والتمويل ومقوماته؛ حيث رأس المال أجنبي، والشركات أجنبية،
والإدارة أجنبية، والخبرات أجنبية، والتكنولوجيا أجنبية، وهذا المنحى تأخذ به
حالياً عديد من بل معظم الدول العربية والإسلامية.
ويكفي الإشارة إلى أن الدراسات الأولية تؤكد أن اتفاقية الجات سوف تستفيد
منها أوروبا وحدها بما لا يقل عن 30 مليار دولار سنوياً، واليابان بما يزيد عن
22 مليار دولار سنوياً، بينما يستفيد العالم الثالث في حدود مليار دولار واحد فقط
في مجال الزراعة، هذا بينما تنفرد أمريكا ودول الاتحاد السوفييتي السابق ودول
أوروبا بما يزيد عن 45 مليار دولار في مجال الأنسجة والخدمات. ولا يوجد
استفادة تذكر لدول العالم الثالث في هذين المجالين (الأنسجة والخدمات) .
ويؤكد هذا: تزامن ارتفاع حدة الحديث عن العولمة بدءاً من منتصف
الثمانينيات مع ارتفاع الضغوط على حكومات الدول النامية (التي نقع في نطاقها)
لتحرير التجارة العالمية وفتح الحدود أمام أسواق التمويل والتدفقات الرأسمالية،
وذلك في الوقت الذي تزايدت فيه الجهود بصورة أقوى لطرح عدد من القضايا
الفكرية الحساسة التي انشغلت بها وسائل الإعلام والمفكرون فضلاً عن الرأي العام،
وما زالت تستهلك جهدهم في مناقشتها والاختلاف حولها، ومنها قضية العولمة
... وقد كانت محصلة هذا استفادة بعض الدول من هذه الفترة، وانتقالها من
تصنيف الدول النامية إلى دول الاقتصاد المتقدم، ومن هذه الدول (إسرائيل) ؛ مع
بقاء وضع بعض الدول الأخرى ضمن تصنيف الدول النامية؛ فضلاً عن زيادة
نسبة السكان الذين يقعون عند/ وتحت خط الفقر بها.
وتؤكد الإحصاءات الدولية الرسمية إلى أنه رغم ارتفاع مستوى الدخل وتحقق
التنمية العلمية والتقنية والعسكرية في بعض الدول (منها إسرائيل التي استفادت من
هدوء فترة اتفاقية السلام) ، إلا أنه قد اتسعت الفجوة بين مستويات الدخول بين
الدول الغنية والدول الفقيرة، ومع وضوح ظاهرة تراجع مستويات دَخْلِ عديد من
الدول الفقيرة إلى الوراء برز في المقابل تزايد السلوك الاستهلاكي والترفيهي لدى
الطبقة الثرية من رجال الأعمال والسياسة في الدول الغنية والفقيرة على السواء.
التوجهات العامة البديلة لاختيار سياسة التنمية:
إن النظرة العامة سواء من المتخصصين أو عوام الناس إلى توجهات الدول
في تحقيق التنمية يمكن أن تنتهي بإرجاع هذه التوجهات إلى واحدة من التوجهات
الخمسة العامة الآتية:
1 - اتباع بعض الحكومات لنماذج وتجارب أو قيادات غير ناجحة، وتقليدها
رغم وجود مؤشرات واضحة تؤكد إخفاقها، مما نتج عن جهود التنمية أخطاء فادحة
ونتائج مقلقة أدت إلى زيادة تعقيد مشكلات المجتمع إلى درجة يبدو معها صعوبة
وجود أمل لإحياء المجتمع بعد موات.
2 - اتباع بعض الحكومات لسياسات ونماذج وتجارب مجتمعات أخرى حققت
قدراً مقبولاً من النجاحات في مجالات التنمية، وتقليد هذه السياسات والنماذج
والتجارب رغم الاختلاف الواضح بين مكونات البيئة الثقافية والاجتماعية والعلمية
والسياسية وخصائصها وبين المجتمعات، مما نتج عنه عديد من مؤشرات التناقض
والصراع الاجتماعي إلى درجة تصل إلى ضياع هوية المجتمع أو طمسها.
3 - اتباع بعض الحكومات لخطوات ونماذج تنوعت مصادرها وخصائصها
إلى درجة يصعب معها توصيف التوجه العام لتلك الحكومات في عملية التنمية
بصورة تجعل المتخصصين فضلاً عن غير المتخصصين أو عوام الناس غير
قادرين على تحديد توجهات الحكومة فيما يتعلق بخطط التنمية بصفة خاصة وتحديد
هوية المجتمع بصفة عامة.
4 - اتباع بعض الحكومات لمنهجية واضحة وسياسة معلنة تعتمد اعتماداً
أساسياً على مواردها الداخلية وإمكانياتها الذاتية بصورة تتفق مع هويتها الوطنية
وتعمقها، إلى درجة تعطي دلالة قوية على أن هذه المنهجية أو السياسة من صنع
هذه الحكومة، وأن هذه المنهجية تنفرد بها هذه الدولة إلى الحد الذي يظهر فيها
انعكاسها بصورة قوية على عقلية المواطن وسلوكه ومظهره.
5 - اتباع بعض الحكومات لسياسة محددة وخطة واضحة، تعتمد بصورة
أساسية على الاستغلال والاستفادة الخاصة من مشكلات الدول الأخرى واحتياجاتها
وظروفها، إلى درجة أن تكون حريصة ويقظة دائماً لكي تستثمر مشكلات هذه
الدول وأزماتها، بل تعمل على إيجاد هذه الصعوبات والمشكلات واستمرارها
وتعميقها بما يخدم مصلحتها وأهدافها.
وتومئ المؤشرات والظواهر العامة إلى أن غالبية الدول النامية إن لم تكن
جميعها تعتمد بدرجة أساسية على واحدة أو أكثر من التوجهات الثلاثة الأولى، بينما
تحرص الدول الغنية على مزيج من التوجهين الرابع والخامس بما يعظم مكاسبها
على حساب الدول الأخرى.
وعلى عكس الاستفادة الواضحة لبعض الدول من العولمة المعاصرة، ومن
خلال التحليل المقارن بين المستهدف في خطط التنمية للدول النامية حتى عام
2000م والنتائج التي حققت بالفعل يتضح التأثير السلبي لعديد من المتغيرات على
معدل النمو الاقتصادي في غالبية الدول النامية.
وفي المؤشرات العامة الآتية ما يوضح ذلك:
- ظهور التأثير القوي للمتغيرات الدولية في الأسواق العالمية، وكذلك في
العلاقات والاتجاهات السياسية على معدلات النمو الفعلية في اقتصاديات الدول
النامية عن المخطط.
- التذبذب الواضح في مستوى استقرار أسواق المال والعملات.
- تزايد معدلات الواردات بصورة واضحة بصفة عامة ومن دول جنوب
وشرق آسيا بصفة خاصة نتيجة الانخفاض الكبير في أسعار منتجات هذه الدول.
- تزايد معدلات الركود في الأسواق العالمية التي ساهمت في انخفاض
الإيرادات السيادية.
- انخفاض الإيرادات السيادية الأساسية نتيجة الأحداث الداخلية في بعض
الدول النامية.
- انخفاض معدلات النمو في القطاعات والأنشطة الاقتصادية الرئيسية مثل
قطاعات الزراعة والنقل والتجارة والسياحة ... وغيرها.
- التكرار المستمر لأزمات نقص السيولة المحلية، وتزايد الطلب على
العملات الأجنبية (خاصة الدولار الأمريكي) وارتباط ذلك بارتفاع فاتورة الواردات
وانخفاض الاحتياطيات للنقد الأجنبي.
- استمرار ظاهرة العجز في الميزان التجاري، بجانب تزايد حجم الفجوة بين
ناتج صادرات وواردات هذه الدول ودلالتها؛ مما يجعل المشكلة أكثر تعقيداً عند
إعداد خطة التنمية الشاملة في الدول النامية.
- تزايد حجم الواردات وقيمتها من السلع الاستثمارية والسلع الوسيطة والتي
تعتمد عليها بدرجة أساسية خطط التنمية الصناعية بصفة عامة والمشروعات الجديدة
بصفة خاصة.
وتؤكد هذه المؤشرات وغيرها أن راسمي خطط التنمية في الدول النامية
يواجهون تحديات متنوعة ومعقدة، من أجل تهيئة البيئة الاستثمارية بجوانبها
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية، وخاصة مع ارتفاع مستوى حساسية
اقتصاديات هذه الدول تجاه أي تغيرات سواء خارجية أو داخلية.
ويرجع ذلك إلى اعتماد اقتصاديات هذه الدول بدرجة كبيرة على المعاملات
المالية والرأسمالية والموارد الخدمية التي بدأت تفقد السيطرة الكاملة عليها، ولك أن
تتخيل دلالة انخفاض مساحة الأرض المزروعة «قطناً» إلى ما يقرب من 50%
في مصر منذ الستينيات، واستبدال هذه المساحات بزراعة الكنتالوب والخيار
والفراولة واللب، بزعم توفر فرص التصدير أمامها، في حين أصبحت إسرائيل
من الدول التي تصدِّر القطن بكميات كبيرة متزايدة.
حصاد الهشيم: تنمية شوهاء:
سبق أن ذكرنا في الحلقة الماضية أن الشواهد العملية والدراسات العلمية تؤكد
على أن زيادة مستوى الدخل الفردي أو القومي إن حدث لا يضمن بالضرورة تحسن
مستوى الخدمات والمرافق العامة التي يستفيد منها غالبية أفراد المجتمع سواء في
مجال الإسكان أو الصحة أو التعليم أو الغذاء وغيرها من ضروريات الحياة. كما
تؤكد هذه الشواهد والدراسات أن زيادة الدخل لا يكون مقروناً بالضرورة بارتقاء
الثقافة والقيم والأخلاق وتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعدالة
وحرية الرأي وغيرها من المؤشرات الحضارية التي تنشدها المجتمعات.
بل إن من الظواهر الغريبة التي تستحق الدراسة في حضارة القرون المتأخرة
إذا أطلقنا عليها وصف حضارة تجاوزاً: اقتران التخلف الاجتماعي بتحقيق النمو
الاقتصادي أحياناً؛ حيث تؤكد الإحصاءات الرسمية أنه رغم تحقيق بعض
المجتمعات زيادة في الدخل الكلي، إلا أن هناك تزايداً في الفروق والصراعات
الاجتماعية داخل هذه المجتمعات.
وعليه فقد أصبح من المستقر عند معظم الأفراد وفي غالبية الدول أن تحقيق
التنمية والحضارة لم يعد قاصراً على مجرد التخطيط لزيادة مستوى المعيشة المادية
للأفراد، وإنما يمتد ذلك ليشمل كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
والأخلاقية وغيرها من مكونات البيئة وجوانب حياة الأفراد.
وأصبح من المقولات المأثورة في مجال التنمية: أن التنمية يجب أن تهدف
وتتجه إلى تطوير الإنسان وتجويده هو أولاً وليس تطوير الأشياء المادية وتحديثها
فقط.
ومع ذلك، فإن ما نشاهده في معظم البلاد العربية والإسلامية هو أن المشاريع
التنموية العلمانية في تلك البلاد أدت إلى تعميق التبعية، ووهن الإرادة الذاتية،
وشيوع الاعتقاد بأن الحضارة هي سكنى الفيلات وبناء الناطحات واقتناء السيارة
والدش والهاتف المحمول، وأن التقدم والرقي هو في الفن والسياحة، حتى أصبح
للباطل والحرام علومه وفنونه ومؤسساته وأحزابه ... ونتج عن ذلك أن ساد الاعتقاد
في غالبية الدول النامية التي نقع في نطاقها إن لم يكن جميعها، ساد الاعتقاد بحتمية
اتباع الطريقة الغربية والاعتماد على الوكالات والمؤسسات الدولية والحكومات
الغنية والقوية للحصول على القروض والمنح والمساعدات والهبات، وقد ازداد هذا
الاعتقاد عمقاً باعتقاد آخر يقول بحتمية سلوك السبيل الغربي في التنمية، وهو
الاعتقاد الذي نشأ نتيجة تلاقي أربعة محاور عند نقطة مشتركة؛ وتتمثل هذه
المحاور الأربعة فيما يلي:
1 - حرص الدول الغربية عامة والغنية منها خاصة على تعميق هذا الاتجاه
لاعتقادها بأن ذلك أحد أهم مقومات استمرار سيطرتها وتفردها الاقتصادي
والسياسي.
2 - تركيز غالبية الخبراء والاستشاريين المحليين والخارجيين على إبراز
حتمية هذا الاتجاه، وحرصهم الشديد على تحقيق السيطرة الذهنية على صانعي
القرارات في الدول النامية، حفاظاً على مصالحهم جميعاً، وهي المصالح ذات
الارتباط القوي باستمرار سيطرة الدول الغربية عامة والغنية خاصة على مقومات
التنمية في الدول النامية.
3 - عمق النزعة الداخلية والتهيئة الذاتية لدى صانعي القرارات وكذلك الفئة
القليلة المستفيدة من نواتج التنمية لاتباع الأسلوب الغربي في التنمية إيماناً منهم بأنه
السبيل الملائم لدعم سيطرتهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية في مواجهة أي
توجهات لتحقيق التنمية الشاملة اعتماداً على الموارد والإمكانيات الذاتية، ومواجهة
أي توجهات لإتاحة الفرص للتوزيع العادل لثمار التنمية.
4 - تراكم نواتج المشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لدى
غالبية الأفراد، ووضوح ظاهرة الانهزام الداخلي والسلوك السلبي، وعمق الاعتقاد
بعدم جدوى الاجتهادات المحلية، ومن ثم حتمية الاقتداء بالأسلوب الغربي في
التنمية على اعتباره الوسيلة المعروفة لديهم والتي حققت مجتمع الرفاهية في الدول
الغربية، وهذا ما تحاول أجهزة الإعلام سواء الغربية أو المحلية تعميقه في
النفوس.
وقد أدى هذا الاتجاه إلى تجسيد مشهد متواصل في دولنا النامية يتلخص في
أن تعلن الحكومات وتُمنِّي شعوبها بأنه اقترب موعد جني ثمار جهود التنمية، وأن
الخير أوشك أن يعم البلاد؛ حيث تهيأت البيئة لجذب أموال المستثمرين وتشجيع
رأس المال الخاص المحلي والعربي والأجنبي، وأنه قد تم اعتماد الحكومات
والهيئات الغنية للقروض والمساعدات والمنح، وأن التقارير الدولية من المؤسسات
العالمية أكدت أن معدلات النمو في تزايد ومعدلات التضخم في انحسار، وأن كل
المطلوب هو أن تتحمل الفئات الفقيرة وهي الغالبية مزيداً من العبء لتمويل نفقات
التنمية خلال الفترة القصيرة المتبقية، وعليهم أن يتحملوا مزيداً من التضحيات في
المرحلة الانتقالية والصمود أمام تبعات المنافسة الدولية، وأن على المزارعين
والحرفيين والمهنيين محدودي الدخل وقليلي الحيلة أن يتذرعوا بمزيد من الصبر
أمام تلك المعاناة المؤقتة، وعليهم أن يقتنعوا أن كل بلاد العالم الغنية مرت بتلك
المرحلة، وأن يتخلوا عن تصورهم الخاطئ أن الأغنياء يسكنون في القصور
ويأكلون التفاح حباً في ذلك! وإنما يفعلون ذلك اضطراراً حتى يتمكنوا من التفكير
لهم والتخطيط لمستقبلهم! وليس المطلوب منهم (الفئات الغالبية الفقيرة) سوى
انتظار تلك الفترة، وأن يعملوا بجد ويقبلوا التحديات اليوم ويعيشوا دون ملبس أو
مسكن أو مأكل حتى يتمتعوا فيما بعد بنعيم جنة التنمية التي أوشكت أن تفتح أبوابها
على أيدي حكوماتهم والمستثمرين الجدد!
كما أدى ذلك الاتجاه العلماني والعولمي وهذا السيناريو إلى فساد اقتصادي
واجتماعي واسعين. ونستطيع إيضاح علاقة العلمانية بالعولمة وأثرهما في المجتمع
وعلاقتهما بالفساد الاقتصادي والاجتماعي في الشكل الآتي:
الخاتمة:
بصيص من أمل، حقيبة العمل لإحياء الأمة لكي تواجه العلمانية وتؤثر في
تشكيل العولمة المعاصرة:
إنني لا أقول كما يقول كثيرون إن الإسلام والمسلمين يمرون الآن بمحنة
قاسية، وأن الأمم أوشكت أن تمحو ذاكرة هذه الأمة وهويتها، وإنما أقول إن الأمة
الإسلامية تمر هذه الآونة بمرحلة «مخاض» وما يرتبط بها من حالة عالية من
التأهب والترصد فضلاً عن قسوة الألم والتوتر، وذلك في جو تأكد فيه كيد الخصوم
والأعداء من جانب وحقدهم، وبدت فيه بوادر تلاشي جهل المنتسبين والمتحمسين
من الأبناء من جانب آخر، بصورة تؤكد أن التمكين لهذا الدين لن يتحقق إلا
بوضوح المفاهيم وتميز الصفوف والرايات بمشيئة الله، حتى يعلم الجميع أن أولئك
قوم يعبدون الدنيا وأن هؤلاء قوم يسارعون إلى الآخرة.
وعلى ضوء ما سبق، ووفق تقديرنا المبدئي، فإن مواجهة العلمانية وتبعاتها
لن يتم إلا من خلال إحياء الأمة من جديد، وإخراجها من حالة الركون والتهميش
والحياد التي تعيشها إلى حالات الحركة والتأثير والانحياز، ويمكن أن يتحقق ذلك
بمشيئة الله تعالى وفق رؤية استراتيجية متكاملة وبرنامج عمل شامل يكون حقيبة
عمل لإحياء الأمة؛ لكي تواجه العلمانية وتتعامل بفعالية مع العولمة المعاصرة،
ويشتمل هذا التصور المبدئي على ما يلي:
1 - تصحيح المفاهيم وتعميق الإيمان الصحيح الخالص لدى الأفراد بما يبرز
الهوية الإسلامية، ويحقق التوازن بين الدنيا والآخرة، ويكوِّن الأمة الوسط بين
الأمم.
2 - جعل الإنسان محور أهداف التنمية الشاملة بكافة جوانبها ومكوناتها
ومحور جهودها.
3 - احترام عقلية الإنسان وعاطفته، وتنمية الرغبة والمهارة لديه وتهيئته
للإبداع والابتكار والتطوير والتحديث.
4 - التربية الشاملة التي تغطي كافة المجالات وتمس كافة الفئات، وهي
تربية ينبغي أن تكون متوازنة توجد الشخصية السوية، وينبغي أن تكون متواصلة
تواكب العصر وتتفاعل مع المتغيرات، وتستجيب للضروريات والإيجابيات.
5 - الاهتمام الكامل بالمرأة والأسرة سواء ما يتعلق بجوانب التعليم والتربية
وتوفير متطلبات استقرارها؛ لتكون بمستوى الإيجابية التي تخدم أهداف التنمية
الشاملة من الجوانب الاجتماعية والقيمية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والسياسية
والأمنية.
6 - أن يكون بُعْدَا التربية والتعليم هما أحد أهم أهداف التنمية وأحد أهم
أدواتها في الوقت نفسه، لإخراج العقول ذات الخُلُق والقيم والمبدعة والمبتكرة
القادرة على إيجاد قاعدة تكنولوجية أصيلة تقود عملية التنمية؛ لتخرج الأمة من
التبعية والاعتمادية إلى الريادة والتأثير، فضلاً عن تقديم صور السلوك الفردي
والجماعي والقومي التي تليق بالأمة الوسط من جانب، وتدعم أهداف التنمية
الشاملة من جانب آخر.
7 - تكوين تصور نظري ووضع سياسة عملية لإنشاء أجهزة إعلامية ذات
صبغة إسلامية تحافظ على هوية المجتمع الإسلامي من جانب، وتعمل على تنمية
الشخصية المسلمة من جانب آخر، وتدعم أهداف التنمية الشاملة من جانب ثالث بما
يحقق حياة إسلامية شاملة يدركها الفرد والمجتمع المحلي، ويعترف بها العالم
الخارجي ويقيم لها وزناً واعتباراً.
8 - إنشاء قاعدة تكنولوجية وطنية حقيقية بجوانبها المادية الفنية والبشرية
والإدارية، بما يوفر الأساس العلمي التقني للتنمية الشاملة ويحقق للأمة استقلالها،
وينزعها من التبعية التكنولوجية والاقتصادية والسياسية.
9 - بناء نظام سياسي يحقق العدالة ويكفلها، ويؤكد حق الأمة في اختيار
ممثليها وحكوماتها، ويدعم الانتماء الوطني للأمة الإسلامية، ويحترم التعددية
السياسية التي تلتزم بالشرعية الإسلامية، ويحفظ للأمة وحدتها وحضارتها وهويتها،
ويهيئ المناخ الإيجابي للصفوة الرشيدة المخلصة.
10 - تكوين بناء اقتصادي مالي استثماري ينشأ ويدار على أساس العقيدة
الصحيحة وتحقيق الحياة الكريمة لجميع أفراد المجتمع، على أن يتم مراجعة هذا
البناء وتطويره على ضوء التوافق العضوي بين مقوماته وأهدافه الآتية:
* حماية الأموال والمحافظة عليها باعتبارها أحد الضروريات الخمس التي
جاءت الشريعة للمحافظة عليها وحمايتها، شأنها في ذلك شأن الدين والنفس والعقل
والعرض.
* الاهتمام والرعاية المتوازنة لكل فئات المجتمع، مع منح رعاية وكفالة
خاصة للفئات الضعيفة لضمان حياة آدمية كريمة لهم.
* وضع معيار مركب خاص بالتنمية يلائم الأمة الإسلامية ليجمع بين جوانبه
العقائدية والاقتصادية والقيمية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما
يحقق للأمة هويتها الإسلامية ومكانتها الدنيوية المتحضرة المعتبرة من الكيانات
الأخرى في المجتمع الدولي.
* إعطاء الأولوية للاستفادة من الموارد والإمكانيات المحلية وتعظيم الانتفاع
بها، وحمايتها وتنميتها، وإيجاد ميزة تنافسية من خلالها، وزيادة الاعتماد على
المكونات المحلية في التصنيع والإنتاج.
* الالتزام الكامل بسياسة الإنتاج الوطني للمنتجات والسلع الاستراتيجية بصفة
عامة، وما يتعلق بالأمن الغذائي والمعيشي والدفاعي بصفة خاصة.
* إيجاد بيئة اقتصادية آمنة تكون مركز جذب استثماري تجاري لرأس المال
الوطني والعربي والإسلامي والأجنبي على السواء، مع توفر البناء التشريعي
والثقافي والأمني الذي يحقق ذلك.
* تهيئة البيئة الاستثمارية لتحفيز المنشآت العائلية المفتوحة التي تحقق الربط
السليم بين ملكية هذه المنشآت وإداراتها ودعمها من جانب، وإتاحة الفرص لصغار
المدَّخرين والمستثمرين من جانب آخر بما يكفل الحرص على إنجاح هذه المنشآت
والمحافظة عليها واستقرارها فضلاً عن تدعيم الجانب القيمي والأخلاقي المرتبطة
به.
* إنشاء مدن ومراكز بحثية متخصصة متكاملة تتفرغ للعمل البحثي،
والتوصل إلى الابتكارات والاختراعات العلمية التي تخدم التنمية والاستقرار،
ووضع السياسات والأنظمة التي تكفل الدعم والحماية لهذه المدن والمراكز البحثية،
على اعتبارها محور تحدٍ استراتيجي مصيري للأمة في مواجهة التوجهات
والتكتلات الدولية التي تحرص على بقاء المجتمعات والحكومات الإسلامية في حالة
الانهزام والتبعية.
* التعامل مع تنمية القرية والمجتمع الريفي، وكذلك الصناعات الصغيرة
والمهن الحرفية بالمفهوم الحربي الاستراتيجي، على اعتبار أن مجالات التنمية هذه
تمثل الصف الثاني أو الجبهة الداخلية للتنمية والاقتصاد القومي الذي يوفر للمجتمع
حماية وحصانة اجتماعية واقتصادية يصعب على الكيانات الدولية اختراقها أو
القضاء عليها، مما يعطى للأمة قوة حقيقية دولية من جانب، ويمد الحكومات بقوة
تفاوضية مع كافة الكيانات والمؤسسات والحكومات الدولية.
__________
(*) أستاذ إدارة الأعمال المساعد بكلية التجارة، جامعة المنوفية، مصر، خبير التنظيم والإدارة
بالبنك الدولي.
(1) اختصار Building Operation Owner Transport، وهو أسلوب يعتمد إنشاء وامتلاك وتشغيل المشروع من قبل شركات أو مؤسسات، ثم تحويله إلى الدولة بعد فترة الامتياز أو التعاقد.(159/65)
قضية للمناقشة
عوائق في طريق المراجعات
(2 - 2)
محمد مصطفى المقرئ
في الحلقة الأولى من هذا المقال أشار الكاتب إلى أهمية المراجعات التي
ينبغي إعطاؤها دورها في مسيرة العمل الإسلامي، وما يُطلب من العلماء العاملين
والدعاة المربين من تقوية هذه المسألة من حيث التنظير والتجذير واستنبات الثمار،
ثم طاف بنا على أهم المعوقات ومنها إحسان الظن بالنفس وإغفال عيوبها،
والإعجاب بالعمل، وتقديس المُقدَّمين والمغالاة فيهم، وعرَّج بنا ناحية الجهل
والهوى، ولم يغفل الإشارة إلى الإرهاب الفكري الذي أصيب به بعضنا تأثراً بما
تعانيه أكثر بلداننا، ثم توجه بنا إلى: خشية الشماتة، وتوهم فتنة الأتباع إن
اعترفنا بالخطأ، وغير ذلك من المعوقات، وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب بيان
المعوقات الأخرى التي تعرقل التوجه السليم إلى مراجعات تستخلص من خلالها
العبر والدروس.
المعوق العاشر: استمراء الضلالة:
لا ريب أن التوبة من المخالفة واجبة على الفور، ووجوبها على الفور هو
لعدة معان:
الأول: لمعنى ثبوت الخطاب التكليفي بالأوامر والنواهي، وبالتوبة ذاتها في
حق العاصي حال عصيانه وعُقيبه، ثم على الدوام.
والثاني: أنها وإن وجبت على الفور إلا أنها تُقبل ولو فعلت على التراخي،
وذلك من رحمة الله جل وعلا القائل: [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً]
(النساء: 17) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم
يغرغر» [1] .
ولكن قوله تعالى: (مٌن قّرٌيبُ) مشعر بطلب الإسراع في فعل التوبة،
ولذلك وردت الأدلة بفضيلة التعجيل بها، قال تعالى: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 133) ،
ذلك أن التوبة وإن اتسع زمانها ليشمل حياة المكلف كلها ما لم يُصرَّ إلى سياق
الموت؛ إلا أن هذه اللحظة التي نوافي فيها المنيَّة هي من الغيب المكنون المخفي
عن العباد [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] (لقمان: 34) . فلو فرض أن
للعباد سعة في تأخير التوبة من الوجهة الشرعية، وهو غير مسلَّم؛ لما كان لهم
سعة من جهة الزمن لجهالتهم بالمدى المتاح لقبولها؛ فلحظة الموت غيب مجهول،
وقد تأتي فجأة بغير إنذار [لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ
يَسْتَقْدِمُونَ] (يونس: 49) . وقوله تعالى: [فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (الواقعة: 83-87) .
الثالث: أن طول الأمد في الإقامة على المخالفة: يحرم المرء نور البصيرة،
ويحجب قلبه عن مولاه، ثم يشتد هذا الحجاب ويَصْفُق كلما طال تلبُّسه بالمحظور،
فإذا النفس تستمرئ العصيان وتألفه، حتى لا ترى به بأساً! ! [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد: 16) .
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: «من سعادة المرء أن يوفق للصواب
والخير، ومن شقوة المرء أن لا يزال يخطئ» ، ذكره ابن وهب في كتاب العلم
من جامعه [2] .
فكل لحظة تمر على العبد وهو مقيم على المخالفة يُنكت بها في قلبه نكتة
سوداء، وذلك هو الرين الذي قال الله تعالى عنه: [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا
كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ] (المطففين: 14-15) ،
أي كما حُجبت قلوبهم بالعصيان عن نور الحق في الدنيا، تحجب أبصارهم عن
رؤية الله تعالى في الآخرة، جزاءاً وفاقاً، وفي بيان أثر العصيان على الجنان يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً
عوداً. فأي قلب أُشرِبَها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة
بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مُربادّاً كالكوز مُجخِّياً لا يعرف
معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرِب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما
دامت السموات والأرض» [3] ، «كالكوز مجخياً» أي: مكبوباً منكوساً.
قال الحافظ ابن القيم: «.. وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد
المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل
حقاً!!» [4] .
فأنى لمن كان هذا حاله أن يراجع نفسه، ولو فرض وراجعها؛ فبغير
جدوى!!
المعوق الحادي عشر: الفهم الخاطئ بأن التصويب يقتضي إهدار الفضل:
فكأننا مطالبون أن نقبل قول المجتهد كله؛ فلا ننكر له خطأً، ولا نرد له رأياً، وإن
عري من الدليل، حتى نثبت أننا نوقره ونحفظ له فضله! ! ولا تلازم بين رد
الخطأ وإهدار الفضل، ولا بين حفظ الفضل والمتابعة على المخالفة، ولكن نصون
لأهل العلم مكانتهم دون أن ننزل كلامهم منزلة الوحي المعصوم، [وَلاَ تَنسَوُا
الفَضْلَ بَيْنَكُمْ] (البقرة: 237) وإذا رددنا لمقدَّم رأياً؛ فبرأي مقدَّم مثله يسنده
الدليل، ولكليهما كامل التوقير.
قال العلامة ابن قيم الجوزية: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن
الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله
بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا
يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب
المسلمين» [5] .
وقال أيضاً: «فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِك جملةً وأهدرت محاسنه..
لفسدت العلوم والصناعات، وتعطلت معالمها» [6] .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: «.. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر
صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه
واتباعه.. يغفر له الله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به
في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك» [7] .
وقال أيضاً: «وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن
لورطة، ولعله رجع عنها، قد يغفر الله له لاستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا
حول ولا قوة إلا بالله» [8] .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «.. ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل
لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت
والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو
مائة أو مئتين أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة» [9] .
فشتان شتان بين النقد والنقض.. فالنقد: بيان للخطأ كما يوجبه الشرع دون
إهدار المحاسن، والنقض: هدم للعالم بحسناته وسيئاته! !
والناس اليوم في أحد أمرين اثنين أو يكادون: الأول: إذا رضوا عنك
تغاضوا عن أخطائك ولو كانت مثل جبل، والثاني: إن سخطوا عليك فتَّشُوا لك
عن زلة ولو كانت قدر نملة..
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تُبدي المساويا
ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول: «لو أصبت تسعاً وتسعين، وأخطأت واحدة.. لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين» [10] .
إذن: المراجعة لا تقتضي إهدار الفضل، ولو اقتضته فلا رجحان لمفسدته
أمام مفسدة الإقامة على المخالفة.
المعوق الثاني عشر: المراجعة لا تقتضي بالضرورة تأثيم المجتهد المخطئ
أو تبديعه، وإن اقتضت تصويب خطئه وبيان غلطه على وجه التحري والإنصاف:
وذلك مبني على أصول قررها أئمتنا:
منها: أن الحق المطلق لا ينحصر في واحد من الأمة، وإن وجد في عمومها
على الدوام.
ومنها: ليس كل من اجتهد يتوصل بالضرورة إلى معرفة الحق في كل مسألة
يجتهد فيها، وهو معذور فيما يخطئ فيه بل مأجور عليه، ما بذل الوسع في فعل
المأمور وترك المحذور وأخذ بأسباب ذلك قدر جهده.
ومنها: أن الرجل من أئمة العلم قد يجتهد في مسألة أو أكثر فلا يصيب الحق
ويوافق من حيث لا يقصد أهل البدع، فلا يلزم من ذلك أن يُبدَّع، وإن وُصِفَ قوله
بالبدعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق من
جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه،
تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] (البقرة: 286) » [11] .
فإذا اجتهد الإنسان في طلب الحق من الكتاب والسنة، وأخطأ في اجتهاده فهو
مغفور له بنص الآية الآنفة، وكذا إذا استفرغ العالم وُسْعه في طلب الحق من
الكتاب والسنة وأخطأ في بعض مسائل الاعتقاد فإنه لا يُبدَّع ولا يهجر من أجل
خطئه أو أخطائه، وإن كان يقال في قوله: قول مبتدَع. لكن لا يلزم من ذلك أن
يكون مبتدِعاً، فكما أن القول الكفري لا يلزم منه أن يكون صاحبه كافراً، فكذلك لا
يلزم أن يكون قائل البدعة مبتدعاً، وكما أن تكفير المعين يحتاج إلى استيفاء شروط
وانتفاء موانع؛ فكذلك تبديع المعين يحتاج إلى استيفاء شروط وانتفاء موانع، وعلى
هذا فلا نبدِّع أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني، والقاضي أبي بكر بن العربي كما
يفعله بعض المتسرعين؛ لأننا علمنا من سيرتهم تحريهم للحق وحرصهم على السنة،
بل يُذكر للحافظ ابن حجر انتصاره لمذهب أهل السنة في الأسماء والصفات، في
مواطن عدة من كتبه، بل وذمُّه للمذهب الأشعري الذي يرميه به هؤلاء المجترئون
على الأئمة؛ فمن كان من ذوي الفضل في مثل حال هذين الإمامين الجليلين: بيَّنا
خطأه، وأنه وافق الفرقة الفلانية في هذه المسألة، وإن كان ليس هو منهم، ولا
على منهجهم في الاعتقاد [12] .
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: «والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل،
لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع» [13] .
ويقول الإمام الذهبي: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام خطأً في اجتهاده في آحاد
المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدَّعناه، وهجرناه، لَمَا سلم معنا ابن نصر،
ولا ابن مَنْده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو الهادي الخلق إلى الحق، وهو
أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة» [14] .
ويقول رحمه الله: «ونحب السنة وأهلها، ونحب العَالِم على ما فيه من
الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة:
بكثرة المحاسن» [15] .
فلو ساد هذا الفهم لما رأى أحدنا غضاضة من أن يُخطَّأ شيخُه أو طائفته،
ولما حنق على المصوِّب أو الناقد، رائياً إياه متهجماً مجترئاً مهدراً لمكانة الشيخ أو
الطائفة.
المعوق الثالث عشر: العلاقة التصادمية بين فصائل العمل الإسلامي:
أما آن لنا أن نتجاوز النظرة الحزبية الضيقة في تعاملنا مع المخالف؟ أم أننا
لم نبلغ بعد من النضج والرشد ما يؤهلنا للتحرك كأمَّة؟
فهذه الفصائل والجماعات إن هي إلا روافد تصُبُّ في نهر الإسلام العظيم، أو
هي جداول يتدفق عبرها ماء النهر، ليتوزع بها في كل سهل وليرقى تلكم الوديان.
إن هذا الإخفاق المتكرر الذي تُمنى به محاولاتنا الحزبية لإقامة الدين، ينبغي
أن يكرس قناعاتنا بضرورة تحركنا كأمة، وإن أفضل هذه الفصائل وضعاً هي
أضعف من أن تتصدى لقضايانا المصيرية وحدها [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) ، ولا يفهمن من ذلك
أنني أدعو إلى تفكيك هياكل هذه الفصائل والجماعات، أو أني أطالبها بحل نفسها! !
فذلك ما لا يقوله عاقل مدرك لحتمية العمل الموحد، فضلاً عن عالم بفرضيته
[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) .
ويخطئ من يرى أن الحركة الإسلامية باعتبارها تياراً: قد أخفقت بوصفها
حركة تغييرية؛ ذلك أنها إلى يوم الناس هذا لم تخض تجربة حقيقية بكل طاقاتها
مجتمعة، فتقاس بها قدراتها الفعلية، بل الواقع: أننا لم نتحرك بعد إلا كفصائل
مستقلة، مفتتة الجهود والإمكانات، بل ومتعارضة المسارات أحياناً.
إنه من المؤسف حقاً أننا ما زلنا نواجه عوامل التغيير والتأثير كجُزُر تتقاذفها
أمواج المحيط وتُطوِّح بها العواصف والأعاصير، ولم نتراص بعد كقارة متلاحمة
الأجزاء، متماسكة الأطراف.
فالواقع أن القطع بإخفاق الصحوة لعجز فعلي تعانيه قضاء فيه نظر! ! ولربما
كان الصواب أن يقال: إنما لم تدرك الصحوة أهدافها لسببين اثنين رئيسين:
الأول: هذا التمزق الذي فتَّتت جهودها كعصي مفرقة لا تستعصي على
الكاسرين.
والآخر: عدم تأهلها إيمانياً وتربوياً، صحوة وأمة، لحمل رسالة الإسلام
العظيم إلى العالمين.
وهذا شأن لا يقتضي بالضرورة الحكم على مسيرتها بالإخفاق، أو بخس ما
بذلته من جهود، أو غمط ما أنجزته من أعمال.. ذلك إذا ما قيست الصحوة
بالمرحلة التي تعيشها، وحجم التحدي الذي تواجهه، ودرجة النضج التي بلغتها،
في مدى لا يعد في أعمار الحركات عمراً.
ولكن من الإنصاف أن نقر بنجاح الصحوة على أصعدة كثيرة، نعم..
وبدرجات متفاوتة، وألا نجعل مقياس النجاح والإخفاق مقوماً على أساس من
الأهداف وحدها، بل يقال: إلى أي حال كانت ستصير الأمة لو أن هذه الصحوة لم
تكن قائمة؟
وعَوْداً إلى موضوعنا: لو تأملنا في أي جماعة قائمة لوجدنا فيها العديد من
التقسيمات التخصصية؛ مما يدل على اقتناعها بضرورة تحقيق التكامل فيما بينها،
وهذا لا ريب أصل لا غناء عنه كي تتمكن من أداء رسالتها. وبقطع النظر عن
طبيعة منهجها الحركي وتوجهها الفكري؛ فالكل في هذا الأصل سواء.
إذن واقعنا العملي بوصفنا جماعات قائم شاهد على حتمية التنوع التكاملي..
فلماذا لا نكون كذلك من ناحية أننا أمة أو صحوة عامة؟ ! ولماذا لا نسلِّم بإمكانية
جعل العلاقة بيننا بوصفنا إسلاميين علاقة تكاملية لا تصادمية، وهذا عندي أمر
لازم يقابله الواجب، لا مجرد ممكن يقابله الجواز؟ !
إن أعداء الصحوة أنفسهم أدركوا هذه الحقيقة المقررة آنفاً، وثبت لديهم أن
أخفَّ صور التمسك بالدين تصَبُّ في النهاية ضد تصوراتهم وخططهم، ولأجل ذلك
اعتمدوا سياسة تجفيف المنابع التي تعني طمر أي عين وإن كانت ناضبة قبل أن
تتفجر وتنهمر على يدي مُنقِّب عن الخير! ! فالفسيلة الإسلامية في سياساتهم يجب
أن تدهس، وإلا صارت نخلة تستعصي على القالعين [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] (الصف: 8) .
لقد آن لنا أن ننبذ هذه العلاقة التصادمية، وأن نبحث عن صيغة للتعاون، أو
على الأقل نوجد صيغة لكف الصراع، ولا سيما ونحن نعيش عصر التكتلات،
تلك التي لم تجتمع على شيء اجتماعها على حرب الإسلام، والله تعالى أعلى
وأكبر [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] (الشورى: 13) فليس
بمثل الوحدة يواجه تكتل الباطل.
ولَكَم أهدرت الفُرقة من جهود وأوقات! ولَكَم استغرقتنا المنابذات الحزبية
حتى غيبت وعينا التربوي، وغمستنا في ألوان من الفتن والصراعات، ولوثتنا
بأصناف شتى من آفات اللسان، بل ووصلت في بعض الأحيان إلى شهر السنان!!
أيرجى مع هذه الأجواء التصادمية المسعرة أن نجد فراغاً للوقوف مع أنفسنا،
والتفتيش عن مكامن الخلل فينا؟ ثم أيؤمل مع حرص كل فريق منا على تزكية
ذاته، والتأكيد على أنه الأنقى منهجاً والأكمل تجربة؛ أن نقبل بفقه
المراجعات، ونجعله قيد التطبيق؟ عسى..
وبقيت هاهنا نقطة: هل الخلق مستوون فيما منحهم الله تعالى من ملكات
وميول؟ أو أن الله تعالى وزَّع هذه وتلك كتوزيعه الأرزاق؟ قال تعالى: [وَرَفَعَ
بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ] (الأنعام: 165) ، وقال: [وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ
اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ] (النساء: 32) ، وقال: [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم
مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ] (الزخرف: 32) .
فإذا كان الناس متفاوتين في مواهبهم، متباينين في ميولهم، فكيف تُستثمر
طاقاتهم إن حُملوا على نوع واحد من العطاء، وهل يستقيم أن يهدر كل فصيل
جهود طوائف من الأمة إذا لم تتجاوب مع تخصصه النشاطي: من دعوة، أو جهاد،
أو تعلم، أو تبليغ، أو غير ذلك؟ !
المعوق الرابع عشر: الضغوط المتوالية التي تعانيها الصحوة الإسلامية،
وسياسات الإجهاض وتجفيف المنابع التي تقوض عمليات البناء:
ولا بد لإيضاح هذا المعنى من تقرير أمور عدة نتحراها فيما يلي من مطالب:
المطلب الأول: البلاء في التصور الإسلامي: جزء تكويني داخل في
التركيب الأصلي لمسيرة دعوة الله، وذلك كما قال جل وعلا مخاطباً أكرم الخلق
عنده صلى الله عليه وسلم: [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ المُرْسَلِينَ]
(الأنعام: 34) ، وقال لسائر خلقه: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ
لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ]
(العنكبوت: 2-3) ، قال الحافظ ابن كثير: «ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد
أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث
الصحيح:» أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى
الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء « [16] .
وقال ابن كثير: [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ] (العنكبوت: 4) أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم
يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن مِن ورائهم من العقوبة ما هو أغلظ من
هذا وأطم [17] .
وعلى هذا فمن فرَّط في فعل الواجب والتزام الشرع دفعاً للبلاء: عومل
بنقيض قصده، وخاب ظنه، وكان عند الله مذموماً، ولا يغرنك زعم مدَّع أن
الحكمة هي ألا تبتلى أبداً، إنما الحكمة أن تفعل الواجب ما دمت متقيداً برجحان
مصلحته على مفسدته.
المطلب الثاني: إذا وقع البلاء على وجه من الحكمة فهو تكوين تربوي يُفرز
من المعاني الإيمانية ما يعجز التربويون عن جلبه، وهذا الأثر التربوي يحصل لكل
متثبت في البلاء محتسب الأجر عليه عند الله، سواء كان مصيباً فيما جلب عليه
البلاء أو مخطئاً، ولكن قد يقع بالخطأ من الفتن أضعاف ما يحصل من آثار تربوية،
ونحن مطالبون من جهة الشرع باعتبار النتيجة الكلية وترجيح المصلحة العامة.
ولكن حديثنا هنا عن أثر البلاء عموماً.
ومن ثم فإن عمليات البناء وإن تعرضت لعمليات تقويض أو إجهاض إلا أن
هذا القدر المجهض يضاف رغم ذلك إلى رصيد الأمة.. [وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ
كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا] (الأعراف: 137) .
المطلب الثالث: يجب على المربين أن يجتهدوا في تحقيق الموازنة بين
الإقدام والإحجام، حتى يكون المرء في ذلك على التوسط والاعتدال، فلا يُفْرِط في
كراهية البلاء حتى يكره أسبابه الشرعية التكليفية، ولا يُفْرِط في الانضباط بمعنى
المصلحة: فيندفع ويتهور، أو يجبن ويتبلد.. يقول الصحابي الجليل خباب بن
الأرت:» شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في
ظل الكعبة، فقلنا: «ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:» قد كان من قبلكم
يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على
رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك
عن دينه، واللهِ ليتمن اللهُ تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى
حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون « [18] .
المطلب الرابع: أن أعداء الله لن يخلُّوا بيننا وبين ما يكرهون [وَلاَ يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ، ولكن هناك
فرص تسنح من خلال تعارض المصالح أو التقائها، والمبطلون يضطرون لبذلها،
أو التغاضي عنها حرصاً على مصالحهم تلك لا محبة للصحوة طبعاً.
المطلب الخامس: أنه ما من مرحلة من تاريخ الأمة، إلا وكان فيها لدعوة الله
أعداء؛ فإن يكن أعداء اليوم أشدهم، فإن بقاء الأمة على أصل الإسلام رصيد
عظيم يستحيل على أهل الباطل أن يبددوه؛ فهو كمحيط منساح في مشارق الأرض
ومغاربها، فأنى لهم أن يجففوا منابع الخير والمددُ لا ينقطع عنها أبداً؟ .
إنهم إن نجحوا في شيء فلن يتجاوزوا هدم جدران البيت وسُقُفه وبعض نوافذه
وأثاثاته، ولكن ستظل القواعد والأعمدة راسخة ثابتة، ويبقى البيت دائماً في عناية
المشيدين حتى يأذن الله بتمامه. قال صلى الله عليه وسلم:» إن الله زوى لي
الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ... وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها « [19] .
أما قول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
فجوابي عنه: يوم يقدر البناؤون على حماية ما بنوا، ويتخلى المقهورون عن
حماية من يهدم.. وذلك يحتاج إلى صبر طويل، وصياغة للأمة على نار هادئة..
