ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
المواجهة الفاصلة بين
الإسلام والنصرانية في إندونيسيا
د. توفيق محمد علوان
كنا قد تناولنا في مقال سابق [*] الأسباب التي دعت إلى ذلك التفوق النسبي
ونجاح التنصير في إندونيسيا، وبينَّا أن الأسباب التي أدت إلى هذه النائبة هي
أسباب عديدة ومتشابكة، وتشمل كافة جوانب الحياة العملية والاقتصادية السياسية
وغيرها من جوانب الحياة، وحددنا الأسباب الجغرافية والأسباب التاريخية
والأسباب الثقافية والأسباب السياسية وناقشناها. ونواصل في هذا المقال تناول بقية
الأسباب التي من وجهة نظرنا وعبر مشاهداتنا الواقعية تعتبر من أكبر الأسباب التي
أدت إلى هذه النازلة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين في إندونيسيا المسلمة
وهي:
أولاً: الأسباب الاقتصادية.
ثانياً: الأسباب الاجتماعية.
ثالثاً: الأسباب العقائدية.
رابعاً: الأسباب الإعلامية.
فهذه الأسباب مجتمعة مع الأسباب السابقة قد تضافرت على الإسلام هنالك،
وأدت إلى كل ما أنت راءٍ أمامك من تحلل وتمزق وانهيار بلغ ذروته في سلخ
تيمور الشرقية نهائياً من الجسد الإسلامي، ولكن الطامة الكبرى لا تكمن ها هنا،
بل إنها تكمن في أنه إذا انفرط هذا العقد فلسوف تتتابع حباته سراعاً إلى الزوايا
السحيقة والضياع التام، وكم هنالك من تيمور بعد تيمور لا يدري العالم شيئاً عنها،
وهي كثيرة وعديدة في إندونيسيا تتربص بها العيون الصليبية تمدها من ورائها
المعاول الباترة جغرافياً وسياسياً وتنصيرياً ودولياً لوضع كلمة الختام على سفر هذه
المأساة التي نسيها الجميع في غمار النكبات المتلاحقة على أطراف العالم الإسلامي.
أولاً: الأسباب الاقتصادية:
إن جميع المؤسسات الاقتصادية المتحكمة في الاقتصاد الإندونيسي تقع بغير
استثناء في قبضة النصارى والصينيين الذين يجثمون بنيرهم الثقيل على أعناق
المسلمين، ويأكلون أكلهم ويشربون شربهم، ويعتصرون دماءهم. وقد تصاب
بصدمة هائلة ومفاجأة كبرى عندما يتبين لك أن هذه البنايات الشاهقة والتي تبشر
بنهضة عالية وضعت إندونيسيا في حقبة معينة بين النمور الاقتصادية التسعة التي
هددت الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، إن هذه النهضة بلحمها وشحمها قد حصد
ثمارها وجنى جناها النصارى وحدهم، بينما تحكموا دون رحمة أو هوادة في
أرزاق الملايين الكثيرة التي بقيت تتضور جوعاً وتقاسي أشد حالات الحرمان
والإذلال اليومي بحثاً عمَّا يقيم حياة الكفاف. هذه الجموع المنهكة التي ثارت في
نهاية الأمر ثورة عاتية شعواء حرقت في لهيبها كل ما يمت إلى النصارى بصِلَة:
بيوتهم، ومؤسساتهم، وشركاتهم، وبنوكهم، وقبل ذلك أنفسهم وأسرهم.
(قبيل سقوط سوهارتو عام 1998م) ، الأمر الذي بدا ظاهراً للعيان أنه ناجم عن
الشعور الجسيم بالإحباط والهوان من التحكم الذي لا يرحم من النصارى، وخاصة
ذوي الأصل الصيني منهم. وكم كانت ملاحظة جديرة بالتأمل والتحليل أنه في
أثناء الهياج الكامل للناس وحرق كل ما تقع عليه أيديهم ومن أراد إنقاذ نفسه أو
مؤسسته أو أمواله أو بيته من الهجمات العارمة، فليس عليه إلا أن يكتب بخط كبير
ظاهر: «أنا مسلم» أو «الله أكبر» ، وغنيٌّ عن البيان الدلالة الحاسمة لذلك،
ألا وهي أن المسلم الجائع والذي أخذ ينهب كل ما تقع عليه يده إنما يدرك دون
غموض من هم الذين امتصوا دماءه، وأحرقوا فؤاده [1] .
إن النصارى يسيطرون على النصيب الأعظم من كل أنواع التجارة بمساعدة
الدولة، وعلى سبيل المثال، فإن الحكومة إبان النهضة الاقتصادية العامة في جنوب
شرق آسيا في السنوات العشر الأخيرة قد صرحت في أكتوبر عام 1988م، بقانون
تنظيم البنوك الأجنبية والخاصة (Pakta 1988) ، ومنذ ذلك التاريخ وحتى
ديسمبر عام 1995م تم تأسيس 165 بنك خاص، ولهذه البنوك 3458 منفذ بنكي
غالبيتها الساحقة بأيدي النصارى (إن لم تكن جميعها) . كما تم التصريح لعدد 41
بنكاً أجنبياً بعدد منافذ ومكاتب يبلغ 83 (كلها للنصارى الأجانب) . إن البنوك
الخاصة التي تتحكم في اقتصاد البلاد مثل: البنك المركزي لآسيا، بنك بالي،
BDNI,BLL، بنك دانامون، بنك دوتا، بنك نيجا، بانين بنك. أو البنوك
الأجنبية مثل: بنك أمريكا، بنك هونج كونج، بنك طوكيو، بنك بنكوك، بنك
تشيس مانهاتن، وغيرها، كلها تقريباً بأيدي غير مسلمة. إن الشركات المالية
الاقتصادية قد بلغت 252 شركة في عام 1995م باستثناء شركات رأسمالية الدولة.
أما شركات التأمين فقد بلغت حتى أغسطس عام 1996م عدد 173 شركة للتأمين
وإعادة التأمين، كما أن الشركات المدعمة لها 115 شركة.
هذه الأعداد الهائلة والتي تتحكم في مليارات الدولارات تحكماً كاملاً غالبيةُ
أتباعها من بنوك وشركات وتأمينات هم من النصارى (بعض التقارير تؤكد أنهم
جميعاً من النصارى والصينيين) فهذا كله من الأسباب الرئيسة للأزمة الاقتصادية
من جانب، وأزمة الإسلام في مواجهة التنصير من جانب آخر [2] .
ولا يغربن عن بالك أن النصارى الذين بلغوا هذا القدر من الثراء والغنى لن
يضنوا على إخوانهم المنصرين القادمين من أقصى الأرض بالأموال الطائلة عوناً
لهم على أداء الدور الذي جاؤوا من أجله. كل هذا والمسلمون يدورون دون رحمة
تحت النير النصراني الثقيل، بينما يكدحون مواصلين الليل بالنهار بحثاً عن حفنات
الأرز الكفاف.
ثانياً: الأسباب الاجتماعية:
هناك أسباب اجتماعية تفسر ظاهرة التنصير المستشرية، ألا وهي حرص
الأبواق الحكومية، وبصورة ملحة على ضرورة تنظيم النسل، ولا شك أن
الكثيرين من المسلمين، نظراً للظروف الاقتصادية القاهرة، مضافاً إليها الإلحاح
الإعلامي، سرعان ما تستجيب لهذه الدعايات، مما أدى إلى التناقص المستمر في
نسل المسلمين عبر العقود الأخيرة. بينما النصارى في أماكن تجمعاتهم لا يلقون
بالاً لهذه الدعايات؛ ذلك أنهم يلتزمون بصورة صارمة بالتعاليم الكنسية
البروتستانتية والكاثوليكية التي تحرضهم على الزيادة في النسل بكل وسيلة ممكنة؛
مما دعا بعض المحللين إلى اعتبار هذا الخلل الجسيم في التوازن السكاني
(حيث كانت النسبة 100% للمسلمين منذ نصف قرن فقط) ، إنما يرجع إلى هذه
الأسباب، لا إلى النجاح في عمليات التنصير.
ثالثاً: الأسباب العقائدية:
عقيدة الدولة الإندونيسية علمانية، أي أنها لا تلقي بالاً إلى الديانات عند
تخطيط وتوزيع الخدمات أو الامتيازات، ولقد أدى هذا المذهب الأعمى إلى إيقاع
أشد الظلم بالمسلمين؛ حيث تم فتح الأبواب والفرص دون تمييز بين الأغلبية
الساحقة من المسلمين، وبين الأقلية التي لا تكاد تذكر من النصارى على رغم
القاعدة المعتمدة في جميع أنحاء العالم والتي بموجبها تخضع الأقليات لرأي الأغلبية
وإن لم تعتنقه، وإلا لزم العكس وهو غير معقول، إلا في حالة الأغلبيات المسلمة
والأقليات النصرانية كما هو الحال في إندونيسيا؛ حيث يتوجب على الأغلبية
المسلمة أن تعطل كافة أعمالها احتفالاً بالأعياد النصرانية الكثيرة، وعلى الأغلبية
المسلمة أن تنصت بإمعان إلى البرامج المتتالية والتي لا تنقطع فيها الدعوة إلى
الديانة النصرانية والتنصير المعلن الصريح الذي يذاع دون مداراة في التلفزيون
الإندونيسي. وعلى الغالبية المسلمة أن تنصت بإعجاب إلى البطولات الخارقة لدعاة
التنصير في التلفزيون الإندونيسي، مثال الأم تيريزا التي واصل التلفزيون
الإندونيسي في حالة من الإبهار والاستعراض الكامل عرض تفاصيل حياتها
التنصيرية على أعين الجمهور المسلم وأسماعه لساعات طوال، وكنت واحداً من
المنكوبين بهذه البرامج؛ حيث رأيت التضخيم الذي لا يعقل في بعض الأحيان
لأعمال هزيلة تافهة يمكن دون جهد مشاهدة أضعاف أضعافها من صغار الدعاة من
الشباب الإسلامي، كذا تصوير الترف الذي تمارسه المنصرات على أنه شظف
وجهاد ونبذ للحياة الدنيا، فضلاً عن الكذب والخداع وتقليب الحقائق والأمور، دع
عنك الدعاية طوال هذا جميعه إلى أدلة كون الحق المبين في الديانة النصرانية،
هذا الذي على الغالبية المسلمة في إندونيسية المسلمة أن تعيه وأن تسمعه، وخاصة
في يوم الأحد؛ حيث إن يوم الجمعة يوم عمل لا يهدأ؛ بينما الأحد هو الإجازة
الرسمية في أنحاء البلاد التي يقطنها مائتا مليون من المسلمين الذين ما زالوا بعدُ
يحتفظون بشعائرهم يوم الجمعة وعلى رأسها شعيرة صلاة الجمعة.
رابعاً: الأسباب الإعلامية:
الإعلام الإندونيسي خاصة التلفزيون يركز بصورة أساسية على البرامج
النصرانية التنصيرية الصريحة خاصة في أيام الأجازات والعطلات الرسمية، كذلك
في أوقات الذروة الهامة من البث التلفزيوني.
وإنني ومع أني مسلم مضطر إلى الإنصات لساعات طويلة مشاهداً الكنائس
من داخلها، وسماع المواعظ الطويلة وكأني أحد النصارى هذا على الأقل مرة
أسبوعياً. وكما ذكرنا فإن يوم الأحد هو يوم الإجازة الرسمية في البلاد، بيد أن
مائتي مليون من المسلمين ملزمون بالخضوع لهذه الخطة الشنعاء التي تخضع فيها
الأغلبية على صورة مؤلمة لرأي الأقلية التي لا تكاد تذكر، بل الخضوع للأذقان
لعقيدتها وديانتها. والأدهى من ذلك أن الكثير من المؤسسات تعتمد يوم السبت
مضافاً إلى الأحد يوم عطلة أسبوعية مجاملة لعيون اليهود الذين لا وجود لهم أصلاً
إن يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي لا خلاف على العمل فيه بغاية الجد
والإخلاص ودون توقف إلا من أراد أن يصلي الجمعة فإنه يحصل على فترة انقطاع
تساوي قدر الصلاة على أن يعود إلى العمل فور الانتهاء منه. بل إنني لاحظت أنه
كلما كان الموظف أكثر التزاماً أو حتى أراد أن يبدو هكذا أمام رؤسائه فإنه يحرص
غاية الحرص على الانتظام يوم الجمعة. إن العمل يوم الجمعة بالذات هو الدليل
الذي لا تشوبه شائبة على ولاء الموظف والتزامه بالنظام العام في الدولة، وهو
الجواز الذي عبره يحصل على رضى الرؤساء، ولما كان عملي في جامعة إسلامية
تدرس العلوم الشرعية، ولما كان هذا هو النظام المتبع فيها، فلا تسل عن غيرها
من المؤسسات الحكومية الأخرى غير المعنية بشؤون الإسلام، بل لا تسل عن
المؤسسات الخاصة التي يترأسها عادة الصينيون والنصارى والتي لا ترعى فيه
لمشاعر المسلم أدنى اهتمام.
إني لأعجب من هذا النظام وممن يقرره: من الذي يعطل الأعمال يوم الأحد؟
ولماذا يطبق بهذه الصرامة؟ ولماذا كان لا بد على المسلمين بأجمعهم أن يعطلوا
أعمالهم حتى تذهب القلة النصرانية إلى كنائسها هانئين؟ ألم يكن كافياً أن يسمح لهم
مثلاً بالذهاب إلى الكنائس يوم الأحد في الوقت المخصص لعبادتهم، بينما يجازون
مع المسلمين يوم الجمعة؟ وهل يعقل أن يعطل تسعمائة مسلم من كل ألف أعمالهم
كل أسبوع من أجل ذهاب مائة إلى أداء طقوسهم الدينية؟ إن يوم الجمعة هو اليوم
المعلوم على مستوى العالم الإسلامي ومهما كانت العقيدة التي تتبناها الدولة فيه.
ودون النظر إلى مدى وجوبه شرعاً أم لا، بيد أن هذه الظاهرة هي الظاهرة اللافتة
للنظر، والتي تشير دون لبس أو خفاء إلى حالة التحكم النصراني في شؤون الحياة
السياسية والعقائدية في إندونيسيا المسلمة.
وكل يوم أحد يجلس المسلمون في البيوت لكي يستمعوا إما إلى برامج فاحشة
جداً، أو إلى مواعظ نصرانية منوعة في كل أسبوع من كنيسة جديدة، أو خطبة
ووعظ نصراني، أو فيلم عقائدي نصراني، أو سيرة أحد رجال نشر المسيحية
المشهورين.
إن المسلمين يُحرَمون من أعمالهم يوم الأحد لمشاهدة التنصير على كافة
القنوات، وهؤلاء المنصرون والمنصرات في أيديهم الأناجيل يقرؤونها، ولا ندري
على من يقرؤونها؟ أعلى رعاياهم من النصارى أم على المغلوبين على أمرهم من
المسلمين؟
ولماذا يجب على جميع المسلمين أن ينصتوا طوعاً أو كرهاً وأن يلتزموا؟
وبالطبع فإن وسائل الإعلام تعرض المواعظ الإسلامية أيضاً والبرامج
الإسلامية؛ غير أن أوقاتها تكون على الغالب غير مناسبة، وكلها تقريباً بعد صلاة
الفجر في التلفزيون، وهو وقت كما هو معلوم مشحون بالاستعداد للمدارس أو
الاستعداد للخروج للوظيفة أو العمل، علماً بأن اليوم في إندونيسيا يبدأ فعلياً عند
صلاة الفجر أي أن السوق وشراء الحاجيات المنزلية اليومية والسلع الغذائية وغير
ذلك يتم عند الفجر أو قبله بقليل؛ بحيث لا يمكن أن يُرى في السوق أحد في
العاشرة صباحاً مثلاً.
والمقصود أن الأوقات التي يعرض التلفزيون فيها برامجه الإسلامية هي
أوقات أضعف بما لا يقارن بالتوقيت الذي يعرض فيه البرامج النصرانية، وأين
وقت الفجر من وقت الإجازة الأسبوعية بكاملها.
ومما سبق يتبين أن التنصير إنما يتم بأموال المسلمين النازفة في أجهزة
الإعلام، ولقد رأيت ساعة كاملة يوم الإجازة الرسمية ومن بعد صلاة العصر
الاختيار الدقيق لأفضل الأوقات لبطولات الأم تيريزا مصورة في كل مكان نصَّرت
فيه، مع عرض النتائج الباهرة لآثار تنصيرها والجموع التي تسير من ورائها إلى
النصرانية، ذلك الشرف الذي لم يحظ به أحد من كبار دعاة الإسلام الذين قضوا
أعمارهم فداء للدعوة ومنهم في بلاد المسلمين المختلفة، ومنهم من قضاها في بلاد
بعيدة سائحاً في سبيل الله تعالى، بل ومنهم من كان في إندونيسيا نفسها السنوات
الطوال يعلِّم ويعظ ويدعو، ولعل في الصورة التي بيناها لك يتبين ما وراءها،
وقس على ذلك بالطبع الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام.
إن التنصير ها هنا لا يتم في زاوية نائية بعيدة، إنه يبث على وسائل الإعلام
ظُهراً وفي رابعة النهار وعلى كل القنوات، وفي جميع الأوقات.
هذا بالطبع عدا أعياد النصارى؛ حيث تتفرغ نشرات الأخبار المرئية
والمسموعة والمكتوبة لعرض الاحتفالات وتصوير الكنائس والجموع النصرانية في
جميع أنحاء العالم في الاحتفالات الهائلة في أوروبا وأمريكا والفاتيكان وغيرها في
تقارير تفصيلية ومطولة جداً ومنقولة بتمامها من البلاد التي تمت بها.
إن هذه الدعوة القهرية لهي واحدة من أعظم الأسباب، لا أقول في نجاح
التنصير، ولكن لدورها المعنوي الهائل الذي لا ينكر في إشعال مس الجنون في
عقول النصارى.
بركان النار في الجزر الإندونيسية:
بدأت وكالات الأنباء العالمية تنشر بصورة شبه يومية أخباراً عن اشتباكات
بين المسلمين والمسيحيين في بقاع شتى من أنحاء إندونيسيا، هذه السياسة التي
صارت الآن في عداد المسلَّمات المقررة عند بدء أي مخطط دولي لتمزيق أية بقعة
إسلامية على وجه الأرض؛ فهي المقدمة للتدخل الدولي في الصومال عن طريق
نشر أنباء الحرب والمجاعات، وهي الطريق للتدخل السابق في تيمور لفصلها،
وغير ذلك مما هو معلوم من البدايات الإعلامية للاقتحام والتدخل الدولي السافر في
الشؤون الداخلية للدول الإسلامية دون غيرهم من طوائف العالم أجمع. والآن تبدأ
من جديد المقدمة الممجوجة والمكررة نفسها لبدايات التدخل الدولي المزمع للمرة
الثانية في إندونيسيا، الأمر الذي بات المسلمون منه على أشد حالات الفزع
والترقب والارتياب من خطط ونوايا الأمم المتحدة. ويضاف إلى تلك الصورة
المأساوية الحالة المزرية التي تتعامل بها الحكومة الإندونيسية مع الأحداث الجسام
التي تمثل الحياة أو الموت بالنسبة لإندونيسيا ووحدتها وحاضرها ومستقبلها، حيث
يشلها الرعب القاتل من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة الأمريكية خاصة،
والذي تتراخى تحت وطأته أمام خطر داهم محدق بصورة ماثلة لا خفاء فيها، فقد
بدأت «إيريان جايا» في عقد مؤتمر تحت إشراف الحكومة، وهي المحافظة التي
سلمتها الأمم المتحدة في عام 1963م إلى إندونيسيا معتبرة إياها محافظة إندونيسية
خالصة بعد معارك طاحنة بين الحكومة الإندونيسية وبين المتمردين من النصارى
في عام 1961م مع اشتراط إجراء استفتاء عام لسكان الجزيرة وهو ما تم تحت
إشراف الأمم المتحدة في أغسطس عام 1969م، وصارت بناء عليه «إيريان جايا»
هي المحافظة السادسة والعشرين من إندونيسيا. ولكن الدول الأوروبية بقيت تقدم
الدعم العسكري والمالي للمتمردين، وتولت أستراليا كبر الفتنة غير عابئة بقرارات
أو مواثيق. وفي المؤتمر الذي عقد في 29 مايو2000م في «إيريان جايا» قرر
المؤتمرون الانفصال عن إندونيسيا أسوة بتيمور، ووجهوا نداءاً إلى الأمم المتحدة
بسحب قرارها رقم 2504 (1969م) في حالة خداع معلن للرئيس عبد الرحمن
وحيد بعد أن تناقلت الأنباء على أنه دعم المؤتمر بناءاً على وعود من قادة
الانفصاليين بأن يكون مؤتمراً حقيقياً خالياً من أية تدخلات أجنبية. والواضح أن
عبد الرحمن وحيد الذي فوجئ بالذي حدث قد مضى في التنازل على صورة مستفزة؛
بحيث سمح لأول مرة في تاريخ هذه المنطقة للانفصاليين برفع أعلامهم عالية
جنباً إلى جنب مع الأعلام الإندونيسية، مما أثار ثائرة مجلس النواب الإندونيسي
الذي أعلن رئيسه أكبر تانجونج أن الشعب الإندونيسي لن يتسامح في شبر واحد من
الأراضي الإندونيسية، وأن الجميع مستعدون للموت دون ذلك.
ثم كانت أحداث بوسو وجزر الملوك في سولاويسي الوسطى؛ حيث قامت
المجموعات الصليبية بتحريض من الرهبان في الكنائس بالهجوم على المسلمين مما
أدى إلى مقتل مائتين منهم، ولكن الجديد في السيناريو هو الصورة البشعة التي
يصر العالم المتحضر على تقرير أنها أسلوب ناجع في إرهاب المسلمين وإثارة
الذعر في قلوبهم، ألا وهي التمزيق الوحشي للأجساد والتعذيب البشع للأحياء منهم.
ونحن لا ندري كيف اقتنع الغرب بأن هذه المناظر البشعة يمكن أن تحدث آثارها
في إندونيسيا التي تقطنها أكبر أغلبية مسلمة على وجه الأرض؟ إن هذه المناظر
المقززة الكالحة لم يعد لها من فائدة إلا إثبات السعار المحموم الذي يتلمظ في أتونه
الحارق الرهبان الذين فعلوا من الأفاعيل ما لم يجرؤ الكفار الشيوعيون في
الستينيات على فعله، وإذا صحت هذه الأنباء عن هذه الوقائع الوحشية من الجثث
التي عرضتها وكالات الأنباء فإن تداعياتها سوف تعود على النصارى أنفسهم في
إندونيسيا بأوخم العواقب. ومهما تناولت الأمم المتحدة قضيتهم وأعدت المخططات
السرية أو المعلنة لها، فإن إندونيسيا ليست البوسنة أو كوسوفا أو الشيشان، وإن
النصارى بها ليسوا أغلبية حتى يقطعوا الأجساد ويحرقوا القرى، كما أن الشعوب
لا تفهم كثيراً في لهجات ومخططات وألاعيب الأمم المتحدة.
إن المسلمين البسطاء الذين يطالعون هذه الصور والأخبار وبغاية البساطة
ودون كثير فلسفة أو تحليل سوف يحرقون قرى النصارى الذين يمثلون الأقليات في
الغالبية العظمى من الجزر الإندونيسية، وسوف يمزقونهم كذلك بحسب الدروس
الإعلامية المرسلة إليهم من العالم المتحضر بالليل والنهار من أجل الثأر لإخوانهم.
كما أن الضعف المزري في سلوكيات وتصرفات حكومة عبد الرحمن وحيد لن
يؤدي إلى تنصير إندونيسيا أو انفصال «إيريان جايا» ، بل سيؤدي إلى حرب
أهلية منفلتة لا تحكمها إلا معايير تقطيع الأشلاء وتمزيق الجثث وحرق البيوت
والقرى والاغتصاب، والقيم المجيدة التي ميزت عصر الشرعية الدولية، والدروس
البليغة التي علمتها وكالات الأنباء للمسلمين في كيفية التعامل مع الخصوم وتحت
دعوى النصرانية والإنجيلية، وسترتكب الأمم المتحدة والعالم الحر الجريمة الكبرى
التي لن تؤدي إلى تنصير إندونيسيا كما ظل الرهبان والبابوات يحلمون به لمدة
ثلاثة قرون من الزمان، وإنما ستؤدي إلى سحق النصارى عن بكرة أبيهم.
والأغرب من كل هذا أن البابا الذي لزم الصمت المطبق المميت عندما
اغتصبت النساء المسلمات بعشرات الآلاف على مرمى حجر من بيته في أوروبا،
وأعلنت شاهرة جاهرة على جميع القنوات الفضائية، نراه اليوم يرفع عقيرته من
أجل إنقاذ النصارى في إندونيسيا توطئة بالطبع للتدخل العسكري الدولي في شؤونها
الداخلية، وهي اللعبة التي استمرأتها الهيئات الدولية لَمَّا لم تقف في وجهها أمة
مسلمة تدفع عن شرفها وتفضل الموت الكريم على الحياة المستذلة المهينة.
والأغرب منه أن بعض المسلمين الذين ما زالوا يوجهون النداءات للبابا المتسامح
المسالم بتعليم النصارى التعاليم السمحة للإنجيل، وهو الذي حرضهم باسم الإنجيل
على أن يقوموا بالحرق والاغتصاب وتمزيق الأجساد، وهو الذي أزَّهم أزّاً وألهب
مشاعرهم وعلمهم أشد التعاليم توحشاً وهمجية.
إن على المسلمين اليوم سواء في إندونيسيا أو في غيرها أن يدركوا أن خطر
الرهبان الصليبية الوالغة في دمائهم على الإسلام أشد وطأة وأكثر ضراوة من غلاة
الملاحدة الشيوعيين إبان أحقاب العربدة الكافرة في ديار المسلمين، وعليهم أن
يعلموا أن الخلاص لن يكون عبر إرسال النداءات للأمم المتحدة أو مجلس الأمن
الذي ليس من بين وظائفه تحقيق أي أمن لأي مسلم على وجه الأرض. ولا يغرنك
القرارات التي صدرت بأن إيريان جايا جزء لا يتجزأ من إندونيسيا، فلسوف تنعقد
الأمم المتحدة وتلغيها إن رأت إمكانية تدمير إندونيسيا. ولكن على الجميع أن
يذكروا هجمة الغرب القريبة في لبنان عندما ظنوا أن النسبة السكانية المسيحية فيه
يمكن أن تؤدي إلى انتزاع السيادة لهم والحكم بالعبودية على المسلمين، وقامت
المجزرة الكبرى في لبنان حتى أتت على الأخضر واليابس، ثم لم تثمر إلا الآلام
المضنية والجراح الغائرة العميقة، وعادت الأمور سيرتها الأولى.
وإن ما يجري الآن في إندونيسيا من ألاعيب لا مسؤولة وعبث مدمر بالنار
يفعله الرهبان الذين يحملون أشد الوجوه سماحة ووداعة، وأشد القلوب سواداً
وضغناً وحقداً، يتعجلون تنصير إندونيسيا عن طريق الدم والحرق والنار لن
يحرقوا إلا أيديهم، وسيلقنون أهالي إندونيسيا شرائع الغرب المتحضر في البوسنة
ثم كوسوفا ثم الشيشان على مرأى العالم وسمعه، وستطبق هذه الشرائع كذلك دون
الرجوع لأحد على نصارى إندونيسيا ولن يستطيع مجلس الأمن أن يفصل إندونيسيا
عن إندونيسيا، ولا إندونيسيا عن جاوة ولا سومطرة ولا غيرها من الجزر الهائلة
التي تشمل عشرات الملايين من المسلمين الجاهزين معنوياً ودينياً للدفاع عن
إسلامهم حتى الموت.
إن إندونيسيا ليست البوسنة، كما أن النصارى فيها ليسوا هم الصرب. وإذا
ظن العالم أنه بالسهولة التي تم بها قطع تيمور الشرقية سيتم ذلك في سولاوسي أو
وادي الملوك أو إيريان جايا فهو واهم. ولن يفيد ضعف الحكومة الإندونيسية
الحالي في التعجيل بالهدف النصراني المعلن، بل سيؤدي إلى أوخم العواقب إذا
تداعت الأمور ونفد صبر الشعب الإندونيسي على فصول المهزلة التي تدور
شاخصة أمام ناظريه بإسقاطه لهذه الحكومة العاجزة الهزيلة، ومن ثم ينفتح الباب
المتضرم على مصراعيه لصنوف من التطرف والاندفاع والتهور الذي لا تُشبع
نيرانه الجامحة إلا مفاخر الحروب المتحضرة التي لقنها الغرب للمسلمين، فهي
مفخرة جديدة وإنجاز عظيم من سلسلة الإنجازات الكبرى التي أتحفت الشرعية
الدولية والأمم المتحدة عالمنا البائس المبتلى بها، وانتظروا فإنا منتظرون..!
مناطق سقطت في قبضة التنصير:
أولاً: نوساتنجارا الشرقية:
- العاصمة: كوبانج.
- المساحة: 47876 كيلو متر مربع.
- تتكون من 111 جزيرة أكبرها تيمور.
- بها أقل مستوى لسقوط الأمطار في جميع أنحاء إندونيسيا.
- بها حيوانات ما قبل التاريخ (زواحف عملاقة) .
- عدد السكان: 274,577,3 نسمة.
- الكثافة السكانية: 75 فرداً لكل كيلو متر مربع.
- توزيع أصحاب الديانات:
- المسلمون: 12,9%.
- بروتستانت: 16,33%.
- كاثوليك: 89,52%.
- هندوس: 19,0%. بوذيون: 04,0%.
ثانياً: إيريان جايا:
- المساحة: 421981 كيلو متر مربع.
- عدد السكان: 627,942,1.
- العاصمة: جايا بورا.
- غنية بإنتاج البترول والنحاس.
- تشمل نصف جزيرة إيريان (جينية) وهي ثاني أكبر جزر العالم.
- تتميز بمنحدرات جبلية تنحدر تدريجياً، ومناطق شاسعة من المسطحات
المائية.
- الكثافة السكانية: 5 أشخاص لكل كيلو متر مربع.
- توزيع أتباع الديانات:
- مسلمون: 15%.
- بروتستانت: 63%.
- كاثوليك: 20%.
- هندوس: 1,0%. بوذيون: 8,0%.
- تتميز بثقافتها الشعبية التقليدية والتي تميز المجموعات العرقية المختلفة.
ثالثاً: تيمور الشرقية:
- العاصمة ديلي.
- المساحة: 14874 كيلو متر مربع.
- غنية بالأخشاب المميزة: الخشب الأحمر، خشب الحديد، خشب الرقائق
وغيرها.
- عدد السكان: 839719.
- الكثافة السكانية: 56 فرداً لكل كيلو متر مربع.
- توزيع أتباع الديانات:
- مسلمون: 7,1%.
- بروتستانت: 6,2%.
- هندوس: 3,0%.
- بوذيون: 1,0%.
- كاثوليك: 4,91%.
- كانت مسرحاً للحرب العالمية الثانية وبها كثير من الآثار الخاصة بالحرب.
ثانياً: مناطق في معارك فاصلة وانحسار مستمر للكثافة الإسلامية في
صالح الكثافة النصرانية:
أولاً: سومطرة الشمالية:
- العاصمة: ميدان.
- المساحة: 70787 كيلو متر مربع.
- الأنهار: 120 نهر.
- غنية بالثروات النباتية والحيوانية.
- عدد السكان: 667,114,11 حسب آخر إحصاء عام 1995م.
- الكثافة السكانية: 157 فرد لكل كيلو متر مربع.
- توزيع أتباع الديانات:
- مسلمون: 22,63%.
- بروتستانت: 27,96%.
- كاثوليك: 6,4%.
- هندوس: 41,0 %. بوذيون: 68,3 %.
ثانياً: سولا ويسي الشمالية:
- العاصمة: مانادو.
- المساحة: 19023 كيلو متر مربع.
- عدد السكان: 093,649,2.
- الكثافة السكانية: 139 فرد لكل كيلو متر مربع.
- توزيع أصحاب الديانات:
- مسلمون: 1,44%.
- بروتستانت: 1,49%.
- كاثوليك: 9,2%.
- هندوس: 58,0%. بوذيون: 2,0%.
- من أغنى المناطق بالثروة السمكية للمياه العذبة (مساحة 2678 هتكار) .
- تحظى على اهتمام بالغ بها في كتب الإعلان عن إندونيسيا خاصة ارتفاع
دخل الفرد والصادرات والواردات بالدولار الأمريكي.
- غنية بالذهب والنحاس والحديد والكبريت.
وأود من القارئ الكريم أن يعي جيداً ما في الأرقام من دلالات، وخاصة ما
يتعلق بالمساحات التي تحتلها كل طائفة من أرض إندونيسيا، وعدد المسلمين
مجتمعين إلى عدد الديانات الأخرى مجتمعين، وكثافة السكان في كل كيلو متر
مربع، فإنها ناطقة بالمعاني الكبار التي قصدناها من هذا المقال، والتي سنبدأ في
تحليلها ومناقشتها لاستجلاء الحقائق المجردة العارية، وكشف النقاب عن الأخطار
الداهمة التي تهدد هذا الجزء العزيز من العالم الإسلامي، وذلك في مقال قادم إن
شاء الله تعالى.
هذه هي شهادة الأرقام التي لا تكذب ولا تزيغ، هذه هي المناطق النائية
المجهولة التي لم يسمع لها العالم ذكراً قبل اليوم. ومن يدري؟ ! ربما هبت عاصفة
دولية مفاجئة من أجل تحرير (نوستنجارا الحرة) من تجاوزات وممارسات الجيش
الإندونيسي، هذه المحافظة الإندونيسية التي لا يدري بها أحد حتى في العالم
الإسلامي، ولكن العالم الصليبي يعرفها جيداً ويتلمظ لافتراسها كما فعل بتيمور
الشرقية من قبل، هم الذين ما زالوا ينصِّرون هنالك منذ ثلاثة قرون توطئة لليوم
الموعود الذي تتدخل فيه الشرعية الدولية ولجان حقوق الإنسان والمقررات العالمية
والقوات الدولية من أجل إنقاذها من المسلمين على غرار ما تم في كل القضايا
المماثلة سواء في الماضي أو في الحاضر. ثم من يدري؟ ! ربما خرج من بين
أطفال المسلمين المطرودين اليوم من يعي ويفهم جيداً حقيقة الإعصار المدمر الذي
يكتسح كل شيء أمامه، فيعيد الأمور المختلة المائلة إلى نصابها، ويقيم الحق مكان
الباطل وينقذ الأطراف الغالية من الجسد الإسلامي المثخن بالجراح، من يدري؟
ربما يكون الانتصار الآتي أقرب من عيوننا، والفرج أدنى من المسافة بين أقلامنا
وصحائفنا، يوم تتبدل أمور ظن الجميع أنها استعصت على السنن فلا تتبدل ولا
تتغير، ظنوا أنها سبقت وأعجزت فلا تطالها سنة الله تعالى الصارمة الماضية دون
هوادة على مشارف الدهور الغابرة في الأولين والآخرين.
__________
- إن الهدف الرامي إلى تنصير إندونيسيا يلقي تأييد بلاد قوية مثل
الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تتردد في إمداد الحركة التنصيرية بالمال في كل
مناسبة، وهذه الحركة (الحركة التنصيرية) تلقى تأييد الأجهزة الأمريكية مثل
وكالة المخابرات المركزية، كما تلقى تأييد أجهزة أخرى موزعة في أنحاء
العالم وخصوصًا في البلاد الإسلامية، تحت غطاء المبشرين والتجار وخبراء
التعدين ... إلخ.
يجب علينا ـ نحن المسيحيين ـ أن نضمن أن تكون سياسة الحكومة موجهة
نحو الغرب دائمًا، وخصوصًا نحو الولايات المتحدة الأمريكية. وعليكم أن تدركوا
أن حزب غولكار (حزب سوهارتو) وحكومته موجهان نحو أمريكا، وهذا هو
السبب في توجيهنا لكل المسيحيين بالانضمام إلى حزب غولكار والعمل على فوزه
في كل الانتخابات. وعلى كل المسيحيين أن يعرفوا أن حزب غولكار هو حزب
المسيحيين. وهو الحزب المسؤول عن نجاح المسيحيين إلى هذا الحد في
إندونيسيا.
ويجب أن نتأكد دائمًا من أن الصحف الإندونيسية والإذاعة والتليفزيون تكتب
وتذيع الأحداث بصورة تخلق انطباعًا سيئًا حول الإسلام والمسلمين لزرع الفتنة في
صفوفهم لدفعهم إلى الاقتتال بينهم (شتتوهم ومزقوهم ثم سيطروا عليهم واحكموهم)
هذه هي شعاراتنا وتكتيكنا لإخضاع المسلمين في إندونيسيا. ويجب أن نستغل
الصحف وغيرها من وسائل الإعلام الخاضعة لنا لنشر الدعاية الكفيلة بتمزيق وحدة
المسلمين في إندونيسيا.
[من وثيقة مجلس الكنائس الإندونيسي في مؤتمر بجاكرتا عام 1979م - عن
مجلة الإصلاح العدد: 380]
- البيان -
__________
(*) مقال تيمور الشرقية والذئاب الصليبية، العدد: (144)
(1) (كاتب هذه السطور عايش هذه الأيام؛ وحيث كنت أعمل أستاذاً بالجامعة فقد قام البوليس بتحذيري من النزول إلى الشارع من منزلي حتى لأداء الصلاة في المسجد القريب الذي تعودت الصلاة فيه، ومع ذلك فإن الجموع الهائمة في كل مكان كانت ترفض الاقتراب من بيتي؛ لأنه «بيت عالم» ويقصدون بالعالم: (رجل الدين الإسلامي) .
(2) ملاحظة: التقارير والأرقام المذكورة كلها من مصادر حكومية معلنة.(154/72)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
التنصير في إفريقيا
السنغال أنموذجاً
سيدي غالي لو
نبذة عن السنغال:
السنغال إحدى الدول الواقعة في غرب القارة الإفريقية، تحدها شرقاً
جمهورية مالي، وغرباً المحيط الأطلسي، وشمالاً الجمهورية الإسلامية الموريتانية،
وجنوباً الغينيتان (غينيا بيساو وغينيا كناكري) .
تقدر مساحة السنغال بـ 200,196 كلم2، وعاصمتها دكار، ويبلغ تعداد
سكانها ثمانية ملايين ونصف مليون نسمة [*] ، وأهم القبائل التي يتشكل منها سكان
السنغال هي: الفولانية، والولوفية، والسيرير، والجولا، والسونينكي،
والماندينغ، وتنقسم البلاد إدارياً إلى عشرة أقاليم، ومن أهمها: دكار، وتياس،
وجوربيل، وفاتك، وكولخ، ولوغا، وسين لوي، وتامباكوندا.
وكانت السنغال مستعمرة فرنسية لمدة ثلاثة قرون، ثم حصلت على استقلالها
من فرنسا سنة 1960م، وتحتفل بيومها الوطني في الرابع من إبريل. وبعد
حصولها على الاستقلال مباشرة ألَّفت مع جارتها «مالي» ما كان يعرف باسم
«اتحاد مالي» غير أن ذلك الاتحاد كان قصير الأمد؛ حيث تفكك في 10/8/196م.
والسنغال من الدول المؤسسة لكل من منظمة الفرنكوفونية ومنظمة الوحدة
الإفريقية، كما أنها عضو في هيئة الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز ومنظمة
المؤتمر الإسلامي. ونظراً لموقعها الجغرافي المتميز ودورها القيادي البارز في
إفريقيا؛ فإن الغرب يطلق عليها اسم «بوابة إفريقيا» . وكانت هذه البوابة ولا
تزال مدخلاً رئيساً للتنصير في منطقة غرب إفريقيا «.
بداية التنصير في السنغال:
التنصير حركة دينية سياسية استعمارية ظهرت إثر انهزامات الصليبيين،
وتهدف إلى نشر الديانة النصرانية بين الأمم والشعوب وبخاصة المسلمين لإحكام
السيطرة عليهم.
وكانت الحملات التنصيرية مركزة في بدايتها على مناطق النفوذ الإسلامي في
الشرق، ثم امتدت إلى مختلف أقطار العالم. أما منطقة غرب إفريقيا بوجه عام
والسنغال بوجه خاص فقد دخلتها الحملات التنصيرية في القرن الخامس عشر
الميلادي إبَّان الاكتشافات البرتغالية، فهو الوقت الذي وصل فيه المنصرون
الكاثوليك إلى سواحل إفريقيا الغربية وبدؤوا يحتكون بسكان المنطقة من المسلمين
والوثنيين.
ففي عام 1493م أصدر البابا الإسكندر السادس إذناً عاماً للبرتغاليين لاكتشاف
مناطق غرب إفريقيا وممارسة التنصير فيها، واستمرت بعد ذلك جماعات
المنصرين تتوارد إلى المنطقة إلى أن أرسلت الكنيسة الرومانية في الثلث الأول من
القرن السابع عشر الميلادي جماعة رهبان كامبوجيين من نورمانديا للتنصير في
السنغال على التحديد. ثم تطور التنصير في السنغال إلى حد تنصيب» ديوانت
DUVANET «رئيساً للأساقفة بالسنغال سنة 1763م وكان قد ركز النشاط
التنصيري على سين لوي وغوري. وفي سنة 1822م نزلت المنصرة» جاوويه
JAVOUEH «مدينة سين لوي، ومن جهود هذه المبشرة أنها أعادت تنظيم
مدينة سين لوي، وأقامت مدارس كاثوليكية في كل من سين لوي وغوري، كما
أسست جمعية:» أخوات سينت جوزيف «وعادت إلى فرنسا بصحبة ثمانية من
الشبان السنغاليين ليتلقوا تكوينهم الديني في فرنسا.
وكانت البعثات التنصيرية إلى السنغال تابعة للكنيسة الكاثوليكية، أما الكنيسة
البروتستانتية فقد وصلت بعثاتها إلى السنغال من بريطانيا وألمانيا بعد الاستقلال،
ولا زال أتباعها في السنغال أقلية مقارنة بأتباع الكنيسة الكاثوليكية.
وقد ظهر من خلال هذا الاستعراض السريع ارتباط التنصير بالاستعمار
الأوروبي؛ ذلك أن الأوروبيين قد خبروا من تجاربهم المريرة أنَّ محاولات السيطرة
الاستعمارية لا تنجح إلا بالقضاء على المقومات الروحية والمعنوية للأمم المستهدفة
ولا أدل على ذلك من أن أعضاء بعثات التنصير هم خليط من الدول الاستعمارية، كما أن أقدم الكنائس في السنغال قد بنيت في عهد الاستعمار الفرنسي وفي المدن
التي ترسخت فيها قدم الاستعمار مثل سين لوي وغوري ودكار وبارنيه. وهذا هو
ما يؤكده المنصرون أنفسهم. فيقول المنصر» إيليكيا أمبوكولو «في كتابه:» من
المنصرين إلى المكتشفين «:» من الصعب التحدث عن الاكتشاف مع نسيان أخيه
التنصير « [1] . ويقول القسيس الدكتور صمويل زويمر في الخطبة التي ألقاها أمام
مؤتمر القدس التبشيري سنة 1935م:» وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح
الاستعماري في الممالك الإسلامية « [2] ، وأكد الرئيس السنغالي المسيحي السابق
» سينغور «أن» هدفنا ليس تنصير المسلمين بقدر ما هو تلويث عقيدتهم
الإسلامية «.
المنظمات والمؤسسات التي ترعى التنصير في السنغال:
توجد عشرات المنظمات المزعومة بأنها خيرية ترعى التنصير في السنغال،
ومن هذه المنظمات:
1 - شبيبة العمال الكاثوليك، وتعمل في السنغال منذ سنة 1939م.
2 - هيئة الإغاثة العالمية الكاثوليكية، وتعمل في السنغال منذ سنة 1947م.
3 - مجلس الكنيسيات لمجالس الإله (عالمية) دخلت السنغال سنة 1972م.
4 - منظمة الإغاثة الكاثوليكية الأمريكية، وقد دخلت السنغال سنة 1973م.
5 - دابليو إف دي (W. F. D) ألمانية دخلت السنغال سنة 1975م.
6 - أرض الرجال» TERR DES HOMMES « (فرنسية سويسرية)
دخلت السنغال سنة 1979م.
7 - البعثة الإنجيلية النرويجية (نرويجية) دخلت السنغال سنة 1983م.
8 - وورلد فيزيو إنترناشيونال (عالمية) دخلت السنغال سنة 1984م.
9 - الاتحاد المسيحي للشبان (عالمية) دخلت السنغال سنة 1984م.
10 - البعثة الإنجيلية (أمريكية) دخلت السنغال سنة 1985م.
11 - الكنيسة الإنجليزية اللوثرية (بريطانية) دخلت السنغال سنة 1984م.
12 - البعثة المعمدانية (أمريكية) دخلت السنغال سنة 1984م.
13 - ليون كليب إنترناشيونال LIONS CLUB INTERNATIONAL
(عالمية) .
14 - مؤسسة إليزبيت جوف (باسم زوجة الرئيس السابق) ، وهي تقوم
مقام وزارة الشؤون الاجتماعية في السنغال.
إلى غير ذلك من المنظمات العاملة في الساحة السنغالية لخدمة التنصير
والمدعومة من الدول الغربية بميزانيات ضخمة وعدد كبير من الموظفين.
الوسائل والأساليب:
تعتمد حركة التنصير على عدة وسائل وأساليب لتحقيق أهدافها، ومن أهمها:
1 - بناء الكنائس:
ويرتبط تاريخ الكنيسة في السنغال بالاحتلال الأجنبي للبلاد؛ حيث كانت
الكنيسة ضمن أسلحة المستعمر. وعلى الرغم من عدم توافر إحصاءات دقيقة لدينا
عن عدد الكنائس التي بنيت في السنغال حتى الآن فإن الدلائل تدل على كثرتها.
ومن الملفت للنظر أن النصارى في السنغال لا يراعون في بناء كنائسهم حاجة
المسيحيين إليها، بل يقيمون بعض الكنائس في مناطق لا وجود لهم فيها سعياً منهم
لإظهار الوجود المسيحي في بلد تقل نسبتهم الحقيقية فيه عن 4%.
وقد تم بناء أول كنيسة في السنغال في غوري سنة 1482م، وفي سنة
1821م تم تشييد كنيسة في مدينة سين لوي، وفي سنة 1846م بدؤوا ببناء
صومعة في دكار. ومن أقدم الكنائس في السنغال كنائس غوري وسين لوي ودكار
وغازوبيل وفاتك وجنغولور وجروب وكولخ وزيغنشور ومورولاند وتياس وجوال.
2 - إنشاء مراكز تكوينية:
لقد اهتم المنصرون بإنشاء مراكز تكوينية متقدمة لتخريج القساوسة والرهبان
في السنغال، ففي سنة 1850م فتحوا مركزاً لتكوين القساوسة الأفارقة في
» غزوبيل «، وفي سنة 1857م تم إنشاء مركز آخر لتكوين القساوسة على
مستوى غرب إفريقيا في مدينة سبيقوتان التي تبعد عن مدينة دكار بحوالي 40 كيلو
متراً، كما تم فتح مركز» أخوات سنيت جوزيف «في سين لوي لتنصير
البنات.
3 - إقامة مؤسسات تعليمية:
لقد أدرك المنصرون خطورة التعليم، فاتخذوا منه أسلوباً لسلخ المسلمين عن
عقيدتهم وطبعهم بالطابع النصراني. وقد أنشؤوا في السنغال مؤسسات تعليمية
نصرانية من حضانات وروضات للأطفال ومدارس ومعاهد عليا. وتتمثل الخطورة
الكامنة وراء هذه المؤسسات في أن الغالبية العظمى من الذين يتلقون بها العلم هم
من أبناء المسلمين، يتخرجون منها وقد حملوا أسوأ فكرة عن دينهم ووطنهم، إنك
تسأل أي تلميذ تخرج من هذه المؤسسات عن بدهيات الإسلام وأركانه، وعن سيرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة الصحابة رضي الله عنهم وعلماء الإسلام
وأبطاله؛ فتجده لا يعرف عن ذلك شيئاً، وإذا سألته عن أدق المعلومات عن أوروبا
أو أمريكا أجابك على الفور!
وهكذا نجحت هذه المؤسسات في تنشئة أجيال وإيجاد شخصيات مسلمة
ممسوخة لا يربطها بالإسلام إلا أسماؤها؛ فترى محمداً يحمل فكر» جان أو بول «،
وفاطمة لا تميزها عن» مادلين «، وتكون الظروف مواتية لأن تتبوأ هذه
الشخصيات مكان الصدارة ومراكز النفوذ والحكم، فتكون بطبيعة الحال أداة طيعة
لأعداء الإسلام. وقد وصل عداؤهم للإسلام إلى طرد أية بنت مسلمة ترتدي
الحجاب في مدارسهم.
4 - الخدمات الاجتماعية:
لقد استغل المنصرون الثالوث البغيض الجهل والفقر والمرض والكوارث
الإنسانية للقيام بالتنصير تحت ستار الخدمة الإنسانية، فأقاموا على طول السنغال
وعرضها مستوصفات ومستشفيات، وملاجئ للأيتام ودوراً للُّقطاء ومراكز للرعاية
الاجتماعية. كما أنشؤوا عدة جمعيات شبابية ونسوية تُوظف لأغراض تنصيرية.
وتقوم المنظمات التنصيرية بتوظيف آلاف من الشباب وتدريبهم في شتى المجالات
ودعم مشروعاتهم الاستثمارية.
5 - وسائل الإعلام:
يتمتع المسيحيون بنفوذ كبير في وسائل الإعلام في السنغال، ويشرفون على
عدة برامج تنصيرية عبر التلفزيون والإذاعة الوطنية والإذاعات الحرة. كما أن
وسائل الإعلام المقروءة من جرائد ومجلات تخدم أهداف التنصير، ويقومون
بترجمة حلقات التنصير إلى اللغات المحلية، وبعض هذه الوسائل الإعلامية تقوم
بهذه الأعمال دون وعي.
6 - القنوات الدبلوماسية:
تتستر حركة التنصير وراء القنوات الدبلوماسية لتحقيق أهدافها. ومن المعلوم
أن للفاتيكان بعثات بابوية بدرجة السفارات في معظم دول العالم، وهذه البعثات لا
همَّ لها سوى الإشراف على المؤسسات التنصيرية وتنشيط حركة التنصير في العالم
ويوجد مقر بعثة الفاتيكان في قلب العاصمة السنغالية دكار بالقرب من الكاتدرائية
الكبرى، أضف إلى ذلك أن معظم سفارات الدول الغربية في العاصمة السنغالية
دكار لها ملحقات تسمى بأنها ثقافية تقوم بنشاطات تنصيرية خطيرة، مثل المركز
الثقافي الفرنسي، والمركز الثقافي البريطاني، والمركز الاجتماعي الياباني.
ومما يندى له الجبين أنه لا يوجد حالياً في سفارات الدول العربية والإسلامية
في دكار ملحقات ثقافية أو دينية تهتم بشؤون الإسلام والمسلمين.
نتائج التنصير في السنغال (نجاح أو إخفاق) ؟ :
تختلف نتائج التنصير وآثاره من منطقة لأخرى وفقاً للخطة المرسومة للحركة
التنصيرية في كل منطقة؛ ذلك أن المنصرين يهدفون من وراء عملهم إلى تحقيق
النتائج الآتية:
1 - نقل المسلمين من الإسلام وحملهم على اعتناق المسيحية.
2 - إفساد المسلمين عقائدياً وخلقياً وزعزعة القيم الإسلامية في نفوسهم.
3 - تحقيق الربح المادي والمكسب السياسي.
أما الهدف الأول، وهو نقل المسلمين من الإسلام إلى المسيحية، فقد أخفق
المنصرون إخفاقاً ذريعاً في تحقيقه، فنادراً ما يسجل في السنغال أن مسلماً قد تنصر
وارتد عن الإسلام، اللهم إلا بعض الحالات التي تحدث من قِبَل أشخاص مستخفين
بالدين يفعلون ذلك لتحقيق غايات شخصية.
وبالعكس فإن كثيراً من المسيحيين في السنغال يعتنقون الإسلام حتى أولئك
الذين كانوا محل آمال الكنيسة، مثل سكرتيرة الكاردينال تياندوم التي كانت مقربة
جداً إليه لما منّ الله عليها من مواهب عقلية وفكرية، فأدى بها استعمال هذه
المواهب إلى اعتناق الإسلام بفضل الله وتوفيقه. كما أن كفة الإسلام قد رجحت
على كفة المسيحية من حيث القدرة على جذب الوثنيين واستقطابهم. ولذا فإن أتباع
الكنيسة في السنغال إما مسيحيون وراثة، أو وثنيون اعتنقوا المسيحية فيما بعد،
أما أن يكون فيهم مسلمون متنصرون فلا تكاد تجد من بينهم إلا قليلاً. كما أن غالبية
النصارى في السنغال من قبائل الجولا والمانكانج والسيرير وهي القبائل الأشد تشبثاً
بالوثنية.
وإنما نجحت حركة التنصير في السنغال في تحقيق الهدف الثاني المتمثل في
إفساد عقيدة المسلمين وزعزعة القيم الإسلامية في نفوسهم، وذلك ما أوصى به
القسيس صمويل زويمر في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935م؛ حيث قال:
» المهمة التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليس هي إدخال
المسلمين في المسيحية؛ فإن في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تخرجوا
المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، ومن ثَمَّ لا صلة تربطه بالأخلاق
التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، إنكم أعددتم شباباً في ديار الإسلام لا يعرفون
الصلة بالله ولا يريدون أن يعرفوها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في
المسيحية. وبذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار لا يهتم للعظائم
ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلم
فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل
الشهوات يجود بكل شيء « [3] .
وبالتحالف مع قوى الاستعمار تحقق لهم فعلاً ما أرادوا من طبع المجتمع
السنغالي بالطابع العلماني وإبعاد الإسلام عن مجال الحياة كل الحياة: السياسية،
والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية.
أما المكاسب المادية والسياسية التي حققها المنصرون في السنغال فحدث عنها
ولا حرج؛ فقد أقاموا على طول البلاد وعرضها شبكة واسعة من المؤسسات
التعليمية والمراكز الصحية والاجتماعية والمشروعات الاقتصادية التي تدر لهم
ملايين الفرنكات متسترين تحت شعار خدمة المجتمع.
ولنضرب مثالاً لذلك بمدينة تياس: ففي هذه المدينة يوجد حي كامل هو أشبه
بمدينة مسيحية، ويضم الكنيسة الكبرى في تياس، ودور العلم من الحضانة إلى
الثانوية صممت على أحدث طراز، كما فيه مستشفى» سينت جان دي جيه «الذي
يفوق المستشفى الإقليمي الحكومي بتياس في بنائه وتجهيزاته، كما يضم عدداً من
المراكز الاجتماعية، وعدداً من الأندية الشبابية والنسوية، وأقساماً داخلية للتلامذة
الذين يلتحقون بالمدارس الكاثوليكية وغير الكاثوليكية بتياس، كما يوجد فيه المقر
الإقليمي لمنظمة» كاريتاس «هيئة الإغاثة العالمية الكاثوليكية التي تقوم بدور بارز
في دعم برامج التنصير وتمويل المشروعات الاستثمارية للشباب والنساء.
دور الجمعيات المحلية في مواجهة التنصير:
على الرغم مما جندته حركة التنصير من طاقات مادية وبشرية وما تمتلكه من
وسائل متنوعة لمحاربة الإسلام في القارة الخضراء فإنها لم تجد الطريق أمامها
مفروشة بالورود، بل واجهت عمليات جهاد كبيرة ومقاومة عنيفة من مسلمي القارة
، ولا سيما أن أبناء القارة قد أدركوا منذ الوهلة الأولى أن حركة التنصير متحالفة
مع حركة الاستعمار التي جاءت لاحتلال أراضيهم وتدمير عقيدتهم وحضارتهم.
ومن ثم شهدت معظم مناطق إفريقيا ملاحم بطولية حقق المسلمون فيها انتصارات
باهرة على حركة التنصير وجيوش الاستعمار.
وقد ظلت السنغال منذ القرن السابع عشر الميلادي بؤرة لصراع عقدي محتدم
بين الإسلام من جهة والمسيحية والاستعمار من جهة ثانية. وقد مرت المقاومة
الإسلامية ضد التنصير والاستعمار في السنغال حتى الآن بثلاث مراحل:
أ - مرحلة المواجهة العسكرية (الجهاد) :
وتبدأ من القرن السابع عشر حتى العقد السادس من القرن التاسع عشر
الميلادي، ومن أبرز النماذج الإسلامية لهذه المرحلة الداعية المجاهد: الحاج عمر
الفوتي تال (1795 1864م) الذي انقاد وراءه باسم الجهاد عدد كبير من المسلمين،
وامتد نفوذه من حوض نهر السنغال إلى جبال فوتا جالون في غينيا كناكري إلى
ضفاف نهر النيجر و» ماسينا «في مالي. والإمام: سليمان بال مؤسس دولة
» ألمام «ويعني الأئمة نسبة إلى الأئمة الذين كانوا قوادها، ومنهم الإمام عبد القادر
حامد كان المتوفى سنة 1769م.
ومباجاخوبا الذي كان له نفوذ كبير في حوض غامبيا، ومحمد الأمين درامي
الذي كان يتمتع بنفوذ كبير في حوضي» باكو «و» بافولابي «.
ب - مرحلة الدعوة بالكلمة (الحرب الباردة) :
وتبدأ من القرن التاسع عشر الميلادي حتى منتصف القرن العشرين. وقد
تميزت هذه المرحلة بالحفاظ على الإسلام حياة روحية وثقافية وتعزيز وجوده في
البلاد، ومن رواد هذه الحقبة الشيخ الحاج مالك سي المتوفى سنة 1922م، والشيخ
الحاج عبد الله أنياس المتوفى سنة 1922م، والشيخ أحمد بامبا المتوفى سنة
1927 م [4] .
وإنما عزف المسلمون عن المواجهة العسكرية في هذه الفترة تكيفاً مع
الظروف بعد استعراض نتائج الجهاد في المرحلة السابقة، وبعد الاقتناع بأن
الاستمرار في المواجهة العسكرية يعرض الوجود الإسلامي للخطر. وقد تمكن
شيوخ الإسلام خلال هذه المرحلة من إقامة عدد كبير من خلاوي تحفيظ القرآن
الكريم وبناء مساجد وزوايا، كما تمكنوا من جلب كثير من الناس إلى اعتناق الدين
الإسلامي.
وإزاء هذا الزحف من العمل الإسلامي غير المسلح لجأ المستعمر المتحالف
مع التنصير إلى أسلوب خبيث تمثل في اتهام الدعاة المسلمين بتحريض الناس على
العصيان وتعبئتهم للجهاد المسلح ضد الاستعمار، ومن ثم تم نفي بعضهم خارج
السنغال ووضع بعضهم الآخر تحت الإقامة الجبرية ومضايقة الآخرين. وصدق الله
إذ يقول: [إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] (الممتحنة: 2) .
غير أن سياسة العصا الغليظة هذه لم تنجح في وقف المد الإسلامي وصرف
زعماء الإسلام عن الدعوة، بل زادت من حماستهم ومن سرعة انتشار الإسلام مما
اضطر أعداء الإسلام إلى استبدال هذه السياسة بالإغراء والمهادنة وعقد الصلح
والتفاهم مع زعماء الإسلام إلى جانب إعداد عينات محلية وتسخيرها لتحقق مآربهم.
ج - مرحلة الصحوة وقيام المؤسسات:
وتبدأ من بداية النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي إلى الوقت الراهن،
وقد تميزت هذه المرحلة بـ:
1 - عودة أفواج طلاب العلم من الجامعات الإسلامية والعربية.
2 - تأسيس جمعيات إسلامية.
3 - انتشار المدارس الإسلامية والعربية.
4 - قيام عدة محاولات لإيجاد حركة إسلامية شاملة.
5 - فتح مكاتب لهيئات إسلامية عالمية.
وإنما تميز العمل الإسلامي خلال هذه المرحلة بالمميزات للأسباب الآتية:
1 - تأثر الطلاب العائدين من الدول العربية بالحركات الإسلامية المعاصرة
وخاصة في مصر والجزائر.
2 - رغبة خريجي الجامعات والمعاهد العربية في التفاعل مع المجتمع عن
طريق التعليم.
3 - تنصل الحكومة مؤخراً عن دمج المثقفين بالعربية في الوظائف الحكومية
مما دفع كثيراً منهم إلى فتح مدارس حرة.
4 - حصول الدولة على الاستقلال سنة 1960م، وتخفيف القيود الصارمة
التي كانت السلطات الاستعمارية قد وضعتها لمحاربة التعليم الإسلامي والعربي
والحيلولة دون تأسيس جمعيات إسلامية.
وبناء على تلك المعطيات ذخرت السنغال بعد فترة وجيزة من حصولها على
الاستقلال بعدد كبير من الجمعيات والمراكز الإسلامية التي عززت وجود الإسلام
في السنغال. غير أن تعدد هذه الجمعيات قد أدى مع الأسف الشديد إلى التشرذم
والتفرق بدلاً من التعاضد والتنسيق لمواجهة العدو المشترك.
وخلاصة القول: أن دور الجمعيات الإسلامية في درء أخطار التنصير في
السنغال كان ولا يزال ضعيفاً لعدة أسباب أهمها:
1 - ضعف التنسيق بين هذه الجمعيات في ظل تضافر الجهود بين
المؤسسات التنصيرية.
2 - عدم تركيزها على الأولويات واشتغالها بالمفضول دون الفاضل.
3 - افتقار العناصر القيادية لكثير من الجمعيات إلى ثقافة إسلامية مؤصلة
وكفاءة إدارية.
4 - كون بعض الجمعيات أسماء بلا مسميات ولا وجود لها في الساحة،
وإنما تُستغل لتحقيق مصالح شخصية بحتة.
5 - ضعف الإمكانات المادية للجمعيات الإسلامية مقارنة بالإمكانات الكبيرة
للمؤسسات التنصيرية.
6 - تمتُّع المؤسسات التنصيرية بامتيازات كبيرة لاحتمائها وراء الهيئات
الدولية والقنوات الدبلوماسية والرسمية بخلاف الجمعيات الإسلامية.
7 - غياب زعامة إسلامية موحدة للإشراف على شؤون الإسلام والمسلمين
في السنغال.
موقف الدولة من التنصير:
نستطيع أن نؤكد أن حركة التنصير ما كانت لتحقق مختلف الإنجازات التي
حققتها في السنغال لولا الدعم اللامحدود والامتيازات الكبيرة التي تتمتع بها كافة
مؤسساتها من قِبَل الدولة والقوى العالمية، كما أن السياسة» العلمانية «المطبقة في
البلاد إنما تخدم مصالح الأقلية المسيحية على حساب الغالبية المسلمة؛ ذلك أن
المستعمر الفرنسي الذي عبّد الطريق لسياسة الدولة قبل منحها الاستقلال كان قد
وضع في الحسبان تقوية عقيدة المستعمر المسيحية واحتواء الإسلام، ولا زالت
مقولة الحاكم الفرنسي» وليام بونتي «في عام 1910م:» علينا أن نتجنب كل ما
يعزز نشر دين لا يؤمن معتنقوه بمبادئنا «هي المطبقة من قِبَل بني جلدتنا اليوم.
وبالإضافة إلى هذا فإن النظام السياسي المتبع في الدولة يخدم الكنيسة في
جميع المجالات:
- فالتعليم لا صلة له بالإسلام.
- والشؤون الاجتماعية تُستغل لدعم المراكز التنصيرية.
- والإجازة الأسبوعية يوم الأحد وهو يوم القداس للمسيحيين.
- أما التاريخ المعتبر فهو التاريخ الميلادي.
- والصليب الأحمر مكان الهلال الأحمر.
- جميع الأعياد نصرانية، ما عدا عيد الاستقلال 4 إبريل، وعيد العمال
فاتح مايو، وعيدين إسلاميين، ويومين آخرين يحتفل بهما بعض المسلمين.
- جميع المدارس المسيحية معترف بها ومدعومة من طرف الدولة، ولا
توجد مدرسة إسلامية واحدة معترف بها إلا إذا التزمت بتطبيق النظام العلماني في
التعليم.
- الاعتراف بالجمعيات النقابية والحركات الكشفية والشبابية ذات الاتجاه
المسيحي دون سواها.
__________
النشاط التنصيري في إفريقيا:
- 1.600 مستشفى، 5.112 مستوصف، 1.050 صيدلية، 120 ملجأ
للمرضى، و 980 دار لإيواء الأيتام والعجزة والأرامل.
- عدد الكتب التنصيرية المطبوعة بلغات مختلفة 88.610 عنوان، ونشر
منها مئات الملايين
- عدد المجلات الكنسية الأسبوعية فقط أكثر من 24.900 مجلة متنوعة،
يوزع منها ملايين النسخ!
- عدد النشرات التنصيرية 700.000 نشرة، يوزع منها عشرات الملايين.
- إعلام التنصير: عدد المحطات الإذاعية والتلفازية 2.340 محطة، تعمل
ليل نهار لنشر تعاليم الإنجيل وخدمة التنصير في مناطق التجمعات والأقليات
المسلمة على وجه الخصوص!
- معاهد التنصير: عدد معاهد التنصير في العالم أكثر من 120.000 معهد،
كما تشرف الكنيسة في إفريقيا على نحو 11.000 روضة أطفال تلقنهم فيها
التنصير.
[عن تقرير للندوة العالمية للشباب الإسلامي]
- البيان -
__________
توزيع الأناجيل:
هل تعلم أن مجموع الأناجيل التي تم توزيعها مجانًا خلال عام 1987م فقط
بلغ 112.000.000 نسخة!
وهل تصدق أن الإنجيل في إفريقيا فقط ترجم إلى 652 لغة ولهجة إفريقية!
ولم تترجم معاني القرآن الكريم حتى بداية عام 1991م إلا لسبع لغات إفريقية! كما
سُجل الإنجيل بطريقة مناسبة للأميين على " كاسيت " بلغات عالمية تصل إلى
5445 لغة ولهجة لتوزيعها على عشرات الملايين في مختلف بلدان العالم.
[عن تقرير للندوة العالمية للشباب الإسلامي]
- البيان -
__________
بناء الكنائس:
- 32.000.000.000 دولار رصدتها الكنيسة في إفريقيا تحت شعار رعاية
حقوق الإنسان الفقير. وبخاصة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، ليس حبًا في
المسلمين طبعًا أو عطفًا على بؤسائهم في مناطق المعاناة.
- في ساحل العاج - على سبيل المثال - تلغ نسبة النصارى 12? من جملة
السكان. ومع ذلك تُشيَّد فيها كاتدرائية (كنيسة ضخمة جدًا) تسع لـ
(350.000) شخص. ومع أن غالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر!!
- وفي مالي المسلمة المأساة بلغت ذروتها: فهناك كنيسة لكل (500) شخص.
مقابل طبيب واحد لكل (82.000) شخص!
[عن تقرير للندوة العالمية للشباب الإسلامي]
- البيان -
__________
اعرف المنظمات التنصيرية:
- مؤتمر المعمدانيين الجنوبيين.
- مجلس للإرساليات الأجنبية.
- عنوانه. P. O Box 6767 Richmmod
- الرئيس: د. أر. كي. باركر Dr. R. k Parkess
- أسست عام 1845م.
- منظمة بروتستانتية معمدانية تهتم بالتنصير، نشر وبناء الكنائس، الإغاثة،
الإذاعات المرئية والمسموعة، التعليم الديني، طباعة النشرات والكتب وتوزيعها
وكل النشاطات التي تقوم بها الإرساليات.
- ميزانية المنظمة السنوية للتنصير في الخارج 169.275.052 دولار
أمريكي.
- عدد المنصرين الأمريكان المتفرغين في الخارج عن طريق المنظمة
3839 شخص.
- عدد الموظفين في داخل الولايات المتحدة: 481 شخص.
- عدد المنصرين الأمريكان المتفرغين لمدة أقل من 4سنوان: 7550
شخص.
- عدد الدول التي تعمل بها المنظمة: 122منظمة.
- أهم الدول الإسلامية التي تعمل فيها: (مصر، المغرب، كينيا،
نيجيريا، تنزانيا، اليمن) .
__________
إحصائيات السكان في إفريقيا 1995م
(من وجهة نظر نصرانية) :
- الكاثوليك: 122.108.000 نسمة
- البروتستانت: 109.726.000 نسمة
- الأرثوذكس: 29.645.000 نسمة
- نصارى آخرون: 86.697.000 نسمة
- المسلمون: 300.317.000 نسمة
- أديان محلية تقليدية: 72.777.000 نسمة
- مجموع السكان: 728.074.000 نسمة
[نقلاً عن كتاب: لمحات عن التنصير، د. السميط]
- البيان -
__________
(*) 95% مسلمون، 2% وثنيون، 3% مسيحيون
(1) من المنصرين إلى المكتشفين، إليكيا أمبوكولو، ص 46.
(2) قوى الشر المتحالفة، محمد محمد الدهان، ص 114.
(3) قوى الشر المتحالفة، محمد محمد الدهان، ص 144، 145.
(4) هؤلاء الشيوخ من شيوخ التصوف، وعندهم ألوان من البدع المنكرة، ولكنهم يحمدون على مواجهتهم للنصارى، وحرصهم على تثبيت الناس على الإسلام.(154/80)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
مواجهة التنصير
فيصل بن علي البعداني
لا تهدف هذه المقالة إلى وضع خطة لمواجهة التنصير؛ فذلك أمر أضخم من
أن تحويه مقالة، كما أن وضع خطة يتطلب إدراكاً للمخاطر الحقيقية للتنصير على
المسلمين، والبيئات الخصبة دعوياً أمام دعاة الإسلام، ويستدعي إلماماً بسبل
التنصير ووسائله المختلفة التي تكاد أن تتناول جوانب الحياة المختلفة، ويقتضي
معرفةً جيدة بقدرات الدعاة وإمكاناتهم التي يمكن أن يوجهوها للمواجهة، وهو أمر
يفوق إمكانات الفرد بكثير.
أضف إلى ذلك أن بين المنصرين اختلافات جذرية لا بد من مراعاتها أثناء
وضع خطة للمواجهة، وتلك الاختلافات إما في المعتقدات والمبادئ، وإما في
الطاقات والقدرات، وإما في الرغبة في الوصول إلى الحق والأخذ به، وإما في
المكر والدهاء ومدى الوضوح في إبانة الأهداف واستخدام وسائل تنصيرية مباشرة.
زد على ذلك اختلاف تجذر النصرانية من بلد إلى آخر، واختلاف أحوال
النصارى كثرة وقلة، نفوذاً وسلطة، غنىً وفقراً، حباً وبغضاً ... إلى غير ذلك
من الأمور التي تجعل من غير المناسب وضع خطة موحدة لمجابهة التنصير في كل
البلدان، وأن الأليق هو أن يتجه دعاة كل بلد إلى وضع خطة لمجابهة التنصير
تراعي عناصر القوة والضعف التي يملكها كل من المنصرين والدعاة على حد سواء،
وحجم الخطر التنصيري الذي يواجه الدعوة ويعوق مسيرتها في ذلك البلد؛ فذلك
أقرب إلى الحكمة والواقعية وأبعد عن المثالية والعيش في أبراج عاجية.
وانطلاقاً من ذلك فإن هذه المقالة تهدف إلى ذكر وقفات تذكِّر بقاعدة، وتؤكد
على ضابط، وتنبه على جانب، وتحذر من عائق، وتبرز قضية، وتدعو إلى
الموضوعية والواقعية في الطرح والتناول.
وقفات حول المواجهة:
1- العون من الله؛ فلنتأهل لنيله:
عون الله للفرد أو المؤسسة الدعوية هو شرط النصر وبوابته في أي مواجهة؛
فمن انتصر فالله الناصر له، ومن وُفِّق فالله الموفق له، كما قال تعالى:
[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] (الأنفال: 17) ، وفي المقابل فمن لم
يسدده الله فلا مسدد له، ومن فقد عون الله كانت عاقبته الهزيمة ومصيره الخذلان.
كما قال الشاعر:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وقد قال الله تعالى مقرراً لهذا الأمر: [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم
مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ] (الملك: 20) .
وقد تيقن ذلك العاملون الصادقون، فتعلقت قلوبهم بمن يدبر الأمر سبحانه
وتعالى، وبرئوا من حولهم وقوتهم، واستحقروا أعمالهم وجهودهم مهما كانت في
نظر الآخرين عظيمة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية الذي على ضخامة ما قدم
للأمة في مجالات كثيرة كان كثيراً ما يقول: «ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا
فيّ شيء» [1] . واتجهوا إلى السعي إلى نيل عون الله وتوفيقه الذي له أسباب
معنوية ومادية، من حصلها حازه، ومن فقدها حرمه، والتي من أبرزها:
أ - دعاء الله سبحانه والتضرع بين يديه، كما قال تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) وفي حال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
وإلحاحه على ربه في تضرعه حتى سقط رداؤه عن منكبيه مع أنه موعود بنصر
الله تعالى أسوة لمن أراد الاقتداء.
ب - التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، كما قال تعالى: [وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ] (الطلاق: 3) .
وحين اجتمع المشركون بعد أحد لحرب المؤمنين، وقال المؤمنون قلباً وقالباً:
حسبنا الله ونعم الوكيل، كانوا كما قال الله عنهم: [فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]
(آل عمران: 174) .
ج - التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) ، وفي الأثر عن الخليفة
الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع
إلا بتوبة» [2] .
د - الصبر والإكثار من الصلاة كما قال تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) ، وقال سبحانه:
[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ] (البقرة: 45) .
هـ - تقوى الله وطاعته والحذر من معصيته، كما قال عز وجل: [وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] (النور: 52) ، وقال
سبحانه: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ] (الطلاق: 2) .
و بذل الوسع والأخذ بأسباب النصر المادية بقدر الاستطاعة امتثالاً لقوله
عز وجل: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] (الأنفال: 60) .
فمتى أراد الدعاة تحصيل هذا السلاح الذي لا يمكن أن يمتلكه المنصِّرون
فعليهم بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحصيل هذه الأسباب حتى يكونوا أهلاً لنيل
رحمة الله وعونه لهم في مواجهتهم لدعاة الشرك وأرباب الضلالة.
2 - الانضباط الشرعي شرط النصر:
يعد الدخول في مواجهة التنصير أحد المزالق الخطرة التي يخشى فيها من
التفلت من الضوابط الشرعية سواء كان ذلك في جانب عرض الإسلام والحديث عن
عقيدته وشريعته، أو في التعامل مع المنصرين الذين يستخدمون أساليب ملتوية
وغير أخلاقية في عرض عقائدهم والحديث عن جوانب الإسلام المختلفة، منطلقين
في ذلك من قول القديس بولس: (أنا أكون بكل الأشكال والمظاهر من أجل كل
الناس) [3] .
وذلك مما يمكن أن يحدث ردة فعل لدى بعض دعاة الإسلام فيجعلهم إما
يقدمون تنازلات أثناء عرض الإسلام من أجل ترغيب النصارى به، وإما
يتورطون بعدم الدقة في الحديث عن جوانب النصرانية المختلفة، وإما يعتمدون
أثناء دعوتهم على سبل ووسائل غير مشروعة.
وشيء من هذا العمل كما لا يخفى يتنافى مع ثوابت الإسلام ومبادئه؛ إذ
الغاية فيه مهما كانت نبيلة لا تسوِّغ الوسيلة المنحرفة، والله سبحانه لا يُتقرَّب إليه
بمعصيته، ولا تُنال بركته وتسديده وتوفيقه بمخالفة أمره.
والمطلوب في هذا السبيل هو: تأكد الدعاة من هيمنة النص الصحيح على
خططهم وبرامجهم، ومن صحة الوسائل التي يستخدمونها في مجابهتهم للتنصير
شرعاً، ومن مراعاتهم للمصالح والمفاسد المعتبرة شرعاً في أنشطتهم التي يقيمونها،
انطلاقاً من قول الله تعالى: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (الأنعام: 108) .
على أن الواقع ولله الحمد يثبت بأن من أعظم الأمور الدافعة لكثير من غير
المسلمين للدخول في الإسلام ثبات مبادئه وقيمه وعدم تلونها بحسب رغبات
المدعوين، والالتزام الأخلاقي لدى دعاته وعدم اعتمادهم لسبل ووسائل غير
مشروعة، سواء في الترغيب في الإسلام من جهة، أو في التحذير من عقائد
النصرانية المحرفة والأصول الوثنية التي داخلتها من جهة أخرى.
3 - لا لردات الفعل في المواجهة:
المتأمل في جهود كثير من الدعاة الموجهة لمقاومة التنصير يجد أن أغلبها
ردود أفعال حدثت نتيجة قيام المنصرين بأعمال استفزت بعض الدعاة أفراداً
ومؤسسات فأوجد ذلك لديهم دافعاً لمواجهة تلك الأعمال التي أثارتهم.
وخطورة هذا الأمر تكمن في جانبين:
الأول: دلالته على أن أكثر الدعاة واقعياً حتى اليوم لم يدركوا أن العملية
التنصيرية تحولت من عمل اجتهادي لفرد أو مجموعة إلى عمل مؤسسي ذي كفاءة
إدارية عالية: تخطيطاً وتنفيذاً، تنظيماً ورقابة، ويمتلك إمكانات مالية وبشرية
ضخمة.
ومن دعوة مباشرة إلى الدخول في النصرانية واعتناق مبادئها إلى جهد جاد
يتناول كافة جوانب الحياة المختلفة التي يمكن أن تؤثر في الناس بصورة مباشرة أو
غير مباشرة: سياسية واقتصادية، اجتماعية وصحية، ثقافية وإعلامية، رياضية
وفنية.
ومن دعوة تركز على شريحة معينة في المجتمع إلى عمل يستهدف كافة
شرائح المجتمع: رجالاً ونساءاً، كباراً وصغاراً، مثقفين وأميين، أغنياء وفقراء،
وجهاء وعاديين.
ومن دعوة تهدف فقط إلى اعتناق الناس النصرانية إلى دعوة من أهدافها خدمة
الاستعباد الغربي، والحيلولة دون انتشار الأديان الأخرى، وجعل أتباعها يخرجون
من أديانهم ويعيشون بلا دين منغمسين في مستنقع الشهوات واللهو والرذيلة.
الثاني: دلالته على أن بإمكان المنصرين توجيه الدعاة الوجهة التي يريدون
عن طريق القيام بأعمال تستفزهم بصورة فجة ليستهلكوا طاقاتهم ويستنفدوا قواهم
بالرد عليها، وفي المقابل يقوم المنصرون بأعمال أخرى لا إثارة فيها تحقق مآربهم
بعيداً عن أعين الدعاة ومقاومتهم.
والحل الأمثل لتجاوز هذه المعضلة يكمن في تحويل جهود الدعاة في مقاومة
التنصير إلى جهد مؤسسي منظم يستشعر الخطر ويدرك ضخامته، ويدرس الواقع
دراسة جيدة يتعرف من خلالها على عناصر القوة والضعف لدى الفريقين، وعلى
ضوء ذلك يتم تحديد رؤية المواجهة ورسالتها، والأدوار التي تقوم بها، وأهداف
كل دور، والوسائل المحققة لتلك الأهداف، والمدد الزمنية التي ستتحقق فيها
الأهداف في ضوء الإمكانات المتاحة: بشرية، ومادية.
كما لا بد من وضع آلية للتقييم والمراجعة يتم من خلالها التأكد من السير في
الاتجاه المراد، ومن تحقيق الوسائل المنفذة للأهداف المرجوة، ولا بد من امتلاك
مرونة كافية تمكن الدعاة من تعديل الخطة متى حدث في الواقع ما يستدعي تعديلاً
لبعض الأهداف أو إعادة لترتيب أولويات المرحلة، ومتى لوحظ بُطْءٌ في السير أو
انحراف عن الاتجاه المراد.
وباختصار: فإننا بحاجة إلى مواجهة مؤسسية منظمة تتسم بالموضوعية
والواقعية؛ لئلا ننساق إلى حيث لا نريد. وهذا أساس كبير من أسس النجاح.
وليس المراد هدر أهمية الاستجابة السريعة للطوارئ بما يخدم الأهداف
والغاية، بقدر ما هو المطالبة بأن تكون تلك الاستجابة المتمثلة في ردة الفعل هي
في حقيقتها التخطيط المدروس المرن الذي يراعي الهدف، ولا يهمل مستجدات
الواقع ومتغيراته السريعة.
وإذا ما رئي نازلة من النوازل فإن المطلوب هو السيطرة على ردة الفعل
وضبطها بما يحقق الهدف، وذلك بفاصل بين المثير والاستجابة، يمنح فرصة
للتفكير في أفضل ردة فعل ممكنة تنضبط بالمبادئ والقيم وتحقق الأهداف والنتائج
المرجوة.
4 - الحفاظ على رأس المال أوْلى:
لم تفلح الجهود التنصيرية في أوساط المسلمين في تحقيق نتائج ملموسة في
موضوع إدخال الناس في النصرانية، ولكنها نجحت أو تحقق لها مرادها في ثلاثة
مجالات:
الأول: إغراق كثير من أبناء المسلمين وبناتهم في بحر الشهوات والملذات
وجعل الواحد منهم: «مخلوقاً لا صلة له بالله، ومن ثَمَّ لا صلة له بالأخلاق التي
تعتمد عليها الأمم في حياتها» [4] ، وفي إيجاد فريق عريض من أبناء هذا الجيل
«لايهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهرة، وإذا تبوأ
أسمى المراكز ففي سبيل الشهرة يجود بكل شيء» [5] .
الثاني: إزالة روح الكراهية من نفوس كثير من المسلمين تجاه النصارى،
حتى أصبحت طوائف كثيرة من المسلمين تعتقد بأن النصارى ليسوا بأعداء لهم،
ومما ساعدهم على ذلك إظهار المنصرين لروح التسامح، وتقديمهم لبعض
المساعدات الإغاثية لمناطق المسلمين المنكوبة، ورفعهم لشعارات الحرية والإخاء
والمساواة، وممارستهم لكثير من أنشطتهم وبرامجهم تحت رايات غير دينية.
الثالث: العمل في أوساط فئتين من المسلمين تأثرتا بهم تأثراً كبيراً، وهما:
أ - خريجو الجامعات والمدارس والمعاهد التنصيرية الموجودة في ديار
المسلمين.
ب - المهاجرون من المسلمين إلى بلاد النصارى لغرض العمل أو الدراسة أو
حتى تلك الفئة التي تذهب للسياحة.
والتي استطاع النصارى إبهار كثير من أفراد هاتين الفئتين وخلق روح
الإعجاب لديهم بقيم المجتمع الغربي وعاداته.
وأخطر ما في الأمر بالنسبة للمهاجرين تركيز المنصرين على جيل الأبناء
الذي تخلَّق جلهم بأخلاق تلك المجتمعات النصرانية وتطبع بعاداتها من جهة، ومن
جهة أخرى جهل دينه وانبتر عن تقاليد مجتمعاته الأصلية وعاداتها.
ولا يخفى أن هذا النجاح المتحقق للمنصرين خطوة متقدمة على طريق
إضعاف مقاومة التنصير لدى كثير من المسلمين، وتدرج ملموس لأن يلج إلى
النصرانية أبناء المهاجرين والدارسين في المؤسسات التعليمية التنصيرية في الديار
الإسلامية.
وهذا يعني ضرورة المبادرة إلى مراجعة الأمر وتصحيح الوضع القائم، وفي
ظني أنه لا سبيل للأمة إلى تحقيق ذلك إلا أن تسارع بكافة فئاتها إلى رفع شعار:
(التربية أولاً) ثم تحويل هذا الشعار إلى واقع معاش على كافة المستويات بحيث يتم
تعديل المناهج لتتضمن جرعاً تحصينية ضد الغزو التنصيري؛ لأن زمن الانغلاق
على الذات ولَّى، والعالم أصبح في عصرنا قرية واحدة. كما لا بد من إيجاد
البدائل العملية أمام الجميع والتي تنبثق من قيم الأمة ومبادئها، وترفع همم الأبناء
والبنات ليدَعوا حياة الشهوات والملذات، ويطلِّقوا الدعة والكسل، ويعيشوا لغاية
هي: حمل الرسالة التي ابتعثهم الله من أجلها تعلُّماً وممارسة ودعوة.
كما لا بد من التفاتة جادة إلى أبناء المسلمين في الغرب والذين يكثر عددهم
يوماً بعد آخر، ويزداد حماس المنصرين للعمل في أوساطهم وتهيئتهم لنشر
ما يتلقونه من أفكار وما يمارسونه من سلوكيات في أوساط المجتمعات المسلمة
كلما ازداد عددهم منطلقين من قول زويمر: «تبشير المسلمين يجب أن يكون
بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد
أغصانها» [6] ، وعندما نمارس ذلك الشعار ونهتم بجد بتلك الفئة يمكننا القول بأننا
قد خطونا الخطوة الصحيحة الأولى في مواجهة التنصير والوقوف حجر عثرة
أمام تنفيذه لمخططاته.
5 - بالحق يزهق الباطل:
من السنن المتقررة: محو الجهل بالعلم، وإزالة الظلمة بالنور، واضمحلال
الشبهة بالحجة، ودفع الباطل بالحق، ولذا فإن أعظم وسيلة لمجابهة التنصير هي
عرض الإسلام وأصول الإيمان صافية نقية كما أنزلها الله تعالى على رسوله صلى
الله عليه وسلم، وذلك من خلال وضوح في الطرح وقوة في الحجة، ويشهد لهذا
الأمر قوله تعالى: [وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
(الإسراء: 81) .
ويزيد من فاعلية هذه الوسيلة أن النصرانية ديانة يكتنفها الكثير من الغموض؛
فهي لا تستند إلى جلاء في العرض، ولا تعتمد على حجة مقبولة، وإنما تقوم
على إثارة للشبهات حول الديانات الأخرى، وتهييج لعواطف المدعوين حول ما
يزعمونه من قبول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام لقتل نفسه وصلب جسده فداءاً
للبشرية!
والأجدى أن يقترن عرض الإسلام بإيراد حججه العقلية والحسية وفي الكتاب
والسنة منها كثير وفي المقابل يتم مطالبة القوم بالحجة والبرهان على دعاويهم
الخالية من ذلك.
وأن يعمل على دراسة شبهات القوم حول الإسلام، وملاحقة المتجدد منها،
وتعريف الدعاة بالرد الصحيح عليها.
والملحوظ كثرة خلط المنصرين الحقَّ بالباطل؛ حيث يتغنون ببعض الحق
الذي لديهم زاعمين بأن كل ما لديهم حق وأن المسلم يرد الجميع، ولمدافعة هذا
الخلط فإن الداعية مطالب في طرحه وحواره بالموضوعية والاعتراف بجوانب
الحق التي في دين القوم وحضارتهم، وبجوانب الضعف التي لدى المسلمين، وأن
يبين أن مرد ذلك راجع إلى ضعف التمسك بالإسلام لا للإسلام ذاته ذاكراً الدلائل
على ذلك.
6 - لنشغل القوم بأنفسهم:
لا يملك المنصرون ما يهاجمون به الإسلام إلا الاتهام غير الموضوعي،
وطرح الشبهات المغرضة حول بعض القضايا الجزئية؛ ولذا فإن الداعية مطالب
بالحذر من أن يكون في موقف الدفاع باستمرار، وعليه أن يسعى لإشغال القوم
بأنفسهم والعمل على نقلهم من مرحلة الهجوم إلى الدفاع، ويمكن أن يتم ذلك عن
طريق أمور كثيرة منها:
أ - إبراز العقائد الوثنية والأصول الفلسفية للديانة النصرانية المحرفة،
والحديث عن نسخ الأناجيل وتناقضاتها الصارخة، وما تضمنته من نسبة ما لا يليق
إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ب - الحديث عن سلطة الكنيسة التي وصل الحال بسدنتها إلى بيع صكوك
الغفران ودخول الجنة، والقيام بإدانة دورها السيئ في الماضي في محاربة العلم
والوقوف حجر عثرة في طريق تقدم العلم وازدهار الحضارة والكشوفات العلمية.
والعمل على تعرية رجالها الذين ترهبنوا ظاهراً وتجذر الفساد الأخلاقي والمالي
والشذوذ الجنسي بينهم باطناً نتيجة مخالفة الفطرة والبعد عن تعاليم الله تعالى
وشرعه.
ج - تجلية الاختلافات الضخمة والتناقضات الجذرية في أصول الديانة
النصرانية المحرفة وثوابتها بين طوائف النصارى، وإيضاح ما نتج عنها من تكفير
وتصفيات جسدية ومعارك رهيبة أُزهقت فيها آلاف الأنفس، وأهدرت فيها نفائس
الأموال.
د - إيضاح دور البشر في تحريف الديانة النصرانية الحقة، وبخاصة ما قام
به اليهود ووثنيو اليونان من أدوار مشبوهة في هذا الجانب منذ رفع سيدنا عيسى
عليه السلام إلى اليوم.
هـ - الاستفادة من جهود الباحثين النصارى ذوي الشخصيات المستقلة
والمنصفة قديماً وحديثاً الذين توصلوا بالبحث العلمي المتجرد إلى بطلان عقائد
النصرانية المحرفة، وأثبتوا وقوع التحريف المتعمد للكتاب المقدس، ووجود
تناقضات صارخة بين نسخه، وفي المقابل جزموا بصدق نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم وصحة رسالته لما تضمنته من معجزات وبراهين لا تقبل الجحد
والتكذيب، وشهدوا بسلامة القرآن من التحريف وخلوه من التناقض.
و السعي إلى الاستفادة القصوى من كبار القساوسة وعلماء النصارى
ومثقفيهم الذين أسلموا في مقارعة المد التنصيري باعتبارهم أدرى بخباياه، وأكثر
اطلاعاً على أسراره ومعرفة بمخططاته وحال رجاله.
ز - الاهتمام بالمغتربين من النصارى في ديار الإسلام، والعمل في أوساطهم،
والعناية بتأهيل من أسلم منهم علمياً ودعوياً، ثم تبنيه للعمل داعية في وسط قومه
إذا رجع إليهم.
وعند النجاح في مثل هذه الأمور يكون الدعاة قد استطاعوا أن ينقلوا المواجهة
إلى داخل معسكر المنصرين؛ ويجعلوا جهد القوم الأكبر منصبّاً على معالجة
إشكالات الذات، وهذا بلا شك سيخفف من حدة النشاط التنصيري في أوساط
المسلمين، وسينقل القوم من مرحلة الهجوم إلى الدفاع، وهذا إنجاز كبير ومرحلة
متقدمة في النزال.
7 - لنوجد دوافع المواجهة لدى الجميع:
يسعى المنصرون عبر اعتماد وسائل تنصيرية غير مباشرة ورفع شعارات
علمانية والانضواء تحت رايات غير دينية إلى إماتة روح المواجهة لدى المسلمين
وإزالة دوافعها من النفوس.
والحق أنهم قد نجحوا في ذلك إلى حد كبير؛ بدليل أنك ترى كثيراً من أهل
الخير وصادقي الولاء للإسلام من يدافع عن كثير من أعمال القوم في المجالات
المختلفة: تعليمية وصحية وزراعية ومهنية ورعاية للأيتام والمسنين معتبرين أن
مواجهتها إضرار بالناس ومنع للخير عنهم.
ولذا فالتحدي الكبير يكمن في قدرة العلماء والدعاة على توظيف قطاع عريض
من شرائح المجتمع في مواجهة المد التنصيري، وفي مدى استطاعتهم إيجاد دوافع
المواجهة لديهم حتى لا يكون تفاعلهم مع الدعاة قضية آنية.
ولعل من أبرز الأمور المعينة على إيجاد دافع مستمر لدى الناس لمواجهة المد
التنصيري هي:
أ - إبانة الموقف الشرعي من النصارى، وأنهم كفار مشركون بنص القرآن،
وتجلية أن الواجب الشرعي هو بغضهم والبراءة منهم والعمل على دفع ضلالهم.
ب - تتبع عثرات المنصرين والسعي إلى كشف أنشطتهم التنصيرية المباشرة
التي يحرصون على إخفائها تحت أعمال غير مباشرة، والتي تتضمن طعناً في
الإسلام أو مناقضة لأصوله، والعمل على استثمار ذلك في إيجاد الدوافع لدى الناس
لمواجهتهم.
ج - القيام بتتبع أنشطة المؤسسة التنصيرية في المناطق والدول المختلفة،
والتركيز على نشاطها المعادي للإسلام والذي قد تعلنه في موطن دون آخر، والقيام
بتوثيقه ثم تعميم العلم به على الدول المختلفة التي للمؤسسة بها نشاط ليكون ذلك
دافعاً لمجابهتها من قطاع عريض من الأمة.
د - العمل على الربط بين المؤسسات التنصيرية المحلية والمؤسسات
الخارجية التي تتبعها أو توفر الدعم لها، والتي لها أو لرموزها جهود واضحة في
محاربة الإسلام والطعن في ثوابته.
وعندما ينجح الدعاة في تجييش قطاع عريض من شرائح المجتمع لمواجهة
النشاط التبشيري فإن ذلك سيحقق فوائد عديدة منها:
1 - كسب آخرين يحملون هَمَّ الإسلام ويعملون له، وهذا يؤدي بدوره إلى
وقايتهم من التأثر بمكائد المنصرين ومخططاتهم.
2 - تمكن العلماء والدعاة من التفرغ لأمور هامة لا يمكن للآخرين القيام بها
كالتعليم والتربية.
3 - إمكانية صرف جهود بعض من لديه خلل منهجي عن نشر باطله إلى
الاشتغال بمواجهة باطل المنصرين وضلالهم.
8 - التخصص طريق إتقان وعامل قوة:
قليلٌ أولئك الدعاة ونادرة تلك المؤسسات التي أخذت على عاتقها فقط مجابهة
التنصير ومقاومة مخططاته، وقد يكون العذر أن الواجبات أكثر من جهود الدعاة
وأوقاتهم، فاضطرهم الحال إلى أن يأخذوا من كل مجال بجانب، لأن ما لا يدرك
كله لا يترك جله، ومع منطقية هذا الطرح إلا أن من سلبياته: عدم إتقان شيء من
المجالات المتناولة، وعدم القدرة على الموازنة بينها بالصورة المرضية؛ إذ كثيراً
ما نفرط في الاهتمام بمجال على حساب مجال آخر، وكثيراً ما يهمل الآخرون
الاهتمام بمجال مع أهميته ظناً منهم بأن جهودنا تغطيه، والواقع خلاف ذلك.
وتزداد الخطورة حين يكون الأمر متعلقاً بمجال كالتنصير الذي تنوء مواجهته
بعدة مؤسسات مجتمعة؛ فكيف يكون الحال حين تكون مقاومته جزءاً من جهد
مؤسسة تعتني به حيناً وتهمله في أحيان أخرى.
والحل لمواجهة هذا الضعف في التناول والاتكالية في المواجهة يكمن في
التخصص وحده؛ إذ إن زمن الفرد أو المؤسسة الأسطورة التي تعمل في كل شيء
وتتقن كل شيء ولَّى إلى غير رجعة، ولم يعد أمام من أراد إتقاناً وإجادة إلا
التخصص؛ لأن ذلك سيعني تركيز الجهود، ومنع التشتت الذهني والعملي،
وجودة العمل وزيادة الإنتاجية وسهولة التخطيط والتنفيذ والمتابعة.
ومع أن المطلوب هو إيجاد مؤسسات متخصصة في مواجهة التنصير في كل
قارة وإقليم بل وفي كل بلد إلا أن ذلك قد يحتاج إلى بعض الوقت. وجهود التنصير
اليوم تنتشر في أوساط المسلمين انتشار النار في الهشيم، وهذا يعني أن تأخير
المواجهة حتى تقوم تلك المؤسسات يحمل في طياته خطراً كبيراً.
ولذا فالحل المقترح: أن تقوم كل مؤسسة إسلامية تحمل هَمَّ الدعوة إلى الله
بإنشاء مراكز بحث متخصصة لرصد الجهد التنصيري في نطاق عملها الجغرافي أو
النوعي دعوياُ كان نشاطها أو تعليمياً أو صحياً أو اجتماعياً أو إغاثياً، واختيار
مجموعة من الدعاة التابعين لها في كل بلد للقيام بهذه المهمة؛ بحيث يتم تأهيلهم
وتوفير المتطلبات اللازمة لنجاح عملهم، وعندها يمكننا القول بأننا قد أدركنا
خطورة المد التنصيري وخطونا خطوة جادة في مواجهته.
9 - للدعاة مع تجربة المنصرين وقفات:
عند التأمل في عوامل نجاح المنصرين مع فساد عقائدهم وتناقضات نسخ
أناجيلهم ومصادمة أطروحاتهم للعقل والمنطق يجد المرء أنها تعود إلى أربعة أمور
هي: الإدارة الناجحة، والعاطفة الجياشة، والجهد المتميز، والذكاء الوقاد.
- فالإدارة الناجحة مكنتهم من تعزيز الإيجابيات ودعمها، وتحجيم السلبيات
ونقاط الضعف ومحاولة تلافيها، واستغلال الفرص والإمكانات البشرية والمادية
بأفضل صورة، وتجاوز الصعوبات وتحاشي المخاطر المتوقعة بقدر الاستطاعة.
- والعاطفة الجياشة مكنتهم من جذب كثير من المتطوعين إلى صفوفهم،
وكثير من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال إلى دعمهم، والمدعوين إلى التأثر
بهم، وساعدهم على ذلك اعتناؤهم بالبرامج الإغاثية والاجتماعية والصحية والمهنية
متخذين من ذلك مدخلاً للوصول إلى ما يريدون، والتي بدورها ساعدت على إظهار
دينهم بمظهر الرحمة والرفق ومساعدة الضعفاء والإحسان إلى الآخرين ومواساتهم.
- والجهد المتميز حوَّل الأفكار إلى أعمال، والأطروحات النظرية إلى
ممارسات ميدانية.
- والذكاء المتقد دفعهم إلى اعتماد خطط بعيدة المدى، واستخدام وسائل غير
مباشرة، ورفع شعارات براقة، والانضواء تحت رايات غير دينية، بل واستخدام
العلمانية سلاحاً يهاجمون به الإسلام حين وجدوا أن الأصول النصرانية والشطحات
العلمانية لا يمكن أن تقف في مواجهة الثوابت الإسلامية.
وهذا الأمر يستلزم من العاملين في حقل الدعوة عموماً، وبخاصة العاملين في
مواجهة التنصير ومدافعة مكائد المنصرين وضلالاتهم وقفات عديدة أهمها:
أ - أنه لا بد من تحسين الوضع الإداري الهش في كثير من المؤسسات
الإسلامية ضماناً لاستثمار أمثل للموارد البشرية والمادية والفرص المتاحة،
وتحاشياً للمخاطر، وتلافياً لنقاط الضعف بقدر الإمكان.
وما لم يبادر أهل الشأن إلى العناية بذلك فإن الخسائر ستزداد، والعبء
سيتضاعف، وإمكانية التصحيح والمعالجة ستصعب إن لم تتضاءل.
ب - أهمية العناية بالعاطفة واستخدامها في الطرح والممارسة الدعوية،
وعدم الاقتصار على التناول العقلي والعرض المنطقي مع أهميته لأن العاطفة في
جانب الهداية والتأثير في النفوس أقوى من العقل؛ إذ العقل بوابة الإقناع وما كل
من اقتنع استجاب؛ ولكن العاطفة سبيل كسب القلوب واتخاذ المواقف وهو الغاية
هنا، وفي ظني أن قصور كثير من الدعاة في العناية بجانب العواطف واهتمامهم
بإقامة الحجة والبرهان فقط أدى إلى خسارة الكثير من الفئات التي كان يمكن
استثمارها في مجابهة التنصير أو على الأقل حمايتها من مكائده.
ج - مع أهمية التخصص النوعي في أنشطة الدعاة إلا إنه لا بد من تكامل
الأنشطة وتعاضدها وتنسيق أصحابها فيما بينهم؛ فالداعية مثلاً ما لم يحمل بيده
إغاثة وإحساناً يقدمه للمسكين فإن استجابة الناس لدعوته ستكون محدودة، والمغيث
ما لم يحمل بيده مصحفاً، ويستصحب معه داعية فإنه يكون قد قصَّر غاية التقصير،
وأهدر فرصة لن تعوض، وهذا يوضح بجلاء حجم الخسارة التي تجنيها الدعوة
من جراء تشتت الجهود وعدم تنسيق أصحابها فيما بينهم مع أن الأهداف في الغالب
واحدة، والقواسم المنهجية المشتركة فيما بينهم قد تكون كبيرة.
د - أهمية حرص قادة المؤسسات الإسلامية على احتواء ذوي العقل الناضج
والفكر الوقاد، والقيام بتشجيعهم على الإبداع والتفكير بعمق وحرية، ثم السعي إلى
الاستفادة من أفكارهم المتميزة وأطروحاتهم الطموحة سواء كان ذلك في جانب
تطوير العمل الدعوي والخيري أو في مواجهة مكايد أعداء الإسلام من منصرين
وغيرهم.
وما لم يتم الاحتواء لهذه الطائفة من الدعاة من قِبَل المؤسسات الإسلامية
دعوية وخيرية فإن نموها سيكون بطيئاً، وقفزاتها التطويرية ستكون محدودة،
وقدرتها على منافسة المؤسسات التنصيرية في الميدان لن تكون بالصورة المرضية.
10 - العمل بوابة النجاح:
لا يعاني الدعاة إلى الله من مشكلة في ندرة الأفكار وقلة الوسائل التي يجابهون
بها المنصِّرين بمقدار ما يعانون من كثرة المتكلمين وقلة العاملين؛ إذ غالبية الدعاة
لم تستطع بعدُ أن تحوِّل ما تملكه من أفكار وتصورات في هذا السبيل إلى واقع
عملي معاش يسهم في نصرة الحق ومحاربة الزيغ والضلال.
ولو تأمل المرء في حياة عظماء البشر لرأى أن عظمتهم لا ترجع إلى
امتلاكهم قدرات خارقة يمتازون بها عن بقية البشر إذ هناك كثير ممن يشاركونهم
في امتلاك تلك القدرات إن لم يتفوقوا عليهم فيها وإنما ترجع إلى سلطتهم على
أنفسهم وحملهم لها على تجاوز إدراك الأفكار والحديث عنها إلى تنفيذها وتحويلها
إلى واقع عملي معاش.
ولست بذلك أقلل من أهمية التصورات الناضجة والأفكار العميقة المبدعة التي
يطرحها بعض الدعاة لمجابهة التنصير، ولكن من المؤكد أن تلك الأفكار على
جودتها بدون تنفيذ ستبقى مجرد خيال وحلم.
وخطورة استمرار هذه الظاهرة غير خافية؛ إذ إنها تقلل الإنتاجية وتفقد
الدعوة الكثير من الطاقات وفرص النجاح التي من الممكن أن يخفت بها صوت
التنصير في ميادين كثيرة.
ومفتاح تجاوز هذه الظاهرة يعتمد على أمور عديدة أهمها أمران:
أ - العمل على استمرار تنامي الشعور بالظاهرة والإحساس بخطورتها
والعزيمة على تجاوزها.
ب - قيام كل فرد منا بتحمل مسؤوليته تجاه نفسه؛ بحيث يلزمها بالتنفيذ
الفوري لما يؤمن به من أفكار ناضجة تصلح لمواجهة القوم ورد كيدهم.
وما لم يتم ذلك فإننا باقون في دائرة القول، والمنصرون في دائرة العمل، وما سبقَ
متكلمٌ عاملاً.
11 - وأخيراً: فالنصر للإسلام:
فالمواجهة مهما طال زمنها، وعظمت مشقتها، وإمكانات الدعاة مهما ضعفت،
وخسائرهم مهما كثرت فالعاقبة للإسلام، والنصر آت لا محالة، بعد استكمال
شروطه، وتحصيل أسبابه، وامتلاك وسائله.
جاءت بذلك النصوص الصريحة الصحيحة، ودل على ذلك الواقع المشاهد؛
فمن النصوص التي تبعث في النفس الأمل وتزيد الفأل الحسن وتزيل اليأس وتدفع
القنوط قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]
(الأنفال: 36) . والمنصرون مجال حديثنا في هذا المقال ينفقون أموالهم ويبذلون
جهودهم وأوقاتهم، ويستنفرون كيدهم في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات
في وجه هذا الدين، والله تعالى ينذرهم بأنها ستعود عليهم بالحسرة، وسينفقونها
لتضيع ويغلبوا، ولينتصر الحق في النهاية [7] .
ومنها أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه: «ليبلغن
هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله
الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به
الكفر» [8] .
وستنتهي المعركة مع القوم بنزول سيدنا المسيح ابن مريم عليه السلام،
وعندها يتجلى التوحيد ويخبو الشرك، ويتبين للقوم ما هم عليه من غرور وضلال.
وأكبر ضامن لنصرة الإسلام وهيمنته في الأرض طبيعة منهجه وحاجة
البشرية إليه. يقول سيد قطب رحمه الله: « ... فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه
هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع
في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه أراد
أعداؤه أم لم يريدوا..» [9] ، وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى كما لا
يملك منهج آخر أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني عنه
طويلاً « [10] ، ويقول أيضاً:» ... ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا
الاعتبار. باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير
منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظِّمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية
لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني « [11] .
ومن دلالات الواقع على ذلك أنك ترى إنجازات المنصرين ونجاحاتهم لا
تتناسب أبداً مع جهودهم المبذولة والفرص المتوفرة والتأييد العالمي الذي يتلقونه
والإمكانات المتاحة، وفي المقابل: ترى الإقبال على الإسلام يفوق جداً جهود الدعاة
المبذولة وإمكاناتهم الملموسة حتى أصبح المرء يجزم بأن الإسلام ينتصر بقوته
الذاتية وما يحمله من حجج دامغة وبراهين ساطعة لا بجهود أبنائه وقوة المنتسبين
إليه.
وكون الإسلام قادماً والتوحيد منتصراً أمر محسوم وقضية منتهية، ولكن
السؤال الأهم بالنسبة لنا: ما دورنا نحن في ذلك؟ هل نكون ممن أسهم في نصرة
الإسلام؛ فاعتصم بالله واستمد العون منه، وقام بما يجب عليه تجاه دينه؟ أم نكون
ممن ركن إلى الدنيا واشتغل بالأولى عن الأخرى، ونسي ربه فأنساه الله نفسه؟ !
نسأل الله رحمته ومعافاته، وأن يستعملنا في طاعته ويجنبنا غضبه.
والله غالب على أمره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
__________
(1) مدارج السالكين، 1/520.
(2) انظر: الجواب الكافي، لابن القيم: 81.
(3) انظر: 13 خطوة لتنصير المسلمين، أبو إسلام أحمد عبد الله، ص 14.
(4) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 2/679.
(5) انظر: المصدر السابق.
(6) انظر المصدر السابق.
(7) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب، 3/1506 1507.
(8) المسند، لأحمد، 4/103، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(9) انظر: المستقبل لهذا الدين، لسيد قطب، 93.
(10) انظر: المستقبل لهذا الدين، لسيد قطب، 93.
(11) المرجع السابق: 5، وانظر: رسالة قيمة في مسألة النصر للإسلام بعنوان: البشائر بنصرة الإسلام، لمحمد الدويش.(154/88)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
من الظلمات إلى النور
قصة إسلام قس نصراني
أعدها للنشر:
د. عبد الرحمن الجمهور [*]
(إيفور إليويس) شاب يافع ممتلئ حيوية ونشاطاً. تلقَّى الدراسات الدينية
النصرانية على أيدي قساوسة، فنشَّأه أبوه على حب الكنيسة والعمل لها. انخرط
في الجامعة وهو يحمل الفكر النصراني، وبدأ دراسة التجارة والاقتصاد. أخذ على
عاتقه التنصير وهو على مدرجات الجامعة، وتخصص في تنصير المسلمين، أو
إخراجهم من دينهم إلى الفراغ الروحي.
ولكن مع هذه الحيوية والنشاط في تنصير الناس لم يشعر بالراحة النفسية،
مع أنه بلغ منصباً عالياً؛ حيث أصبح كبير أساقفة الكنيسة التي يعمل فيها، ومع
ذلك لم تستقم نفسه على هذا الدين، وأحس بأنه لا يشبع الروح، فجرب الهندوسية
ولم تزده إلا نفوراً، فالأسرار والطقوس الهلامية التي تؤديها الطائفة الهندوسية لا
تستقيم مع صفاء النفس وتعلقها بالله. بل إن الأفراد الذين يشركون مع الله آلهة
أخرى لا تستقيم حالهم بل يزيد هذا الشرك من حيرة الإنسان، ويملأ قلبه حيرة
ووحشة. فأيقن (إيفور) أن الهندوسية لا تصلح أيديولوجية روحية؛ فهي لا تخدم
مصالح الإنسان وحاجاته؛ لأنها تمجد إنساناً وتصنع منه آلهة مع الله؛ فجرب
الشيوعية وقراءة كتبهم ومبادئهم ولكن لم تشفِ هذه المبادئ حاجته الروحية، فشعر
بشيء من الألم يعتصر قلبه. يقول (إيفور) : إن العقيدة النصرانية لا تصلح أن
تكون ديناً عالمياً؛ فهي لا تلبي حاجة النفس ولا توازن بين الفرد والمجتمع، بل لا
توازن بين الدنيا والآخرة؛ فغالبية النصارى في العالم يشعرون بخواء روحي
ونقص في الجانب العبادي، لا لشيء، ولكن لأنهم لا يوحدون الله بالعبادة. ففي
دينهم أسرار لا يسمح للفرد العادي أن يعرفها، وهناك طبقية؛ فالسدنة غير
القساوسة، والقساوسة غير الإنسان العادي، وأنت في خضم هذا المشروع الطبقي
تنسى ربك وتتعلق بالقسيس؛ لأنه هو الذي يصفح، وهو الذي يغفر، وهو الذي
يمتلك ناصيتك من دون الله.
إن الإنسان العاقل المنصف يشعر بالخيبة وهو يقرأ التناقضات في نسخ
الإنجيل، ويشعر بالرغبة في التقيؤ وهو يقرأ القصص التي لا تصح من عامة
الناس؛ فكيف من خير البشر: «الأنبياء وأبنائهم وبناتهم وزوجاتهم» .
ومما زاد في عجبه أن المسلمين في سيريلانكا حيث ولد وترعرع يختلفون
عن المسلمين في بلاد الحرمين من حيث التطبيق والعمل للإسلام. وما رآه من
تهاون في العبادات وعدم التفريق بين ما هو حلال وما هو حرام في بلده جعله يوقن
أن الإسلام هنا له معنى خاص، وهو الإسلام الذي يخوِّف سدنة الكنيسة ويقلق
مضجعهم. ويضيف إيفور قائلاً: «إن من الأمور التي زادت في حيرته وعدم
فهمه للإسلام دور الهلال في حياة المسلم، يقول:» كنت أسمع أن الهلال الذي يعد
رمزاً للمسلمين مهمٌّ في حياتهم، وكثير ممن يشرح دور الهلال في حياة المسلم
يشبهه بالصليب عند النصارى؛ فالمسلم يصوم إذا رأى الهلال، ويفطر إذا رآه مرة
أخرى، ويصوم إذا اكتمل البدر، ويحدد مواقيت الحج بالهلال، ويوضع على
المنابر في المساجد، مما جعلني أعتقد جهلاً أن الهلال هو المعبود وليس الله
تعالى «! !
كنت أثرت موضوعاً في الكنيسة سبب لي جدلاً كبيراً، وصممت على تنفيذ
ذلك الأمر مهما كانت العواقب ومهما بلغ الثمن. طرحت فكرة الدعوة إلى
النصرانية في بلاد المسلمين وبالتحديد في بلاد الحرمين، إلا أن القساوسة ومَنْ
حولي عارضوا الأمر بشدة، وحاولوا تخويفي؛ فعقوبة مرتكب هذا الأمر الموت؛
حيث يقطع رأسه أمام الناس. أردت أن أكتشف هذا العالم المجهول، وأرى علاقة
الهلال بالمسلمين، وأرى مدى تقبلهم لعقيدة التثليث. فكرت في الأمر ملياً ورأيت
أن أقتحم هذه التجربة.
ذهبت إلى مكاتب التوظيف ووجدت وظيفة مأمور مستودع في شركة عربية
في بلاد الحرمين، لم أتردد بالقبول، وفي فترة وجيزة أنهيت وثائق السفر،
وركبت الطيارة أوائل عام 1983م وكلي أمل في أن أمارس نشاط التنصير لأُرضي
الكنيسة، وأُثبت لهم صحة فرضيتي، ولأشعر بالرضى والزهو والفخر بقدراتي
على الإقناع. كنت أتصور أن المسلمين في هذا البلد مثل المسلمين في بلادي، لكن
الفرق شاسع والمهمة لم تكن سهلة.
لقد تغيرت نظرتي لديني ودين قومي عندما رأيت مظاهر الالتزام بهذا الدين،
فلم أعد أجد في نفسي الرغبة الجامحة للتنصير، بل أصبحت أنظر للمسلمين نظرة
إعجاب وتقدير يشوبها شيء من الاحتقار لذاتي ومعتقدي، لقد تحركت في داخلي
موجة كره لديني، وبدأ الشك يساورني مرة أخرى، وأحسست أنني لست على
الطريق المستقيم.
ومما لفت نظري تعظيم المسلمين للقرآن الكريم؛ فهم لا يلمسونه إلا إذا كانوا
متطهرين، ولا يسمحون لغير المسلم بلمسه فضلاً عن قراءته، ويطبقون بعض
الأحكام عند قراءته ويتغير صوتهم (الترتيل) عندما يقرؤونه، ويشعرون أنهم
يعظمون الله تعالى ويتعبدونه بتلاوته. مع أننا عندما نتعامل مع الإنجيل لا نقيم لهذه
الأحكام وزناً، بل لا يهمنا من يقرأ الإنجيل، وعلى أي حالة كان، بل إننا لا نقيم
له قداسة ولا تعظيماً؛ فنأخذه إلى بيت الخلاء، ونهجره، ولا نؤمن بكثير مما فيه.
فأحدث هذا الأمر شيئاً في نفسي وهزني أمر تعظيم القرآن وأوجد في نفسي رغبة
شديدة لقراءته والبحث فيه لعلِّي أجد بعضاً من المتناقضات كما هو الحال في كتابنا
المقدس. ولكن لم أعثر على نسخة مترجمة، بل لم أجد من يعيرني نسخته؛ فأنا
في نظرهم كافر لا يجوز أن ألمس القرآن. ومضت الأيام وهذه الرغبة تراودني
وفضولي يقودني للسؤال عن النسخة المترجمة معانيها من القرآن كلما سنحت
الفرصة، إلا أن الجهد ذهب سدى والأمر لم يتيسر لي بسهولة.
وذات ليلة دعاني مهندس باكستاني لتناول طعام العشاء في منزله؛ فهذه آخر
ليلة له في مدينة المجمعة؛ حيث نعمل؛ فهو سيسافر من الغد إلى أهله سفراً نهائياً
وأثناء تناول العشاء لمحت نسخة مترجمة لمعاني القرآن إلى الإنجليزية فطلبت
من المهندس الباكستاني أن يعيرني إياها، ففعل، فطرت فرحاً ولم تسعني الدنيا من
الغبطة والسرور، بل لم تعد لي شهية في الأكل أو الشرب، فقط أريد أن أتصفح
القرآن، وأعرف ماذا فيه. وبدأت فكرة البحث عن المتناقضات تتسلل إلى رأسي،
وبدأ الشيطان يسوِّل لي ويعدني ويمنيني.
خرجت من منزل المهندس وذهبت إلى بيتي، وبدأت أقرأ في النسخة
المترجمة، وأول ما قرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم) شعرت بقشعريرة في
جسمي، لقد قرأت كل الكتب المقدسة من الإنجيل إلى التوراة إلى كتب الأديان
الأخرى ولكني لم أجد أي كتاب يبدأ باسم الله. إن للبسملة معنى استقر في قلبي؛
فأول مرة في حياتي أقرأ البسملة، اسم الله تعالى، بعده صفة يغفل عنها الكثير
(الرحمن) لقد تركت هذه الجملة في نفسي أثراً عجيباً، ودفعتني لأقرأ بتمعن وبقلب
مفتوح.
ثم دلفت إلى سورة الفاتحة، إنها ترسم ما قاله عيسى عليه السلام لأصحابه
عندما أرادوا أن يعرفوا كيف يحيُّون الإله، فقال لهم أن يحمدوه ويمجدوه ويدعوه؛
وهذا ما وجدته في سورة الفاتحة التي فتحت قلبي على مصراعيه، وانهال النور
المضيء إلى قلبي، فأضاء أركان جسمي وجوانبه ... لكم أشعر بطعم السعادة،
والإيمان يملأ قلبي وأنا أقرأ كلام الله تعالى.
بعد ذلك قرأت سورة البقرة، هذه السورة العظيمة والقرآن كله عظيم: [الم
* ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] (البقرة: 1-2) يا للعجب هذه الآية أو
معناها أجده في الكتب المقدسة التي قرأتها، ولكن في ختام الكتاب بعد أن تنتهي
المقاطع والتعاليم الدينية والقصص والمواعظ تأتي هذه الآية أو معناها لكن في هذا
الكتاب أتت هذه الآية في أوله شامخة تعلن أن هذا الكتاب كامل وشامل لا ينقصه
شيء. يا للعجب! ! من يملك مثل هذه القدرة؟ إنه الله الواحد الأحد، أكملت
القراءة إلى أن وصلت إلى الآية الرابعة: [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ
مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] (البقرة: 4) ، لقد زلزلت هذه الآية ما بقي في
قلبي من ريب، وأزالت ما فيه من تساؤلات لا معنى لها. لقد جعلت قلبي ينفتح
على مصراعيه، وأعلنت بين جوانب نفسي أن هذا الدين حق، وأن الذي أنزل
القرآن هو المعبود المستحق للعبادة وحده ... لم أعد قادراً على التحمل؛ فأنا أريد
أن أمارس العبادة الصحيحة ... لقد تذكرت قول المسيح عليه السلام إنه سيأتي
بعدي من يقودكم إلى الحق والهدى، فهذا هو الحق والهدى الذي بشر به عيسى
عليه السلام.
إنني الآن مسلم، ولكن لا أحد يعرف أنني مسلم، وعليَّ أن أصلي وأمارس
الإسلام، وقبل الصلاة يجب أن أتطهر، ولكن كيف يتطهر المسلمون؟ لا أعلم.
ودخل وقت الصلاة وسمعت المؤذن ينادي للصلاة، قمت وخلعت ملابسي كلها
وغسلت جسمي، ثم دلفت نحو المسجد لأول مرة، ووقفت في الصف أقلد مَنْ على
يميني وشمالي إلى أن فرغت من الصلاة وعدت إلى بيتي وأنا أشعر بنور في قلبي،
ولأول مرة أشعر بالراحة، أول مرة أشعر بقيمة العبادة، أول مرة أشعر بطعم
الإيمان، وأخذت أكتب ما أسمع من الإمام وأحاول أن أقول مثل ما يقول، وبقيت
على هذه الحالة لمدة يومين وأنا أغتسل غسلاً كاملاً خمس مرات في اليوم الواحد،
وفي اليوم الثالث إذا بالإمام يمسكني من يدي ويبدأ يعاتبني بصوت مرتفع، فهمت
منه أنه عاتب عليَّ؛ لأنني لا أصلي في المسجد وأنا جار المسجد؛ فقد كان
مظهري وأنا ملتحٍ يوحي بأني مسلم. فأخبرته أنني مسلم جديد وأنني اعتنقت
الإسلام حديثاً ففرح بي وفرح بي الآخرون.
وبقيت على حالي أياماً عدة وأنا أغتسل قبل كل صلاة إلى أن قدم إلى مكان
عملي اثنان من خارج المدينة وكان الوقت وقت صلاة فطلبا مني أن آذن لهما
بالدخول إلى المرحاض للوضوء استعداداً للصلاة، فقلت لهما:» لا «وأرشدتهما
إلى مكان مفتوح يصلح للوضوء. وغضبا عليَّ غضباً شديداً، وإنما أردت أن تتاح
لي الفرصة لتعلُّم الوضوء بالمشاهدة، وبعد أن أتما وضوءهما، قمت وتوضأت
مثلهما، وهما في دهشة وحيرة من أمر هذا النصراني الذي يتوضأ مثلهما تماماً!
بدأت تعلُّم الواجبات وأركان الدين والعبادات، وكلما قرأت زادت محبتي لهذا
الدين، وتعلمت الكثير، ولعل أهم ما لفت نظري وجذبني لهذا الدين أنه دين شامل
وكامل يعالج جوانب كثيرة في حياة الفرد والمجتمع، ويوازن بين الدنيا والآخرة،
ويقدم للبشرية مشاريع إصلاح اقتصادية واجتماعية ونفسية.
وفي يوم من الأيام أخذني الإمام إلى مدير المعهد العلمي في مدينة المجمعة
الذي أهداني عدداً كبيراً من الكتب المترجمة باللغة الإنجليزية، وأخبرني أن لديه
مستودعاً للكتب باللغات الأجنبية، كالألمانية والفرنسية، وغيرها فأخذت هذه الكتب
وبدأت مشروع الدعوة إلى الإسلام من خلالها؛ وعلى أثر ذلك شرعت في إعداد
فريق للعمل في الدعوة إلى الله، ونجحنا ولله الحمد والمنة والفضل في هداية كثير
من الناس في منطقتنا والمناطق المجاورة، وصار شغلنا الشاغل هو الدعوة إلى الله
تعالى وسط غير المسلمين.
ومن خلال تجربتي في الدعوة للنصرانية عرفت أن المسلم المتمكن من
عقيدته العارف بالواجبات يتعذر علينا إقناعه أو خلخلة عقيدته، ذلك أن الحجج التي
نحاجُّ بها تعد من البديهيات عنده، بل أحياناً يحرجنا بإثارة نقاط مثل التثليث
وألوهية عيسى، والغفران، وأصل الخطيئة، وغيرها كثير، ولا يدخل في معتقد
النصارى إلا القليل، وهم من أولئك الذين ليس لهم حظ من العلم بالدين.
إن الدعاة إلى النصرانية في الآونة الأخيرة سلكوا مسلكاً خطيراً يتمثل في
قبولهم المسلم ليعيش بينهم، بل ويقدمون له المغريات مثل المرتب العالي والمسكن
المؤثث، بل ويسمحون للمسلمين ببناء المساجد وإقامة الشعائر الدينية، ولا
يمنعونهم من مزاولة ما يريدون تحت شعار الحرية الدينية، وهم في الحقيقة
يخططون لتنصير الجيل القادم.
فعندما يدخل المسلم في عالمهم محافظاً على دينه حريصاً على أداء ما افترضه
الله عليه فإنهم يعمدون إلى تثقيف أبنائه وبناته بالثقافة الغربية، ولا تخلو من بعض
المعتقدات النصرانية، فينشأ بين أحضانهم يراهم في الليل والنهار، ويسمع منهم،
ويقتدي بهم حتى إذا أدرك وبلغ سن الرشد سهل عليهم قيادته إلى معتقدهم، وهذا ما
تحاول الكنيسة العالمية بثه بين المنصرين وأتباعهم، وهذا ما ينطوي عليه مبدأ
النظام العالمي الجديد.
فهل نعي خطر ما يخططونه لهدم الإسلام؟ والله نسأل أن يثبتنا بالقول الثابت
في الحياة الدنيا والآخرة.
__________
- نادي 700 (700 club)
برنامج تلفازي تنصيري بدأ في عام 1993م وإلى الآن يبث يوميًا إلى أكثر من
(275) محطة تلفاز داخل أمريكا، ويصل البث إلى أكثر من (60) دولة
أخرى. ويقدر عدد مشاهديه يوميًا في أمريكا فقط بمليون مشاهد.
هل تعلم كيف بدأ تمويل هذا البرنامج؟
يشرف على البرنامج ويقدمه المنصر العالمي المشهور (بات رابرتسون) الذي أقنع (700) شخص بالتبرع بمبلغ عشرة دولارات شهريًا. وذلك تلغطية كلفة إنتاج وبث البرنامج. ولهذا سمى البرنامج بهذا الاسم.
- البيان -
__________
* عدد اللغات في العالم (6703) لغة، ترجم الإنجيل إلى (4700)
وتبقى (2000) لغة والعمل القائم على ترجمة الإنجيل إلى 965 لغة تقريبًا من
اللغات المتبقة.
[نشرة pulse 5 سبتمبر 1997م، مجلة الصراط المستقيم 69]
* ذكرت مؤسسة الأبواب المفتوحة أنها أرسلت ثلاثين طنًا من الكتب
والأناجيل إلى بغداد حيث إن الطلب على الإنجيل كان كبيرًا جدًا.
[مجلة الصراط المستقيم: 60]
* ذكرت مجلة (تايم) في عددها الصادر في ديسمبر 1996م أنه في عام
1995م قدم الأمريكيون 143. 9 بليون دولار للمؤسسات الخيرية، وقد كان 70?
من هذا المبلغ مقدمًا من أفراد.