وليس انطفاؤها من هدوئها، بل لا بد من أن ندارئ عنها حتى تظل موقدة، فلا
نسعِّرها مع عجزنا عن أن نحوطها من ورائها، ولا نصب عليها الماء البارد
فتنطفئ، وإنما نزكيها عندما تكتمل معطيات النضج وقطف الثمار.
وقد عارضت البيت أعلاه بقولي:
بلى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وعزمك صارم
ولست إخال هذا يكون إلا من خلال صحوة واعية حكيمة، وحركة تحشد
طاقات الأمة في منظومة عمل جماعي موحد، عمل تتكامل فيه الطاقات والإبداعات
ولا تتصادم، ويكون العلماء في مقدمته وعلى رأسه قواداً للسفينة، فيسيِّرونها على
أساس من قواعد الشرع وأصوله، ويضبطون توجهها ومدى سيرها بحسب حال
الريح واتجاهها.. حين يستقر هذا الفهم في قناعاتنا الفعلية يحق لنا عنده أن نردد:
سنعود للدنيا نطب جراحها ... سنعود للتكبير والتأذين
ستعود فُلْك الحق تحمل جنده ... وستنتهي للشاطئ المأمون
تعيش الصحوة الإسلامية في هذا المعترك المستعر، ووسط أجواء من صراع
لا تتوقف رحاه، فتدع المراجعة بدعوى أنه لا وقت للتوقف، وأنه لا مجال لإمهال
المسيرة فرصة إعادة النظر، ومعاودة الترتيب، وما هكذا تورد الإبل يا سعد.. بل
الصواب أن يقال: وكيف يؤمن المسير ويرشد توجه الركب دون ترتيب لما يجب
فعله، وتفتيش عن خلل يعطل أو يعوق، وإدراك لمراحل الطريق، وتقدير لعواقب
الأمور، واستبصار بمآلات الأعمال؟ فالمراجعة لا تقل أولوية عن السير نفسه،
وإلا فهو الضرب في المفاوز خبطاً على غير هدى، [كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي
الأَرْضِ حَيْرَانَ] (الأنعام: 71) .
المعوق الخامس عشر: ضغط الحياة اليومية، واستغراق المطالب الدنيوية
للجهود والأوقات:
هل استطعنا أن نبلغ بوعي الناس ما يجعل الإسلام عندهم على رأس
أولوياتهم؟ هل تعبنا من أجل غرس محبة هذا الدين في قلوبهم، حتى يكون أحب
إليهم من أموالهم، وأهليهم وأنفسهم، ومن الماء البارد؟
إننا لو أحببنا ديننا كما يجب، فسنقبل عليه بكلياتنا، ومهما كانت مطالبنا
الدنيوية، ومهما تزايدت ضغوط الحياة اليومية.. سيبقى الإسلام في الحس وفي
الفؤاد، يملأ علينا أذهاننا، ويسيطر على خواطرنا، ستجدنا عندئذ نتحرك به في
حلنا وترحالنا، في شغلنا وفراغنا، نبيت عليه ونصبح به، نستقطع من راحتنا
لنشاطه، ونأخذ من نومنا ليقظته، ومن عافيتنا لعافيته، ومن أموالنا لغناه، ومن
أبنائنا لمستقبله.. [قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الفَاسِقِينَ] (التوبة: 24) .
إن انصراف المرء إلى دنياه هو في حد ذاته بلاء يستوجب وقفة مع النفس،
ويستثير قلقاً على الإيمان أن يتبدد، ويستجلب خشية من سوء الخاتمة، أو كذلك
ينبغي أن يفعل.. ومن الدنيا وصوارفها يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم:
» .. فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت
على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم « [20] ، وهذا
ما يريده أعداؤنا؛ إنهم يمكرون الليل والنهار لأجل أن تصبح الدنيا أكبر همنا
ومبلغ علمنا؛ فيسهل عليهم استخفافنا، كما حكى الله تعالى ذلك عن طريقة رأس
الطغاة الأول (فرعون) مع قومه: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ] (الزخرف: 54) .. فكأن الطغاة به يهتدون [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
طَاغُونَ] (الذاريات: 53) .
والمسؤولية الكبرى تقع على الدعاة إلى الله، أن يقللوا هم من الدنيا
ويستزيدوا من العطاء للدين؛ فإن الناس نماذج تستنسخ وفق الأسوة المتبعة؛ فإن
كان الأصل حائلاً باهتاً كانت النسخ أشد كلوحاً وحَوْلاً، وإلى الله الشكوى.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/132) ، والترمذي تحفة الأحوذي (9/521) ، وابن ماجه (4253) : (2/1420) .
(2) انظر صحيح جامع بيان العلم وفضله، ص 334 طبعة: مكتبة ابن تيمية القاهرة 1416هـ 1996م.
(3) رواه مسلم (362) كتاب الإيمان باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وأحمد، 5/386، 405.
(4) إغاثة اللهفان، لابن القيم: (ص18) ت: محمد بيومي طبعة مكتبة المجلد العربي القاهرة 1416هـ.
(5) إعلام الموقعين: (3/283) مراجعة: طه عبد الرؤوف، طبعة دار الجيل بيروت 1973م.
(6) مدارج السالكين: (2/39) الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية بيروت.
(7) سير أعلام النبلاء: (5/279) طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت1417هـ، 1996م.
(8) سير أعلام النبلاء: (16/285) .
(9) تاريخ نجد: (2/161) .
(10) حلية الأولياء: (4/320، 321) لأبي نعيم، إعداد السعيد بن بسيوني، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
(11) درء تعارض العقل والنقل (2/103) .
(12) انظر ما ذكره ابن تيمية في (الفتاوى) (28/233 234) .
(13) منهاج السنة النبوية: (44/3347) .
(14) سير أعلام النبلاء: (14/40) .
(15) المصدر السابق: (20/46) .
(16) سنن الترمذي، انظر (تحفة الأحوذي) (7/8) ، ومسند الإمام أحمد (1/172) .
(17) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/644) ط: دار الفكر بيروت 1408هـ 1988م.
(18) رواه البخاري برقم (3343) ، (6430) ، والنسائي (5225) ، وأبو داود.
(2278) .
(19) رواه مسلم، ح/ 5144.
(20) رواه البخاري، ح/ 4015.(159/79)
مراجعات في السيرة والتاريخ
ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من السيرة
د. محمد بن صامل السلمي
إن استخراج الدروس والعبر والأحكام من حوادث السيرة النبوية من أهم
أهداف الدراسة لها وأعظم فوائدها؛ لكن هذا الأمر لا يستطيعه كل باحث أو قارئ
للسيرة؛ لأنه يحتاج إلى مرجعية شرعية، وإلى ضوابط تضبط طريقة الاستنتاج،
وبالنظر إلى مناهج الاستدلال والاستنباط عند علماء المسلمين؛ فإنه يمكن معرفة
ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من خلال طريقهم في البحث
والاستدلال وفقاً للخطوات الآتية:
1 - التأكد من صحة الحدث أو الواقعة التاريخية حتى يصح الاستدلال بها:
وذلك أن السيرة النبوية جزء من السنة النبوية التي هي أحد مصادر الأحكام
الشرعية؛ فلا بد من التثبت من صحة الحادثة. ونجد أن العلماء يسلكون في منهج
التوثيق لأحداث السيرة منهج علماء الحديث النبوي، لكنهم يفرِّقون في النتيجة بين
الأحداث والوقائع التي تبنى عليها أحكام شرعية واعتقادية، وبين الأحداث التي لا
تؤخذ منها الأحكام مثل الفضائل، وأخبار الحضارة والعمران، فيتشددون في الأولى
ويتساهلون في النوع الثاني من الأخبار، كما رُوي ذلك عن الإمام أحمد، وابن
مهدي، وابن المبارك [1] ، وأمثالهم.
2 - بذل الجهد في جمع الأخبار الواردة في الموضوع الواحد:
وهذه هي الطريقة العلمية الصحيحة حيث يحيط الباحث بجميع الأخبار
الواردة في الموضوع، بل يجمع الطرق والألفاظ لكل نص حتى يستطيع أن يخرج
بحكم صحيح وتصور واضح، ويَعْرف المتقدم من المتأخر، والعام من الخاص،
والألفاظ يفسر بعضها بعضاًَ، وبهذا يتمكن من الجمع بين النصوص والأخبار
المتعارضة، أو ترجيح أحدهما على الآخر على وجه صحيح.
مثال ذلك: لو احتج بعض الباحثين أنه لا يجوز الدعاء على الكفار؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة رضي الله عنهم: ادع الله
على ثقيف؛ قال: «اللهم اهدِ ثقيفاً» [2] .
واحتج آخر بأنه لا يجوز الدعاء للكفار بل يدعى عليهم؛ لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني
يوسف» [3] ، فكيف العمل؟
نقول: إن الحديث الأول ضَعّف بعض أهل العلم إسناده، لكن لمعناه شاهد
من حديث أبي هريرة عند مسلم قال: قدم الطفيل وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله!
إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس. فقال: «اللهم
اهد دوساً وائت بهم» [4] . وبهذا نلجأ إلى الجمع بين الخبرين، فيقال: إنه يجوز
في بعض الأحوال الدعاء للكفار الذين ترجى هدايتهم، ومن لا ترجى هدايته مع
كثرة أذاه للمسلمين فيدعى عليه.
3 - معرفة حدود العقل في نقد الأخبار:
المنهج النقدي الذي اتبعه العلماء المسلمون في نقد الأحاديث والأخبار النبوية
يتناول نقد السند ونقد المتن، فلم يكتفوا بالنقد الخارجي للنص (نقد السند) وإنما
نظروا إلى داخل النص، وقرروا ضوابط في نقد المتون منها: سلامة النص من
التناقض، وعدم مخالفته للوقائع والمعلومات التاريخية الثابتة، وانتفاء مخالفته
للأصول الشرعية، وعدم اشتماله على أمر منكر أو مستحيل ... إلخ [5] .
ورغم تطبيقهم لمثل هذه المقاييس الدقيقة إلا أنهم يحترمون النصوص الثابتة
سنداً، ويعرفون حدود العقل في نقد الأخبار، ويبتعدون عن المجازفات العقلية؛
فإن في أمور الشرع ما لا يستقل العقل بإدراكه؛ بل هو فوق طاقته؛ وذلك مثل
البحث في كيفية الصفات الإلهية، وأمور الغيب، ودلائل النبوة ومعجزاتها؛ ولهذا
يجب الوقوف عند النصوص الثابتة وعدم معارضتها بالمقولات العقلية، أو متابعة
الفكر المادي والفلسفات الوضعية التي أشاعها المستشرقون ومن تأثر بهم؛ فقد أنكر
بعضهم حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو شاب في بادية بني سعد، بينما
الخبر ثابت في صحيح مسلم [6] ، وقد أفادنا راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله
عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ودخول الرسول صلى
الله عليه وسلم العقد السادس من عمره أنه رأى أثر المِخْيَطِ في صدره صلى الله
عليه وسلم. وهذا نص واضح يلغي أي محاولة لتأويل النص والقول بأنه تطهير
معنوي.
4 - أحكام الدعوة خاضعة للنصوص الشرعية في الكتاب والسنة وليست
خاضعة للتجارب:
وهذا أمر له أهميته؛ إذ إن الوسائل وإن كانت غير محدودة لها أحكام المقاصد؛
فكل وسيلة أفضت إلى محرم أو خالفت نصاً شرعياً فإنها محرمة.
مثال ذلك: لو استدل بعضهم بجواز زيارة كنائس النصارى ومشاركتهم في
أعيادهم واحتفالاتهم وذلك من باب التأليف والدعوة لهم، أو إعطاء صورة حسنة عن
تسامح المسلمين ونفي التشدد عنهم، وقال: هذه وسيلة مجربة ووجدت ناجحة؛
فهل هذا يكفي للاستدلال؟ وهل استدلاله صحيح؟
نقول: هذا لا يكفي في الاستدلال؛ وذلك أن تلك الوسيلة التي يقول إنها
مجربة وناجحة وسيلة غير شرعية؛ لأنها أفضت إلى مخالفة نصوص شرعية تنهى
عن الدخول على الكفار في أماكن عبادتهم التي يشركون فيها بالله، كما تنهى عن
تهنئتهم بأعيادهم فضلاً عن مشاركتهم فيها [7] .
5 - ملاحظة المراحل التي مرت بها السيرة النبوية ونزول التشريع:
فمن المعروف أن الأحكام والتشريعات قد نزلت على مراحل وبالتدريج حتى
استقرت واكتمل التشريع، وبوفاته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وثبتت
الأحكام؛ فمثلاً تحريم الخمر جاء على مراحل، أولاً: بيان أن فيها إثماً كبيراً كما
قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (البقرة: 219) ، ثم في مرحلة ثانية جاء النهي عن شربها
قرب أوقات الصلوات، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ] (النساء: 43) ، وثالثاً: جاء الأمر
بتحريمها نهائياً وفي كل وقت، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ
وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
(المائدة: 90) . وهذا هو الحكم الثابت والمستقر، وهو تحريم الخمر وأنها من
الكبائر وأمُّ الخبائث.
ومن الأمثلة التي قد يطرحها بعض الناس ويجادل فيها: مسألة تغيير المنكر
باليد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي لم يغير المنكر باليد، ولم
يكسر شيئاً من أصنام المشركين في مكة؛ وحيث إن الدعوة قد يأتي عليها زمان
وحالة من الضعف تشبه الحالة المكية؛ ولهذا فإنه يترك تغيير المنكر بحجة مشابهة
الحال للحال.
نقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، ومعارض لنصوص شرعية مثل قوله
صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [8] .
فتغيير المنكر كما نص عليه الحديث هو بحسب القدرة والتمكن من التغيير،
ونص أهل العلم على ضابط في ذلك وهو ألاّ يترتب على تغيير المنكر المحدد
منكراً أعظم منه [9] ؛ فليست العلة في ترك تغيير المنكر لأجل النظر إلى المرحلية
ودعوى مشابهة الحال بالعهد المكي، ولكنها عدم التمكن، ومن تمكن من تغيير
المنكر بضابطه الذي ذكره أهل العلم فالواجب عليه القيام بذلك.
وكذلك الجهاد في سبيل الله قد جاء تشريعه على مراحل، واستقر الحكم على
المرحلة الأخيرة وهي وجوب قتال الكفار كافة ابتداءاً وطلباً، ولكن هذا منوط
بالقدرة عليه والتمكن منه، فلا يجوز إيقاف الجهاد وتعطيله بدعوى مشابهة الحال
للعهد المكي الذي كان الجهاد فيه ممنوعاً كما قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ]
(النساء: 77) . بل يجب على المسلمين الاستعداد وتكوين القدرة على الجهاد التي
يحصل بها النكاية في العدو وحماية المسلمين من شره، وتتحقق بها أهداف الجهاد
وغاياته.
وبهذا يتضح الفرق بين المرحلية في التشريع وسير الدعوة في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم، وبين المرحلية في اكتساب القدرة والاستعداد للجهاد بما
يستطاع من عُدته، ومن ثمّ البدء بالمواجهة وتغيير المنكر.
6 - ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض المواقف، وعقد
بعض المعاهدات بموجب ما أوحى الله إليه:
الدارس للسيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ من الله
باتخاذ موقف محدد في بعض الحالات، وقد أُعْلِم صلى الله عليه وسلم بأن مآل هذا
سيكون خيراً على المسلمين في حين أن ظاهره غير ذلك، مثل قبوله صلى الله
عليه وسلم بعض الشروط في صلح الحديبية التي ظاهرها الحيف على
المسلمين [10] ؛ ولذلك أنكر بعض الصحابة القبول بها وجاؤوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم مستغربين ومستفسرين، فلما علموا أنه قد أُلْهِم فيها وحياً من الله
رضوا، ثم تحقق بعد الصلح والانصراف من الحديبية أن هذا الأمر كان فتحاً عظيماً
بتقدير الله سبحانه وتعالى حيث نزلت سورة الفتح وسمَّت صلح الحديبية فتحاً مبيناً،
ثم صار الأمر أن تنازل المشركون عن شرطهم الظالم؛ حيث انقلب ضد مصلحتهم
وجاؤوا إلى رسول الله يطلبون موافقته على ذلك [11] .
وبهذا يتضح أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لشرط قريش الجائر وغير
المكافئ كان بوحي من الله، وأن الله قدر أن مآله إلى خير للمسلمين. ولكن هذا
خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه، أما والي أمر المسلمين
وخليفتهم فيجب عليه الاجتهاد في مصلحة المسلمين وعدم مهادنة العدو أو عقد
الصلح معهم على شروط فيها ذلّ للمسلمين أو تفريط بحقوقهم وقضاياهم، أو قبول
شروط فيها ضياع دينهم وعقيدتهم كما يحدث الآن في فلسطين؛ حيث إن من أسس
المصالحة المقترحة نبذ الدين والاحتكام إلى القوانين الوضعية، وقيام نظام علماني
يحكم المسلمين في فلسطين.
7 - هناك أمور في السيرة النبوية وقع تحديدها قدراً واتفاقاً فلا يقاس عليها:
مثال ذلك: كون الفترة المكية ثلاث عشرة سنة، وهي فترة الإعداد والتربية
والصبر على الأذى وعدم المواجهة، فلا يُلتزم بالمدة في الإعداد والتربية؛ لأنها
ليست شرطاً ولا مقصودة وإنما هذا يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال
المحيطة.
ومثل الاستدلال بإنزال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه الغرباء
والفقراء في صُفَّة المسجد على مشروعية بناء الزوايا الصوفية.
وهذا استدلال غير صحيح، والغرباء الذين نزلوا الصُّفَّةَ من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم كانوا من العزَّاب والفقراء الذين لا يستطيعون تدبير سكن لهم،
ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر دار ضيافة ولا نُزُل، ولذا
كان إنزالهم في المسجد حلاً لمشكلة، وتوظيفاً لمكان موجود، وبياناً لبعض وظائف
المسجد، وهم ليسوا منقطعين عن العمل بل يعملون إذا تيسر لهم ذلك، ويبادرون
إلى الخروج في السرايا والغزوات، ويتعلمون القرآن والأحكام طيلة مكثهم في
المسجد، ومجرد نزولهم الصفة لا يعطيهم فضيلة أو منزلة يتميزون بها عن بقية
الصحابة؛ فليس منقبة لأحدهم أنه نزل في الصُّفَّة كما يقال في مناقب الصحابة:
مهاجري، بدري، عَقَبي بايع تحت الشجرة ... إلخ من المناقب والمشاهد العظيمة
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتضح الفرق بين الصُّفَّة النبوية ومن نزلها، وبين الزوايا الصوفية
البدعية؛ في الأصل والهدف والغاية [12] ، وأنه لا يمكن الاستدلال بالصُّفَّة النبوية
على جواز بناء الزوايا الصوفية التي تُمثِّل انحرافاً عن المنهج النبوي في التعبد
والسلوك والجهاد والدعوة.
__________
(1) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص 212.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، ح/ 3942، وقال: «حسن صحيح غريب» ، قال الشيخ الألباني في دفاع عن السيرة، ص 7، رواية الترمذي ضعيفة لعنعنة أبي الزبير، وأخرجه أحمد في المسند، 3/343، وانظر احتجاج البوطي به في فقه السيرة له، ص 395.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، حديث رقم 2524.
(5) انظر: مقاييس نقد متون السنة، مسفر الدميني، ومنهج نقد الروايات التاريخية، محمد السلمي، ص 64 70.
(6) كتاب الإيمان، حديث رقم 261.
(7) راجع أحكام أهل الذمة، ابن القيم، (1/205 وما بعدها) .
(8) رواه مسلم، ح/ 49.
(9) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى (28/129) .
(10) ابن هشام، السيرة النبوية (2/316 320) .
(11) المصدر السابق (2/324) .
(12) انظر: مجموع الفتاوى (11/40 41، 44، 56) ، وانظر بحثاً لطيفاً للأستاذ صالح الشامي بعنوان: (أهل الصُّفَّة بعيداً عن الوهم والخيال) .(159/87)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل العمراني
يجب على المسلم أن ينصف من نفسه.. لا أن يعتقد ثم يبحث
أجرى الحوار: بشير البعداني
ضيفنا في سطور
القاضي محمد بن إسماعيل العمراني أقرب علماء اليمن إلى الإمام المجدد شيخ
الإسلام محمد بن علي الشوكاني. يأسرك بحديثه المسترسل السهل وبأسلوبه
القصصي، زادته الأيام حكمة وخبرة في مجال الفتيا، رغب في إجراء الحوار في
المكان الذي تعوَّد أن يلقي فيه درسه اليومي بمسجد الزبيري قبل صلاة الظهر؛
ولولا أن الوقت ضاق بنا لقضينا معه وقتاً أطول، ولجنينا منه فائدة أكبر، وإليكم
تفاصيل الحوار.
البيان: فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل العمراني: في البداية حبذا لو
أعطيتم القارئ الكريم نبذة مختصرة عن حياتكم ومشايخكم ومؤلفاتكم؟
* ولدت عام 1340هـ الموافق 1922م، وقد درست الابتدائية والإعدادية
في المدارس التي وجدت قبل سبعين عاماً، وحصلت فيها على شهادة من مدرسة
الفليحي وأخرى من مدرسة الإصلاح، ثم بدأت بعد ذلك في دراسة علوم اللغة
العربية والعلوم الشرعية كالفقه والحديث والتفسير والفرائض والنحو والصرف
والمعاني والبيان وغيرها؛ وذلك على يد عدد من العلماء منهم: القاضي العلاَّمة
عبد الله حُميد، والعلاَّمة أحمد بن محمد زبارة، والعلاَّمة الحسن بن علي المغربي،
وعلي بن حسن المغربي، وعبد الله بن عبد الكريم الجرافي، والعلاَّمة عبد الله
بن محمد السرحي، وغيرهم من علماء صنعاء الذين أجازوني جميعاً بجميع ما صح
لهم: سماعاً وقراءة وإجازة عن مشايخ الإسلام رضي الله عنهم أجمعين.
كما أجازني جماعة من علماء اليمن كالعلاَّمة قاسم بن إبراهيم بن أحمد،
والعلاَّمة عبد القادر بن عبد الله، والعلاَّمة أحمد بن أحمد الجرافي، والعلاَّمة محمد
بن محمد زبارة، والعلاَّمة عبد الواسع الواسعي مؤلف كتاب: (الدر الفريد
الجامع لما تفرق من الأسانيد) ، والعلاَّمة محمد بن حسن الأهدل صاحب
مدينة (المراوعة) ، والعلاَّمة محمد بن محمد السماوي، وعبد الرحمن
الإمباري من علماء زبيد، والعلاَّمة منصور عبد العزيز نصر من علماء مدينة
(تعز) ممن أحسن الظن بي، كما قرأت على العلاَّمة محمد بن علي
السراجي، والعلاَّمة البهلولي، والعلاَّمة علي بن هرار الدبب، والقاضي العلاَّمة
يحيى بن محمد الإرياني، والعلاَّمة عبد الكريم بن إبراهيم الأمير، والعلاَّمة عبد
الخالق بن حسين الأمير، والعلاَّمة علي بن عبد الله الأنسي، والعلاَّمة عبد الوهاب
الشماحي، والعلاَّمة أحمد بن علي الكحلاني، والقاضي أحمد بن لطف الزبيري.
وأقرب سند لي إلى شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ما أرويه عن
القاضي عبد الله حُميد عن شيخه العلاَّمة علي السدمي عن شيخه جدي القاضي محمد
بن محمد العمراني عن شيخه شيخ الإسلام الشوكاني جميع ما حواه ملف الشوكاني
هو كتاب: (إتحاف الأكابر في مسندات الدفاتر) ، وأيضاً أقرب الأسانيد إلى الإمام
الشوكاني ما أرويه عن القاضي عبد الله الجرافي عن المولى العلامة حسين بن علي
العمري عن العلاَّمة إسماعيل بن محسن بن عبد الكريم بن إسحاق عن شيخ الإسلام
الشوكاني بسنده المعروف في (إتحاف الأكابر) ، ولي سند قريب آخر وهو ما
أرويه عن العلاَّمة قاسم بن إبراهيم بن أحمد عن القاضي العلاَّمة إسحاق المجاهد
عن جدي القاضي محمد بن محمد العمراني عن شيخ الإسلام الشوكاني بسنده
المعروف.
وأيضاً من جملة أسانيدي القريبة إلى السيد العلاَّمة محمد بن إسماعيل الأمير
الصنعاني صاحب المؤلفات المشهورة ما يرويه جدي العمراني عن السيد العلاَّمة
عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني عن والده الإمام العلاَّمة البدر محمد
بن إسماعيل الأمير بسنده المعروف في (إتحاف الأكابر) ، وفي غيره من الأسانيد.
كما أروي عن شيخي العلاَّمة عبد الواسع بن يحيى الواسعي جميع ما تضمنه
كتابه (الدر الفريد) من المقروءات والمسموعات والإجازات عن علماء اليمن
وحضرموت والهند ومصر والشام وغيرهم من علماء الأقطار؛ كل ذلك قد
أجازني به مشايخي، ومن جملة ما أرويه عن شيوخي المذكورين سابقاً الحديث
المسلسل المروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكذلك الأحاديث المسلسلة
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لي مؤلفات إلا بعض الرسائل
والمجاميع؛ لكن طُبع لي كتاب تحت عنوان: (نظام القضاء في الإسلام) ، وهو
محاضرات كنت قد ألقيتها في المعهد العالي للقضاء عن القضاء في العصر الجاهلي،
وعصر النبوة، والخلفاء الراشدين، وتاريخ القضاء أيام الخلفاء الأمويين
والعباسيين، ثم المماليك، ثم القضاء في اليمن، فقام المعهد العالي للقضاء بجمعها
في هذا الكتاب.
البيان: شهدت اليمن في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين حركة
فكرية لا مثيل لها في البلاد الإسلامية، وكان من رواد هذه الحركة القاضي محمد
بن علي الشوكاني، فما هي أبرز ملامح التجديد لدى الشوكاني؟
* في كل من القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من الهجرة
ظهرت في اليمن حركة علمية، وتحرر فكري، واجتهاد مطلق لم يوجد مثله في
بلاد الشام أو مصر أو المغرب في ذلك العصر؛ وذلك لأن المذهب الزيدي يقرر أن
كل مجتهد مصيب، وأن العالِم إذا حاز علوم الاجتهاد فعليه أن يجتهد ولا يقلد؛
لأجل هذا ظهرت حرية فكرية كان على رأسها السيد حسن الجلال مؤلف (ضوء
النهار) وغيره، والعلاَّمة صالح بن مهدي المقبلي صاحب (العلم الشامخ) وغيره،
ثم ظهر الشيخ العلاَّمة محمد بن إسماعيل الصنعاني بكتابيه (سبل السلام)
و (منحة الغفار) وغيرهما، ثم جاء من بعده شيخ الإسلام القاضي العلاَّمة محمد
ابن علي الشوكاني الذي كان في غاية من الاجتهاد ومن الاستقلال في الفكر منذ
صغره؛ فقد بدأ يقرأ (شرح الأزهار) وعمره نحو أربعة عشر عاماً، وعندما
كان الشيخ الذي قرأ عليه يقول: قال الشافعي كذا، قال أبو حنيفة كذا، قال الهادي
كذا، يفكر في ذلك ويسأل: أيهما أصح من هذه الأقوال؟ فكان الشيخ يجيبه في كل
مسألة: الذي عليه علامة حمراء يعني كلام الإمام المهدي في المذهب الزيدي هو
الأصح، قال: لا يمكن أن يكون الحق معه في ألف مسألة من أول شرح الأزهار إلى
آخره، فلا بد أن يخطئ مرة ويصيب أخرى، والشافعي هكذا، وكذلك أبو حنيفة،
ولذا فأنا أريد أن تخبروني أين الصواب في كل مسألة؟ فقال له أبوه: نحن نعلمك
المذهب الزيدي تقليداً، ولا يستطيع أحد أن يرجح في كل مسألة أي قول من الأقوال
أصح؛ من أول الكتاب إلى آخره إلا العلاَّمة المجتهد. قال: هل يوجد في اليمن
علاَّمة مجتهد يستطيع أن يقارن بين المذاهب، ويرجح في كل مسألة القول الصحيح
عنده؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: العلاَّمة عبد القادر بن أحمد صاحب
مدينة (كوكبان) . قال الشوكاني: أريد أن أقرأ وأصبح مثل صاحب (كوكبان) ؛
حتى أعرف ما هو الراجح والمرجوح من أول مسائل شرح الأزهار إلى آخرها.
قال: اقرأ علوم الآلة، وعلوم الاجتهاد، وهناك ستستطيع أن تعمل كل شيء.
وفعلاً بدأ يقرأ علوم النحو والصرف، والمعاني والبيان، والأصول، وعلوم
الحديث، وكتب التفسير وغيرها، ولم تمض عليه عشر سنوات حتى أصبح
مجتهداً اجتهاداً مطلقاً، ولما دخل السيد العلاَّمة عبد القادر بن أحمد إلى صنعاء
وزاره علماؤها ليدرسوا عنده، كان منهم الإمام الشوكاني، فدرس عنده إلى موته،
وحينها كان قد بدأ يؤلف بعض مؤلفاته.
البيان: هل هناك صلة بين الحركة الشوكانية في الهند والقاضي الشوكاني؟
* نعم هناك صلة قديمة بدأت بواسطة شاب هندي يسمى عبد الحق الهندي،
وكان عالماً نشيطاً سافر من الهند إلى مكة والمدينة ثم إلى صنعاء وفيها أخذ عن
الشوكاني بعض علومه ومؤلفاته، ودرسها عليه، وأجازه الشوكاني إجازة عامة،
ولما رجع بعدها إلى الهند نشر علم الشوكاني في بلاده. ثم ظهر بعده صدِّيق حسن
خان القنوجي، وكان من العلماء الأغنياء، وسبب غناه أن أحد ملوك الهند بمقاطعة
(هوبار) كانت لديه بنت لا تريد الزواج إلا من رجل فقيه عالم، فزوَّجها بصدِّيق
حسن، ثم من حُسن حظه أن توفي ملك هوبار، والقاعدة عندهم أن يتولى الحكم
أولاده؛ ولأنه لم ينجب غير بنت واحدة، ولا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة نقلت
زوجة صدِّيق المُلك إليه، وسمَّته: (الملك النواب صدِّيق حسن خان نائب الملكة) .
ومن هنا استطاع أن يشتري مطبعة لأول مرة، وكانت لا توجد إلا في
إستانبول والقاهرة، وعندها أرسل إلى زبيد ومكة وصنعاء من يشتري له مؤلفات
الإمام الشوكاني المخطوطة كلها. ومن هنا انتشرت آراء الشوكاني، وأول ما
طبعت مؤلفات الشوكاني في الهند قبل أكثر من مائة عام، حيث طبع (نيل
الأوطار) و (إتحاف الأكابر في مسندات الدفاتر) وغيرهما، لذا فصدِّيق حسن
خان يقول في مؤلفاته: «قال شيخي الشوكاني» ، وليس بشيخه وإنما شيخ شيخه،
أو شيخه بمطالعة مؤلفاته؛ لأن الشوكاني توفي سنة 1250هـ في صنعاء،
وصدِّيق خان إذ ذاك كان طفلاً عند وفاة الشوكاني؛ حيث ولد في 1246هـ؛ ولكن
بواسطة عبد الحق الهندي أو غيره، أو بواسطة بيت الحازمي وهم سادة وعلماء في
(صبيا) وكانوا يدرسون في صنعاء ويشترون مؤلفات الشوكاني وينقلونها إلى
(صبيا) ثم جاءت رسل صدِّيق حسن واشتروا له الكتب بواسطة بيت الحازمي،
وبواسطة القاضي محسن السبيعي أحد علماء (صبيا) .
البيان: المذهب الزيدي يجهله كثيرمن أبناء العالم الإسلامي، فهل يمكنكم
إعطاؤنا نبذة مختصرة عن نشأته، وظروف هذه النشأة، وأصول المذهب، وأبرز
رجالاته؟
* أول من أصَّل أصول المذهب الزيدي هو زيد بن علي، ثم انقسم المذهب
إلى فرعين هما: المذهب الناصري، والمذهب الهادوي. فالمذهب الناصري
ذهب به الحسن الأطروش من المدينة إلى بلاد الجيل والديلم في إيران، ونشر
المذهب هناك وبقي نحو 400 عام، ثم انقرض المذهب الزيدي هناك. ويسمى
المذهب الزيدي في الأصول والناصري في الفقه. أما اليمن فقد وصل الإمام الهادي
يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم إلى اليمن في النصف الثاني من القرن
الثالث من الهجرة.
والمذهب الزيدي في العقائد يشبه المذهب المعتزلي إلا أنه يختلف معه في
مسألة الإمامة، فالمعتزلة يقولون: خليفة النبي أبو بكر. والزيدي يقول: الخليفة
علي بن أبي طالب، إلا أن أبا بكر وعمر وعثمان قد أدوا الواجب والمسنون
وعملوا كل شيء، وسدُّوا الفراغ؛ ولذا فالمذهب الزيدي يحترم الخلفاء الثلاثة لكن
لا يعترف بالإمامة إلا لعلي بن أبي طالب. ثم أصبح زيدية اليمن على مذهب الإمام
الهادي. ومن جملة محاسن المذهب الزيدي أنه يفتح باب الاجتهاد لمن يريد أن
يجتهد. أما في الفقه فهو مأخوذ من المذهب الحنفي، والمذهب الزيدي الهادوي لا
يخرج إلا نادراً عن المذاهب الأربعة، وهو يوافق في أكثر المسائل واحداً منها ولا
سيما المذهب الحنفي؛ إذ هما أخوان متقاربان.
البيان: لكل مذهب من المذاهب الفقهية إيجابيات بارزة، فما أبرز إيجابيات
المذهب الزيدي؟
* أنهم فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه من أيام الإمام الهادي إلى عصرنا
هذا، وخصوصاً باب الاجتهاد المطلق، بينما بقية المذاهب الأخرى يبقى علماؤها
مقيدين بالمذهب؛ فمثلاً بقي ابن حجر العسقلاني شافعي المذهب، وكذا الإمام
النووي، وبقي ابن عبد البر والقرطبي مالكيين، أما علماء المذهب الزيدي فقد
فتحوا باب الاجتهاد، وهذه ميزته.
لقد أخرج لنا المذهب الزيدي علماء أحراراً مجتهدين، منهم، (الجلال)
الذي يقول:
لولا محبة قدوتي بمحمد / زاحمت رسطاليس في أبوابه فالمشكلات شواهد لي أنني /
أشركت كل محقق بلعابه
ومنهم المقبلي الذي قال في أول كتاب (العلم الشامخ) : «ها أنا ذاهب إلى
رب سيهدين» ، يقصد: من العلماء من صار شافعياً أو زيدياً أو حنبلياً أما أنا
فذاهب إلى رب سيهديني، وأعلن اجتهاده المطلق. وأخرج المذهب الزيدي أيضاً
العلاَّمة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير مؤلف (سبل السلام) و (منحة الغفار)
الذي قد برزت مؤلفاته في الأصول والحديث والفقه وغيره. فمن أهم ما يتميز به
المذهب الزيدي أنه فتح باب الاجتهاد انطلاقاً من القاعدة المذكورة في أول متن
(الأزهار) أن كل مجتهد مصيب.
البيان: ما هي أهم الكتب المؤلفة فيه لإحالة القارئ إليها للاطلاع؟ ثم ما
مدى قربه من المذاهب الأربعة؟
* سبق أن قلت إنه يتقارب كثيراً مع المذهب الحنفي ونادراً مع المذهب
الحنبلي، أما الكتب المؤلفة في المذهب فهي كثيرة جداً، ومما طبع منها: كتاب
(الأحكام) للإمام الهادي، و (شفاء الأوام) للأمير الحسين، وكذا متن (الأزهار)
وشرحه (المنتزع المختار من الغيث المدرار) المشهور بـ (شرح الأزهار) ،
و (التاج المذهب) ، و (الروض النضير) شرح مجموع زيد بن علي، و (البحر
الزخار الجامع لعلماء الأمصار) ، وشرح (الفرائض) .
البيان: ما مدى تأثير المذهب الجعفري على المذهب الزيدي اليوم، ومن
يقود العمل في هذا الاتجاه؟ وما هي أبرز نقاط الالتقاء والافتراق بين المذهبين؟
وما هي الأهداف الخفية وراء تهميش المذهب الزيدي وطغيان المذهب الجعفري؟
* المذهب الزيدي غير المذهب الجعفري وبينهما بون شاسع؛ فالجعفري
يقول مثلاً بعصمة الأئمة أما الزيدية فلا تقول بعصمتهم. الجعفري يقول بأن الأئمة
اثنا عشر إماماً فقط، أحد عشر مضوا، والثاني عشر سيأتي في آخر الزمان؛
بينما الزيدي يقول بأن من كان قوياً عالماً مجتهداً صالحاً سخياً شجاعاً علوياً فاطمياً
يصلح أن يكون إماماً كذلك. الجعفري يقول بنكاح المتعة بينما الزيدي لا يقول بذلك.
لكن مع الأسف الشديد أن بعض الزيدية في هذا العصر خلطوا فأصبحوا
يقرؤون كتب الجعفرية ويفتون بأن أهل البيت مظلومون، وكذا وكذا ... مثلما يفعل
الجعفرية؛ مع أن الجعفرية لا يعترفون إلا باثني عشر إماماً ليس منهم الإمام زيد
بن علي ولا الإمام الهادي. ومع أن الإمام زيد بن علي برئ منهم وسمَّاهم الرافضة،
وقال لهم: اذهبوا فأنتم الرافضة. وكذلك الإمام الهادي في كتاب الأحكام كان
يتبرأ منهم؛ فهذا مذهب وهذا مذهب، وبينهما فرق كبير.
ومما يتميز به المذهب الزيدي: التسامح وعدم التعصب؛ فهم يقولون: «كل
مسألة خلافية خرج وقتها فلا قضاء فيها» ، ففي المذهب الزيدي مثلاً إذا صلى
إنسان وترك بعض الواجبات ناسياً فإنه لا يقضيها إذا انقضى الوقت؛ لأن المسألة
فيها خلاف بين المذاهب، وهذا مما يدل على تسامحهم، كذلك يقولون: «لا إنكار
في مختلف فيه» ، وعليه فلا يجوز الإنكار على من خالف المذهب ووافق المذهب
الشافعي أو الحنفي، مما يدل على حريتهم وإنصافهم، وأيضاً يقولون: الإمام في
الصلاة حاكم فصلِّ خلف الشافعي أو المالكي وصلاتك صحيحة، ولا يقولون
بوجوب الصلاة خلف إمام المذهب.
لكن يؤخذ على أصحاب المذهب الزيدي الانزواء، وأنهم لم يقوموا بنشر
مؤلفاتهم والتعريف بها في الخارج، ولقد كان للموقع الجغرافي أثره في ضعف
انتشار المذهب؛ فاليمن لا يقع بها طريق الحجاج ولا التجار ولا السياح ولا غيرهم،
بخلاف بلاد المغرب ومصر والشام؛ لأجل هذا لم يكن يعرف كثير من العلماء
هذا المذهب؛ إلا أنه عرف بعد ذلك في أوساط العلماء لا سيما المختصين بالفقه
المقارن.
البيان: ما هي الجارودية؟ وما هي علاقتها بالزيدية؟
* الزيدي إذا تعصب يُسمى جارودياً نسبة إلى المنذر بن عمر أبي الجارود؛
فهو من الذين يسبُّون الخلفاء فيسمى زيدي جارودي.
البيان: كثيراً ما نسمع عن وجود خلاف بين بعض علماء الحديث وبعض
علماء الفقه؛ فما قولكم في هذا؟ وكيف يمكن التغلب عليه؟
* هذا لا يكون إلا عند الجهلة والمتعصبين؛ أما العالم فلا يهمه ولا يعيبه هذا؛
فوظيفة المحدث مستقلة بنفسها والفقيه كذلك. المحدث يبحث في السند والصحة
فقط، والفقيه يستنبط الأحكام الشرعية من الأحاديث النبوية الصحيحة؛ لكن
المتعصبين والجهلة يسيئون فهم ذلك، وإلا فالإمام أحمد بن حنبل وهو من المحدثين
كان من طلاب الشافعي وهو من الفقهاء، وكان الشافعي يقول لابن حنبل: إذا تثبَّتَّ
من الحديث أنه صحيح ائتني به أستنبط منه الأحكام الشرعية. فالشافعي كان فقيهاً
يستنبط الأحكام الشرعية؛ فقد كانوا متفاهمين متعاونين مثل الإمام أحمد بن حنبل،
والإمام مالك وغيره كل واحد منهم يحترم الآخر، لكن جهل المتأخرين وتعصبهم
أوجد بينهم سوء التفاهم والخلاف، ويمكن الرجوع في هذا الباب إلى كتاب:
«أدب الطلب ومنتهى الأرب» للشوكاني وهو كما نسميه اليوم مذكرات،
وهو مطبوع أكثر من مرة، وتكلم فيه بأنه يجب على الإنسان أن ينصف من نفسه،
فلا يعتقد ثم يبحث؛ ولكن يبحث أولاً ثم يعتقد، ويتحلى بالإنصاف وبالاستقلال،
وسيوفقه الله ويصبح من أكبر العلماء، ثم أتى بقصته من أول طلبه للعلم وقصته
مع شيوخه وغيرهم. هذا ما أنصح وأوصي به كل طالب علم أن يشتري كتاب:
«أدب الطلب ومنتهى الأرب» لكي يعرف كيف يقرأ العلم، وتتحرر أفكاره، ولا
يتعصب على الغير.
البيان: يقال إن دور العلماء اقتصر على الفتاوى في الأحكام الشخصية
والاجتماعية، بل أصبح العلماء لا يفتون إلا عند الطلب! ! هل هذه حقيقة؟ أم أن
هناك تعتيماً إعلامياً حول فتاوى العلماء التي تمس القضايا العامة والهامة في حياة
الأمة؟
* غالب ما يُسأل عنه العلماء في الإذاعة أو التلفزيون أو المسجد يكون في
مسائل الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة ولا سيما الطلاق والرضاع والمواريث
وعقود النكاح، أو في مسائل العبادات كالصلاة والصيام، وبالنسبة لي ما يسألوني
إلا في الصلاة والزكاة، وأيام الحج يسألوني عن أحكام الحج، وفي رمضان عن
أحكام الصيام ومسائل الزكاة، ويسألون عن الطلاق وقليل عن الرضاع والمواريث،
ولا يسألوني عن القضايا العامة إلا نادراً، هذا بالنسبة لي.
البيان: يذكر أنكم كنتم أول من أحيا تراث الشوكاني وقام بتدريسه في
الجامع الكبير، فلماذا الشوكاني؟ وهل وجدتم مواجهة من قِبَل متعصبة المذهب؟
وكيف عالجتموها؟
* في الحقيقة أنا مجرد رجل عادي ولست أول من أحيا تراث الإمام الشوكاني
رحمه الله؛ فقد كانت بعض كتبه ومؤلفاته تدرس في جامع اسمه جامع الفليحي،
وبعض مؤلفاته كانت تدرس في البيوت، مثل كتابَيْ: «نيل الأوطار» ،
و «فتح القدير» كانوا يدرسونهما في مسجد الفليحي، وهذان الكتابان
يعتبران من مؤلفات الإمام الشوكاني الهادئة. أما بالنسبة لمؤلفاته الشديدة التي تناقش
قضايا هامة مثل كتاب: «السيل الجرار» وكتاب: «وبل الغمام» فهذه الكتب
قمت بتدريسها بنفسي؛ فإذا أردت أن تجعلني أول من أحياها فأنا أول من أحيا
ودرَّس كتب الإمام الشوكاني ومؤلفاته الشديدة السابقة الذكر في المسجد؛ فلقد درَّست
كتاب: «السيل الجرار» في أيام الملكية في مسجد الفليحي، ودرَّست كتاب:
«وبل الغمام» ، و «السيل الجرار» بعد ذلك في مسجد الزبيري.
وأذكر أنني في أيام الملكية عندما بدأت أدرِّس كتاب «الدراري المضية»
وكان الطلبة في ذلك الوقت قليلين، وشى بي بعض من لا أعرفه عند السيد قاسم
العزي ناظر الأوقاف، وهو يعتبر آنذاك زعيم المحافظين على المذهب الزيدي،
وقد كان دائماً ما يسبب لنا المضايقات، ومن جملة ما فعله معي أنه ذات مرة
توعدني وهددني بأنه سيقوم بإبلاغ الإمام أحمد يحيى حميد الدين وقد كان الإمام في
تلك الأيام في مدينة تعز وأنه سيخبره بما أفعل، وأني أعارض المذهب، وأعلِّم
الطلاب كذا وكذا. حينذاك قمت بكتابة خطاب إلى الإمام، ولكي أضمن وصوله إلى
يد الإمام مباشرة ذهبت إلى السيد محمد بن محمد زبارة وهو من المقربين إلى الإمام؛
فقلت له: أريد منكم أن تعينوني على إيصال هذه الرسالة بجانب رسالتكم التي
تصل إلى يد الإمام نفسه إن شاء الله. قال زبارة: حسناً ولكن بشرط. قلت: ما
هو؟ قال: ألا يعلم أحد أني قمت بمساعدتك في إيصال هذه الرسالة، وخاصة
السيد قاسم العزي؛ لأننا أصدقاء وإذا علم بالأمر فسوف يحصل بيني وبينه سوء
تفاهم. قلت له: حسناً. وكنت قد كتبت إلى الإمام في رسالتي له: «إن السيد
قاسم العزي يعارضني فيما أدرس من كتب الحديث للإمام البخاري، ومسلم،
وسنن أبي داود، ويقول: إنكم منعتم ذلك؛ فإذا كان ما قال صحيحاً امتنعت
وسأمتثل لأمر الإمام، أما إن كان هذا الكلام من ذات قاسم العزي، وأنه يتدخل في
الشؤون الخاصة ما بين الإمام وطلبة العلم فهذا الأمر لا يرضيكم، والسلام عليكم
ورحمة الله» .
وبعد فترة أجاب الإمام على خطابي قائلاً: «عافاكم الله: لا تظن أبداً أني
أمنع دراسة كتب الحديث في المساجد وأخذ العلم عن رجل عاقل فضلاً عن رجل
عالم، فاستمروا على ما أنتم عليه وأقرئ وعلِّم الطلبة الأمهات الستة وغيرها،
ولكن ترغيماً للشيطان وإرضاءاً للرحمن وقطعاً للسان يمكن أن تجمعوا بين الشيئين؛
فتعلِّموا الطلبة (شفاء) الأمير الحسين من كتب الزيدية، وتعلموهم البخاري
ومسلم وغيرها من كتب السنة، وتسكتوا بذلك كل لسان وإنسان» ، وبالفعل وصل
جواب الإمام فأرسل السيد محمد زبارة في طلبي، فذهبت إليه، فلما وصلت قال:
هذا جواب الإمام، اقرأه عليَّ وأنت واقف أمامي. وبالفعل قرأت عليه جواب الإمام
كاملاً وهو جالس في مكانه، وبعد أن انتهيت، قال: رجاءاً لا أريد أن يعرف أحد
بهذا. ثم خرجت من عنده، وبعدها وجدت الكاتب التابع لناظر الأوقاف قاسم
العزي، فأريته الخطاب وقلت: خط من هذا؟ قال: خط الإمام. قلت: إذن اقرأ
المكتوب. وبعد أن انتهى من قراءته قلت: قل لناظر الأوقاف إن العمراني لديه
أمر من الإمام أن أعلِّم الطلاب بلا قيد أو شرط إلا شرط واحد. فقال لي الكاتب:
أعطني الخطاب. فقلت: لا أعطيكه أبداً وسيبقى معي وذلك لأنه في تلك الأيام لا
يوجد ماكينة تصوير للرسائل وقلْ ما قلت لك فقط.
فذهب الكاتب إلى قاسم العزي وأخبره بالأمر الذي معي من الإمام، ثم أخذ
قاسم العزي عصاه التي يتوكأ عليها وذهب إلى بيت محمد زبارة غاضباً ودخل
منزله، فقال لزبارة: ماذا بك يا صنو [*] محمد! تريد أن تنتشر الفوضى، قال:
ما تقول يا صنو قاسم؟ قال: قد جاء العمراني وفي يده أمر من الإمام أحمد، فلا
أعلم أحداً يمكن أن يوصل رسالة العمراني إلى يد الإمام سواك، وما خصمي إلا
أنت يا صنو زبارة، ولن يساعده أحد غيرك. قال زبارة: أبعد عنك الأوهام
والخيال يا صنو قاسم، فلقد أتى العمراني إليَّ صباح اليوم وقرأ عليَّ خطاب الإمام
وأنا جالس في هذا المكان، وهو واقف أمامي حتى انتهى من خطابه. قال العزي:
أخطأتُ ظننت أنه أنت. قال زبارة: يا صنو قاسم، السادة هم المساكين وأنا وأنت؛
أما القضاة فهم متعاونون فيما بينهم؛ فكل من القاضي الحلالي، والقاضي العمري
صديق للعمراني، والقاضي عبد الله الشوكاني، وبيت مطهر هم أصهاره، وهؤلاء
كلهم موظفون لدى الإمام، وأي واحد فيهم يمكن أن يساعد العمراني.
وأذكر قصة أخرى حدثت قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر (1382
هـ 1962م) ؛ فقد كنت أدرِّس الطلبة كتاب: «السيل الجرار» في رمضان،
ومن ثم ذهب أحد الأشخاص إلى الأخ يحيى محمد عباس الذي كان في ذلك الوقت
رئيس الاستئناف وقد قتل يوم الثورة فذكر له أني أدرِّس قضايا هامة، وأني ضد
المذهب، وأني أدرِّس كتاب «السيل الجرار» للشوكاني، فقام يحيى عباس
بإرسال رسالة إلى الإمام يشكوني فيه، وبعد فترة رأيت أحد موظفي المواصلات
فقال لي: ما الذي بينك وبين يحيى عباس يا قاضي محمد؟ قلت: لا شيء. قال:
لقد كتب يحيى عباس ضدك برقية إلى الإمام فما ظننت أبداً أنه سيرسل بالرسالة
هذه من أجل التدريس في المسجد ولكن ظننت أنه من أجل الوظيفة التي كنت مكلفاً
بها (مقام البدر) ومقام النائب؟ وكنت أقوم بعمل الأوامر وإنجاز الأعمال، فقلت:
ربما لم تعجبه طريقتي في إنجاز الأعمال. أخيراً وصلت الشكوى إلى الإمام فقام
الإمام وخاطب السيد عبد الله عبد الكريم وهو زوج بنته، وقال له: أخبر القاضي
عبد الرحمن العمراني أن يخبر أخاه القاضي محمد العمراني أن يتجنب عمل
المشاكل، وإثارة الفتن، والفوضى في صنعاء، ولولا أني أعرف العمراني
وعقيدته لكنت صدقت ما قيل عنه، لكن ربما يندس بعض الأشخاص بجانب
العمراني؛ فيثيرون الفتن ويكون الضحية العمراني؛ فقل لأخيك ليكن إنساناً عاقلاً.
فكتب لي أخي القاضي عبد الرحمن العمراني وقال: لا بد يا أخي محمد أن
تتورع وتكون عاقلاً، واعلم أنك لا تدرس إلا في رمضان، فعلِّم الطلبة بهدوء،
وتجنب المشاكل. وبعد ذلك لم يأت رمضان الآخر إلا وقد قامت الثورة وانتهت
المشكلة.
البيان: شهدت السنوات الأخيرة تمييعاً لعقيدة الولاء والبراء مع اليهود
والنصارى على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي؛ حيث قام عدد من
حكومات الدول الإسلامية والعربية بتطبيع العلاقات مع (إسرائيل) ؛ فما هو قول
العلماء في ذلك؟
* لا أتكلم هنا باسم العلماء؛ فكل عالم يعبر عن نفسه، ولا أنطق بدلاً عنهم،
أما بالنسبة لي فأنا من الذين يعارضون وبشدة التطبيع مع اليهود، واليهود الذين
يقولون إنهم يمنيون هم في الحقيقة ليسوا كذلك؛ فلقد انسلخوا انسلاخاً كاملاً
وأصبحوا (إسرائيليين) .
البيان: كثير من الناس يتجهون للتجارة مع أن أغلبهم لا يفقهون الأحكام
الشرعية المتعلقة بذلك؛ فبماذا تنصحون هؤلاء؟
* كان تجار صنعاء قبل (50 - 60) سنة يمتازون بأنهم يرسلون أولادهم
لطلب العلم وخاصة لدراسة الفقه وعلم الربويات خشية الوقوع في الحرام، وقد
عرفت أبناءاً لبعض هؤلاء التجار يحفظون القرآن الكريم ويعرفون أحكام البيع
والشراء، فلما أهمل كثير من التجار تعلم أحكام البيع والشراء واجهتهم المشاكل
ووقعوا في الشبهات وربما في الحرام، ثم يذهبون فيسألون الفقهاء! ولو كان الأمر
على سؤال الفقهاء وأخذ الجواب فحسب لهان الأمر ولكن بعضهم يسأل ولا يقتنع،
فيسأل أكثر من فقيه ويرى أي الآراء يوافق هواه فيأخذ به، ولقد كتبت مقالة في
مجلة الإرشاد، وذكرت فيها أن على العامي أن يسأل من الفقهاء من يقتنع به هو ثم
يقبل الإجابة سواء بالترك أو الجواز أو التحريم أو الكراهة، وألا يعمل مناقضة بين
آراء الفقهاء؛ لأن هذا لا يجوز لأنه تتبع للرخص.
البيان: «كثر الحديث عن المخطوطات المتوفرة في اليمن فما مدى أهمية
هذه المخطوطات؟ وهل تضيف شيئاً إلى الساحة العلمية؟ بحيث يقابل ما ينفق فيها
من جهد ووقت ومال؟ وما أشهر هذه المخطوطات ومن أشهر مؤلفيها؟
* في الحقيقة أن مخطوطات اليمن قد انقرضت؛ فلقد نُقل أكثرها أيام الأتراك
وأيام صدِّيق حسن، ثم أيام الحرب والخوف والجوع، ولم يبق منها إلا القليل الذي
يجب أن تُحافِظ عليها دور الكتب، وأن تُشترى بأي ثمن أيُّ مخطوطات من الأُسر
التي تقتني الكتب المخطوطة لحفظها والاعتناء بها.
البيان: يلاحظ في اليمن كغيرها من البلاد الإسلامية عزوف الشباب عن
طلب العلم الشرعي، فما هي الأسباب وكيف يمكن علاجها؟
* من أهم الأسباب أن الطالب لا يجد الوظيفة أو العمل إلا إذا كان يحمل
شهادة من كلية التجارة والاقتصاد مثلاً، لكن لو أنشأت الحكومة كليات شرعية مثل
كلية لأصول الدين، وكلية للعلوم الشرعية، وكلية للسنة، ودعموا هذه الشهادات
بوظائف حكومية لتغير الحال.
__________
(*) صنو: كلمة بمعنى: أخ، كانت تستخدم في ذلك الوقت.(159/91)
المسلمون والعالم
الطالبان.. هل تستنقذ ثمرة الجهاد؟ !
سعيد بن صالح المصلح
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلعله لم تحظ قضية من الاهتمام بما حظيت به القضية الأفغانية؛ حيث إنها
أول حركة جهادية معاصرة بعد حركات التحرر من الاستعمار رفعت راية الجهاد
وأعادت تلك الفريضة إلى مواقع المسلمين، ودفعتهم إلى إعادة البحث والدراسة في
أبواب الجهاد من كتب الفقه والحديث، ولذا فقد حظيت القضية الأفغانية بالقبول من
المسلمين على مستوى العالم، فبادروا للمشاركة بالنفس والمال والإعلام وبكل
الإمكانات على شكل إجماع لم يقع لقضية أخرى من قضايا المسلمين.
فكم بُذلت من المهج سواء من الشعب الأفغاني الأبي الذي ضحى بأكثر من
مليون ونصف المليون من الشهداء، وخمسة ملايين مهاجر، وأكثر من مليوني
أرملة ويتيم ومعاق؛ أو من الأنصار الذين خرجوا بأنفسهم وأموالهم فلم يرجعوا من
ذلك بشيء، سُفكت دماؤهم، وأنفقت أموالهم ابتغاء مرضاة الله والدفع عن إخوانهم
المضطهدين في أفغانستان، وبعد هذه التضحيات الضخمة اندحر العدو الكافر،
وطوي بساط أكبر دولة تملك ترسانة عسكرية ضخمة، ونكست أعلام السوفييت،
وتفاءل المسلمون بحصول النصر والتمكين، وقيام دولة الإسلام على أرض
أفغانستان.
ولكن الصراع بين الأحزاب الأفغانية خيب آمال المسلمين في العالم، وأحبط
طموحاتهم حتى صاروا يكرهون سماع أخبارهم، فضلاً عن تتبع ما يجري؛ فقد
آلمهم صراع تلك الأحزاب فيما بينهم، فيما لا نجد تفسيراً له سوى الصراع على
السلطة، وإراقة الدماء البريئة، وتدمير البقية الباقية من البنية الأفغانية، تحت
ضغط حب الزعامة واتباع الأهواء.
وقد شَمِت الأعداء من العلمانيين وأسيادهم بما وصل إليه الحال في أول وأكبر
تجربة من أكبر التجارب الجهادية المعاصرة، وأصبحوا يشككون في أمر هذه
الفريضة نعني الجهاد في سبيل الله وفي قدرة المسلمين على الحكم.
ولم تكن الآثار السلبية خاصة بالقضية الأفغانية والشخصيات القائمة عليها،
بل حاول العلمانيون أن يلصقوا كل ما يجري بأحكام الشريعة الغراء، واستغلوها
فرصة للتنفير من الدين عموماً والجهاد بصفة خاصة، وقد نجحوا في ذلك إلى حد
بعيد.
وفي الوقت الذي يتطاحن فيه قادة الأحزاب على كابل، وقد تحالف كل منهم
مع أعداء الأمس من الشيوعيين الذين لم تجف أيديهم بعدُ من دماء المسلمين،
تتحقق سنة الله الماضية فيحصل الفشل نتيجة التنازع، ثم الاستبدال. [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ] (محمد: 38) .
خلال أوضاع الحرب بين الأحزاب أهملت المحافظات وأصبحت نهباً
للعصابات وقطاع الطرق، وأصبحت الفوضى وانعدام الأمن هي السمة السائدة،
وأصبح الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم،
وارتفعت أسعار المواد الأساسية لكثرة الضرائب التي تأخذها العصابات في الطرق
من التجار، والتي يدفعها في النهاية المواطن المسكين، وأصبحت الفرصة متاحة
لأصحاب الشر والفساد من الشيوعيين السابقين وغيرهم من المجرمين، فأصبحوا
يسرحون ويمرحون في البلاد من غير رقيب ولا حسيب، يبتزون الناس بأخذ
أموالهم والعبث في أعراضهم وإتلاف نفوسهم.
ولكن الله برحمته الواسعة، لم يكن ليمكِّن الأعداء من قطف ثمرة الجهاد بعد
كل هذه التضحيات، وبعد كل الآمال التي عُلِّقت بهذه القضية، وما كان الله ليضيع
تلك الجهود من الدماء والأموال وأنواع البذل وصور العطاء، فقيض الله تعالى
بعض طلبة العلم من المجاهدين الذين اعتزلوا الفتنة وتجنبوا الصراع بين القادة،
وآلمهم ما يجري على أرضهم، فتحركوا بهدف كف المعتدين وبسط الأمن، ونشر
الشريعة، فرفعوا لواءاً يتكون من ثلاثة محاور:
1 - توفير الأمن والقضاء على الفساد والمفسدين.
2 - توحيد البلاد تحت قيادة واحدة.
3 - تحكيم الشريعة كاملة في جميع أنحاء البلاد.
وهنا جاءت الطالبان التي وُلدت من رحم المعاناة، والشعب الأفغاني يترقب
المُخلِّص أياً كان. جاءت الطالبان وبتوفيق من الله تعالى لتمتد كالريح في محافظات
أفغانستان واحدة تلو الأخرى، أغلبها من غير قتال، ساعدها في ذلك عامل جذب
من الشعب الذي وثق في هذه القوة الجديدة لتنقذه من حياة التفرق والصراع والخوف
الذي أحاط به، وعامل نجاحهم في تحقيق طموح الشعب في المحافظات التي سيطر
عليها، وقد كانت المحافظات تسقط بين أيديهم قبل أن يصلوا إليها، حيث كان
الشعب ينتفض على حكام الولايات ويسلمها لطالبان.
وامتدت الطالبان كالغيث بما يحمله من خير، وبما فيه من رعد وبرق
وصواعق، فأسقطت القوة الكبيرة في المنطقة؛ وبخاصة قوات الميليشيا الشيوعية،
وقوات الرافضة والإسماعيلية، وسيطرت على 90% من أرض أفغانستان،
وزالت الأحزاب أو كادت من على الخارطة الأفغانية.
جاءت الطالبان وأمامها مجموعة كبيرة من التحديات؛ فماذا صنعت؟ وهل
يمكن للطالبان أن تستنقذ ثمرة الجهاد من الضياع؟
جاءت الطالبان وأمامها مجموعة من التحديات؛ من أبرزها:
* انعدام الأمن وعموم الفوضى في البلاد.
* وجود قوى كثيرة متنازعة.
* البنية التحتية مدمرة.
* انتشار الجهل والفقر والمرض في صفوف الشعب.
* تعطيل الشريعة مع كثرة الفرق والطوائف والمذاهب الفكرية المنحرفة.
لقد بدأ الطالبان في مواجهة كل هذه التحديات بجدية وقوة. فبالنسبة للأمن
فكل من زار أفغانستان لا يمكن إلا أن يسلم لهم بذلك، فقد استتب الأمن وعم الهدوء
المناطق التي يسيطر عليها طالبان، وأصبح الناس ينتقلون في قضاء حوائجهم بكل
راحة واطمئنان، مما لم تشهد أفغانستان مثله منذ عقود طويلة، وهذا ما شهد به
العدو قبل الصديق.
واستطاعت الطالبان القضاء على غالبية القوى الموجودة ولم تبق إلا
المعارضة الشمالية المحاصرة في مناطق محدودة، والطالبان جادة في معالجتها
وتطهير جيوب المقاومة من تلك المناطق، مع أن المعارضة مدعومة من الخارج.
وقد أعلنت الطالبان تحكيم الشريعة في جميع شؤون الحياة، وأصدروا
مجموعة من القرارات الشجاعة في قضية المرأة وحمايتها من الانحراف؛ فقد قال
الملا عمر: «نحن لسنا ضد تعليم المرأة، لكننا نريد أن نضبط تعليمها بالضوابط
الشرعية» ، وأصدر أهم قرار في تاريخ أفغانستان يُرجِع للمرأة كرامتها وحقوقها
ويمنع ما كان سائداً من عادات مخالفة للشرع تقضي بأن المرأة إذا مات زوجها
يرثها ذووه ويتزوجها أحدهم ولو كانت كارهة. وأصدر قرارات متتابعة بمنع
زراعة المخدرات وإنتاجها واستعمالها في أفغانستان، التي ظلت عبر التاريخ في
مقدمة البلاد المصدرة لهذه المادة الخبيثة.
ولم يكتف الطالبان بالأقوال والقرارات؛ بل حوَّلوا ذلك إلى واقع يعيشه الناس،
فأقاموا الشرع بينهم، وحاربوا الشرك، ومنعوا الطواف بالقبور أو تقديم القرابين
لها، ووضعوا عليها سياجاً بمنع الدخول إليها، ومنعوا بعض البدع، وحاربوا
بعض صور الشعوذة، وخصصوا وزارة كاملة للحسبة والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وطهروا أجهزة الدولة من الشيوعيين، وقضوا على أوكار الفساد
ودور السينما، وبيوت الدعارة وحانات الخمور، ووضعوا برنامجاً لإصلاح التعليم
وأسلمة المناهج.
ويقومون الآن بمحاولة ترميم البنية التحتية وإصلاحها، وتشييد الجسور وبناء
السدود، وتعبيد الطرق المهمة، ورفع مستوى الخدمات الصحية، وتحسين الوضع
الاقتصادي، ورفع المستوى المعيشي للفرد، كل ذلك من منطلق شرعي، بحسب
ما تمليه عليهم الشريعة التي تعاهدوا على تحكيمها.
عندما يحدث كل ذلك فإنه يمثل مؤشرات واضحة الدلالة على حقيقة حركة
طالبان وحقيقة أهدافها وغاياتها، وعن مدى جديتها. لقد قدمت الحركة حلاً لقضية
أفغانستان المستعصية، ونجحت حيث أخفق الآخرون، وثبتت حين نكصوا،
ووفَّت حين خانوا، وصبرت حين جزعوا، ولم تفلح كل محاولات الإغراء
والإغواء في ثنيها عن الطريق الذي رسمته لنفسها، حين يقول أميرها بملء فيه
رداً على الحصار والتضييق والمساومة: «إن المبادئ الإسلامية للإمارة الإسلامية
غير قابلة للتفاوض أو المساومة عليها مع أي كان» .
إنهم لم يصلوا إلى هذا المستوى بكل سهولة ويسر؛ ولكنهم دفعوا الثمن غالياً
ليستنقذوا ثمرة الجهاد التي أوشكت على الفوات. كم بذلوا من الدماء والأموال
والجهود والمعاناة وقد صحبهم توفيق الله وإعانته؛ وإلا لم يكن لهم أن يحققوا عُشر
ما حققوه بجهودهم الذاتية.
قاموا بذلك كله في الوقت الذي فرض عليهم الحصار، وحل ببلادهم الجفاف
واشتد في مناطق منها حتى تحولت الأنهار المتدفقة إلى بلاقع يعلوها الغبار،
واشتدت عليهم الأمور في كل جانب، ولكنهم ساروا على الطريق الذي ارتضوه لا
يلوون على شيء، فكان من جراء ذلك أن رُمُوا عن قوس واحدة، وبخاصة قائدة
الإرهاب العالمي والعدوة الأولى للإسلام (أمريكا) فضربتها بالصواريخ، وفرضت
عليها أنواعاً من الحصار والعقوبات تحت مظلة الأمم المتحدة.
إن الشعب الأفغاني اليوم يدفع ضريبة جهاده، وإحيائه لهذه الفريضة الغائبة
في تاريخ المسلمين المعاصر.
إن الغرب الكافر وعلى رأسه أمريكا تريد لهذه التجربة الجهادية الضخمة
الهزيمة، وتريد التنكيل بذلك الشعب الذي تبنَّى الجهاد وتحمَّل في سبيل الله ما
تحمل ليكون عبرة للشعوب المسلمة، وإلا فلماذا الحصار للشعب الأفغاني؟ !
ألا يكفي ما حل به من ويلات وما يعيشه من معاناة؟ وهل محاصرة الشعوب
وتعريضها للقتل البطيء، والتستر خلف الشرعية الدولية ومحاربة الإرهاب يُخلِّي
أمريكا من المسؤولية ثم هي اليوم تقف بكل إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية
والسياسية والإعلامية مع العدو اليهودي المحتل لمقدسات المسلمين الذي يقتل
الأطفال وينكل بالعزل المستضعفين، ويدمِّر البيوت على أصحابها؛ فأين من يوقف
أمريكا عند حدها؟ ! أين مجلس الأمن؟ ! أين الأمم المتحدة؟ ! إنه ليس غريباً أن
يقوم الكفار بمحاصرة الشعوب المسلمة، ومعاداة من ينادي بتطبيق الشريعة،
والضغط عليهم حتى يتخلوا عنها، لكن الغريب سكوت الشعوب المسلمة على هذا
الحصار الظالم، وعدم السعي لخرقه بكافة الوسائل، ودعم المسلمين ورفع معاناتهم
وإن سَخِط الكفار وأذنابهم.
مهما كانت المسوغات والمعوقات فإن من المهم استكمال الجهاد ومتابعة الأمر
حتى تقام دولة الإسلام على أرض الأفغان، ولا بد من تحمل المعاناة في ذلك،
والوقوف مع الشعب الأفغاني الذي عانى الكثير ولا يزال يعاني مرة على يد أعدائه
ومرات على يد أبنائه.
واليوم وقد جاءت حكومة طالبان لتستنقذ ثمرة الجهاد وتحافظ على المكتسبات،
وبدأت تطرح تطبيق الشريعة بكل قوة وثقة، والواقع يحتم إعطاءها فرصة
إصلاح الأوضاع يوماً بعد يوم، وأمام هذه الهجمة الشرسة من قِبَل الكفار فإنه قد آن
للشعوب المسلمة التي شاركت في الجهاد وبذلت فلذات أكبادها وحُرَّ أموالها وهمَّها
وجهدها، آن لها أن تشارك في استنقاذ ثمرة الجهاد بعد أن أوشكت على الضياع،
وآن لها أن تحيي الأمل بعد أن كاد يتحطم على صخرة الصراعات بين القادة.
إنها دعوة لكل المخلصين أن يراجعوا مواقفهم من حكومة طالبان، ويعيدوا
حساباتهم وتقييمهم للحركة، وألا يعتمدوا أقوال خصومهم.
ثم هذا الشعب المسلم الذي طالت معاناته وما زالت، ألا يستحق منا التفاتة
لمواساته ومداواة جراحه الغائرة، وكفكفة عبراته المهراقة. إنه لا أحد اليوم يتحدث
عن الحصار الظالم على الشعب الأفغاني المسلم فضلاً عن أن يوجد من يسعى إلى
كسر الحصار والوقوف مع معاناة هذا الشعب المسلم.
فلنساهم في دعم الدولة المسلمة التي تسعى إلى تحكيم الشريعة كاملة على
أرض الواقع، ولنقف مع هذا الشعب الأبي الذي دفع الكثير وعانى الكثير، من
خلال المشاريع التالية:
أولاً: دعم حكومة الطالبان من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية
والإعلامية والاجتماعية.
ثانياً: دعم مشروع إعادة البنية التحتية المدمّرة في الجوانب الصحية
والتعليمية والزراعية والخدمية.
ثالثاً: دعم المشاريع الإغاثية كحفر الآبار، وكفالة الأرامل والأيتام، وتوزيع
المواد الغذائية.
رابعاً: العناية بالمشاريع الموسمية كإفطار الصائم والأضاحي.
إن كل مسلم يجب عليه أن يقف مع إخوانه في معاناتهم، وبخاصة وقد رُموا
عن قوس واحدة، والعلماء والدعاة وأبناء الحركة الإسلامية يتعين عليهم ما لا يتعين
على غيرهم؛ فليقم كل بما يستطيع؛ فإن الحجة قد قامت، ولا يسع المسلم إلا أن
يؤدي حق الله عليه.
«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [1] .
__________
(1) أخرجه البخاري، ح/ 6011، مسلم، ح/ 2586، واللفظ له.(159/100)
المسلمون والعالم
المسؤولية الأخلاقية الإسلامية تجاه الحصار
سيان بين أن نصمت الآن أو أن ندين بعد فوات الأوان
د. جاسم محمد إبراهيم
لقد أدى الحصار الشامل على العراق منذ أكثر من عشر سنوات إلى قتل مئات
الآلاف من الأطفال الأبرياء وكبار السن والمرضى، كما أدى إلى تخريب النُظُم
الصحية والتعليمية، وتدمير نُظُم الصرف الصحي التي أدت بدورها إلى زيادة
مخيفة في نسبة الأمراض المعدية، مع توقف عجلة الاقتصاد وزيادة في البطالة،
وتفشي الفقر؛ فهو تدمير منظَّم مقصود للنسيج الاجتماعي للشعب العراقي.
وهو كما وصفه (دينس هاليداي) المنسق السابق لبرنامج النفط مقابل الغذاء
والذي استقال من منصبه احتجاجاً على بقاء الحصار، يقول: «الحصار عملية
تدمير لشعب بأكمله هذه هي حقيقة بسيطة ومرعبة» .
هناك جملة من الحقائق عن الحصار يجب وضعها لتقييمه وَفْق المنظومة الأخلاقية
الإسلامية وهي:
1 - إن الحصار مفروض من قِبَل أعداء الأمة الإسلامية بدون أدنى شك.
2 - الحصار لم يحقق ولا يحقق الأهداف التي وُضع من أجلها، وهي على
كل حال أهداف سياسية وضعها الأعداء ضد بلد مسلم.
3 - الحصار ألحق أضراراً ودماراً فادحاً بالمناحي النفسية والجسدية للشعب
العراقي.
4 - الحصار يستهدف الشرائح الضعيفة والفقيرة وذوي الحاجة والعجزة.
5 - يُستخدم الحصار وسيلة لفض النزاعات الدولية بعد الدبلوماسية، وقبل
استخدام القوة، والحصار فُرض على العراق قبل الدبلوماسية، وأثناء استخدام القوة
وبعدها ومعها ولعشر سنين وما زال.
6 - الحصار مرفوض من قِبَل أبناء الشعب العراقي جميعاً أفراداً وجماعات.
إن هذا الحصار ليس هجوماً بربرياً على شعب بأكمله فحسب؛ بل هو اعتداء
صارخ على معاني الخير والفضيلة والقيم الإيمانية، وهذا الهجوم يحدث من قادة
وإدارات ودول فقدت كل صلة بنور الله، وأنَّى لبشر متحضر يعيش حياة طبيعية
في رخاء ونعمة يمارس أو يتفرج على عمل في غاية القسوة والوحشية ضد النساء
والأطفال والشيوخ والمرضى الذين لا حول لهم ولا قوة، وهم ليسوا طرفاً في أي
استفزاز فضلاً عن أن يرتكبوا جريمة بحق أحد؟ !
إن المنظومة الأخلاقية الإسلامية التي تعلمناها، والتي تشكل بمجملها طريقة
للحياة في المشاعر والأفكار والسلوك هدفها الدفاع عن معاني الخير والحق،
ومحاربة سبل الشر والباطل، وهذه المنظومة الأخلاقية هي التي تجعل قتل نفس
بريئة واحدة كقتلها للناس جميعاً تدين هذا الحصار الشامل دون أدنى تردد أو تحقيق.
لكن كيف يمكن تسويغ صمت المؤسسة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية على
حرب إبادة جماعية بحق شعب مسلم؟ !
وكيف يمكن أن تمر هذه الظاهرة التاريخية الفريدة وغير الاعتيادية، وتسير
الحياة الإسلامية سيراً اعتيادياً، ولا تتغير المشاعر والأفكار والسلوك؟ !
كيف يمكن أن نفسر هذه الظاهرة؟
أَلأن الأنانية والأنا فقط هي التي شاعت وأغلقت الإحساس والمشاعر دون
إدراك بما يعانيه الآخرون، وأن الألم والأذى لا يُحس إلا إذا وقع على الأنا؟ ! إذن
كيف تُبنى علاقة إنسانية والإسلام يريدها أخوية أساسها المشاركة مع الآخر الذي له
نفس الحقوق والتكريم من قِبَل خالقه العظيم، وإن هذا التكريم والحق مقدسان لا
يجوز المساس بهما؟ !
أم أن الكبر والاستغناء هما اللذان يعطيان الإنسان إحساساً بالقدرة على
اكتشاف أسرار الكون وتسخيره، وأن يحيا وجودياً مستغنياً بنفسه عمن سواه؟ !
والله خلق الإنسان غير مكتف بذاته، عاجزاً مفتقراً لغيره في حياة أساسها الأخذ
والعطاء، وإن صِفَتَي العجز وعدم الاكتفاء تضعان عبئاً أخلاقياً خطيراً تجاه الآخر
عند وقوع الحاجة والعجز.
أم أن القسوة ونزع الرحمة من القلوب باتت أساساً للتعامل؟! ونبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم يُمثل التواد والتراحم بين المسلمين كالجسد إذا اشتكى عضو
كان رد الفعل سهراً وانفعالاً محموماً لا يفتر حتى ثبتت معاني الطمأنينة والسلام في
القلوب، وإلا فكيف يتحقق السلام تحية الإسلام في معادلة أحد طرفيها يعاني ويتألم
ويموت، والآخر متخوم لاهٍ في الحياة؟! أم ليس كل الذي ذكرنا؛ لكن الضمير
المؤمن الذي ليس لأحد عليه سلطان إلا الله، أُخضع لمنطق القوة والبغي
والطغيان؟!
لقد بيَّن الحصار خللاً عميقاً في الشخصية المسلمة في عصرنا الراهن، ونحن
بحاجة ماسة وسريعة إلى إعادة النظر في طرائق التعليم والتربية في مختلف
مراحلها لإعادة تشكيل المشاعر والفكر والسلوك للصغير والكبير، للمتعلم والأمي،
وكافة شرائح المجتمع، حتى تحصل له استجابة إنسانية صحيحة، وإدانة واضحة
عندما يواجه جريمة نكراء أو اعتداءاً أثيماً أو خطأً جسيماً.
الإدانة في الدين ليس معناها منشوراً يوزع أو خطبة تلقى فيستريح الضمير
وترفع عن الكاهل المسؤولية، كلا، إنها عملية إيجابية تحفز المشاعر والعقول
والسلوك بصورة مستمرة يومياً إلى أن يتحقق أمران: أولهما: تحقيق العدل وإزالة
الظلم، وثانيهما التأكد من عدم تكرار هذا الظلم على أي أحد مستقبلاً.
ويتم تحفيز هذه المنظومة الأخلاقية الخيِّرة من خلال الزيارة لمسرح المعاناة،
الكتابة، الخطابة، إصدار الفتوى، الاعتصام، الاحتجاج، مقاطعة بضائع الدول
الفارضة للحصار، وأساليب إنسانية وشرعية كثيرة أخرى.
إن هذا الحصار الدامي الطويل الذي ُيذكِّر بحصار شِعْب أبي طالب للعصبة
المؤمنة الأولى يضع كثيراً من القيم والمبادئ التي نحملها تحت المساءلة والتحقيق؛
فعلماء الأزهر الشريف، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي،
ومجمع البحوث الفقهية، وقادة الجماعات الإسلامية، وعلماء الشرع الحنيف،
الكتَّاب، الشعراء، المثقفون والصحفيون المسلمون مدعوون جميعاً لفحص خفايا
الأنفس والضمائر، والتحقق من الأفكار ومواجهتها مواجهة شجاعة صادقة،
وعرضها على المبادئ والقيم التي يحملونها ثم مقارنتها بما يحصل في هذه الجريمة.
إن عدم القيام بهذا العمل واتخاذ الموقف المسؤول معناه أننا لا نحس بمعاناة
ضعفاء المسلمين والأخطار المحدقة بهم؛ وعندها يصبح الأمر سيَّان: أن نصمت
الآن، أو أن ندين بعد فوات الأوان. فهذه والله مأساة نحن مسؤولون عنها أمام الله،
والله نسأل أن يلطف بشعب العراق، وأن يجازي كل من تسبب في حصاره
ودمار مقدَّراته.(159/104)
المسلمون والعالم
المأساة الجزائرية.. حقيقة الصراع
د. جعفر الهواري
لا شك أن الشعب الجزائري كان يتطلع بعد استعمار غاشم دام أكثر من 130
سنة، وبعد جهاد طويل إلى أن يعيش تحت ظل دولة مستقلة في إطار المبادئ
الإسلامية تعيد له كرامته وحريته وتحفظ له عقيدته، ولكن سرعان ما تبخر هذا
الحلم في الساعات الأولى من الاستقلال، والأدهى والأمرّ أنه أصبح منذ ذلك الوقت
رهينة في يد نظام استبدادي علماني وعسكري هو بدوره رهينة للصراعات داخله،
ولا يخفى على أحد أن الشعب الجزائري لم يؤخذ رأيه في رسم سياسات بلاده، ولم
يكن بإمكانه اختيار ممثليه بكل حرية، وفُرضت عليه الاشتراكية فرضاً وادّعت
السلطة أنها اختيار شعبي لا رجعة فيه.
والآن فرضوا على الشعب (النظام الليبرالي) وعاد الأشخاص أنفسهم
ليرددوا أنه اختيار لا رجعة فيه. وجاءت أحداث أكتوبر 1988 [1] ليعبِّر السواد
الأعظم من أبناء الشعب عن سخطهم على النظام ورغبتهم في التغيير، مما جعل
النظام يلجأ إلى اعتماد دستور في 23 فبراير 1989م حيث فتح باب التعددية
الحزبية والإعلامية، وخلال فترة 1989م 1991م كانت فرصة للشعب أن يعبِّر
عن توجهه السياسي العام، وطبيعة النظام الذي يريده خلال الانتخابات الحرة
المحلية والتشريعية [2] التي زكَّى فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تتبنى المشروع
الإسلامي.
وكانت الانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر 1991م التي أعطت الأغلبية
الساحقة فيها أصواتها للجبهة الإسلامية للإنقاذ في طريقها لتغيير طبيعة ذلك النظام
الاستبدادي والقضاء على الفساد في البلاد والتخلص من التبعية، ولكن (قوى الشر)
في المؤسسة العسكرية، وفي مختلف الدوائر، وبعض العواصم الغربية التي لها
مصالح اقتصادية وثقافية لم تكن لترضى بهذا التغيير، فقرروا مصادرة اختيار
الشعب في يناير 1992م، وإقصاء (أو استئصال) الجبهة الإسلامية للإنقاذ
وقيادتها وإطاراتها من الساحة السياسية، كما قرورا أنهم لن يسمحوا مرة أخرى
بإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
طبيعة الصراع:
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن طبيعة الصراع ليست صراعاً بين سلطة
ومعارضة من أجل البقاء في السلطة بعيدة عن التوجهات العقائدية والأيديولوجية،
ولكي تكون عند القارئ صورة واضحة فلا بد أن نكشف القناع عن أصحاب القرار
الذين يديرون شؤون البلاد في الخفاء، وهذا يرجعنا إلى ثورة التحرير (1954
1962م) ، وبالضبط سنة 1958م؛ حيث كانت السلطات الفرنسية تدرك أن
الجزائر ستستقل لا محالة، فعملت (فرنسا) على أن يكون هذا الاستقلال ظاهرياً
يبقي البلاد في قبضتها، وهكذا وبعد 4 سنوات من بداية الثورة التحريرية، فجأة
اكتشف بعض الضباط من أصل جزائري العاملين في صفوف الجيش الفرنسي أن
بلدهم محتل من قبل الجيش الذي يعملون فيه، وأن «وطنيتهم» تملي عليهم
الالتحاق بالثورة، ومنهم من لم يشعر بتلك النزعة إلا قبل أشهر قليلة من الاستقلال،
وانضم معظمهم إلى ما يسمى بجيش الحدود. وبعد الاستقلال استعان الرجل
القوي في النظام العقيد هواري بومدين [3] بطلقاء الجيش الفرنسي فأسند لهم مهام
في الجيش، وفي عهد الشاذلي بن جديد أسند لهم مناصب عليا في الجيش والإدارة
على حساب ما يسمى بضباط جيش التحرير [4] .
لقد بدأ حلم فرنسا يتحقق عندما أسند الرئيس بن جديد أهم منصب وزاري في
الدولة، وهو وزير الدفاع إلى الجنرال خالد نزار سنة 1990م (كان ضابطاً في
الجيش الفرنسي، والتحق بالثورة سنة 1958م) ، ولقد أحاط نفسه بمجموعة من
ضباط الجيش الفرنسي الذين احتكروا المناصب الهامة في الجيش كقائد الأركان،
وقائد قوات الدرك، ورئيس المخابرات وغيرها، وقد تمكن من خلالها أن يصبح
الرجل القوي في النظام، وأن يفرض هو وعصابته الوصاية على الجيش.
هذه النواة التي تشكل السلطة الفعلية والتي لا تعرف إلا الثقافة الفرنسية
والحاملة للمشروع التغريبي (اللائكي) لم تكن لتقبل كما قلنا من قبل باختيار
الشعب الحر المعبر عنه في ديسمبر 1991م الذي أعطى الأغلبية الساحقة لأصحاب
المشروع الإسلامي. وإن كان الجنرال نزار قد تنحى من المؤسسة العسكرية فالنواة
التي تكونت من حوله لا تزال تتحكم في مركز القرار؛ فهي التي تختار رئيس البلد
وتترك له مجال تسيير البلاد مع فرض بعض الوزراء، ورسم خطوط حمراء لا
يمكنه تجاوزها.
كما لا يفوتنا أن ننبه القارئ أنه وإن أصبح مركز القرار في يد ضباط الجيش
الفرنسي فإن ما يسمى بالتيار الوطني في السلطة الذي يمثله ضباط جيش التحرير
تحالَفَ مع هؤلاء لضرب التيار الإسلامي رغم أنه يتفق معه في كثير من القضايا،
وهو أقرب إليه من التيار (اللائكي) الذي يمثله ضباط الجيش الفرنسي.
فالصراع إذن بين مشروعين: المشروع الإسلامي الذي يمثل قناعة السواد
الأعظم من أبناء الشعب الجزائري المسلم، والمشروع التغريبي اللائكي (العلماني)
الذي يمثل أقلية تتحكم في المؤسسة العسكرية [5] والإدارية والصحافة، وما دام
الوضع كما هو عليه الآن فإنه من المستبعد أن يقبل أصحاب القرار بمصالحة
وطنية شاملة؛ أي عودة التيار الذي تمثله الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الساحة
السياسية ولو باسم آخر، وترك الشعب يختار ممثليه بكل حرية.
الحريات السياسية والإعلامية:
منذ مصادرة اختيار الشعب في يناير 1992م، وإعلان حالة الطوارئ في
فبراير من السنة نفسها لا توجد حرية التعبير في البلاد. وبعبارة أدق: إن الحرية
الحقيقية التي كان يتمتع بها الشعب الجزائري بجميع شرائحه ما بين بداية 1989م
ونهاية 1991م في المجال السياسي والإعلامي والاجتماعي تم إلغاؤها، فحل
الانقلابيون جميع المؤسسات المنتخبة، وأغلقوا كل الصحف الحرة واحدة تلو
الأخرى، ولم يُبقوا إلا على الصحافة ذات التوجه اللائكي الفرنكوفوني التي أيدت
الانقلاب وحرَّضت عليه، وسمَّت نفسها دون استحياء: «الصحافة الحرة» كما
أنهم حلوا الجبهة الإسلامية للإنقاذ، واعتقلوا وطاردوا إطاراتها، وضيقوا على
الأحزاب التي لم تزكِّ سياستهم الانقلابية، كما أنهم حلوا عشرات الآلاف من
الجمعيات الخيرية ذات الطابع الإسلامي بحجة أنها تدعم الإرهاب! ولم يسمحوا
بالنشاط السياسي إلا للأحزاب التي قبلت أن تدور في فلكهم وتأتمر بأوامرهم.
ومنذ الانقلاب المشؤوم شاركت «الصحافة الحرة» والأحزاب العلمانية في
كبح الحريات، وتكميم الأفواه، والقمع الذي قام به الانقلابيون ضد الشرائح التي
تمثل أغلبية الشعب، ولم تقف في يوم من الأيام مع المظلومين ولم تسهم في كشف
الحقيقة إذا كان الضحايا محسوبين على تيارات معارضة للنظام لا سيما من أنصار
الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأما إذا وجدت «ضحية» واحدة ممن ينتمون إلى التيار
اللائكي الاستئصالي فإن تلك الصحافة تقيم الدنيا ولا تقعدها.
أما التعذيب الوحشي الذي يتعرض له مئات الآلاف من الجزائريين والذي
يسهل لأي صحفي التأكد منه؛ فلم تشر إليه الصحافة الحرة المزعومة لا من قريب
ولا من بعيد، بل عملت طيلة سنوات القمع على اتهام منظمات حقوق الإنسان
الوطنية والدولية التي أشارت إلى التعذيب أنها تدعم الإرهاب.
قضية المفقودين:
وفيما يخص قضية المفقودين الذين يقدر عددهم بـ 18 ألف؛ فإن الصحافة
الاستئصالية التي يروق لها أن تَصِف نفسها بالحرة، قد تعمدت تجاهل الوضع بل
ذهبت إلى تبني طرح النظام بترديد موقفه القاضي بأن أغلبية المفقودين التحقوا
بالجماعات المسلحة أو قُتلوا في اشتباكات مع قوات الأمن.
وماذا كتبت «الصحافة الحرة» عن القابعين في السجون بدون محاكمة، وعن
الذين حكم عليهم في محاكم الاستئناف التعسفية؟ لا شيء يذكر! بل عتَّمت على
مئات الآلاف الذين سلبت منهم حقوقهم السياسية وطردوا من عملهم بسبب انتمائهم
السياسي، ولم يكن ذنبهم إلا أنهم كانوا من أنصار الجبهة الإسلامية.
وأما ما نراه من انتقاد حاد من طرف «الصحافة الحرة» لبعض رموز
النظام فهذا لا يجعلها صحافة مستقلة؛ لأن الانتقاد الذي تنشره يدخل في الإطار
المسموح به من قِبَل أصحاب القرار؛ فالانتقادات كلها موجهة لشخصيات معينة
معرضة للذهاب (الإقالة أو الاستقالة كما حدث لزروال) في أي وقت، ولذلك فإنها
مطروحة للانتقاد في المجال المسموح به، أما أصحاب القرار الحقيقيين فلا تتجرأ
أية صحيفة على التعرض لهم أو الإشارة إليهم، ونحن نتحدى أي صحيفة تدعي
أنها حرة أن تشير ولو من بعيد إلى هذه الشخصيات في انتقاداتها وفضحها للحقائق.
بل إن مجال الحرية الذي تتحرك فيه يستخدمه أصحاب القرار لضرب من
يريدون من أجل الضغط عليه أو إقالته، فلا شك أن الصحيفة التي تنتقد أي
شخصية من النظام لن تقدم عليه إلا بعد التأكد من حماية المؤسسة العسكرية لها؛
فكيف يتجرأ اللائكيون أن يتكلموا على حرية الرأي والخطر الذي يهددها؛ حيث لا
يوجد أصلاً مجال للحريات، وأن أغلبية الشعب محرومة من حقوقها السياسية؟ إن
حرية التعبير في البلاد غابت يوم صودر اختيار الشعب في يناير 1992م، والواقع
الذي تعيشه البلاد من ظلم وفساد في جميع الميادين يكذِّب ذلك؛ إذ من المعلوم أنه
لا يجتمع في دولة انتشار الحريات مع تفشي الظلم والفساد كما هو الحال في
الجزائر، ولا يمكن أن نتكلم على حرية التعبير إلا بعد أن تُمكَّن جميع شرائح
المجتمع من ممارسة حقوقها السياسية والمدنية، وحقها في النشاط الإعلامي دون
ضغط أو إكراه.
أما التعددية الموجودة في البلاد فهي تعددية غريبة؛ حيث تجد أحزاباً تصنف
نفسها في صف المعارضة، وفي الوقت نفسه لا تتحرج أن تكون عضواً في
الائتلاف الحكومي الذي يجمع بين أحزاب لا يجمعهم أي شيء! ! وأحزاب لها
أغلبية في البرلمان (حسب الخارطة التي رسمها أصحاب القرار) ليس لها تمثيل
في الطاقم الحكومي حسب وزنها في البرلمان! ! وأخرى ليس لها أي مقعد ولا
يتجاوز تمثيلها مكاتبها تُسند لها وزارات! ! وشخصيات مجهولة الحال، ومشبوهة
المشرب، ليس لها أي إطار حزبي تتصرف في وزارات هامة كالداخلية، ووزارة
المال، والوزارة المكلفة بالخصخصة! ! وهكذا فإن التعددية الحالية جعلت الأقلية
هي التي تحكم، والأغلبية مهمشة ومطاردة.