- البيان -
__________
(*) رئيس قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.(154/98)
الإسلام لعصرنا
هيئة الأمم
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
بما أن المسلمين أمة عظيمة من الأمم التي تسكن كرتنا الأرضية، فإنه يهمها
أن تعيش في سلام مع غيرها من الأمم، وأن تشاركها وتتعاون معها في الرقي
بالمجتمع الإنساني، وفي البحث عن حلول للمشكلات التي تواجهنا جميعاً، طبيعيةً
كانت أم سياسية أم اجتماعية. وهيئة الأمم المتحدة منبر من أحسن المنابر لتحقيق
ذلك. لكننا نرى أن استمرار هذه المنظمة في أدائها لهذه المهمة العظيمة رهين
بإقرارها لثقافات الشعوب المكونة لها، وقيمها وخصوصياتها، وأن تكون وسيلتها
للتغيير في المسائل التي تختلف فيها الثقافات والحضارات هي الحوار والتفاهم بالتي
هي أحسن، وألاَّ تتحول إلى أداة تستغلها بعض الدول أو الجماعات لفرض
معتقداتها وقيمها، وقمع المخالفين لها.
وعليه فإننا نود أن نؤكد باعتبارنا أمة إسلامية أننا لا نأخذ معتقداتنا وقيمنا من
مصادر غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذين المصدرين
الإسلاميين يمثلان قانوننا الأعلى الذي نحكم به على غيرهما، فنرفض ما يتناقض
معه، ونفسر في نطاقه ما نراه موافقاً له. وكما أن هذا الموقف مقتضى ديننا فهو
أيضاً مقتضى حرية الدين التي وردت في الإعلان العالمي للحقوق الإنسانية؛ إذ إن
هذه الحرية لن يكون لها معنى بالنسبة لنا إذا كان غيرنا هو الذي يفرض علينا كيف
نفهم ديننا، وماذا نأخذ منه وماذا ندع، ثم يعاقبنا إذا نحن لم نلتزم بما أَمَرَنا به!
في ضوء ما سبق نقرر رفضنا القاطع لبعض ما ورد في مقررات مؤتمر
بكين متعلقاً بالعلاقة الجنسية، ونرى فيه دعوة إلى الإباحية التي لن ينتج عنها إلا
مزيد من التفسخ الخلقي، والتفكك الأسري، وانتشار الأمراض التناسلية، وتعزيز
النزعة الفردية، وما يتبع ذلك كله من زيادة في الجريمة، وتهديد لأمن المواطنين
وسلامتهم.
لكننا نقر مع ذلك أن المرأة تعاني عالمياً من ظلم يجب أن يرفع عنها، ومن
فقر يجب أن يزال، وأن هذا إنما يكون بالتعاون بين الجنسين باعتبارهما مخلوقين
بشريين تحركهما الحجج العلمية والدوافع الخلقية. ولن يتحقق أبداً بإثارة جنس على
جنس، بل يُخشى أن تؤدي مثل هذه الإثارة إلى صراع تكون المرأة في نهايته هي
الخاسرة.
ويسرنا أن نشارك غيرنا من شعوب العالم في حل هذه المشكلات مهتدين
بديننا وتجاربنا وتاريخنا، ومستفيدين كذلك من فكر غيرنا وتجربته وتاريخه.
وعليه فإننا في مجال إزالة الفقر ندعو دول العالم وأفراده إلى أن يطبقوا
فريضة الزكاة الإسلامية، ولو فعلوا لما بقي على وجه الأرض فقير ذكراً كان أم
أنثى. كيف لا، وهي ضريبة سنوية مقدارها 5,2% من رأس المال، تؤخذ من
الأغنياء وتوزع على الفقراء، وأن يطبقوا المبدأ الإسلامي الذي يجعل من حق
كل إنسان أن يعيش حياة كريمة ما دام المجتمع قادراً على ذلك. ونضم صوتنا
إلى المنادين بإزالة الآثار السلبية للعولمة وما ينتج عنها من زيادة فقر الفقراء،
واستغلال عمل النساء. ونرى مع غيرنا أن مما يساعد على تخفيف الفقر عن البلاد
النامية أن ترفع عنها الفوائد الربوية على الديون التي تقترضها من الدول الغنية؛
فإن هذه الفوائد قد صارت عائقاً لهذه الأمم عن كل نمو اقتصادي.
وفي مجال التعليم نرى أن يشمل التربية الخلقية التي تغرس في المرأة
الاعتزاز بما ميزها الله به، وترضى به، ولا تحاول أن تلهث وراء تقليد الرجال
ومنافستهم فيما ميزهم الله به [وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ] (النساء: 32) وأن
يفهم ما يمتاز به كل من الجنسين بأنه وسيلة للتعاون بينهما، وتكميل للواحد منهما
بالآخر، وعون على بناء الأسرة واستقرارها، وتحقيق لمصلحة الأولاد.
وفي مجال الموازنة بين عمل المرأة خارج بيتها وبين واجباتها الأسرية نرى
أن يطبق المبدأ الإسلامي الذي يلزم الرجل بالنفقة على زوجه وأسرته، ويجعل ذلك
حقاً لهم، وأن تعين الدولة كل امرأة تفضل البقاء في بيتها لتربية أولادها وإعانة
زوجها. إن عمل المرأة خارج بيتها ينبغي أن يُنظَر إليه على أنه ضرورة اقتصادية
لا أمر يقتضيه تكريم المرأة واحترامها.(154/102)
قراءة في كتاب
التحليل السياسي محاولة للاقتراب
المؤلف: روبرت أ. دال
ترجمة: د. علا أبو زيد
تلخيص: وائل عبد الغني
أصبحت السياسة في السنوات الأخيرة أهم العناصر الفاعلة والقوية التي
تحرك الواقع البشري وتتحكم في مصيره وفق مشيئة الله بصورةٍ تجعل الإنسان لا
يسعه أن ينأى بواقعه عن دائرة تأثيرها.
والداعية باعتباره عنصراً مؤثراً لم يَعُدْ يسعه ترك الإلمام ولو إجمالاً بواقعه
المعاش.. كيف يسير؟ وماذا يُراد له؟ بنظرةٍ مبنية على قواعد وأسس موضوعية.
ويسعفنا في ذلك التحليل السياسي؛ إذ أصبح كمّاً معرفياً متميزاً في ظل
قفزات التطور الهائلة في المعرفة الإنسانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. هذا العلم
يُكسِب المحلل والممارس مهارات ومدارك وخبرات واسعة.
وقبل أن نشرع في الاقتراب من عملية التحليل السياسي نشير إلى نقاطٍ عدة
ينبغي ألا نغفلها ونحن نطالع مثل هذه المعرفة:
1 - إن التطور الهائل في العلوم قد واكبه قدرٌ لا بأس به من التعريب، لكن
لم نشهد بعدُ جهوداً قوية في مجال الأسلمة.
2 - قلة المحاولات التي قصدت بناء منهج إسلامي للتحليل السياسي اعتماداً
على الجهود الضخمة التي خلفها لنا علماؤنا أمثال الرازي والماوردي والجويني
وابن تيمية وابن أبي الربيع وابن خلدون، والتي كانت مادة إثراءٍ قوية انتشلت
الفكر السياسي الغربي من أسر الكهنوتية إلى سعة المنهج التجريبي والتحليلي،
والذي كان له أثره في التطور الفكري الأوروبي.
3 - ولكن الفكر الأوروبي عموماً انفلت من أسر الكهنوتية إلى الفوضى
الفكرية والتي تشبه إلى حدٍ كبير ما يعانيه عالمنا اليوم مما ولَّد مدارس مادية تعتمد
على الوضعية والحتمية والهرطقات اليونانية الغابرة.
4 - هذا العلم له أثره العظيم في إحياء الوعي، ورغم أنه أكاديمي إلا أنه
شهد جهوداً لتبسيطه ونقله إلى الجماهيرية في الغرب، ولكن هذا لم يحدث حتى
الآن على المستوى الإسلامي والعربي بوصفه ظاهرة علمية وثقافية؛ ولهذا كانت
هذه القراءة محاولة للاقتراب من الظاهرة السياسية على مستوى النظام السياسي
الذي تُبنى فكرته على اعتبار أن الإنسان ينزع إلى العيش في تجمعات بشرية
تضطره إلى الخضوع لأحد أشكال السلطة وإقامة علاقات مع من حوله.
والسياسة بتعبيرنا اليوم ما هي إلا نمط مستمر من العلاقات الإنسانية يتضمن
التحكم والنفوذ والقوة والسلطة، وهو ما يتتبعه المحلل السياسي؛ لأنها بمثابة البؤرة
التي تتمحور حولها العلاقات، والعمل السياسي غير متصور دون ممارسة القوة.
ويتتبع التحليل كذلك أشكال الأنظمة وكيفية بنائها وسمات التشابه والتباين،
ويحلل كذلك السلوك من حيث الدوافع والأسباب والظروف والنتائج التي تكتنف
النماذج البشرية الممارسة للسياسة مستنداً على أسسٍ ثابتة.
أسس التحليل:
تختلف الأسس التي يستند إليها التحليل طبقاً لفكر من يمارسه، والظروف
التي نشأ فيها وتأثر بها. فلو كان أمامنا خمسة تحليلات عن الوضع الأفغاني الراهن
مقدمة من خمسة محللين من باكستان وروسيا وطاجيكستان وإيران والولايات
المتحدة لظهر جلياً إلى أي حدٍّ أثَّرت النشأة والعقيدة على طريقة التحليل ونتيجته.
ويتأثر التحليل كذلك بالنظريات السياسية التي يتبناها المحلل؛ فبعض
النظريات مثلاً تقصر إطلاق مصطلح «النظام السياسي» على الأنظمة الحاكمة
التي تمتلك سلطة فعلية (الدولة الحكومة) بينما تتوسع أخرى في شمول نفس
المصطلح لأي نظام يُمارس فيه نوع من القوة: كالقبيلة، والمؤسسة، والشركة،
والمنظمة، والحزب.
حول النظام:
بالنظر إلى النظم السياسية نجد أن كل نظام يتفرع إلى أنظمة فرعية بينما هو
مندرج في نظامٍ أشمل منه، كما نجد أن الفرد قد يشكل جزءاً من أكثر من نظام؛
فأستاذ الجامعة يمثل جزءاً من النظام في جامعته، إلى جانب كونه عضواً بارزاً في
أحد الأحزاب أو يشغل منصباً حكومياً. كما نجد أنه كلما ازداد النظام تعقيداً
واستقراراً كلما أدى ذلك إلى نمو الأدوار السياسية فيه.
حوْل الحكومة:
أول ما يعني المحلل من النظام هو الحكومة؛ لا لأنها تملك القوة وحدها، بل
لأنها تدعي لنفسها الحق المطلق في تنظيم استخدام القوة. ولكن هذا الادعاء مرهون
بمدى تقبل الناس له؛ فإذا ما شك الناس في هذا الادعاء أو رفضوه فمعنى ذلك أن
الدولة تواجه خطر التحلل، وأما إذا ما قبلوه فهنا تحقق الدولة صفة الشرعية التي
تختلف عن صفةٍ أخرى هي المشروعية؛ وهي الصفة التي تكتسبها الدولة من قوتها
أو من نص الدستور.
أما شكل الحكومة فيختلف باختلاف شكل النظام وطرق اقتسام القوة فيه.
ولكن ماذا نعني بالقوة هنا؟
اصطلاحات القوة والنفوذ:
تستند العلاقات البشرية إلى عدة أسس مثل الحب، والاحترام، والولاء،
والمعتقدات المشتركة، لكن كل ذلك لا يُعنى به المحلل السياسي بالدرجة الأولى،
إنما يعنى بالقوة وأشكالها كأساس للعلاقات، وبهذا يفيدنا تحليل القوة في معرفة
عناصر التأثير وتوجهاتها.
ونعني بالقوة: (فرض مشاركة المواطن في الحياة السياسية) ، كالتحكم في
الحكومة أو التأثير فيها، وفرض تحكمه في القرارات المتعلقة بسلوكه وحياته
الشخصية.
والمواطنون متفاوتون في قوتهم بالطبع، ويعني نشاط السياسي في مجالٍ
معين أنه يمارس نوعاً من القوة الظاهرة التي يتتبعها المحللون، في حين يغفلون
نوعاً آخر يتمثل في قوته الكامنة والتي ينبني على تحليلها الاقتراب من المصداقية
بالنسبة للتوقعات المستقبلية بالذات.
وعلينا أن نفرق بين قوة الفرد بوصفه فرداً وبين قوته باعتباره جزءاً من
جماعة. وعند قياس القوة ينبغي تحديد محيطها: (أي المسألة التي تمارس فيها:
السياسة الخارجية، البرلمان) ، ومجالها: (عدد الأفراد الذين تمارس في نطاقهم)
. ولا بد كذلك من معرفة كيفية تمركز القوة أو تشتتها، وأسباب ذلك ودلالاته،
ومدى ارتباطه بالظروف الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
تحليل النفوذ:
ونعني بالنفوذ: العلاقات التي تتسبب في نتائج إيجابية ومفضلة بالنسبة
للفاعل؛ أي الذي يمارس النفوذ.
ولهذا فأي وصف شامل لنظامٍ مَّا لا بد أن يتضمن إجابة عن السؤال الآتي:
من هم الفاعلون الذين يمارسون نفوذاً في المجالات الحيوية (السياسية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية) ، والتي من خلالها يؤثرون بطريقة غير
مباشرة على اختيارات غيرهم وقراراتهم؟
هؤلاء الفاعلون قد يكونون جماعات أو كيانات كلية أو أحزاب أو شركات أو
شخصيات عامة.
ومع تراكم التحليلات سنجد أن النفوذ أشبه بشبكة معقدة من العلاقات المتبادلة
بين الفاعلين والتي يكون بعضها إيجابياً (يتمثل في تأييد المصالح) وبعضها سلبياً
(بعدم التأييد) ، وهذا الأخير وإن كان إدراك حجمه صعباً إلا أنه يحتاج إلى مزيد
من العناية.
ولكن كيف يمكننا قياس النفوذ؟
في الحقيقة لا يوجد معيار كمي يمكن أن نقيس من خلاله النفوذ، ولكن مع
تراكم المعلومات وبإجراء المقارنات يمكن الاعتماد على أساسٍ ترتيبي (مساوٍ،
أكبر من، أصغر من) ، كما ينبغي حساب الوزن النسبي للنفوذ باختلاف المجال
والمحيط.
ولتحديد شكل النفوذ ودرجته لا بد أن ندرك أسباب اختلافه، والتي يمكن
إرجاعها إلى ثلاثة عوامل رئيسة [1] وهي:
1 - الاختلاف في توزيع الموارد السياسية التي يستخدمها الساعي للنفوذ
ليؤثر على سلوك الآخرين، وتشمل: (المال المعلومات الطعام التهديد باستخدام
العنف الوظائف الصداقات المستوى الاجتماعي حق إصدار الضرائب أصوات
الناخبين) .
2 - التباين في المهارات والكفاءات في استخدام هذه الموارد.
3 - التباين في مدى استخدام الأفراد مواردهم لأغراض سياسية.
ويُضاف إلى هذه الأسباب عوامل أخرى غير مباشرة أهمها:
- قيم الأفراد وتوجهاتهم وتوقعاتهم ومعلوماتهم الحالية.
- قيمهم وتوجهاتهم ومعتقداتهم وأيديولوجياتهم وبناء شخصياتهم ونوازعهم
السابقة الأكثر تأصلاً.
- قيم الآخرين وتوجهاتهم وتوقعاتهم ومعلوماتهم ومعتقداتهم وأيديولوجياتهم
وشخصياتهم ممن ترتبط تصرفاتهم بطريقةٍ مَّا بالقرار.
- عملية الاختيار أو التجنيد أو الدخول التي وصل بها صانعو القرار إلى
مناصبهم.
- قواعد صنع القرار التي يتبعونها، والبنى السياسية والنظام الدستوري.
- مؤسسات المجتمع الأخرى (البنى الاقتصادية والاجتماعية والدينية
والثقافية والتعليمية التي تقوم بتخصيص الموارد الرئيسة) .
- الأحداث التاريخية التي تركت آثارها على الثقافة والمؤسسات والبنى.
وبنظرة كلاسيكية يمكن أن يُتصور أن يستخدم الحاصلون على النفوذ نفوذهم في
الحصول على موارد أكثر تفتح أمامهم المجال للحصول على نفوذٍ أكبر، وهكذا
دواليك.
ولكن هذا الأمر لا يحدث في الواقع؛ لأن الموارد موصوفة بالندرة.
وأصحاب النفوذ لا ينفقون مواردهم إلا إذا كان العائد من ورائها أعظم قيمة، وهو
ما ينعكس عند حدودٍ معينة؛ إذ يسعى الخاضعون للسيطرة إلى تعظيم تكاليف تلك
السيطرة. ولا ننسى كذلك الصراع الشديد على النفوذ [2] .
طرق الحصول على النفوذ:
يمكن الحصول على النفوذ بأشكالٍ مختلفة، بعضها حسن وبعضها قبيح؛
فمنها: الإقناع الحقيقي (العقلاني) ، والتحفيز، والخداع (الإقناع الخداعي) [3] ،
والإجبار المادي، والسيطرة.
تصنيف النظم (أوجه التباين) :
يتم التصنيف وفق المدخل الذي يستخدمه المحلل والنشاط الذي يخدمه
(جغرافي طبغرافي اقتصادي سياسي ... ) . ولهذا يصح وضع أسس متعددة كل منها
يصلح أساساً لتصنيف النظم.
التحليل السياسي للنظم:
أ - أوجه الاتفاق:
يتحدد شكل النظام وفقاً للصيغة السياسية، والتي يتحدد وفقاً لها شكل السلطة
وأسلوب السيطرة، هذه الصيغة ليست كمّاً موحداً متجانساً، ولكنها تبدأ بالمعتقدات
التي يدين بها الجميع، وتتطور في شكل أيديولوجيات سرعان ما تتأثر بالمستجدات.
ولهذا لا نجد أيديولوجية فكرية يمكن وصفها بأنها متكاملة، أو يصح أن نقول
عنها إنها صالحة للحكم إلى ما لا نهاية، لذلك فهي خاضعة للتعديلات شأنها شأن
المناهج الأرضية، هذه النقطة تتفق فيها كافة الأنظمة بالإضافة إلى اتفاقها في:
- كونها مطاطة إلى الحد الذي يمكن معه إعادة تشكيلها حسب الرغبات
المختلفة.
- أن كل النظم السياسية تسيطر عليها سلطة حاكمة تحتكر القوة.
- أن هذا الاحتكار قد يستند إلى عقيدة، أو نظرية فكرية، أو انتخاب، أو
إلى القوة المتمثلة في الجيش والشرطة.
- أن كل الحكومات تسعى لاكتساب الشرعية؛ فإذا اتشح النفوذ بالشرعية
فهذا ما يُشار إليه عادة بالسلطة.
- أن النظم لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن العالم الخارجي.
- أن التصرفات المتاحة أمام النظام في أي دولة تتأثر بالتصرفات الماضية
والمحتملة للنظم الأخرى.
- حتمية التغيير: فأي نظام لا بد أن يشهد تغيرات هامة لكن يصعب التنبؤ
بها؛ ولهذا نجد أن عدم اليقين سمة بارزة للحياة السياسية.
ب - أوجه التباين:
وهي لا حصر لها. ولكن ما يمكن أن يُقال عنه إنه يترتب عليه نتائج هامة
يمكن إجماله في النقاط الآتية:
1 - مسار النظام إلى الوضع الراهن.
2 - درجة التحديث (المستوى الاجتماعي والاقتصادي) .
3 - توزيع الموارد والمهارات السياسية.
4 - جذور التصدع والتلاحم الداخلي.
5 - حدة الصراعات وحجمها.
6 - مؤسسات اقتسام السلطة وممارستها.
وهذه الأخيرة هي أبرز ما يركز عليه التحليل الحديث.
الأنماط السياسية داخل المجتمع:
وفقاً للمشاركة السياسية يمكن تقسيم الناس إلى كثرة غير مهتمة بالسياسة، إلى
جانب قلة مهتمة بها؛ هذه القلة تحوي قلة ثانية تمتلك من الدوافع ما يحفزها للسعي
وراء القوة، ولكن المهارات الشخصية والموارد السياسية تحول دون وصول كثير
من هؤلاء، لنجد أن الأقوياء هم قلة ممن يسعون نحو القوة، وإن كان التحليل
يحتاج لفحص كل شريحة من هذه الشرائح الأربع إلا أن الأخيرة هي التي يمكن أن
نسلط عليها بعض الضوء قليلاً بسؤالٍ هو:
لماذا تتعدد الأنماط السياسية للأقوياء؟
هناك عدة أسباب تؤثر في ذلك:
الشخصية والخلق، التوجهات السياسية الأولية، المعتقدات ومواقف اللحظات
الحاسمة، الثقافة العامة، الثقافة السياسية التي يشترك فيها مع قطاع من قطاعات
المجتمع.
تحليل الأداء:
التحليل السياسي لا يمكن إخضاعه للمقاييس الكمية والوصفية التي تخضع لها
الكيمياء، ولكن يمكن أن يخضع للتعليل السببي للوصول إلى نتائج مرغوبة مثل
حرية أعظم أمن أكثر ... لذلك فالتحليل تكتنفه صعوبات كثيرة؛ ليس أسهلها تطوير
مقاييس الظواهر السياسية.
تحليل القرار:
كيف ترتب الأولويات في ذهن المحلل أو السياسي؟ يختلف الترتيب من
محللٍ لآخر كما سبق أن ذكرنا، ولكن إذا أراد المحلل أن يزيد من قوة التحليل فعليه
أن ينوع في توقع الأولويات كي يمكنه تفسير أكبر عدد من الخيارات، ومع هذا
فسيظل عدم اليقين يطاردنا ويحف بخياراتنا السياسية. وللتغلب على قدر من هذه
المشكلة فإن القرار السياسي وتقويمه يجب أن يخضع لاستراتيجيات تقوم على
ترتيب القيم وتوضيح الأهداف وتوقع المشكلات وتوصيف الحلول عن طريق وضع
السياسات الممكنة، ثم تبحث كافة النتائج المهمة التي سوف تترتب على تقديم بديل
على آخر.
وسعياً وراء الرشد فقد طُرحت بعض الاستراتيجيات:
استراتيجية المثالية الكاملة:
وتقوم على أساس فلسفي تخيلي للأهداف والوسائل، ولكنها أثبتت قصورها
الشديد لكثرة مخالفة الواقع للتوقعات الكاملة.
وفي ظل عدم اليقين يصبح أمام متخذ القرار إما أن يغامر ويتخذ القرار في
ظروف من عدم التأكد، أو ينتظر ليدرس الحالة جيداً ويتخذ القرار بالحل المثالي،
ولكن الانتظار في عالم السياسة غير ممكن.
استراتيجية المثالية المحدودة:
ومن خلالها نقنع بتحقيق الحلول المرضية بدلاً من الحلول المثالية، ويمكننا
أن نواجه مشكلة عدم اليقين بأحد الحلول:
1 - السعي نحو الحلول المرضية بدلاً من المثالية.
2 - اتخاذ قرارات أولية لمعرفة ما يترتب عليها تمهيداً لاتخاذ القرار الأخير.
3 - الاستفادة من التغذية الاسترجاعية ومن المعلومات التي ولدها القرار
الأولي ذاته، ومن خلاله يمكن تقسيم الأدوار.
4 - وضع إجراءات للوصول إلى الأهداف المرجوة. وإذا افترضنا أن
القرارات التي تتخذ عبارة عن سلسلة من الإجراءات؛ فإنه يمكن للسياسي تصحيح
أخطائه في كل إجراء يتخذه وهو يسعى نحو الهدف، ولو افترضنا أننا نزيد في
شيء نسبة 5% سنوياً فإنه سوف يتضاعف في 14 عاماً [*] .
ولكن هذه الاستراتيجية لم تنجح في حل كل المشاكل.
استراتيجية التجريب المدروس:
وهي تصلح في بعض النطاقات دون بعض لتجريب كافة الحلول ومن ثم
اختيار أفضلها.
وقطعاً فإنه لا يمكن تفضيل إحدى هذه الاستراتيجيات على الأخرى تفضيلاً
مطلقاً، ولكن على السياسي أن ينتخب من بينها ما يناسب طبيعة مشكلته، وعليه
أيضاً إطلاق خياله البحثي الذي لا يستند إلى المعرفة وحدها بل يتخطاها إلى التنبؤ
بما يمكن أن يكون عليه شكل المستقبل.
تلك أهم قضايا التحليل السياسي، والتي تعتمد على الأسئلة المنطقية: ما هو
لماذا كيف أين متى ... والتي يترتب على الإجابة عليها الإجابة على كثير من
علامات الاستفهام القلقة داخل دنيا البشر، وهي بحاجة إلى أقلام مسؤولة وعقول
متخصصة تُبْحِر بنا في تفاصيلها.
__________
(1) يمكن تطبيق هذه العوامل بإجراء مقارنة بين نفوذ منظمات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة وبين مثيلاتها في روسيا وفرنسا من جهة، ومن جهةٍ أخرى بينها وبين الجاليات الإسلامية الموجودة هناك.
(2) من أبرز صور الصراع على النفوذ والتي يمكن التطبيق عليها ما حدث في العام الماضي بين رئيس وزراء باكستان المدعوم من الأغلبية البرلمانية من جهة وبين رئيس الدولة الذي أطيح به، ثم مع كبير القضاة الذي لقي المصير نفسه.
(3) هذا النوع من أكثر الطرق شيوعاً، ومن أبرز صوره ما يمارس في الانتخابات الأمريكية.
(*) المتابع للسياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بالذات سيجد أن هذا الأسلوب متبع بغزارة ومنفذٌ بجدارة.(154/104)
المسلمون والعالم
كامب ديفيد
وتكريس الهيمنة اليهودية البروتستانتية
على العالم الإسلامي
حسن الرشيدي
«إن هذه المفاوضات تمس جوهر هوية كل من الطرفين» .
هذه العبارة كانت جزءاً من رسالة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في دعوته
لرئيس وزراء إسرائيل باراك ورئيس السلطة الفلسطينية عرفات لحضور قمة كامب
ديفيد الثانية، وما لم يذكره كلينتون عن تأثير المفاوضات ليس على هوية طرفيها
العربي واليهودي فقط ولكن لها تأثيرها أيضا على هوية الطرف الأمريكي.
فكثيرون ينظرون إلى جوهر هذه القضية باعتبارها أرضاً محتلة وشعباً مشرداً
ومستوطنات ومعتقلين، ولكن النظرة العقيدية لهذه القضية هي أخطر من ذلك بكثير
؛ فهي معركة من سلسلة معارك متواصلة منذ أن خلق الله هذه الأرض، معركة بين
الباطل والحق، بين الكفر والإيمان، بين فئة نعرف جيداً أوصافها وخصائصها
وتفاصيل علوها في الأرض وطبيعته، ونعرف أيضاً طبيعة المعركة بيننا وبينهم
وإلى ماذا تنتهي؛ بيَّنها لنا مالك الملك في كتابه وفسَّرها نبينا صلى الله عليه وسلم
في سنته.
ولمحاولة فهم ما يدور في أروقة كامب ديفيد من مخططات ومشاريع يجب
علينا استنباط المشروع الرئيس الذي ينبثق منه ما بعده. ونقصد بالمشروع:
المخطط البروتستانتي اليهودي للهيمنة، والذي بدأت خلفياته تظهر على مسرح
الأحداث منذ ما يقرب من مائة عام. وإن كانت بداياته قبل ذلك بكثير.
ففي القرن السادس عشر ظهر المذهب البروتستانتي على يد مارتن لوثر الذي
دعا إلى وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم
رجال الدين له، وفي ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت
شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية؛ وبذلك أصبح
البروتستانت مهيئين للاعتقاد بما ورد في العهد القديم وخاصة ما يتعلق منها بوجود
اليهود في فلسطين باعتبارها وطنهم الذي أخرجوا منه والذي يجب أن يعودوا إليه
طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم. وهكذا مع انبعاث التاريخ القديم بكل
تفاصيله وحكاياته التوراتية تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض
المقدسة للمسيحيين إلى أرض الشعب المختار مما أيقظ قضية انبعاث اليهود
وعودتهم الجماعية إلى فلسطين؛ حيث يظهر المسيح للمرة الثانية، ويحكم لألف
عام. وقد آمن بعض البروتستانت بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية تمهيداً لقدوم
المسيح، وآمن بعض آخر بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه.
جرت أول المحاولات البروتستانتية لإرجاع اليهود إلى فلسطين عام 1628م؛
حيث أسس عالم اللاهوت توماس بريتمان حركة العودة بين البروتستانت تنطلق
من إيمان النصارى بعودة اليهود إلى فلسطين، وبعد ذلك توالت المحاولات
البروتستانتية لتأسيس حركات شعبية تنطلق من الفكرة ذاتها حتى كان القرن التاسع
عشر حين تم الربط لأول مرة بين الأفكار العقدية مع السياسة البريطانية، ومنذ ذلك
الحين بدأ ما وصفه دافيد بولك بـ «الاتحاد العجيب بين السياسة الإمبراطورية
ونوع من الصهيونية المسيحية» ؛ ففي عام 1839م تلقى بالمستون وزير خارجية
بريطانيا مذكرة من هنري آسن سكرتير البحرية البريطانية موجهة إلى كل دول
شمال أوروبا وأمريكا البروتستانتية تطالب حكام هذه الدول بأن يقتدوا بقورش،
وينفذوا إرادة الله عن طريق السماح لليهود بالعودة إلى فلسطين، وقد قام بالمستون
برفع المذكرة إلى الملكة فكتوريا، وبذلك بدا أن البروتستانت لا يتوانون عن عقد
اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة والقيام برحلات استكشافية لدراسة
فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود إليها؛ في حين أن اليهود أنفسهم في ذلك الوقت كانوا
آخر من يفكر في هذا الأمر؛ حيث كانوا يعتقدون أن المسيح سوف يجيء
ويحررهم ويذهب بهم إلى الأرض المقدسة بمعجزة إلهية، ولكن مع ستينيات القرن
التاسع عشر بدأت تتغير نظرة اليهود إلى وجوب عودتهم لأرض الميعاد لضمان
نزول المسيح في معتقدهم.
هذه أهم ملامح المشروع اليهودي البروتستانتي التي تكونت وتبلورت عبر
حوالي ثلاثة قرون؛ وكان البروتستانت كما بينا هم السباقين إلى طرحه، ويبقى
السؤال الأهم وهو: كيف تحقق هذا المشروع على أرض الواقع، ووصل إلى ما
وصل إليه الآن؟ أو ما هي آليات تنفيذه؟
لا شك أن تنفيذ هذا الحلم تم عبر مراحل طويلة:
المرحلة الأولى: التحضير والدور البريطاني:
وقوامه: طرح موضوع الدولة اليهودية على الصعيد العالمي، وتشجيع
الهجرة؛ وبناء الجيش العبراني، وتهيئة جميع الظروف لإعلان دولة إسرائيل.
تبدأ هذه المرحلة مع مطلع سنة 1897م وعقد المؤتمر اليهودي الأول بزعامة
هرتزل في بازل بسويسرا بعد أن وجدت الحركة اليهودية كافة الأمور قد تم تمهيدها
من قِبَل البروتستانت الإنجليز، ولم يكن مطلوباً منها سوى تبني هذه الدعوة نيابة
عن اليهود في كل مكان، والعمل على استغلال كافة العوامل العقائدية والسياسية
والاقتصادية؛ بالإضافة إلى المتغيرات الدولية لصالحها، وقد برز عامل مهم
بالإضافة إلى العوامل السابقة ألا وهو: قلق حكومات الغرب من هجرة يهود أوروبا
الشرقية فراراً من الاضطهاد. حينئذ اقترح هرتزل توجيه اليهود للهجرة إلى وطن
يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً؛ وبما أن فلسطين في هذه الفترة كانت خاضعة
للسيطرة التركية فلم يكن في مقدور الحكومة البريطانية إعطاء أي التزام للحركة
اليهودية تجاه فلسطين؛ ولكن حين سمحت الفرصة خلال الحرب العالمية الأولى
باستيلائها على فلسطين عام 1917م أصدر اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني
حينئذ وعده الذي ينص على إعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين. ويصف السير
رونالد ستوز في كتابه: (استشراقات) الصدى الذي لقيه صدور الوعد بقوله:
«لقي الوعد صدى رائعاً واستحساناً في الصحافة؛ يضاف إلى ذلك ما حظي به
من التأييد العام والكبير لدى آلاف الكهنة الإنجليكانيين والقساوسة البروتستانت
وغيرهم من الرجال المتدينين في سائر أنحاء الكرة الغربية» ؛ وقد علق هربرت
صموئيل المندوب السامي البريطاني على ذلك الوعد قائلاً: «هناك عطف واسع
الانتشار وعميق الجذور في العالم البروتستانتي على فكرة إرجاع الشعب
العبراني إلى الأرض التي أعطيت ميراثاً له، وهناك اهتمام شديد بتحقيق النبوءات
التي توقعت ذلك مسبقاً» .
بعد صدور وعد بلفور سعت بريطانيا جاهدة للحصول على موافقة الحلفاء
لإخضاع فلسطين للانتداب البريطاني، وقد تم ذلك؛ ففي إبريل 1920م وافق
المجلس الأعلى للدول المتحالفة في سان ريمو على أن يوكل للحكومة البريطانية
مهمة الانتداب على فلسطين، وتم لها قانونياً عام 1923م عندما وقعت تركيا
أتاتورك معاهدة لوزان.
وهكذا حصلت بريطانيا على ما تريد لتحقيق الحلم اليهودي عن طريق وضع
فلسطين تحت الانتداب الذي تم في ظله فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية،
ومكنت سلطات الانتداب اليهود من شراء الأراضي وتأسيس نواة الجيش الإسرائيلي
وحتى في بعض الحالات التي وجدت فيها الحكومة البريطانية أن بعض المسؤولين
يقفون حائلاً أمام سرعة تنفيذ المشروع كما تريد قامت بإبعادهم كما فعلت مع
الجنرال بولز الحاكم العسكري لفلسطين في بداية الانتداب؛ فقد قدم بولز لحكومته
توصيات طالبها فيها بانتهاج سياسة عادلة تجاه السكان العرب، فسارعت السلطات
البريطانية بإقالته وتعيين هربرت صمويل البروتستانتي المتعصب الذي ملأ الدوائر
الحكومية بالموظفين اليهود، واعتمد اللغة العبرية لغةً رسمية في فلسطين، وأمر
بإطلاق سراح الزعيم اليهودي جابوتنسكي الذي كأنت السلطات التي قبله قد حكمت
عليه بالسجن 15 عاماً، وأطلق صمويل يد الضباط البريطانيين لتقديم المساعدات
للمنظمات العسكرية اليهودية في الوقت الذي منع فيه السلاح عن العرب، وكان
أشهر هؤلاء الضباط الكابتن وينجيت؛ حيث كان ينظر إلى المساعدة التي يقدمها
لليهود أنها واجب ديني مفروض عليه أن يؤديه. ويقول عنه موشي ديان: «كان
وينجت يؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتوراة. قبل أن ينطلق في مهمته كان يقرأ في
التوراة المقطع الذي يتحدث عن المنطقة التي سيسلكها فيجد فيه ضماناً لانتصارنا؛
انتصار إله يهوذا» .
لقد قدمت بريطانيا الأساس الذي أكمله من بعدُ الآخرون. تقول دائرة
المعارف البريطانية: «إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقي حياً في
الأذهان بفعل النصارى المتدينين وعلى الأخص في بريطانيا التي كان اهتمامها أكثر
من اهتمام اليهود أنفسهم» .
ويقول حاييم وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل: «للمرء أن يسأل: ما هي
أسباب حماسة الإنجليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟
والجواب على ذلك: أن الإنجليز هم أشد الناس تأثراً بالتوراة، وتديُّن الإنجليز هو
الذي يساعدنا في تحقيق آمالنا؛ لأن الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة
من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين، وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية
أكبر المساعدات» .
المرحلة الثانية: إقامة القلعة ومركز السيطرة:
«إننا في حلف دائم وراسخ وغير قابل للفصم مع دولة إسرائيل» هذه
العبارة رددها شولتز وزير الخارجية الأمريكي عام 1985م؛ فأمريكا مثلها مثل
بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات
التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين باعتبارها مقدمة لعودة المسيح؛ ولكن
هناك عامل إضافي زاد من التعاطف الأمريكي مع اليهود ألا وهو الربط بين
تجاربهم السابقة في الفرار من الاضطهاد في أوروبا وإنجلترا والصعاب التي
واجهوها في الأرض الجديدة والأعمال الوحشية التي فعلوها ضد السكان الأصليين
وبين اليهود؛ حيث خاضوا مثلهم تجربة الاضطهاد وقام اليهود مثلهم بأعمال
وانتهاكات ضد العرب تحت دافع العامل العقدي، وهذا يفسر ما كتبه هيرمان ملفيل
متحدثاً عن الشعب الأمريكي: نحن الأمريكيين شعب خاص، شعب مختار،
وإسرائيل العصر الحاضر.
وتوالى على أمريكا الرؤساء وكلهم متفقون على الدعم اليهودي مدفوعون
بخلفياتهم البروتستانتية؛ فالرئيس توماس جيفرسون واضع وثيقة استقلال أمريكا
يقترح بأن يمثل رمز الولايات المتحدة على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة وفي الليل عمود من النار كما ورد في التوراة.
وفي عام 1818م بعث الرئيس الأمريكي جون آدمز برسالة إلى الصحفي
اليهودي مردخاي مانوي عبر فيها عن أمنيته في أن يعود إلى جوديا يهودا لتصبح
أمة مستقلة؛ ولقد لعب الرئيس ويلسون دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور؛ حيث
شارك في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد وكان يقول: «إن ربيب بيت
المقدس (يقصد نفسه) ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض
المقدسة إلى أهلها» .
وفي عام 1922م اتخذ الكونجرس الأمريكي قراراً وقَّع عليه الرئيس هاردنج
جاء فيه: إن الاعتراف بوطن قومي لليهود أعطى بني إسرائيل الفرصة التي
حرموا منها منذ أمد بعيد لإعادة إقامة حياة وثقافة يهوديتين مثمرتين في الأراضي
اليهودية القديمة طوال الفترة السابقة. ولم يكن الدور الأمريكي الرسمي يزيد عن
التعاطف والتأييد المالي والمعنوي تاركاً المهمة لبريطانيا التي كانت في تلك الفترة
القوة المهيمنة على المعسكر الغربي، ولكن منذ أربعينيات هذا القرن بدأ مركز الثقل
في المعسكر الغربي ينتقل إلى الولايات المتحدة؛ وبذلك انتقلت قيادة المشروع
البروتستانتي اليهودي إليها.
وعندما تولى ترومان رئاسة الولايات المتحدة أصدر بياناً بادر فيه إلى المطالبة
بإدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين فوراً كما أوصى بتطبيق خطة التقسيم التي
اقترحتها عليه الوكالة اليهودية، ولعب ترومان دوراً حاسماً أثناء حرب 1948م؛
حيث عمل على استصدار قرار من مجلس الأمن بإعلان الهدنة بين القوات
المتحاربة حين كانت الجيوش العربية لها الغلبة، وعمل على إعادة تسليح
العصابات اليهودية فنجحت في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية.
وفي عام 1967م كانت المحطة الثانية للمشروع اليهودي البروتستانتي في
تلك المرحلة؛ حيث تولى جونسون الرئاسة الأمريكية وفي عهده حصلت إسرائيل
على صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية والمعدات اللازمة للحرب الإلكترونية التي
تمكنت إسرائيل بفضلها من هزيمة الجيوش العربية والاستيلاء على أراض شاسعة
تفوق مساحة إسرائيل عدة مرات. ويقول جونسون في تصريح أدلى به أمام جمعية
أبناء العهد: إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي
تماماً؛ لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً
مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث من أجل الخلاص من القهر
والاضطهاد.
لقد كان انتصار إسرائيل في حرب عام 1967م علامة فارقة في المشروع
البروتستانتي اليهودي؛ إذ إنه كان بمثابة نهاية التمدد على الأرض لهذا المشروع
بالنسبة للشق اليهودي. أما الشق الآخر البروتستانتي فقد جاء بجيوشه ليهيمن
عسكرياً على المنطقة في حرب الخليج الثانية عام 1991م.
وفي النصف الثاني من السبعينيات وصل إلى الرئاسة الأمريكية جيمي كارتر
الذي قام بجهد غير عادي لدعم إسرائيل تم تتويجه بتوقيع أول معاهدة سلام مع دولة
عربية وهي مصر وقد علل كارتر أسباب تأييده المطلق لإسرائيل؛ حيث قال: إن
علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة. لقد كانت وما زالت علاقة فريدة لا
يمكن تقويضها؛ لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه وأخلاقه وديانته
ومعتقداته.
وفي مرة أخرى أوضح الأمر أكثر قائلاً: إنه بوصفه مسيحياً مؤمناً بالله يؤمن
أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل.
ولقد بدا المفهوم العقدي واضحاً أكثر في شخصية الرئيس رونالد ريجان الذي
صرح مرة: بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذ بيده، وأنه
سوف ينجح ليقود معركة الهرماجيدون التي اعتقد أنها ستقع خلال الجيل الحالي في
منطقة الشرق الأوسط، ويبدو أن ريجان كان مؤمناً بحدوث تلك المعركة في
القريب العاجل؛ حيث قال مخاطباً المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية (إيباك) :
حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة
هرماجيدون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً؟ ولا أدري
إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، ولكن صدقني أنها تنطبق على
زماننا الذي نعيش فيه.
وجاء بيل كلينتون إلى الرئاسة الأمريكية وكان قد زار إسرائيل عام 1981م؛
حيث وصف بنفسه هذه الزيارة بأنه تأثر بها كثيراً، وكانت زيارة دينية أكثر منها
سياسية، كما أنه تأثر كثيراً بقصة موت أحد رجال الدين المسيحيين كان قد مات
مؤخراً، وتحدث إليه طويلاً قبل ذلك؛ حيث قال له ذلك القس: إنه يأمل في أن
يصبح رئيساً للولايات المتحدة، وأنه يجب عليه أيضاً أن يحافظ على إسرائيل.
المرحلة الثالثة:
مرحلة التسوية السياسية والانتقال من مفهوم الهيمنة القائمة على السيطرة على
الأراضي والحدود في البلدان العربية إلى مفهوم السيطرة الكيفية والاستراتيجية.
فالبروفيسور شيمون شامير الذي عمل سفيراً لإسرائيل في مصر قال في
محاضرة له: «ينظر الإسرائيليون للسلام على أنه التحقيق النهائي للرؤية
الصهيونية» .
فمع اقتراب السبعينيات من نهايتها فإن ثمة بدايات مرحلة جديدة قد أخذت في
التشكل؛ ومما يؤكد هذا الاتجاه ما كشفته وثيقة أمريكية كانت قد صدرت عام
1979م كُشف عنها النقاب مؤخراً وهي من وضع عدة وزارات وجامعات ومعاهد
بحثية عليا. تتحدث الوثيقة عن تصور للشرق الأوسط يهدف إلى إقامة تعاون بين
دول المنطقة يقف في وجه أي مشروع قومي أو ديني، ويتولى الدعوة لهذا
المشروع المثقفون العرب وفي الجانب التنفيذي تطرح الوثيقة صيغة تفرض
إسرائيل شريكاً في كل موارد الشرق الأوسط مع دوله وشعوبه.
ولم تأخذ هذه المرحلة الشكل النهائي إلا بانتهاء حرب الخليج الثانية وسقوط
الاتحاد السوفييتي وتزعُّم أمريكا نظاماً عالمياً جديداً تحتل فيه مكان الصدارة
والهيمنة؛ ولذلك نجد أن أول ما قام به بوش بعد أن استتب له الوضع في الخليج
أن سعى إلى تفعيل ما يسمى بالعملية السلمية في المنطقة.
إن هدف هذه المرحلة هو إحداث تغيير على الجانب العربي؛ هذا التغيير يبدأ
بضرورة تقبل إسرائيل ليس باعتبارها دولة فقط؛ بل يتعين قبولها بأساسها الديني
ويمتد إلى تغيير معتقدات العرب السياسية، ويمر عبر إعادة صياغة شبكة العلاقات
العربية مع القوة المهيمنة وهي التحالف اليهودي البروتستانتي، وأي اعتراف
بإسرائيل بوصفها دولة فقط بدون التسليم بأساسها الديني لهو تكتيك، وليس خياراً
استراتيجياً. ويرى كاتب مثل ألوف هارايفن أن هناك عدة عوامل تساعد على
تحقيق السلام في المنطقة: قوة إسرائيل الاستراتيجية، وعزل العناصر غير
المستقرة (يقصد بها العناصر الإسلامية التي تعيق هذا المشروع) وتدخل وتأثير
الولايات المتحدة.
ويقول جولد مان رئيس المؤتمر اليهودي: إن إسرائيل التي تمثل الآن ما
يقرب من 1% من مساحة العالم العربي عن طريق الحرب وسلاح المواجهة
الساخنة يمكنها أن تحتل مساحة العالم العربي بأسره عن طريق السلام والتعاون
الاقتصادي.
وفي السياق ذاته يمكن فهم مبادرة الملياردير الصهيوني روتشيلد بإنشاء معهد
قرب جنيف بعد حرب 1967م أطلق عليه اسم: «معهد من أجل السلام في الشرق
الأوسط» بهدف دراسة احتمالات التطور الاقتصادي بالشرق الأوسط بعد تسوية
الموقف وإنهاء حالة الحرب والبحث عن وسائل إقامة علاقات تجارية بين دول
المنطقة أي بين إسرائيل وجاراتها العربيات.
والانسحاب الإسرائيلي الأخير من لبنان ما هو إلا تكريس لهذه السياسة أي
الانسحاب من الأرض وترك إدارتها للعملاء مع ضمان الهيمنة والنفوذ.
وهكذا فإن هدف المشروع البروتستانتي اليهودي كان وسيظل دائماً وأبداً
الهيمنة بالسلام؛ فالقتال أو السلام بشروطهم مجرد أداتين فقط أيهما تفد المشروع
الصهيوني في إنجاز هدفه الاستراتيجي يكن لها الأولوية.
وقبل حرب 1967م وفي أعقابها كانت إسرائيل تتناول أحاديث السلام كثيراً
ولكن وفق مفهوم خاص ينبني على أساس إنشاء شبكة متعددة من التفاعلات
الاجتماعية، والاقتصادية، والاستراتيجية قبل الوصول إلى اتفاق بالتسوية السلمية؛
ففي مؤتمر جنيف 1974م على سبيل المثال أعلن أبا إيبان وزير الخارجية
الإسرائيلي حينذاك أن السلام لا يعني وقف إطلاق النار، وأن الضمان الحقيقي
للسلام هو إقامة مصالح مشتركة بين العرب وإسرائيل تتسم بالتنوع والكثافة.
وعقب مبادرة السادات وزيارته للقدس، وبالرغم من إعلان إسرائيل المسبق
عن استعدادها للانسحاب من كل سيناء مقابل إحراز اتفاق سلام مع مصر وقد أثبتت
وثائق كُشِفَ النقاب عنها مؤخراً أن هذا العرض قائم في أعقاب حرب 1967م إلا
أنه عندما بدأت مباحثات السلام مع مصر أخذ الإسرائيليون يدَّعون أهمية سيناء
الحيوية بالنسبة لهم، وكان هذا يخدم هدف الحصول على أكبر كَمٍّ ممكن من
الامتيازات في سيناء خاصة تلك التي تتعلق بالبترول، وكان للإسرائيليين ما
أرادو! ؛ فعندما جاء الوقت لينسحبوا من سيناء كانوا قد ضمنوا التمتع بأهم
مواردها: البترول، وحرية الملاحة. ومن ناحية أخرى عمدت إسرائيل إلى
التقليل من الأهمية الاستراتيجية لسيناء كثمن لتحقيق السلام مع مصر واتخاذ
ذلك خطوة لفرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم العربي، وقد كشف
إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية عن هدف المخطط
الصهيوني بقوله: «إن السيطرة على الشرق الأوسط هدف كل السياسات
الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين كل الحمائم والصقور على السواء،
وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: بالاحتلال أم بالسيطرة الاقتصادية؟» .
وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه شيمون بيريز عندما قال: إن إسرائيل
تواجه خياراً حاداً: فإما أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين
الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على حجم السوق التى تحت
تصرفها.
وقدم إيجال آلون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي مشروعاً من تسع نقاط
نصت النقطة الخامسة منه على إقامة إطار حكم ذاتي في المناطق التي لن تكون
تحت السيادة الإسرائيلية، ويمكن أن يكون في إطار الحكم الذاتي مرتبطاً بإسرائيل،
ويمكن أن يتمثل هذا الارتباط بوجود إطار اقتصادي مشترك، ومعاهدة دفاع
مشترك، وتعاون تقني وعلمي، واتفاقات ثقافية، وإيجاد حل مشترك لتوطين
لاجئي قطاع غزة في الضفة الغربية. ومن الواضح أنه سيترتب على الحكومة
يقصد حكومة إسرائيل أن تبادر إلى إعداد خطة عامة وشاملة وبعيدة المدى لحل
مشكلة اللاجئين التي هي مشكلة مؤلمة وغير قابلة لحل كامل إلا على أساس تعاون
إقليمي يتمتع بمساعدات دولية.
ويمكن القول دون مبالغة إن ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي في اتفاق غزة
أريحا تضمنت العديد من أفكار آلون، ويجب ألا ينظر إلى الأمر على أنه توارد
أفكار، ولكنها الاستراتيجية التي تربط كل التحركات التكتيكية المتتابعة وصولاً إلى
الأهداف الأساسية للمشروع البروتستانتي اليهودي.
وعند استعراض مبادرات التسوية السياسية السابقة منذ كامب ديفيد الأولى
وحتى كامب ديفيد الثانية نجد أنها تؤكد على الحقائق الآتية:
- الحلول الجزئية هي الأصل في قيام هذه التسويات وليست الحلول الشاملة
لمختلف جوانب الصراع وقضاياه.
- أن المطلوب من الحكومات العربية في هذه القضايا ليس الاعتراف فقط
بإسرائيل؛ ولكن الرضوخ لأي مخططات في المنطقة لخدمة أهداف المشروع
البروتستانتي اليهودي، وسحق أي محاولات من جانب الشعوب العربية في الوقوف
في وجه هذه المخططات.
- أنه وفقاً للمشروع الذي تحدثنا عن أبعاده في السابق لا نستطيع أن نقول إن
هناك ثلاثة أطراف في هذه المفاوضات؛ بل هناك طرفان: الطرف العربي،
والطرف اليهودي البروتستانتي.
- أن هناك دائماً وجهين للتعامل مع ما تم الاتفاق بشأنه: وجه زائف أمام
وسائل الإعلام يتم فيه استخدام الألفاظ والتعبيرات التي تساعد على تخدير الشعوب،
ووجه سري وهو الوجه الحقيقي الذي لا يعلن عنه وهو الذي يتم تنفيذه وغالباً ما
يتم الاتفاق بشأنه عبر القنوات السرية. والمؤتمرات العلنية ما هي إلا التكريس لما
تم الاتفاق عليه، حتى إن كاتباً سياسياً علمانيا كبيراً مثل محمد حسنين هيكل يشكو
من ظاهرة تعمد إخفاء المعلومات وبما يدور في كواليس السياسة العالمية ودهاليز
الحكام العرب والمتعلق منها بالشرق الأوسط والأمة العربية، وهو من هو من خبرة
طويلة في السياسة سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى جمع المعلومات
والتحليل الثاقب البعيد النظر، أو على مستوى الصلات الشخصية بكثير من
الشخصيات السياسية المؤثرة: العربية منها أو الأجنبية.
- أن توازن القوى بين الأطراف يكاد يكون منعدماً: بين طرف يملك أرقى
التجهيزات العسكرية وأرقى التكنولوجيا التي أسقطت من قبلُ الإمبراطورية
السوفييتية من غير أن يطلق طلقة واحدة وتسعى بمختلف السبل ألاَّ يملك الطرف
الآخر إلا الفتات من المعدات والأسلحة.
- أنه في ظل الهيمنة لأصحاب المشروع ونعني بالهيمنة العسكرية منها
والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية ... فلا معنى لأي مكاسب على الأرض
يحرزها الطرف الآخر ويصبح الحديث عن نفوذ فلسطيني على القدس أو جزء منها
أو على أي شبر من الأراضي المحتلة أو حتى الدولة الفلسطينية لا قيمة له.
- أن الحكومات العربية وبالأخص السلطة الفلسطينية لا يمكن اعتبارها
أطرافاً تعبر عن الشعوب العربية لأسباب عديدة منها أن ولاءها الفكري للغرب؛
حيث إنها ربيبته وصنيعته، كما أن أغلب أفرادها والمعبرين عنها اشتهر عنهم
العمالة المباشرة لأطراف المشروع حتى إنه أثناء مؤتمر كامب ديفيد الأخير استدعى
باراك رئيس مخابراته ومع وجود رئيس وكالة المخابرات الأمريكية؛ فإن مشاركة
هؤلاء لتذكير المسؤولين العرب بماضيهم في العمالة فلا معنى لتشددهم إذن.
وفي الإطار نفسه ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في25/7/2000م أن
الأمريكيين قاموا بإرسال مبارك إلى بعض العرب من أجل أن ينضموا إليه في
السماح لعرفات بالتنازل عن القدس.
- سحق أي مقاومة محتملة للمشروع وخاصة من جانب الإسلام؛ لأنه هو
القوة الوحيدة التي تعرف أصل المعركة والطبيعة الحقيقية للقضية وأنه صراع
عقيدة.
لقد شهدت الفترة الماضية قمعاً شديداً وتنسيقاً هائلاً بين أجهزة الاستخبارات
في الدول العربية وأمريكا، وحتى العالمية لمحاصرة أي صوت وأي تجمُّع يُعرف
عنه انتماؤه للصحوة الإسلامية وخنقه.
ولنا أن نتخيل أو نتصور تسويات سلمية أو كما يسمونه سلاماً يقام على هذه
الأسس.
فهذه هي مقدمات مؤتمر كامب ديفيد؛ ومن المعلوم أن المقدمات تسبق النتائج،
فكان لا بد من ذكر الحقائق أو المقدمات السابقة إذا أردنا أن نتعرف على نتائج أو
ما تسفر عنه هذه القمة.
المراجع:
1- الشرق الأوسط الجديد: سيناريو الهيمنة الإسرائيلية، علاء عبد الوهاب،
سينا للنشر.
2 -الشرق الأوسط: مخطط أمريكي صهيوني أعمال ندوة مقاومة التطبيع
تحرير حلمي شعراوي، مكتبة مدبولي.
3 - الصليبيون الجدد (الحملة الثامنة) يوسف العاصي الطويل مكتبة
المدبولي.
4 - الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية محسن
عوض مركز دراسات الوحدة العربية.(154/110)
المسلمون والعالم
التعليم الإسلامي في إرتيريا
الواقع والتحديات
نايب صالح
«اقرأ» كانت أول كلمة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه؛
فكانت هذه الكلمة دعوة صريحة لهذه الأمة أن تبني كيانها وهويتها على العلم
والمعرفة: العلم بالله قبل كل شيء، ثم تأتي بقية العلوم تباعاً حسب أهميتها وحاجة
الناس إليها. وقد أبان الله سبحانه وتعالى أفضلية العلماء على غيرهم من الناس
بقوله: [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) ، ورغَّب
الرسول صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم فقال: «وإن الملائكة لتضع أجنحها
لطالب العلم رضاً بما يصنع» [1] وخص بالخيرية من تفقه في الدين خاصة فقال
صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» [2] .
ولا خلاف بين الناس في ضرورة العلم عامة وأهميته في نهضة الأمم، وبناء
الحضارات، وتنمية المجتمعات وتطويرها نحو مستقبل مشرق. وللتعليم الإسلامي
على وجه الخصوص مهمة عظيمة في نشر الدعوة الإسلامية وتوسيع رقعتها بشرياً
وجغرافياً، والارتقاء بها نحو الأفضل، وتعد دُور العلم «المنطلق الأول لبشائر
الطلائع الإسلامية التي تتحرك نحو مستقبل باسم وغدٍ مجيد تبني للإسلام صرحاً
عريضاً شامخاً يحقق الآمال المرجوة منه والأماني المعقودة عليه» [3] .
التعليم الإسلامي في إرتيريا قبل الاستقلال:
تمثل فترة ما قبل خروج الاحتلال الإثيوبي من إرتيريا وتولي الحكم من قِبَل
الجبهة الشعبية في إرتيريا وإعلانه الاستقلال قبل عشر سنوات تقريباً فترة زمنية
لها طابعها الخاص والمميز على وضع التعليم الإسلامي في إرتيريا.
ولما كان التعليم الإسلامي يشمل الدروس التي تلقى في المساجد، وما يتعلمه
الصبيان في الكتّاب من القرآن الكريم وبعض مبادئ الدين الإسلامي فلا بد من
القول إن هذا النوع من التعليم رافق بداية دخول الإسلام في إرتيريا، إلا أن أول
مدرسة نظامية أقيمت في إرتيريا على الإطلاق يعود تاريخها إلى عام 1283 هـ
الموافق 1870م عندما قامت الخديوية المصرية التابعة للسلطنة العثمانية بإنشاء
مدرسة طوالوت الابتدائية في مدينة مصوَّع، ويمكن اعتبار هذه المدرسة أيضاً أول
مدرسة إسلامية أقيمت على ثرى إرتيريا؛ لأنها كانت تابعة لدولة إسلامية أخرى.
وبعد ذلك تعرضت إرتيريا لمجموعة من الاحتلالات الأجنبية بدءاً بالاحتلال
الإيطالي، ومروراً بالانتداب البريطاني، وانتهاءاً بالاحتلال الإثيوبي. وقد كان
جميع هؤلاء المحتلين لا يولي التعليم الإسلامي أي رعاية أو اهتمام، بل بالعكس
من ذلك كانوا يقفون عائقاً دون استمراره ويحاولون إجهاض الجهود الرامية إلى
تطويره والنهوض به، وأسباب ذلك واضحة ولا تحتاج إلى تحليل لكون المحتل
غير مسلم.
لذلك كانت الجهود التي بذلت لبناء التعليم الإسلامي في إرتيريا جهوداً أهلية،
فردية كانت أو جماعية، ويمكن الحديث عن ثلاثة أنواع من مجالات التعليم
الإسلامي في إرتيريا:
أ - الكتاتيب:
تعرف الكتاتيب في إرتيريا باسم الخلاوي في المنخفضات، أو القرآن في
المرتفعات، وهي عبارة عن أماكن لتعليم الصبيان القرآن الكريم وبعض مبادئ
الدين الإسلامي، وقد تكون في المساجد أو في غيرها من الأماكن حسب ما هو
متوفر، وفي الحقيقة فإن الكتاتيب مظهر من مظاهر الحضارة الإسلامية لم تكن
معروفة في العصر الجاهلي، فانتشرت بصفات متشابهة [4] في كل بقعة وضع
الإسلام فيها أقدامه، وحرص المسلمون عامة وفي إرتيريا خاصة على إرسال
أبنائهم إلى هذه الكتاتيب.
وتنتشر الكتاتيب في إرتيريا في المدن والقرى، وتقوم بتعليم الفتيان والفتيات
على حد سواء، ولا يوجد تعداد رسمي يبين عددها بالضبط إلا أنها منتشرة بشكل
جيد في جميع مناطق إرتيريا، وتعتمد على الجهد الذاتي للمعلم الذي يكون في العادة
معلماً واحداً يتعاون معه الأهالي من الناحية المادية، على شكل رسوم يدفعها
المتعلمون لمعلمهم.
وبالرغم من أن ميزة الكتاتيب تكمن في بساطتها؛ حيث يمكن إقامتها في أي
موضع دون العناء في البحث عن أماكن خاصة لإقامتها حتى إن بعض المعلمين
كانوا يعلِّمون الأطفال في فناء منازلهم بوضع مظلة بسيطة تقي الصبية من حرارة
الشمس. إلا أنه أيضاً يجب التنبيه إلى أن الكتاتيب في إرتيريا لم تسجل أي تطور
يذكر سواء من ناحية كفاية المعلمين وتنظيم تمويلها والعمل على تقوية عطائها سواء
في تحفيظ القرآن أم في إعطاء جرعات مناسبة من مبادئ الدين، إلا ما كان من
مدرسة عمر بن الخطاب لتحفيظ القرآن الكريم في مدينة أسمرا التي تأسست في عام
1405هـ = 1984م؛ حيث ركزت على حفظ القرآن وتجويده وتعليم العلوم
العربية والشرعية، والعمل على تفاعل المجتمع المحلي من خلال الدروس
والمحاضرات العامة التي تلقى فيها للكبار والصغار، وقد ظهر تأثيرها الإيجابي
على سلوك طلابها وسلوك المجتمع المحلي، وقد تعرضت بسبب العقيدة السلفية
التي تبنتها للحرب من قِبَل بعض المبتدعة بحجة أنها تدرس دين الوهابية! ! إلا
أنها استطاعت أن تتجاوز هذه المحنة وواصلت مسيرتها حتى تم إغلاقها من قِبَل
نظام الجبهة الشعبية الحاكم في إرتيريا في عام 1418هـ = 1998م.
وبالرغم من اعتماد الكتاتيب في إرتيريا على الطرق البدائية وافتقادها التطوير
والتحسين إلا أنه يمكن القول إنها تمكنت مما يلي:
1 - غرس أساس العلم والإيمان القابل للنماء في أنفس النشء.
2 - تعليم الصبية قراءة الحروف العربية وكتابتها، وتحفيظهم ولو شيئاً
يسيراً من القرآن يتمكنون من خلاله أداء صلواتهم على الوجه المطلوب.
3 - إشعار أطفال المسلمين الذين يترددون على هذه الكتاتيب بتميزهم عن
غيرهم من أهل الأديان الأخرى.
4 - تمكين النشء في أهم مرحلة من عمره من العيش في بيئة مسلمة يتربى
فيها على الخلق الإسلامي.
ب - المعاهد الدينية:
شعر المسلمون في إرتيريا أن الخلاوي القرآنية وحدها غير كافية في حفظ
هويتهم الإسلامية التي كانت وما زالت تتعرض للمسخ والطمس، وأحسوا بضرورة
توسيع تعليم الشرع الإسلامي على نحو منظم ومفيد، ففكروا بإنشاء المعاهد الدينية،
وبدأت الفكرة الأولى بالمعهد الديني الإسلامي بمصوع في عام 1360هـ
1940م؛ حيث بدأ يؤدي دوره بشكل كامل بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ،
ووفقاً لما جاء في قانون المعاهد الدينية رقم [5] الذي أصدرته دار الإفتاء الإرتيرية
في عام 1385هـ = 1965م فإن المعاهد الدينية في إرتيريا بدأت تنظم أعمالها في
مبانٍ خاصة وفق النظم العصرية في التعليم في عام 1363 هـ = 1944م، وذلك
لتحقيق الأهداف الآتية:
1 - حفظ الشريعة الإسلامية.
2 - فهم علوم الشريعة ونشرها بين الناشئة الجديدة.
3 - إيجاد الوعي الديني والثقافي في نفوس الناشئة.
4 - صيانة الناشئة من وباء الجهل والعلمنة والانحراف عن المبادئ
الإسلامية.
5 - إخراج فئة يسند إليها أمر الثقافة الإسلامية والعربية وتعليمها للأجيال.
وكان هذا القانون الذي وضعته دار الإفتاء الإرتيرية أول محاولة لتنظيم المعاهد
الدينية وتوحيدها في إرتيريا؛ إلا أن الظروف الأمنية والسياسية لم تساعد في
تطورها للأفضل، واستمرت الجهود الأهلية في إنشاء المعاهد بلا تنسيق، مع عدد
محدود من المعاهد التي تشرف عليها لجان الأوقاف في المدن الرئيسة، وقد بلغ
عدد المعاهد الدينية في إرتيريا كلها في فترة من الزمن ما يزيد على عشرين معهداً
يتراوح عدد الدراسين فيها بين ستمائة إلى مائتي طالب وطالبة في كل معهد،
وانتشرت هذه المعاهد في أغلب مدن إرتيريا، منها: أسمرا، ومصوع، وجندع،
وحقات، وصنعفي، ومنصورة، وأغردات، وأفعبت، وعدي قيح،
ودقمحري، وإرافلي، وطرونا، وشِعب، وزولا، ومندفرا، وعدي خوالا،
ومِكَعْليلي، وأفتي، وتعد مدينة كرن الأكثر حظاً؛ حيث كان فيها حوالي سبعة
معاهد.
وبعد سقوط نظام الإمبراطور هلاسي لاسي الصليبي الذي كان يتعامل مع هذه
المعاهد بالإهمال والتضييق عليها وجدت المعاهد الدينية في عهد الحكم الشيوعي
الإثيوبي بعض الانفراج؛ حيث عمل هذا النظام على إدخال العلوم التطبيقية التي
تدرس في المدارس الحكومية في هذه المعاهد، وتحمل نفقات المدرسين الذين
يدرسون هذه المواد، وأذن لطلاب المعاهد بالدخول في امتحانات الشهادة الابتدائية
العامة التي تعقد على مستوى الوطن، مما شجع الكثير من الأهالي على تعليم
أبنائهم في هذه المعاهد لاشتمالها على العلوم الشرعية والعلوم العصرية التي يمكن
أن يتلقوها في المدارس الحكومية.
وقد عانت هذه المعاهد الكثير من المصاعب التي تمثلت في قلة الموارد،
وضيق المباني، وضعف المدرسين، وانحصارها على المرحلة الابتدائية غالباً،
واضطراب المناهج التي تدرس فيها؛ حيث تجد أن المعهد الواحد ينتقل من المنهج
الأزهري إلى السوداني، وإلى السعودي.
ج - المدارس العربية والإسلامية:
كانت هناك مجموعة من المدارس العربية والإسلامية في إرتيريا تختلف عن
المعاهد الدينية لجمعها بين العلوم العربية والشرعية والعلوم التطبيقية، وكان مما
دعا إلى تأسيسها أن المدارس الحكومية التي كانت تدرس باللغة العربية في فترة
الانتداب البريطاني لم تكن العلوم الدينية مدرجة في مناهجها، فاضطر العرب
المقيمون في إرتيريا إلى تأسيس مدرسة خاصة باسم مدرسة الجالية العربية التي
تبنت المنهج المصري، كما أسس المسلمون الإرتيريون عدداً من المدارس
الإسلامية الأهلية في كل من أسمرا ومصوع وكرن، وأغلب هذه المدارس لم
تستطع الاستمرار في أداء مهمتها، فتم تأميم بعضها من قِبَل الحكومة الإثيوبية
وأصبحت مدارس عادية، ولم يبق من هذه المدارس العربية الإسلامية سوى مدرسة
الجالية العربية التي تم تأميمها بعد الاستقلال من قِبَل نظام الجبهة الشعبية الحاكم في
إرتيريا وتبديل اسمها إلى مدرسة الأمل، وألغيت منها المواد الشرعية! ! بينما ما
زالت مدرسة الضياء في أسمرا تؤدي دورها حتى هذا اليوم.
وبالرغم من العقبات الذاتية والخارجية التي واجهت التعليم الإسلامي في
إرتيريا إلا أنه يمكن إجمال أبرز الثمار التي أثمرها في النقاط الآتية:
1 - إيجاد نخبة من المعلمين الذين يواصلون مسيرة التعليم الإسلامي في
إرتيريا.
2 - إعداد بعض القضاة الشرعيين (في الأحوال الشخصية) .
3 - تكوين مجموعة من أئمة المساجد والخطباء والدعاة.
4 - إبراز مجموعة من الغيورين الذين يتحملون عبء الشؤون الإسلامية
العامة كلجان الأوقاف وغيرها.
5 - تهيئة أعداد جيدة من الطلاب يمكنها الالتحاق بالجامعات العربية
والإسلامية.
6 - الإسهام في حفظ الهوية الإسلامية للشعب الإرتيري المسلم.
واقع التعليم الإسلامي بعد الاستقلال:
لم يمر بالتعليم الإسلامي في إرتيريا وضع أسوأ مما يمر به الآن بعد
الاستقلال تحت حكم نظام الجبهة الشعبية الجائر؛ فقد أسفر هذا النظام عن وجهه
الصليبي من خلال تعامله مع المؤسسات الإسلامية وفي مقدمتها مؤسسات التعليم
الإسلامي، وقام بإجراءات لم يسبق أن تجرأ أي محتل على القيام بها، مما أدى
إلى تقلص عدد المعاهد والدارسين فيها إلى أدنى من الربع مما كان عليه قبل
الاستقلال، ومن أهم الخطوات التي قام بها هذا النظام لاختزال دور المعاهد الدينية
والمدارس الإسلامية ما يلي:
1 - الزج بالدعاة ومعلمي المعاهد الدينية في غياهب السجون.
2 - إغلاق بعض المعاهد بحجة عدم أهمية ما تقدمه في التنمية البشرية،
وغيرها من الحجج الواهية من أجل تجفيف منابع الصحوة الإسلامية، وإبعاد
المسلمين عن التمسك بالدين الإسلامي، وعزلهم عن الثقافة الإسلامية والعربية.
3 - سن قانون يمنع المؤسسات الإرتيرية أياً كانت من تلقي المعونات
الخارجية، إلا عبر الحكومة القائمة، وكانت المؤسسات الإغاثية والتعليمية
الإسلامية هي المستهدفة من إصدار هذا القانون.
4 - عدم الاعتراف بالشهادة التي تصدرها هذه المعاهد، أو التعاون معها بأي
شكل من الأشكال، ومعاملة الطلاب الذين يدرسون فيها معاملة العاطلين عن العمل
والدراسة، فيكونون عرضة للتجنيد الإجباري أكثر من غيرهم.
فالمعاهد القليلة المتبقية الآن تعد معاهد صورية؛ وذلك لأنه تم إفراغها من
المعلمين الأكفياء، وقلَّ عدد الطلاب الذين يدرسون فيها مقارنة بما كان عليه الحال
قبل سيطرة الجبهة الشعبية على حكم البلاد والعباد، ولعل الكتاتيب هي الوحيدة
التي لم يستهدفها النظام الحاكم مباشرة، ولكنها هي أيضاً تحت المراقبة والمتابعة
الشديدة، وقد يكون السبب في عدم تعرضها للإغلاق استهانة النظام بدورها؛ لأنها
في الغالب لا تعلِّم غير القرآن، ولا يدرك الصبي معاني كلمات القرآن التي يقرؤها،
ويبدو أن النظام يسير وفق تخطيط مرحلي وأسلوب خبيث ماكر؛ بحيث تكون
البداية المعاهد، وما هي إلا فترة زمنية محدودة ويأتي الدور على الكتاتيب أيضاً،
وهذا ما تشير إليه الدلائل في بعض مناطق إرتيريا؛ حيث عمد النظام إلى اختطاف
معلمي بعض الكتاتيب وسجنهم بحجج مختلفة حتى تبقى الخلوة بدون معلم، فتنتهي
تلقائياً دون أن يأمر النظام بغلقها مباشرة.
التعليم الإسلامي في معسكرات المهاجرين الإرتيريين بالسودان:
كان المهاجرون الإرتيريون الذين فروا بدينهم وأبدانهم من نير الاحتلال
الإثيوبي الصليبي في بداية الهجرة يلحقون أبناءهم بالكتاتيب والمدارس والمعاهد
السودانية، إلا أن أعدادهم أصبحت تزداد يوماً بعد يوم فكان لزاماً عليهم أن
يؤسسوا مؤسسات تعليمية تعنى بالعلوم الإسلامية في المناطق التي خصصت لهم،
فأسسوا كتاتيبهم ومعاهدهم ومدارسهم بجهودهم الذاتية، وكان أول معهد ديني يقام
في وسط المهاجرين في منطقة ود الحليو في عام 1396هـ = 1976م، وقد
توالت بعد ذلك في مناطق أخرى بسبب الهجرة المتزايدة يوماً بعد يوم.
وهناك نوعان من الكتاتيب في مناطق المهاجرين: أحدهما: كتاتيب عادية
تقام في وسط الأحياء يحضر إليها الصبي من منزله في الفترة الصباحية والمسائية،
وثانيهما: عبارة عن مراكز لتحفيظ القرآن تقام في وسط المعسكرات أو في مناطق
نائية، ويلتزم فيها الدارسون بالإقامة الداخلية في هذه المراكز غالباً، ويتفرغون
ليلاً ونهاراً لحفظ القرآن وتلقي بعض العلوم الشرعية، وتعتمد هذه المراكز على
تبرعات المحسنين من الداخل والخارج.
أما المعاهد الدينية فهي لا تختلف عن المعاهد التي في داخل إرتيريا القائمة
على الجهود الخاصة.
وقد أسهمت بعض المؤسسات في توسيع قاعدة التعليم الإسلامي في مناطق
المهاجرين، وذلك مثل جهاز التعليم الإرتيري الذي كان تابعاً لجبهة التحرير
الإرتيرية قوات التحرير الشعبية، حيث كان يشرف على أربعة معاهد دينية،
ويتحمل رواتب معلمي بعض الخلاوي القرآنية، بالإضافة إلى إقراره لمادة الدين
في مدارسه التي كانت تبلغ ستاً وعشرين مدرسة، وذلك قبل استسلامه للنظام
الحاكم في إرتيريا.
كما أسهمت بعض الجماعات والهيئات الخيرية في التعليم الإسلامي في تلك
المناطق كجماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان التي أسست مجموعة من المراكز
والمعاهد في كل من مدينة كسلا وبعض معسكرات اللاجئين، وقد تخرج فيها عدد
كبير من الإرتيريين تمكنوا من مواصلة دراساتهم الجامعية عبر منح دراسية في
مختلف الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي، وهناك أيضاً مؤسسة الحرمين
الخيرية في الآونة الأخيرة، وهيئة الأعمال الخيرية الإماراتية وهيئة الإغاثة
الإسلامية العالمية وغيرها من الجمعيات الأخرى، إلا أن أهم جمعية تقوم بالجهد
الكبير في هذا الصدد في الفترة الحالية هي جمعية الإحسان الخيرية.
جمعية الإحسان الخيرية:
وهي جمعية خيرية إسلامية تعمل في مجال الدعوة والتعليم والإغاثة في
أوساط المهاجرين الإرتيريين بشرق السودان وداخل إرتيريا، تأسست عام 1414
هـ ومن أهم أهدافها نشر الإسلام، وتربية النشء على تعاليم الدين عبر إنشاء
المؤسسات التعليمية المختلفة، ومن أجل تحقيق أهدافها هذه قسمت أعمالها إلى
مجموعة من الشُّعَب أهمها شعبة التعليم التي تحوي قسمين:
- قسم التعليم المنظم: ويشرف على مدرسة ثانوية، وثلاث مدارس ابتدائية
ومتوسطة أخرى، ومعهد لإعداد حفظة القرآن، وستة معاهد للبنات.
- قسم المراكز والخلاوي: ويشرف على ثلاثة وعشرين مركزاً لتحفيظ
القرآن وتعليم بعض العلوم الشرعية، وقد خرَّجت هذه المراكز حوالي سبعمائة
حافظ متقن، ولها أيضاً تسعة عشر مركزاً نسوياً بلغ عدد الحافظات اللواتي تخرجن
فيها سبعين حافظة، كما يشرف هذا القسم على عدد من الخلاوي تربو على التسعين
خلوة، ويبلغ مجموع الطلاب الذين تشرف عليهم الجمعية الآن حوالي 10280
منهم 4860 طالبة، يقوم على تعليمهم وتربيتهم مجموعة خيرة من المعلمين والدعاة
والمقرئين من خريجي الجامعات الإسلامية وغيرهم، وتكفل منهم الجمعية وحدها
حوالي 332 معلم وداعية ومقرئ.
وقد أثمرت هذه الجهود بفضل الله تعالى ثمرات عظيمة يلمسها كل من عايش
وضع المهاجرين الإرتيريين في السودان منذ بداية هجرتهم حتى هذا اليوم؛ حيث
ترسخت العقيدة الصحيحة في نفوس النشء، والشباب، وأصبحت الآثار واضحة
في سلوك أفراد المجتمع الإرتيري المسلم المهاجر في السودان ومواقفهم.
ولم تتوقف جهود الجمعية على الجانب التعليمي فقط، بل تقوم بجهود دعوية،
واجتماعية، ومشروعات خيرية متنوعة.
إلا أن هذه الجهود ما زالت معرضة للمخاطر نظراً لاعتمادها على الزكوات
والهبات والمعونات غير الثابتة التي يتبرع بها المحسنون، والمؤسسات الخيرية
التي لا تؤمّن لنفسها مصادر دخل ثابتة؛ فإنها معرضة في أي لحظة لانحصار
نشاطها أو الانهيار تماماً لا قدر الله وهذا ما يدعو المرء لدعوة الغيورين من أبناء
الأمة الإسلامية وبخاصة القادرين منهم على أن يسهموا بإسهمات كبيرة تجعل هذه
المؤسسات تعتمد على مصادر ثابتة من خلال مشاريع استثمارية أو أوقاف ثابتة
يستفاد من دخلها على المدى البعيد بشكل مستمر.
__________
(1) رواه ابن ماجة، ح/ 222.
(2) رواه البخاري، ح/ 69.
(3) د توفيق الواعي، الدعوة إلى الله، ص 395.
(4) انظر: د أحمد الأهواني، التربية في الإسلام، ص 190 وما بعدها.(154/118)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
صور شيشانية
1 - قال أحد أبرز الجنرالات الروس الذين قادوا الحرب الشيشانية إن زوجة
المقاتل الشيشاني وأطفاله يجب أن يقتلوا لأنهم قُطَّاع طرق أيضاً؛ وفي حديث إلى
صحيفة نوفايا غازيتا ذكر فلاديمير شامانوف الذي قاد المحور الغربي في المرحلة
الأولى، ويقود الآن قيادة الجيش 58، أن قواته دمرت في مدينة الخان يورت
منازل كان فيها 12 مقاتلاً و 8 متعاونين معهم، ومن ضمنهم زوجات مقاتلين. إن
على زوجة قاطع الطريق أن تهجره أو أن تعامل مثله وكذلك أولادها.
وبمنطق جنرالي قال شامانوف: إن قطاع الطرق المقاتلين الشيشانيين إما أن
يفهموا أخلاقياتنا أو يبادوا.
[جريدة الحياة، العدد: (13614) ]
2 - حدد الزعماء الشيشانيون تسعيرة بالدولار عن كل ضابط روسي أو
جندي يتمكن المقاتلون من اصطياده ببنادقهم. وأكد مسؤولون روس أن مقاتلي
الشيشان يتلقون مقابلاً مادياً يصل إلى ثمانية آلاف دولار أمريكي مقابل كل فرد من
أفراد الجيش الروسي يلقى حتفه في الشيشان؛ ويبلغ المقابل المادي عن الضابط
300 دولار أما عن الجنود الذين لا يحملون رتباً فيصل إلى 100 دولار، فيما
يتراوح مقابل ضابط الأركان بالمقر الروسي في خانكالا من 5 إلى ثمانية آلاف
دولار. وأشار هؤلاء المسؤولون إلى أنه تم أيضاً تحديد المقابل النقدي عن حاملة
الأفراد المدرعة التي تتعرض للقصف ألف دولار وعن سيارة الجيب 500 دولار.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7337) ]
3 - دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوروبين إلى مؤازرة موسكو في
مواجهتها «أممية الأصوليين الإسلاميين» التي قال إنها تشكل «قوساً من
الاضطرابات، يمتد من الفلبين إلى كوسوفا» ؛ وأكد أنه لن يتراجع عن هدف
تصفية بؤر الإرهاب، وقال إن النزاع المسلح في القوقاز تقف وراءه «أممية
أصوليين إسلاميين» ، وأشار إلى أنه يشكل خطراً بالغاً على أوروبا؛ حيث يوجد
عدد كبير من المسلمين. ولام الأوروبيين؛ لأنهم تركوا روسيا وحدها في حين كان
عليهم أن يشكرونا وينحنوا إجلالاً لكفاحنا ضد الإرهاب.
[جريدة الحياة، العدد: (13631) ]
4 - أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
وجه رسالة شخصية إلى الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي تتعلق بالعلاقات بين
بلديهما.
وقال البيان: إن موسكو وطرابلس بحثتا في مشاكل مكافحة الإرهاب الدولي،
وأن ليبيا أكدت دعمها للعمليات التي تنفذها روسيا لـ «وضع حد للتطرف
والانفصال المسلحين» في الشيشان.
[جريدة الحياة، العدد: (13630) ]
إنجاز عربي! !
أخيراً حقق العرب الاكتفاء الذاتي وأعلنوا الحرب على المستورد، بل
يستعدون الآن لاقتحام الأسواق الخارجية، ويحتاطون من سرقة الخواجات لأفكارهم
الألمعية!
ولكن قبل أن نقيم الأفراح والليالي الملاح، علينا أن نتذكر أن هذه القفزة
التنموية الهائلة لم تحدث في صناعات الفضاء أو البرمجيات والعياذ بالله أو حتى يا
أخي في مجال البونبون واللبان! نعم! فالإنجاز العربي يحدث هذه المرة على شبكة
الإنترنت متمثلاً في تقديم أول موقع إباحي للجنس باللغة العربية للبالغين فقط!
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (172) ]
لا دين في السياسة أيها العرب..!
انتقدت السلطة الفلسطينية فتوى مفتي الديار الفلسطينية الشيخ عكرمة صبري
التي يحظر بموجبها على الفلسطينيين التنازل عن الحق بالعودة للاجئين أو القبول
بالتعويض لمن لا يرغب في العودة. واعتبرتها تدخلاً في شؤون سياسية لا يحق له
التدخل فيها.
وقال الطيب عبد الرحيم الأمين العام للرئاسة الفلسطينية: إن المفتي لا يحق
له التدخل في هذه الأمور. وفي تصريحات صحافية أدلى بها قال عبد الرحيم: إن
المفتي ليس زعيم فصيل سياسي أو حركة، لذا لا يحق له إصدار فتوى في قضايا
سياسية. وطلب عبد الرحيم من المفتي عدم التدخل في تلك القضايا؛ وكان الشيخ
عكرمة قد أصدر فتوى اعتبر فيها قبول التعويض عن الأرض الفلسطينية مثل بيعها
وأن ذلك لا يجوز شرعاً. وشدد المفتي في فتواه على أن كل من يأخذ التعويض
عن ممتلكاته إنما يرتكب أمراً حراماً. ونوه المفتي إلى أن الديار الفلسطينية ليست
سلعة للبيع والشراء فهي وقفية مباركة مقدسة. واعتبرت الفتوى (حق العودة
والتعويض) أمراً جائزاً شرعاً. وتؤكد الفتوى أنه من حق اللاجئ العودة لأرضه
والمطالبة بالتعويض عن الأضرار والمعاناة والخسائر التي لحقت به وبأولاده
وأحفاده، في حين اعتبرت الفتوى العبارة التي تقول: (حق العودة أو التعويض)
لا تجوز شرعاً لأن التعويض عن الأرض محرم شرعاً. وخلصت الفتوى إلى
القول إن الذي لا يرغب في العودة ليس له الحق بأخذ التعويض مهما كانت الأسباب
ومهما كانت المسوِّغات. من ناحية ثانية أصدرت هيئة العلماء والدعاة ومقرها
القدس بياناً قالت فيه: «إن كل من يقبل التعويض عن أرضه يعتبر مرتداً وخارجاً
عن جماعة المسلمين؛ فأرض الإسراء ليست موضع تنازل أو مساومة وليست
سلعة للبيع والشراء» ؛ من ناحية ثانية حذرت إسرائيل من خطورة تدخل
المرجعيات الإسلامية في الجدل حول القدس. وقال إسحق ليفي الوزير المستقيل
من حكومة إيهود باراك: إن مثل هذا التدخل يمهد الطريق أمام إضفاء مزيد من
التطرف على مواقف الطرف الفلسطيني حول موضوع القدس؛ يذكر أن العديد من
المرجعيات الدينية الرسمية والحزبية في إسرائيل قد أصدرت فتاوى تحظر بموجبها
على المستوى السياسي إبداء أي تنازل في السيطرة الإسرائيلية على الأماكن
المقدسة أو حتى على صعيد إخلاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع
غزة.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7911) ]
المفضوحون! !
طلبت امرأة تدير شبكة كبرى لفتيات الهوى في تل أبيب من رئيس الكنيست
الإسرائيلي «أبراهام بورغ» أن يتدخل لتسوية ديون مالية كبيرة واستحقاقات
مترتبة عليها لمصلحة الضرائب في «إسرائيل» مهددة في الوقت ذاته بكشف
أسماء سياسية بارزة ولامعة من بينها أسماء لأعضاء في الكنيست كانت قد قدمت
لهم خدمات جنسية عن طريق الشبكة التي تديرها، وذلك في حالة عدم مساعدتها
في التهرب من الضرائب الباهظة المترتبة عليها لحكومة الكيان الصهيوني؛ وتقول
المرأة التي تحاول حالياً ابتزاز شخصيات سياسية وأعضاء في الكنيست من بينهم
رئيسه أنها تملك وثائق تثبت تورط أعضاء في الكنيست وشخصيات أخرى بفضائح
جنسية عبر شبكة الإنترنت، كما تؤكد المرأة أن بحوزتها أشرطة فيديو وصوراً
ووثائق تثبت صحة ادعائها، وتقول المرأة إنها قدمت في السابق خدمات جنسية
لأعضاء في الكنيست.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (340) ]
التهم المكررة
نفذت الصين حكم الإعدام على ستة من أفراد جماعة عرقية تقاتل للحصول
على الاستقلال في شمال غرب البلاد، وأعدم الرجال الستة، وجميعهم من أقلية
الإيغور المسلمة بعد محاكمة علنية أقيمت في عاصمة إقليم شينجيانج الصيني الذي
تقطنه أغلبية مسلمة. وقالت الصحيفة شينجيانج الرسمية اليومية إن الرجال الستة
أعضاء فيما سمته بمنظمة إسلامية «رجعية» قالت إنها تستهدف إقامة دولة مستقلة
في الإقليم؛ وأضاف تقرير الصحيفة أن المحكمة وجهت إليهم اتهامات بالقتل
وإحداث البلبلة في البلاد. وكان أحد الرجال الستة قد اعتقل وبحوزته أربعة أطنان
من المواد الكيماوية التي يمكن استخدامها في صناعة متفجرات.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية على الإنترنت
http://bccarabic.com
سلطة تحتاج
إلى دعم! !
إثر ضغوط مكثفة مارسها مانحون من جهات عديدة على مدى بضع سنوات،
كشف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أسراراً مالية مهمة تراوحت بين مدخرات
بعشرات الملايين من الدولارات أودعت بصندوق للصرف على الرشاوى والدفع
بسخاء لاسترضاء الموظفين، إلى فرض احتكار على صناعة الإسمنت وانتهاءاً
بأسهم قيمتها 60 مليون دولار في كازينو يدرُّ من الأرباح ما يفوق الوصف؛
وكانت الجهات المانحة بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد طالبت في
مرات عديدة السلطة الفلسطينية بالكشف عن معاملاتها المالية بما في ذلك الموارد
الضريبة المقدرة بعشرات الملايين والتي يتم تحويلها إلى حسابات سرية في البنوك
الإسرائيلية ولا يسمح لأحد بالاطلاع على التفاصيل الخاصة بها إلا الرئيس عرفات
والمقربين منه في أوساط المستشارين، ويستفاد من التقرير المالي للسلطة
الفلسطينية الذي عرض في المقام الأول على مؤتمر للمانحين انعقد في العاصمة
البرتغالية لشبونة أن نحو 530 مليون دولار لم تدرج بالخزانة الفلسطينية في العام
المالي 1999م؛ وأعلن وزير التخطيط الفلسطيني نبيل شعث الذي ساهم بإعداد
التقرير الأخير أن الرئيس عرفات امتنع لسنوات عديدة عن السماح بنشر أو تداول
البيانات والمعلومات الخاصة بالحسابات السرية بحجة أنه يرغب في استثمارها؛
وقال المستشار الاقتصادي بمكتب الممثلية النرويجية في الضفة الغربية تريجر
لارس «ما فعلته السلطة شيء إيجابي بكل المقاييس» .
[جريدة الاتحاد الإماراتية، العدد: (9131) ]
«طوبى»
لأبو قريع
أبو قريع هو رئيس البرلمان الفلسطيني والرجل الذي فاوض الصهاينة سراً
في أوسلو، أبو قريع يمتلك مصنعاً للباطون وإنتاج مصنعه يذهب بالكامل إلى
المستعمرات اليهودية، كشفت عن هذه الفضيحة الصحف الإسرائيلية؛ فقد ذكرت
صحيفة إسرائيلية أن رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد قريع يقوم ببيع
الباطون الجاهز إلى المقاولين الإسرائيليين العاملين في بناء المستوطنة الجديدة في
جبل أبو غنيم في القدس المحتلة. وقالت أسبوعية يروشلايم التي أوردت ذلك في
عددها الصادر الجمعة 7/7/2000م إن رئيس المجلس التشريعي أبو العلاء شريك
في ملكية مصنع لإنتاج الباطون الجاهز ومواد البناء في أبو ديس يزود إنتاجه
المقاولين اليهود في مستوطنة هارحوما التي تقوم إسرائيل بتشييدها على أراضي
فلسطينية مصادرة في جبل أبو غنيم في الضواحي الجنوبية لمدينة القدس العربية
المحتلة؛ وأشارت إلى أن أبو العلاء كان قد انضم قبل ثلاث سنوات كشريك في
ملكية مصنع الباطون ومواد البناء العامل في بلدة أبو ديس مسقط رأس رئيس
المجلس التشريعي الفلسطيني ومكان إقامته وعائلته الحالي؛ وتستطرد الصحيفة أنها
علمت أن مسؤولين كباراً في السلطة الفلسطينية عبروا عن غضبهم إزاء صلة
الأعمال القائمة بين المصنع الفلسطيني وشركات البناء الإسرائيلية في مستوطنة أبو
غنيم لكن مقربين من أبو العلاء يقولون حسب ما تنسب إليهم الصحيفة ذاتها أن
الأمر لا يتعدى كونه مشروعاً وعملاً تجارياً بحتاً؛ ويضيف هؤلاء المقربون في
تعقيب لهم أن المستوطنات اليهودية الواقعة خارج الخط الأخضر أي ضمن أراضي
الضفة الغربية ستنقل بطبيعة الحال عاجلاً أم آجلاً إلى السيطرة الفلسطينية، ولذلك
فإن بيع مواد البناء للمقاولين اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يعد مساعدة
لـ «إسرائيل» أو مساعدة في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، ومن
المعروف حسب ما تضيف الصحيفة أن المصنع ذاته في أبو ديس يورد إنتاجه
أيضاً لمقاولين إسرائيليين يتولون تنفيذ مشاريع بناء في مستوطنة معاليه أدوميم
المقامة في جزء منها على أراضي أبو ديس والعيزرية وفي مستوطنات يهودية
أخرى في الضفة الغربية. وتقول الصحيفة إنها لم تتلق لغاية موعد إقفال عددها
تعقيباً مباشراً من السيد أحمد قريع على ما تضمنه خبرها.
موقع جريدة (عرب تايمز) على الإنترنت
http://www.arabtimes.com
ولو مات الفقراء! !
أقر مجلس الشيوخ الأمريكي بسهولة مشروع ميزانية للإنفاق العسكري بقيمة
288 مليار دولار تتضمن زيادة في الرواتب وتحسين الخدمات الصحية ودعم جهود
تجنيد والاحتفاظ بقوات. ويزيد حجم الميزانية بنحو 3. 1 مليار دولار عما كان
يسعى إليه الرئيس بيل كلينتون كما يزيد الإنفاق المالي لعام 2001م بنحو 20 مليار
دولار عن العام الماضي.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7302) ]
نموت.. وتحيا العلمانية! !
في أثناء المرحلة الثانوية كنا في أثناء حصص الرياضة نرتدي الشورت ولم
تكن هناك أي مشكلة.. ولكن بدأت تظهر المشاكل حينما بدأت التيارات الرجعية
تتوسع شيئاً فشيئاً فارضةً نفسها وتريد أن تفرض طابعها الديني وهذا ما لا نقبله؛
إننا دولة علمانية، وأنا فخور بكون تركيا الدولة العلمانية الوحيدة في العالم
الإسلامي ولولا العلمانية لما كانت دولة كبيرة. نحن دولة حقوق والجميع بها متساوٍ
ولا يمكن أن تحتكر القلة الدين لتطبقه بالطريقة التي تريدها، وأنا مع عدم ارتداء
الحجاب في أماكن العمل والجامعات لأنه هنا له مدلول سياسي! ! فالدول الأوروبية
واذكر هنا ألمانيا وفرنسا تمنع وجود الطالبات في مدارسها بالحجاب لأنه ببساطة
ضد تقاليدها العلمانية هذه هي الحال في أوروبا فكيف تكون في تركيا؟ !
ومن وجهة نظري المشكلة في تركيا أو الدول الإسلامية ليست في الدين وإنما
في المؤسسة الدينية؛ فرجالها غير متعلمين، وأذهانهم مقفولة أمام كل شيء، إنني
على يقين من أن الإسلام هو الأفضل لحياتنا. ومهمتنا هي الدفاع عنه ضد هؤلاء
الذين يريدون الحجر علينا وعلى عقولنا باسم الدين وكأنهم أوصياء علينا نفعل كذا
ولا نفعل كذا. إنهم يريدون أن نغلق عقولنا وألا نفكر. إنني أقول وبكل صراحة:
لا قدسية لكلام رجال الدين.
[جول سراي، نائبة في البرلمان التركي ومرشحة رئاسة التي تنازلت للرئيس
نجدت سيزر، مجلة الأهرام العربي، العدد: (172) ]
وليمة يمنية! !
إذا كان المكفرون في مصر قد كفروا أعشاب البحر فإن المكفرين في اليمن
يكفرون براً وبحراً وجواً؛ إذا كان أولئك يكفرون الأحياء فإن هؤلاء يكفرون
الموتى. ويطلقون كاتيوشا التكفير على السمك في الماء وعلى النوارس في السماء،
وعلى الوعول والغزلان في البر.. يكفرون كل الأعشاب بالأخضر منها واليابس
باستثناء عشب القات؛ لقد راح المكفرون في اليمن يجارون المكفرين المصريين
ويبحثون لهم عن وليمة على غرار «وليمة لأعشاب البحر» وكان أن وجدوا
ضالتهم في رواية الأديب محمد عبد الولي «صنعاء مدينة مفتوحة» التي فتحت
شهية التكفير لديهم؛ وحقيقة فإن «وليمة لأعشاب البحر» وليمة حية ودسمة
فالكاتب «حيدر حيدر» حي يعيش واللحم طازج وطري ومشبع بالدسم.. أما
وليمة (صنعاء مدينة مفتوحة) . فهي وليمة صغيرة وبائسة. لا لحم فيها ولا دم
ولا دسم. فصاحب الرواية مات قبل أكثر من ربع قرن بحادث طائرة.. لكن
المكفرين هنا قد تحلقوا حول وليمتهم وراحوا يرقصون ويدقون الطبول مثلهم مثل
أكلة لحوم الموتى. هكذا ليس المصريون وحدهم يمتلكون سلاح التكفير. نحن
أيضاً في اليمن نمتلك مثل هذا السلاح مع الفرق هو أن المكفرين في مصر يشهرون
سلاح التكفير ضد التفكير، أما عندنا فيوجد تكفير من غير تفكير.. يوجد مكفرون
من دون مفكرين.. لهذا السبب ولأن اليمن يعاني من ندرة المفكرين لجأ المكفرون
إلى تكفير الموتى.. وصار شعارهم: أنا أكفِّر إذن أنا موجود؛ إنهم يكفرون ليثبتوا
وجودهم، وليؤكدوا بأنهم قوة لها ثقلها في الشارع. وهم إن لم يجدوا شخصاً
يستحق التكفير كفر بعضهم بعضاً. وكفروا كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله، وهم يعتقدون أن كل كاتب أديب وشاعر كافر حتى يثبت براءته
ويعلن توبته! !
[الكاتب اليمني، عبد الكريم الرازحي، مجلة المجلة، العدد: (1067) ]
في النهاية.. كلب! !
بيعت الفيلا الفاخرة التي تملكها المغنية مادونا في ميامي بـ 7. 5 ملايين
دولار إلى غونتر الرابع أغنى كلب في العالم؛ وذكرت الصحف المحلية أن الشركة
التي تتولى إدارة ثروة الكلب المذكور أنجزت الصفقة وبات في إمكانه الاسترخاء
في الفيلا البالغة مساحتها 780 متراً مربعاً؛ وقد ورث غونتر الرابع ثروته من
والده غونتر الثالث الذي كان عزيزاً جداً على قلب صاحبته الكونتيسة الألمانية
الراحلة كارلوتا ليبنشتاين التي تخلت له عن كل ثروتها البالغة 65 مليون دولار قبل
وفاتها في 1992م، وتبلغ ثروة غونتر اليوم 200 مليون دولار.
[جريدة الأنباء، العدد: (8679) ]
تعليق على الأحداث
غانديهم وقرآننا! !
نشبت مشكلة قضائية في الهند بسبب عرض للأزياء ظهرت خلاله إحدى
العارضات وهي تقدم رداءاً يحمل صورة للمهاتما غاندي، وقد انتقدت محكمة هندية
الشركة المنظمة للعرض وقالت: إن هذا الزي الذي حمل على خلفيته صورة
المهاتما غاندي كان بمثابة إهانة لسيرة الزعيم الهندي، كما طالبت منظميه ورئيس
الشرطة المحلية بالاعتذار رسمياً للأمة. ويعد المهاتما غاندي الأب الروحي للهند
كما تتمتع صوره بمكانة خاصة في جميع أنحاء الهند؛ حيث يهب كثيرون للذود
عنها في حال تعرضها لأي انتهاك؛ وكان عرض الأزياء الذي تسبب في الجدل قد
نظم في مدينة جايبور بشمال الهند وأدى ظهور العارضة خلاله وعلى ظهرها
صورة المهاتما لإثارة غضب كثيرين من أتباع عقيدة غاندي الذين اعتبروا الأمر
حطاً من كرامته، وطالبوا بتحرك قضائي ضد منظميه، وقد طالب قاضي المحكمة
كلاً من الشركة المنظمة وقائد الشرطة في المدينة الذي كان ضمن حضور العرض
بالاعتذار للأمة قبل نظر القضية رسمياً.
عندما قرأت هذا الخبر، ورأيت حجم الضجة التي حدثت بسببه في الهند،
تذكرت كذلك خبراً آخر نشر صغيراً جداً وجانبياً جداً في بعض صحفنا العربية،
يذكر الخبر أن شاباً عربياً وخطيبته دخلا عرضاً للأزياء في إسرائيل، وأنه وجد
أثناء العرض أن الخلفية الموسيقية للعرض هي آيات قرآنية تتلى وكان ذلك تحديداً
عندما خرجت عارضة أزياء بملابس داخلية فاحشة، وهكذا مر الخبر سريعاً دون
اتهام أو دون إثارة، ويبدو أن الأمة تبلدت أحاسيسها حتى مع قرآن ربها، أما
الهندوس، فمع زعيمهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، فيا لخيبة أمة يهان كلام ربها
ولا تتحرك!
ما زالت المأساة مستمرة
في واحدة من أهم مآسي المسلمين في العصر الحاضر، لا زالت مشكلة
مسلمي بورما في تزايد مستمر، وفي تجاهل مستمر، ولم نعد نسمع من المنظمات
الإغاثية شيئاً عن نجدتهم ولا طلب مساعدتهم برغم استمرار المأساة وشدتها على
المسلمين هناك، فقد تواصلت الانتهاكات الخطيرة في حق السكان المسلمين من
البورميين على يد القوات الحكومية البوذية؛ حيث لا زالوا يحرمون من أبسط
حقوقهم من مثل الحرية في الاعتقاد والسفر. فالسفر ممنوع من قرية إلى قرية إلا
برخصة من قوات الجيش؛ والتجنيد إجباري للجنسين مما يعني تعرض أعراض
المسلمات للانتهاكات والتجاوزات والاعتقال التعسفي والهمجي في حق المسلمين
متواصل؛ إذ يُغار على بيوتهم ليلاً ونهاراً ويُؤخذون إلى المعتقلات من دون توجيه
التهم إليهم؛ ويحظر عليهم بناء المساجد والمدارس الدينية إلا برخص يصعب
الحصول عليها، وصودرت منهم مزارعهم وأراضيهم وهجروا إلى مناطق وعرة
وغير صالحة للزراعة؛ وتتزامن هذه الانتهاكات والتجاوزات مع قيام القوات
البنغالية في بنجلاديش بطرد وإعادة الآلاف من المهاجرين البورميين إلى بيوتهم
بدعوة أن عقود الإقامة لديهم انتهت، وأن الأمم المتحدة لم تعد تتحمل مسؤولياتها
تجاههم، وهذا التهجير الإجباري يعرض هؤلاء المهجرين إلى مخاطر جمة منها
تلفيق التهم لهم بأنهم يتعاونون مع المقاتلين البورميين ومدهم بالعون والمدد مما
يعرض حياتهم للخطر الحقيقي؛ ومع الأسف فإن المحنة التي يتعرض لها الشعب
المسلم في بورما لم تلق إلى اليوم الاهتمام المطلوب من كشف الجرائم البوذية ضد
المسلمين في هذه البقعة من العالم وتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة لهم.
بين اليهود والهندوس
تتطور العلاقات الهندية الإسرائيلية بشكل لافت في الفترة الأخيرة، ويتركز
تمحور هذه العلاقة على اتفاق أكيد على محاربة «الإرهاب الإسلامي» فقد قام
وزير الداخلية الهندي «لال كيرشنا ادفاني» ووزير الخارجية «جاسوال سينج»
بزيارات متتابعة لـ «إسرائيل» نتج عنها تشكيل لجان وزارية مشتركة لإقامة
سلسلة من النشاطات التعاونية والتدابير التي تتعلق بمواجهة الإرهاب، كما اتفقت
الحكومة الهندية مع إحدى المؤسسات الإسرائيلية لشراء آلات حساسة ونصبها حول
معسكراتها لحمايتها من الحملات المفاجئة للمجاهدين الكشميريين. والتعاون بين
الدولتين البوذية واليهودية قديم ومتجدد ومتطور، إلا أن الذي ينبغي متابعته
والانتباه إليه هو تطور هذا الاتفاق وأثره على المسلمين والحركة الجهادية، وكان
أبرز هذه التطورات السلبية هو نقل 500 يهودي هندي من قبيلة شينلانج التي تقيم
قرب الحدود مع بنجلاديش، وقد تم نقلهم بالفعل إلى الكيان الصهيوني وينتظر
الآلاف دورهم للحاق بإخوانهم.
النزيف الدامي
ما زالت المآسي تتكرر بصورة مستنسخة، الأولى كالثانية والأخيرة كالتي
سبقتها، وما زال المسلمون هم الوقود الأرخص لمحارق الحقد اليهودي أو
النصراني أو البوذي، وإن كانت بلاد المسلمين تملك أغلى أسعار الوقود السائل،
الخام منه والمكرر، إلا أن ذلك لم يمكنهم من الحفاظ على إخوانهم من أن يكونوا
وقوداً حياً لمحارق هنا وهناك.
وفي الجمهورية التي تنهار شيئاً فشيئاً، تظهر إندونيسيا أندلس جديدة،
والعجب أن المرء يظن أن أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان من المفترض
أن يكون مسلموها وهم الأغلبية في أمان مثل جميع الأغلبيات، إلا أن الوضع كان
مختلفاً تماماً؛ فها هم مسلمو إحدى المناطق الإندونيسية «جزر ملوكو» أو جزر
الملوك، أو جزر البهار يلاقون الأهوال على أيدي النصارى هناك، ووصل عدد
القتلى عشرات الآلاف في مجازر بشعة.
فبمناسبة الاحتفال بالسنة الجديدة وبميلاد المسيح عليه السلام اجتمع بعاصمة
جزر الملوك نحو 30 ألف مسيحي وهم يرفعون الأعلام الخاصة بمنطقتهم
والشعارات الداعية إلى الانفصال والمعادية للإسلام والمسلمين وكان منها: «نعم
لعيسى [عليه السلام] ولا لمحمد [صلى الله عليه وسلم] » .
ومن حينها نظموا تظاهرات تطالب بالاستقلال وتطهير جزيرتهم من الغزاة
الأجانب ويقصدون بهم المسلمين والبوذيين؛ وقام المتظاهرون المسلحون بالقنابل
والبنادق والسيوف والخناجر بالهجوم على بيوت المسلمين ومحلاتهم ومطاردتهم في
الشوارع والمرافق العامة، ثم القيام بإطلاق النار عليهم أو بذبحهم بالسيوف
والخناجر، ونظموا مجموعات من القناصة فوق الأسطح والبيوت، وتنافسوا فيما
بينهم أيهم يصيب الهدف. وكان ضحاياهم على قيد الحياة وكانوا يجهزون عليهم من
دون رحمة ولا شفقة؛ وكانت هذه الجماعات المتعصبة تحت قيادة مجموعة من
الرهبان والقساوسة التي كانت تلهب المشاعر وتحرضهم على تطهير الأرض من
نجس المسلمين.
وتتحدث المصادر الواردة من المنطقة أنه ألقي القبض على أحد أئمة المساجد
داخل مسجده وأطلقوا عليه النار فقتلوه، ولما علموا أنه دفن على أيدي المسلمين
أخرجوا جثته من القبر وأضرموا فيه النيران.
وقاموا كذلك بتلطيخ المساجد بلحوم الخنازير ودمائها، وكتبوا على جدرانها
بدم الخنازير شعارات تطالب بطرد المسلمين وإبادتهم؛ ويصف أحد الناجين من
المذابح صورة من المشاهد المروعة فيقول: «تم القبض على جيرانه القرويين
وسيقوا نحو المسجد. وكيف انتزع المهاجمون عدداً من الأطفال الرضع وأخذوا
يلقون بهم في الهواء، ويستقبلون أجسادهم الغضة على أطراف سيوفهم، ثم انتقوا
عشوائياً مجموعة من الأطفال وقيدوهم وشنقوهم واستخدموا أجسادهم المعلقة
كأهداف يتدربون عبرها على الرماية بالسهام، أم البالغون، فكانوا يمثلون بهم
أحياءاً قبل أن يقتلوهم، وكانوا يقولون للواحد منهم بلهجة ساخرة:» عفواً سامحني،
أريد أذنيك، أو أنفك، إلخ، ثم يقطعون أعضاءه ببساطة هكذا «!
وإن كان حكم سوهارتو قد نجح في رفع درجة الفقر في أوساط مسلمي
إندونيسيا، فيبدو أن ذلك لم يكن كافياً في السيطرة على المسلمين، فكانت السياسة
الجديدة هي القضاء عليهم وفي عهد إمام العلماء المسلمين» وحيد «.
يمكن مراجعة صور من مآسي المسلمين في جزر الملوك بزيارة الموقع الآتي
www.gemakhadijah.cjb.net(154/124)
في دائرة الضوء
نظرات في العقيدة القتالية في الإسلام
محمود سلطان
في كتابه «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» يشير الباحث المغربي محمد
عابد الجابري، إلى أن «النهضة العربية الأولى التي انطلقت بظهور الإسلام،
لتفتح البلدان المجاورة، ولتشيد حضارة عربية إسلامية متميزة، إنما قامت بعد أن
استنزفت الحرب الطويلة كلاً من دولة الفرس، ودولة الروم» ! ! أو لسبب آخر
هو ما أسماه الجابري بوجود «ما يشبه الفراغ السياسي في المنطقة» [1] .
والجابري إذ يؤكد على ذلك فإنه يرفض أن تكون لمنظومة القيم الإيمانية التي أصَّلها
الإسلام في وجدان المقاتلين دوراً في الفتوح الإسلامية.
والجابري ليس استثناءاً؛ إذ إن نفراً من الباحثين العرب العلمانيين يذهبون
إلى ما يذهب إليه [2] . ولعلنا نسأل: هل هذه هي الحقيقة الوحيدة في نهضة
الماضي كما يزعم المبطلون؟ ! إنه لمن الثابت أن العقيدة القتالية في الفكر
العسكري الإسلامي ترتكز إلى تضافر ما يسمى بـ «الشروط الموضوعية» أي
فهم واستيعاب أبعاد الواقع «الجيو سياسي» الذي ستدار المعركة في كنفه مع
«الشروط العقائدية» ، أي المخزون الإيماني المتجذر في الوجدان الجمعي للأمة
والذي يجعله الإسلام العامل الأكثر حسماً في توجيه مسارالحرب إما نحو النصر،
وإما نحو الهزيمة.
ولئن كان الخطاب القرآني يعلي من شأن الشرط الموضوعي: [وَأَعِدُّوا لَهُم
مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ] (الأنفال: 60) . وكذلك كان النبي صلى
الله عليه وسلم القائد مؤصلاً لهذا المفهوم على الصعيدين السياسي والعسكري حين
أبرم عقود البيعة «بيعة العقبة» وعقود الصلح «صلح الحديبة» ، وفاوض قادة
«غطفان» و «نجد» في غزوة الأحزاب، واختار موقع نزول الجيش يوم
«بدر» بعد إعمال أساليب استثمار الخصائص البيئية والجغرافية للموقع عسكرياً
امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» [3] ، بل
إن كتب السيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعمليات جمع وتحليل
المعلومات عن العدو؛ إذ استجوب صلى الله عليه وسلم غلامين من «سقاة قريش»
أسرهما نفر من أصحابه كانوا يلتمسون الخبر له عند ماء بدر، ويسجل ابن
هشام الاستجواب على النحو الآتي: «قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:» كم
القوم؟ «قالا: كثير، قال:» ما عدتهم «؟ قالا: لا ندري، قال:» كم ينحرون
كل ليلة؟ «، قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«القوم فيما بين التسع مئة والألف» [4] ، ونحو ذلك من الوقائع التي تعكس إعلاء
الخطاب السياسي الإسلامي في عهد النبوة من قيمة «الاعتبارات الموضوعية»
المؤثرة في حاضر ومستقبل الجماعة المسلمة، ولئن كان الأمر كذلك، فإنه في
الوقت نفسه، يرفض الاعتقاد بأنها «المعيار» المطلق، أو «القيمة» المثلى
التي يستند إليها في استشراف ما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تضع الحرب
أوزارها.
والتراث العسكري الإسلامي يحتفظ لنا بتجربتين تعكسان فساد الرؤية
المرتكزة على «الأرقام» والحسابات «العقلية» وحسب في تأطير مقومات
النصر من جهة، وأسباب الهزيمة من جهة أخرى: الأولى «يوم بدر» ؛ إذ كان
المسلمون كما وصفهم القرآن آنذاك «أذلة» في إشارة إلى ضعف العدد والعدة
والحصار الحديدي الذي فرضته قريش سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على المسلمين
والمدعوم بحقد وكراهية القبائل الأخرى المنتشرة بطول الجزيرة العربية وعرضها،
ومع ذلك كان النصر حليف هذه الفئة المستضعفة: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ] (آل عمران: 123) ، والثانية «يوم حنين» إذ كان التفوق العسكري
لصالح المسلمين «اثني عشر ألف مقاتل» والمدعوم بصعود معنوي هائل بلغ
الذروة إثر فتح مكة وإخضاع «قريش» القوة العسكرية الرئيسة في الجزيرة
لسلطة الدولة الإسلامية الوليدة، ورغم ذلك لحقت بهم الهزيمة في بادئ الأمر:
[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] (التوبة: 25) .
ومن هنا فإن العقل العسكري الإسلامي شديد الخصوصية والتميز عن نظيره
المصاغ وفق معايير ونظم مادية إلحادية محضة؛ إذ إن الأول ينزع إلى رفض
الانصياع الكامل لسلطة التفوق العسكري بوصفه شرطاً ينفرد وحده في توجيه مسار
الحرب؛ إذ إنه يؤمن بأن إلحاق الهزيمة بالعدو ليس مناطاً بالفلسفة الكمية وحدها،
ولكنه مناط بربط الأخيرة بهذا الثابت القرآني الخالد: [ِإن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) . فهو يجمع بين ما هو موضوعي «التوظيف
الاستراتيجي للواقع» وما هو إيماني في عقيدته القتالية، وهو ما يفسر انتصاراته
الساحقة والمتلاحقة حتى وإن كان يتبوأ موقع «الاستضعاف» وعدوه يتبوأ موقع
«التمكين» [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ] (الأنفال: 26) ، والتأييد من قِبَل الله مرهون
باستيفاء ما أشار إليه القرآن والسنة المطهرة من شروط، والتي يمكن إجمالها في
أن تستقي الحرب مشروعيتها من إعلاء كلمة الله، وإخلاص النية في ذلك، وفق
الضوابط الأخلاقية التي أصَّلها الإسلام فيما يمكن تسميته بـ «فقه الحرب» .
والتأييد يأتي في شكل قانون من نمط آخر يتعالى على ما هو مألوف في حياة
البشر من قوانين يفكك الثابت من النقائض، ويعكس ما تشير إليه من دلالات وهي
على حالها، معلناً أكذوبة عبادة «القوة» أو عبادة «الآلة» العسكرية أو أنها
تكفل وحدها إحراز النصر: [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] (الأنفال: 44) .
ولذلك كان المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» وقبل أن يشهر إسلامه شديد
الوعي بهذه التجربة العسكرية الإيمانية الفريدة؛ إذ نجده يقول: «إن انتشار
الإسلام لا يشابهه أي انتشار سبقه أو أتى بعده، من غزوات كانت يقوم بها بدو
آسيا، وكذلك من احتلال قام به الأوروبيون لغزو البلاد الضعيفة بالمدفع والبندقية
والرشاش، فلم تكن الجزيرة العربية آهلة بالسكان، ولم يمتلك العرب مثل ما كان
في بلاد فارس أو ييزنطة من الأسلحة والتقنيات العسكرية؛ فالإمبراطورية
الإسلامية إذاً لم تقم على مبدأ القوة الذي يمنحها تفوقاً عسكرياً ساحقاً، ولا يمكن
فضلاً على ذلك تطبيق أي من النظريات ذات المنحى الماركسي الضيق والموجز
التي تحاول أن تبحث عن سبب التاريخ وثوراته وتحولاته قياساً على التقنيات
والعلاقات الاقتصادية وصراعات الطبقات التي تنشأ عنها» [5] .
ثم يقر جارودي بما سبق أن أشرنا إليه حين يقول: «إن هذا التوسع
الإسلامي السريع، والذي أدى غداة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خلال اثني
عشر عاماً من عام 633 ميلادية حتى عام 645 ميلادية إلى تثبيت تفوق المسلمين
في فلسطين وسوريا وما بين النهرين ومصر، وهو انتشار لم يستطع إيقافه إلا
العوائق الطبيعية فقط كسلاسل الجبال في آسيا الوسطى وفي إيران الشرقية
وصحارى سيرتيابيك والنوبة. إن سبب هذا الانتشار السريع يرجع إلى أسباب
داخلية مرتبطة بجوهر الإسلام نفسه ولا يمكن تفسيره بأسباب خارجية أو حتى
بضعف أو تفكك الإمبراطوريات المهزومة مثل الرومانية في الشرق، والفارسية
وقبائل القوط الجنوبية في آسيا الوسطى ولا حتى لأسباب عسكرية فقط» [6] .
ومن ثم فإن محاولات «مركسة» التاريخ الإسلامي (التفسير الطبقي للفتوح)
أو علمنته «تهميش الدور الطليعي للدين في نهضة الماضي» إنما ينطلق عن
وعي يفتقر إلى الحس التاريخي الناضج القادر على سبر غور الحقائق التاريخية
أنها رؤى تتخذ من «الظاهر» فقط مادتها التحليلية. وصدق الله تعالى حيث يقول:
[يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
__________
(1) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، يونيو 1989، ص 24، 25.
(2) يقول د عبد المنعم ماجد إنه «لا يوافق بعض المستشرقين في قولهم إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني، فمن غير المعقول أن يخرج البدوي وهو لا يهتم بالدين لنشر الإسلام» انظر كتابه التاريخ السياسي للدولة العربية، الطبعة الرابعة، الأنجلو المصرية، 1971م، ص 136.
(3) انظر: مرويات غزوة بدر، ص 164 165.
(4) راجع ابن هشام، ج 2، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1990م، بيروت، ص 259، 260.
(5) روجيه جارودي، الإسلام دين المستقبل، ترجمة عبد المجيد بارودي، دار الإيمان للطباعة والنشر، بيروت، دمشق، ب ت، ص 24.
(6) المصدر نفسه، ص 40، 41.(154/130)
قضايا ثقافية
بين طب الأدلة وفقه الأدلة
د. أيمن بن أسعد عبده
في السنوات العشر الماضية، حدث تطور كبير وهام في طريقة التفكير
الطبي وحل المشكلات الطبية. ويتمثل هذا التطور في التحول التدريجي من الطب
المبني على الخبرة والتجربة إلى الطب المبني على الأدلة والنتائج المستخلصة من
البحث العلمي.
وقد بدأ هذا المنهج الجديد في الانتشار نتيجة لإدراك بعض العلماء والأطباء
أن كثيراً مما كان يعتقد أنه ثوابت طبية وحقائق علمية لا تقبل الجدل هي في
الحقيقة افتراضات متوارثة لم تثبت بالدليل العلمي القوي، ولم تخضع للأبحاث
العلمية المقننة. وبناءاً على ذلك تم إخضاع كثير من المسلَّمات في الموروث الطبي
إلى هذه المقاييس، فثبت بعضها، وتبين خطأ بعضها الآخر. وبعد ذلك لم يعد
يقبل من أحد أي ادعاء دون أن يكون مدعماً بالدراسات القوية المؤيدة لصحته؛
فتكون قوة الادعاء وضعفه مرتبطة بقوة الأدلة المصاحبة وضعفها.
وصار هذا المنهج هو حديث الوسط الطبي الأكاديمي، وصارت المهارات
اللازمة لممارسة هذا النوع من التفكير الطبي جزءاً أساسياً في التعليم الطبي لطلاب
كليات الطب الغربية والأطباء المتدربين.
وأحسب أن لانتشار هذا النوع من التفكير أسباباً عديدة لعل من أهمها انسجامه
مع المنهج التجريبي الاستقرائي الذي سيطر على الفكر الغربي بشكل عام، والذي
يُخضِع كل شيء للبرهان المنطقي أو العلمي.
وكلما تأملت هذا النوع من الطب ودرسته ومارسته وجدته امتداداً للتفكير
العلمي الإسلامي الذي وُضِعت أصوله، ومورس في شتى مجالات العلوم الشرعية
منذ أكثر من عشرة قرون. يبدو ذلك جلياً في مناهج الأصوليين والفقهاء وعلماء
المصطلح وغير ذلك من العلوم الشرعية. وفي هذه المقالة أسجل على عجل بعض
النقاط الهامة التي تبين التشابه بين الفكر الطبي المبني على الأدلة وبين الفقه
الإسلامي؛ وذلك عن طريق استعراض بعض القواعد الأساسية في طب الأدلة التي
تستخدم الآن في التفكير الطبي الحديث، ومن ثم مقارنتها على عجل ببعض ما
تقرر عند العلماء المسلمين الأوائل من القواعد الشرعية وأصول الاستدلال.
أولاً: كل قول يردُّ على صاحبه ما لم يكن مدعماً بالدليل العلمي:
هذا هو الأساس الذي بني عليه طب الأدلة؛ حيث إن أي رأي أو دعوى
علمية لا تمثل سوى رأي شخصي فحسب ما لم تكن مدعومة ومؤيدة بالدليل العلمي
ومن الطريف أنه في السابق كانت عوامل أخرى مثل طول الخبرة والسن
والجنسية تمثل العوامل المحددة لقبول الأقوال والآراء، فكان الاستشاري الأكبر سناً
أو الأقدم خبرة يفتي في كل مرض، فيقنن ويصنف ويصحح ويخطِّئ، ولا يستطيع
أحد مناقشته أو الرد عليه، ويعد قوله في نفسه دليلاً. أما الآن فإن أصغر الجالسين
سناً وأقلهم خبرة بوسعه أن يطلب بأدب أو بغير أدب من هذا الطبيب دليلاً علمياً
يؤيد قوله ويناقشه في دليله بشكل علمي موضوعي، فإن لم يكن للقول دليل يستند
إليه رد على صاحبه كائناً من كان. كما أن بوسع طالب الطب الصغير أن يرد كلام
الأكبر منه خبرة وسناً إذا توصل إلى دراسة أو بحث علمي قوي يؤيد قوله.
وفي العلم الشرعي وبخاصة في علم الفقه فإن التشريع لا يكون إلا بالدليل
الشرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع. قال الله تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء: 36) . فكل قول في دين الله تعالى ينظر في دليله، فمتى ما
وجد الدليل وصح أخذ بالقول وإلا اعتبر رأياً لا يمثل الشرع بالضرورة، وأما إذا
خالف القول الدليل رد على صاحبه ولم يقبل. إن هذه القاعدة من أهم القواعد
المعرفية في الدين الإسلامي.
ثانياً: عند التعارض بين الأقوال تقدر قوة القول
على حسب قوة دليله:
فإذا تقرر أن كل قول يستمد شرعيته من دليله، فإنه يستمد قوته وضعفه من
دليله. وقوة الدليل تتعلق بعناصر أساسية منها:
1 - نوع الدليل:
قسَّم علماء طب الأدلة الأدلة الطبية إلى مراتب ومستويات بحسب قوتها
الدلالية، فاعتبروا أقوى الأدلة هي الدراسات المبنية على العينات العشوائية المعماة،
تليها غير المعماة، ثم الدراسات الاستقرائية المستقبلية، ثم الرجعية، ثم
الدراسات الوصفية. فعند تعارض الأقوال وتناقضها ينظر في أدلة كل قول،
ويكون التفاضل بين الأقوال بحسب نوع الدليل المصاحب لها. ولقد تقرر في الفقه
الإسلامي أن أقوى الأدلة هي الأدلة من القرآن الكريم الذي يقدم المحكَم فيه على
المتشابه، وأدلة السنة الصحيحة، وفيها يقدم القول على الفعل، والقول على
الإقرار، ثم الإجماع وتعتمد قوته على عصره ومن حكاه، ثم بالقياس، وعند
التعارض تتفاضل الأدلة بهذه المقاييس الدقيقة.
2 - صحة الدليل:
لا بد حتى يمكن الاستشهاد بالدليل من التأكد من مصداقيته وصحته. فلا بد
من استيفاء الدراسة الطبية للشروط الأساسية للبحث العلمي، فوضعوا لكل نوع من
الدراسات السابقة عناصر أساسية وعناصر ثانوية لا بد من استيفائها لقبول الدراسة
ويكون هذا عاملاً مهماً في قوة الدليل وضعفه. وبالمثل فإن صحة الدليل في الفقه
الإسلامي شرط أساس لقبول الدليل. ولما كان القرآن محفوظاً بحفظ الله عز وجل
وضع علماء المصطلح القواعد والضوابط التي تقاس بها صحة الأحاديث
والمرويات عن الصحابة. وتمثل هذه النقطة سبباً مهماً لاختلاف الأقوال بين
العلماء سواء في الطب أو الفقه؛ فعلى الرغم من الضوابط العلمية التي تحكم صحة
الدراسات الطبية فإنها لا تزال تخضع لمدارس علمية مختلفة، وتعتمد على تمرس
الناقد وخبرته في التعامل مع الدراسات الطبية. وكذلك الحال بالنسبة للفتاوى
الشرعية؛ حيث يعتبر الاختلاف في ثبوت الدليل وصحته أحد أهم أسباب
الاختلافات الفقهية.
3 - مصدر الدليل:
هذه النقطة متعلقة بما سبق؛ فالدراسات المنشورة في مجلات علمية معروفة
يكون لها أفضلية على الأبحاث المنشورة في مجلات مغمورة. وكذلك إذا كان
مصدر الدراسة مجموعة من الباحثين المعروفين في المجال ولهم باع طويل فيه،
كان ذلك أدعى إلى قبول الدراسة بعد استيفاء شروط الصحة.
والقول في الفقه مرتبط أيضاً بمصدره؛ فالحديث في صحيح البخاري مثلاً
يقدم على حديث معارض له عند الديلمي مثلاً، والفتوى الصادرة من أحد الأئمة
الأربعة مثلاً ليست كالصادرة عمن دونهم وهكذا.
ثالثاً: تعتمد النتائج المستخلصة من الدليل على فهمه:
بعد أن تأكدنا من وجود الدراسة المؤيدة للقول، وكذلك من سلامة بناء الدراسة
وقوة نوعها، صارت هذه الدراسة صالحة للاستدلال. وننتقل للخطوة التالية وهي
فهم الدراسة لاستنباط النتيجة. ولهذه النقطة عناصر كثيرة أهمها:
1 - دقة الدليل في الدلالة على موقع الاستشهاد:
لا بد من التأكد من أن الدراسة المستخدمة دليل تدور حول نفس النقطة التي
يستشهد لها بالدراسة. فلا بد أن تكون في نفس المرض، وتكون قد أجريت على
مرضى مشابهين جداً للمريض المراد علاجه. وهذه النقطة هامة كذلك في
الاستدلال الفقهي؛ إذ لا بد من التأكد من أن دلالة الدليل هي في نفس النقطة مناط
البحث، وكلما كان الدليل أقرب وأكثر صراحة في الدلالة على المراد كلما كان
الاستشهاد به أقوى.