ما حقيقة (الوئام الوطني) ؟
إن بو تفليقة لم يأت إلى الرئاسة عن طريق نضال سياسي طويل وانتخابات
حرة ونزيهة، بل عيَّنه أصحاب القبعات في هذا المنصب عبر انتخابات يشهد
الشعب الجزائري قبل غيره أنها مطعون في شرعيتها، وعلى ضوء ذلك كان ولا
يزال مستبعداً جداً أن بو تفليقة جاء ليغير الوضع القائم، ويتحدى الذين جاؤوا به
إلى قصر الرئاسة، وحين جعل بو تفليقة مسألة السلم أولية من أولياته؛ حيث قال
خلال الحملة الانتخابية وبعد تنصيبه رئيساً للبلاد إنه سيعيد الأمن والاستقرار للبلاد،
ويعمل مصالحة وطنية شاملة لا تُقصي أحداً.
وظن الشعب الذي علَّق آمالاً كبيرة على الخطاب الجديد أن أصحاب القرار
أعطوا الضوء الأخضر لبو تفليقة لإنهاء الأزمة السياسية عن طريق المصالحة
الوطنية التي يتطلع إليها، ولكن سرعان ما تبخرت هذه الآمال، وتبين أن مسعى
بو تفليقة ما هو إلا ثوب جديد للسياسة الأمنية القمعية التي اتبعها الانقلابيون منذ
بداية الأزمة، وأما المصالحة التي كان (ولا يزال) يقصدها بو تفليقة فإنها
تنحصر أساساً في (قانون الوئام المدني) [6] .
ويريد بو تفليقة تطبيق هذا القانون حتى على سياسيي الجبهة الإسلامية من
حيث إنهم يُحرَمون من حقوقهم السياسية لمدة عشر سنوات (أو قل مدى الحياة) ،
ولعل المصالحة الحقيقية التي يريدها بو تفليقة والتي يسعى جاداً لتحقيقها هي
المصالحة مع الصهيونية والأقدام السوداء [7] وإمكانية عودتهم إلى بلادهم على حد
تعبير بو تفليقة!
ولم يكتف بو تفليقة في تكريس السياسة السابقة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛
حيث يريد فرض اللائكية (العلمانية) على البلاد مستعملاً في ذلك أساليب مشبوهة؛
فهو تارة يقول: «إن اللائكية لا مكان لها في البلاد، وأنه متعاطف مع التيار
الإسلامي» ، ثم يعود فيقول: «إن الإسلام السياسي يحارب بحد السيف، ومن
أراد أن يتعبد فالمساجد هي لله، ومن أراد أن يسيس بقناع الإسلام لا مكان له في
المجتمع الجزائري» [8] ، وأضاف: «إننا على بينة من أمرنا؛ لأننا على أبواب
أوروبا، وأن هناك شعباً جزائرياً ينظر إلى أوروبا وإلى النموذج الأوروبي كنموذج
حياة، ولا ينظر إلى العهد القديم، وتمنيت لو كان إسلامنا السياسي الحديث ينظر
إلى نموذج عهد الخلفاء الراشدين؛ فالإسلام هو ما حرَّمه وحلَّله الله» [9] .
ومما قاله أيضاً: «إن تسييس الدين سواء كان في الديانة المسيحية أو
اليهودية أو الديانة الإسلامية هو وضع غير سليم، وكلما جرى اللجوء إلى الدين
لاستعماله في السياسة وصل الأمر إلى العنف» [10] .
وأظن أن المجال لا يتسع لسرد أقوال وأفعال بو تفليقة التي تدل دلالة واضحة
أن الشخص منبهر بالثقافة الغربية والفرنسية بوجه الخصوص، ويريد فرضها على
البلاد.
الخاتمة: لعلنا أعطينا للقارئ نظرة قاتمة للأوضاع في البلاد قد يتصور من
خلالها أن الجزائر قد سقطت في أيدي اللائكيين والمطبِّعين مع الصهيونية، وأن
الشعب قد استسلم للأمر الواقع ومعه الحركة الإسلامية، ولكن هذا غير صحيح؛
فليطمئن القارئ الكريم، وليعلم أن السواد الأعظم من الشعب الجزائري لا يزال
يتمسك بعقيدته وحرصه على أن يحكم شَرْع الله بلاده، كما أن الشعب بجميع
شرائحه يمقت النظام الحاكم مقتاً لا مثيل له، ويعمل ما في وسعه على تغييره،
ويؤمن إيماناً راسخاً أن الله لا يُصلح عمل المفسدين، وأن الله ناصر عباده
الصالحين، قال الله عز وجل: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) .
__________
(1) التقارير حول الموضوع تدل على أن أحداث أكتوبر 1988م كانت الرئاسة وراءها من أجل التخلص من بعض الخصوم في الحزب الحاكم؛ حيث كانت الانتخابات الرئاسية ذات المرشح الواحد على الأبواب، وكلفت المخابرات بعض المشاغبين المعروفين لدى الشرطة بالقيام ببعض الأعمال التخريبية وترديد هتافات ضد الحزب الحاكم، ولكن الشارع خاصة الشباب منهم الذي كان على حافة الانفجار من جراء الفساد والرشوة والظلم استغل هذه الفرصة للتعبير عن غضبه في كامل التراب الجزائري؛ حتى انفلت الأمر من يد السلطة مما اضطرها إلى إخراج الدبابة وقمع المتظاهرين مما خلف ما يقرب من ألف قتيل.
(2) فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات محلية تعددية بعد الاستقلال في 12 /6/ 1990م؛ حيث حصلت على 856 بلدية من أصل 1500، و32 مجلس ولائي من أصل 48، وللعلم فإن 856 بلدية، و32 ولاية هي كبريات المدن تمثل أكثر من 80% من سكان البلاد كما فازت الجبهة الإسلامية في أول انتخابات تشريعية منذ الاستقلال في 26/12/1991م؛ حيث حصلت على 188 مقعداً في الدور الأول و180 مرشحاً في الدور الثاني من أصل 430 مقعداً من مقاعد البرلمان، وحصلت جبهة القوى الاشتراكية على 25 مقعداً في الدور الأول، و20 مرشحاً في الدور الثاني، وجبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم على 16 مقعداً في الدور الأول، و 170 مرشحاً في الدور الثاني.
(3) كان قائد أركان جيش الحدود، وبعد الاستقلال تقلد منصب وزير الدفاع، وهو الذي فرض أحمد بن بلا رئيساً للبلاد على حساب رئيس الحكومة المؤقتة ابن خدة بن يوسف وفي 19 يونيو 1965م أطاح بالرئيس بن بلا، وحكم البلاد حتى وفاته في ديسمبر 1978م.
(4) يطلق اسم ضباط جيش التحرير على المقاتلين الذين التحقوا بالثورة ولم يكونوا في صفوف الجيش الفرنسي.
(5) علينا أن نفرق بين أفراد الجيش الوطني الشعبي حتى بعض الضباط الذين لا يشاركون في صنع القرار، ويجهلون كثيراً من الأمور، وبين مجموعة من الجنرالات تتصرف في مختلف الوحدات العسكرية كأنها ملكية خاصة بها.
(6) هو قانون خاص بالجماعات المسلحة يعرض عليهم العفو الجزئي أو الكلي حسب الجرائم التي ارتكبوها إذا سلموا أنفسهم وأسلحتهم، ويكونون تحت الرقابة القضائية، ويحرمون من حقوقهم السياسية لمدة عشر سنوات.
(7) هم المستعمرون الفرنسيون الذين عاشوا في الجزائر طيلة فترة الاستعمار، وكانوا يملكون كل الأراضي الخصبة والمؤسسات التجارية، ويسيطرون سيطرة كلية على الإدارة، ويقدر عددهم بمليون، وكانوا يرفضون رفضاً قاطعاً فكرة استقلال الجزائر، وحاربوا من أجل إبقاء الجزائر مقاطعة فرنسية، ولكنهم اضطروا إلى الهروب إلى فرنسا خوفاً على حياتهم أما الجالية اليهودية التي كانت تعيش في فرنسا قبل الاستعمار وبعده فقد دعمت المستعمرين في مطالبتهم إبقاء الجزائر فرنسية، وأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً مما يسمى بـ (الجزائريين الأوروبيين) .
(8) الشرق الأوسط، 12/9/2000م.
(9) في تصريحات سابقة له يرى أن المجتهد عليه أن يتخلى عن كل ما وصل إليه العلماء السابقون من اجتهادات وآراء، ويفسر القرآن بالمفهوم العصري ومتطلباته.
(10) الشرق الأوسط، 12/9/2000م.(159/106)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
سيرحل.. وسنرى! !
اعتبرت المفوضة العامة لفلسطين في فرنسا (ليلى شهيد) أن الشرق الأوسط
سيتعرض لموجة جارفة من التطرف إذا فقد عرفات الدعم في صفوف الشعب
الفلسطيني.
ورداً على سؤال لإذاعة فرنسا الدولية (I. F. R) ومجلة (الاكسبرس)
الفرنسية لمعرفة ما إذا كان الفلسطينيون يقبلون بوجود إسرائيل، قالت ليلى شهيد:
«نعم، كلياً؛ فالذين نزلوا إلى الشوارع لا يقولون نريد تحرير كل فلسطين من
البحر إلى نهر الأردن، بل يقولون نريد تحرير دولة فلسطين المعلنة في الضفة
الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ولا نقبل بسنتيمتر أقل من ذلك» .
وأوضحت: «لقد قبلوا كلياً بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وليس محل
إسرائيل» . واعتبرت أنهم وافقوا على ذلك؛ لأن ياسر عرفات أقنعهم بأن حقيقة
هذه الدولة ليست على صعيد نسبة مئوية، بل رهن قدراتها الاقتصادية وعلاقاتها
بجيرانها سواء كانوا عرباً أو إسرائيليين ورهن شراكتها الأوروبية المتوسطية.
وأضافت المفوضة العامة: «لا يمكن العدول عن فكرة التعايش مع إسرائيل؛
فلا يمكن التخلي عن هذه الفكرة. ولكن يجب على الأوروبيين أن يفهموا أنه في
حال فَقْد عرفات وسلطته الوطنية الانتخابات داخل الشعب الفلسطيني أو فقدوا دعم
الناس، فسترون في فلسطين والأردن ومصر ولبنان ظهور موجة من المتطرفين
إلى جانب ما رأيتم حتى الآن تكون أقوى بعشرة أضعاف وستهدد وجود إسرائيل
ووجود مصالحكم (الأوروبية) في المنطقة) .
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7473) ]
حصاد الانتفاضة
أعلنت السلطة الوطنية أن عدد الشهداء الفلسطينيين وصل خلال الشهرين
الأولين من انتفاضة الأقصى إلى نحو 316 شهيداً، فيما بلغ عدد الجرحى خلال
الفترة نفسها نحو 17 ألف جريح ومصاب. وقال وزير الصحة الدكتور رياض
الزعنون خلال مؤتمر صحافي عقده في مقر الهيئة العامة للاستعلامات:» إن عدد
الشهداء بلغ 316 شهيداً، منهم 158 شهيداً من الضفة الغربية و 95 شهيداً من
قطاع غزة ونحو 50 شهيداً لم يتم إدراجهم ضمن قوائم الشهداء الصادرة عن وزارة
الصحة، نظراً لعدم تمكن ذويهم من تسجيلهم بفعل ظروف الحصار والإغلاق
وتقطيع أوصال الضفة والقطاع، ودُفن هؤلاء في مقابر قراهم وقرب أماكن سكناهم،
إضافة إلى 13 شهيداً سقطوا داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948م «.
وأشار إلى أن عدد الجرحى خلال الفترة نفسها بلغ 16869 جريحاً، تلقى
9375 جريحاً منهم العلاج في مستشفيات ومراكز صحية في الضفة والقطاع، فيما
تلقى نحو 3190 جريحاً العلاج في مستشفيات ميدانية أقيمت قرب مناطق
المواجهات، إضافة إلى 1600 مصاب من فلسطينيي فلسطين المحتلة
عام 1948م.
وأشار الزعنون إلى أن نسبة الجرحى ممن هم دون سن الثامنة عشرة، بلغت
نحو 40%، أما نسبة الإصابة في الرأس والعين فبلغت 18%، والصدر 20%
ومثلها في البطن، أما الأطراف فبلغت نسبة أصابتها 42%. كما أشار إلى أن نحو
10% من المصابين سيعانون من الإعاقة؛ مما يعني أن عدد المعاقين بلغ 920
معاقاً.
[جريدة الحياة، العدد: (13783) ]
منطق المنهزمين
لو افترضنا أن الجانبين المدني والحكومي امتنعا امتناعاً تاماً عن التعامل مع
الولايات المتحدة، وفي كل مجال، بدءاً من (دجاج كنتاكي) و (همبورجر
مكدونالد) و (مشروب الكوكاكولا) ، وحتى منتجات» بيل جيتس «، والمصانع
الحربية الأمريكية، وهو افتراض أقرب إلى المستحيل، فلن يكون هناك تأثير كبير
على الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي السياسة الأمريكية تجاه منطقة المشرق العربي،
فما بالك حين تكون سياسة المقاطعة قاصرة على قطاعات صغيرة من السكان، أي
القادرين على الاستهلاك، وبلاد قليلة، وقطاعات معينة من الاقتصاد، بل على
العكس من ذلك، في مثل هذه الحالة، سوف نكون نحن في النهاية من الخاسرين،
حين تؤدي مثل هذه السياسة وذاك السلوك إلى عزلنا عن حركة العصر، ومنتجات
هذا العصر المتعولم، والولايات المتحدة أحببناها أو كرهناها هي مركز العولمة
المعاصرة، بل ربما قاطعتنا الولايات المتحدة، فيما يتعلق مثلاً بسلعنا الاستراتيجية،
وهي النفط تحديداً، وحرمتنا من منتجات عصر المعلومات والاتصالات، فنكون
قد جنينا على أنفسنا ونحن نريد النفع، فكون الولايات المتحدة محتاجة إلى نفطنا لا
يعني عدم قدرتها الاستغناء عنه، عن طريق اللجوء إلى بدائل معينة، لكننا نحن
غير قادرين في هذه اللحظة من الزمان على الاستغناء عن القمح الأمريكي مثلاً،
وعلى أقل تقدير. ليس المراد هنا حقيقة هو إجهاض الأحلام، أو إحباط الآمال،
بقدر ما أن المراد هو وضوح الصورة، والحصول على أكبر قدر من المعرفة؛ إذ
بدون ذلك نتحول إلى» دون كيشوت «معاصر، يحارب الطواحين بسيف صقيل
ربما، أو يواجه الليزر بسيف من خشب؛ فالمعرفة هي التي تحدد في المقام الأول
مدى مضاء السلاح المستخدم وفاعليته؛ وإلا فإن الإحباط هو المآل. فنحن في
غالبيتنا، وأرجو أن أكون من المخطئين في ذلك، أمة لا تعني ما تقول، ولا تقول
ما تعني، وهذا ما يفقدها الكثير من المصداقية، والكثير من عدم احترام الذات أولاً،
ومن ثم احترام الآخرين، ومن ضمنهم الولايات المتحدة. المقاطعة حل غير مجد،
وسلاح غير ماض، بل قد تنقلب عواقبه علينا أنفسنا أفراداً وجماعات، بل إنه
يكمن في احترامنا لأنفسنا أولاً وآخراً، فإذا أردنا أن نحقق ما» يجب «فعلينا أن
نعرف أولاً طبيعة الواقع الذي نتحرك في إطاره والغاية، وعندما أقول» أنفسنا «
فأنا أتحدث هنا عن الجميع: أفراداً وجماعات حكومات ومجتمعات.
[تركي الحمد، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8034) ]
آسف.. يا أمريكا! !
أعرب نائب رئيس غرفة المنشآت السياحية المصرية عبد المنعم القيسوني
عن أسفه» لانخفاض عائدات البيع في المطاعم الأمريكية بنسبة 35% في فترة
شهرين «موضحاً أنه ستكون لهذه الحركة مضاعفات على الصعيد المحلي. ونقلت
عنه الصحف قوله:» إنه انخفاض مهم للغاية في قطاعات يعمل فيها 80 ألف
مصري برواتب يبلغ حجمها 30 مليون جينه مصري سنوياً (5. 7 ملايين دولار
تقريباً) ، وتساهم بمبلغ 370 مليون جينه (100 مليون دولار تقريباً) لمصلحة
الضرائب «. وبدوره أكد محمود جبران وهو مدير شركة تقوم بتصنيع مواد
للتنظيف بترخيص من شركة (بروكتر اند كامبل) الأمريكية أن مبيعات الشركة
انخفضت ما بين 20 و 25% بسبب لوائح المقاطعة.
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (264) ]
أحرص الناس على حياة
كشفت صحيفة» هآرتس «الإسرائيلية أن الانهيار الحاصل في العملية
السلمية بين (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية بعث الحياة من جديد في ظاهرة رفض
جنود إسرائيليين الخدمة العسكرية في المناطق الفلسطينية لأسباب ضميرية،
وأشارت الصحيفة إلى أن الظاهرة آخذة في الاتساع وتعيد إلى الأذهان ظاهرة
رفض الخدمة في لبنان إبان احتلاله، وفي المناطق الفلسطينية في الانتفاضة الأولى،
وقد حكم على 350 جندياً بالسجن عقاباً على رفضهم هذا.
[جريدة الحياة، العدد: (13785) ]
اقتدوا بـ.. موسكو فيتش! !
الأسلوب الجديد الذي ابتدعه المليونير اليهودي الأمريكي
(أرفنغ موسكوفيتش) هو الذي يؤسس لمرحلة جديدة من الاستيطان وتطويره في
القدس، والخليل خاصة وسائر الأراضي الفلسطينية، موسكوفيتش يعيش في
الولايات المتحدة ويمتلك مجموعة استثمارية في نوادي القمار أساساً، وقد اقتنع
حديثاً منذ ست سنوات تقريباً بالريادة الاستيطانية في القدس وأهمية تهويدها،
فبحث عن أنجع الطرق واهتدى بمعاونة الجمعيات الاستيطانية المتطرفة إلى
شراء الأراضي أو امتلاكها، مهما بلغت التكلفة والاستثمار فيها ببناء وحدات
سكنية لليهود.
واشتهر اسمه في عام 1997م حينما امتلك قطعة أرض في رأس العامود
المطل على البلدة القديمة وقبة الصخرة بتكلفة عشرة ملايين دولار، وشرع في
إقامة مشروع إسكان يضم 250 شقة وصلت تكلفته إلى 15 مليون دولار، وعرض
الشقق للبيع بمبلغ 120 ألف دولار للشقة الجاهزة، وهو ثلث ثمن الشقة في الأحياء
اليهودية في القدس.
كما أنه لا يتجاوز ثلثي ثمن الشقة في الأحياء العربية حتى تلك التي يمولها
مجلس الإسكان الفلسطيني الذي يدعم إسكان الفلسطينيين في المدينة وتثبيت
عروبتها. ويخصص (موسكوفيتش) مبلغ 100 مليون دولار لشراء عقارات،
من بيوت وأراضٍ في القدس، وآخر صفقاته عرضه على عائلة عربية تسكن غرفة
ونصف الغرفة في البلدة القديمة مبلغ مليون دولار ثمناً للبيت الذي لا يساوي في
السوق العربية أكثر من عشرين إلى ثلاثين ألف دولار، بل إنه عرض مبلغاً
مفتوحاً ولو وصل إلى مليار دولار ثمناً للحرم القدسي بكامله، وامتد نشاطه إلى
الخليل ووصل عملاؤه تقريباً إلى كل بيت في المدينة، وخاصة البلدة القديمة
يعرضون شيكات مفتوحة لبيع بيوتهم أو أجزاء منها، فأصابوا قليلاً وأخفقوا في
معظم مسعاهم إلا أنهم لم يكلُّوا. وبنشاط أقل يقدم المليونير اليهودي الأمريكي
والبلجيكي الجنسية (أدمون سافرا) تبرعات سخية لبناء حدائق في الأحياء اليهودية
في القدس الغربية وفي الأحياء الاستيطانية الأخرى، ويخصص مبالغ أقل من
(موسكوفيتش) ، قدرها عشرة ملايين لهذا الغرض.
من الصعب حصر أسماء المتبرعين اليهود، خاصة أنهم يضخون أموالهم إما
من خلال جمعيات كثيرة أو من خلال تمويل مشاريع خدماتية حكومية أو دينية أو
غيرها كبناء مستشفيات ومرافق أخرى تحمل أسماءهم على لوحات معدنية خاصة
تملأ جدران المستشفيات والمدارس ودور العبادة والحدائق ومشاريع الإسكان
والمتاحف والجامعات والكليات المختلفة، وخاصة المهنية ومراكز البحث العلمي
والعسكري وتطوير شبكات الإنترنت والتقنية العالية» سلكون فالي «المنتشرة في
أماكن مختلفة. تلك هي بعض الأمثلة المتوافرة عن طبيعة التبرعات التي يضخها
اليهود إلى إسرائيل ومستوطناتها التي تأخذ منذ حوالي العقد من الزمن شكل
الاستثمار المشترك أو الحصري مما شجع المستثمرين، وتقدر نسبة الاستثمارات
اليهودية من مجمل الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل بـ 52%.
[مجلة المجلة، العدد: (1086) ]
جهاد المفاوضات
(جبريل الرجوب) الشرطي العملاق لياسر عرفات نما وترعرع في
الأراضي المحتلة ونسج خيوط شبكة من العلاقات التي حملته إلى قيادة جهاز الأمن
الوقائي، وحافظ على العلاقات مع رفاقه الإسرائيليين، ولجبريل الرجوب قناة
مفتوحة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ولقد سألناه السؤال التالي:
س: هناك تقرير أمريكي يتهمكم بالرغبة في مواصلة الانتفاضة حتى إعلان
الدولة الفلسطينية؟
ج: إنه رأي ظالم واتهام باطل لنا؛ فالولايات المتحدة تعلم علم اليقين من
المسؤول عن هذا الموقف المتدهور. وإذا كانت واشنطن تريد أن تضمن أن تظل
إسرائيل جزءاً من هذه المنطقة فينبغي أن تعمل على تحقيق الانسحاب الإسرائيلي
من الأراضي المحتلة، ونحن نأمل على أية حال في الوصول إلى دولتنا
الفلسطينية.. عبر المفاوضات! !
[صحيفة» كورييري ديلاسيدا الإيطالية مترجم]
دولة بلا عقل
البرلمان التركي يبحث الآن مشروع قانون جديد يقضي بطرد الموظفين
الحكوميين من ذوي الميول الدينية، وهو المشروع الذي رفض رئيس الجمهورية
أحمد نجدت سيزر إصداره كمرسوم أثناء العطلة البرلمانية، معتبراً أنه يتعارض
مع روح الدستور والحريات الشخصية.
وينص المشروع في صيغته الحالية على فصل كل موظف حكومي «يتورط»
في علاقات مع جماعات دينية أو نشاطات «رجعية» أو جماعات انفصالية،
وهي إشارات مقصود بها المتدينون والأكراد، ومما أثار الدهشة أن القانون منع
تحت عنوان النشاطات الرجعية عدة أمور بينها: الاستماع إلى البرامج الدينية في
الإذاعة، وعدم الالتزام بارتداء ربطة عنق، وإطلاق اللحية، كما يدين كل من
يعمد إلى الفصل بين النساء والرجال في مجلس الضيوف داخل بيته، وهو ما
يعرف في تركيا بـ «الحرملك والسلاملك» .
كذلك يعرض المشروع للمساءلة كل من ترتدي زوجته أو ابنته أو حتى
شقيقته الحجاب، أو يتردد بشكل دائم على المساجد. أشارت تقارير حكومية إلى أن
القانون سيؤدي في حالة صدوره إلى فصل ثلاثة آلاف شخص من وظائفهم بأجهزة
الدولة، غير أن وسائل الإعلام الإسلامية تشير إلى أن المرشحين للفصل يصل
عددهم إلى 80 ألف شخص. هذا المسعى الذي يستهدف «استئصال» المتدينين
من أجهزة الدولة يمثل حلقة في مسلسل شرير أعده العسكر بالاتفاق مع الأحزاب
العلمانية، احتمى بلافتة الدفاع عن الكمالية والعلمانية، ومارس في حده الأدنى،
أسوأ صور العدوان على الحريات الشخصية في بلد يشكل المسلمون 9% من سكانه.
فمِن منع الحجاب وطرد المحجبات من المدارس والجامعات إلى مطاردة الملتحين،
ذلك بالإضافة إلى الحرب التي أعلنت على التعليم الديني والتي تجاوزت حدود
تصفية مدارس الأئمة والخطباء، إلى عدم الاعتراف بكل الشهادات العلمية التي
حصل عليها الشبان والفتيات الأتراك من أي جامعة إسلامية من مصر إلى ماليزيا.
من أسف أن هذا الغلو العلماني مسكوت عليه من قِبَل منظمات حقوق الإنسان ومن
جانب الجهات الأخرى المعنية بالحريات الدينية، ومعروف كيف أن كل كل تلك
الأطراف تقيم الدنيا حينما تجد أن هناك شبه اضطهاد للمسيحيين في أي بلد مسلم،
حتى وإن كان ذلك صادراً عن أفراد أو جماعة ولا علاقة للدولة به، ولن أتحدث
عن اليهود؛ لأن هؤلاء لا يستطيع أحد أن يدوس لهم على طرف، باعتبار أن لهم
دولة تذود عنهم وتتحدث باسمهم. الأكثر مدعاة للدهشة أن تلك الممارسات البائسة
التي يتعرض لها المسلمون في تركيا لا تجد صدى لدى المؤسسات الإسلامية التي
يفترض أنها تحرس الدين وتغار عليه؛ الأمر الذي يستصحب استنفاراً من جانبها
لمواجهة أي عدوان على المسلمين؛ خصوصاً فيما يتعلق بمعتقداتهم أو التزامهم
الديني، مثلما هو الحاصل في تركيا. إنني قد أفهم لماذا تسكت منظمات حقوق
الإنسان وتغض الطرف عن إهانة المسلمين وإذلالهم وملاحقتهم في تركيا، لكن
الذي لا أفهمه واستغربه حقاً أن تلتزم المنظمات والمؤسسات الإسلامية ذات الموقف؛
فتسكت بدورها، ولا تحرك ساكناً إزاء الإصرار على استئصال الإسلام من تركيا.
[فهمي هويدي، مجلة المجلة، العدد: (1087) ]
اللعبة المملة
قالت صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية أن ما قيمته ملايين الدولارات
من النفط العراقي الذي يباع للشركات الأمريكية يمر عبر الشركات الأوروبية
وغيرها من الشركات الدولية، في ممارسة كشفت عن المستوى المزدوج الذي
يسيطر على العلاقات بين بغداد وواشنطن بعد حقبة طويلة من العقوبات.
وأضافت الصحيفة أن عدداً من شركات الخدمات النفطية الأمريكية مثل
«هاليبورتون» و «باكر هيوز» و «شلوبرجيه» و «فلوسرف»
و «فيش رورمونت» وغيرها استخدمت فروعها وشركاتها في هذا المجال،
بحيث تتمكن من تجنب توتر العلاقات مع واشنطن، وتجميد علاقاتها مع حكومة
الرئيس العراقي صدام حسين.
وتتولى هذه الشركات تقديم عقودها إلى الأمم المتحدة عبر فروع فرنسية تضع
أسماءها على العقود. وتعامل الأمم المتحدة تلك الشركات كشركات أوروبية بدلاً من
طلبات من شركات أمريكية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8012) ]
قلق على البوسنة
الكثيرون من مقدمي المعونات، بما في ذلك الولايات المتحدة والبنك الدولي
والأمم المتحدة، يقولون إنهم سيخفضون معوناتهم للبوسنة العام المقبل بنسبة تصل
في بعض الجوانب إلى الثلث، فيما أعضاء الناتو يتداولون في إحداث خفوضات
جديدة لعدد جنودهم البالغ الآن 20 ألفاً، بعدما خُفِّض أصلاً عن رقمه الأصلي:
32 ألفاً.
وفي المقابل يُعبِّر بعض البوسنيين عن القلق من أن خفوضات كبيرة كهذه،
في المساعدات كما في الجنود، يمكن أن تمهد الطريق مجدداً لإعادة إشعال حرب
كحرب 1992م 1995م: تلك التي صعقت العالم ذبحاً وقصفاً للمدن والمناطق. أما
مشروع إعادة الإعمار الذي فاقت كلفته حتى الآن أربعة بلايين دولار، فاتسم
بالأحكام الخاطئة والفرص الضائعة والهدر المالي، ناهيك عن ضآلة الإنجازات
الصلبة.
فبالقياس إلى البوسنة، خطا جيرانها البلقانيون خطوات أكبر إلى الأمام،
كرواتيا وصربيا أنجزتا قدراً أكبر من الإصلاح السياسي، ومن التعافي الاقتصادي
في حالة كرواتيا، لا سيما مع رحيل رئيسها السابق، واليوم تبدو البوسنة أفقر من
كل بلدان المنطقة ما خلا ألبانيا الشديدة الفقر ويبدو سكانها في حال من الفصل
الإثني شبه الكامل؛ فاللاجئون الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية قليلون جداً، بينما
جيوش الحرب الثلاثة لا تزال تتدرب يحدوها ويحرِّكها عداء واحدها للآخر. وفي
حملة الانتخابات الأمريكية جاء إعلان المرشح جورج دبليو بوش بأنه سيعيد النظر
فيما إذا انتُخب رئيساً في الالتزام الأمريكي بالبلقان أقرب إلى النذير.
[مجلة الوسط، العدد: (463) ]
خذوا حذركم
قالت الحكومة البريطانية إن الشرطة وأجهزة المخابرات تسعى إلى الحصول
على الحق في تسجيل كل مكالمة هاتفية أو رسالة عبر البريد الإلكتروني أو اتصال
من خلال شبكة الإنترنت في بريطانيا. وتريد الجهات المسؤولة عن مكافحة
الجريمة وأجهزة المخابرات في بريطانيا تسجيل كل مثل هذه الاتصالات وتخزين
المعلومات لمدة سبع سنوات في «مخازن بيانات» كبيرة تديرها الحكومة. وقالت
متحدثة باسم وزارة الداخلية البريطانية: إن هذه الجهات «قدمت إلينا وثيقة ننظر
فيها الآن لكن ينبغي التأكيد على أنه لم يتم اتخاذ أي قرار في هذا الشأن» .
وأضافت المتحدثة: نعمل في تقارب كبير مع هذه المنظمات ونريد أن نضمن أن
لديها الأدوات التي تحتاج إليها للتعامل مع الجريمة الخطيرة المنظمة لكن هناك
مسائل مهمة أخرى مثل حقوق الإنسان ستؤخذ في الاعتبار.
[جريدة الدستور الأردنية، العدد: (11974) ]
تفكيك شرعي لإندونيسيا! !
أعلنت حكومة إندونيسيا موافقتها على تطبيق الشريعة الإسلامية في إقليم
(أتشيه) استجابة لطلب الأغلبية المسلمة من سكان الإقليم. وجاء الإعلان في الوقت
الذي شددت فيه الشرطة الإندونيسية الإجراءات الأمنية في الإقليم وقامت قواتها
بنزع مئات من الأعلام واللافتات المطالبة بالاستقلال التي رفعت بمناسبة حلول
الذكرى الرابعة والعشرين لبدء الصراع من أجل استقلال (أتشيه) . وصرح حاكم
(أتشيه) ، عبد الله بوتيه بأن الرئيس الإندونيسي عبد الرحمن وحيد وافق على
تطبيق الشريعة الإسلامية أثناء اجتماع عقد في العاصمة جاكرتا، ويُعتقد أن تطبيق
الشريعة الإسلامية في إقليم (أتشيه) سيكون من خلال إدخال نظام البنوك الإسلامية،
وإنشاء نظام تعليمي إسلامي، وفرض أنماط سلوكية محافظة. وقد أعلن وحيد
عن منح مساعدات مالية للإقليم مقدارها عشرة ملايين دولار، ويذكر أن الرئيس
الإندونيسي كان قد عرض إجراء استفتاء شعبي في الإقليم حول تطبيق الشريعة
الإسلامية.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
الجزائر بين مأساتين
1 - توفر الحكومة الجزائرية منذ إلغاء المسار الانتخابي في مطلع 1992م،
حياة البذخ والترف لنحو ألفي كادر في السلطة في المنتجع الأمني الذي خصص
لحمايتهم، وكلفت هذه العملية أكثر من ألف بليون دينار حسب مصدر رسمي، ولا
يزال النظام الحاكم ينفق أكثر من 60 بليون دينار سنوياً لضمان حماية البذخ لهؤلاء
في حين تجاوز عدد الفقراء في الجزائر في نهاية السنة الماضية أكثر من 14 مليوناً.
موقع جريدة العصر الإلكترونية
www.alasr.ws
2 - في حصيلة عن (كلفة الإرهاب) في الجزائر منذ 1992م أوضح
الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن أكثر من 100 ألف شخص قتلوا بأيدي
مجموعات مسلحة وأن أعمال العنف أدت إلى سقوط مليون ضحية جريح في حين
قدرت الإضرار بـ 20 مليار دولار. كما قد قتل خلال عام 2000م حوالي 2500
شخص.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7473) ]
نهاية أمة
1 - تحدثت وزارة الصحة الروسية عن «كارثة وطنية» تتمثل في ارتفاع
نسبة الوفيات، وتدهور الأوضاع الصحية في البلاد.
ونظرت قيادة الوزارة في تقرير أعده فريق من العلماء برئاسة الأكاديمي
(أوليغ شيبين) الذي قال: إن نسبة الوفيات في روسيا بلغت 14. 7 لكل ألف
نسمة؛ في مقابل نسبة ولادات لا تتجاوز 8. 4 لكل ألف. وإلى جانب
الأسباب الاقتصادية الناجمة عن «الإصلاحات» في السنوات العشر الأخيرة، فإن
الخبراء رأوا أن زيادة الوفيات على الولادات بمقدار الضعف تقريباً، تعزى إلى عقم
زهاء خمسة ملايين امرأة وثلاثة ملايين رجل.
ولا يوجد في روسيا التي يسكنها 147 مليون نسمة سوى 12 مركزاً لمعالجة
العقم فيما يوجد في إسرائيل مثلاً أكثر من 100 مركز. وأكد الوزير يوري
شيفتشينكو أن انتشار الأمراض والوضع الصحي المتردي يقتضي عقد اجتماع
خاص لمجلس الأمن القومي لمناقشة صحة الأمة. وترزح روسيا تحت وطأة ديون
كبيرة كما أنها تنفق مبالغ طائلة على الجيش خصوصاً في ظل الحرب الدائرة في
الشيشان، مما لا يتيح للحكومة الالتفات إلى المشكلات الاجتماعية الناجمة عن
الإصلاحات الاقتصادية التي فرضتها عليها المؤسسات المالية الدولية.
[جريدة الحياة، العدد: (13741) ]
2 - أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادة القوات المسلحة الروسية أن
الأوضاع الحالية للجيش الروسي لا تتناسب مع الأهداف، ولا مع نطاق المهام التي
تواجهه. وقال بوتين في مؤتمر صحفي عقده في موسكو: إن هناك عدداً قليلاً من
القادة العسكريين ممن لديهم الخبرة الميدانية اللازمة في مناصب القيادة العليا، وإن
نحو ثلث قادة الفرق يفتقرون إلى التعليم العالي.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
3 - تعتزم روسيا طلب أموال من الولايات المتحدة لإزالة أسلحتها الكيميائية
رغم أنها أكدت امتلاكها القدرة على الرد على نشر المنظومة الدفاعية الأمريكية.
وذكرت وكالة (إيتار تاس) للأنباء أن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل كاسيانوف
أصدر تعليمات لحكومته لبدء مفاوضات مع الولايات المتحدة بغية الحصول على
أموال ستستخدم في إزالة الأسلحة الكيميائية الروسية من دون تعريض السلامة
للخطر. وأوضح المصدر ذاته أن هذا التعديل سيسمح لموسكو بالحصول على
أموال أمريكية خلال العام 2001م لاستخدامها في عمليات إزالة هذه الأسلحة.
ووقعت روسيا قبل ثلاث سنوات اتفاقية تحظر إنتاج الأسلحة الكيميائية واستخدامها
وتطويرها؛ لكن صعوبات مالية حالت دون تطبيق التزاماتها. وتمتلك روسيا حالياً
حوالي 40 ألف طن من الأسلحة الكيميائية، ويفيد خبراء أنها تحتاج إلى خمسة
مليارات دولار لإزالتها.(159/111)
متابعات
علم الاجتماع.. هل هو مجرد خرافة؟
اعترافات علماء الاجتماع عرض وتقويم
د. رفيق يونس المصري [*]
في عام 1421هـ = 2000م، نَشَر «المنتدى الإسلامي» كتاباً للدكتور
أحمد خضر، بعنوان: «اعترافات علماء الاجتماع» ويقع الكتاب في 322
صفحة، وهو مقسَّم إلى 21 فصلاً، تفصيلها يعطي القارئ فكرة عن مضامين
الكتاب واتجاهاته:
1 - علم الاجتماع: شعوذة الأزمنة الحديثة.
2 - اعترافات علماء الاجتماع في بلادنا.
3 - علم الاجتماع: صياغة دينية لمعتوه فرنسي.
4 - مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع.
5 - أين يلتقي الطهطاوي بعلم الاجتماع؟
6 - الهدف ليس علم الاجتماع فحسب.
7 - علم الاجتماع غبش في التصور وتشوش في النظرية.
8 - علم الاجتماع نزعة علمية مزيفة.
9 - علم الاجتماع رطانة غامضة.
10 - علم الاجتماع كلام عامي.
11 - علم الاجتماع بحوث سطحية وأخرى استعمارية.
12 - الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع.
13 - فهم الإسلام عبر المكتبة الغربية.
14 - رجال الاجتماع ومهمة تفكيك الدين.
15 - لمن تمنح الدولة جائزتها في علم الاجتماع؟
16 - المسلمون الفيبريون (نسبة إلى ماكس فيبر) نموذج آخر لمعاداة
الإسلام.
17 - الصحوة الإسلامية ورجال الاجتماع.
18 - الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية عن الصحوة الإسلامية.
19 - المتدينون والمرض العقلي.
20 - رجال الاقتصاد وثغرة في جدار الصحوة.
21 - هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟
انتقد الكاتب على لسان غيره معظم المشتغلين بعلم الاجتماع، الذين تحولوا
إلى مفكرين بأجر، يبحثون ويكتبون في حدود ما يطلب منهم ويُؤجرون عليه
(ص 27) . ونقل أن هناك فئات لا يستطيع المجتمع أن يعيش بدونها،
كالفلاحين والعمال ورجال الإدارة والجيش، وفئات لا يستطيع أن يتقدم بدونها
كالمهندسين والأطباء وخبراء التكنولوجيا والاقتصاد.
أما علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والنفس والسياسة والإعلام فيمكن للمجتمع
أن يعيش بدونهم ويتقدم (ص 311) ، كما نقل الكاتب اعترافات بعض علماء
الاجتماع بأن الكتب العربية في علم الاجتماع رديئة وسطحية ومترجمة ومستعارة
من مجتمعات أخرى (ص 314) ، ومعقدة إما بقصد الإيحاء بجهبذة فكرية، أو
وهو الغالب لعدم فهم كاتبيها لما ينقلونه من المصادر الأجنبية (ص 316) .
والكاتب أحمد خضر لم أكن أعرفه قبل قراءة هذا الكتاب، مع أننا في مركب
واحد؛ فهو يعمل في حقل الاجتماع، وأنا أعمل في حقل الاقتصاد، وكلانا ينطلق
من الإسلام، ولكنه وصل إلى نتيجة لم أصل إليها؛ فهو قد كفر بعلم الاجتماع،
بأصوله وفروعه، وأنا لم أفعل الشيء نفسه في الاقتصاد.
وإني أشعر بأن الكاتب قد بذل جهداً كبيراً في جمع كتابه، وتلقُّط شواهده؛
ومع أني غير متخصص في علم الاجتماع إلا أنني أحس بأن الكاتب صادق ومحب،
وبالرغم من أنني استفدت من كتابه، إلا أن شكوكاً ساورتني في أن يكون علم
الاجتماع لا شيء، أو أنه مجرد شعوذات، كما يقول، وهناك من يدَّعي مثل ذلك
حيال علم الاقتصاد، وينكر أن تكون هناك مشكلة ندرة، أو مشكلة اقتصادية،
وليس هذا موضوعي الآن، ولكني قد كتبت ردوداً هنا وهناك على من يدَّعي هذه
الدعوى، ويغالي إلى حد تكفير القائلين بالندرة.
وحتى لو سلَّمنا جدلاً بصحة كل ما يقوله د. أحمد خضر، لكن لي عليه مآخذ،
وهي:
1 - كنت أتمنى أن يُخرج ما عنده بالتدريج، وربما بالقطارة؛ ذلك لأن
الجرعة التي قدمها جرعة قاتلة، قلَّما يخلو باحث متعمق مسلم أو غير مسلم من
التعرض لما تعرض له أحمد خضر، ولكن بمقادير مدروسة، قد تأتي صحيحة،
وقد تكون تعبيراً عن استراحة محارب، أما أحمد خضر فقد جاء عياره زائداً على
الحد، وعلى ما يحتمله القارئ والجامعة والمجتمع.
2 - نقل الكاتب عن كل عالم اجتماع بعض مساوئ هذا العلم، ولكنه جمع
هذه المساوئ كلها، من المؤلفين كلهم، في كتاب واحد، ولشخص واحد، وهنا
أذكر مرة أنني اقترحت على أحد العلماء أن يجمع في كتاب واحد فكاهاته المتناثرة
في بطون كتبه الكثيرة، فأبى!
3 - كنت أتمنى ألاَّ يكون ما كتبه حول الموضوع بهذا الحجم، وكان من
المستحسن أن يكتفي بمقالة قصيرة، أو كتيب صغير، لعله يكون أكثر نفعاً وتأثيراً.
إنه يقول بأن علم الاجتماع علم خلافي (ص 118) ، وأرجو ألاَّ يكون هذا
الحكم هو الذي صرفه عن العلم، ونفَّره منه؛ فالعلوم الاجتماعية: الاجتماع
والاقتصاد، وربما الطب أيضاً، كلها خلافية، أو فيها قدر لا يستهان به من
الخلاف، ونحن نلمس آثاره عندما نراجع الأطباء، ونستمع إلى أقوالهم، وهذا
الخلاف موجود حتى في العلوم الشرعية؛ فإن قيل: إن العلوم الشرعية لها أصول
متفق عليها، وسلَّمنا بهذا دون فحص ولا غوص في مطولات الأئمة، فإن الشرائع
تختلف عن العلوم؛ إذ قد يكون فيها قليل من الاتفاق، ولكن العلوم أكثرها أو كلها
ظنية، وكونها ظنية لا يعني أن علينا تركها وهجرها، حتى العلوم الشرعية تعتمد
على الظن، والأنشطة الاقتصادية كذلك، ولم يكن هذا داعياً إلى هجرها، بل
العكس، إن التصدي لها واجب شرعاً وعقلاً، وعلماً وعملاً. وإن متعة الباحث
يجدها في الخلاف، ولا يجدها في الإجماع، وذلك لأجل الموازنة الدقيقة والعميقة
بين الأدلة والحجج والبراهين، ثم محاولة الترجيح بينها، فهذه متعة علمية وعملية،
شاحذة للأذهان، ومدِّربة لها على الاجتهاد، وربما نستطيع بعد ذلك أن ننقل
بعض الأحكام من مجال الشك إلى مجال الظن، أو من مجال الظن إلى مجال اليقين.
وأذكر أن بعض السلف كانوا يقولون: عندنا صناديق من العلم لم تفتح.
فالباحث يتكبد المشقة والمتعة في اكتشاف المجهول وتنمية المعلوم، حتى إذا ما
دفقت عليه المعارف والعلوم كان عليه أن يترفق بنفسه وبغيره، فيخرجها على
جرعات؛ فهذا يحميه من العزلة الشعورية والاجتماعية، كما يحمي مجتمعه
وإخوانه من عزلة مماثلة.
إني أتمنى أن يقوم د. أحمد خضر بجمع كتاب آخر يذكر فيه أفضل علماء
الاجتماع، وأحسن ما عندهم، لا أدري، ولربما يعتبر أن هذا الذي نقله هو أحسن
ما عندهم! وأرجو أن ينطلق في هذا الكتاب المقترح من إسهامات ابن خلدون،
وغيره من علماء المسلمين وفقهائهم ومؤرخيهم؛ فكثيرون يعتقدون حتى من
الغربيين بأن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع، ولم أجد أن الكاتب قد أفرد
فصلاً في كتابه لابن خلدون، ولعله يجمع في هذا الكتاب المقترح «الأشياء
الصحيحة» في علم الاجتماع، التي ذكرها ناشر الكتاب في تقديمه.
أحمد خضر طاقة تفكيرية وتعبيرية، ولكنه يحتاج إلى مدير ناجح لأعماله، أو إلى
مُخرج حاذق؛ فإنه أنكر علم الاجتماع، وأنكر أي محاولة إسلامية لتأصيله،
واستراح. لعلِّي لم أفهم ما يقوله: أحقيقة هو أم إحباط؟ ! وهل هذا الإحباط ناشئ
من العلم نفسه، أم من فرص العمل المتاحة لخريجيه؟ ما أسهل أن يقول الإنسان:
هذا كله حلال، أو هذا كله حرام. إن التفصيل صعب، ولكني أرجو أن يكون هو
الأصوب.