2 - قوة دلالة الدليل:
أهم العوامل المؤثرة في فهم الدليل وتطبيقه هو قوة دلالة الدليل؛ فالنتائج
الرقمية للدراسة، وقوة نتائجها، تكسبها قوة أكبر، فلو ثبت أن علاجاً مَّا فعل
بنسبة 90% فإنه يقدم على العلاج الذي فعاليته 50% وهكذا. كما أن الدقة
الإحصائية لهذا الأثر عامل آخر مهم في التأكد من مصداقية النتائج. وفي الفقه يهتم
بالدلالات اللفظية للدليل لاستخلاص الأحكام الشرعية، وبحسب قوة الدلالات تكون
قوة الأحكام المستخلصة. فالأصل في الأمر مثلاً أنه يقتضي الوجوب عند انتفاء
الموانع، والمعاصي التي اقترن النهي عنها بالوعيد الشديد أو اللعن عدها العلماء
من الكبائر، وكثير من الأحكام تتفاضل في فضلها بحسب تفاوت ثوابها وهكذا.
3 - انتفاء موانع التعميم:
في هذه النقطة ينظر في عينة الدراسة، من حيث السن واللون والجنس
والنشأة وغير ذلك للتأكد من أن هذه العينة المدروسة تمثل مجتمع المرضى المراد
تطبيق نتائج الدراسة عليهم. فلا يمكن لنتائج دراسة أجريت على الأطفال أن تطبق
على الكبار إلا أن يكون المرض لا يختلف بحسب العمر. وفي الفقه لا بد من التأكد
من أن النص المستخدم تدخل ضمنه الحالة المراد استخلاص الحكم فيها، فلا تكون
هناك قرينة توجب التخصيص، أو علة متعلقة بالحكم ينتفي بانتفائها.
4 - استخلاص النتائج وتطبيقها:
بعد أن ثبتت لنا صحة الدليل وقوته، وبعد أن فهمناه فهماً صحيحاً، لا بد من
أن نستخلص من هذا الدليل نتيجة نهائية على الحالة التي أمامنا أو المشكلة العلمية
المراد حلها. ولهذه الخطوة الهامة مراحل أهمها:
أ - مقارنة الدليل بالأدلة الأخرى: عادة ما يكون في المشكلة الواحدة أكثر من
دراسة واحدة، تتفاوت في صحتها وقوتها ومصدرها ونتائجها، ولذلك فقبل التسرع
في استخدام نتائج أي دراسة لا بد من مقارنتها مع الدراسات الأخرى ومعرفة
موقعها الدقيق بينها، وهذا مقرر بشكل واضح في الفقه الإسلامي؛ حيث قرر
العلماء وجوب محاولة الجمع بين الأدلة وعدم ضرب بعضها ببعض وذلك وفق
ضوابط أصولية معروفة عند العلماء.
ب - معرفة الواقع المراد تطبيق الحالة عليه: ذكرنا في نقطة فهم الدليل
ضرورة التأكد من مطابقة الدليل للواقعة المراد الاستشهاد بها، فينبني على هذا
ضرورة فهم الحالة أو المشكلة المراد علاجها. ولذلك لا بد من التأكد من أن
مواصفات المريض المراد علاجه وحالته داخلة ضمن العينة التي تمت دراستها في
البحث، فإذا كانت الحالة مختلفة قليلاً فإنَّا ننظر إن كان الاختلاف بين الحالة وعينة
البحث اختلافاً هاماً يؤثر على النتائج فلا نأخذ بالدراسة، أم أنه اختلاف في أمر
فرعي لا يؤثر على النتائج فنأخذ بالدراسة. وفي الفقه تعتبر هذه النقطة عنصراً
هاماً في معرفة الأحكام وإنزالها على الواقع أو ما يعبر عنه بعض الأصوليين
بتحقيق المناط.
ج - معرفة النتائج العلمية الإيجابية والسلبية من التطبيق: قبل أن نصف
الدواء لا بد من معرفة ملاءمة الدواء لهذا المريض بالذات والتأكد من خلوه من
الموانع التي قد تجعله لا يستفيد من العلاج أو ربما يتضرر منه مثل أن تكون لديه
أمراض أخرى أو أن يكون يستخدم أدوية أخرى وهكذا، ولهذا فقد يعالج المرض
نفسه بأدوية مختلفة في مرضى مختلفين، بل قد يعالج المريض نفسه بأدوية مختلفة
في مراحل متعددة من مرضه، وقد يعدل عن الدواء الأكثر فعالية إلى دواء أقل
فعالية لوجود عوامل معينة مثل عدم تحمله للأعراض الجانبية. وفي الفقه تقدر في
كل أمر المصالح والمفاسد، وتدرس الموانع الشرعية التي قد تؤثر على تطبيق
الحكم مثل الضرورة والحاجة. بل قد يُفتى في المسألة الواحدة بفتاوى مختلفة
لاختلاف حال السائل، فيُفتى أحدهم بالرخصة والآخر بالعزيمة مثلاً. كما قرر
الأصوليون أن الفتيا تتغير بتغير المكان والزمان في المسائل الاجتهادية.
د - الاستئناس بالخبراء والمختصين في فهم الدليل وتطبيقه: وهذا من
العناصر المهمة؛ فإن الأفهام قد تختلف حتى على الواضحات؛ ذلك أن أهل
التخصص لهم خبرة طويلة في التعامل مع الأدلة في هذا الفرع، فيعرفون مظانها
وطرق الاستنباط منها، ثم إنهم قد قاموا بعلاج آلاف الحالات المشابهة وصار لهم
إلمام كبير بالواقع الحقيقي للمرض. ولذلك فإنهم يجتمعون بشكل دوري ليتدارسوا
كل الأبحاث والدراسات في مشكلة معينة، ويخرجوا بتوصيات تعتبر أداة هامة
يستخدمها الأطباء الأقل خبرة. وفي الفقه يكون دور علماء الفقه عظيماً في الجمع
بين الأقوال والترجيح بين المذاهب وبيان الأقوال التي وافقت الدليل والأقوال التي
أخطأته. كما تمثل المجامع الفقهية الحديثة والمؤتمرات الإسلامية المتخصصة
وسيلة هامة جداً في التوصل إلى الأرجح والأوْلى بالاتباع.
هذه هي أبرز الخطوات التي ينص عليها علماء طب الأدلة في طريقة
استخدام الدراسات العلمية وتطبيقها على الحالات الطبية مع أبرز أوجه الشبه بينها
وبين الخطوات الأساسية في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها في الواقع عند الفقهاء
المسلمين. وقد تبدو بعض هذه النقاط بديهية في حس بعض لتمرسهم عليها، ولكن
الذي يعايش الهالة العلمية والإعلامية المصاحبة لهذه الطريقة في التفكير الطبي يظن
أن الأمر كشف جديد وعلم توضع أسسه الآن فقط.
ولا شك أن هناك اختلافات هامة كذلك بين المدرستين لا مجال هنا للتفصيل
فيها، ومن أهمها أن النصوص الشرعية هي وحي منزل من عند الله العليم بعباده،
ولذا فهي الحق الذي لا يأتيه الباطل بخلاف الدراسات التجريبية التي لا تعدو أن
تكون تجارب علمية قابلة للصواب والخطأ. ومن ثم فينبغي مراعاة الفوارق بين
المدرستين كما ينبغي الاستفادة من تلك القواسم المشتركة.
وفي ختام هذه المقارنة العاجلة يمكننا الخروج ببعض الفوائد الدعوية التي
تفرض نفسها:
1 - إذا كان أصحاب كل علم وفن يحاولون جادين ربط تخصصهم بالقواعد
العلمية الثابتة فإن الدعاة إلى الله تعالى من باب أوْلى من واجبهم ربط دعوتهم
بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة. وفي هذا العصر تكون حاجتنا أعظم لأن نربط
الناس بالأدلة الشرعية ونقدم لهم الأحكام بأدلتها. كما ينبغي تعويد الناس على طلب
الدليل وإزالة حواجز الرهبة والجهل بينهم وبينه ضمن الأطر الشرعية. ومن
جانب آخر لا بد من الاستفادة من الأبحاث العلمية والدراسات الإحصائية في الجانب
العملي للدعوة إلى الله حتى نتمكن من قياس النتائج بشكل رقمي يساعد كثيراً في
التخطيط للبرامج الدعوية واختيار الأساليب الأكثر فاعلية بناءاً على دراسات
إحصائية دقيقة بدلاً عن الآراء المجردة التي تفتقد في الغالب إلى النظرة الشاملة
والتجرد المطلوب.
2 - بعد ربط الناس بالدليل لا بد من الاستمرار في تأصيل طرق الاستنباط،
وتيسير علم أصول الفقه للناس، وتقديمه إليهم بطريقة أكثر عصرية وجاذبية،
ومحاولة إزالة حواجز الغموض والتعقيد بينهم وبين هذا العلم الهام. وكم في الساحة
الدعوية من الطوامِّ التي نتجت عن سوء فهم للنصوص أو الاعتماد على نص واحد
دون نظرة شمولية لمجموع الأدلة.
3 - تتفاوت مراتب الناس من حيث التعامل مع الأدلة والنصوص الشرعية
بحسب مستوياتهم العلمية والعقلية، فكما وضع علماء طب الأدلة خططاً مرحلية
يتدرج من خلالها المتدرب في التعامل مع الأدلة فإن الأمر مشابه جداً في التدرج في
الأدلة الشرعية. فطالب الطب مثلاً مطالب فقط بمعرفة الحقائق الطبية العامة
ومعرفة ما كان مؤيداً بالدليل مما كان مجرد فرضيات لم تثبت بعد مع تعويده على
طلب الدليل والعناية به. فإذا تخرج وانخرط في برامج الزمالة التدريبية فإنه
مطالب بمعرفة الدراسات المؤيدة للحقائق العلمية، ثم إذا تخصص فإنه مطالب إذ
ذاك بمعرفة كل الدراسات العلمية في مجال تخصصه والمقارنة بينها ومعرفة نقاط
القوة والضعف في كل منها ومجالات تطبيقها. وبالمثل فإن على العلماء والدعاة
تعليم الناس الحقائق الشرعية المؤيدة بالدليل القوي وتعليمهم الدليل بقدر الإمكان،
مع التركيز على أهمية الدليل والعناية بدراسته، ثم يترك التفصيل في الأدلة
والأقوال للدعاة وطلاب الكليات الشرعية، وأما العلماء فإن عليهم في تخصصاتهم
التبحر في الأدلة والمقارنة بينها.
4 - أهل كل علم أعلم بمصادر الأدلة المعتمدة عندهم في فنهم؛ فلا بد أن
يترك ذلك لهم ويحترم رأيهم في ذلك. فكما أن الأخبار الصحفية الخفيفة لا تعتبر
مرجعاً علمياً للأطباء، ولا يقبل منك الطبيب رفض دوائه المؤيد ببحث رصين من
أجل قصاصة من جريدة أو من أجل كلام الجيران فإن العالم الشرعي كذلك مؤتمن
على الأدلة التي يقدمها ولا يجوز معارضة أدلته القوية بكلام فلان من الجاهلين أو
المتعالمين.
5 - لا بد من احترام التخصص؛ فكما أن الأمور الطبية التفصيلية لا بد أن
تترك للأطباء فإن العلوم الشرعية والفتيا لا بد من أن تُحال إلى العلماء وطلبة العلم
والعجب أن أكثر الناس تجرؤاً على القول بالرأي في الأمور الطبية هم العوام
الذين قل عقلهم وعلمهم، وأما العقلاء من الناس فإنهم عادة ما يرجعون الأمر إلى
أهله من الأطباء، وأما العلوم الشرعية فكأنها مشاع يضرب فيها كل أحد بما يشاء
سواء من العوام والمتعالمين، مع أنها أعظم العلوم قدراً عند الله، وأكثر العلوم
تأثيراً في حياة الناس، ولكن حمزة لا بواكي له!
6 - لا بد كذلك من احترام التخصص الدقيق؛ فإن المعرفة الطبية قد اتسعت
اتساعاً عظيماً ولم يعد بوسع أحد أن يحيط بكل دقائق العلم. فإذا آلمك ضرسك فإن
المتصور أنك تذهب إلى طبيب الأسنان وليس إلى طبيب الأطفال! وكذلك في
العلوم الشرعية؛ فإن التخصص الدقيق مطلوب بل هو واقع فرض نفسه. فلا
ينبغي لمن أعجب بخطبة خطيب جمعة أن يستفتي الخطيب في دقائق المعاملات
الاقتصادية إلا أن يعلم أنه مؤهل وهكذا؛ لأن العالم أو الداعية قد يكون إماماً مجتهداً
في فرع من العلم مقلداً في الآخر، ولا يضيره ذلك، بل ينبغي أن يزيد من ثقة
الناس به. وكذلك يستحسن طلب الفتيا من العالم الموجود في المجتمع ذاته الذي تقع
فيه المسألة لاطلاعه على الأحوال ومعرفته مواقع الحال.
7 - لو نظرنا إلى الاختلاف الكبير بين علماء الطب، ومناقشاتهم الحامية
التي لا تهدأ والناتجة عن الكم الهائل من الأبحاث العلمية التي تزج بها المطبعات
على الرفوف لرأينا أن هذا الاختلاف في معظمه مبني على ما بينا بعضه فيما
مضى من المعرفة بالبحث وصحته وقوته وكيفية فهمه وطريقة تطبيقه. وإن هذه
الأسباب في الغالب هي نفس الأسباب التي تؤدي إلى الخلاف الفقهي بين العلماء
الشرعيين، فلماذا يعتبر الخلاف الطبي أمراً مقبولاً ونقاشاً علمياً بينما يعتبر
الخلاف الفقهي المنضبط تفريقاً للأمة وضيقاً في الأفق؟ ولماذا تتعالى الأصوات
المتشنجة منادية بضرورة توحيد آراء الفقهاء على قول واحد وأَطْرِ الناس عليه
أطْراً بينما تتخافت هذه الأصوات عن الدعوة إلى التوحيد لآراء الأطباء على
تشخيص واحد وعلاج واحد؟
وبالمقابل، فكما أن الخلاف المذموم بين الأطباء وإعطاء بعضهم آراء
مناقضة تماماً لآراء الأطباء الأخرين، كما أن ذلك يقلل من ثقة الناس بالأطباء
عموماً ويصرف الناس عنهم؛ فإن الخلاف بين الفقهاء إذا خرج عن أطره العلمية
وضوابطه الشرعية فإنه يقلل من ثقة الناس بالعلماء ويصرفهم عنهم.
8 - كلما ازداد عالم الطب تبحراً في الأبحاث الطبية والأدلة العلمية كلما كان
في العادة أكثر تواضعاً وأقل تشنجاً لرأيه بل قد يطلب من المريض أخذ رأي طبيب
آخر؛ فإن الأمر مماثل بالنسبة للعلماء الربانيين المتبحرين في العلوم الشرعية؛
فإنهم أوسع الناس بالخلاف صدراً وأقلهم تعصباً.
إن أمتنا الإسلامية تمتلك كنزاً معرفياً ثميناً لا تملكه أمة أخرى، وتحتضن
تراثاً علمياً ضخماً، وإذا كان الغربيون اليوم يتشدقون بالمنهج التجريبي وبأصول
البحث العلمي واستنباط الحقائق فإن أصول ذلك كله موجودة في إرثنا الثقافي، وإن
كانوا قد تعاموا عن الدلائل الواضحة على التأثير الكبير الذي تركه الفكر الإسلامي
على الفكر الغربي الحديث؛ فإن من واجبنا أن ننفض نحن الغبار عن الحقائق،
ونرفع الرأس عالياً، ونستل الهمم من أغماد الذل والتبعية، فنقدم للبشرية هذه
الأسس بصياغة إسلامية متوضئة متطلعة إلى السماء، موضوعية في بنائها، جذابة
في عرضها. وإن ذلك لمهمة ما زالت كسيفة تنتظر فارس الأحلام!(154/134)
متابعات
تاريخ نيجيريا
رؤية أخرى
تعقيب على مقال أحداث نيجيريا
إبراهيم محمد نتعالى
فقد قرأت في مجلتكم في عددها المائة والخمسين (150) ، ص 122 مقالة
بعنوان: (الأحداث الأخيرة في نيجيريا الخلفيات والحقائق) بقلم بلال عبد الله،
وهي مقالة رائعة في عمومها وجديرة بالنشر في مضمونها؛ حيث احتوت على
كثير من المعلومات الصادقة عن نيجيريا بدءاً بتاريخ خروج المستعمرين منها
وانتهاءاً بما قام به النصارى الحاقدون قبيل حج هذا العام من شغب عنيف في مدينة
كدونا حرسها الله.
بيد أن مقدمة المقالة تحتوي على أخطاء تاريخية فادحة وخصوصاً فيما يتعلق
بحديث الكاتب عن كبريات قبائل نيجيريا، ولهذا أردت التنبيه إلى هذه الأخطاء
وتصحيحها؛ لكي تكتمل فائدة المقالة، فأقول وبالله التوفيق:
قوله: «والنيجيريون عدة قبائل هي ... » ثم ذكر خمس قبائل فقط وهذا
خطأ؛ لأن قبائل نيجيريا تربو على ثلاثمائة قبيلة لكل منها لغة مستقلة، علماً بأن
بعض هذه القبائل صغير جداً؛ حيث لا يتجاوز أفرادها خمسين ألفاً أو يزيد بقليل.
بيد أن القبائل الرئيسة تتمثل في خمس قبائل وهي:
هوسا، ويوربا، وإيبو، وفُولْبِي (فلاتة) ، وكانوري. وتتمركز قبيلة
هوسا في شمال البلاد، ويوربا في الجنوب الغربي من البلاد، وإيبو في الجنوب
الشرقي، وفولبي في شمال البلاد ويوجد لها أفراد من الرُّحَّل أصحاب المواشي في
جميع مناطق البلاد. وأما قبيلة كانوري فتتمركز في شمال البلاد وخصوصاً في
الشمال الشرقي.
قوله: «الإيبو في الشرق وهم بالنسبة لليوربا متخلفون» أقول: إطلاقه
(الإيبو في الشرق) خطأ وإنما هم في الجنوب الشرقي. وقوله: (وهم بالنسبة
لليوربا متخلفون) وهذا خطأ أيضاً؛ لأن إيبو لا يوصفون بالتخلف مقارنة مع يوربا
من النواحي الحياتية: الاجتماعية والاقتصادية والمهارات المهنية والسياسية، بل
وحتى من الناحية التعليمية والثقافة الغربية، رغم كل ما ذاقوه من مرارة الهزيمة
في الحرب الأهلية، بل لو قال قائل عكس المذكور لكان أقرب إلى الصواب.
قوله: (وأسلم لله الإيبو، لكن لم يجدوا من يعلمهم الدين الصحيح سوى
الصوفية من القادرية والتيجانية) أقول والحق يقال: إن قبيلة إيبو إلى الآن
وللأسف الشديد لم يعتنق الإسلام منها سوى نزر يسير، وليس من الصواب أن يقال:
إن هذا النزر إنما دخل الإسلام على أيدي المتصوفة، بل يمكن القول: إن معظم
من اعتنق الإسلام منها إنما اعتنقه على أيدي غيرهم من السلفيين وجمهور المسلمين.
وقوله: (والهوسا وأكثرهم في الشمال وهم ليسوا جنساً قائماً بذاته إنما هو
اصطلاح لغوي يطلق على الشعوب التي تتكلم لغة الهوسا، وكانوا وثنيين قبل أن
يتحولوا إلى الإسلام على يد الفولانيين، وهم عدة إمارات يحكمها ملك أو أمير
يعاونه بعض الوزراء، وهم يعملون بالتجارة لكنهم متأخرون، وتنتشر بينهم
الصوفية التي ترى إبقاء التصوف سائداً بينهم لتضمن انقيادهم لها) .
قوله: (وهم ليسوا جنساً قائماً بذاته إنما هو اصطلاح لغوي يطلق على
الشعوب التي تتكلم لغة الهوسا) أقول: هذا كلام يجانبه الصواب؛ فإن قبيلة هوسا
قبيلة معروفة قائمة بذاتها متماسكة الأطراف ذات لهجات متقاربة جداً بخلاف غيرها
من القبائل المذكورة كقبيلة يوربا، وفولبي (فلاتة) فإن بعض لهجات هاتين
القبيلتين غير مفهومة عند بعض أفرادهما لشدة تباينها. وأظن أن الذي يحمل بعض
من لم يعرف عن قبيلة هوسا سوى اليسير على هذه الدعاوى هو كون لغة هوسا
هي اللغة المهيمنة في شمال نييجيريا، بل وفي معظم مناطق نيجيريا رغم ما يشاهد
من بعض المقاومة من هنا وهناك في بعض الولايات، وكذلك هيمنتها في جمهورية
النيجر وفي مناطق شاسعة في كثير من دول غرب إفريقيا ووسطها؛ ذلك لأنها لغة
سهلة جداً تشبه في سهولتها اللغة السواحلية المنتشرة في شرق إفريقيا وبخاصة في
جمهورية تنزانيا، وكينيا، ويوغندا.
وقوله: (كانوا وثنيين قبل أن يتحولوا إلى الإسلام على يد الفلانيين) لا
أدري ما مراد الكاتب بذلك؟ وهل أراد أنهم كانوا وثنيين قبل مئات السنين ثم
اعتنقوا الإسلام فيما بعد، أو أنهم لم يعتنقوا الإسلام إلا في وقت متأخر كغيرهم من
بعض الشعوب المجاورة؟ فإن أراد الأول فذلك صحيح، وإن أراد الثاني فقد جانب
الحق؛ لأن قبيلة هوسا كانت قد قبلت الإسلام منذ مئات السنين ولها إمارات عديدة
مشهورة يقودها أمراء مسلمون هوساويون، وقد كان بين هؤلاء الأمراء وخصوصاً
أمير (كانو) وأمير (كستنا) وبين بعض العلماء الأجلاء في العالم الإسلامي
كالشيخ العلامة جلال الدين السيوطي والشيخ العلامة المغيلي مراسلات، ومن
المعروف أن العلاَّمة السيوطي توفي سنة 911هـ.
وقوله: (قبل أن يتحولوا إلى الإسلام على يد الفلانيين) أقول: إن هذا
الإطلاق ليس بجيد، صحيح أن قبيلة هوسا استفادوا من بعض علماء فولبي (فلاتة)
لكن لا يقال إنهم أسلموا على يد فلاتة، والصحيح أن يقال إن الإسلام دخل بلاد
هوسا من جهتين رئيستين: الجهة الشرقية على يد كانوري قادة دولة بورنو،
والجهة الشمالية على يد الونغريين (بمبرا) وفولبي (فلاتة) والذين جاؤوهم من
بلاد مالي وما جاورها. وأظن أن سبب هذه المغالطات من بعض من ليس له إلمام
كاف بتاريخ المنطقة هو ظنهم أن قبيلة هوسا إنما أسلمت على يد الشيخ العلاَّمة
المجدد عثمان بن فودي إبان جهاده ضد الخرافات والخزعبلات والبدع المنتشرة في
بلاد هوسا، ولم يعرفوا أن جهاد الشيخ عثمان بن فودي متأخر جداً عن دخول
الإسلام في بلاد هوسا.
وقوله في قبيلة هوسا: (وتنتشر بينهم الصوفية) أقول إن هذا القول ليس
بشيء؛ لأن انتشار الصوفية للأسف الشديد ليس حكراً ولا قصراً على أوساط قبيلة
هوسا وبلادهم، وإنما هو ظاهرة عمت بها البلوى في معظم الدول الإسلامية، ولك
أن تنظر إلى بلاد مصر ودول المغرب العربي.
قوله: (الكانوري: في الشمال وهي قبائل متمسكة بدينها ولها طلاب
يدرسون في الأزهر وهم خليط من العرب والحاميين والزنوج، ومن أشهر قادتهم
الداعية الإسلامي المعروف: عثمان بن فودي) . قوله: (ولها طلاب يدرسون في
الأزهر) أقول هذا الوصف لا تتميز به قبيلة كانوري عن غيرها من معظم القبائل
المذكورة وعليه فلا فائدة في ذكره.
قوله: (ومن أشهر قادتهم الداعية الإسلامي المعروف: عثمان بن فودي)
أقول: لست أدري كيف حصل هذا الغلط الفاحش من الكاتب؟ فإن الداعية المصلح
عثمان بن فودي من قبيلة فولبي (فلاتة) وليس من قبيلة كانوري، بل إن جهاده
ضد الخزعبلات قد هدد دولة كانوري بالزوال حيث انتزع منها أطرافاً شاسعة.
وقوله: (والفلاني وهم أصلاً من صعيد مصر وفدوا لتلك المناطق وحكموا
مملكة تكرور) قوله: (وهم أصلاً من صعيد مصر) أقول قد سئمنا من مثل هذه
الدعاوى: أن فلاتة من صعيد مصر أو فارس (إيران وما جاورها) وأن يوربا
وكانوري من اليمن، وأن هوسا من القرن الإفريقي (إثيوبيا وما جاورها) وكأن
البشر لا يقام لهم وزن إلا إذا اتصلت أصولهم بهذه المناطق المذكورة!(154/140)
متابعات
تعقيب على فتوى التوسل بالأنبياء والصالحين
بدر بن علي بن طامي العتيبي
اطَّلعت على فتوى لجماعة ممن ينتسب إلى العلم حول مسألة التوسل بالأنبياء
والصالحين [*] ، فلما قرأتها رأيت فيها المخالفة الصريحة لمذهب أهل السنة
والتوحيد المستند إلى القرآن والسنة وكلام الصحابة وأئمة الدين، وقد علقت عليها
على عجالة ببعض الوقفات التي توضح لطلاب الحق بطلان هذه الفتوى، فأقول
مستعيناً بالله:
الوقفة الأولى: اعلم أرشدك الله إلى الحق أن مسألة التوسل بذوات المخلوقين
من المسائل التي حصل فيها الخلاف مؤخراً بين أهل العلم، على أن مذهب السلف
المتقدمين في القرون المفضلة هو عدم فعل ذلك، ولم ينقل عن واحدٍ منهم أنه توسل
بذات نبي ولا رجل صالح من سائر الناس، بل المنقول عنهم هو خلاف ذلك كما
قال الإمام أبو حنيفة فيما نقل القدوري عنه أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا
به، وأكره أن يقول: «بمعاقد العز من عرشك» أو يقول: «بحق خلقك» .
وما وجد عن بعض السلف من لفظ التوسل فالمراد به عند التحقيق هو التوسل
بدعائهم كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله.
الوقفة الثانية: التنبيه على أن كثيراً من أهل الجهل والهوى يخلط بين معنى
التوسل والاستغاثة، ويسمي طلب جلب الخير ودفع الشر من الأولياء والصالحين
توسلاً، ويغالطون أنفسهم ويقولون: نحن لا ندعوهم وإنما نتوسل إلى الله بهم،
وصريح دعائهم أنهم ينادونهم ويستغيثون بهم ويقولون: يا فلان! أغثني، يا بدوي!
المدد، أنا في حسب الله وحسبك، يا فلان! ردّ غائبي.
وهذا كله نداء واستغاثة ولا ينطبق عليه مسمّى التوسل لا لغة ولا عرفاً
مستقيماً، وتمويههم بأن ما فعلوه توسل هو من جنس تمويه مشركي قريش الذين
يدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؛ فهم يقولون كما حكى الله عنهم:
[مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] (الزمر: 3) وهم في الحقيقة قد أشركوهم
مع الله في جلب الخير ودفع الشر بل في الخلق والرزق وشؤون الربوبية! ! ولهذا
نبّه المحققون من العلماء على التفريق بين معنى التوسل ومعنى الاستغاثة؛ فالوسيلة
هي أداة للوصول إلى المقصود، أمّا الاستغاثة فهي طلب الحاجة مباشرة من
المنشود، ولهذا فإن الاستغاثة بالمخلوق عند أهل التحقيق من الشرك الأكبر المخرج
من الملّة، وهو دين أبي جهل وأبي لهب، أمّا التوسل بذوات المخلوقين فهو من
البدع المنكرة.
الوقفة الثالثة: قولهم في الفتوى المشار إليها آنفاً: «نعم يجوز التوسل إلى
الله تعالى بالأنبياء والصالحين، وهو مشروع» .
وفي هذا الإطلاق من المفتين نظر، وكان من تمام الأمانة الإشارة إلى وقوع
الخلاف ولو بشيءٍ يسير؛ وخاصة أن في كلام السائل ما يستدعي ذكر هذا الخلاف،
وهو قوله: «ولا غبار عليه» ، فكان من المتحتم عليهم تصحيح هذا الرأي
عنده بأن المسألة مقام خلاف لا اتفاق، على أن الصواب عندنا أن الخلاف فيها
محدَثٌ منهم، والأصل عدم شرعية هذا النوع من الدعاء كما سيأتي إيضاحه أكثر.
الوقفة الرابعة: قولهم: «وهو مشروع لقوله تعالى في سورة الإسراء:
[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: 57)
الوسيلة: القربة. وقيل: الدرجة، وقوله: [أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: 57)
معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به» انتهى! ! !
فأقول: تفسير الوسيلة بالقربة والدرجة والزلفى هو ما عليه أهل التفسير كما
في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ] (المائدة:
35) الآية، ولكن ليس المراد به ما ذكروه هنا من أن المراد به التوسل بذات
المخلوقين أو حتى جاههم، وإنّما معنى الآية عند أهل التفسير قاطبة: أن الله
تعالى لمَّا عاب على المشركين في الآية التي قبلها آلهتهم عندما قال: [قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً] (الإسراء:
56) وبين فيهم القصور عن درجة الألوهية أبان لهم نقصاً آخر في آلهتهم لا
يستحقون به أن يُعبدوا من دون الله، وهو أنهم أي الذين تعبدونهم من دون الله
فقراء إلى الله يسعون إليه بالقرب والدرجات والأعمال الصالحة أيهم ينال القرب
منه بالعمل الصالح. وهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه؛ فمن كان مفتقراً إلى
غيره راجياً رحمته خائفاً من عذابه لا يستحق أن يُعبد من دون الله.
هذا الذي عليه أهل التفسير قاطبة في معنى هذه الآية كما ذكره الطبري في
تفسيره (8/95) والقرطبي كذلك (10/181) ، وابن كثير (5/86) ،
والسيوطي (5/306) ، والشوكاني (3/237) ، وغيرهم، ولم ينقل عنهم خلاف
في هذه الآية إلا في سبب نزولها، وأصح ما روي في ذلك ما رواه البخاري
ومسلم عن ابن مسعود أنها نزلت في أناس كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم
أولئك النفر، وبقي الإنس على عبادتهم من دون الله، وقيل في سبب نزولها أقوال
أخرى، والمقصود أن الآية ليس فيها دليل على طلب الوسيلة من المخلوق. أمّا
قولهم في معنى قوله سبحانه: [أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: 57) أي: ينظرون
أيهم أقرب إلى الله منزلة فيتوسلون به؛ فهذا من أعجب العجب بل ومن أبطل
الباطل، ولو كان المراد بذلك ما قالوه لكان معنى الآية: [يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: 57) بزيادة (من) ، وأهل التأويل على
خلاف ذلك، قال القرطبي (10/181) : (يبتغون يطلبون من الله الزلفة والقربة،
يتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة، أعلمهم الله تعالى أن
المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم) . المقصود أن الآية صريحة لمن حمى الله قلبه
من علائق الجهل والهوى، وأن المراد ما سبق بيانه من أن آلهتهم التي يعبدونها من
دون الله تطلب الوسيلة بالأعمال الصالحة إلى الله للقرب منه.
الوقفة الخامسة: استدلالهم بحديث الأعمى عن عثمان بن حنيف رضي الله
عنه والحديث صححه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي وصححه الطبراني والحاكم ووافقه
الذهبي.
ولي في هذا الكلام نظرتان: في الدليل، وفي الاستدلال:
النظرة الأولى في الدليل: أن هذا الحديث عند النظر والتحقيق يتبيّن للخبير
بالعلل أنه معلول لا يثبت، وإن صححه من صححه؛ وذلك للاضطراب في إسناده
على وجوه عدّة ليس هذا مقام ذكرها الآن، وقد أشار إلى بعض ذلك الحافظ الإمام
النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 204، 205) ، ويضاف إلى ذلك الاضطراب
في بعض ألفاظ متنه؛ فتارة يذكر قوله: (يا محمد) وتارة لا يذكرها، وتارة يقول
فيه: «اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه» وتارة: «وشفعني في نفسي» وتارة يزاد
فيه قوله: «وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك» وتارة لا تذكر. وزيادة على
ذلك انفراد راويه به وهو أبو جعفر وليس هو الخطمي عمير بن يزيد بل هو رجل
آخر كما قال الترمذي، ويتبيّن ذلك لمن جمع طرق الحديث كما أوضحت ذلك في
غير هذا المقام.
أما النظرة الثانية وهي في الاستدلال: فعلى فرض صحة هذا الحديث فليس
فيه دليل على أنه توسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم ولا بقربه وجاهه
عند ربه، والكلام عن معناه بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى،
لقول الأعمى في أول الحديث: (يا رسول الله! ادعُ الله أن يشافيني) ، فعلّمه
النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، ودعا له بدليل قوله في آخر الحديث:
(فشفعه فيَّ) أي اقبل شفاعته فيَّ، والتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم جائز
، بل وبدعاء كل رجل صالح كما هو حال الصحابة في الاستسقاء ومن أحس
بمرض يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله! ادع الله أن
يسقينا أو أن يشافيني) ، وهذا خاص بحياته كما سيأتي قريباً في الكلام على
استسقاء عمر رضي الله عنه بالعباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجواب الثاني: أن هذه قضية عين لا عموم لها، خاصة بالأعمى؛ ولو
كان شفاؤه بمجرد هذا الدعاء لتعلّمه عميان الصحابة والتابعين وما أغفلوه، ولما كان
من بينهم عميان، فعلم بذلك خصوصية هذا الأعمى بذلك الدعاء؛ إذ إنه جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الله على يده تلك المعجزة، ولهذا ذكروا هذا
الحديث في أحاديث دلائل النبوة.
الوقفة السادسة: قولهم: (ولا فرق في ذلك بين حياتهم ومماتهم؛ ذلك لأن
التوسل في الحقيقة ليس بذواتهم المجردة وإنما هو بما لهم من منزلة ومكانة وجاه
عند الله وهو باقٍ في الحياة وبعد الممات) .
أقول: قولُهم بعدم الفرق بين الحياة والممات في ذلك؛ لأن التوسل إنما هو
بمنزلتهم لا بمجرد ذواتهم قولٌ لا يستند إلى دليل بيّن؛ بل الواقع خلافه؛ فمَنْ من
الصحابة أو من التابعين توسّل إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من
الصالحين؟ ثم ما السبيل لإثبات أن فلاناً من غير الأنبياء له جاه عند الله، حتى لو
كان ظاهره السلامة والاستقامة؟ ولو أطلقنا له ذلك لحكمنا له بالجنة؛ وهذا لا يقول
به سنيٌّ، بل حتى النبي صلى الله عليه وسلم على رفعة قدره عند ربه وعلو جاهه
لا يعتبر ذلك كافياً في تحقيق توسل الداعي به؛ فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في
حديث الشفاعة الطويل أن الناس يستشفعون به عند الله وهو المقام المحمود، ومع
ذلك لم يتم لهم الأمر بمجرد ذلك حتى يذهب صلى الله عليه وسلم إلى العرش
ويسجد تحته ويدعو الله لهم.
إذن فمجرد التوسل بالذات أو بالجاه لا يعتبر كافياً في تحقيق المطلوب، والله
أعلم.
الوقفة السابعة: قولهم: (أيضاً لعموم الآية السابقة وغيرها كقوله: [وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً
رَّحِيماً] (النساء: 64) وكلٌّ من المجيء والاستغفار واقع في سياق الشرط يدل
على العموم كما هي القاعدة الأصولية لا نعلم في ذلك خلافاً) .
أقول: هذه الآية عند أهل العلم خاصة بالمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى أخبر أن أولئك المنافقين لو أنهم جاؤوا إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم وأعلنوا توبتهم لوجدوا الله تواباً رحيماً، وهذا خاص بحياته
صلى الله عليه وسلم.
أما ذكرهم للقاعدة الأصولية تلك وهي: (أن الفعل في سياق الشرط يفيد
العموم) ، فتفخيم وتضخيم وتلبيس على المستفتي؛ فليس في الكلام شرط ولا
للشرط له فيه رائحة، والآية صريحة في المعنى لمن أعطاها أقل تدبر، بل لم
يشترط الله عليهم المجي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يستغفر لهم.
الوقفة الثامنة: قولهم: (ومما يؤيد ذلك الحديث المتقدم يعنون حديث عثمان
بن حنيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الضرير الدعاء ولم يقيّده بزمن أو
يخصصه بأحد؛ وهذا ما صرحت به رواية ابن أبي خيثمة الصحيحة أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما علّم الضرير المذكور قال له: «وإن كانت لك حاجة فافعل
مثل ذلك» فهذا تصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتوسل في سائر
الأحوال «.
أقول: ولي في هذا الكلام نظرات:
النظرة الأولى: كون النبي صلى الله عليه وسلم فَهَّم أن حديث الأعمى عامٌّ له
ولغيره، وأنه لم يخصص بوقت ولا بشخص، وهذا باطل شرعاً وقدراً كما قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه
مطابق لخلق الله. قال شيخ الإسلام في رسالته المصرية في التوسل، وقد ذكرها
في كتابه (التوسل والوسيلة، ص 259) : والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا
له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما
كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال في دعائه:
» اللهم فشفعه فيّ «ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه؛ فلو
كان التوسل به حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول صلى الله عليه
وسلم، كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به، وهو أفضل الخلق
وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله،
وكذلك لو كل أعمى توسل به ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة ذلك
الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن
هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛
فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وبما يشرع من الدعاء وينفع،
وما لم يشرع ولا ينفع» .
والنظرة الثانية: قولهم: «وهذا ما صرحت به رواية ابن أبي خيثمة ... إلخ»
ويجاب عن كلامهم بجوابين:
الأول: أن هذه الزيادة مما تفرد بها مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة، وقد
رواها جماعة من الحفاظ بغير هذه الزيادة، ولعلها وَهْمٌ من حماد بن سلمة يرحمه
الله فإنه على جلالته وشرفه في العلم، إلا أن له بعض الوهم في بعض الحديث،
ولهذا لم يخرِّج له البخاري في صحيحه، ولم يحتجَّ به مسلم وإنما يذكره متابعةً،
وقد تقدم أن الحديث غير ثابت عند التحقيق، ولو قلنا بثبوته لصارت هذه الزيادة
شاذة، والله أعلم.
والجواب الثاني: أنه على فرض صحة هذه الزيادة؛ فالكلام خاص بهذا
الأعمى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال له: «فإن كانت لك حاجة
فافعل مثل ذلك» ، ولم يقل: «ومن كانت له حاجة فليفعل مثل ذلك» ، والمراد
بقوله: «فافعل مثل ذلك» أي: صلِّ ركعتين وتوسل إلى الله بهذا الدعاء لقبول
شفاعتي فيك.
النظرة الثالثة: قولهم: «فهذا تصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم
بالتوسل في سائر الأحوال» أقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب
عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ، ومن الكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم حمل كلامه على غير محمله ومراده، وكان يسع الإنسان السكوت: [آللَّهُ
أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس: 59) ، فأين التصريح من الرسول عليه
الصلاة والسلام بالتوسل به أو بغيره من الصالحين؟ وانظر كيف أطلقوا التوسل
وقالوا: «فهذا تصريح.. بالتوسل في سائر الأحوال» ، ولم يقيدوه بالنبي صلى
الله عليه وسلم، لكي لا ينتقض عليهم مذهبهم في التوسل ببقية الأولياء والصالحين
الأحياء والميتين؛ فأين الصحابة عن هذا الدعاء لو صحّ ثبوته أو معناه الذي
يقولون: هل غفلوه في أمراضهم وحروبهم وخلافاتهم ونوائب الدنيا ومصائبها؟ !
الوقفة التاسعة: قولهم: «وهذا ما فهمه الحفاظ والمحدثون؛ فإنهم فيما اطلعنا
عليه من مصنفاتهم الحديثية والفقهية يوردون هذه القصة تحت باب الدعوات
والأذكار غالباً» .
أقول: وصنيعهم ذلك لا يكون حجة لوجهين:
الأول: أن من ذكره ممن صنّف لم يشترط ذكر الصحيح في كتابه، ولهذا لم
يخرجه أحد ممن ألف في الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان وابن خزيمة حتى
النسائي على تشدده لم يخرجه في السنن، وإنما أخرجه في عمل اليوم والليلة ولم
يشترط فيه الصحة، وإخراج الحاكم له لا يعتبر حجة في صحته؛ إذ إن الحاكم
مفرط في التساهل ولا يعتبر أهل العلم بتصحيحه؛ ففي كتابه الضعيف والموضوع
مع اشتراطه الصحة؛ والمقصود أن نقل الحفاظ للحديث في مصنفاتهم لا يدلّ على
العمل به، وإنما هو من باب الرواية وجمع الحديث على الرواة والأبواب.
الثاني: أنهم عندما أخرجوه لم يقل واحد منهم إنه عامٌّ في كل وقت، ولو قيل
ذلك لم يقل أحد إنه دليل على التوسل بكل أحد؛ وبينهم وبين إثبات ذلك خرط
القتاد! !
الوقفة العاشرة: قولهم: (وأمّا الأدلة من الآثار فهي كثيرة أيضاً منها: توسل
عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري، وقد قال ابن
حجر في الفتح بعد هذه القصة ما نصّه: «يستفاد من قصة العباس استحباب
الاستنفاع بأهل الصلاح والخير وبيت النبوة» ) .
أقول: استدلالهم بأثر عمر بن الخطاب هذا حجة عليهم لا لهم؛ فعمر لم
يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كما يقولون، ولو كان متقرراً عند
الصحابة جوازه لما عدل عمر عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل
بالعباس رضي الله عنه، وعمر صنع هذا بمحضر من الصحابة من المهاجرين
والأنصار ولو جاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لنبهوا عمر إلى ذلك. ومراد
عمر بالتوسل بالعباس أي بدعائه فيقوم العباس ويدعو لهم لفضله، كما كان
الصحابة يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في نزول المطر، حين يقدم عليه
أحدهم ويقول: يا رسول الله! ادع الله أن يسقينا، فيدعو لهم فيمطَرون، كما ثبت
ذلك في الصحيح.
وقد حصل لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عندما استسقى بيزيد بن
الأسود الجرشي فقال: «اللهم إنا نستشفع أو نتوسل بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك،
فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا» روى هذه القصة غير واحد، وانظر
تاريخ أبي زرعة وطبقات ابن سعد وتاريخ الفسوي.
وعلى هذا ينزل عبارة العلماء في كتبهم من قولهم: «يستحب أن يستسقى
بأهل الصلاح والفضل» ؛ لأن الناس مفتقرون إلى الإجابة في ذلك الموقف،
فيقدمون أصلحهم فيدعو لهم رجاء الإجابة.
الوقفة الحادية عشرة: نقلهم من تاريخ الخطيب (1/120) قصة أبي علي
الخلاَّل وما قاله: «ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر الكاظم فتوسلت به
إلا سهّل الله لي ما أحب» ، وهكذا ما ذكر من قول إبراهيم الحربي: قبر معروفٍ
الترياقُ المجرّب «.
أقول: كل ما نقلوه حيلة للضعيف، وكلها قصص خرافية باطلة صحت عن
أصحابها أم لم تصح، مخالفة للكتاب والسنة وسيرة الموحدين الأبرار؛ ففي قصة
الخلاَّل الأولى غلو في أصحاب القبور، وما هلكت الأمم من قبلنا إلا بالغلو في
الصالحين وقبورهم، كما ثبت في الحديث، وقوم نوح عندما عبدوا ودّاً وسواعاً
ويغوث ويعوق ونسراً، كانوا يغلون في قبورهم حتى صارت أوثاناً تُعبد من دون
الله كما ثبت عن ابن عباس في الصحيح، واللات التي عبدها مشركو قريش كان
رجلاً يلتّ السويق للحجاج، فمات فعكفوا على قبره فعبدوه كما روى ذلك ابن جرير
بسنده في تفسيره، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد؛
ومن اتخاذها مساجد تحرّي الدعاء عندها والصلاة، كما نهى عن شد الرحال إلى
القبور كما جاء من النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، وإنكار أبي
هريرة على الرجل شدّه للرحل إلى الطور على شرف ذلك الموقع واستدلاله عليه
بهذا الحديث.
المقصود أن ما حصل من هؤلاء مخالف للكتاب والسنة من أكثر من وجه،
ومن قلدهم في ذلك وضرب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط،
فليرتقب ما في قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور: 63) ، وقال: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيراً] (النساء: 115) .
الوقفة الثانية عشرة: نقلهم بعض كلام أهل العلم في ذلك، كالنووي وابن
حجر ممن يذهبون إلى ما ذهبوا إليه، وإن كان نقلهم ذلك احتجاجاً منهم علينا؛
فعندنا من الرجال من قد منع ذلك كما تقدم نقله عن أبي حنيفة، وكما قال العز بن
عبد السلام وهو من أئمة الشافعية: (لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه،
إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صحّ الحديث) ، وهكذا ابن تيمية وابن
القيم وجماعة من السلف صرّحوا بذلك، ولكن ليس هذا مسلكنا عند الخلاف أن
نحتج بأقوال الرجال؛ لأن كلامهم عندنا يستأنس به ولا يؤخذ حجة، والرد عند
حصول النزاع لا يكون إلا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال
تعالى: [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] (النساء: 59) ، قال
أهل العلم كمجاهد وغيره: الرد إلى الله: أي إلى كتابه، والرد إلى رسوله: أي
إليه حياً وإلى سنته ميتاً.
وعلى هذا كان من مسلك المسلم الناصح لنفسه عند وقوع الخلاف النظر إلى
أدلة الشرع، ثم الاستئناس بعدها بقول كل أحد، أمّا أن يخالف في مسألةٍ مَّا محتجاً
علينا بقول فلان وفلان فهذا من أبطل الباطل، بل هو من جنس دين اليهود
والنصارى الذين: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة:
31) يحلّون لهم ما حرم الله، ويحرمون لهم ما أحل الله، وهم يقلدونهم ويتبعونهم
وبعض العلماء حكيت عنهم مسائل خالفوا فيها السنة الصحيحة الصريحة، بل
ربما صريح القرآن؛ ومع ذلك لا يعتمد على قولهم مع بقاء قدرهم؛ لأنهم بين
الأجر والأجرين، ولو كانوا من الصحابة كما قال ابن عباس في مسألة خولف فيها
وقالوا أبو بكر وعمر، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ وقال الإمام
مالك: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردّ إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى الله
عليه وسلم.
أصلح الله شأن الجميع، وهداهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والتمسك بما
فيهما، والعناية بالتوحيد علماً وتطبيقاً، والحذر من الشرك قولاً وعملاً واعتقاداً،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) نشرتها مجلة (الإصلاح) في الإمارات، في العدد الصادر في 21 جمادى الأولى 1420هـ.(154/142)
بأقلامهن
إضاءات عاجلة نحو النهوض بمستوى المرأة
فاطمة بنت محمد السليمان
إن القلب يذوب حسرة، ويتفطر ألماً على واقع المرأة المسلمة وكيف أنها
تسير وفق مخططات الأعداء، تُلدَغُ من الجحر نفسه مرة بعد مرة، لا تروعها
التجارب، ولا تعتبر بغيرها، تراها تسير بنفس خطوات أختها التي ذاقت مرارة
الحرية المزعومة حينما عصت الله ورسوله، وتخلت عن عبودية ربها.
تسير في طريقها، وهي تسمع صيحات الغيورين، وتحذيرات العلماء متبعة
هوى نفسها كأنما على بصرها غشاوة. وقد أدرك الأعداء أهمية دور المرأة،
وكيف أن كأساً وغانية تفعل في أمة محمد ما لا يفعله سيف ومدفع، كما جاء في
بروتوكولات حكماء صهيون؛ ولذلك فقد جلبوا للمرأة قضية تحتاج إلى دفاع،
ونصبوا أنفسهم مدافعين عنها مع أن قضية المرأة لا يكابر في الحق فيها إلا ذو
هوى كما يذكر الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله فهذا إما مراهق لا يفكر إلا في
أهوائه الجنسية، أو كاتب يرى في إرضاء غرور المرأة ودغدغة عواطف
المراهقين والمراهقات طريقاً إلى رواج كتاباته، وطاغية يتقرب للغرب بأنه متجدد
غير متعصب.
وما زادنا هذا التذبذب عزة ... ولكن حصدنا دونه الشوك والعنا
أقول إن الناظر في هذا الواقع المرّ لا يملك إلا أن يطلق زفرة وهو يقول:
تكتلت قوة الدنيا بأجمعها ... في طعنة مزقت صدري وما فيه
لكن البكاء والعويل لا يجدي، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحزن:
«بأنه إن أفضى إلى ضعف القلب، واشتغاله به عمَّا أمر الله ورسوله به كان
مذموماً عليه من تلك الجهة» .
بل إن الواجب هو العمل حسب الوسع والطاقة وفق خطط منظمة مدروسة
يحاسب المسلم فيها نفسه: ماذا قدم، وماذا تحقق من الأهداف؟ ليكون ذلك دافعاً له
إلى تقديم المزيد، أو إعادة النظر في خططه ووسائله، ونحو ذلك. وقد حاولت أن
أطرح بعض الأفكار للعمل للنهوض بمستوى المرأة المسلمة ومن ثَمَّ بمستوى الأمة:
أولاً: احتواء الشباب الصالح، والفتيات الصالحات ممن نجد عند كثير منهم
استعداداً للعمل والعطاء لكنه يريد من يوجهه، ويأخذ بيده، وذلك عن طريق
الدورات العلمية، واللقاءات الدورية، وهذه نقطة مهمة إذا أُعمِلت سدت كثيراً من
الثغور إذا ما أعطى كلٌّ في مجال تخصصه، وإذا أُهملت أهدَرت كثيراً من
الطاقات الفاعلة.
ثانياً: نشر العلم الشرعي الصحيح بين الفتيات والشباب خاصة؛ فإن أهل
الضلالة في هذه الأوقات الحرجة يدعون إلى باطلهم مصبوغاً بصبغة الشرع؛ فكم
قرأنا في الصحف لمن ينادي بتغيير هيئة الحجاب الشرعي الذي تلبسه المرأة في
بلادنا؛ لأنه لم ينزل من السماء بهيئته تلك، وماذا يحصل للحجاب لو أن العباءة
وضعت على الكتف؟ ! لأنهم يعلمون أنهم لو قالوا للمرأة المسلمة: انزعي حجابك
لقالت لهم: تباً لكم ولا كرامة. ولكن بهذه الخطوات الشيطانية تسايرهم المرأة،
وهي مرتاحة الضمير.
وكم قرأنا في الصحف والمجلات عمن ينادي بضبط تعدد الزوجات بضوابط
معينة كالراتب المالي، وغيره مما لم يُنزل الله به من سلطان [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً] (النساء: 3) ، ويذكرون في دعوتهم تلك روح الشريعة، وضوابط
الشريعة جهلاً منهم، أو مخادعة وهو الغالب؛ لأنهم لو راموا حكم الشريعة لسألوا
علماء الشرع. وكم قرأنا في الصحف عن الدعوة إلى تحديد النسل، وسلطة الرجل،
وتسلطه، ووجوب نزع الولاية من يده، وأن المرأة الآن أصبحت ذات مال
خاص يحق لها التصرف والخروج بدون إذن الرجل أو الرجوع إليه وتصوير
المرأة مظلومة مضطهدة في مجتمعنا ... إلخ.
وهم في طرحهم هذا يحاولون دغدغة مشاعر المرأة، والضرب على الوتر
الحساس.
أقول: إن المرأة المسلمة إذا قرأت مثل ذلك مما هو موافق لهوى نفسها
مصبوغاً بصبغة الشرع أخذته على علاته، وهي وإن لم تفعله إلا أن نفسها تتشربه
من حيث شعرت أو لا تشعر، وانعكس ذلك على تربية النشء في الأمد البعيد، كما
هو ظاهر الآن.
لذلك يجب إثارة المسائل نفسها التي تثيرها الصحف وذلك بالرد عليها بردود
علمية مؤصلة بالأدلة في الصحف نفسها التي وجدت فيها هذه المقالات إن أمكن،
أو في غيرها من وسائل الإعلام الممكنة.
ثالثاً: نشر الوعي بين الفتيات والشباب بمخططات الأعداء، والاعتبار بحال
المرأة المسلمة في كثير من البلاد الإسلامية، وما جنت على نفسها وعلى مجتمعها
من ويلات، وبدأت ترجع إلى حجابها، وتجدد عهدها بربها.
ويكون نشر الوعي عن طريق توضيح وسائل الأعداء، وضرب الصور
والأمثلة من الواقع.
وكما قيل: (عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه، ومن لا يعرف الشر يوشك أن
يقع فيه) .
كما أنه لا بد من الوعي بأن الأعداء أذكى من أن يدعوا إلى ما يريدون
بأنفسهم، بل إنهم ينصبون لذلك نساءاً ورجالاً من ذوي الفكر، بل ومن ذوي الدين
من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ ليكون لكلامهم وقع في النفوس على كثير من
فتيات المسلمين وشبابهم الذين هم في الغالب سليمو الصدر ناقصو الوعي،
وتوعيتهم بعداء اليهود والنصارى لنا بصور من عصرنا الحاضر الذي ينادون فيه
بالسلام وتوحيد الأديان، ويكون نشر ذلك الوعي بالذهاب إلى أماكن تواجد الشباب
والفتيات سواء أكان عن طريق الدروس والمحاضرات أو عن طريق الكتابة في
الصحف والمجلات والنشرات والإنترنت، أو عن طريق الحديث عن ذلك في
المجالس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعاً: مشاركة الناصحين والناصحات في شغل أوقات الشباب والفتيات بما
يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة خاصة أنه قد كثرت منافذ الشر التي تشغل
أوقاتهم ما شاؤوا من ساعات الليل والنهار من القنوات الفضائية والإنترنت والتي
تثير غرائزهم وتشعل شهواتهم، والقلب إذا امتلأ بالشهوة عمي العقل، وانتهكت
الحرمات لسد هذه الشهوات التي لا تجد لها في الغالب منفذاً مباحاً، وسد هذه
المنافذ غير ممكن في الغالب؛ لذلك لا بد من احتواء هؤلاء الشباب والفتيات
وترشيدهم، وإيجاد البدائل الممكنة بمشاركة كل ناصح وناصحة بأفكاره، وتفعيل
المناسب منها.
وينبغي أن يكون بذل هؤلاء الناصحين والناصحات خالصاً لوجه الله تعالى
لتظهر بركته، فيُقدم فيها كلُّ واحد منهم في فكره وعمله المصلحة على حظ نفسه،
مذكراً نفسه بين حين وآخر بهدفه الذي يسعى لتحصيله.
خامساً: توعية الآباء والأمهات بضرورة تربية النشء على العقيدة الصحيحة
والفقه في الدين، وتذكيرهم بعظم المسؤولية «كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته» [1] .
هذا بعض ما جاد به خاطري للنهوض بمستوى المرأة المسلمة، وهو وإن
كان بطيئاً كما يقولون إلا أنه أكيد المفعول؛ لأن تربية الفتيات والشباب
بالمحاضرات فقط التي تُلقى عليهم في الشهر أو نحوه مرة، مع أنهم يكونون قد
أمضوا أمام الشاشات أكثر ساعات اليوم كما تدل على ذلك الإحصائيات المذهلة
والتي ليس هذا مقام سردها أقول: إن التربية بالمحاضرات وحدها لمثل أولئك لا
تكفي، وخاصة أن التربية عن طريق هذه الشاشات يكون بأسلوب محبب للنفس
تتشربه من حيث لا تشعر.
وأخيراً وإن كان واقع الأمة الإسلامية الذي نعيشه اليوم من أسوأ عصورها،
وإن تكاثرت على هذه الأمة السهام، وتواترت مصائبها إلا أن الله متم نوره ولو
كره الكافرون، ولو كره المشركون.
ونحن أُمرنا بالعمل ولا ننتظر النتيجة، وإن كنا نحبها ونرجوها [وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود: 117) .
والله أسأل أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا وأن يصلحنا ويصلح بنا، وأن
يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم؛ إن ربي قريب مجيب.
__________
(1) رواه البخاري، ح/844.(154/150)
المنتدى
من الفائزين
رياض بن ناصر الفريجي
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال:
«قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى» .
[رواه أبو داود والنسائي]
وإن هاتين الشعيرتين العظيمتين تأتيان بعد موسمين زاخرين بأنواع من
العبادات والطاعات مما يجعل المسلم يفرح ويسرّ لإتمامه شيئاً مما فرضه عليه
خالقه ومولاه: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
(يونس: 58) .
وإن مما اعتاده الناس تبادل التهاني والدعوات في الأعياد والمناسبات.
ومن هذه الدعوات: من العايدين، من الفائزين.
ولما كان موسم العيد قريباً كان من الحسن أن نعرف أعمالاً تجعل هذا الدعاء
سديداً، وتيسر لنا الفوز حتى يكون سعينا رشيداً.
وإن قرآننا العظيم وهو دستورنا القويم قد أوضح في محكم آياته وسائل للفوز،
وبيّن حقيقته. فإلى هذا المعين الصافي ووقفات مع الآيات التي حوت كلمة
«الفائزين» جعلنا الله منهم برحمته وفضله.
قال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] (التوبة: 20) .
فبعد أن صحّ فهم الإيمان، وهجروا الأهل وتركوا الأوطان، وجاهدوا بالمال
والأبدان جازاهم الله بالرحمة والخلود في الجنان؛ كما في الآيتين التاليتين للآية
السابقة (21، 22) .
قال السعدي: أي لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب، إلا من
اتصف بصفاتهم وتخلّق بأخلاقهم.
قال تعالى: [إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ]
(المؤمنون: 111) .
يأتي هذا الخطاب في معرض الجواب على الكفار لما سألوه الخروج من النار
فيخبرهم الجبار بأن سبب هذا البوار هو سخريتهم بالعباد الأبرار لما دعوا الملك
الغفار: [رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا] (المؤمنون: 109) فجازاهم الله
بصبرهم على الأذى وتحملهم للابتلاء أعظم الجزاء بالفوز في دار البقاء.
قال السعدي: جزيتهم بما صبروا على طاعتي وعلى أذاكم حتى وصلوا إليّ
بالنعيم المقيم والنجاة من الجحيم.
قال تعالى: [وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ]
(النور: 52) . أطاعوا الله بفعل الواجبات وترك المحرمات، واتبعوا رسوله فيما
أمر، واجتنبوا ما عنه نهى وزجر، ومع ذلك يخافون الله فيما سلف من أيامهم وما
زلّت به أقدامهم ويتقونه فيما بقي من أعمارهم هؤلاء هم السعداء الذين فازوا بكل
خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
قال السعدي: أولئك الذين جمعوا بين طاعة الله وطاعة رسوله وخشية الله
وتقواه، هم الفائزون بنجاتهم من العذاب لتركهم أسبابه، ووصولهم إلى الثواب
لفعلهم أسبابه؛ فالفوز محصور فيهم؛ وأما من لم يتصف بوصفهم فإنه يفوته من
الفوز بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة.
ثم تأتي آخر آية حوت هذه اللفظة لتبين حقيقة الفوز وتقرّر مفهومه فيقول
تعالى: [لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ]
(الحشر: 20) .
فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده فاستحق جنات النعيم
والعيش السليم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
ومن غفل عن ذكره ونسي حقوقه فشقي في الدنيا واستحق العذاب في الآخرة؟
فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون.
وأخيراً: تقبل الله منا ومنك «وهي التهنئة التي كان يقولها الصحابة لبعضهم»
كما جاء في فتح الباري. اللهم اسلك بنا سبيل طاعتك، وجنبنا سبيل معصيتك،
واجعلنا ممن فازوا بجنتك برحمتك.(154/154)
المنتدى
الماء في القرآن
علي سالم بازرعة
تحدث القرآن عن الماء في 63 موضعاً منها قوله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ
كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] (الأنبياء: 30) ، وقوله تعالى: [وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ] (النور: 45) .
إن الحقيقة القرآنية المعجزة التي يعرضها القرآن عن الماء هي أن الله جعل
حياة جميع الكائنات الحية على سطح الأرض مرتبطة بوجود الماء. قال الله تعالى:
[وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] (الأنبياء: 30) ، فإذا تأملنا في الإنسان
الذي كرمه الله نجد أن متوسط نسبة وجود الماء في جسم الإنسان نحو 65% من
وزنه، وفي عالم النبات تتفاوت هذه النسب فتصل من 70% إلى 90% من وزنه
ماءاً، والماء أحد مكونات البوتوبلازم (المادة الحية في الخلية) ، وعليه فالماء
يحدد بقاء النبات نفسه ووجوده.
فالماء الذي أنزله الله من السماء هو أغلى وأثمن مادة على وجه الأرض، له
من الصفات العجيبة والخواص الفريدة ما جعله يتبوأ مكانة رفيعة، ومن هذه
الخصائص ارتفاع درجة غليانه التي هي 100 درجة مئوية؛ فلو كانت درجة
غليانه أقل من الصفر مثلاً لجفت البحار والأنهار واختفت الحياة، ومن خواصه
زيادة حجمه عند تجمده عكس معظم المواد، ولذا نجد أن قطعة الثلج تطفو فوق
السطح فتكون كغطاء عازل للطبقات السفلى فلا تتجمد، وتحتفظ المياه أدناه بدرجة
حرارة كافية لحياة الكائنات البحرية وهي أغلب كائنات الحياة، فلا عجب إذا قلنا:
«إن الحياة ظاهرة مائية» ومن خواصه أيضاً التي ينفرد بها عن غيره قدرته
كسائل مذيب لكثير من المواد؛ فهو المذيب الأعظم.
يرجع العلماء سر هذه الخواص المدهشة للماء للرابطة القوية بين ذرة
الأوكسجين وذرتي الهيدروجين في جزئي الماء (H2O) .
إن الماء هو من المواد التي توجد بالطبيعة بصورها الثلاث: الصلبة والسائلة
والغازية ينتقل بينها في دورة ثابتة تعرف بالدورة الهيدرولوجية، وللرياح دور
أساس في هذه الدورة كما قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ] (الأعراف: 57) .
إن الإشارات العلمية الكثيرة في المواضع التي صرّح القرآن فيها عن الماء
ومطابقتها للواقع العلمي المعاصر تدل على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وأن
الحقائق المذكورة في القرآن هي حقائق نهائية مطلقة وليست نسبية كما هو علم
البشر.
إن الماء جعله الله عز وجل وسيلة للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة؛ ففي
الجنة يقول تعالى: [مَثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ
آسِنٍ ... ] (محمد: 15) ، وفي المقابل في النار [ ... كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ] (محمد: 15) .
وفي الدنيا عن الثواب يقول تعالى: [وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً] (الجن: 16) ، أما العقاب فعن قوم نوح قال تعالى:
[فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ] (القمر: 11-12) .
إن المسطحات المائية على كوكب الأرض من محيطات وبحيرات وغيرها
والتي تغطي أكثر من ثلثي مساحة الأرض هي التي ميزت كوكب الأرض عن باقي
كواكب المجموعة الشمسية بلونه الأزرق المميز وبوجود الحياة عليه.
لقد أصبحت قضية الماء في عالم اليوم قضية للصراع من جانب الحكومات؛
لأنها سلعة اقتصادية يزيد الطلب عليها، بل يخشى أن تصبح المياه سبب حروب
المستقبل. إن التدبر في الآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ الماء وما جاء ذكره عنها
في السنة النبوية مثل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «لا يبولن أحدكم في
الماء الراكد، ثم يتوضأ منه» وهو يشير إلى قضية التلوث التي أصبحت مصدر
رعب في عالمنا المعاصر. إن التدبر والتأمل فيما ذكر أعلاه يزيد المؤمن إيماناً
وعلماً. نسأل الله أن يبارك لنا في القرآن والسنة، وأن ينفعنا بما فيهما من الآيات
والحكمة.(154/155)
المنتدى
الإجازة الصيفية
ماجد بن جعبل
ليس من المجازفة ولا من واقع الخيال إذا قلنا بأن ثلاثة أرباع المجتمع في
ظرف يوم أو يومين على الأكثر يصبحون في عالم من الفوضى بسبب الفراغ الذي
يغطي معظم الأوقات بالنسبة لهم؛ وهذا إن دل على شيء فالدلالة واضحة وهي
عدم الانضواء تحت برنامج منظم يحفظ الوقت ويحمي من سوء ما يجلبه الفراغ من
مساوئ. إن بعض الناس وهم الأغلبية يرى في البرنامج المنظم مصطلحاً واحداً
وهو كبت الحرية وأخذ الراحة المزاجية من العطلة الصيفية. ونرجو أن تكون هذه
الأسطر إيضاحاً لأحبائنا ودليلاً لهم إلى ما فيه صلاح الدنيا ومن ضمنها الإجازة
الصيفية وصلاح الآخرة.
الوقت أغلى ما عني الإنسان بحفظه، وإذا كان هذا الوقت هو ريحان العمر
وريعان الشباب فيا ترى كيف ستكون هذه الخسارة؟
وإن مما ينفع الإنسان في آخرته شغله فراغه في الدنيا بما يرضي الله؛ وعلى
ذلك فللإجازة أمور تشغل بها منها:
حلقات تحفيظ القرآن الكريم: والتي يخرج منها الدارس برضى الله وبالتقوى
وحسن الأخلاق وتعلم شرع الله والبعد عن أماكن الفساد والمعاصي، وهذا لا يقتصر
على شخص دون آخر، بل حتى الأطفال في العاشرة فما فوقها على الآباء توجيههم
إلى تلك الحلقات؛ فلعل الله أن يجعلهم بذرة صالحة ونواة طيبة لبناء مجتمع طاهر
محافظ.
المراكز الصيفية: لقد أدت المراكز الصيفية عبر الأعوام السابقة دوراً كبيراً
في الإجازات، وذلك لما تقوم به من نشاطات مختلفة تنمي الشباب على الخير
والإصلاح؛ فمن الأنشطة الثقافية إلى الأنشطة الرياضية إلى بقية الأنشطة التي
تتلاءم مع النشء.
طلب العلم الشرعي: ليست الإجازة حكراً على سن معين، ومن هذا المنطلق
فإن بين أولئك شباب الصحوة الذين هم عماد الأمة بعد علمائها الأفذاذ، ولذلك فإن
الإجازة ساحة للتنافس في طلب العلم الشرعي وتحصيله وتحصين النفس به من
الشبهات المتتابعة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به
لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي» .
الخروج إلى القرى والهجر: للدعوة إلى الله ونشر دينه؛ وهذه النقطة ليست
«لكل من هب ودب» ولكن لمن آتاهم الله علماً واسعاً وأخذوا على عواتقهم الوفية
لله الدعوة إلى سبيله، وما أجمل لو نظم هذا العمل ونسق له كي يؤتي ثماره بإذن
الله.
الالتحاق بدور التحفيظ النسائية: وهي والله عصمة للفتاة من السوء وأهله،
ودليلٌ لها إلى مرضاة الله عز وجل. إن فتيات المسلمين اليوم هن غداً أمهات
رجالهم الأفذاذ؛ فهل من شيء أحق بالحفظ منهن؟
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض بالمال
تنظيم برنامج أسري: ويكون فيه كل متطلبات النفسيات الأسرية فيكون مثلاً
متضمناً لدروس السيرة المتناسبة مع الأطفال، ودروس السيرة المتناسبة مع الكبار
إلى جانب الرحلات البرية والتنزه.
ختاماً: إن بالإمكان أن يُشغل الفارغ بأي شيء؛ ولكن ما دام أن هناك سؤالاً
وجزاءاً عن هذا الفراغ وعمَّا شغل به فإنه لا بد من التفكير في الذي سوف يحل
محل الفراغ ما هو: نعيم، أم جحيم؟(154/156)
المنتدى
سارع في السفر
صالح بن عبد الكريم العبودي
يا قلب فِر، لله فرّ ... لا تكفرنَّ، فلست حر
دع عنك زيداً أو عمرْ ... لا ينفعونك وزن ذر
بالله سارع في السفرْ ... لا تنتظر لا تنتظر
يكفي الأسى يكفي الضجرْ ... يكفي السُّرى يكفي السهر
يكفي التأمل والنظرْ ... قد حان وردك للنهر
بالله أقلع لا تُصِرّ ... لا تبقينَّ مدى العُمر
خذ عبرة ممن غبر ... احذر فقد ينجي الحذر
لم ينتبه لمَّا زُجِر ... لم ينتبه حتى احتُضر(154/156)
المنتدى
الشُكْرُ وأحلام التحقيق!
عبد الكريم علي الشهري
الشُكْرُ ... نعم معناه في اللغة: الثناء على الإنسان بمعروف يُولِيكَهُ [1] .
وأيضاً هو: عرفان الإحسان ونشره [2] .
إلا أن محدودية الحروف لا تفي معنى «الشكر» حقه؛ إذ للشكر في
الوجدان فضاء شاسع، وتُحَمِّل قائلها عاطفة جياشة، ومشاعر فيّاضة، وتمنَّت
النفس التخلص من هَمِّ القيام بالشكر، جزاءاً للمعروف المُسدى إليها.
فالشاكر الحقيقي دائماً صادق المشاعر، كبير الهَمِّ تجاه مَنْ سيشكره كيف
يجازيه؟ وهل ستكون الكلمات والمشاعر في رد المعروف كافية؟ نعم! يحق لمن
أراد أن يشكر أحداً أن يكون مهموماً؛ لأن حقيقة الشكر نابعةٌ من حقيقة المعروف؛
فجميل روح تقديم المعروف على النفس يستوجب حكماً مشابهاً له من الشكر وإلا
يُعدَّ ناكراً للمعروف هذا هو ميزان الفطرة التي ترى التقدير والشكر معيار العطاء.
والله المستعان. لكن ونحن نعزِّز هذه الفطرة لا نعزِّزها لذواتنا وعلى حساب نياتنا،
بل لأنه «لا يشكر الله مَنْ لا يشكر الناس» [3] وحتى نتربى على هذا الخُلُق
العظيم ... وإلا لو أردنا القيام بحق الشكر مع الله أولاً لما استطاع أحدٌ ذلك ولو يُجَرُّ
على وجهه من ميلاده حتى مماته ليفي بنعمة واحدة ومعروف واحد لما وفَّى:
[وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (النحل: 18) ، ولكن رحمته شاملة وسابقة.
فكيف لنا أن نقوم بالشكر مع البشر ذوي النفوس الطامعة الذين قد يمنون
عليك معروفهم ولو كنت قد شكرتهم! ولو وسعهم شكرك لما منّوا عليك.
ولكن هناك النفوس الطيبة والضمائر المؤدَّبة بالخُلُق الرفيع، تزن خُلُق الشكر
مكاييل كثيرة، فتجد حرارة مشاعرها وصدق عواطفها، تجاه كل من أسدى معروفاً
إليها؛ ففي أقل الأحوال الكلمة الصادقة المقرونة بالمشاعر الفيّاضة. أما الصمت
وكأن معروفاً لم يكن فهذا لا تطيقه النفس البشرية، وإن استطاعته قدراً من الزمن؛
فالنفس تتوق أن ترى ثمار معروفها لتستمر أو تزيد في العطاء، هذا ما يشهد به
الواقع وليس يقدح في الإخلاص لله من هذا شيء.
فمَنْ لم يُحسن إلى مَنْ أساء فهذا عدل، ومَنْ أحسن إلى مَنْ أساء فهذا فضل:
[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ] (الجمعة: 4) .
فالمربّون والمعلّمون والدعاة والناصحون لهم فضل علينا كبير، ولهم فضل
من الله؛ إذ تحمّلوا عناء التربية والتعليم والدعوة والنصح لنا، رغم أننا لم نستطع
تحقيق الشكر لهم ولن نستطيع! إذ كيف يُشكر من كان سبباً في هدايتك؟ أم كيف
يُشكر من سعى في تربيتك؟ أم كيف يُشكر من أفرغ وقته لك؟ أم كيف يُشكر من
أدام النصح لك؟ أم كيف وربي يُشكر مثل هؤلاء وخاصةً وهم يتمثّلون قول الله
تعالى: [لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً] (الإِنسان: 9) فهل يمكن أن نحقق
لهم الشكر؟ حسبنا أن نسأل الله أن يقيهم شر ذلك اليوم، ويلقيهم نضرةً وسروراً،
وأن يجزيهم بما صبروا جنةً وحريراً.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس.
(2) لسان العرب، لابن منظور.
(3) مسند الإمام أحمد (7921) من حديث أبي هريرة.(154/157)
المنتدى
ظلام اليأس
فهد يحيى مطهري
أيُّ وردٍ يزهو في الصحرْ ... أيُّ قلبٍ صاح يشكو من ضَرَرْ
أيُّ طفلٍ ناح يحكي حُزْنَهُ ... أيُّ زرع هالك يرجو المطر
من ظلامِ اليأسِ يا قدسُ انتظرْ ... عودةَ الحقِ وطَرْدَ المُحْتَقِرْ
ليته يبكي فأُصغي نَحْوَهُ ... يطلب العَفْوَ وأرجو المُسْتقرْ
أنت يا حيفاء هزّي شجونا ... وابعثي لَحْناً رقيقاً من وَتَرْ
وابعثي نحوي أَرِيْجاً علّهُ ... في الدُنى يَشْفِي أَنِينَ المُحْتَضِرْ(154/157)
المنتدى
ردود
- الإخوة الأفاضل: عبد الرحمن عبد الكريم، عيسى عبد العزيز، أحمد
يوسف محمد، محمد عبد الله السحيم، محمد عبد الله الرويلي، حمد أحمد، صالح
بن حسن القدسي: لقد أسعدنا كثيراً تواصلكم الكريم مع مجلتكم بالمقترحات، وهذا
مما يثلج صدورنا ويشعرنا كذلك بالمسؤولية، سائلين الله تعالى أن نكون عند حُسْنِ
ظن إخواننا، وأن يوفقنا وإياهم لخدمة دينه ونصرته.
- الأخوين: الحبيب كرون، أبو خلود الساري: نعتذر كثيراً عن تلبية
طلباتكم؛ وذلك لعدم أهلية المجلة لذلك، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
- الأخ: صالح سعيد الزهراني: نرجو التكرم بإعادة إرسال المشاركة؛ لأنها
لم تصل كاملة عبر الفاكس.
- الأخ: أمير أبو بكر أحمد: نشكر لك تواصلك مع المجلة، وما أرسلته عن
تطبيق الشريعة في نيجيريا مقتضب ويحتاج إلى توسع، ومرحباً بك وبمشاركاتك.
- الإخوة: رضا أحمد الصمدي، عمر الرماش، محمد عودة الذبياني، أحمد
عبد الدايم أبو نصرة: جزاكم الله خيراً على تواصلكم مع مجلتكم، ونفيدكم بأن
مشاركاتكم مجازة للنشر.
- الإخوة: أسعد سيد تهامي، إمام الطيب، عبد الله بن سليمان الصالح:
بارك الله فيكم، ومشاركاتكم مجازة للنشر في المنتدى.
- الإخوة: حامد سفر العبدلي، د. عادل عبد العزيز حامد، أبو عزام المكي،
عبد الرحمن القصيمي، محمد نجيب لطفي، عبد العزيز الويلي، عبد الله سيد
شعبان، أبو عبد الله الرحابي، عبد العزيز العبيسي، د. جمال نصار حسين،
حمد بن عبد الرحمن السالم: جزاكم الله خيراً على تواصلكم الكريم مع المجلة،
ونتمنى لكم التوفيق في مشاركات قادمة.(154/158)
المنتدى
لافتة على طريق الانتكاس
محمد عبد الله الرويلي
على أي نحوٍ تودّ الحكاية ... وماذا تكون وكيف النهاية؟
على أي شيء تموت المعاني ... سبيل أراه لفقد الهداية؟
نقضت العهود وعفت السجود ... وأطلقت نفساً تريد الغواية
ننادي وفاءاً وتغضي جفاءاً ... ونبدي صفاءاً وتخفي وشاية
رميتَ بسهم الفراق فؤادي ... وصيّرتَ صفو الوداد نكاية
رميتَ بهجرك حباً تليداً ... فهل يا صديقي أصبتَ الرماية؟
فقل لي بربك: أي اعتذار ... سيجدي إذا ما لقيت النهاية؟
فهلاَّ غنمتَ الحياة وإلا ... ستبكي كثيراً على كل آية
فعد للإله، ودع ما سواه ... وخذ مِنْ هُداه، ولُذْ بالعناية
إلى الله أمضي وكلّي خضوع ... ثباتاً يفيض بصدق الولاية
سأمضي ودرب الرشاد طريقي ... وأُعلي من العلم والحق راية
شبابَ المعالي! خذوها شعاراً: ... لزومُ الكرام طريقُ الحماية(154/158)
الورقة الأخيرة
الحرية والعبودية
د. عثمان علي حسن
الحرية غاية يسعى إليها كل إنسان ويتمناها كل متمنٍّ، وليسوا كلهم ينالها
ويحققها، إلا من أدرك معناها وعرف سبيلها وطلبها من مظانها، ولا حرية حقيقية
للإنسان إلا إذا ملك أمر نفسه، وسيطر عليها وعلى مطالبها، وسعى في تغذيتها بما
تحتاجه ويصلحها، ولا يكون ذلك إلا في التذلل والتعبد لله تعالى خالق الإنسان
وفطرته؛ فمن أراد الحرية الصادقة التي لا يشوبها خداع، ولا يحجبها غش فعليه
بالدخول في العبودية لله؛ فمن دخلها وترقى في درجاتها نال من الحرية بقدر ما
حقق من العبودية.
فالله تعالى يريد لعباده أن يكونوا أحراراً حقيقة، ولهذا أمرهم بعبادته التي
خلقهم لأجلها، وشرع لهم من صنوف العبادات ما يساعدهم على الوصول إلى هذه
الغاية المطلوبة، والأمنية المرجوة؛ ولنضرب لذلك أمثلة:
ففي الصلاة التي هي عمود الإسلام وركنه الركين يتحرر المؤمن من سلطان
النوم فيصبح هو الذي يتحكم فيه لا العكس، مع أن النوم حاجة فطرية لا يصمد
إنسان أمام هجومه وإلحاحه إلا لوقت معلوم، لكن المؤمن المقيم للصلاة والمحافظ
عليها ينفلت من نومه وينخلع من فراشه وراحته مستجيباً لنداء ربه، فيؤدي ما
أوجبه الله عليه من الفريضة في رغبة ومحبة وانشراح صدر وطيب نفس، بل لا
راحة له في غيرها، ولا قرار له في سواها، كما جاء عن الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم: «أرحنا بها يا بلال» [1] ، وقوله: «وجعلت قرة عيني
في الصلاة» [2] .
وفي الزكاة يتحرر المؤمن من رق المال، الدرهم والدينار ونحوهما؛ فهو
يقتطع من ماله وكسب يده جزءاً معلوماً يصل به المحرومين وأصحاب الحاجات،
طيبة بذلك نفسه، وطالباً تطهير ماله وصونه عن الآفات، وساعياً لتنميته وزيادته
بالبركة، وبانفتاح أبواب من الرزق لم يكن يحتسبها، وفي الحديث: «ما نقص
مال عبد من صدقة» [3] . وفي الحديث الآخر: «تعس عبد الدينار، تعس عبد
الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شِيك فلا
انتقش» [4] .
وفي الصيام يتحرر المؤمن من قيود الطعام والشراب وشهوة الجماع مع أنها
حاجات فطرية ليس في وسعه أن يستغني عنها مختاراً، فضلاً عن كونها أشياء
مباحة وطيبة ونافعة، لكن المؤمن يترك ذلك كله من بزوغ الفجر إلى مغيب الشمس
طيلة شهر بأكمله طاعة لله تعالى وإيماناً به واحتساباً للأجر والمثوبة. وفي هذا
تربية عظيمة، ودربة رائعة، وذريعة لطيفة لترك الحرام الخبيث الضار من
الأطعمة والأشربة والشهوات، وهي التقوى التي شرع الصيام وغيره من العبادات
لتحقيقها: [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183) ، وفي الحديث: «من لم يدع قول
الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [5] . فالصوم عن
المحرمات والخبائث والمفاسد أوْلى من الصوم عن المباحات والطيبات والمنافع،
وهكذا يتحرر المؤمن من وطأة العادات الضارة.
وفي الحج يتحرر الإنسان من رق العادة؛ حيث يترك ما اعتاده من أساليب
في الحياة من طعام وشراب ولباس ونوم، وأعمال وأشغال، وبقاء لدى الأهل
والأولاد والأصدقاء ونحوهم من زملاء العمل أو الدراسة وغير ذلك مما يشق عادة
تغييره أو مفارقته إلا بنوع كلفة، لكنه في الحج يترك ذلك كله طاعة لله، فيخرج
الناس تاركين دورهم وما اعتادوه، إلى بيت الله الحرام، راجلين وعلى كل ضامر
يأتين من كل فج عميق، ولهذا سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الحج جهاداً، لكن
لا قتال فيه.
ثم تأتي أعظم عبادة وأسماها ألا وهي الجهاد في سبيل الله بالنفس؛ فالنفس
أغلى ما يملك الإنسان؛ فهو يحرص عليها كل الحرص، ويجتهد في صونها عن
الآفات والتلف، لكن المؤمن يعتبر تقديمها في سبيل الله ذوداً عن حياض الإيمان
والأوطان إحياءاً لها، وتخليداً لذكراها، ورفعة لدرجتها [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169) .
وفي نوافل هذه العبادات مجال للاستزادة والترقي في مدارج الحرية ومقاماتها،
حتى يصل إلى ذروتها ويعتلي سنامها، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي:
«ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،
ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [6] .
وهكذا سائر العبادات في الإسلام تدرب المؤمن على التحرر الحقيقي، وتسعى
به لنيل الحرية الصادقة، فلا أحد يتحكم في حركته ومسار حياته إلا إيمانه بربه
وخالقه، لا سلطان نوم، ولا سلطان طعام وشراب، ولا سلطان شهوة ومال، ولا
سلطان عادة؛ فهو عبد لله وكفى، وسيِّد متصرف في احتياجاته كلها [ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 29) .
__________
(1) رواه أبو داود، ح/ 4323.
(2) رواه النسائي، ح/ 9878.
(3) رواه الترمذي، ح/ 2247.
(4) رواه البخاري، ح/ 2673.
(5) رواه البخاري، ح/ 1770.
(6) رواه البخاري، ح/ 6021.(154/159)
رجب - 1421هـ
أكتوبر - 2000م
(السنة: 15)(155/)
كلمة صغيرة
مراجعات.. في المراجعات
تبدأ مجلة البيان في هذا العدد، وما بعده طرح موضوع دعوي هام، يتعلق
بمسائل (المراجعات) للعمل الإسلامي في مسيرته الممتدة على مدى العقود الثلاثة
الماضية، باعتبارها ممثلةً لمرحلة انتقال بين قرنين هجريين، و (المراجعة) -
فيما يبدو - هي شعار المرحلة على كافة الأصعدة، وهي تأتي تقويماً للأداء فيما
مضى، لترشيده فيما سيأتي بإذن الله.
والمراجعات قد تعتورها تراجعات، ومن ثم جاء طرح هذا الموضوع لكي
يوضع على بساط البحث المتبصر، والحوار الجاد، والنقاش الهادئ؛ تقليصاً
للضرر وتفادياً للخطر، والمجلة إذ تفتح صدرها لهذا الحوار المثمر في زاوية
(قضية للمناقشة) تذكِّر قراءها، وكتابها، والمتواصلين معها - والذكرى تنفع
المؤمنين - بأن أدب الحوار صناعة إسلامية، لُحمتها النصيحة، وسَداها الإخلاص؛
فنسيجها يستمد متانته من قوة الوشيجة الإيمانية، والأخوة الإسلامية التي تعد
المحافظة عليها من فرائض الدين، وإذا كان النقد لا يخص أحداً دون أحد؛ لأنه نقد
للذات الإسلامية بوجه عام، فإنه لا يقصر أيضاً دون أحد؛ لأننا جميعاً - أهل
الدعوة - شركاء في المغنم والمغرم، ومسؤولون عن حال الأمة الدينية، رفعةً أو
ضَعَةً.
غير أننا نؤكد أن هناك فرقاً بين نقد الذات وجلد الذات، ولهذا.. فلا مجال
في الحوار الجاد بين إخوة العقيدة لجرح الأشخاص، أو الهيئات، أو الجماعات،
ولا لطعن في طوايا الضمائر والنيات.. لا نقص ولا هدم، ولا ظلم ولا هضم؛
فالنصيحة دين، والدين النصيحة..
وفق الله الجميع للقول السديد والفعل الرشيد.(155/1)
الافتتاحية
من أروقة المفاوضات
على الرغم من الإعلان الرسمي عن إخفاق مباحثات (كامب ديفيد الثانية) ،
إلا أن استمرار المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني، واليهودي برعاية أمريكية،
ثم الإعلان عن رغبة المفاوض اليهودي - خصوصاً - بجعل المفاوضات سريةً
إلى أن يتم الاتفاق على حل يرضي الطرفين، يثير تساؤلات عديدة، وينبئ عن أنَّ
وراء الأكمة ما وراءها..! !
وكما أنَّ المفاوض الفلسطيني في أمريكا عام (1993م) فوجئ أثناء
المفاوضات بالإعلان عن اتفاقية (أوسلو) التي تضمنت سلسلةً من التنازلات
المخزية، وتجاوزات لكثير من الثوابت التي ظلت السلطة الفلسطينية تتشدق بها
ردحاً من الزمن؛ فلا يستغرب على الإطلاق أن يفاجأ العالم باتفاق جديد بين
الفلسطينيين واليهود، يكشف عن حلقات جديدة من التزييف والتلاعب بالعقول..!
ولعلنا نشير هنا إلى بعض الحقائق المهمة من أروقة المفاوضات التي تؤكد
المؤامرة الكبرى على فلسطين، والسعي المحموم لترسيخ الهيمنة الصهيونية عليها:
أولاً: الرعاية الأمريكية لإسرائيل:
بعد إعلان وعد بلفور في عام (1917م) سارع الرئيس الأمريكي (وودرو
ولسون) بمباركة ذلك الوعد، وبعث برسالة إلى زعيم الصهيونية الأمريكية
(ستيفن وايز) يصادق فيها بشكل رسمي على وعد بلفور، على الرغم من تحفظات
وزير خارجيته (روبرت لانسنج) لاعتبارات سياسية آنذاك، وفي عام (1922)
وافق مجلسا الشيوخ والكونجرس رسمياً على وعد بلفور.
وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14/5/1948م أعلن الرئيس الأمريكي
(هاري ترومان) اعترافه بهذه الدولة الوليدة حتى قبل أن تطلب منه إسرائيل ذلك
رسمياً، ثم بادرت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم منحة مالية لإسرائيل، قدرها
مئة مليون دولار (وهي تعادل موازنة مصر , والعراق , وبلاد الشام في ذلك
الوقت) ، ثم أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس ضغوطاً كبيرةً على الدول
المختلفة؛ لتعلن اعترافها، ودعمها لدولة إسرائيل.
وقد تتابع دعم الإدارات الأمريكية لتثبيت الوجود اليهودي في فلسطين، حتى
إن الرئيس (ريتشارد نيكسون) قال في كتابه الشهير (1999 نصر بلا حرب) :
(إن التزامنا ببقاء إسرائيل التزام عميق؛ فنحن لسنا حلفاء رسميين، وإنما يربطنا
معاً شيء أقوى من أي قصاصة ورق، إنه التزام معنوي، إنه التزام لم يخلَّ به أي
رئيس في الماضي أبداً، وسيفي به كل رئيس في المستقبل بإخلاص، إن أمريكا
لن تسمح أبداً لأعداء إسرائيل الذين أقسموا على النَّيْل منها بتحقيق هدفهم في
تدميرها) .
ويلخص الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) موقف الرؤساء الأمريكيين بقوله
أمام الكنيست الإسرائيلي في عام (1979م) : (لقد جسد من سبقني من الرؤساء
الأمريكيين الإيمان حين جعلوا من العلاقات بين الولايات المتحدة، وإسرائيل أكثر
العلاقات خصوصيةً، إنها علاقات فريدة؛ لأنها متأصلة في ضمير الشعب
الأمريكي، وفي أخلاقه، وفي دينه، وفي معتقداته..!) .
وها هو ذا الرئيس الأمريكي الحالي (بيل كلينتون) يعلن مراراً أنه: (لن
يخذل إسرائيل أبداً!) ، فتراه يبذل كافة إمكاناته السياسية لدعم اليهود، وترسيخ
أقدامهم، والضغط على مناوئيهم.
بل إن المرشحين للرئاسة الأمريكية القادمة يتنافسان في إعلان الولاء
لإسرائيل؛ فالمرشح الجمهوري (جورج بوش الابن) وعد بنقل السفارة الأمريكية
من تل أبيب إلى القدس عقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وقال في
كلمة أمام اجتماع لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية (إيباك) : (سيحدث
شيءٌ مَّا عندما أُصبِح رئيساً، فبمجرد أن أتولى المنصب سأبدأ عملية نقل السفير
الأمريكي إلى المدينة التي اختارتها إسرائيل عاصمةً لها..!) .
أما المرشح الديمقراطي (آل جور) فقد فاجأ الجميع بترشيحه للسناتور
(جوزف ليبرمان) لمقعد نائب الرئيس، وقال في لقاء مع عدد من قادة اليهود
الأمريكيين: (إن رغباتكم وتطلعاتكم هي رغباتي وتطلعاتي!) .
كل هذه الدلائل تؤكد الانحياز الأعمى، والدعم غير المحدود من الولايات
المتحدة الأمريكية لإسرائيل، ومن ثَمَّ فإن الراعي الأمريكي لمفاوضات السلام لا
يظهر بمظهر الراعي المتجرد الباحث عن حل عادل، وهو لا يخفي ولاءه
لإسرائيل، ولا يتردد في المدافعة عن مطالبها، وتعجب أشد العجب من غفلة، أو
تغافل أولئك المتهافتين على السلام من أدعياء العروبة تهافت الجراد على النار
المحرقة، وهم يرون هذه الحقائق ماثلةً بين أيديهم عياناً بياناً لا تشوبها شائبة..!
وصدق المولى الحق - جلَّ وعلا - إذ يقول: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ
الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .
ثانياً: الدولة اليهودية دولة دينية:
من الحقائق الثابتة التي لا جدال فيها أن الدولة اليهودية بنيت بناءاً دينياً
محكماً، وكان للحاخامات دور بارز في صناعة الحياة السياسية اليهودية وإدارتها،
وإذا كان يحلو لبعض العلمانيين العرب التأكيد على أن الحزبين الرئيسين في
إسرائيل (العمل، والليكود) حزبان علمانيان، وأن الأحزاب الدينية المتطرفة في
إسرائيل لا تمثل إلا أقليةً محدودةً في الشارع اليهودي؛ فإن حزبَيِ (العمل،
والليكود) يؤكدان انتماءهما الديني، وحرصهما على تحقيق التعاليم التلمودية، ولا
يترددان في إعلان هذه الهوية، والاعتزاز بها.
وقد أدار المفاوض اليهودي مؤتمرات السلام مع العرب عامةً، والفلسطينيين
خاصةً منطلقاً من هذه القاعدة التلمودية، ولهذا لم يكن غريباً على الإطلاق أن يكون
أحد أعضاء الفريق اليهودي المفاوض المرافق لباراك من الحاخامات..! !
وفي أثناء انعقاد مؤتمر كامب ديفيد الثاني أصدر عدد من كبار حاخامات
إسرائيل فتوى تحظر على الحكومة الإسرائيلية تسليم بلدات فلسطينية قريبة من
محيط مدينة القدس، وذكرت صحيفة (معاريف) : أن حاخامات (أدمورات) ،
ورؤساء مدارس دينية (يشيبوت) من أعضاء مجلس كبار علماء التوراة - وهو
المرجع الأعلى للفتاوى والتشريعات الدينية اليهودية في إسرائيل - وزعوا بياناً
موقعاً بأسمائهم تضمن رأياً دينياً مستمداً من كتاب التوراة اليهودية يؤكد عدم جواز
تسليم بلدات أبو ديس، والعيزرية، والسواحرة الشرقية إلى الفلسطينيين،
ووضعها تحت سيادتهم.
ثالثاً: القدس جزء من العقيدة اليهودية:
أعلن رئيس الوزراء اليهودي السابق (ديفيد بن جوريون) أنه: (لا معنى
لإسرائيل من غير القدس، ولا معنى للقدس من غير الهيكل!) ، وصرح وزير
الأديان اليهودي عقب احتلال القدس عام (1967م) بأن: (أرض الحرم ملك
يهودي بحق الاحتلال، وبحق شراء أجدادهم لها منذ ألفي سنة) ، ودرجت
الحكومات اليهودية المتعاقبة على ترسيخ الصبغة اليهودية في المدينة المقدسة،
وبناء المستوطنات اليهودية في جميع أجزائها، وأعلن الرئيس الحالي (إيهود
باراك) شعاره الانتخابي المعروف: (نريد أن نصبغ القدس الشرقية بالطابع
اليهودي الخالص) .
ولقد حمل (إيهود باراك) هذه العقيدة معه إلى كامب ديفيد، وأعلن بوضوح
قبل بدء المفاوضات أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وفي الوقت الذي كان
فيه باراك يفاوض الفلسطينيين في كامب ديفيد كان (حاييم رامنون) الوزير
المكلف بشؤون القدس، و (إبراهاما شوحاط) وزير المالية الإسرائيلي، و (سالي
مريدور) رئيس الوكالة اليهودية، و (إيهود أولمرت) رئيس بلدية القدس يجرون
مباحثات مكثفةً - تنفيذاً لتعليمات باراك - لتعزيز الوجود اليهودي في القدس
الشرقية.
ولهذا راح المفاوض اليهودي - ومن ورائه الراعي الأمريكي - يطرح حلولاً
ترقيعيةً لعلاج مشكلة القدس، ويساوم المفاوض الفلسطيني؛ ليحظى بمزيد من
التراجعات والتنازلات..! !
ولكن: هل ظل المفاوض الفلسطيني مصرّاً على تشبثه بالحقوق الإسلامية،
ولم يذعن للتوبيخ، والتهديد، والضغط الأمريكي..؟ !
والذي نحسبه أنَّ المفاوض الفلسطيني باع أشياء كثيرةً بثمن بخس، وتخلَّى
عن مسلَّمات عديدة، بل غيَّر الدستور والميثاق [1] ، وتجاوز ثوابت لا تخطر على
بال، والقدس عنده أرض، كبقية الأراضي يمكن استبدالها بأي أرض أخرى!
ولكنه يعلم يقيناً أنَّ التفريط بها هو قاصمة الظهر، ومسمار النعش، خاصة أن
الشعوب العربية لم تتهيأ بعدُ لمثل هذاالتحول الخطير؛ ولهذا يمكن أن تُسرَّب بعض
الحلول الأمريكية واليهودية لجس نبض الشارع الفلسطيني والعربي، وقياس
إمكانية القيام بتغييب الوعي العربي، وغسيل الدماغ الفلسطيني، كما حدث في
مسائل أخرى معقدة!
فكما أنَّ السلام مع إسرائيل كان خيانةً عظمى، وخروجاً عن الصف العربي
قبل عشرين عاماً، أصبح اليوم بعد سلسلة طويلة من التخدير والتجهيل رمزاً من
رموز الواقعية، واسترداد الحقوق العربية، ومعارضوه هم المتطرفون الإرهابيون,
وكذلك القدس يمكن أن يكون التخلي عنها في الوقت الراهن جريمةً لا تغتفر، أما
بعد سنوات في ظل السلطة الفلسطينية فيمكن أن تكون واقعاً لا فكاك منه إذا أُحسن
ترويض الناس وتغييبهم، والزمن كفيل بتغيير العقول وصناعة الآراء والقناعات
التقدمية المنفتحة! ! وانظر مثلاً كيف كان العرب يطالبون قديماً بفلسطين المحتلة
فأصبحوا الآن لا يتحدثون إلا عن الأراضي المحتلة في عام 1967م، وانظر إليهم
قديماً يطالبون بالقدس، فأصبحوا الآن لا يتحدثون إلا عن القدس الشرقية فقط.
رابعاً: الحرب دينية من طرف واحد فقط:
لقد نجح اليهود منذ بداية تأسيس دولتهم في عزل الإسلام عن ساحة المعركة،
وهم يدركون تماماً أنه لا يمكن أن يقف في طريقهم إلا الراية الإسلامية، وقديماً قال
ديفيد بن جوريون: (نحن لا نخشى خطراً في المنطقة سوى الإسلام!) ، بل إن
شمعون بيريز قال: (إنَّه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام
شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد!) .
نعم.. لقد جرب اليهود الشعارات العربية الثورية، وخبروها خبرة تامة،
وأدركوا أنها هراء محض، يُراد بها تحقيق مكاسب نفعية حزبية وشخصية،
ويسهل ترويضها وتدجينها، وكما قال الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
ولهذا جنَّ جنون اليهود لمَّا قامت الانتفاضة الفلسطينية المباركة مرددةً آيات
القرآن العظيم، يحدوها الحنين لإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، واستعادة
أمجاد صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله تعالى -:
خرجوا على الأعداء يلقون الحجر ... ويكبرون وفي حناجرهم عمر
فإذا الحجارة في الصباح قنابل ... الطفل ليث في المعارك والخطر
فكانت دعوات السلام من أجل إيقاف هذا المدِّ الإسلامي ووأده في مهده،
وليس غريباً على الإطلاق أن تتولى السلطة الفلسطينية هذا الدور بتفان كبير،
حتى إن وزير العدل في السلطة الفلسطينية أكد أنهم لن يسمحوا بوقوع أية عمليات
عسكرية ضد الدولة اليهودية، بل إن الرئيس ياسر عرفات أعلن خلال استقباله
وفداً من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي في عام (1996م) أنَّ عدد المعتقلين من
الإسلاميين من أعضاء حركتي حماس والجهاد بلغ في سجون غزة (900) معتقل،
ممَّا جعل شمعون بيريز يعلن ارتياحه ورضاه عن الجهود التي بذلتها السلطة
الفلسطينية للقضاء على الإسلاميين..!
وتأكيداً على طبيعة الهوية الفلسطينية القادمة نرى ياسر عرفات يؤكد بمناسبة
وبغير مناسبة أنَّ الدولة الفلسطينية الموعودة دولة علمانية (! !) ، وكأنه يريد أن
يقدم مزيداً من الطمأنات للدولة اليهودية وحلفائها في الغرب والشرق؛ حتى إنَّ
الشيخ عكرمة صبري إمام المسجد الأقصى لمَّا أفتى بعدم جواز التنازل عن الحق
بالعودة للاجئين، والقبول بالتعويض لمن لا يرغب في العودة؛ استنكرت السلطة
الفلسطينية الفتوى بشدة، وقال الطيب عبد الرحيم الأمين العام للرئاسة الفلسطينية:
(إن المفتي ليس زعيم فصيل سياسي أو حركة؛ ولذا لا يحق له إصدار فتوى في
قضايا سياسية، وطلب من المفتي عدم التدخل في تلك القضايا..! !) ، وكأن
السلطة الفلسطينية تعلن للملأ أنه لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.
حرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس!
إنَّ أمام الإسلاميين عامةً، والفلسطينيين خاصةً بمختلف فصائلهم وأحزابهم
أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة؛ فالمنطقة تمر بمفرق طريق، ومنعطف خطير،
وقد آن الأوان لرص الصفوف وتنسيق الجهود، والنظر إلى المستقبل بعين بصيرة
مدركة؛ فالأمر قد تجاوز الرؤى المرتجلة، والجهود الفردية المبعثرة، والبرامج
الهزيلة المشتتة. إنَّ الأمر جد وليس بالهزل.. فهل نعي ذلك..؟ !
__________
(1) ألغى المجلس الوطني الفلسطيني في اجتماعاته في غزة من 22 إلى 25/4/1996م، ميثاق منظمة التحرير الذي ينص على أن الكفاح المسلح يشكل الطريق الوحيد لتحرير فلسطين ضمن حدودها التي كانت قائمةً في عهد الانتداب البريطاني.(155/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
بل هذا حكم الإسلام في الغناء!
راشد بن عبد الله العدوان
«إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب» ، هي كلمة حكيمة،
وحكمة نادرة، قالها الحافظ ابن حجر العسقلاني، في (فتح الباري شرح صحيح
البخاري) (3/4) .
والحافظ ابن حجر هو إمام أهل العلم بالحديث، وخاتمة الحفاظ، بل هو
المحدث الحقيقي الأبرز منذ القرن الثامن الهجري إلى الآن.
وقد قال هذه الحكمة الصادقة في شأن رجلٍ عالمٍ كبير من طبقة شيوخه وهو
(محمد ابن يوسف الكرماني) شارح البخاري إذ تعرض في شرحه لمسألة من دقائق
فن الحديث لم يكن من أهلها، على علمه وفضله، فتعرض لما لم يتقن معرفته،
والكرماني هو الكرماني، وابن حجر هو ابن حجر.
لقد وردت هذه الحكمة البليغة على خاطري، حين قرأت مقالاً نشرته مجلة
(العربي) في عددها (495) الصادر في شهر شوال لعام 1420هـ، ووجدتها
تنطبق على هذا المقال تمام الانطباق، وكأنها وضعت له، أو قيلت بادئ بدء في
شأنه.
لقد تعصب كاتب المقال لرأيه الشاذ مقلداً ومتبعاً ومغتراً بما ذهب إليه الإمام
ابن حزم - رحمه الله - من إباحة الغناء وآلات الطرب على اختلاف أنواعها في
رسالته الموسومة بـ «رسالة في الغناء الملهي، أمباح هو أم محظور؟» من
مجموعة رسائل ابن حزم الأندلسي، بتحقيق الدكتور «إحسان رشيد عباس»
مستمسكاً بشبهات واهية، وبحجج هشة، ضعَّف فيها الأحاديث الصحيحة الثابتة في
تحريم المعازف والغناء الملهي، وتصور يا أخي مبلغ الأثر السيئ الذي سيكون
لهذا المقال في قلوب القراء من الخاصة وطلاب العلم، فضلاً عن العامة، وذلك
لأمرين:
1- شهرة ابن حزم العلمية في العالم الإسلامي، وإن كان ظاهري المذهب لا
يأخذ بالقياس، خلافاً للأئمة الأربعة، وغيرهم.
2- غلبة الهوى على أكثر الناس؛ فإذا رأوا مثل هذا الإمام يذهب إلى إباحة
ما يتفق مع أهوائهم لم يصدهم شيء بعد ذلك من اتباع أهوائهم، بل قد يجدون فيما
يسمعون من بعض المشايخ ما يسوغ لهم تقليدهم إياه، كقولهم: «من قلد عالماً لقي
الله سالماً» ، وإن كان ابن حزم - رحمه الله - ينهى عن التقليد، ويحرمه أشد
التحريم.
يضاف إلى ذلك قلة العلماء الناصحين الذين يذكِّرون الناس بالحكم الصحيح
في هذه المسألة، والأحاديث الصحيحة الواردة فيها، وكثرة ما يكتب ويذاع مخالفاً
لها، فيتوهمون أن ما قاله ابن حزم صحيح، لا سيما وهم يقرؤون لبعض العلماء
المعاصرين بعض فتاوى تؤيد مذهبه، وتميل إلى إباحة الآلات الموسيقية، وإنكار
تحريمها، وتضعيف الأحاديث الواردة فيها، ضاربين عرض الحائط بالحُفَّاظ
المصححين لها ومذهب الأئمة القائلين بمدلولاتها، ومن هذا المنطلق، ونصحاً لله
ولرسوله ولكتابه وللمسلمين، سأقف مع الكاتب الدكتور بعض الوقفات في رد شبهه
وتمويهاته مستعيناً بالله تعالى.
* الوقفة الأولى: قال الدكتور في معرض حديثه عن حكم الغناء عند الفقهاء:
«بينما العنبري عبيد الله بن الحسن العنبري - القاضي والفقيه والمحدث - لا يرى
به بأساً، (أي: الغناء) ... إلى أن قال: ... في حين كان قاضي المدينة ومحدثها
إبراهيم بن سعد لا يرى به بأساً» اهـ.
قلت: وهذا الكلام مردود من وجوه:
الوجه الأول: أما إبراهيم بن سعد فقد ثبت عنه قوله بتحليل السماع، وقد
غلط من نسبه مذهباً لأهل المدينة بسبب قوله؛ فقد صح عن مالك أنه سئل عن
السماع، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، أما عبيد الله بن الحسن العنبري فقد كفانا
ابن القيم - رحمه الله - مؤونة الرد على الدكتور حيث قال: «عبيد الله بن الحسن
العنبري قاضي البصرة مطعون فيه» [1] يعني في دينه، وقد ذكر ابن حجر في
ترجمته من التهذيب ما يدل على توبته، فهذه من زلات بعض العلماء التي أُنكرت
عليهم، غفر الله لهم [2] .
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: «قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار
على كراهية الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله
العنبري، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية» ،
ثم قال بعد ذلك بقليل: «فهذا قول علماء الشافعية، وأهل التدين منهم،
(أي: في تحريم الغناء) ، وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه،
وغلبه هواه» اهـ[3] .
قال ابن رجب - رحمه الله -: «وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي اتفاق
العلماء على النهي من الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن
العنبري قاضي البصرة، وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي، فإنه لا يعرف
عن أحد ممن سلف الرخصة فيه» اهـ[4] .
وقال: «وهذا الخلاف في سماع الغناء المجرد، فأما سماع آلات اللهو فلم
يُحْكَ في تحريمه خلاف» [5] .
الوجه الثاني: أن قولهم ليس بحجة، بل الواجب رده؛ لأنه من المحدثات،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»
متفق عليه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وفي رواية لمسلم والبخاري
تعليقاً مجزوماً به: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .
وقد ثبت تحريم الغناء والمعازف عن الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه
كثيرة، ولا قول لأحد مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال مجاهد: «ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله
ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم» .
الوقفة الثانية: قال الكاتب: «ورُوي عن الإمام أحمد بن حنبل في الغناء
ثلاث روايات: الحل، والكراهة، والحرمة..» .
وللجواب عن هذا أقول:
أما مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - في سماع الغناء فقد بينه ابنه عبد الله،
قال: سألت أبي عن الغناء، فقال: ينبت النفاق في القلب [6] لا يعجبني، ثم ذكر
قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.
وقال الحافظ: أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله -: «أما مذهب الإمام
أحمد - رحمه الله - فإنه كان الغناء في زمانه إنشاد قصائد الزهد، إلا أنهم لما
كانوا يلحنونها اختلفت الرواية عنه: فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال:» الغناء
ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني «، وروى عنه إسماعيل بن إسحاق الثقفي: أنه
سئل عن استماع القصائد، فقال: أكرهه، هو بدعة، ولا يجالسون ... ، وروى
عنه أبو الحارث أنه قال: التغبير بدعة، فقيل له: يرقق القلب فقال: هو بدعة» .
«فهذه الروايات كلها دليل على كراهية الغناء ... » إلى أن قال: «فبان
من هذه الجملة أن الروايتين عن أحمد في الكراهة وعدمها تتعلق بالزهديات الملحنة،
فأما الغناء المعروف اليوم فمحظور عنده، كيف لو علم ما أحدث الناس من
الزيادات؟» انتهى كلام ابن الجوزي [7] .
وقد أجمع الأئمة الأربعة وأهل العلم على المنع من الغناء وآلات اللهو، وقد
حكى شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاقهم على ذلك، فقال: «وآلات اللهو لا يجوز
اتخاذها، ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة..
وقال: وأما الغناء المجرد فمحرم عند أبي حنيفة ومالك، وهو أحد القولين في
مذهب الشافعي، وأحمد، وعنهما أنه مكروه» .
* الوقفة الثالثة: قال كاتب المقال: «أما المرويات والمأثورات التي تحرم
الغناء والمعازف فلقد ثبت بمقاييس الرواية ومعايير الجرح والتعديل للرواة أن
جميعها مطعون فيه، وليس فيها حديث واحد صحيح (! !) ، ومع ذلك روَّجها
وأشاعها واستخدمها الذين لا دراية لهم بصناعة الحديث ومقاييس صحته..» ، ثم
ذكر كلاماً لابن طاهر وابن حزم في الطعن في الأحاديث الناهية عن الغناء.
وكلامه مردود من عدة وجوه:
الوجه الأول: تأمل قوله: (وليس فيها حديث واحد صحيح) ، وما فيه من
التلاعب بعقول القراء، والتمويه على الجهلة الأغبياء، كما لا يخفى على من نوَّر
الله قلبه بنور العلم والإيمان.
الوجه الثاني: أن في كلام الدكتور تجاوزاً ظاهراً؛ حيث زعم أنه لم يرد فيها
نص ثابت في تحريم الغناء وآلاته، وأين هو من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ومن
ذلك:
1 - ما أخرجه البخاري في صحيحه (5590) من حديث أبي مالك
الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليكونن من
أمتي أقوام يستحلون الحِرَ [8] ، والحرير، والخمر، والمعازف، ولينزلن أقوام إلى
جنب عَلَمٍ، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون:
ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم
القيامة» .
2- ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» بإسناد
حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في أمتي خسفاً ومسخاً وقذفاً، قالوا:
يا رسول الله! وهم يشهدون أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم، إذا ظهرت المعازف،
والخمور، ولبس الحرير» .
3- ما رواه عمرو بن الوليد بن عبدة عنه به مرفوعاً بلفظ:
«إن الله - عز وجل - حرم الخمر، والميسر، والكوبة [9] ، والغبيراء،
وكل مسكر حرام» أخرجه الإمام أحمد في المسند (6591) ، والبيهقي بإسناد
صحيح، إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة الصحيحة المروية عن جمع من
الصحابة - رضوان الله عليهم -.
الوجه الثالث: أن الأدلة ليست مقصورةً على الكتاب والسنة، بل يستدل بهما
وبالإجماع وبقول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف منهم على القول الصحيح،
وبالقياس الصحيح عن جمهور العلماء، وبغير ذلك مما هو مقرر في كتب الأصول،
ولم يخالف في حجية الإجماع إلا أهل البدع والأهواء، ولا عبرة بخلافهم؛ حيث
إن الإجماع لا يكون إلا عن دليل سالم من الطعن والمعارض.
الوجه الرابع: عوَّلَ الكاتب على إعلال ابن طاهر وابن حزم للأحاديث
الصحيحة، مموهاً على القراء، وابن حزم الظاهري من العلماء الحفاظ، قال
الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (18/184) : «وكان ينهض بعلوم جمة،
ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة،
ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه،
ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار» ، وقال أيضا: «ولي أنا ميل إلى
أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير
مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع
بخطئه في غير ما مسألة» اهـ.
ولابن حزم - رحمه الله كلام - في الجرح والتعديل، والنقد والتعليل منثور
في مؤلفاته ومصنفاته.
فما هو موقف العلماء منه؟
قال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (4/198 - 202) في ترجمة
ابن حزم: «كان واسع الحفظ جداً، إلا أنه لثقته بحافظته كان يهجم على القول في
التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة» .
وقال العلاَّمة المحدث الألباني - رحمه الله -: «وابن حزم - مع علمه
وفضله وعقله - فهو ليس طويل الباع في الاطلاع على الأحاديث وطرقها
ورواتها» ، وقال بعد ذلك: «فينبغي ألاَّ يؤخذ كلامه على الأحاديث إلا بعد
التثبت من صحته وعدم شذوذه» [10] .
أما ابن طاهر - رحمه الله - فقد قال ابن حجر الهيتمي عنه: «وأما حكاية
ابن طاهر عن صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه، وأنه مشهور عنه،
وأن أحداً من علماء عصره لم ينكره عليه، وأن حلَّه هو ما أجمع عليه أهل
المدينة، فقد ردوا على ابن طاهر بأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة
بخسها..» (إلى أن قال) : «فإن ابن طاهر متكلَّم فيه عند أهل الحديث
بسبب الإباحة وغيرها» اهـ[11] .
الوقفة الرابعة: ذكر الكاتب الأحاديث التي أوردها ابن حزم - رحمه الله -
في رسالته قادحاً في رواتها، ومضعفاً لأسانيدها؛ ولذلك تعقبه العلماء - أهل
الحديث - في توهينه للأحاديث الصحيحة أو ذات الإسناد الحسن، وفيما يلي بعض
الأحاديث التي أوردها صاحب المقال، وسأعقبها بأقوال أهل العلم، فأقول وبالله
التوفيق:
1- حديث معاوية: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تسع ...
منهن الغناء» قال ابن حزم في رسالته في معرض نقده لهذا الحديث ص434:
«وأما حديث معاوية فإن فيه كيسان، ولا يدرى من هو، ومحمد بن مهاجر،
وهو ضعيف» اهـ.
قلت: قد خالف ابن حزم الأئمة الحفاظ في هذا؛ حيث نقل أهل هذا الفن بأن
محمد بن مهاجر هذا ثقة، وثقه أحمد وابن معين ودحيم وأبو زرعة الدمشقي
وأبو داود ويعقوب بن سفيان وابن حبان والعجلي، ولم يجرحه أحد، فقول ابن
حزم: «ضعيف» غلط، لكن الحديث ضعيف لجهالة كيسان [12] .
2- نقل الكاتب من كلام ابن حزم قوله: «حديث سلام بن مسكين، عن
شيخ شهر بن مسعود يقول:» الغناء ينبت النفاق في القلب «في رواة هذا الحديث
شيخ لم يُسَمَّ، ولا يعرفه أحد» اهـ.
لكن هذا الأثر عن ابن مسعود صححه بعض أهل العلم، قال العلاَّمة
الألباني- رحمه الله -: «قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات [13] . وقد أشار
إليه ابن القيم في» إغاثة اللهفان « (1/248) ، وقال:» وهو صحيح عن ابن
مسعود من قوله «.
قال الألباني معقباً على قول ابن القيم:» ولكنه في حكم المرفوع؛ إذ مثله لا
يقال من قِبَل الرأي، كما قال الآلوسي في «روح المعاني» (11/68) «اهـ.
أما قول ابن حزم:» في رواة هذا الحديث شيخ لم يسمَّ، ولا يعرفه أحد «
فهذا» من سوء تصرف ابن حزم في الأحاديث، فإن عدم معرفته بأحوال الرواة لا
يستلزم سقوط الخبر، فقد يعرف غيره ما جهله « [14] ،» ومن المقرر عند العلماء
أن من عرف حجةٌ على من لم يعرف « [15] .
3- ثم ذكر كاتب المقال نقلاً عن ابن حزم - رحمه الله - تضعيف حديث
أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» ليكونن من أمتي
قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف «.
ثم أورد إعلال ابن حزم لهذا الحديث بقوله:» لم يورده البخاري مسنداً،
وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار، ثم هو إلى أبي عامر، أو إلى أبي مالك، ولا
يُدرى أبو عامر هذا «اهـ من رسالته.
فأعلَّه ابن حزم بعلتين، الأولى: الانقطاع بين البخاري وهشام، والأخرى:
جهالة الصحابي الأشعري.
والجواب عن قدح ابن حزم لهذا الحديث من وجوه عدة:
الوجه الأول: رد الإمام ابن القيم - رحمه الله - إعلال ابن حزم على هذا
الحديث في بعض كتبه؛ حيث قال في» تهذيب سنن أبي داود « (5/70م) :
» وقد طعن ابن حزم وغيره في هذا الحديث، وقالوا لا يصح؛ لأنه منقطع،
لم يذكر البخاري من حدَّث به، وإنما قال: (وقال هشام بن عمار) ! وهذا القدح
باطل من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار، وسمع منه، فإذا روى عنه
معنعناً، حمل على الاتصال اتفاقاً [16] ، لحصول المعاصرة والسماع، فإذا قال:
(قال هشام) لم يكن فرق بينه وبين قوله: (عن هشام) أصلاً.
والثاني: أن الثقات الأثبات قد رووه عن هشام موصولاً:
قال الإسماعيلي في (صحيحه) : أخبرني الحسن: حدثنا هشام بن عمار ...
بإسناده ومتنه سواء، والحسن: هو ابن سفيان.
الثالث: أنه قد صح من غير حديث هشام:
قال الإسماعيلي في (الصحيح) : حدثنا الحسن، حدثنا عبد الرحمن بن
إبراهيم، حدثنا بشر، حدثنا ابن جابر عن عطية بن قيس قال: قام ربيعة الجرشي
في الناس.. فذكر حديثاً فيه طول، قال: فإذا عبد الرحمن بن غَنْمٍ، فقال: يميناً
حلفت عليها، حدثني أبو عامر - أو أبو مالك الأشعري -: والله - يميناً أخرى -
حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن في أمتي قوم
يستحلون الخمر , وفي حديث هشام: الخمر والحرير، وفي حديث دُحَيمْ: الخَزَّ
والحرير والخمر والمعازف..» فذكر الحديث.
ورواه عثمان بن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الخباب قال: أخبرني معاوية بن
صالح: حدثني حاتم بن حُريث عن مالك بن أبي مريم قال: تذاكرنا الطلاق،
فدخل علينا عبد الرحمن بن غَنْم، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بلفظه.
الرابع: أن البخاري لو لم يلق هشاماً، ولم يسمع منه، فإدخاله هذا الحديث
في «صحيحه» وجزمُهُ به، يدل على أنه ثابت عنده عن هشام فلم يذكر الواسطة
بينه وبينه: إما لشهرتهم، وإما لكثرتهم، فهو معروف مشهور عن هشام، تغني
شهرته به عن ذكر الواسطة.
الخامس: أن البخاري له عادة صحيحة في تعليقه، وهي حرصه على
إضافته الحديث إلى من علقه عنه إذا كان صحيحاً عنده، فيقول: (وقال فلان)
(وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإن كان فيه علة، قال: (ويذكر عن
فلان) أو (ويذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ومن استقرأ كتابه علم ذلك، وهنا قد جزم بإضافة الحديث إلى هشام، فهو
صحيح عنده.
السادس: أنه قد ذكره محتجاً به، مدخلاً له في كتابه (الصحيح) أصلاً لا
استشهاداً؛ فالحديث صحيح بلا ريب «انتهى.
وقال أيضاً في» إغاثة اللهفان « (1/258) بعد إيراده الحديث:» هذا
حديث صحيح، أخرجه البخاري في (صحيحه) محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً
به.. «.
ثم قال:» ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً، كابن حزم،
نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل
سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه ... «فذكر الوجوه آنفة الذكر، ثم قال:
» لو ضربنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث متصل عند غيره ... «، ثم ذكر
من وصله.
وقال في» روضة المحبين «ص 130:
» ... وأما أبو محمد [ابن حزم] فإنه على قدر يُبْسه وقسوته في التمسك
بالظاهر، وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، إنْمَاعَ في باب
العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة، فوسَّع هذا الباب جداً، وضيَّق باب
المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جداً، وهو من انحرافه في الطرفين حين رَدَّ
الحديث الذي رواه البخاري في (صحيحه) في تحريم آلات اللهو بأنه معلق غير
مسند، وخفي عليه أن.... . «، ثم رد عليه بنحو ما سبق، وقال:
» ... فأبطل سنة صحيحةً ثابتةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن
فيها بوجهٍ «.
وقال العلاَّمة الزبيدي في» إتحاف السادة المتقين « [6/475] :
» والبخاري إذا علق شيئاً بصيغة الجزم يحتج به، ثم إن البخاري علقه عن
هشام بن عمار وقد لقيه، فيحمل على السماع، فالحكم حينئذ للوصل، كما هو
معروف في موضعه «اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في» الزواجر «ص460:
» ومن عجيب تساهل ابن حزم واتباعه لهواه أنه بلغ من التعصب إلى أن
حكم على هذا الحديث وكل ما ورد في الباب بالوضع وهو كذب صراح منه، فلا
يحل لأحد التعويل عليه في شيء من ذلك «.
وقال قبل ذلك:» وصح، (أي: هذا الحديث) من طرق خلافاً لما وهم فيه
ابن حزم فقد علقه البخاري، ووصله الإسماعيلي، وأحمد، وابن ماجه، وأبو
نعيم، وأبو داود بأسانيد صحيحه لا مطعن فيها، وصححه جماعة آخرون من
الأئمة، كما قاله بعض الحفاظ «اهـ.
» وخلاصة الكلام في هذا الحديث أن مداره على عبد الرحمن بن غنم، وهو
ثقة اتفاقاً، رواه عنه قيس بن عطية الثقة، وإسناده إليه صحيح، وعلى مالك بن
أبي مريم، وإبراهيم بن عبد الحميد، وهو ثقة، وثلاثتهم ذكروا (المعازف) في
جملة المحرمات المقطوع بتحريمها؛ فمن أصر بعد هذا على تضعيف الحديث فهو
متكبر معاند، ينصبُّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة، من
كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) الحديث، وفيه: (الكبر: بطر الحق وغمط
الناس) رواه مسلم « [17] .
وبهذا ينتهي الجواب عن العلة الأولى وهي الانقطاع التي زعمها ابن حزم
ومقلدوه، وتبين جلياً أنها (سراب) وبقي الجواب عن العلة الأخرى، وهي الشك
في اسم الصحابي، فأقول:
الجواب عن العلة الثانية: أن إعلال ابن حزم لهذا الحديث بسبب الشك في
اسم الصحابي، شبهة أشد ضعفاً عند العلماء، وفي ذلك قال الحافظ ابن حجر في
» الفتح « (10/24) :
» الشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد أعله بذلك ابن حزم وهو مردود «.
فالصحابة - رضوان الله - عليهم كلهم عدول، فالشك غير قادح» وذلك؛
لأن الراوي عند تصريحه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم ثقة من كبار
التابعين، بل قيل بصحبته؛ فهو من العارفين بصحبة محدثه عن النبي صلى الله
عليه وسلم، ولا سيما، وقد أكد ذلك بقوله: (والله ما كذبني) فلا يضرنا بعد ذلك
شكه وتردده ما دام أنه أخبرنا بصحبته « [18] .
» وقول ابن حزم: (ولا يدرى أبو عامر هذا) مردود عليه؛ إذ أبو عامر
صحابي، والصحابي ثقة، سواء عرف اسمه أم لم يعرف، أو عرفت كنيته أم لم
تعرف، كما هو مذهب جماهير أهل العلم « [19] .
والخلاصة: أن الشك في هذه الرواية ليس من وجوه الاضطراب في شيء
ولا يمكن القدح بسببه في هذه الرواية، فأبو عامر، أو أبو مالك كلاهما ثابت
الصحبة.
لذا قال العلامة العيني في» عمدة القاري « (21/175) رداً على من شكك
في صحة الحديث بسبب التردد في اسم الصحابي:
» هذا ليس بشيء؛ إذ التردد في الصحابي لا يضر؛ إذ كلهم عدول «.
قال الشيخ إسماعيل الأنصاري، بعد أن رد هذه الدعوى:» فبهذا تبين
اتصال الحديث وبطلان كلام ابن حزم فيه، ولذلك حذر العلماء من الاعتماد على
كلام ابن حزم فيه، كابن الصلاح في (مقدمة علوم الحديث) وابن كثير في
(الباعث) وابن عبد الهادي في (المحرر) ، والعراقي في (ألفية المصطلح)
وابن القيم في (تهذيب السنن) وفي (إغاثة اللهفان) ، وفي (روضة المحبين)
والحافظ ابن حجر في (فتح الباري) والعيني في (عمدة القاري) وغيرهم « [20] .
4- قال الدكتور معلقاً على حديث البخاري السابق:» وأنا أضيف إلى القدح
في إسناد هذا الحديث أنه يتكلم عن قوم يستحلون الزنا والخمر، ويقرنون مجالس
الزنا والخمر هذه بالمعازف التي أصبحت عوناً على الكبائر والفواحش، فليست
المعازف هنا مفردةً، ولا مرادةً لذاتها «اهـ.
أقول:» اجعل (أضيف) عند ذاك الكوكب « [21] ، فإن هذا التعليل فاسد
من وجوه:
أحدها: ليس في الحديث ما يدل على أن التحريم المذكور إنما هو على شرط
استحلال الخمر والزنا فقط، بل ظاهر الحديث يدل على أن التحريم المذكور مرتب
على مجموع ما ذكر فيه من استحلال الخمر والزنا والحرير والمعازف.
ثانياً: من عجيب أمر صاحب المقال عدوله عما يدل عليه ظاهر الحديث،
واتباعه للظن في ترتيب الوعيد على استحلال الخمر والزنا فقط، مع أنه من
المقرر أن الدين لا يؤخذ بالظن.
ثالثاً: أن التأويل الذي ذهب إليه الدكتور لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا
إجماع ولا قياس ولا قول صحابي، وما لم يكن عليه دليل فليس عليه تعويل.
5- حديث أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول:» يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، تضرب
على رؤوسهم المعازف والقينات، يخسف بهم الأرض «ضعفه ابن حزم،
وتبعه الكاتب مقلداً، وقد صححه ابن القيم في موضعين من» الإغاثة «
(1/347 و 361) .
وقال:» وهذا إسناد صحيح «وتبعه السيوطي في» الجامع الصغير «
والمناوي في» فيض القدير «، وانظر مجموع الفتاوى (11/57) ، وصيانة
مسلم لابن الصلاح (82، 83) .
كما أن الألباني صححه كما في» تحريم آلات الطرب «ص45، وفي
» سلسلة الأحاديث الصحيحة « (رقم 1887) .