في الكتاب قليل من الأخطاء المطبعية واللغوية، منها في الصفحة الخامسة:
«ضاعت سني حياتنا» ، والصواب «سنو» ، وفي الصفحة 281:
«المتدينون والمرضى العقليين» ، والصواب: «العقليون» ، وفي الصفحة
302: «قبل (....) مفاهيماً ماركسية» ، والصواب: «مفاهيم» بفتحة
واحدة لا بفتحتين؛ لأنه ممنوع من الصرف؛ إذ هو على صيغة منتهى
الجموع.
__________
(*) باحث في الاقتصاد الإسلامي.(159/117)
في دائرة الضوء
نحن والمجتمع المدني حقيقة هذه الدعوة..
وماذا وراءها من أهداف؟
د. أحمد إبراهيم خضر [*]
احتفل العالم العربي احتفالاً بهيجاً بما يُسمى بالمجتمع المدني. ومع كل
الضجة التي أثيرت وتثار حول هذا المفهوم الجديد الذي بدأ يحتل موقعه في بلادنا؛
فإنه لا يهمنا فيه إلا مسألة واحدة وهي: العلاقة بين المجتمع المدني وسلامة البناء
العقدي للمجتمع.
يقتنع كثير من الناس بأن المجتمع المدني لا يخرج عن حدود هذا التعريف
الذي وضعه له سعد الدين إبراهيم وهو: «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة
التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة؛ لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة بقيم
ومعايير الاحترام والتآخي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف، وتشمل
تنظيمات المجتمع المدني كلاًّ من: الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب
والأندية؛ أي: كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو إرثي» [1] .
إن هذا المفهوم في تصورنا قاصر ومخادع، ويجب علينا أن نبحث عن أصوله
وجذوره في البلاد التي نشأ فيها قبل أن يستورد منها ويصاغ في بلادنا بصورة تجعله
مقبولاً.
«المجتمع المدني» مصطلح غامض ومتعدد المعاني، يمكن تطويعه في
خدمة عدة أغراض؛ فهو مصطلح قادر على أن يجمع أي شيء بكل شيء، نشأ
عبر تطور تاريخي طويل يحمل في طياته فروقاً وتناقضات هي السر في غموضه
. وصفه بعض الناس بأنه حساء المتسولين، جمع أعقاب النظريات المختلفة،
والحقب الزمانية المتعاقبة، وأنه تسمية جديدة لأحلام قديمة. وأكد بعض آخر أنه
ذو تاريخ مشبوه نسي الناس بمرور الزمن أنه مجتمع الأرستقراطية، وأنه قد صيغ
لاستبعاد طبقات شعبية معينة، لكنه يُقدم الآن بكثير من الزخرف ليعمِّي بريقُه عن
كل ما عداه، وكأنه الحل السحري لجميع مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية
وغيرها [2] .
ترجع الجذور اللادينية للمفهوم في الغرب إلى (توماس هوبز) الذي رأى فيه
تعبيراً عن انتقال مبدأ السيادة من السماء (الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض
(الحكم على أساس العقد الاجتماعي) ، فأدانته جامعة أكسفورد في عام 1683م؛
لأنه استخلص كل سلطة مدنية من أصل مجتمعي دنيوي ولم يسندها إلى الحق
الإلهي، وجعل هذه السلطة كائناً اصطناعياً أي (إلهاً) من صنع البشر. ويعرَّف
(العقد الاجتماعي) بأنه: «تجريد عقلاني مؤسس على الافتراض أن الفرد هو ذات
مزودة بأداة حرة، وأن المجتمع عبارة عن تعاقد بين مثل هذه الذوات، وأن شرعية
الدولة قائمة على هذا التعاقد وليس على الإرادة السماوية» [3] .
أكد الباحثون عن مفهوم المجتمع المدني في دوائر المعارف، أن كلمة (مدني)
ترتبط بالمواطن، وأن أهم معانيها: غير إكليريكي أي غير لاهوتي، وبمعنى
واضح تماماً: (غير ديني) [4] . أما القانون الذي تسنُّه وتفسره وتطبقه سلطات
المجتمع المدني فهو القانون الطبيعي أو قانون العقل. وقوانين الطبيعة عند دعاة
المجتمع المدني هي قوانين العقل الأزلية. أما (الله) عندهم فهو هذا العقل الذي
يسكن القانون الطبيعي [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً]
(الإسراء: 43) . وعمل العقل الأساسي عندهم هو التقدير والحساب الواعي
لكيفية الوصول إلى أهداف، أما التزام العقل بنظام كوني للأشياء فهذا ليس من
مهامه [5] .
استقبل هذا المفهوم في الغرب بالطبول والزمور، وأصبح سلعة رائجة في
الصناعة الأكاديمية بعد أن اهتزت مفاهيم الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية،
وبوجه خاص بعد تحدي حركة التضامن العمالية التي ضمت ملايين العمال
والمثقفين للنظام في بولندا في نهاية السبعينيات، ولهذا يتحدث الباحثون عما
يسمونه بالمجتمع المدني الأول: ذلك المجتمع الذي سعت إليه النخبة الأوروبية في
القرنين السابع عشر والثامن عشر، والمجتمع المدني الثاني: وهو المجتمع الذي
تبنته في الثمانينيات بعض القوى في بلدان أوروبا الشرقية وبخاصة في بولندا
وأمريكا اللاتينية ثم العالم العربي [6] .
إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم غربي مستورد وُلد ونشأ في ظل الصراع
السياسي والاجتماعي الذي عرفه المجتمع الأوروبي منذ القرن السابع عشر،
وتلازم نشوؤه مع التشكيلة الرأسمالية الغربية، مما يعني أنه مفهوم دخيل على الفكر
العربي والإسلامي ولا تاريخ له في هذا الفكر، ولا زال هذا المفهوم كالجنين الذي
هو في طور التكوين تختلف تفسيراته وتضطرب وتختلط ويسودها الغموض
والضبابية بين المروِّجين له من المثقفين في بلادنا [7] حتى في أشد الدول استهلاكاً
له. ولم يتعرف هؤلاء المثقفون على هذا المفهوم بحد ذاته، وإنما جاء هذا التعرف
عبر اهتماماتهم بالأفكار الماركسية المحدثة القادمة من المجتمعات الأوروبية التي
نشط فيها هذا المفهوم بعد غفوة طويلة، خاصة بعد أن تأكد لهم عدم مصداقية
المفاهيم الماركسية القديمة كالصراع الطبقي وغيرها [8] ، وقد تبناه هؤلاء المثقفون
باعتباره حجر الزاوية في كل ما يعتقدون أنه تحوُّل ديمقراطي حقيقي في البلاد
العربية على حد قولهم. والغريب في الأمر أنهم حاولوا التنقيب عن تماثلات
وتشابهات للمفهوم في التراث الإسلامي، فهداهم تفكيرهم إلى تصور أن الجذور
الأولى لهذا المفهوم ترجع إلى ما يسمونه بـ «وثيقة المدينة» أو «الصحيفة»
التي اعتبروها «دستور المدينة» التي افتتح بها النبي صلى الله عليه وسلم إقامته
في المدينة بهدف تدعيم ما يسمونه بـ «البناء الداخلي الجديد» الذي كان النبي
صلى الله عليه وسلم يضع لبناته الأولى في المدينة، وقد بلغت بهم السطحية
وكراهية الشريعة أن تصوروا أن هذه الصحيفة تبين أن الإسلام ممثلاً في الرسول
صلى الله عليه وسلم قد أدار الحكم وشؤون البلاد وفق صيغ وقوانين وضعية؛ ومن
ثم فإن نظام الحكم في الإسلام متروك للبشر وفقاً لحاجاتهم وظروفهم والعصر الذي
يعيشون فيه [9] .
والذي نتصوره هو أن فكرة «المجتمع المدني» التي يُروَّج لها في بلادنا
اليوم ليست إلا تقليعة أو موضة جديدة ظهرت في غير أوانها على حد تعبير بشارة
أنشئت من أجلها مراكز أبحاث ونشرات إخبارية ودوريات علمية ومؤتمرات
وندوات، تبناها مثقفون علمانيون من أصحاب التطلعات الاجتماعية والطموحات
الشخصية الذين جرفتهم موضة التيار السائد (المجتمع المدني) دون تفكير في
السؤال الهام: لماذا سارع المثقفون الآن إلى تبني هذا المفهوم؟
والجواب في تصورنا للأسباب الآتية:
أولاً: المثقفون نخب مشتغلة بالتنافس على الوكالات؛ فكما توجد حروب
على الحصول على الوكالات الأجنبية في الاقتصاد فكذلك يوجد تنافس بين النخب
الثقافية على وكالات الأفكار، وبخاصة أن مؤسسات المجتمع المدني يتم تمويلها
بأموال المساعدات الغربية؛ فمؤسسات المجتمع المدني تقوم بإرسال أخبار الأوضاع
الداخلية للبلاد إلى الخارج، وتراقب الانتخابات في الدوائر العمالية والنقابات، كما
تستفيد من تقارير هذه المؤسسات وخاصة تلك العاملة في مجالات التنمية والصحة
والمرأة والأقليات في الاختراق المعرفي، أو ما تسميه (ثناء المصري) : اختراق
النقاط المنعزلة البعيدة في جسد المجتمع، وإدماج البلاد في السوق الرأسمالي
وتدعيم عملية التطبيع مع إسرائيل كما كشفت عن جانب من ذلك أحداث مركز ابن
خلدون الأخيرة في مصر. ومما يدعم هذا الرأي أن ثقافة النخبة كما يعترف
أصحابها بأنفسهم ليست واقعاً أو حقيقة صلبة إنما هي متغير معرض دائماً ليد
المصالح الخفية، وحسابات النظام والقوة [10] .
ثانياً: وجد المثقفون أنهم حينما يتحدثون عن المجتمع المدني يتحدثون عن
أنفسهم وعن الطبقات الاجتماعية التي يتواصلون معها؛ لأن الإرادة الخاصة لبسطاء
الناس لا تنسجم مع الرأي العام الذي يمثله هؤلاء المثقفون ويحاولون عرضه على
اعتبار أنه مجتمع مدني، كما أن توافر مستوى معيشي لائق بالجماهير هو شرط
لتطور مجتمع مدني كامل، وهذا الهدف مستحيل التطبيق طالما بقيت هذه الجماهير
في ظروف أدنى من مستوى الفقر، مما يعني بوضوح أنها مستثناة من المجتمع
المدني [11] .
ثالثاً: وهو السبب الأكثر أهمية حيث إنه يكمن في أنهم شعروا بشدة الحاجة
إلى هذا المفهوم لمواجهة الخطاب الإسلامي. يقول بشارة: «إن ازدياد استخدام
المثقفين العرب لمفهوم المجتمع المدني راجع إلى الحاجة لوضع أيديولوجية جديدة
بيد خطاب التحديث الفاشل في الوطن العربي في مواجهة الخطاب الإسلامي، ليس
الهدف إذن فهماً أفضل لآليات تطور المجتمع المدني، وإنما أداة في مكافحة المد
الإسلامي» [12] ، ولهذا قام مثقفونا باستحضار المناقشات الدائرة في العالم الغربي
منذ ثمانينيات الأزمة البولندية عن دور المجتمع المدني في مواجهة الدولة الشمولية،
لعلها تفيدهم في مواجهة المد الإسلامي، ذلك المد الذي حاصر العلمانيين
واضطرهم إلى الهروب إلى أنفاق القومية واليسارية، فلم تسعفهم؛ وبدلاً من
الاعتراف بالإخفاق راحوا يحسمون المعركة في نفق آخر هو نفق
(المجتمع المدني) .
ولا زال أهل هذه الشريحة من المثقفين في بلادنا داخل هذا النفق يتمسكون
بما يسميه (بشارة) بتقليعة المجتمع المدني، وهم موقنون تماماً بأن المفاهيم
المرتبطة بالمجتمع المدني تصطدم تماماً مع قيم المجتمع الإسلامي.
إن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع المدني هو الفرد الجزئي وعليه
يصبح المجتمع المدني تركيبة من أعضاء مستقلين لكل منهم نظرة خاصة للأشياء
ويعمل أساساً من أجل غاياته الخاصة، وينظم الإنسان حياته في المجتمع المدني
ليس على الروابط العائلية وقدسية البنى الاجتماعية وإنما على المصالح الخاصة،
أي على كسر علاقات التعاطف وأصل العائلة، فتكون النتيجة هي قيام مصالح
جزئية متنافرة ليس بينها لغة مشتركة [13] . ويسوِّغ دعاة المجتمع المدني ذلك
بالقول: بأن الجزئي هو نفسه الكلي وأن المصلحة الذاتية للفرد هي نفسها مبدأ
مشترك يصهر الناس جميعاً في بوتقة واحدة [14] .
ومن أهم مقومات المجتمع المدني مبدأ الحرية الفردية والمواطنة القومية،
ويتضمن مفهوم المواطنة القضاء على كل الانتماءات القديمة دينية كانت أم غير
ذلك، كما يتأسس على حق المواطنة حرية المعتقد، وفصل الدين عن الدولة،
وحرية الرأي والتعبير مهما كان مخالفاً لانتماءات غالبية الناس العقدية؛ فعلى كل
إنسان أن يسوي أموره مع (الله) بطريقته الخاصة. وفي هذا المجتمع تختفي
مفاهيم الفرد المؤمن، وغير المؤمن والرجل والمرأة، والحر والعبد، وتستبدل
جميعها بمفهوم الفرد المواطن [15] .
أما العلمانية فهي مفهوم لا ينفصل كلية عن المجتمع المدني؛ بحيث يصعب
الحديث جدياً عن قضايا المجتمع المدني دون تناول العلمانية ليس باعتبارها جزءاً
من منظومات المفاهيم التي تشكل حقل هذا المجتمع المدني وفضاءه، بل لأنها
تشكل الجذر الذي تنحدر تحته كل القضايا المرتبطة به [16] . ويقر العلمانيون بأن
العلمانية في بلادنا لا تمتلك ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص بقدر ما تعبر عن
رفض ما يسمونه بالتصور السلفي الديني، وعن الارتباط الوثيق بين المجتمع
المدني والعلمانية. يقول محمد كامل الخطيب: «فالعلمانية تبدو اليوم أكثر من أي
وقت مضى سبيلاً مفتوحاً، وربما جيداً لإنقاذ المجتمع العربي من تفتته وتخلفه
وربما تبعيته سواء للماضي أو للحاضر الأمريكي الأوروبي، والمجتمع المدني هو
القادر على أن يكون متماسكاً وعادلاً، وفي هذا تعلن العلمانية أنها لم تخفق؛ لأن
في إخفاقها الموت الحضاري وربما الوجودي لهذا المجتمع، ولأن في إخفاقها العودة
إلى مجتمع الملل والطوائف» كما يرتبط مفهوم المجتمع المدني بمفهوم الديمقراطية
التي لا انفصال بينها وبين العلمانية في المجتمع المدني؛ بحيث لا يمكن الدفاع عن
الديمقراطية كما يقول كمال عبد اللطيف بدون الدفاع عن العلمانية، وكما يقول
ناصيف نصار: «الدفاع عن الفلسفة الديمقراطية يكون دفاعاً ناقصاً أو مبتوراً إذا
أسقط من الحساب قضية العلمانية» [17] ؛ فالديمقراطية تقوم على مبدأ السلطة
التعاقدية وتقول بالاختيار العلماني. وتبين مقولة صريحة لعزيز العظمة كيف
نستغل الديمقراطية لنبذ الدين يقول العظمة: «إنه لا امتلاك لأسس الديمقراطية إلا
بانفكاك الفكر والحياة عن الارتهان للمطلق، والتخلي عن محاولات إدغام المستقبل
بالماضي، وترجمة مبادئ ومفاهيم الحاضر المعاصر إلى لغة تنتمي إلى سياق
تاريخي تام الاختلاف» [18] .
يرى العلمانيون أن التمسك بالعقيدة (تعصب) يؤثر سلبياً على العلاقات
داخل المجتمع المدني الذي يفترض التعدد والتنوع وحتى الاختلاف في مقوماته،
ويقولون: «التعصب في جوهره نفي للآخر وإقصاء لرأيه وصوته، وتمركز
حول العقيدة أو الأيديولوجيا والذات يمنع صاحبه من امتلاك أي تصور من الحقيقة
يقع خارجه، وهو يفترض أحادية الحقيقة والانفراد بامتلاكها، كما يفترض تقديم
إجابات جاهزة على الأسئلة المطروحة والإشكاليات القائمة. والتعصب بهذا المعنى
يقتل الحافز للبحث والتفتيش عن إجابات جديدة أو حتى لصياغة الأسئلة القديمة
بأشكال مبتكرة، أي أنه يساهم في تكريس السائد والمعروف والتقليدي، ويصادر
على المختلف والمغيب والمبتكر» [19] . وهذه العبارات تشير بشكل أو بآخر إلى
رفضهم التمسك بالعقيدة؛ لأن هذا التمسك الذي يسمونه (تعصباً) لن يسمح بأي
اختراق لتصوراتهم وأفكارهم التي من شأنها التأثير على البناء العقدي للمجتمع.
وكما لا تنفصل العلمانية عن الديمقراطية في المجتمع المدني فإنها لا تنفصل
كذلك عن (العقلانية) ؛ فجميع هذه المفاهيم دروع مهمتها الأساسية الحيلولة دون
اختراق العقيدة لبناء المجتمع المدني الجديد. وعن العقلانية وارتباطها بالمجتمع
المدني ومقاومتهما للعقيدة يقول دعاة المجتمع المدني إن العقلانية هي: «تحرير
العقل من المسبقات والأوهام والمطلق؛ فالعلمانية إذ تقيم سلطة العقل إنما تعلن
نسبية الحقيقة وتاريخيتها وتغيرها، بل وإمكانات تجاوزها لفتح آفاق وإمكانيات
للمعرفة الموضوعية عبر الانتقال من الأيديولوجيا إلى العلم ومن التبرير إلى
التفسير» [20] .
والذي يهمنا هنا هو أن دعاة المجتمع المدني قد انتهوا إلى حقيقة هامة أوردها
طيب تيزيني على لسانأبو حلاوة اعتبرها جماع القول في مسألة المجتمع المدني
مؤداها: «لا يحسبن أحد أن المجتمع المدني هو الحل الناجز لكل القضايا
والمشكلات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة ومنها مجتمعنا العربي، وهو ليس
مفهوماً خلاصياً أو وصفة يمكن تعاطيها وتداولها من تجاوز الراهن المأزوم إلى
مستقبل، إنه بصيغة أدق: حقل للتنافس وفضاء للصراع، وميدان لعمل القوى
الاجتماعية ذات المصالح والرؤى والمواقف المختلفة بل والمتناقضة» [21] .
والسؤال الآن: إذا لم يكن في المجتمع المدني الحل الناجز لكل قضايانا
ومشاكلنا التي نعيشها، ونظرنا إلى العقيدة على أنها أوهام ومسبقات وارتهان
للمطلق ورفضنا ربط الحاضر بالماضي فأين يكون الحل إذن؟
وإذا كان المجتمع المدني حقلاً للتنافس والصراع، وميداناً لعمل القوى
المتعارضة ذات المصالح والرؤى المتباينة، والكل يعمل فيه من أجل غاياته
الخاصة ولا قدسية فيه للروابط العائلية والاجتماعية؛ فأين ومتى تتحقق وحدة
المجتمع وتماسكه؟
__________
(*) أكاديمي مصري.
(1) تطور المجتمع المدني في مصر، أماني قنديل، عالم الفكر، المجلد 27، العدد: 3، ص97.
(2) تمويل وتطبيع، قصة الجمعيات الأهلية غير الحكومية، ثناء المصري، سينا للنشر، 1998م، ص 165.
(3) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص 245.
(4) المصدر السابق، ص 69.
(5) المصدر السابق، ص 128.
(6) المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، الحبيب الجنحاني، عالم الفكر، المجلد 27، العدد (3) ، يناير مارس 1999م، ص 33.
(7) المثقفون العرب، من سلطة الدولة إلى المجتمع المدني، بو علي ياسين، عالم الفكر، العدد السابق، ص 45.
(8) إشكالية المجتمع المدني، النشأة، التطوير، التجليات، كريم أبو حلاوة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1998م، ص 6.
(9) المصدر السابق، ص 107.
(10) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص238 و 287.
(11) المصدر السابق، ص 121.
(12) المصدر السابق، ص 271.
(13) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص 139.
(14) إشكالية المجتمع المدني، النشأة، التطوير، التجليات، كريم أبو حلاوة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1998م، ص 64.
(15) المصدر السابق، ص 30.
(16) المصدر السابق، ص 12.
(17) المصدر السابق، ص120.
(18) المصدر السابق، ص 129.
(19) المصدر السابق، ص 115.
(20) المصدر السابق، ص 149.
(21) المصدر السابق، ص 8.(159/119)
في دائرة الضوء
عولمة الرأسمالية ورأسمالية العولمة
أحمد عبد الدايم [*]
بدأ العالم منذ فترة يشهد دعاية واسعة لفكر غربي جديد هو (العولمة) ؛ فقد
بدأت رياح هذا الفكر تجتاح بلاد المسلمين؛ حيث صار الكثير من السياسيين
والمفكرين يستخدمون مصطلح (العولمة) ليكون المخرج من الواقع المظلم الذي
تعيشه الأمة؛ ليخرجها من انحطاطها إلى مدارج النهضة.
والحقيقة أن مفهوم (العولمة) ليس مجرد شعار اقتصادي رأسمالي فحسب،
ولا هو وجه من وجوه الرأسمالية المتعددة الأوجه؛ لكنه فكر رأسمالي شامل لجميع
نواحي الحياة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي
وإن كان الوجه الاقتصادي أبرزها.
إن المتتبع للسياسة الدولية يدرك تمام الإدراك أن أمريكا أصبحت هي المهيمن
على السياسة الدولية، بتفردها في الموقف الدولي وفي إدارة مشاكل العالم وتسويتها؛
ذلك أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج أمريكا وحلفائها منتصرين،
راحت تفكر في السيطرة على العالم وتسلك مع حلفائها من الدول الغربية مسلك قائد
المعسكر؛ لأنها كانت تمدهم بالمال والسلاح والمعدات أثناء الحرب، وبعد أن تذوَّق
أصحاب رؤوس الأموال الأمريكان طعم الربح حين راحوا يشاركون بريطانيا اقتسام
النفط في الشرق الأوسط عزمت أمريكا على أن تخرج من عزلتها التي اختطها
لنفسها بموجب مبدأ مونرو؛ وحتى يتم لها ما تريد من السيطرة على العالم وطرد
الدول الاستعمارية التقليدية من مناطق نفوذها في كل من آسيا وإفريقيا، ومع
بروز الاتحاد السوفييتي قوة عظمى رافعاً شعار المساواة والعدل والتحرر من
الاستعمار الأوروبي عند ذلك أدركت أمريكا أنها إذا سارت على الطريقة نفسها التي
سارت عليها الدول الرأسمالية الأخرى فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فكان لا بد من
وضع الخطط والأساليب والوسائل التي تضمن لأمريكا السيطرة على العالم
والانفراد به بوصفها قوة واحدة في العالم، بالإضافة إلى نشر مفاهيم وقناعات المبدأ
الرأسمالي في العالم.
ولذلك عمدت أمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من خلال الرئيس
الأمريكي (ترومان) إلى إجراء مشاورات مع حلفائها بشأن إنشاء منظمة دولية
جديدة تحل محل (عصبة الأمم) التي انهارت بعد خروج ألمانيا منها قُبيل الحرب
العالمية الثانية، ولقد كان الحلفاء حريصين عقب الحرب على مشاركة الولايات
المتحدة في المنظمة الدولية الجديدة بعد الدمار الكبير الذي لحق بهم وبروز الاتحاد
السوفييتي ممثلاً للمبدأ الاشتراكي؛ فقد وافقت هذه الدول على إنجاز جميع
الخطوات والمناقشات المتعلقة بهذه المنظمة، وتم التصويت على إنشائها في (سان
فرانسيسكو) في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر شهر نيسان من عام 1945م
بحضور خمسين دولة، وتمت تسميتها: (منظمة الأمم المتحدة) ، وتم وضع
ميثاقها لحفظ السلام والأمن العالميين من أجل تطوير علاقات الصداقة بين الأمم
القائمة على احترام حقوق الشعوب وتقرير المصير، وحل المشاكل الدولية،
واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية له، وتفرع عن هذه الهيئة العالمية
الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي وهو أهم هيئات المنظمة،
ويتألف من خمسة عشر عضواً خمسة منهم دائمون وهم أمريكا وروسيا وبريطانيا
وفرنسا والصين، وتفرع عنها كذلك صندوق النقد الدولي، ومن أبرز أغراضه
العمل على تحقيق الاستقرار النقدي الدولي وثبات أسعار الصرف، وجعل موارد
الصندوق في متناول الدول الأعضاء بنسبة حصصها فيها لمساعدتها على تقصير
أمد الاختلال في ميزان مدفوعاتها، وقد كانت طريقة إنشائه مصوغة بشكل يؤدي
إلى هيمنة أمريكا على قراراته؛ فقد جعلوا الأصوات التي تتمتع بها الدول تتوقف
على حصتها في الصندوق، ولما كانت حصة أمريكا هي الأكبر (27. 2%) من
رأس المال فإن قراراته كانت قرارات أمريكية.
كما تفرع عنها البنك الدولي للإنشاء والتعمير وأبرز أغراضه إعادة إعمار ما
دمرته الحرب، ومساعدة الدول المتخلفة اقتصادياً، وتقديم القروض والضمانات
لدول العالم النامي.
وفي عام 1947م أسست أمريكا مع 23 دولة صناعية اتفاقية (الجات) وهي
(الاتفاقية العامة على الرسوم الجمركية والتجارة) ، وتهدف إلى تحرير تجارة
السلع الزراعية والصناعية والمنسوجات والخدمات وتحرير التبادلات التجارية
والتدفقات المالية الناتجة عن العقود الحكومية الضخمة، ولما أخفقت (الجات) في
تحقيق ما أرادته أمريكا من إنشائها لأن الاتفاقيات والتوصيات غير ملزمة للأعضاء
استعاضت عنها بـ (منظمة التجارة العالمية) التي رأت النور في مراكش عام
1994م، وبدأ العمل بها 1995م.
فكان (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) هذا
الثالوث هو السلاح الفتاك بيد أمريكا للتفرد بالعالم، إضافة إلى ما تمتلكه من قوة
عسكرية واقتصادية وتقدم تقني؛ إذ إن أول خطوة قامت بها الولايات المتحدة
الأمريكية هي ما أطلقه وزير خارجيتها بشأن إعمار أوروبا بعد أن دمرتها الحرب
العالمية الثانية، وهو ما عرف باسم: (مشروع مارشال) ، خاصة أن ثلثي رصيد
العالم من الذهب البالغ خمسة وعشرين مليار دولار من أصل (38) مليار دولار
موجود في أمريكا.
لقد سعت أمريكا لجعل المبدأ الرأسمالي أساس العلاقات والأعراف والقوانين
الدولية منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة؛ حيث جعلت الأعراف الرأسمالية الأساس
الرئيس لميثاق هذه الممنظمة الدولية، إلا أنها لم تنجح عملياً في تحقيق هذا الهدف؛
حيث كان الاتحاد السوفييتي يقود المعسكر الشرقي على أساس المبدأ الاشتراكي،
وتمكن من فرض مبدئه دولياً وعالمياً، ولقد كانت القضايا الدولية محصور بحثها
بين الدول الأربع الكبرى حتى مطلع الستينيات من القرن العشرين حين التقى
الرئيس الأمريكي (كِنِدي) الرئيس السوفييتي (خروتشوف) في فيينا عام 1961م
واتفقا على إنهاء الحرب الباردة، واقتسام مناطق النفوذ في العالم، وإنزال بريطانيا
وفرنسا عن مكانتهما الدولية، وقد عُرف ذلك بسياسة الوفاق بين العملاقين، وبذلك
انتهت الحرب الباردة التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن أمريكا
كانت تريد القضاء نهائياً على روسيا الاشتراكية؛ ولذلك أعلنت حرب النجوم
وسباق التسلح، واستجابت روسيا لهذا السباق وهذا الصراع إلى أن انتهى بسقوط
الاتحاد السوفييتي وانهياره وتفككه، وكان طبيعياً أن تعتبر أمريكا هذا الانهيار
والسقوط انتصاراً للمبدأ الرأسمالي بوصفه نظاماً وطريقة عيش، وانتصاراً سياسياً
لها.
وبعد انتهاء حرب الخليج الثانية وخروج القوات العراقية من الكويت وقف
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ليعلن على العالم ولادة (النظام الدولي
الجديد) ، ولم يكتف بذلك بل أراد أن يصبح المبدأ الرأسمالي مبدأً عالمياً، أي مبدأ
شعوب الأرض وأممها قاطبة؛ فضلاً عن كونه أصبح المبدأ العالمي الدولي المتفرد
عملياً في الموقف الدولي؛ وبذلك أعلن بوش عولمة الرأسمالية. والعولمة عبارة
عن مصطلح سياسي عرَّفه بعضٌ أنه: (نظام عالمي جديد يقوم على العقل
الإلكتروني، والثورة المعلوماتية القائمة على أساس المعلومات، والإبداع التقني
غير المحدود دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم والحدود الجغرافية
والسياسية القائمة في العالم) ، وعرَّفه آخرون أنه: (القوى التي لا يمكن
السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات المتعددة الجنسية التي ليس لها ولاء لأية
دولة أو قومية) . والحقيقة أن لفظ العولمة آتٍ من العالمية، والعالمية المقصودة
هنا هي عالمية الرأسمالية أي جعل الرأسمالية مبدأ العالم وحضارته سواء سياسياً
أو اقتصادياً أو اجتماعياً، ولتحقيق ذلك عمدت أمريكا إضافة إلى ما سبق إلى
الأعمال الآتية:
أولاً: على الصعيد السياسي:
عملت أمريكا على تسويق الديمقراطية، وهي الإطار السياسي للفكر
الرأسمالي، أي نظام الحكم الذي تطبقه الدول الرأسمالية والدول التي تسير على
شاكلتها، وهي تعني عند معتنقيها أن يحكم الشعب نفسه بنفسه بالنظام الذي يضعه
لنفسه، ولذلك دأبت على دعوة الدول إلى تطبيق الديمقراطية باعتبارها مجموعة
مفاهيم عن الحياة، والدول التي لا تسير في مخططها تمارس عليها شتى الضغوط
بما تملك من سيطرة سياسية وسيطرة على وسائل الإعلام العالمية بفضل الثورة
التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة التي خَطَتْها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من
القرن المنصرم، فتلوِّح لتلك الدول متهمة إياها تارة بمساندة (الإرهاب الدولي) ،
وتارة أخرى بالدكتاتورية أو عدم احترام حقوق الإنسان، وعدم احترام حقوق
الأقليات، ولعل الورقة التي تستخدمها أمريكا للضغط على الصين هي عدم
احترامها لحقوق الإنسان، وهي دائمة التذكير لها بحادثة (تيان آن مين) عام
1988م، وما محاولة أسبانيا محاكمة الدكتاتور التشيلي السابق (بينوشيه) إلا
رسالة إلى من هم على شاكلته من حكام العالم.
ولما كانت أمريكا تريد أن تطبق الديمقراطية بوصفها مجموعة مفاهيم عن
الحياة في واقع الحياة والدولة والمجتمع، وتعمل بجد كي تصبح هذه المفاهيم
مقاييس وقناعات أمم العالم وخاصة الأمة الإسلامية، فقد عملت على إيجاد دول
كرتونية ترفع شعار الإسلام وتدَّعي أنها تطبقه، وهي في الحقيقة لا تطبق منه إلا
بعض الأحكام وبشكل مُشوَّه إلى أن جعلت الناس يضيقون ذرعاً بهم.
وفي الوقت نفسه تقوم بدعم الاتجاهات العلمانية في البلاد الإسلامية سواء من
خلال الأنظمة، أو من بعض من يُقدَّمون للناس على أنهم إصلاحيون؛ وفي الحقيقة
هم علمانيون يعملون لإخراج الإسلام من المجتمع، ويعملون على تعميق مفاهيم
الرأسمالية والحضارة الغربية في المجتمع، ويرسخونها في العلاقات كما هو حاصل
اليوم في إيران وباكستان، وكما حصل من قبل في تركيا وبقية بلاد المسلمين.
وكذلك تسعى أمريكا إلى تغيير هيكلة الدولة لتصبح دولة مؤسسات، وتصبح
الحكومة مؤسسة صغيرة يقتصر عملها على الأعمال الدبلوماسية، وتملك جيشاً
صغيراً ودوائر أمنية وهيئات استشارية تعمل جميعاً لخدمة القطاع الخاص، وإذا
أرادت الحكومة أن تقوم بعمل مالي فيجب أن تتساوى مع أية مؤسسة أخرى؛
فتُعامل معاملة القطاع الخاص.
وبعبارة أخرى أن تصبح الحكومة إحدى مؤسسات الدولة المتخصصة ومهمتها
الحكم بشكل رئيسي؛ فهي تحكم ولا تملك وأما بقية المؤسسات فهي تملك ولا تحكم.
ثانياً: على الصعيد الاقتصادي:
أما اقتصادياً فقد وضعت الخطط والأساليب وبدأت بتنفيذها بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية حتى استطاعت أخيراً أن تُحكِم قبضتها على العالم وتصرِّف أموره
وتحل مشكلاته بالطريقة التي تتناسب مع خططها الاقتصادية وهي حرية التجارة
وحرية السوق، وجعل العالم سوقاً حرة للمنتجات الأمريكية. وحتى تضمن انفتاح
الأسواق العالمية أمام تجارتها وصادراتها عملت على تطويق تحركات شركائها
الرأسماليين الأوروبيين (السوق الأوروبية المشتركة) ببناء تكتلات وتجمعات
تجارية جديدة وإحياء الاتفاقيات القديمة وتنشيطها، فأوجدت اتفاقية (النافتا) وهي
اتفاقية بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك، ثم عمدت إلى إيجاد اتفاقية (الإيباك)
وهي اتفاقية ظهرت إلى الوجود سنة 1989م، وهي تضم سبع عشرة دولة في
عضويتها موزعة على ثلاث قارات، وهذه الدول هي: الولايات المتحدة، كندا،
المكسيك، أستراليا، نيوزيلندة، الصين، اليابان، هونج كونج، غينيا الجديدة،
تايوان، بروناي، ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، الفلبين، كوريا الجنوبية،
تايلاند، وهذه المنظمة الاقتصادية الدولية تدمج في عضويتها تكتلين اقتصاديين
كبيرين هما: منظمة (النافتا) لدول أمريكا الشمالية و (الآسيان) لدول جنوب
شرق آسيا التي تأسست عام 1967م وتضم ست دول هي: ماليزيا، إندونيسيا،
بروناي، الفلبين، تايلاند، وسنغافورة، وتمثل الإيباك في دولها نحو 40% من
التجارة العالمية، هذا بالإضافة إلى الدول الصناعية السبع الكبرى وروسيا التي
أضيفت إليها عام 1998م، وهي أمريكا وكندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا
وإيطاليا؛ حيث اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من نادي هذه الدول الغنية أداة
لصنع القرارات الاقتصادية والمالية والتجارية الدولية.
ولقد ظلت اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية) هي
المرجعية للتجارة الدولية، وكانت تلتزم بها جميع دول العالم تقريباً؛ ولكون هذه
الاتفاقية تقتصر على تنظيم العلاقات الاقتصادية والتجارية الداخلية فإن أمريكا
وجدتها غير كافية لتحقيق أغراضها، فعملت على إيجاد اتفاقية بديلة لها على هيئة
منظمة سمَّتها: «منظمة التجارة العالمية» أُعلن عن تأسيسها في المغرب عام
1994م، وبدأت العمل الفعلي بداية عام 1995م، وقد أضافت إلى اتفاقية الجات
التي ركزت على المنتجات الصناعية المنتجات الزراعية، والخدمات، وحقوق
الملكية الفكرية، والأهم من ذلك أن المنظمة تضمنت مجلساً تحكيمياً للنظر في
الشكاوى والخلافات بين الدول الأعضاء وعددها 135 دولة، وإصدار قرارات
ملزمة في وقت كانت (توصيات) الجات غير ملزمة.
ومع هذه المنظمة صارت أسواق العالم أو الدول التي انضمت تحت لوائها
مفتوحة أمام المستثمر الأمريكي، ولعل ما أعلنه الرئيس الأمريكي السابق بيل
كلينتون بتاريخ 8/3/2000م عن تقديمه مشروعاً إلى الكونجرس بمنح الصين
امتيازات تجارية دائمة في السوق الأمريكية، وطلب الموافقة على هذا المشروع
لضمان استفادة الشركات الأمريكية من اتفاق التجارة الذي سيفتح سوق الصين
الواسعة (1. 3 مليار) أمام الشركات الأمريكية، وأمريكا دائمة الحث للصين
للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وحالياً تفاوض الصين الدول الأعضاء في
المنظمة من أجل الانضمام إليها.
وقد عقد المؤتمر العاشر للأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في
العاصمة التايلاندية بانكوك في الفترة ما بين 12 18 شباط (فبراير) الماضي
بمشاركة (3000) ثلاثة آلاف مندوب عن أكثر من 190 دولة، أما الأهداف التي
عمل على تحقيقها فهي تتلخص في دفع الدول الفقيرة للحاق بركب العولمة من
خلال الالتزام بمنظمة التجارة العالمية وخرج المؤتمر بوثيقتين:
الأولى عبارة عن برنامج عمل للسنوات الأربع القادمة، وهي تضع أرضية
مشتركة0 بين أعضاء (الأونكتاد) وعددها 190 دولة بشأن العولمة والتجارة
وكيفية دمج الدول الثماني والأربعين الأكثر فقراً في عجلة الاقتصاد الرأسمالي
العالمي.
والوثيقة الثانية كانت بشأن التجارة الحرة والتكامل الاقتصادي العالمي
بوصفهما طريقاً لموازنة التنمية والوصول إلى اتفاق أكثر عدلاً بالنسبة
للدول الفقيرة.
والدول التي لا يمكن السيطرة عليها من خلال منظمة التجارة العالمية فإن
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي جاهزان للتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة؛
لأن الدول النامية تأخذ القروض وتعجز عن سدادها، سواء القرض الأصلي أو
الفوائد المركبة، فإنها تطلب من تجمُّع الدول الدائنة المسمى بـ (نادي باريس)
وتجمُّع البنوك الدائنة المسمى بـ (نادي لندن) جدولة الديون وأخذ قروض جديدة
لتنشيط اقتصادها، ولذلك يطلب منها ناديا باريس ولندن أن تحضر تزكية من
صندوق النقد الدولي بما يشبه شهادة (حسن سلوك) بأن هذه الدولة تنتهج سلوكاً
اقتصادياً سليماً.
ولكنها للحصول على ذلك يشترط الصندوق عليها تنفيذ برنامج إصلاحي
مكون عادة من تخفيض قيمة العملة، وإلغاء الدعم الأساسي للسلع الأساسية
والضرورية، وتخفيض التوظيف الحكومي، وإصلاح النظام الضريبي، وتخفيض
الإنفاق الحكومي، وزيادة أسعار الطاقة والخدمات العامة والسلع بشكل عام، وزيادة
أسعار الفائدة لتكثير الادخارات وجلب رؤوس الأموال، وتحرير التجارة الخارجية
من القيود أو تخفيفها، كما تطلب خصخصة المشاريع العامة وتحويلها إلى القطاع
الخاص بحجة ضعف إدارة القطاع العام وسوء إنتاجيته وفساد القائمين على إدارته
كما يحدث في الأردن من خصخصة 40% من أسهم الاتصالات الأردنية،
والمباحثات جارية لخصخصة شركات الفوسفات والأسمنت والبوتاس والملكية
الأردنية إضافة إلى وزارة الإعلام؛ حيث سيصار إلى إلغائها.
والأمر الخطير هنا أنه إذا فتحت أسواق بلد ما وسارت أموره حسب سياسات
السوق وحرية التجارة من وجهة نظر الرأسمالية فحتماً ستكون الغلبة في النهاية
للمستثمر الأجنبي وللشركات المتعددة الجنسية؛ بحيث تسيطر هذه الشركات على
الاقتصاد سيطرة تامة، ويكفي أن نعلم أن 37 ألف شركة عملاقة تسيطر على
معظم الاقتصاد العالمي من بينها مائة واثنتان وسبعون شركة تسيطر على خمس
دول هي أمريكا واليابان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وتقوم الحكومات بمساعدة هذه
الشركات على اختراق الاقتصاد العالمي والسيطرة عليه، حيث ارتفعت المبيعات
فيما بين عامي (1982م 1992م) من 3000 مليار دولار إلى 5900 مليار
دولار.
ولأن النظرة الرأسمالية هي في حقيقتها نظرة فردية فإن الفقر المدقع سيعم
أرجاء أية دولة من دول العالم النامي بما فيها بلاد المسلمين، وستكون الشعوب هي
الضحايا التي سوف تعاني باستمرار لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وباعتبار
أمريكا نموذج العولمة تقول الإحصاءات إنه بين عامي (1979م 1990م)
انخفضت دخول 20% من أفقر عائلات أمريكا بنسبة 20%، بينما ارتفعت دخول
20% من أغنى عائلات أمريكا بنسبة 30%، وتقول الإحصاءات أيضاً إنه في عام
1998م كان في أمريكا 170 ملياردير مقابل 13 ملياردير عام 1982م، ويقول
أحد هذه التقارير إن ثروة (بيل جيتس) وحده مؤسس شركة ميكرو سوفت
للكمبيوتر بلغت في وقت من الأوقات ما يعادل صافي ثروات 106 ملايين مواطن
أمريكي أي ثلث السكان تقريباً.
ثالثاً: على الصعيد الاجتماعي:
أما اجتماعياً فإن أمريكا تعمل بجدٍّ لفرض نمط الحياة الغربية على العالم،
ولذلك اتخذت من مؤتمرات المرأة والسكان والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان
والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقيات حماية البيئة والتنمية
المستدامة، أسلوباً مباشراً لفرض مفاهيمها حول الأسرة والزواج وحقوق المرأة
وحقوق الطفل والعلاقات الجنسية والإجهاض والشذوذ وكل ما يتصل بالناحية
الاجتماعية في الحياة، وأطلقت من خلالها الدعوات لدول العالم من أجل رفع
تحفظاتها على توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل واتفاقية إلغاء جميع أشكال
التمييز ضد المرأة، وهما وثيقتان خطيرتان تهددان استقرار الأسرة ومستقبلها في
العالم أجمع، وتتوالى الاجتماعات في نيويورك من أجل التأكد من مدى وفاء الدول
والمنظمات غير الحكومية والقطاعات الخاصة بالتزاماتها بمقررات هذه المؤتمرات
والاتفاقيات.
وكمثال واضح على كيفية استخدام أمريكا لهذه المؤتمرات وفقاً للأهداف
الأمريكية فإنها في أبحاث السكان والمرأة والتنمية تنطلق من فكرة الانفجار السكاني؛
حيث تنظر في بحوث التنمية إلى دَوْر ربة البيت على أنه دور استهلاكي أكثر
منه إنتاجي، ولذلك يبحث القائمون على هذه البحوث عن تشريعات تسهِّل عمل
المرأة، ويركزون على تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة، وإيجاد نظرة جديدة
وأنماط سلوكية جديدة في حياة الأسرة، ثم ينتقلون إلى وجوب أن تكون زيادة عدد
السكان أقل من التنمية الاقتصادية، ويعملون لتحقيق ذلك من خلال مؤتمري السكان
والمرأة في محاولة للوصول إلى قرارات بشأن تأخير سن الزواج، والسماح
بتعاطي الجنس بغير قيود، وتقليل الإنجاب بالتوفير المجاني لوسائل منع الحمل.
كما أكدت الوثيقة التي انبثقت عن مؤتمر (بكين) على حرية الإنسان في تغيير
جنسه، وعلى حق الفتاة أو المرأة بالتمتع بحياة جنسية آمنة مع من تريد وفي أي
سن تريد، وفي الخامس من شهر حزيران الماضي (2000م) عقد في نيويورك
مؤتمر لتقييم التقدم المنجز في تطبيق مقررات مؤتمر المرأة الثالث الذي عقد في
نيروبي عام 1985م ومراجعته، ولعل ما قامت وتقوم به الحكومة الأردنية
والمصرية والمغربية والكويتية وغيرها من الحكومات في البلاد الإسلامية في هذا
المجال يدل دلالة قطعية على السير الفعلي الذي تنفذه الدول النامية من مقررات
المؤتمرات والاتفاقيات سابقة الذكر من منظور أنها استحقاق لسياسة العولمة التي
يفرضها الغرب الكافر بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي الأردن على سبيل المثال تم تغيير قوانين المالكين والمستأجرين، وقانون
العمل، والخدمة المدنية، وتعليمات الأحوال الشخصية، وجوازات السفر،
والسماح للجنسين بالاختلاط في المسابح، كما تم إدخال مفهوم النوع الاجتماعي
(الجندر) في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعامي (1999م 2000م) ،
والقاضي بعدم تخصيص فصل خاص بالمرأة، ودمج قضاياها ضمن فصول الخطة
وقطاعاتها المختلفة ضماناً لتكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في كافة المجالات،
وما تقوم به المنظمات الحكومية أو غير الحكومية بشأن إلغاء المادة 340 من قانون
العقوبات، ومراكز تحديد النسل وتنظيم الأسرة، وشرطة الأسرة والخط الساخن
للشكوى على ذوي الأمر اللذيْن أُنشئا مؤخراً؛ كل ذلك إنما يدل على طبيعة
التغييرات الاجتماعية التي تريد الولايات المتحدة فرضها على العالم ومنه البلاد
الإسلامية باعتبار ذلك نتيجة واستحقاقاً لعولمة المبدأ الذي تقوم عليه.
فإذا نظرنا إلى العولمة باعتبارها غزواً فكرياً ومواجهة حضارية بل فرضاً
لنمط من العيش فإن آثاره المدمرة لا تزال كامنة في الشعوب التي تعيشه وتحياه،
ولا يزال المشرِّعون الذين شرَّعوا أفكاره وأحكامه مشغولين في تشريع الأفكار
والأحكام التي تُرقِّع ما أحدثه هذا النمط من العيش من مآس للبشرية، ومن شرور
ترزح تحتها الشعوب التي تعتنقه وتطبقه في حياتها ولا تملك منه فكاكاً بعد أن
أصبح لهذا النمط في بلادهم من العراقة ما يجعل الانفكاك منه أمراً في غاية
الصعوبة.
وغني عن القول أن مواجهتها ومواجهة ما يتساقط منها من أفكار ومشاعر
وأنماط سلوكية خصوصاً في ظل وسائل الاتصالات الحديثة وإمكانياتها الضخمة لا
يكون إلا إذا أدركت الأمة خطورتها عليها وعلى دينها وعلى مستقبل أجيالها من
بعدها، وأدركت في الوقت نفسه كيفية مواجهتها، ووثقت بنفسها ثقة لا حد لها،
ليس لتخليص نفسها فحسب من هذه الشرور، بل لإنقاذ العالم كله وتخليصه من هذا
المبدأ الخطر على الإنسان والمهدد بقاءه على الأرض بالفناء.
ولا شك أن المخلصين الواعين من أبناء هذه الأمة وهم المبصرون طريق
الخلاص وطريق الانعتاق من قبضة الكفر هم المعوَّل عليهم في شق الطريق وهداية
الجموع المؤمنة لتسير معهم في اجتثاث هذه الحضارة النتنة من جذورها، وتخليص
العالم من آثارها المدمرة التي لا تزال تعاني منها البشرية حتى اليوم.
__________
(*) كلية الدعوة وأصول الدين عمان الأردن.(159/123)
قضايا ثقافية
بين الثقافة والعرف
جمال سلطان
يمثل مصطلح (الثقافة) واحداً من أشهر المصطلحات التي عرفها الفكر
الإنساني في تاريخه المعاصر؛ وذلك على الرغم من أنه مصطلح حديث نسبياً،
ولم يعرفه الفكر القديم بتلك الدلالات التي حملها في القرن الميلادي الأخير، وعلى
الرغم من ذلك فإن معظم من كتبوا عن هذا المصطلح وتاريخه أجمعوا على صعوبة
وضع تعريف واضح ومحدد له، وهذه هي آفة المصطلحات المعاصرة بشكل عام،
وربما كان الأمر فيه قُصد قصداً؛ حيث تفعل مساحات التطاوع والغموض في
المصطلح فعلها الكبير في إمكانيات توجيه المصطلحات إلى غير ما وِجهة، وبحيث
يكون لها عند كل فريق معنى، وبطبيعة الحال يكون من يملك الإمكانيات التسويقية
والإعلامية الأكثر هو الأكثر قدرة على تسويق المعنى الذي يريد والإيحاءات التي
يرغب.
ومن أجل ذلك حذَّرتُ وحذَّر كثير من الناصحين في (الفكر الإسلامي) من
خطورة التسليم بالمصطلحات الوافدة، وخطورة أن نخلي لها في خطابنا الدعوي
مكاناً أو ركناً، والأخطر أن نستبدلها بمصطلحاتنا التراثية والعلمية الأصيلة التي
ضُبطت وحُررت واختُبرت على مر القرون حتى ضبطت لنا معالم الشريعة وعالمنا
الفكري الإسلامي. ولا يمكن التساهل في هذا السياق وفق مقولة: «لا مُشاحَّة في
المصطلح» ؛ إذ إن هذه وإن كانت كلمة حق إلا أنها توضع في غير مكانها
وتاريخها وسياقها، بل إن أصل النزاع الحضاري الآن إنما مفتاحه ومدخله هو
المصطلح؛ فكيف لا تكون فيه مشاحة ومنازعة؟ !
وبعيداً عن هذا الاستطراد الضروري نعود إلى مصطلح (الثقافة) فنجد أنه
حمل أكثر من معنى وأكثر من دلالة؛ فهناك من وَجَّهه وجهة المعرفة والعلم؛
فكانت الثقافة عنده أن تعلم شيئاً عن كل شيء؛ بحيث تكون لك رؤية موسوعية ولو
سطحية عن مختلف الأفكار والآراء والعلوم والمعارف والفنون والآداب ونحو ذلك،
وهناك من جعلها دلالة نخبوية بمعنى أن المثقف هو من استجمع بعضاً من قيم
وخصوصيات فكرية وفنية رفيعة في المجتمع، وهناك من جعلها دلالة على مجمل
القيم العامة في المجتمع والسلوك الإنساني فيه، وهي تلك القيم الحاضنة للنمو
الاجتماعي وتواصل الأجيال وفق أذواق معينة ومفاهيم إنسانية وأخلاقية معينة،
وهذا هو الأكثر قبولاً في أوساط دارسي المصطلح، وهو الألصق بالاشتقاق اللغوي
للمصطلح في كثير من اللغات الأوروبية المعاصرة، حيث تشتق الثقافة من مادة
الحرث والنماء (CULTUER) ، وفي تقديري أن هذا هو التوجيه الأكثر دقة،
والأكثر قرباً وضبطاً لمصطلح الثقافة، وهو الأكثر قرباً من الإطار الإسلامي كذلك؛
لأنه يعطي دلالة أقرب إلى مفهوم (العرف) [1] في السياق الإسلامي، ومن
المعروف أن (العرف) معتبر لدى الجمهور من الأصوليين، بوصفه مصدراً من
مصادر التشريع، له حجيته وإلزاميته في بعض القضايا والأحكام، وقد خرَّج
بعضهم على ذلك قاعدة: «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً» ، ولعل هذا الربط
بين دلالة مصطلح الثقافة ومصطلح العرف إن صح وجاز؛ يعطي ثقافة المجتمع
موقعاً شديد الحساسية والخطورة في الوعي الإسلامي المعاصر، ويكشف الغطاء
عن محاولات التزوير والتخدير التي تمارس ضد العقل الإسلامي لحرمانه من
ممارسة واجبه المشروع في حماية ثقافته من عمليات الاختراق الأجنبي
المتنوعة؛ حيث شاعت في العقود الأخيرة الكتابات التي تهزأ من الحديث عن
(الغزو الثقافي) ، والأخرى التي تنفي وجود شيء اسمه (الغزو الثقافي) ، وتحاول
أن تربط ذلك بالتشدد أو التطرف الديني أو العنصرية القومية أو ما شابه ذلك
من اتهامات وتلويحات، يحدث ذلك على الرغم مما تحمله لنا التقارير والأخبار
من حالات سخط واستنفار في دوائر المثقفين والأجهزة الرسمية في بعض الدول
الأوروبية مثل فرنسا ضد ما يسمونه «الغزو الثقافي الأمريكي» ؛ وذلك من
خلال المسلسلات والأفلام والمطاعم الأمريكية وغيرها التي تصبغ المجتمع بصبغة
غريبة وطارئة، وتمزق العرف العام في المجتمع وتشوه الأجيال الجديدة، وهذا كله
صحيح بالنسبة لفرنسا، ولكنه أكثر صحة وخطراً بالنسبة لنا نحن المسلمين؛
وذلك أن أواصر القربى بين الثقافتين الأمريكية والفرنسية أكثر من أن تحصى، فإذا
كان الفرنسيون يفزعون من الغزو الثقافي الأمريكي، وهم على هذا الوجه من
القربى؛ فكيف بنا ونحن على النقيض من الثقافة الأمريكية قيماً وأخلاقاً ونظام
حياة وسلوكاً أسرياً وديناً وحضارة؟ !
إن (الثقافة) أو (العرف) إن شئنا الدقة هو البوتقة التي تنصهر فيها
فعاليات البشر في المجتمع، وهي ماء الحياة فيه؛ لأنها تمنح الناس الحساسية
الإنسانية تجاه الذوق الاجتماعي وتجاه محددات (العيب) ، و (الجائز وغير
الجائز) من السلوك.
إن الناس قد ينسون الأصل الشرعي لحرمة الفعل أو عيبه أو نكرته، ولكنه
يبقى في وعيهم أن هذا عيب أو حرام أو منكر. وعندما يقع التشتت والتمزق في
الوعي الثقافي يتبعه التمزق في النسيج الاجتماعي، والتمرد على القيم والتقاليد
الحافظة لتَواصُل المجتمع ونقائه ومجمل أخلاقه؛ ولذا فلا غرو في أن الغزو الثقافي
يؤثر جوهرياً في الأصل العام في الإسلام ألا وهو «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر» ؛ وذلك أن (المعروف والمنكر) رغم أنهما ينبعان من الأصل الديني
مباشرة إلا أنهما في غالب السلوك الاجتماعي وعي ثقافي عند العامة بشكل أساس،
وعرف عام تغلغل في نسيج المجتمع، وعندما يضعف إلمام الناس بالشريعة
وعلومها وحججها يبقى هذا العرف الاجتماعي أو «الثقافة» التي تصبغ نسيج
المجتمع وعفويته تبقى هي الحافظة لمعنى المنكر والمعروف. صحيح أن بعضاً من
الخلط والانحراف يقع، وهذا أمر محتوم، ولكن يبقى أن النسيج العام للمجتمع
يعرف المعروف وينكر المنكر.
ولعل القرآن الكريم قد ضرب لنا مثلاً واضحاً في خطورة التخريب الثقافي
الذي يصل إلى حد الانقلاب في العرف العام في المجتمع من خلال قصة «قوم لوط»
ومقولتهم العجيبة: [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ]
(النمل: 56) ، ولعلنا نرى الآن في بعض الدول الأوروبية كيف أن العرف قد
انتكس بالفطرة الإنسانية إلى قريب من هذا الدمار الذي حدث مع قوم لوط في أخلاق
الناس وفوضى السلوك الاجتماعي، وينبغي أن نتذكر جيداً أن هذه الانتكاسات لم تأت
عبر خطب أو بيانات أو إقناعات مباشرة أو منطق مفترض، وإنما أتت عبر
عمليات التآكل المستمرة في القيم والأعراف، والتي تؤدي مع الوقت إلى اختراق
«ثقافة المجتمع» وإفقادها مناعتها وحصانتها، وبذلك تخرج أجيال جديدة متمردة
ومفرغة من كل قيمة أو وعي رشيد؛ فإن استمر هذا التفريغ انتهى الأمر إلى انتكاسة
الفطرة بكاملها، أو أن يقيض الله للمجتمع من يوقف هذا الانهيار ويجدد عهد الناس
بالقيم والدين منبع العرف في المجتمع الإسلامي والبوتقة التي تنصهر فيها كل
فعاليات المجتمع المسلم على مر التاريخ لتتحول إلى وعي ثقافي عام يطبع نسيج
المجتمع بطابعه، بل يصبح هو نسيج المجتمع ولُحْمته.
ويبقى أن نشير إلى باب آخر من أبواب الغزو الثقافي ينبغي التحذير منه في
هذا السياق، ألا هو الحديث الشيق الطريف عن «العالم الذي أصبح قرية واحدة» ،
وهي المقولة التي تنسرب الآن في المقالات والكتابات حتى الإسلامية منها مع
الأسف غير منتبهة إلى أنها مزلق يُستغل لتخدير الوعي الإسلامي وشله عن
المقاومة للغزو الثقافي، بل لإصابته باليأس أصلاً باعتبار أن الطوفان التغريبي قدر
مقدور، ولأن العالم أصبح قرية واحدة؛ فكيف نستطيع أن نتحوط منه ونتحصن
ثقافياً وقيمياً؟ ! ورغم أننا في هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة نجد في أمريكا
وبريطانيا وألمانيا وفرنسا العديد من حالات مصادرة الكتب أو المحاكمات على
أفكار نشرت، وحظر برامج تلفزيونية أو حتى حجب مواقع على الإنترنت، وهذا
يعني أن العالم لم يكن قرية واحدة ولن يكون، صحيح أن قدرات التواصل مع ما
يدور في العالم أصبحت أكثر وأوفر، ولكن تبقى هناك حواجز مهمة وخنادق يمثلها
قوة العرف في المجتمع وحيويته الثقافية بما في ذلك حضور الدين حياً وفاعلاً في
ضمير أجياله الجديدة.
__________
(1) مع ملاحظة أن العرف أقرب إلى العمل، والثقافة أقرب إلى العلم.(159/129)
مصطلحات ومفاهيم
التنوير
د. محمد يحيى
مصطلح «التنوير» هو النموذج الأشهر أو (الكلاسيكي) في هذه الفترة
لأسلوب عهدناه في عملية التعاطي مع الغرب ومفاهيمه الفكرية ومصطلحاته، ألا
وهو انتزاع المفاهيم والأفكار والمصطلحات من بيئتها الثقافية وسياقها التاريخي
والحضاري المخصوص الذي نبتت فيه ويحدد دلالاتها، ثم زراعتها تعسفاً في بيئة
ثقافية وسياق اجتماعي وعقيدي مغاير لها إن لم يكن مناقضاً.
والحق أن كشف هذا الأسلوب في النقل قد يكون أكثر أهمية في تصوري من
محاولة وضع التعريفات لمصطلح التنوير أو غيره؛ لأننا سنظل ندور في حلقة
مفرغة من التعريف، ثم إعادة التعريف إلى ما لا نهاية إن لم ندرك السياق الأوسع
الذي تجري فيه التعريفات، وكيف يتحكم هذا السياق في تعريف المصطلحات
ورسم ظلالها ودلالاتها، وتحديد مضامينها الخاصة والدقيقة والمتغيرة وتغيير هذه
المضامين، وتحديد النظرة السلبية أو الإيجابية لتلك المفاهيم؟
والأسلوب الذي أعني هو أن الفكرة أو المفهوم الذي هو ابن البيئة التاريخية
والثقافية في الغرب، والمتمثل في رد فعل لأوضاعها وتجاربها الخاصة يعد في فكر
الفلاسفة المدققين عندهم اصطلاحاً خاصاً ونسبياً تقتصر انطباقيته على أوضاعهم.
غير أن الناقلين عندنا من أوساط العلمانيين والمتغربين يأخذون الفكرة والمفهوم
والمصطلح الغربي المنشأ ليحوِّلوه أولاً إلى كيان مطلق عالمي الصلاحية والانطباق،
ثم يفرضونه ثانياً على السياق الإسلامي الحضاري، ويزيحون به ويطردون
مفاهيم وأفكاراً ومصطلحات إسلامية هي بنت العقيدة والتاريخ والأمة بعد أن
يصِمُوها بالنسبية والتاريخية والمحدودية.
وهكذا تنعكس الأمور في لعبة فكرية تُدهش من وقاحتها وانكشافها؛ فالمتغير
والنسبي والتاريخي عند الغرب (لأنه نابع من خصوصيات حضارتهم، ومنزرع
وسط أوضاعها، وردُّ فعل على تطوراتها) يصبح هو المطلق والعام والثابت عندنا
بعد أن تُنزع من بيئتنا الثقافية والحضارية مفاهيم وأفكار ومصطلحات (منها
المطلق والثابت) بعد وَسْمِها بعدم الصلاحية، وبأنها نسبية تاريخية متغيرة. إنها
عملية غريبة تختلط فيها المبادئ، ويحلو اللعب بتغيير النسبي إلى المطلق والعكس
بالعكس لمجرد زرع الفكر الغربي داخل الوسط الإسلامي، وطرد الإسلام، من بين
أهله وعشيرته، ومصطلح «التنوير» كما قلت هو أحد النماذج الكبرى لهذه
العملية.
فالتنوير مصطلح يطلق في الفكر الغربي على مجموعة واسعة من الكتابات
ظهرت بدءاً من أواسط القرن الثامن عشر الميلادي وإلى نهايته في أوساط الفلاسفة
والمفكرين في فرنسا أساساً، ثم إلى درجة أقل في بريطانيا وألمانيا. وهذه الأفكار
ظهرت وسط بيئة متشابكة من ردود الأفعال على الحكومات والطبقات المستبدة
(الملَكية) في تلك الحقبة، وعلى الأفكار الكنسية المصاحبة لها والمعضدة لها، كما
ظهرت متأثرة بنضوج الفكر العقلاني (كما أسموه) الراجع بجذوره إلى عصر
النهضة الأوروبية والمزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كذلك. وظهرت
تلك الأفكار على أعتاب التغيرات الكبرى التي حدثت في أوروبا (ومهدت لها) في
القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر العلم، وعصر الثورة الصناعية، وعصر
صعود الطبقة البورجوازية، وعصر الثورات الكبرى (الأمريكية والفرنسية) ،
وعصر الفكر الحر، وعصر المذاهب الفلسفية الرئيسية (الهيجلية والماركسية) ،
وتحدد مضمون الكم الفكري المؤسس لحركة التنوير في الأساس بالموقف من الدين
وفكره (وهو هنا المسيحية) كما رسم الفكر العقلاني الإنساني السابق على حركة
التنوير والمصاحب لها، ولهذا اتسم فكر التنوير بعداء شديد ورفض للدين مسوَّغ
بالعقلانية التي ترفض الغيبيات، وتجمع بين الدين وبين الخرافة والخزعبلات في
وعاء واحد.
وفكر التنوير يرفض أن تكون الكنيسة وسيطاً بين الإله والبشر، كما يرفض
عقائدها المعروفة، ويرفض كتابها المقدس بعد عرضه على مقياس العقل النقدي
المادي التشككي النزعة وعلى معيار علم التاريخ المادي النزعة. ويستخدم فكر
التنوير مفهوم العقل بمعنى التوجه المادي والتشككي على وجه الخصوص ليوجه
النقد إلى الدين (المسيحية) والكنيسة ومؤسسات الحكم والطبقية في الغرب في ذلك
الوقت. كما يُستخدم ليدخل مفاهيم جديدة تحل محل العقائد المرفوضة؛ مثل مفهوم
(الإنسانية) ككيان عام و (الإنسان) ككيان مطلق يحدد وحده معايير حياته وقيمها
وأهدافها انطلاقاً من إعمال العقل (بمفهومه كحس عام مطلق موضوعي) في شتى
شؤون الحياة، وهكذا تتحدد وترتسم الملامح والمحددات والمفاهيم الكبرى لفكر
التنوير، وهي إعلاء شأن العقل بمفهومين هما: العقل المادي والتشككي من ناحية،
والمطلق العام الموضوعي المشترك بين البشر من ناحية أخرى باعتباره وحده
(لا الدين ولا الوحي ولا الكتاب المقدس ولا الكنيسة التي أسقطها النقد الموضوعي
العقلي) مناط الهداية والتوجيه والسلوك، ورسم القيم والأهداف العامة في الحياة
لذلك الكائن العام وهو الإنسان أو الإنسانية الذي أصبح وحده (وليس الإله) معيار
كل شيء وواضع القيم والأهداف؛ بل هو هدف كل نشاط ومقصده، ومع العقل
والإنسان تصبح الدنيا هي المحور الأساس لكل نشاط وعمل، بل تصبح هي
الوجود الوحيد ولا وجود غيره (الآخرة مثلاً) .
هذا اختصار شديد لمجمل فكر التنوير، ركَّزنا فيه على جانب الموقف من
الدين وهو الجانب الرئيسي فيه كما أنه الجانب الأكبر في دعوى التنوير التي بدأ
بعض العلمانيين والتغريبيين في العالم الإسلامي في الترويج لها في الفترة الأخيرة.
والواقع أننا عندما نسمع في هذه الآونة الحديث المتكرر عن ضرورة وضع كل
عقائد الإسلام وشريعته وكتابه وتاريخه على محك ما يسمى بالعقل (وهو في
الحقيقة عقل خاص يتعلق بأصحاب الدعاوى وحدهم) نلمح فيه بسرعة الكلام الذي
كان يتردد في أوروبا في القرن الثامن عشر عن المسيحية وكنيستها وكتابها بدون
تغير يذكر، وهكذا تطير بجرَّة قلم كل الفروق العقدية والتاريخية والزمنية والسياقية
لنجد أن كلاماً قيل في دنيا أخرى يُجلب ليكرر تقريباً في عالم مختلف وبدون مراعاة
لكل عوامل النسبية والتاريخية والتغير والسياقية والبيئية والخصوصية التي يقول
الغربيون وأتباعهم عندنا إنه يجب مراعاتها في مثل هذه الأمور، بل يدَّعون أنهم
يراعونها طيلة الوقت عندما يضربون عرض الحائط بالكثير من الأحكام التشريعية
الإسلامية تحت شعارات مراعاة العصر والاجتهاد وما أشبه.
ومن هنا فالتنوير السائر هو في حقيقته ليس تنويراً على الإطلاق بل محاكاة
وتقليداً وجموداً على أفكار غربية سقطت حتى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص
إلى حد أننا أصبحنا اليوم نقرأ لقلة من مفكري الغرب تنعي هذا السقوط، وتدعو
عبثاً لإعادة إحياء التنوير؛ وهيهات.
وفوق هذا فالتنوير الذي يُروِّج له بعض الناس الآن ليس تنويراً بالمفهوم الذي
قد يتبادر إلى الذهن من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي، بل هو لا يعدو كما قلنا
إطلاق شعارات عامة غامضة موجهة كلها ضد الدين (الإسلام) ، في إطار خطة لا
تنويرية ولا عقلية ولا علمية بل سياسية محضة، هي ما اصطُلح على تسميته
بسياسة مكافحة التطرف والإرهاب المزعومَين والمنسوبَين إلى الحركات الإسلامية
وإلى دعاة الإسلام. وإذا كان من صدق في نية الحديث عن التنوير فكان يجب أن
يكون كذلك عن الإسلام، وفي إطاره وخدمة لدعوته.(159/132)
بأقلامهن
وماذا تريد المرأة من نفسها؟ !
رزان بنت سعد آل يحيى
إن المرأة وأنا واحدة من هذا الجنس تقرع قلبها قبضة الاضطراب والخوف
وهي ترى الحرب الضروس تطحن أخوات لها كُنَّ من السرعة حينما سقطن في
شراكها، ويتزايد نبض فؤادها بتزايد الطروحات التي تنادي بسفور المرأة
واسترجالها واقتحامها ميادين الشقاء تحت شعارات شتى براقة اللفظ ضخمة
والمعنى، سقيمة المقصد بعيدة المرمى.
وفي الوقت الذي لم يألُ دعاة تغريب المرأة جهداً في النيل من ثوابت الأمة
والسعي لنخر قيمها وتهشيم مُثُلها وفق خطط مرسومة، في الوقت نفسه كان ما لدى
كثير من النساء من الأهداف والطموحات والقناعات السامية القدر الضئيل! !
إنه من المؤسف ألا يكون لامرأة حازت مستوى تعليمياً جيداً أهداف واضحة.
المرأة المعاصرة (في الجملة) ليست مشكلتها في ماهية الأهداف فحسب، بل في
وضوح تلك الأهداف، إنه من الندرة بمكان من يمتلكن أهدافاً واضحة، وإذا كان
فلا يوجد في بعض المجتمعات من يعمل لهدف واضح إلا نسبة 3%، والذين
يكتبون أهدافهم أقل من 1%، فما نسبة النساء من بينهم؟ !
إن الضبابية التي غشت نظرة المرأة في أهدافها شتَّتت فكرها وشتَّتت
رؤاها؛ ولكنها لا تدري ما السعادة التي تحن إليها؟ ولا أين مظان الأنس وراحة
الصدر اللذين ترومهما؟ هي تتطلع للتميز ولو كان عن طريق موضة ساذجة أو
صرخة مبتدعة، ومرة تستشرف الكمال الذي لم تتحدد معالمه لديها بعد.
فماذا تريد المرأة من نفسها؟ !
لا أظن شيئاً أخطر على الإنسان من نفسه؛ فهو إنما يؤتى من قِبَلها بتفريطه
في معالي الأمور تارة، وازوراره عن المبادرات تارة، وفتوره عن العمل تارة،
وامتطائه للسلبية تارة، وتحقيره للعظائم، وتضخيمه للصغائر، وركونه للأحلام
والتخيلات تارات أخرى.
لم أرد بهذا الطرح كشف عيوبنا معشر نساء المسلمين ولا تعميم الحكم على
بعض الأخوات من جنسي؛ لكني أخاف على أخواتي أن يصيبهن ما أصابني عند
قراءة ملف (ماذا يريدون من المرأة؟) الذي نشرته مشكورة مجلة البيان؛ فقد بدأ
يداخلني وأنا أقرأ هذا العنوان وأتملى ما كُتب فيه أن ما أصاب بعض النساء من
انحراف في السلوك وضعف في الاهتمامات ما كان سببه الخطوات (المقننة) التي
حاكتها أصابع لفيف من المستغربين من العلمانيين واليساريين والشهوانيين فقط،
دون تحميل المرأة ذاتها مسؤولية ما كان وما سيكون، ودون محاولة إلقاء الضوء
على جهودنا الدعوية القاصرة؛ إذ كدنا ننسى مع موجة (اتهام الآخر) أن ما قدمناه
للمرأة في ميزان الأعمال الناجحة ضئيل للغاية؛ ولذلك رغبت في التنبيه على أن
المرأة نفسها بسبب أنها قد تجهل الغاية التي خُلقت من أجلها، والطبيعة التي فُطرت
عليها، والمقاصد السامية التي رُسمت لها بسبب ذلك: لم تدر ماذا يراد منها ولا
ماذا يراد لها، ولا ماذا تريد هي من نفسها؟ ! فحيناً تنتابها رغبة جامحة لأمر ما
فتنسى عقلها، أو تفيض عاطفتها بشيء يعصف بضده فتعيش أمواجاً متلاطمة تظن
أنها تفتت الصخر، وإنما هي جعجعة بلا طحن.
ولم يكن هذا الذي تعيشه المرأة إفرازاً فطرياً بحتاً، أو نشاطاً تغريبياً فجاً، أو
تعمية إعلامية فنية؛ إنما كان نتيجة حتمية لواقع العمل الدعوي النسائي، وصورة
عكسية للجهود الفاترة في صفوف الفتيات، وهذا فيما أظن لا يتحمله الرجال وحدهم؛
فإن ما قدمه الرجال ويقدمونه لن يؤثر في النساء بالدرجة الفعلية ما لم يكن فيهن
من يترجم الأفكار إلى اللغة التي تفهمها المرأة، ويلامس عاطفتها ويفهم نفسيتها
وفق القواعد الشرعية المعتبرة.
وهذه طائفة من العناصر أرى أن في إشهارها مشاركةً في رسم مشروع
استدراك بناء المرأة؛ حيث تمر المرأة بصعوبات في الدعوة والتربية ما أيسر
تخطيها على من وفقها الله. ومن أهم هذه الصعوبات:
1 - أن تجربة المرأة في الدعوة إلى الله وفق الأساليب المعاصرة جديدة تفتقر
إلى التعرف على التجارب السابقة؛ ونظراً لأن كثيراً منها تجارب لم يتحدد الحكم
الشرعي فيها بعد، أو كانت تجارب رجالية؛ فإن تواصل المرأة مع الرجل من
غير محارمها يتعرض لحساسيات شرعية جديرة بالبحث عن علاج.
2 - وحينما تكون المحاضن التربوية التي تقوم على العناية بالمرأة نادرة
يتضح مدى حجم المعاناة التي تعانيها الداعية أو من تحمل همَّ الإصلاح.
3 - يزيد المعاناة قلة الوسائل الإعلامية ذات الطابع المحافظ التي تعنى
بالمرأة باعتبارها ذات رسالة وهدف ساميين.
4 - ورابع الصعوبات أن المرأة ذات طبيعة خاصة؛ فالأصل في حقها
القرار في البيت، واشتغالها بمصالح المنزل والزوج والأولاد، وقد يضاف إلى ذلك
انشغالها بأعباء الوظيفة المناسبة لها ولفطرتها.
5 - يزيد الأمر سوءاً تعلق نفوس بعض النسوة بالموضة وتتبُّعهن لها، أو
تَطلُّع بعضهن إلى مجاراة بعض أخواتهن في شكليات لا ترقى أن تزاحم قناعات
يُفترض رسوخها.
6 - من الصعوبات أيضاً حساسية بعض الداعيات المفرطة من النقد، وغلبة
الحياء والخجل.
7 - الشعور باليأس في مقابلة السيل الهادر من الغزو الموجه، وتعدد صور
الانحراف السافر.
8 - عدم استشعار حجم التغريب الموجه؛ بعدم الاطلاع على وسائله
ومخرجاته.
9 - قلة المعين والناصر والموجِّه، وبخاصة أقرب الناس لها كالزوج أو
الأب أو الأخ.
هذا وإن من العوامل المؤثرة في تصحيح الوضع الراهن ما يلي:
1 - إيجاد معهد لتخريج الداعيات تتولاه وزارات الشؤون الإسلامية [*] أو
رئاسة تعليم البنات، أو المؤسسات الخيرية ذات الاهتمام بالمرأة وشؤون الأسرة.
2 - تطوير الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم، وتعميمها في شتى بلاد
المسلمين، وتوسيع دائرة المستفيدات منها، وتصحيح مفهوم قصرها على حفظ
القرآن الكريم دون التأثر به والتدريب على العمل بما فيه، وخدمتها إعلامياً،
وإقناع الناس بأثرها على بناتهم.
3 - أهمية قيام مراكز الدعوة بتخصيص قسم مميز يهتم بالمرأة وقضاياها،
ولا يكون مجرد مكتب للخادمات ونساء الجاليات! ! ويراعى في إعداده وتصميمه
الأحكام الشرعية، والجوانب التي تهتم بها المرأة.
4 - كفالة الداعيات أسوة بالدعاة، وتوفير البديل عن الوظائف الرسمية،
لتحقيق التفرغ.
5 - إبراز جهود العاملات في حقل الشؤون الدعوية والتربوية التي تشارك
في توجيه الداعيات والمبتدئات منهن، وتعمل على فتح آفاقهن عن طريق الهاتف،
والهاتف المجاني.
6 - تكثيف البرامج الترغيبية في مشاركة المرأة في الدعوة.
7 - تكثيف المدارس الصيفية للطالبات التي يتولى الإشراف عليها نخبة من
أهل العلم والدين.
8 - على مراكز التسجيلات الإسلامية توفير الإصدارات السمعية والمرئية
الدعوية والتربوية الموجهة للمرأة والأسرة والعناية بها بشكل يرغب في اقتنائها.
9 - الاهتمام بالفتيات في المرحلة العمرية (15 25) ؛ فالمرحلة العمرية
التي يمررن فيها منعطف خطر.
10 - إصدار مجلات إسلامية، واستكتاب النساء بأسمائهن الصريحة فما دام
أن ما يكتبنه خيراً فلماذا يُتحفظ على الأسماء بلا مسوِّغ.
11 - العمل على تطوير قدرات النساء متوسطات المحافظة وعاليات
المحافظة للوصول إلى درجة الداعيات الفاعلات.
إلى غير ذلك من المقترحات التي من شأنها تعريف المرأة بماذا تريد من
نفسها؟ فتعمل على رسم أهدافها وإيضاحها لها، وتنتفع بها في توسيع مداركها
وترقية اهتماماتها، ويصبح لديها من الإيمان بالمنهج الذي فطرها الله عليه ما يبعثر
الأطروحات العلمانية، ويكشف عوارها، ويفضح مغالطة المتأثرين بها، والله أعلم
وأحكم وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(*) الألفاظ التالية (تتولاه.. على) ليست على جهة الأمر باعتباره أمراً لكن ثبت بالتجربة الحية
أن الأفكار التي تبنى للمجهول ولا تسند لجهة ما يكون مصير تنفيذها عالم المجهول، وقد تركت
بالفعل إسناد بعض الأفكار؛ لأن من يمكنه فعل ذلك كثير؛ فتركت الإسناد لكثرة من يجب عليهم.(159/134)
الباب المفتوح
هل الإيمان هو التصديق الخبري
د. محمد جلال
[الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]
(يونس: 63-64)
التصديق الخبري [1] وحده لا يكفي لإعطاء صفة الإيمان؛ فما كذّب إبليس
وما كذّب فرعون وما كذبت قريش كلها [فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ] (الأنعام: 33) . فليس عامة الكفار مكذبين؛ وإن كان هناك من
الكفر ما هو تكذيب، وهذا بابٌ له مظنته [2] ؛ لكني أريد أن أوضح معنى التصديق
الخبري، وكيف أنه لا يُثبِتُ إيماناً وحده، وحتى يتضح ذلك أقول: إن العمل أي
عمل الذي يقوم به الإنسان يمر بثلاث مراحل هي:
أ - مرحلة المعرفة الخبرية: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة: «قول
القلب» .
ب - مرحلة الإرادة والتفاعل بالوجدان: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة:
«عمل القلب» .
ج - مرحلة العمل الحركي: وتسمى في مصطلح علماء العقيدة: «عمل
الجوارح» .
فمثلاً: لو أن إنساناً قُرّبَ منه إناء فيه «زيْتٌ» يغلي «هذه معرفة خبرية»
فماذا سيحدث؟ يتولد في القلب خوفٌ من الاقتراب من هذا الإناء ورغبة في
البعد عنه «عمل القلب» ، ثم إنه لا يقرب هذا الإناء أبداً ما استطاع «عمل
الجوارح» .
ومثال ذلك كثيرٌ لمن يتتبعه؛ فمثلاً لو أن أحداً علم أن أمامه في الطريق
وحش كاسر أو ثعبانٌ ماكر لا يقدر هو عليه، فهذه معرفة خبرية تنشئ في القلب
رهبة من الأذى ورغبة في حصول السلامة «عمل القلب» ، ثم بعد ذلك يبتعد عن
هذا الطريق «عمل الجوارح» . وهكذا الإيمان يأتي إلى الإنسان معرفةً خبرية
بحتة أولاً، ثم تقابل بالتصديق أو بالتكذيب.
ثم بعد هذا التصديق الخبري يحدث أحد أمرين:
الأول: يقوى هذا التصديق في القلب ويعمل على إحداث رغبة في حصول
المحبوب ورهبة من حصول المكروه، وهذه الرهبة وتلك الرغبة هي من أعمال
القلوب.
ودعني أسأل سؤالاً حتى يزداد الأمر وضوحاً: ما عمل القلب؟ أو ماذا نعني
بعمل القلب؟
عمل القلب: هو ما تنشئه المعرفة الخبرية في ذات القلب.
فمعرفة أن الله هو القادر - معرفة خبرية - تنشئ في القلب الاعتماد على الله
«التوكل» .
ومعرفة أن الله عالم الغيب والشهادة تنشئ «الحياء» .
ومعرفة أن الله مجيب الدعاء تنشئ في القلب التعلق بالله «الرجاء» وهكذا.
وعمل القلب ذاته يختلف قوةً وضعفاً من شخص لآخر، ويختلف عند
الشخص الواحد من حالٍ إلى حال؛ ولعل هذا ما قال عنه ابن مسعود رضي الله
عنه «إن للقلوب إقبالاً وإدباراً؛ فخذوها وقت إقبالها، ودعوها وقت إدبارها» ،
وهو هو ما وصفه حنظلة رضي الله عنه أنه نفاق ووافقه عليه الصدِّيق رضي
الله عنهما.
ثم إن عمل القلب مصاحب تماماً لعمل الجوارح [3] وجوداً وعدماً، قوةً
وضعفاً؛ اللهم إلا في حالة الإكراه فيستقل عمل القلب بالوجود دون عمل الجوارح.
الثاني: يقابل التصديقَ الخبري مانعٌ يحول دون تحوله إلى تصديق باعث
مُولِّد لعمل القلب الذي يستلزم عمل الجوارح إلا في حالة الإكراه، وهذا المانع قد
يكون استكباراً كما هو حال إبليس لعنه الله، كما قال تعالى: [فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] (ص: 73-74) ، وقد يكون
المانع حبَّ الآباء والأجداد وتقديس الأعراف والتقاليد؛ وخير شاهد على ذلك حال
أبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون المانع شهوة تمنع الانقياد،
وقد يكون خوفاً من أذى قد يلحق المرء إذا التزم منهج الله - رغم اقتناعه به
تماماً -.
فهذه الموانع تحصر المعرفة، وتقف بها عند حد المعرفة الخبرية فقط.
__________
(1) التصديق الخبري هو نسبة الصدق للخبر.
(2) كتاب الإيمان، لمحمد عبد الهادي المصري، باب دركات الكفر.
(3) يدخل قول اللسان فيها ضمناً.(159/138)
الباب المفتوح
الأيادي الآثمة
محمد بن عبد العزيز المُبْرَد
سَرَّكم قتلُ محمّد..! !
وتغنَّى حقدُكم والحقدُ أسود..
واسترحتم وأَمِنتم من أذى طفلٍ من الحَوْل مجرّد..!
زمْجَرت آلاتُكم من حوله في كلِّ مَرصَد..
ليس يُغْني عنه أنْ لاذَ بأحضَان أبيه وتلبَّد..
واتقاكم بيديه.! !
يدفعُ الموتَ المؤكَّد..
صاح منكم صائحُ القتلِ.. وأرْغى ثم أَزْبَد..
كلُّكم سارَ إليه.. وَجَّه الموتَ إلى الطفل وسدَّد..
فتهاوى الطِّفل في حضنِ أبيه وتمدَّد..! !
مَشهدٌ يَسري إلى العالم عنكم.. أيُّ مشهد..؟ !
منظرُ الإرهاب فيه قامَ.. والحقُد تجسَّد..
أتُراهُ أدركَ الثأرَ الذي قامَ وبالقاتل ندَّد؟ ! !
أتُراهُ نكأَ القومَ الذي هَبَّ إلى الشِّعر وأَنشَد؟ !
يا يهودَ الغدرِ والتاريخُ يحكي عن مخَازيكمْ ويشهد..
كلكم يُعْشِيه نورُ الحقِّ.. يخشى من محمَّد.! !
* * *
سَرَّكم قتلُ محمّد..! !
واسترحتم وأَمِنتم من أذى طفلٍ من الحَوْل مُجرَّد! !
دمُ هذا الطفلِ فينا.. يتوقَّد..
يبعثُ الثأرَ ويحدوهُ إلى يومٍ مُؤكَّد..
فقريباً.. نملأ الأرض عليكم بمحمَّد..
فقريباً.. نملأ الأرضَ عليكم بمحمَّد..
إنها بُشرى محمَّد..
فابحثوا في أرضنا عن بعض أشجار وغرقد..(159/139)
المنتدى
أين المشتاقون؟ ! !
أم الحارث السهلي
في طريق طويل مليء بالعقبات والصعاب يسير ذلك الركب الميمون يحدوه
الشوق إلى جنات عدن عند مليك مقتدر.. طريق كم فيه من البشائر والآمال، وكم
فيه من التضحيات الجسام..
فها هي جموع الدعاة المخلصين والمشتاقين تمضي بكل ثقة وعزم وإصرار
لإحقاق الحق ورفع راية التوحيد.
ولله درّ ذلك المشتاق الذي جرى في دمه حب الدعوة فأبى إلاّ أن يضحِّي بوقته
ونومه وراحته وماله من أجل دين الله.
لقد أعتقوا أرواحهم وباعوها رخيصة لله بأغلى الأثمان ولسان حالهم يقول:
«اللهم خذ من أرواحنا ودمائنا وحياتنا وأوقاتنا حتى ترضى.. من أجل نصرة دينك
وإعلاء كلمتك وإقامة شرعك» .
فكيف يهنأ لك بال أخي الكريم وأنت ترى تلك الأرقام المذهلة والقصص
المفجعة لقساوسة ومبشرين ضحُّوا بالغالي والنفيس من أجل باطلهم، وأنفقوا
الأموال الطائلة لنشر فسادهم ثم اسأل نفسك: أليس الأَوْلَى أن نكون نحن المضحِّين
ومن أوائل المتقدمين؟ ! !
وفي المقابل وأنت ترى أولئك الشجعان من الدعاة المخلصين وهم يصنعون
قوس النصر لأمتهم المجيدة، ويعدّون العدة لخوض غمار المعركة الحاسمة على
أمل الوصول للوعد الحق، تُحلِّق أرواحهم وتسمو في عبادة سامية وأجواء إيمانية
رائعة من قيام، وصيام، وذكر، وجهاد، وبر، وصلة، وإغاثة، ودعوة تدفعهم
لمواصلة الطريق والثبات عليه، ألا تحب أن تكون معهم وتصطف في
صفوفهم؟ ! !
وأنت هُنا في عيش رغيد وأمانٍ خادعة وشعارات براقة لا يحرك فيك ساكناً
واقع إخوانك المسلمين سواء الآمنون منهم أو المضطهدون وهم يصطرخون: هل
من مغيث؟ !
لقد شرفك الله بالتوحيد؛ فلِمَ لا ترفع لواءه وتبلغه لغيرك وتشكر نعمة الله
عليك؟ فكم هم أولئك الذين يتعطشون لنور الإسلام ولشرائعه وأحكامه العظام؛
ولكن من سيوصله إليهم سواك أنت يا فتى الإسلام ويا فتاة الإسلام؟
فإذا تقاعسنا ورضينا بالواقع المرِّ فمن ينقذ العالم من الظلم والجور؟
ومن ينشر العدل والسلام؟
واعلم يا رعاك الله! أن قانون الغاب الذي يسود العالم لا بد له من زوال فلا
يحزنك الواقع، وشمّر للمستقبل، وحطِّم قيود المستحيل، وألغ من قاموسك الكسل
والتواني؛ فالأمل بحاجة إلى سواعد فتية وعزائم قوية لتقود العالم وتعود لها
الريادة؛ فهل نحن فاعلون ذلك؟ !
يقول الإمام الجُنيد رحمه الله تعالى: «هَبْ أنك لا تخاف، ويحك.. ألا
تشتاق» .
فنقول للداعية: هَبْ أنك لا تريد العمل للدعوة، ويحك ألا تشتاق؟
فأين أشواق المؤمن للجهاد؟
وإنني على يقين بأنك مشتاق إلى السير في ذلك الطريق؛ فابدأ الآن وامضِ
في طريقٍ غير موحشة!(159/140)
المنتدى
ليس في الإمكان أحسن مما كان
إمام الطيّب
ليس في الإمكان أحسن مما كان هذه الفكرة التي عششت ثم باضت وأفرخت
في عقول الأجيال المعاصرة من المسلمين، بل في عقول النُخَب التي تتقدم الركب
بوصفها قيادات فكرية؛ فهم يهرعون دوماً إلى الماضي، وكم هو جميل أن نهرع
إلى بؤر الإشراق في تاريخنا، نستجديها الهدى، ونستلهمها العبر، ومن ثم نحملها
مشاعل نستضيء بها في ديجور الحياة المدلهم، ولكن أن نهرع إلى الماضي مسكناً
لآلامنا، وضماداً لجراحنا. نتغنى بمُلكنا لكسرى وقيصر في الماضي العريق،
ونذهل عن أننا في أَسْرهم في وقتنا الحاضر السحيق، نفخر بيوم كنا، ونغض
الطرف عما آل إليه أمرنا، فيتلاشى عن آفاقنا الغد، وبين أيدينا كلام الله الأزلي
الأبدي، يحثنا على الإعداد والاستعداد للغد: [وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ]
(الحشر: 18) . نعم إنه الغد الأبدي؛ حيث الناس فريقان: شقي وسعيد، [فَرِيقٌ
فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] (الشورى: 7) وذلك المآل الأبدي رهين بما تقدمه
للغد القريب الفاني؛ فهنا العطاء، وهناك الجزاء، والنجاء مناط بسلامة القلوب،
والإحسان في كل شيء، وفي الإمكان كثير من الحُسن إذا ما أحسنَّا القصد والسعي
ومن ثم الظن [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (البقرة: 195) .(159/140)
المنتدى
نداء من الشيشان
محمد بن عبد العزيز الفوزان
حل البلاءُ بإخوان لنا ظُلموا ... سقاهمُ من عذاب الروس ساقيها
القتلُ والطردُ والتشريدُ حظُّهُمُُ ... شيشانةُ الدين نادت من يُلبيها
الروسُ قد جاء في حقد وغطرسةٍ ... مدجَّجاً بسلاح في نواحيها
فعاثَ في الأرضِ عُدْواناً ومفسدةً ... ومجلس الأمن بالعدوان يُفتيها
الطائراتُ بنار الروس تمطرنا ... والأرض في بطنها الألغامَ تخفيها
وأمطرونا صورايخاً تدمرنا ... وزلزلوا الأرض وانهدت رواسيها
أمَا بكم رحمةٌ مما يحل بنا ... شيشاننا دُمِّرت زالت مبانيها؟
أنا صغيرٌ وبالرشاشِ أفزعني ... والقتلَ شاهدتُهُ بالعين أشقيها
ذقتُ المشيبَ وعمري اليومَ أربعةٌ ... من السنين التي زادت مآسيها
أختي بها مرض والأم في فزع ... ترجو الشفاء لها من حُرقة فيها
أماهُ أماهُ يا أماهُ يا أملي ... أماهُ من مُهجتي حقاً أناديها
ماذا تقولون للمولى إذا اجتمعت ... كل الخصوم أمام الحق باريها؟(159/141)
المنتدى
قد لا نصل
بدرية محمد
دوي المدافع قد علا في القرية، لا يُسمع إلا هو، بعد لحظات بدأت صرخات
الأطفال والنساء تعلو، دخان الصواريخ قد غطَّى سماء القرية، أصبحت سوداء
مظلمة، الكل بدأ يخرج ولكن أين يهرب؟ بعد لحظات بدأ الكل يسمع صوت
الرشاشات إنهم الوحوش الضارية يدخلون القرية الوادعة، الكل يفر ويخرج، قبل
أن يبدؤوا بالخروج أمرهم القائد بالاستسلام ثم سمح لهم أن يخرجوا رافعي أيديهم ما
عدا واحداً كان يحمل ابنته، رشقوه برصاصهم، سقط في بركة من الدم هو وابنته،
وقفت على جثته امرأة عجوز ونظرت إليه نظرة رحمة وشفقة ... صفعها القائد
وقال لها بلهجة غليظة: أتريدين أن أُلحقكِ به؟ ! سارت العجوز والدموع تنهمر
من عينيها مع الجموع المتدفقة من القرية في قافلة؛ إلا أن الصبيَّة سلافة وأمها
تأخرتا؛ لقد كانت منشغلة بجمع ملابسها وابنتها، حملت الأم ابنتها بسرعة وفي اليد
الأخرى متاعها ... بدأت الصبية تبكي ويعلو نشيجها: أمي! دميتي.. ألعابي.