6- حديث عقبة بن عامر الجهني:» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كل شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رمي الرجل بقوس، أو تأديبه فرسه، أو
ملاعبته امرأته، فإنهن من الحق «، وقال ابن حزم:» وفي رواة هذا الحديث
عبد الله بن زيد بن الأزرق وهو مجهول.. وللحديث طريق آخر، في رواته:
خالد بن زيد وهو مجهول «.
والجواب عن هذا أن يقال:
» هذا الحديث جيد الإسناد، رواته كلهم ثقات، وقد رواه الدارمي والترمذي
وابن ماجة في سننهم من طريق هشام الدستوائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن
«وعبد الله بن زيد بن الأزرق معروف عند أهل العلم، وقد وثقه ابن حبان وحسن
حديثه الترمذي، وقال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : إنه مقبول.
أما خالد بن زيد فقد قال عنه الحافظ في (تهذيب التهذيب) : خالد بن زيد بن
خالد الجهني ذكره ابن حبان في (الثقات) » [22] .
وصححه العلاَّمة الألباني - رحمه الله - في «الصحيحة» (1/627) .
7- حديث: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أن يكون أربعة:
ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين،
وتعليم الرجل السباحة» ثم ذكر إعلال ابن حزم له ... إلى أن قال ابن حزم: «ثم
إن هذا الحديث ليس فيه تحريم ... فاللعب - كما في هذه الرواية و (السهو واللغو)
كما في روايته الأخرى - غير التحريم» .
والجواب أن يقال: قد صحح هذا الحديث الحافظان: عبد العظيم المنذري،
وابن حجر العسقلاني، وهما أعلم بالرجال وجيد الأسانيد وضعيفها من ابن حزم،
قال ابن حجر في الإصابة: «رواه النسائي بإسناد صحيح، وقال الحافظ المنذري
في (الترغيب والترهيب) : رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد» .
أما قول ابن حزم: «ثم ليس فيه إلا أنه سهو ولغو وليس فيه تحريم» .
فجوابه: أن يقال: إن المراد باللغو - كما في حديث: «كل شيء ليس من
ذكر الله - عز وجل - فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال ... » الحديث: هو
الباطل، وكما تقدم ذلك صريحاً في رواية عبد الله بن الأزرق [23] . وصححه
الألباني كما في «صحيح الجامع» (4534) .
8- حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمسخ قوم
من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير، قالوا: يا رسول الله! يشهدون أن لا إله
إلا الله، وأنك رسول الله؟ قال: نعم! ويصلون ويصومون ويحجون، قالوا: فما
بالهم يا رسول الله؟ قال: اتخذوا المعازف والقينات والدفوف ويشربون هذه
الأشربة، فباتوا على لهوهم وشرابهم فأصبحوا قردة وخنازير» .
ثم أعله ابن حزم بقوله: «هذا الحديث مروي عن رجل لم يُسَمَّ ولم يُدْرَ من
هو» .
أقول: حُكْمُ ابن حزم على هذا الحديث بالسقوط، لكونه لم يعرف بعض من
فيه من الرواة، دعوى لا زمام لها ولا خطام، ولو أن كل من جهل أحداً من
المحدثين حكم بسقوط حديثه، لسقط كثير من الأحاديث الصحيحة؛ لأنه ليس أحد
من العلماء يحيط علماً بجميع الرجال، وشاهد ذلك كتب الجرح والتعديل وأسماء
الرواة؛ فإنه يوجد في بعضها ما لا يوجد في بعضها الآخر، ويخفى على بعض
العلماء ما لا يخفى على غيره.
وأقول أيضاً: إنه ثبت أن هذا الحديث إسناده حسن كما بين ذلك الشيخ عبد
الله الجديع - حفظه الله - في كتابه القيم: «أحاديث ذم الغناء والمعازف في
الميزان» ص 36 وما بعدها؛ فليراجعه من شاء.
9- حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول صلى الله عليه
وسلم: «من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه» ، قال ابن حزم:
«هاشم وعمر مجهولان، ومكحول لم يلق عائشة» .
الجواب أن يقال: «هذا حديث ضعيف كما قاله ابن حزم، وليس هو مما
يحتج به القائلون بتحريم الغناء كما زعم ذلك ابن حزم، وإنما يذكرونه وأمثاله
للاستئناس والاستشهاد، وفي الأحاديث الصحيحة غنية عنه وعن أمثاله من
الأحاديث الضعيفة» [24] .
10- قال الدكتور نقلاً عن ابن حزم: «حديث ابن شعبان عن ابن عباس -
رضي الله عنهما - في قول الله عز وجل: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ
لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (لقمان: 6) ، قال: الغناء، وأحاديث ابن شعبان هالكة» .
أقول: إن تفسير [لَهْوَ الحَدِيثِ] (لقمان: 6) بالغناء قد ثبت عن عدد من
الصحابة منهم:
ابن عباس - رضي الله عنه -، كما روى ذلك البيهقي في سننه
(10/ 223) ، والبخاري في الأدب المفرد، وابن الجوزي في «تلبيس إبليس»
(ص 231) وغيرهم، وروى البخاري في تاريخه الكبير (4/217) عن عكرمة
(لهو الحديث: الغناء) وعكرمة وارث علم ابن عباس.
وقد ورد أيضا من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - كما أخرج ذلك
البيهقي في السنن (10/223) ، وفي شعب الإيمان، وابن الجوزي في
«التلبيس» ص 231؛ حيث سئل عن هذه الآية، فقال: هو الغناء؛ والذي لا
إله إلا هو يرددها ثلاث مرات، وإسناده حسن [25] .
وكذلك ورد عن عدد من التابعين منهم: قتادة، وعكرمة، وإبراهيم النخعي،
ومجاهد، وغيرهم.
11- ثم قال الكاتب تحت عنوان: «الحرمة للتوظيف لا للذات» .
قال: «ثم إنه مع التسليم بأن المراد باللهو هنا الغناء، فهو ليس مطلق الغناء،
ولا كل الغناء، وإنما هو الغناء الذي يتخذه المشركون ليضلوا عن سبيل الله،
وليتخذوا سبيل الله هزواً.. فحرمته ليست لذاته وإنما لتوظيفه في الإضلال عن
سبيل الله، وكل ما يضل عن سبيل الله حرام حتى ولو كان واجباً، أو مندوباً في
ذاته» .
فأقول جواباً على ذلك: إن الدكتور نسي أو تناسى - وكلاهما مر - أن اللام
في قوله تعالى: [لِيُضِلَّ] (لقمان: 6) إنما هي لام العاقبة كما في تفسير
«الواحدي» ، أي: ليصير أمره إلى الضلال، كما قال ابن الجوزي في
«زاد المسير» (/317) ، فليس هو للتعليل.
ومن خلال ما تقدم، تبين المدى الذي وصل إليه الكاتب متابعاً ابن حزم من
توهين الأحاديث الصحيحة، وتبين أنها مجرد جعجعة بدون طحن، ولولا خشية
الإطالة لتتبعت الكاتب في سائر ما ذكر، لكن في هذا القدر كفاية لمن ألقى السمع
وهو شهيد، والله المستعان.
__________
(1) إغاثة اللهفان، (1/230) .
(2) قلت: وقد حذر العلماء من تتبع زلات العلماء، قال بعض السلف: «من حمل شاذ العلم حمل شراً كبيراً» رواه أبو بكر الخلال في «الأمر بالمعروف» ص 33، ونحوه قال سليمان التيمي: «إن أنت أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله» رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/91) .
(3) تلبيس إبليس، ص 245.
(4) نزهة الأسماع في مسألة السماع، ص 69.
(5) المصدر السابق، ص 74.
(6) قد ثبت هذا من قول ابن مسعود - رضي الله عنه -، وإسناده صحيح، انظر «تحريم آلات الطرب» للعلامة الألباني - رحمه الله -، ص 145.
(7) تلبيس إبليس (149، 150) .
(8) ورد في رواية أخرى بلفظ (الخز) وقد رجح الإمام عبد الحق الإشبيلي في «الأحكام» رواية:
«الحِرَ» كما نقله الزيلعي في نصب الراية (4/231) ، والعَلَم: الجبل.
(9) قال الخطابي في «المعالم» (5/268) : «والكوبة» يُفسَّر بـ (الطبل) ويقال: هو (النرد) ، ويدخل في معناه كل وتر ومزهر، ونحو ذلك من الملاهي والغناء «انتهى نقلاً عن» تحريم آلات الطرب «للألباني.
(10) » سلسلة الأحاديث الصحيحة « (1/141) .
(11) » الزواجر عن اقتراف الكبائر «لابن حجر الهيتمي (2/461) .
(12) أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان، للشيخ عبد الله الجديع، ص 80.
(13) تحريم آلات الطرب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، ص 145.
(14) تنبيه اللاهي على تحريم الملاهي، للشيخ إسماعيل الأنصاري ص 34،.
(15) تحريم آلات الطرب، ص 47.
(16) وزاد في» إغاثة اللهفان « (1/ 260) :» فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس «.
(17) تحريم آلات الطرب، ص 51.
(18) المصدر السابق، ص 85.
(19) الكاشف، للشيخ علي حسن علي عبد الحميد الأثري، ص 47.
(20) تنبيه اللاهي، ص 22.
(21) اقتباس مما رواه الطبراني (12/264/13058) بسند صحيح عن أبي مجلز، قال: كنت أسأل ابن عمر عن الوتر، فجعل يقول: آخر الليل، فقلت: أرأيت؟ أرأيت؟ فقال:» اجعل (أرأيت) عند ذاك الكوكب «.
(22) فصل الخطاب في الرد على أبي تراب، للشيخ حمود التويجري، ص 278.
(23) المصدر السابق ص 280.
(24) المصدر السابق، ص 294.
(25) انظر» أحاديث الغناء «ص 147.(155/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عالمية القرآن
د. محمد خليل جيجك
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده وعلى آله
وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن العصر الذي نحن فيه أتى معه إلى جنب ذلك التقدم الهائل في ساحات
العلم والمعرفة وغيرها بمشاكل فكرية عقدية كثيرة. ولا جرم أن من أهم ما أصيب
في هذا العصر بالقسط الأوفر من المشاكل والأزمات هو الدين بحقه وباطله، أما
تلك الأديان الباطلة فاستُخِفَّت أمام أعاصير شبهات المعاصرين استخفاف الريشة أمام
الرياح العاصفة فلم تقاومها لا في نقير ولا قطمير.
أما دوامها على الساحة فلمجرد كونها تشكل عنصراً ثقافياً أو ثقافة فلكلورية
للقوم الذين ينتسبون إليها، وأما الدين الإسلامي الحنيف الذي هو الدين الحق
فاستطاع بما يحتوي عليه من تلك البراهين الواضحة والأدلة القاطعة أن يقاوم ذاك
الباطل الوافد إليه من الخارج الذي استقدمه بعض الأغرار فاشتدت صولة
المعاصرين الوضعيين وأذنابهم من الذين يريدون أن يستأصلوا شأفة الدين بأجمعه
عن المجتمع فاشتدت صولتهم على الإسلام، وأتوا في كل يوم بباطل جديد وهجوم
شديد، وازدادت مع الأيام مخططاتهم ضد الحق وأهله؛ لأنهم رأوا في الإسلام
مقاومةً متينةً ما كانوا يحسبون حسابها، فهجموا على الإسلام هجمةً شرسةً،
وحاولوا النيل من عقائده وزلزلة كيانه في القلوب والصدور باختلاق الأكاذيب
الشنيعة عليه مما هو منه براء، ومن جملة تلك الأباطيل التي حاكوها وصار ينعق
بها أجراؤهم ما اختلقوه ضد كتاب الإسلام في الآونة الأخيرة، وهو زعمهم أنه
كتاب تاريخاني خاطب عصراً محدداً فقط ثم عفى عليه الزمن، ولم يبق له في هذه
الدنيا المعاصرة مفعول إجرائي.
فوجب على علماء المسلمين أن يتصدوا لرد هذا الافتراء الشنيع الذي رده
القرآن بالكثير من آياته وغزير مضامينه وجزيل مفاهيمه، وأن يردوه رداً علمياً
يقتنع به أرباب الخبرة والحكمة وينتفع به أصحاب الروية والبصيرة كما سنذكر ذلك
فيما يلي:
تمهيد:
إن قيمة عالمية القرآن من أهم القضايا التي يتحتم على علماء المسلمين
المعاصرين أن يبينوها ويذكروا وجه الصواب فيها بالبراهين العقلية والحجج النقلية
والأدلة الناصعة؛ لأنه قد خرج في الأوساط المسلمة في مختلف بلاد العالم
الإسلامي، في هذا القرن من ينكرون عالمية القرآن بزعم تاريخانيته - كما أسلفنا
ذلك - مع أننا - نحن معاشر المسلمين سلفاً وخلفاً، منذ أن بعث الله هذا الكتاب
إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - نعتقد اعتقاداً جازماً انطلاقاً
من نصوص كثيرة باهرة أن القرآن هو كتاب الله الذي خاطب البشرية به جميعاً
إلى يوم القيامة بلا تقيد بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، أو جنس دون
جنس، أو طبقة دون طبقة خاطبهم جميعاً بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم من
العقائد التي تليق بعظمة الخالق العظيم، والعبادات المعظمة لجلال الفاطر الحكيم
التي تليق بقدسيته وكبريائه، والأحكام الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي يسمو بها بنو
البشر إذا طبقوها وعملوا بها روحاً ونفساً، ومادة ومعنى، وفرداً ومجتمعاً،
ويتطور المجتمع بما تحتوي عليه تلك المبادئ من الطاقات المحركة علماً وتفكيراً؛
فهو وحده القادر على تقديم بديل حضاري متضمن لأفضل الأسس لأكرم حضارة
عالمية إنسانية تجاه ما ابتليت به الإنسانية من الحضارة الغربية التي لم تستطع أن
تسعد الإنسان فرداً وجماعةً سوى في جوانب طفيفة مادية.
عالمية القرآن إذاً من أوسع القضايا القرآنية مساحةً وتغطيةً، ولكن لا يسعنا-
وقد التزمنا الإيجاز في حدود هذه المقالة القصيرة لقلة بضاعتنا - إلا الإيماء
بإشارات خفيفة لطيفة إلى هذا الموضوع الهام لعل الله يقيض له في مستقبل الأيام
من رجالات العلم من يعطيه حقه.
ولكون القضية من البدهيات عند المسلمين بحيث لم يناقش فيه أحد عبر
التاريخ الإسلامي كله رأينا أن علماء الإسلام ما كتبوا في الموضوع شيئاً يعتد به
سوى بعض تلك المعلومات التفسيرية التي كتبوها بمناسبة تفسير تلك الآيات التي
تدل على عالمية القرآن وهي آية: يوسف 12/104، الأنبياء 21/107، الفرقان
25/1، سبأ 34/28، ص 38/87، القلم 68/52، التكوير 81/27، وقد بحثنا
في بعض المكتبات فلم نجد في الموضوع سوى بعض المقالات القصيرة لبعض
العلماء.
وقبل عرض موضوع عالمية القرآن باعتبار مضمونه ومحتواه نرى أن نقدم
بكلمة مختصرة عن التاريخانية التي ساقتنا إلى تناول هذا الموضوع.
إن مسألة تاريخانية [1] القرآن مسألة طلعت في زي الحداثة المزخرف المنمق من
تحت قرن شيطان الاستشراق فلاكها بألسنتهم مقلدوهم من بعض مثقفي المسلمين
عامداً بعضهم إلى ما تأتي به من العاقبة السيئة، وغير شاعر بعضهم الآخر بمغبتها
المشؤومة التي أقلها زحزحة عقيدة بعض المسلمين وإضعاف ثقتهم بالقرآن، وهو
الهدف الفريد الذي يسعى إليه بكدح بالغ المستشرقون وأذنابهم؛ لأنها لا تتواءم مع
العقيدة الإسلامية الحقة، لا في قليل ولا كثير؛ فهي تتنافى مع علم الله المطلق التام،
وتتنافى مع حقيقة خلود رسالة القرآن وأحكامه مدى العصور إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها.
وأهم أهداف التاريخانية التي خطها لها شيطان الاستشراق ضمن خطة مزورة
متدثرة بالعلمية والموضوعية (!) هو الإبانة عن أن القرآن أضحى قديماً مع
الزمن وأبلاه كر الليالي وأخلقه مر العصور؛ حيث كان كتاباً تاريخانياً خاطب كتلةً
محدودةً من البشر في قطاع خاص من التاريخ والزمن، وكان في مستطاعه في تلك
الأزمنة المحدودة تقديم حلول نافعة لتلك الكتلة الخاصة في ذلك القطاع الخاص.
وأما بعد الذي حدث من ثورات عظيمة في معظم جوانب حياة الإنسان الفردية
والاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها فلم يبق القرآن بدوره
التاريخاني قادراً على الإيفاء بتقديم حلول فاضلة صالحة للمجتمعات البشرية في
جميع جوانب حياتها! هذا هو ما يستهدفه أولئك الظالمون! فإذاً الهدف اللئيم الأثيم
لهذه الخطة غير الرشيدة هو إقصاء القرآن بدوره الفاعل عن جميع نواحي الحياة،
ولا يخفى أن هدفهم أن يجعلوا رسالة الإسلام والقرآن عبارة عن أمور أخلاقية
وجدانية، في دائرة ضيقة لا صلة لها بتوجيه الحياة بمعناها الشمولي، وهذه
الصورة الشوهاء المختلقة عن رسالة القرآن التي يمليها الاستعمار الغربي والتنصير
العالمي على عملائه هي نفس كيان النصرانية التي باءت بالإخفاق والبوار لا في
الإصلاح الجماعي فقط بل حتى في الحفاظ على وجودها الذاتي أيضاً في صميم
بلادها، وكفاها ذلاً وهواناً لها ولأبنائها!
وخلال تناولنا لموضوع عالمية القرآن نقدم الاتجاه الاستدلالي على العرض
المضموني؛ فإن الناحية الاستدلالية أوْلى وأهم من ناحية علاقتها الوثيقة بصلب
الموضوع.
عالمية القرآن من الناحية الاستدلالية:
إن الحديث عن عالمية القرآن من أهم القضايا اللاصقة بالقرآن، لا سيما في
عصرنا هذا؛ فطرح القضية على عواهنها من غير استدلال صحيح لا يأتي بشيء
سوى أن يكون من باب الأمنيات؛ فالاهتمام بالأمر يوجب الاستدلال له من ناحيتي
العقل والنقل؛ فلنذكر القضية مستدلين عليها من كلتا الناحيتين:
(أ) من الناحية العقلية:
إن الذي ينكر عالمية القرآن إما أن يكون منكراً للقرآن أو مؤمناً به، أما
المنكر: فللكلام معه مجال آخر.
وأما المؤمن به: فنقول له:
أولاً: كن صريحاً جريئاً لا تخادع ولا توارب؛ فإن كنت تؤمن بالقرآن عن
صدق قلب وإخلاص نية ففتش في نفسك هل ترى أنك تكون من المؤمنين بالقرآن
مع إنكارك لنصوص كثيرة منه تدل على عالمية القرآن بلا لبس ولا غموض؟ ولا
مسوغ لإنكارك إياها أو تأويلها تأويلاً باطلاً لا يرضاه الله ولا رسوله سوى أنك
تحاول أن ترضي بذاك بعضاً من سادتك في التفكير، أو ترضي نفسك بقبول فكرها
الذي ترى أنها الأقوم الأصوب لموافقتها مع آراء العصريين.
وثانياً: إنك إذا أنكرت عالمية أحكام القرآن بليِّ أعناق جميع تلك النصوص
فهل تعلم أنك تكون واحداً من اثنين؟ إما أن تقول: إن القرآن لا يتدخل في الأحكام
أبداً؟ وهو إنما بيَّن العقائد وشرح شيئاً من الأخلاقيات فقط فهذا أيضاً فرية بلا
مرية، وهو من بداهة البطلان بمكان لكثرة النصوص التي تبين الأحكام في القرآن،
حيث إن آيات الأحكام في القرآن تقارب عشرين بالمائة، وإما أن تقبل أن في
القرآن أحكاماً متجهةً إلى توجيه الحياة؟ ولكن تقول: غالب تلك الأحكام مضت
فترتها التي كانت تعمل بها وعفى عليها الزمن وأبلاها الدهر، وحينئذ أيضاً تكون
واحداً من اثنين، إما أن تقول: إن الله لم يعلم ما سيقع في المستقبل فلم يضع لها
أحكاماً، إنما وضع أحكاماً لعصر النزول الذي كان يعلمه فقط، فنقول له: هذا
جهل عظيم أسندته إلى الله - تعالى - يتنافى مع ألوهيته على الإطلاق - تعالى الله
عما تقول علواً كبيراً - وإما أن تسند البخل إليه سبحانه؛ حيث إن عدم إنزاله لما
هو مفيد ونافع مع علمه به يستلزم البخل لا غير مما يتنافى مع رحمته ورأفته
بعباده المؤمنين , تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
إذا لاحظنا موقع القرآن بكونه آخر رسالات الله إلى الناس إلى يوم القيامة
وخاتم الكتب الإلهية علمنا لتونا أن هذا القرآن نزل من يوم أن نزل يخاطب جميع
البشر على جميع المستويات في جميع الأزمنة المتتالية إلى يوم القيامة، وفي جميع
الأمكنة على وجه البسيطة؛ بل الكل على حدٍّ سواء في كونه مخاطباً بخطابات
القرآن المنزلة ومسؤولاً أمام تكاليفه النيرة المهيمنة على الزمان والمكان
والمتغيرات, ولقد جاء هذا القرآن حينما بلغت البشرية سن الرشد العقلي، فجاء
كتاباً مفتوحاً لجميع العقول لا في عصر النزول فقط، بل ليكون مستمراً في جميع
الأزمان شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل بتغير الأزمان والمجتمعات
مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة أيضاً التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق
وهو اللطيف الخبير [2] .
(ب) من الناحية النقلية:
1- الكتاب: إن عالمية القرآن تآزرت عليها جميع الأدلة المقبولة عند
المسلمين من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فهناك العديد من الآيات التي تعلن أن هذا القرآن ذِكْرٌ لجميع العالمين:
[إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (يوسف: 104) ، [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ]
(ص: 87) ، [وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (القلم: 52) ، [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِّلْعَالَمِينَ] (التكوير: 27) فإذا ما حاولنا أن نستنبط من خلال التعابير القرآنية
وألفاظها مقصودنا من عالمية القرآن وجدنا ذلك سهل المساغ، فإن تلك الآي
الأربع التي تصرح بأن القرآن ذكر للعالم أجمع إنما أتت:
أولاً: في صورة الحصر [3] ، والجملة بهذه الصورة الحصرية تنفي في هذا
الصدد عن القرآن كل صفة تنافي عالميته وتجعل عالميته منصوصاً عليها بلا
امتراء ولا ارتياب.
ثانياً: إن تذكيره - ومن ثم عالميته - إنما هي باعتبار الرسالة التي تؤديها
إلى الإنس والجن، فتصلح من خللهم وتزيل من دغلهم؛ كما تنبئ عن ذلك مادة
الذكر أيضاً؛ فإن اللفظة تعني أن القرآن ذكر يُذكِّر الناس والجانَّ بما يحتاجون إليه
فرداً وأسرةً ومجتمعاً ودولةً، يقول أبو حيان وابن عطية: إن كلمة «للعالمين»
عام للإنس والجن ممن عاصروه وممن جاؤوا بعده؛ وهذا معلوم؛ من الحديث
المتواتر وظواهر الآيات [4] .
ثالثاً: إن صيغة العالمين وهي جَمْعٌ وتعريفها بـ (ال) التعريف تدل في
العربية على معنى الاستغراق، كما ذكروا أن من صيغ العموم الجمع المعرف بـ
(ال) مع أن مما لا ريب فيه عند كل من لديه أدنى إلمام بالعربية أن للفظة
«عالَم» - مفرد العالمين - أيضاً دلالة صريحة واضحة بلا تكلف، أو تعسف على
العموم؛ فإن معناه كل: ما يُعلَمُ به وجود الصانع من كل ما في الكون، فإذا جمع
بالواو والنون - كما هنا - يكون خاصاً بالعقلاء من الإنس والجن أجمعين، فإذاً
تدل هذه اللفظة «للعالمين» أيضاً على أن القرآن ذكر لجميع العقلاء من الإنس
والجن جميعاً بلا تقييد بزمان أو مكان أو طبقة أو جنس حتى إنك ترى الرازي
(ت 606) انطلاقاً من عموم دلالة العالمين يقول: «لفظ (العالمين) يتناول
جميع المخلوقات، فدلت الآية على أنه رسول للخلق عامةً إلى يوم القيامة» [5] ومن
البداهة بمكان أن عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتحقق بعالمية كتابه
الذي أرسل به إلى الناس كافةً وهو يشكل رسالته التي يبلغها للناس عامةً، وكذا
يقول محمد صديق حسن: أي ما هذا القرآن أو الوحي أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر
من الله للجن والإنس العقلاء [6] .
فالقرآن ذكر لهم (أي: جميع الناس) : يذكِّرهم بوجه الصواب في دينهم
ودنياهم، يذكِّرهم بما يصلح حالهم فرادى وجماعات.
ذكر لهم جميعاً: بلا تفريق ولا تمييز بين غني أو فقير: بين شريف أو
وضيع.
ذكر للكل: في كل زمان ومكان وعلى كل حال، وفي كل مستوى وتجاه كل
حكمة وهداية وبر، يقول المراغي في تفسير الآية المذكورة: «أي ما هذا القرآن
إلا عظة للثقلين كافةً وكل ذي عقل سليم وطبع مستقيم يشهد بصحته وبعده عن
البطلان والفساد» [7] .
وأيضا: فهناك آيات أخرى تصرح بعالمية القرآن، كقوله تعالى:
[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] (الفرقان: 1)
كقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107)
[إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ
خَصِيماً] (النساء: 105) ، [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً] (الإسراء: 89) ، [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ
لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف: 54) ، [وَلَقَدْ
ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ] (الروم: 58) ، [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ
مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (الزمر: 27) [إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاسِ
بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ]
(الزمر: 41) .
كل هذه الآيات تجعل عالم العقلاء المكلفين على عمومهم بدءاً من زمن البعثة
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سواء جنهم وإنسهم من غير تقييد بزمان دون
زمان أو مكان دون مكان تجعلهم جميعاً محلاً ومناطاً لنزول القرآن والإنذار به،
قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) يقول ابن
عاشور - رحمه الله -:
«صيغت بأبلغ نظم؛ إذ اشتملت هذه الآية - على وجازة ألفاظها - على
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت
مظهر رحمة الله - تعالى - للناس كافة وبأنها رحمة الله - تعالى - بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفاً بدون حرف العطف الذي عطفت به
ذُكِرَ فيها الرسول ومرسله - تعالى - والمرسل إليهم وخصوصية الحصر وتنكير
(رحمة) للتعظيم؛ إذ لا مقتضي لإيثار التذكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا
لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا إنك الرحمة للعالمين، وليس التنكير للإفراد قطعاً،
لظهور أن المراد جنس الرحمة، وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة
التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصياً، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب وهي:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل ...
إذ تلك الكلمة قصاراها - كما قالوا -: إنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى،
وذكر الحبيب والمنزل دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا
غير [8] .
ويقول ابن القيم في هذا المقام:» أصح القولين في هذه الآية أنها على
عمومها، وفيها على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته؛ أما أتباعه فنالوا بها
كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه المحاربون له فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم؛
لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم
الشقاء؛ فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر.
وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شراً
بذلك العهد من المحاربين له.
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم
واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره.
وأما الأمم النائية عنه فإن الله - سبحانه - رفع برسالته العذاب العام عن أهل
الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
والوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا
بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم لكن لم
يقبلوها؛ كما يقال: هذا دواء لهذا المرض؛ فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون
دواءا لذلك المرض [9] .
ثم إن هناك كلمات وتراكيب في القرآن تخاطب الناس عامةً بلا تقييد بزمن أو
صنف أو طبقة أو جنس أو مستوى [10] مما يدل على عالميته ومضي أحكامه إلى
الأبد دون تقيد بأي شيء ما، كما يسترعي أنظارنا من هذه الناحية خصيصاً أن
القرآن يتوخى جمل خطاب العموم دون الخصوص، والإطلاق دون التقييد،
والإجمال دون التبيين ما وسع لذلك المقام والمرام.
فانطلاقاً من هذا المغزى الهام قلما ترى في القرآن المخصصات والمحددات
والمقيدات تذكر؛ كالأمكنة المحددة أو الأزمنة الخاصة أو الأشخاص المعينة أو
الأعراف والتقاليد المختصة أو الأحوال الخصوصية أو العوارض المشخصة التي لا
يكون فيها درس أو عبرة أو حكمة للجميع، وإذا ما وقعت حاجة أثناء البيان
القرآني للتخصيص بصفة أو نحوها فإنما ينتقي القرآن منها أيضاً تلك الصفات
العامة التي خصوصيتها أقل كالمؤمنين والمتقين والصالحين والكافرين والمنافقين
والغافلين والضالين وأمثالها مما لا يختص بجنس أو طبقة دون أن يقيد ذلك
بالحجازيين أو المكيين أو المدنيين مثلاً مما يضيق دائرة دلالة اللفظ، ودون أن
يخصص اللفظ؛ فالحكم بأبي بكر أو علي - رضي الله عنهما - مثلاً مما يجعل
الأمر مقتصراً على واحد لا يتعداه رغماً من أن الصحابة عامةً، وأهل الحرمين
خاصةً كانوا هم الملاصقين للرسول صلى الله عليه وسلم ومن هنا ترى أن ألفاظ
وتراكيب الآي النازلة لسبب خاص وحول قضية خاصة وفي شأن شخص خاص
جردت من عناصر التخصيص والتقييد ما أمكن ذلك وما لم يلتبس الأمر التباساً؛
فمثلاً انظر إلى آيات الإفك فرغم أنها نزلت في أم المؤمنين عائشة - رضي الله
تعالى عنها - بإجماع مفسري أهل السنة فإنك لا ترى في تلك الآي تحديداً بالاسم
والنسب والقرابة للمفترى عليها.
وانطلاقاً من الاتجاه القرآني إلى التعميم في غالب أحواله ودلالاته اتخذ علماء
الفقه وأصوله في الآيات المنزلة لسبب خاص قاعدة هامة لهم وهي: أن العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وكذا ترى أن الفرقان الحكيم يتعدى الحدود ويتجاوز الفوارق التمييزية حين
ينادي المكلفين الذين اتخذهم القرآن له مخاطَبين فيناديهم بتلك التراكيب والتعبيرات
العالمية الواسعة الدلالات والمفاهيم رغماً من ضيق الدائرة البشرية التي نزل القرآن
فيها: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] (البقرة: 21) [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (البقرة: 104)
[يَا بَنِي آدَمَ] (الأعراف: 26) [يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ] (الكافرون: 1) «يا
أيها المنافقون» مما يعم كل فرد من غير فرق، مع أن من المستطاع أن
يخص من في تلك الدائرة الضيقة بالنداء، وهو المتبادر المألوف للخطابات
البشرية التي تقع في قطاع خاص أو بين جماعة خاصة، وكذا يفصح عن عالمية
القرآن ما تراه يُذكر في معرض بيان فوائد القصص والأمثال أنه - سبحانه -
ضرب للناس أو صرف للناس من كل مثل يذكر الناس بصيغة الجمع المعرَّف
باللام المفيد للاستغراق كما هو معروف عند أهل العربية، فلو لم يقصد الاستغراق
لما أوتي بصيغة الاستغراق: وخصيصاً ترى مغزى عالمية القرآن كالمنصوص
عليه بالتنصيص على الناس (المفيد للعموم) حينما يذكر أن من المهام التي كلف بها
صلى الله عليه وسلم بسبب نزول الكتاب هو الحكم بين الناس.
إن عالمية الرسالة تستلزم عالمية القرآن، كما أن عالمية القرآن تستلزم
عالمية الرسالة [إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ
تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً] (النساء: 105) .
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه
الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب
النار» [11] ويقول أيضاً: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي.. وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» [12] .
(ج) عالمية القرآن من الناحية المضمونية:
خاطبنا بمجموع تلك المفاهيم الجديدة في الآفاق البشرية ويمكن أن نستخلص
بعض تلك المعاني السامية والمفاهيم الرامية إلى الكمالات والفضائل التي لا غنى
لأي من أبناء البشر عنها والتي أنزلها القرآن إلى أرض البشرية في هذه العناوين
الآتية.
1- الحفاظ على الكرامة الإنسانية ما لم تنقلب إلى مظاهر سيئة مذمومة
العواقب للفرد والمجتمع؛ فقد أذاق القرآن بتلك التعاليم السمحة الإنسان المستهان
المستضعف طعم الكرامة النفسية ولذيذ العزة البشرية [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً] (الإسراء: 70) .
ونرى هذه الحقيقة تتبلور - منعكسة إلى واقعيات الحياة - على لسان
الفاروق - رضي الله عنه - حينما امتنع ابن عمرو بن العاص - رضي الله
عنه - وهو والي مصر وفاتحها وفي قمة مجده وعزة سلطانه عن توفية
القصاص من نفسه لأجل صفعة صفعها أحد الأقباط؛ حيث قال الفاروق - رضي
الله عنه -: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
2- تحقيق العبودية لله وحده والإنقاذ من عبودية البشر؛ فقد هدى القرآن ذلك
الإنسان الذي ضل عن سبيل الهدى إلى أفضل وسائل النجاة والخلاص عن عبودية
البشر وهو عقيدة التوحيد التي لا تعرف للبشر رباً غير الله، ولا تعطي أية فرصة
لأن يتخذ بعض الناس بعضهم أرباباً من دون الله: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) ،
[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي
مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ]
(آل عمران: 79-80) .
وقد رأينا هذه الحقيقة العظيمة الناصعة التي يهديها الإسلام للبشرية جمعاء
تتجسد في الحياة الواقعية على لسان ربعي بن عامر رسول سعد بن أبي وقاص -
رضي الله عنهما - قائد الجيش الإسلامي إلى الفرس حينما التقى مع القائد الفارسي
رستم وهو بين حشمه وجشمه وفي ذروة زهوه وكبريائه قال له: جئنا لنخرج
الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله.
3- إغاثة المظلوم ونصرة المستضعف وحمايتهما والنصفة لهما من الظالم
والقوي: فقد أتاح القرآن ملجأً شرعياً هاماً لجميع المستضعفين والمظلومين في
أنحاء المعمورة، وجعل الدفاع عن المظلوم والمستضعف من وظائف المسلمين فرداً
وجماعة، وانطلاقاً من هذا أخذ الدفاع عن المظلوم - لا عن دمه فقط بل عن دمه
وعرضه وكرامته - محلاً رئيساً له في الفقه الإسلامي تحت عنوان: «باب
الصيال» ويرى الفقه الإسلامي انطلاقاً من النصوص في إغاثة المظلوم الثابتة في
الكتاب والسنة التي سنذكر بعضها منها أن المسلم إذا لم يدافع عن المظلوم يأثم
ويستحق العذاب.
فمن تلك النصوص:
[وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ
وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء: 75) ، [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] (إبراهيم: 42) ،
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) ،
[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ
تُنصَرُونَ] (هود: 113) .
كما نجد تلك الحقيقة الناصعة والسمة الحضارية القرآنية التي هي من أكثر
الأمور تحريكاً للعجلة الحضارية تتجلى كواقعة حياتية لا مثالية تبقى بين الخيالات
المرغوبة والأحلام الحلوة على لسان الصدِّيق رضي الله عنه في أول خطبته التي
ألقاها حينما انتخب خليفة للمسلمين وهي أول خطوة إجرائية في خلافته؛ حيث قال:
«أما بعد: فإني وليت عليكم ولست بخيركم، واعلموا أن القوي فيكم ضعيف
عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق» .
4- المعاني النبيلة والفضائل السامية المملوءة حيوية ونشاطاً ونبلاً إنسانياً لا
تختص بأمة دون أمة والتي هي في أية حضارة كانت؛ فهي كالروح للجسد فلم
تخلُ أية حضارة منها إلا وأذن بالرحيل ركبها وانهار بعد غِيَرٍ كثيرة بنيانها، وحان
في زمن غير طويل حينها ودمارها، إن القرآن أتى في باب الفضائل والمكارم
وترسيخهما في المجتمع الإنساني وتشييد ذلك البنيان الإنساني وتحكيمه بروابط
وأواصر خلقية اجتماعية لا مثيل لها ولا عديل ولا نظير لها ولا بديل؛ فلقد أتى في
هذا الباب بما لم يسبقه ولا يلحقه لاحق: حيث بث روح الإخاء والتعاون والتساند
والتكافل بين جميع أبناء الأمة: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) كما أمر بالإحسان ونشر الفضيلة والعدل بين
جميع طبقات الناس، ونهى عن جميع المنكرات والفحشاء: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ] (النحل: 90) ، وكفى بهذين النصين في هذا الباب شاهداً عدلاً.
5- من المعاني الدالة على عالمية القرآن الكريم: ما ورد فيه من الأدلة على
ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كالتصريح بختم النبوة بنبينا محمد صلى الله
عليه وسلم قال تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] (الأحزاب: 40) .
قال الشربيني: «أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة ومعها إعجاز
القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال» (السراج المنير3/237) .
ومن هذه الأدلة: عموم الرسالة المحمدية؛ حيث قال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً] (الأعراف: 158) .
فالرسالة المحمدية عامة، وهذا القرآن حجة على كل من بلغه، لما قال-
سبحانه -: [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ] (الأنعام: 19) .
فالقرآن حجة على كل من بلغه من جميع الإنس والجن وإلى قيام الساعة.
ترى معي أن جميع هذه المعاني المذكورة بوصفها دلائل على عالمية القرآن
إنما هي مما لها علاقة وثيقة بالكيان الإنساني المطلق من غير تقييد بجنس أو تحديد
ببقعة أو تخصيص بطبقة أو تعيين بلون، ولها صلة محكمة بالهوية الإنسانية العامة
المطلقة بلا تفريق ولا تمييز وبذلك يتجلى معنى هذه الكلمة الإلهية الحكيمة المدوية
عبر العصور والقرون التي تطن في أذن التاريخ دوماً: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) .
فإذاً لا ضير علينا من مزاعم أولئك المغرضين على الإسلام وأهله، ولا
ضير أيضاً على أذنابهم المتملقين لهم بتاريخانية القرآن؛ فإن الحقيقة أظهر من أن
تخفى، والشمس أبهر من أن تختفي عن العيون بإغماض الخفاش عينها منها، أو
بإنكار الأعمش لها كما قال الشاعر قديماً:
قد تُنكر العينُ ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
__________
(1) إن التاريخانية نزعة فلسفية يتخذ منها فلاسفة الغرب نظرةً فلسفيةً إلى بعض الأمور لا صلة لها مع عالمية القرآن، ولكن للانبهار البالغ عند كثير من أبناء بلاد العالم الإسلامي لكل ما يهب من الغرب طبقوها على القرآن وجعلوها نظرةً معاكسةً لعالمية القرآن.
(2) انظر: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص 101.
(3) محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس 1984، ج 17، ص310.
(4) محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1403 / 1983، ج 6/480، محمد عبد الحق بن غالب بن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت 1413/ 1993، ج 4، ص 199.
(5) محمد فخر الدين بن عمر الرازي، التفسير الكبير، دار الفكر، الطبعة الأولى، بيروت 1401 /1981، ج 24/45.
(6) صديق حسن القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر
1410/1989، ج 12/73.
(7) أحمد مصطفى المراغي، تفسير القرآن الكريم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الخامسة، مصر 1394/1973، ج 23/139.
(8) محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية، 1984، ج 16/ 165، 166.
(9) يسري السيد محمد، بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، المملكة العربية السعودية 1414/1993، ج 3/198.
(10) إن القرآن يتجنب ما أمكن عن تلك الدوالّ الخصوصية التي تخص معنى اللفظة بأمر خاص أو فرد خاص أو مكان خاص أو مجتمع خاص أو طبقة خاصة أو نحوها من الخصوصيات، وهذا من أدل الدلائل على عالميته، ومن هنا تجد الألفاظ العامة مستعملةً في القرآن بكثرة كالموصول العام ولفظة قوم النكرة والجمع المعرف باللام والنكرة في سياق النفي وأمثالها من ألفاظ العموم حتى إن بعضاً من العلماء أفرد الألفاظ العامة في القرآن بالذكر فصار كتاباً حافلاً قيماً في بابه منها تلقيح الفهوم في صيغ العموم لخليل بن الكيكلدا العلائي.
(11) مسلم، الإيمان 69.
(12) البخاري، التيمم 1.(155/18)
تأملات دعوية
الإسلاميون والتخصصات المطلوبة
محمد بن عبد الله الدويش
من يتأمل اليوم في تخصصات الإسلاميين يجد أنه باستثناء التخصصات
الشرعية ينتشر معظم هؤلاء في تخصصات الطب والمحاماة والهندسة وما يماثلها.
وهذا الأمر له دلالات عدة، منها:
* خطأ المقولة الشائعة بأن الصحوة الإسلامية إفراز للأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية المتردية؛ فمعظم قادة الحركات الإسلامية اليوم هم بين أصحاب هذه
التخصصات الذين هم في الأغلب من طبقات اقتصادية واجتماعية عالية.
* الجدية عند الشباب الإسلاميين؛ إذ معظم هذه التخصصات لا ينجح فيها إلا
الجادون.
* أن الدعوة الإسلامية قد نجحت في استقطاب عدد من المتميزين؛ فهذه
التخصصات يقبل فيها في الأغلب حملة المعدلات الدراسية العالية، ويتيح لها كثرة
المتقدمين اختيار العناصر المتميزة.
ومن الطبيعي أن تنتشر الدعوة الإسلامية في كافة المجالات، وأن تستوعب
كافة الفئات والتخصصات وسائر شرائح المجتمع، ولا اعتراض على اتجاه طائفة
من الشباب إلى هذه التخصصات وإقبالهم عليها.
ومع ما في هذه التخصصات من إيجابيات إلا أنها تحصر صاحبها في ميدان
عمله، وقلَّ أن يستثمرها صاحبها في دعوته، بل ربما استغرقت جزءاً كبيراً من
وقت صاحبها أثناء دراسته وأثناء عمله، فلا يبقى لدعوته إلا اليسير.
ويبقى مجالان مهمان ينبغي أن تكون لهما الأولوية في توجه الإسلاميين
ودراساتهم وهما - على الترتيب -:
المجال الأول: التخصصات الشرعية، فالعلم الشرعي لا غنى للدعوة عنه،
وحين تفتقده تتسع دائرة الآراء الشخصية، فتزيد الشطحات والانحرافات،
والشعور بأهمية العلم الشرعي موجود بحمد الله عند فئة عريضة من الإسلاميين -
على المستوى النظري على الأقل - لكنه يحتاج إلى مزيد اهتمام ورعاية.
المجال الثاني: الدراسات الإنسانية التي لها أثرها في النظرة للإنسان
والمجتمعات، والدراسات الإعلامية التي لها أثرها في توجيه الرأي العام وصياغته،
ومما يبرز الحاجة لهذه التخصصات ما يلي:
* حاجة الدعوة الإسلامية إلى برامج تربوية لرعاية أبنائها وتربيتهم، ومع
أهمية الجهد التربوي الذي تقوم به الصحوة وتقدمه لأبنائها وضخامته، فلا تزال في
كثير من الأحيان تعتمد على التجارب الشخصية والمحاولة والخطأ، وتفتقر إلى
الاستفادة المثلى من أهل الاختصاص في هذا الميدان.
* أهمية المواقع والأدوار الاجتماعية التي يتولاها أهل هذه التخصصات،
وخطورة هذه المواقع؛ فالمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية والتخطيطية في
المجتمع تعتمد على مثل هذه التخصصات.
* يحتاج الدعاة إلى الله كثيراً إلى هذه التخصصات؛ في دعوتهم: فهي
تعينهم على الفهم الصحيح للمجتمعات وآليات التغير الاجتماعي، وإلى فهم اتجاهات
التغريب والإفساد في المجتمعات فهماً أشمل وأدق، ويحتاجون إليها حتى يملكوا
الأدوات الصحيحة لدراسة الظواهر التربوية والاجتماعية.
* يحتاج الدعاة إلى الله إلى هذه التخصصات؛ لأنها منطلق لكثير من الأعمال
الدعوية، كالأعمال الإعلامية، والخدمات الاجتماعية، والمؤسسات التربوية
والدعوية.
هذه الاعتبارات وغيرها تؤكد على الدعاة إلى الله - تعالى - الاعتناء بهذه
التخصصات، وفي العدد القادم بإذن الله مزيد حديث حول هذا الموضوع.(155/26)
إصدارات
أحمد العامر
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملةً بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها، ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء - البيان - على ما يتيسر لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة
لقارئها ... سيكون لنا - بإذن الله - وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد
وآخر، والله الموفق.
1- التحبير شرح التحرير في أصول الفقه:
المؤلف: علاء الدين أبو الحسن علي المرداوي، دراسة وتحقيق: د. عبد
الرحمن الجبرين، ود. عوض القرني، ود. أحمد السراح، الناشر: مكتبة الرشد،
الرياض. الطبعة الأولى، 1421هـ.
يعد هذا الكتاب من أبرز كتب أصول الفقه وخاصةً في مذهب الحنابلة، طبع
في ثمانية مجلدات، وأصله ثلاث رسائل علمية تقدم بها المحققون لنيل درجة
الدكتوراه في قسم أصول الفقه في كلية الشريعة بالرياض.
اعتنى المحققون بمراجعة أصوله، وضبط ألفاظه، وتحرير مسائله، وشرح
مشكله، حتى خرج الكتاب بأبهى حلة.
2- تقييد المهمل وتمييز المشكل:
المؤلف: الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجيَّاني، حققه: علي بن محمد
العمران، ومحمد عزيز شمس الناشر: دار عالم الفوائد، مكة المكرمة. الطبعة
الأولى، 1421هـ. كتاب جليل القدر اعتنى بخدمة الصحيحين: ضبطاً لما
يشتبه ويُشْكل من أسماء من قبل الرواة، وتنبيهاً لما أهمل من شيوخ البخاري،
وكشفاً لألقاب جماعة من رواتهما.
3- فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد
والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن:
المؤلف: العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، اعتنى به: د. عبد
الرزاق بن عبد المحسن البدر، الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى،
1421هـ.
مؤلَّف نفيس يطبع لأول مرة، جمع فيه مؤلفه أهم علوم القرآن وأجلها، وهي:
علم التوحيد، وعلم الأخلاق، وعلم الأحكام والعبادات والمعاملات، تميز الكتاب
بالقوة العلمية، وغزارة الفوائد، مع سهولة العبارة وجزالة الألفاظ، بعيداً عن
الحشو والتعقيد.
4- الدعوة بين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية
د. خالد عبد الرحمن القرشي، بدون تاريخ أو ناشر.
وهي دراسة تقويمية للعمل الدعوي بالمراكز الإسلامية في أمريكا قام بها
المؤلف وهو عضو هيئة تدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتتناول
الدراسة إيضاح الموضوع وأهدافه، وأسباب اختياره، وتحديد مشكلة الدراسة،
وتساؤلات حول المنهج في الدراسة.
ومما تناولته الدراسة: البحث في دخول الإسلام إلى أمريكا وانتشاره،
وتعريف بالمنظمات والجامعات الإسلامية هناك، ووسائل العمل الدعوي في هذه
المراكز والجمعيات، وتقويم العمل الدعوي، وبيان العوائق والمشكلات الدعوية
وكيفية علاجها، إضافة إلى خاتمة: جمع فيها أطراف الموضوع ونتائج البحث
والتوجيهات التي رآها مما يؤدي إلى انتشار الدعوة بشكل صحيح بعيد عن الإفراط
والتفريط.
5- وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء
المساكن في المجتمعات الغربية:
المؤلف: د. صلاح الصاوي، الناشر: التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية.
الطبعة الأولى: 1421هـ.
دراسة علمية متزنة، بعيدة عن التعصب والتشنج، للرد على فتوى كل من
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ومؤتمر رابطة علماء الشريعة بأمريكا الشمالية،
التي تبيح للمسلمين المقيمين بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الاقتراض بالربا
لشراء مساكن.
يتميز الكتاب بالأصالة العلمية، والأدب الرفيع، وهو جدير بالنشر والدراسة
خاصة في البلاد الغربية.
6- حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان:
د. محمد أبو رحيِّم 1421هـ/2000م دار الجوهري عمان - الأردن.
الإيمان عند سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان يقوم على
ركنين هما: القول، والعمل أو على أربعة عند التفصيل: (قول القلب وقول
اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح) ولم ينقل عن سلفنا قيام الإيمان على ركنين:
القول، والاعتقاد وشروط الكمال.
ونقل الإجماع ابن عبد البر، وأثبته شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: أجمع
السلف على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان؛ وفي الكتاب
رد على فئة من الدعاة في موضوع الإيمان تبين منه روائح إرجائية ردَّ عليها
علماؤنا الأفاضل، ومن آخر ما صدر في هذا الباب الفتوى رقم 20212 في 7/2/
1419 في الموقف من كتاب (أحكام التقرير) والتي تضمنت التحذير من التطرق
لهذا الموضوع ممن لم ترسخ قدمه في العلم الشرعي حتى لا تزل القدم، والأمل أن
يكون الحوار في هذه المسائل علمياً دافعه الحرص والنصح والإشفاق بعيداً عن النقد
الجارح لا سيما بين أصحاب المنهج الواحد، والله المستعان،
7- على أعتاب الألفية الثالثة:
المؤلف: حمدان حمدان، الناشر: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام - بيروت،
الطبعة الأولى، 1421هـ.
دراسة سياسية للجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل، احتوت
الدراسة على خمسة فصول وخاتمة: الأول: إرهاصات أوروبية، والثاني:
البيورتيانية الإنجليزية والخروج على الكنيسة، والثالث: بين سياسة الدين ودين
السياسة، والرابع: المسيحية المتهودة في أمريكا الشمالية، والخامس: مسيحية
ويهودية في التاريخ، أما الخاتمة فكانت بعنوان: ثقل الجانب التوراتي في
المسيحية، احتوى الكتاب على مادة غزيرة، ومعلومات وفيرة تستحق التقدير.
8- معالم في طريق الإصلاح:
تأليف: عبد العزيز محمد السدحان، نشر دار العاصمة، ط 1421هـ /
2000م.
الإصلاح رسالة كبرى قام بها الأنبياء والرسل والعلماء والدعاة، والداعون
إليه يلزم أن ينطلقوا من أصول واضحة وبصيرة راشدة حتى تؤتي دعوتهم أكلها،
وقد وضَّح المؤلف بعض المعالم التي يستضيء بها مريدو الإصلاح على ضوء
الكتاب والسنة وكلام أهل العلم ومنها:
1- الإخلاص في العمل.
2- العلم بالعمل.
3-عدم ذكر المثاليِّ ودفع أبواب اليأس والقنوط.
4- عدم الإفراط والتفريط.
5- ربط العواطف بالعلم الشرعي.
6- الحرص على التخصصات العلمية.
7- الحذر من العجب.
8- الدعاء.
9- القدوة.
10- الصبر والصلاة.
11- الاهتمام بالكيف لا بالكم , ويعتبر الموضوع رؤوس أقلام تحتاج إلى
المزيد من العرض والتفصيل، ولعل لذلك بحثاً آخر يقوم به المؤلف إن شاء الله.(155/28)
حوار
تأثرت بأصالة القرآن وصحته
حوار مع الشيخ جمال الدين زرابوزو
نبذة عن الضيف:
فضيلة الشيخ جمال زرابوزو عَلَم من أعلام الدعوة الإسلامية في أمريكا
الشمالية، عرف بتميزه العلمي، وحرصه على التأصيل الشرعي، له عناية خاصة
بعلم الحديث. ترجم عدداً من الكتب إلى اللغة الإنجليزية من أبرزها: كتاب فقه
السنة، وهو مطبوع، وشرح العقيدة الطحاوية، نسأل الله - تعالى - أن ييسر
طباعته. ومن أبرز مؤلفاته: شرح الأربعين النووية، وهو شرح مفصل طبع في
ثلاثة مجلدات. كما أسس فضيلته مجلة (البشير) ، وهي مجلة متخصصة تعنى
بنشر الدراسات والأبحاث الشرعية، ولكنها توقفت عن الصدور.
ويسعدنا في هذا اللقاء أن نستضيف فضيلة الشيخ لنتحاور معه في عدد من القضايا
في الساحة الأمريكية.
البيان: لعلنا نبدأ حوارنا مع فضيلتكم بالتعرف على سبب إسلامك، ثم
اهتمامك بدراسة العلوم الشرعية؟
- إنني في الأصل من إسبانيا، وقد نشأت في عائلة إسبانية كاثوليكية
«تقليدية» . وأقول «تقليدية» بمعنى أننا لم نكن متدينين جداً. ولقد بدأت
رغبتي بالدين عندما دعاني أحد أصدقائي إلى كنيسة من كنائس جماعة «شهود
يهوه» ، ولما أتى الوقت لأنتسب إلى تلك الكنيسة بشكل رسمي قررت أنه لا بد لي
قبل ذلك من دراسة أديان أخرى قبل الانضمام إلى تلك الكنيسة كي أتأكد أن تلك
الكنيسة هي الكنيسة الحقة. وهذا في الحقيقة هو الذي دعاني لدراسة الإسلام
واليهودية والبوذية والهندوسية وغيرها. ولدى دراستي الإسلام تأثرت بأمرين
أولهما: أصالة القرآن وصحته، و «نقاوة» الإيمان بالله، بعيداً عن
الخرافات، والترَّهات، والآلهة البشرية وغير ذلك. وبعد عدة أشهر فقط من بداية
دراستي لهذا الدين العظيم قررت أن أُسلم؛ علماً بأني لم أقابل مسلماً قطُّ في ذلك
الوقت، وكذلك كنت شبه مقتنع بأنه لم يكن هناك مسلمون على الإطلاق في تلك
القرية الصغيرة التي كنت أقيم فيها.
وبفضل الله ونعمته فقد وجدت عدداً من الطلبة المسلمين في تلك البلدة. وكان
في البلدة عدد من الإيرانيين الشيعة يقيمون في تلك البلدة في ذلك الوقت، إلا أنني،
والحمد لله، لم أشعر بأي انجذاب أو تجاوب لتعاليمهم وما يدرسونه. وكان أكبر
الأثر عليَّ لإخوةٍ من المسلمين من الكويت والمملكة العربية السعودية. وقد كانوا
بحق مجموعة من الإخوان الطيبين الذين أثَّروا فيَّ بشكل كبير. وبعد حمد الله
وشكره، فإنني أتوجه بالشكر الخالص إلى أولئك الإخوة على دعوتهم وإخائهم
الطيب.
ونظراً لخلفيتي ودراستي للأديان المختلفة فقد شعرت بأهمية العودة إلى
المراجع الأصلية للعلم والمعرفة؛ وذلك لأميز بين ما أصبح «ممارسة» عادية
للملتزمين باسمٍ مَّا، وبين التعاليم الحقيقية للدين. ولذا، فقد قررت مبكراً، بأنني
إذا قررت الالتزام بدينٍ جديد فيجب أن ألتزم به بشكل جدي، وأنه يجب عليَّ بذل
قصارى جهدي لدراسة هذا الدين من مصادره الموثوقة المعتمدة الصحيحة والأصيلة.
والحمد لله؛ فمنذ أصبحت مسلماً أقمت في بيئة يوجد فيها عدد من الإخوة العارفين
بهذا الدين، والذين يحبون مساعدة الآخرين من مختلف أرجاء العالم. ولقد كانوا
خير مثالٍ وقدوة لي، وشجعوني دائماً على الدراسة والتعلم. فعلى سبيل المثال:
بعد أن بدأت أقرأ العربية وأكتبها، بدأ عدد من الإخوة - جزاهم الله خير الجزاء -
بمساعدتي للحصول على المراجع الأساسية من مختلف بلدان ما وراء البحار؛ إذ لم
يكن هناك سوى أمكنة قليلة يمكن شراء الكتب العربية منها في أمريكا. وبتوفيق
الله - سبحانه وتعالى - ثم بمساعدة هؤلاء الإخوة الكرام تمكنت من متابعة
دراساتي وتحصيلي العلمي في مادة القرآن الكريم، والحديث، والفقه وغيرها
من العلوم الشرعية.
البيان: ذكرتم تأثركم بالقرآن ولكن؛ هناك عدد كبير من الترجمات
الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم؛ فما تقويمكم لها، وما أحسن الترجمات فيما ترون؟
- نعم! لا شك أن هناك عدداً كبيراً من الترجمات لمعاني القرآن الكريم
بالإنجليزية متوفرة حالياً، وكي أكون صريحاً معكم فإن هذه الترجمات تتفاوت ما
بين «سيئة جداً» إلى «قريبة من الممتازة» . فإذا تكلمنا عن ترجمة معاني
الآيات الكريمة فقط، فأفضل الترجمات، في رأيي، ترجمة خان والهلالي،
وترجمة «صحيح انترناشيونال» ، وترجمة محمد بكتال، وترجمة عبد الله يوسف
علي. وعلى جودة هذه الترجمات - كلٌّ على حدة - فإن هناك ما ينقصها ويعيبها.
فعلى سبيل المثال: ترجمة خان والهلالي، على ما أخبرني عبد الملك مجاهد
شخصياً [ناشر الترجمة] ؛ فقد تقرر أن توضع «ملاحظات الشرح» والهوامش
ضمن أقواس داخل نص الترجمة ذاته، وليس في الحواشي المستقلة. وإن هذا
يجعل النص صعب القراءة، وغالباً لا يستطيع القارئ تمييز نص الآية ذاتها
والملاحظات الشارحة لها. وأما ترجمة عبد الله يوسف علي فهي بلغة قديمة
مهجورة تقريباً، وهو يؤول معاني من معاني الآيات الكريمة، كما أن حواشيه
وتعليقاته غاصةٌ بمظاهر التوبيخ والشجب. وإنني لا أوصي بترجمة يوسف علي
بما تحتويه من الكم الهائل من التعليقات والحواشي عليها، علماً بأن هناك إصدارين
جديدين من هذه الترجمة متوفرين في الأسواق، وقد قدما كثيراً من التحسينات على
الترجمة الأصلية.
وإنني أعتقد أن ما ينقص المكتبة القرآنية باللغة الإنجليزية هو وجود حواشٍ
وتعليقات على معاني القرآن الكريم يتم تقديمها على ضوء السنة المطهرة والحديث
النبوي الشريف، وأقوال الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، وقدامى المفسرين،
كما يجب تناول القضايا والموضوعات التي لا بد من مناقشتها وتناولها لقراء اللغة
الإنجليزية. ولعل أفضل وأكمل شرح أو تعليق على معاني القرآن الكريم نجده
اليوم هو كتاب العلامة أبي الأعلى المودودي مترجماً بالإنجليزية هو «تفهيم
القرآن» . ومع ذلك، فإن هذا الكتاب أيضاً عليه ما عليه من المآخذ، كما هو
معروف لكثير من قرائكم. وقد نشرت مكتبة دار السلام مؤخراً طبعةً موجزةً
مختصرةً جديدةً من المجلد الأول من تفسير ابن كثير، وأرجو أن يكون هذا
العمل الجليل إسهاماً هاماً للمكتبة الإسلامية بالإنجليزية، إلا أن هذا العمل لم
يُكْتَب للقارئ الإنجليزي، لذا فإنه لن يسدَّ كافة الفجوات التي يجب سدُّها في
هذا المجال.
وإن مشكلة فراغ المكتبة الإسلامية باللغة الإنجليزية من شرحٍ فعَّالٍ ومؤثر
لمعاني القرآن الكريم هي إحدى المشكلات التي ما فتئ الدكتور جعفر شيخ إدريس
يعالجها، وكذلك أنا شخصياً، خلال السنوات الماضية. وأرجو الله - سبحانه
وتعالى - أن يجعل اليوم الذي تتوفر فيه تفاسير أفضل وأعمق باللغة الإنجليزية
لقرائها كما هو متاح لقراء العربية.
البيان: نرجو من فضيلتكم أن تحدثونا عن المسلمين الأمريكيين من حيث
تأريخهم ونسبتهم وتأثيرهم السياسي والاجتماعي.
- في الحقيقة إن للإسلام تاريخاً طويلاً وممتعاً في أمريكا. وإنني لست
متخصصاً في هذا المجال من جهة، وليس هذا المجال مجال خوض في التفاصيل
عن هذا الموضوع بالذات، ومع ذلك فيمكنني أن أسرد بعض الملاحظات العامة.
فالإسلام قد دخل إلى أمريكا على عدة موجات مختلفة، بما في ذلك مرحلة موجة
المكتشفين الجغرافيين قبل كولومبوس وذلك من شمال إفريقية، والعبيد الذين
أكرهوا على المجيء أثناء فترة «تجارة العبيد» من مختلف أرجاء العالم الإسلامي
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. إلا أن معظم هذه الموجات المبكرة من أفواج
المسلمين لم يكن لهم كبير أثرٍ مباشرٍ على الوجود الإسلامي المعاصر في أمريكا.
ولا يزال عدد المسلمين اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية صغيراً نسبياً. وإن
التقديرات الأولية العامة لعدد المسلمين حالياً في أمريكا يتراوح ما بين (3 - 9)
ثلاثة إلى تسعة ملايين مسلم. إلا أننا يجب أن ندرك أن هذه التقديرات العامة لا
يمكن الاعتماد عليها تماماً. والأهم من هذا كله يجب أن ندرك أن هذه التقديرات لا
تفرق بين المسلمين الملتزمين، ومن لهم أسماء مسلمة فقط، أو أنهم ينتسبون
للإسلام فقط؛ لأنهم انحدروا من أصول مسلمة، أو أتوا من بلدان إسلامية، وليس
لأنهم يمارسون الإسلام في حياتهم العملية. ويمكن القول بشكل عام: إن التأثير
السياسي والاجتماعي للمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال ضئيلاً جداً،
وخاصةً خارج الشواطئ الشرقية لأمريكا. ولا زلت أقابل - حتى هذا الوقت -
أشخاصاً أمريكيين يعربون عن دهشتهم إذا سمعوا أن هناك مسلمين في أمريكا، أو
أن تكون أعداد هؤلاء المسلمين بالملايين.
البيان: تنتشر الاتجاهات الصوفية عند بعض إخواننا المسلمين من ذوي
الأصول الأوروبية، فما حجم هذا الانتشار وما أسبابه؟
أولاً: من الصعب جداً أن نحاول تقدير حجم هذه الظاهرة. ومع ذلك، فمما
لا شك فيه أن نسبة كبيرة من الأمريكيين الأوروبيين ينجذبون لمختلف أشكال
الطرق الصوفية. ومن الصعب عليَّ أن أحاول أن أبدي رأياً في هذا الأمر بناءً
على عدد النقاشات التي أجريتها مع أمثال هؤلاء. كما أن من الصعب أيضاً شرح
الأسباب الداعية إلى ذلك. ولقد قابلت عدداً كبيراً من هؤلاء الأشخاص ويمكنني أن
أقدم أفكاري فقط حول هذا الموضوع بناءً على عدد من المناقشات مع هؤلاء
الأشخاص. وينحدر كثير من هؤلاء الأشخاص من عوائل متوسطة أو عالية
المستوى ومن خلفيات متحررة نسبياً. ولا يتطلع كثيرٌ منهم نحو طريقة جديدة في
الحياة، أو إجراء تغيير في حياتهم؛ فهم سعداء بنوعيات حياتهم، كما أنهم سعداء
بما هم عليه. وكل ما يبحثون عنه هو الرضى الروحي أو القناعة والسعادة
الروحية المفقودة. أو - بمعنى آخر - إنهم يبحثون عن شخص يخبرهم أن كل ما
يعملونه هو «صواب» ، طالما أن قلوبهم سليمة. وإن هذا بالضبط هو ما يجدونه
في الحركة الصوفية. وسترى أنهم سيستمرون في حياتهم العادية تماماً قبل أن
يعتنقوا الإسلام، أو على الأكثر؛ فإن التغييرات التي يجب عليهم إجراؤها في
حياتهم هي قليلة جداً. وفي الوقت ذاته، فإن كثيراً من الأشخاص قد انجذبوا للفكر
الصوفي لأسباب مختلفة تماماً. إن أمثال هؤلاء الأشخاص يحاولون أن يرتقوا
بأرواحهم، إلا أنهم يشعرون بركود كبير أثناء القراءة والاستماع للمحاضرات
المتوفرة عن الإسلام. وإنني لم أستطع، حتى هذا اليوم، معرفة السبب الذي يؤكد
فيه إخواننا على نشر مواد أولية فقط لأمثال هؤلاء، دون أن يكون فيها أي عمق
في المحتوى. وكذلك الحال تماماً بالنسبة للمؤتمرات والمحاضرات التي تعقد بشكل
عام. وتصبح هذه المواد، وبسرعة كبيرة جافةً جداً، ومكرورةً، ومملةً. فإذا أراد
الأمريكيون الذين لا يحسنون قراءة العربية الانتقال من ذلك النوع من القراءة، فإن
أمامهم ثلاثة خيارات هي: الأدب الصوفي، والأدب الحديث، أو أدب المستشرقين.
ومن نافلة القول أن نقول: ليس أي من هذه الخيارات المتاحة مشجعاً، إلا أنه لا
بد مما ليس منه بدُّ؛ فليس هناك أية خيارات أخرى، وترى أن كثيراً من القراء
يغوصون في هذه الأنواع الثلاثة من أنواع الأدب الإسلامي. ولسوء الحظ، فإن
كثيراً ممن يقرؤون مثل هذه الكتب تضطرب أفكارهم، أو تستغرقهم مثل هذه
الأعمال، ولذا فإنهم يتجهون إلى مسارات غير سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
البيان: المسلمون من أصول إفريقية يمثلون نسبةً كبيرةً في أمريكا مقارنةً
بغيرهم، ولكن ظهرت في أوساطهم منذ عهد قديم دعوات منحرفة مثل دعوة
البلاليين، وأخيراً برز من قياداتهم لويس فرخان، فهل يمكن أن تحدثونا عن ذلك
من الناحية التاريخية والعقدية المنهجية؟
- يحتاج الجواب على هذا السؤال، في الحقيقة، مجالاً أوسع من مجال هذه
المقابلة. وإذا لم يسبق لمجلتكم الغراء أن كتبت سابقاً عن هذا الموضوع فيستحسن
أن تفردوا له مجالاً خاصاً فيها، إذ إنه يمثل، في اعتقادي، إحدى القضايا الهامة
التي تُشْكِل على كثير من إخواننا المقيمين في العالم العربي وغيره. وباختصار،
فإن كثيراً من التاريخ الإسلامي، فيما يتعلق بالأفارقة الأمريكيين، يتركز حول ما
يسمى حركة: «نيشن أوف إسلام» (أمة الإسلام) . ويعتقد أتباع هذه الحركة أن
الحق - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً - أتى بشكل «رجل» يسمَّى
«فرد محمد» ، والتقى مع من يدعى «أليجا محمد» واختاره ليكون «رسولاً»
له.
وكان من تعاليم أليجا محمد: أن العرق البشري الأبيض هم شياطين.
وكما يتضح من التعاليم الأساسية لهذه الجماعة، فإن تعاليمهم - وإن استخدموا
لفظة «الإسلام» ، وأشاروا إلى القرآن الكريم، فإن تعاليمهم كانت كفراً بواحاً -
نعوذ بالله من الشيطان الرجيم - وكانت بعيدةً بعداً كبيراً عن تعاليم الإسلام الحق.
وبعد موت أليجا محمد عام 1976، أجرى ابنه والاس محمد، أو وارث الدين
محمد، بعض التغييرات على مفاهيم الجماعة وأفكارها، وقرَّبها نسبياً من الإسلام.
فبدأ أفراد هذه الجماعة يصلَّون، ويسمعون عن حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ولسوء الحظ، فإن أحداً لم يدرس كيف يمكن النظر وتقييم «الكفر»
الذي كانت عليه التعاليم السابقة لتلك الجماعة بشكل مباشرٍ وصريح. ومن ناحية
أخرى، فإن لويس فرخان رفض التغييرات التي حدثت في الجماعة، واستمر في
تدريس عقيدة الكفر التي كان يدرسها ويدعو إليها أليجا محمد. وقد ادعى لويس
فرخان، في مناسبات، وخاصةً في الآونة الأخيرة، أنه يعتقد بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وأنه ينطق بالشهادتين، واستطاع بهذا أن يخدع كثيراً من المسلمين،
بل واستطاع أن يخدع بعض المنظمات والمؤسسات الإسلامية أيضاً. وفي الوقت
ذاته، لم يواجه فرخان أية مشكلة في أن يشرح لأتباعه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم هو خاتم رسل الله رب العالمين، إلا أن أليجا محمد أيضاً هو خاتم
«الرسل» ، نعوذ بالله مما يقول ويفتري. كما أنه استهزأ بالمسلمين والعرب من
أهل السنة في بعض الأحيان، كما سخر من اعتقاداتهم ووممارساتهم الإسلامية.
ولسوء الحظ، فإن لفرخان أثراً كبيراً حتى هذا الحين بين المسلمين الأمريكيين -
الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية. ومما يزيد الأمر سوءاً أثر الإعلام على
الناس من الأمريكيين الأفارقة وغيرهم، بل الأدهى والأمرُّ أنهم يعتقدون أن
الإسلام، أو عندما يُسألون عن الإسلام، أن لويس فرخان هو خير من يمثل هذا
الدين بحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
البيان: ماذا عن الدعوة السلفية في أمريكا عامةً، سواء عند المسلمين البيض
أو عند المسلمين السود ذوي الأصول الإفريقية؟ وهل ترون أن العلم الشرعي
الأصيل ينتشر بين المسلمين الأمريكيين؟
- أود أن أجيب على هذا السؤال بالحديث عنه من خلال وجهة نظري
التاريخية. لقد اعتنقت الإسلام، ولله الحمد، في عام 1976م، وقد كانت الدعوة
السلفية غير معروفة في أمريكا لا بالاسم ولا بالفكرة. ولحسن الحظ، فقد كانت
أكثر المواد المنتشرة بين المسلمين في تلك الآونة إما من كتابة الإخوان المسلمين،
أو من كتابات الجماعة الإسلامية في الباكستان، وقد احتوت هذه المواد على كثير
من المعلومات الجيدة عن الإسلام، إلا أنه في الوقت ذاته، لم تركز تلك الكتب
على اتباع السنة المؤكدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه الكامل في
الحياة، وهدي خلفائه الراشدين - رضي الله عنهم -، وهذا أقل ما يُقال في تلك
الكتب. وكان التركيز ضعيفاً جداً على اجتناب البدع، وكذلك محاولة فهم الإسلام
على أنه الطريقة الحقة الوحيدة للحياة. ولقد كان هذا الأمر، إلى جانب توفر كَمٍّ
كبير من الأدب الصوفي، إلى جانب الأدب الحديث أو الحداثي، اللذين سهَّلا جداً
على الأشخاص أمر الانحراف عن الطريق السوي لهذا الدين المستقيم. والحمد لله؛
فقد تغيرت الأمور تغيراً ملحوظاً منذ ذلك الوقت، وقد أصبح الآن للدعوة السلفية
مؤسسات ومؤتمرات تمثلها وتدعو لها. ولقد تمَّ نشر عدد كبير من الكتب على هذا
المنهاج، وبخاصة تلك الكتب التي تردنا من إنجلترا، والكتب التي يؤلفها وينشرها
أحد رواد هذا المنهج السلفي في بلادنا الدكتور بلال فيليبس. ونحمد الله كذلك على
أن الذين يرغبون باعتناق الإسلام حالياً لن يواجهوا ما واجهه كثير من معتنقي
الإسلام في الماضي. بل، ولله الحمد كذلك، فإن المسلم الجديد الذي يعتنق هذا
الدين العظيم سيجد بسهولة وسرعة ما يوجِّهه إلى منهج السلف الصالح والطريق
القويم لهذا الدين العظيم.
البيان: هناك جالية مسلمة كبيرة وافدة إلى أمريكا من العرب والهنود وغيرهم،
فما أثر هؤلاء على نشر الإسلام في القارة الأمريكية؟
- أشرت في إجابتي عن بعض الأسئلة السابقة إلى أنه لم يكن للمهاجرين
الأوائل سوى أثر ضئيل جداً. إلا أن المهاجرين الذين قدموا إلى الولايات المتحدة
الأمريكية في الستينيات وبعدها كانوا مختلفين تماماً عن المهاجرين الأوائل؛ فكانوا،
بشكل عام، أكثر ثقافةً وأفضل حظاً في الوظائف والأعمال التي يتقنونها. فكان
لهؤلاء، إلى جانب الكثير من الطلاب الوافدين، أثرٌ وجهدٌ كبير في تأسيس الكثير
من المساجد وبعض المؤسسات الإسلامية النشيطة. وكان لهؤلاء أيضاً الفضل في
التفكير بإنشاء نواةٍ للمدارس الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا، فإن
أثر هذه الموجة الجديدة للهجرة كان إيجابياً وفعالاً إلى حد كبير. إلا أن كثيراً من
هؤلاء اتبعوا ما يمكن أن نسميه «الإسلام التقليدي» ؛ وذلك أنهم اتبعوا ما كان
معروفاً وسائداً في البلدان التي أتوا منها، حتى ولو كان هذا غير صحيحٍ وغير
موافق لما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقد لوحظ أن كثيراً من أولاد
هذه الموجة المهاجرة الوافدة إلى أمريكا أنفسهم، ممن لم يكن لهم ارتباطٌ وطيدٌ
بالتراث الحضاري لآبائهم دعوا للعودة إلى الإسلام الصحيح واتباع القرآن الكريم
والسنة المطهرة. ولقد أدى هذا، لسوء الحظ، إلى شيء من التوتر والشدة
والخلاف، إلا أننا نأمل أن يؤدي إلى نتيجة طيبة بعون الله وتوفيقه.
البيان: مجلة البشير بالإنجليزية من المجلات العلمية الرائدة في بابها، فهل
يمكن أن تحدثونا عن تجربتكم في هذه المجلة؟
- أولاً: أود أن أشكركم على كلامكم الطيب عن مجلة البشير في سؤالكم هذا،
ولله الحمد. فقد كانت مجلة البشير مجلةً تصدر مرةً كل شهرين، واستمرت على
هذا النحو مدة ثماني سنوات ما بين عامي 1987- 1995 وكان هدفها الأساس
توفير مقالات متعمقة ومتخصصة تُكتَب من قبل متخصصين في مجالاتهم في
موضوعات أساسية عن الدين الإسلامي العظيم، إما في مجال التفسير، أو الحديث،
أو الفقه أو غيرها من المجالات الإسلامية. فقد كان هناك تركيز كبير على المواد
الأساسية التي تعرِّفُ بهذا الدين العظيم، مما جعل من الصعوبة بمكان العثور على
مواد متعمقة ومتخصصة في موضوعاته المختلفة. وكانت مجلة البشير استجابةً
لهذا الطلب الهام. وقد واجهت البشير في البداية مشكلة «ندرة» الكُتَّاب، مما
جعل العبء الأكبر لهذه المجلة على محرِّر المجلة، وهو أنا. وقد تمَّ تشجيع كثير
من الكُتَّاب على الكتابة للمجلة، ووعد كثيرون بالكتابة، إلا أنه وللأسف الشديد لم
يكتب منهم إلا عددٌ ضئيل. وإنني أعتقد أنه يجب ألا تكون هناك مجلة تعتمد على
كاتبٍ واحدٍ فقط. ولذلك، فقد اتجَّه القرار إلى إيقاف المجلة أولاً. ومن جهة أخرى،
فإن المجلة كانت معقولة الثمن جداً، إلا أن كثيراً من القراء آثروا أن يحصلوا
عليها مجاناً بدل أن يقدموا الدعم المادي لها. وفي اعتقادي أن هذه قضية هامة جداً
بالنسبة لكثير من الأنشطة الدعوية الإسلامية. ويشيع بين كثيرٍ من الناس أن كل ما
يتعلق بالأمور الدينية الإسلامية يجب أن يكون مجاناً. والحق أقول، فمن وجهة
نظر عملية، لا يمكن أن يكون هذا عملياً؛ فالذي حدث لمجلة البشير، مثلاً، أنه
كانت بعض المساجد تشتري نسخةً واحدةً من المجلة، ثم يقومون بتصويرها
وتوزيعها مجاناً بعد صلاة الجمعة. وقد أصبحت التبعات المالية كبيرةً وثقيلةً جداً،
وخاصةً بما أنه تمَّ اتخاذ قرار بعدم وضع إعلانات في المجلة، وذلك لعدد من
الأسباب، وبذا، فقد اضطرتْ هذه المجلة لإغلاق بابها. وقد تمَّ بحمد الله وتوفيقه،
نشر عدد من المقالات التي نشرت في العددين الأول والثاني من هذه المجلة في
كتاب مستقل بعنوان: «نحو فهم لديننا» ، وأدعو الله أن يجعل هذا العمل نافعاً
ومفيداً لعامة المسلمين.
البيان: نستأذن فضيلتكم بالانتقال إلى موضوع آخر؛ حيث نعيش هذه الأيام
حمى الانتخابات الأمريكية؛ فهل للمسلمين الأمريكيين أثر في انتخابات الرئاسة
الأمريكية، أو انتخابات مجلس الشيوخ، أو الكونجرس؟ وهناك من ينادي في
أمريكا بتكوين فريق من المسلمين للضغط على الساسة الأمريكان ويرون أن
المسلمين يمثلون قوةً فاعلةً في أمريكا، فهل تتفقون مع هذا الرأي؟ وهل هو مجدٍ
من الناحية العملية؟
- سأحاول الرد باختصار جداً على هذين السؤالين. ولذا، ستكون إجابتي
غير مكتملة. وإني أعتقد أن إعطاء ردٍّ كامل على هذين السؤالين لا يمكن استيعابه
في مجال مقابلة في هذه المجلة.
فأولاً: لا يزال أثر المسلمين، حتى هذا التاريخ، ضئيلاً جداً على الانتخابات
في أمريكا، علماً بأن هذا الأثر ينمو ببطء؛ حيث إن المسلمين ينخرطون
في المجال السياسي أكثر وأكثر حالياً. إلا أنه في الوقت ذاته، يجب أن
ندرك أنه إذا أردنا بحقٍّ أن يكون للمسلمين أثر قوي على الانتخابات الأمريكية، فلا
بد أن يقوم الأفراد ببعض الأعمال غير المناسبة أخلاقياً أو قانونياً من وجهة النظر
الإسلامية. وإنني أعتقد أنه يجب على المسلمين أن يكونوا حذرين جداً عندما
يتناولون أموراً مثل هذه.
ثانياً: إني أعتقد أيضاً أن المسلمين في أمريكا ليسوا جاهزين بعدُ لتمثيل أية
قوة سياسية أو حزب سياسي؛ لأن جماهير المسلمين بشكل عام لم يطوِّروا بعدُ
الوعي والإدراك العام ليعرفوا أين ولمن يعطون ولاءهم وإخلاصهم. ولسوء الحظ
فإنني قد قابلت عدداً من المسلمين ممن يعتقدون بولائهم الوطني على أنهم مواطنون
أمريكيون، بنفس القدر الذي يعلنون ولاءهم فيه للإسلام، إن لم يكن ولاؤهم
لوطنيتهم الأمريكية أكثر من ولائهم للإسلام، ويصدق هذا أيضاً حتى عندما يكون
هناك خلاف واضح بين الولاءين. وكما قلت، فإنني لا أريد الخوض في التفاصيل؛
فقد يكون من الخير ألا يكون للمسلمين قوة سياسية كبيرة أو أثر سياسي كبير في
الوقت الحالي؛ فقد لا يكون من النافع لهم والحالة هذه أن يمتلكوا هذه القوة وهم لا
يعرفون كيف يستخدمونها بشكل مناسب. ومن الواضح أن استنتاجي هذا (وقد لا
يكون مقبولاً لدى الكثيرين) ، إنما هو مبني ببساطة على ملاحظاتي الشخصية
خلال السنوات الطويلة للمسلمين في هذه البلاد، والله وحده أعلى وأعلم.
البيان: تعمد وسائل الإعلام الأمريكية إلى تشويه الإسلام والهجوم على
المسلمين؛ فهل ترون أن هذا سوء فهم للإسلام؟ أم أن لها خطة مدروسة معلومة
أبعادها؟ وهل هناك خطة من بعض المسلمين أو الجمعيات الإسلامية لمواجهة ذلك؟
- مما لا شك فيه أن هناك عدداً كبيراً من الناس يستخدمون وسائل الإعلام
لمهاجمة الإسلام مثل: دانيال بايبس، ستيف إيمرسون، وغيرهما. وعلاوةً على
ذلك، فإن أكثر مصادر الإعلام لديهم ما يسمونه «خبراء» فيما يتعلق بأمور
الإسلام. وأكثر هؤلاء الخبراء، بوجه عام، هم من المستشرقين الذين تعلموا كيف
يمكرون بدهاء وبطرق خفية لمهاجمة الإسلام وهم يبدون للعامة بأنهم أكاديميون
وباحثون فقط. ويبدو أن هؤلاء الأشخاص الذين يتربعون على القمة في هذا المجال
يحاولون، دون أدنى ريب، أن يستخدموا تأثيرهم ونفوذهم وأدواتهم المختلفة
ليسيئوا إلى الإسلام ويصرفوا الناس عنه. بينما نلاحظ أن الأشخاص الذين هم
أدنى من هؤلاء في مجال الإعلام - وقد قابلت كثيراً منهم خلال السنوات
الماضية - لا يعرفون إلا القليل عن الإسلام، وهم يعتمدون على ما تمدهم به
مصادرهم التي تُدْعى - كما أشرنا آنفاً - «خبراء» . ويصعب تحديد عدد الذين
يودون فعلاً مهاجمة الإسلام، كما يصعب أيضاً تحديد عدد الجاهلين منهم. ويجب
أن نأخذ في الحسبان أن كثيراً من الأمريكيين - بوجه عام- جهلة إلى حد كبير فيما
يتعلق بأمور الإسلام وشؤونه. كما أن العاملين في المجالات الدنيا من الإعلام ليسوا
أحسن حظاً من الجماهير الأمريكية بشكل عام، ولذا، فينبغي ألا نستغرب مدى
جهلهم أيضاً، والحمد لله، فإن هناك بعض المؤسسات والجمعيات الإسلامية حالياً
تراقب بنشاط كبير ما يصدر في الإعلام الأمريكي وترصده، فإذا وجدت أي
مادة منافية أو مضادة مهاجمة، فيبدؤون حملةً إعلاميةً نشطةً للاتصال بتلك
المصادر الإعلامية، ويُعلِمون المسلمين في كافة أرجاء الولايات المتحدة
الأمريكية بما يجري على الساحة الإعلامية. وقد أسست هذه المؤسسات
القاعدة الأساسية والرفض الجماهيري، أو الطلبات القوية التي توجه إلى تلك
المصادر الإعلامية التي تحاول التشويه أو المهاجمة ضد الإسلام والمسلمين لسحب
ما يقولونه ضد الإسلام، أو تصحيحه. وقد كانت جهود هذه المؤسسات موفقةً
جداً، بحمد الله، في بعض الحالات. وقد ساعدت جهودهم الطيبة هذه على
تحسين فهم الإسلام من قِبَلِ هؤلاء العاملين في مجال الإعلام.
البيان: ختاماً، نرجو من فضيلتكم أن تعرفنا بمؤلفاتك والكتب التي ترجمتها،
ثم تخبرونا بمشاريعكم العلمية المستقبلية.
لقد تمكنت - بنعمة ربي ورحمته - من نشر بعض المؤلفات والترجمات.
ولعل من أهم كتاباتي في هذا المجال: «تعليق على الأربعين النووية» . ويقع
هذا الكتاب في ثلاثة مجلدات ضخمة وهو شرح لهذه الأحاديث الهامة. وقد تكرم
الدكتور جعفر شيخ إدريس بكتابة مقدمة لهذا العمل الضخم. وكذلك، فقد كتبت:
«نحو فهم أفضل للقرآن الكريم» و «مكانة السنة وأهميتها» . وأما
أعمالي المترجمة فتشتمل على: «عالم الجن والشياطين للدكتور عمر الأشقر» ،
وعدد من الكتب التي كتبها الدكتور صالح السدلان، ومنها: «النشوز وفقه الزواج
في ضوء القرآن والسنة» . وأما فيما يتعلق بمشاريعي المستقبلية، فقد تعلمت
منذ زمن طويل أن من الأفضل ألا يناقش المرء مشاريع المستقبل؛ فقد يظن المرء
أنه سيفعل شيئاً ما في المستقبل، إلا أن الله - سبحانه وتعالى - يصرفه عنه
ويوجهه إلى شيء آخر قد يكون مختلفاً تماماً عمَّا أراد. لذا، سأنتظر وإياكم لنرى
المشروع التالي الذي سأنجزه بنعمة الله ورحمته وفضله.
وختاماً، فإني أرجو الله - سبحانه وتعالى - أن يبارك جهودكم الطيبة في
هذه المجلة - البيان - ولله الحمد، فإنها لا تزال ذات نفع عظيم لكثير من
المسلمين. وأرجو الله أن يزيدكم قوة إلى قوتكم، وقدرة إلى قدرتكم لتستمروا
في العطاء والنشر للعديد من السنوات القادمة، بحول الله وتوفيقه.
فجزاكم الله خيراً.(155/30)
فتاوى أعلام الموقعين
الإيمان قول وعمل
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السعودية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة
المفتي العام من عدد من المستفتين المقيدة استفتاءاتهم بالأمانة العامة لهيئة
كبارالعلماء برقم (5411) وتاريخ 7/11/1420هـ، ورقم (1026) ، وتاريخ
17/2/1421هـ، ورقم (1016) ، وتاريخ 7/2/1421هـ، ورقم (1395) ،
وتاريخ 8/3/1421هـ، ورقم (1650) ، وتاريخ 17/3/1421هـ، ورقم
(1893) ، وتاريخ 25/3/1421هـ، ورقم (2106) ، وتاريخ 7/4/1421
هـ، وقد سأل المستفتون أسئلةً كثيرةً مضمونها: «ظهرت في الآونة الأخيرة
فكرة الإرجاء بشكل مخيف، وانبرى لترويجها عدد كثير من الكتاب يعتمدون على
نقولات مبتورة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مما سبب ارتباكاً عند كثير من
الناس في مسمى الإيمان؛ حيث يحاول هؤلاء الذين ينشرون هذه الفكرة أن يخرجوا
العمل عن مسمَّى الإيمان، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال وذلك مما يسهل
على الناس الوقوع في المنكرات وأمور الشرك وأمور الردة إذا علموا أن الإيمان
متحقق لهم ولو لم يؤدوا الواجبات ويتجنبوا المحرمات ولو لم يعملوا بشرائع الدين
بناء على هذا المذهب. ولا شك أن هذا المذهب له خطورته على المجتمعات
الإسلامية وأمور العقيدة والعبادة؛ فالرجاء من سماحتكم بيان حقيقة هذا المذهب
وآثاره السيئة وبيان الحق المبني على الكتاب والسنة، وتحقيق النقل عن شيخ
الإسلام حتى يكون المسلم على بصيرة من دينه، وفقكم الله وسدد خطاكم. والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي:
هذه المقالة المذكورة هي مقالة المرجئة الذين يُخرِجون الأعمال عن مسمَّى
الإيمان، ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والنطق
باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه؛ فمن
صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو فعل ما فعل من ترك
الواجبات وفعل المحرمات، ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيراً قط؛ ولزم
على ذلك الضلال لوازم باطلة منها حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي،
ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة
والجماعة سلفاً وخلفاً، وأن هذا يفتح باباً لأهل الشر والفساد للانحلال من الدين
وعدم التقيد بالأوامر والنواهي والخوف والخشية من الله سبحانه، ويعطل جانب
الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوِّي بين الصالح
والطالح، والمطيع والعاصي، والمستقيم على دين الله والفاسق المتحلل من أوامر
الدين ونواهيه، ما دام أن أعمالهم هذه لا تُخِلُّ بالإيمان كما يقولون، ولذلك اهتم
أئمة الإسلام قديماً وحديثاً ببيان بطلان هذا المذهب والرد على أصحابه، وجعلوا
لهذه المسألة باباً خاصاً في كتب العقائد، بل ألَّفوا فيها مؤلفات مستقلةً كما فعل شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في
العقيدة الواسطية:» ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول
وعمل. قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية «. وقال في كتاب الإيمان:» ومن هذا الباب أقوال
السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارةً يقولون: هو قول وعمل، وتارةً
يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارةً يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة،
وتارةً يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح «.
وقال - رحمه الله -:» والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل
من الإيمان، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ؛ بل لا
يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم، بل
يتفاضلون من وجوه كثيرة «وقال - رحمه الله -:» وقد عدلت المرجئة في هذا
الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا
على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة وهذه طريقة أهل البدع «انتهى.
ومن الأدلة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان وعلى زيادته ونقصانه
بها، قوله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] (الأنفال: 2) . وقوله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ
المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ]
(المؤمنون: 1-9) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:» الإيمان بضع
وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
والحياء شعبة من الإيمان «. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتاب الإيمان
أيضاً:» وأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله. وهو إقرار بالتصديق
والحب والانقياد. وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح.
وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال
الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه
وشاهد له. وهي شعبة من الإيمان المطلق وبعضٌ له. وقال أيضاً: بل كل من
تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف
للرسول. ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان. وأنه لم يكن
يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً. ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه
وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين؛ إلا
أنَّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي، ولا نصوم، ولا
نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم،
ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم
بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم؛ بل
نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك. هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم
يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم
أن لا يدخل أحد منكم النار؟ بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر
الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك «انتهى.
وقال أيضاً:» فلفظ الإيمان إذا أُطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ
البر وبلفظ التقوى وبلفظ الدين كما تقدم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن
الإيمان بضع وسبعون شعبةً أفضلها قول: لا إلله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق. فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان. وكذلك لفظ البر يدخل فيه
جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ التقوى. وكذلك الدين أو دين الإسلام. وكذلك رُوي
أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: [لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ]
(البقرة: 177) . إلى أن قال: والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه
العمل. لا على إيمان خال عن عمل «. فهذا كلام شيخ الإسلام في الإيمان. ومن
نقل عنه غير ذلك فهو كاذب عليه.
وأما ما جاء في الحديث أن قوماً يدخلون الجنة لم يعملوا خيراً قط فليس هو
عامّاً لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه. وإنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من
العمل أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف
الصالح في هذا الباب.
هذا واللجنة الدائمة إذ تبين ذلك فإنها تنهى وتحذر من الجدال في أصول
العقيدة لما يترتب على ذلك من المحاذير العظيمة وتوصي بالرجوع في ذلك إلى
كتب السلف الصالح وأئمة الدين المبنية على الكتاب والسنة وأقوال السلف، وتحذر
من الرجوع إلى الكتب المخالفة لذلك، وإلى الكتب الحديثة الصادرة عن أناس
متعالمين لم يأخذوا العلم عن أهله ومصادره الأصيلة. وقد اقتحموا القول في هذا
الأصل العظيم من أصول الاعتقاد، وتبنوا مذهب المرجئة، ونسبوه ظلماً إلى أهل
السنة والجماعة، ولبَّسوا بذلك على الناس، وعززوه عدواناً بالنقل عن شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وغيره من أئمة السلف بالنقول المبتورة،
وبمتشابه القول وعدم رده إلى المحكم من كلامهم. وإنَّا ننصحهم أن يتقوا الله في
أنفسهم، وأن يثوبوا إلى رشدهم، ولا يُصَدِّعوا الصف بهذا المذهب الضالِّ.
واللجنة أيضاً تحذر المسلمين من الاغترار والوقوع في شراك المخالفين لما عليه
جماعة المسلمين أهل السنة والجماعة.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... ... ... ... ... ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... ... ... ... ... ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد ... ... ... صالح بن فوزان الفوزان ... ... ... ... ... ... ... ...
الرقم: 21436
التاريخ: 8/4/1421هـ(155/40)
نص شعري
قف يا نسيم
شعر: ياسر جياكتا
وقف النسيم يسائل الأخيارا ... والكون يرقب دونه الأخبارا
متسائلاً عن أمة لَمَّا تزل ... في الذل راتعة وتلعق عارا
كانت تسود الكون ملكاً عامراً ... فالأرضَ تملك روضَها وقفارا
فالله أكبر في المآذن قد سرى ... للحق، أرشد للعقول، أنار
وجيوش أحمد قد شققن طريقها ... نحو المدائن تفتح الأمصارا
فإذا بهم كالبحر يلطم بعضه ... والخيل تعدو والسيوف تبارى
والجند تصنع من غليل دمائها ... سيفاً، تفرق حولها الكفارا
والسيف يزأر في العدو وقد لوى ... معه المنية تسحق الأعمارا
والجيش يسحب ثوبه مترسلاً ... والخيل ترفل كالعروس فخارا
بل خالد سيف الإله كأنما ... جعل البطولة شَمْلَةً وإزارا
كالفجر يطرق في العدوّ بعزمه ... ويقود جيشاً جامحاً جرّارا
يا قوم قد ذهب الأباة فما أرى ... فيكم نجوماً تخلف الأقمارا؟
يا قوم ما الحدث الذي بنزوله ... عدل الأريب عن الصواب وحارا
عجباً أخالد! ما لقومي أذعنوا؟ ... وقد انتصرتَ على العدو مرارا!
أو ما رأيتم مصعباً بلوائه ... أو طلحة، أو جعفر الطيارا
نذروا الجهاد بأن يكون حليفهم ... فالله تمم بيعهم وأجارا
قف يا نسيم على عبير دمائهم ... وانشره طيباً طيّباً معطارا
فلعل ريح دم الشهيد يطيب لي ... يوحي إلى جيل الغد الأخبارا
يوحي بأن المجد ليس بآيب ... حتى نكشِّف دونه الأستارا
وبأن من رام المعالي ربما ... صفعته أيدي التضحيات مرارا
قف يا نسيم وسائل الأرض التي ... بعراء بدر واسكب الأشعارا
قف يا نسيم على الصبير [1] وسائلن ... أُحُداً وسائل سفحه الجبارا
قف يا نسيم وسائل الأرض التي ... بحُنَيْن واسأل دونها الأحجارا
ستجبْك حتماً أن جنداً قد مضوا ... يعلون ركناً للجهاد جهارا
__________
(1) الصبير: السحاب الأبيض.(155/43)
نص شعري
جاء الحق
علي بن جبريل
(الله أكبر جاء الحق وانبلجا) ... وطأطأ البغي رأس الذل وانزعجا
وأشرقت في الدُّنا الأنوار طافحة ... يا سعدنا ... وخفى الإظلام واندرجا
تسابق البِشْر في الأنحاء، وانطلقت ... بشائر النصر كيما تبهج المهجا
الله أكبر يا تاريخ.. مقبلة ... أيامنا، مانحات للدُّنا الفرجا
شباب صحوتنا الميمون قادمة ... جموعهم! تكسر الأقفال والرتجا
سيقبلون.. خيول النصر تحملهم ... وينفضون تراب الذل والرهجا
أتوك من كل فج مظلم.. لُججاّ ... تسير.. تتبع في أدراجها لججا!
من كل ناحيةٍ يأتون، رايتُهم ... خفاقة، لا ترى في صفهم عوجا
سفينة الحق يا تاريخ قادمة ... لا ترهب الموج والطوفان والثبجا!
تسير رغم هياج الموج في ثقة ... كأنها الصبح.. والموج العنيف دجى! !
تقول: يا صحبنا لا تيأسوا أبداً ... إن عربد البغي والليل البهيم سجا
فالفلك قادمة يحدو مسيرتها ... جميع من لطريق العزة انتهجا
والليل مهما عتا واسودَّ جانبه ... فلن يقر أمام الصبح إن ولجا!
الله أكبر لم تعقُم حرائرنا ... ما دام في سوحهن الشهم قد درجا
دماؤه من دم الفاروق منبعها ... والروح وثابة لا تشتكي حرجا
من خالد صاغ نصراً خالداً وأتى ... يخوض ملحمة الأهوال مبتهجا!
أبناؤه كل شهم من شبيبتنا ... لا يرهب البغي مهما ماد واعتلجا
شبيبةُ الحق لا يخشون نائبةً ... ولا يهابون جيش الكفر إن خرجا
هم يمتطون سروجَ الخيل صاهلة ... ويحملون لهذي الدلجة السرجا
يفرُّ إبليس منهم حين مقدمهم! ... فالنصر في دمهم - يا سعدهم - مزجا
تخرُّ قاعدة الإشراك إن طلعوا ... وإن سروا دُكَّ صرحُ الكفر وانفلجا!
هم يرحلون إذا ما العزةُ ارتحلتْ ... ويدلجون وراء الحق إن دلجا
ويهجرون ديار الذُلّ قاطبة ... والنور إن عرجوا - أيان هم - عرجا! !
سودٌ معاركهم.. بيضٌ مخايلهم ... نور مطالعهم.. كالبدر إن وهجا!
في صفهم كلُّ ذي علمٍ وذي أدبٍ ... هم ثلة لا ترى في صفهم همجا
في وحدة مثل بنيانٍ مرصَّصةٍ ... أحجاره، لا ترى من بينهم فرجا
الله أكبر يا تاريخ.. دوحتُنا ... تزينت، والجنى في ساحها نضجا
ترقرق النورُ في أنهارِها طرِباً ... والطير من أجمل الألحان قد نسجا
الله أكبر هذا الدربُ - أمتنا - ... من ضل عنه غوى، أو سار فيه نجا!
الله أكبر.. هذا ركبُنا قدموا ... فعانق الدرب ظل الركب واندمجا!
الخيرُ في دمهم والنصر ديدنهم ... والقلب - يا أمتي - في حبك اختلجا
أتوكِ من كل فجٍّ ينشدون لنا: ... (الله أكبر جاء الحق وانبلجا)(155/44)
البيان الأدبي
معاناة
عماد الغزي
محمد وأولاده الخمسة لم يذوقوا الطعام منذ أيام، لا يجدون إلا كسرة
الخبز يسدون بها جوعهم، ويقيمون بها أَوَدَهم.
أما علي فهو بحاجة لمحسن متصدق لدفع تكاليف علاج ولده الوحيد الذي
يحتاج لعملية عاجلة، وليس له إلا طرق أبواب الصحف والمجلات لعل ناشراً
ينشر حالته، فتصادف قلباً رحيماً أو باحثاً عن الشهرة لعلاجه.
خالد يحمل شهادة جامعية، وقد مرت سنة، وهو يبحث عن عمل، وأخيراً
وجد وظيفة (عامل نظافة) في أحد الفنادق.
طفل لا يتجاوز العاشرة عامل بناء! أرملة باعت كرامتها لإطعام أطفالها.
لم تكن تلك مقتطفات من قصة حزينة أو مشاهد من فيلم لمخرج متشائم، إنها
المعاناة اليومية لرجل الشارع المعتاد في بلاد المسلمين، تلاحقه الهموم والأحزان،
فمن هَمِّ المأكل والمشرب، إلى العلاج والدواء والبحث عن الوظيفة، إلى تعليم
الأولاد ورعايتهم. ومع ضعف الإيمان، والتوكل أصبح دائم التفكير، مشغول
البال، عابس الوجه لا ينفك من مشكلة وحاجة حتى يبدأ في غيرها.
الحاجة وذل الحاجة أحالت جبال العزة والكرامة إلى قيعان من الذل الهوان،
لم يعد مكاناً للهمة العالية والنفس الكبيرة، ورجل الإصلاح ورجل العقيدة أصبح كل
منهما إنسان لقمة العيش، ذليلاً لها ولمن يقدمها له.
مصطلحات (الضمان الاجتماعي، التعليم للجميع، الرعاية الصحية) لا
وجود لها في المعجم العربي، إنها حكر على مواطنهم الغربي يرفل بها وينعم.
أما شعوبنا فلها توصيات صندوق النقد الدولي، ولها أن تسعد بارتفاع الناتج
المحلي من الوعود الهائلة والحملات الإعلامية التي تجعل من سائر نكبات الأمة
أنموذجاً فريداً في الإنجازات تستهلك فيه جميع مفردات المديح من معجمات اللغة
العربية.
شعوب هذه حالها كيف يمكن لها أن تعمل، وتنتج، فضلاً عن أن تبدع
وتبتكر؟ يتفكر المرء أحياناً: لماذا هذه الحاجة والفاقة في بلاد المسلمين؟ لماذا
نحن هكذا وبلادنا أرض الخيرات ومنبع الخامات؟
هل ما نحن فيه يراد لنا؟ هذا الذل والحاجة أهو أمر مخطط مقصود؟
هل يراد لنا أن نصبح ونمسي على هَمِّ لقمة العيش، فننصرف عن معالي
الأمور إلى سفاسفها، وننشغل عن درء الظلم عنا بدرء الظلم عن الآخرين؟
ومع المعاناة تنظر الجماهير إلى من يعبر عن معاناتها وينافح عن حقوقها؛
ولكن كيف تعبر بعض المجلات العربية عن هموم رجل الشارع المعتاد؟ وحسبنا
منها عناوين أغلفتها الخارجية التي تعبر عن أهم موضوعاتها:
(رجال في عيادات أمراض النساء/ بزنس النساء هل هو إغراء؟ / لن
أستغل جمالي في التمثيل/ أسرار ما قبل الزواج هل أبوح بها؟) . إلى آخر هذه
العناوين.
فهل تعبر هذه المجلات عن حال الأمة؟ وهل تنطق بلسانها: أين تعيش؟
ولماذا تعيش؟ وعلى من تعيش؟(155/46)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(3 - 3)
ماذا وراء الإرساليات الإنسانية؟ !
قبل أكثر من مائة عام قام الدكتور (لانسنج) وثلاثة من مساعديه، وهم:
(جيمس كانتين، وصموئيل زويمر، وفيليب فيلبس) بتشكيل مجموعة تنصيرية
في ولاية نيوجرسي الأمريكية، هدفها: نشر الدين النصراني في بعض البلدان
العربية، وكانت البداية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، ويذكر صموئيل
زويمر السبب في هذا الاختيار بقوله: (إن من الدوافع إلى العمل في المنطقة:
الأسباب التاريخية؛ فللمسيح الحق في استرجاع الجزيرة العربية التي أكدت الدلائل
التي تجمعت لدينا في الخمسين سنةً الأخيرة، أن المسيحية كانت منتشرةً فيها في
بداية عهدها) [1] .
وبعد عدة سنوات من الاجتماعات وحملات التبرع بدأت الإرسالية الأمريكية
أولى رحلاتها إلى البصرة في العراق في عام (1889م) ، ثم تتابعت الرحلات
إلى الكويت والبحرين وعمان والإمارات واليمن.. ونحوها. وقد نشرت
مقالات ومذكرات عدد من المنصرين في هذه المنطقة في عدة كتب من أهمها:
كتاب (صدمة الاحتكاك) من إعداد وترجمة خالد البسام.
إنَّ قراءة بعض المقالات المترجمة في هذا الكتاب تُوقِفنا على أخبار وحكايات
مذهلة ومثيرة للانتباه قامت بها البعوث الأولى للتنصير في منطقة الخليج، وتجعلنا
ندرك بيقين أن ما يسمى بالمساعدات الإنسانية والطبية ما هي إلا أداة رئيسة من
أدوات التنصير وإخراج الناس عن دين الله تعالى. وهذا ما سيتأكد لنا عند قراءة
الجزء الثالث من ملف (التنصير.. هل أصاب الهدف؟ !) الذي خصصناه
لعرض بعض جهود المنصرين في بعض الدول العربية. ونجزم بأن ما ذكر ما هو
إلا شيء يسير من الواقع، لكن دلالاته عميقة..! !
لقد كنا نتوقع أن يكون هذا الملف في جزأين اثنين، إلا أن حجم المادة الكبير
الذي بين أيدينا جعلنا نضيف هذا الجزء، مع أننا تركنا عدداً من المقالات الأخرى
خشية الإطالة والإملال. ونرجو أن يجد القارئ الكريم في المادة المنشورة ما يفي
بالغرض ويرضي الطموح بإذن الله تعالى.
__________
(1) مقدمة صدمة الاحتكاك (ص5) ، دار الساقي الطبعة الأولى 1998م.(155/47)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(3 - 3)
الوجود النصراني في السودان
دراسة ميدانية [*]
إعداد: محمود صالح
مقدمة الدراسة: تمنى النصارى أن يحولوا القارة الإفريقية كاملةً إلى حظيرة
لدينهم المبدل، ولم يكتفوا بالأماني فقط، بل سعوا إلى ذلك بكل ما أوتوا من أسباب
توصلهم إلى ذلك، وقد نجحوا نجاحاً ضئيلاً جداً في عدد محدود من دول القارة،
وهذا النجاح القليل يساوي إخفاقاً كبيراً، وهذا الإخفاق غذَّى لدى النصارى حقداً
زائداً ومضاعفاً على الإسلام في تلك القارة؛ حيث هو دين الحق الذي يواجه الدين
المحرف، وحيث العداوة التاريخية الطويلة للنصارى مع المسلمين في كل مكان؛
فكان لا بد من بث هذا الحقد بشكلٍ أكثر عمليةً، وفي القارة نفسها، وفي دولة
مسلمة كذلك. كانت تلك الدولة التي تنفس فيها النصارى بصدور ملؤها الحقد..
هي السودان، وجد النصارى في هذا البلد أسباباً عديدةً تدعوهم لمحاولة الفتك به،
وتحويله حسب أمانيهم إلى دولة نصرانية، أو - على الأقل - تحويل جزء منه.
وقد كانت عناصر: المساحة الكبيرة، والتنوع القبلي، والعرقي، واللغوي،
عوامل مساعدةً للحملة الصليبية على السودان.
فالسودان بلد مساحته كبيرة؛ إذ تتجاوز 5، 2 مليون كيلو متر مربع، ويضم
أكثر من ستمائة قبيلة، كذلك هناك التنوع العرقي «النيلية، الحامية، الزنجية»
إضافةً إلى التنوع اللغوي «العربية، الإنجليزية، واللهجات القبلية» ؛ حيث يوجد
أكثر من 110 نوع بين لغة ولهجة محلية، وفي الجنوب وحده 53 لغةً ولهجةً.
أما التنوع الديني فيتركز المسلمون في الشمال، وهم يمثلون 70% من
إجمالي سكان السودان، أما الجنوب فإن 18% من سكانه مسلمون، و17%
نصارى، والنسبة الباقية 65% وثنيون ولا دينيون، كما أن للسودان حدوداً دوليةً
متشعبةً مع تسع دول هي: مصر، ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، زائير، أوغندا،
كينيا، أثيوبيا، إرتيريا؛ مما يسهل المناوشات على أكثر من جبهة في وقت
واحد لتشتيت الجهود الداخلية، هذا التنوع الكبير تم الطَّرْقُ عليه بشكل لافت
لاستغلاله في توسيع الشقة بين سكان هذا البلد، وإذا ضُمَّ إلى ذلك غياب الوعي
وكثرة الجهل، والأهداف الخبيثة التي تسعى الحملة الصليبية لتحقيقها، أمكن في
وسط هذا الواقع المضطرب تنفيذ شيء من المخطط الصليبي. لقد كان عدم
الاستقرار داخل السودان مطلباً نصرانياً لانتزاع جنوبه ليكون دولةً صليبيةً جديدةً.
كان هذا هو الهدف الأساس للحملات النصرانية الدولية المتتابعة على السودان، ولم
يكن لهذه الحملات ارتباط بمكافحة الإرهاب، ولا بتطبيق الشريعة أو الداعين إليها.
فعندما قام جون قرنق بقيادة الفرقة 115 معلناً تمرده، كان ذلك في إبريل العام
1983م، أي قبل أن يعلن النميري تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان بسبعة
أشهر. وكما كانت دعوة النميري شعارات جوفاء، فقد تلتها شعارات جبهة الإنقاذ
التي لم تكن هي الأخرى سبباً في هذه الحملة.
* البابا يفتتح الحملة الصليبية: في مطلع العام 1993م هددت الولايات
المتحدة بإدراج اسم السودان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، وذلك بعد تقرير
مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية «هيرمان كوهين» ، فكانت
تلك مقدمةً لفتح باب من الشر للهجمات الصليبية. وقام بابا الفاتيكان بزيارة رسمية
للسودان في فبراير من العام نفسه، واستُقبل في السودان استقبالاً حاراً، وكانت
عبارات الاستقبال مليئةً بالحفاوة والمديح الزائد.
هذا الترحيب الحار بالملهَم قابله صلف نصراني شديد، ووضوح في تحديد
مهام الزيارة وأهدافها، فلم يوارب ولم يُوَرِّ، بل أعلنها بكل صراحة حين قال:
«إن رياح التغيير تهب على إفريقيا وتتطلب احترام حقوق الإنسان، لقد كانت
لي رغبة ملحة للمجيء إلى السودان، وبصفتي خليفة القديس بطرس الذي جعله
السيد المسيح رأساً على كنيسته، فمن اللازم عليَّ أن أشجع وأثبِّت الإيمان في
إخوتي وأخواتي أينما كانوا، ولا سيما عندما يقتضي الإيمان شجاعةً كبيرةً وقوةً
للصمود، وعندما يكون الشعب ضعيفاً وفقيراً ولا حامي له، يجب أن أرفع
صوتي لأتكلم باسمه» .
وفي تلك الزيارة استمع البابا إلى تحريض كبير من رئيس الأساقفة «غبريال
زبير واكو» ليدلي بدلوه في تأجيج أوار الحملة الجديدة: «إننا لا نريد أن نتعمق
في المتاعب والمشاق التي مررنا بها خلال السنوات الأخيرة؛ فهؤلاء الرجال
والنساء، وخاصةً الكهنة والرهبان والراهبات والمبشرين، قد تحملوا حقيقة حرارة
اليوم، ويقفون هنا في احتياج للتشجيع، لقد مرت فترة شعرنا فيها بانعدام الأمل،
وفقدان القدرة، إن هذا البلد لا يعرف المسيح جيداً. هؤلاء الكهنة والرهبان
والراهبات قد حملوا صليبهم مع المسيح بشجاعة لا متناهية وثبات عجيب، وإن
المبشرين يستحقون تقديراً خاصاً منا؛ إنهم الصفوف الأمامية من الرجال والنساء
للإنجيل، إنهم الناس الذين يجهزون الأرض للزرع» .
كانت زيارة البابا الباب الذي دخل السودان من خلاله في دوامة العقوبات
المتتالية، فبعد هذه الزيارة بأشهر قليلة وفي يوليو 1993م اجتمع البابا مع البعثات
التنصيرية العاملة في السودان لمناقشة الأوضاع هناك، وما ينبغي عمله لتحقيق
الهدف. وبعد ذلك زار البابا واشنطن وقابل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون،
وأطلعه على أحداث زيارته للسودان، وما اتفق عليه في الاجتماع الذي تلاها. لم
تطل المدة التي تتخذ فيها الإدارة الأمريكية مرئياتها حول الوضع في السودان؛ ففي
19/8/1993م أدرجت الولايات المتحدة السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وخطورة هذا القرار تكمن في قطع الولايات المتحدة للمساعدات العسكرية عن
السودان وحثها المؤسسات الدولية والمالية على عدم تمويل السودان، في الوقت
الذي تتدفق فيه المساعدات على جون قرنق في الجنوب ليقيم دولتهم النصرانية.
وفي ذلك العام أدانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأم المتحدة النظام الحاكم في
السودان بممارسة عمليات الإعدام والتعذيب، وبارتكاب مجازر وقتل عشوائي
واختطاف الأطفال لاستخدامهم عبيداً أو جنوداً، وأدى ذلك إلى صدور قرار جديد
بإدانة السودان في 14/12/1993م، ولم تشأ منظمة العفو أن يفوتها شرف
الاشتراك في الحملة الصليبية، فوجهت بدورها اتهامات إلى السودان بقتل 300
ألف من المدنيين العزل في مدينة جوبا. كما سارت منظمة العفو الدولية في الاتجاه
ذاته حينما أصدرت تقريراً في السنة نفسها اتهمت فيه الحكومة السودانية باستعباد
الأشخاص وبيعهم. ثم جاء دور صندوق النقد الدولي؛ حيث رفض منح السودان
أية قروض، وذلك تنفيذاً للتهديدات الأمريكية، كما قام الصندوق بتجريد السودان
من حق التصويت في اجتماعاته.
وهكذا نرى الحلقات بدأت في التجمع لإنشاء سياج حديدي كبير على السودان
لإضعافه داخلياً، في الوقت الذي ينشغل فيه بصد هذه المؤامرة الدولية الصليبية،
وهو ما سمح لحركة التمرد بالانتفاش، والحركة التنصيرية بالانتشار، ثم جاء دور
الدولة المحتلة القديمة للسودان - بريطانيا - في نفث سمومها لتأجيج نار الحرب،
فقامت باستقبال المعارضة السودانية في البرلمان البريطاني فيما عُد سابقةً دوليةً
خطيرةً، كما أقدمت الدول الغربية على حملة نصرانية تدعو إلى التدخل الدولي في
السودان وإقامة مناطق آمنة فيه على غرار ما حدث في العراق، وقد قادت هذه
الحملة في بدايتها الكنائس الكاثوليكية الأوروبية والكنائس الكاثوليكية الإفريقية، ثم
تولت الدول بعد ذلك هذه الحملة بنفسها، فأصدرت المجموعة الأوروبية
والكونجرس الأمريكي ومجلس اللوردات البريطاني بياناً يدعو إلى التدخل الدولي
في جنوب السودان، لوقف ما أسمته بعمليات التطهير العرقي ضد المسيحيين في
جنوب السودان، ثم أعلنت الولايات المتحدة أنها تبحث إقامة مناطق آمنة لحماية
الهاربين من الحرب الأهلية والمجاعة، وتوسعت الدعوة لإقامة مناطق آمنة حول
العاصمة نفسها، ومناطق في الشمال.
وفي اتجاه آخر - ولزيادة جرعة الإلهاء والاستغراق في الدوامة المجهدة - تم
جر السودان إلى مشاكل حدودية وسياسية مع الجيران، فأثيرت الخلافات مع مصر،
ومع أوغندا، ومع إريتريا، وهكذا فتح باب آخر من الشر على ذلك البلد، ثم تلا
ذلك الضربة العسكرية الأمريكية المشهورة لمصنع الشفاء للأدوية.
وإن كان الشعب السوداني قد صمد بفضل من الله أمام هذه الحملة الصليبية،
إلا أن الحكومة قد قدمت تنازلات كبيرةً في الواقع تخدم - من حيث تدري أو لا
تدري - الهدف النصراني؛ حيث أعلنت أنها لن تطبق الشريعة الإسلامية في
مناطق الجنوب، وأن الدستور السوداني لن يذكر أن الإسلام هو الدين الرسمي
للدولة، وهذا بلا شك تنازل خطير له دلالاته في الواقع. وهكذا نرى كيف هي
الحملة على هذا البلد المسلم الذي غدا كوحيدة الغنم وسط قطيع من الذئاب.
وتجيء هذه الدراسة الميدانية لتبين حجم الوجود النصراني في السودان، من
كنائس ومدارس ومنظمات ومراكز اجتماعية وصحية وثقافية، كلها تعمل لتفتيت
السودان من داخله متواصلين مع الساعين لهدمه من خارجه..
فلك الله يا شعب السودان!
- البيان -
* ولاية الخرطوم.. أولاً: محافظة الخرطوم:
(أ) الكنائس:
* شارع الجمهورية.. الخرطوم:
1- الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية: وتقوم برعاية شؤون الجالية اليونانية في
الخرطوم.
2- كنيسة سيدة البشارة: وتقوم برعاية شؤون الروم الكاثوليك بالسودان.
* شارع النيل ووسط الخرطوم:
1- مطرانية الأقباط الأرثوذكس: وتقوم برعاية كافة مصالح الأقباط
بالسودان.
2- كاتدرائية القديس متَّى الكاثولوكية: وتمثل الإدارة العليا للنصارى
الكاثوليك في السودان.
3- الكنيسة الإنجيلية: وتمثل إدارة من إدارات الكنيسة الإنجيلية في
الخرطوم.
4- الكنيسة الإرسالية الأمريكية: وتتبع الكنيسة الإنجيلية.
5- كنيسة جنوب نادي المكتبة القبطية.
* الخرطوم 2:
1- الكنيسة السبتية: بها مدرسة لتدريس الكتاب المقدس، وتختلف عن
الكنائس الأخرى في التعبد يوم السبت.
2- الكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية: وتمثل رئاسة النصارى الأثيوبيين
الوافدين إلى السودان.
3- الكنيسة الأرمنية: وترعى شؤون النصارى الأرمن في السودان.
4- كنيسة السودان الداخلية: وتتبع الكنيسة الإنجيلية.
5- كاتدرائية جميع القديسين: وتتبع الكنيسة الأسقفية بالسودان.
* الخرطوم 3:
1- الكنيسة اللوثرية: وتتبع الكنسية الإنجيلية.
2- مركز شهود يهوه.
* العمارات:
1- كنيسة الرسولين بطرس وبولس: وهي كنيسة كاثوليكية.
2- كنيسة تابعة للأقباط.
* الطائف: يوجد في هذا الحيِّ كنيسة واحدة وهي: الكنيسة الأرتيرية
الأرثوذكسية: وهي ترعى الجالية الأرتيرية النصرانية بالسودان.
(ب) المؤسسات التعليمية النصرانية:
1- كميوني الكاثوليك (أساس + ثانوي) لكل مرحلة عدة أنهر.
2- مدرسة بيتربول توجد في مقر الكنيسة الإنجيلية وهي مسيحية بحتة.
3- الكلية القبطية الثانوية للبنين توجد قرب إدارة شرطة المرور وهي الآن
مجمدة النشاط.
4- المركز الكاثولويكي الأوسط: يقع شمال مستشفى الخرطوم، يقوم هذا
المركز بتعليم الطلاب كبار السن غير المؤهلين لدخول المدارس.
5- مدرسة وروضة قبطية بمقر الكنيسة القبطية بشارع 15.
6- مدرسة كاثوليكية للأساس جوار مكتب التكامل العربي الليبي.
7- مدرسة سستر اسكول Sisterschool تشرف عليها الوكالة البطريركية
للروم الكاثوليك.
8- مدرسة ماري يوسف للأساس بالديوم الشرقية.
9- مدرسة سنقست الثانوية بالديوم الشرقية.
10- مدرسة الإيمان اللاهوتية بكنيسة السودان الداخلية.
11- مدرسة الكنيسة السبتية.
12- مدرسة السجاتة في الأصل هي مدرسة حكومية (مدرسة السجاتة
التجارية) استأجر النصارى مبانيها في الفترة المسائية.
13- كميوني الكاثوليك (مدرسة أساس للطالبات بالسجاتة جنوب السوق) .
14- مدرسة قلة جلدة «مدرسة الراهبات» بشارع الحرية الخرطوم.
15- مدرسة ماري يوسف الصناعية بالمنطقة الصناعية الخرطوم.
16- مدرسة القديس (أساس + ثانوي) جنوب القيادة العامة للجيش.
17- مجمع الكنيسة الإغريقية اليونانية (تمهيدي + أساس + ثانوي)
ش الجمهورية.
18- مدارس الاتحاد شمال غرب مستشفى الخرطوم (روضة + أساس +
ثانوي) .
19- مدرسة كاثوليكية ضخمة بكوبر.
(ج) المراكز الثقافية والاجتماعية: محافظة الخرطوم:
1- مركز الثقافة الإنجيلي - لعله أكبر مركز ثقافي وسط الخرطوم يستقطب
عدداً كبيراً من المثقفين. وهو يتبع الكنيسة الإنجيلية ويلعب دور المكتبات العالمية.
2- مكتبة جمعية الكتاب المقدس - تقع شمال فندق أراك.
3- نادي المكتبة القبطية - الخرطوم غرب السوق الغربي.
4- بيت الشباب وهو تابع للأقباط ويقع جنوب كلية الآداب جامعة النيلين.
5- المكتبة الأرثوذكسية - توجد بمطرانية الأقباط.
6- الملعب الرياضي الكاثوليكي - شرق المركز الكاثوليكي الأوسط.
7- مركز اجتماعي بالعمارات ش (33) .
8- النادي الكاثوليكي - شارع المطار - والآن يتبع المؤتمر الوطني.
قامت منظمات عديدة رئاساتها بالخرطوم تعمل في مجال التنصير تحت ستار
العمل الإنساني والطوعي؛ فهي معفاة من الضرائب والجمارك وبإمكانها إدخال
أكبر قدر من الأدوية والسلع الاستهلاكية والملبوسات والآليات داخل البلاد، ولها
مطلق الحرية في التنقل حتى إن عرباتها لا تخضع للتفتيش. وأبرز هذه المنظمات:
1- منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية.
2- منظمة أطباء بلا حدود الهولندية.
3- منظمة قول الإيرلندية.
4- منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية.
5- المنظمة الإفريقية للتنمية الإنسانية.
6- منظمة زملاء الإغاثة الإفريقية.
7- منظمة سدرا: أنشأت هذه المنظمة بالخرطوم مركزين للعناية المكثفة
«أمراض الشريان التاجي والقلب» .
8- مجلس الكنائس العالمي.
9- مجلس الكنائس السوداني.
10- منظمة رعاية الطفولة البريطانية.
11- جمعية الكتاب المقدس.
12- جمعية الشباب المسيحية بالسودان (المجلس الوطني للشباب المسيحي) .
13- Action Faim منظمة أكشن فايم.
14- منظمة القديس منصور.
15- منظمة وُتاب الألمانية.
16- المنظمة السودانية الخيرية.
* المنظمات العالمية:
1- الأمم المتحدة.
2- منظمة الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية - صندوق الأمم المتحدة للسكان.
3- الجمعية العالمية لتنظيم الأسرة.
4- لجنة الإنقاذ الدولية.
5- برنامج الغذاء العالمي.
6- منظمة اليونيسيف.
7- منظمة أدرا.
كل هذه المنظمات - وغيرها كثير مما هو غير ظاهر تعمل عملاً تكاملياً في
مجالات الإغاثة والصحة والتعليم وبناء الكنائس، وعموماً يمكن القول بأنها تهيئ
المناخ الخصب لنفاذ كل أنشطة الكنائس داخل المجتمع السوداني. والله المستعان.
ثانياً: محافظة جبل أولياء:
منطقة مايو محلية النصر السلام - جنوب الخرطوم:
(أ) الكنائس: يوجد في هذه المنطقة خمس عشرة كنيسة:
1- الكاثوليكية، ولها ست كنائس.
2- الإنجيلية، ولها أربع كنائس.
3- الأسقفية، ولها ثلاث كنائس.
4- البروتستانت، لهم كنيسة واحدة.
5- شهود يهوه، مركز واحد للقاءات.
(ب) المدارس:
1- الكاثوليك لهم مدرستان.
2- الأسقفية مدرستان.
3- الإنجيلية مدرسة واحدة.
(ج) المراكز الصحية والمنظمات العاملة:
1- مركز صحي كاثوليكي في مقر كنيسة الأم.
2- مركز صحي يتبع كنيسة الأسقفية في مقر كنيسة الأم.
3- مركز صحي يتبع صندوق الأمم المتحدة للسكان بالدورة، هذه المراكز -
بجانب العمل الصحي - تقوم بتوزيع الإغاثات وتوزيع موانع الحمل بدون ضابط
«بحجة تنظيم الأسرة» .
ومنها التي تقوم بتسليف النساء التاجرات في أسواق المنطقة مبلغاً من المال
على أن يرد بعد حين. والحد الأدنى في حدود (150) ألف جنيه سوداني،
وكذلك دعم بعض الأفراد بأبقار وطواحين بالضمان ويكون السداد بالتقسيط.
* المنظمات العاملة في المنطقة:
1- منظمة أطباء بلاد حدود ... أيام علاجية.
2- منظمة رعاية الطفولة البريطانية.. مركز صحي.
3- منظمة إدرا الأمريكية.. عمل صهاريج ومضخات المياه وتنظيم دورات
فنية للشباب.
4- مجلس الكنائس السوداني.. ويشرف على أنشطة الكنائس.
5- المنظمة العالمية لرعاية الأيتام.
6- المنظمة العالمية لرعاية الفقراء.
7- منظمة قول الإيرلندية الآن موقوفة، أنشأت مركزين صحيين والآن آلا
إلى وزارة الصحة، وأُوقِفت لأنه اكتُشف أن لها علاقة بحركة التمرد بجنوب
السودان.
8- صندوق الأمم المتحدة للسكان: انشأ مركزاً صحياً واجتماعياً.
منطقة أنقولا: أغلبية سكانها نصارى ووثنيون وهي منطقة عشوائية.
(أ) الكنائس:
1- كنيسة السودان الداخلية.
2- كنيسة إنجيلية.
3- كنيسة كاثوليكية.
4- كنيسة لم أتحصل على جهتها.
(ب) المدارس:
1- لكنيسة السودان الداخلية:
1- روضة.
2- ابتدائي.
3- محو أمية.
2- الكنيسة الكاثوليكية: تقيم الدروس الدينية والدورات بمقر الكنيسة.
(ج) المنظمات: عمل المنظمات في هذه المنطقة يتم من خلال الكنائس
الموجودة فيها.