الأم: لا وقت لدينا إنهم كلاب ضارية، خرجت الأم لتلحق بالقافلة لكنها أبعدت ولا
ترى إلا ظلالهم، عادت منكسرة الخاطر بدأت تتمتم لابنتها: ذهبوا ونحن هنا،
ولكننا سوف نسير قبل حلول الظلام بساعة. ذهبت الأم وابنتها إلى غرفة صبيتها
بدأت تنظر وتجول بناظريها في محتويات الغرفة، الطفلة: ماما! هذه دميتي وهذه
علبة التلوين! سقطت من عيني الأم دموع الحزن على براءة طفلتها، حملت الطفلة
الكرسي المتهالك وأسندته إلى الحائط أحضرت اللوحة، مدَّتها إلى والدتها، سقطت
دموعها على اللوحة؛ كادت الدموع أن تتلف اللوحة البسيطة! في أثناء ذلك دخل
أحد الوحوش صرخ في وجه الأم: أما زلتم هنا! أشار إليها بالرشاش، توسلت
رمت نفسها على قدميه: لا تفعلها. نظر إليها نظرة ذئب إلى فريسته: أمامك 15
دقيقة فإن لم تخرجي جعلتكِ كخروف الجزار. وأخذ ذلك الوغد يقهقه كالسكران.
حملت ملابسها، مدَّت الصبية يدها إلى الدمية لكي تحملها وبيدها الأخرى اللوحة،
نزعها الوحش، رمى بها الحائط، تكسَّرت، بكت الصبية، حملتها أمها وهربت،
سارت بين أزقِّة القرية حتى خرجت، نظرت إليها وهي تقول: قد لا أعود يا
قريتي! لا تحملي هَمِّي فإني في نعيم.
بدأت تسير تحث الخُطى لكنها تعبت، اكفهرت السماء، بدأ صوت الرعد،
بدأت تمطر، جلست الأم برهة لكي تستريح واصلت السير، بدأت قطع من الثلج
تسقط، وحلَّ الظلام، واصلت السير سقطت البنت: أمي! لقد تعبت، هل
الطريق طويل؟ نظرت الأم نظرة بعيدة لعلها ترى جبالاً يوجد بها كهف لتنام فيه؛
لكنها لم تر شيئاً، أخرجت الملابس وفرشتها على الأرض، ضمَّت جسدها بعضه
إلى بعض، ضمَّت إليها ابنتها وغطت بباقي الثياب جسدها، بدأت ابنتها تشكو من
الجوع: أمي! أريد حليباً وفطيرة. الأم: حينما نصل يا ابنتي إلى القرية المجاورة.
البنت: ومتى نصل إلى القرية المجاورة؟ الأم: قد لا نصل قد لا نصل.
ضمَّت ابنتها إليها بقوة وغطَّت في سبات عميق، وغطَّت زخَّات الثلج جسديهما
بندائف منه عديدة.(159/141)
المنتدى
ما للحر إلا القواضب
عمار عبد الحق البذيخي
أَبِيتُ وفي الأحشاء جمرٌ يُقلّبُ ... وأُصبح والأحزان بالقلب تلعبُ
عجبتُ لحال الدهر فينا وحالنا ... إذا شئت قول الحق والله أعجبُ
أرى القوم في الهيجاء عوجٌ رماحهم ... وفلّتْ لهم من غير ضربٍ قواضبُ
لنا في كتاب الهون ألفا صحيفةٍ ... وليس لنا في العزّ سطرٌ مخضَّبُ
وتكتب فوق الأرض عنا دماؤهم ... حقيقتنا أنّا نقول ونكذبُ
فيا فتية القوقاز لله درُّكم ... هتكتم لنا ما كان بالزور يُحجبُ
بنيتم صروح المجد من كل جبهةٍ ... دعاها لكأس الموت سهم مصوَّبُ
فَبِتُّمْ على القوقاز تصحو عيونكم ... من الشوق.. والأشواق للنوم تسلبُ
وبات عليها الروس تصحو عيونهم ... من الخوف لا يدرون كيف المغيّبُ
فتاكم يقوم الليل يحمي لواءه ... وقام فتاهم فيه يلهو ويلعبُ
وهذا خطيب الروس كأسُ وعاهرٌ ... وفيكم صهيل الخيل لا غير يخطبُ
فسيروا فما للعزّ إلا على القنا ... مكانٌ وما للحرِّ إلا القواضبُ(159/142)
المنتدى
ردود
* تنبيه هام: نرجو من الإخوة الذين يرغبون في مراسلة المجلة أن تتضمن
رسائلهم وسيلة اتصال مثل «عنوان بريدي، بريد إلكتروني، فاكس، هاتف»
حتى نتمكن من الرد على رسائلهم والتواصل معهم.
* الأخت: أم عبد الله: من مكة: أرسلت تقترح معالجة قضية كيفية حماية
الأسرة من أخطار الإعلام، ونشكر الأخت على تواصلها الكريم، واقتراحها نضعه
أمام الإخوة الكتاب للإدلاء بدلوهم.
* الأخ: علي بن منصور دوح: أرسل يقترح زيادة الاهتمام بالقضايا
الدعوية، والمجلة تشكر الأخ على هذا التواصل وهذا الاقتراح، والمجلة لا تدخر
وسعاً في سبيل السعي إلى ذلك.
* الإخوة: عادل بن مسعد الحسيكي، د. محمد أحمد الدغش، محمود محمد
دبش، شريف قاسم: نشكر لكم تكرمكم بالتواصل مع مجلتكم، ونفيدكم بأن
مشاركاتكم مجازة للنشر.
* الإخوة: نزار منصور أسعد، خالد السحري، علي بحري اليامي، أحمد
طه، زياد عابد، خالد عبد الله الهديب: جزاكم الله خيراً على التواصل الكريم مع
المجلة، ومشاركاتكم ستعد للنشر في المنتدى.
* الإخوة: د. محمد عبد العزيز السعود، خالد السحري، مصطفى عوض
الله بشارة، ممدوح أحمد محمود، سعيد أبو زيد، شجاع عبده دغالي، علي بن
سليمان الدبيخي، أسعد بن الخطاب، عبد الباري أحمد العطار، إبراهيم حماد،
ماجد بن سليمان، محمد العامري، منصور الزغيبي، عبد الرحمن بن عبد العزيز
المنصور، محمد سالم الجابري، سليمان بن عبد العزيز العنقري: نرجو التكرم
بموافاة المجلة بعناوينكم للتواصل معكم. وجزاكم الله خيراً على تواصلكم
مع مجلتكم.(159/142)
الورقة الأخيرة
صحافة للمرأة
د. مالك الأحمد [*]
«إلى الذين يؤمنون أن في نفس المرأة قوة تُميت جراثيم الفساد، وأن في
يدها سلاحاً يمزق غياهب الاستبداد، وأن في فمها عزاءاً يخفف وطأة الشقاء
البشري ... أُقدِّم مجلتي لا كضريبة تثقل بها عواتقهم بل تقدمة إلى من يليق بهم
الإكرام، وتناط بهم الآمال، وهم مُخيَّرون في قبولها ورفضها ... ولقد رأيت من
الضرورة أن أجعل المباحث التي تتناولها المجلة ثلاثة أقسام:
أولها: باب الأدب والتاريخ.
وثانيها: لاقتطاف ما غزرت مواده وتعددت فوائده من الشؤون البيتية،
وكيفية تمريض الأطفال والعناية بهم.
وثالثها: للفكاهات ... » .
هذه افتتاحية العدد الأول من مجلة (العروس) الصادرة عام 1910م، وهي
أول مجلة نسائية في بلاد الشام، صاحبتها ماري عجمي (نصرانية) ، عالجت
فيها مشاكل المرأة والأسرة والطفل، واستمرت في الصدور 15 سنة، وفي الفترة
نفسها صدرت مجلة الحسناء من بيروت 1909م لصاحبها جرجي نقولا
(نصراني) .
وتوالت المجلات النسائية في بلاد الشام بعد ذلك تباعاً؛ فصدرت مجلة
(المرأة) عام 1930م في حماة و (الشبكة) عام 1955م في بيروت، ثم انتشرت
بعد ذلك المجلات النسائية وتعددت أسماؤها. أما في مصر فصدرت مجلة (حواء)
عن دار الهلال في بداية القرن العشرين وما زالت مستمرة في الصدور.
والناظر لواقع صحافة المرأة في ذلك الزمن المبكر قبل نصف قرن وما يزيد
يرى تغلغل العنصر النصراني في الإنشاء والإدارة والتحرير، كما يلاحظ طرح
قضايا مصادِمَة تماماً لواقع المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإن كان بطريقة غير
مباشرة.
والغريب أن قضايا المرأة بالفهم الغربي طُرحت منذ وقت مبكر في العالم
الإسلامي؛ فمثلاً كانت قضية الصحافة السورية عام 1924م هي الحجاب والسفور،
وكانت الصحف بين مؤيد ومعارض، وكان هذا الموضوع أيضاً مدخلاً لقضية
حقوق المرأة في التعليم والانتخاب والعمل، والأمر مشابه في الصحافة المصرية،
بل كان الأمر أصرح وأقوى نظراً للفساد الاجتماعي الذي بدأ في أوساط المتعلمين،
فضلاً عن أثر اليهود والنصارى المتنفذين في البلد.
ويلاحظ أن صحافة المرأة في وقت مبكر في العالم الإسلامي بل في وقت كان
التعليم في أضيق نطاق في وسط الرجال بَلْهَ النساء؛ لكن الكيد الماكر يعلم أن
حرف فكر المرأة أسهل خصوصاً لمن يستخدم الخطاب العاطفي معها.
ولئن بدأت صحافة المرأة محافِظَةً إلى حد ما في خطابها ومتوارية في أساليبها
لكنها الآن مع وسائل الطباعة الملونة والجميلة قفزت قفزات ضخمة، ودخلت بيوتاً
كثيرة، حتى أصبح خطابها لا يراعي تقاليد ولا يستحي من دين؛ فالدعوة للعهر
والفجور أصبح عادياً، والصورة سُخِّرت لإسقاط الحياء عن المرأة المحافِظَة.
فهلاَّ من بديل يؤدي دوراً في وسط هذا الخضم، بل بدائل كثيرة ومتنوعة
للنساء والفتيات، للصغار والكبار!
آمل ذلك مع المبشرات التي نراها، ونسأل الله لها الثبات والاستمرار.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة سنان.(159/143)
ذو الحجة - 1421هـ
مارس - 2001م
(السنة: 15)(160/)
كلمة صغيرة
النائحون على الرذيلة
مشهد درامي هزلي صاخب يطل علينا من حين لآخر من الساحة الثقافية
العلمانية كلما انتهكت (حرمة) الرذيلة أو وطئ طرفها (الطاهر) ، متقنعة في هذا
المشهد بقناع حرية الفكر والإبداع، وقد تكرر هذا المشهد كثيراً، ومؤخراً رأيناه
في الجزائر والأردن ومصر والكويت واليمن وبنجلاديش.
ولكن مفارقة ذات دلالة حدثت في النائحة الأخيرة التي أقامها نادبو حرية
الإبداع والفكر في آخر مآتمهم الثقافية، هذه المفارقة هي أن الطرف الآخر المراد
إرهابه والضغط عليه لم يكن متعصباً ولا متطرفاً، بل إنه متهم من الإسلاميين
بنشر الثقافة العلمانية المتفلتة والدفاع عنها في مصر، ولكن لم يشفع له ذلك الاتهام
للإفلات من إرهاب الوصاة على الفكر والثقافة وتهديداتهم، فبمجرد أن انحاز وزير
الثقافة مرة إلى بعض قيم المجتمع وثوابته وأصوله، وحاسب مسؤولاً يحق له
إدارياً محاسبته على نشر روايات ثلاث تجاوزت (قلة الأدب) فيها الحد الذي لا
يمكن السكوت عليه، ثارت ثائرة النائحين، فاستقالوا وقاطعوا وهددوا وتوعدوا
وعلا صياحهم من الربط بين ظلام الرجعيين وظلم السلطويين وتحالفهم ضد التقدمية
والتنوير، ثم تداعت وسائل الإعلام لنصرة إخوانهم (المضطهدين) ، فأفردت
الصفحات لإقامة المنائح والبكائيات على الثقافة والإبداع، بل دخل الإنترنت على
الخط فتطوع أحد المواقع بنشر الروايات الثلاث كاملة نكاية بخانقي حرية الفكر
ومعوقي حركة الإبداع.
أي تقدمية وأي تنوير يريدون؟ وما هو مفهوم الحرية وحدودها عندهم؟ ومن
جعلهم أوصياء على الإبداع والفكر؟ ولماذا إيهام العامة بتأثير الندب والصياح بأنهم
وحدهم المثقفون، وأنهم وحدهم المتحدثون باسم الثقافة؟ وأين هي حرية الفكر
والإبداع التي يزعمونها عندما يتعلق هذا الفكر والإبداع برؤى مخالفة
لرؤيتهم؟ لماذا لا يدافعون - إذا كانوا صادقين في دعواهم - عن حق الإسلاميين
(مثلاً) في التعبير عن فكرهم ونشر إبداعهم، بدلاً من العمل على مصادرة هذا
الحق من خلال مراكزهم بزعم أنها ثقافة ظلامية رجعية؟
هل هناك إرهاب فكري وعنف معنوي أكثر من هذا الذي يمارسه (المثقفون)
العلمانيون عندما تُمَسُّ الرذيلة ويُدعى إلى الفضيلة؟ ألا ترون أن شأن المثقفين
العلمانيين مع الإسلام ودعاته كما يقول المثل: رمتني بدائها وانسلت؟(160/1)
الافتتاحية
الحج والأمل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه
ومن سار على هديه، وبعد:
فنحن نعيش في عصر وصلت فيه أمتنا المسلمة إلى حالة من التخلف والفرقة
لم تعرفها من قبل، وقد طال هذا التخلف الدعائمَ الأساسية التي قامت عليها الأمة،
والأركان التي ارتكزت عليها في سابق تكونها، بدءاً بجانب الإيمان وقضية الهوية؛
حيث أصبحت الأمة في الجملة في وقتنا الراهن متَّشحة بهويات غيرها من الأمم،
ففقدت نتيجة ذلك جوهر عقيدتها، وتحلَّت بأخلاق أعدائها وسلوكهم حتى وصل
الحال بطائفة كبيرة من أبناء الأمة إلى التباهي بالتحلي بمنطلقات وأخلاق وسلوك
الأمم الأخرى، والتفاخر بالمبادرة إلى تطبيق ذلك في واقع حياتهم وسيرهم على
منوالها.
أضف إلى ذلك وجود برود ظاهر في انتساب جل الأفراد إلى الأمة، وضعف
بيِّن في اعتزازهم بها وثقتهم بإمكانية نهوضها نتيجة الانبهار برقي (الآخر)
المادي وتقدمه المعرفي وضخامة الفجوة بين أمتنا وبينه في هذا الأمر.
وليس هذا فحسب؛ إذ نُحِّيت الشريعة عمداً عن التطبيق والحكم في الغالب
الأعم، وتم تقزيم مفهوم الدين، والقيام بالفصل بينه وبين جوانب الحياة المختلفة
بدرجات متفاوتة.
كما تم صياغة العقائد الزائفة والمفاهيم المغلوطة والشرائع المشوهة بصورة
بهية وأساليب جذابة مخادعة تساعد على تمريرها وتقبُّل العامة لها، بالإضافة إلى
القيام بفلسفة الدين وعرضه بهيئة تقر الأمر الواقع، وتعطي له شرعية حتى صار
الصواب في كثير من الأحيان انحرافاً والانحراف صواباً.
وتم في جل الأماكن إقصاء العلماء الصادقين والدعاة المخلصين عن مؤسسات
التوجيه الفاعل وأماكن صنع القرار والتأثير في صياغته، وتجفيف منابع الخير،
والكيد الشديد للدعوة والدعاة، ومحاربة ذلك بشتى سبل الحرب المعنوية والمادية
وأقساها.
ولم تؤتَ الأمة في هويتها فقط بل كان من أبرز مقومات تخلفها فقدان كثير
من أبنائها الإخلاص لها، وتصدَّر جل شؤونها صنائع الأعداء من أبنائها، فتعمقت
لذلك التبعية وكثرت حالات تقلبها في أحضان الشرق والغرب بحسب اختلاف
الظروف وتبدل موازين القوى.
وأخطر ما في الأمر أن أصبح آخر ما يفكر به جلُّ الملأ في أمتنا - إن كانوا
يفكرون - هو المحافظة على هوية الأمة وتحقيق مصالحها نتيجة فساد الطويَّة
وتسابق القوم في إرضاء أسيادهم: نشراً لأفكارهم وممارسة لسلوكياتهم وخدمة
لمصالحهم؛ طمعاً في استمرار التصدُّر ونيل المزيد من المآرب.
ومن الإنصاف إثبات وجود طائفة تحمل هوية الأمة، وتمتلك إخلاصاً لها
واعتزازاً بالانتساب إليها، وثقة بقدرتها على النهوض من كبوتها وتجاوز تخلفها
متى استمسكت بدينها وأخذت بسنن الله تعالى في النصر والتمكين، ولكن الذي
يعيب جلَّ أفراد هذه الطائفة أحد أمرين:
الأول: احتقار الذات وعدم ثقة الفرد بقدراته بصورة جعلت منه غاية في
السلبية؛ مما أفقده الحماس الدافع لعمل ما يفيد الأمة ويكون سبباً في رقيها وتجاوز
كبوتها.
الثاني: عدم قدرة كثير من المتحمسين لنهوض الأمة على تحويل حماسهم
والأفكار التي تختلج في صدورهم إلى أعمال مثمرة نتيجة ضعف المعرفة بمقومات
النهوض، أو عدم امتلاك المهارات اللازمة لتحقيقها.
وأياً كانت طبيعة الاختلاف بين فصائل هذه الطائفة وموقف الشرع منها؛ فإن
المؤدى واحد في مجال حديثنا وهو عدم قيام الجميع بالشيء المأمول منهم لرقي
الأمة ونهضتها.
وباختصار: فأمتنا بعد أن هجرت دينها وابتعدت عن هدي ربها نراها قانعة
بالقبوع في ذيل الأمم، وما من جانب من جوانب الحياة تأملتَهُ إلا رأيتَ أن تخلفها
فيه قد بلغ الغاية أو قاربها.
هذا عن الانحطاط والتخلف، أما الفرقة فلا يُعرف عصر من العصور بلغ
فيه الرابط الشرعي بين أفراد الأمة وشعوبها ما بلغه الآن من التفكك والضعف.
ومع المعرفة الأكيدة بأن السبب الرئيسي لذلك التمزق يعود إلى الأمة نفسها مصداقاً
لقوله عز وجل: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) ، إلا أنه لا
يمكن الراصد للوضع بحال إغفال المكر الكُبَّار والدور الضخم لأعداء الأمة
وصنائعهم داخلها في ذلك، والذين مزقوا الأمة تحت رايات القومية بصورها
المختلفة في تارات، وتحت رايات الشعارات الإقليمية الضيقة (الوطنية) في
تارات أخرى، حتى إنه لم يعد يوجد ذكر للرابط الشرعي بين أفراد الأمة في جل
الأوقات إلا في بعض الخطب والبيانات السياسية التي تستلزم ذلك.
وأنكى ما في الأمر أن التشرذم قد جاوز الملأ والعامة إلى العلماء والدعاة
أنفسهم، وأصبح المتأمل في واقع الصحوة يشاهد داء التعصب، والولاء والبراء
من منظور حزبي لا شرعي. وأزمة الثقة، وسوء الظن، وتتبع الزلات تموج في
أوساط الأفراد والمؤسسات والجماعات الدعوية موج البحر.
في ظل هذا الظلام الدامس والواقع المفزع للتوحيد والوحدة والانقياد للشرع
في حياة الأمة يأتي الحج بما يحمل في طياته من توحيد نقي وعبودية حقة؛ بدءاً
من التلبية التي يجيب فيها الحاج نداء ربه ويعلن إفراده - سبحانه - وحده دون
سواه بالألوهية، ومروراً ببقية الشعائر التي يتقصد فيها الحاج مخالفة المشركين
والسير على هدي إمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتضمنه من
صور مشرقة ومعالم وضَّاءة للوحدة؛ إذ الرب المقصود واحد، والدين واحد،
والرسول المتبوع واحد، والزمان واحد، والمكان واحد، واللباس واحد، والشعائر
والأحكام واحدة، ولا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر
على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى.
زد على ذلك ما يشتمل عليه من استسلام تام وخضوع شامل في القصد
والهيئة والزمان والمكان وأداء الشعائر.. يأتي الحج بهذه الهيئة ليكون بمثابة أمل
يطل ونور يسطع على كل غيور بأن الأمة لا تزال حية تحمل في طياتها مقومات
البقاء وإمكانات النهوض والوحدة، وإن اعتورها من العاهات وأصابها من
الأمراض الفتاكة الشيء الكثير، مما يرجى أن يكون في ذلك دافعاً قوياً لكل مخلص
لأمته معتز بهويتها مشفق على واقعها للتركيز على هذا النور الخافت في بحر
الظلمات بدلاً من التيهان في تأمل الظلمة، والقيام بالمحافظة عليه ورعايته حتى
يقوى على مدافعة الظلام ومن ثم إزاحته أو تقليل مساحته؛ لأن الاستمرار في
التباكي دون القيام بعمل مثمر لن يزيد الظلام إلا انتشاراً ولا النور إلا إخفاتاً.
ولعل مما يدفع لذلك أن الحج جهاد وبذل وعمل بنوعيه القلبي والبدني
ونهوض الأمة واجتماع كلمتها وانقيادها لكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم
لن يكون إلا بجهاد وبذل وعمل بنوعيه أيضاً.
وغير خفي التحول الضخم الذي أحدثه الحج في نفوس كثير من الوجهاء
وذوي الشأن في كثير من البقاع عبر التاريخ؛ مما حدا بهم إلى الدعوة إلى الخير
بدلاً من مواجهته والوقوف حجر عثرة في سبيله.
ولعل من التباشير الجالبة للأمل ما هو ملحوظ من عود كثير من العلماء
والدعاة بعد الحج إلى بلدانهم وهم أشد حماساً لدعوتهم، وأكثر استعداداً للبذل
والتضحية في سبيل تمكينها، وما هو مشاهد من تأثير الحج على قطاع كبير من
الحجيج ودفعه إياهم إلى تغيير حياتهم نحو الأفضل بمفارقة ما لديهم من عقائد
مغلوطة وسلوكيات منحرفة وتقصير في طاعة الله عز وجل، وليس هذا فحسب؛
إذ يتجاوز بعضهم أمر الاستقامة إلى الدعوة فيقوم بدور إصلاحي في مجتمعه يدعو
فيه إلى الحق مناصراً أهله، ويقارع الباطل مجابهاً حملته.
وبعد هذا: فيا ترى من يكون له شرف السبق في نهضة الأمة واجتماع
كلمتها؟ ! ويا ترى من يحمل الراية ويقول: أنا لها؟ !
وفَّق الله الجميع للخير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.(160/4)
إشراقات قرآنية
سورة العصر
فوائد ودروس
عبد العزيز بن عبد الله الصالح
تمهيد:
إن الله سبحانه وتعالى إنما أنزل القرآن لأخذ العبرة والعظة منه؛ حيث قال:
[فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2)
وأمر سبحانه بتدبر كتابه والتأمل في معانيه فقال: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) .
وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان
لها أثر في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن» [1] ؛ ذلك أنه كان يتمثل
القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً، وهناك بعض الآثار عن السلف الصالح
يوصون فيها بتدبر القرآن وأخذ العظة والعبرة منه.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا
تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر
السورة» .
قال علي بن أبي طالب: «لا خير في قراءة لا تدبر معها» .
وقال ابن مسعود: «إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط
حرفاً وقد أسقط العمل به» .
من هذا المنطلق ومحبةً في المساهمة في هذا الجانب أضع بين يديك هذا
المبحث تحت عنوان: (سورة العصر: فوائد ودروس) ، وقد وقع الاختيار على
هذه السورة؛ لأنها تمثل منهجاً كاملاً للحياة الإسلامية سواء الفرد أو المجتمع.
أهمية السورة: لقد علم سلفنا الصالح ما لهذه السورة من الأهمية البالغة حتى
كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى
يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثمًَّ يسلِّم أحدهما على الآخر، وقال الشافعي:
«لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس» .
ومن تأمل في هذه السورة وجد فيها مقومات المجتمع المتكامل الذي قوامه
الفضائل المثلى والقيم الفضلى [2] .
ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بقوله: [وَالْعَصْرِ] (العصر: 1) . وهو
الدهر كله أقسم الله به لما فيه من العجائب: أمة تذهب وأمة تأتي، وقدر ينفذ وآية
تظهر وهو لا يتغير، ليل يعقبه نهار، ونهار يطرده ليل، فهو في نفسه عجيب.
وهو في نفسه آية سواء في ماضيه لا يعلم متى كان، أو في حاضره لا يعلم
كيف ينقضي، أو في مستقبله « [3]
ومن هنا نعلم أهمية الوقت في الحياة وعظمته؛ لأن الله سبحانه عظيم ولا
يقسم إلا بما هو عظيم.
وقيل: أقسم الله بصلاة العصر لفضلها؛ لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور.
وفي الحديث:» من فاتته العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله « [4] وخُصَّت
بالفضل؛ لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر
النهار واشتغالهم بمعايشهم» [5]
قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن ربنا
أقسم بالعصر و (العصرُ) اسم للدهر، وهو العشي والليل والنهار، ولم يخصص
مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى؛ فكل ما لزمه هذا الاسم فداخل فيما أقسم به
جل ثناؤه» [6]
تأملات في معاني السورة:
ومن تأمل في هذه السورة وجد أنها تقرر حقيقة ضخمة وهي: «أنه على
امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هناك
إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجٍ هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده،
وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه، وكل ما وراء ذلك ضياع
وخسار» [7]
[ِإنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ] (العصر: 2)
لفظ الإنسان وإن كان مفرداً فإن (أل) فيه جعلته للجنس. والخسر: قيل:
هو الغبن، وقيل: النقص، وقيل: العقوبة، وقيل: الهلكة، والكل متقارب. ولم
يُبيِّن هنا نوع الخسران في أي شيء؟ بل أطلق ليعمَّ، وجاء بحرف الظرفية ليُشعر
أن الإنسان مستغرق في الخسران وهو محيط به من كل جهة [8] .
وهذه الآية هي جواب القسم. والخسر والخسران: النقصان وذهاب رأس
المال. والمعنى: إن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال
الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت [9] . «والخسار مراتب متعددة
متفاوتة: فقد يكون خساراً مطلقاً كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم
واستحق الجحيم. وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمَّم
الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات» [10] وسيأتي ذكرها.
[إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) فإنهم في تجارة
لن تبور؛ حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات
الصالحات بالغاديات الرائحات؛ فيا لها من صفقة ما أربحها، ومنفعة جامعة للخير
ما أوضحها! ! [11] .
وقد ورد في هذه الآيات الصفات المنجية من الخسران وهي:
1 - الإيمان بما أمر الله به، ولا يكون الإيمان بدون العلم؛ فهو فرع عنه
ولا يتم إلا به.
2 - والعمل الصالح: وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة
المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.
3- والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي: يوصي بعضهم
بعضاً بذلك، ويحثُّه عليه، ويرغِّبه فيه.
4 - التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله
المؤلمة.
فبالأمرين الأوَّلين يكمِّل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمِّل غيره،
وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم [12] .
وعن مجاهد: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) يقول:
إلا الذين صدَّقوا الله، ووحَّدوه، وأقروا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات
: وأدُّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه. واستُثني الذين
آمنوا من الإنسان؛ لأن الإنسان بمعنى الجمع لا بمعنى الواحد [13] .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير
وتتعلق به كل ثمرة من ثماره؛ وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته صائر إلى ذبول
وجفاف، وإلا فهي ثمرة شيطانية وليس لها امتداد أو دوام، وهو المحور الذي تُشَدُّ
إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة، وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء، ذاهبة بدداً مع
الأهواء والنزوات. هو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ويردها إلى نظام تتناسق
معه وتتعاون، وتسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم ولها
هدف مرسوم.
والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في
ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب؛ فللإيمان حقيقة إيجابية
متحركة، ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج
في صورة عمل صالح، هذا هو الإيمان الإسلامي الذي لا يمكن أن يظل خامداً لا
يتحرك، كامناً لا يتبدَّى في صورة حسِّية خارج ذات المؤمن، فإن لم يتحرك هذه
الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها فهو ينبعث
منها انبعاثاً طبيعياً وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان: إنه حركة وعمل وبناء وتعمير يتجه إلى الله، إنه
ليس انكماشاً وسلبية وانزواءاً في مكنونات الضمير، وليس مجرد النوايا الطبيعية
التي لا تتمثل في حركة، وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء
كبرى في صميم الحياة [14] .
قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3)
عن قتادة وعن الحسن: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ] (العصر: 3) : كتاب الله.
[وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) طاعة الله [15] .
ويعتبر التواصي بالحق من الخاص بعد العام؛ لأنه داخل في عموم
الصالحات، وقد جاءت آيات في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة
كلها أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها، من ذلك ما وصَّى الله به الأنبياء
عموماً من نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن بعدهم في قوله تعالى: [شَرَعَ لَكُم
مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] (الشورى: 13) . وقد كانت هذه
الوصية عمل الرسل لأممهم من بعدهم.
ويأتي عقبها قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) . بمثابة التثبيت
على هذا الصراط المستقيم؛ إذ الصبر لازم على عمل الطاعات كما هو لازم لترك
المنكرات [16] .
وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قَدْره،
وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه [إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وأيضاً التواصي بالصبر مما يندرج تحت
التواصي بالحق؛ فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة
على إنافته على خصال الحق، ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها [17] .
والتواصي بالحق ضرورة؛ فالنهوض بالحق عسير والمعوقات عن الحق
كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة، وطغيان الطغاة،
وظلم الظلمة، وجور الجائرين. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في
الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة؛ فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات
الفردية؛ إذ تتفاعل معاً فتتضاعف؛ تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه
غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله، وهذا الدين وهو الحق لا يقوم
إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح
وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجهه الفرد والجماعة ولا بد من الصبر، لا
بد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير والصبر على الأذى والمشقة والصبر
على تبجح الباطل وتنفُّج الشرّ، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل
وانطماس المعالم وبُعد النهاية!
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف
ووحدة المتجه، وتساند الجميع وتزوُّدهم بالحب والعزم والإصرار إلى آخر ما يثيره
من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوِّها، ولا تبرز إلا من
خلالها وإلا فهو الخسران والضياع [18] .
الدروس والفوائد:
1- اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلُّم أربع مسائل: الأولى: العلم وهو
معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة:
الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه؛ والدليل قوله تعالى: [وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 1-3) . قال الشافعي: «لو ما أنزل الله حجة
على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم» [19] .
2 - قوله: [وَالْعَصْرِ] (العصر: 1) هذا إقسام منه جل وعلا بالدهر
وهو الوقت والعمر، وقد أقسم الله به لعظمته، وبيَّن بعده أن الإنسان في خسر؛
وذلك في استغلال هذا الوقت، ثم استثنى بعد ذلك أهل الإيمان والعمل الصالح؛
لأنهم عرفوا قيمة الوقت فاستغلوه أحسن استغلال.
3 - أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر: لما فيه من العبر من جهة مرور
الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء؛ فإن في ذلك دلالة بيِّنة
على الصانع عز وجل وعلى توحيده [20] .
4 - إن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلا
المؤمنين؛ فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم [21] ، ولعل
هذا يشهد له الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري؛ حيث قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول: «إذا كان العبد يعمل عملاً
صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح
مقيم» [22] .
5 - الخسران جاء في هذه الآية مجملاً، وقد بينته آيات أخر في كتاب الله.
أما الخسران بالكفر فكما في قوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ] (الزمر: 65) وأما الخسران بترك العمل فكما في قوله تعالى: [وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ] (المؤمنون: 103) وأما
التواصي بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال، والحق هو الإسلام
بكامله، وقد قال تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) وأما الخسران بترك التواصي بالصبر
والوقوع في الهلع والفزع فكما قال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: 11) [23] .
6 - الإيمان لغة التصديق. وشرعاً: الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الست
في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام
والإيمان والإحسان، [وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) : العطف يقتضي
المغايرة. ولذا قال بعض الناس: إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان.
ومقالاتهم معروفة.
والصحيح: أن الإيمان اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح؛
فالعمل داخل فيه، ويزيد وينقص؛ فمجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه كما كان يعتقد
عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته، ولكنه لم يقل كلمة يُحاجُّ له صلى الله
عليه وسلم بها، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين ولم يعمل كان مناقضاً لقوله [24] .
7 - لا يعتبر العمل صالحاً حتى تتوفر فيه ثلاثة شروط:
1 - موافقة العمل لكتاب الله.
2 - إخلاص النية لله.
3 - كونه صادراً من مؤمن بالله [25] .
8 - استدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلَّد
في النار؛ لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. إلخ.
وأجيبَ عنه: بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في
[خُسْرٍ] (العصر: 2) ، وأما على كونه مخلداً في النار فلا، كيف والخسر عامٌّ؛
فهو إما بالخلود إن مات كافراً، وإما بدخول النار إن مات عاصياً ولم يُغفر له،
وإما بفوات الدرجات العاليات إن غُفر له. وهو جواب حسن [26] .
9 - قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) جاء الحث على التواصي
بالرحمة أيضاً مع الصبر في قوله تعالى: [ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] (البلد: 17) [.
وبهذه الوصايا الثلاث: بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتواصي
بالرحمة تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوام الفضائل المثلى والقيم الفضلى؛ لأن
بالتواصي بالحق: إقامة الحق والاستقامة على الطريق المستقيم، وبالتواصي
بالصبر يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ويتخطون كل عقبات
تواجههم، وبالتواصي بالمرحمة: يكونون مرتبطين كالجسد الواحد؛ وتلك أعطيات
لم يعطِها إلا القرآن وهذه السورة الموجزة] 27 [.
10 - وفي السورة الإشارة إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وأن من يقوم به غالباً يتعرض لأذى الناس؛ فلزمهم التواصي بالصبر كما قال
لقمان لابنه يوصيه:] يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [ (لقمان: 17) ] 28 [.
11 - وسنذكر هنا بعض المسائل المنتقاة من كتاب: (أضواء البيان للشيخ
محمد الشنقيطي) فأما التي تتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فمنها:
المسألة الأولى: «اعلم أن كلاً من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق
المأمور به، وقد دلَّت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى
عن المنكر ويفعله أنه حمارٌ من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها» .
وقد دلَّ القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمارٌ أيضاً.
أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء بالرجل يوم القيامة
فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل
النار عليه فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن
المنكر؟ ! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر
وآتيه» ] 29 [.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في
النار ليس على الأمر بالمعروف وإنما على ارتكابه المنكر عالماً بذلك.
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما
يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما
ليس معروفاً وينهى عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عمّ فيه الجهل
وصار فيه الحق منكراً والمنكر معروفاً والله تعالى يقول:] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو
إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (يوسف: 108) فدلَّ على أن الداعية لا
بد أن يكون على بصيرة، وتكون دعوته بالحكمة وحسن الأسلوب واللطافة مع
إيضاح الحق؛ لقوله تعالى:] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ [
(النحل: 125)
المسألة الثالثة: الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه كما قال تعالى:] رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ (النساء: 165) .
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف كما قال تعالى في
صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت:] قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [
(الأعراف: 164) وقال تعالى:] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [ (الذاريات: 54)
فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوماً.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور كما قال تعالى:] قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ [ (الأعراف: 164) ، وقال:] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [
(الذاريات: 55) .] 30 [
12 - قد بيَّن الله أن الناس أقسام ثلاثة إزاء دعوة الرسل:
1 - قوم آمنوا وقالوا: ربنا الله، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح.
2 - قوم ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم، وهم أحسن قولاً بلا شك.
3 - قوم عادوا الدعاة وأساؤوا إليهم.
قال تعالى:] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ [
(فصلت: 30) إلى قوله:] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [ (فصلت: 33-34) ] 31 [.
يقول سيد قطب رحمه الله: «وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي
يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران؛ فيهولنا أن نرى الخسر
يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء، يهولنا هذا الضياع
الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة، هذا والمسلمون هم أبعد أهل الأرض
عن هذا الخير وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم» إلى أن
قال: «ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض، وهو على عظمته إذا قيس بشأن
الآخرة صغير، وهناك هناك الربح الحق والخسر الحق، هناك في الأمد الطويل
وفي الحياة الباقية وفي عالم الحقيقة هناك الربح والخسر: ربح الجنة والرضوان،
أو خسر الجنة والرضوان، هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له أو
يرتكس فتهدر آدميته وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في
المرابحة.
ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم
يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر] 32 [.
__________
(1) صحيح مسلم،، كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض.
(2) أضواء البيان، (9/507) .
(3) المصدر السابق، (9/491) .
(4) أخرجه البخاري، ح/ 552، مسلم، ح/ 626، واللفظ له.
(5) روح المعاني، ج 3، (227 228) بتصرف.
(6) جامع البيان، (15/289 290) .
(7) في ظلال القرآن، (6/ 3964) .
(8) أضواء البيان، (9/494 495) بتصرف.
(9) فتح القدير، (5/579 580) .
(10) تفسير السعدي، (863) .
(11) روح المعاني، (30/228) .
(12) تفسير السعدي، (864) .
(13) ابن جرير الطبري، (15/290) .
(14) في ظلال القرآن، (6/3966 3967) .
(15) جامع البيان، (15/290) .
(16) أضواء البيان، (9/503 506) بتصرف.
(17) فتح القدير، (5/580) .
(18) في ظلال القرآن، (6/3986) .
(19) انظر الأصول الثلاثة، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ص 3.
(20) فتح القدير، (5/579) .
(21) تفسير القرطبي، (20/179) .
(22) البخاري، (4/70) في الجهاد، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، وأبو داود (3091) .
(23) أضواء البيان، (9/496 497) مختصراً.
(24) المصدر السابق، (9/501 502) مختصراً.
(25) المصدر السابق، (9/502) مختصراً.
(26) روح المعاني، (30/229) .
(27) أضواء البيان، (30/507 508) .
(28) المصدر السابق، (30/ 506) بتصرف.
(29) أخرجه البخاري، ح/ 3267، 7098، مسلم، ح/ 2989، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(30) أضواء البيان، (2/172 176) مختصراً بتصرف.
(31) أضواء البيان، (9/508) .
(32) في ظلال القرآن، (6/3986 3971) مختصراً بتصرف.(160/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: [وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) ، وجعله سبحانه قدوة
حسنة لهم فقال: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21)
والحج من أوضح عبادات الإسلام التي يتجلى فيها اتباع النبي صلى الله عليه
وسلم والتأسي به، والملحوظ في واقع الناس اليوم سيطرة الحديث عن الأحكام
وانشغالهم بتعداد الأخطاء التي تقع فيه، وما يصح به النسك أو يبطل، ومع أهمية
هذا الجانب وضرورته نتيجة تفشي الجهل ودوران صحة العمل أو بطلانه على ذلك،
إلا أنه أدى إلى نسيان الكثير من جوانب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وإغفال أعداد غفيرة من الحجيج لمعان كثيرة راعاها النبي صلى الله عليه وسلم
أثناء أدائه لنسكه، وفي ظل هذا الغياب أصبح المرء يرى في الحج العديد من
المظاهر التي يقع فيها كثير من طلبة العلم الحريصين على تطبيق السنَّة فضلاً عن
غيرهم، وهي غير متفقة مع هديه صلى الله عليه وسلم، ولذا جاءت هذه المقالة
لتحاول إعطاء توصيف أشمل وصورة أدق عن أحواله صلى الله عليه وسلم في
الحج لعل في ذلك مزيد عون للمتأسين به صلى الله عليه وسلم، والسائرين على
نهجه. ونظراً لكثرة الحديث عن صفة نسكه صلى الله عليه وسلم فلن تتعرض
المقالة لذلك، وستكتفي بإبراز نماذج وإشارات عامة في الجوانب الأخرى نظراً
لكون الموضوع أوسع من أن تحيط به مقالة أو تكفي في عرضه الموارد المعتمدة.
ورغبة في تقريب الموضوع ولمِّ شتاته للقارئ فسيكون في ثلاثة محاور
رئيسة:
الأول: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع ربه:
لم يشغل النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الحجيج وقيادتهم والعناية بأهل بيته
ورعاية زوجاته عن الصلة بربه والانكسار بين يديه، وقد أخذ ذلك صوراً وأشكالاً
شتى من أبرزها:
1 - تحقيق التوحيد والعناية به:
يعد التوحيد أحد القضايا الرئيسة التي عمل النبي صلى الله عليه وسلم في
الحج على تحقيقها والعناية بها، وهذا جلي من خلال التأمل في أعماله صلى الله
عليه وسلم في الحج، ومن ذلك: التلبية وهي شعار الحج التي تتضمن إفراد الله
وحده لا شريك له بالعمل، واستمر صلى الله عليه وسلم يلهج بها منذ دخوله في
النسك إلى حين رميه لجمرة العقبة يوم النحر.
ومنها: عنايته صلى الله عليه وسلم بإخلاص العمل وسؤاله ربه أن يجنبه
الرياء والسمعة كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً قال: «اللهم حجة لا
رياء فيها ولا سمعة» [1] .
ومنها: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة بالتوحيد كما في
حديث جابر رضي الله عنه قال: «فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت،
فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده ... قال مثل هذا ثلاث
مرات ... حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا..» [2] .
2 - إظهار البراءة من المشركين وتعمد مخالفتهم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة المشركين والسير على سنة
أبينا إبراهيم عليه السلام في كثير من شعائر الحج وأحكامه، ووصل الأمر غايته
حين تبرأ صلى الله عليه وسلم من أعمال المشركين في خطبته يوم عرفة، وأخبر
أن كل شيء من أمر الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه [3] . والشعائر التي بان فيها
تعمده المخالفة كثيرة، من أهمها: التلبية، وقد كان المشركون يضمنونها الشرك
بالله ويقولون فيها: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ؛ فأخلص النبي صلى الله
عليه وسلم فيها التوحيد، ونبذ الشرك وتبرأ منه [4] .
ومنها: وقوفه مع الناس بعرفة ومخالفته لكفار قريش الذين كانوا يقفون في مزدلفة
ويقولون: لا نفيض إلا من الحرم [5] .
ومنها: إفاضته من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً المشركين الذين كانوا لا
يفيضون منها حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير [6] .
3 - كثرة التضرع والمناجاة والدعاء:
للدعاء منزلة رفيعة؛ إذ هو «إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة
له» [7] ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» [8] ، وقد
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الحج منه أوفر الحظ والنصيب؛ فقد دعا ربه
في الطواف [9] ، وعند الوقوف على الصفا والمروة، وأطال في الدعاء يوم
عرفة وهو على ناقته رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين منذ أن استقر في
مقامه الذي وقف فيه بعد الصلاة إلى أن غربت الشمس، وفي مزدلفة في المشعر
الحرام منذ أن صلى الفجر إلى أن أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس [10] ، وفي أيام
التشريق بعد رمي الجمرتين الأُوليين كان يستقبل القبلة ويقوم طويلاً يدعو ويرفع
يديه [11] .
هذا شيء مما نقل عنه في دعاء المسألة. أما دعاء الثناء والذكر فلم يفارقه
صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل في النسك إلى أن عاد إلى المدينة؛ إذ لم يزل
صلى الله عليه وسلم رطب اللسان بذكر الله مكثراً من الثناء على الله بما هو أهله
من تلبية وتكبير وتهليل وتسبيح وتحميد راكباً وماشياً وفي جميع أحواله صلى الله
عليه وسلم كما هو جلي لمن قرأ صفة حجه صلى الله عليه وسلم وتتبع أحواله
فيه [12] .