منطقة مانديلا: تقع جنوب منطقة أنقولا، وهي منطقة عشوائية كذلك وتعتبر
تجمعاً للنازحين؛ فمعظم سكانها غير مسلمين، وقدر تعدادهم بحوالي (900،
25) نسمة، والخمور فيها علنية كأنقولا، ويشيع فيها أكل الميتة ونسبة البطالة
فيها عالية.
(أ) الكنائس: يوجد بها 12 كنيسة:
1- الأسقفية ست كنائس.
2- الكاثوليك أربع كنائس.
3- الإنجيلية كنيستان.
(ب) المدارس:
1- مدرسة الرحمة.. منظمة بريطانية.
2- مدرسة سانتوفيلب.. أسقفية (أساس + حضانة) .
3- مدرسة الكازتيو.. مجلس الكنائس السوداني.
4- مدرسة الاتحاد.. كاثوليكية وهي أكبر مدرسة بالمنطقة.
5- مدرسة المسيحية.. إنجيلية.
(ج) المنظمات:
1- منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية: لها أكبر مستشفى بالمنطقة (العلاج
مجاني) .
2- منظمة إدرا الأمريكية: - مركز تغذية أطفال ... حفر عدد من
المضخات وعمل صهريج واحد.
3- منظمة فار:
أ- برنامج إصحاح البيئة.
ب- حفر عدد من دورات المياه للمواطنين.
4- منظمة (RCA) :
(أ) رعاية الأمومة والطفولة.
(ب) توزيع إغاثات.
5- مجلس الكنائس السوداني: يشرف على الأنشطة التبشيرية بالمنطقة.
منطقة الجبل - دار السلام:
(أ) الكنائس: توجد ثمانية كنائس و21 مركزاً صغيراً للنشاط الديني بدار
السلام.
(ب) المدارس:
1- مدرسة دار النعيم للأساس.
2- كميوني الحارة (6) شرق.
3- كميوني الحارة (6) غرب.
4- مدرسة المجلس الوطني للشباب المسيحي بالسودان.
5- مدرسة مزرعة غبريال (زعيم الكاثوليك بالسودان) .
(ج) المراكز الاجتماعية:
1- مركز كاثوليكي بالحارة الخامسة: اجتماعات، عروض فيديو،
مساعدات.
2- مركز الحارة السادسة: عرض فيديو.
3- مركز الحارة الرابعة مربع 1: مركز لتدريب وترقية المرأة، وهو يتبع
منظمة «وُتاب الألمانية» ويقوم هذا المركز بالآتي:
1- إسعافات أولية.
2- عمل أيام علاجية بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود.
3- محو أمية.
4- إعطاء سلفيات والسداد بفائدة بنسبة 20% «تعامل ربوي» .
5- مركز تنقو لعرض الفيديو.
6- مركز اجتماعي «مأوى كاثوليكي داخل مزرعة غبريال في مدخل دار
السلام» .
(د) المنظمات:
1- مجلس الكنائس السوداني.
2- منظمة وتاب الألمانية.
3- المجلس الوطني للشباب المسيحي بالسودان.
4- منظمة أطباء بلا حدود.
5- منطقة سوبا والجريف:
(أ) الكنائس:
1- سوبا الحلة: كنيسة واحدة.
2- سوبا السكة حديد: توجد بها كنيسة واحدة.
3- سوبا الأراضي: بها (17) كنيسة بالإضافة إلى مركزين لشهود يهوه.
4- السلمة: بها (7) كنائس.
5- الجريف غرب: وبها كنيسة واحدة.
(ب) المدارس:
1- سوبا السكة حديد: كميوني أساس واحد.
2- سوبا الأراضي: 3 مدارس كميوني أساس + 4 مدارس رياض أطفال.
ثالثاً: محافظة أُمبدة.. محلية الأمير:
(أ) عدد الكنائس: توجد أربعة كنائس للكاثوليك وواحدة للبرتستانت، هذه
الكنائس موزعة في الحارة العاشرة والحارة 12، والحارة 19. كنيسة الحارة 19
أطلقت شباباً وشاباتٍ لهم الجرأة في طرق أبواب المنازل لممارسة الدعوة الفردية لا
سيما وسط شباب قبيلة النوبة.
(ب) المدارس:
أ- روضة + مدرسة أساس (نصرانية بحتة) برعاية القديس مرقس بالحارة
12، ويدرس فيها بعض أبناء المسلمين.
ب- كميوني كاثوليكي للأساس بالحارة 16/ ب حي البستان.
ج- كميوني كاثوليكي بالحارة 19.
(ج) المراكز الصحية والاجتماعية:
(أ) مركز صحي بالحارة 11 تابع للبروتستانت.
(ب) مشغل نسوي بالحارة 11 تابع للبروتستانت.
(ج) مركز إغاثي بالحارة 11 تابع للبروتستانت.
(د) عدد (3) مراكز للعروض السينمائية في الحارة 19.
منطقة ود البشير: منطقة عشوائية، غالبية سكانها غير مسلمين.
(أ) الكنائس: توجد نحو ثماني كنائس.
(ب) المدارس: توجد أربع مدارس للأساس للنصارى بجانب الدراسة
بمقررات الكنائس.
(ج) المراكز الصحية:
1- مركز صحي كاثوليكي.
2- مركز تحصين الأطفال - الصليب الأحمر.
3- عيادة زملاء الإغاثة الإفريقية - العلاج مجاني.
4- عيادة منظمة أدرا - عيادة متكاملة والعلاج مجاني.
(د) المنظمات:
1- منظمة رعاية الطفولة البريطانية: تعتبر ود البشير مركزاً للإدارة
والنشاط للمنظمة، أنشأت مدرسة أساس ولها مستودع أدوية.
2- منظمة زملاء الإغاثة الإفريقية: لها عيادة وتقوم بتوزيع الإغاثات.
3- الصليب الأحمر: له مركز لتحصين الأطفال.
4- منظمة أدرا الأمريكية: قامت بعمل عدة صهاريج ولها عيادة.
محلية دار السلام:
المربعات: غالبية السكان مسلمون وتعتبر منطقة حديثة.
(أ) الكنائس: توجد عدد 22 كنيسة.
(ب) المدارس: توجد 19 مدرسة وكميوني للأساس.
(ج) المراكز الصحية:
1- مركز صحي بالحارة 8.
2- مركز صحي بالحارة 4.
3- المنظمات: تعمل في غموض وغير ظاهرة النشاط بالمربعات.
رابعاً: محافظة أم درمان ... محلية أم درمان:
(أ) الكنائس: انحصرت الكنائس في المناطق الواقعة حول سوق أم درمان
فبلغ عددها سبع كنائس كبيرة:
1- رئاسة الكنيسة الأسقفية: توجد جنوب مستشفى التجاني الماحي وهي
الجهة المسؤولة عن كافة أنشطة الكنيسة الأسقفية بالسودان.
2- الكنيسة الأسقفية - شرق مستشفى الخرطوم التعليمي.
3- الكنيسة الأسقفية الثالثة - جوار استاد المريخ.
4- الكنيسة الإنجيلية - شرق مستشفى أم درمان التعليمي.
5- للأقباط أكبر ثلاث كنائس بالمنطقة في حي المسالمة شمال سوق أم
درمان وجوار مدرسة محمد حسين الثانوية، وكل كنيسة من هذه الكنائس تقع على
مساحة كبيرة وداخلها ملحقات: إما روضة أو مركز اجتماعي وثقافي.
(ب) المدارس:
1- كلية اللاهوت: تابعة لكنيسة السودان الداخلية. وهي تتبع المنهج
الإنجيلي وتخرج قسيسين.
2- المدارس الأسقفية (روضة + أساس + ثانوي) .
3- المدارس الإنجيلية (تمهيدي + ثانوي أكاديمي + ثانوي تجاري) كلها
في شرق مستشفى أم درمان التعليمي.
4- مدارس الراهبات بحي المسالمة (روضة + أساس + ثانوي) .
5- الدار القبطية - شرق مدرسة محمد حسين الثانوية تلعب دور المدرسة
وبها مكتبة.
منطقة كرري: غالبية السكان مسلمون.
(أ) الكنائس: توجد تسع كنائس بكرري وتوزيعها كالآتي: في الحارة 48
أو خُدير:
1- كنيسة السودان الداخلية.
2- كنيستان أسقفيتان.
3- كنيسة كاثوليكية. في الحارة 54:
1- كنيسة أسقفية في الميدان الرئيس جوار مسجد الحارة.
2- كنيستان أخريان في أطراف الحارة الجنوبية والجنوبية الغربية. في
الحارة 42.
التعويضات: توجد كنيسة واحدة. في الحارة 34: كنيسة كاثوليكية واحدة
تصدت اللجنة الشعبية بالحارة لهذه الكنيسة منذ تصديقها وبنائها فحتى الآن نشاطها
مجمد.
(ب) المدارس:
1- كميوني كاثوليكي بالحارة 56 (روضة + أساس) .
2- ثلاث مدارس أساس (أسقفية، كاثوليكية، إنجيلية) بالحارة 48.
3- مدرسة أساس كاثوليكية بالحارة 54.
4- مدرسة أساس كاثوليكية بالحارة 47، هذه المدرسة أنشئت جوار المدرسة
الحكومية وسحب إليها طلاب وطالبات النصارى بالمدرسة الحكومية.
5- كميوني - مرحلة الأساس بالحارة 42 «التعويضات» .
6- كميوني بالحارة 34 مُوقَف النشاط لممانعة اللجنة الشعبية بالحارة.
(ج) المراكز الصحية والاجتماعية:
1- عيادة متنقلة وأسبوعية لطلاب كميوني الحارة 56.
2- مركز رعاية صحية وتغذية - يتبع منظمة أشاد بالحارة 48.
3- نادي كاثوليكي بالحارة 54.
(د) المنظمات:
1- منظمة إدرا الأمريكية. أنشأت صهريجين وبئرين ودورات مياه
بالمدرسة الحكومية بالحارة 48.
2- المنظمة الإفريقية للتنمية الإنسانية (آشاد) أنشأت مركزاً للرعاية
الصحية وتغذية الأطفال بالحارة 48.
3- هنالك منظمة عاملة بالمنطقة من خلال الكنائس بالمنطقة.
خامساً: محافظة شرق النيل:
منطقة الحاج يوسف: أغلب السكان مسلمون، ولكن غالبيتهم من أبناء
الولايات الجنوبية.
(أ) الكنائس: توجد 23 كنيسة:
1- كنيسة قبطية شمال حي التكامل داخل المزرعة القبطية. وتضم كذلك
فواكه ودواجن ومزرعة ألبان ومقاير القسيسين.
2- ثلاث كنائس في مربع 1 حي التكامل.
3- ثلاث كنائس أخرى بمربع 2 حي التكامل.
4- أربع كنائس بمربع 3 حي التكامل.
5- كنيسة كاثوليكية واحدة بالوحدة مربع 9 (رعية القديس استنفانوس) .
6- كنيستان بالشقلة جنوب.
7- عشر كنائس بكرتون كسلا «حي بركة» أغلب السكان فيه غير مسلمين
وتوزع الكنائس كالآتي:
1- مركز شهود يهوه في مربع 1.
2- كنيسة زكريا الكاثوليكية مربع 2.
3- كنيسة أسقفة مربع 2.
4- كنيسة الرسولية الجديدة مربع 4.
5- ثلاث كنائس كاثولكية مربع 4.
6- ثلاث كنائس بميدان مربع 5.
(ب) المدارس: توجد نحو 16 مدرسة أساس متفرقة كالآتي:
1- سبعة مدارس بحي التكامل.
2- مدرسة واحدة بالوحدة مربع 9.
3- مدرستان بالشقلة جنوب.
4- ست مدارس بكرتون كسلا «حي بركة» .
(ج) المراكز الصحية والاجتماعية:
1- مركز صحي المنظمة السودانية الخيرية «الوحدة مربع 9» .
2- عيادة منظمة اكشين فايم - حي التكامل.
3- مستودع أدوية بحي التكامل مربع 2.
4- عيادة ومركز تغذية.. تابع لمجلس الكنائس السوداني. تقع في كرتون
كسلا مربع 2.
5- مركز تغذية.. الصليب الأحمر.. كرتون كسلا مربع 2.
6- مركز تنمية المرأة.. الجمعية العالمية لتنظيم الأسرة (وله أنشطة متعددة
منها تعليم كبار وروضة أطفال وتعليم المهارات النسوية.. إلخ) .
7- استراحة للقسيسين بمربع 4 كرتون كسلا.
8- مركز القديسة ميري لتنمية المرأة تابع للكنيسة الكاثولوكية في مربع 9
حي الوحدة.
9- توجد نحو سبعة مراكز لإيواء المشردين بحي التكامل.
10- مركز كاثوليكي لتوزيع الإغاثة بالشقلة جنوب.
11- نحو خمسة مراكز لعروض الفيديو بكرتون كسلا.
(د) المنظمات:
1- مجلس الكنائس السوداني.
2- منظمة رعاية الطفولة البريطانية.
3- منظمة Actian Faim.
4- الجمعية العالمية لتنظيم الأسرة.
5- المنظمة السودانية الخيرية.
6- الصليب الأحمر.
مدينة بحري:
(أ) الكنائس: توجد خمس كنائس:
1- الكنيسة الإنجيلية بالمحطة الوسطى بحري.
2- ثلاث كنائس للأقباط بحلة حمد.
3- كنيسة كاثوليكية على النيل بحلة حمد.
(ب) المدارس:
1- كلية النيل اللاهوتية - تقع شمال مسجد بحري الكبير وتخصصت في
تخريج القساوسة وأساتذة الكتاب المقدس.
2- المدرسة الإنجيلية للبنات وتضم (حضانة + تمهيدي + أساس + ثانوي)
تقع شرق مدرسة اللاهوت.
3- مدرسة الأقباط - حلة حمد بمركز الأقباط.
4- كميوني كاثوليك بحلة حمد - طالبات مرحلة أساس.
5- مدرسة الراهبات بحلة حمد - طالبات مرحلة أساس
(ج) مركز الراعي الصالح الثقافي الإنجيلي: يوجد بمقر الكنيسة الإنجيلية
بالمحطة الوسطى ببحري؛ وتعتبر أكبر المراكز الثقافية الإنجيلية وبه (كتب،
فيديو، أشرطة كاسيت) للاطلاع والبيع والاستعارة.
مدن وعواصم الولايات الأخرى:
محافظة الحصاحيصا: مدينة الحصاحيصا:
تقع هذه المدينة بالولاية الوسطى جنوب الخرطوم أكثر من 99% من سكانها
مسلمون والنشاط النصراني فيها ضئيل جداً والحمد لله؛ غير أنها كغيرها شهدت
هرجاً ومرجاً من قِبَل النصارى في أيام احتفالاتهم بعيد الكرسمس، حيث وزعوا
شحنة عربة بوكس من الأناجيل والكتب النصرانية.
(أ) الكنائس:
1- كنيسة كاثوليكية بحي المزاد.
2- كنيسة بمقر السكن العشوائي بحي ود الكامل كُسِرت هذه المنطقة بفضل
التخطيط العمراني. وتركن هذه الكنيسة وحدها، والآن يمارس فيها النشاط.
3- مقر السلخانة القديم بحي اركوتب قد اتخذوه كنيسة لهم.
(ب) المدارس: لديهم حضانة وروضة بحي الزهور، ويقيمون دورات
للغة الإنجليزية بمقر الكنيسة بالمزاد.
مدينة رفاعة: تقع شرق الحصاحيصا في الضفة الشرقية للنيل، ومعظم
سكانها مسلمون، وفيها نحو 16 مسجداً.
(أ) الكنائس:
1- كنيسة كاثوليكية عبارة عن منزل عادي ملك.
2- كنيسة إنجيلية - عبارة عن منزل مؤجر.
3- كنيسة السودان الداخلية: منزل مؤجر.
4- كنيسة أسقفية: عبارة عن منزل مؤجر كذلك.
(ب) المدارس:
1- يمارس النصارى نشاطهم التعليمي من خلال كنائسهم ومن ثم الالتحاق
بالمدارس الحكومية.
2- مدرسة الشيخ لطفي: عبارة عن مدرسة ثانوية في البدء أستأجرها
النصارى لتكون مدرسة قومية لجميع طلابهم بالمنطقة قامت منظمة أمريكية بإنشاء
داخلية لهم لتمثل أكبر مركز اجتماعي، والآن هذه المدرسة مسؤولة عنها الحكومة.
منطقة مصنع سكر الجنيد:
1- يقع هذا المصنع شمال مدينة رفاعة، وسكان المنطقة الأصليون مسلمون
، والنصارى فقط هم جزء من النوبة الذين جاؤوا إلى المصنع عمالاً.
2- توجد ثلاث كنائس بالمنطقة: واحدة بالحي الشعبي، والثانية بحي
التضامن ومعها مدرسة كميوني، والثالثة بقرية ود السيد.
مدينة واد مدني: عاصمة ولاية الجزيرة تعتبر عاصمة الولاية الوسطى وتقع
على بعد حوالي 186 كم من الخرطوم، غاالبية سكانها مسلمون، وتركزت
مؤسسات النصارى في أعرق حيّين بالمدينة وخارج المدينة في منطقة تقع شرق
الإنقاذ.
(أ) الكنائس:
1- كنيسة كاثوليكية.
2- كنيسة إنجيلية.
3- كنيسة أسقفية.
4- كنيسة قبطية.
5- كنيسة إنجيلية.. الأخيرة مقرها في شارع النيل شمال الفرقة التجانية.
(ب) المدارس:
1- روضة + مدرسة أساس.. الكنيسة الأسقفية.
2- تمهيدي + رياض أطفال + مدرسة أساس الكنيسة الإنجيلية.
3- مدرسة الكنيسة الكاثوليكية.
(ج) المراكز الاجتماعية والصحية:
1- مركز شباب الكنيسة الإنجيلية.. اجتماعي، ثقافي.
2- عيادة الكنيسة القبطية.
3-مركز اجتماعي كاثوليكي، كان منزلاً مجاوراً للكنيسة بالقسم الأول فقاموا
بشرائه بملغ 65 مليوناً، وأفاد أهل المدينة أن سعره حينئذ لا ينبغي أن يجاوز الـ
20 مليون جنيه، ودفعوا للجار الآخر 165 مليوناً ولم يبع!
مدينتا سبخة والسوكي: تعتبران ضمن ولاية سنار بالنسبة لسنجة:
1-المركز الكاثوليكي للصلاة يقع جنوب غرب المدينة.
2-كنيستان عشوائيتان في حي 14.
أما بالنسبة لمدينة السوكي: فقد انحصر فيها نشاط النصارى في منطقة
واحدة - حي يدعى الكميوني - وهذا الكميوني الذي سميت به المنطقة عبارة عن
مركز تنصيري كبير في ساحة تقدر بست قطع سكنية، ويضم الكنيسة، ومركزاً
صحياً تحت إشراف الصليب الأحمر، ومركزاً تعليمياً واجتماعياً، ولكن نشاط هذا
المجمع شبه مجمد الآن.
يوجد انتشار لبعض القبائل المسيحية مثل الذندية في الأحياء الشرقية من
المدينة.
مدينة الأُبيض: تقع جنوب كوستي وتمثل عاصمة شمال كردفان، وتبعد نحو
720 كم من الخرطوم العاصمة غالبية السكان مسلمون، ولكن توجد مقابر
للنصارى بصورة مستفزة في مدخل المدينة أمام القيادة العسكرية وكأنها تعطي
انطباعاً بأن غالبية سكان المنطقة نصارى. وكذلك الشكل الهندسي الذي بنيت به
الكنيسة الكاثوليكية من حيث الموقع والارتفاع؛ إذ يمكن مشاهدتها من أي موقع
بالمدينة!
(أ) الكنائس:
1- الكنيسة الكاثوليكية الأم - توجد بالحي البريطاني وتقع في أكبر مجمع
للكاثوليك بالسودان بعد رئاستهم بالعاصمة القومية الخرطوم.
2- كنيسة كاثوليكية - جنوب إدارة مرحلة الأساس.
3- الكنيسة القبطية - توجد بحي القبة غرب، قامت رئاسة الأقباط بإعفاء
قسيسها السابق من منصبه بسبب إسلام ثلاثة من فتيان الكنيسة واستبدلته بآخر،
فقام الأخير بجمع شمل النصارى وتحويل نشاط النادي القبطي إلى داخل الكنيسة
التي جعل منها مركزاً دينياً واجتماعياً وثقافياً.
4- أربعة كنائس في منطقة طبية - في شرق المدينة وهي «كاثوليكية،
إنجيلية، أسقفية، شهود يهوه» .
5- كنيسة واحدة بحي البوبايا كريمة جنوب «.
6- كنيسة واحدة بح الرقيبة كريمة شمال» .
7- كنيسة واحدة بمنطقة حزام بقر «أغلبية سكانها نصارى وتعلو الصلبان
أكثر المنازل» .
8- كنيسة واحدة بحي الزندية شمال شرق الوحدة.
9- كنيستان بدار السلام.
10- الروكب «الكرُنقو» يوجد به ثلاث كنائس غالبية السكان غير مسلمين ولا
يوجد مسجد.
(ب) المدارس:
1- كميوني الكاثوليك - جنوب غرب البيطري ويعتبر أكبر مجمع تعليمي
للنصارى بالمنطقة، ويضم المراحل (تمهيدي + أساس + ثانوي بكل مرحلة أكثر
من نهر واحد من الفصول الدراسية) .
2- روضة وحضانة بمقر الكنيسة القبطية.
3- روضتان للأطفال ومدرسة أساس بمنطقة طبية.
4- روضة بمنطقة حزم البقر.
5- روضة بمنطقة الزندية.
6- روضة + مدرسة أساس بدار السلام.
7- روضة بالروكب «الكرنقو» .
المنظمات: لا توجد منظمات ظاهرة؛ فإن نشاطها يتم من خلال المدارس
والكنائس.
جنوب كردفان: مدينة الدبخ: تقع في جنوب كردفان وعلى بعد 160 كم
جنوب مدينة الأبيض، أغلب السكان فيها مسلمون. وهي منطقة قريبة من مواقع
الحرب والتمرد بجبال النوبة. يسيطر الكاثوليك على النشاط التنصيري بالمنطقة.
(أ) الكنائس:
1- الكنيسة الكاثوليكية الأم بحي الموظفين شرق.
2- كنيستان للكاثوليك بحي الطرق.
3- كنيسة للكاثوليك بحي التومات.
4- كنيسة للكاثوليك بحي المرافيت. ...
5- الكنيسة الأسقفية بحي الموظفين (تعتبر مركز نشاطهم الوحيد بالمدينة) .
(ب) المدارس:
1- روضة وكميوني أساس كاثوليك بحي الموظفين بمقر الكنيسة، ولها الأثر
الكبير بسبب تدهور التعليم الحكومي حيث إن الدراسة فيها مجمدة لمدة عامين
باستثناء المدارس الثانوية.
2- روضة بحي التومات. ...
3- الكنيسة الأسقفية تمارس نشاطها التعليمي من خلال مقرها بحي
الموظفين.
(ج) المنظمات:
1- منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية التي كانت من أنشط المنظمات بالمنطقة
ولكنها الآن لها مشاكل مع الحكومة، ولذا فنشاطها مجمد.
2- منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية: تعمل في مجال تحصين الأطفال وتوزيع
إغاثات وأدوية بالقرى المجاورة للمدينة.
3- منظمة اليونسيف: قامت بعمل مضخات مياه في معظم مدينة الدلنج.
(د) المراكز الصحية: قامت الكنيسة الكاثوليكية بتأسيس أكبر مستشفى
توليد بالمنطقة، ولما جعلته الدولة تابعاً لوزارة الصحة قاموا بسحب كل المعدات
الحديثة التي جاؤوا بها - ولكن لا يزال المستشفى تحت إدارتهم، وبه عيادة عامة
في الفترة الصباحية يوجد بحي الموظفين.
مدينة كادوقلي: تعتبر عاصمة جنوب كردفان وتبعد 290كم جنوب مدينة
الأبيض، أغلب سكانها مسلمون. وتعتبر منطقة حرب والأمن فيها غير مستتب،
الكاثوليك هم الطائفة المسيطرة على نشاطها النصراني بالمنطقة.
(أ) الكنائس: لا توجد كنائس كثيرة بالمنطقة ومع ذلك فالنشاط أكبر من أن
يتصور:
1- الكنيسة الكاثوليكية بحي المصانع.
2- الكنيسة القبطية بحي السوق.
3- اشترى الكاثوليك منزلاً بحي السوق وأرادوا جعله كنيسة ولكن المواطنين
تصدوا لهم ومنعوهم.
4- في منطقة خردود الواقعة شرق مدينة كادوقلي استطاع الكاثوليك تصديق
12 ألف متر مربع من السلطات العليا بالبلاد بتجاوز المحلية! ويعتقد أن هذه
المنطقة سوف تكون أكبر مركز تبشيري بشرق إفريقيا - تقع غرب مدرسة تلو
الثانوية العريقة، ومعظم المساحة يسكنها مسلمون من قبل التصديق، والآن هم
معرضون للإزالة والترحيل! والمدهش أن النصارى بالمنطقة لا يتجاوز عددهم
أربع أسر، وقد أنشأ الكاثوليك ابتداءاً كنيسة صغيرة من القش في جزء من المساحة
لكن المسلمين قاموا بإحراقها؛ والآن لم ير النصارى بداً من تجميد مشروعهم هذا،
وربما لحين!
(ب) المدارس:
1- روضة للكاثوليك بحي المصانع.
2- روضة بحي السوق.
3- روضة بقردود فيها نحو 30 طالباً وطالبة من الأطفال ومعظمهم من أبناء
المسلمين.
4- كميوني ضخم مقترح بالجنينة الكاثوليكية في المدخل الشرقي للمدينة.
(ج) المراكز الصحية والاجتماعية:
1- عيادة كاثوليكية متكاملة تقع جنوب غرب السوق الداخلي.
2- قاموا بشراء معظم المرابيع الواقعة شرق السوق الخارجي.
3- لهم مركز في شمال السوق يقوم عليه شباب نصراني مهمته إفساد الشباب
المسلم بتوفير جو الرقص بالأشرطة الغربية والشيشة والخمور والنساء.
4- تقوم الكنيسة الكاثوليكية باستقطاب واستقبال النازحين بسبب الحرب
فتكسوهم وتعطيهم الإغاثات وهم وثنيون؛ ثم توفر لهم جو التعليم؛ ومن ثم تدعوهم
للتنصر والتمرد على العرب والحكومة.
(د) المنظمات:
1- منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية: توجد بحي المصانع، وقد وظفت
سودانيين مسلمين وتعمل تحت مظلة العمل الإغاثي وتطعيم الأطفال، وتطالب
الموظفين بإحصائيات سكانية وتصنيف الأسر، ويبدو أن هذا تمهيد لعمل
استراتيجي غير معروف!
2- منظمة كبر: حفرت عدة مضخات مياه وتدعم النازحين بأغنام للأسر.
3- منظمة اليونسيف: حفرت عدة مضخات مياه وتدعم المدارس وتعمل
دورات مياه.
4- منظمة UNDP: تعمل في مجال التنمية الزراعية، وتركز على
الأرياف فتقوم بحرث الأرض؛ وتملِّك المواطنين أغناماً للاستفادة منها.
مدينة الدمازين: تمثل الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق، وتركز نشاط
النصارى فيها في أربعة أحياء على النحو الآتي:
1- حي الثورة: يقع في شمال غرب المدينة، ويشكل المسلمون فيه الأغلبية
ومعظمهم من قبيلة الهوسا والزغاوة ويوجد في الحي كنيستان لقبيلة البرون إحداهما
مشيدة بمواد محلية من القش والأخرى بمواد ثابتة - تجدر الإشارة إلى أن قبيلة
البرون هي المستهدفة من قبل النصارى (لأنهم نازحو الكرمك وقيسان ويتصفون
بالجهل والبساطة) .
ولاية شرق السودان ... مدينة القضارف:
تبعد حوالي 411 كم من العاصمة الخرطوم، وأغلبية السكان فيها مسلمون،
ولكن للنصارى مراكز ضخمة في وسط المدينة في أرقى الأحياء: (ديم حمد،
والسوق الرئيس) .
* ديم حمد:
(أ) الكنائس:
1- مركز الكنيسة الكاثولكية: يقوم بالإشراف على كافة نشاط الكاثوليك
بالولاية.
2- مركز الكنيسة الأسقفية. هذا المركز مسؤول عن كافة نشاط الكنيسة
الأسقفية بالولاية.
* السوق: الكنيسة الإنجيلية + مركز ثقافي تعليمي تابع للكنيسة وتوجد
كنائس عشوائية في كل من: (كسارة + سلامة البيئة + جبل كارقو) .
أبرز المنظمات:
1- المنظمة الإفريقية لرعاية الأمومة والطفولة:
2- منظمة الأغذية العالمية.
* كل نشاط المنظمات الأخرى يدار عبر الكنائس.
مدينة كسلا: تقع في أقصى شرق البلاد في الحدود السودانية الإرتيرية،
وتبعد حوالي 560 كم من العاصمة الخرطوم، وأغلب سكانها مسلمون، ويتركز
نشاط النصارى في منطقة (واونور) التي معظم سكانها من النصارى، بينما
ينتشر الأحباش النصارى في مناطق متفرقة من المدينة.
(أ) الكنائس:
1- الكنيسة الكاثوليكية توجد بالمربعات: مربع 16 وتعتبر أكبر مركز
تنصيري بكسلا. أسس هذه الكنيسة حبشي وكل اللجنة التنفيذية من الأحباش بينما
للنصارى الجنوبيين المناصب الهامشية (أفادنا بهذه المعلومة: محمد مرسليو يعقوب «رئيس شباب الجنوب وأمين الدائرة الاقتصادية للمؤتمر الوطني» بكسلا.
2- كنيسة قبطية بحي الميرغنية.
3- كنيسة + مدرسة أساس بمعسكر ود شريفي جنوب شرق المدينة.
توجد نحو خمس كنائس في منطقة نهر عطبرة: ثلاث منها في خشم القربة،
واثنان في حلفا (المصنع + حي الثورة) بالإضافة إلى مدرسة كميوني واحدة.
(ب) أبرز المنظمات:
1- منظمة سودان بلان: لها مكاتب في كل من كسلا، خشم القربة، معسكر
ود شريفي؛ حيث تشارك في مشاريع المياه والعلاج وبناء المدارس وكفالة الأيتام.
2- منظمة أكوور: لها مكتب رئيس بحي الترعة، وأبرز نشاطها يتمثل في
دعم الصناعات الصغيرة، والغالب على تعاملها التعامل الربوي.
3- منظمة الأغذية العالمية: تقوم بتقديم إغاثات للنازحين.
مدينة بورتسودان: تقع في منطقة البحر الأحمر بشرق السودان، وغالبية
سكانها مسلمون، ولكن مؤسسات النصارى تحتل مواقع استراتيجية في قلب المدينة
ومشيّدة بصورة ضخمة وتتوزع كالآتي:
(أ) الكنائس:
1- الكنيسة الكاثوليكية: يتبعها مدارس كميوني + تمهيدي + أساس + ثانوي.
2- الكنيسة الإنجيلية: بها مدرسة أساس + روضة.
3- مطرانية الأقباط: ملحق بها كنيسة السيدة العذراء مدرسة أساس+ روضة
+ ثانوي+ النادي القبطي.
4- الكنيسة الأسقفية.
5- كنيسة كبيرة تقع جنوب هيئة توفير المياه الآن مغلقة ولا نشاط لها، وقد
حاول الشيخ محمد الحسين عبد القادر - رحمه الله - رئيس جماعة أنصار السنة
المحمدية بالولاية الشرقية - في عصره شراء هذه الكنيسة وتحويلها إلى مسجد لولا
تراجع النصارى (مصدر هذه المعلومة شاهد عيان الرقاق عبد الرحيم) .
* النشاط النصراني في المنطقة الطرفية:
1- منطقة فليب: فيها ثلاث كنائس ومدرستان ومنظمة.
2- أم القرى: بها كنيسة واحدة.
3- منطقة سلالاب الامتداد مربع 3 الريفي: توجد كنيسة ومدرسة.
* المناطق الأخيرة توجد فيها قبائل الجنوبيين والنوبة بكثرة المنظمات:
1- أوكسفام Your Acation يور أكشن: يقومان بدعم الصناعات الصغيرة
والأسر المنتجة «قروض ربوية» .
2- Canda Fation: تنظيم دورات مجانية لمحو الأمية خاصة للاجئين،
ودورات لأساتذة مرحلة الأساس بالتعاون مع وزارة التربية.
3- منظمة الأغذية العالمية: إغاثات ومشاريع خيرية.
ولاية نهر النيل: مدينة شندي:
معظم السكان مسلمون، والنصارى أقلية بهذه المدينة وينحصر نشاطهم في
أركويت ومربع 1 ومحطة السكة حديد الرئيسة في منطقة أركويت حيث تنتشر
قبائل اللاتوقا والسلك والدينكا والنوير والزاندي، وتوزيع النشاط فيها كالآتي: -
في مربع 38 توجد أكبر مدرسة للنصارى وكميوني حديث الإنشاء بميناء سلح
وعلى مساحة كبيرة جداً «لم يكتمل التأسيس بعد»
- في مربع 37 يوجد كميوني للأساس + روضة للأطفال يقومون في هذه
المنطقة بتوزيع إغاثات وكتب نصرانية وعروض فيديو ومعارض دورية.
- مؤخراً في نهاية عام 1999م قاموا بتصديق أربع كنائس أخرى لإنشائها
بمنطقة أركويت متجاوزين السلطات المحلية؛ ووراء هذا الأمر القائم بأمر
النصارى بالمنطقة ويدعى (غيري) قاضي مديرية قائم بالمنطقة. هذه الكنائس
الآن قيد التنفيذ مع اعتراض المحافظ الحالي الأستاذ عبد الله التهام والغيورين على
دينهم من أهل المنطقة.
- في مربع 12: توجد كنيستان (إنجيلية، وأرثوذكسية) في منازل عادية
(ربما تكون مستأجرة أو مشتراة) .. وبالمربع مسجد واحد.
- الأقباط: ولهم أكبر مركز بالمدينة في محطة السكة الحديد الرئيسة بمدينة
شندي، ويضم المركز:
1- كنيسة.
2- مكاتب.
3- مركز اجتماعي وتعليمي.
كما يمتلكون نادياً باسم الشباب المسيحي بمربع 1 غير مشيد. ويتركز الأقباط
في المربع 1؛ إذ يمثلون نحو 5% أو أكثر من سكان المربع وعدد كبير منهم
رأسمالي، واشتهروا بامتلاك مصانع الفرات وعدد من المحلات التجارية بالسوق.
مدينة عطبرة:
(أ) حي السيالة: أكبر مجمع للأقباط الأرثوذكس ويضم:
1- مطرانية الأقباط الأرثوذكس + التربية المسيحية وكنيسة السيدة العذراء.
2- مستوصف الأقباط الخيري: أسس عام 1990م ومعه صيدلية أسست
عام 1996م.
3- نادي المكتبة القبطية.
4- المدارس القبطية (أساس + ثانوي) .
5- الكنيسة الإنجيلية ومدارسها (أساس + ثانوي) ولديهم روضة بالمربعات
جنوب السوق الرئيس، بالسابق كانت مدرسة متوسطة.
(ب) منطقة السوق: يوجد أكبر مجمع للكاثوليك والذي يضم الآتي:
1- كنيسة على مساحة كبيرة جداً.
2- مكاتب إدارة في مربع منفصل.
3- روضة + مدرسة أساس.
4- مدرسة ثانوية.
5- ورشة حدادة ملحقة بالمدرسة.
(ج) منطقة الوحدة: تقع في شرق المدينة ومعظم سكانها من النوبة أو
القبائل الجنوبية التي كانت تسكن في امتداد نهر عطبرة.
(أ) الكنائس: توجد كنيستان:
1- الإنجيلية: في مربع في وسط الوحدة تقريباً ومعظم روادها من النوبة.
2- الكاثوليكية: تقع في المنطقة العشوائية وروادها من الجنوبيين والزاندة؛
ولديهم روضة للأطفال في ثلاثة مرابيع.
الولاية الشمالية: مدينة مروي: انحصر مراكز النصارى في منطقتين وهما
دار السلام (الكميو) والمربعات.
(أ) دار السلام: منطقة عشوائية جنوب مروي، وأصبح تخطيطها وشيكاً.
سكانها من النوبة والجنوبيين وقليل من الزاندي الأغلبية مسلمون، ولكن ليس
لديهم غير مصلى واحد وغير مهيأ ولا تقام فيه (جمعة) .
بالمنطقة كنيستان:
1- كاثوليكية + روضة.
2- إنجيلية غير مكتملة التشييد.
(ب) المربعات: يوجد بها منظمة إدرا الأمريكية (وكالة الأفنتست للتنمية)
تقوم هذه المنظمة بنشاط كبير جداً خاصةً في وسط العرب الرحل - كتقديم
إغاثات - تنظيم دروس - محو الأمية - ودورات الإسعافات الأولية والإرشاد
الصحي وتوفير الخيام.. إلخ «.
كما تقوم بدعم الأسر الفقيرة بأغنام، وتنشئ مخيمات علاجيةً، وتستغل أندية
الأحياء وزوايا الصلاة في عمل برامجها المختلفة.
مدينة كريمة: انحصر وجود مراكز النصارى بالسوق والكميو (دار السلام) .
* السوق: توجد فيه الكنيسة الكاثوليكية وهي مسؤولة عن كافة أنشطة
النصارى بالمنطقة.
* دار السلام: منطقة عشوائية في شمال شرق المدينة بها نحو 120 أسرة.
توجد بها كنيسة إنجيلية وبها روضة للأطفال. يوجد مسجد واحد من المواد المحلية
توجد أنشطة متفرقة في كل من:
* مربع 2: نادي الوحدة خاص بالنصارى من النوبة والجنوبيين.
* مربع 3: منزل (علي سعيد) من النوبة الدلامة - كان مسلماً وتنصر.
__________
(*) تم إغفال ذكر عدد من المدن والمناطق ليناسب مساحة النشر. . . ...
- البيان-(155/48)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(3 - 3)
الخيامون في جنوب الجزيرة
بشير البعداني
توطئة:
الجزيرة العربية آخر أرض هبط عليها الوحي من السماء.
وهي القلب النابض لمليار ومائتي مسلم يمتدون عبر امتداد الكرة الأرضية؛
ولذا فهي تمتاز بخصائص وسمات تميزها عن بلاد الدنيا مجتمعة؛ ففيها بيت الله
الحرام، وإليه يحج الناس كل عام، وإليه يتجهون في صلواتهم. هذا الارتباط بين
الإسلام ديناً والجزيرة العربية مكاناً وبين ساكنيه من جهة أخرى أدركه المنصرون
قديماً في الحروب الصليبية التي استمرت زهاء ثلاثة قرون، وحديثاً قالوا: «لن
تتوقف جهودنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة،
ويقام قداس الأحد في المدينة..!» [1] ، من أجل هذا كله ركز منصرو اليوم على
الجزيرة وعلى من يسكنها ومن يحيط بها. وقد وجدوا بغيتهم في جنوبها؛
وبالتحديد في بلاد اليمن البوابة الجنوبية المطلة على المحيط الهندي، حيث التقت
هنا المصالح السياسية - الاقتصادية - الدينية، واجتمع النصارى وتداعوا لغزو
جديد هدفه تحطيم بوابة العمق الاجتماعي للجزيرة بأسرها.
وأستطيع القول إن أهم الأسباب التي هيأت لعملية التنصير في اليمن هي:
1- اندثار بعض شعائر الإسلام وعدم الدعوة إليها، لإحساس الجميع بأنهم
مسلمون وكفى.
2- الجهل والأمية؛ حيث بلغت نسبة الملمين بالقراءة والكتابة من البالغين
38% وهي من أدنى المعدلات في العالم [2] . وأشارت آخر الدراسات إلى أن نسبة
الأمية قدرت بحوالي 50%من السكان.
3- التردي في الجانب الاقتصادي، وضغوط البنك الدولي؛ حيث أشارت
بياناته إلى أن أكثر من 19% من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، وعلى
سبيل المقارنة فقد بلغت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في مصر 6%، وفي
إيران 9% من السكان، ونسبة تقل عن 3% في كل من الجزائر وتونس
والمغرب [3] .
4- النظام الديمقراطي المفتوح والدعم المعنوي التي تتلقاه المنظمات
التنصيرية من بعض الجهات والشخصيات النافذة في البلد.
5- عدم وجود أهداف ثابتة واستراتيجيات واضحة للدعوة بين كثير من
فصائل العمل الإسلامي.
6- الأوضاع الصحية التي تعد من أشد الأوضاع تدنياً في العالم؛ فالفقر
والحمل المتقارب، وانخفاض الوعي الصحي، وارتفاع معدلات سوء التغذية
وتزايدها المطرد؛ حيث وصلت إلى 15,9% لعام 1996م، وتشير البيانات
الرسمية لوزارة الصحة إلى أن مجموع المواطنين المصابين بوباء الفيروس الكبدي
يزيد عن 3,5 مليون مواطن [4] .
7- ضعف الجانب العقدي وغياب عقيدة الولاء والبراء لدى فئات كثيرة في
المجتمع.
8- حسن معاملة النصارى للبسطاء والمتعاملين معهم في الشركات
والمؤسسات.
9- إعجاب بعض أبناء المسلمين بمدرسيهم النصارى، والشعور بالفخر
والاعتزاز لدى زيارة بعض النصارى لبيوت المسلمين.
10- تعدد واجهات العمل النصراني بين: معاهد دراسية - هيئات إغاثية -
مراكز صحية - مراكز دراسات - مراكز ثقافية ...
11- ضعف دور المؤسسات الإسلامية وانشغال كثير منها بقضايا داخلية أو
جزئية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: متى بدأ التنصير في اليمن؟ ومن هي
الجهات التي تقوم بذلك؟ وما هي أشكال هذا التنصير وصوره؟ وهل استطاع أن
يحقق شيئاً من أهدافه ... ؟
تشير التقارير إلى أن أول عمل تنصيري منظم بدأ بعد خمسينيات هذا القرن،
وتركز أساساً في مدينة عدن وبلاد العرب الجنوبية، واستمر العمل حتى عام
1972م، كما بدأ العمل في شمال اليمن من عام 1969م إلى أوائل عام 1981م.
هذا النشاط يتبع منظمة نصرانية تدعى: (فريق البحر الأحمر الدولي) الذي
أسسه المنصر (ليونل قرني) في عام 1951م، والذي قضى سبعة عشر عاماً قبل
هذا التاريخ في أعمال التنصير في الشرق الأوسط.
كما يطلق على هذا الفريق مسمى آخر وهو: (الخيَّامون) وهم النصارى
القادمون للعمل في البلاد الإسلامية في مجالات مختلفة كالطب والهندسة والتعليم
والتمريض ... إلخ.
وشعار هذه المنظمة: (الإسلام يجب أن يسمعنا) ، وهدفها نشر إنجيل الرب
عيسى بين المسلمين. والمنظمة تعرِّف بنفسها أنها فريق البحر الأحمر الدولي
RSTI منظمة عون دولية غير حكومية ذات خلفية نصرانية مركزها الرئيس في
إنجلترا.. وتحصل على الدعم من الكنائس والأفراد ومنظمات العون النصراني؛
ويدعم الفريق حالياً مشاريع تنموية في كل من جمهورية مالي، وجيبوتي،
وباكستان، واليمن، وتنزانيا؛ وكل المشاريع خاضعة لموافقة الحكومة المضيفة،
وتمتد الأنشطة على نطاق واسع في مجال التنمية الريفية والتعليم والصحة والدعاية
الصحية الأولية والتعليم الأولي.. [5] .
واستناداً لما سبق فإن التعريف الخاص بالمنظمة يلقم حجراً لكل من يحاول
التقليل من خطر المنظمات النصرانية أو إنكار أن لها أعمالاً تنصيرية.
تُرى هل نستطيع الآن أن نتعرف على أشكال التنصير وصوره داخل بنية
المجتمع اليمني؟
بالتأكيد الإجابة: نعم! فأماكنه متعددة ومتشعبة وهي كما يلي:
أولاً: الكنائس ودور العبادة:
1 - الكنيسة الكاثولوكية بالتواهي:
تعتبر الكنيسة الكاثولوكية الواقعة في مدينة التواهي وعلى مقربة من القاعدة
العسكرية البحرية اليمنية أهم موقع كنسي نصراني تم افتتاحه في بداية الخمسينيات
إبان الوجود البريطاني في محمية عدن، ويتبع حالياً المجمع الكنسي الكاثولوكي في
مدينة لارنكا بقبرص، ولكنه يدار مؤقتاً من الإدارة الأنجليكانية بمدينه دبي بدولة
الإمارات العربية المتحدة، وربما تكون هذه الكنيسة هي أهم كنيسة على الإطلاق تم
بناؤها في جنوب الجزيرة العربية، ولقد سعدت الإدارة الأمريكية كثيراً بإعادة
افتتاحها في عام 1995م، وتم ذلك بمساعدة السفارة الأمريكية بصنعاء ودعمها؛
وذلك من خلال جهود سفيرها السابق السيد ديفييد نيوتن؛ حيث افتتح المركز الطبي
الكنسي الملحق بها والذي يقدم خدمات لكثير من طالبي الخدمات الطبية من أبناء
المنطقة المحيطة بالكنيسة؛ كما أن التقارير ذكرت أن الصلوات تقام بها بشكل
منتظم عصر كل يوم أحد، وقد اهتم الرهبان والراهبات الذين يعملون في العيادة
الصحية كثيراً بالمقبرة النصرانية في منطقة المعلا التي تضم رفات الكثير من
النصارى ممن توفوا في مدينة عدن.
2 - الكنيسة المعمدانية بكريتر - مدينة عدن:
توجد كنيسة معمدانية في مدينة كريتر بعدن لا تبعد كثيراً عن سوق الخضار،
ولكن تم إلغاؤها وتحول المبنى إلى مبنى حكومي. وكانت الكنيسة تدار من قِبَلِ
الكنيسة الأنجليكانية المعمدانية التي تتخذ من لندن مقراً لها؛ وسبب ذلك إهمال
أعضاء تلك البعثة وتقصيرهم.
3 - دور العبادة النصرانية بصنعاء:
قامت بعض العناصر الإنجيلية النشطة وبدعم غير مباشر من السفارة
الأمريكية بصنعاء باستئجار مبنى يقع في الحي السياسي؛ وذلك لاستخدامه داراً
للعبادة يوم الأحد، ولأداء بعض القداسات النصرانية كلما دعت الحاجة لذلك، كما
يقام قدَّاس يوم الأحد في المعهد الكندي - في مدينة حدة في إحدى الشقق المستأجرة
لهذا الغرض في المجمع السكني.
4 - دُور العبادة النصرانية بإب:
تقوم البعثة النصرانية المعمدانية الأمريكية من خلال مستشفى جبلة المعمداني
بمدينة جبلة بمحافظة إب بدور كبير سواء فيما يتعلق بالدعوة للتنصُّر، أو القيام
بأداء صلوات يوم الأحد بالكنيسة المعمدانية الملحقة بالمستشفى. ويقوم القساوسة
والراهبات بدور إنساني - على حد زعمهم - وتنصيري من خلال زيارة النساء
والفقراء ودور الأيتام والسجون. وقد استطاعت البعثة وخلال سنوات عملها
الطويل إدخال بعض الأشخاص إلى الديانة النصرانية؛ إذ بلغ عددهم ما يقرب من
120 يمني.
ثانياً: النشاط الصحي:
-المركز السويدي بمدينة تعز في شارع الدائري.. له نشاط تنصيري،
ويحمل ترخيصاً من وزارة التربية والتعليم باسم تعليم اللغة الإنجليزية، وله نشاط
خيري يتستر وراءه لأعماله النصرانية، كما يقيم دورات لتعليم النساء التدبير
المنزلي والخياطة.
- جمعية من طفل إلى طفل.. مركزها الرئيس مدينة تعز، ولها نشاط في
صفوف الأطفال المصابين بالعمى والخرس؛ حيث استطاعوا أن يؤثروا عليهم عن
طريق تغيير الإشارات لديهم تهيئةً لدخولهم في النصرانية من دون أن يشعروا بذلك.
- منظمة أدرا في منطقه حيس «تهامة» وهي نشيطة جداً، وقد استطاعت
أن ترسل كثيراً من الشباب إلى دول نصرانية مثل سنغافورة والفلبين وبانكوك
باسم الحصول على شهادات في اللغة الإنجليزية؛ كما يقومون بزيارات منظمة
للمناطق النائية مثل مديريتي العدين والقفر؛ حيث يخيم عليها الجوع والفقر
والمرض والجهل، ولك أن تتوقع النتيجة!
- المركز الصحي بالحديدة في شارع شمسان، ودار العجزة في شارع زايد؛
حيث يقوم المبشرون بدور رهيب في الاختلاط بالبسطاء وتقديم العون والمساعدة
لهم.. كما امتد نشاطهم إلى جامعة الحديدة خاصة في قسم اللغة الإنجليزية؛ حيث
قاموا بوضع المنهج الذي يشوه الإسلام ويخدم التنصير.
- جمعية رسالات المحبة «بعثة الإحسان» : يمتد نشاطها الواضح في
صنعاء وتعز والحديدة وخصوصاً بين المصابين بالجذام والأمراض العقلية، وكان
لها ارتباط مباشر مع المنصِّرة الهندية الأم تريزا، وتقوم الجمعية حالياً بالعناية
بأربعمائة مريض ومسن، وخمسة وثلاثين معوقاً، ولهم مقر ثابت عبارة عن مبنى
ملحق بالمستشفى الجمهوري بصنعاء يضم حوالي عشر راهبات.
- داران لرعاية العجزة بصنعاء وتعز وتشرف عليهما راهبات بعثة الإحسان
التابعة للأم تريزا.
جمعية أطباء بلا حدود وتتستر بالإغاثة ولها نشاط تنصيري.
معسكر اللاجئين الصوماليين بالجحين بمدينة أبين، وتقوم المنظمات
النصرانية بالدور ذاته بين هؤلاء الفقراء المسلمين؛ حيث نسيهم إخوانهم المسلمون.
- منظمة ماري ستوبس وهي نشطة في مجال رعاية الأمومة والطفولة،
وتدعم مشاريع تنظيم النسل.
ثالثاً: المنظمات المانحة:
منظمة أوكسفام: وتدعم العديد من المشروعات المتعلقة بالتنمية والتعليم
والصحة والقات.
منظمة اليونسكو: وتدعم مشاريع البنية التحتية، وهدفها إزالة الخلاف بين
المسلمين والنصارى.
منظمة رادا بارنر: وتدعم المشاريع التي تتعلق بالطفولة.
رابعاً: النشاط السياحي:
نشرت صحيفة الثورة - كمثال - في عددها رقم 12542 بتاريخ 15 / 3 /
1999م عن وصول 800 سائح إلى عدن فيما تصل 27 سفينة سياحية تستقبلها
الموانئ اليمنية حتى نهاية شهر 3 / 1999م.
وهؤلاء يقومون بالعديد من الأنشطة في تجوالهم داخل اليمن منها:
1- توزيع الإنجيل في المدن المختلفة ومنها الحديدة؛ حيث وزع الإنجيل في
السوق المركزي، كما أقيمت الصلوات وحضرها السياح.
2- توزيع مجلة بالعربية تسمى FISHERS وهي تدعو إلى اعتناق
النصرانية.
3- توزيع القصص المصورة النصرانية.
4- توزيع بعض الهدايا والتقاويم التي تحمل شعار النصرانية في صور
مختلفة لكنائس عالمية.
5- النزول إلى أماكن التجمعات في الأسواق ومحاولة كسب قلوب الناس
بالتصوير معهم.
6- ومن أبرز نشاطهم ما حدث في منطقة الحسينية؛ حيث وزع بعض
السياح شريط فيديو وكاسيت يدعو للنصرانية، وفي ختام الشريط يقوم المحاضر
بتلقين المستمع الصلاة والترانيم النصرانية للحصول على بركة المسيح.
خامساً: النشاط التعليمي الثقافي:
وأتذكر هنا رئيس الجامعة الأمريكية الأسبق هوارد ويلس حين قال:
«التعليم في مدارسنا وجامعاتنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم وانتزاعه
من قبضة الآلام» .
المعهد الكندي بصنعاء:
يتستر هذا المعهد خلف تعليم اللغة الإنجليزية، ويتميز بقلة التكلفة مقارنة
بالمعاهد الأخرى وقوة منهجيته، وإقامة الرحلات والاحتفالات بنهاية كل دوره،
ولا تزيد إعارة المدرس عن عام واحد في اليمن، ويستمر المدرسون المغادرون
بالتواصل مع طلابهم.. ومن مناهجهم: التعامل الخلاق مع طلابهم، وإثارة
الشبهات بشكل فردي لبعض الطلاب، ولا يدخلون في مواضيع خلافيه مع الطلاب
مجتمعين.
كما تزيد نسبة الطالبات عن الطلاب في المستويات الدراسية المتقدمة.
- أما المعهد البريطاني - المعهد الأمريكي - المعهد الفرنسي.. فكلها تقوم
بالمهمة نفسها، ومقرها صنعاء. ناهيك عن مراكز الدراسات التابعة لهم التي تيسر
للمنصرين مهمتهم، وتتيح لهم التجول في اليمن بغرض البحث العلمي.
وتشترك كافة المعاهد في بعض الأعمال، منها:
1- توزيع بعض نسخ من الإنجيل هدايا.
2- منح دورات مجانية للمتفوقين ورحلات تعليمية إلى أوروبا؛ حيث قدَّمت
الحكومة الهولندية ثلاثين منحة في عام 1997م لطلبة من الجامعات اليمنية،
وبعدها قدمت الحكومة البريطانية ثلاثين منحة للكليات المختلفة.
3- مساعدة الطلاب الذين يقعون في مشاكل مالية أو نفسية.
4- القيام بالرحلات المختلطة لطلابهم.
5- إثارة الشبهات عن الإسلام.
من هنا نخلص إلى أن أخطر المهام التي يقوم بها الخيَّامون الجدد هي زعزعة
القيم والمفاهيم لدى أبناء المسلمين؛ وبالتحديد عقيدة الولاء والبراء، وغرس قيم
الحب والألفة والولاء مع المجتمع النصراني، وهذا - في رأيي - أخطر من عملية
التنصير نفسها؛ فالتنصير يمكن اكتشافه والحد من انتشاره أما الأولى فإن نتائجها
ستظهر في الأجيال القادمة من أبناء أمتنا الإسلامية، هذا ما قاله مريض جبلة:
«أشهد بأنهم مسلمون، وأننا مسيحيون» هذا القول أعاد إلى الذاكرة قول مالك بن
نبي - رحمه الله - عندما زار أوروبا: «وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، وعدت
لأجد مسلمين ولم أجد إسلاماً» .
وقبل كل هذا بل بعد كل هذا.. ألا يحق لنا أن نطرح سؤالاً أخيراً: كيف
كانت ردة فعل الأفراد والمؤسسات والحكومة تجاه ما جرى وما سيجري؟
ولعل ما حدث من مقتل الراهبات الثلاث في مدينة الحديدة عام 1998م نذير
بتصرفات فردية لا يعلم مداها إلاَّ الله.
أما دور المؤسسات فهو نشاط خجول يحتاج إلى إذكاء كالجمر تحت الرماد،
ومنه الأنشطة التي قام بها مركز الدراسات الشرعية بمدينة إب؛ حيث أصدر في
العدد الخامس من نشرته معلومات عن وسائل التنصير، وكذَّب ادعاء المنصرين،
وأبرز أنشطتهم ووسائلهم.. كما قام بعض الدعاة في مدينة عدن بإقامة العديد من
المحاضرات وتوزيع المطويات التي تحذر الناس من خطر التنصير.
أما موقف الحكومة اليمنية فيوضحه لنا تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن
خلفية بعض الشؤون المهمة في اليمن للعام 1998م الصادر عن مكتب شؤون
الجزيرة العربية والخليج الفارسي بدائرة الشرق الأوسط في 30 مايو 1998م
«.. لكن نتيجة الغموض الذي يكتنف الدستور في اليمن فيما يتعلق بالسماح بفتح
دور للعبادة النصرانية بالرغم من وجود النص الدستوري الذي يؤكد على أن
الشريعة الإسلامية هي مصدر كل التشريعات؛ إلا أن السلطات التنفيذية اليمنية
المختصة كثيراً ما تغض الطرف عن كافة الأنشطة الكنسية والنصرانية في عموم
اليمن» .
ختاماً.. لم يقف المسلمون قديماً مكتوفي الأيدي أمام الحملات الصليبية التي
استهدفت تدمير المدن وإراقة الدماء وقتل الأطفال والنساء واغتصاب الشريفات
العفيفات من بنات المسلمين.. والدور المطلوب اليوم من العلماء وطلبة العلم
والمؤسسات التعليمية الإسلامية وهيئات الإغاثة والجمعيات الخيرية جد كبير؛
فيجب أن تتوحد الجهود وتخلص النيات، وأن يعلم الجميع بأن وسائل المواجهه هي
ذاتها أساليب الدعوة؛ فهدفنا نحن المسلمين ليس مجرد المواجهة والصد بل يتعدى
الأمر أكثر من ذلك وهو الدعوة إلى الله بحيث نسعى إلى هداية هؤلاء المنصِّرين أو
بعض منهم - وهذا مشاهد ولله الحمد - في الوقت نفسه الذي نحمي فيه مجتمعنا من
هذه الهجمة.
والله من وراء القصد.
__________
(1) الزحف إلى مكة، د عبد الودود شلبي.
(2) اليمن إلى أين؟ د يحيى صالح محسن.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) مجلة الأسرة العدد 83.(155/60)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(3 - 3)
37 نصيحة للمنصرين في الجزائر
الترجمة: مركز التنوير الإسلامي القاهرة
الإعداد والتحرير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
رئيس المركز
في تقرير أصدرته لجنة التنصير بكنيسة كليفلاند البروتستانتية في أمريكا،
مكون من 94 صفحة، حول تجربة التنصير في عدد من قرى دولة الجزائر ومدنها،
على مدى خمس سنوات متتالية، ختمت اللجنة تقريرها بتلخيص لما تضمنته
الدراسة في 37 نصيحة، تحت عنوان: (اقتراحات نهائية) ، تدور كلها حول
أسلوب التنصير بين عوام المسلمين الجزائريين الذين أسمتهم الدراسة: (المسلمين
الشعبيين) .
اعترف التقرير في صفحاته الأولى بصعوبة التنصير بين المسلمين، إلا إذا
كانوا طائفة من ثلاث على وجه التحديد: أن يكونوا من جماعات صوفية، أو أن
يكونوا تابعين لمذهب شيعي، أو تابعين لطائفة القاديانية؛ إذ إن هذه الطوائف
الثلاث تشترك مع عقيدة النصارى في قبول ما يعرف بالحلول الإلهي في الإنسان،
وهو ما يمهد الطريق أمام المنصر لقبول عيسى المسيح ابناً لله.
فماذا عن عوام المسلمين في الجزائر؟ وإلى أي مدى استطاعت الإرسالية
التنصيرية تحقيق أهدافها؟
يؤكد التقرير بأن ثوابت المسلم الجزائري، حتى المسلم الشعبي - حسب
تعبيره - ليس من السهل تحريكها، أو قبول المساومة حولها، أو التنازل عنها.
ولذلك لم تكن هذه النتيجة المفجعة للإرسالية - مع رجل الشارع الجزائري -
هي نهاية المطاف، ولم تكن هي الصخرة الوحيدة التي تحطمت عليها طموحات
الإرسالية؛ إذ استطرد التقرير قائلاً: «أما المسلم الجزائري العلماني الذي تأثر
بالأفكار الأوروبية وموجة الإلحاد التي تجتاح الشارع المغربي اليوم، فإنه لم
يتخلص بعدُ من تأثيرات الجانب الإيماني في الإسلام، إلى الحد الذي يمكن وصفه
أحياناً بالخصم الروحاني.. لقد سلَّموا أنفسهم جميعاً للغيب، لعدالة الله التي وعدتهم
آيات القرآن، فجعلت الواحد منهم مطمئناً وراضياً بما هو فيه ومؤمناً تمام الإيمان
بما أُخبر به» .
إن الذي يحير البعثات التنصيرية تلك الثوابت الراسخة في حياة المسلمين،
خواصهم وعوامهم، فكانت الإشارات واضحة للجنة التنصير إلى ضرورة «الحذر
من مواجهة المسلم الجزائري أي مسلم جزائري بدءاً من الأطفال وانتهاء بالشيوخ
والعجزة - بأن يسوع ابن الله أو أنه الله المنقذ المخلص؛ لأن المسلمين في الجزائر
مثل الوهابيين السعوديين والأصوليين المصريين، يعتقدون بيسوع آخر غير الذي
عندنا (عند النصارى) والذي يعني (المنقذ) . هؤلاء الأصوليون لا يعرفون غير
عيسى المسيح بأنه نبي واحد.
واختصاراً لصفحات طويلة، نصل إلى خلاصة تجربة لجنة التنصير
الإنجيلية - التي مارست عملها في قرى الجزائر ومدنها لمدة خمس سنوات متتالية
- في سبع وثلاثين نصيحة، جاءت على الترتيب الآتي، وقد زدنا عليها العناوين
الجانبية لمزيد من التوضيح والبيان:
غيِّروا ملابسكم واحتشموا:
1- غالباً ما تكون الملابس الغربية التي يرتديها المنصرون موضع انتقاد
ونفور من المسلمين، ولذا فمن الأفضل للمنصر أن يرتدي زي المنطقة التي يعمل
بها، وكذلك زوجته أو العاملات اللائي يساعدنه في الإرسالية، كما يجب على
المبشر ألا يرتدي شورتاً في زيارته للمسلمين، ومن الخطأ جداً على البنات أو
النساء المشاركات في البعثة، أن يرتدين ألبسة قصيرة، تسبب لهن الحرج عند
جلوسهن على حصائر مع النساء المسلمات [1] .
لا يجلس خلفكم أحد:
2- عند جلوسك بين المستمعين لدعوتك، يجب أن تختار مقعدك وموقعك
بعناية شديدة، فيكون الجميع أمامك، تراهم وتنظرهم بعينيك، فلا تسمح لأحد أن
يحدثك من مستوى أعلى أو من نافذة علوية أو طابق علوي، كما عليك أن تحذر
من أن يجلس واحد خلفك لئلا يسمح له موقعه بعمل إشارات تطعن فيما تقول [2] .
حادثوا فرادى المسلمين:
3- ليس من الحكمة أن تتحدث مع مسلم عن إيمانه أو إيمانك الشخصي في
حضور مسلم آخر؛ فذلك يجعله على الفور مدافعاً بحرارة ومرتقياً بدينه، خاصة
إذا كان في القرية سكان غير مسلمين يشاركونهم في الأرض وفي السيادة [3] .
زوروهم وأنتم فرادى:
4- من الحكمة أن يكون معك في دعوتك رجل آخر واحد أو امرأة واحدة فقط
منعاً للاستثارة.
اخلعوا أمامهم أحذيتكم:
5- في سلوك المسلمين عامة وفي الجزائر خصوصاً، كثير من الاحترام
والتبجيل وكرم الضيافة لضيوفهم، حتى لو كان الضيوف من غير دينهم؛ فربما
يحضرون لك كرسياً عند زيارتك لهم ويرغبونك في الجلوس عليه وهم جلوس على
الأرض، فلا بد أن تتجنب ذلك مهما كان قدر الضغط عليك. دعهم يرونك مجرد
إنسان، تكون كما يكونون، ولا تنس أنهم يستعملون الحصير الذي يجلسون عليه
في صلاتهم، ولهذا فهم يخلعون أحذيتهم قبل الجلوس عليها، ولا بد أن تفعل مثلهم.
قف أو اجلس مثلهم:
6- لا بد أن تراعي قانون المكان في مجلسك، فتكون جالساً أثناء الوعظ إذا
كان الكل جلوساً، وتكون واقفاً إن كنت في مكان عمل أو سوق أو في مكان مسموح
فيه بالاجتماع.
خزعبلات ولكن إياك أن تعاديها:
7- اللغة العربية عند المسلمين تسمى (لغة الملائكة) وهم يبدون الوقار
والاحترام للنص العربي ويعتبرونه صكاً مقدساً، في مواجهة النص الفرنسي الذي
يذكِّرهم بالاحتلال، وتستطيع أن تستفيد من هذه الخزعبلات، مبيناً لهم أننا أيضاً
نحب الحروف العربية ونجد المتعة في قراءتها، واحذر أن تقرأ نصاً بلغتك غير
العربية، حتى لو أن تلجأ لكتابته على لافتة دون أن تقرأه [4] .
صلِّ من أجلهم:
8- صلِّ قبل لقاء المسلمين، وصلِّ وأنت بينهم، وبعد أن تتركهم، أن
يسكن سيدنا قلوبهم.
الاستعداد للنقاش:
9- قبل اللقاء اكتب أهم النقاط التي سيدور حولها النقاش، واستخدم كثيراً
كتابك المقدس، وضع خطوطاً تحت المواضع التي تناسبك، لتجدها سهلة ومريحة.
احذر من السقوط:
10- اعتمد على الروح القدس لتهديك إلى هدفك، فربما تُقتاد نحو هدف
آخر.
التمهيد للرسالة:
11- ابدأ وعظك لعشر دقائق حول التقاء الأديان والبشر في المولد والموت،
وفي لقاء الله بعد الموت.
الموضوع الواحد:
12- تعامل مع موضوع واحد طوال الوقت؛ فإن حقيقة واحدة تكون كافية
للقاء واحد.
المسلم يحترم شجاعتك:
13- يعجب المسلمون بالرجل الذي يتحدث بشجاعة عن معتقداته، فلا تخش
أن تتكلم بالحقيقة كاملة، ولا تحذر إلا أن تجرح دينهم ومعتقداتهم أو تسيء لقرآنهم
ونبيهم وعبادتهم.
الاعتذار وسيلة للهروب:
14- لو سئلت سؤالاً لا تعرف إجابته أو استشعرت في الإجابة ما يعوق
أهدافك، فإن من الأفضل أن تعتذر بعدم علمك وترجئ الإجابة لوقت آخر؛ وتشغل
سامعيك بسرعة بموضوعك أنت الذي تعظ فيه.
الأرضية المشتركة:
15- قاعدة أساسية للوعظ أن تذكر بين الحين والآخر ما هو متفق عليه بينك
وبين المسلمين.
احذر من السقوط:
16- استعن دائماً بأحد الكتب التي تهتم بالرد على اعتراضات المسلمين،
واحتفظ بصفحة واحدة لكل اعتراض، واحذر أن تُستدرج لمناقشة اعتراض لم تُعِدَّ
نفسك لمناقشته.
لا تناقش الثالوث:
17- من الحكمة [5] تجنب مناقشة عقيدة الثالوث ولو للحظة واحدة، ولو كان
ذلك بإيضاحات مثل: إن الثالوث كالرجل الذي له ثلاث وظائف، أو كالشمس
متعددة الأشعة والوظائف، فإن تلك الإيضاحات تناسب العقل الغربي) لكنها لا تقنع
العقل المسلم [6] .
أقنع المسلم أنه مخطئ:
18- تذكر أن المسلم لن ينحني أبداً ليسوع، سيداً منفرداً عن الروح القدس،
فلا تحاول إقناعه بذلك، واحرص أن تقنعه به في لقاء آخر.
لا تستخدم العفاريت:
19- لا تحاول أن تستخدم مواهب الروح القدس [7] ، مثل التكلم بألسنة
غريبة أو عمل معجزة أمامه [8] ؛ لأنه سوف ينسب ذلك إلى الأرواح الشريرة، ولن
يقبل المسلم إلا ما تتحدث به إلى عقله، وبلغته التي ينجذب إليها.
بِع له الإنجيل ولا تهده:
20- تذكر أهمية الكتاب المقدس ولا تحاول أن تهديه إلى مسلم إلا بثمن،
واعلم أنه سوف يرفض شراءه منك؛ لأنه لا يحمل الاصطلاح الإسلامي:» بسم
الله الرحمن الرحيم « [9] ، فذكِّره بأنه حينما يشتري خبزاً فلن يجد عليه هذا
الاصطلاح، إنما هو يقول:» بسم الله الرحمن الرحيم «ويأكل، فلِمَ لا يفعل
الشيء نفسه مع كلمة الرب [10] ، التي هي خبز الحياة؟
احترم إنجيلك كاحترامهم للقرآن:
21- المسلمون في الجزائر مثلهم مثل كل المسلمين يتعاملون مع القرآن
بكثير من الاحترام والتقديس والرهبة، فحاول أن تتعامل مع الكتاب المقدس بنفس
القدر أمامهم، فلا تحط من قيمته.
استفد من جوع المسلمين:
22- كثير من المسلمين الشعبيين تائهون عن الحقيقة، يبحثون عن المنقذ
الذي يواجهون به حالات الطرد والتشريد والجوع والاضطهاد التي أصابتهم حتى
الموت خلال السنوات الأخيرة، ومن الواضح أن الرب يهيئهم حتى تعمل برسالته
بينهم [11] .
ربكم يبارك دعوتكم للمسلمين:
23- إن السيد ينادي الشباب أن يخدموه بين المسلمين بكثير من الصبر الذي
يأتي بالعظمة للرب يوم نقف أمام العرش ويصيح رجل بصوت عال:» الخلاص
لربنا الجالس على العرش ومعه الخروف « (! !) .
شاركوا المسلمين دهشتهم لتعدد كتبنا:
24- المسلمون يدهشون عندما يجدون أن الكتاب المقدس هو كتابان، أولهما
العهد القديم المعروف بتوراة موسى والذي يضم تسعة وثلاثين كتاباً، وثانيهما العهد
الجديد المعروف بإنجيل عيسى، لكنهم سيدهشون أكثر إذا عرفوا أن العهد الجديد
يضم أربعة أناجيل، والأناجيل الأربعة سبعة وعشرون كتاباً، ولذا فإنه من الأهمية
بمكان أن نقترب من المسلمين بمشاركتهم الدهشة، وإنكار أن لدينا عدة كتب؛ لأنها
جميعاً عبارة عن بشارات سارة وليست هي الكتاب الذي نزل على المسيح من
السماء.
حذارِ أن تنسب الإنجيل لله:
25- لسوء الحظ [12] أن أناجيلنا تنتسب إلى مَتَّى ولوقا ومرقص ويوحنا،
وهي إساءة لا يمكن حذفها؛ فاحذر أن تنسبها إلى الله؛ لأن كلام الله عند المسلمين
هو شريعة وقانون.
لا تذكروا اسم بولس:
26- حاول كثيراً أن تتجنب في مناقشتك اسم بولس الرسول، فإما أنهم لم
يسمعوا عنه من قبل وهذا يثير حفيظتهم لذكر رسول لم يسمعوا عنه، أو أنهم قد
سمعوا عنه؛ حيث يعتبرونه أسوأ رجل في تاريخ النصرانية؛ لأنه اخترع [13]
مفاهيم لم يجئ بها المسيح، وهذا في الحقيقة ما قرأه أئمة المسلمين قديماً في كتب
كبار النقاد الغربيين لتاريخ عقيدة النصرانية.
لا تقل إن المسيح ابن الرب:
27- حاذر أن تقول إن المسيح ابن الرب؛ فأنت بذلك تفعل شيئاً مزعجاً
يعتبرك به المسلمون» مشركاً بالله «، وهذا يعني - في اللغة العربية - أسوأ
الخطايا التي يمكن أن يرتكبها بشر تجاه الله.
المسلمون وثنيون ضالون فلا تصفهم بحقيقتهم:
28- تبعاً لبولس الرسول فإن المسلمين جميعاً يمارسون الوثنية التي هي
مكروهة عندهم لتصديقهم القرآن واتباعهم محمداً [صلى الله عليه وسلم] باعتباره
رمزاً لخطيئة البشر التي ترفض كفارة ربنا يسوع وفداءه، فاحذر أن تصفهم حسب
وصف بولس (الضالين) ولا تعوِّل على قناعتهم بدخول الجنة إذا نفَّذوا شريعة
قرآنهم وإنكارهم لفداء المخلِّص.
نؤمن بقانون الله وإيماننا بيسوع أعظم:
29- المسلمون يصدقون أن الله لديه سلطة كافية لكي يسامح أي إنسان على
أخطائه، وأنهم سوف يكونون على الصواب إذا ما نفذوا قانونه وشريعته، بينما
نحن نعتقد بأننا نكون على الصواب إذا ما كنا نؤمن إيماناً كاملاً بيسوع المسيح ربنا
وسيدنا، وليس بفعل ما يأمر به القانون، فهل يعني هذا أننا نرفض القانون أو
نبتعد عنه؟ إننا نهتم مثل المسلمين بالقانون وبالشريعة، ولكن إيماننا بالمسيح الرب
المنقذ المخلِّص الفادي يكفينا لأن نحقق كل الصواب الذي يريده الرب، وكل
خطايانا قد بذل روحه فداءاً لها؛ لأن ربنا [14] يجعل المذنب الذي يؤمن به، بريئاً
من كل ذنوبه.
أبو الأنبياء كان خطَّاءاً فلا تذكروا هذا للمسلمين:
30- إن إبراهيم [عليه الصلاة والسلام] لم يحيَ حياة مستقيمة [15] ، وقد فعل
أخطاءً كثيرةً، لكنه عند المسلمين» أبو المؤمنين «ويعتبر مثالاً لهم، وهذا ما
يجب أن نوضحه للمسلمين بشجاعة، دون أن ننقد القرآن الذي جعل إبراهيم أباً
للأنبياء.
المسلمون لا يضمنون الجنة ونحن بيسوع نضمنها:
31- يتباهى المسلمون بقدسية قرآنهم التي لا ترقى إليها أناجيل النصارى،
فلا تحاول أن تقلل من أهمية هذه القداسة، ولكن يكفي أن تطرح عليهم سؤالاً:
- هل يوجد مسلم واحد على وجه الأرض يؤكد له القرآن أن زيارته لمكة
لأداء فريضة الحج مقبولة عند الله أم لا؟ بالطبع سوف تكون الإجابة بالنفي؛ لأن
القرآن ينص على أن الجزاء عند الله يحدده بعد الموت، أما عندنا، فيكفي الإيمان
بيسوع [16] ، لنضمن أن كل أعمالنا مقبولة، فأي الطريقين نختار؟
إشكالية حروف الجر:
32- لا يستطيع مسلم أن يقول: أنا أعرف الله، إنما دائماً يقول:» أعرف
عن الله «،» أعلم عن الله «،» أتحرك بعون الله «فهناك حرف جر يفصل بين
المسلم وربه؛ لأنه يظل يبحث طوال حياته» عن «معية الله، لكننا [النصارى]
بإيماننا بالرب نعرفه بدون حرف جر [17] .
سماوية الإسلام والنصرانية:
33- من الصواب أن تقدم وعظك بما هو مشترك بين الإسلام والنصرانية؛
فكلا الديانتين سماويتان، ونحن مثل المسلمين نحترم قوانين السماء [يقصد الله]
باعتبارها بياناً لإرادته، ونعتقد في سيادته على المخلوقات، وأنه قادر على كل
شيء.
ثقافة المسلمين أقوى:
34- إن كثيراً مما يرفضه المسلمون من عقيدتنا هو رفض آلي [18] من
العقلية الإسلامية، فعليك أن تتسلح بالصبر، خاصة أن ثقافتنا لا تساعدنا على
منازلتهم، ووجودنا في بلاد المسلمين لا يحقق لنا نتائج سريعة، ولا تصدمك كثيراً
الكلمات الدينية [19] التي سوف تصل إلى أذنيك في كل مكان تذهب إليه؛ لأنها لا
تعني شيئاً كثيراً عندهم وهم يرددونها [20] .
لا تخجل من يهوذا:
35- سؤال يسأله المسلمون دائماً: لماذا كان اختيار يسوع ليهوذا الخائن أن
يكون أحد تلامذته الحواريين؟ المسلم يقول: إن المسيح كان رسولاً وعلى ذلك فهو
يؤمن بضرورة أن يكون لديه موهبة معرفة الغيب، ولذلك فالمسلم يصر على هذا
السؤال، والحقيقة أن السؤال أكبر من ذلك بكثير؛ فهو ليس فقط: لماذا يهوذا؟
ولكن لماذا خلق الرب العالم لو أنه يعلم أن الإنسان سوف يخطئ؟ إن الإجابة جزء
من مشكلة أكبر تقع تحت عنوان:» مشكلة الشر «، ويجب ألا نكون خجولين أبداً
عندما نقول: إن هناك أشياء معينة ليس لدينا الإجابة عنها الآن، ولسنا وكلاء
للدفاع عن ربنا [21] .
مسيحنا أعظم من محمدهم [22] !
36- سؤال مهم يمكن أن تبادر به المسلمين من حولك، ولكن ليس في
اللقاءات الأولى، وربما يكون ذلك قبل الخطوة الأخيرة التي قد يؤمن فيها المسلم
بيسوع المسيح، وهو: إذا كان المسلمون يؤمنون بأن المسيح لم يمت ورفعه الرب
إليه، في الوقت نفسه الذي يؤمنون فيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات
ويزورون قبره في المدينة، ألا يجعل ذلك من المسيح رسولاً أعظم من محمد؟
الخروج من مأزق الصليب:
37- إذا وجه المسلمون إليك سؤالاً حول صلب المسيح واعتبار النصارى أن
ذلك كان فداءً منه؛ فلماذا يذهب هو للصليب بدايةً ويعفي نفسه من الإهانة واللطم
والأذى وحمل الصليب والركل بالأقدام والسب؟ ولماذا كان يحاول الهرب أصلاً
من القبض عليه وتقديمه إلى الصليب؟
في البداية يجب أن نقول: إن المسيح كان بشراً وكان إلهاً، ويجب ألاَّ نقلل
من طبيعته البشرية حينذاك، وبطرس الرسول نفسه قد وجد صعوبة في تقبل
عملية الصليب، وأنكر ألوهية ربنا المسيح، مع أنه كان أكبر حوارييه وأقربهم إليه،
ولذا يجب أن نكون متعاطفين مع المسلمين في هذا السؤال، ولا بد أن نصبر
عليهم حتى يتفهموا قول المسيح عندما اقترب موته:» ليس ما أريد ولكن ما تريد
«قالها ثلاث مرات ليظهر أنه بقبول الصلب قَبِلَ رسالة الرب الذي هو الأب، لكي
يصبح ممثلنا وفادينا.
* * *
تلك هي النصائح الـ 37 التي أوصى بها مركز التنصير الإنجيلي أعضاءه
المنصرين العاملين في دولة الجزائر المسلمة، بعد جهد ولأْيٍ لمدة خمس سنوات
كاملة بين قرى أرض الجزائر وأزقتها وحاراتها، وسط الخراب والدمار الذي
تمارسه ميليشيات فرنسا الصليبية وأعوانها داخل البلاد باسم الإسلام والمسلمين
الذين لا يملكون حق الدفاع عن أنفسهم، في ظل هيمنة النظام الدولي الجديد،
وهزيمة نفسية باغتت الصحوة الإسلامية التي أخطأت المسار حيناً، وزلت في
أوحال العنف أحياناً أخرى.
وبرغم ذلك، والأجواء مهيأة تمام التهيؤ أمام الإرسالية الإنجيلية، لم يكن
الحصاد حسبما رغبوا فيه، ولم تكن الثمرة هي ذاتها التي ذهبوا إلى الجزائر من
أجلها؛ فبرغم محاولات الاحتلال الفرنسي في صبغ حياة الجزائريين بآداب
وأدبيات وطبائع ولغة وعادات وتقاليد فرنسا، فإن ما تصوروه من غبار علا وجوه
المسلمين، كان هذا الغبار جلاءً للبصائر والقلوب، ولم تجد الإرسالية الكنسية ما
تقنع مرسليها به غير تقديم هذه النصائح التي تضمنها هذا التقرير، معبرة عن خيبة
الرجاء، وقلة الحيلة، وسوء العاقبة، وفساد الفهم، وضخامة الأنا، وخلل العقيدة، إلى أن تستعيد الجزائر الجريحة عافيتها، وتضمد بزاد الشريعة جراحها.
__________
(1) وغالباً ما يجذب احتشام النصرانيات ود المسلمات وإلفهن لهن.
(2) وهذا أسلوب عفوي يسهم كثيراً في إفساد النتائج المرجوة.
(3) والمأمول ألا تغيب هذه الحمية والغيرة عن المسلم دائماً.
(4) إن مما يثلج صدور المسلمين تلك المواقف الدقيقة التي رصدوها، وأبسط الطبائع التي أستلفتت انتباههم في حياة المسلم العادي، حتى يعرف دعاة الإسلام مواطن الخير في أهلهم، فيرعوها وينموها ويجيدوا حصاد ثمارها التي من أزكاها تلك العلاقات الربانية بين المسلم ولغة القرآن.
(5) تلك واحدة من القضايا الشائكة التي يواجه عوام المسلمين بها كبار النصارى، بل كانت واحدة من أشد الاختلافات التي أورثت صراعات بين طوائف النصارى المختلفة، ولم يجدوا حلاًّ حتى اليوم، لذلك أوصت لجنة الإرسالية التنصيرية بتجنب المناقشة في هذه المسألة.
(6) الذي لم يذق حلاوة التوحيد حتى يميز بينها وبين ما عليه من ضلال.
(7) مصطلح كنسي يدل على استخدام الجن والشياطين.
(8) كإظهار هالة ضوئية يتمثلون فيها - وهماً - صورة العذراء مريم عليها السلام.
(9) وهذه رؤية اختزالية لحقيقة رفض المسلم.
(10) بتأليف متى ومرقص ولوقا ويوحنا! ! .
(11) يعتبر هذا الباب من أخطر الأبواب التي يحاول النصارى أن ينفذوا منها إلى حياة القلة النادرة من المسلمين الذين يمكن أن يُفتنوا في دينهم، إلا أن الوثائق والتقارير والأرقام أكدت إخفاقهم فيه، وراجعت الكنيسة حساباتها في استخدامه بعشرات المراكز التنصيرية، غير أنهم لم يفقدوا الأمل بعد في إمكانية استخدامه في بعض قرى الجزائر.
(12) هكذا بنفس التعبير الصريح.
(13) هكذا بنفس التعبير الصريح.
(14) ولم يوضح أي رب من الأرباب الثلاثة.
(15) نعوذ بالله من ذلك.
(16) وكأننا ندلل على بضاعة في مزاد للبيع.
(17) لكن الإشكالية الفاضحة أنه لم يوضح المرة تلو المرة، أي رب من الأرباب الثلاثة لديهم؛ إذ يقتضي صدق القول انفراد كل واحد منهم بمعرفة متميزة، لاختلاف الطبيعة والإرادة والكينونية والهوية، فأي معرفة غير النصب - لا الجر - يقصدون؟ .
(18) بل هو فطري.
(19) التي يستخدمها المسلمون في حياتهم العادية.
(20) بل هي تعني التداخل والانسجام التام بين العقيدة والسلوك، دون انفصام أو تكلف أو تكليف.
(21) وربنا وربهم لا يحتاج لوكلاء، إنما الذين عينوا أنفسهم وكلاء هم المحتاجون أن ينزهوه - سبحانه وتعالى - عن شركهم بجلاله ووحدانيته.
(22) ومع النصيحة قبل الأخيرة، تغير لجنة التنصير من تكتيك الحركة والمبادرة بما يظنون أنه سلاح هجومي.(155/66)
وقفات
خذ الكتاب بقوة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
هجرة المسلمين واستقرارهم في البلاد الغربية حقيقة واقعة منذ سنين طويلة،
إلا أنها ازدادت زيادةً مطردةً في العقد الأخير خاصة، وإن كان لهذه الهجرة ما
يسوِّغها شرعاً عند بعض الناس، إلا أن الغالبية من هؤلاء المهاجرين لم يستوطنوا
في بلاد الغرب لحجج شرعية، وإنما لأهواء وظروف شخصية واجتماعية.
ودراسة الأحوال الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية لهؤلاء المهاجرين
ينبغي أن تكون من أولى أولويات عمل المراكز الإسلامية في بلاد الغرب، لتكون
هذه الدراسات - بإذن الله - الأساس الذي تنطلق منه البرامج الدعوية والتربوية.
ولعل من أبرز الظواهر الاجتماعية السائدة في كثير من أبناء الجالية
الإسلامية ضعف التميُّز الإسلامي أو انعدامه فكراً وسلوكاً؛ فأثر البيئة الغربية
يظهر بجلاء عليهم، وخاصةً الأجيال الجديدة التي وُلدت ونشأت وتعلمت في الوسط
الغربي. وهذه الظاهرة نتيجة حتمية لا تحتاج إلى استقصاء، أو بحث وإثبات [1] .
ولكن الأمر الذي يستحق التأمل والنظر هو حال الإسلاميين خصوصاً؛ فكثير منهم
لم يَسْلم من أثر البيئة السلبي، ولعلِّي أكتفي هنا بمثل واحد، وهو ضعف التمسك
بكثير من الأحكام الشرعية، والتفريط بأحكام الهدي الإسلامي الظاهر، وخاصة في
شؤون المرأة. ولست أعني هنا الإشارة إلى الخلاف المشهور بين الفقهاء في كون
الوجه والكفين عورة أو ليسا بعورة، بل الأمر أبعد غوراً من هذا؛ حيث أصبح
الحجاب عند بعضهم - مع الأسف الشديد - معنى لا حقيقة وراءه؛ فهو لون من
ألوان التجديد والتمدن، ولم يبق منه إلا منديل رقيق يغطي بعض شعر الرأس، مع
لبس البنطال الضيق، والظهور بألوان الزينة والعطور. أما قضايا الاختلاط
ومصافحة الأجانب، بل والمشاركة الرياضية، فحدث عنها ولا حرج.
وإن تحدث في ذلك متحدث اتُّهم سريعاً بالتنطع والتكلف والتشديد، ورُمي
بالجهل بالواقع الغربي والظروف الاجتماعية التي يعيشها الناس، وأنه ينظر إلى
أمريكا وأوروبا بمنظار الأعرابي الساذَِج الذي لا يعقل ولا يبصر..! ! وقد
سمعت أحد المفكرين المستنيرين يهزُّ يديه أمام جمع من الإسلاميين، ويأمرهم
بالرقي الفكري والتجاوب الفاعل مع المعطيات الحضارية المعاصرة، ويحذرهم من
الجمود والوقوع في رواسب التخلف والظلامية.. قال كل ذلك لمَّا سمع أحدهم يتلو
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء» [2] !
والعجيب أنك تجد من بعض المنتسبين إلى الفتوى من المفكرين والدعاة من
يسوّغ هذا التمييع ببعض الأدلة المتكلَّفة. وأذكر أن أحد الأشياخ المحاضرين في
أحد المؤتمرات الإسلامية في أمريكا بدأ محاضرته بهجوم صارخ على إدارة
المؤتمر التي فصلت الرجال عن النساء، وينعي هذا التخلف الفكري والعقلية
البدائية التي لا زالت تسيطر علينا حتى ونحن في أمريكا (! !) ، وفي نهاية
المحاضرة قام مدير المؤتمر معلقاً، وكنا نظنه سوف يدافع عن موقفه، وإذا به
يعترف بالخطأ ويعتذر للإخوة والأخوات، ويذكر أن سبب الفصل سبب فني وليس
سبباً فكرياً، ووعد بإصلاح الوضع في اليوم التالي، ثم وفَّى بما وعد..! !
إن اندماج المسلمين في البيئة الغربية أدى إلى ذوبان مذهل في الشخصية
الإسلامية، وميوعة شديدة في تلقي الأحكام الشرعية، وميل ظاهر إلى البحث عن
الرخص بدون فقه ولا بصيرة، ويصدق في وصف كثير منهم قول الله - تعالى -:
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] (الحج: 11) . والطريف في الأمر أن
المسلمين حديثاً من الغربيين الأصليين ربما يكون بعضهم أكثر جرأةً وصدقاً في
الالتزام بالأحكام الشرعية والاعتزاز بها وعدم التحرج من إظهارها أمام الملأ..!
وأذكر أنني زرت في الولايات المتحدة الأمريكية منطقةً تنتشر فيها طائفة من
طوائف النصارى البروتستانت تسمى بـ (الآمش) يرون أن من أسباب البلاء
الذي تعيشه الإنسانية تلك الحضارة المادية التي سيطرت على الإنسان الغربي،
وجرته إلى مستنقع الرذيلة والانحطاط، ولهذا انعزلوا عن المجتمع وتركوا كل
ألوان الحضارة، وامتنعوا عن استخدام كافة المخترعات التقنية الحديثة، وأسسوا
مجتمعهم الخاص بهم بما في ذلك مدارسهم التي ترعاها الكنيسة، وراحوا يشتغلون
بالزراعة وتربية المواشي بوسائلهم البدائية المتاحة وامتنعوا عن شرب الخمور
والزنا..! والعجيب أن نساءهم لا زلن يلبسن اللباس الطويل الساتر، ويضعن
منديلاً على الرأس، ولا يختلطن بالرجال، وعلى الرغم من ازدراء بعض إخوانهم
الأمريكان لهم إلا أنهم فخورون بمبادئهم، ومعتزون بمسلكهم..! !
ولست ها هنا في صدد تحليل ظاهرة (الآمش) هذه، ولكنني أشير هنا إلى
أن هؤلاء القوم على الرغم من أنهم رأوا أن بلادهم وصلت إلى قمة التقدم المادي
المعاصر إلا أنهم انعزلوا عنهم، وراحوا يمارسون معتقداتهم الفكرية والسلوكية بكل
اعتزاز. أفلا نقوى - نحن المسلمين الذين نعتقد يقيناً بحمد الله تعالى أننا نملك
الدين الحق - أن نعتز بديننا، ونتمسك بشرائعنا، ونعض عليها بالنواجذ، ونشمخ
برؤوسنا أَنَفَةً وافتخاراً بعقيدتنا وآدابنا السامية..؟ !
إن التكليف بالأحكام الشرعية باب من أبواب الابتلاء الذي يمتحن فيه دين
الإنسان، قال الله - تعالى -: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً] (الملك: 2) . وهذا الدين جدّ ليس بالهزل، وإن من أسوأ ما نجنيه على
أنفسنا أن نتخذ شرائع الإسلام ألعوبةً نلهو بها، ونأخذ منها بمقتضى أهوائنا، أو أن
نجعل الواقع الفكري أو الاجتماعي المنحرف يضغط علينا، ويملي علينا ما
يشاء، وها هي ذي دلالات القرآن العظيم واضحة بيِّنة لا تردد فيها ولا خفاء،
قال الله - تعالى -: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب: 36) . والهزيمة في الهدي الظاهر آية
عظيمة على الهزيمة القلبية؛ ولهذا شدّد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من
ذلك، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» [3] .
__________
(1) أجرت الكاتبة الأمريكية (إيفون حداد) دراسةً إحصائيةً عن الأجيال المسلمة المقيمة في أمريكا ومدى قبولها أو رفضها لفكرة العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الزواج، فوجدت أن الجيل الأول من المهاجرين يرفض بشدة هذه العلاقة، أما الجيل الثاني من المسلمين الذين ولدوا في أمريكا فقد ظهر أنه أقل رفضاً للفكرة بدرجة كبيرة، أما الجيل الثالث من المسلمين فقد رأى 13% منهم فقط أن هذه الفكرة غير شرعية! ثم استنتجت الباحثة: أن ثلاثة أجيال تكفي لذوبان المسلم في البيئة الغربية (انظر: مجلة الصراط المستقيم، عدد (68) 1418هـ) .
(2) رواه النسائي، ح/ 4110.
(3) رواه أبو داود في اللباس، ح/ 3512.(155/74)
قضية للمناقشة
العمل الإسلامي
بين ضرورة المراجعة وخطورة التراجع
عبد العزيز كامل
بينما تستقبل الدعوة الإسلامية عقدها الثالث من القرن الخامس عشر للهجرة
النبوية الشريفة؛ تتزامن بشكل لافت في بلدان مختلفة موجة مشتركة من الدعوات
إلى إجراء مراجعات شاملة لمناهج العمل الإسلامي وإداراته وممارسته بأطيافه
المتنوعة.
والدعوة الإسلامية إذ تعبُر إلى هذا العقد مثخنة بجراح كثيرة؛ لا يخلو
صدرها - مع ذلك - من العديد من أوسمة النور التي حازتها عبر بضعة عقود
ماضية، منذ بدأ الانبعاث المبارك لصحوتها التي انتعشت في بدايات القرن الهجري
الحالي، تصديقاً للسنة الإلهية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر
دينها» [1] ويجيء هذا الإقبال على (المراجعات) في ظروف تكاد تتشابه
فيما يتعلق بالعمل الإسلامي في العالميْن العربي والإسلامي؛ إذ إن العقديْن
الماضيين - على وجه التحديد - شهدا ممارسات وتجارب كاملةً أو شبه كاملة
لتيارات إسلامية انتقلت خلالها من التنظير الفكري إلى الممارسة الواقعية. فمنها
من صدمتها التجارب، ومنها من عركتها مرارة المحن، ومنها من أنضجتها
حرارة الاحتكاك بالواقع، ومنها كذلك مَنْ أقعدتها الإحباطات والإخفاقات، وذلك
على المستويين: الفردي، والجماعي، وكانت الثمرات المقتطفة من ذلك كله تجمعها
سلةً واحدةً أمام الناظرين، لا يكاد بادي الرأي يفرق بين اليانعة منها والمعطوبة،
ولا نشك في أن مجموع تلك الثمرات إنما جاء نتاجاً لتفاعلات التجديد المختلفة
في اتجاهاتها ومجالاتها، والمتنوعة في سلبياتها وإيجابياتها، فمن شأن التجديد دائماً
أن يستخرج الزُّبْد ويلقي بالزَبَد.
وبرغم أن المرحلة الحالية تكاد (المراجعات) تكون عنوانها الرئيس، إلا أن
لتلك المرحلة سمات أخرى تفصيلية من أهمها: أنها مرحلة توقف متردد عند مفترق
طرق محيِّر، يعود بالدعوة لدى بعض الفصائل إلى الوراء نحو خمسة عقود عندما
كان شعار المرحلة وقتها: (من أين نبدأ؟) والمرحلة أيضاً يميزها حماس فاتر
بعد نشاط متوقد استمر طوال العقد الثاني من القرن الرابع عشر، ويتخلل تلك
المرحلة هبوط ملحوظ في أسهم كثير من الرموز الدعوية التي كان لها رنين وطنين،
بعد سلسلة متصلة من معارك هدم الرموز، ومباريات تصفية الآخرين معنوياً،
كما أن كثيراً من الشعارات البراقة والمفرطة في الطموح، قد خبا ضوؤها إلى حدٍ
ملموس.
ولكن هذا كله لا ينفي أن هناك قفزات نوعية للدعوة الإسلامية قد أُنجزت
بالفعل، وهناك منها ما ينتظر الإنجاز. ومع ذلك، فالشعور الثابت لدى غالبية
المهتمين؛ أن إمكانات المسلمين في نصرة الدين لم يُستغل منها إلا القليل، ولهذا
يصح القول بأن إنجازات الصحوة تبدو كبيرة عملاقة باعتبار، وتبدو صغيرة
متواضعة باعتبار آخر، فهي عملاقة باعتبار التحديات التي تواجهها والعقبات التي
توضع في سبيلها والظروف الاستثنائية التي تعمل فيها، وهي متواضعة باعتبار
إمكانات المسلمين الجبارة التي حباهم الله إياها مادياً ومعنوياً، فلم يوظفوا منها
لخدمة الدين إلا القليل.
إن هناك اضطراباً تتسم به المرحلة، وإذا رحنا نبحث عن الأسباب التي أدت
إلى وصول الدعوة لتلك المرحلة المتشابهة المعالم في أكثر بقاع العالم الإسلامي،
فإننا نعثر على أبرزها بين ثنايا خارطة دعوية شديدة التداخل والتعقيد، فمن تلك
الأسباب:
1 - استطالة بعض فصائل العمل الإسلامي لمرحلة الاستعداد لإقامة الكيان
الإسلامي الممكَّن له في الأرض؛ حيث تواصلت عقود قامت خلالها دول وكتل
عالمية وسقط بعضها، دون أن يقوم للإسلام في المقابل كيان أو كتلة قوية تمهد
لإعادة الخلافة الضائعة.
2 - تكرار الإحباطات في أمكنة كثيرة على صعيد محاولات الوصول إلى
إقامة كيانات إسلامية خالصة عبر وسائل متنوعة سلمية - كما في التجارب
البرلمانية - أو غير سلمية - كما في التجارب الجهادية - مع تطوير الأنظمة
العلمانية الدائم لطرق مواجهتها لأي نهضة إسلامية متوقعة.
3 - تضاعف حدة الصراع بين الحركات والدعوات الإسلامية ومناوئيها بعد
أن انضمت إلى هذا الصراع بشكل سافرٍ قوىً دوليةً كانت تتخفى بالأمس وراء
الأنظمة العلمانية، ثم هي اليوم تنبذ إلى المسلمين على سواء، وتسعى إلى
(عولمة الصراع) مع الإسلام في كل البقاع.
4 - انضمام شريحة من الإسلاميين إلى خندق المواجهة المعادي، بقصد أو
بغير قصد، وتحت تأويلات أو تَعِلاَّت تصب في النهاية في قناة تمد المعسكر
المناوئ بأسباب القوة والبقاء، وتخلط الأوراق الدعوية والتربوية في قضايا الولاء
والبراء، والحكم والتحاكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
5 - اتساع الخرق على الراقع بشأن الخلافات العلنية والسرية بين زعامات
فكرية وأخرى حركية، مما أوقع كثيراً من الأتباع في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً
إلا بالخروج من دائرة الهم الإسلامي العام.
6 - استمرار غياب الدور القيادي للعلماء العاملين في أكثر بقاع العالم
الإسلامي، وانسحابهم من الميدان لصالح زعامات من علماء غير عاملين أو عاملين
غير علماء، مما أوقع العمل الإسلامي في دوامات (التجربة والخطأ) المتكررة
التي تستهدف اكتشاف الأخطاء بشكل عملي بدلاً من تجنبها ابتداءً بتأصيل علمي.
7 - استشعار بعض القيادات أنها بذلت ما في وسعها، بل أكثر مما في
وسعها دون الوصول إلى نتائج مرضية، ولسان حال أحدهم يقول: (آن للمقاتل
أن يستريح) وهو شعور مخدِّر، أوصل إلى حالة من الاسترخاء ظهرت آثاره في
انصراف قطاع عريض من شباب الأمس المتحمس إلى التشاغل بالأمور المعيشية
التي قد لا تمتُّ لأعمال الدعوة بصلة، وهذه الظاهرة تؤدي بصورة متكررة إلى
تصدع في بنيان العلاقات والصلات التي لا بد منها لاستمرار أي عمل ناجح
متواصل.
8 - التهام نار المواجهة في بعض البلدان للعناصر المتميزة أولاً بأول،
بالقتل أو السجن أو التوقيف أو التجميد أو الاحتواء، مع قلة توافر الظروف التي
يمكن في ظلها تعويض العنصر الفاقد أو ملء المكان الشاغر.
9 - اكتشاف كثير من العاملين للإسلام أنهم كانوا يقعون بشكل منتظم ضحية
العمل الارتجالي الذي لا يدري إلى أين وصل، كما لم يكن يعلم من قبل من أين بدأ،
وافتقاد بعض آخر لتوازنهم الفكري نتيجة صدمات واقعية أفاقوا منها بعدما
اكتشفوا أنهم كانوا يكمّلون النقص الخطير في معالم لوحة الصراع من مخيلاتهم
ويملؤون فراغاتها بظنونهم.
10 - وصول الكثيرين إلى قناعة ببُعد البَوْن بين الآمال والأعمال، أو بين
الواقع والخيال، أو بين الإمكانات والطموحات، أو بين الحقائق والمثاليات، وبدلاً
من إعادة النظر في محاولة تقريب هذا البون، كان اللجوء إلى الهروب هو الحل
الأسهل والأمثل لدى بعض من تعتمد الجماهير على توجيهاتهم وتنتظر تنظيراتهم.
ومع أهمية الاعتراف بوجود تلك الأسباب التي مرَّ ذكرها وغيرها؛ فإن
المراجعات ووقفات التأمل من الأمور البالغة في أهميتها حد الضرورة؛ فهي واجبة
على فصائل العمل الإسلامي قبل أن تكون حقاً لها في ظل المتغيرات المتلاحقة التي
تتتابع على ساحة الدعوة الإسلامية، ولا أظن أن أحداً من المهتمين بأمر المسلمين
يشك في أهمية المراجعة في هذه المرحلة، ولو من باب تقويم ما مضى من مراحل
النشاط الإسلامي في أشكاله كافةً، وإذا كان ذلك كذلك، فإن التشارك في التشاور
من أجل هذا تحتمه الفريضة الإسلامية المحكمة في النصح لله ورسوله وللمؤمنين
خاصتهم وعامتهم؛ فالمراجعة أو المحاسبة أصل إسلامي أصيل؛ وخاصةً إذا
سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.
وهذا الأصل مستمد من قوله - تعالى - لأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد أن دهمتهم نازلة أُحد: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) ،
وقوله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
(الشورى: 30) .
وفي سياق التنقل بين محطات المحاسبات والمراجعات، هذه وقفات تأملية
نأمل منها أن تفتح آفاقاً لحوار أوسع وأعمق:
أولاً: بين المراجعة والتراجع خيط رفيع، ومع ذلك فهو لا يُرى إلا عن بُعد،
وهو أشبه بالمعْلَم المطموس عند مفترق الطرق، من لم ينتبه إليه التبست عليه
السُبل، وربما رجع القهقرى، وهو ينشد الشد في المسير.
ثانياً: مثلما تتحول المراجعات - في بعض الأحيان - إلى تراجعات، فإن
التراجعات قد تتطور إلى انتكاسات، والانتكاسات المنهجية منها أخطر من
الانتكاسات الحركية؛ فالحركات تضعف وتقوى، وتقع وتقوم، أما المناهج فقلما
تنهض بعد سقوطها على مستوى الفرد والمجموع.
ثالثاً: محطات الإقبال على المراجعة قد تكون في لحظات ضعف منسحب -
وهذا على الغالب - أو لحظات اندفاع غير محسوب، وفي كلا الحالتين فإن
المراجعة وقتذاك قد تقع تحت وطأة ظروف نفسية غير مستقرة، أو نظرات
شخصية عجْلى، تختصر التأمل وتبتسر النتائج. واستصحاب هذا الملحظ مفيد عند
أي مراجعة حتى لا تخضع لمؤثرات خارجية ضاغطة.
رابعاً: لا يحدث الإقبال على التراجع - في الغالب - إلا تحت مسمى
المراجعة، ثم تنتحل تلك التراجعات أسماء براقة، وشعارات خدّاعة، تتسريل
بالحكمة طوراً وتتلفع بالواقعية تارةً، وترتدي أثواب زور من العلم والتعقل والأناة
مرات أخرى.
خامساً: كثيراً ما يحدث التورط في مستنقعات التراجع، بدفع من أوهام
تضخم (التجربة) ومبالغات تفرد (الرمزية) التي تخلع ألقاباً وأوصافاً على
أشخاص قد يكونون بالفعل رموزاً أو أصحاب تجارب، ولكن التفويض المطلق
لبعض (الرموز) وأصحاب التجارب في المراجعات هو الذي يفتح الأبواب وسيعةً
أمام التراجعات التي تتسلل سَلِسةً على ألْسنةِ مَنْ لا يفكر أحد في مناقشتهم أو
مراجعتهم.
سادساً: التواصل بين الأجيال عامل مهم في إكساب عمليات المراجعة شيئاً
من العصمة النسبية، وكما أن رصيد سابقة الابتلاء أو التجربة لا يكفي لإفراز
مراجعات ناجحة في كل الأحوال، كذلك فإن الأجيال الجديدة بدمائها الجديدة لا
يصلح لها أن تستغني بجدتها وفتوتها عن خلاصات (تجربة العمر) لمن سبقوهم
على الطريق فعرفوا منحنياته الخطرة، وخبروا معالمه ومراحله.
سابعاً: من أخطر مزالق المراجعة، الانشغال باجترار مرارات الماضي، أو
التلمظ بحلاواته، وأخطر من ذلك الاحتراب في ميدانٍ مَّا قد كان، حيث ينشغل
بعضٌ بتقاذف التهم في تلاوم ضار غير نافع. وعندها يكون حرص قوم على نفي
الآخرين وتصفيتهم معنوياً هو بوابة الولوج والخروج في أي حوار يستهدف
المراجعة، ولهذا لا يرجعون من ذلك بشيء.
ثامناً: عندما تحل المناطحة محل المناصحة، والجدال بالتي هي أخشن بدلاً
من التي هي أحسن، فإن نزغات الشيطان وتحريشاته تتسوَّد الموقف، وتتصيد
الفرص للإيقاع في انتكاسات التراجع التي لا يفرح الشيطان بشيء فرحه بها في
صفوف المؤمنين، وإذا كانت الحزبية صفةً قبيحةً مقيتةً، فالعنصرية أقبح وأشد
مقتاً، ولهذا لا ينبغي أن يكون لهما موضع شبر على بساط النقاش والتقويم.
تاسعاً: جل المراجعات تنصب على أمور عملية تطبيقية مع أن الأصل هو
الأمور المنهجية التي لو سلمت لسلمت الأعمال والتطبيقات، والتركيز على اتهام
التطبيق العملي لا ينبغي أن يدفع التهمة عن التنظير المنهجي، بل الأصل أن يُبدأ
بمقدمات الشيء لا بنتائجه.
عاشراً: هناك من المناهج ما تم وضعه في عجلة قبل استكمال شروطه من
النضج العلمي والفهم الواقعي، ومن الجناية على الدين أن تعاد مراجعته بالنَفَس
المتعجل نفسه.
حادي عشر: هناك أشكال من التأصيل المنهجي أشبه بالتفكير بصوتٍ عالٍ،
ومع هذا تلتقط هذه السوانح الفكرية العابرة، وتقتطف فجة غير ناضجة، ويحاول
بعض الناس أن يصنع منها (بخةً) سائغةً، لمجرد أنها فكرة فلان أو سانحة علان،
وبعضها يطلق كأنه شعارات، مع أن التأصيلات لم تكن يوماً بالشعارات.
ثاني عشر: قد تكون المراجعات (محطةً) يتوقف عندها القطار توقفاً نهائياً
على مستوى أفراد أو مجموعات، قد يكون بعضهم مهيأً نفسياً ليحط رحاله في
أقرب المنازل تعللاً بالنوازل، وفي هذه الحالة لا تكون تلك المحطة إلا خطة، أعد
لها الشيطان بمكر وحيلة تورَّطوا فيها في لحظات ضعف وغفلة.
ثالث عشر: ومن المناهج ما أملتها ظروف نشأتها الزمانية أو المكانية؛ فلا
ينبغي تجاهل ذلك عند التقويم، بحيث تقوَّم سلع الماضي في سوق الحاضر أو
المستقبل، وكذلك لا يصلح تقويم كل تجارب العالم بالمقاييس المحلية لبلدٍ مَّا،
فالمعايير المحلية لا تصلح للتعميم في التطبيق فضلاً عن التقويم.
رابع عشر: هذه الظروف الزمانية والمكانية المختلفة لا يصح معها استعارة
المناهج (في غير الثوابت) لتطبيقها في غير زمانها أو في غير مكانها، فتلك
مزلة أقدام قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، وقد لا يكون العيب في جزئية معينة
في المنهج، بقدر ما يكون في ملاءمة الزمان أو المكان له.
خامس عشر: من المعلوم أن الأمور القدرية لا تحكم على الأمور الشرعية؛
فعدم التحقق قدراً لا يستلزم عدم الصحة شرعاً؛ فلا يصلح أن يقال: كل التجارب
البرلمانية لم تنجح فهي غير شرعية، أو كل الحركات العسكرية قد أخفقت فهي
لذلك غير شرعية. ومن الأخطاء المنهجية في تقويم المناهج ومراجعتها: التعميم
والإطلاق، كأن يتخِذ من رأوا الإخفاق في أعمال جهادية معينة - مثلاً - موقفاً
رافضاً لأي عمل جهادي، حتى يتحول ذلك إلى شعار، خاصةً عندما يطلق على
الجهاد لفظ (العنف) لتسهيل نبذه على النفس الضعيفة أو المترددة، وبشكل يُراد
له أن يُعمم على كل الساحات التي قد تكون ظروف بعضها مختلفة ومستوجبة لمثل
هذا الجهاد. والعكس أيضاً قد يحدث، عندما تنجح تجربة جهادية ما، فيطلب من
المسلمين في كل ساحات العمل الإسلامي أن ينقلوها بحذافيرها إلى مواقعهم، وقس
على ذلك في قضايا سرية العمل أو علانيته، وسلمية المواجهة أو عسكرتها،
والموقف من الحكومات والأنظمة، وطريقة التعامل مع الشعوب، وأساليب
التعاطي مع القوى الكبرى ونحو ذلك.
سادس عشر: للتأصيل العلمي أهميته وخطورته في وضع المناهج الدعوية
أو تقويمها أو مراجعتها، وكذلك الفهم الواقعي للقضايا الكبرى. وهناك جفاء قد
طال من بعض فصائل العمل الإسلامي لأحد الأمرين أو كلاهما، وذلك ناتج عن
موقف غير متوازن من العلماء، فبينما تُقطع الأواصر والوشائج مع العلماء في
بعض الأماكن بما يحرم الدعوة من خير ما عندهم، فإن هناك أماكن أخرى تبالغ
في ربط الدعوة الإسلامية كلها بفرد أو ببضعة أفراد من العلماء، بحيث تُرهن
قضايا الأمة كلها بكلمات منهم، قد لا تأخذ حقها من النظر والتدقيق، أو قد تكون
خارج نطاق تخصصهم أصلاً.
سابع عشر: عندما تقتصر عمليات المراجعة على رموز التجربة نفسها، فإن
ذلك يعرض المناهج والتطبيقات لتكرار الأخطاء؛ لأن عين الإلف والعادة ربما
تعشي عن المعايب والخروق، وهذا يمكن تلافيه بإخضاع المراجعات لمتفحصين
جدد، وذلك أحرى بتخليص الدعوات من حظوظ النفس ونزوعها الدائم نحو الدفاع
وتحسين الصورة تشبثاً بنظرية: «ليس في الإمكان أحسن مما كان» .
ثامن عشر: الظروف النفسية المتقلبة عامل خطير في اتخاذ المواقف العملية،
وربما العلمية؛ فكم من طروحات ومواقف اكتست أرديةً دعويةً، وهي في
حقيقتها ردود فعل نفسية ربما نشأت عن مواقف شخصية، لمحبة مفرطة أو بغض
غير متوازن، وهذا أمر ليس من السهولة منعه، ولكن ليس من الصعوبة رصده
والحذر منه.
تاسع عشر: التراجع ليس قريناً للمراجعة في كل الحالات، فقد تكون
المراجعة - أو هكذا يجب أن تكون - نقطة انطلاق نحو تجديد جديد، ينفي الخَبَث
وينقِّي المعادن، وللنية الصالحة في ذلك دور كبير [إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً
يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ] (الأنفال: 70) .
وأخيراً نقول: المناهج أبنية، تتفاوت في سلامة قواعدها، وصلابة أعمدتها
ورحابة مرافقها، وهي تحتاج بشكل دائم إلى صيانة وتجديد، وإلى إشراف وتقويم.
وتقويم الأبنية الدعوية، وترميمها، وإصلاحها أوْلى من التوالي في هدمها بعد
بنائها، فتلك طريقة مَرَضيَّة غير مَرْضية، يولع بها بعض المعجبين بعادة (خرقاء
مكة) [2] التي أنزل الله - تعالى - في أمثالها قوله - تعالى -: [وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] (النحل: 92) . فهذا الإنكاث هو
أخطر مظاهر الانتكاس والارتكاس.
وحتى لا يكون الكلام ملقىً على عواهنه، أذكر بعضاً من مظاهر الانتكاس
الدعوي الذي تتعرض له بعض القضايا والمفاهيم والثوابت بشكل متدرج، تحت
مسمى: المراجعات، وسأكتفي الآن بالإشارة إليها اختصاراً، حتى تتيسر
الفرصة - بإذن الله - للتعرض لها أو لبعضها تفصيلاً، فمن ذلك:
- الاضطراب الجديد في المواقف من النظم العلمانية ورموزها وأحزابها
وطروحاتها الفكرية وأساليبها العملية.
- التغير المتردد في المواقف من الفرق المبتدعة ومفاصلتها ورفضها وطرق
التعامل معها.
- التحول المتسلل إلى مفهوم الجهاد، ومحاولات تفريغه من مضمونه
الشرعي إلى مضامين أخرى قد تصلح لغيره ولا تصلح له.
- التخلي المتزايد عن التعاطف العملي مع قضايا المستضعفين والأقليات
بدعوى السآمة من إضاعة الجهود فيها.
- التميع الطارئ في التعامل مع كثير من المسائل الكبرى التي كانت تمثل
أهدافاً استراتيجيةً لدى الكثيرين حتى وقت قريب، مثل: السعي إلى الوحدة
الإسلامية، أو توحيد فصائل أهل السنة، أو السعي لإقامة كيان حقيقي لهم تمهيداً
لإقامة أو إعادة دولة الخلافة.
- التراجع المستمر أمام هجمة الإعلام الشرسة ضد الإسلاميين، إلى حد
تحرج بعضٍ من الانتساب لمنظومة العمل الإسلامي، أو الخجل من استعمال
المصطلحات الشرعية التي تزعج أعداء الدين مثل: الموالاة والمعاداة، والإيمان
والكفر، والمعروف والمنكر، والتحاكم لله، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك.
- وأخيراً: تعريض قضايا حساسة جداً في العمل الإسلامي لفوضى
التصريحات والشعارات والطروحات غير الناضجة، وإعادتها إلى نقطة البدء، بعد
أن كانت قد استقرت إلى وضع مقبول بين غالبية الفصائل العاملة للإسلام، مثل
قضايا الحكم والتحاكم، والموقف من العلمانية، ومسألة العمل الجماعي ومشروعيته،
ووسائل الدعوة وأساليبها، ومسائل الهدي الظاهر وضوابطها، والموقف من
وسائل الإعلام المعادية للدين، والموقف من علماء السلطة ورموز ما يسمى بـ
(التنوير) ونحو ذلك من المسائل والقضايا.
ولعل الله - تعالى - ييسر على صفحات (البيان) الغراء، تجاذب الحديث
حول هذه القضايا، قضايا المراجعات، في مطارحة لا تخلو من المصارحة....
والله من وراء القصد.
__________
(1) رواه أبو داود في الملاحم، ح/ 4291، والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، 1/137، وأخرجه الحاكم في المستدرك، 4/522، وابن عدي في الكامل (المقدمة/181) ، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة، 2/150) ، ح/599.
(2) هي امرأة كانت معروفة بمكة تقوم بغزل الخيوط في نسيج محكم ثم تنقضه، ثم تنسجه ثم تنقضه، انظر تفسير الطبري، ج 14، ص 110.(155/76)
قضية للمناقشة
رؤية في مسيرة العمل الإسلامي
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
بعد أكثر من سبعين عاماً من عمر الحركة الإسلامية المعاصرة حققت فيها
الحركة إنجازات وإخفاقات لا يستهان بها.. لا تزال التساؤلات مطروحةً والرؤى
متعددةً حول مسيرة العمل الإسلامي، منها: منهجية التغيير التي ينبغي سلوكها،
ويدخل تحت ذلك: جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة، وإطار العمل الأكثر حيوية
وإفادة، وكذا: دور الفرد العادي والوعي الشامل في هذه المسيرة.
فالناظر في واقع الأمة الإسلامية وكذلك في واقع الصحوة يرى معالم واقعية
تعطي النقاط السابق ذكرها أهميةً متناميةً.
فالمتربصون بالأمة وبالصحوة كثيرون، والصراع بين الأطراف معقد،
والمصالح متشابكة إن لم تكن متعارضة.. كما أن عدم الوعي الذي قد يؤدي إلى
الانحراف بمسار كثير من التوجهات التي قامت عليها الدعوات الإصلاحية ودعا
إليها روادها الأوائل، أو استخدام بعض هذه الحركات من غير وعي منها في
ضرب الدعوة عامة لخدمة أهداف الأعداء في المدى البعيد ثم الانقضاض على هذه
الحركات المستخدَمة بعد ذلك، أو الإصرار على المضي في مسار خاطئ رغم
ظهور خطئه بسبب صعوبة القبول بمظهر المتراجع على القائد أو ضغط الأتباع
للمضي في هذا المسار، أو شيوع السلبية انتظاراً للمنقذ المخلِّص الذي سيقلب
المعادلات الاجتماعية والسياسية، أو سرقة جهود الإسلاميين وقطف غيرهم ثمار
جهودهم ... إلى غير ذلك من مظاهر ملموسة في تاريخ الأمة والصحوة
وواقعهما.. كل ذلك شائع متكرر، ولك أن تنظر في بدايات ومآلات نماذج، كثورة
الجزائر، والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني، وكذلك الجهاد الأفغاني،
وتطور الأحداث في الجزائر قبل الانتخابات الشهيرة وبعدها، وحركة التحرير
الفلبينية [1] ... لتتأكد أن القائمة طويلة ومفتوحة لتكرار هذه الحالات
المؤسفة.
فلماذا ينجح الأعداء في تملك زمام المبادرة وتحويل المسار حيث مصالحهم،
بينما يخفق أصحاب التوجه الصحيح في الحفاظ على مكاسبهم والتنبه لانحراف
المسار أو لسرقة الآخرين لجهودهم؟
إذا اعتبرنا النماذج المذكورة سابقاً خلفيةً لهذا التساؤل فإن الإجابة عليه تدعونا
إلى مناقشة شأن مهم في تاريخ الأمة ومسيرة الصحوة، أعني بذلك: جدلية العلاقة
بين القيادة والقاعدة، ومكانة تأثير كل منهما في الآخر، وأهمية ذلك التأثير،
وأيضاً: أهمية تنمية وعي الأمة وتفعيل إرادتها [2] .
جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة:
أما الأمر الأول، وهو: جدلية العلاقة بين القيادة والقاعدة، فكثير من فصائل
الحركة الإسلامية شخّص الأزمة التي تمر بها الأمة على أنها أزمة في القيادة،
سواء في توجهاتها أو في قدراتها أو في شرعيتها، ومن ثم: توجهت جهود
الإصلاح - حسب هذه الفصائل - إلى التأثير في هذه القيادة، سواء في إرشادها،
أو في إنمائها، أو في قلبها واستبدالها، كما توجهت بعض هذه الجهود نحو إيجاد
كيان جماعي بديل يخرج من تحت ظل القادة والمقودين، في الوقت الذي ركزت
أدبيات بعض فصائل الحركة الإسلامية على الدور المحوري لـ (القائد) وضرورة
العمل من خلال إطار تنظيمي عضوي، في مقابل تهميش دور الفرد في التغيير
والإصلاح ... وعليه: فقد قامت تصورات متباينة عن آلية حركة التغيير، ثم
تشتت جهود السعي إلى التغيير مناحيَ شتى حسب تصور كل حركة عن مكمن الداء.
مجال النقاش:
وبدايةً فإن أحداً لا يستطيع إنكار أهمية وجود القيادة والعمل الجماعي، ولكن
ما درجة هذه الأهمية؟ وهل يتوقف العمل المثمر على ذلك العامل؟ وهل مجرد
وجود هذه القيادة الواعية المخلصة والعمل التنظيمي العضوي يذلل الصعاب،
ويحل المشكلات تلقائياً؟ وما القيادة والعمل الجماعي المقصودان؟ وما مدى
الأضرار التي قد تسببها قيادة غير واعية أو غير مخلصة؟ وإذا غابت القيادة
الموجِّهة والإطار الجماعي التنظيمي، أو لم يتفق عليها، ألا من سبيل للتغيير؟
مرة أخرى نحرر محل النقاش، وهو أننا لا نناقش أهمية القيادة والعمل
الجماعي؛ فهذا أمر مفروغ منه، جاء الإسلام بالحث عليه نصّاً وإشارةً، ولكن
الذي نناقشه هو: إذا كان من هذه الإشارات الترغيب في أداء الصلاة جماعةً، فهل
أوقف الإسلام أداءها على هذه الصورة بحيث لو لم تتحقق لسقط العمل بها؟ وهل
ندب إلى الجماعة في أركان الإسلام الأخرى إذا لم تحدث اتفاقاً، أم تركها لتمارس
بوصفها عملاً فردياً؟
نطرح هذه التساؤلات بشكل آخر: هل تعيش مجتمعاتنا أزمة قائد أم
محنة أمة؟
قائد عظيم، ولا إقلاع:
- نجيب على هذا التساؤل: أولاً، بإيراد نماذج لقادة لا يُختلَف على عظمتهم،
ولكن متبوعيهم لم يكونوا على المستوى المطلوب من التجرد والوعي والإرادة،
فلم يستطع هؤلاء القادة الإقلاع بهم نحو الهدف المنشود:
- فموسى - عليه السلام - كان رسولاً نبياً، بل من أولي العزم من الرسل،
وكان كليم الله، وقد شد الله أزره بأخيه هارون - عليه السلام واستطاعا بتوفيق الله
أن يواجها الطاغية فرعون وينقذا بني إسرائيل من القهر والذل الذي كانوا يعيشونه،
ولكن الخروج بهم من مصر لم يتبعه خروج إلى حمل الرسالة المنوطة بهم من
تقديس الله - عز وجل - وبسط سلطانه في الأرض المباركة [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ] (إبراهيم: 5) ،
فلننظر إلى مواقفهم بعد خروجهم من مصر ومعاينتهم للآيات البينات:
-[وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا
تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا] (البقرة: 61) .. ارتباط
بالأرض والشهوات.
-[وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً] (البقرة: 55)
.. تطاول وجرأة على الله ورسله، واشتغال بما لم يكلفوا به.
-[وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداًّ لَّهُ خُوَارٌ]
(الأعراف: 148) .. انبهار بالمظاهر، وعبادة غير الله.
-[فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا
لَهُمْ آلِهَةٌ] (الأعراف: 138) .. دونية وتبعية نفسية للآخرين، واستهانة بأقدس
مقوماتهم وهو توحيد الله عز وجل.
- وعندما أمروا بالتحرك للتمكين لهذا الدين، وقال لهم موسى - عليه
السلام-: [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (المائدة: 21) ، كان رد فعلهم أن: [قَالُوا يَا
مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]
(المائدة: 24) .. جبن، وسوء خلق مع الله ورسله.
ولكن بني إسرائيل دخلوا الأرض المقدسة بعد نحو أربعين عاماً تحت قيادة
نبي آخر هو يوشع بن نون، فما الذي تغير؟ لم تكن القيادة الجديدة أفضل من
موسى وهارون - عليهما السلام - ولكن الذي تغير هو خروج جيل جديد أثناء
سنوات التيه (أربعين سنةً في دروب الصحراء) في بيئة مختلفة عن بيئة القهر
والذل والارتباط بالدنيا وعبادة الأوثان التي عايشتها الأجيال الأولى تحت سلطان
فرعون [3] ؛ فالذين خرجوا من مصر كانوا في الحقيقة أمةً معوِّقةً وحملاً مثقلاً لقائد
عظيم، بينما انطلق من أرض التيه فئة متيقنة بلقاء الله تعرف سنن الله في تدافع
الناس، وتطلب منه وحده الصبر والثبات والنصر.. انتصرت هذه الفئة رغم قلتها
ومع قائد على درجة أقل من سابقه.
أي: كانت المعوقات التي في بني إسرائيل أكبر أثراً في التغيير من عظم
إمكانات قيادة موسى وهارون - عليهما السلام - بينما نهض وعي الفئة الجديدة،
وإخلاصها لله، وإرادتها الجازمة، بإمكانات يوشع بن نون الأقل في العظمة مقارنةً
بموسى وهارون - عليهما السلام -.
- ومن ذلك: حالة النجاشي بعد إسلامه؛ فقد كان محققاً لما يطمح إليه كثير
من فصائل الحركة الإسلامية المعاصرة، كان ملكاً يسيِّر دولةً وفي يده مقاليد الحكم،
ولكنه لم يستطع القيام بدور يتناسب مع حجم سلطاته؛ وذلك لأن قومه لم يكونوا
مؤهلين لقبول هذا التغيير.. وقد يقول قائل: إن قومه كانوا نصارى لا يؤمنون
بهذا الدين، ولكن هذا ليس محل تأثير في موضوعنا؛ فقوانين النهوض، والإرادة
في حمل رسالة، والدفع بالسنن التي يتم بها التغيير.. لا تتبدل بمجرد تغير دين
الأفراد، ونحن نبحث في العامل المؤثر في التغيير من خلال جدلية العلاقة بين
القائد والأمة، ولكي يتضح هذا العامل أكثر نذكر نموذجاً لا يتطرق إليه احتمال هذا
الاعتراض المذكور.
- هذا النموذج هو ما سجله التاريخ الإسلامي في الفتنة التي وقعت بين
المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وأعني بذلك:
المواجهة التي حصلت بين أهل العراق بقيادة علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - وأهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فعلي لم يكن
أقل إخلاصاً ولا كفاءةً ولا شجاعةً من معاوية، بل كان أفضل منه وأسبق،
ولكن الفارق كان في الأتباع؛ فقد شاع في غالب معسكر علي - رضي الله عنه -
روح التفتيت والخروج من الصف والتطاول وعدم الطاعة، فكانت حياته معهم
محنةً شاقةً رغم ظهور رغبتهم في الاستقامة وطلبهم للإصلاح بدعوى الحرص على
الدين، ولكن ذلك شكَّل صورةً ونموذجاً للوعي الزائف، بينما امتاز معسكر
معاوية بالانتظام والسمع والطاعة، فصبت روافد جهودهم في نهر واحد جرى في
نهاية الأمر لصالحهم، وهذا ما أشار إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
بقوله مخاطباً أتباعه: «وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم،
وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم،
وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم ... » [4] ، وهكذا لم يغن القائد العظيم عن
أتباعه غير المؤهلين شيئاً في إحداث التغيير والتمكين [5] .
قيادة، ومثالب:
ونجيب على التساؤل: ثانياً، بإيراد بعض نتائج غياب الوعي في الأمة،
وتعلق آمال التغيير على مجرد وجود قائد مخلص فذ، ثم الالتفاف حوله وانتظار
توجيهاته، فمن هذه النتائج:
- سلبية الأفراد ووقوفهم حائرين مكتوفي الأيدي نتيجة استصغارهم لدورهم
والإمكانات التي في طاقتهم؛ وذلك لأنهم ينتظرون توجيهات القائد المنتظر، بينما
لا يعملون حتى على الارتقاء بأنفسهم ليكونوا مؤهلين للقيام مع هذا القائد بالدور
المطلوب منهم في التغيير.
- وجود أرضية خصبة للمتاجرة بالشعارات التي تحلم (الجماهير) بتحقيقها،
ثم إفراغ هذه الشعارات من مضمونها بعد إجهاض الدعوات الأصيلة التي ترفع
الشعارات نفسها، وبعدها يمكن السيطرة على الجماهير غير الواعية وتحويلها نحو
المضامين المنحرفة المستهدفة.
- تهيئة نفوس الأفراد لقبول قيادة أي فرد يحمل تطلعات الوصول والزعامة
ويستطيع ملء الفراغ الموجود، بإشباع تعطش الأفراد للانقياد، وذلك يتحقق بقفز
أفراد يملكون موهبة التصدر والظهور وارتداء ثوب الزعامة مع عدم تحقق مقوماتها
فيهم، وأحياناً مع عدم إخلاصهم، فيسهل قياد هؤلاء القادة وتوجيههم - وخلفهم
أتباعهم غير الواعين - إلى الوجهة التي يريدها الخصوم، أما في حالة كون الأتباع
على ما هو مطلوب من وعي وإرادة فإنهم يكشفون مبكراً زيف هذه القيادات
ويرفضونها ويضعونها في حجمها الحقيقي.
- إيجاد المناخ الملائم للاستبداد والانفراد بالرأي والتوجيه والقرار، والعمل
على مصادرة الآراء الأخرى، وتحجيم أي كفاءات غير إمَّعيَّة تبرز في الساحة، أو
قمعها بدعوى المحافظة على وحدة الصف، ومن ثَمَّ: يفقد الجميع إمكانات هذه
الكفاءات بدل استيعابها، وذلك فضلاً عن إهمال تكوين صفوف من الكوادر القيادية
المؤهلة والبديلة التي تستطيع شغل الفراغ بشكل صحيح عند غياب الصفوف
الأولى لأي ظرف من الظروف.
تكوين الأمة وانحراف مسارها:
ونجيب على هذا التساؤل: ثالثاً، بمدارسة التكوين الطبيعي للأمة صاحبة
الرسالة، وعلاقة القائد بذلك التكوين، وذلك من خلال النظر في نشأة الأمة
الإسلامية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم: نستطيع رصد
الانحراف الطارئ حالياً على هذا التكوين وهذه العلاقة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد صدعه بالحق في مشركي مكة التف حوله
المؤمنون به، فأخذ يحوطهم برعايته وتربيته حتى كونوا نواةً صلبةً (فئةً مؤمنةً)
لأمة واعية متماسكة، ولما كان المجتمع المكي حينها مستعصياً على التغيير المنشود
اتجهت الأنظار إلى يثرب، حيث استطاع رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
مصعب بن عمير - رضي الله عنه - العمل على تكوين قاعدة قوية تصلح لانطلاق
مجتمع (الأمة/ الدولة) من أرضها، وحينها هاجر المسلمون ومعهم الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى هناك، فكانت (الأمة/ الدولة) الناشئة بقيادة الرسول صلى الله
عليه وسلم في الوطن الجديد (المدينة) .
وفي ذلك نلاحظ:
- أن قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته في مكة لم تكن من منطلق
الزعامة السياسية والحق القانوني، بل كانت بتأثير (القرآن) ، عن طريق الدعوة
والتربية؛ فعلى الرغم من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم المطلقة، وعلى
الرغم من توجيهه صلى الله عليه وسلم لصحابته بما يدفع بالدعوة والمؤمنين بها في
المسار الصحيح، إلا أننا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع نفسه في
موقع صاحب السلطات في هذه المرحلة، فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه
أمر العبيد المسلمين بالتمرد على أسيادهم المشركين أو اغتيالهم، وإنما كان يأمرهم
بالصبر، ويعمل على رفع البلاء عنهم بالوسائل المتاحة والمتعارف عليها في
المجتمع المكي، كما لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الأزواج المسلمين
بالانفصال عن أقرانهم ... ، وكان الخط العام في هذه المرحلة أقرب إلى عدم
السعي للانفصال العضوي عن المجتمع، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخدم
نفوذه في تطبيق نظم تتسم بصفة السلطة على المؤمنين به حينها، فلم ينقل عنه
صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتزامات مالية تؤدى في هذه المرحلة، كما لم ينقل
عنه صلى الله عليه وسلم أنه سعى في رد عبيد الله بن جحش أو معاقبته عندما ارتد
إلى النصرانية أثناء هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكذا: لم ينقل عنه معاقبة من
ارتد بعد الإسراء والمعراج [6] ، فلحكمةٍ ما اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم
على التوجيه من خلال تأثير الإيمان والتربية (القرآن) ولم يستخدم (سلطات)
القائد في هذه المرحلة.
كما أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توضح أنه خاطب الأفراد عندما
كان فرداً، وخاطب الطوائف والجماعات عندما كان فئةً، وخاطب الدول والملوك
عندما كان للمسلمين دولة، فلم نجد له صلى الله عليه وسلم خطاباً إلى ملك من
الملوك في المرحلة المكية، رغم أنه بُعث للعالمين بالنص القرآني المكي [تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] (الفرقان: 1) [7] ، وفي ذلك
إشارة إلى أهمية عدم القفز على المراحل وتخطيها قبل نضوجها.
- كما يلاحظ أن انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة
لإقامة مجتمع (الأمة / الدولة) الإسلامية لم يكن خارقاً لسنن التغيير، بل جاء
بشكل طبيعي وفق سنة من سنن الله الكونية في التحول من مرحلة وسيطة إلى
أخرى، هي سنة البرزخية؛ حيث توجد بين المرحلة المنتقل منها والمرحلة المنتقل
إليها مرحلة وسيطة لا تنتمي إلى هذه ولا إلى تلك، وفي الوقت نفسه: تحمل
بعض ملامح المرحلة السابقة وبعض ملامح المرحلة التالية، والبرزخية (الزمانية
أو المكانية أو الفيزيائية.. أو الاجتماعية) سنة كونية سارية في شتى نواحي الحياة
التي تتعلق بالانتقال، فالوقت بين طلوع الفجر وشروق الشمس برزخ بين الليل
والنهار، والوقت بين المغرب والعشاء برزخ بين النهار والليل، والربيع برزخ
بين الشتاء والصيف، والخريف برزخ بين الصيف والشتاء، ووادي محسر برزخ
بين منى ومزدلفة، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، والنعاس برزخ
بين اليقظة والمنام، وسكرات الموت برزخ بين الحياة والموت، والقبر برزخ بين
الدنيا والآخرة، والشبهات برزخ بين الحلال والحرام، والتمييز برزخ بين الطفولة
والبلوغ، وغليان السوائل برزخ بين الحالة السائلة والحالة الغازية.. ويطول الأمر
إذا أردنا رصد حالات البرزخية باعتبارها سنةً من سنن الله الكونية في التغيير،
ولكن الذي يهمنا هنا أن تحول المجتمعات من حال إلى حال يخضع أيضاً لبرزخية
اجتماعية، وهذا ما نراه في تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة، فقد تمثلت هذه
المرحلة البرزخية في الفترة الممتدة من بيعة العقبة الثانية وحتى الهجرة النبوية
المشرفة؛ حيث أثمرت جهود الرواد الأوائل من المسلمين بالمدينة - رضي الله
عنهم - في تغلغل الإيمان والتربية الصحيحة في هذا الوطن الجديد للمسلمين، حتى
إنه لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، أي: أصبح في
المدينة مجتمع يحمل رسالةً في الحياة، يتطلع إلى قائده الطبيعي للانطلاق به نحو
تطبيق هدف هذه الرسالة، وهنا انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون
إلى المدينة لتأسيس المجتمع الجديد على الأسس الجديدة بعد التهيؤ لهذه المرحلة.
- الملحوظة الثالثة نستخلصها من الملحوظتين السابقتين: وهي عن رصد
آلية تكوين الفئة [8] ثم تحولها إلى مجتمع أمة / دولة، وعلاقة ذلك التكوين والتحول
بموقع القائد من القاعدة.
فالأمر يبدأ بدعوة داعية - أو دعاة - إلى مبدأ يؤمن به ويضحي من أجله،
ويكون في هذا الداعية من مؤهلات التأثير ومقوماته ما يمكنه من جذب بعض
الأفراد للإيمان بما يدعو إليه، وهنا تبدأ مرحلة تكوين الفئة، حيث يربي صاحب
الدعوة المؤمنين بها تربيةً مكثفةً، وغالباً ما يكون هؤلاء المؤمنون على درجة
عالية من الإخلاص والإرادة، وهذا ما مكنهم من الإيمان بشيء جديد غريب يخالف
المألوف ومواجهة الملأ أصحاب المصلحة في استمرار هذا المألوف القديم، ويكون
موقع القائد (الداعية) في هذه المرحلة هو موقع القطب صاحب التأثير والجاذبية،
فتنجذب حوله عناصر القاعدة (الفئة) وتتلقى منه راغبةً مختارةًَ؛ فالقيادة هنا قيادة
طبيعية غير مفتعلة، والسلطان الذي تحمله هو سلطان الإيمان وأثر التربية.
في حالة نجاح الدعوة وانتشارها فإن المؤمنين بها يتطلعون إلى تجسيد ما
يؤمنون به والانطلاق بالرسالة التي يحملونها، وهنا يبحثون عن فئة أخرى
تنصرهم وتؤازرهم، أو عن وطن يستوعب تحولهم الكامل من فئة أخرى إلى أمة،
إن لم ينصرهم مجتمعهم ولم يستوعبهم وطنهم الأصلي، كما أنهم يعملون على إقامة
نظمهم ومؤسساتهم التي يطبقون عن طريقها المبادئ التي آمنوا بها، فيقيمون في
مجتمعهم الجديد دولتهم المأمولة، وعند ذاك تظهر حاجتهم إلى قائد بصلاحيات
جديدة (صلاحيات الدولة) يحمل سلطاناً إضافيّاً هو سلطان السلطات [9] ، فيذعنون
لأقدر من يمثل مبادئهم وينطلق بالرسالة التي يؤمنون بها (الذي كان في صدر
التاريخ الإسلامي: رسول الله صلى الله عليه وسلم [10] ، والخلفاء الراشدون الأربعة) .
عندها تتحد الدعوة بالدولة (القرآن بالسلطان) ويكون معيار النجاح هو قدر
المزج المنضبط بينهما للمحافظة على استمرار المجتمع ك (أمة / دولة) صاحبة
رسالة، حيث لن تحمل الأجيال اللاحقة الزخم نفسه من الإيمان والتربية التي تربى
عليها الجيل الأول من المؤمنين، كما أن الانتشار السريع والواسع سيضخم كتلة
الأمة بإضافة عناصر كثيرة لم تتح لها فرصة التربية الكافية، وربما لم تنهل من
الإيمان الصافي بالقدر الكافي، وهذا ما حدث في الفتوحات السريعة الواسعة في
العصور الإسلامية الأولى.
وفي هذا السياق نستطيع فهم القول المنسوب إلى عثمان بن عفان - رضي
الله عنه - «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ، فلقد قالها - إن كان قالها!
في وقت هو قائد أمة / دولة، وليس في مرحلة تكوين فئة / أمة، فكان لا بد
أن يحافظ على هذا التوازن ليسير المجتمع المسيرة الصحيحة.
وهنا نفهم أيضاً لماذا لم يستخدم - رضي الله عنه - سلطات السلطان في فتنة
مقتله ومنع الصحابة الذين حوله من التصدي بالقتال لمن يحاصرونه؛ فليس ذلك
لمجرد حقن دماء المسلمين فقط؛ فهو أول من يعلم - رضي الله عنه - أن قتال
الفئة الباغية من الدين، ولكن هذا المنع - في نظري - لأن ذلك التقاتل كان
سيؤدي إلى سقوط من تبقى من صفوف القيادات المستقبلية للمسلمين، وهو أمر
سيقضي على الدولة (السلطان) ، وهذا واضح من إصراره الشديد - رضي الله
عنه - على خروج كبار الصحابة من داره وطلبه عدم اشتباكهم مع المتمردين،
ومن قوله لمندوب المتمردين: «أمَّا خلعي، فلا أترك أمة محمد بعضها على
بعض» [11] ، كما أن آفة جماهير المتمردين عليه كانت نقص أثر (القرآن) وعياً
وتربيةً فيهم، وهذا واضح في سيرتهم، وهو ما مكن اليهودي ابن سبأ من
استغفالهم وقيادهم، فآثر عثمان - رضي الله عنه - أن يضحي بنفسه على أن
يضحي بالأمة والدولة.
مسيرة الانحراف:
ولنرصد الآن الانحراف الذي طرأ على هذا التكوين وهذه العلاقة:
- أثقلت الأمة بتضخم كتلتها البشرية فجأةً، ولم تسعفها الإمكانات ولا الوقت
لتربية المسلمين الجدد التربية الإيمانية المطلوبة.
- نشأ عن ذلك تضاؤل نسبة الوعي بالرسالة وأهدافها وسنن التغيير
والإصلاح، كما قلَّت نسبة المتحمسين أصحاب الإرادات والهمة العالية.. (تضاؤل
أثر القرآن) .
- تعويضاً لأثر ذلك التضاؤل: ارتفعت نسبة السيطرة والتوجيه عن طريق
سلطات الدولة وأجهزتها.. (تعاظم شأن السلطان) .
- بدأ ظهور ضمور وعي الأمة عند نقض عروة الحكم، وسوف يكتمل
بنقض عروة الصلاة (لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة،
تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن الحكم، وآخرهن الصلاة) [12] ، لأن الوعي
ينحسر من الدائرة الأشمل إلى الدوائر الفردية الأضيق، بعكس نشأته وتكوينه.
- نتيجة تضاؤل الوعي (كمّاً وكيفاً) في الأمة: شاع فيها على نطاق واسع
القابلية للاستغفال والاختراق والجمود.
- وحسب قاعدة (كما تكونوا كذلك يؤمر عليكم) [13] والنبوءة الصادقة
(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..) [14] كان يتولى القيادة أمراء
فيهم من نسبة التمثل بـ (القرآن/ السلطان) بقدر ما في الأتباع من نسبة الإذعان
لـ (القرآن/ السلطان) ، وكان هذا الخط يسير باتجاه الخلافة الراشدة، فالملك
العاضّ، فالملك الجبري [15] .
- كان يسير ملتحماً مع هذا الخط خط آخر باتجاه افتراق القرآن عن السلطان،
إلى أن تم الاستغفال شبه التام، فحدث الافتراق شبه الكامل بين القرآن والسلطان
على يد الدعاة على أبواب جهنم، في الوقت الذي انحدر فيه وعي الأمة وإرادتها
نحو المرحلة الغثائية.
صور من مسيرة العمل الإسلامي:
وبعد أن ظهرت الصحوة، وبدأت الرغبة في الخروج من هذه المرحلة
الغثائية ظهر السؤال: كيف السبيل لإصلاح الخلل الذي حدث في هذا التكوين وهذه
العلاقة؟
على أرض الواقع رأينا سبلاً عدةً، ولكن الذي يعنينا هنا هو محاولة التغيير
عن طريق التأثير في مركز القيادة الحالية؛ بناءً على تصور مؤداه أن انحرافها هو
الأكبر أثراً في الانحراف بالأمة، ومن ثَمَّ: فإن التأثير في هذه القيادة - بإرشادها،
أو قلبها واستبدالها - سيكون نقطة التحول إلى التغيير الأفضل - حسب هذا
التصور -، وترتب على ذلك: أن بعض الفصائل ركزت عملها في التغيير على
أحد سبيلين: الأول: محاولة الوصول بالطرق السلمية و (المشروعة قانوناً) أو
بالمنازلة السياسية إلى موقع يمكّنهم من التأثير على مركز القيادة الحالية أو
المشاركة في السلطات المؤثرة، والآخر: محاولة إزاحة أشخاص القيادات الفعلية
أو الأنظمة بأساليب العنف والمنازلة العسكرية (الجهاد المسلح) .
وإذا تجاوزنا البحث في مدى واقعية هذين السبيلين وسجل التجارب غير
الناجحة فيهما فإننا لا نستطيع تجاوز الاعتبارات الآتية:
أولاً: أن البحث في سبل التغيير لا يقتصر على مجرد البحث في حِلِّ عمل
معين أو حرمته (كالمشاركة في حكومات علمانية أو دخول برلمانات أو القيام
باغتيالات أو الاستيلاء على أموال..) فهو يشمل مع ذلك البحث: موازنة
المصالح والمفاسد، واستقراء السنن الربانية في التغيير، واستجلاء المنهج النبوي
في إقامة المجتمع المسلم، إضافةً إلى دراسة خصوصية الواقع المعاصر دراسةً
موضوعيةً.
ثانياً: أن المسلم يتعبد لله - عز وجل - باتباع منهج نبيه صلى الله عليه
وسلم في التغيير، وكما أنه يعمل على عودة الخلافة على منهاج النبوة في تطبيق
القيم والأحكام؛ فإنه ينبغي عليه أن يحرص على أن تكون عودة هذه الخلافة من
خلال منهاج النبوة في النشأة والتكوين والتغيير أيضاً [16] ، كما أن المسلم مطالب
عندما ينفصل القرآن عن السلطان بأن يقترن بالقرآن (.. ألا إن الكتاب والسلطان
سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب ... ) [17] .
ثالثاً: أن الاستمرار في هذه المحاولات للقفز إلى السلطة مع عدم التقدير
الصحيح لإمكانات أطراف الصراع ومواقعها يستهلك جهود العاملين في الحقل
الإسلامي مع استمرار قناعتهم بأنهم يبذلون تضحيات وجهوداً مشكورةً في سبيل هذا
الدين، بينما الحقيقة أنهم كمن يجري على سير جهاز للتخسيس، يحرق سعراته
الحرارية ولا يغادر مكانه، وقد يغذي الأعداء هذه المحاولات بتخطيط ومكر بهدف
إلجاء الحركة الإسلامية إلى الدخول في نفق (الإجهاد المفضي إلى الإجهاض) ،
وقد يحرصون على جر الدعاة وأتباعهم إلى محاور جانبيه وإثارة قضايا جزئية،
تكون بمثابة الراية الحمراء التي يستثير بها مصارع الثيران الثور المتصارع معه؛
ليستهلك بها جهده ويوجهه الوجهة التي تمكنه من طعنه والقضاء عليه بعد هذه
الاستثارة وهذا التوجيه.
رابعاً: أن في هذا المسعى محاولةً لخرق سنن الله - تعالى - في التحول،
وتجاوز لسنة (البرزخية الاجتماعية) كما أوضحنا سابقاً، وهذا غير مستطاع ولا
ينبغي أن يطمح إليه ويعمل له؛ لعدم إمكانه وعدم واقعيته، فالواقع يشهد أن
المجتمع الإسلامي في تحوله إلى حالته الراهنة مرّ بمرحلة برزخية اجتماعية طويلة،
ولن يعود إلا من خلال برزخية اجتماعية معاكسة (قد تقصر وقد تطول) ، هي
التي نعيشها الآن، والتي قد تسمى عند بعض الكتاب (مخاضاً) وآخرون يطلقون
عليها (إرهاصات) وغيرهم يسميها (يقظةً) أو (صحوةً) ...
خامساً: أننا لو افترضنا جدلاً نجاح فصيل أو آخر في القفز إلى الحكم رأساً
وتملك قيادة شعب ما، فإنه سيكون قائداً غريباً غير طبيعي، كما أنه لو أقام دولةً
فهناك شك كبير أن يحِّول هذا الشعب إلى (أمة / دولة) لها رسالة تحملها وتضحي
من أجلها؛ لأنه (أي: الشعب) سيعتبر أن هذه الرسالة تملى عليه، ومن ثَمَّ:
سيسهل على المغرضين والمنافقين تضليل الجماهير واستعمالهم ضد هذه القيادة
المفروضة عليهم؛ مستغلين أن هذه الجماهير لن تحمل الانتماء إلى قيادة لم تخرج
منها، كما أن وعي هذا الشعب لن يكون في مستوى كشف الأساليب الملتوية
للمنافقين.
ومن يقول: إن قيادة هذه الجماهير سهل لأنهم أتباع كل ناعق ينسى أنه قد
يأتي من هو أكثر نعقاً منه فيسقطه وتتبعه الجماهير أيضاً.
بين النشوء الطبيعي والمصطنع:
وهذه النقطة تعود بنا إلى السؤال المحوري في هذا المقال: هل نعيش أزمة
قيادة أم محنة أمة؟ وأيهما ينصلح أولاً: الأمة أم القيادة؟ وكيف يكون اتجاه التغيير:
من أعلى إلى أسفل أم العكس؟
نبلور التطور الطبيعي لتكوين الأمة / الدولة في الآتي:
داعية ينشر دعوةً تفرز طليعةً (فئةً) تكوِّن أمةً تحمل رسالةً وتقيم دولةً
تختار قائداً.
ونبلور تصور الشكل الآخر المخالف للتطور الطبيعي - والذي رأيناه في
واقع تطلعات بعض الفصائل الإسلامية - في الآتي:
قائد يؤثِّر في نخبة تتحول إلى تنظيم يتميز عن الجماهير ويقفز على دولة
تتبنى دعوةً تملى على أمة.
- في الحالة الأولى: تظل جسور التواصل ممتدةً بين الطليعة (الفئة)
والجماهير، حيث تحرص هذه الطليعة على عدم التميز بغير ما تحمله من مبادئ
وقيم [18] ، لذا: فمجال الحركة أكثر انفتاحاً أمامها، كما أن أساليبها أكثر تنوعاً،
وذلك رغم وضع العراقيل والعوائق أمامها، أما في الحالة الأخرى: فإن تميز
التنظيم العضوي عن الجماهير - الذي يغذيه غالباً التعالي المصاحب للنفسية
النخبوية - ينحرف بهذا التنظيم نحو الانفصال عن الجماهير، إما بانحراف مسار
حركة هذا التنظيم، وإما بكيد الأعداء وتدبيرهم ومكرهم [19] ، ومن ثَمَّ: تسهل -
بعد التميز والانفصال - المحاصرة ثم الاستئصال، من غير أن تحس الجماهير
بفقدان شيء منها، سواء أكان هذا الشيء هو عناصر النخبة والتنظيم أو المبادئ
والقيم.
- في الحالة الأولى: تظل الطليعة متماسكةً حتى وإن تعددت الرؤى داخلها؛
لأن روح التحزب والتشيع يصعب سريانها فيها، ولأن أكبر ما يهمها هو نشر
الدعوة بين الناس لتعبيدهم لرب العالمين، أما في الحالة الأخرى: فلأن التنظيم
عضوي قائم على الضم والطرد حسب معيار (الالتزام الحزبي) فإن الفرصة مهيأة
لبروز تنظيمات أخرى تختلف مع بعضها نتيجة اختلاف الرؤى أو وجود الأهواء،
ومن ثم: تكون الفرصة مهيأةً أيضاً لانشغال هذه التنظيمات ببعضها، أو على الأقل:
عرقلة عمل كل واحد منها لعمل الآخر من غير قصد، بل قد يستعمل الأعداء
بعضها ضد بعضها الآخر.
ونود التنبيه هنا إلى أن مجرد وجود روح الحزبية المقيتة تؤدي إلى هذه
النتائج السلبية نفسها، حتى مع عدم وجود هيكل تنظيم عضوي، ولكن الفرصة في
ظل التنظيم العضوي تكون مهيئةً أكثر لبروز هذه الروح.
علينا التذكر: أن من عوامل سقوط الأندلس: كثرة الإمارات والدويلات
والتناحر بينها، وذلك ما أدى إلى ضعفهم جميعاً واستغلال الأعداء لذلك، فكان
سهلاً استئصالهم دويلةً إثر أخرى.
- قد يظهر أن الهدف (نشر الدعوة وتعبيد الناس لله سبحانه) بعيد
والطريق طويل في الحالة الأولى، وهذا صحيح لأول وهلة، ولكن عند التأمل فيه
نجد أنه طريق مستقيم، لذا: فهو أقصر طريق بين الهدف ونقطة الانطلاق، أما في
الحالة الأخرى: فقد يبدو - بهذا الأسلوب - أن الهدف قريب والطريق قصير؛
وهذا صحيح أيضاً للوهلة الأولى، ولكن الحقيقة أن الهدف يخالطه السراب،
والطريق إليه متعرج تكثر به المنعطفات والانتكاسات، لذا: فهو طريق أطول من
الأول، كما أن نتيجته (القفز إلى السلطة) ليست هي المستهدفة في المقام
الأول.
في الحالة الأولى: يكون القائد إفرازاً طبيعياً ملائماً لأمة واعية متيقظة
أثمرت فيها جهود الدعوة، فكان هذا القائد خارجاً من أسفل إلى أعلى، ومن ثَمَّ:
تلتف الأمة حول اختيارها رغم الصعاب لتنطلق وتحقق الرسالة التي تحملها،
ويصعب استغفالها أو سرقة خيارها أو التلاعب على مطالبها، بينما في الحالة
الأخرى: يكون القائد مصطنعاً مفروضاً من القمة على القاعدة، ولذا: فهو يبسط
سلطانه من خلال سلطاته فقط، ومهما كان هذا القائد فذّاً فإنه لن يستطيع الانطلاق
بأمة غير واعية أو ليس لها همة لتحقيق أهداف سامية، كما أن هذه الأمة يسهل
استغفالها وسرقة خيارها؛ لأن فيها القابلية للاستغفال نتيجة اضمحلال الوعي.
لتوضيح ذلك نضرب مثالاً متخيلاً: فلو توهمنا أن (الحزب الشيوعي
البريطاني!) استطاع أن يتسلل إلى الحكم بطريقة أو بأخرى، وأزاح الأسرة
البريطانية المالكة ووضع الحكومة المنتخبة في السجون، ثم فرض تصوراته
الماركسية وقمع الحريات في المجتمع البريطاني القائم على تقديس الحرية وشيوع
روح الإيجابية والفاعلية المؤثرة والمشاركة في الحياة العامة ... ، كم من الأيام -
بل من الساعات - نتصور أن يبقى في الحكم؟ ولماذا؟ ..
بعد التفكير في النتيجة والسبب قارن ذلك بما يحدث في بلدان أخرى من العالم!
فإذا كان الأمر كذلك فما هو البديل - أو الرديف - لأخطاء الواقع الحركي
الذي نعيشه؟
دور لكل مسلم:
وهذا ينقلنا إلى الشق الآخر من الموضوع، وهو الحديث عن أهمية تنمية
وعي الأمة وتفعيل إرادتها، فيمكن القول: إنه ينبغي ترسيخ مفهوم أن عمل أفراد
الأمة المؤثر في التغيير غير مشروط بانتظار قائد أو الانضواء في إطار عمل
تنظيمي عضوي، وذلك يتم إذا أمكن الارتقاء بوعي المسلم إلى المستوى الطبيعي
المفترض، وهو أن للمسلم رسالةً في الحياة تجاه نفسه وأسرته والآخرين لا يمكنه
التخلي عنها، وأن له شخصياً دوراً - كبر أم صغر - في حركة التاريخ البشري،
وأن حمل هذه الرسالة والقيام بهذا الدور ليس نافلةً يمكنه التخلي عنها، بل هما من
صميم الأمانة المكلف بها بصفته مسلماً؛ فالمسلم - بخلاف النصراني أو البوذي
... مثلاً - لا يصح له لكي يستقيم على الجادة أن يكتفي بالاعتكاف أو الانزواء في
معبد ويترك الحياة تسير كما يريدها شياطين الإنس والجن، كما لا ينبغي له حتى
الاكتفاء بـ (التبشير) بالإسلام كعقيدة على مستوى الأشخاص من غير أن يكون
لهذه العقيدة أثر في الواقع المعاش؛ لأنه في الحقيقة مأمور باتباع الدين كله، وفي
الوقت نفسه: لأن هذا الدين يشمل الحياة كلها، كما أن عليه العمل على إظهار هذا
الدين على الدين كله، وهذا لا يتأتى إلا بالحرص على التأثير في مجرى الأحداث.
وهذا ما رأيناه يحدث في سيرة الصحابة والصالحين جميعهم، ولكننا ننتقي
بعض الأمثلة الواقعية التي تدلل على ما نحن بصدده، وهو العمل على رفعة هذا
الدين والتغيير من أجله بما تسنح به الفرص وبالإمكانات المتاحة؛ لتصب في اتجاه
رفعة هذا الدين حتى ولو غابت القيادة، فمن هذه الأمثلة:
ما قام به أبو بصير - رضي الله عنه - عندما انفلت من مكة إلى المدينة
فأرسلت قريش في إثره رجلين لرده من رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب بنود
اتفاق صلح الحديبية، وهذا ما تم بالفعل، ولكن أبا بصير لم يستسلم ويستكن، بل
تحايل - رغم صعوبة موقفه - واستولى على سلاح أحد الرجلين، ثم ضربه به
بينما فر الآخر، وجاء أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
«يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم» ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه، مسعر حرب لو كان له أحد!»
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف (ساحل) البحر،
فكوّن مركزاً لإيواء وتجميع المستضعفين الهاربين من مكة من غير إحراج سياسي
لدولة المسلمين في المدينة، ثم أخذ هذا التجمع الصغير يكبر ويغير على قوافل
قريش التجارية، إلى أن أرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
تناشده الله والرحم ضم هذا التجمع إليه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم،
فقدموا عليه في المدينة [20] .
فأبو بصير - رضي الله عنه - ما استكان ولا رضي بواقعه، ولا استقل
إمكاناته، ولا انتظر انضمامه الفعلي إلى جماعة المسلمين، ولكنه تحرك - وحده -
بفاعلية وإرادة نحو هدفه.
- المثال الثاني وقع بعد إعلان سقوط إعلان الخلافة العثمانية على يد
أتاتورك وزمرته من أعضاء حزب الاتحاد والترقي؛ حيث اندلعت في تركيا
احتجاجات واسعة واجهتها الحكومة الجديدة بالقمع والتنكيل، ثم منعت تدريس الدين
في المدارس، فحث الشيخ سليمان حلمي طوناخان الناس على مخاطبة الحكومة
باستعدادهم لتحمل تكاليف تدريس الدين لأبنائهم، ولكن الحكومة رفضت وهددت
وتوعدت، فانزوى المدرسون عن ذلك مقتنعين أن تعليم الدين غير ممكن في ذلك
الوقت وأنهم ليس عليهم حرج في الاعتذار عن ذلك، إلا الشيخ سليمان الذي
استعظم المسؤولية أمام الله - عز وجل - فكان يبحث عن أحد يعلمه فلا يجد لخوف
الناس من الحكومة، فبدأ بتعليم ابنتيه في البيت على أن تقوما بتعليم زوجيهما
وأولادهما، ثم استحدث دفع أجر لطلبته نظير تعليمهم، وكان يرعى تلامذته بنفسه
حتى إنه كان يذهب بالمريض منهم إلى الطبيب، مما جعله يعيش على الكفاف،
ولكي يخفي طلبته عن عيون الرقابة الأتاتوركية عمد دائماً إلى تبديل أماكن تدريسهم،
فكان يدرسهم يوماً في غرفة مؤذن المسجد، وآخر في بيت أحد أتباعه، وثالثاً في
قبو مبنى، أو يستأجر مزرعةً ويخبئ طلابه فيها في زي العمال، يزرعون
الأرض صباحاً ويدرسون الدين مساءً، أو يذهب بهم إلى قمة جبل، ورغم انكشاف
أمره وتعرضه للاعتقال والتعذيب والملاحقة إلا أنه واصل مهمته التي انتدب نفسه
لها بإصرار وإرادة وتضحية مستحضراً أن: «ليس التعب يضنينا، ولا الإزعاج
يثنينا، سنسارع إلى نداء التعلم والتعليم والخدمة حتى وإن أدى بنا إلى
الموت» [21] .
- المثال الأخير في هذا الصدد مثال لحالة معاصرة عايشتها، وهي دليل على
أن أي شخص - مهما تضاءلت إمكاناته وقدراته ومهما كان موقعه - يستطيع أن
يساهم بعملٍ ما لنصرة هذا الدين وأهله؛ فقد ذكر لي أحد الأصدقاء (من غير ذوي
الوجاهة عند الناس) أنه وزوجته يحرصان على عدم شراء ملابس مصنوعة في
بلاد الكفر، وقد يطوفان هما وأولادهما على محلات عديدة ولا يشترون شيئاً رغم
توفر المطلوب من هذه البلاد بأسعار مناسبة وجودة لا بأس بها، وذلك حتى لا
يدعما بمالهما القليل أعداء المسلمين.
قد يكون أثر تصرف هذين الزوجين غير ملموس، وقد يشق عليهما الالتزام
بذلك.. ولكنهما في النهاية فعلا ما يمليه عليهما ولاؤهما للمسلمين، وقاما بما في
إمكانهما.. وقد يكون هذا هو الدور المطلوب من مثلهما.
فهذه النماذج - وغيرها كثير - توضح أن الشعور التلقائي بعد الإيمان بهذا
الدين هو العمل على نصرته وظهوره، وأن الفرد - مهما كان علمه وقدره
وموقعه - يملك من الإمكانات والطاقات ما يمكنه من لعب دور في حركة التاريخ،
ولكن المهم هنا هو الكشف عن تلك الطاقات والإمكانات - من نفسه أو من
الآخرين - وتجليتها وتفعيلها.
صحيح أن الإطار التنظيمي أو الجماعي أقدر على الاستفادة من هذه القدرات
وتوجيهها في مصب واحد لخدمة هدف محدد، ولكن الإلحاح في التعويل على هذا
الإطار يحمل أكثر من مخاطرة، منها - إضافةً إلى ما ذكر سابقاً - محدودية القدرة
على استيعاب جميع الأفراد، ومنها: الاقتصار على أفق القائمين عليه وتصوراتهم
وأهدافهم، ومنها: الجمود عن العمل والحركة إذا فُقِدَ هذا الإطار أو شُلَّ أو عُطِّل.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف تتحول رغبة الأفراد في النصرة إلى عمل مؤثر
في حركة الأحداث تتجمع مفرداته لتصب في النهاية في الاتجاه الصحيح من دون
انتظار لدور (الآخرين) أياً كانوا: قائداً أو تنظيماً أو جماعةً أو أغلبيةً أو دولةً؟
في اعتقادي أن ذلك يتم من خلال عاملين:
الأول: استيعاب فهم سنن التغيير في الأنفس والمجتمعات، ونشرها في الأمة
ولو في صورة أولية غير معقدة.
الثاني: توفر الإرادة الجازمة والتصميم التام على العمل لهذا الدين من أي
موقع وبأي إمكانات، واستحضار ذلك في مواقف المسلم الحياتية مما ينشط فاعليته.
فهذان العاملان يكوِّنان سياجاً يحمي الأمة - من خلال أفرادها الواعين - من
الوقوع في السلبية أو في الإيجابية العكسية، وبذلك تستطيع أن توظف طاقاتها
للعمل على بصيرة خلف قائدها إن وجد، بحيث لا تكون عبئاً عليه، وفي الوقت
نفسه: تمارس الرقابة بوعي صحيح على هذا القائد حتى لا ينحرف عن المسار
المستهدف، كما تمارس الشهادة على الأمم الأخرى بأدائها الأمانة المنوطة بها، أما
إذا لم يوجد هذا القائد الذي يستحق أن تجتمع عليه الأمة فإنها لا تقف مكتوفة الأيدي
في انتظاره، بل يعمل كل فرد من موقعه بدافع ذاتي يغذه للتقدم إلى الأمام في
طريق الخير والإصلاح.
أخيراً: فإن نجاحنا في الإقلاع بالأمة مرهون بمدى أدائنا للبلاغ المبين، أي
: البلاغ الواضح الناصع، القوي الواسع الانتشار، وذلك أداءً لأمانة الدعوة، كما
أنه مرهون أيضاً بمدى قدرتنا على تفجير الشارع الإسلامي بالوعي بالإسلام على
الحقيقة وبالواقع دون تزييف، مع شحذ إرادته ودفعه نحو تفعيل دور أفراده في
الاتجاه الإيجابي الصحيح..
كل ذلك مرتبط بأن يكون التيار فوق التنظيم، ليحل التواكب محل التشرذم
والتنسيق محل الفوضى.
__________
(1) هناك نماذج أخرى لم تكن إسلامية خالصة، ولكن تحولت مساراتها أيضاً نحو تفريغ أهدافها واستغلال عدم وعي الأتباع: كالثورة العربية الكبرى، وثورة سنة 1919م بمصر، والثورة الإريترية.
(2) لن نتطرق في هذا المقال إلى الحديث عن اختيار أصحاب القدرات القيادية وتنميتهم، أو ما يعرف بـ (فن صناعة القائد) ، فذلك مجال آخر يستحق إفراده بالكتابة، وعسى أن يكفينا بعض أهل التخصص والخبرة عن الخوض فيه.
(3) أشار إلى هذا المعنى أيضاً ابن خلدون في مقدمته، انظر المقدمة، ج 1، ص 150، ط المكتبة التجارية.
(4) البداية والنهاية، لابن كثير، ج7، ص 338.
(5) قد يرد على هذه الأمثلة حالات أخرى يتوهم معارضتها لما تدل عليه الأمثلة المذكورة، كما في التغيير الذي حدث بتأثير قادة عظام مثل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، أو صلاح الدين الأيوبي، ولكن عند التأمل نجد أن مثل هذه النماذج تؤيد ما تشير إليه الأمثلة المذكورة عالياً ولا تعارضها، وذلك من حيث عودة الأحوال إلى سابق عهدها - أو أشد - من المظالم والتفلت أو التشرذم والتناحر بمجرد موت هذا القائد النموذج أو غيابه أو انحرافه، وتدبير هذا الأمر (بالاغتيال أو المؤامرات أو الإغراء) ليس بمستبعد من أصحاب المصلحة في ذلك كما حدث في موت عمر بن عبد العزيز مسموماً (انظر أخبار ذلك مسندةً في سير أعلام النبلاء، 5/139 140) والمقصود هنا أن وجود القائد الصالح لا يمثل وحده صمام أمان ضد انحراف الأمة، بعكس وعي أفراد الأمة أو مجملهم الذي يمثل صمام أمان ضد انحراف القائد أو غيابه.
(6) خبر ارتداد بعض المسلمين بعد الإسراء والمعراج جاء في أحاديث صحيحة، فمن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/62 - 63) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/306.
(7) هذا الملمح في سيرته صلى الله عليه وسلم هو ما دعا بعض المستشرقين للزعم بأنه صلى الله عليه وسلم أضاف إلى دعوته صفة العالمية بعدما وجد الفرصة مواتية، وكذبوا في هذا الزعم بالنص القرآني المكي المذكور، والصحيح: أن هذا السير في خطوات الدعوة والدولة هو ما تمليه طبيعة سنن التغيير والتمكين للدعوات.
(8) يقول أبو هلال العسكري: الفرق بين الجماعة والفئة: أن الجماعة هي الجماعة المتفرقة من غيرها ثم قيل لجمع كل من يمنع أحداً وينصره فئة، وقال أبو عبيدة: الفئة: الأعوان، (الفروق في اللغة) ص273.
(9) أشار ابن خلدون إلى هذا المعنى، حيث يقول: «وهذا التغلب هو المُلك، وهو أمر زائد على الرئاسة؛ لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر» (المقدمة، ج 1، ص 148) ، وهذا بالضبط ما يطلق عليه القانونيون المحدثون: سلطة القهر، وهي عندهم من خصائص الدولة.
(10) يلاحظ أن حقد رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أحد أسبابه أن هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سلبت من ابن سلول المكانة والصلاحيات التي كانت تهيأ له باعتباره ملكاً على الأوس والخزرج.
(11) انظر: العواصم من القواصم، لابن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب، ص 129 - 134، وانظر تعليق الخطيب، ص 137.
(12) الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي (5/251) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ح/571.
(13) رواه البيهقي في شعب الإيمان (ح/7391) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (ح/4275) ، وفي معناه قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأنعام: 129) ، وانظر في إيضاح ذلك كلام محمد رشيد رضا في تفسير المنار (8/102) ، وانظر أيضاً: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 14/155.
(14) أخرجه البخاري، ك/ الرقاق، ب: ما يحذر من زهرة الدنيا.
(15) ترتيب هذه المراحل عن حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - الذي رواه أحمد بن حنبل (4/273) وحسنه الألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح/5) ، وأوله: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون» .
(16) غالى بعض العاملين في الحقل الإسلامي في هذا الاتجاه، فتصور أننا لا بد أن نعيد المرحلة المكية بكل ما فيها، ولا شك أن ذلك خطأ ظاهر، فهو بذلك يهدر أربعة عشر قرناً من عمر الأمة، كما أن الواقع المكي يختلف بلا شك عن واقع المحنة الذي تعيشه الأمة الآن ولكننا في الوقت نفسه نسجل ملحوظتين تجعلنا نهتم بالبحث في طبيعة هذه المرحلة وما تلاها: أولاهما: أن التشوهات العقدية والسلوكية التي أحدثتها على مدى السنين الفرق والمذاهب المنحرفة (القديمة والمعاصرة) في الأمة جعلت الدعوة إلى الإسلام النقي الشامل وكأنها دعوة جديدة؛ حيث لم يألف الناس العيش في ظل الإسلام ومن خلاله بلا دخن، فغربة الإسلام الصحيح قاسم مشترك بين المرحلتين الزمنيتين، وإن لم تكن بالدرجة نفسها ثانيهما: أن الدافع من وراء دراسة هذه المرحلة هو كشف طبيعة الحركة الصحيحة للدعوة عموماً، ثم بعد ذلك ينبغي أن نضع أنفسنا من هذه الحركة الصحيحة حسبما يقتضي الواقع، ومثل ذلك كقطار انطلق من نقطة ما، وبعد زمن أخذت مسيرته تتعثر إلى أن توقف، فمن قائل: إنه توقف لفساد قائده، وآخر يقول: لنفاد الوقود، وثالث: لعطب في أجزائه أو محركاته، ورابع: لثقل العربات التي يجرها ولكي يستأنف القطار مسيرته فلا بد أن يكون فريق الإصلاح على علم كامل بأسرار وقوانين وخصائص سير هذا القطار التي بها تمكن من الانطلاق أول مرة، ومن ثم يبحثون عن موطن الخلل الحقيقي ثم يعملون على تداركه وإصلاحه.
(17) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير (20/90) والصغير (1/264) ومسند الشاميين 1/379 (ح/ 658) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228 و238) وذكر أن فيه انقطاعاً، وذكره أيضاً ابن حجر في المطالب العالية (ح/ 4348) ، وقال محققاه (5/9 ط الوطن) : «قال البوصيري (10/518 رقم 8525) : رواه إسحاق بن راهويه عن سويد بن عبد العزيز المديني، وهو ضعيف، ورواه أحمد بن منيع ورواته ثقات، ولفظهما واحد» .
(18) في إلماحة ذكية أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن مخالفة المشركين والكفار في الهدي الظاهر لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه، وأن هذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبان شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قد يعود الأمر في بعض الظروف ف «يستحب للرجل أو يجب عليه: أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم» (اقتضاء الصراط المستقيم، ص176- 177، ت/ الفقي) ، وهذه الإلماحة في غاية الأهمية؛ لأن التميز بغير المبدأ الأهم في المراحل الدعوية الأولى سينشئ قضايا جانبيةً يدور حولها الاستقطاب أو الصراع بين الداعين والمدعوين، مما سيشوش على وضوح القيم والمبادئ الأساس التي يستهدفها الداعون، وهذا ما يساعد على الانحراف بمسار الدعوة إلى وجهة مخالفة لوجهتها الأصلية بأيدي الدعاة أنفسهم! .
(19) لعل هذا كان أحد أهداف مشركي قريش من وراء حصار المسلمين في الشَّعب، ولكن هذا الهدف لم يتحقق لأسباب عديدة، من أهمها: بقاء الروابط الاجتماعية القوية بين المسلمين وقومهم رغم التمايز العقدي، ووجود بقية من الأخلاق الإنسانية الراقية عند بعض كفار قريش ذوي المكانة في قومهم.
(20) القصة بتمامها في: البخاري ومسلم.
(21) انظر: العثمانيون في التاريخ والحضارة، د محمد حرب، والإسلاميون وتركيا العلمانية، هدى درويش.(155/84)
قضية للمناقشة
التراجعات ... والمراجعات مازال السؤال قائماً! !
د. ماجد الإبياري
بدأ يظهر في الفترة الأخيرة الحديث عن (التراجع والمراجعة) في العمل
الإسلامي، وأخذ المتحدثون يعرضون تصوراتهم، وتحليلاتهم حول القضية
المثارة.
وهذه المناقشة للقضية الجديدة التي بدأت تأخذ أنماطاً مختلفةً وصوراً متعددةً،
أثارت عدداً من النقاط الهامة التي ينبغي الوقوف عندها وتأملها و (مراجعتها) .
النقطة الأولى:
كثر الحديث عن تراجع الحركة الإسلامية من الكتاب الغربيين، ومن
العلمانيين العرب؛ وهؤلاء وأولئك ليسوا محل حديثنا؛ إذ شدة عداوتهم لدين الله
وكل عمل لنصرته لا تخفى على أحد، لكن مجال حديثنا عن فئة من الإسلامين لا
نقول إنها تابعت الغربيين والعلمانيين في تحليلهم للظاهرة، ولكنها تولت الحديث
عن ذلك في الوسط الإسلامي.
إن الفئة التي تولت إظهار هذه المسألة - ولا زالت - فئة لها مكانتها ولها
دورها الرائد في العمل الإسلامي، إنها فئة من أهل الفكر والثقافة. فلم تُثَرِ المسألة
من عالم مشتغل بنشر العلم والتعليم، ولم تُثَرْ كذلك من داعية أو مربٍّ يشغله واقع
العمل الدعوي (التطبيقي) ، ولم نسمعها كذلك من خطيب أو واعظ مهتم بتوجيه
الناس ونصحهم.
لم تُثَر القضية من أولئك جميعاً بالرغم من كونهم شركاء أهل الفكر والثقافة
في العمل الدعوي، وإن أثيرت فليس بتلك الصورة.
ومع التقدير الشديد لأهل الفكر إلا أننا نخشى أن يكون ذلك طريقاً جديداً يراد
توجيه الدعوة إلى سلوكه، خاصةً أن هناك شبه تواصٍ به فيما بينهم، وكم سلكت
الدعوة طرقاً وجَّهها إليها أفراد منها، لهم مكانتهم ومنزلتهم في الدعوة، ولم يُشرك
في ذلك بقية أهل التوجيه والعلم والخبرة، وكانت النتيجة مرارةً شديدةً تجرعتها
الدعوة.
أحد أولئك المفكرين، وفي وقت فورة العمل المسلح لعدد من الجماعات
الإسلامية في عدد من البلدان، لم يكن يرى من سبيل لإخراج الأمة من أزمتها إلا
ما تقوم به هذه الجماعات؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد! ! ثم ما لبثت الأيام تمضي
وهدأت - الفورة أو قضي على الثورة - حتى خرج علينا يسير في اتجاه معاكس
يحاول إلزام الدعوة على السير معه، وذلك حين دعا إلى أن تلتزم الحركة
الإسلامية خياراً استراتيجياً جديداً يقضي بإلغاء فريضة الجهاد!
وآخر راح - بعد تراجعه - يسفِّه كثيراً من الحركات الإسلامية ويتهمها
بنقص الفهم وسذاجة العقل، مع أنه كان أحد الرموز الهامة في ذلك الفريق الناقص
الفهم، الساذج العقل.
فهل يتوقع هذا أو ذاك أن تنخدع الدعوة بهم مرتين، أو أكثر من ذلك؟ وهل
ما زالوا يتوقعون أن آراءهم الفردية وطروحاتهم الشخصية سوف تلاقي تجاوباً
سريعاً كما كانت من قبل؟ ولهذا فلا عجب أن يكون أول المتأثرين بنتائج (موضة
التراجع) السلبية الذين تولوا كبر تضخيمها.
ونعيد: مع تقديرنا الكبير لأهل الفكر والثقافة، ودورهم الاستشرافي
لمتطلبات الدعوة بقراءة الماضي، ودراسة الحاضر، إلا أن التجارب التي مرت
بها الدعوة الإسلامية تنبئنا أن مثل هذه القضايا الكبيرة تحتاج - لكي نسلِّم بها،
وكونها قضية كبيرة توجه لها الجهود والطاقات - إلى أهل العلم والدعوة، مع أهل
الفكر والثقافة، تحتاج لكي نخرج لها بحل يصلح الأمة وتبرؤ به الذمة، إلى اتفاق
المنظرين مع التطبيقيين.
النقطة الثانية:
ما هو التوصيف الواضح لمصطلح (التراجع) هل يعنون به تراجع مستوى
الأداء في العمل الإسلامي، علمياً كان أم عملياً: في الأفكار والتصورات، أم
الأهداف والسياسات، في حجم العمل أم نوع العمل؟ أم يقصدون ذلك كله ومثله
معه! ؟ وإن كانوا يقصدون ذلك كله فإن التراجع لا يكون إلا عن مستوى أعلى
ومتقدم، وإن كان ذلك كذلك فلماذا يُغرِق أولئك في تفاصيل إخفاق العمل الإسلامي
في كل مجالاته، ومنذ نشأته الحديثة، ولم نرَ في كتاباتهم الأخيرة حول هذه
الظاهرة إلا النقد الشديد للحركة وإنجازاتها؛ فهي عندهم لم تعرف التخطيط
وطرائقه، ولا المنهجية الحركية وسبلها، ولم تحقق شيئاً من أهدافها - إن كان لها
أهداف - وحركة بهذا الوصف، هل يكون لها إنجازات تتراجع عنها؟ فعن أي
تراجع يتحدث القوم؟ !
النقطة الثالثة:
لم تخرج كتابات الخائضين في مسألة التراجع عن كونها توصيفاً لواقع مأزوم؛
فجُلُّ الكتابات تركز على بيان أهداف الدعوة الإسلامية الكبرى، وتعرض نماذج
من صور الإسلام المشرقة في القرون المفضلة، وكيف واجه الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم الجاهلية الأولى، ثم تُعرِّج بعد ذلك على أسباب انتكاسة الأمة وتنكبها
الطريق القويم، وسطوة أعدائها وتكالب الأمم على القصعة، ثم يأتي الحديث عن
نشأة الحركة الإسلامية الحديثة، وكيف كانت البدايات ساذجةً، ولم تكن مدركةً
للواقع العالمي، ولا حتى المحلي فضلاً عن الإقليمي، ثم تسهب الكتابات في
أسباب الخلل الداخلي بشتى صوره ... إلخ، وهذا كله صحيح في مجمله. ثم إذا
عنونت عناوين أمثال: (كيف نخرج من الأزمة؟) أو (الخروج من التيه) أو
غير ذلك من العناوين التي تُفرح كل مغتم ومتألم لحال الأمة، تجد بعد الشرح
المستفيض الذي استغرق مئات الصفحات، يُقتضب الكلام، ويجمل الحديث إجمالاً:
إنه (بالعودة الصادقة للمنهج الرباني) ! ! و (اتباع سبيل سلف الأمة الصالح في
التربية والدعوة والجهاد) ! ! و (إدراك الحركة لمخاطر الكيد اليهودي والنصراني
وقوى الشر المتكالبة على الأمة) ! ! و (ضرورة التكاتف والتآزر بين فصائل
العمل الإسلامي، والاعتصام بالأخوة الحقة) ! ! ، بل منهم من قال بعد عشرات
الصفحات في بيان تقصير الأمة وتواكلها وتخاذلها عن العمل: (إن نصرة هذا
الدين بيد الله عز وجل، ولا تحتاج إلى جهود بشرية؛ فإنه - عز وجل - إن قال
للشيء (كن فيكون) ! ! فعلامَ الحديث السالف إذن عن أثر الفكر الإرجائي
والصوفي والتواكلي وخطورته على الأمة؟
إن كل ما قيل حق، ولا غبار عليه، وهو كلام جميل ورائع؛ ولكن يا أحبتنا!
يا من سوَّدتم تلك الصفحات في عرض حال أمة يعلمه الجميع، ويدركه الصغير
والكبير! نشكر لكم هذه الحلول (العامة) التي نتفق وإياكم على صحتها، ولكن
أخبرونا مأجورين عن تفاصيل ذلك! أفيدونا مشكورين عن برنامج علمي قابل
للتطبيق العملي في وسط هذه الظروف الحوالك التي أظلمتم بها الدنيا في وجوهنا،
كيف الطريق التنفيذي للعودة إلى المنهج الصافي؟
إن توحيد الصفوف وتراصَّها مطلب ملحٌّ للغاية، ولكن أخبرونا بالسبيل الذي
يوحد به عشرات الألوف من الشباب الذين تربوا على تزكية النفس، وعلى التربية
الروحية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، تربوا على ذلك عشرات
السنين، كيف يوحد هؤلاء مع ألوف أخرى لم ترَ من طريق لنصرة دين الله إلا
مقارعة الباطل بكل ما تيسر لها، من تسفيه إعلامي، وتحقير سياسي، وحرق
وقتل وتدمير، ويرون ذلك كله جهاداً وإعلاءً ونصرةً لدين الله؟ كيف السبيل إلى
رص الصفوف بين هؤلاء وأولئك بعدما كبر الصغير هنا، وشاب الكبير هناك على
ما أُشربوه من مفاهيم؟ هذا مع فرض أن القادة والموجهين قد تآلفوا وتعاونوا؛
فكيف وقلوب رؤوس الناس لم تصفُ بعد؟ !
إن طرق الحلول بهذه الوسيلة ليذكرنا بمن يعظ الناس في أهمية الخشوع في
الصلاة؛ لأنها عماد الدين، ولأنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ولأن
الله - عز وجل - ربط الفلاح بذلك حين قال: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ] (المؤمنون: 1-2) ، والعبد إن صلحت صلاته صلح
سائر عمله ... إلخ؛ وهذا كله مسلَّم به، ولكن كيف نخشع في الصلاة؟ هذا
جانب لا يتطرق إليه الناصح، وينقطع حديثه، أين هذا ممن يصنف في ذكر
عشرات الطرق لكيفية الخشوع في الصلاة؟
إن التوصيف أمر هين، يحسنه أصحاب الأقلام، ومن لم يمسكوا الأقلام،
والمريض بسهولة شديدة يصف أعراض مرضه للطبيب، ولكن الطبيب لا يزيده
وصفاً آخر، قد يذكر له أسباب المرض حتى يتوقاها بعد ذلك؛ ولكن دوره لا يقف
عند ذكر الأسباب، بل يصف له علاجاً لهذا المرض بعد معرفته بوصفه وسببه،
ويحدد له موعداً لتعاطي الدواء وحجم الجرعات ومدة التناول، ويطلب منه
مراجعته للتأكد من صحة سير العلاج وتحسُّن المريض، فإن لم يكن أهل العلم
والفكر والدعوة أطباء الأمة، فأي دور يريدونه لأنفسهم؟ !
ولا شك أن القضية المطروحة للنقاش جدُّ هامةٍ، فهي واقع معاش، ولكن لا
بد من وضع القضية في إطارها الصحيح، وحجمها الصحيح، وتقدير زمانها بشكل
صحيح. إن تراجع العمل الإسلامي الحالي عما قدمه قبل ذلك حاصل بلا شك،
والعودة لمراجعة ذلك التراجع خطوة صحيحة على الطريق، ولكن قضية التضخيم،
والمبالغات، والتوريم السطحي لقضايا كبيرة تمس حياة الأمة، هو أمر ينبغي
التنبيه عليه. وإنها لمهمة عظيمة وخطيرة في الوقت ذاته، تحتاج إلى أصحاب
الأفهام والعلم الأصيل، وتحتاج إلى رجال يتحرقون لآلام أمتهم يبيعون أنفسهم لله.
ولكون محدثكم ليس من هؤلاء ولا أولئك فلا يستطيع تقديم صورةً علميةً قابلةً
للتطبيق العملي في هذا الواقع المأزوم، ولكن في الإمكان أن تكون هذه دعوة
لرموز الأمة من علمائها الأبرار ودعاتها الأطهار، ومفكريها الأخيار الذين
يستطيعون أن يجتمعوا ويأتلفوا، ويضعوا مسألة التوصيف جانباً؛ فقد وصفنا بما
فيه الكفاية، ونحتاج إلى برامج عملية لحل إشكالات الأمة الكبيرة، وإلا بقي
السؤال قائماً: كيف نخرج من الأزمة؟(155/96)
المسلمون والعالم
حل القضية الكشميرية بأيدينا.. ولكن!
د. محمد طاهر حكيم
كشمير جرح قديم من الجراحات الساخنة التي أصابت جسد الأمة الإسلامية
الضعيف في هذا العصر الكئيب الذي يشهد تعرّض المسلمين لنكبات ومآسٍ وتداعي
الأمم، وتكالب الأعداء عليهم من كل حدب وصوب.
كشمير المسلمة التي احتلتها الهند ظلماً وعدواناً في عام 1947م ثم قامت
بممارسة العنف والاضطهاد لمنع الشعب المسلم من المطالبة بتقرير مصيره وفقاً
لقرار الأمم المتحدة الصادر في 5 يناير 1949م، ذلك القرار الذي كان وراءه
الحكومة الهندية نفسها.
وقد بلغت الوحشية الهندوسية ذروتها منذ عام 1990م حين أصدر البرلمان
الهندوسي - (برلمان أكبر دولة ديموقراطية كما يزعمون) قراراً يسمح لقوات
الاحتلال في الولاية والتي يزيد عدد أفرادها عن سبعمائة ألف جندي - وهو ما
يمثل أعلى نسبة وجود عسكري في أي منطقة في العالم؛ إذ يبلغ عدد جنود
الاحتلال الهندوسي في الولاية 1: 7 بالنسبة إلى السكان - بعملية استئصال
المسلمين وقتلهم عشوائياً، والزج بهم في غياهب السجون ومراكز التفتيش
والتعذيب، وذبح أطفالهم، وحرق شبابهم أحياءً، وهتك أعراضهم، ونهب أموالهم،
وإحراق بيوتهم ومنازلهم ومزارعهم حتى أصبح الشعب هناك يعيش تحت
الإرهاب والحكم العسكري ونظام المعسكرات الذي يذكرنا بأساليب النازية والفاشية
بحجة أنهم إرهابيون ولا ذنب لهم إلا أنهم يطالبون بتقرير مصيرهم الذي وُعدوا به
من المنظمة الدولية.
وقد قدّم الشعب الكشميري خلال هذه المدة التضحيات الضخمة لتحقيق هدفه
السامي؛ حيث بلغ عدد الشهداء أكثر من سبعين ألف شهيد وعدد الجرحى أكثر من
ثمانين ألف جريح، ووصل عدد المعتقلين إلى أكثر من سبعين ألف معتقل إلى
جانب عشرات الآلاف من المنازل والمتاجر والمساجد والمدارس التي دُمرت
وأحرقت، والآلاف من النساء المسلمات اللاتي تعرضن للاغتصاب على أيدي
الجنود الهندوس. وبلغ عدد العوائل التي نكبتْ في فَقْد عائليها نحو نصف مليون
عائلة [1] .
ويزداد الوضع سوءاً يوماً بعد يوم في الوادي الجميل، وتحمل لنا الأخبار
يومياً أنباء الاعتقالات والاغتيالات والمداهمات، ويتساقط الشهداء الواحد تلو الآخر،
والعالم الإسلامي صامت لا يفعل شيئاً، ولم ينطق بكلمة فاعلة تجاه هذا الجرح
النازف. وأما العالم الحر فإنه يبدو وكأن صرخات النساء والأطفال والشيوخ لم
تصل إلى سمعه ولن تصل أبداً؛ لأنه صنع من الهند النووية التي تحرس له شرق
آسيا من المد الإسلامي عملاقاً عسكرياً وبطلاً بوليسياً مهمته تأديب الدول الإسلامية
في المنطقة.
وقد دفع هذا الإرهاب الهندوسي المسلمين في كشمير إلى مواجهة الاحتلال
والقيام بعمليات فدائية بطولية ضده؛ وذلك بعد وصولهم إلى حد اليأس في معاناتهم
وعدم وجود بصيص من الضوء في نهاية النفق.
وقد وقعت في الفترة الأخيرة جملة أحداث ومتغيرات جعلت قضية كشمير في
بؤرة الاهتمام الدولي، ومن هذه الأحداث:
1- إعلان كل من الهند وباكستان امتلاك الأسلحة النووية والصاروخية في
مايو عام 1998م. ولا شك في أن امتلاك الدولتين هذا النوع من السلاح المدمر له
أثر كبير على الأحداث الجارية والمشحونة بالتوتر الشديد في كشمير، وإذا علمنا
أن حربين من الحروب الثلاثة وقعت بين البلدين كان سببهما كشمير ظهر لنا
خطورة الموقف في المنطقة بعد امتلاك البلدين الأسلحة النووية.
2- ثم تأتي المواجهة الأخيرة التي قادها المجاهدون الكشميريون في
«كارجل» العام الماضي والصمود لأكثر من شهر أمام القوات الهندوسية
حتى عرضتْ عليهم الهند أن توفر لهم ممراً آمناً لينسحبوا إلى كشمير الحرة.
وهذا يُعتبر تحولاً مهماً في قوة المقاومة الكشميرية وقدرتها على المناورة.
وقد خسرت الهند في هذه المواجهة من الجنود أكثر مما خسرتْه في حرب عام
1971م، وكاد البلدان النوويان أن يدخلا في حرب حقيقية، وقد أثبتت هذه
المواجهة خطورة الموقف في كشمير وضرورة حله في أقرب فرصة ممكنة.
ولكن كيف السبيل إلى حل هذه القضية القديمة؟ هل بقرارات مجلس الأمن،
أو بطلب المساعدة من الدول الكبرى؟
إن الرهان على كل هذا لحل القضية الكشميرية رهان خاسر؛ وذلك لأن
قرارات مجلس الأمن لا تطبق إذا كانت في صالح المسلمين، لكن لو كانت هذه
القرارات ضدهم فإنها تفرض عليهم كما تفرض على دولهم العقوبات الاقتصادية
والتجارية والعسكرية والمقاطعة الدولية إذا لم تخضع لرغبة الدول الكبرى، بل
وتدرج أسماؤها في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان.. إلخ.
أما الدول الأخرى المحتلة لأراضي المسلمين والغاصبة لحقوقهم فلا تلزم بتطبيق
أي قرار صادر من مجلس الأمن، ولا تفرض عليها أية عقوبات إلا صورياً ذرّاً
للرماد في عيون المسلمين. بل هي في كثير من الأحيان تعربد يمنةً ويسرةً وتهزأ
بقرارات المجلس «الموقرة» دون أن يثير ذلك حفيظة المجلس، أو أن يكون فيه
التحدي للمجتمع الدولي. وهذا يؤكد أن المجلس لن يقف مع أية قضية للمسلمين
مهما كانت إذا كان الطرف الآخر فيها من غير المسلمين، وهذا واضح من
القرارات التي أصدرها المجلس في قضية فلسطين وكشمير والبوسنة وغيرها من
القضايا الإسلامية.
الحقيقة أننا - نحن المسلمين - نبالغ في حسن الظن بمجلس الأمن عندما نلجأ
إليه ونتوقع منه أن ينظر إلى قضايانا بعين العطف أو على الأقل بعين العدل
والإنصاف، ويغيب عن أذهاننا حقيقة مهمة وهي أن أعضاء المجلس الدائمين
يُهمهم أول ما يهمهم مصالح بلدانهم الخاصة؛ فقد كتبت مجلة «أخبار الولايات
المتحدة والعالم» الأمريكية في 23/5/1994م: إن انتهاكات الهند لحقوق الإنسان-
وهي مروعة وبشعة - تثير سخطاً أقل لدى الرأي العام الأمريكي وأعضاء
الكونجرس؛ وذلك بسبب واضح من وجهة نظرنا نحن وهو أن الضحايا في الهند
هم من المسلمين في جميع الأحوال؛ فإن المصالح الأمريكية مع الهند هي أيضاً من
الضخامة بحيث لا يمكن التضحية بها من أجل الأخلاقيات والمثل «! ! .
وهكذا قد تم إبلاغ رئيس وزراء الهند السابق خلال زيارته لواشنطن في
الأسبوع الأخير من مايو 1994م بأن إدارة كلينتون ستتوقف عن أي نقد علني
مباشر لخرق الهند لحقوق الإنسان، وأن أي ملاحظات بهذا الصدد سيتم تداولها بين
البلدين بالطرق الدبلوماسية. وفي زيارته الأخيرة للمنطقة صرح كلينتون في
الهند - وبالحرف الواحد أنه:» لم يأت للمنطقة للوساطة في قضية كشمير، وأن
على البلدين أن يحلا هذه القضية فيما بينهما، ولم يُشر - من قريب ولا بعيد - إلى
أن هذه القضية قد صدرت فيها قرارات من مجلس الأمن وعلى الهند أن تطبق
هذه القرارات؛ كما أغفل تماماً موضوع انتهاك الهندوس لحقوق الإنسان، رغم
أن إدارته قد وصفت الهند - في التقرير السنوي لحقوق الإنسان عام 1998م
«بأنها رائدة وبامتياز في مجال انتهاك حقوق الإنسان في العالم؛ حيث تتفوق
على الكثير من الدول بانتهاكاتها الواسعة والمتعددة الوجوه والأشكال لحقوق
الإنسان» . ولكن لأن الضحايا هم من المسلمين فإن أمريكا لا تضحي بمصالحها من
أجل حقوق طائفة من المسلمين.
ولنا أن نتساءل: لو كان الكشميريون يهوداً أو نصارى أهكذا كان كلينتون
يتعامل مع هذه القضية؟ وهذا يؤكد مرةً أخرى أن الدول الكبرى لن تقف مع أية
قضية للمسلمين إذا كان الطرف الآخر فيها من غيرهم.
إن تزييف من يسيّر مجلس الأمن ليس له حد ولا مثيل؛ فهم يتغنون
بالديمقراطية، ويدعون إلى حق تقرير المصير وتحرير الشعوب المضطهدة فإذا
تعلق الأمر بالمسلمين رأيت عجباً؛ ف «قرارات الأمم المتحدة في شأن كشمير
صارت قديمةً باليةً مضى عليها خمسون عاماً» و «نحن نتفهم أسباب ضرب
روسيا للشيشان ونقدرها» و «إننا لن نسمح مطلقاً بوجود دولة على عتبات أوروبا
يحكمها المسلمون» أما إذا تعلق الأمر بغير المسلمين فيظهر الوجه البريء للمنظمة
الدولية، فتقلق وتحزن على انتهاك حقوق الإنسان. فتيمور الشرقية كانت جزءاً من
إندونيسيا، ومعظم سكانها من النصارى الذين طالبوا بالاستقلال، فتدخلت المنظمة
الدولية وأرسلت القوات وفرضت استقلالها وانفصالها بدعوى تحقيق رغبة (الشعب
التيموري) بالانفصال، وأعطت المنظمة الدولية إنذاراً للقوات الإندونيسية
بالانسحاب من الإقليم خلال 48 ساعة وهكذا حصل.
والسؤال: هل هناك شك في رغبة المسلمين في كشمير في الانفصال عن
الهند، أو رغبة الشيشانيين عن روسيا، أو رغبة الكوسوفيين عن صربيا؟ فلماذا
لم يدعُ مجلس الأمن للاستفتاء على استقلال كشمير أو الشيشان أو كوسوفا؟ ولو تم
ذلك وكانت النتيجة بالإيجاب فهل يفرض مجلس الأمن بالقوة ذلك الاستقلال؟
الجواب طبعاً: لا؛ والسبب واضح؛ فانسحاب القوات الإندونيسية من تيمور
الشرقية يؤدي إلى قيام دولة نصرانية وتقطيع جزء من الدولة المسلمة وهو مطلب
الغرب ومبتغاه، وأما انسحاب القوات الروسية من الشيشان أو الصربية من كوسوفا
أو الهندوسية من كشمير فسوف يؤدي إلى قيام دولة مسلمة على أعتاب روسيا في
الشيشان، وإلى قيام دولة مسلمة في قلب أوروبا بالنسبة لكوسوفا وإلى تقوية دولة
باكستان الإسلامية بسبب كشمير وهذا كله مرفوض عندهم.
إذاً فحلُّ قضايانا لا يكون بقرارات مجلس الأمن، ولا بالشكوى إلى الدول
الكبرى وإنما بالقيام بواجبنا في نصرة إخواننا في كشمير وغيرها.
إن الوضع في كشمير جد خطير، والهندوس بعد زيارة كلينتون وتأييده
الواضح لهم أصبحوا أكثر تعسفاً واستعلاءً وعربدةً، ويلوّحون بشن حرب ضد
باكستان بعد أن صرّح الناطق باسم كلينتون قائلاً: «تخطئ باكستان إذا كانت تظن
أن أمريكا تؤيدها إذا وقعت حرب بين الهند وباكستان» وفي هذا الكلام تهديد مبطن
بالحرب، وتأييد واضح للهندوس، بل تحريض لهم على شن حرب ضد باكستان.
خطوات حل الأزمة:
لذا أرى أن حل القضية الكشميرية يكون باتباع الخطوات الآتية:
أولاً: التضرع بالدعاء والتوجه إلى الله - تعالى - لينصر هؤلاء المظلومين؛
فإن الدعاء يعمل ما تعجز عنه القذائف والصواريخ: يُروى أن قتيبة بن مسلم
استعصى عليه فتح كابول، فقال: عليَّ بمحمد ابن واسع - وكان عابداً زاهداً -
فأُخبر بأنه متكئ وهو يشير بأصبعه إلى السماء، ويقول: يا حيُّ يا قيوم انصرنا
عليهم! فقال: لأُصبع محمد بن واسع أحبُّ إليَّ من ألف سيف شهير في سبيل الله.
ثانياً: الاستمرار في جمع المساعدات المالية وتقديمها لهم بقصد تغطية
احتياجات المجاهدين ورعاية المهاجرين والمجروحين ومن لا عائل لهم منهم حتى
تتغير الظروف لصالحهم. وهذا واجب شرعاً. قال تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] (الأنفال: 72) وقال
سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) ، وفي
الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله،
ولا يسلمه» وأخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن حنيف أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره - وهو يقدر على أن ينصره -
أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة» ، وهو ضعيف لكن يشهد له حديث أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله
في الدنيا والآخرة» رواه البيهقي.
إن الواجب على كل مسلم أن ينصر إخوانه في كشمير وفي غيرها بكل ما
يستطيع؛ فمن استطاع أن ينصرهم بماله فليفعل، ومن استطاع أن ينصرهم بالكلمة
قولاً أو كتابةً عبر وسائل الإعلام المختلفه فليفعل، ومن استطاع أن يدافع عنهم
بنشر قضيتهم بين الأمم والشعوب وتعريف العالم بما يقع عليهم من ظلم واضطهاد
وقهر وتقتيل وتشريد وتهجير ونهب ممتلكات وتدمير منازل ومزارع من قبل الجنود
الهندوس وعصاباتهم المتطرفة فليفعل. ولا أقل من أن يشترك جميع المسلمين في
الدعاء لهم.
ثالثاً: أن تقوم الشعوب الإسلامية بالضغط على حكوماتها لتقطع كل العلاقات
مع الهند - إذا لم توقف حملتها ضد الشعب الكشميري وتحدد موعد إجراء الاستفتاء
الموعود - مع التنديد الشديد والتشهير بما تقوم به قوات الاحتلال في الولاية من
الممارسات الإجرامية، وتعلن تأييده وتبني قضيته صراحةً وتعرضها في المحافل
الدولية بما يتفق مع الواقع والحقيقة لا كما تردده أبواق الدعايتين الهندوسية
والصهيونية.
رابعاً وهو الأهم: أن تقوم جميع الحكومات الإسلامية بإخطار الهند رسمياً أن
مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مهدّدة في جميع المناطق في العالم الإسلامي إذا
لم توافق على إجراء الاستفتاء في الولاية وتحدد موعده. فإن لم تفعل الهند ذلك
نفّذت الحكومات الإسلامية المقاطعة الاقتصادية؛ فهذه هي ورقة الضغط الإسلامية
التي لو استخدمتها الدول الإسلامية - فإن الهند سوف تجثو على ركبتيها طالبةً هي
الحل؛ لأن أكثر من 70% من اقتصاديات الهند تقوم على العائد من الدول
الإسلامية؛ فهناك مئات الألوف - بل الملايين - من العمالة الهندوسية ومئات
الشركات الهندوسية تعمل في هذه الدول، كما أن هذه الدول تعتبر من أكبر الأسواق
للمنتوجات والمصنوعات الهندية، والأموال التي تكسبها الهند من هذه الدول
تصرف لقتل المسلمين وسفك دمائهم في كشمير وفي داخل الهند؛ فقد أوردت مجلة
«الوسط» (31/1/1994م) في تحقيق مفصل لها مخاطر العمالة الهندوسية
والجرأة البالغة الخطيرة للتنظيمات السياسية الهندوسية؛ فضلاً عن بلايين
الدولارات التي يحولها هؤلاء إلى أحزابهم المتطرفة التي تفتك بالمسلمين في الهند
وتعمل على إبادتهم.
وتقول المجلة: إن الصحافة القطرية قد شنت حملات شعواء على العمال
الهندوس مستندة إلى منشور تم توزيعه بينهم وأسمته مجلة الشرق القطرية:
«المنشور القذر» وهو موجه من القائد المحلي لجماعة RSS/VIP إلى جميع
المتطوعين الهندوس وجاء فيه: «اذهبوا يومياً إلى المعبد صباح مساء أينما كنتم،
شيدوا معبداً في منازلكم ومواقع أعمالكم ومتاجركم التي تعملون فيها.. حافظوا على
معبودكم من خلال تمثال» راما «أقيموا اجتماعات أسبوعية، وقدموا تقاريركم إلى
القائد المحلي، واعملوا قدر طاقتكم على إغراق أصدقائكم وزملائكم في إدمان
الكحول والمخدرات والنساء، كونوا على صلة حميمة جداً بالمسلمين لتتمكنوا من
تفريق وحدتهم، واجعلوا الغش شعاركم في التعامل معهم» .
وجاء في المجلة أيضاً: «وحذرت الصحف القطرية من أن العاملين
الهندوس في الخليج يموّلون المنظمات الهندوسية المتطرفة مثل جماعة (فيشوار
هدو بيرشاد) التي قامت بدور بارز في عملية هدم مسجد بابري، وكذلك منظمتي
(ما هات شترا) و (شيتوسنيا) اللتين تثيران المشاعر ضد المسلمين الهنود.
بل إن هناك أمراً أخطر من سابقه يدعو إلى مقاطعة الهندوس الوثنيين وهو:
بُعد التوغل الصهيوني إلى منطقة الخليج عبر البوابة الهندية؛ فقد حذّر الكاتب
إبراهيم إسماعيل في مجلة الإصلاح العدد 264 تاريخ 25/11/1993م) مما سماه
الخطر المنعكس على الخليج من العلاقات الهندوسية الصهيونية المتنامية، وقد أثار
الكاتب عدة أسئلة مهمة في هذا الصدد عن حجم الاختراقات الإسرائيلية الهندية
لأجهزة دول المنطقة وتغلغلها إلى مواطن التأثير، وعن حجم الاستثمار اليهودي
عن طريق البوابة الهندية، وعن حجم العمالة اليهودية الهندية - المليونيرية - التي
يُخشى أن تكون هي التي تسيطر على 80% من أسواق المنطقة سواء أسواق
الذهب أو الإلكترونيات أو الأقمشة، مشيراً إلى مخاطر ذلك كله على الحالة الأمنية
والاجتماعية والاقتصادية وكذلك على العمل الإسلامي في المنطقة مذكِّراً في هذا
الصدد بالعداء الهندوسي الصهيوني المتأصل لكل عمل إسلامي في ضوء
تصريحات المسؤولين في البلدين، وأشار إلى بيان وزير الخارجية الصهيوني في
زيارته الأخيرة للهند حيث صرح قائلاً:» إن الكيان الصهيوني والهند معنيتان
بمواجهة الخطر الأصولي الإسلامي المشترك سواء عبر منظمة حماس أو حركة
المقاومة الكشميرية، وإن هناك تنسيقاً كاملاً ومشتركاً بين دلهي وتل أبيب لتبادل
المعلومات والخبرات في هذا الجانب «.
لأجل هذا كله فإن مقاطعة الهندوس ليس واجباً إنسانياً وقومياً فحسب بل هو
واجب ديني شرعي أيضاً، فقد دعا سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - إلى
مقاطعة الهند اقتصادياً وسياسياً [2] كما أفتى فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين بوجوب
مقاطعة الهندوس لما سئل عن حكم استقدامهم والتعامل معهم؛ حيث قال:» ولا
يجوز إكرامهم ولا استخدامهم بما فيه إعزاز لهم مع وجود المسلمين الذين يقومون
مقامهم.. على المسلمين في كل البلاد أن يقاطعوا هذه الفئة من الهندوس والسيخ
ونحوهم من الكفرة ويقطعوا الصلة بهم.. ويردوا إليهم العمالة التي تعمل في بلاد
المسلمين حتى لا يعينوا الكفر على الإسلام، وذلك من الجهاد في إظهار الإسلام
وإذلال الكفر « [3] .
إن الدول الإسلامية مسؤولة أمام الله - تعالى - عن تفريطهم في مساندة
إخوانهم في كشمير وفي الهند وهي قادرة على نصرتهم ضد ممارسات الهندوس
الإجرامية بالمقاطعة الاقتصادية.
إننا على يقين بأنه لو قامت الدول الإسلامية بمقاطعة المصنوعات
والمنتوجات الهندية وكذلك الشركات الهندية المختلفة، وطردت العمال الهندوس
وقذفت بهم إلى شوارع كلكتا ودلهي وبومبي (وأحلّتْ محلهم العمال المسلمين
من الهند وغيرها) فإن الهند تجثو على ركبتيها ذليلةً خاضعةً تطلب هي بنفسها
إجراء الاستفتاء في كشمير، ونكون بهذا قد نصرنا إخواننا في الله، وجنبنا المنطقة
حرباً خطيرةً - لا قدر الله - فالمقاطعة الاقتصادية وحدها تستطيع إجبار الهندوس
على الاستجابة لمطالب المسلمين، ومن كان عنده شك في ذلك فليجرب؛ والتجربة
خير برهان.
إن الحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات هي: أن قضايانا لن يحلها أحد سوانا،
وأن شرور الهندوس والصهاينة والصليبيين والشيوعيين واعتداءاتهم على المسلمين
لن يقهرها» شرعية دولية «ولا قرارات شجب واستنكار وإدانة وإنما تهزمها وحدة
المسلمين واتفاقهم ضد أعدائهم اقتصادياً ودفاعياً وتفوقهم التقني والعلمي والعسكري.
إننا ندعو إلى تعزيز دور منظمة المؤتمر الإسلامي وتفعيله، وإلى وجوب
الاتحاد والتعاون بين المسلمين في كل المجالات ولا سيما الاقتصادية والعلمية
والدفاعية.
والله من وراء القصد،،،
__________
(1) مقابلة مع أليف الدين الترابي في مجلة الحرس الوطني العدد 210، رمضان 1420هـ.
(2) مجلة كشمير، العدد الحادي عشر والثاني عشر، رجب 1413هـ ص 22.
(3) بيان صادر عن جمعية الإصلاح في دولة الإمارات، دبي 7/12/1992م.(155/100)
المسلمون والعالم
كشمير وإرهاصات الحل النهائي
د. يوسف بن صالح الصغير
يمثل عام 1947م بداية الصراع الدموي في كل من فلسطين وكشمير؛ مع
تماثل في الدور الإنجليزي الذي يتلخص في تسليم بلاد المسلمين إلى أعدائهم من
اليهود والهندوس. وقد صدر قرار الأمم المتحدة الذي ينص على حق الشعب
الكشميري في تقرير المصير وذلك عام 1949م، وما يزال هذا القرار حبراً على
ورق، بل ويتجاهله اللاعبون الكبار؛ لأن الهدف منه ليس إعادة الحقوق إلى
الشعب المسلم في كشمير بل امتصاص غضب الناس وإعطاءهم أملاً كاذباً
بالحصول على الحقوق. وقد قامت الهند بعد احتلالها ثلث كشمير بمحاولة تخدير
الشعب الكشميري وكسر حدة مقاومته عن طريق إعطاء إقليم كشمير الحكم الذاتي،
وأطلقت عليه اسم: (جامو وكشمير) ، ويطلق على رئيس حكومة الإقليم لقب
رئيس الوزراء أسوةً برئيس الحكومة الهندية، وكان لها عَلَمُها الخاص وبرلمانها
الخاص، واستمر هذا الوضع من 1949م إلى 1953م؛ حيث بدأت الحكومات
الهندية المتعاقبة في تقليص ميزات الحكم الذاتي حتى تم إلغاء لقب رئيس الوزراء،
وأصبح يطلق على رئيس حكومة الإقليم لقب كبير الوزراء أسوةً بالولايات الهندية
الأخرى.
وبقدر ما كانت هزائم باكستان المتوالية في الحروب مع الهند عاملاً أساسياً
في تثبيت الهند أقدامها في كشمير، وفي تسرب اليأس إلى نفوس الشعب الكشميري،
فإن الحرب في أفغانستان وخروج الروس منها قد بعث الأمل في إخراج الهنود
من كشمير. وكان اشتراك عدد كبير من المجاهدين الكشميريين في حرب أفغانستان
وتوجههم إلى كشمير بعد توقف الجهاد في أفغانستان بداية مرحلة جديدة في كشمير
من العمل المسلح مع بروز العامل الإسلامي وتكوُّن حركات جهادية كثيرة. ومنذ
قيام ثورة 1989م التي ما زالت مستمرة حتى الآن فقد تحولت كشمير إلى جرح
مؤلم للهند يبتلع 20% من الميزانية العسكرية وبلغ عدد القوات الهندية حوالي
000، 600 جندي، أي حوالي عسكري هندي لكل سبعة كشميريين، وبلغت
الخسائر البشرية ما بين 25 إلى 70 ألف قتيل، وكان هذا الصراع مؤلماً؛ حتى
إن وزير الدفاع الهندي سارع فور التفجيرات النووية الهندية إلى الكشف عن نية
الهند اجتياح بقية كشمير وتحدي باكستان أن تختار مكان المعركة وزمانها، وبدا
للهند أنها قاب قوسين أو أدنى من إنهاء القضية بابتلاعها كلها وتحطيم باكستان
الداعم الرئيس - أو لنَقُلْ الوحيد - للمقاومة في كشمير؛ ولكن التفجيرات النووية
الباكستانية أعادت التوازن للمنطقة، واستمر النزيف مع إصرار الهند على عدم
بحث قضية كشمير في أي لقاء دولي أو حتى اشتراك دولة ثالثة في المفاوضات،
وكان التجاهل التام هو نصيب مطالب الكشميريين بالحرية والاستقلال أو الانضمام
لباكستان حتى قامت عملية كارجيل التي يبدو أنها أُعِدت بدقة على أعلى مستوى من
قِبَل الجيش الباكستاني والمجاهدين.
عملية كارجيل وبداية التدخل الأمريكي:
بينما كان العالم الغربي النصراني مستنفراً قواه في سبيل فصل تيمور الشرقية
عن إندونيسيا بدعوى تحقيق مطالب الشعب التيموري، وكالمعتاد كان علم الأمم
المتحدة يرفرف فوق القوات الأسترالية التي نابت عن العالم الغربي في تنفيذ مهمة
نصرة الشعب النصراني المظلوم وفي تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بإعطاء شعب
تيمور الشرقية حق تقرير المصير بدأت عملية كارجيل لتذكير العالم أن هناك قراراً
للأمم المتحدة عمره خمسون عاماً بإعطاء شعب كشمير حق تقرير المصير، ومع
ذلك فلم يلتفت أحد لهذا القرار، بل قامت الهند بحشد قواتها وسط تأييد غربي لعملية
إبادة قوات المتطرفين التي وقعت في الفخ وتصفيتها، وتم حصار المنطقة الجبلية
المنيعة؛ ولكن القوات الهندية أخفقت في إعادة احتلال المواقع التي استولى عليها
المجاهدون، وتكبدت آلاف القتلى من قوات النخبة، وهنا تدخلت أمريكا وقدمت
عربون التحالف الاستراتيجي مع الهند، وتم استدعاء رئيس وزراء باكستان آنذاك
نواز شريف إلى واشنطن، وأُجبر ليس فقط على الاعتراف بالدور الباكستاني في
العملية بل وتعداه إلى إصدار أمر بانسحاب المجاهدين في حرج شديد؛ ولكن
المقاومة الشرسة التي أبداها المجاهدون اضطرت الهند إلى فتح ممر آمن لهم
والسماح بانسحابهم إلى كشمير الحرة.
إن زيارة الرئيس الأمريكي كلينتون للهند، ومن ثم مروره على باكستان تدل
على الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة؛ فقد أحيطت الزيارة للهند بكثير
من الاهتمام وكانت عبارة: (أكبر ديمقراطيتين في العالم) تتكرر كثيراً أثناء
الزيارة مما يدل على الاحترام المتبادل، بل وتكرمت أمريكا بالاعتراف أن الهند
دولة قوية لها مصالحها الخاصة التي لها الحق في حمايتها؛ وذلك خلاف الدول
الصغرى التي تتعامل معها أمريكا وفق مصالحها الخاصة فقط. لقد ألقى الرئيس
كلينتون خطاباً مهماً في مجلس النواب الهندي صرح فيه أن سياسات الحكومة
الهندية ستكون لها عواقب تتجاوز حدود الهند، ولكنه عاد واعترف بأن الهند عليها
أن تتصرف حسب مصالحها؛ ومن ناحية أخرى حث الهند على إجراء حوار لحل
الأزمة في كشمير التي اعتبرها عامل عدم استقرار في المنطقة. إن الفارق بين
الزيارتين أن زيارة الهند فيها كثير من الغزل الدبلوماسي، وتشمل المباحثات
التصدي للصين ومجالات التعاون التقني والاقتصادي وسبل دعمها. أما الزيارة
لباكستان فتتركز على شكل الحكومة وتخفيف الدعم للأحزاب الكشميرية، بل إن
طلب التحقيق مع الشيخ مسعود أظهر الذي أطلقته الهند بعد عملية خطف الطائرة
الهندية، وأخيراً المساعدة في القبض على بن لادن والمشاركة في مطاردة الأفغان
العرب والضغط على طالبان و ... وفي المقابل، فإن المصلحة الباكستانية المتوخاة
هي فقط عدم تصعيد عملية خنق باكستان ومقاطعتها.
إن إشارة الرئيس كلينتون إلى وجوب الحوار لحل الأزمة في كشمير مع
اقتناع الهند بصعوبة الحل العسكري أو استحالته قد أدى إلى تداعيات كثيرة حولها
كثير من علامات الاستفهام.
يوجد في كشمير عدد كبير من الأحزاب والجبهات ومنها حزب المؤتمر
القومي الذي يسيطر على حكومة الإقليم برئاسة فاروق عبد الله، وهو حزب موالٍ
للهند نوعاً ما، وهناك تحالف جميع الأحزاب الكشميرية للتحرير ويضم 20 حزباً
وجماعة وكان يرأسه الشيخ سيد علي شاه ورئيسه الحالي البروفيسور عبد الغني بت،
وأخيراً مجلس الجهاد الموحد بقيادة سيد صلاح الدين رئيس حزب المجاهدين
وهذا المجلس يضم أكثر التجمعات الجهادية وأكثرها عداءً للوجود الهندي.
الهند وسياسة فرق تسد:
إن كثرة الأحزاب الكشميرية وتفاوت طروحاتها وأهدافها له دور مؤثر في
إضعاف الجانب الكشميري وفي إيجاد مجال للمناورة في الجانب الهندي الذي يبدو
أن تحركاتهم محسوبة بدقة؛ فقد بدأت عملية جس النبض والحوار مع الوسط؛
وذلك من أجل جذب الأطراف؛ فقد قامت السلطات الهندية بإطلاق عدد من قادة
تحالف جميع الأحزاب الكشميرية للتحرير، وفتحت الحكومة الهندية قنوات اتصال
مع قيادة التحالف بقيادة الشيخ سيد علي الجيلاني. وتصر الهند على إجراء
المحادثات في إطار الدستور الهندي أي بقاء كشمير جزءاً من الهند، وهذا ما
يرفضه حالياً جميع قادة التحالف والذين يصرون من جانبهم على وجوب مشاركة
باكستان في المباحثات؛ لأنها حليف أساس للمقاومة الكشميرية من جهة، ومن جهة
أخرى فإن استقلال كشمير الذي يطالب به بعض الأحزاب يقتضي موافقة كل من
الهند وباكستان عليه.
إن رد فعل الحكومة المحلية في كشمير على المباحثات هو طرح قانون الحكم
الذاتي، وصوَّت البرلمان في جامو وكشمير لصالح العودة إلى وضع ما قبل 1953
م. وبعد حوالي شهر رفضت الحكومة الهندية بإجماع وزرائها هذا القرار. وهذا
الرفض يعني عدم مناقشة القضية في البرلمان الهندي، وهذا الرفض يوحي بأن
الحكومة الهندية تريد إرسال إشارة إلى الأحزاب الكشميرية أن الحكم الذاتي هو
أقصى ما يمكن قبوله، وأن دور حزب المؤتمر القومي في إدارة كشمير قد شارف
على الانتهاء.
وأخيراً كانت ردة الفعل الثانية أو الخطوة الثالثة ألا وهي إعلان حزب
المجاهدين - وهو أكبر الأحزاب في كشمير - على لسان قائده الميداني في
سرينجر وتبعه إعلان القيادة في باكستان هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر، وكان هذا
الأمر مفاجأة للأحزاب الأخرى خاصةً أعضاء مجلس الجهاد الموحد الذين أعلنوا
رفضهم هذه الهدنة، وأصدروا بياناً فيما يلي نصه:
«يعلن مجلس الجهاد الموحد بعد البيان الذي أعلنه حزب المجاهدين بكشمير
المحتلة (عبد المجيد دار) وباكستان (سعيد صلاح الدين) أن إعلان الهدنة ووقف
القتال ضد قوات الاحتلال الهندية أو إجراء مفاوضات معها في هذا الوقت هي
قرارات مرفوضة وغير مقبولة، وأن الجهاد سيتواصل حتى تحرير كشمير؛ لأن
الهند أكدت في كل مناسبة رفضها وقف مظالمها واعتداءاتها على السكان المحليين،
كما أن الهند لا تسعى سوى إلى بث الفرقة بين القادة العسكريين والسياسيين داخل
كشمير، ولا يهمها سوى مصالحها. ولقد حاولت عبر فاروق عبد الله أن تقنع
الكشميريين بحيلة الحكم الذاتي وستحاول حيلاً مماثلةً مع أشخاص آخرين» .
إن الانفراد بالهدنة والتفاوض سقطة وقع فيها حزب المجاهدين، وكما هو
متوقع فقد أيدت أمريكا وفرنسا الهدنة، وأرسلت الهند مفاوضين إلى سرينجر،
وبينما تبرأت باكستان من الإعلان وأنها لا تعترف سوى بتجمع أحزاب الحرية
ممثلاً وحيداً للشعب الكشميري فإن إعلان الحزب للهدنة قبل مفاوضات مسبقة مع
الهند وقبل استشارة باكستان أمر مستبعد.
إن أخشى ما نخشاه هو خضوع باكستان للضغوط الأمريكية وقيامها بالضغط
على حزب المجاهدين لإعلان الهدنة وإيقاف العمل الجهادي. لقد كان رد الأحزاب
الأخرى عنيفاً؛ حيث كانت تجري مفاوضات الحزب مع الهنود تحت ضغط
عمليات عنيفة متوالية مع هجوم إعلامي كثيف ضد الهدنة مما دفع الحزب وخوفاً
من فقدان قواعده إلى إعلان إيقاف الهدنة واستئناف العمليات بدعوى رفض الهند
مشاركة باكستان في المفاوضات ومن أجل تسويغ الهدنة وأن الحل لا يمكن إلا
بتدخل باكستاني مباشر وهو ما يصعب تصوره عملياً؛ فقد صرح رئيس الحزب
سيد صلاح الدين لهيئة الإذاعة البريطانية أن الوقت قد حان لِتُقْدِمَ باكستان على
المخاطرة. وأكد صلاح أن جماعته تحث القيادة العسكرية على الإقدام على تدخل
عسكري مباشر لتقديم الدعم لها حتى تتم تسوية النزاع بشكل نهائي. إن تنازل الهند
وإقدامها على التفاوض يجب أن يستثمر بموقف موحد من قِبَل الأحزاب الكشميرية،
وألا يكون وسيلةً رخيصةً للتفريق بينهم، ومن ثم التخلص منهم جميعاً! إن
مسارعة المجموعات المختلفة إلى قبول الحوار بدون تنسيق يدل على قصر نظر
سياسي أو على أقل تقدير يوحي بضغوط غير مرئية تمارس على الأحزاب المختلفة.
إن قدرة المجاهدين على دخول المدن والقيام بعمليات كثيرة ومهاجمة مقرات
القيادة الهندية يدل على قدرات عسكرية متميزة يجب استثمارها في خنق القوات
الهندية وقطع خطوط تموينها وجعل حركتها مكلفةً جداً، وعدم الدخول في مواجهات
مكلفة. إن الجهاد في كشمير وعمليات نصب الكمائن وتدمير القوافل المتحركة
سيجعل بقاء القوات الهندية وتمويل 000، 600 جندي أمراً غير محتمل.
لماذا نوقف الجهاد عندما بدأ يؤتي ثماره التي يجب أن تتجاوز مصالح حزب
معين أو قيادة معينة؟ إن ثمن وقف الجهاد يجب أن تدفعه الهند بالخروج من كشمير
لا أن يدفعه المجاهدون خلافاً فوق خلاف وفرقة فوق الفرقة. إن كثرة أسماء
الأحزاب وتشابهها ليس ظاهرةً صحيةً، وإن بداية الحل تكمن في دمج الأحزاب
المستقيمة على المنهج في اسم واحد ليس تحته أسماء.
وليكن شعارنا قوله - تعالى -: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا]
(آل عمران: 103) .(155/106)
المسلمون والعالم
النزاع الإثيوبي الإرتيري
الأسباب والتداعيات والتطورات المحتملة
سعيد إسماعيل صابر
أولاً: الأسباب والآراء المتباينة حوله:
النزاع الذي انفجر بين النظامين في مايو 1998م ظل لغزاً محيراً حتى الآن،
وسيظل كذلك حتى يفصح أحد النظامين أو كلاهما عن الأسباب الحقيقية وراء
النزاع الذي تطور إلى حرب ضارية؛ وذلك نظراً لتاريخ العلاقة الحميمة بين
النظامين والتحالف الاستراتيجي الذي كان قائماً بينهما خلال فترة النضال المسلح
الذي امتد لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهو ما يصعب معه تصديق حدوث النزاع
المسلح بينهما بصورة مفاجئة ولأسباب يمكن اعتبارها غير ذات أهمية!
إنَّ مسؤولي النظامين - كلاًّ على حدة - تناول موضوع الحرب الدائرة بينهما
في مؤتمراتهم الصحفية والتلفزيونية، واتهم كل منهما الآخر ببدء الحرب وتناول
أسبابها من الزاوية التي تخدم مصلحة نظامه وتسوِّغ موقفه لخوض غمارها.
وقد اتهم النظام الإثيوبي نظام أفورقي ببدء الحرب وتحويل النزاع من نزاع
اقتصادي إلى نزاع حدودي، وقال: إنَّ النزاع بدأ في الحقيقة مع ممارسات النظام
الإرتيري للتهريب والغش التجاري الذي يتعارض مع ضوابط الاتفاقية الاقتصادية
التي كانت بيننا، ثم تطور الأمر بعد ذلك مع إصدار العملة الإرتيرية [نقفة] حيث
طلب منا النظام الإرتيري اعتبار، الـ (نقفة) عملة موازية لعملتنا (البِرّ) ونحن
رفضنا هذا الطلب بحكم تعارضه مع مصلحة بلادنا، وقررنا أن يكون التعامل
التجاري بيننا على أساس خطاب الاعتماد وبالعملة الصعبة ابتداءً من 19/11/
1997م، إلا أن نظام أفورقي رفض القرار، وواصل أساليب التلاعب وتهريب
السلع الإثيوبية وخصوصاً البن إلى إرتيريا وإعادة تصديره إلى دول إفريقية على
أنه سلعةٌ إرتيرية، كما واصلت شبكاته الخاصة ترويج دولارات مزيفة داخل
إثيوبيا، مما اضطرنا إلى إلغاء التسهيلات التجارية التي كانت تمنح لهم، وأوقفنا
صادراتنا من بن وشطة وبهارات وحتى حبوب الطاف إلى إرتيريا.
ومن جهة أخرى فإن النظام الإرتيري يقول: إن النزاع نشأ بسبب رغبة
النظام الإثيوبي في ضم إرتيريا إلى كيانه السياسي من جديد، واتهم إثيوبيا بمحاولة
احتلال بادِمِّي واقتطاعها من الوطن بدايةً لاحتلالها وإعادة السيطرة الاستعمارية
عليها.
هناك بعض الدراسات التي تناولت النزاع المذكور أكدت اتهامات إثيوبيا
لنظام أفورقي ببدء الحرب وتحويل النزاع إلى نزاع حدودي وممارسات التهريب
وترويج الدولارات المزيفة، كما أن بعض الصحف العربية والأوروبية أشارت
أيضاً إلى حدوث ذلك. ومن الدراسات التي ذكرت ذلك دراسة بعنوان: (النزاع
الإثيوبي الإرتيري) صدرت العام الماضي 1999م من «مركز الدراسات
الاستراتيجية» بالخرطوم؛ حيث تناول فيها عدد من المفكرين وخبراء بأوضاع
المنطقة موضوع النزاع والأسباب التي أدت إلى وقوعه استناداً إلى المعلومات التي
لديهم بهذا الشأن.
هل هناك دوافع أجنبية وراء النزاع؟
وإذا تركنا جانباً ادعاءات النظامين حول أسباب النزاع هناك فإن بعضاً من
المراقبين أو المهتمين بشؤون المنطقة يتحدثون عن النزاع وأسبابه بصورة مغايرة؛
وبعض منهم يدعي أنه نزاع دبره النظام الإثيوبي بتشجيع من أمريكا من خلال
وضع خطة لتضييق الخناق على نظام أفورقي اقتصادياً حتى يُدفَع دفعاً لتفجير
النزاع؛ وذلك لتحقيق هذه الأهداف في نهاية الأمر:
- تحجيم غلو النظام الإرتيري أو الحد من غرور رئيسه.
- أو استبداله بقيادة أخرى من داخل نظامه تكون أكثر واقعيةً وانفتاحاً على
الصعيدين الداخلي والخارجي، وأكثر ارتباطاً وتفاهماً مع إثيوبيا. ويضيف هؤلاء:
إلا أن أمريكا مع عدم ارتياحها لنظام أفورقي لا تقبل فكرة إسقاط النظام برمته
رغم قبول نظام زيناوي بها؛ وذلك خوفاً من البديل المحتمل؛ حيث تقول: إن
البديل سيكون أسوأ؛ وذلك لأن قوى المعارضة الإرتيرية التي من المحتمل أن تحل
محل النظام في حالة سقوطه ستكون من الذين يتبنون أفكار القومية العربية أو
الإسلامية في حين أن التجمعات السياسية التي تراهن عليها إثيوبيا لتحل محل نظام
أفورقي ليست من القوة والنفوذ السياسي لتقيم السلطة البديلة وحدها.
وهناك مقولة يرددها الحادبون أو المشفقون على أحوال المسلمين في إرتيريا
مفادها أن الحرب بين الطرفين حرب متفق عليها بين النظامين بهدف إبادة المسلمين
الإرتيريين وتشريدهم إلى خارج الوطن لتبقى إرتيريا وطناً خاصاً للمسيحيين من
البلدين، ولتأكيد ذلك يقولون: لقد لجأ عدد كبير من المسلمين الإرتيريين إلى
السودان من جراء هذه الحرب، كما أن عدد ضحاياهم في جبهات القتال يفوق
بكثير عدد ضحايا النصارى الإرتيريين؛ إلا أن هذا هو مجرد تخمين لا يستند إلى
أي بيانات إحصائية رسمية كانت أو غير رسمية.
الأسباب الحقيقية وراء النزاع:
أمَّا أنا فأميل إلى القول بأنَّ أحد الطرفين تعمد افتعال الحرب بدون تحريض
خارجي؛ نظراً لاعتقاده بأنَّ تنفيذ مثل هذا السيناريو سوف يحسم له مشاكله
وخلافاته مع الطرف الآخر، أو يحقق له أهدافاً أخرى. وفيما يلي أسوق الأسباب
التي تدعوني لتصور بدء النزاع على هذا النحو:
1 - التشابه في طبيعة النظامين من حيث تأثرهما بموروثات الفكر الشيوعي
فيما يتعلق بالسلطة وأهمية المحافظة عليها والتشبث بها.
2 - التشابه في التحديات وفي طبيعة واتجاهات المعارضة التي واجهت
النظامين قبل حدوث النزاع بينهم في مايو 1998م.
إنَّ النظامين الإرتيري والإثيوبي هما من الأنظمة الاستبدادية ذات الخلفية
الماركسية، وإن كان هناك اختلاف بينهما حيث يعتبر (نظام زيناوي) إلى حدٍّ مَّا
نظاماً ديمقراطياً بسبب موقفه من قضايا القوميات ولإتاحته بعض الحقوق
الديمقراطية في بلاده بالمقارنة مع (نظام أفورقي) الطائفي الذي يضرب به المثل
في ممارسة الطغيان ومعاداته للإسلام وهضمه حقوق المسلمين؛ فضلاً عن أنهما
يعتبران السلطة إنجازاً استراتيجياً هاماً ينبغي فعل أي شيء للمحافظة عليه
والتشبث به.
إن التحديات واتجاهات المعارضة وحجمها التي واجهت كلاً منهما قبل وبعد
تسلمهما الحكم فيها الكثير من التشابه أيضاً.
على الصعيد الإثيوبي: كانت هناك معارضة شديدة من الأحزاب التي تنتمي
إلى قومية الأمهرا والأرومو مثل (الحزب الثوري لتحرير الشعوب الإثيوبية
وحزب الميسون) لفكرة منح الشعب الإرتيري حق تقرير المصير، وبعد تسلم
زيناوي السلطة في إثيوبيا فإن أحزاب المعارضة سالفة الذكر بالإضافة إلى تيارات
أخرى كانت متحالفة مع منغستو أعلنت رفضها القاطع للتحالف الاستراتيجي الذي
كان قائماً بين جبهة زيناوي وجبهة أفورقي والذي تطور عبر 20 عاماً من النضال
المشترك خوفاً من أن يصل كلاهما إلى السلطة، ومن ثم إحكام سيطرة قومية
تقراي على إثيوبيا؛ ومع هذا فقد توقفت معارضة هؤلاء لنظام زيناوي بعد انفجار
النزاع بين النظامين في شهر مايو 1998م لأسباب قد تكون تكتيكية.
على الصعيد الإرتيري: كانت المعارضة للتحالف المذكور في نهاية
الثمانينيات كبيرة وفعالة من حيث الحجم والتأثير نظراً لما كان يمثله التحالف من
خطورة على مصالح المسلمين وحقوقهم، وعلى مصالح القوى الوطنية الأخرى
خصوصاً بعد التدخل السافر لجبهة زيناوي في الصراعات الداخلية للثورة لصالح
جبهة أفورقي ضد (جبهة التحرير الإرتيرية) خلال الفترة الواقعة بين 1980 -
1981م وبسبب المخاوف التي كانت تحوم حول ذلك التحالف من أن تتمخض عنه
دولة كونفدرالية تضم حكومة الجبهتين تكون نواة لدولة أكسوم الصليبية الكبرى
وذلك نظراً لانتماء العناصر الرئيسة المتنفذة في قيادة الجبهتين إلى قومية واحدة هي
قومية التقراي.
وإذا أضفنا إلى ما سبق ذكره الانعكاسات السلبية الخطيرة للنزاع الذي بدأ بين
النظامين في عام 1997م والذي أخذ في مراحله الأولى شكل الإجراءات
والإجراءات المضادة في المجالات الاقتصادية والأمنية، ومنع إثيوبيا من استخدام
ميناء عصب؛ حيث أدى إلى عرقلة انسياب التجارة الإثيوبية عبر ذلك الميناء،
ومن ثم إلى تطور النزاع بصورة دراماتيكية إلى نزاع حدودي في مثل (بادِمِّي) ،
يتأكد لنا بأن الطرف الذي افتعل الحرب أو الذي بدأ بها هو نظام أفورقي؛ لأنه
تصور - نتيجة للطبيعة التآمرية في تفكيره - أن اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب
سيساعده قطعاً على الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي وقع فيه نظامه،
ومن ثَمَّ لسحب البساط من قوى المعارضة التي تتربص به فضلاً عن حسم المشاكل
الأمنية والاقتصادية التي بينه وبين إثيوبيا لصالحه.
إن نظام أفورقي نظراً لنزعته المفرطة في المغامرة ولسوابقه المشهودة في
هذا المضمار فإن إقدامه على تلك الخطوة ليس غريباً؛ إلا أن هذا لا يعني
بالضرورة أن نظام زيناوي الذي تعاطى مع تلك الخطوة وعمل على تأجيجها ثم
توظيفها لأقصى درجة من أجل تحقيق أهدافه أو لدرء المخاطر التي كانت تهدد
نظامه ليس في حاجة إلى افتعال الحرب، أو لم تكن في نيته اللجوء إلى مثل ذلك
الأسلوب وإن لم يكن على درجة نظام أفورقي نفسها من الاستعداد للمغامرة؛ وذلك
لأنه هو الآخر كان في حاجة لتلك الوسيلة للتخلص من الضغوطات التي كان
يتعرض لها قبل انفجار النزاع، وإن اختيار 12 مايو 1998م لتفجير النزاع
المسلح في منطقة (بادِمِّي) من جانب نظام أفورقي قبل الاحتفال بالذكرى الخامسة
للاستقلال بأيام قليلة فقط واختيار 12 مايو 2000م لتفجير الجولة الثالثة من الحرب
من جانب نظام زيناوي قبل يومين فقط من إجراء الانتخابات البرلمانية الإثيوبية
ليس عبثاً؛ كما أنه لم يكن مجرد مصادفة بل هو دليل إن لم يكن قطعياً فهو ظني
لما ذهبت إليه من تبادل افتعال أحد الطرفين للنزاع، واختيار توقيت تفجير
المعارك في كل جولة من جولات تلك الحرب.
تداعيات الحرب المحتملة:
لقد أفرزت الجولة الأخيرة من الحرب تداعيات خطيرة على الصعيدين
الداخلي والخارجي أُوجِزها في الآتي:
على الصعيد الداخلي:
1 - انهيار جزئي في جيش النظام الإرتيري، واستسلام الآلاف منهم لجيش
النظام الإثيوبي، ولجوء آلاف آخرين إلى السودان.
2 - نزوح عشرات الآلاف من المواطنين الإرتيريين إلى داخل السودان
خصوصاً من المناطق الغربية لإرتيريا. والجدير بالذكر أن أعداداً كبيرة من هؤلاء
هم من أبناء النصارى الإرتيريين الذين نزحوا خلال الأعوام السابقة إلى مناطق
المسلمين ذات الأراضي الزراعية الخصبة في القاش وبركة وفي غيرها من
مناطق الساحل للاستثمار والإقامة فيها؛ وذلك في إطار خطة استيطانية واسعة
تمولها جمعيات ومؤسسات مشبوهة؛ وتشرف على تنفيذها حكومة أفورقي في غفلة
من أصحابها الحقيقيين الذين حُرِمُوا من ملكيتها بموجب قانون إعادة ملكية الأراضي
للدولة.
3- إخفاق قوى المعارضة الإرتيرية الممثلة في (التجمع الوطني الإرتيري)
في استثمار نتائج النزاع وانهيار جيش أفورقي في عدد من المناطق، وفي التعامل
مع تطورات الأحداث في الجولة الأخيرة من المواجهة العسكرية بين النظامين
برؤية موحدة وبالتنسيق المطلوب.
على الصعيد الخارجي:
1 - تأكيد عُزلة نظام أفورقي الطائفي محلياً وإقليمياً ودولياً وتفضيل القوى
الصليبية العالمية بقيادة أمريكا والدول المتنفذة في الاتحاد الأوروبي إثيوبيا؛ بدليل
الضغوطات الأمريكية المكثفة التي كانت وراء قبول نظام أفورقي لاتفاق السلام
الأخير في الجزائر بما في ذلك الموافقة على منح إثيوبيا منفذاً على البحر وممراً
حراً إلى هذا المنفذ. جاء هذا في تصريح لمسؤول إرتيري خصَّ به جريدة البيان
الإماراتية الصادرة في 4/7/2000م.
2 - عدم إظهار الحكومات العربية الاهتمام الكافي بتطورات هذا النزاع
وتداعياته المحتملة على المنطقة العربية وخصوصاً على دول حوض البحر الأحمر
ودول واقعة في منطقة القرن الأفريقي.
3 - بروز اهتمام أمريكي أوروبي متزايد لتطورات الوضع في منطقة القرن
الإفريقي والنزاع بين البلدين ودورهما الحاسم في وقف إطلاق النار، وتوقيع
اتفاقية السلام.
4- وضوح الدور الروسي في مجال المجهود الحربي الأثيوبي سواء في
مجال التسليح أو في مجال التخطيط العسكري وإدارة العمليات.
5- تحطم جزء مهم من حلقة الحصار حول السودان باقتتال الحلفاء
المفترضين بالإضافة إلى فقدان المعارضة السودانية لقواعدها مؤقتاً في إرتيريا
نتيجةً لظروف الحرب وانقطاع التموين.
ثالثاً: التطورات المحتملة:
لقد تَوقعْتُ في دراسة صدرت لي من (مركز الدراسات والبحوث الإرتيرية)
في شهر مايو المنصرم أن يتضمن سيناريو الحل السلمي المتوقع من مفاوضات
الجزائر إقرار نظام أفورقي بملكية إثيوبيا للمناطق المتنازع عليها ضمن شروط
وقف إطلاق النار، وقد حققت إثيوبيا ما أرادت من خلال انتصارها العسكري.
واتفاقية الجزائر لوقف إطلاق النار لم تطالب إثيوبيا صراحةً للخروج من تلك
المناطق بل على العكس من ذلك فإن الاتفاقية ركزت على إحلال قوات حفظ السلام
محل القوات الإثيوبية في مناطق غير متنازع عليها داخل الأراضي الإرتيرية بعمق
25 كيلو متراً كما توقَعْتُ مطالبة إثيوبيا بقوة للمنفذ البحري في المفاوضات، وقد
حدث ذلك بالفعل وتضمنت الاتفاقية منح إثيوبيا منفذاً على البحر حسب ما أشرت
إليه في الفقرة السابقة.
وفي هذه المرحلة فإن هشاشة وقف إطلاق النار في مناطق الاحتكاك بين
قوات الطرفين، وما تضمنته اتفاقية الحل السلمي الموقعة في الجزائر من فقرات
وبنود غامضة تفتقر إلى التحديد في الكثير من موضوعات النزاع مثل: المناطق
المتنازع عليها، والمناطق العازلة داخل الأراضي الإرتيرية بعمق 25 كيلو متراً
التي تحتلها الآن القوات الإثيوبية، وأخيراً موضوع منح المنفذ البحري لإثيوبيا،
والموافقة المزعومة لنظام أفورقي على كل ذلك كل هذه التطورات تمثل ألغاماً
مزروعةً قد تنفجر في أي لحظة خصوصاً مع استمرار وجود حشود قوات الجانبين
في مناطق الاحتكاك، واستمرار حالة التوتر والاحتقان وانعدام الثقة بين الطرفين؛
وذلك رغم ما يقال عن بدء اللجان والخبراء الدوليين عملهم للوقوف على حقيقة
الأوضاع في المناطق المتنازع عليها.
ولو تطور النزاع، وبدأت الحرب بين الطرفين من جديد على خلفية
المعلومات المذكورة أعلاه فإن من المحتمل أن يسعى النظام الإثيوبي جدياً هذه المرة
لإسقاط النظام الإرتيري. وإذا أضفنا إلى التطورات الأمنية الراهنة في مناطق
الاحتكاك دعوة النظام الإثيوبي مجدداً لقوى المعارضة الإرتيرية لزيارة العاصمة
أديس أبابا في هذا الوقت بالذات لتأكد ذلك الاحتمال؛ خصوصاً إذا كانت الدعوة
بغرض التباحث حول احتمالات التطورات المقبلة؛ وذلك لأن النظام الإثيوبي حتى
الآن حقق مكاسب أكثر مما كان يطالب به ويتوقعه، والمشكلة الباقية بالنسبة له
الآن هي صعوبة التعايش مع نظام أفورقي المعروف بنزعات الغدر والمغامرة بعد
حرب استمرت لأكثر من ثلاثة أعوام، ومن ثم المحافظة على ما استرده من حقوق
مزعومة له، أو ما حققه من مكاسب سياسية وأمنية بصرف النظر عن صحة
دعاويه أو عدم صحتها في هذا الصدد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(155/110)
المسلمون والعالم
دعوة الوثنيين في مالي
المنتدى الإسلامي مكتب مالي
لمحة تاريخية:
الدولة التي تعرف اليوم بـ (جمهورية مالي) تقع ضمن أراضي دولة مالي
الإسلامية التي قامت وتأسست من قِبَل قبائل المانديجو بين المحيط الأطلسي غرباً
ونهر النيجر شرقاً وجنوباً وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.
دولة مالي اليوم:
استقلت هذه الدولة عن فرنسا يوم الخميس 22/9/1960م وهي دولة كبيرة
مترامية الأطراف مختلفة في التضاريس؛ حيث تبلغ مساحتها 1,240,000 كم2،
وعدد سكانها حوالي 9,400,000 نسمة، ولها موقع جغرافي استراتيجي؛ حيث
كانت حلقة الوصل بين غرب إفريقيا وشمالها عبر الصحراء في التجارة.
ونسبة المسلمين فيها حوالي 80% بينما يبلغ عدد النصارى 15% والوثنيين
5%. والدولة يوجد بها أراضٍ واسعة صالحة للزراعة والرعي وتربية المواشي،
وهي تحتل المركز الثاني في إنتاج القطن على مستوى القارة بعد جمهورية مصر
العربية. ولكن هذه الطاقة الطبيعية لم تستغل إلا قليلاً؛ فالدولة تعاني من المشاكل
الاقتصادية وتصاعد الديون الخارجية عليها، وتحتل المرتبة ما قبل الأخيرة من
حيث سلم التعليم على مستوى العالم، ويعيش أغلبية الناس في فقر مدقع.
وتنقسم الدولة إدارياً إلى ثمانية أقاليم هي:
كاي، كولوكورو، سيكاسو، سيقو، موبتي، تمبكتو، غاو، كيدال،
بالإضافة إلى دائرة العاصمة باماكو.
ويتألف المجتمع المالي من أجناس وقبائل منها:
البمبارا، السونكي، الفولانية، السينفو، مينقا، الدجون، بوبو، البوزو،
السونغي، الطوارق، وغيرهم.
مواطن الوثنيين في مالي:
الوثنية تنتشر في مجموعة من الأجناس البشرية في مالي كالبمبارا في منطقة
كولوكاني، بيلدوقو، وهي المنطقة الواقعة بين كيتا وباماكو جنوباً ونيورون
وناران شمالاً. والقرى التي أسلمت على يد دعاة المنتدى الإسلامي قريباً جزء
من هذه المنطقة.
وكذلك في منطقة سيقو يوجد بعض قبائل البمبارا الذين ما زالوا يدينون
بالوثنية وخاصة في بعض القرى الواقعة بين ماركالا، وكولو كانكوانتومو وهي
المعروفة بـ (سنة) كقرية جونغون وكوابوغو.
أما القبائل البوبو والسينفو ومينقا فيقطنون في المناطق الشرقية لـ (سيقو)
وخاصة بين مدينة بلا وكوتييلا وسان وحدود مالي المتاخمة لدولة بوركينا فاسو.
ثم نتوجه في شرق البلاد فنجد مجتمع الدجون على مرتفعات الدجون في
منطقة بنجاغارا وخاصة سنقو وكماديقلي والقرى التابعة لهما، كما أن للوثنيين
وجوداً في منطقة واسولون وبوغوني والحدود المتاخمة لدولة ساحل العاج.
أهمية دعوة الوثنيين:
الوثنية أحد الأديان الثلاثة المنتشرة في مالي (الإسلام، والنصرانية،
والوثنية) .
والوثنية في الحقيقة نوعان:
1 - الوثنية في لباسها القديم: هم عبدة الأصنام والأوثان، وقد وجهت
دعوات إسلامية وغيرها إلى هؤلاء الوثنيين في عقر بيوتهم منذ فترة طويلة، ولا
يزال بعضهم على وثنيته إلى الآن، وأسلم بعضهم إسلاماً يشوبه شيء من العادات
الوثنية كالحفلات السنوية للأصنام والتمائم. وأهم وجه للديانة عند الوثنيين هو
الاعتقاد بوجود قوة خفية غامضة تسيِّر حياة البشر، وهذه القوة قد تحل في الكائنات
البشرية أو الحيوانات أو الأشياء.
ومن عادة الوثنيين أيضاً تقديم القرابين إلى الآلهة والأرواح في المناسبات
المختلفة، وتتمثل هذه القرابين عادةً في مقادير معينة من الحبوب أو الثمار، أو في
كميات محدودة من الطعام أو في رأس أو أكثر من الماعز أو الغنم أو الماشية.
ومنهم مَنْ لا يكتفي بهذه الأنواع من القرابين بل تقاليده تسمح بتقديم قرابين بشرية.
ومن الأمثلة على المجتمعات التي تجري تقاليدها بتقديم قرابين بشرية البمبارا فعندما
تمر بالقرية أحداث خطيرة يُختار أحد الأشخاص وفي الغالب يكون شخصاً أشقر
اللون لتقديمه قرباناً. وكانت طريقة التضحية تختلف تبعاً للظروف؛ فإذا تعلق
الأمر بقضية مصيرية للقرية كان الشخص يشطر إلى شطرين ويُلقى شطره الأسفل
إلى المعبود، أما الجزء العلوي فيدفن.
والحمد لله؛ فقد بدأت هذه الظاهرة تنقرض كثيراً بسبب انتشار الإسلام
والوعي.
ومن ملامح الوثنية المنتشرة بكثرة حتى الآن - مع انتشار الإسلام وحتى في
بعض القرى التي أسلم بعض سكانها أو معظمهم - ما يسمى: «حامية القرية» .
فيعتقد الوثنيون أن أرواح الأسلاف وخاصةً مؤسسي القرى تسكن في أشياء
معينة وخاصةً الحيوانات كالتماسيح والأفاعي أو بعض الحيوانات الأليفة.
ويعتقدون أن رخاء القرية متوقف على بقاء هذه الأشياء، وأن حمايتها واجبة
وفرض عين على كل أهالي القرية، والويل كل الويل لمن تسول له نفسه المساس
بأمن هذا الشيء.
ويهتم المنصرون بهذه الفئة من الوثنيين وتقف معهم جنباً إلى جنب لحل
مشاكلهم الاجتماعية التي لا تخرج عن دائرة الفقر والجهل والمرض فيبنون لهم
الكنائس والمستوصفات، ويحفرون لهم الآبار، ويعطونهم الغذاء والكساء والدواء،
ويعلمونهم مبادئ النصرانية، ويشجعونهم على شرب الخمور وتربية الخنازير على
أن يشتروها منهم؛ وقد يضحي بعضهم بحياته للبقاء معهم فترة من الزمن - ليست
قليلة - للدعوة إلى النصرانية بكل ما يملكه من الوسائل المادية والمعنوية.
يقول البروفيسور كري دمبلي في محاضرة له عن «الفلسفة» الإنسانية
في الشيوعية والإسلام والنصرانية في باماكو: «إن إله المسلمين لا يعرف إلا
تعذيب الناس بالنار، أما إله النصارى فإنه يبشر بالحب والرحمة» .
وقد حقق المنصرون بسبب خططهم، ثم بالعوامل المساعدة من فقر وجهل
حققوا أهدافاً عجيبةً، فارتفعت نسبة النصارى من 3% إلى 15% في غضون
أعوام قصيرة من عمر الزمن؛ فقد ركز المنصِّرون في دعوتهم للوثنيين على أمور:
1 - تحديد الهدف.
2 - الداعية.
3 - المدعو.
وهذا ما صرحوا به خلال مؤتمر سيقو في مالي عام 1987م في محاضرة
للباستير محمد إنجاي بعنوان: ما هي الطرق الناجحة للدعوة إلى النصرانية؟
ولهم وسائل أخرى مؤثرة كإذاعات حرة دينية.
أما المسلمون فمع ما يبذلونه من جهود مباركة إلا أنها قليلة في مقابل الجهود
التنصيرية لأسباب كثيرة منها صعوبة الوصول إلى أماكن تواجد هؤلاء الوثنيين،
وقلة الدعاة في أوساطهم، وقلة المساعدات الإنسانية في مقابل مثيلاتها التنصيرية.
2 - الوثنية المعاصرة: وهؤلاء هم الذين يصرفون أنواع العبادة لأمواتهم،
ويتقربون بها إليهم لكي تشفع لهم عند الله، والطامة الكبرى أن هؤلاء يمثلون
السواد الأعظم ممن ينتمون إلى الإسلام؛ وهذا يتمثل في بناء القباب والمساجد على
أضرحة أموات أوليائهم؛ وسبب تعلقهم بهذا النوع من العبادات شدة الفقر مع غلبة
الجهل وضعف الإيمان، وهذه الفئة متعصبة لمبادئها ومشائخها.
وبعد: فهل الوثنيون السالفون والحاضرون بحاجة إلى دعوة إسلامية صحيحة
في مالي؟
وضع الوثنيين والصعوبات التي تواجه الدعاة في مناطقهم:
منذ بداية السبعينيات والبلاد تمر بمرحلة قاسية عصيبة، وهي كغيرها من
البلاد الواقعة جنوب الصحراء الكبرى؛ فبسبب تتابع الجفاف ومواسم القحط التي
سادت أجزاءً كبيرةً من البلاد وخاصة مناطق الزراعة والمزارعين وهي أكثر
المناطق تأثراً بالوثنية تردت الأوضاع الاقتصادية، وفقدت كميةً كبيرةً من
المحصولات والغلات الزراعية والتربة الصالحة وهي التي تعتمد عليها سكان
القرى اعتماداً كلياً في تسيير الحياة اليومية، وبالإضافة أيضاً إلى بداوة المناطق
وبساطة سكانها كل هذا جعل مناطق الوثنيين أراضي خصبةً لتلقي الدعوة الإسلامية
والإقبال على الدعاة، وخاصةً إذا كانت هذه الدعوة تصاحبها المعونات الإنسانية
التي تسد حاجات الوثنيين. وبالتجربة أعطت هذه المعونات ثماراً يانعةً من إسلام
وثنيين جدد، واستمرار من أسلم على إسلامه على يد دعاة المنتدى الإسلامي في
منطقة كلوكاني «بيلدوقو» .
أما الصعوبات التي تواجه الدعاة في مناطق الوثنيين فتتمثل في عدم توفر
سبل المواصلات إلى بعض الوثنيين كمرتفعات الدجون لوعورة الطريق واتخاذ
بعض الوثنيين سفوح الجبال وداخل الكهوف مساكن لهم مما يكون عائقاً للوصول
إليهم.
ومن العوائق أيضاً: صعوبة التفاهم بين الدعاة والوثنيين في بعض المناطق؛
حيث يجد الداعية حواجز نفسية كتمسك بعض الوثنيين بمعتقداتهم القديمة واعتقادهم
بأن التخلي عن هذه المعتقدات قضية مصيرية وقضية حياة أو موت.
ومن الصعوبات والعوائق أيضاً: تنافس المنصرين مع الدعاة في استغلال
هذا الميدان الخصيب؛ فكثيراً ما يجد الداعية وثنياً يسلم على يديه وبعد فترة ولعدم
المتابعة يتنصر هذا المسلم لظروف الحياة ومغريات المنظمات التنصيرية، فيذهب
عمل الداعية أدراج الرياح، كما أن اللغة قد تشكل حلقة من سلسلة هذه الصعوبات.