ومن الأهمية بمكان التنبيه على أن المنقول من دعائه صلى الله عليه وسلم
وتضرعه وثنائه على ربه في الحج قليل جداً بالنسبة لما لم ينقل؛ إذ الأصل أن
ذلك سر بين العبد وربه، وإنما جهر صلى الله عليه وسلم بما جهر به حين كان
يريد تأسي أمته به، وإلا فإن ذكر الله من غايات الحج ومقاصده العظام كما يُلْمح
ذلك من قوله عز وجل: [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] (البقرة: 198-200) ، بل إن أعمال الحج
وشعائره إنما شرعت لذكر الله تعالى كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها
مرفوعاً: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة
ذكر الله» [13] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل
وشرب وذكر لله» [14] .
4 - التوقف عند حدود الله عز وجل:
الوقوف عند حدود الله تعالى غاية التقوى ودليل صدق الإيمان وعلامة كمال
العبودية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بحدود ربه، وأتقاهم له،
وأكثرهم تعظيماً لحرماته، وقد لاح ذلك في الحج في مواقف شتى، منها: عندما لم
يُحِلَّ من إحرامه مراعاة لأصحابه؛ لأنه ساق الهدي؛ وذلك أنه صلى الله عليه
وسلم أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بأن يحلوا إحرامهم ويجعلوا حجهم عمرة؛
فتأخروا في ذلك ظناً منهم أنه لم يعزم عليهم في ذلك وإنما أبان لهم الجواز، وقال
بعضهم معبراً عن عدم رغبته في الحل من الإحرام: «نأتي عرفة تقطر مذاكيرنا
المني» ! فقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حين بلغه ذلك فقال: «قد علمتم
أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا» [15] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم عن زوجه صفية رضي الله عنها حين
حاضت ليلة النفر وقبل أن يعلم أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر: «ما أراها
إلا حابستكم» [16] مع ما في ذلك من الحرج الشديد له أمام الخلق؛ إذ كيف يُحبَس
الناس عن النفير بسببها؟ !
5 - الخشوع والسكينة:
يُدرَك حضور القلب وخشوعه بسكون الجوارح ووقارها؛ إذ الظاهر عنوان
الباطن [17] ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجه بين الأمرين؛ فكان
حاضر القلب غير متشاغل بشيء عن نسكه، خاضعاً لربه فيه، ذليلاً منكسراً بين
يدي مولاه، مكثراً من التضرع والمناجاة مع إطالة للقيام ورفع لليدين أثناء ذلك [18] .
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاشع الجوارح يسير سيراً ليناً بسكينة
ووقار، ويؤدي مناسكه بتؤدة واطمئنان، يدل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه
قال: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة» [19] ، وحديث
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم
عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل،
فأشار بسوطه إليهم، وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس
بالإيضاع» [20] .
6 - الاستكثار من الخير ومباشرته:
حث الله عباده على التزود من التقوى والتسابق في الخيرات، فقال عز وجل:
[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة: 197) ،
وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وديدنه فيه، ومن المظاهر
الدالة على ذلك: حرصه صلى الله عليه وسلم على المجيء بمستحبات النسك
كالاغتسال للإحرام [21] ، والتطيب عند الإهلال به وعند الخروج منه [22] ،
وإشعار الهدي وتقليده [23] ، والإكثار من التلبية والجهر بها حتى رمي جمرة
العقبة [24] ، وبدء البيت بالطواف [25] ، والرَّمَل فيه [26] ، والاستلام
للركنين [27] ، وصلاة ركعتي الطواف خلف المقام [28] ، والدعاء على الصفا
والمروة، والسرعة الشديدة في بطن الوادي [29] ، والذكر عند استلام الركنين
ورمي الجمار [30] ، وغيرها من السنن كثير.
7 - التوازن والاعتدال:
خير الأمور الوسط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد كان من أبرز
أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وما تجلى من خلقه في الحج التوازن
والاعتدال، وكراهية الإفراط والتفريط، ولعل الذي يعنينا من ذلك في حاله مع ربه
عز وجل أمران:
الأول: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين العناية بنفسه من خلال
قوة صلته بربه من جهة [31] ، وبين التعليم لأمته وقيادتها، والرعاية لزوجاته
والحنو على أهل بيته من جهة أخرى [32] .
الثاني: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين كل من حقوق روحه
وجسده؛ إذ في ذلك الجو الإيماني المهيب الذي قد يدفع الكثيرين إلى التفريط في
حق الجسد والإفراط في حق الروح نجده صلى الله عليه وسلم معتنياً بجسده غاية
العناية؛ إذ صعد يوم التروية إلى منى ليقرب من عرفة [33] ، ونام ليلة عرفة
ومزدلفة [34] ، وأفطر يوم عرفة [35] ، وترك ليلةَ جَمْع صلاة النافلة [36] ، واستظل
فيه بقبة من شعر ضُرِبت له قبلُ [37] ، وركب في تنقلاته بين المشاعر [38]
وأثناء قيامه ببعض أعمال الحج [39] ، واتخذ صلى الله عليه وسلم من يخدمه ويقوم
بأمره [40] ... ونحو ذلك من الأمور التي ترفق بالجسد، وتمكنه من التقوِّي على
العبادة وأداء النسك بحضور قلب وتدبر وخشوع وطمأنينة.
8 - الزهد في الدنيا:
كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا، معرضاً عما لا ينفع في
الآخرة منها، ومظاهر زهده صلى الله عليه وسلم في الحج بالدنيا وتعلق قلبه
بالآخرة كثيرة لا تكاد تحصى، ومن أبرزها: أنه حج على رَحْل رثٍّ وقطيفة
تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي [41] .
ومنها: إردافه صلى الله عليه وسلم على راحلته أمام الحجيج أسامة بن زيد
رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة، والفضل بن العباس رضي الله عنهما من
مزدلفة إلى منى [42] .
ومنها: عدم تميُّزه في الموسم عن الناس بشيء، وأعظم ما تجلى فيه ذلك أنه
صلى الله عليه وسلم «جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل! اذهب
إلى أمك فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني،
قال: يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقني، فشرب منه» [43] ،
وفي رواية أنهم حين قالوا: نأتيك به من البيت قال: «لا حاجة لي فيه، اسقوني
مما يشرب منه الناس» [44] .
ومنها: عظم هديه؛ إذ قرَّب مائة بدنة [45] ، ومن تعلق قلبه بالدنيا فإنه لا
يُخرِج شيئاً فوق الحد الواجب.
ومنها: جمعه بين الهدي والأضحية [46] مع أن الهدي يجزئ الحاج عنها.
الثاني: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته:
عَجَبٌ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج؛ إذ قام بتعليم الناس
وقيادتهم في آن واحد؛ ومع ذلك فما أنت مريد أن ترى شيئاً فعله صلى الله عليه
وسلم معهم على خلاف الأوْلى إلا وأنت عاجز عن ذلك.
وكل أحواله صلى الله عليه وسلم والوظائف التي قام بها مع أمته دالة على
عظمته وعلو مرتبته، ولعل من أبرز ذلك:
1 - التعليم:
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم «معلماً ميسراً» [47] ، وقد بلغ الغاية
في ذلك، فشهد له الناس بأنه ما رأى الخلقُ «معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً
منه» [48] ، ومن تأمل حَجَّه صلى الله عليه وسلم وجد أنه هو ذلك المعلم
الموصوف بعينه؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يؤذن قبل الحج في الناس بأنه
صلى الله عليه وسلم يريد الحج ليسهل على من يريد مرافقته السفر معه، فقدم
المدينةَ بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم به ويأخذ عنه [49] ، فاختلط بالناس وأشرف
لهم، وبرز طوال الموسم [50] ، وكان أحد لا يُصرف عنه ولا يُدفع [51] ، ولم
يكن حوله ضرب ولا طرد ولا قول: إليك إليك [52] .
وحرص صلى الله عليه وسلم على البلاغ وإقامة الحُجَّة على الخلق فحفزهم
على التعلم، وشحذ هممهم، وشد انتباههم إلى ما يقول ويفعل بتنويع أساليب
الخطاب وطرق التعليم، وأمره لهم بأخذ المناسك عنه لاحتمال أن تكون حَجَّته
الأخيرة [53] ، ومطالبته إياهم بالشهادة له بالبلاغ؛ إذ مراراً ما خاطبهم بعد أن يتم
تعليمهم قائلاً: «ألا هل بَلَّغت؟» [54] ، فيشهد الناس له بذلك قائلين: «نشهد
أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت» [55] .
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على البلاغ والتعليم بنفسه، بل اتخذ من يُبلِّغ
عنه [56] ، وأرسل الرسل لذلك [57] .
وأبرز الأمور التي اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس إياها هي
أحكام المناسك التي جمع فيها النبي بين البيان والتطبيق العملي [58] .
ومن ذلك: بيان منزلة أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ إذ قال صلى الله عليه
وسلم في إحدى خطبه في الموسم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا
شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» [59] .
ومن ذلك: بيان خطورة الشرك وبعض المحرمات العظام؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم: «إنما هن أربع: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم
الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا» [60] .
2 - الإفتاء:
من أهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والأعمال التي تقلب فيها مع الناس
في الحج تبيين المشكل عليهم من الأحكام والجواب عن استفساراتهم، ومن أشهر
فتاويه صلى الله عليه وسلم في الحج «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله!
إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر
بعيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحُجي عنه» [61] ، وقوله صلى الله
عليه وسلم لكل من سأله عن التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر: «افعل ولا
حرج» [62] .
والملحوظ: في إفتائه صلى الله عليه وسلم في الموسم أمور من أوضحها:
وقوفه صلى الله عليه وسلم للناس وبروزه لهم ليروه ويسألوه [63] .
ومنها: جنوحه إلى التيسير في فتاويه [64] والتخفيف على ذوي الحاجات [65] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على الإقناع لمن يستفتيه كقوله صلى الله
عليه وسلم لرجل قال له: «يا رسول الله! إن أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ
كبير لا يثبت على راحلته، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان عليه دين فقضيته
عنه أكان يجزيه؟ قال: نعم. قال: فاحجج عن أبيك» [66] .
ومنها: صبره صلى الله عليه وسلم على السائلين واحتماله لأذاهم مع الرفق
والرحمة بهم [67] .
3 - الوعظ:
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الوعظ اليد الطولى والقدح المعلى؛ إذ
بعثه الله مبشراً ونذيراً، فأرشد أمته إلى الخير ورغبها فيه، ونهاها عن الشر
ورهَّبها منه.
وفي الحج كان للوعظ والتوجيه ميدان فسيح ووجود ظاهر، حتى إن النبي
صلى الله عليه وسلم أعاد التذكير ببعض القواعد والأمور الهامة [68] من غير ما
تكلُّف أكثر من مرة، وقد تناول وعظه صلى الله عليه وسلم موضوعات عدة كان
من أهمها:
التزهيد في الدنيا؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم قبل الغروب بعرفات: «أيها
الناس! إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى
منه» [69] .
ومنها: الأمر بالتقوى والدلالة على ما يُدخِلُ المرءَ الجنةَ؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم؛ وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم،
وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» [70]
ومنها: بيان أن لا أحد يحمل جريرة أحد، وأن المسؤولية أمام المولى عز
وجل فردية؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا
يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» [71] .
ومنها: الترغيب في ترك الفسوق والعصيان أثناء النسك والاشتغال بما ينفع؛
إذ قال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم
ولدته أمه» [72] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس البر بإيضاع الخيل ولا
الرِّكاب» [73] .
ومنها: التحذير من الغلو؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس!
إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» [74] .
ومنها: الوصاية بالضعفاء من النساء والأرقَّاء والأمر بالإحسان إليهم؛ إذ قال
صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله» [75] ، وجاء في حديث مرفوع: «أرقَّاءَكم أرقاءَكم
أرقاءَكم أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون؛ فإن جاؤوا بذنب لا تريدون
أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم» [76] .
4 - توحيد الأمة، وتحذيرها من الفتن ودواعي الافتراق:
كان الحج بما يحمل في طياته من وحدة بين أفراد الأمة في الشعور والمشاعر
فرصة سانحة لتوحيد الأمة وتحذيرها من الفتنة ودواعي الفرقة، وقد اهتم النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وأولاه عنايته، وقد أخذ ذلك الاهتمام مظاهر شتى
من أبرزها:
تسويته صلى الله عليه وسلم بين أفراد الأمة، وعدم تمييزه بينهم إلا بالتقوى؛
إذ قال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم واحد، وأباكم واحد؛ ألا لا فضل
لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر
على أسود إلا بالتقوى» [77] .
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لمن يقيم كتاب الله عز
وجل، ولزوم الجماعة والنصح للأئمة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن أُمِّر
عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» [78] ، وقال صلى
الله عليه وسلم بالخيف من منى: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص
العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من
ورائهم» [79] .
ومنها: تحذيره صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لتحريش الشيطان؛ حيث
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة
العرب، ولكن في التحريش بينهم» [80] .
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم محذراً أمته: «ألا وإني مستنقِذٌ أناساً، ومستنقَذٌ مني أناس فأقول:
يارب أصيحابي! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [81] .
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عما يسبب الفرقة ويؤدي إلى الفتنة في
المجتمع المسلم كالاقتتال؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استنصت الناس:
«لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» [82] .
وكالاستهانة بدماء الآخرين وأموالهم وأعراضهم؛ حيث قال صلى الله عليه
وسلم في خطبه الثلاث في عرفة ويوم النحر وأوسط أيام التشريق: «فإن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم
هذا» [83] .
وكالظلم وأخذ أموال الناس بغير طيب نفس منهم؛ حيث قال صلى الله عليه
وسلم: «اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا؛ إنه
لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» [84] .
5 - التربية على الاتباع وتوحيد مصدر التلقي:
الإسلام هو الخضوع والذل لله وحده والإذعان لما جاء به رسوله صلى الله
عليه وسلم، ولا تثبت قدم أحد فيه ما لم يسلِّم لنصوص الوحي، وينقاد إليها ولا
يعترض على شيء منها [85] ، والحج آية في الانقياد ومدرسة في التسليم
والاستسلام، ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه رضي الله عنهم على
توحيد متابعته، وغرس في نفوسهم ضرورة التأسي به. يقول جابر رضي الله عنه
واصفاً الحال: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه القرآن
ينزل، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به» [86] ، فأنتجت تلك
التربية العظيمة ثمرات يانعة مباركة.
ومظاهر تربيته صلى الله عليه وسلم في الحج لأصحابه رضي الله عنهم على
المتابعة والاقتصار في الأخذ والتلقي على نصوص الوحي كثيرة، من أبرزها:
مطالبته صلى الله عليه وسلم الحجيج في مواطن عدة خلال الموسم بالتأسي به
وتحفيزه إياهم على ذلك بذكر احتمال أن تكون حجته تلك آخر حجة له؛ إذ قال
صلى الله عليه وسلم مراراً: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد
حجتي هذه» [87] .
ومنها: حثه صلى الله عليه وسلم الناس في خطبته يوم عرفة على الاعتصام
بالتنزيل والتمسك به؛ لأن ذلك طريق الوقاية من الزيغ والضلال؛ حيث قال صلى
الله عليه وسلم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب
الله» [88] .
ومنها: تحذيره صلى الله عليه وسلم أمته من اتباع الأهواء والابتداع في
الدين؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم وهو واقف على ناقته بعرفات: «ألا وإني
فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم؛ فلا تُسوِّدوا وجهي، ألا وإني مستنقِذ
أناساً ومستنقَذ مني أناس، فأقول: يا رب أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما
أحدثوا بعدك» [89] .
6- القيادة الناجحة والمعاملة الحسنة:
جمَّل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بكمالات الأخلاق، وزيَّنه بأجل
الآداب، فامتلك لذلك مقومات القيادة الناجحة والأساليب المثلى للمعاملة الحسنة،
فهوت لذلك إليه الأفئدة، وتدافع عليه الناس حين بلغهم عزمه على الحج كل يريد
السير في رعايته وتحت لوائه، فحج معه أكثر من مائة ألف إنسان [90] كل يريد
أن يأتم به ويعمل مثل عمله [91] فأثر صلى الله عليه وسلم في نفوسهم أعمق تأثير،
ووجههم أحسن توجيه، وقادهم أعظم قيادة عرفتها البشرية.
ولن تستطيع هذه الكلمات القليلات الإتيان على كافة جوانب عظمته صلى الله
عليه وسلم في قيادة تلك الأفواج الضخمة من الحجيج وإبراز تعامله الفذ معها؛ ولذا
فستقتصر على ذكر إشارات وتجلية جوانب مختصرة لتكون أنموذجاً لما خلفها
ودليلاً على ما وراءها، وذلك فيما يلي:
أ - جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة حسنة:
عاب الله عز وجل على بعض عباده قول الخير والأمر به دون فعله، فقال
سبحانه: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]
(البقرة: 44) ، ولأن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن [92] ؛ فما
كان عليه الصلاة والسلام ليأمر أمته بأمر إلا وكان أسبقهم إليه، وما كان لينهاهم
عن شيء إلا وكان أبعدهم منه، وفي الحج تجلى لديه صلى الله عليه وسلم هذا
الخلق السامي في مواقف عدة، من أبرزها:
ما جاء في خطبة الوداع حين قال صلى الله عليه وسلم: «ألا كل شيء من
أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع
من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا
الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه
موضوع» [93] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان يحث أصحابه على بر
الحج والاشتغال بالطاع والخضوع لله عز وجل والانكسار بين يديه سبحانه [94]
كان أكثرهم تقرباً وخشية، وأعظمهم ذلاً لله تعالى وضراعة بين يديه [95] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان يحث أصحابه على
الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة [96] كان يحج على رحل رث وقطيفة لا تكاد
تساوي أربعة دراهم [97] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بترك المزاحمة وأداء النسك بتؤدة
وطمأنينة، وأفاض هو صلى الله عليه وسلم بسكينة وكان يسير على مهله [98] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الغلو في الدين وأمرهم بأن
يرموا الجمرة بمثل حصى الخذف [99] ، ورماها هو صلى الله عليه وسلم بمثل ما
أمرهم به [100] .
وهذا الأمر من أعظم ما دعا الناس إلى حبِّه صلى الله عليه وسلم، وحملهم
على التأثر به؛ إذ هو عنوان استقامة القيادة وإخلاصها ودليل إيمانها فيما تأمر به
وجديتها في تنفيذه.
ب - تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الناس:
التواضع سيد الأخلاق ومصيدة الشرف، ومن أسباب رفعة الله تعالى للعبد
كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «وما تواضع أحد لله إلا
رفعه الله» [101] ، وقد أمر الله سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل:
[وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] (الشعراء: 215) فامتثل صلى
الله عليه وسلم أمر ربه، فبلغ في التواضع منزلة لا يطاوله فيها أحد من الخلق.
وفي الحج تجلى تواضعه صلى الله عليه وسلم في قيادته للناس من خلال
مواقف وصور شتى كان من أبرزها:
ما تقدَّم من أن حَجَّه صلى الله عليه وسلم كان على رحل رث، وقطيفة لا
تكاد تساوي أربعة دراهم [102] .
ومنها: إباؤه صلى الله عليه وسلم التميز عن الناس بشيء، ومن أجلى ما
ظهر فيه ذلك: رفضه صلى الله عليه وسلم أن يُخَصَّ بماء لم تُجعل فيه الأيدي دون
الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه ذلك: «لا حاجة لي فيه،
اسقوني مما يشرب منه الناس» [103] .
ومنها: إردافه صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة
إلى مزدلفة أمام الخلق وهو من الموالي [104] .
ومنها: وقوفه صلى الله عليه وسلم لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها ويجيب
عن سؤالها [105] .
ومنها: تمكن كل أحد من الوصول إليه وقضاء بغيته منه بيسر إذ لم يكن
صلى الله عليه وسلم يتخذ حُجَّاباً يصرفون الناس عنه ويمنعونهم من مقابلته
والتحدث معه [106] .
فكسب صلى الله عليه وسلم بتواضعه الجم قلوب الناس وثقتهم، ونال محبتهم.
ج - رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس:
الإسلام دين الرحمة، وشريعته مبنية على العطف والشفقة في أصولها
وفروعها [107] ؛ ولذا فمن البدهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا رحمة
كما قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) وكما أخبر
صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك فقال: «إنما بعثت رحمة» [108] .
وفي الحج نرى رحمته صلى الله عليه وسلم في قيادة الناس متجلية في مواقف
كثيرة وصور متنوعة، كان من أبرزها:
إلزامه صلى الله عليه وسلم لمن لم يَسُقِ الهدي من أصحابه بالحل الكامل من
الإحرام، والذي يتضمن إتيان النساء ولبس الثياب ومس الطيب رحمة بالأمة
وتخفيفاً عنها [109] .
ومنها: جمعه صلى الله عليه وسلم لصلاتي الظهر والعصر في عرفات [110] ،
وتأخيره للصلاة حين أفاض إلى مزدلفة [111] حتى لا يشق على الناس بتعدد
النزول، ويتمكن الحاج من إناخة بعيره ووضع متاعه في الموضع الذي سيبيت فيه.
ومنها: إذنه صلى الله عليه وسلم للضعفة في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس
ليلاً حين يغيب القمر حتى يتمكنوا من أداء أعمال يوم النحر قبل الناس تخفيفاً عنهم
ووقاية لهم من الزحام [112] .
ومنها: تيسيره صلى الله عليه وسلم على الناس في التقديم والتأخير في
أعمال يوم النحر، وقوله لمن سأله عن ذلك: «افعل ولا حرج» [113] .
ومنها: تخفيفه صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الحاجات كإذنه لعمه العباس
رضي الله عنه بأن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته الحاج [114] ، وإذنه لرعاة
الإبل بأن يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما [115]
ومنها: تركه صلى الله عليه وسلم لفعل الأفضل في أحيان رحمة بالناس
ورفقاً بهم كركوبه في الطواف والسعي واستلامه الحجر بمحجن، وتركه تقبيله
واستلامه باليد، والمشي في الطواف والسعي وهو أفضل لكي لا يصرف الناس
عنه ويضربوا بين يديه [116] .
د - إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى الناس:
وفي الحج نجد أن إحسانه صلى الله عليه وسلم أثناء قيادته للناس لا يحد؛ إذ
ما أنت متأمل في جانب إلا وترى إحسانه فيه بارزاً، وبما أن حصر دلائل إحسانه
صلى الله عليه وسلم في كافة الجوانب أمر يطول وليس بغاية، فسيُقتصر فيما يلي
على أمثلة من ذلك:
إكثاره صلى الله عليه وسلم في الموسم من البذل والعطاء؛ إذ قسم في
المساكين بُدْنَه المائة كلها: لحومها وجلودها وجلالها [117] ، وقسم الصدقة على
الناس في أكثر من موضع [118] .
ومنها: إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى أسامة بن زيد والفضل بن العباس
رضي الله عنهم بإردافهما خلفه على راحلته خلال التنقل بين عرفة ومزدلفة
ومنى [119] .
ومنها: إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى الضعفاء من خلال الوصاية بهم في
خطبه [120] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على نجاة أمته وقبول الله لها؛ إذ ألح
على الله بالدعاء لها بالمغفرة عشية عرفة وفي مزدلفة [121] ، وحين طلب أحدهم
الدعاء منه عمم دعاءه فقال: «غفر الله لكم» [122] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على البلاغ من خلال وضوح البيان
والتكرار لما يحتاج إلى ذلك، وتركه تشقيق الأمور؛ إذ اقتصر صلى الله عليه
وسلم في خطبه على بيان أصول الإسلام والمحرمات العظام وبعض القواعد التي
تحتاج إلى مزيد بيان حتى يوعى عنه ويفهم [123] .
ومنها: استجابته صلى الله عليه وسلم لرغبات الناس وتحقيقه لمطالبهم تطييباً
لنفوسهم ومراعاة لخواطرهم [124] .
هـ - صبره صلى الله عليه وسلم على الناس:
جُمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج أنواع الصبر الثلاثة في آن
واحد؛ إذ كان أبر أصحابه رضي الله عنهم بالله، وأعظمهم صبراً في امتثال
الأوامر وفعل القربات حتى يؤديها بطمأنينة وإخبات وخشوع بين يدي مولاه
سبحانه [125] .
كما كان صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله تعالى، وأعلمهم به، وأغضبهم له،
وأحفظهم لحدوده، وأبعدهم عن انتهاك حرماته [126] .
أما صبره صلى الله عليه وسلم على الناس وتحمله لمشقة قيادتهم دون ملل أو
سخط أو تضجر فأمر يبهر العقل، ويكفي للتدليل عليه تصور وظائفه صلى الله
عليه وسلم وإدراك حاله في الموسم وواقع من حج بهم.
فأما وظائفه: فقد كان صلى الله عليه وسلم عبداً لله حريصاً على تحقيق
الكمال البشري في التذلل لله والانكسار بين يديه سبحانه، وأداء النسك على وجهه.
وكان صلى الله عليه وسلم قائداً للناس وراعياً لهم ومسؤولاً عن أحوالهم
واجتماع كلمتهم.
وكان صلى الله عليه وسلم معلماً مرشداً لتلك الأفواج الضخمة من البشر
ومربياً لها على الخير، يختلج في صدره حرص شديد على تحقيق الكمال في تبليغ
الرسالة وبيان الأحكام.
و رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس:
وفي الحج بان رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس أثناء قيادته لهم في مواقف
عدة:
منها: استظلاله صلى الله عليه وسلم وركوبه في التنقل بين المشاعر، وغير
ذلك من جوانب اليسر التي لو فعل صلى الله عليه وسلم خلافها لكان على العباد في
التأسي به مشقة عظيمة [127] .
ومنها: ركوبه صلى الله عليه وسلم أثناء أداء بعض المناسك كالطواف
والسعي خشية أن يُدفع عنه الناس ويُضربوا بين يديه [128] .
ومنها: بروزه صلى الله عليه وسلم للناس طوال الموسم لكي لا يشق على
الناس تأسيهم به أو سؤاله عما يشكل عليهم [129] .
ومنها: تخفيفه صلى الله عليه وسلم على الناس وعدم تكليفهم من الأمر فوق
ما يطيقون، سواء من جهة أعمال النسك أو من جهة قيادته الحجيج وتوليه أمرهم،
وهذا جلي لمن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم في الحج [130] .
ومنها: عدم قربه صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد طوافه بها طواف القدوم
حتى رجع من عرفة [131] ، واستقراره صلى الله عليه وسلم على الصحيح بمنى في
أيام التشريق، وعدم خروجه منها إلى الحرم إلا حين أراد الوداع، وفي ذلك من
الرفق ما هو ظاهر [132] .
ومنها: اختياره صلى الله عليه وسلم للأيسر دوماً؛ كما تقدم من أمره صلى
الله عليه وسلم من لم يَسُقِ الهدي من أصحابه رضي الله عنهم بالحل، وجمعه صلى
الله عليه وسلم للصلوات في عرفة ومزدلفة، وقصره للصلاة بمنى [133] .
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالرفق بأنفسهم،
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين رأى رجلاً يسوق بدنة وهو يمشي:
«اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك في
الثالثة أو في الثانية» [134] .
الثالث: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أهله:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أرعى الخلق لقريب، وأحناهم على رحم،
وأكثرهم إحساناً إلى أهل، شهد المخالطون له صلى الله عليه وسلم بذلك، فوصفه
واصفهم بأنه صلى الله عليه وسلم كان «أبر الناس وأوصل الناس» [135] .
وفي الحج تجلى بره بأهله، وصلته صلى الله عليه وسلم لرحمه، وإحسانه
إلى أقاربه في صور شتى ومشاهد مختلفة، ومن الأهمية بمكان الإشارة قبل تعداد
شيء من ذلك إلى أن أهل بيت النبوة رضي الله عنهم قد شاركوا الناس فيما أفادهم
به صلى الله عليه وسلم، ومن دلائل ذلك قول عائشة رضي الله عنها مخاطبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سمعتك تقول لأصحابك ما قلت؛ فمنعت
العمرة» ، بل إن المتأمل في أمر النسك يجد أن كثيراً من أحكامه منقول عنهم،
وذلك لما كان لهم رضي الله عنهم من مزيد لصوق به صلى الله عليه وسلم
واختصاص دون الناس، ولعل من أبرز أحواله صلى الله عليه وسلم معهم ما يلي:
1 - تعليمهم أحكام النسك:
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهل بيته أحكام النسك ليصفو لهم
تقربهم، وتصح منهم عبادتهم، ومن دلائل ذلك:
ما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: أهلُّوا يا آل محمد بعمرة في حج» [136] ، وقوله صلى الله
عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت قبل أن تطوف بالبيت: «افعلي ما
يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» [137] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأغيلمة
بني عبد المطلب ليلة مزدلفة: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» [138] ، وما
روي عنه صلى الله عليه وسلم حين قالت له عائشة رضي الله عنها: ألا نبني لك
بيتاً يظلك بمنى؟ فقال: «إنما منى مناخ من سبق» [139] .
2 - مواساتهم ومراعاة خواطرهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي أهل بيته حين كان الأمر يقع على
خلاف ما يشتهون، ويراعي خواطرهم؛ فيفعل ما يريدون إذا كان الأمر لا يعارض
مراد الله تعالى، وأبرز ما كان هذا الأمر مع زوجه عائشة رضي الله عنها وذلك
حين دخل عليها وهي تبكي؛ لأنها مُنِعَتِ العمرة المفردة بسبب الحيض، فواساها
صلى الله عليه وسلم قائلاً: «فلا يضركِ، أنت من بنات آدم، كتب الله عليك ما
كتب عليهن، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها» [140] ، وحين قالت رضي
الله عنها: «يا رسول الله! أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج؟ فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فذهب بها إلى التنعيم،
فلبَّت بالعمرة» [141] .
3 - الرفق بهم والتيسير على ضعيفهم وصاحب الحاجة منهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحج رفيقاً بآل بيته، رحيماً بهم، يحن
على ضعيفهم ويختار الأيسر لهم، ويعطف على صاحب الحاجة منهم ويخفف عنه،
والشواهد الدالة على ذلك عديدة، منها:
اختياره صلى الله عليه وسلم الأيسر لزوجاته وأمرهن به، كما في حديث
حفصة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن
عام حجة الوداع» [142] .
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لما دخل على ضباعة بنت الزبير رضي
الله عنها وهي وجعة: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث
حبستني» [143] .
4 - إزالة ما لديهم من منكر:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تنقية آل بيته رضي الله عنهم من
المعاصي، وتصفيتهم من المنكرات؛ فكان إذا وقع أحدهم في منكر أنكر عليه،
وصرفه عنه، ومن ذلك إنكاره صلى الله عليه وسلم العملي على الفضل بن العباس
رضي الله عنهما النظر إلى المرأة الخثعمية التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه
وسلم ومنعه له من الاستمرار في ذلك [144] ، بل إنه صلى الله عليه وسلم جعل من
آل بيته في هذا الجانب قدوة للناس، ومن ذلك حين قام صلى الله عليه وسلم خطيباً
في وسط الناس بعرفة فقال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع،
ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن
الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول
ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله» .
5 - تشجيعهم على الخير وحثهم عليه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث آل بيته رضي الله عنهم على فعل
الطاعات، ويشجعهم على التزود من الخيرات، ومن ذلك: أنه حين مر على بني
عمومته، وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس خاطبهم قائلاً:
«انزعوا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت
معكم» [145] ، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان ييسر لهم ذلك، ومنه: إذنه لعمه
العباس رضي الله عنه بالبيتوتة بمكة ليالي أيام التشريق من أجل سقايته
الحجيج [146] .
6 - وقايتهم من الفتن:
الفتن مفسدات للقلوب، مزيغات للألباب، وحين تجتمع الأعداد الغفيرة من
الذكور والإناث تكون الفرصة مهيأة لحصولها، وبخاصة فتنة النساء، ولذا نجد
النبي صلى الله عليه وسلم يخاف على آل بيته رضي الله عنهم في الحج منها؛
ويحرص صلى الله عليه وسلم على حمايتهم عند تعرضهم لها، ومن الشواهد الدالة
على ذلك:
إسدال نسائه صلى الله عليه وسلم بحضرته للجلابيب على وجوههن وهنَّ
محرمات عند محاذاة الرجال لهن، فإذا جاوزوهن كشفن [147] .
ومنها: توجيهه صلى الله عليه وسلم لنسائه بعدم مخالطة الرجال في الطواف
مع أنهن رضي الله عنهن كن يطفن معهم، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم لأم سلمة رضي الله عنها: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» [148] ،
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي
على بعيرك والناس يصلون ففعلت ولم تصلِّ حتى خرجت» [149] ، وكما يفهم ذلك
من حديث ابن جريج قال: «أخبرني عطاء إذْ منع ابن هشام النساء الطواف مع
الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟
قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري! لقد أدركته بعد الحجاب، قلت:
كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف
حَجْرَة من الرجال لا تخالطهم، فقالت: امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! قالت:
عنك. وأبت، فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا
دخلن البيت قُمْن حتى يدخلن، وأخرج الرجال» [150] .
7 - الإحسان إليهم:
تعددت وجوه إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى آل بيته وتنوعت بصورة
جعلت المتأمل يجزم بأن كل أحواله صلى الله عليه وسلم معهم إحسان؛ إذ ما من
جانب إلا وأنت راءٍ أن فضله صلى الله عليه وسلم عليهم ظاهر، وجوده عليهم بيِّن،
ودلائل ذلك فوق الحصر، ومن أوضح ذلك:
حرصه صلى الله عليه وسلم على أدائهم للنسك معه، وإقناعه لمن لم يكن
ينوي منهم الخروج بالمبادرة إلى ذلك، كما في قصة ضباعة رضي الله عنها حين
دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: «أردت الحج؟ قالت: والله ما
أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث
حبستني» [151] .
ومنها: خروجه صلى الله عليه وسلم بجميع نسائه رضي الله عنهن [152] ،
وهو أمر يفوق العدل كما هو جلي لمن تدبر؛ إذ كان بوسعه صلى الله عليه وسلم
أن لا يخرج بواحدة منهن، أو أن يقرع بينهن ويخرج بإحداهن.
8 - الاستعانة بهم واستعمالهم:
استعان النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته رضي الله عنهم، واستنابهم
واستعملهم في بعض أمره، ومن شواهد ذلك:
جعله صلى الله عليه وسلم زوجه عائشة رضي الله عنها تفتل له قلائد بُدْنِه
من صوف كان عندها بالمدينة قبل أن يحرم [153] .
ومنها: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: القطْ لي حصى، فلقطت له سبع
حصيات» [154] .
ومنها: إعطاؤه صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ما بقي من بُدْنِه
لينحرها [155] ، وأمره صلى الله عليه وسلم له بأن يقوم على بُدْنِه، وبأن يتصدق
على الناس بلحومها وجلودها وأجلتها [156] .
ومنها: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم من بني عمه حين جاء إليهم وهم
يسقون الناس من زمزم، فقال لعمه العباس رضي الله عنه: «اسقني، فشرب
منه» [157] ، ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم» [158] .
وبعد:
فإن ما سبق من سطور لا يعدو أن يكون ومضات مشرقة من أحواله صلى
الله عليه وسلم في الحج، كتبت من مقل على عجل، راجياً من ربي قبولها والنفع
بها، لتكون عوناً للسائرين إليه عز وجل على حج مبرور وذنب مغفور،
والموضوع أكبر من أن يحيط به مثلي، وهو بحاجة إلى مزيد بحث، وإمعان فكر،
وتدقيق نظر، أسأل الله أن يهيئ له من يقوم به على وجهه من أهل العلم، إنه
على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى
آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) سنن ابن ماجه: رقم: 2890، وضعف إسناده الحافظ في الفتح: 3/446، وصححه الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة: 2617.
(2) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(3) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(4) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1185.
(5) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1665، وصحيح مسلم: رقم: 1219.
(6) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1684، سنن ابن ماجه: رقم: 3022.
(7) فتح الباري لابن حجر: 11/98.
(8) جامع الترمذي: رقم: 2969، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 2590.
(9) انظر: سنن أبي داود: رقم: 1892.
(10) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(11) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751.
(12) انظر في ذلك على سبيل المثال الأحاديث الآتية: صحيح البخاري: رقم: 1544، 1550، 1750، 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(13) الترمذي: رقم: 902، وقال: حسن صحيح، المستدرك للحاكم: 1/459، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير، بالصحة، وحسنه الأرناؤوط في جامع الأصول رقم: 1505، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: رقم: 2056.
(14) صحيح مسلم: رقم: 1141.
(15) صحيح البخاري: رقم: 7367، صحيح مسلم: رقم: 1216.
(16) صحيح البخاري: رقم: 1772.
(17) انظر: فتح الباري لابن حجر: 2/264.
(18) النصوص الدالة على ذلك كثيرة، انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم 1218.
(19) سنن النسائي: رقم: 3024، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: رقم: 2827 (20) صحيح البخاري، رقم: 1671 (21) انظر: جامع الترمذي: رقم: 830 وقال عن الحديث: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 664.
(22) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1539.
(23) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1545، 1697.
(24) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544، 1573، صحيح مسلم: رقم: 1184.
(25) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1615.
(26) انظر: صحيح البخاري: رقم: 616.
(27) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1609، صحيح مسلم: رقم: 1218، المسند لأحمد: رقم: 4686 وإسناده صحيح.
(28) انظر: جامع الترمذي: رقم: 856 وقال: (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 679.
(29) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218، 1261.
(30) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(31) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(32) انظر: صحيح البخاري: رقم: 305، 1556، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(33) انظر: سنن أبي داود: رقم: 1911 وصحح الحديث الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1682.
(34) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(35) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1658.
(36) انظر: صحيح البخاري، رقم: 1673.
(37) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(38) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1666، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(39) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1608.
(40) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1313، المسند لأحمد: رقم: 27290.
(41) سنن ابن ماجه: رقم: 2337.
(42) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544.
(43) صحيح البخاري: رقم: 1636.
(44) المسند لأحمد: رقم: 1814 وهو حديث صحيح.
(45) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1718.
(46) انظر: صحيح مسلم: رقم: 3180.
(47) صحيح مسلم: رقم: 1478.
(48) صحيح مسلم: رقم: 537.
(49) انظر: سنن أبي داود: رقم: 1905، وصحح الحديث الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1676.
(50) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1187، 1218، 1273.
(51) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1274، المسند لأحمد: رقم: 2842، وإسناده حسن.
(52) انظر: سنن ابن ماجه: رقم: 3035، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2461.
(53) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1297.
(54) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1741، المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره.
(55) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(56) انظر: سنن أبي داود: رقم: 1949، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: رقم: 1717.
(57) انظر: جامع الترمذي: رقم: 890 وقال حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 700، المسند لأحمد: رقم: 10664 وهو حديث صحيح.
(58) انظر: صحيح مسلم: رقم 1218، الترمذي: رقم 885، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 702.
(59) جامع الترمذي: رقم: 616، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 512.
(60) المسند لأحمد: رقم: 18989 وسنده صحيح.
(61) صحيح مسلم: رقم: 1335.
(62) صحيح البخاري: رقم: 83.
(63) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1736، صحيح مسلم: رقم: 1218، 1273، 1306.
(64) انظر: صحيح البخاري: رقم: 83، 1207، 4853.
(65) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1634، جامع الترمذي: رقم: 954 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 762.
(66) المسند لأحمد: رقم: 1812 وهو حديث صحيح.
(67) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1273، المسند لأحمد: رقم: 2842 وهو حديث حسن.
(68) انظر: صحيح البخاري: رقم: 67، صحيح مسلم: رقم: 1218، المسند لأحمد: رقم: 20695 والحديث صحيح لغيره.
(69) المسند لأحمد: رقم: 6173 والحديث صحيح لغيره.
(70) جامع الترمذي: رقم: 616، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 502.
(71) سنن ابن ماجه: رقم: 2669 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2160.
(72) صحيح البخاري: رقم: 1819.
(73) صحيح البخاري: رقم: 1671، المسند لأحمد: رقم: 2264، واللفظ له.
(74) سنن ابن ماجه: رقم: 3029 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم 2455.
(75) صحيح مسلم: رقم 1218.
(76) المسند لأحمد: رقم: 16409وإسناده ضعيف وله أصل من حديث أبي ذر، انظر صحيح البخاري: رقم: 30، صحيح مسلم: رقم: 1661.
(77) المسند لأحمد: رقم: 23536، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/266 رجاله رجال الصحيح.
(78) صحيح مسلم: رقم: 1298.
(79) سنن ابن ماجه: رقم: 3056 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2480.
(80) صحيح مسلم: رقم: 2812، وانظر: المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره.
(81) سنن ابن ماجه: رقم: 3057 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 2481.
(82) صحيح البخاري: رقم: 121.
(83) صحيح البخاري: رقم: 67، وانظر: صحيح مسلم: رقم: 1218، والمسند لأحمد: 20695.
(84) المسند لأحمد: رقم: 20695 وهو صحيح لغيره.
(85) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 201.
(86) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(87) صحيح مسلم: رقم: 1297، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: رقم: 2449، المسند لأحمد: رقم: 14943 وهو حديث صحيح.
(88) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(89) سنن ابن ماجه: رقم: 3057، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2481، وانظر فتح الباري لابن حجر: 11/393.
(90) انظر: مختصر السيرة لابن عبد الوهاب: 572.
(91) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(92) انظر: صحيح مسلم: رقم: 746.
(93) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(94) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1671، 1718، 1819.
(95) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(96) انظر: المسند لأحمد: رقم: 6173، والحديث صحيح لغيره.
(97) انظر: صحيح ابن ماجه: رقم: 2890 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: رقم: 2337.
(98) انظر: جامع الترمذي: رقم: 886، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 703.
(99) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1282، سنن ابن ماجه: رقم: 3029.
(100) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1299.
(101) صحيح مسلم رقم: 2588.
(102) انظر: سنن ابن ماجه رقم: 28990، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 237.
(103) المسند لأحمد: رقم: 1814، وهو حديث صحيح، وانظر: صحيح البخاري: رقم: 1636.
(104) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544.
(105) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1335.
(106) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1274، سنن ابن ماجه: رقم: 3035، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: رقم: 2461.
(107) انظر: الرياض الناضرة، للسعدي: 61 وما بعدها.
(108) انظر: صحيح مسلم: رقم: 2599.
(109) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1213، 2131.
(110) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(111) انظر: صحيح البخاري: رقم: 136.
(112) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1567.
(113) انظر: صحيح البخاري: رقم: 83.
(114) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1745.
(115) انظر: جامع الترمذي: رقم: 968، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 763.
(116) انظر: صحيح مسلم: رقم: 2217.
(117) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1317.
(118) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1679، سنن أبي داود: رقم: 1633، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن أبي داود: رقم: 1438.
(119) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544.
(120) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1218.
(121) انظر: المسند لأحمد: رقم: 16207، وإسناده ضعيف، وقواه ابن حجر بمجموع طرقه في القول المسدد في الذب عن المسند: 35 38.
(122) المسند لأحمد: رقم: 15972، وهو حديث حسن.
(123) انظر: جامع الترمذي: رقم: 616، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن الترمذي، رقم: 512، المسند لأحمد، رقم: 18989، وسنده صحيح.
(124) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1518، 1680، المسند لأحمد: رقم: 15972.
(125) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1544، 1751، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(126) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1772، 6367.
(127) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1666، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(128) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1274.
(129) انظر: صحيح مسلم: رقم: 1187، 1218، 1273.
(130) انظر: سنن أبي داود: رقم، 1905، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن أبي داود: رقم: 1676.
(131) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1545.
(132) انظر: زاد المعاد لابن القيم: 2/310 311 السيرة النبوية لابن كثير: 4/ 404.
(133) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1656، صحيح مسلم: رقم: 1218.
(134) صحيح البخاري: رقم: 1689.
(135) صحيح مسلم: رقم: 1072، وانظر: صحيح البخاري: رقم: 3818، 4954، 5990.
(136) المسند لأحمد: رقم: 26590، صحيح ابن حبان: رقم: 3922، وإسنادهما صحيح.
(137) صحيح مسلم: رقم: 1211.
(138) جامع الترمذي: رقم: 893، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: رقم: 709.
(139) جامع الترمذي: رقم: 881، وقال حسن صحيح المستدرك للحاكم: 1/638، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وضعفه بعضهم - وهو الظاهر - لأن مدار الحديث على
مسيكة، وهي كما قال ابن خزيمة في صحيحه: 4/284: لا تعرف بعدالة ولا جرح.
(140) صحيح البخاري: رقم: 1788، وانظر صحيح مسلم: رقم: 1211.
(141) صحيح البخاري: رقم: 1561، صحيح مسلم، رقم: 1211، سنن أبي داود: رقم: 1782، وسنده صحيح، واللفظ له.
(142) صحيح البخاري: رقم: 4398.
(143) صحيح البخاري: رقم: 5089.
(144) صحيح البخاري: رقم: 1513.
(145) صحيح مسلم: رقم: 1218.
(146) انظر: صحيح البخاري، رقم: 1745.
(147) سنن أبي داود: رقم: 1833، وفي سنده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، ولكن للحديث شواهد يقوى بها.
(148) صحيح البخاري: رقم: 1619.
(149) صحيح البخاري: رقم: 1626.
(150) صحيح البخاري: رقم: 1618.
(151) صحيح البخاري: رقم: 5089، صحيح مسلم: رقم: 1207، واللفظ له.
(152) انظر: السيرة النبوية لابن كثير: 4/222.
(153) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1696، 1704، 1705.
(154) سنن ابن ماجه: رقم: 3029، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 2455.
(155) انظر: سنن ابن ماجه رقم: 3074، وصحح الحديث الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 2494.
(156) انظر: صحيح البخاري: رقم: 1718، 2299، صحيح مسلم: رقم: 1317.
(157) صحيح البخاري: رقم: 1635.
(158) صحيح البخاري: رقم: 1637.(160/12)