فالوسائل التي يجب أن تُتَّبَعَ لكي تثمر دعوة هؤلاء الوثنيين: متابعة من أسلم
منهم متابعةً جادةً مدروسةً ومنظمةً ومرتبةً؛ وذلك بتنفيذ القوافل الدعوية المستمرة
لصعوبة توفير داعية لكل منطقة؛ فالدولة مترامية الأطراف، وهذه القوافل تكون
مزودة بالدعاة والمواد التموينية (الغذائية) والمنشورات باللغات المحلية لما لمسنا
بالتجربة من أثر طيب وناجح لهذه القوافل.
ومن الوسائل أيضاً: إقامة دورات، وإنشاء مراكز محو الأمية، وتنظيم
الجولات الدعوية في مختلف المناطق، وكذلك بناء المساجد في مناطق المسلمين
الجدد لإحياء رسالة المسجد وتنشيطها دعوياً بإلقاء المواعظ، والقيام على حلقات
تحفيظ القرآن من قِبَل الدعاة وفتح المدارس لتعليم أبناء المسلمين مبادئ دينهم.
ومن أهم الوسائل أيضاً: تبني المشاريع الإنسانية الخيرية في مناطق
المسلمين الجدد؛ لأنه السلاح المستخدم من قِبَل المنصرين كبناء المستشفيات وحفر
الآبار وبناء السدود وإنشاء المراكز الإغاثية في المناطق المنكوبة على أن يصاحب
كل هذا برامج دعوية مدروسة جادة هادفة.
طرق دعوة الوثنيين ووسائلها في مالي:
إن دعوة الوثنيين المعاصرين أدت إلى صراعات عنيفة بين السنيين
والصوفيين - ولا زالت وإن كانت قليلةً - وهذا ما يفرض علينا وعلى كل عاقل
ترك الاستفزاز والعصبية مع ضرورة النظر الاعتباري إلى الواقع لمصلحة الدعوة
الإسلامية الصحيحة في مالي، فيا ترى ما هي الطرق والوسائل الكفيلة لذلك؟
أما الطرق الدعوية: فإنها لا تخرج عما يأتي:
أ - أن يكون الوثني قابلاً للحق معترفاً به، لكن عنده نوع من غفلة وتأخر،
وله أهواء وشهوات تصده عن اتباع الحق، وهو الوثني عابد الأصنام والأوثان،
فهذا يُدعَى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل،
ويوجد الآن جهود ومواقف وشواهد للمنتدى الإسلامي وهيئة الإغاثة - حسب
علمنا - في مناطق (سان، وكولوكاني الوثنية) .
ب - أن يكون الوثني معانداً جاحداً، وهو القبوري الذي يعتقد تأثيراً لأوليائه
من أصحاب القبور. فهذا يجادَل بالتي هي أحسن. ويوجد حالياً - حسب علمنا -
للدعاة مواقف وشواهد وجهود دعوية مباركة مع هؤلاء القبوريين.
قال - تعالى -: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .
أما الوسائل الدعوية: فكثيرة جداً، ولكن كلتا الطائفتين الوثنيتين تحتاجان
إلى دعاة من ذوي القدوة الحسنة في العلم والعمل، فاهمين لطبيعة أحوال الوثنيين
وعاداتهم وتقاليدهم، وذلك ليتسنى لهم معرفة المدعوين أولاً، ثم التدرج والأخذ
بأيديهم إلى نور الهداية والإيمان الصحيح ثانياً، وذلك باللين والرفق والتواضع
والتسامح وحسن المعاملة بالزيارات التفقدية، وتكريمهم بالهدايا في المناسبات
وغيرها، ثم غرس الإيمان الصحيح في قلوبهم من خلال البرامج الدعوية المخططة
تخطيطاً حكيماً، كالتعليم ودروس الوعظ ونحوهما، ويمكن الاستعانة بوسائل
الإعلام كلها، وخاصةً التلفزة، والاهتمام بحاجتهم الاجتماعية كبناء المستشفيات
ودور الرعاية الاجتماعية ككفالة الأيتام والعجزة، وبناء المساجد والمدارس، وحفر
الآبار وغير ذلك، والاهتمام بتربيتهم الصحيحة؛ وذلك من خلال تنظيم اللقاءات
العامة والخاصة، من دروس ومؤتمرات ومناقشات ومحاضرات، وتوزيع الكتيبات
والمنشورات المترجمة بالفرنسية، وغيرها، يقوم بها دعاة من ذوي الحكمة البالغة
والسيرة الحسنة في مجال الدعوة، ويكون همهم وجهودهم قاصرة على السعي إلى
هداية الوثنيين وغيرهم ولا يستعجلون النتائج، بل تكون أنشطتهم الدعوية مبنيةً
على خطط مدروسة ومحكمة، ووسائل حية مع الجدية والإتقان في العمل.
والله نسأل التوفيق والسداد على درب الحق.(155/114)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
النية على بيعها! !
على العكس من وجهات نظر الناقدين الذين لم يذهبوا إلى هناك لم تكن قمة
كامب ديفيد غير ناجحة، بل كانت هذه القمة خطوة مهمة وتاريخية للجهود التي
بذلت طيلة 52 عاماً لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وبصفتي أحد المشاركين في
المفاوضات منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام عام 1992م بإمكاني القول بصراحة
ووضوح إن الفلسطينيين والإسرائيليين الآن أقرب من أي وقت مضى من التوصل
إلى اتفاق سلام شامل. وبالحق فإن نهاية الصراع بيننا على مشارف الرؤية،
وأقول هذا من دون التهوين من الفجوات التي لا تزال ماثلةً بين الطرفين بشأن كل
المسائل، ويتوجب علينا الإقرار والتقدير بحقيقة أن الطرفين قدما تنازلات مهمةً،
وتحولا عن مواقفهما الصلبة، أما الاتهامات الموجهة للطرف الفلسطيني من رفضه
تقديم تنازلات فهي تتجاهل الحقيقة والتاريخ.
فأخْذُ الفلسطينيين بالحلول الوسط أمر ليس بالجديد؛ فقد قبلنا من خلال اتفاق
أوسلو عام 1993م بالسيادة الإسرائيلية على 78%من فلسطين التاريخية، وعلى
تأسيس الدولة الفلسطينية فوق 22 في المائة منها فقط.
ولا نزال نعتقد أن القدس ستكون يوماً ما عاصمة للدولتين، خاصةً أن مسألة
القدس نوقشت بجدية وبشكل مفتوح وخلاق لأول مرة في قمة كامب ديفيد.
صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين
جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7925)
لكم الله
موقفنا واضح.. نحن نجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه،
وهذا لا يتم إلا بالاستقلال التام، وأعتقد أنه لا يصح الجهاد إذا كان الهدف منه هو
الحكم الذاتي فقط؛ لأن إعلاء كلمة الله الذي هو الهدف الأساس للجهاد في سبيل الله
لا يتم من خلال الحكم الذاتي، ولم تتغير قناعاتنا، بل ازدادت ولله الحمد،
وازدادت ثقتنا بالله بأن النصر آت لا محالة؛ لأنه وعد من الله الذي لا يخلف الوعد،
وأن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين.
وقد غيَّر الإخوة المجاهدون الاستراتيجية القتالية واتخذوا المواقع الجديدة فوق
الجبال المطلة على جزء من المعسكر الذي وصل إليه العدو، ويقومون بضربات
سريعة قاتلة على جنوده، ويكبدونهم خسائر كبيرةً.
إن في الهزيمة العسكرية المؤقتة دروساً وعظة قد لا نجدها في النصر؛ وفعلاً
لمسنا كثيراً من الإيجابيات بعد الحوادث، ومنها أن المسلمين ازدادوا تحمساً وتأييداً
للجبهة الإسلامية، وكثير من المسلمين الذين لم ينزلوا لميدان المعركة من قبل نزلوا
الآن، وحتى النساء يردن أن ينزلن إلى الميدان.
وتفخر الحكومة الفلبينية بالعمليات الوحشية؛ فالإذاعات المرئية ومحطات
التلفزة الفلبينية تعرض يومياً عمليات النهب والسرقة والحرق والتدمير وعمليات
تمزيق القرآن الكريم، وصب الخمور على أوراقها، وكذلك تدمير المساجد
والمدارس أو تدنيسها بالنجاسات كالخمور والخنازير، يعرضونها على التلفاز لترى
الجماهير أن الجيش الفلبيني تمكن من أداء مهمته. أما المسلمون المشردون فعددهم
حسب إحصاء العدو الجزئي أكثر من ثلاثمائة ألف مشرد؛ والصحيح أنهم مليون
على الأقل.
[سلامات هاشم، رئيس جبهة مورو الإسلامية، مجلة المجتمع، العدد:
(1412) ] .
أي تغير؟ !
تعليقاً على لجوئه إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، عقب مصادقة محكمة
التمييز على قرار السجن الصادر بحقه، قال نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه
المحظور في مؤتمر صحفي: «هناك جهات تسعى في الفترة الأخيرة لإظهاري
شخصاً ينتظر العون والمدد من الغرب، لقد كنا ننتقد الغرب قبل ثلاثين عاماً بسبب
كون الدول الأوروبية كانت تتحرك كاتحاد مسيحي آنذاك، وترفض قبول تركيا بين
صفوفها بدعوى أنها مسلمة، غير أن الغرب تغير أيضاً وبدأ يدافع عن حقوق
الإنسان، ولذا شرعنا بدورنا بمساندة الغرب وحملة الدفاع عن حقوق الإنسان التي
تقودها محافل المثقفين» .
[مجلة المجتمع، العدد: (1412) ]
وهذه حقوق الإنسان!
أجريت دراسة استقصائية لاستطلاع الرأي العالمي حول سؤال: ما أهم شيء
في الحياة؟ وهل يتمتع الإنسان بحقوقه ويمارس الديمقراطية؟ الدراسة نفذها معهد
جالوب الدولي وشملت 75 ألفاً من البالغين في 60 دولة، بتوصية من هيئة الأمم
المتحدة للوقوف على أوضاع سكان العالم، حتى تستطيع الأمم المتحدة تحديث
دورها وتحديد أهدافها في الألفية الثالثة لخدمة البشرية. جاء في الاستقصاء أن
الصحة الجيدة والحياة الأسرية السعيدة والحصول على فرص عمل أهم شيء في
الحياة، وبخصوص حقوق الإنسان فقد أظهر المشاركون في الدراسة عدم ارتياحهم
لمستوى احترام حقوق الإنسان في معظم دول العالم، بينما أعرب أقل من 10%
من المشاركين عن اعتقادهم بأن حقوق الإنسان تحترم، وأن حماية حقوق الإنسان
هي أهم عمل لا بد أن تضطلع به الأمم المتحدة.
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (176) ]
وهذه حقوق الحيوان! !
ثمة مشروع قانون قدم إلى الكونجرس الأمريكي يدعو إلى فرض عقوبات
على الدول التي تنتهك فيها حقوق القطط والكلاب. فتقتلها مثلاً وتستغل جلودها
لتحقيق الأرباح والمكاسب المادية.
ويتبنى المشروع ويقود المعركة لإقراره السناتور وليم روت رئيس اللجنة
المالية في مجلس الشيوخ والنائب جيرالد كليركا في مجلس النواب. والذي أوصل
الموضوع إلى الكونجرس نتائج تحقيقات سرية قامت بها أبرز منظمات الرفق
بالحيوان في الولايات المتحدة؛ إذ بعد تحقيقات طويلة تبين لها بالأدلة القاطعة أن
الصين وتايلاند والفلبين تمارس تجارةً تحقق منها مئات الملايين من الدولارات
سنوياً. تقوم على تربية الكلاب والقطط وذبحها واستخدام جلودها في صناعة
القفازات والحقائب والأحزمة والمعاطف ومقاعد الركاب في السيارات ولعب
الأطفال. وأثبتت التحقيقات أيضاً أن هذه المنتجات بل والجلود نفسها تصدر إلى
الولايات المتحدة تحت أسماء جلود حيوان كالثعلب والذئاب والمينك وغيرها.
وتبين للجنة أن البلدان الثلاثة تقتل سنوياً ما لا يقل عن مليوني كلب وقطة
للتجارة بجلودها وفرائها. وقال النائب كليركا: إنه إذا كانت تلك الدول لا تأبه
بحياة الكلاب والقطط فإنه يجب ألا تجد لبضائعها سوقاً في الولايات المتحدة.
ويجب فرض عقوبات تجارية عليها.
[مجلة المجلة، العدد: (1071) ]
كرامات المظلومين! !
صفقة أسلحة خفيفة تستخدم لمقاومة المتظاهرين تسلمتها دولة عربية أخيراً
تبين أنها غير صالحة للاستخدام؛ حيث ظهر أن قاذفات القنابل المسيلة للدموع لا
تقذف، مما يعني أن القنابل ستنفجر في المكان نفسه الذي يقف فيه مطلقوها.
[مجلة الوسط، العدد: (446) ]
وقذف في قلوبهم الرعب
«إنها الحرب الأبدية التي كتب علينا أن نواجهها هنا في نضالنا على البقاء
وسط هذه البقعة الفظيعة من العالم، من أراد أن يرى دليلاً على الصعوبة التي
تواجهها دولة إسرائيل في مسعاها للبقاء فلينظر إلى ما تقوم به حماس ضدنا» ،
هكذا علق عامي إيلون رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي السابق على قيام الأجهزة
الأمنية التابعة للسلطة بالكشف عن معمل المتفجرات في مدينة نابلس، ويواصل
إيلون تعليقه قائلاً: «يجب ألا يضلل أحد فينا نفسه؛ فنحن نواجه العدو الأشرس
في العالم بأسره، نحن نواجه حركة ترى في حربها ضدنا واجباً مقدساً من الدرجة
الأولى، بإمكاننا نحن والسلطة الفلسطينية أن ندعي أننا قد حققنا الانتصار عليها
بعض الوقت لكن ما هو أكيد أن كل من يعتقد أن الصراع بيننا وبين قوى السلام
في المنطقة ينتهي بحل أمني هو ببساطة مخطئ ومضلل، عليكم أن تتذكروا
المرات العديدة التي أعلنا فيها موت حماس واندثارها من الوجود تماماً، لكن دوماً
كنا نفاجأ بأننا كنا نبالغ في تمنياتنا، هم ببساطة يريدون الخلاص منا للأبد» .
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (346) ]
فضح أهل الفضائح
إن الذين يقومون بالترويج للجنس والاجتراء على مختلف القيم الأخلاقية
يحتجون بمقولتين أساسيتين: الأولى: ترفع شعار المصارحة والمكاشفة، وتنادي
بالحرية المطلقة وإحياء شعار: (لا محظور في الصحافة) . المقولة الثانية:
تستشهد بأن الكلام في الجنس (والبوح) بتفاصيله ليس أمراً جديداً على الثقافة
الإسلامية التي حفلت على مدار تاريخها بألوان مماثلة من المعالجات، خاضت في
كل شيء ولم تخف أي شيء. لي تعليق على هاتين المقولتين ألخصه فيما يلي:
صحيح أن المصارحة والمكاشفة مطلوبة في كل شيء، لكن السؤال هو: كيف؟
وفي أي سياق؟ ومن على أي منبر؟ وبأي هدف؟ ومن أي طرف؟ ذلك أن
البوح بهدف البوح وعلى صفحات الصحف السيارة قد يمثل دروساً في الانحراف
وسبيلاً إلى إشاعة الفاحشة بين الناس، ثم إنه ليس صحيحاً أنه لا يوجد محظور لا
في الصحافة ولا في أي مجال آخر، حيث تظل هناك خطوط حمراء يتعين
احترامها، وتتمثل في ثوابت المجتمع وقيمه الأساسية، ومن أسف أن الذين
يرفعون ذلك الشعار في عالمنا العربي يسوِّغون به الجرأة على القيم الأخلاقية
والدينية، لكنهم يلتزمون منتهى الحذر حين يخوضون في المسائل السياسية. ثم إن
الثقافة الإسلامية حفلت بكتابات خاضت في الجنس وغيره من الأمور الحساسة
أخلاقياً واجتماعياً؛ لكننا ينبغي ألا ننسى أن كتابات تلك الأزمنة لم تكن في متناول
العامة، حيث كان الوراقون ينسخون الكتب ويوزعونها على دوائر محدودة، بينما
تكفلت الطباعة في زماننا بالترويج واسع النطاق لأي كلام مكتوب، والقدر المتيقن
أن الذين كانوا يتصدون لمثل تلك الأمور لم يكونوا يقصدون الإثارة أو الترويج
لبضاعتهم، وإنما كانوا يخوضون فيها لأسباب تتعلق بتعميق المدارك والدعوة
للاعتبار، وتلك ملابسات تختلف تماماً عن تلك التي نواجهها في زماننا. لذا لزم
التحذير والتنويه والله أعلم!
[فهمي هويدي، مجلة المجلة، العدد: (108) ]
وإذا أصبحتم أغلبية!
غربان مجلس الأمة الحالي لديهم نظام ديمقراطي قائم على أن الناس أحرار
في اختياراتهم، وأن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأن الناس يخضعون
بشكل عام لنظام الدستور والإيمان بكل ما فيه، ومع هذا فقد قيدوا الحرية بحجة
حماية الثوابت، واستلبوا حقوق الآخرين بحجة تثبيت العادات والتقاليد،
واضطهدوا الغير بدعوى أنه شذ عن الإجماع أو خالف رأي الأغلبية. كل
مجتمعات العالم تم حكمها بالأغلبية، وكل أحكام الأغلبية هي أحكام استبدادية
تعسفية لأنها لا تأخذ بالاعتبار حقوق الآخرين ومصالح الأقليات. النظام
الديمقراطي هو النظام الوحيد الذي تحكم بموجبه الأمة مجتمعة «الأمة مصدر
السلطات» وتراعي فيه حقوق الأفراد قبل الجماعات، وتقيد فيه قرارات الأغلبية
بمبادئ ديمقراطية راسخة ومواد دستورية واضحة. الأغلبية لا تحكم في النظام
الديمقراطي؛ لأنها مقيدة بحقوق الأقلية، والأكثرية «ليس بيدها شيء» لأنها
محكومة بمبادئ وقواعد دستورية. والنظام هنا في هذه الدولة - ورغماً عن خبراء
التخلف ومدعي الفقه الدستوري، وفقاً للمادة السادسة - «ديمقراطي» السيادة فيه
للأمة وليس لمن ملك الأغلبية وليس للشريعة الإسلامية كما ادعى بعض المتفيقهين
الدستوريين. والدستوريون هنا نسبة إلى الحركة الدستورية يعني الإخوان وليس
إلى الفقه الدستوري، فهل يعي هذه الحقيقة الابتدائية من ينتصر بقصد أو بدونه
لمعاول هدم النظام الديمقراطي في الكويت؟
[الكاتب اليساري الكويتي، عبد اللطيف الدعيج، جريدة القبس، العدد:
(9716)
هناك فرق.. بل فروق! !
1- يشهد معدل الخصوبة في دول المغرب العربي منذ ثلاثين عاماً تراجعاً
متواصلاً يهدد تجدد الأجيال، وفق تقرير أعده المعهد الوطني الفرنسي للسكان.
وقال المعهد في دراسة له، إن تونس حققت المعدل الأدنى الضروري لضمان
سلامة التوزيع الديموغرافي للسكان مع 2، 2 طفل لكل امرأة في 1998م وربما
بلغ المعدل 1، 2 في عام 1999م.
أما في الجزائر فانخفضت معدلات الخصوبة إلى 1، 3 لكل امرأة في
1996 م و1997م.
وقال المعهد إنه إذا استمرت الحال على ما هي عليه فإن معدل الخصوبة في
العام ألفين لن يتجاوز 5، 2 طفل لكل امرأة في المغرب و3، 2 في الجزائر و2
في تونس. وبدأ معدل الخصوبة بالتراجع في هذه الدول في مطلع السبعينيات؛ إذ
كان معدل الخصوبة في الجزائر في مطلع السبعينيات 1، 8 طفل وفي المغرب 7
أطفال لكل امرأة في 1972م. وعلى سبيل المقارنة احتاجت فرنسا قرابة 200
سنة لينخفض معدل الخصوبة فيها من 6 أطفال للمرأة في منتصف القرن 18 إلى
حوالي طفلين لكل امرأة في الثلاثينيات من القرن العشرين. أما الدول المشمولة
بالدراسة فلم تحتج سوى 25 عاماً لذلك! ارتفعت نسبة النساء اللواتي يستخدمن
وسيلة لمنع الحمل من 5% في نهاية الستينيات إلى 31% في 1978 و60% في
1994 - 1995م. وكانت 5% من المغربيات يستخدمن حبوب منع الحمل في
الستينيات مقابل 59% حالياً. أما الجزائر فاتجهت إلى خفض سن الزواج غداة
الاستقلال مما أدى إلى ارتفاع معدل الخصوبة إلى أقصى مستوى في السبعينيات.
إلا أن استخدام حبوب منع الحمل انتقل من 8% في 1970 إلى57% في 1995م.
] جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7919) [
2- أعلنت سلطات سنغافورة أنها ستقدم مكافآت ماليةً للآباء الذين ينجبون
أكثر من طفل، وجاء هذا القرار في محاولة لتقليص تراجع الخصوبة في هذه
الجزيرة الواقعة جنوب شرقي آسيا. ومن المقرر أن تفتح الحكومة في إطار الخطة
الجديدة حساباً مصرفياً خاصاً للأزواج الذين ينجبون طفلهم الثاني أو الثالث، حيث
تقدم لهم مبالغ مالية سنوية إلى أن يصل الطفل عامه السادس وستدفع في هذا الصدد
مبلغ مئتين وواحد وتسعين دولاراً أمريكياً في السنة، إضافةً إلى خمسمائة واثنين
وثمانين دولاراً لدعم مصاريف الأبوين، وستضاعف هذه المكافآت بالنسبة لمن
ينجبون طفلهم الثالث، كما سيسمح للأمهات اللواتي ينجبن طفلهن الثالث بالحصول
على إجازات ولادة، خلاف ما هو معمول به حالياً، حيث تقتصر هذه الإجازة على
الطفلين الأولين، وقال رئيس وزراء سنغافورة إن حكومته ستدفع مبالغ مالية تصل
إلى أحد عشر ألفاً وسبعمائة وخمسة وستين دولاراً أمريكياً لتعويض الدخول التي
تفقدها الأمهات خلال العطلة التي تستمر ثمانية أسابيع.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcaraic.com
(إلف) والمألوف! !
اعترف مسؤول فرنسي أمام المحكمة أن شركة (إلف اكين) النفطية الفرنسية
كانت تقوم عبر شركة فرعية خفية في جنيف اسمها (إلف تريد) بتمويل سري
لمسؤولين ورؤساء حكومات وجمهوريات إفريقية، بغية إفسادهم وشراء ولائهم.
وتخلى أندريه نارالو المسؤول السابق عن إفريقيا في الشركة عن إدمانه إخفاء
المعلومات وقال: إن عمولاته بلغت 600 مليون فرنك في حسابه الشخصي
الأصلي؛ فيما أشارت مصادر أخرى إلى أن هذه العمولة وصلت إلى 800 مليون
فرنك. ويتم تحويل جزء من هذه المبالغ عن طريق البنك الفرنسي الإفريقي (فيبا)
قبل أن تصب في حسابات رؤساء وزراء وجمهوريات البلدان الأجنبية أي غير
الفرنسية. ويتم استخدام هذه الأموال في استخدام الحرس (المقربين) ومن ضمنهم
فرنسيون من أنصار الزعيم اليميني شارل باسكوا أو في صرفها في البذخ حيث
وصلت مصروفات زوجة رئيس الجابون، ايديث بونجو، إلى 5، 1 مليون فرنك
في اليوم اليوم الواحد. وهكذا يتم الضغط على ميزانيات الدول من أجل....
وتؤكد مصادر موثوقة بأن الجابون كانت هي التي تستعمر فرنسا وليس
العكس في عام 1982م، وكان عمر بونجو، الذي يعتبر صديقاً شخصياً لجاك
شيراك يقوم بتمويل المرشحين من أنصار صديقه الفرنسي.
] جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7376) [
هل لديهم شرف؟ !
في خطوة وصفت بـ «الاستفزازية» وغير المسوَّغة أقدم مجلس الشيوخ
الأمريكي «الكونغرس» على سن مشروع قانون لمكافحة ما سمي بـ «جرائم
الشرف» وصولاً لإقراره ومن ثم البدء في تطبيقه ضمن برامج ضغوطات السياسة
الأمريكية الخارجية على بلدان العالم الثالث وبالذات منها الدول العربية والإسلامية.
واعتبر مراقبون أن سَن الكونغرس الأمريكي لمشروع هذا القانون سابقة لم تحدث
في السياسة الدولية فضلاً عن اعتباره تدخلاً سافراً في خصوصيات الدول العربية
والإسلامية. محللون أفادوا أن مصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع
القرار ورفعه ليصادق عليه من قبل مجلس النواب يعد سابقة خطيرة لم يسجل مثيل
لها في أي من المحافل الدولية، وأضافوا أن الكونغرس الأمريكي سيطلب بعد إقرار
هذا القانون التدخل المباشر في شؤون الدول المعنية تحت مظلة حماية أرواح
الأبرياء من النساء مؤكدين أن الأردن سيكون على رأس هذه الدول حسب ما جاء
في أحد التقارير المتعلقة بهذا الصدد.
] صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (344) [
وهذه أسرتهم! ؟
1- أظهر مسح جديد أجري مؤخراً في شيكاغو الأمريكية أن أكثر من نصف
أطفال الولايات المتحدة يعيشون الآن مع أحد الوالدين، وليس مع الوالدين معاً
نتيجة لتراجع معدلات الطلاق.
] مجلة الكوثر، العدد: (10) [
2- ديك تشيني المرشح نائباً لجورج بوش الابن: سُئل عن موقفه من سياسة
الإدارة الأمريكية الحالية إزاء تجنيد الشواذ جنسياً في الجيش والمعروفة باسم سياسة
(عدم الجهر) التي تغض الطرف عنهم وتتبنى إزاءهم سياسة متسامحة فقال:
(أعتقد أنني سأساند هذه السياسة، وأعتقد أن هذا أفضل الممكن في هذه الظروف) .
وسئل تشيني عن ابنتيه وإحداهما معروفة بشذوذها الجنسي فقال إنه يفخر بابنتيه
وأن الحفاظ على خصوصية حياتهما الشخصية حق يجب عدم المساس به.
] جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7349) [
العمل على أشده
فتحت العاصمة الأسترالية كانبيرا الباب نحو تأسيس إذاعة «نصرانية
أصولية» للبث باتجاه دول شرق وجنوب شرق آسيا، الذي من المعتقد أن يثير
غضب وحساسيات عدد من الدول الآسيوية المسلمة وحتى البوذية والشيوعية التي
ستغطيها دائرة الإذاعة التي تقود حملة التنصير؛ فقد دفعت منظمة «كريستيان
فيزن» البريطانية مبلغاً مالياً لم يعلن مقابل إيجار أقوى محطات البث في منطقة
جنوب المحيط الهادي التي كانت تستخدم سابقاً من قِبَل إذاعة أستراليا بالقرب من
داروين.
وستبث الإذاعة الجديدة برامج دينية وأغاني مسيحية وبرامج صحية وثقافية
وأخرى لم تحدد، وتؤكد الجماعة النصرانية الإنجيلية أن إذاعتها التي ستكون باسم:
«إذاعة الصوت المسيحي» لن تكون سياسية التوجه والمضمون، لكن المنتقدين
لها من الأستراليين يعتقدون أن مضمونها الديني سيزعج الدول الآسيوية التي
سيستمع سكانها لبرامجها عبر أجهزة محطة «كوكس بينونسيلا» . وتغطي
المحطة معظم مناطق الصين وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند والدول الأخرى
المجاورة من أقصى الصين وكوريا شرقاً إلى الهند غرباً. لكن الصين وإندونيسيا
هما هدف المحطة الأول: وكلاهما يتعرض لحملتي تغريب وتنصير شديدتين منذ
عقود، وكانت الصين تحاول دائماً الضغط على كانبيرا من أجل عدم بث إذاعة
دينية موجهة لسكانها من أراضيها في السنوات الماضية.
وتقول المنظمة النصرانية المؤسسة ضمن أهداف بث الإذاعة: إنها تهدف
إلى «تعريف الناس بالمسيح، ونشجع من يؤمن به ويقبله ابناً للرب ليصبحوا
مؤمنين حقيقيين بربهم. وقد تأسست هذه المنظمة المتخصصة بأنشطة التنصير
عبر وسائل الإعلام عام 1988 وتصف نفسها بالقول: نحن شركة خيرية أمرها
الرب بإيصال رسالة المسيح عيسى لمليار إنسان عبر استخدام وسائل الإعلام
الحديثة.
] مجلة الإصلاح، العدد: (430) [
لمن كان له قلب
عكست دراسة في بريطانيا الاعتقاد السائد في الغرب بأن التعايش بين رجل
وامرأة بدون زواج يقيهما من منغصات الزواج. وأظهرت الدراسة التي أجرتها
الباحثة الاجتماعية باتريسيا مورغان ونشرتها في كتاب أن الأطفال الذين يولدون
لأبوين غير متزوجين يعانون من مشكلات نفسية وتربوية، ولو كان الأبوان
يعيشان تحت سقف واحد. واتهم الكتاب وعنوانه: (زواج النخبة) المسؤولين
والمنظمات الاجتماعية بالخضوع لمجموعة من البوهيميين والعبثيين الذين
» يروجون لنظرية كاذبة مفادها: أن الزوج لا يعدو كونه ورقة رسمية «.
وضم الكتاب نتائج إحصاءات في مختلف أنحاء العالم دلت على اللذين يعيشان في
ظل» التعايش «يعانيان قدراً أكبر من التوتر والاكتئاب، إضافةً إلى كونهما أكثر
ميلاً إلى الخيانة من اللذيْن يقترنان رسمياً. وانتقد الكتاب وجهة النظر الرسمية القائلة
إن بعض أشكال التعايش أكثر ثباتاً من الزيجات؛ لأنها تنتهي بالإنجاب، مشيراً
إلى أن ثمانية في المئة فقط من أتباع الفئة الأولى ظلوا تحت سقف واحد بعد
إنجابهم طفلهم الأول. ولاحظ الكتاب اتجاهاً حالياً لدى الشباب إلى تفضيل الزواج
على التعايش، مشيراً إلى أنه في السنتين الأخيرتين فضَّل 22 في المئة من
الرجال و 17 في المائة من النساء التعايش في مقابل 45 في المئة من الرجال و51
في المئة من النساء الذين اختاروا الاقتران رسمياً.
] جريدة الحياة، العدد: (13671) [
وفعلتها يا وحيد! !
قال الرئيس الإندونيسي عبد الرحمن وحيد الذي يرأس أكبر دولة إسلامية من
حيث عدد السكان:» إنه يجب أن تكون لإسرائيل سيطرة إدارية على القدس «
ولكنه أبلغ الصحافيين أن السيادة السياسية على المدينة المقدسة يجب أن توكل إلى
هيئة دولية تضم ست دول مجاورة والأمم المتحدة» وتحدث وحيد بعد اجتماع سري
مع شمعون بيريس وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي وقبيل وصول ياسر عرفات
إلى البلاد، وقال وحيد: «إخفاق قمة كامب ديفيد في يوليو الماضي يرجع إلى
حقيقة أنه لم يتم بحث سوى شكل واحد من أشكال السيادة، ولكن إذا قسمنا السيادة
فسيختلف الأمر» وقال وحيد: «من الأفضل أن نفرق بين السيادة الإدارية التي
ستكون في أيدي الإسرائيليين وبين السيادة السياسية التي ستتولاها لجنة تضم سبعة
أعضاء هم: مصر، والأردن، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، وإسرائيل،
والأمم المتحدة» . وقال وحيد: إن «إندونيسيا تفخر بأن تساعد في مسيرة السلام
في الشرق الأوسط» .
وكانت زيارة بيريس لإندونيسيا أول لقاء على هذا المستوى الرفيع بين
البلدين منذ سبع سنوات.
] جريدة الأنباء، العدد: (8711) [
شكراً! !
أعلن عبد الستار خان وزير خارجية باكستان عن اعتزام حكومته اتخاذ
إجراءات صارمة لطرد جماعات الأفغان العرب المقيمين على الأراضي الباكستانية
منذ احتلال الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان. وقال: إن الحكومة الباكستانية لن
تسمح باستخدام أراضيها في أنشطة لتهديد سلامة أراضي الدول العربية الشقيقة أو
زعزعة الاستقرار والسلام فيها.
وقال: إن إسلام آباد تتعرض لضغوط شديدة من حلفائها العرب في منطقة
الشرق الأوسط لتضييق الخناق على الأفغان العرب الذين يشتبه في تدبيرهم
اعتداءات إرهابية ضد بلادهم الأصلية.
واعترف الوزير بأن 25 ألف متشدد من الأفغان العرب الذين خاضوا الحرب
لتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي (1979- 1989م) لم يعودوا إلى
بلادهم ويعيش غالبيتهم في باكستان الآن.
] جريدة الأهرام، العدد: (41524) [.(155/118)
متابعات
التأمين.. وجهة نظر أخرى
د. رفيق يونس المصري [*]
في العدد 148الصادر في ذي الحجة 1420هـ، نشرت مجلتكم الموقرة مقالاً
للدكتور سليمان بن إبراهيم بن ثنيان، بعنوان: «حقيقة شركات التأمين» ، أخذ
فيه برأي الفقهاء المانعين للتأمين، بكل أنواعه، ورأى أنهم هم العلماء الذين يعتد
برأيهم في بلاد المسلمين، كما رأى أن الباحثين الذين قالوا بأن للتأمين إيجابيات
هم - بنظره - ليسوا من أهل العلم. وأورد عدداً من سلبيات التأمين، منها
أن شروطه شروط إذعان تعسفية واستغلالية، وأن شركاته ليس من همها إلا الربح،
وأنها اشترت بالمال ذمم كثير من المستشارين، والمحامين، والأطباء، والخبراء،
وغيرهم من أفراد طاقم التأمين، وأن هذه الشركات تعقد كثيراً من العقود، ولا تفي
إلا بالقليل منها، وأن الكثرة الكاثرة في التأمين هي الجماعة الخاسرة، وأن القلة
القليلة هي الحفنة الرابحة من قادة التأمين في العالم، وأن بلدان العالم فئتان: فئة
مصدرة للتأمين، وفئة مستوردة له، وأن تكلفة التأمين تكلفة عالية، وأنه السبب
في الكثير من الجرائم، كالقتل، والكذب، وأن التأمين فيه ربا، وغرر، وقمار،
وأن شرَّه يغلب خيره، وأنه ليس فيه أي مصلحة اقتصادية، ويغني عنه التأمين
الذاتي، أي إنشاء حساب استثماري لاحتياطي الحوادث ... إلخ.
المعلوم أن الفقهاء المعاصرين على ثلاثة آراء في التأمين: الأول يكتفي
بالتأمين الخيري القائم على الزكوات، والصدقات، الوصايا، والديات، والنذور،
والكفارات، ومن القائلين بهذا الرأي: الدكتور شوكت عليان من الفقهاء، والدكتور
عيسى عبده من الاقتصاديين المسلمين.
والرأي الثاني يجيز التأمين التعاوني دون التجاري، ومن القائلين بهذا الرأي:
الدكتور الصديق الضرير، والأستاذ محمد أبو زهرة، والدكتور حسين حامد
حسان، والدكتور محمد بلتاجي حسن، من الفقهاء.
والرأي الثالث يجيز التأمين التجاري أيضاً، ومن القائلين بهذا الرأي:
الأستاذ مصطفى الزرقا، والأستاذ علي الخفيف من الفقهاء، والدكتور محمد نجاة
الله صديقي من الاقتصاديين المسلمين.
ومما يؤخذ على رأي المانعين للتأمين التعاوني عدم اهتدائهم إلى بعض
النصوص الشرعية، ومن ذلك حديث الأشعريين، وهو أنهم كانوا إذا أرملوا
(فني زادهم وافتقروا) في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان
عندهم في إناء واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية (صحيح البخاري، كتاب
الشركات، وصحيح مسلم، باب فضائل الصحابة) .
إن التأمين الخيري لا يعوض المصاب إلا إذا أصابه فقر، أما التأمين
التعاوني أو التجاري فإنه يعوض المصاب، ولو لم يصبه فقر؛ لأن الغرض منه
هو ردُّه إلى مستواه السابق من الغنى والكفاءة الإنتاجية.
والناس متفاوتون؛ فبعضهم قد لا يرى حرجاً من اللجوء إلى التأمين الخيري،
عند الحاجة، وبعضهم يفضل الاعتماد على نفسه، والتقليل من الاعتماد على
الآخرين، وتخفيف الأعباء عن الإيرادات الخيرية وحصائل الزكاة.
وكذلك الناس متفاوتون حيال المخاطر؛ فبعضهم قد يكون أكثر رغبة وقدرة على
تحمل المخاطر، وبعضهم قد يجد ميلاً لديه لركوب المخاطر في الأنشطة
الاقتصادية المختلفة، لا سيما إذا كانت هناك وسيلة كالتأمين تخفف عنه آثار بعض
المخاطر، لكي تشجعه على ركوب مخاطر أخرى يحتاج إليها النشاط الاقتصادي
في المجتمع. والتأمين إذا ما طبق في اقتصاد بلدٍ مَّا، فإن الاقتصادات الأخرى
تتخلف وراءه، إذا لم تطبقه.
ومما يؤخذ على رأي المجيزين للتأمين التعاوني، والمانعين للتأمين التجاري،
أنهم رأوا أن التعاونيات كالتبرعات يغتفر فيها من الغرر ما لا يغتفر في
المعاوضات. وهذا فيه نظر؛ لأن حقيقةَ: «أتبرع لك على أن تتبرع لي» ليس
من التبرعات، بل هو من المعاوضات. ومما يؤخذ عليهم أيضاً أنهم ميزوا بين
معاوضات تهدف إلى الربح، ومعاوضات لا تهدف إليه، فمنعوا التأمين التجاري
وأجازوا التأمين التعاوني. وهذا التمييز غير مسلَّم؛ لأن الإسلام يجيز التجارة،
كما يجيز الربح. وغاية الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري أن الأول
تديره جمعية تعاونية، والآخر تديره شركة تجارية.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن جميع الفقهاء الذين أجازوا التأمين
التعاوني، أو أجازوا التأمين التجاري، إنما أجازوا التأمين، بغض النظر عن كونه
تعاونياً أو تجارياً، وهذا اعتراف منهم بالمصلحة الاقتصادية والاجتماعية للتأمين.
كما أن جميع الفقهاء، حتى الذين منعوا التأمين التعاوني والتجاري، قد
أجازوا التأمين الحكومي: التأمينات الاجتماعية، والتقاعد، والمعاشات. والتأمين
الحكومي يمكن أن يدار بشكل تعاوني بلا أرباح، ويمكن أن يدار بشكل تجاري
استرباحي.
فلا يمكن القول بأن العلماء الذين يعتد برأيهم قد حرموا التأمين بجميع أنواعه،
سواء كان تعاونياً أو تجارياً، حكومياً أو خاصاً.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه ربا فالرأي في هذا أن الربا ليس من لوازم
التأمين؛ إذ يمكن استثمار أقساط التأمين استثماراً غير ربوي، بصيغة المشاركة في
الأرباح مثلاً. كما أن قسط التأمين لا ينظر إليه على أنه قرض، حتى يقال بأن
مبلغ التأمين يكون فيه ربا إذا زاد على قسط التأمين. والربا في القرض مضمون،
أما التأمين فالزيادة فيه غير مضمونة، فقد تقع، وقد لا تقع.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه قمار فالرأي في هذا أن القمار يكون في اللعب،
والتأمين ليس لعباً، والمقامر في القمار يخلق المخاطر، أما المستأمن فإنه يتحصن
من المخاطر. وهذا التمييز الدقيق بين ما يدخل في القمار وما يلتبس به وليس منه
تمييز لم يعرفه الفقهاء المعاصرون فحسب، بل عرفه أيضاً الفقهاء القدامى، منهم
أبو عبيد في الأموال؛ حيث ميز تمييزاً دقيقاً بين القمار من جهة، والقرعة
والخرص من جهة أخرى، خلافاً للفقهاء الذين حرموهما، ظناً منهم أنهما من
القمار المحرم.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه غرر فالرأي فيه أن الغرر فيه على مستويين:
مستوى العلاقة بين شركة التأمين ومجموع المستأمنين، ومستوى العلاقة بين شركة
التأمين وكل مستأمن على حدة. فالمستوى الأول فيه الغرر إلى حد كبير، بالنظر
إلى قانون الأعداد الكبيرة Law of Large Numbers المعروف في علم
الإحصاء. والمستوى الثاني وإن كان فيه غرر أكبر، إلا أن للمستوى الأول تأثيراً
عليه، بحيث إن الغرر فيه يصير أقل نسبياً.
أما القاعدة القائلة بأن الغرر يغتفر منه في التبرعات ما لا يغتفر في
المعاوضات فهي صحيحة بشكل عام، بمعنى أن الغرر أكثر اغتفاراً في التبرعات
وأسهل، غير أن هذا لا يعني أن المعاوضات لا غرر فيها. فالجعالة فيها غرر في
الحصول، وفي المقدار، وفي الأجل، كالتأمين، ومع ذلك فإنها جائزة عند جمهور
الفقهاء. فإذا قلت: من عثر على سيارتي المسروقة فله 1000 ريال، فإن الباحث
عنها قد يجدها وقد لا يجدها، وقد يعمل قليلاً أو كثيراً، لمدة قصيرة أو طويلة،
ومن ثم فقد يحصل على الجُعل أو لا يحصل عليه.
أما ما ذكر من أن أرباح التأمين أرباح عالية فالحل فيه هو المنافسة الكفيلة
برد الأرباح إلى حدود الاعتدال، أو الإشراف الحكومي على تحديد الأقساط، لا
سيما في حال الاحتكار.
وأما ما يقال من أن عقد التأمين هو عقد إذعان، فهو إذن حرام؛ فهذا ربما
أتى من سوء الترجمة. فعقد الإذعان ترجمة عربية للعبارة الفرنسية Contrat d
adhésion، والصواب في الترجمة هو: عقد الانضمام، وأما عقد الإذعان فهو
حالة متطرفة من عقود الانضمام، عندما تكون شروطها تعسفية فعلاً، في غياب
المنافسة، والإشراف الحكومي.
أما أن التأمين الذاتي Self-Insurance يغني عن التأمين التعاوني أو
التجاري، فهذا قد يصلح بالنسبة للمنشآت الكبيرة التي يتسع نشاطها إلى الدرجة
التي ينطبق عليها قانون الأعداد الكبيرة. أما المنشآت المتوسطة والصغيرة فلا
يصلح لها التأمين الذاتي، لا سيما في السنوات الأولى من تطبيقه.
أما ما ذكر من الآفات الأخرى، كالقتل، والكذب، وشراء الذمم فهذه آفات
عارضة؛ فالوارث قد يقتل مورِّثه، لأجل استعجال ميراثه، فهل نمنع الميراث
لأجل احتمال مثل هذا القتل؟ إن الفقهاء قد منعوا الميراث، في هذه الحالة، عن
القاتل فقط، ولم يمنعوه عن سائر الناس. والكذب، وشراء الذمم، فاشيان في كثير
من الأسر، والمنشآت، والأنشطة. فإذا استغلت المستشفيات مرضاها، وأجرت
لهم تحاليل، أو عمليات لا يحتاجون إليها، فهل نمنع النشاط الطبي والمخبري من
أصله، أم نعاقب فقط من يرتكب هذه المخالفات؟ وكذلك قد تدخل سيارتك إلى
ورشة إصلاح، فتستبدل الورشة قطعاً لا حاجة لاستبدالها، وقد تستخدم عمالاً
حمقى، فتضيع أموال الناس وجهودهم وأوقاتهم، فهل نعزف عن استخدام السيارة،
وهل نمنع قيام ورشات لإصلاح السيارات؟
أنا لا أشك في أن بعض المجيزين للتأمين التجاري قد استدلوا له بأدلة ضعيفة،
وأن بعضهم كان يريد إباحته بأدلة متكلفة، وبأي ثمن، وبناءً على أحكام مسبقة.
ولكن خصومهم، إذ شعروا بأنهم قد استطاعوا ردَّ مثل هذه الأدلة ظنوا أنهم قد ردوا
التأمين، والحال أن التأمين يمكن أن يستدل له بأدلة أخرى قوية يصعب ردها.
__________
(*) باحث في الاقتصاد الإسلامي والفقه المالي.(155/124)
قضايا ثقافية
الإبداعية الجماعية [*]
(1 -2)
بقلم: جان كلود أبريك
ترجمة: محمد بلحسن
راجع ترجمته وقدّم له وعلّق عليه: د. محمد أمحزون
تمهيد:
لقد قطع الغربيون في دراسة ما يسمى بـ «علم النفس الاجتماعي» شوطاً
بعيداً. ويعدّ هذا العلم من المجالات الحيوية - الاستراتيجية التي ينبغي للدعوة
الإسلامية الاهتمام بها فيما يتصل بحقل الوسائل والأدوات.
فهو يُعنى بدراسة الظواهر الفكرية: نظام الإدراكات والتصورات الاجتماعية،
وظواهر التواصل الاجتماعي على مستويات مختلفة من العلاقات المجتمعية،
ودراسة العلاقات بين الأفراد، ودراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات:
(مؤسسات، جمعيات، أحزاب، نوادٍ) ، ودراسة الجماعات من حيث تركيبها
ووظائفها، وعلاقات التأثير فيما بينها، وبسط آليات تفجير الطاقات لدى الجماعات
والأفراد، وأساليب العمل بروح الفريق، واتخاذ القرارات داخل الجماعة، وإلقاء
الضوء على الوسائل التي تتبناها النخب في توجيه المجتمع؛ إلى غير ذلك من
المناهج والأدوات والوسائل التي ينبغي للدعاة استيعابها للدخول في معترك مواجهة
النخب العلمانية المفسدة، والتأثير على القطاعات الواسعة من الجماهير.
ولكل ظاهرة من هذه الظواهر يتوفر: «علم النفس الاجتماعي» على نظام
معرفي متطور: نظريات وأبحاث ودراسات واختبارات تؤهله لفهم النشاطات
الذهنية العليا، وبعض الأبعاد النفسية للحياة الاجتماعية للجماعات. ومن أجل
توسيع مجال الرؤيا فإن «علم النفس الاجتماعي» يقوم بدراسة:
1- الأسباب التي تدفع الناس للتماثل (أي التشبّه بغيرهم) أو الخضوع،
وذلك بالبحث عن خصائص الفرد الذي يَمْتَثِل ويخضع، والفرد الآخر الذي يقاوم
التأثيرات الاجتماعية (العادات، التقاليد..) .
2- ما هي خصائص المؤسسات والجماعات التي تحاول أن تنمّط سلوك
الأفراد؟ ما هي منطلقاتها العقائدية الأيديولوجية وآلياتها في التأثير؟ (المؤسسات
التربوية، النوادي، الجمعيات، وسائل الإعلام، الجامعات، المعاهد..) .
3- كيف يفكر الأفراد في واقعهم اليومي؟ كيف يقبلون السلوك المنحرف
على أنه سلوك عادي غير شاذ؟ كيف يفسرون ما يحدث لهم؟ ويشمل ذلك البحث
عن القوانين التي تحكم وتتحكم في التفكير الاجتماعي.
4- البحث عن الخصائص الأساسية التي يجب أن تتوفر في الجماعات التي
تؤيد التغيير، حتى تكسب خاصيات الفاعلية والتأثير؛ كيف تستطيع هذه الجماعات
أن تؤثر على الأغلبية؟ كيف تعمل لتحويل وتصحيح بنيتها التصورية العامة تجاه
القضايا الرئيسة على الرغم من نقص هذه الجماعات العددي، ونوعية مفاهيمها
التي تخالف سلوك الأغلبية، ومع وجود احتمالات التهميش المتوقعة نظرياً تجاه
هذه الجماعات؟ ما هي طبيعة التفاعلات التي يحدثها أفراد الأقلية الفاعلة والعملية
داخل واقع الأغلبية التي تخالفهم في الاعتقاد والرأي والقيم والمقاييس الحياتية؟
كيف تؤطِّر هذه الأقليات (الجماعات) علاقاتها الداخلية من أجل التفعيل المستمر
نحو الإبداع والإنتاج؟ ما هي مستويات اتخاذ القرارات داخلها.
5- إلقاء الضوء على مجمل التأثيرات التي تمارسها وسائل الإعلام على
الفرد من خلال دراسة مختلف المواضيع الإعلامية المساقة للفرد: المقاييس التي
تنتج الخطاب الإعلامي، كيفية تغيير هذا الخطاب ليستطيع أن يصبح قاعدةً سلوكيةً
وفكريةً عامةً ومعتادةً لدى أفراد مجتمع ما [1] .
ومن الموضوعات التي يوليها «علم النفس الاجتماعي» اهتماماً متزايداً،
ويخضعها للبحث والرصد والاختبار الميداني: موضوع التفكير الإبداعي.
على أن هذا التفكير يؤدي عبر مجموعة من الأساليب والأدوات والإجراءات
إلى مساعدة الإمكانات الذهنية على الارتقاء، وتحسين كفاءة الأداء، والقدرة على
حلّ المشكلات، وطرح البدائل واكتشاف الخيارات [2] .
ولما كان الإبداع يعني التأليف بين الأفكار والصور وتركيبها تركيباً فذاً ينتج
عنه الإتيان بقاعدة جديدة، أو اكتشاف لقانون جديد، أو استخراج لشكل غير
مألوف [3] ؛ فإن تنمية هذا النوع من التفكير يستحق اهتماماً خاصاً منّا نحن المسلمين؛
حيث يشتدّ الطلب اليوم على الإنسان الفذ المبدع بشكل دقيق وجيّد لخدمة دينه
وأمته في سبيل الدفع نحو الارتقاء الحضاري.
ولمعرفة المناهج وآليات الرصد والتجارب والحلول المبتكرة التي يستخدمها
«علم النفس الاجتماعي» لتطوير هذا الفنّ وتعميمه في حقول المعرفة وفي
مجالات الحياة المختلفة، فإنّ هذا البحث الذي ترجم من اللغة الفرنسية لأحد أقطاب
علم النفس الاجتماعي الفرنسيين، سيبيّن وسائل التحليل المنهجي للإبداعية،
وكيفية توظيف تقنيات الإبداع لتحفيز الذهن على الابتكار والتجديد، وإجراء
التجارب لتنمية ملكة الإبداع لدى الأفراد، وتقييم إبداعية الجماعات وتنافسها،
والعوامل التي تخضع لها عملية الإبداع ... إلى غير ذلك من العوامل التي يبرز من
خلالها أهمية التفكير الإبداعي في تغيير الواقع وتجديده وإغنائه.
مقدمة المؤلف:
اهتمام علم النفس بالإبداع هو جد حديث؛ فإلى غاية سنة 1950م، كان حجم
عناوين المنشورات في علم النفس المخصّصة للإبداعية بنسبة واحد في الألف.
وإلى غاية هذا التاريخ أيضاً توجه الاهتمام بالخصوص إلى تحليل سيرورة
الإبداعية المعتبرة ظاهرةً قليلة وحاضرة - حصراً - داخل نخبة الباحثين
والمبدعين الكبار، ومنذ هذه الفترة كانت المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع ناتجة
بالأساس عن تحليل تراجم العظماء، أو شهادات تركها بعضهم مثل بوانكاري
poincare، والمتعلقة بمناهج تفكيرهم.
ولم تظهر الإبداعية باعتبارها ضرورة اجتماعية واقتصادية إلا مع نهاية
الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها؛ حيث أصبحت موضوعاً للدراسة. وإزاء
التطور السريع للمجتمعات الصناعية فإن ازدياد المنافسة وسرعة التحولات في
المناهج والتقنيات والأسواق فرض البعد النوعي أساساً للتكيف والنمو الاقتصادي،
وتحوّل الاهتمام أيضاً من المبدعين إلى الأفراد الإبداعيين من دراسة الإبداع إلى
دراسة الإبداعية؛ أو بمعنى آخر: من دراسة خصائص نخبة ضيقة إلى شريحة
أكثر اتساعاً.
وهكذا احتل مفهوم الإبداعية وضعاً مستقلاً بالنسبة للإبداع. ويمكن تسمية
الإبداعية: (التطور التدريجي المتتابع والملكة التي بواسطتها يقوم فرد أو جماعة
تحتل وضعاً معيناً بإعداد نتاج جديد أو أصيل موافق لمتطلبات الظرفية ومقاصدها
أو الحالة الراهنة) . إذن: نعتبر فرداً أو جماعة مبدعة حسب قدراتها لتحريك هذه
العملية.
ويعود الفضل لجيلغورد (1973,1950: Guilgord) من خلال رسالته
المشهورة المقدمة لجمعية علم النفس الأمريكية، والتي صاغ فيها الأفكار الجديدة
الغنية بالنتائج النظرية والتطبيقية المتعلقة بالإبداعية:
* القابلية للإبداعية توجد بمستويات مختلفة ولكن عند جميع الأفراد العاديين [4] .
* السياق الإبداعي يمكن أن ينتج طواعية، ويمكن أيضاً تدريسه وتطويره
لدى عدد كبير من الأفراد.
وبالإضافة إلى هاتين الفكرتين المركزيتين تضاف بعض أعمال أوسبورن
(1963, 1953: Osborn) الفكرة التي تنص على أن وضعية الجماعة تساعد
على الإبداعية [5] .
ولهذا بدأنا نرى في الولايات المتحدة ثم في أوروبا وفرنسا، وخاصةً ابتداءً
من سنة 1960م تطور مجموعة من الأبحاث في علم النفس، مستعملة بالخصوص
المناهج التفاضلية والساعية مثلاً إلى اكتشاف أو إبراز العلاقات بين الإبداعية
والذكاء، وتعريف خصائص «الشخصيات الإبداعية» وتقييمها إلخ.. ويمكن
للقارئ المهتم أن يعود في هذا الصدد إلى مجلة لوبوتي (Leboutet) حول هذه
المسألة 1970م.
آثار الجماعات النوعية:
عوضاً عن الدخول في هذا مقارنة بين تقدير خصائص الجماعات والأفراد،
والتي كشف عنها موسكوفيسي وبيشلي (1972: Paicheler/moscqvici)
على أنها غير ذات جدوى، سنحاول إبراز بعض الأبحاث التجريبية ونتائجها
القادرة على توضيح نوعية وضع الجماعة وبالخصوص فهم: لماذا يمكن للجماعة
أن تشكّل حافزاً للإبداعية؟
أ- الجماعة تفضل التغيير:
في تجربة شهيرة قارن لوين (1965,1947: K. Lauin) الآثار
الخاصة لمحاضرة مقابل نقاش جماعة حول تحوُّل العادات الغذائية المنزلية
الأمريكية تحولاً يتمثل في استهلاك السُلابة [6] عوضاً عن اللحم.
وفي مقام أول استمعت جماعة من النساء إلى محاضرة هامة ألقيت من طرف
مختص يؤكد فيها الامتيازات الغذائية والاقتصادية للسُلابة، عن طريق عرض
وجبات مناسبة ... إلخ.
وفي الحالة الثانية، وبعد عرض تمهيدي وجيز، دفعنا بربات البيوت إلى
مناقشة المشكلة فيما بينهن. وفي كلتا الحالتين دامت التجربة 45 دقيقة. وأُجري
تحقيق في المنزل بعد أسبوع من التجربة أظهر أن 3% فقط من ربات البيوت
اللائي استمعن إلى المحاضرة استعملن السلابة مقابل 32% من اللائي ناقشن هذه
المسألة داخل الجماعة.
على أن جميع التجارب المنجزة من طرف لوين، والتي تستعمل الوسائل
نفسها اتخذت هذه النتيجة، سواء تعلق الأمر باستهلاك الحليب السائل أو الحليب
المسحوق أو إعطاء زيت كبد سمك المورة للطفل. ولو أننا عوضنا العرض
بنصيحة شخصية استغرقت نفس الوقت؛ فإن أثر الجماعة يظل مهيمناً بالنسبة
للتغيير؛ فالوجود داخل الجماعة والتفاعل الاجتماعي والإدراكي يمكن أن يؤدي إلى
انخفاض مقاومة التغيير عند الأفراد، ويساعد على ظهور سلوكيات جديدة يؤطرها
الحس الجماعي [7] .
ب- الجماعة تفضل المخاطرة:
أظهرت مجموعة من الأبحاث، بعد أعمال ولاش وكوجان
(1966: Wallach/Kogan) بأن الجماعة المكونة من أفراد ذوي آراء مختلفة
والمناقشين لحالة معينة يختارون حلولاً أكثر مخاطرة من الأفراد المنسجمين في
الجماعة نفسها. وازدياد المجازفة داخل الجماعة في بعض الحالات يشكل عاملاً
ملائماً للإبداعية؛ فهي تسمح للجماعة باختيار حلول مثمرة على الأقل أو أصيلة؛
لأن فيها مجازفة [8] .
ج- عدم تجانس الجماعة وأثره في الإبداعية:
إن التباين في الجماعة على صعيد المواقف والكفاءات يعد رصيداً جوهرياً؛
لأنه يسمح باحتكاك الآراء المختلفة [9] والاستفادة من كفاءات الآخرين، ويعني
عوامل تشجع الإبداعية. ولكن يمكن أن يكون أيضاً مصدراً للتوقف والصعوبات:
كبح أو إعاقة أمام أفراد جماعة أكثر كفاءة، وتجميد التواصل بسبب صراعات
المواقف ... إلخ. فالاختلاف [10] يشكل مصدراً كامناً للصراعات الاجتماعية
الإدراكية.
وأظهرت أبحاث هال وواتسون (1970: Watson/ Holl) بأن التنافر
داخل الجماعة يساعد على الإبداعية إذا أُخذت هذه الصراعات الاجتماعية -
الإدراكية بعين الاعتبار وضُبطت حالتها. وقد جعل هذان الباحثان جماعة في
وضع لحلّ المشكلة الآتية: أنتم ضمن طاقم من الفلكيين تعرّض لحادثة في القمر،
ويجب عليكم الالتحاق بسفينة فضائية توجد على بعد 300 كيلو متراً على القمر؛
فالسفر طويل وصعب، ويجب عليكم اختيار المواد التي ستحملونها معكم، والتي
سوف تسهل عليكم بلوغ الهدف. وكل فرد رتّب 15 مادة لحملها. وهذا العمل
أُنجز داخل الجماعة، وينبغي أن ينتهي إلى نظام واحد.
ومن ها هنا تم تحديد شرطين تجريبيين: فالتعليمات تدعو الأفراد إلى
توضيح آرائهم المختلفة ومناقشتها، أو عدم تحديد أي شيء؛ وتُظهر النتائج
بوضوح بأن أخذ الجماعة للاختلاف بعين الاعتبار يؤدي من جهة إلى نتائج مرضية
عامة، ومن جهة أخرى يؤدي إلى اكتشاف أفكار جديدة وأصيلة تتعلق باستعمال
المواد [11] .
وهذه النتائج تؤكد النتائج القديمة (لتريانيز) المتعلقة بالإبداعية الثنائية
التكاملية: تباين المواقف والكفاءات لعنصرين في تفاعل لا تساعد على الوصول
إلى نتائج مرضية [12] .
وعلى العكس من ذلك، ففي حالات تجريبية تلقى فيها عناصر ثنائية متكاملة
مسبقاً: «تدريباً للاتصال مع الآخرين» ؛ فالأزواج المتباينين [13] هم الأكثر
إبداعية.
ويمكن القول (عند تريانديز: Triandis) ، إنه حينما يتقلص الضغط
المرتبط بتباين الجماعة - مثلاً - بفضل التعلّم أو الاتصال والاحتكاك؛ فالآثار
الإيجابية لهذا التباين يمكن أن تتطور وتؤدّي إلى إبداعية عالية. وهذا التحليل
يكشف أهمية بعض أنواع الزعامة (Leodership) وضرورتها، أو الحيوية
في الجماعات الإبداعية المركزة على ضبط وتدشين مناخ ترابطي إيجابي.
(وسنعود إلى هذه النقطة) .
وأكمل كولاروس وأندرسون (1969: Andernon, Collaros) هذه
النتائج بإظهار أن التباين الحقيقي والتباين الشكلي ليس هما الأساس. وبدراستهما
لجماعات «تحفيز الإبداع» [14] : وضعا ثلاث حالات تجريبية:
- في الأولى يجب على الفرد أن يفكر في أن الأعضاء الثلاثة الآخرين في
الجماعة خبراء في «تحفيز الإبداع» .
- في الثانية: واحد فقط من الأعضاء خبير.
- في الثالثة: لا يوجد أي خبير [15] .
لكن في الحقيقة فإن الجماعة متطابقة في الحالات الثلاث؛ بمعنى أنها مكوّنة
من أفراد سُذَّج بدون تجربة. وحينئذ، فإن تبيان عدم تجانس الجماعة هو الذي تم
التلاعب فيه. على أن إبراز الجماعة بهذا الشكل يؤدي إلى اختلافات جوهرية:
فالجماعات المتجانسة [16] تطوّر إبداعية عالية أكثر من غيرها، وتكوِّن عن نفسها-
من خلال مناخ اجتماعي مؤثر - صورة إيجابية، بينما يؤدي الخوف الوهمي
في الحالات السابقة من حكم واحد أو مجموعة من الخبراء على أفراد الجماعة إلى
تراجع أو كبح في إنتاج الأفكار وخاصة الأفكار الجديدة والأصيلة.
وهذا النوع من الأبحاث يؤكد على أن الصورة التي تكوّنها الجماعة عن نفسها
هي بُعْدٌ رئيسٌ في حركيتها وحيويتها. ولهذا فالأبعاد الرمزية لوضع الجماعة تشكل-
في رأينا - أحد الموضوعات الجديدة والمركزية للأبحاث حول إبداعية الجماعات.
أسلوب الزعامة والإبداعية:
أشرنا في الفقرة السابقة إلى أخذ الصعوبات الاجتماعية الشعورية المرتبطة
بعدم تجانس الجماعة بعين الاعتبار؛ فدور الزعيم يجب أن يكون حاسماً في نشاطها
وإبداعيتها. وفي هذا الصدد خصص لوين ومساعدوه أبحاثاً عديدة لهذا الموضوع
الذي سوف نحاول بطريقة موجزة تلخيصه.
فهؤلاء الباحثون أنجزوا دراستهم خلال الفترة (1939 - 1940م) حول
جماعات من الأطفال الأمريكيين تصل أعمارهم إلى 12 سنة يرتادون نوادي
للترفيه. والملاحظات تعم فترات طويلة (عدداً من الأسابيع) وهدفها دراسة
العلاقات بين أنواع القيادات وظاهرة الجماعة. وتمّ تعريف ثلاثة أنواع من
الزعامات ستناسب تصرفات الشخص المسؤول عن الجماعة:
أ- الزعيم المستبدّ: فالقرارات المتعلقة بالعمل وتنظيم الجماعة تصدر عن
المسؤول وحده، بطريقة موازية لتطور الأنشطة.. والقرارات ليست مسوَّغة، ولا
واضحة بالنسبة للإصلاح. ومعايير تقييم الزعيم ليست معروفة، وأخيراً يبقى
بعيداً عن الاندماج في محيط الجماعة، ولا يتدخل إلا لإصدار الأوامر أو للتنظير
في حالة الصعوبة [17] .
ب- الزعيم الشوري: فالقرارات ناتجة عن المناقشات التي يطرحها الزعيم،
وهي تأخذ بعين الاعتبار رأي الجماعة. كما أنها مترابطة بالنسبة للإصلاح.
وكل مرحلة تُحدَّد بوضوح ودقة، والزعيم يوضح الأحكام الخاصة به ويسوِّغها.
وعندما يطرح مشكلة، يقترح مجموعة من الحلول تختارالجماعة أحدها. ودون
المساهمة الكبيرة في توجيه الأنشطة، فإنه يضطر للاندماج في حياة
الجماعة [18] .
ج- الزعيم الاسمي: بعد تحديد الوسائل والأدوات التي تتوفر عليها
الجماعة؛ فالزعيم يتصرف تصرفاً سلبياً، والجماعة تتمتع بحرية تامة مع العلم
أنها يمكنها اللجوء إلى المسؤول. وهذا الأخير لا يحكم ولا يقيّم؛ فوجوده يعتبر
ودّياً ولا يتدخل إلا بعد الطلب، ويتخذ قليلاً من المبادرات.
وتُظهر النتائج المتوصّل إليها: أن نوع زعيم الجماعة يحدّد مجموع سلوكها
الانفصالي والاجتماعي والإدراكي.
وهكذا ففي الجماعات ذات القيادة السلطوية (المستبدة) يهيمن الخمول أو
العنف؛ فالمناخ الاجتماعي الشعوري هو مناخ سيئ، والالتحام ضعيف بين أفراد
الجماعة، والتوترات الداخلية تساعد على ظهور مجموعات صغرى. وبما أن
العنف لا يمكن أن يوجه ضد المسؤول فيوجّه ضد بعض أعضاء الجماعة أو نحو
الخارج، مع ظهور ضحايا. وفيما يتعلّق بالعمل يلاحظ أنه بوجود الزعيم تكون
نتيجته جيدة، وهي عالية بالمقارنة مع الجماعات الشورية، ولكنها مطبوعة
بالتماثل أو التشابه القوي والاختلافات بين الأفراد جد ضعيفة. ولكن بغياب الزعيم
ينهار الإنتاج، وتتخلى الجماعة عن أي مسؤولية أو مبادرة.
وفي الجماعات ذات القيادة الشورية فالنتيجة مرتفعة ومستقرة، وحتى بعد
مغادرة الزعيم للجماعة. وهذا الوضع يساعد على التعبير عن الاختلافات الفردية.
وهكذا فالمنتوج من نوعية ممتازة، ولكنه أقلّ انتظاماً من الوضعية المستبدة.
ورضا عناصر الجماعة يكون مرتفعاً، والمناخ الاجتماعي - الشعوري إيجابي،
كما أن الالتحام قوي. فهذه الجماعات تستطيع أن تصمد أكثر من غيرها لمحاولات
التقسيم الخارجية، كما أن العنف تجاه المسؤول يمكن التعبير عنه بطريقة مباشرة،
ولا يؤدي إلى توترات داخلية بين أفراد الجماعة، كما هو الحال في المثال السابق.
وفي الجماعات ذات القيادة «ذره يفعل» [19] ، فالنتيجة جدّ سيئة، دون أن
يكون لحضور الزعيم أو غيابه دور خاص [20] ؛ فهذه الجماعات يمكن وصفها بأنها
نشيطة وغير منتجة؛ فالمناخ الاجتماعي الانفعالي للجماعة جدّ سيئ، وكذلك
الالتحام ومستوى الرضا. وكما هو الحال في الجماعات السلطوية يظهر العنف
تجاه الآخرين، وفي اتجاه الخارج، ويوجد ضحايا.
وعرفت أبحاث (لوين: Lewin) وفريقه نجاحاً كبيراً في علم النفس
الاجتماعي، وفي علم النفس الصناعي للأهمية الفعلية للإشكالية المدروسة؛ فلم
توضح بأن نوع كذا من القيادة هو أفضل من نوع كذا، ولكن بيّنت بأن كل نوع من
القيادة ينتج مناخاً اجتماعياً خاصاً ونتيجة معيّنة.
ويظهر بوضوح أنه إذا كان هدف الجماعة هو الإبداعية فالقيادة الشورية هي
الأكثر إنتاجاً وعطاءً؛ فهي بدون عرقلة الإنتاجية تسمح باستعمال وجهات النظر
المختلفة عن طريق التعبير أولاً، ثم اتخاذ خطوة موحدة تفترض مناخاً إيجابياً.
والأشكال الواقعية لهذا النوع من القيادات تمليها ضغوط المحيط الاجتماعي. على
أن تطوير الإبداعية لدى جماعة تفترض على أية حال تعويض مفهوم السلطة
والزعيم بالمنشط والمنظم.
أقلية نشيطة وإبداعية الجماعات:
رأينا بواسطة لوين خاصة: أن الجماعة يمكن أن تكون الركيزة أو المعبر
للتحول، ولكنها أيضاً - كما أظهرتها الأبحاث فيما يتصل بالتأثير الاجتماعي -
وسيلة خطيرة للامتثالية [21] والخضوع وإفقار الأفكار، والحدّ من الإبداعية لصالح
قوانين وسلوكيات غالبة [22] والأفراد غير الممتثلين ليس لهم إلا الاختيار بين
الخضوع أو الخروج عن المألوف [23] .
وبفضل أعمال موسكوفيسي (Moscovici) يتبيّن أن الأقلية لها أهمية
كبيرة؛ وأظهرت الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي أن وجود أقلية داخل
جماعة يعتبر عنصراً مساعداً على التجديد والابتكار؛ لأنه يساعد على تجاوز
قوانين الجماعة وعاداته [24] .
وإذا أحدثت الأغلبية تغييراً بتبني وجهة نظرها الخاصة [25] ، فالأقلية بدورها
تطلق سيرورة للتأثير أقل وضوحاً، ولكن تؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومتنوعة
تساعد على الإبداعية.
ويحمل بحث حديث لنميت وواشتلر جواباً لهذه الإشكالة. والفرضية العامة
للكاتبين يمكن صياغتها على النحو الآتي: أفراد جماعة يكونون أكثر إبداعية إذا
كانت فيهم أقلية ذات تكوين قوي ومتماسك.
فديناميكية الأقلية وحركيتها وقوتها تدفع الأفراد إلى التساؤل عن مواقعهم،
وتساعدهم على تناول جوانب أخرى من الواقع، وإيجاد حلول جديدة ومختلفة.
والنتائج المتحصّل عليها بعد الاختيارات تُظهر:
* أن الأفراد يتبعون رأي الأغلبية أكثر من اتباعهم رأي الأقلية [26] .
* أن الأفراد الذين يشكلون أغلبية في مواجهة أقلية يعطون عدداً مرتفعاً من
الأجوبة الجديدة الصحيحة أكثر من الذين هم أقلية في مواجهة أغلبية [27] .
كما أظهرت النتائج أن تأثير الأغلبية وتأثير الأقلية يرتكز على سيرورتين
مختلفتين:
1- أن الأغلبية جدّ فعّالة لجرّ الأفراد نحو الحلول التي تقترحها، بمعنى نحو
امتثالية قارة [28] . وعلى العكس، إذا كانت الأقلية تدفع أقل نحو هذا النوع من
السلوك فإنها تساعد الأفراد على اللامركزية، وعلى تحليل يأخذ بعين الاعتبار
العناصر المقترحة التي تعين على إنتاج حلول جديدة ومبتكرة غالباً ما تكون
صحيحة.
2- أن وجود جماعة ذات أقلية نشيطة وقوية يمكن اعتبارها عاملاً مساعداً
على الإبداعية. وهذه النتيجة تعين على توضيح النتائج المتحصَّل عليها من طرف
(موسكوفيسي، ولاج) التي تبين أن تأثير الأقلية هو جدّ قوي في محيط تكون
قاعدته هو البحث عن الأصالة واكتشاف الجديد.
__________
(*) هناك فرق بين الإبداع والإبداعية؛ فالإبداع يعني اكتشاف الجديد، والإبداعية تعني إيجاد ملكة الإبداع لدى الأفراد والجماعات.
(1) علم النفس الاجتماعي، تأليف مجموعة من الباحثين الفرنسيين، نشر تحت إشراف سيرج موسكوفيسي، باريز، المطابع الجامعية لفرنسا، 1992.
(2) عبد الكريم بكار، مدخل إلى التنمية المتكاملة: رؤية إسلامية، ص 87.
(3) المرجع نفسه، ص87.
(4) معنى ذلك أن الإبداعية كامنة في جنس الإنسان، إلا أنها في حاجة إلى من يحفزها وينشطها لتخرج إلى عالم الواقع.
(5) لما كان وجود الفرد في الجماعة أمراً ضرورياً، ولا يتمّ شيء من المعاني المذكورة إلا في إطار الجماعة، رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وحثّ عليها، بل وأمر بها، كما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه -: «فمن أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة» (أخرجه الترمذي في سننه وقال: حسن صحيح) ، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «يد الله مع الجماعة» (أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة وصححه الشيخ الألباني) ولتربية الروح الجماعية عند المؤمنين شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالبنيان، في تماسكهم وتفاعلهم وتكاملهم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، (أخرجه البخاري في كتاب الأدب) ، كما وصفهم بالجسد الواحد، (المصدر نفسه، كتاب
الأدب) .
(6) كراع الذبيحة وبطنها.
(7) إن التغيير في القرآن الكريم سنة اجتماعية لا سنّة فردية، بدليل قول الله -عز وجل -: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) ؛ إذ كلمة قوم تعني الجمع أو الجماعة، فكل فكرة أو خبرة اجتماعية تُقدَّم للإنسان تؤثر في مواقفه، سواء كانت هذه الأفكار والخبرات إيجابية أم سلبية وإنما يتجلى الحذق والمهارة في إعطاء مواقف أسلم وأيسر ولا يتم ذلك إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ.
(8) إن روح المخاطرة والمغامرة يؤطرها فعلاً السلوك الجماعي سواء على صعيد الفكرة أو الموقف فالتواصي بالحق والصبر الذي جاء في» سورة العصر «لا يتصور إلا في جماعة يوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك، ويتعاون الجميع على تكاليف الإيمان، بما يوحي ذلك من مجازفة ومخاطرة بالمال والنفس، والصدع بالحق لتغيير الواقع من سيئ إلى أحسن.
(9) اختلاف التنوع.
(10) اختلاف التضاد.
(11) إن التعدّد الإيجابي ينصبّ في قناة اختلاف التنوع؛ حيث يعمل عناصر الجماعة الواحدة أو الجماعات على إغناء الخبرات والمواقف بالأفكار المتنوعة، وعلى سدّ حاجات المجتمع وتصحيح مساره بشتى الأساليب، وعبر جميع الوسائل والطرق في سبيل التجديد والتغيير.
(12) ولحلّ هذه الإشكالية ينبغي التفاهم والتطاوع، كما جاء في حديث ابن أبي بُردة عن أبيه قال:» بعث النبي صلى الله عليه وسلم جدّه أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن فقال: يسّرا ولا تعسّرا، وبشرا ولا تنفرا [وتطاوعا] ، (الحديث) أخرجه البخاري في كتاب المغازي وفي حديث غزوة ذات السلاسل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمدّ عمرو بن العاص بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين من المقاتلين، وأمره أن يلحق بعمرو وألاَّ يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يؤمّ بهم فمنعه عمرو وقال: إنما قدمت عليّ مدداً وأنا الأمير، [فطاوعه أبوعبيدة] (الحديث) انظر الفتح، غزوة ذات السلاسل.
(13) اختلاف التنوع.
(14) مصطلح أنجلو - أمريكي يعني البحث عن أفكار أصيلة، وجديدة داخل جماعة من الناس، وذلك بتحفيز قدرائهم للتعبير الحرّ عن أفكارهم، وخواطرهم (قاموس لاروس) .
(15) في الواقع، فإن أفراد الجماعة على نفس المستوى الذهني، ولكن أوهموا بأن معهم خبراء لاختبار ردود أفعالهم في هذه الحالات.
(16) فكرياً وشعورياً.
(17) إن المتأمل في مسارات الأمم السابقة واللاحقة عبر الاستقراء والتجربة يلاحظ أنه كلّما ساد الاستبداد جماعة أو أمة أو دولة كان ذلك سبباً لسلب المجتمع إرادته وحريته، فتخدَّر مشاعره فلا يميز بين ما ينفعه وما يضرّه ومما لا شك فيه أن ظاهرة الاستبداد تقتل روح الإبداع وتحول دون تفجير الطاقات، مما يؤدي إلى المنحدر الخطير من التدهور والاضمحلال بكافة صوره على مختلف الأصعدة.
(18) على أنه كلّما حظي المجتمع بالاستقرار والعدل والشورى، كان ذلك مناخاً ملائماً للإبداع العلمي وحافزاً على التطور الإنساني ولذلك أمر الله - عز وجل - المؤمنين بالتشاور فيما لا نص فيه: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر] (آل عمران: 159) ، [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38) ، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (سنن الترمذي، باب ما جاء في المشاورة) ، وذلك تعويداً لهم على التفكير بالمشاكل الهامة، وحرصاً على تربيتهم على الشعور بالمسؤولية على أنه بالاستقراء نجد أنه كلّما اتسع نطاق الشورى كانت الجماعة أقرب إلى إصابة الحق.
(19) أي: يتصرف كما يشاء.
(20) ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأمرون وهم شهود.
(21) إنتاج سلوك مشترك ومتشابه لدى مجموعة من الأفراد.
(22) إن البيئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيراً في إخضاع الأفراد لمجموعتين من التقاليد والعادات الموروثة التي تنمّط السلوكيات وطرق التفكير، وتنتج بذلك أوضاعاً تتسم بروح القطيع، وضمور حسّ التجديد والابتكار، كما جاء في الحديث الشريف: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث أخرجه البخاري في كتاب القدر.
(23) يقصد هنا: محاولة الخروج عن الأوضاع والتقاليد الاجتماعية السائدة، والرغبة في التغيير والتجديد.
(24) إن النخبة الفاعلة أو الفئة المصلحة تعدّ عاملاً مهماً في الإصلاح الاجتماعي وتهيئة الأوضاع الموصلة في النهاية إلى التغيير وهو مطلب شرعي ملحّ، كما في قوله - تعالى -: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) .
(25) وهذا نادراً ما يحدث؛ إذ على امتداد التاريخ الإنساني لم تستطع الأغلبية أن تقوم بدور التغيير، وإنما النخب المصلحة هي التي تفعل ذلك: [فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ] (هود: 116) .
(26) إن تحديد الرؤى والمواقف داخل التصور الغربي يعتمد في الغالب على كثرة العدد؛ فالأغلبية لها تأثيرها الواضح في مجريات الأمور، وفي جميع القضايا المعروضة على الرأي العام بينما في التصور الإسلامي، فإن تحديد الرؤى ومن ثمْ المواقف ينبع من خضوع الإنسان المسلم لمرجعية عليا.
(الوحي) بدل الاحتكام إلى رأي الأغلبية: [وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (الأنعام: 116) وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدي» أما رأي الأغلبية، فيُتّبع إذا كان موافقاً للحق، ويُترك إذا كان خلاف ذلك: «فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم» عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (البخاري: كتاب الأذان) وفي حديث الترمذي: «لا تكونوا إمَّعة» (الحديث) .
(27) إن التفوق العددي - في بعض الأحيان - يلعب دوراً في تحفيز الأفراد وتشجيعهم على الإدلاء بآرائهم والتعبير عن أفكارهم إذا كانوا يواجهون جماعة أقل منهم عدداً.
(28) وهو سلوك غير صحي.(155/128)
المنتدى
هل أوضح الدعاة وأدركت أمتنا؟
د. مهدي قاضي
يجب أن تدرك الأمة أن دعم المسلمين الذين يتعرضون للمذابح والتشريد
بالمساعدات المالية والدعاء على الرغم من أهميته ووجوبه والحاجة إليه وضرورة
المبادرة إليه إلا أنه في الحقيقة حل وقتي وجزئي لا يوقف المآسي ولا يحلها تماماً؛
وإن انتهت مأساة فستظهر أخرى؛ لأن الداء الحقيقي مستمر وهو ضعف الأمة
وذلها وهوانها وعجزها عن حماية أبنائها. والذي يحدث نتيجة بُعد الأمة عن
الالتزام التام بأوامر ربها. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن
عمر: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم
الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» أخرجه أحمد
وأبو داود والطبراني. وقال أيضاً في الحديث الحسن عن ثوبان: «يوشك أن
تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: قلنا: يا
رسول الله! أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»
الحديث ... أخرجه أحمد وأبو داود.
ومذابح أمتنا ومآسيها في العصر الحديث مستمرة منذ عشرات السنين منها ما
عرفناه ومنها ما لم نعرفه، ويجب أن يشعر المسلمون أنهم مسؤولون عن استمرار
مآسي الأمة من هذا الجانب؛ لأنهم بتقصيرهم واستمرارهم في الذنوب وتركهم الجد
في الدعوة إلى الله والإصلاح يكونون سبباً في ضعف الأمة، ومن ثم يكونون سبباً
في عجز الأمة عن حماية أبنائها؛ ووضع حل جذري لهذه المآسي وبذلك يكونون -
بتقصيرهم - من أسباب استمرار مذابح المسلمين.
وما يحز في النفس أكثر هو أن الكثير من الخطباء والمحاضرين والكتاب
والشعراء والدعاة عموماً لا يقومون في خطبهم ودعائهم وتوجيهاتهم عند الحديث
عن مآسي المسلمين بتذكير الناس بهذا الجانب الهام بالشكل الواضح والكافي
والمؤثر الذي يشعر كل فرد مسلم بمسؤوليته هو في نفسه في تحقيق هذا الواجب؛
مع أن هذا - كما ذكر سابقاً - هو الحل الحقيقي الجذري للمآسي.
وبغض النظر عن أنه الحل الأهم فإنها فرصة للدعاة لتذكير الناس بالعودة إلى
الله من هذا الجانب؛ وهذا من قبيل المفهوم التربوي (التربية بالأحداث) . ومن
الخسارة ألا تستغل هذه الفرصة لتذكير الناس بالهدف الحقيقي الذي تطمح إليه الأمة
وهو عودة المسلمين إلى الالتزام التام بدينهم والذي به - بإذن الله - يتحقق للأمة
نصرها وتمكينها في الأرض.
وبعبارة أخرى نقول للدعاة بأنه يجب علينا ألا نعالج الأعراض فقط وننسى
المرض الحقيقي للأمة حتى ولو كانت الأعراض شديدة وحادة في بعض الأحيان.
يا أمة الحق إن الجرح متسع ... فهل تُرى من نزيف الجرح نعتبر؟
ماذا سوى عودة لله صادقة ... عسى تغير هذي الحال والصور!
إن الحل لمآسي أمتنا يمكن تلخيصه في كلمتين: (عودة، ودعوة) .
أي عودة كل فرد في الأمة إلى تطبيق الدين والالتزام التام بأوامره، ودعوته
غيره إلى ذلك.
ويا ليت أن تصبح هاتان الكلمتان شعاراً لطريق الحل لإنقاذ أمتنا، وأن تكون
رمزاً تتذاكر الأمة به لكي لا تنسى ذلك، ولكي تسرع للطريق الحقيقي الموصل
للنجاة والعزة والكرامة.(155/138)
المنتدى
الجمال جمال النفس بدون رتوش
هدى بنت فهد المعجل
إلى متى تركضين إلى الوراء..؟ سؤال جذاب.. إلاَّ أن إحداهن تقول: لن
يجذبني هذا السؤال إلا إذا مارس الرجل عملية الرجوع إلى الأمام.
تحدٍّ فاضح.. تفضح به مثيلاتها..! !
إحداهن تُرى عيناها حيناً عسليتين، وحيناً سوداوين، وأحياناً زرقاوين..
فهل لديها عمى ألوان..؟
عندما نرى بعض الوجوه النسائية نتساءل: لو أن المرأة بيدها اختيار شكلها
وهيئتها.. فأي شكل وأي هيئة تختار؟ وتقف أمام المرآة مؤكدة المقولة المأثورة:
(ثروات الأرض تكفي جميع البشر لكنها لا ترضي أطماعهم) . أحياناً تضطرك
الظروف أن تقومي بزيارة لا ترغبينها.. إذا كنت ممن لا يركضن إلى الوراء..
فمن أرغمك على زيارتهم، فمجتمعهم وأفكارهم بعيدة كلية عن مجتمعك وأفكارك..
لكن والدتها تقول: لا بد أن تذهبي معنا.. وإرضاءً لرغبة الوالدة.. وحتى لا
تُنعتي بالانطواء والتكبر تذهبين. وما أن يدور رحى الحديث حتى تشعري بمدى
ضآلتك الثقافية الفنية قياساً بأفكارهن.. ف (الروميل) هذا لا يناسب عينَيْ فلانة؛
لأن عينيها واسعتان، وزاد (الروميل) من سعتهما.. هكذا يقولون.. وأنت
تتساءلين في نفسك: وما هو (الروميل) ؟
إحداهن تقول: أشعر بـ (حكة) في بشرة وجهي.. فقالت إحدى الجالسات:
أنت تستعملين الطبقة السابعة وربما لا تناسبك.. جربي الطبقة الثالثة.
تحدقين في وجه تلك القابعة بجانبك تريدين (عد) كم طبقة على وجهها..
فترمقك بنظرة وتسألك: أي الطبقات تناسب بشرتك..؟ !
* مأزق.. هاوية.. كيف لك انتشال نفسك منها..؟
* أي قصّات الشعر تعتقدين أنها تناسب وجهي..؟ !
بهذا التساؤل انتشلتك إحداهن مما أنت فيه..! !
الجميع يتحدثن وأنت صامتة.. حسناً الآن هن سكوت.. فتحت فمك لتتحدثي.
* قلتِ: من قرأ منكن ما طرح في الصحافة من آراء حول قضية..؟
وقبل أن تكملي قطعت تلك الجالسة أمامك حديثك متسائلة:
* لا أدري هل أتت صاحبة المشغل.. فأنا مدعوة إلى حفلة صديقة أختي بعد
شهرين، وفستاني الذي خيط قبل أربعة أشهر شاهدوه، وأريد تفصيل فستان سهرة
آخر. بعد أن قطعت تلك حديثك أدركت أنه لا مجال لك بينهن، وليقلن عنك ما
يقلن.
هذه جلسة واحدة من جلسات عدة، وبعضهن لا يجدن لهن مكاناً وسطها.
تمارسين الركض إلى الوراء هل لأجل الرجل فقط.. لإرضائه..؟ ربما.. ولكن
في الغالب لا.. بل تمشياً مع الحضارة التي خدعت بها.. فهذا (كريم) لإزالة
التجاعيد تقرئين عنه فتسارعين إلى أفخم محلات التجميل وخوفاً من أن تنفد الكمية
تقتنين علبتين، ولا أهمية للسعر؛ وما أن تضعي لمسة منه على وجهك وبعد دقائق
(يلتهب) وجهك.. فتتجهين رأساً إلى الثلاجة وتأخذين قارورة ماء بارد جداً
تسكبينه على وجهك ليطفئ اللهيب.. فيأتيك السؤال: هل جهلت أن ما يناسب
بشرة فلانة قد لا يناسب بشرتك؟ ثم ما هو دور الطبيب..؟ ! تركضين وتركض
من خلفك زميلاتك.. فمن يسبق أولاً..؟ ! بل لماذا الركض المحموم..؟ ! هل
لتتشبثي بالرجل أكبر فترة ممكنة..؟ !
من قال إن ركضك هذا يمكِّنك من التشبث بقلب الرجل.. بل إن الرجل الذي
يطلب زوجة تكون حقل تجارب لجميع أنواع المساحيق.. ليس أهلاً للزوجية ولا
لتكوين أسرة.. نعم! الله جميل يحب الجمال.. ولكنه حذّر من المغالاة والمبالغة
في كل شيء ومن ضمن ذلك التجمّل..
وجِّهي عينيك إلى الأمام لتري أن قدميك قد استدارتا جهة الخلف ومارستا
الركض المحموم إلى الوراء.. بل بينهما وبين حافة الهاوية أشبار قليلة.(155/139)
المنتدى
تعقيب على تعقيب
مشبب القحطاني
اطلعت على التعقيب المقدم من الأخ الكريم (عبد الله بن علي الحمدان) في
العدد (153) ص (140) حول ملاحظته على ما ورد في الشطر الأول من
البيت العاشر من قصيدة (من البلقان إلى الشيشان) في العدد (151) حول جملة
(يا رحمة الله! هل في الأمر من فرج؟ ... ) وأود هنا إيضاح اللبس الذي وقع
فيه الأخ الكريم:
أولاّ: أشكر للأخ غيرته على حماية جانب التوحيد وحرصه على بيان الحق
كما كان يطمح إليه، وأوصيه بعدم الاعتماد على النقل دون التتبع عن موافقة
المقول للمنقول حتى لا يسيء الظنّ بإخوانه، وتختلط عليه الأمور كما حصل.
ثانياً: يتبيّن من سياق البيت الشعري أن الأمر لا يقتضي الدّعاء مطلقاً ولا ما
يترتب عليه من كفر كما أورد مما استند عليه (عياذاً بالله) فلم أقل: (يا رحمة
الله أنقذينا. أو ما شابه ذلك من لوازم الدعاء وأساليبه التي لا تخفى) وسياق الكلام
كما ورد في المطبوعة بيّن أن النداء بالصفة إضافة إلى الموصوف متبوع بأداتي
استفهام وعلامته في الشطرين، وليس الشطر الأول فقط كما ذكر. وليس في هذا
الأسلوب حرج شرعي ولا لفظي ولو سأل الأخ قبل التهمة والنقل لكان أوْلى وهو
من باب حسن الظنّ بأخيه المسلم.(155/140)
المنتدى
عجائب الزمان (مستجدات العصر الفكرية)
حسين عبد الرحمن عقيل
عجائب الدهر لا تفنى وإن ظهرت ... لنا عجائبُ قلنا ما الذي بعدُ
حتى نفيء لأمرِ الله في عرضٍ ... ويُفرَقُ الجمعُ ذا بؤسٌ وذا سعدُ
إن من مستجدات عصرنا الفكرية، وما ظهر في أعمارنا الزمنية ما يسمى
بالحداثةِ والعلمانية - وما ظهر مؤخراً بما يسمى بالنظام العالمي الجديد (وهو ما
يدعى بالعولمة) .
عجَّت بنا من ديار الغرب عولمةٌ ... طريقة الغاب، لا شرع ولا ذِممُ
الناس أسرى لديها في مَخِيلَتِها ... تَغطُّ ناساً وتُرْقِي مَنْ ترى القِمَمُ
إنها مسميات لامعةٌ وبراقة ولكنها من معدنٍ سرعان ما تصدأ ذراته فتترك
خبثها في واحة فكرنا النقي، فيتكون لدينا مركبات فكرية ذات روابط عقدية معقدة
التركيب؛ وذلك لطمس معالم مادة شرعنا ونهجنا القويم وتصبح مادةً تتفاعل مع كل
جديد من مستجدات العصر.
لذا فإن على الأمة الإسلامية مجابهة هذه التغيرات بكل ما تملكه من وسائل
التصدي لها، وليكن لكل مثقف وكاتب وواعظ وأديب دوره الفعَّال نحو هذه
التغيرات الفكرية بالكلمة الناصحة الناجعة لتبين مخاطرها، وتظهر مهالكها فيجبُ
على الكاتب ألاَّ يجفَّ قلمه أمامها، والشاعرِ ألاَّ تمحل واحة شعره، والواعظِ ألاَّ
يَقِلَّ عطاؤهُ. كلٌ بما منحه الله من هبةٍ يجودُ بها على دينه وأمته لكي نحيا حياةً
آمنةً مطمئنة، ونعبدَ الله على بينةٍ من أمرنا.(155/140)
المنتدى
التثبت أولاً ثم الانطلاق
عادل الدوسري
لما وصل عقبة بن نافع إلى البحر المتوسط ثم انطلق حتى وصل إلى المحيط
الأطلسي دخل في البحر وقال قولته العظيمة: «والله لو أني أعلم أن وراءك قوماً
لا يؤمنون بالله لخضتك إليهم» .
لكن عقبة حينما وصل إلى المحيط الأطلسي ما كان هناك أحد يحمي ظهره،
ولما أراد العودة إلى القيروان وأراد التراجع، هاجمه البربر وثاروا عليه وقتلوه في
الطريق، فقال موسى بن نصير لما سمع القصة: رحمه الله، كيف ينطلق ولم يحمِ
ظهره؟ أما كان معه رجل رشيد؟
إذاً لا بد من الانطلاق من قاعدة قوية؛ ولذلك تدخل هذه الاستراتيجية في
أغلب الأمور؛ فهاهم حفاظ كتاب الله - عز وجل - ينصحون أن تكون البداية
بالسهل، ثم الصعود مع التثبت والمراجعة، بل أول ما نزل القرآن لم ينزل جملة
واحدة؛ بل بالتدرج. قال الله - تعالى -: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ
القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] (الفرقان: 32) وقد
ذكر العلماء من حكمة نزول القرآن منجماً: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم،
وأيضاً: تيسير حفظه وفهمه. يقول الدكتور مناع القطان - رحمه الله -: «فما
كان للأمة الأمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو نزل جملة واحدة، وأن تفهم معانيه
وتتدبر آياته؛ فكان نزوله مفرقاً خير عون لها على حفظه في صدورها
وفهم آياته [1] .
إن من الضروري عدم الاندفاع بقوة لغالب الأعمال لكي لا يضيع جهد
الإنسان. يقول صاحب كتاب الهمة العالية:» فتجد من الناس من يقبل على عمل
من الأعمال باندفاع زائد، ونشاط خارج عن طوره، فيكلف نفسه من المهام ما
ينوء بحمله وما لا تطيقه نفسه، وما هي إلا مدة وتني همته وتنثني عزمته « [2] .
الكثير يتمنى الوصول إلى ما يريد بأسرع ما يمكن، وهنا موقع الزلل
والخطر؛ فإن الهمة حين لا تكون متدرجة تنعكس على صاحبها.
إن الصبر من مقومات التثبيت وأركانه؛ فمن ضيع الصبر ضاع ما أراده.
يقول الشافعي - رحمه الله -:
اصبر على الجفا من معلم ... فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة ... تجرع ذل الجهل طول حياته» [3]
إن هذه القاعدة العظيمة لتدخل في أغلب أمورنا في الحياة؛ فلا فتوى بلا علم،
ولا قول دون تجربة، ولا نجاح دون صبر؛ وكل هذه وغيرها لا تكون إلا من
خلال الضبط والحفظ في الصدور.
__________
(1) مباحث في علوم القرآن، لمناع القطاع، ص 110.
(2) الهمة العالية، لمحمد الحمد، ص81.
(3) من عيون الشعر، الشافعي، ص24.(155/141)
المنتدى
ردود
* الأخ: محمد أحمد سلامة: وصلتنا ملاحظاتك على مقال: «ماذا يحدث
في السودان؟» ، وقد أرسلت الملاحظات لكاتب المقال للإفادة. وفقنا الله وإياك
لكل خير.
* الأخ: عبد الرحمن عيد العتيبي: أرسل يستفسر عن القضية التي أثيرت
في البيان حول الخلاف بين الأستاذ جمال سلطان، ورفعت السعيد، وقد تم الصلح
ودياً بين الطرفين.. وجزاكم الله خيراً.
* الأخ: أبو معاذ الخالدي: نشكر لك كلامك الطيب، كما نشكر لك
ملاحظتك على ملف التنصير حول كلمة «التبشير» جعلنا الله وإياك من
المتواصين على البر والتقوى.
* الشيخ: خميس بن عاشور: نرجو التكرم بإفادتنا بعنوان بريدي آخر يمكننا
التواصل معكم من خلاله؛ حيث إن العنوان المرسل من قبلكم على جامعة الأمير
عبد القادر أرسلنا لكم عليه رسالةً، وأعيدت لنا مرة أخرى. بارك الله فيكم.
* الأخ: أحمد مرحوم: وصلتنا مقالتكم: «إعجاز (ق) » ونعتذر عن نشر
المقال لغلوها في المسلك العلمي التجريبي، وهو منحى خطير في التفسير
ونوصيكم بقراءة كتاب اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر لفهد الرومي.
* الأخت: سارة بنت عبد الله: سبق أن كتبنا في هذه الصفحة طلباً للأخت
علياء بنت عبد الله لإفادتنا بعنوانها كي نوافيك به، ولكن حتى الآن لم يصلنا أي
رد.
* الأخ: ناصر بن محمد المكاوي، والأخت: أمل القصيبي: نشكر لكما
تواصلكما الكريم، ونفيدكما بأن مشاركاتكما ستنشر إن شاء الله.
* الإخوة: سالم فرج سعد، طلال بن علي الجابري، عبد الله العزام: سعدنا
بتواصلكم الكريم مع المجلة، ومشاركاتكم سوف تنشر في المنتدى إن شاء الله.
* الإخوة: حمزة الفرائضي، خالد الربيعة، عبد الخالق القحطاني، علي
سليمان البذيخي، عشابي هشام، محمد علي شماخ، أنور عيسى أحمد، فهد أحمد
الأسطا، محمد جلال، حسين سالم القحطاني، الحسن محمد ماديك، علي بحري
اليامي، فارس الحسون: نشكر لكم حرصكم الطيب على التواصل مع مجلتكم،
ونتمنى دوام التواصل، مع تمنياتنا بالتوفيق في مشاركات قادمة.(155/142)
المنتدى
صرخة
فهد بن علي العبودي
مَرْآكِ هَدَّ قوَائمي وجَنَاني ... وقضى بصمتِ فَمي وعَقْدِ لساني
مَرْآكِ يا شيشان أَسبَلَ أَدْمُعي ... من مُقْلَتيَّ فَأَلْهَبَتْ أجفاني
مَرْآكِ يا شيشان زَادَ مواجعي ... لمَّا اسْتَقَرَّ بخافقي أدْمَاني
ماذا أقول؟ وكيف أروي ما أرى ... شِعراَ؟ وقد قَصُرَتْ حروفٌ بياني
أنا لا أبثُّ مشاعري بقصِيدتي ... لكن أبثُ مشاعر الأكوان
أبصرتُ أهْلَكِ - والمآسي جمّةٌ - ... ما بين مقتولٍ وبين مُهانِ
ما بين أَرْمَلةِ تَنوحُ وطفلةٍ ... تبكي وشيخٍ من أساهْ يُعاني
بالله ما للقوم لم يستيقظوا؟ ... فكأنهم خُلِقوا بلا آذان
أَوَ مَا دَرَوا عمّا أصابك؟ ويحهم ... أم أنهم قد أطرقوا بهوانِ
قولي لِمنْ تَرَكوكِ في أيدي العِدا: ... يا قومُ! أين أُخُوَّةُ الإيمانِ؟
يا أُمّةَ الإسلام لستِ ضعيفةً ... لكن أُصِبْتِ بغفلةٍ وَتوَانِي
شيشان يا أرضَ البطولةِ والفدا ... لا تقنطي من رحمةِ الرحمنِ
سَيُعِزُّكِ الرحمنُ رَغْمَ جيوشهم ... وَعتادهم؛ فالعزُ للتوحيد والشيشانِ(155/142)
الورقة الأخيرة
الدعاة والقناعة الخفية
محمد يحيى مفرح
الداعية إلى الله هو الوسيلة الأولى التي تزيد بها أعداد المتوجهين إلى الله -
تعالى - في كل زمان ومكان، ومع تزايد الوسائل الدعوية (أشرطة، وكتب،
وتجمعات تربوية، وهيئات خيرية) أرى أنه قد بدأت تترسخ قناعة لا يصرح بها
الكثير من أصحابها، ولا إخالهم يريدونها على حقيقتها، ومفاد هذه القناعة الداخلية:
أن هذه الوسائل تسد خللاً، وتجبر كسراً يغني في أحيان كثيرة عن أشخاص
الدعاة واستمرار عملهم مع ذات المدعو، وتنعكس هذه القناعة المترسخة في نفوس
بعضهم لتبرز آثارها عليهم في بعض المظاهر الآتية:
1 - الاكتفاء بإيصال الوسيلة السهلة إلى المدعو مع الحرص قدر الإمكان
على جعله يستفيد منها (كاستماع شريط يدعو إلى الالتزام، أو يثير الجوانب
الإيمانية في نفس المدعو) ، واعتقاد أن الحجة قد قامت على هذا المدعو، والجهد
قد بلغ حده معه مما يستلزم الاهتمام بغيره من المدعوين، ويكون معيار النجاح هنا
هو القدرة على إيصال الوسيلة إلى هذا المدعو. وهذا ولا شك فيه قصور واضح
يبدو جلياً حينما يقدم الداعية هذه الوسائل السهلة على اتصاله المباشر بشخص
المدعو الذي قد يكون بأمسِّ الحاجة إلى من يتفهم نفسيته ويقدم له ما يخص حالته
بالذات.
2 - تصور أن مجرد احتواء المدعو في جماعةٍ مَّا هو غاية الوسائل التي
يمكن أن يسعى إليها الداعية والتي تؤدي إلى النقلة المطلوبة في نفس المدعو
وسلوكه (مثل ضمه إلى النشاط الذي يشرف عليه بعض الأخيار ضمن دائرة
المدرسة أو الحي) ، ثم ينصرف الداعية بعد ذلك لتكثير العدد بضم أناس آخرين،
وهذا الداعية - إن لم يكن في الوسط من يتابع المدعوين غيره - يقع في القصور
من النواحي الآتية:
أولاً: عدم متابعة المدعو فردياً ليمكن تربيته بالشكل الصحيح، والاعتماد
على قدرته في الانسجام مع الجماعة، أو قدرة الوسط على احتوائه ويكون هذا هو
معيار النجاح.
ثانياً: ربط التزام هذا الشخص بجماعة معينة وليس بمنهج أصيل ومبدأ
راسخ، وهذا تتمثل خطورته في أن المدعو قد يفقد جوهر الالتزام بالدين عند
مفارقته لهذه الجماعة لأي سبب كان، كما أنه سوف يحاكم الناس كلهم من خلال قيم
هذه الجماعة وأفكارها ومنهجها، وربما كان هذا سبب كثير من الفرقة والخلاف.
ثالثاً: تغليب جوانب التربية الجماعية والاعتماد عليها أكثر من الجوانب
المهمة في التربية الذاتية مما قد ينتج عنه التزام بلا جدية وهو مشاهد ملموس.
3 - الظن بأن مجرد انخراط المدعو في عمل خيريٍّ مَّا كفيل بقلب موازين
مفاهيمه وإصلاح حاله (مثل من يثير أهمية العمل للدين في نفس المدعو لينقله
مباشرة للقيام بأعباء الدعوة من منطلق البلاغ فقط، أو من يجعله ينطلق في مجال
جمع التبرعات والاهتمام بالفقراء والأيتام ونحو ذلك) ويكتفي بذلك، ثم ينطلق إلى
غيره ليحثه على الانخراط في عمل خيري وهكذا، ويكون معيار النجاح عنده
قدرته على استثارة كل فرد وتوجيهه للعمل الخيري الذي يناسبه. وهذا ولا شك
قصوره واضح في عدم تأسيس هؤلاء على القواعد الراسية العلمية والإيمانية أولاً
قبل الزج بهم في أعباء هذه الأعمال وزخمها ومشاكلها، ولذلك فإنه سريعاً ما يشاهد
أحد هؤلاء المدعوين وقد خبت نار العاطفة التي أججها الداعية في نفسه، وانقطع
عن العمل، وربما عاد بعد ذلك إلى أسوأ من حاله السابقة، دون أن يبالي الداعية
بهذه النتائج في ظل فهمه لقول الله - تعالى -: [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ]
(الشورى: 48) .
وأعود لأقول إنه مع تزايد الوسائل الدعوية تبقى متابعة الداعية وتربيته
واتصاله المباشر الدائم بالمدعو - في حدود الضوابط الشرعية للتربية بكل جوانبها
- هي الوسيلة الأولى لنقله إلى الحياة الطيبة، كيف لا، والداعية هو الوسيلة
الوحيدة التي يمكن أن تتفاعل مع شخص المدعو حرصاً ولطفاً وليناً وحكمة بل
وغلظة أحياناً، وخاصة في فترات الصراع التي يواجهها أكثر المدعوين حين
يفكرون ويشرعون في اتخاذ قرار النقلة؟
وأخيراً فإنني أرجو ألا يفهم من المقال أنه انتقاد للوسائل الدعوية أو دعوة
لطرحها جانباً وعدم الاستفادة منها؛ فإن أثرها في الدعوة ملموس - بفضل الله -
وأكبر من أن يُحصَر، والداعية المسدد هو من عرف كيف يستفيد منها بالشكل
الأمثل.
أسأل الله أن يوفق الجميع للقيام بواجب الدعوة على النحو الذي يرضيه -
تعالى - ويقيم به الحجة، ويعين على انتشال الناس من حبائل الشيطان، والله
تعالى أعلم.(155/143)
شعبان - 1421هـ
نوفمبر - 2000م
(السنة: 15)(156/)
كلمة صغيرة
استقبالهم لرمضان
قال مدير البرامج بإحدى القنوات الفضائية في مقابلة صحفية: (نطمح أن
تكون برامج رمضان لهذا العام مليئة بالجاذبية والإثارة والتنوع، نريد أن نستغل
هذا الشهر الذي يرتفع فيه معدل المشاهدين بمقدار كبير لتقديم رسالتنا الإعلامية
برؤية عصرية تناسب مرحلة العولمة الإعلامية والثقافية التي نشهدها) .
لقد سخَّرت الفضائيات العربية شتى ألوان الفساد والانحلال، وراحت تنتج
العهر والفجور، باسم التقدم والتحضر، سلعتها الرئيسة (المرأة الكاسية العارية،
المائلة المميلة) ! !
ويزداد فجورهم في ليالي رمضان المباركة، وكأنهم أخذوا عهداً على أنفسهم
أن يحطموا أثر الصيام في نفوس الضعفاء من الناس، ويهجموا بكل صلف وإسفاف
على الكرامة والعفة، وتجد فيهم قوة وجلداً على نشر باطلهم والدعوة إليه.
إن هذا التردي الإعلامي يجب أن يكون قوة دافعة لنا نحن معاشر الدعاة؛
لنواجه الباطل بكل أنفة واعتزاز، ونعدّ العدّة الشرعية الواجبة لدعوة الناس وتربيتهم
على الآداب الفاضلة، فكيف تطيب نفوسنا ونحن نرى دعاة الرذيلة يسلبون
أخلاقنا ويمسخون عقولنا؟ ! وشهر رمضان موسم فضيل تقبل فيه القلوب على
الطاعات، ولكن الارتجال في إعداد الخطط الدعوية لن يُحقق النتائج التي
نطمح إليها.
لقد اعتاد كثير من الدعاة على توجيه الخطاب الدعوي لرواد المساجد خاصة
وهذا حسن بلا شك، ولهم علينا حق كبير، ولكن شريحة كبيرة من فتيان الأمَّة
وفتياتها ربما لم يسمعوا كثيراً من برامجنا وأنشطتنا، فهل فكرنا في طرائق
الوصول إليهم؟ ! وهل قدمنا البرامج الجادة التي تشبع احتياجاتهم..؟ ! إن
الوسائل المعتادة في الدعوة مهمة جداً لا يجوز أن نزدريها، أو نقلل من شأنها،
ولكن هل فكرنا في وسائل أخرى تعطينا مزيداً من الانتشار والوصول إلى كافة
شرائح الأمة؟ !
نحسب أن هذا تحدٍّ كبير يكشف بعض ملامح جديتنا ونضجنا في حمل هذه
الرسالة الخالدة.(156/1)
الافتتاحية
يخربون بيوتهم بأيديهم
فوجئ الصحافيون الذين يتابعون اللقاء الذي عقد في السفارة الأمريكية في
باريس بين باراك وعرفات وأولبرايت بخروج عرفات غاضباً، وركب سيارته
وهو يردد: هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها. وفوجئوا ثانية بأولبرايت تخرج
راكضة من المبنى وتأمر الحرس بإغلاق البوابات لمنع سيارة عرفات من الخروج،
وأعيد عرفات إلى مبنى السفارة بعد أن مسحت أولبرايت الإهانة بقُبَلٍ طبعتها
على خده! والسؤال الملحُّ أنه إذا كان الاجتماع سيتم في السفارة الأمريكية فما الفرق
بين واشنطن وباريس والقاهرة و.... .؟ وهل هدف تغيير الأماكن يتعدى
استخدام زعماء هذه الدول في الضغط على الجانب الضعيف وإضعاف مقاومته؟
وأن ما يعجز عنه كلينتون في مخيم داود قد ينجح فيه شيراك في باريس أو حتى
مبارك في القاهرة؟
لقد حرص اليهود منذ بداية ما يسمى بمفاوضات السلام على الإمساك بخيوط
اللعبة جميعاً؛ وكان تخطيطهم محكماً بحق؛ فقد ركزوا على اختراق الخارجية
الأمريكية، وتمكنوا من السيطرة على مراكز القرار فيها، وأصبح بأيديهم رسم
السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وإذا كانت أولبرايت اكتشفت
ماضيها اليهودي متأخرة وعلمت به من الصحف؛ فإنها لم تستطع أن تخفي أن جُلَّ
المحيطين بها هم من اليهود الطارئين على الخارجية؛ ومارتن إنديك ليس إلا
واحداً منهم. لقد أصبح المفاوض الفلسطيني حين يقابل وزيرة الخارجية الأمريكية
يجد نفسه بين يدي يهودية، وإذا زاره المنسق الأمريكي لعملية السلام فإذا به يهودي،
وإذا ذهب إلى السفير الأمريكي لدى اليهود فإذا به أيضاً يهودي، ولا ندري هل
ضباط المخابرات الأمريكية (A I C) الذين يتولون إدارة التنسيق الأمني يهود أم
لا؟
لقد كان يعتقد اليهود أن محادثات كامب ديفيد ستكون نهاية المطاف؛ ولذلك
كشفوا تصورهم للحل النهائي؛ فمشكلة اللاجئين سيتم حلها على حساب غيرهم؛
فكل دولة توطن الفلسطينيين المقيمين فيها، ومن يعود إلى فلسطين فسيعود إلى
المناطق التي تديرها السلطة وليس إلى بيوتهم؛ أي أنهم سيبقون لاجئين، وأما
المشكلة الأخرى وهي وضع القدس؛ فإن حلها في نظر اليهود سهل وبسيط؛ فقد
قاموا بإطلاق اسم «القدس» على مناطق فلسطينية في ضواحي القدس، وشيدوا
مبنى البرلمان الفلسطيني المنتظر، ولم ينسوا جَعْلَ مكتب عرفات يطل من بعيد
على المسجد الأقصى، أما ما كان يسمى: (القدس) فقد أطلقوا عليه: (أورشليم)
وبدأ التركيز الإعلامي يُشيع أن الحل المثالي هو قيام عاصمة لدولة «إسرائيل»
اسمها: (أورشليم) وعاصمة لفلسطين تسمى: (القدس) ، ولتمرير هذا المخطط
فقد أثيرت قضية السيادة على الحرم ومحاولة حصر النقاش حولها حتى ينسى الناس
القدس بعد أن نسوا فلسطين وسلموا بحق اليهود في احتلالها. وكانت المماحكات
المقصودة لا تنتهي؛ فقد اعترف اليهود بحق السيادة الفلسطينية على أرض الحرم
مقابل حقهم في السيادة على ما تحت الحرم؛ لأنهم يدَّعون أن الهيكل يقع تحت
الحرم. وأثيرت قضية مهمة جداً تمس السيادة الفلسطينية! ! ! ألا وهي أن الحرم
محاط بمنطقة سيطرة يهودية؛ فكيف يدخل الفلسطيني إلى الحرم دون المرور على
الأمن اليهودي؟ وكان أحد الاقتراحات الأمريكية أن يكون هناك ممر مغطى
بالزجاج العاكس بحيث يمارس اليهود حقهم في مراقبة المصلين الذين يفدون إلى
الحرم دون أن يروا الجنود اليهود خلف الزجاج! إن هذه الطروحات والمناقشات
تهدف إلى صرف الأنظار عن أساس القضية، وإبراز الجزء بحيث يغطي على
الكل. إن اللحظات الأخيرة الحاسمة كانت توحي بقرب التوقيع على صك
الاستسلام النهائي على الرغم من تردد عرفات الذي كان يخشى على سلطته من ردة
الفعل المتوقعة ولا يستبعد خوفه من التاريخ، وكانت الورقة الوحيدة التي كان يلوح
بها هي إعلان الدولة الفلسطينية، والتي سرعان ما تراجع عن تحديد موعده، ولم
يبق له شيء يساوم به؛ فقد أنجز بنجاح إحراق أوراقه والبركة في أجهزته الأمنية
وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان، واختلطت الأوراق من جديد، وهدم اليهود في
أيام معدودة ما بنوه في سنوات، وبقي على المسلمين استثمار كبوات العدو وعدم
التفريط في هذه الفرص التي قد لا تتكرر، وتتميز الأحداث الأخيرة بحالة الارتباك
التي يعاني منها اليهود سواء في دولة الإقامة أم دولة الحماية (أمريكا) .
وإليك أخي القارئ أبرز ملامح ما يجري، وكيفية توظيف الحدث في مصلحة
الأمة:
أولاً: لقد قام شارون زعيم كتلة اللكيود بدخول ساحة المسجد الأقصى لإثبات
سيادة اليهود على الحرم، وأنه الوحيد الذي لا يفرط في المطالب اليهودية، وكان
برفقته قوات كبيرة من الأمن قدمتها له الحكومة.
ثانياً: استعداد حكومة باراك لردة الفعل المحتملة عسكرياً وأمنياً، وكانت
تهدف إلى كسر شوكة الفلسطينيين وكسب نقاط مهمة في المفاوضات. أما في حالة
تفاقم الوضع فإن الثمن سيدفعه شارون ومن ورائه تكتل الليكود المعارض.
ثالثاً: إن قيام الفلسطينيين بمواجهة اليهود بصدور عارية ومواجهة القوات
اليهودية المدججة بالسلاح والمستعدة مسبقاً يدل على أن الأمة ما زالت حية، وأن
الخير باق فيها إلى يوم القيامة، وأن من حق الفلسطينيين الحفاظ على تضحياتهم،
واستثمار حالة التعاطف التي تعم العالم الإسلامي في القيام بأعمال إيجابية تخدم
القضية، وفي مواجهة السيطرة اليهودية على مستوى العالم عامة وفي أمريكا
خاصة.
رابعاً: إن الإعلام سلاح أساسي في هذه المرحلة وله أكبر الأثر في تحريك
الرأي العام ومن ثَمَّ التأثير على مواقف الحكومات، ويجب على المسلمين بناء آلتهم
الإعلامية القادرة على التأثير وتوجيه الأحداث. إن صورة طفل صغير يُقتَل على
يد اليهود بصورة بشعة قد ساهم في إحراج العدو وأذنابه، والسؤال هو: كم من
المشاهد لم نستثمرها؟ وكم من التصريحات والممارسات التي لم نستغلها في إبراز
صورة اليهود الحقيقية للعالم؟ !
خامساً: إن الشعوب الغربية قد تكون معادية لنا؛ ولكن يجب علينا استغلال
الأحداث في إثارة عواطفهم ضد اليهود، والتركيز على سيطرة اليهود عليهم، وأن
مصالحهم في العالم الإسلامي عرضة للتهديد في حال استمرار تبني وجهة النظر
اليهودية.
سادساً: استثمار التخبط في المواقف الأمريكية والتي تفضح سيطرة اليهود
على مواقع اتخاذ القرار والاستهانة بعواطف المسلمين؛ فبينما يصدر الناطق باسم
الخارجية الأمريكية بياناً ينتقد العبث بمحتويات مدرسة يهودية في روسيا فإن أمريكا
تقف بكل قوة ضد أي إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن بل منعت ذكر شارون بالاسم.
إن تهمة اللاسامية يجب أن تستبدل باللاإسلامية التي يجب أن تطرح بقوة ويواجه
بها كل مسؤول أو إعلامي في الغرب.
سابعاً: إن قرار إغلاق السفارات الأمريكية في بعض العواصم الإسلامية
يهدف من ورائه إلى تصوير العالم الإسلامي أنه عدو، ولكن يجب إبراز أن اللوبي
اليهودي في أمريكا هو سبب تزايد مشاعر العداء ضد أمريكا في العالم الإسلامي.
ثامناً: إن بروز الرأي العام في العالم الإسلامي ومحاولته التعبير عن مشاعره
ومواقفه يجب أن يُدعَم من قِبَل الحكومات؛ فإن محاولة كبته سيضعف الدول
الإسلامية أمام محاولات السيطرة الأجنبية.
إن الأحداث الأخيرة تدل على أن الأمة بخير، وأن لديها القدرة على النهوض.
[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) .(156/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
سنابل الخير
(1 - 2)
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
المال مال الله عز وجل، وقد استخلف تعالى عباده فيه ليرى كيف يعملون،
ثم هو سائلهم عنه إذا قدموا بين يديه: من أين جمعوه؟ وفيمَ أنفقوه؟ فمن جمعه من
حله وأحسن الاستخلاف فيه فصرفه في طاعة الله ومرضاته أثيب على حسن
تصرفه، وكان ذلك من أسباب سعادته، ومن جمعه من حرام أو أساء الاستخلاف
فيه فصرفه فيما لا يحل عوقب، وكان ذلك من أسباب شقاوته إلا أن يتغمده الله
برحمته.
ومن هنا كان لزاماً على العبد إن هو أراد فلاحاً أن يراعي محبوب الله في
ماله؛ بحيث يوطن نفسه على ألاَّ يرى من وجه رغَّب الإسلام في الإنفاق فيه إلا
بادر بقدر استطاعته، وألاَّ يرى من طريق حرم الإسلام النفقة فيه إلا توقف وامتنع.
وإن من أعظم ما شرع الله النفقة فيه وحث عباده على تطلُّب أجره:
الصدقةَ [1] التي شرعت لغرضين جليلين: أحدهما: سد خَلَّة المسلمين وحاجتهم،
والثاني: معونة الإسلام وتأييده [2] . وقد جاءت نصوص كثيرة وآثار عديدة تبين
فضائل هذه العبادة الجليلة وآثارها، وتُوجِد الدوافع لدى المسلم للمبادرة بفعلها.
وهذه الفضائل والآثار كثيرة جداً تحتمل أن يفرد لها كتاب فضلاً عن أن
ترسل في مقال؛ ولذا سأقتصر على أبرزها، وذلك فيما يلي:
1- علو شأنها ورفعة منزلة صاحبها:
الصدقة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ ودليل ذلك حديث ابن
عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على
مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً» [3] ،
وحديث: «من أفضل العمل: إدخال السرور على المؤمن: يقضي عنه ديناً،
يقضي له حاجة، ينفس له كربة» [4] . بل إن الصدقة لتباهي غيرها من الأعمال
وتفخر عليها؛ وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن الأعمال
تتباهى فتقول الصدقة: أنا أفضلكم» [5] .
وهذه الرفعة للصدقة تشمل صاحبها؛ فهو بأفضل المنازل كما قال صلى الله
عليه وسلم: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه،
ويصل فيه رحمه، ويعمل فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل ... » [6] ، وهو صاحب
اليد العليا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اليد العليا خير من
اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة» [7] ، وهو من
خير الناس لنفعه إياهم وقد جاء في الحديث المرفوع: «خير الناس من نفع
الناس [8] » ، وهو من أهل المعروف في الآخرة، ويدل على ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم: «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» [9] .
ولا تقتصر رفعة المتصدق على الآخرة بل هي شاملة للدنيا؛ فمن جاد ساد،
ومن بخل رذل، بل قال محمد بن حبان: «كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى
عرف بالسؤدد، وانقاد له قومه، ورحل إليه القاصي والداني، لم يكن كمال سؤدده
إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف» [10] ، والمتصدق ذو يد على آخذ الصدقة، بل
إنه كما قيل: يرتهن الشكر ويسترق بصدقته الحر [11] . ولذا كان ابن السماك يقول:
«يا عجبي لمن يشتري المماليك بالثمن، ولا يشتري الأحرار بالمعروف» [12] .
2- وقايتها للمتصدق من البلايا والكروب:
صاحب الصدقة والمعروف لا يقع، فإذا وقع أصاب متكأً [13] ؛ إذ البلاء لا
يتخطى الصدقة؛ فهي تدفع المصائب والكروب والشدائد المخوِّفة، وترفع البلايا
والآفات والأمراض الحالَّة، دلت على ذلك النصوص، وثبت ذلك بالحس والتجربة.
فمن الأحاديث الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف
تقي مصارع السوء والآفات والهلكات» [14] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في
حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «وفعل المعروف يقي مصارع السوء» [15] ،
ومنها: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً: «الصدقة تسد سبعين باباً
من السوء» [16] .
ومنها أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم حين هلع الناس لكسوف الشمس:
«فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» [17] قال ابن دقيق العيد في
شرحه له: «وفي الحديث دليل على استحباب الصدقة عند المخاوف لاستدفاع
البلاء المحذور» [18] .
كما أن الصدقة تحفظ البدن وتدفع عن صاحبها البلايا والأمراض، يدل لذلك
حديث: «داووا مرضاكم بالصدقة» [19] ، قال ابن الحاج: «والمقصود من
الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه عز وجل بقدر ما تساوي نفسه عنده،
والصدقة لا بد لها من تأثير على القطع؛ لأن المخبر صلى الله عليه وسلم صادق،
والمخبَر عنه كريم منان» [20] ، وقد سأل رجل ابن المبارك عن قرحة في ركبته
لها سبع سنين، وقد أعيت الأطباء فأمره بحفر بئر يحتاج الناس إليه إلى الماء فيه،
وقال: أرجو أن ينبع فيه عين فيمسك الدم عنك [21] ، وقد تقرح وجه أبي عبد الله
الحاكم صاحب المستدرك قريباً من سنة فسأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك،
ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بنيت على باب داره وصب فيها الماء
فشرب منها الناس، فما مر عليه أسبوع إلا وظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد
وجهه إلى أحسن ما كان [22] .
والأمر كما قال المناوي: «وقد جُرِّب ذلك أي التداوي بالصدقة فوجدوا
الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية، ولا ينكر ذلك إلا من كثف
حجابه» [23] .
وليس هذا فحسب؛ بل إن بعض السلف كانوا يرون أن الصدقة تدفع عن
صاحبها الآفات والشدائد ولو كان ظالماً، قال إبراهيم النخعي: «كانوا يرون أن
الصدقة تَدْفَع عن الرجل الظلوم» [24] .
وفي المقابل فإن عدم الصدقة يجر على العبد المصائب والمحن؛ لحديث أنس
بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً وفيه أن جبريل قال ليعقوب عليهما السلام عن الله
عز وجل: «أتدري لِمَ أذهبت بصرك وقوست ظهرك، وصنع إخوة يوسف ما
صنعوا: إنكم ذبحتم شاة، فأتاكم مسكين يتيم وهو صائم فلم تطعموه منه شيئاً» [25] .
3- عظم أجرها ومضاعفة ثوابها:
يربي الله الصدقات، ويضاعف لأصحابها المثوبات، ويعلي الدرجات.. بهذا
تواترت النصوص وعليه تضافرت؛ فمن الآيات الكريمات الدالة على أن الصدقة
أضعاف مضاعفة وعند الله مزيد قوله تعالى: [إِنَّ المُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ] (الحديد: 18) والتي
أوضحت بأن «المتصدقين والمتصدقات لا يتفضلون على آخذي الصدقات، ولا
يتعاملون في هذا مع الناس، إنما هم يقرضون الله ويتعاملون مباشرة معه، فأي
حافز للصدقة أوقع وأعمق من شعور المعطي بأنه يقرض الغني الحميد، وأنه
يتعامل مع مالك الوجود؟ وأن ما ينفقه مُخْلَف عليه مضاعف، وأن له بعد ذلك كله
أجراً كريماً» [26] .
ومنها: قوله تعالى: [مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافاً كَثِيرَةً] (البقرة: 245) قال الجصاص مبيناً علة تسمية الله للصدقة
قرضاً: «سماه الله قرضاً تأكيداً لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضاً إلا
والعوض مستحق به» [27] ، وعلل ذلك ابن القيم بأن «الباذل متى علم أن عين
ماله يعود إليه ولا بد؛ طوعت له نفسه، وسهل عليه إخراجه، فإن علم أن
المستقرض مليء وفيّ محسن، كان أبلغ في طيب فعله وسماحة نفسه، فإن علم أن
المستقرض يتجر له بما اقترضه، وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله
كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده بعطائه أجراً آخر من
غير جنس القرض ... فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل أو
الشح أو عدم الثقة بالضمان» [28] .
ومنها: قوله عز وجل: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]
(البقرة: 261) والتي لها أثر عظيم في دفع العبد إلى الصدقة؛ إذ يضاعف الله
له بلا عدة ولا حساب، من رحمته سبحانه ورزقه الذي لا حدود له ولا مدى [29] .
ومن الأحاديث الدالة على عظم أجر الصدقة: قوله صلى الله عليه وسلم:
«ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن
بيمينه وإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي
أحدكم فُلُوَّه أو فصيله» [30] [31] ، قال ابن حجر: «الصدقة نتاج العمل،
وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيماً، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد
الكمال، وكذلك عمل ابن آدم لا سيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب
لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع
المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل ... والظاهر أن المراد
بعظمها: أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبراً به عن
ثوابها» [32] ، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق نفقة في سبيل الله
كتب له سبع مئة ضعف» [33] قال المباركفوري: «وهذا أقل الموعود، والله
يضاعف لمن يشاء» [34] ، وحديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -:
«أن رجلاً جاء بناقة مخطومة [35] فقال:» هذه في سبيل الله، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة كلها مخطومة» [36]
واستطعم مسكين عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان:
«خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟ كم
ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟ !» [37] ، قال يحيى بن معاذ: «ما أعرف
حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة» [38] .
4- إطفاؤها الخطايا وتكفيرها الذنوب:
جعل الله الصدقة سبباً لغفران المعاصي وإذهاب السيئات والتجاوز عن
الهفوات، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها: قوله تعالى: [إِنَّ
الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] (هود: 114) ، والذي هو نص عام يشمل كل حسنة
وفعل خير، والصدقة من أعظم الحسنات والخيرات فهي داخلة فيه بالأولوية [39] ،
وقوله سبحانه: [إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] (الأحزاب: 35) ، وقوله
عز وجل: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ
النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل عمران: 133-134) والتي أفادت أن من
أول وأجلِّ ما تنال به مغفرة الله للخطايا وتجاوزه عن الذنوب: الإنفاق في
مراضيه سبحانه.
ومن النصوص الدالة على ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا
ولو بتمرة؛ فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» [40] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يذهب الجليد على
الصفا» [41] ، وما أخرجه البخاري في صحيحه في باب: الصدقة تكفر الخطيئة
من حديث حذيفة رضي الله عنه وفيه: «فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره
تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف» [42] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«يامعشر التجار: إن الشيطان والإثم يحضران البيع؛ فشوبوا بيعكم بالصدقة» [43] ،
ومعناه أن التاجر: «قد يبالغ في وصف سلعته حتى يتكلم بما هو لغو، وقد
يجازف في الحلف لترويج سلعته؛ فيندب إلى الصدقة ليمحو أثر ذلك» [44] ، وقال
محمد بن المنكدر: «من موجبات المغفرة: إطعام المسلم السغبان» . قال بعض
أهل العلم عقب إيراده له: «وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلباً على شدة
ظمئه فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين؟» [45] .
ولاستفاضة النصوص في كون الصدقة مكفرة للذنوب وماحية للخطايا استحب
بعض أهل العلم الصدقة عقب كل معصية [46] ، ولعل مستندهم في ذلك قوله صلى
الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» [47] ، والصدقة من كبار الحسنات
ورؤوس الطاعات؛ فهي داخلة في عموم النص قطعاً.
5- مباركتها المال وزيادتها الرزق:
تحفظ الصدقة المال من الآفات والهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون
سبباً في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب [48] ، دلت على
ذلك النصوص الثابتة والتجربة المحسوسة؛ فمن النصوص الدالة على أن الصدقة
جالبة للرزق قول الذي ينابيع خزائنه لا تنضب وسحائب أرزاقه لا تنقطع واعداً من
أنفق في طاعته بالخلف عليه: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]
(سبأ: 39) ، قال ابن عاشور في تفسيره: «وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط،
وبجعل جملة الجواب اسمية، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله:
[فَهُوَ يُخْلِفُهُ] (سبأ: 39) ، ففي هذا الوعد ثلاث مؤكدات دالة على مزيد
العناية بتحقيقه ... وجملة: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (المؤمنون: 72) تذييل للترغيب
والوعد بزيادة أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق» [49] ، وقال العلاَّمة السعدي:
«قوله: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ] (سبأ: 39) نفقة واجبة أو مستحبة، على
قريب أو جار أو مسكين أو يتيم أو غير ذلك [فَهُوَ] (سبأ: 39) تعالى [يُخْلِفُهُ]
(سبأ: 39) فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق
الذي يبسط الرزق ويقدر» [50] ، وما أجمل مقولة بعضهم: «أنفق ما في الجيب
يأتك ما في الغيب» [51] .
ومن النصوص الدالة أيضاً على أن الصدقة بوابة للرزق ومن أسباب سعته
واستمراره وتهيؤ أسبابه، وأنها لا تزيد العبد إلا كثرة قوله تعالى: [لَئِن شَكَرْتُمْ
لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم: 7) إذ الصدقة غاية في الشكر، وقوله عز وجل في
الحديث القدسي: «يا ابن آدم أَنفقْ أُنفقْ عليك» [52] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة إلا زاده الله بها كثرة» [53] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول
أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» [54] . كما
يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع
صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة [55] ؛
فإذا شرجة [56] قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته
يحول الماء بمسحاته [57] ، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان للاسم
الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله لِمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني
سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فماذا
تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلتَ هذا؛ فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه،
وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه» وفي رواية: «وأجعل ثلثه في المساكين
والسائلين وابن السبيل» [58] .
وفي المقابل جاءت نصوص عديدة ترد على فئام من الخلق ممن رق دينهم أو
ثخنت أفهامهم ظنوا أن الصدقة منقصة للمال، جالبة للفقر، مسببة للضيعة، فأبانت
أن الصدقة لا تنقص مال العبد، وأن شحه به هو سبب حرمان البركة وتضييق
الرزق وإهلاك المال وعدم نمائه، ومن هذه النصوص قوله صلى الله عليه وسلم:
«ما نقصت صدقة من مال» [59] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث أقسم
عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال
عبد من صدقة ... » [60] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر -
رضي الله عنهما - «حين قالت له: ما لي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير فقال لها:
أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك» [61] .
والتجربة المحسوسة تثبت أن «المعونة تأتي من الله للعبد على قدر
المؤونة» [62] ، وأن رزق العبد يأتيه بقدر عطيته ونفقته؛ فمن أَكثر أُكثر له،
ومن أقل أُقِل له، ومن أمسك أُمسِك عليه [63] ، وقد نص غير واحد من العارفين
أن ذلك مجرب محسوس [64] ، ومن شواهد ذلك قصة عائشة رضي الله عنها أن
مسكيناً سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاتها: أعطيه إياه،
فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه! قالت: ففعلت، قالت: فلما
أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا شاة وكفَّنها [65] ، فدعتني
فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك « [66] .
والقضية مرتبطة بالإيمان ومتعلقة باليقين، والأمر كما قال الحسن البصري:
» من أيقن بالخلف جاد بالعطية « [67] .
6- أنها وقاية من العذاب وسبيل لدخول الجنة:
الصدقة والإنفاق في سبل الخير فدية للعبد من العذاب، وتخليص له وفكاك
من العقاب، ومثلها كما في الحديث:» كمثل رجل أسره عدو، فأوثقوا يده إلى
عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير؛ ففدى نفسه
منهم « [68] ، وقد كثرت النصوص المبينة بأن الصدقة ستر للعبد وحجاب بينه
وبين العذاب، ومن هذه النصوص: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إثبات
نعيم القبر وعذابه والذي تضمن إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الصدقة وأعمال
البر تدفع عن صاحبها عذاب القبر؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم:» إن الميت إذا
وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولُّون عنه؛ فإن كان مؤمناً كانت الصلاة
عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات
من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قِبَلِ
رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما
قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فيقول الزكاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى من قِبَل
رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس:
ما قِبَلي مدخل ... « [69] .
ومنها: الأحاديث التي تضمنت التهديد والوعيد لأصحاب الثراء كقوله صلى
الله عليه وسلم:» هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ثلاث مرات:
حثا بكفيه عن يمينه وعن يساره وبين يديه، وقليل ما هم « [70] ، وفي رواية:
» ويل للمكثرين ... « [71] ، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم:» من أعتق رقبة
مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو « [72] ، وحديث أبي سعيد الخدري -
رضي الله عنه - وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:» يا معشر النساء تصدقن؛
فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن،
وتكفرن العشير « [73] ، قال ابن حجر في شرحه:» وفيه أن الصدقة تدفع العذاب،
وأنها قد تكفِّر الذنوب بين المخلوقين « [74] وقال الشوكاني في ثنايا تعداده لفوائد
الحديث:» ومنها: أن الصدقة من دوافع العذاب؛ لأنه علل بأنهن أكثر أهل النار
لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك « [75] .
وقد كثر حض النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتخاذ أحدهم الصدقة مهما
قلَّت حجاباً بينه وبين النار فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم
رضي الله عنه:» ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان،
فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم،
وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة « [76] ،
وفي رواية:» من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل « [77] ،
وقال صلى الله عليه وسلم:» اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرة « [78] ،
وقال صلى الله عليه وسلم:» يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة؛ فإنها
تسد من الجائع مسدها من الشبعان « [79] .
ولا يقتصر أثر الصدقة والإنفاق على دفع حر القبور والخلاص من لهيب
جهنم بل إنها من أسباب دفع الخوف والحزن عن العبد وتحصيله للأمن، ومن
السبل العظيمة لدخوله الجنة، ومن النصوص الدالة على ذلك قوله تعالى:
[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِراًّ وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (البقرة: 274) والذي يعم جميع النفقات في طاعة الله
وطرق مرضاته سواء أكانت للفقراء والمعوزين أم في سبيل رفعة الدين ونصرته
ويشمل جميع الأوقات والحالات [80] .
وقوله عز وجل: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ... ]
(آل عمران: 133-134) والذي جلَّى الله فيه صفة أهل الجنة، وأبان بأن من
أجلِّ سماتهم التي تؤهلهم لدخول الجنة الإنفاق في مراضيه سبحانه والإحسان
إلى خلقه بأنواع البر [81] .
ومن النصوص النبوية الدالة على أن الصدقة من أسباب دخول الجنة قوله
صلى الله عليه وسلم:» أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز [82] ما من عامل يعمل
بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة « [83] .
ولا يتوقف أثر الصدقة على هذا فحسب بل الأمر أعظم جداً من ذلك؛ إذ
يبادر خزنة كل باب من أبواب الجنة: لدعوة المتصدق كل يريده أن يدخل من قِبَله،
وللجنة باب يقال له: باب الصدقة، يدخل منه المتصدقون؛ لحديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من أنفق زوجين [84]
في سبيل الله [85] نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير إلى أن قال ومن كان
من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة.. « [86] وقد أبان العيني أن المراد بالصدقة
هنا: النافلة؛ لأن الزكاة الواجبة لا بد منها لجميع من وجبت عليه من المسلمين،
ومن ترك شيئاً منها فيخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنم [87] .
7- أنها دليل صدق الإيمان وقوة اليقين وحسن الظن برب العالمين:
المال ميال بالقلوب عن الله؛ لأن النفوس جبلت على حبه والشح به، فإذا
سمحت النفس بالتصدق به وإنفاقه في مرضاة الله عز وجل كان ذلك برهاناً على
صحة إيمان العبد وتصديقه بموعود الله ووعيده، وعظيم محبته له؛ إذ قدم رضاه
سبحانه على المال الذي فطر على حبه [88] ، ويدل على هذا الأمر قوله صلى الله
عليه وسلم:» والصدقة برهان « [89] ، ومعناه: أنها دليل على إيمان فاعلها؛ فإن
المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق
إيمانه [90] ، قال المناوي:» (والصدقة برهان) حجة جلية على إيمان صاحبها أو
أنه على الهدى أو الفلاح، أو لكون الصدقة تنجيه عند الحساب كما تنجي الحجة
عند المحاكمة، وقال القزويني: الصدقة برهان على جزم المتصدق بوجود الآخرة
وما تتضمنه من المجازاة؛ لأن المال محبوب للنفوس المتصفة بالخواص
الطبيعية؛ فلا يقدر على بذل المال ما لم يصدق بانتفاعها فيما بعد بثمرات ما
يبذله، وفوزها بالعوض وحصول السلامة من ضرر متوقع بسبب فعل
قُرِنت به عقوبة « [91] .
والصدقة بطيب نفس تورث القلب حلاوة الإيمان، وتذيق العبد طعمه،
وتعمق يقينه بالله عز وجل، وتخلص توكله عليه، وتوجب ثقته بالله وحسن الظن
به [92] ؛ لأن من استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه عز وجل عظم رجاؤه
وهانت الدنيا في عينه فأنفق ولم يخَفِ الإقلال، ويشهد لصحة ذلك قول أعظم
الموقنين وإمام المتوكلين وأجلّ من أحسن الظن برب العالمين لبلال - رضي الله
عنه - حين ادخر شيئاً ولم ينفقه:» أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش
إقلالاً « [93] ، قال القرطبي بعد أن أبان بأن عدم الإنفاق وترك الصدقة خوف الإقلال
من سوء الظن بالله:» فإن كان العبد حسن الظن بالله لم يخفِ الإقلال؛ لأنه
يخلف عليه كما قال تعالى: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]
(سبأ: 39) « [94] .
8- تخليتها النفس من الرذائل وتحليتها لها بالفضائل:
تطهر الصدقة النفس من الرذائل وتنقيها من الآفات، وتقيها من كثير من
دواعي الشيطان ورجسه، ومن ذلك: أنها تبعد العبد عن صفة البخل وتخلصه من
داء الشح الذي أخبر سبحانه بأن الوقاية منه سبب للفلاح وذلك في قوله عز وجل:
[وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (الحشر: 9) ، ويُذهِب الله بها داء
العجب بالنفس والكبر والخيلاء على الآخرين والفخر عليهم بغير حق، كما أنها من
مسببات عدم حب الذات حباً مذموماً، ومن دواعي نبذ الأثرة والأنانية، وعدم
الوقوع في شيء من عبودية المال وتقديسه وهو ما دعا على فاعله النبي صلى الله
عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة فقال:» تعس عبد الدينار وعبد الدرهم
وعبد الخميصة ... تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش « [95] .
وفي المقابل فالصدقة تهذب الأخلاق وتزكي النفس وتربي الروح على معالي
الأخلاق وفضائلها؛ إذ فيها تدريب على الجود والكرم، وتعويد على البذل
والتضحية وإيثار الآخرين، وفيها سمو بالعبد وانتصار له على نفسه الأمارة بالسوء،
وإلجام لشيطانه، وإعلاء لهمته؛ إذ تُعلق العبد بربه وتربطه بالدار الآخرة،
وتزهده بالدنيا؛ وتضعف تَعلُّق قلبه بها. ويدل لذلك قوله تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] (التوبة: 103) [96] ؛ إذ في قوله: {تُطَهِّرُهُمْ}
إشارة إلى مقام التخلية من الرذائل والذنوب والأخلاق السيئة، وفي قوله:
{وَتُزَكِّيهِم} إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات والأعمال
الصالحة [97] .
كما يدل لذلك أيضاً قوله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ] (المجادلة: 12) والذي أبان
الله فيه بأن الصدقة سبب لنيل الخيرية وطهرة للنفس من الأدناس وتخلية لها من
الرذائل [98] .
ولو لم يكن في الصدقة إلا أنها تعلق النفس بالقربات، وتشغلها بالطاعات،
كما قال بعض السلف:» إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء
السيئة السيئة بعدها « [99] والصدقة من أعظم الحسنات وأجلِّها لكفى بذلك
فضلا.
9- أنها بوابة لسائر أعمال البر:
جعل الله الصدقة والإنفاق في مرضاته مفتاحاً للبر [100] وداعية للعبد إلى
سائر أنواعه؛ وذلك لأن المال من أعظم محبوبات النفس؛ فمن قدم محبوب الله
على ما يحب فأعطى ماله المحتاجين ونصر به الدين وفقه الله لأعمال صالحة
وأخلاق فاضلة لا تحصل له بدون ذلك، وآتاه أسباب التيسير بحيث يتهيأ له القيام
ببقية أعمال البر فلا يستعصي شيء منها عليه، يدل لذلك قوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ
أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] (الليل: 5-7) قال
السعدي في تفسيره:» [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] (الليل: 7) : أي: نيسر له أمره،
ونجعله مسهلاً عليه كل خير، ميسراً له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير،
فيسر الله له لذلك « [101] .
وقد أوضح الله هذا الأمر وجلاَّه في قوله عز وجل: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92) أي: لن تنالوا حقيقة البر الذي يتنافس
فيه المتنافسون، ولن تدركوا شأوه، ولن تلحقوا بزمرة الأبرار حتى تنفقوا مما
تَهْوَوْن من أموالكم ومن أعجبها إلى أنفسكم [102] .
وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذا التوجيه الرباني فحرصوا على نيل البر
وكمال الخير بالنزول عما يحبون وببذل الطيب من المال نصرة للدين وسداً لحاجة
المساكين، سخية به نفوسهم طمعاً في ثواب الله وإحسانه [103] ، فكان الواحد منهم
إذا ازداد حبه لشيء بذله لله رجاء نيل البر؛ فهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان
أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه حديقة يقال لها: بيرحاء، فلما
نزلت هذه الآية: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92)
قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:» إن الله يقول في كتابه:
[لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي
إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله
حيث شئت ... « [104] ، وقال زيد بن حارثة لما نزلت هذه الآية:» اللهم إنك تعلم
أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه «، وجاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبلها
الله منك» [105] ، «وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع
له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص، فدعا
بها عمر بن الخطاب فأعجبته فقال: إن الله يقول: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92) فأعتقها» [106] .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «تلوت هذه الآية: [لَن تَنَالُوا
البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92) فذكرت ما أعطاني الله فما
وجدت شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رضية فقلت: هي حرة لوجه الله» [107] ، ومرة
كان راكباً على راحلة عظيمة فأعجبته فأناخها وجعلها لله تعالى [108] .
وعلى هذا الدرب سار كثير من سلف الأمة وصالحيها؛ فهذا الربيع بن خثيم
كان إذا جاءه السائل يقول لأم ولده: يا فلانة! أعطي السائل سُكَّراً؛ فإن الربيع
يحب السُّكَّر. قال سفيان: يتأول قوله عز وجل: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92) [109] ، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان
يشتري أعدالاً من سُّكَّر ويتصدق بها، فقيل له: هلاَّ تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن
السُّكَّر أحب إليَّ؛ فأردت أن أنفق مما أحب [110] .
وكان لزوجة عمر بن عبد العزيز جارية بارعة الجمال، وكان عمر راغباً
فيها، وكان قد طلبها منها مراراً فلم تعطه إياها، ثم لما ولي الخلافة زينتها
وأرسلتها إليه، فقالت: قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك، قال: من أين
دملكتِها، قالت: جئت بها من بيت أبي عبد الملك، ففتش عن كيفية تملكه إياها،
فقيل: إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أُخذت من تركته، ففتش عن حال
العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعاً بإعطاء المال، ثم توجه إلى الجارية وكان
يهواها هوى شديداً فقال: أنت حرة لوجه الله تعالى [111] .
فهذا هدي السلف؛ فهل من متأس بهم وسائر على نهجهم؟ !
10- إدراك المتصدق أجر العامل:
ما أسعد المتصدقين! إذ دلت النصوص الثابتة على أن صاحب المال يدرك
بتصدقه وإنفاقه من ثواب عمل العامل بمقدار ما أعانه عليه حتى يكون له مثل أجره
متى استقل بمؤونة العمل من غير أن ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً، ومن هذه
النصوص الدالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائماً كتب له
مثل أجره لا ينقص من أجره شيء» [112] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من
جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا» [113] ،
ومعناه: أنه مثله في الأجر ما دام قد أتم تجهيزه أو قام بكفاية من يخلفه بعده [114] ،
وجاء الحديث عند البيهقي بلفظ: «من جهز حاجاً أو جهز غازياً أو خلفه في أهله
أو فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً» [115] .
والأمر غير مقصور على هذه العبادات بل شامل لجميع الطاعات؛ فمن أعان
عليها كان له مثل أجر فاعلها [116] .
فيا من يستطيع أن يجاهد وهو قاعد، ويصوم وهو آكل شارب، ويعلِّم القرآن،
وينشر الخير، ويدعو إلى الله في كل مكان وهو في بيته لم يباشر من ذلك شيئاً لا
تَحْرم نفسك الأجر ولا تمنعها الثواب، واعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم لك حين قال: «اغتنم خمساً قبل خمس وذكر منها: وغناك قبل
فقرك» [117] ، واعلم بأن المال زائل والعمل باق؛ إذ لم يخلد أحد مع ماله، ولم
يدخل مالٌ القبر مع صاحبه، بل هو وديعة لديك، ولا بد من أخذها منك، فما بالك
تغفل عن ذلك؟ !
__________
(1) الصدقة: هي النفقة التي يطلب بها الأجر، وتطلق على الفرض والنفل، إلا أن عرف الاستعمال في الشرع جرى في الفرض بلفظ الزكاة، وفي النفل بلفظ الصدقة، انظر: المفردات، للراغب: 480، والتوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي: 452، 453.
(2) انظر: جامع البيان، للطبري: 10 / 163، أحكام القرآن، لابن العربي: 1/230.
(3) قضاء الحوائج، لابن أبي الدنيا: 40 رقم: 36، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1 / 97 رقم: 176.
(4) شعب الإيمان، للبيهقي: 6/123 رقم: 7679، وصححه الألباني في صحيح الجامع:
2/ 1025 رقم: 5897.
(5) صحيح ابن خزيمة: 4/ 95 رقم: 2433، المستدرك، للحاكم: 1 / 416 وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) .
(6) جامع الترمذي: 4/ 562، 563 رقم: 2325، وقال: (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2/270 رقم: 1894.
(7) صحيح مسلم: 1/717 رقم: 1033.
(8) شعب الإيمان، للبيهقي: 6/ 117 رقم: 7658، وحسنه الألباني في صحيح الجامع:
1/ 623 رقم: 3289.
(9) الأدب المفرد، للبخاري: 86 رقم: 221، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/407 رقم: 2031.
(10) روضة العقلاء، لابن حبان: 214.
(11) انظر: الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/310.
(12) روضة العقلاء، لابن حبان: 195.
(13) انظر: الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/310.
(14) المستدرك، للحاكم: 1/124، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/707 رقم: 3795.
(15) شعب الإيمان، للبيهقي: 3/244 رقم: 3442، وصححه الألباني في صحيح الجامع:
2/ 702 رقم: 3760.
(16) المعجم الكبير، للطبراني: 4/274 رقم: 4402، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد:
3 / 109 وقال: (وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف) ، وأورده ابن حجر الهيتمي في الزواجر:
1/ 318، 319 ضمن أحاديث أفاد بأنها صحيحة إلا قليلاً منها فإنه حسن، والظاهر أن هذا الحديث حسن بشواهده، وانظر: المقاصد الحسنة، للسخاوي: 260 261 رقم: 618، وكشف الخفاء، للعجلوني: 2/28 29 رقم: 1953.
(17) صحيح البخاري، فتح 2/615 رقم: 1044.
(18) إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد: 2/141.
(19) شعب الإيمان للبيهقي: 3/282 رقم: 3558، وأفاد المنذري في الترغيب والترهيب:
1/ 520 أنه روي مرفوعاً ومرسلاً قال: (والمرسل أشبه) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع:
1/ 634 رقم: 3358.
(20) المدخل، لابن الحاج: 4/ 141 142.
(21) انظر: الزواجر، لابن حجر الهيتمي: 1/321.
(22) انظر: الزواجر، لابن حجر الهيتمي: 1/321 322.
(23) فيض القدير، للمناوي: 3/515.
(24) شعب الإيمان، للبيهقي: 3/283 رقم: 3559.
(25) المستدرك، للحاكم: 2/348 وصححه ووافقه الذهبي.
(26) في ظلال القرآن، لسيد قطب: 6/3490.
(27) أحكام القرآن، للجصاص: 1/616.
(28) طريق الهجرتين، لابن القيم: 538 539.
(29) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب: 1/306، وراجع: إعلام الموقعين، لابن القيم:
1/ 141، 142.
(30) الفلو: ولد الفرس إذا فطم عن أمه، والفصيل ولد الناقة إذا فصل عن الرضاع انظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 4/447، 4/505.
(31) البخاري، فتح 3/ 326 رقم: 1410، مسلم: 1/702 رقم: 1014واللفظ له.
(32) الفتح: 3/328، 329.
(33) المسند: 31/196، 197 رقم: 18900، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/ 1054 رقم: 6110.
(34) تحفة الأحوذي: 5/ 254.
(35) مخطومة: أي عليها خطام وهو مثل الزمام، انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض: 6/315.
(36) مسلم: 2/1505 رقم: 1892.
(37) الموطأ: 2/997، وانظر: التمهيد، لابن عبد البر: 4/302.
(38) المستطرف، للأبشيهي: 1/25.
(39) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 4/355، وفي ظلال القرآن، لسيد قطب:
4/ 1932.
(40) مسند الشهاب: 1/95 رقم: 104، والزهد، لابن المبارك: 229 رقم: 651، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/568 رقم: 2951.
(41) صحيح ابن حبان: 12/378 379 رقم: 5567، وصححه المحقق، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/363 رقم: 861.
(42) البخاري، فتح 3/353 رقم: 1435.
(43) جامع الترمذي: 3/514 رقم: 1208 وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2/4 رقم: 966.
(44) المبسوط، للسرخسي: 15/115.
(45) عدة الصابرين، لابن القيم: 255.
(46) انظر: مغني المحتاج، للشربيني: 3/123، غاية المحتاج، للرملي: 6/ 176.
(47) جامع الترمذي: 4/355 رقم: 1987 وقال: (حسن صحيح) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/81 رقم: 97.
(48) انظر: شرح الزرقاني، للموطأ: 4/549، سبل السلام، للصنعاني: 4/ 208.
(49) التحرير والتنوير، لابن عاشور: 12/ 220.
(50) تيسير الكريم، الرحمن للسعدي: 681.
(51) كشف الخفاء، للعجلوني: 1/245 رقم: 641.
(52) البخاري، فتح 8/202 رقم: 2684، مسلم: 1/690 رقم: 993 واللفظ له.
(53) شعب الإيمان، للبيهقي: 3/233، 234 رقم: 2413، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/986 رقم: 5646.
(54) البخاري،: 3/357 رقم: 1442، مسلم: 1/700 رقم: 1010.
(55) الحرة: أرض بها حجارة سود كثيرة، وانظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 7/ 2.
(56) الشرجة: مسيل الماء إلى الأرض السهلة، وانظر: تاج العروس، للزبيدي: 3/ 413.
(57) المسحاة: مجرفة من حديد، انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير: 4/328.
(58) مسلم: 3/2288 رقم: 2984.
(59) مسلم: 3/2001 قم: 2588.
(60) جامع الترمذي: 4 / 562 رقم: 2325، وقال: (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 9 رقم: 14.
(61) البخاري، فتح 5/257، رقم: 2591.
(62) جزء من حديث مرفوع عن أبي هريرة رضي الله عنه عند البيهقي في شعب الإيمان: 7/ 191 رقم: 9956، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/394 رقم: 1952.
(63) انظر: روح المعاني، للآلوسي: 22/150.
(64) انظر على سبيل المثال: سبل السلام، للصنعاني: 4/208.
(65) أي غطاها بأقراص ورغف، انظر: النهاية، لابن الأثير: 4/193.
(66) الموطأ، لمالك: 2/997.
(67) روضة العقلاء، لابن حبان: 198.
(68) جامع الترمذي: 5/148 رقم: 2863 وقال: (حسن صحيح غريب) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/354 رقم: 1724.
(69) المستدرك، للحاكم: 1/379 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، صحيح ابن حبان:
7/380، 381 رقم: 3113 وحسنه المحقق.
(70) المسند، لأحمد: 13/447 رقم: 8085، وقال المحقق: (إسناده صحيح) .
(71) سنن ابن ماجه: 2/1383 رقم: 4129، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/1199 رقم: 7137.
(72) المسند، لأحمد: 28/241 رقم: 17020 وقال المحقق: (حديث صحيح) .
(73) البخاري، فتح: 1/485 رقم: 304.
(74) فتح الباري، لابن حجر: 1/485.
(75) نيل الأوطار، للشوكاني: 6/124.
(76) البخاري، فتح: 13/482 رقم: 7512، ومسلم: 1/703 رقم: 1016.
(77) مسلم: 1/703 رقم: 1016.
(78) المعجم الكبير، للطبراني: 18/303 رقم: 777، وحسنه الألباني في صحيح الجامع:
1/ 94 رقم: 153.
(79) المسند، لأحمد: 6/79، وحسنه المنذري والألباني كما في صحيح الترغيب: 362.
(80) انظر: لباب التأويل، للخازن: 1/208، تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 116، في ظلال القرآن، لسيد قطب: 1/316.
(81) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/ 119.
(82) المنيحة عند العرب العطية، وهي على وجهين: أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه الشيء بمنافعه صلة فتكون له، وهي الهبة، والآخر: أن يعطيه ناقة أو شاة أو نخلة ينتفع بها زمناً ثم يردها، انظر: فتح الباري لابن حجر: 5/288، عون المعبود للعظيم آبادي: 5/ 97.
(83) البخاري، فتح: 5/287 رقم: 2631.
(84) المراد بالزوجين: إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد انظر: فتح الباري لابن حجر: 4/134.
(85) المراد بقوله: (في سبيل الله) : عموم الإنفاق في وجوه الخير، وقيل: مخصوص بالجهاد، والأول أصح وأظهر، انظر: شرح مسلم للنووي: 7/162، فتح الباري لابن حجر: 7/ 34.
(86) البخاري، فتح 4/ 133 رقم: 1897، مسلم: 1/711 رقم: 1027.
(87) انظر: عمدة القاري، للعيني: 10/264.
(88) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 8/249، دليل الفالحين، لابن علان: 1/ 142.
(89) مسلم: 1/ 203 رقم: 223.
(90) انظر: شرح مسلم، للنووي: 3/127، جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 2/ 23 24.
(91) فيض القدير، للمناوي: 4/291.
(92) انظر: عدة الصابرين، لابن القيم: 253.
(93) المعجم الأوسط، للطبراني: 3/86 رقم: 2572، مسند أبي يعلى: 10 / 429 رقم: 6040 وجود إسناده المحقق.
(94) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 1/ 253.
(95) البخاري، فتح: 6/95 رقم: 2887.
(96) قد اختلف في المراد بالصدقة في الآية: أهي الزكاة الواجبة أم غيرها؟ والظاهر أن المراد بها كما قال الحسن البصري: الصدقة غير المفروضة بدلالة نزولها في الطائفة التي تخلفت عن الغزو فبذلوا أموالهم كمالاً في توبتهم، لتكون جارية في حقهم مجرى الكفارة، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها منهم تطهيراً لهم وتزكية، انظر: جامع البيان، للطبري: 14/454، تفسير الرازي: 16/ 181.
(97) انظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور: 11/23، تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 350.
(98) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/ 49، تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 785.
(99) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/ 146.
(100) البر: جماع الخير والطريق الوصل إلى الجنة انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 111.
(101) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 857.
(102) انظر: إرشاد العقل السليم، لأبي السعود: 2/57، شرح الموطأ، للزرقاني: 4/538.
(103) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب: 1/424.
(104) البخاري، فتح: 5/454 رقم: 2758، مسلم: 693 رقم: 998 واللفظ له.
(105) تفسير عبد الرزاق: 1/126، جامع البيان، للطبري: 6/592 رقم: 7398، تفسير
عبد بن حميد كما في الدر المنثور للسيوطي: 2/261.
(106) جامع البيان، للطبري: 6/588 رقم: 7392، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 4/ 133.
(107) المستدرك، للحاكم: 3/ 568.
(108) انظر: الحلية، للأصفهاني: 1/ 294 295.
(109) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 4/ 133.
(110) انظر: المصدر السابق: 4/ 133.
(111) انظر: إرشاد العقل السليم، لأبي السعود: 4/58.
(112) المسند، لأحمد: 28/261 رقم: 17033، صحيح ابن حبان: 8/216 رقم: 3429 واللفظ له، وهو حديث صحيح.
(113) البخاري، فتح: 6/58 رقم 2843، مسلم: 2/1506 رقم: 1895.
(114) انظر: فتح الباري، لابن حجر: 6/ 59.
(115) شعب الإيمان، للبيهقي: 3/480 رقم: 4121، ورجاله ثقات.
(116) انظر: فيض القدير، للمناوي: 6/114.
(117) المستدرك، للحاكم: 4/306، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/243 رقم: 1077.(156/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
مسائل في المزاح
محمد بن عبد الله السحيم
لمَّا كان المزاح سُنَّة مشروعة، وخُلُقاً يحبه كثيرٌ من الناس، وأداةً يستميل بها
الداعية قلوب المدعوين، ومتنفساً ينفس الشخص بها عن نفسه؛ صار لزاماً على
صاحبه أن يتبصر بآدابه ويلتزم بضوابطه؛ حتى يأتي به على وجهه ويتحقق به
مقصوده، ولا يكون ذلك سبباً لبغضه أو استهجانه أو النفور عنه.
ومن هذا المنطلق كانت هذه المقالة محاولة لتحديد بعض معالم هذا الخلق
أعني المزاح وبيان شيء من آدابه.
وقد جعلتها على شكل مسائل؛ لتكون أجود في الترتيب، وأكمل في الفائدة،
وأيسر في التصور.
أسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها عملاً صالحاً متقبلاً.
المسألة الأولى: سبب تسميته بهذا الاسم:
سمي المزاح مزاحاً؛ لأنه زاح عن الحق. هكذا قال ابن حبان [1] ، وذكر
ذلك البغوي [2] .
المسألة الثانية: حكم المزاح:
المزاح مشروع دل على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك
ما يلي:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالوا: يا رسول الله! إنك
لتداعبنا! قال:» إني لا أقول إلا حقاً «وفي رواية:» إني لأداعبكم « [3] .
2 - وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول:
يازوينب! يا زوينب! مراراً» [4] .
3 - وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن كان النبي صلى الله عليه
وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» [5] .
4 - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي، فيرى
الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه. أي: يسرع إليه بعد أن أعجب به [6] .
5 - وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان
يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن زاهراً
باديتنا، ونحن حاضروه» قال: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان
دميماً، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه
وهو لا يبصره فقال: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم،
فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل
النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» من يشتري العبد؟ «، فقال: يا رسول الله!
إذاً والله تجدني كاسداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:» لكن عند الله
لست بكاسد «أو قال:» لكن عند الله أنت غال « [7] .
والخلاصة:
أن المزح سنة. قيل لسفيان بن عيينة:» المزاح هجنة؟ قال: بل سنة،
ولكن الشأن فيمن يُحْسِنه ويضعه مواضعه « [8] .
وعلى هذا جرى عمل كثير من السلف. قال ابن مسعود:» خالط الناسَ،
ودينَك لا تَكْلِمَنَّه « [9] . وكان عمر يقول:» إنه ليعجبني أن يكون الرجل في أهله
مثل الصبي؛ فإذا بُغِيَ منه وُجِدَ رجلاً « [10] . وقال ثابت بن عبيد:» كان زيد
بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال « [11] . وروي
عن ابن عباس أنه قال لقوم قعود لديه:» أحمضوا [*] ، أي: لما خاف عليهم
الإملال أحب أن يُجِمَّهم فأمرهم بالأخذ في مُلَحِ الحكايات « [12] . وقال علي بن أبي
طالب:» أجِمُّوا هذه القلوب؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان « [13] . وعن أبي
الدرداء قال:» إني أستجِمُّ ببعض الباطل [**] ليكون أنشط لي في الحق « [14] .
وقال ربيعة الرأي:» المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السفر؛
ففي الحضر: تلاوة القرآن، وعمارة مساجد الله، واتخاذ القِرى في الله. والتي
في السفر: بذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح في غير معصية « [15] .
وكان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وإذا أردته على شيء من دينه
كانت الثريا أقرب إليك من ذلك [16] . وقال ابن عباس:» المزاح بما يحسن مباح،
وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقل إلا حقاً « [17] . وقال الخليل بن
أحمد الفراهيدي:» الناس في سجن ما لم يمزحوا « [18] .
وقال ابن حبان:» الواجب على العاقل أن يستميل قلوب الناس إليه بالمزاح
وترك التعبيس « [19] .
وهنا مسألة:
نقل عن بعض السلف كراهة المزاح ومنعه، بل روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم:» لا تمارِ أخاك ولا تمازحه « [20] .
ونقل عن بعضهم قوله:» لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح «. وكان
يقال:» لو كان المزاح فحلاً ما ألقح إلا الشر «.
وقال جعفر بن محمد:» إياكم والمزاح؛ فإنه يذهب بماء الوجه «. وقال
إبراهيم النَخْعي:» لا يكون المزاح إلا في سخف أو بطر « [21] . وقال الإمام ابن
عبد البر رحمه الله:» وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من
ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض واستجلاب الضغائن وإفساد الإخاء « [22] .
فكيف نجمع بين هذا وبين ما سبق تقريره في حكم المزاح؟
والجمع بين ذلك كما قال الحافظ في الفتح:» والجمع بينها: أن المنهي عنه
ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات
الدين، ويؤول كثيراً إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار.
والذي يسلم من ذلك هو المباح. فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب
ومؤانسته فهو مستحب « [23] .
المسألة الثالثة: أنواع المزاح:
المزاح نوعان:
1- محمود: وضابطه كما قال ابن حبان:» هو الذي لا يشوبه ما كره الله
عز وجل، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم « [24] .
2- مذموم: وضابطه كما قال ابن حبان أيضاً:» الذي يثير العداوة،
ويُذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنيء عليه، ويحقد الشريف به « [25] .
ولكي يكون أكثر وضوحاً؛ فإننا نسرد بعض فوائد المزاح وبعض مخاطره،
فنقول:
قال بعضهم:» من فوائد المزاح أنه [26] : يسلي الهم، ويرقع الخَلَّة،
ويحيي النفوس، ويميل قلوب الناس إليه «. كتب أحدهم إلى صاحب له:» ولنا
بعدُ مذهب في الدعابة جميل لا يشوبه أذى ولا قذى، يُخرج إلى الأنس من العبوس،
وإلى الاسترسال من القطوب، ويلحقنا بأحرار الناس وأشرافهم الذين ارتفعوا عن
لبسة الرياء والتصنع « [27] .
وكما أن للمزح فوائد فإن له مخاطر، منها [28] :
إفساده المودة، وإيغار الصدور، وإثارة العداوة، وذهاب البهاء، وتجرئة
الدنيء، وحقد الشريف، وإحياء الضغينة. وهذا ما حدا مِسعَر بن كِدَام إلى أن
ينصح ابنه كداماً قائلاً [29] :
إني نحلْتُك يا كِدَامُُ نصيحتي ... فاسمع مقال أب عليك شفيقِ
أما المزاحة والمراء فدعهما ... خُلقان لا أرضاهما لصديقِ
إني بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاورٍ جاراً ولا لشقيقِ
وقال آخر [30] :
وإياك من حلو المزاح ومره ... ومن أن يراك الناس فيه ممارايا
وإن مراء المرء يُخلِق وجهه ... وإن مزاح المرء يبدي التشانيا
دعاه مزاح أو مراء إلى التي ... بها صار مقليَّ الإخاء وقاليا
المسألة الرابعة: ضوابط المزح المحمود [31] :
1 - ألاَّ يكون إلا حقاً. كما سبق من قول النبي صلى الله عليه وسلم:» إني
لا أقول إلا حقاً « [32] .
2 - ألاَّ يداوم المرء عليه، بحيث يكون صفة لازمة؛ لأن الجِد من سمات
العاملين. يقول محمد أحمد الراشد:» وقضايا الإسلام أوفر جداً وأثقل هموماً من
أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك، وتستجيز المزاح، وتتخذ لها من صاحب
خير فيها محور تندُّر تروي قصصه وغرائبه. والابتسامة علامة المؤمن ولسنا
ننكرها، والنكتة في ساعتها سائغة، والأريحية أصل في سلوكنا، والألفة والبشاشة
ليس العبوس. والقهقهة الأولى لك والثانية نهبها لك أيضاً فإنَّا كرماء، ولكن الثالثة
عليك وتشفع حسناتك لها عندنا، وأما الرابعة فيلزمها حد لا شفاعة فيه. وشعار
الضحك للضحك باطل، والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل الإسلامي،
وإنما الداعية مفوض بالجد والتجديد « [33] .
3 - ألاَّ يشتمل المزاح على مساوئ الأخلاق ومعايب الكلام مما ينكره الشرع
أو يمجه الطبع.
4 - اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب.
وقد ذكر الدكتور عادل الشويخ رحمه الله أوقاتاً يجمل فيها المزاح. فقال:
أجمل ما قد يكون المزاح بعد صلاة الفجر؛ ودليله ما رواه سماك بن حرب قال:
قلت لجابر بن سمرة:» أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم!
كثيراً ما كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع
الشمس فيضحكون ويبتسم « [34] ، وقال:» ومن الأوقات أيضاً بعد صلاة العشاء.
أي: السمر فيه « [35] ، وقال أيضاً» ويقال: إذا كانت المؤانسة تصح من
الأهل [36] فهي تصح من الإخوان والخلان، ويزداد استحبابها إذا كانت لمصلحة
الدعوة في بذل النصح، وتقريب القلوب، وزيادة المودة، وإزالة الكدر، وإيجاد
أجواء الحب والتعارف « [37] .
قلت: إن الوقت يخضع لنظر المازح حسب اختلاف الأحوال.
وخلاصة الضوابط في رأيي أن ينظر لها من زاويتين:
1 - ذات المزح.
2 - آثاره.
فمتى كان أحدهما أو كلاهما حراماً فهو حرام وإلا فلا.
وهذه فائدة ساقها لنا الإمام النووي في المزاح فقال:» المزاح المنهي عنه هو
الذي فيه إفراط ويداوم عليه؛ فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر
الله والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث
الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فإنه كان يفعله؛ في نادر من الأحوال لمصلحة،
لتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا مانع منه مطلقاً، بل هو سنة مستحبة
إذا كان بهذه الصفة، فاعتمِدْ ما نقلناه عن العلماء وحققناه؛ فإنه مما يعظُم الاحتياج
إليه. والله الموفق « [38] .
تنبيه:
مما تجدر الإشارة إليه أنه يوجد ما يغني عن كثير من المزاح إذا أحسن المرء
استخدامه، ألا وهو التباسط. وهذا مفيد لمن لم يعطه الله طابع المزح والمرح.
ولكن لا تنس أن للتباسط آداباً.
المسألة الخامسة: نقاط متفرقة:
اجعل لك هدفاً في مزاحك حتى يؤتي ثماره.
المزاح كالملح في الطعام فاجعله قدراً، ولكن لا تنس أن بعض الناس لا
يأكلون الطعام إذا كان فيه ملح.
قال الشاعر:
أفد طبعك المكدود بالجِدِّ راحة ... يُجمُّ وعلِّله بشيء من المَزح
ولكن إذا أعطيته المَزْح فليكن ... بمقدار ما تُعطي الطعام من المِلْحِ
فبعض الناس لا يناسبه المزاح كما نقل الذهبي في سِيَره عن خلف بن سالم:» كنا في مجلس يزيد ابن هارون فمزح مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فقال
يزيد: من المتنحنح؟ فقيل له: أحمد بن حنبل. فضرب على جبينه وقال: ألا
أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح « [39] .
وبعض الناس قد يجره مزحك معه إلى إيذائك كما قيل:» لا تمازح الغلمان
فتهون عليهم أو يجترئوا عليك « [40] . وقيل:» لا تمازح الشريف فيحقد عليك،
ولا تمازح الوضيع فيجترئ عليك « [41] .
قال ابن حبان:» من مازح رجلاً من غير جنسه هان عليه واجترأ عليه،
وإن كان المزاح حقاً؛ لأن كل شيء يجب ألا يسلك به غير مسلكه ولا يظهر إلا
عند أهله. على أني أكره استعمال المزاح بحضرة العامة، كما أكره تركه عند
حضور الأشكال « [42] .
قال ابن المقفع:» وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس
لهم لباسين مختلفين: فطبقة من العامة يلبس لها لباس انقباض وانحجاز وتحفظ في
كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد، ويلبس لباس
الأنسة واللطفة والبذلة والمفاوضة، كلهم ذو فضل في الرأي وثقة في المودة وأمانة
في السر ووفاء بالإخاء « [43] .
قال الدكتور عادل الشويخ:» ألاَّ يكون المزح إلا مع الأقران؛ لأن المزاح
مع الأعلى يؤذيه، ومع الأقل يؤدي إلى الجرأة على المازح، وكذلك ينبغي البعد
عن ممازحة الأعداء لما يقود إلى مفسدة تؤذي الداعية في دينه ودنياه « [44] .
فحاول أن تدرس شخصية من أمامك: هل هو مناسب أم لا؟ ولعل هذا هو
هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يمازح كل أصحابه.
* لعل من المناسب ألاَّ تمزح مع شخص أول مرة حتى تعرفه.
* إياك والتجريح في المزاح.
* لا تتكلف المزح.
* احذر الأريحية الزائدة مع البعض.
* أشعِرْ من تمازحه أنك تحترمه. وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم
مع من يمازحه، مثل قوله:» لكن عند الله أنت غال «.
* احذر أوقات انفتاح النفس.
* أحسِنِ التصرف مع من يخطئ معك في مزحه حسب ما يناسب المقام: من
رد مفحم، أو تجاهل، أو تحديق النظر فيه أو غير ذلك من الأساليب الناجعة.
المسألة السادسة: أسئلة ينبغي مراعاتها عند المزاح:
1 - هل هذا الوقت مناسب؟
2 - هل هذا الشخص مناسب؟
3 - هل هذا الكلام أو الفعل» ذات المزح «مناسب؟
4 - هل هذا المكان مناسب؟
المسألة السابعة: صور من مزح السلف [45] :
1 - قال غالب القطَّان: أتيت محمد ابن سيرين وكان مزَّاحاً فسألته عن هشام
بن حسان، فقال: تُوفي البارحة أما شعرت؟ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون،
فضحك وقال: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ
الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ] (الزمر: 42) .
2 - قيل لابن سيرين: إن قوماً يقولون من الشعر ما يوجب الوضوء،
فعجب من جهلهم وكان في المسجد فتمثل:
نُبِّئتُ أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
فقام واستقبل القبلة وكبر مفتتحاً صلاته.
3 - ودخل رجل على الشَّعبي ومعه في البيت امرأة، فقال: أيكم الشعبي؟
فقال الشعبي: هذه.
4 - وسُئل الشعبي عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف. قال:
فما تقول في الذبان؟ قال: إن اشتهيتَه فكله.
5 - سأل رجل الشعبي: هل يجوز للمُحْرِم أن يحك بدنه؟ قال: نعم، قال:
مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم.
6 - وسُئل: عن الرجل يغتسل في البحر إلى أين يتوجه؟ قال: يتوجه إلى
ثيابه حتى لا تسرق.
7 - ودخل يوماً الحَمَّام فوجد صديقاً له متجرداً فأغمض عينيه، فقال له
صديقه: منذ متى عميت؟ فقال له الشعبي: منذ أن هتك الله سترك.
__________
(1) روضة العقلاء، ص 78.
(2) شرح السنة (13/184) .
(3) رواه الترمذي (1991) ، والبغوي في شرح السنة (2602) وحسناه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2494) ولفظه:» إني لأمزح، ولا أقول إلا حقاً «.
(4) رواه الضياء في المختارة وصححه الألباني في صحيح الجامع (5025) .
(5) رواه البخاري في صحيحه (6129) .
(6) رواه البغوي وحسنه محقق شرح السنة (2603) .
(7) رواه البغوي في شرح السنة (3604) وصحح المحقق إسناده، ونقل عن الحافظ تصحيحه في الإصابة.
(8) شرح السنة (13/184) .
(9) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به (12/157) فتح.
(*) أحمِضوا: قال ابن منظور: أحمض القوم إحماضاً: إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام (لسان العرب، مادة حمض) .
(10) شرح السنة (13/183) .
(11) شرح السنة (13/183) .
(12) شرح السنة (13/183) .
(13) شرح السنة (13/184) .
(14) شرح السنة (13/184) .
(15) شرح السنة (13/184) .
(**) الباطل هنا ليس الذي هو ضد الحق ولكنه الهزل قال ابن منظور: بَطِلَ في حديثه بطالة، وأبطل: هَزَل (لسان العرب، مادة بطل) .
(16) بهجة المجالس (2/568) .
(17) بهجة المجالس (2/567) .
(18) بهجة المجالس (2/567) .
(19) روضة العقلاء، ص 76.
(20) رواه الترمذي (1995) وضعف إسناده الحافظ في البلوغ (1307) .
(21) انظر جميع ما سبق في بهجة المجالس (2/569 وما بعدها) .
(22) المرجع السابق (2/569) .
(23) فتح الباري (12/158) .
(24) روضة العقلاء، ص 77.
(25) روضة العقلاء، ص 77.
(26) مسافر في قطار الدعوة، ص 247.
(27) عيون الأخبار (1/374) .
(28) روضة العقلاء، ص 77، 78.
(29) روضة العقلاء، ص 77، 78.
(30) المرجع السابق، ص 79.
(31) ينظر: فتح الباري (12/158) ، الأذكار للنووي، ص 468، مسافر في قطار الدعوة،
ص 245- 247.
(32) سبق تخريجه.
(33) تقرير ميداني، ص 23.
(34) رواه مسلم في صحيحه (670) .
(35) مسافر في قطار الدعوة، ص 245.
(36) ينظر فتح الباري (1/278 288) .
(37) مسافر في قطار الدعوة، ص 245.
(38) الأذكار، ص 468.
(39) سير أعلام النبلاء (9/371) .
(40) روضة العقلاء، ص 77.
(41) روضة العقلاء، ص 77.
(42) روضة العقلاء، ص 80.
(43) الأدب الصغير، ص 41.
(44) مسافر في قطار الدعوة، ص 245.
(45) انظر: عيون الأخبار (2/264 وما بعدها) ، بهجة المجالس (2/556 وما بعدها) .(156/20)
تأملات دعوية
حتى نستفيد من التخصصات الإنسانية
محمد بن عبد الله الدويش
كان الحديث في المقال السابق حول أهمية الاستفادة من التخصصات الإنسانية
والاعتناء بها، ونواصل الحديث في هذه المقالة عن هذا الموضوع بالإشارة إلى
بعض مجالات الاهتمام بالدراسات الإنسانية والإفادة منها.
فمن هذه المجالات:
أولاً: توثيق الصلة مع المتخصصين في هذه التخصصات ممن يحملون
الغيرة الإسلامية، والسعي لتنظيم أعمال وبرامج علمية جماعية مشتركة مع أمثال
هؤلاء، وهذا النوع من التواصل والتعاون لا يمكن أن يحقق ثمرته ما لم ينطلق
أصحابه فيه من فضاء يتجاوز الحدود الحزبية، والخطوات التصنيفية.
ثانياً: الاستفادة من النتاج المتاح في هذا الميدان، والمتمثل في الرسائل
الجامعية، والدراسات المنشورة في الدوريات العلمية، وبحوث المؤتمرات
واللقاءات العلمية وأعمالها، ويمكن أن يتسع مدى الاستفادة من هذا النتاج باعتناء
طائفة من المهتمين بفهرسة هذه المواد المهمة وتصنيفها
ثالثاً: كثير من المتخصصين في الدراسات الإنسانية حصلوا على شهاداتهم
العلمية من جامعات غربية، وتناولت رسائلهم العلمية دراسات ميدانية اهتمت
بمجتمعات المسلمين، وكثير منها يحوي نتائج في غاية الأهمية، ولا أقل من أن
يقوم كل منهم بترجمة نتاجه وطباعته ليكون قريب التناول من المهتمين، وإن كان
المنتظر منهم أكثر من ذلك.
رابعاً: تنظيم برامج تأهيلية ودورات فيما يحتاجه الدعاة من هذه التخصصات،
فلا يسوغ بحال أن نكون في عصر يحترم المنهج العلمي، ويعتني بالتخصص،
فيكوِّن طائفة من المربين والمصلحين نظرتهم للإنسان والمجتمعات والمتغيرات التي
تؤثر فيها من خلال آراء واقتناعات شخصية، وأن يتحدثوا في هذا الباب فيما لا
يحسنون ولا يجيدون؟
إن الدعاة اليوم على اختلاف ميادين أعمالهم بحاجة إلى قدر من الثقافة العلمية
في الظاهرة الإنسانية، ومن ثَمَّ فتنظيم هذه البرامج والدورات، وإسهام المختصين
في ذلك أمر لا يقل أهمية عن الدورات الإدارية والقيادية التي بدأ الشعور بأهميتها
والتفاعل معها يتنامى، وبدأت تشهد إقبالاً واهتماماً واضحاً.
خامساً: وهو أهم هذه المجالات: توجيه طائفة ممن يملك القدرات العقلية
والعلمية، ويحمل الحس والغيرة الدعوية إلى التخصص في هذه الميادين والأنواع
ودراستها؛ فهي أوْلى بكثير من التخصصات التي غاية ما فيها أن تشغل أوقات
أصحابها، ثم تهيئهم لفرص عمل ووجاهة اجتماعية ليتجهوا بعد ذلك للاعتناء بغير
تخصصاتهم.
إننا نحتاج اليوم إلى أن يتولى العمل الإعلامي مختصون في الإعلام بدلاً من
الأطباء، وبحاجة إلى أن يتولى الجانب الإداري ويهتم به مختصون في الإدارة بدلاً
من الحاسب الآلي، وإلى أن يتحدث في الجوانب التربوية المختصون فيها بدلاً من
الصيادلة والمهندسين. ونحتاج إلى أن يكون حضورنا الأكاديمي في التخصصات
الإنسانية أكثر منه في التخصصات التطبيقية.
ويمكن الاتجاه لهذه التخصصات في الدراسات العليا وبعد الدراسة الجامعية،
وهذا يهيئ اتجاه طائفة ممن ملكوا قدراً من النضج والاستقرار، وقدراً من العلم
الشرعي حين يكونون خريجي كليات شرعية، مما يعطيهم قدرة أكثر على التأصيل
الشرعي لهذه العلوم والتخصصات والإفادة منها.(156/26)
قضايا دعوية
كيف نتعامل مع المبتدعة؟
سليمان الخضير
كان مما تزامن مع إقبال المسلمين على السُّنَّة وعنايتهم بها علماً وعملاً الأخذ
بمبدأ كراهة البدعة وأهلها وإنكارها عليهم؛ وفقاً للسنة الإلهية وتبعاً للحكم الشرعي.
غير أنه مما صاحب ذلك عند فئام من الناس قدر من الحماسة يصاحبها قدر
من قلة العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين؛
مما أضعف تقدير المصالح والمفاسد.
وتبعاً لذلك كانت هناك رؤى متضاربة وتصرفات متباينة إزاء المبتدعة أجمل
وصفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بوصفه لاختلاف الناس في أخذهم بعقوبة
(هجر المبتدع) فقال: «إن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار
ما لم يؤمروا به [مما] لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات
وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمِروا
بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ...
ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من
النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً ... ودين الله وسط بين الغالي فيه
والجافي عنه» [1] .
وقد ظن أناس أن (هجر المبتدع) حكم شرعي لازم كملازمة المسببات
لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء. والواقع أن هجر المبتدع كغيره من
عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل
بها حسب الحال.
من هنا رغبت في جمع نظائر في موضوع التعامل مع المبتدعة وترتيبها على
شكل فقرات لتكون معالم للمنهج الشرعي في التعامل مع عامة ذوي المخالفات
الشرعية، وخاصة المبتدعة [2] .
أولاً: لا يجوز أن نتدين باتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها
إلا بعد أن يغلب على ظننا أنها بدعة أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل
أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية؛ فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في
المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي
الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافاً عقدياً أو مخالفات شرعية [3] ، أو ربما
كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً.
فينبغي للمسلم أن يتعرف إلى مفهوم البدعة وماذا يشمل؛ فإن الحكم على
الشيء فرع عن تصوره، ولتقريب مفهوم البدعة يمكن أن تعرَّف بأنها: كل ما لم
يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مثل:
* ما تخلف فيه واحد من شروط الاتباع، وهي أن يوافق السنة في زمانها
ومكانها وسببها وقدرها وصفتها وعددها، كتخصيص يوم للاجتماع فيه على عبادة،
كما خص الشارع أيام الأعياد.
* أو ما هو مخالف للقرآن أو السنة عند أهل العلم، كبدعة الخوارج
والرافضة.
* أو المداومة على خلاف ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من
العبادات كمداومة الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو قراءة قرآن أو ذكر.
*ومن الابتداع جعل الامتناع عن المباحات ديناً.
ومن المهم استحضاره - أيضاً -: أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت
بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، كما قال الشاطبي: «كل بدعة عظيمة، بالإضافة
إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها
إلى بعض تفاوتت رتبها: فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد
عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في
المفسدة» [4] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في
أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة،
ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة» [5] .
ثانياً: معالم في التعامل مع أهل البدع:
المَعْلَم الأول: يراعى في التعامل مع أهل البدع أن يكون قائماً على أصلين:
الإخلاص، والمتابعة.
وذلك أن الحكم ببدعة ما واتخاذ موقف من أهلها مسائل شرعية نحن متعبدون بها،
فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص: أنه ينبغي ألا
يكون الموقف (عقاباً أو تألفاً) إزاء أحد من المبتدعة تشهياً ولا تشفياً. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية: «فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان
خارجاً عن هذا [6] ، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة
لله!» [7] . وقال رحمه الله عن الرجل «إذا كان مبتدعاً يدعو إلى عقائد تخالف
الكتاب والسنة أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة ... بُيِّن أمره للناس؛ ليتقوا
ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله
تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو
تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح وقصده
في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان» [8] .
أما متابعة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل معهم فهو ما
سنستوضح معالمه في هذه المقام.
المَعْلَم الثاني: أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق:
والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة مع يقينهم بكونهم على
بدعة يستحقون بها العقوبة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأئمة
السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق
الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو
ظلمهم كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8)
ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءاً،
بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة
الخلق» [9] .
وقال: «وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القَدَر والحَيْرة مستولية عليهم،
والشيطان مستحوذ عليهم: رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءاً وما أوتوا زكاءاً،
وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة [فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (الأحقاف: 26) [10] .
يمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعين رأساً
من رؤوس الخوارج وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق قال:» سبحان الله! ما
يصنع الشيطان ببني آدم؟ كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى وقال:
إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام « [11] .
المعلم الثالث: أهل البدع مستوجبون للعقوبة [12] :
وذلك لمخالفتهم أمر الله تعالى ونهيه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه،
سواء كانت تلك المخالفة في القلب عن اعتقاد أو كانت من أعمال الجوارح، وهم
من جنس مواقعي المنكر ينكر عليهم بالقلب واللسان واليد.
فأما العقوبات المشروعة في حق المبتدع فمنها:
1 - هجرهم [13] .
قال ابن عبد البر في فوائد حديث كعب بن مالك في الذين خلفوا:» وهذا
أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام عنه « [14] .
وقال البَغْوي:» وفيه أي حديث كعب بن مالك دليل على أن هجران أهل
البدع على التأبيد ... وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على
هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم « [15] .
ومن الهجر: عدم أخذ العلم عنه، ولا مناكحته، ولا الصلاة خلفه مع وجود
إمام غيره؛ فإن كان هو الوالي فإنه يصلي خلفه الصلوات التي لا يمكنه فعلها إلا
خلفه كالجمع والأعياد، ولا يعيد [16] .
2 - عدم الاستماع لكلامهم ومجالستهم:
وهو لون من ألوان الهجر، وقد جاء عن أبي زُرعة عن أبيه قال:» لقد
رأيت صَبيغ بن عِسْل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق فكلما جلس إلى
حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى:
عزيمةَ أمير المؤمنين « [17] .
وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: أسألك عن كلمة، فولَّى أيوب
وهو يقول:» لا، ولا نصف كلمة مرتين يشير بأصبعيه « [18] .
قال شيخ الإسلام:» لا يجوز الاستماع إلى أهل البدع، ولا النظر في كتبهم
لمن يضره ذلك « [19] .
3 - الإنكار والرد عليهم:
فيجب كشف بدعة المبتدع ولو أدى إلى غِيبته؛ إذ ليس لمعلن البدعة
غِيبة [20] ، إلا إن كانت البدعة خفية فتدحض بحسب درجة خفائها، ولا يعلن
بإنكارها لئلا يكون سبباً في فشو أمرها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» يجب
الإنكار على أهل البدع ولو كانت بدعتهم بقصد حسن « [21] .
وفي موضع آخر:» ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب
والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم
واجب باتفاق المسلمين ... ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان
فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم
يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فيفسدون القلوب
ابتداءً « [22] .
4 - حرمانه من بعض الأمور:
كحرمانه من إعطاء الزكاة إن كان فقيراً إلى أن يتوب [23] ، كما أنه لا تقبل
شهادته، ويحرم من الإمامة في الصلاة كل ذلك لمن يملك منعه وحرمانه.
5 - العقوبات البدنية:
وقد تصل للقتل لمن يملك ذلك، وأوضح مَنْ يصدق عليه ذلك: الداعيةُ لبدعة
المصِرُّ عليها، كما جرى للجَعْد وغِيلان والجَهْم، وقد تكون العقوبة بما دون
القتل [24] .
المعْلَم الرابع: المقاصد الشرعية في تعامل أهل السنة مع المبتدعة:
هذه المقاصد منها ما يعود إلى الهاجرين القائمين بهذه الوظيفة الشرعية، ومنها ما
يعود إلى المهجور، ومنها ما يعود إلى عامة المسلمين، كما أن منها ما روعي فيه
جناب الشريعة وحماية السنن من البدع والأهواء.
وعند الحديث عن التعامل مع المبتدعة فالمقصود وجها التعامل: بالعقوبة بأي
من صورها، أو بالتأليف المشروع عند الحاجة إليه؛ فإن المغلب في التعامل معهم
هو جانب إيقاع العقوبة (بحسبها) ، لكن تلك المقاصد تشمل ما لو كان ذلك
التعامل تألفاً وتودداً.
المقصد الأول: إصلاحهم وهدايتهم.
فليس المبتدع في الجملة شراً من الكفار الذين شرع لنا دعوتهم ودلالتهم على
الحق، بل ربما كان فيهم من القرب للحق ما يدعو للاهتمام بهم، وبخاصة إذا
كانت البدعة عن جهل وبُعد عن مصادر العلم. وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه
الخوارج فرجع منهم من أراد الله به الخير والهداية [25] .
قال الخطابي:» إن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات
والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق « [26] .
وتقدم قريباً قول شيخ الإسلام:» يريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا
يقصدون لهم الشر ابتداءاً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان
قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق «.
المقصد الثاني: حماية الشريعة.
فإن الزجر بالعقوبة منهج شرعي من جنس الجهاد في سبيل الله؛ لتكون كلمة
الله هي العليا، وأداءاً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تقرباً إلى الله
تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه كما أن إيقاع العقوبة بالهجر أو غيره سبب
لبعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم، ومن حماية
الشريعة حصر انتشار البدعة الذي يحصل بقمع المبتدع وزجره فيضعف عن نشر
بدعته [27] .
قال الشاطبي:» إن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على
الإسلام:
إحداهما: الْتفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير.
الثانية: يكون كالحادي المحرِّض له على انتشار الابتداع في كل شيء « [28] .
ولذلك كان موقف عمر رضي الله عنه من البدع صارماً؛ فكان حازماً في سد
أبواب الابتداع مع توسع البلاد الإسلامية كما تقدم قريباً عن أبي زرعة عن أبيه قال:
» لقد رأيت صَبيغ بن عِسْل [29] بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق
فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل
الحلقة الأخرى: عزيمة أمير المؤمنين « [30] . و» الدين لا يذهب من القلوب
بمرة، ولكن الشيطان يُحدِث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه « [31] .
المعْلَم الخامس من معالم التعامل مع المبتدعة: العدل معهم:
في الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة:
نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل
شيء، على أن» العدل المحض في كل شيء كما يقول شيخ الإسلام: متعذر علماً
وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل « [32] ، وأصل هذا المعلم قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
فمن العدل: ذكر ما لهم من صواب:
وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد؛ والجمع بين ذكر
محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة
الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس
وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.
ويمثل هذا المَعْلَم الإمام الذهبي رحمه الله في تراجمه، كما في قوله عن الفخر
الرازي:» المفسر المتكلم ... كان فريد عصره، ومتكلم زمانه، وكان ذا باع
طويل في الوعظ، ويبكي كثيراً في وعظه « [33] .
ويتمثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الباقلاني الأشعري
مثلاً فيقول:» مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على
الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب
والأشعري أجلَّ منه ولا أحسن كتباً وتصنيفاً « [34] .
ومن العدل: تفاوت الولاء والبراء في حقهم:
الأصل في المسلم الموالاة والمحبة، كما أن الأصل في الكافر المعاداة، غير
أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في
المسلم حب وبغض: فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة
وعصيان. قال شيخ الإسلام:» وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور
وطاعة، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق
من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات
الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه
لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة « [35] .
ومن العدل: قبول الحق إذا جاء به أحد منهم:
فليس من العدل رد الحق لكون صاحبه على خطأ أو باطل؛ فهما أمران غير
متلازمين، وعندما يكون القول حقاً ويراد به باطل يرد ذلك القول (الحق) بسبب
غايته لا بسبب قائله، وإنما كان قائله بما هو عليه من الباطل قرينة يستفهم منها
الغاية التي من أجلها قبل ذلك (الحق) .
قال معاذ رضي الله عنه:» اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً أو
قال: فاجراً «، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول الحق؟ قال:» على الحق
نور «.
وقال شيخ الإسلام:» فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن
الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون
ما فيه من الحق « [36] .
ضوابط في إيقاع العقوبات بأهل البدع:
تلك العقوبات المذكورة في المعلم الثالث الهجر فما فوقه لها ضوابط تختلف
من حالة لأخرى؛ تبعاً لما يأتي:
أ - اختلاف البدع.
ب - أحوال المبتدعة.
ج - أحوال أهل السنة أيضاً.
وذلك» أن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال الداخلة تحت قاعدته
العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم يكون وسطاً عدلاً بين
جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه، فتلتقي العقوبة
للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك من أحوال تنزل
على قاعدة (رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها) .
فـ «هجر المبتدع ليس عاماً في كل حال، ومن كل إنسان، وكل مبتدع.
وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية تفريط على أي حال ... وميزانها للمسلم الذي
به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر
والتأديب ورجوع العامة وتحجيم المبتدع وبدعته، وضمان السنة من شائبة
البدعة» [37] .
قال شيخ الإسلام في المسلك الحق في الهجر: «فإن أقواماً جعلوا ذلك عامّاً،
فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، [مما] لا يجب ولا يستحب، وربما
تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات
البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ... ولا يعاقبون بالهجرة
ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما
أمروا به إيجاباً أو استحباباً، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه» [38] .
وهناك حالات لا بد من مراعاتها والنظر فيها عند إيقاع العقوبات العملية،
فأما إنكار القلب واعتقاد بغض المبتدع فغير داخل في هذه الحالات نحو:
حال المهجور: ففرق بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه؛ فإن القوي يؤاخذ
بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه،
رضي الله عنهم [39] .
حال المكان: وفرق كذلك بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر
بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، رعاية
للمصالح الشرعية [40] .
حال الهاجرين: إن مما تنبغي مراعاته كذلك حال الهاجرين أنفسهم؛ في
قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت
مشروعية إيقاع العقوبات قائمة على أصولها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة ولا
حول ولا قوة إلا بالله فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر، ولا يحصل به المقصود
الشرعي: لم يشرع الهجر، وكان مسلك التأليف أوْلى خشية زيادة الشر، وهذا
كالحال المشروع مع العدو: القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل
ذلك بحسب الأحوال والمصالح [41] .
حال البدعة [42] : فهي من حيث الكفر بها إما مُكفِّرة أو غير مكفِّرة. ومن
حيث الاستقلال: حقيقية أو إضافية [43] ، فليس الموقف من صاحب بدعة غير
مكفِّرة كالموقف من ذي البدعة المكفِّرة.
حال المبتدع نفسه: فهو متردد بين أن يكون داعية، أو جاهلاً، أو متأولاً،
أو صاحب هوى، أو مستتراً، أو مصراً عليها.
فالداعي للبدعة كما قال الشاطبي: «إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر،
ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب إذا أخذ بالترغيب والترهيب
وأدل بشبهته التي تدخل القلوب بزخرفها» [44] .
والجاهل والمقلد يقول فيهما شيخ الإسلام: «وأما الجهال الذين يحسنون
الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب
والسنة» [45] .
وفي موضع آخر: «وهؤلاء الأجناس وإن كانوا كثروا في هذا الزمان فلقلة
العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من
آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغه ذلك» [46] .
والمتأوِّل له شروط: ألا يخالف معلوماً من الدين بالضرورة، وأن يكون
تأويله سائغاً له وجه مقبول في اللغة، وأن يُعلم بقرائن الأحوال اجتهاده وأنه لا
يقصد معارضة الشريعة.
فأما صاحب الهوى: فيقول الشيخ حافظ الحكمي في حقه: «ولكن هؤلاء
منهم من عُلم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه؛ فهذا مقطوع بكفره،
وآخرون مغررون ملبَّس عليهم؛ فهؤلاء إنما يُحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم
وإلزامهم بها» [47] .
وأما المستتر: فكما قال شيخ الإسلام: «لا سبيل لنا عليه؛ لأنه ليس أكثر
شراً من المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم» [48] .
وأما المصر عليها: فيجعل من قبيل الداعي إليها، فيكون داعية معلناً لها، وأما
عدم الإصرار فهو من قبيل كونها فلتة، وزلة عالم إذا كانت منه ثم لم يعاودها [49] .
وهنا أمر في غاية الأهمية: وهو صورة من صور التعامل مع المبتدعة
تختلف عما تقدم؛ فليست عقاباً ولا تألفاً، وإنما أدت الحاجة إليها وهي: ما إذا
كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: الجهاد والتعليم والطب والهندسة ونحوها
متعذراً إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة
التعليم، مع الحذر من البدعة، واتقاء الفتنة به وبها ما أمكن. قال شيخ الإسلام:
«فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها
دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة
معه خيراً من العكس» [50] .
والله الموفق للصواب، والهادي للرشاد.
__________
(1) مجموع الفتاوى: (28/213) .
(2) وقد أكثرت فيها مع اختصارها من النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأمور:
* مشابهة زماننا لزمانه في أمور هذه منها،
* أنه من محققي العلماء الذين يقدمون خلاصات لكلام السلف المتقدمين،
* ما رزقه الله سبحانه من قبول وقناعة في أوساط أهل السنة.
(3) ولا أدعي هنا أن كل ما جاء في المذاهب شرعي وفق السنة ولكن الذي أحمد الله عليه أنه يكاد ألاَّ ينسب لعالم من علماء المذاهب المعتبرة ما يحكم ببدعته الصرفة، والبدع المتفشية في أوساط الناس المنتسبين للمذاهب هي مما جاء بعدهم؛ فألصقت بالمذهب الذي يحمل اسم هذا العالم أو ذاك، وكان أئمة المذاهب من أغير الناس على شرع الله ودينه أن يحدث فيه ما ليس منه، كيف وقد حفلت كتبهم بعبارات اطراح رأيهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) الاعتصام للشاطبي، 1/61.
(5) مجموع الفتاوى، 3/348.
(6) أي عن الهجر الشرعي.
(7) مجموع الفتاوى، 28/207.
(8) مجموع الفتاوى، 28/221.
(9) الرد على البكري: (257) .
(10) مجموع الفتاوى (الحموية) ، 5/119.
(11) الاعتصام، للشاطبي، 1/71.
(12) انظر ضوابط إيقاع العقوبة في آخر البحث.
(13) مجموع الفتاوى، 24/175.
(14) عن تحفة الإخوان: (45) .
(15) شرح السنة، 1/226، 227.
(16) مجموع الفتاوى، 23/342، 353، 28/205.
(17) شرح أصول أهل السنة للالكائي: (رقم الأثر: 1140) .
(18) شرح أصول أهل السنة للالكائي: (رقم الأثر: 291) .
(19) مجموع الفتاوى: (15/336) .
(20) مجموع الفتاوى، 35/414، 15/286.
(21) مجموع الفتاوى، 24/292.
(22) المصدر السابق، 28/231.
(23) مجموع الفتاوى، 28/572.
(24) المصدر السابق، 35/414، مختصر الفتاوى المصرية، 602 الاختيارات العلمية، للبعلي، 519.
(25) أخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح كما قال ابن تيمية في منهاج السنة، 8/530، وانظر: مجلة البيان العدد 12، ص 22.
(26) معالم السنن، 4.
(27) رسالة هجر المبتدع، للعلامة بكر أبو زيد، نشرت في مجلة البيان على حلقات، والنص في العدد 15، ص 16.
(28) الاعتصام، 1/114.
(29) صبيغ بوزن عظيم مكبراً، وعسل بكسر العين وسكون السين انظر الإصابة للحافظ ابن حجر، 2/191، رقم الترجمة (4123) القسم الثالث من حرف الصاد.
(30) شرح أصول أهل السنة للالكائي: (رقم الأثر: 1140) ، وأصل الخبر رواه الدارمي في السنن: (ح 146) من طريقين بألفاظ مختلفة، وابن وضاح في البدع: (56، 57) والآجري في الشريعة: (73) ، ونسبه الحافظ في الإصابة لابن الأنباري وصحح إسناده.
(31) من قول ابن مسعود رضي الله عنه انظر شرح أصول أهل السنة للالكائي: (رقم الأثر: 196) .
(32) مجموع الفتاوى، 10/99.
(33) ميزان الاعتدال، 3/280.
(34) درء تعارض العقل والنقل، 2/100.
(35) مجموع الفتاوى، 28/209، وانظر: 28/228.
(36) منهاج السنة النبوية، 2/342.
(37) هجر المبتدع، مجلة البيان، العدد 21، ص 52.
(38) مجموع الفتاوى، 28/213، وانظر: منه (206) .
(39) انظر: فتح الباري، 8/123.
(40) مجموع الفتاوى، 28/206، 207، وانظر: 28/212، 213، فهو مهم.
(41) المصدر السابق.
(42) الاعتصام للشاطبي، 1/167 174،.
(43) يراد بكونها حقيقية أنه لا أصل لها في الشرع كالاحتفال بالمولد، أما الإضافية فأصلها عبادة شرعية أضيف عليها كيفية غير شرعية كالذكر الجماعي.
(44) الاعتصام، 1/169.
(45) مجموع الفتاوى، 2/336، 337.
(46) المصدر السابق.
(47) معارج القبول، 2/116.
(48) مجموع الفتاوى، 28/205.
(49) الاعتصام، 1/174.
(50) مجموع الفتاوى، 28/212.(156/28)
فتاوى أعلام الموقعين
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء بالسعودية
حول كتابَيْ:
التحذير من فتنة التكفير..
صيحة نذير
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اطلعت على ما ورد إلى سماحة المفتي
العام من بعض الناصحين من استفتاءات مقيدة بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم
(2928) وتاريخ 13/5/1421هـ. ورقم (2929) وتاريخ 13/5/1421هـ.
بشأن كتابَيِ: «التحذير من فتنة التكفير» و «صيحة نذير» لجامعهما: علي
حسن الحلبي، وأنهما يدعوان إلى مذهب الإرجاء من أن العمل ليس شرط صحة
في الإيمان، وينسب ذلك إلى أهل السنة والجماعة، ويبني هذين الكتابين على
نقول محرفة عن شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير وغيرهما، رحم الله
الجميع؛ ورغبة الناصحين بيان ما في هذين الكتابين ليعرف القراء الحق من
الباطل ... إلخ.
وبعد دراسة اللجنة للكتابين المذكورين والاطلاع عليهما تبين للَّجنة أن كتاب
«التحذير من فتنة التكفير» جَمْع علي حسن الحلبي فيما أضافه إلى كلام العلماء
في مقدمته وحواشيه يحتوي على ما يأتي:
1 - بناه مؤلفه على مذهب المرجئة البدعي الباطل الذين يحصرون الكفر
بكفر الجحود والتكذيب والاستحلال القلبي كما في ص/ 6 حاشية / 2 وص/22
وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول
وبالفعل وبالشك.
2 - تحريفه في النقل عن ابن كثير رحمه الله تعالى في: «البداية والنهاية:
13/118» حيث ذكر في حاشية ص/15 نقلاً عن ابن كثير: «أن جنكيز خان
ادعى في الياسق أنه من عند الله، وأن هذا هو سبب كفرهم» وعند الرجوع إلى
الموضع المذكور لم يوجد فيه ما نسبه إلى ابن كثير رحمه الله تعالى.
3 - تقوُّله على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ص/ 17 18 إذ
نسب إليه جامع الكتاب المذكور أن الحكم المبدل لا يكون عند شيخ الإسلام كفراً إلا
إذا كان عن معرفة واعتقاد واستحلال. وهذا محض تقوُّل على شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله تعالى فهو ناشر مذهب السلف أهل السنة والجماعة، ومذهبهم كما
تقدم، وهذا إنما هو مذهب المرجئة.
4 - تحريفه لمراد سماحة العلاَّمة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في
رسالته/ تحكيم القوانين الوضعية؛ إذ زعم جامع الكتاب المذكور أن الشيخ يشترط
الاستحلال القلبي مع أن كلام الشيخ واضح وضوح الشمس في رسالته المذكورة
على جادة أهل السنة والجماعة.
5 - تعليقه على كلام من ذكر من أهل العلم بتحميل كلامهم ما لا يحتمله كما
في الصفحات 108 حاشية/ 1، 109 حاشية/ 21، 110 حاشية /2.
6 - كما أن في الكتاب التهوين من الحكم بغير ما أنزل الله وبخاصة في
ص / 5/ ح/ 1. بدعوى أن العناية بتحقيق التوحيد في هذه المسألة فيه مشابهة
للشيعة الرافضة وهذا غلط شنيع.
7 - وبالاطلاع على الرسالة الثانية: (صيحة نذير) ، وُجد أنها كمساند لما
في الكتاب المذكور وحاله كما ذُكر.
لهذا فإن اللجنة الدائمة ترى أن هذين الكتابين لا يجوز طبعهما ولا نشرهما
ولا تداولهما لما فيهما من الباطل والتحريف، وننصح كاتبهما أن يتقي الله في نفسه
وفي المسلمين وبخاصة شبابهم، وأن يجتهد في تحصيل العلم الشرعي على أيدي
العلماء الموثوق بعلمهم وحسن معتقدهم، وأن العلم أمانة لا يجوز نشره إلا على
وفق الكتاب والسنة، وأن يقلع عن مثل هذه الآراء والمسلك المزري في تحريف
كلام أهل العلم، ومعلوم أن الرجوع إلى الحق فضيلة وشرف للمسلم. والله الموفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... ... ... ... ... ... ... الرئيس ...
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... ... ... ... ... ... ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد ... ... ... ... صالح بن فوزان الفوزان
... ... ...
الرقم: 21517
التاريخ: 14/6/1421هـ(156/36)
قضية للمناقشة
قراءة في الذهنية السلفية
نواف الجديمي
ثمة شيء ينبغي أن يقال وهو: إن عمليات المراجعة والنقد لكل الأفكار
والمواقف والتحركات السابقة، وتكرر عملية التصحيح وتقييم الماضي: هي
الضمان الوحيد للبقاء والحيوية والتجدد لكل الحركات والجماعات والتيارات
والأحزاب، بل إن النظريات المجردة لا بد أن تخضع لنفس المقياس إن أرادت
الدوام والاستمرار.
الإشكالية المتجددة دائماً، والتي ترافق عمليات النقد والمراجعة: هي الشعور
الذي قد يعم الشريحة السائدة، وربما النخبة أحياناً، بأن هذا النقد لا ينبع من صدق
وإخلاص للحركة أو المبدأ، وإنما يهدف إلى التقليل من قيمتها والحط من قدرها،
فضلاً عن أن تسيطر نظرة تآمرية ضد القائمين بالنقد واتهامهم بمحاولة التخريب
والهدم من الداخل، مما قد يستتبع تصدي البعض للدفاع والذود عن تلك القضايا،
والثبات على كل مواقفها وتحركاتها ربما دون قناعة حقيقية بها، وإن كانت تحمل
العديد من الأخطاء والإشكاليات، معتقدين أنهم بذلك أكثر إخلاصاً وانتماءً.
إن استقراءاً مبسطاً لوقائع التاريخ ونشوء الأفكار والحركات يعطينا دلالة
كبيرة على أن عملية التصحيح المتجددة هي التي تبعث القدرة على الاستمرار، ولا
أدل على ذلك من الديمقراطية بوصفها نظاماً للحكم التي بدأت واقعاً ملموساً بعد
الثورة الفرنسية عام 1789م، وكانت آنذاك مقصورة على النبلاء والخاصة، ثم ما
لبثت تتطور حتى وصلت إلى صيغتها الحالية، وهي ما زالت تمارس نوعاً من
النقد الذاتي واستعداداً للتطور نحو الأفضل. أما الشيوعية فكانت على النقيض؛ إذ
إن الجمود والتصلب كانا السمة الغالبة للدولة الشيوعية رغم ملامح التطور الطفيفة
التي أجراها خروتشوف ومن بعده بريجينيف بعد زوال الحقبة الستالينية وذلك مما
عجل في زوالها.
حتى مبدأ الحرية المطلقة والذي كان نتاجاً للثورة الفرنسية بدأ يراجَع في
الغرب؛ إذ بدأ وهجه يتضاءل، وطفت هشاشته على السطح؛ ولذلك تسود الغرب
اليوم ومنذ الخمسينيات من هذا القرن نظرية المسؤولية الاجتماعية بوصفها نظرية
بديلة عن نظرية الحرية المطلقة. وكذا الرأسمالية كنظام اقتصادي حر والذي ساد
الغرب سنين طويلة، بدأت الاشتراكية تزاحمها على السلطة، وبدأت الولايات
المتحدة تتجه إلى تطوير جديد للنظرية أسمته الطريق الثالث.
إذاً فالغرب ما فتئ يتطور ويراجع نظرياته ومواقفه؛ لذلك هو قادر على
التفوق المادي والتقني، بل وفي العلوم الإنسانية كالإدارة والفلسفة والاجتماع، رغم
الخواء الروحي الذي تعيشه فئات المجتمع والضياع والانحلال والتمزق الأسري،
والذي كان مفترضاً أن يلقي بظلاله على الجوانب المادية الأخرى.
ونحن المسلمين إذ نملك منهجاً ربانياً صالحاً لكل زمان ومكان فإن مجال النقد
والتقييم لا يأخذ حيزاً واسعاً من قناعاتنا وإن كنا في الوقت ذاته لا نستطيع نفيه
وإقصاءه إذ إن كثيراً من مواقفنا وقناعاتنا خاصة فيما يتعلق بأساليب التربية
والتنشئة، والتعامل مع الآخر، والقدرة على التحليل والاستنتاج لمجريات الحياة
اليومية ومستحدثاتها على الجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ومن ثم اتخاذ
المواقف الصحيحة ليست خاضعة لثوابت الشريعة بقدر ما هي اجتهادات بشرية
محضة تخضع للحوار والمراجعة.
والسلفية إذ تملك منهجاً ربانياً واضحاً، وعقيدة صحيحة وتأسياً بسلف هذه
الأمة، لهي الأوْلى بمراجعة الماضي وتقييمه، وهي الأوْلى بالرجوع إلى الحق إن
تبين لها ذلك.
ولكن الحقيقة التي لا يمكن أن نغفل عنها أننا أصحاب حساسية مفرطة لأي
محاولة للنقد والتقييم، وننظر إليها بتشكك وريبة، فضلاً عن سوء الظن الذي
يصبغ نظرتنا لدوافع هذا الكاتب أو ذاك من عملية النقد.
قد أكون مخطئاً عندما أرى أن جميع محاولات النقد والتقييم سواء كانت من
داخل البناء أو من خارجه، تصب في النهاية لصالح تلك الجهة التي تعرضت للنقد؛
وذلك إن استطاعت الاستفادة منه في تصحيح مسيرتها.
ونحن إذ ندعو لقراءة الذهنية السلفية لَنطالب بممارسة هذا النقد لمواقفنا
وعلاقاتنا بكل تجرد وموضوعية، حتى نستطيع مراجعة الماضي ومن ثم التخطيط
السليم للمستقبل، وتبني أساليب ومواقف صحيحة ومتعلقة بعملية البناء الذاتي
للأفراد، أو الجماعي للمجتمع والأمة، أو في علاقتنا مع الآخر. ونقول ذلك مع
إدراكنا أن السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان طيف متعددة، وفيها أصوات
هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها، وندعو إلى التعامل معها وتصحيح
مواقفها، ومع ذلك فهي تحوي جمهوراً غالباً له مشتركات كثيرة، ويسوده تقارب
كبير في الأفكار وطريقة التنشئة، وهذه الشريحة هي التي نقصدها ونتوجه إليها.
لذلك فأنا أدعو إلى إعادة التقييم والمراجعة والنقد. وأبدأ ذلك حفزاً للهمم، مع
إدراكي بقصوري لاستقرائي وبحثي المحدود، تضاف إليه تجربة محدودة. وأزعم
أن هذه الإشكاليات التي سأذكرها تكاد تسود غالب الاتجاهات السلفية المعاصرة،
وأدعو الإخوة إلى تسديد الأخطاء، وأن يتسع صدرهم لهذا النقد والتقييم؛ فلأن
نقوم بذلك ونخطئ خير من أن نكتفي بتلميع الذات وذكر الأمجاد.
صراع الأفكار والمعلومات:
إن أردنا الدخول في صراع الأفكار والمعلومات فلا بد أن نكون حذرين؛ لأننا
ندخل حقلاً من الألغام؛ ذلك أن الموضوع في طبيعته يتعرض لمفهوم كان وما زال
سائداً في أذهان الكثيرين، ولذلك فإن مجرد طرحه قد يثير السواكن، ويلقي حجراً
في الماء الراكد.
ما أريد قوله ببساطة هو: إن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة
المعلومات ويهمل دائرة الأفكار.
السؤال الذي يتبادر الآن هو: كيف؟ !
والجواب: أن غالبية التيار السلفي المعاصر مع بعض امتداداته في التاريخ،
لا يسلط الضوء بل لا يعطي قيمة إلا للمعلومة المجردة بوصفها وحدة معرفية مستقلة
عن دائرة الأفكار. فالمعلومة هي مجال التفوق والتميز، وبقدر ما يحفظ الشخص
من الأرقام والأحداث والآثار والأحاديث والكتب والأسماء والتواريخ ينال هذا
الشخص مكانة مرموقة، ويوضع في خانة التفوق والإبداع، أما دائرة الأفكار وما
تحويه من القدرة على التحليل والاستنتاج والسبر، وربط الأحداث، وتفكيك
الظواهر المعقدة، وتوليد الأفكار، والقدرة على الفرز والنقد، فهذه الدائرة لا قيمة
لها؛ لأنها لا تحوي كمّاً ملموساً نستطيع حسابه ومعرفة قدره.
إن تسليط الأضواء على المعلومات دون الأفكار بات أمراً سائداً في أوساط
الشباب المتدين اليوم، فأصبح الحفظ وتدوين المسائل ومعرفتها هو أقصر الطرق
للبروز بين الأقران، بل إن الأمر يتجاوز أوساط الشباب إلى شرائح أكبر سناً
وأكثر نضجاً وتجربة، ولذلك نجد هذا التلميع للدائرة الأولى على حساب الدائرة
الثانية امتد حتى داخل تخصصات العلوم الشرعية، فنجد مثلاً أن من يحفظ كتب
السنة الستة قد لا تقارن شهرته وتعلق الشباب به بالمتضلع في أصول الفقه. مع أن
هذا الأخير أكثر قدرة على العطاء للأمة اليوم مع هذه الثورة التقنية والفكرية الهائلة
التي يشهدها العالم، والتي غيرت كثيراً من طبيعة الحياة وتفاصيلها. وهذا واقع
يدركه كل من عاش بين أوساط الشباب.
ذلك فضلاً عن الإهمال الكبير وربما الازدراء لكتب الفكر حتى الإسلامي منها،
مما انعكس بدوره على تسطيح كبير للعقول، حتى صار مصطلح الفكر قرين
السفسطة الفارغة التي لا تكاد تعني شيئاً غير القدرة على الكلام المنمق والمتكلف.
إن الأفكار هي التي تصنع الحضارات، وتدعمها بوقود لا ينفد للاستمرار والبقاء.
والتاريخ كله يشهد على أن تغيرات العالم هي تغيرات أفكار ومعتقدات؛ فالثورة
الفرنسية لم تقم رفضاً للتسلط الكنسي فقط، بل هي في أساسها كانت إرهاصاً لعديد
من الأفكار التي سبقت الثورة بما يزيد عن القرنين، ولذلك كان شعارها عند قيامها
«الحرية، والإخاء، والمساواة» . والشيوعية قامت على فكرة صراع الطبقات
وعلى أساس المادية الجدلية والمادية التاريخية، والنازية قامت على فكرة تفوق
العرق الألماني على بقية الأعراق والإثنيات.
وتاريخنا الإسلامي مليء بالحركات والتغيرات التي قامت على الأفكار
الصحيحة والمنحرفة، ولا أدل على ذلك من أن مبعث رسالة محمد عليه الصلاة
والسلام كانت لتغيير معتقدات الناس وأفكارهم، وإعادتهم إلى الحنيفية المسلمة،
وثورة الخوارج قامت على فكرة عدم جواز تحكيم الرجال في كتاب الله. والشيعة
أول ما قامت كانت لفكرة أحقية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لأنه من آل البيت،
وفي تاريخنا القريب لم تقم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا على تصحيح
معتقدات الناس مما علق بها من شرك وتصوفات، ولم تقم جماعة الإخوان المسلمين
إلا على فكرة دعوة الناس إلى التمسك بالإسلام وتوحيد الصفوف.
واليوم نعيش زمن فورة الأفكار والتصورات والمعتقدات التي تملأ عالمنا
بشكل مذهل، وإذا اجتزأنا القرن العشرين وسلطنا الضوء على منطقتنا العربية نجد
أن هناك عدداً من الأفكار والأيديولوجيات سيطرت في مراحل متعددة على قطاع
كبير من الناس في العالم العربي؛ وأبرزها القومية العربية، والماركسية الشيوعية،
والبعث العربي، والنظرية الليبرالية الغربية.
والسؤال الحيوي هنا: ما مدى معرفة السلفيين بتلك الأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا؟ وهل تمت دراستها دراسة مفصلة متعمقة للرد عليها
وتبيين عوارها من داخلها، كما كان منهج ابن تيمية في الرد على خصومه؟
الحقيقة أن ذلك لم يحصل إطلاقاً.. وإن وجد من الإسلاميين من تصدى لهذه الأفكار
دراسة ومعرفة ومن ثم رداً وتفنيداً؛ فهم دون شك من خارج التيار السلفي، وهم
في الغالب غير مرضي عنهم، ويحملون العديد من المخالفات في الفكر والاعتقاد
كما يصفهم أفراد التيار السلفي، بل إن المتخصصين في العقيدة من السلفيين وهم
أقرب الناس إلى دراسة هذه المعتقدات الجديدة ما زالت قائمة المذاهب والمعتقدات
المنحرفة التي تدرس عندهم تدور حول القدرية والكلاَّبية وإخوان الصفا والجهمية؛
مع أن انتشارها تناقص كثيراً إلى درجة الانتهاء أحياناً؛ في الوقت الذي يهملون
فيه المعتقدات المتوجهة في العالم اليوم والتي قد تلاقي قبولاً في المجتمعات المسلمة؛
فمثلاً هل دُرست الديمقراطية كآلية للاختيار ونظام للحكم من أصحاب التيار
السلفي بدلاً من فتاوى التحريم الجاهزة ربما دون استيعاب جيد للفكرة؟ وهل لاقت
الأنظمة البنكية الدراسة التفكيكية الشرعية الجيدة من أجل إيجاد بدائل إسلامية
للمعاملات البنكية الربوية؟ وهل وجد علم النفس الدراسة التحليلية العميقة لآخر
نظرياته وأطروحاته ومن ثم الدراسة الشرعية لها؛ ومعرفة مدى موافقتها للتصور
الإسلامي ثم محاولة استخراج ملامح للنظرية الإسلامية في علم النفس؟ هل قام
رموز التيار السلفي بدراسة هذه القضايا الملحة في الساحة اليوم، أم أنها إلى الآن
ليست من باب المفكَّر فيه؟
أما إن أردنا الحديث عن آخر النظريات الفلسفية والفكرية في العقود القليلة
الماضية، وآخر الدراسات والتحليلات للمجتمعات المعاصرة، والتطورات
الحضارية، والاستقراءات المستقبلية، كصراع الحضارات، ونهاية التاريخ،
وحوار الإسلام والغرب، وصراع الأيديولوجيا، والاختراق الثقافي ومسائل الهوية،
وكلها قضايا معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى فهم متأنٍ واستيعاب عميق فإننا سنجد
دون شك أن غالب النُخب السلفية من علماء وطلبة علم وتربويين ومحاضرين
وغيرهم لم يسمعوا بتلك المصطلحات من قبل؛ فضلاً عن أن يكونوا درسوها
واستوعبوها. وإن كان قد سمعوا بها فقد لا يزيد الأمر في كثير من الأحيان عن
نظرة الازدراء والدونية لتلك السفسطات الفارغة التي لا تنفع المسلم في دنيا ولا
دين. كما قد يقال.
وفي الوقت الذي يتعاظم فيه دور المفكر على مستوى العالم يتضاءل دور
الحافظ والمتقن للمعلومات والكتب والأرقام، بسبب تطور تكنولوجيا الصناعة
وإنتاج أجهزة حفظ المعلومات ووسائل استرجاعها وطباعتها، والذي جعل أجهزة
حاسب صغيرة وبواسطة أقراص ممغنطة تستطيع حفظ عدد هائل من المعلومات قد
تفوق في كميتها المكتبات الضخمة، وقد خدمت هذه الأجهزة الجانب الشرعي كثيراً؛
إذ توجد اليوم أقراص ممغنطة تحوي أكثر من مائة وعشرين كتاباً في الحديث،
وأقراص أخرى جمعت الكثير من المسائل الشرعية وأقوال الفقهاء؛ مما جعل
الحصول على الحديث أو رأي الفقهاء في إحدى المسائل أمراً متيسراً بالقدر الذي لا
يتجاوز مجرد الضغط على عدد من الأزرار. والسنون حُبلى بتطورات كثيرة في
هذا المجال، وإن كنا نؤكد أن هذا لا يقلل بالضرورة من قيمة العالم ولا ينقص من
قدره. ولكن إذا أردنا أن نكون منصفين فإنه من دون شك يقلل كثيراً من قيمة
التوجه الحفظي للعلماء وطلبة العلم، ويزيد من قيمة القدرة على الاستنباط
واستخراج الأحكام وغيرها من العمليات التي تعتمد على العقل لا الذاكرة.
ولا أنسى الإشارة إلى أن هناك دون شك تداخلاً بين دائرة الأفكار ودائرة المعلومات،
وأن هناك مشتركات كثيرة في الوسط بين المسارين، ولكن تجدر الإشارة أيضاً
إلى أن هناك تبايناً كبيراً بين أطراف الدائرتين، لذلك نجد أصحاب التيار السلفي قد
يحيطون بهذه المشتركات، وقد يدخلون قليلاً إلى دائرة الأفكار، ولكنهم بالطبع لا
يوغلون في الدخول، ولا يصلون الأعماق.
النشء الذي لا يكبر:
ربما تكون من إشكاليات الذهنية السلفية والتي تتقاطع مع النقطة السابقة في
بعض الجوانب وتتفاوت في جوانب أخرى: النظر بتخوف وتوجس للتدفق الهائل
في المعلومات والأفكار في عالم اليوم، والخشية من تأثر النشء بها، هذا النشء
الذي قد يمتد عمره إلى قرابة الثلاثين وربما أكثر وهو غير قادر على الفرز
والقراءة النقدية، ويخشى عليه دائماً من التأثر حتى بأبسط الأفكار وأكثرها سطحية
وضحالة. أما الرموز وطلبة العلم والمربون فهم وحدهم القادرون على الفهم الواعي
للأفكار التي تطرح، والكشف عن مدى مخالفتها للشرع، وربما أحياناً الكشف عن
خبثها ومكرها والسموم التي تدسها من أجل التأثير على جيل النشء؛ ثم قد يُطرح
عدد من التساؤلات مثل: ما قيمة هذه الأفكار؟ وما وزنها؟ وما مقدار فائدتها
للشباب الناشئ؟ ! وإذا أشكل على الشباب شيء في معرفة سيرة مؤلف أو كنه
كتاب؛ فما عليه إلا أن يسأل أحد المهتمين من نفس التيار ليعطيه فتوى جاهزة
مقبولة في شأن ذلك الكتاب أو ذاك المؤلف؛ مما ينتج عنه أحياناً اختزال كبير
للأفكار في حدود مقولات مبتسرة لا تكشف فكراً ولا تروي ظمأً، فنجد أن عقولاً
ضخمة في الساحة الفكرية والثقافية أنتجت مشاريع ودراسات فكرية تحليلية رائدة،
يُختزل فكرها في أن فلاناً يرى في الجنة والنار كذا، وأن فلاناً يؤوِّل الصفات ولا
يثبتها، وغير ذلك من اختزال للأفكار الهادرة في قطرات قليلة وجمل مجتزأة،
وأبسط ما تحلل به كتابات هؤلاء أن يقال: إن فلاناً تأثر بالفكر القومي، وفلاناً
ماركسي سابق، وفلاناً يعاني من الاستلاب للغرب، وتكفي هذه المقولات لإسقاط
هذا المؤلف أو ذاك من قائمة الذين يستفاد منهم، فينشأ الشاب على أن فلاناً هو من
يرى كذا، وفلاناً هو من يرى كذا، ربما دون أن يرى غلاف كتاب لأحد هؤلاء
الذين تكلم عنهم فضلاً عن أن يكون قد قرأه.
وربما نكون في حاجة إلى التأكيد على أن التذكير بمخالفات أي كاتب ومفكر
خاصة في مجال الاعتقاد أمر مطلوب؛ ولكن ينبغي قبل ذلك إعطاء صورة واضحة
ومنصفة عن تلك الأطروحات أو الدراسات الرئيسة التي أنتجها هذا المؤلف. كما
أنه من المعلوم أن الشاب والقارئ السلفي في الجملة لا يأخذ عقيدته من ذلك النوع
من الكتب، مما يقلل من مقدار تخوفنا من الاستلاب والتأثر.
هذا السلوك في التعامل مع الأطروحات الفكرية والثقافية ربما ينتج في
المستقبل ردود أفعال تتفاوت في شدتها، مثل أن تقرأ بعض هذه الكتب في الخفاء
ودون علم المحيطين، مما قد يصيب بعضاً بردة فعل عنيفة، خاصة عندما
يستوعب تلك الأفكار والكتب، ويكتشف أنه كان يعيش فترة تغييب لعقله وازدراءً
لقدراته. وربما اتهم من كان معهم بالسطحية والضحالة وهشاشة الفكر، وممارسة
الوصاية على من دونهم، ومصادرتهم للرأي الآخر وتهميشه أياً كانت قوته وعمقه.
أذكر أن أحد الإخوة وهو يعمل مديراً لإحدى المدارس الثانوية الأهلية التقى
عدداً من أساتذة العلوم الشرعية المتقدمين للتوظيف، ودار بينهم حوار حول عدد
من القضايا الثقافية، فكان يقول: إنه فوجئ بالمستوى الثقافي المتدني جداً،
وبالبساطة والسطحية عند هؤلاء الأساتذة، مما جعلني أقول له: إن هؤلاء من
النشء الذي لا يكبر.
نعم النشء الذي يظل نشئاً لا يملك القدرة على الفرز والتقييم والفهم لأي طرح
ثقافي وفكري إذا لم يضع قدميه على طريق التطور نحو الأفضل والفهم والإدراك
للأطروحات الحديثة بشكل متزن ومتدرج، وإلا فسيكون أحد ضحايا النظرة السائدة
التي ترى أن أصحاب المرحلة الثانوية هم صغار من الصعب أن يستوعبوا تلك
القضايا «المعقدة» ! ! .. ومن هم في المرحلة الجامعية لا يملكون القدرة على
التمييز والفرز، وربما تشوش أفكارهم ويدخلون في إشكالات ومعتركات قبل
الأوان، والموظف وهو متزوج في الغالب لديه من هموم الحياة وطلب الرزق
والعمل الدعوي ما يصرفه عن الاهتمام والمتابعة، حتى إذا امتد العمر بذلك النشء،
كان في حقيقته لا يزال نشئاً لا يستطيع الدخول في عالم الفكر والثقافة دون تأثر؛
لأنه لا يملك آليات النقد والتقييم. وإن أراد الدخول فإن استعداده للتطور والاستفادة
يكون قد تقلص كثيراً؛ لأنه صار يملك عقلاً قد شكلته البيئة والتوجهات السائدة فيها
حتى صار أشبه بقطار يسير على سكة حديد لا يحيد عنها لا يميناً ولا شمالاً، ثم
في النهاية لا يزيد على أن يكون رقماً مفرداً قد ينفع فقط في تكثير السواد.
قد يقال: يكفي أن تنفر طائفة من المؤمنين بهذا الأمر دون الآخرين. وهذه
حقيقة دون شك؛ إذ من البداهة أن ذلك ليس مطلوباً من الجميع ولا حتى الغالب إذا
كنا نتحدث عن التخصص في هذا المجال والتعمق فيه، ولكن إذا كان الحديث عن
قضية الوعي والنضج في التعامل مع الآخر أياً كان، فلا أقل من أن تكون سمة
غالبة، ولا أعتقد أننا بذلك نطلب مستحيلاً. ثم في موضوع التخصص: أين هي
تلك الطائفة التي تكفي الآخرين هذا الأمر؟ ! هل هي موجودة فعلاً؟ أم لا نزال
في طور الإعداد والتنشئة؟ لأنه عند استقراء سريع للساحة الثقافية اليوم قد لا
تخرج بأكثر من أسماء تعد على أصابع اليدين إن تواضعنا كثيراً في شروط التقييم.
إن كنا نريد أن نقوم بواجبنا على هذا الصعيد، وأن نعد إجابات للأسئلة
النهضوية الملحة من واقع شريعتنا وبصفاء منهج السلف، فلا بد من إعادة النظر
بأساليبنا في التنشئة والتكوين، قبل أن تفد علينا إجابات من الخارج، ينشغل
مثقفونا في تفنيدها والرد عليها، دون أن نصنع من ثقافتنا شيئاً يلائم هذا الواقع
بمستحدثاته التي لا تتوقف.
المؤامرة.. المؤامرة:
قد لا تكون النظرة التآمرية صفة إسلامية بقدر ما هي عقدة عربية تجمع
غالب التوجهات والتيارات والأحزاب في عالمنا العربي، وتشكل نقطة محورية في
علاقاتها مع الغرب وطريقة التعامل معه، وهي نزعة تشكلت في صورتها الحدية
المعاصرة بعد سيطرة الاستعمار على العالم العربي، وما صاحبه من ظلم وطغيان
وتكميم للأفواه.
وبدءاً يجب أن نؤكد على قضية هي من المسلَّمات والثوابت في عقيدة المسلم،
ولكن التأكيد عليها قد يحد من الفهم الخاطئ لمضمون هذا الكلام ومقاصده وهي:
أن عداء الغرب للإسلام والتآمر عليه ومحاولة إضعافه هي مسألة عقيدة قبل أن
تكون مسألة فكر وتحدٍّ حضاري: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) . ولكن من هو الذي يكره الإسلام في الغرب؟ هل
هم كل أفراد المجتمع؟ ! أم المؤسسات الحاكمة؟ وهل ما يحرك الغرب في علاقاته
مع العالم الإسلامي والعربي هو نزعته العدائية فقط؟ أم أن هناك مجموعة معقدة
وخطوطاً متداخلة في خريطة العلاقات السياسية. وهناك مصالح وموازين قوى،
ربما تجعل الغرب في ظروف معينة يدعم الحركات الإسلامية ولو معنوياً كما حصل
في أفغانستان، وهذا ما لا يتصوره بعضهم، والتي تجعل المسلمين الذين يعيشون
في الغرب أكثر حرية في إقامة شعائرهم وعباداتهم وبناء مساجدهم ومراكزهم، بل
وفي دعوتهم للإسلام لأفراد تلك المجتمعات، واستخدام بعض الوسائل الإعلامية
الرسمية، فضلاً عن الحرية في تنفيذ وإصدار أي وسيلة إعلامية خاصة، وهذا ما
لا يحصل قطعاً في معظم الدول الإسلامية إن لم يكن في جميعها.
لذلك فمع إيماننا بهذا العداء، إلا أن المسألة لا تحسم بوصفات وفتاوى جاهزة
ومبسطة، بل تحتاج إلى تصور واقعي وسياسي ومصلحي، يضاف إلى تصورنا
العقدي المستقر في النفوس، حتى نصل إلى صورة أقرب للحقيقة لهذه اللحظة
التاريخية المعقدة من عمر العالم.
إننا نجد أن الأجيال الإسلامية الشابة في معظمها تربى اليوم على نزعة
تآمرية حادة تفسر بها كل الظواهر المعادية للإسلاميين والمتدينين، وتضع كل
المعادين في سلة واحدة، وتحشدهم في جبهة موحدة هدفها ضربهم والقضاء عليهم،
حتى إننا نساهم في رسم صورة ذهنية سطحية لدى الناشئة مفادها: أن كل هؤلاء
العلمانيين بكل ما يحمله هذا المصطلح من تعميم يشمل: الليبراليين والشيوعيين
والبعثيين والقوميين والمنحلين خلقياً أن كل هؤلاء هم ببساطة عملاء للغرب سواء
بشكل مباشر أو غير مباشر، ويُدعمون منه مادياً ومعنوياً، وأن هدفهم الوحيد هو
القضاء على المتدينين، ومن ثم القضاء على الإسلام؛ مما قد يرسم صورة
كاريكاتيرية في أذهان بعض الناشئة تجعلهم يتخيلون أشكال هؤلاء المتآمرين وهم
يجتمعون في سراديب مظلمة، حيث تنبت لهم قرون التآمر، وتتسع العيون وتزداد
حدتها، وهذه الصورة وإن بدت مضحكة إلا أنها نتاج طبيعي للخطاب التعبوي
واللغة العاطفية التحريضية، وتوجيه الرأي العام الإسلامي الذي تمارسه بعض
رموز الصحوة في كل طرح جماهيري، ضد كل من يحمل توجهات مخالفة للتيار
الإسلامي، وربما يتكرر الاستشهاد ببروتوكولات حكماء صهيون، حتى ترسم في
ذهنياتنا الصياغة المثلى لتوصيات المتآمرين في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم.
إن طرحاً بهذا التوجيه له دون شك انعكاسات خطيرة على ذهنية الشباب
المتدين؛ حيث يساهم في تشكيل عقليات مسطحة وحدية، تتعامل مع ظواهر الحياة
وتفاصيلها ببساطة مفرطة، وتبني خوفاً من هذا الجيش العارم والمنظم تنظيماً دقيقاً
من العملاء والمنافقين والحاقدين في الداخل، وأسيادهم الذين يدعمونهم في الخارج،
وتبني عداءاً ليس فقط لكل من له انتماءات أيديولوجية أخرى، بل ربما لكل من
يشك في ولائه للتيار المتدين بكل مواقفه وأطروحاته، حتى يغدو من الصعب
تصور أن العدو رقم واحد للماركسيين في العقود الماضية كانت الليبرالية
الأرستقراطية، لا التيار الإسلامي وإن وقف في الخانة الثانية، وأن ألد أعداء
القوميين والبعثيين هو الغرب المستعمر وعملاؤه في الداخل، لا التيار الإسلامي
وإن وقف أيضاً في خانة العداء.
هذا التفسير التآمري للظواهر والأحداث الحياتية ربما أخذ منحىً آخر، هو
محاولة التصدي والاستعداء لكل المستحدثات العلمية الحديثة ذات الطابع الإعلامي
والجماهيري، والتي هي نتاج تطور تقني محض، وجعلها وكأنها لم تصنع ولم
توجد إلا لمحاربة الإسلام ولصرف الشباب المسلم عن دينه؛ حيث ما زلنا نسمع
من يطالب بتقليص انتشار الإنترنت وإغلاق المقاهي المخصصة له؛ لأنها قد
تستخدم في العبث المحرم، دون مجرد التفكير في إيجاد بدائل وحلول، ولأن
التاريخ يعيد نفسه، فقد كان الطرح الإسلامي قبل عدد من العقود هو محاربة
المجلات والإذاعات والتلفاز بعموم، أما اليوم وبعد أن صارت تلك المستحدثات
واقعاً مفروضاً، ووجدت بدائل إسلامية، صار الطرح مختلفاً؛ فليس كل المجلات
تحارَب لأن هناك مجلات إسلامية نافعة، وليس كل الإذاعات سيئة؛ لأن هناك
إذاعات مفيدة وتخدم الدين، وليس التلفاز بعمومه حراماً؛ لأنه قد يحوي برامج
إسلامية جيدة ومفيدة، ومع أن هذا يمثل اليوم وعياً، إلا أنه وعي متأخر ينطبق
عليه المثل الذي يقول: «حكيم بعد الحادث» .
لعل من أسباب هذا التفسير التآمري غياب التصور الصحيح للخريطة
الأيديولوجية في العالم العربي أثناء القرن الأخير وفي العقود القليلة الماضية،
وطبيعة المتغيرات التي حصلت، وطريقة نشوء الأفكار وانتشارها، وتأثر
الضعيف بالقوي، واستلاب المغلوب للغالب كما وصفه ابن خلدون في المقدمة الذي
ساهم في تشكيل جيل يحمل مبادئ الغالب شرقياً كان أم غربياً، لا بطريقة تآمرية
نفاقية بل بقناعة حقيقية تنتج أحياناً عن إخلاص وصدق وحب للمجتمع والأمة،
وإن كان ظل بهذا السبيل، بل ربما كانت هذه المبادئ والأيديولوجيات نتاج البيئة
العربية المحضة في إحدى مراحل الضعف، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية
والبعث العربي، اللذين يقومان في أساسهما على بث الروح العربية الوحدوية في
أرجاء العالم العربي.
إننا نضيع وقتاً في الانشغال المستمر في محاولة تقصي المؤامرات والتصدي
لها وفضحها، مما قد يسبب ضياع كثير من الجهود على حساب بنائنا الداخلي
وتكوينه الثقافي الذي يجب أن يعد لمواجهة متغير لا يكاد يتوقف، وزرع الوعي
المبكر في عقول الأجيال، ومد الجسور بوعي وبصيرة لأقرب التوجهات
والأيديولوجيات المعاصرة، وبناء تحالفات تكتيكية لخدمة الأهداف المشتركة.
وفي آخر هذه السطور التي لا تعدو أن تكون إشارات مقتضبة لقضايا تحتاج الكثير
من الحوار والنقاش، أرجو أن تكون معالم هذه الأفكار قد اتضحت وتجلت وإن كان
بشكل مختصر ومتعجل؛ لأنني أعوِّل كثيراً على قدرتنا في مراجعة مواقفنا
وتصوراتنا، وعلى النقد الذاتي المتبصر لمسيرتنا وواقعنا، وإن كان هذا النقد لا
يصفو في بداياته من أخطاء.
بقي أن أشير إلى أن هناك تطوراً واضحاً في صفوف التيار السلفي إذا ما
قورن بالعقود الماضية، ووعياً متزايداً يبشر بارتفاع مستمر لمؤشر القياس، مما
يدعونا إلى مزيد من الوقفات والمراجعات تجنبنا الوقوع في نفس الأخطاء التي
وقعنا فيها سابقاً، ومن أجل ألا يكون تاريخنا الذي يعيد نفسه إلا ذلك الذي يحمل
النجاح والتقدم والإبداع.(156/38)
قضية للمناقشة
تنزيل الشريعة الإسلامية في الواقع الإسلامي الراهنبين
بين الرفض والقبول
محمد إكيج
يعيش العالم الإسلامي بشكل عام، والعربي منه على وجه الخصوص صحوة
إسلامية هائلة تؤكد أوبة الجماهير المسلمة إلى هويتها الأصيلة، ورغبتها وطموحها
في تحقيق النهوض الحضاري الذي طال انتظاره تحت ضغط التحديات الداخلية
والخارجية على حد سواء، ولئن شملت مسحتها نفسية الشعوب وغشيت غاشيتها
سلوكياتها ومعاملاتها، وبدأنا نلحظ يوماً بعد يوم اندحار المظاهر التغريبية الهجينة
في سلوكيات بعض الأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي؛ فإنها أفرزت
إفرازات إيجابية محمودة تاخمت عتبات الأنظمة والمؤسسات الحاكمة في البلاد
الإسلامية الراهنة؛ رغم صنوف التضييق والحصار تارة والتهميش واللامبالاة تارة
أخرى.
ولعل من حسنات هذه الصحوة المباركة أنها أعادت الاعتبار والمصداقية
والمشروعية ولو على المستوى النظري لقانون الأمة الأصيل الذي ساد في
المجتمعات الإسلامية زمن الوهج الحضاري للأمة الإسلامية؛ رغم فترات النكوص
والتذبذب التي انتابت مساره التاريخي قبل أن «يتوارى» عن التطبيق على إثر
الهجمة الشرسة للقوانين الوضعية الغربية والمتغربة، والتي حاصرته حتى في
المواقع الضيقة التي تهم شخصية المسلم وأحواله العائلية.
لقد غدت الشريعة الإسلامية وإشكالية تطبيقها في الواقع الإسلامي الراهن من
المواضيع الأساسية التي تشغل بال المفكرين سواء أكانوا إسلاميين أم علمانيين،
كل من وجهة نظره الخاصة، ولم تعد الدعوة إلى تطبيقها مقتصرة على برامج
الحركات الإسلامية وبعض الدعاة المخلصين، وإنما بدأت تشق طريقها نحو العديد
من الهياكل التنظيمية والبُنى الدستورية والقانونية لبعض الدول العربية والإسلامية،
بل وترجم ذلك عملياً بإدخال نصوص جديدة أو تعديل نصوص قديمة في دساتيرها
وقوانينها التي تتعلق بمصادر التشريع التي تمتاح منها إلا أن هذا الموضوع وكما
هو الشأن لكثير من المواضيع الإسلامية الحساسة كان عرضة لكثير من سوء الفهم
والتعسف في التأويل والنقد والتغليط، مما جعل الآراء والتصورات يتوزعها تياران
رئيسان:
أ - تيار مؤيد وراغب في التطبيق ويمثله عموم الإسلاميين.
ب - تيار رافض أو متحفظ إزاء هذا التطبيق، ويمثله عموم العلمانيين
بمختلف توجهاتهم.
وإذا حاولنا تتبع آراء هاتين الجبهتين؛ ألفينا أن كلتيهما تستند في قولها
ودعوتها إلى مسوِّغات تعزز به موقعها سلباً أو إيجاباً إزاء هذه القضية، وسنحاول
أن نقف على مرتكزات كل طرف ومسوغاته على حدة، لنخلص في نهاية المطاف
إلى تبيان الأبعاد الحقيقية والخلفيات الكامنة المستكنة وراء كل موقف وتجليتها.
مسوغات الرفض العلماني لتطبيق الشريعة الإسلامية:
يتأسس هذا الرفض على جملة من الحجج نوردها كالآتي:
أ - ترى التوجهات العلمانية أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في
العصر الحاضر تفتقد إلى الرؤية المنهجية العامة التي ستيسر هذا التطبيق، وذلك
لكونها تنبني على نصوص بالغة العمومية: فآيات الأحكام لا تتجاوز في مجموعها
خمسمائة آية، ولا يمكن أن تعد قانوناً بالمعنى الصحيح للكلمة؛ هذا فضلاً عن
الاختلافات الواسعة بين المذاهب الفقهية القديمة والحديثة حول كيفية تنزيلها على
الوقائع المستجدة.
2 - إن هذه الدعوة تفتقد إلى المصداقية التاريخية، لأن الشريعة الإسلامية لم
تطبق في أجلى صورها إلا في فترة جد محدودة تنيف عن الأربعين حولاً، وفي
بيئة لم تعرف من التعقيدات والمستجدات مثل ما نعيشه في عصرنا الراهن، مما
يجعل إعادة إنتاج تلك التجربة تكريساً لماضوية القوانين العربية والإسلامية،
وخروجاً عن منطق التاريخ الذي يقتضي التطور والتحديث، ومواكبة الابتكار
الإنساني في النظم والأحوال والقوانين.
3 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيؤدي إلى تفتيت وحدة المجتمع العربي
والإسلامي؛ بحكم وجود العديد من الأقليات غير المسلمة والتي تتعايش جنباً إلى
جنب مع الشعوب الإسلامية في ظل القوانين الحالية دون أدنى حساسية أو «مركب
نقص» لأن الجميع يستظل بمظلة الوطنية العاصمة من كل انقسام أو تشتت.
ويستدلون هنا بموقف الرفض «النصراني العربي» لهذه الصيغة لما تنطوي عليه
من أخطار العودة إلى نظام «أهل الذمة» و «نظام الملل» أي إيجاد نظام
تراتبي في المواطنة.
4 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيكون ذريعة للحاكم المسلم للاستبداد،
وانتهاك حقوق الإنسان، وسفك الدماء بدعوى تطبيق شرع الله ومحاربة المفسدين،
ولعل في التجارب التاريخية التي عرفها تاريخ الإسلام السياسي خير شاهد على ذلك،
ودليلاً ساطعاً على توظيف الدين لأغراض شخصية دنيئة، كما أن بعض
التجارب المعاصرة تؤكد هذا وتشهد عليه.
5 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيخوِّل المؤسسة الدينية صلاحيات واسعة
في إطار الدولة؛ مما سيتيح إمكانية الهيمنة وإقصاء المؤسسات الأخرى، وسيمثل
هذا سابقة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية؛ إذ المعلوم من استقراء التاريخ
الإسلامي أن هذه المؤسسة نشأت بمعزل عن الدولة بل وفي تعارض معها.
6 - إن الغاية المبتغاة من المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وإثارة النقاش
حولها، هي بلوغ أهداف سياسية مرحلية كتحسين الموقع السياسي، والضغط باسم
الشريعة على الخصم قصد انتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب في اللعبة السياسية
الداخلية، وقد تبين ذلك بشكل جلي في مشاركة العديد من الحركات الإسلامية في
إطار هذه اللعبة وفق شروط لم تشارك أصلاً في وضعها. ومعلوم أيضاً أن هذه
القضية تفتقد إلى إجماع إسلامي حول المبدأ أصلاً، كما تعاني من انشطار في
الموقف الإسلامي العام يتراوح بين موقف رافض لها داع إلى التعامل الإيجابي مع
الأنظمة السياسية القائمة، إلى موقف داع لها رافض لكل الأجهزة الحالية، وإلى
موقف اجتهادي يحاول التوفيق بين القواعد العامة للشريعة والاندماج المباشر أو
غير المباشر في اللعبة السياسية على علاتها وقواعدها الهجينة.
ملاحظات بشأن الدعاوى العلمانية:
قبل استعراض حجج المؤيدين لهذه القضية لا بد من إبراز جملة من
الملاحظات بشأن الحجج العلمانية الآنفة الذكر:
1- إن الأطراف العلمانية بإصرارها على رفض تطبيق الشريعة الإسلامية أو
حتى المطالبة بذلك تبغي تكريس القطيعة بين الجماهير المسلمة وبين هويتها
الأصيلة المتجسدة في الإسلام عقيدة وسلوكاً وشريعة ونظاماً، وفي المقابل تعمل
على إدامة القوانين الوضعية الدخيلة، ومن ثم تعميم الإلحاقية للغرب، ومصادرة
المرجعية التاريخية للأمة الإسلامية الكامنة في نفوس شعوبها رغم مظاهر الانحراف
والتسيب واللامبالاة الطافية في المجتمعات الإسلامية الراهنة؛ لأن هذه الحالات لا
تعدو أن تكون مظاهر نفسية متوترة تشعر بالقلق وتبحث عن «الذات» في خضم
واقعها المضطرب والمفروض باستبداد الأنظمة المتغربة التي تحتكر السلطان
السياسي بمعاول «الأنا» وعقلية «الآخر» وتخطيطه! !
2 - إن العلمانيين يطبقون مقولة «قياس الشاهد على الغائب» في محاكمتهم
للشريعة الإسلامية، وذلك لارتكازهم في بناء تحفظاتهم (وهي تعني رفضهم) إزاء
الشريعة على روايات من تاريخ الدول الإسلامية تحكي عن سفك دم أو حمق أو
تهور حاكم في تطبيق بعض الأحكام الإسلامية، فيتخذون هذا العمل المُشين حجة
على الإسلام وليس على فاعله، ولو لجأنا إلى هذا المنطق في تقويم مسار القوانين
الغربية والمتغربة المعمول بها في مختلف أرجاء العالم الإسلامي والعربي لما بقيت
حصاة في جدرانها بَلْهَ أن يكون حجراً، والتاريخ الأوروبي والغربي تاريخ المظالم
خير شاهد على ذلك؛ ولو قورنت جرائم الحكام المسلمين الأوائل التي يُتَذرَّع بها
لرفض شريعة الإسلام، لما بلغت في هولها وفظاعتها عشر ما بلغته جرائم حكام
أهل الغرب وساساتهم، ونحن هنا لا نسوِّغ الظلم والطغيان باسم الإسلام، وإنما
نوازن بين المفاسد؛ وللعاقل حرية الترجيح! !
3 - إن النخب المتغربة في العالم العربي والإسلامي يغيظها أن تكتسب
الحركات الإسلامية ومقاصدها مصداقيتها لدى الشعوب من خلال بنائها لمشروعها
السياسي على أسس الشريعة الإسلامية ومقاصدها، مما يدفعها إلى «الإرهاب
الفكري والمصطلحي» وذلك من قبيل الاتهامات الفجة والانطباعات القيمية
المستفزة التي تسجلها في شأن هذه الحركات، بل بلغت الوقاحة ببعضها إلى
مستوى «العمالة الفكرية» لبعض الأنظمة المتغربة ثمناً لبقائها، وإفناءاً لخصمها،
وما اليسار المتغرب في تونس عنا ببعيد.
4 - وأخيراً، إن عتاة العلمانيين، وبعد أن بارت بضاعتهم في السوق
الفكرية والسياسية العربية والإسلامية، وعجزوا عن اختراق البنية الفكرية والنفسية
للإنسان المسلم لجؤوا إلى التكسب والارتزاق من الإساءة بأقلامهم إلى ما يمت بصلة
إلى الإسلام، بتأويلاتهم الفجة لنصوصه المقدسة، أو للإسلاميين بالنبز والتشهير
وسوء الأدب، وأمثال هؤلاء في العالم العربي والإسلامي كثر.
مسوغات الاتجاه الداعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية:
تتمثل حجج مؤيدي هذا الاتجاه في الآتي:
1 - إن الشريعة الإسلامية، وإن توارت عن مواقع التوجيه المباشرة في حياة
المسلمين، وتركت لتوجيه التيارات المنحرفة والأنظمة الوضعية، تملك رصيداً
تاريخياً هاماً يزكي مصداقيتها ومشروعيتها في التطبيق من جديد، وذلك بعد
استصحاب مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، وخاصة ذات الصبغة الاجتماعية
نظراً لما استجد من النوازل التي تستلزم تنزيل أحكام الشريعة عليها.
2 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية سوف ينهي «الانشطارية الولائية»
القابعة في نفسية الإنسان، بل والمجتمع المسلم بشكل عام؛ ذلك أن المسلم يتوزع
في الوقت الراهن بين ولائين: أحدهما للأنظمة السياسية القائمة بقوانينها
وتشريعاتها المتغربة في عمومها، وثانيهما للإسلام الذي يمثل جوهر هويته
وشريعته الواجبة الاتباع، وقد كانت هذه الثنائية في الولاء ولا تزال سبباً في كثير
من مظاهر الإعياء والنكوص والرياء والنفاق الفردي والجماعي، فانعكس ذلك سلباً
على أداء أمتنا الحضاري.
3 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية سوف ينمي لدى الفرد المسلم وكذا المجتمع
عقلية «الواجب الشرعي» المحفزة للعمل، بدل عقلية «الحقوق» الدافعة
للمطلبية المستمرة والاستياء والنفور والتقاعس عن تنفيذ الخطط والتوجيهات
الصادرة حاضراً عن أهل السلطان السياسي، نظراً للقطيعة القائمة بين الأسس
المعرفية لهذه القوانين والتركيبة النفسية للفرد المسلم.
4 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية لن يلغي سلطة المؤسسات بل سيعمل على
ترسيخها وتزكية مشروعية العمل بها؛ لأن موقف الإسلام من المؤسسات أصيل،
والتجربة التاريخية للدولة الإسلامية ثرية جداً في هذا المضمار، وتكفي الإشارة إلى
بعض الهيئات التي عرفتها الدولة الإسلامية النواة ك «هيئة النقباء الإثني عشر»
و «هيئة المهاجرين الأولين» اللتين كانتا بمثابة «مؤسسات دستورية» ذات
اختصاصات محدودة كالتمهيد لعقد البيعة مثلاً. يضاف إلى هذا العديد من
المؤسسات التي أفرزها تطور بُنية الدولة الإسلامية عبر مختلف المراحل والعصور
ومن ثم فلا ضير من استصحاب ما يمكن استصحابه من مؤسسات الدولة
العصرية لكن بعد تنقيتها من كل الأوضار الأيديولوجية العالقة بها ظاهراً وباطناً.
5 - إن تطبيق الشريعة الإسلامية لن تكون أداة تسلطية بيد الحاكم، بل على
النقيض من ذلك تماماً ستكون معياراً لضبط تصرفاته ومحاسبته على ضوئها؛ لأن
الحكومة في الإسلام ليست «ثيوقراطية» تمثل ظل الله في أرضه، ولا هي تقوم
على منطق التسلط الفئوي، وإنما هي شورية تقوم على أساس رقابة الأمة لما يُسن
من نظم وقوانين تلائم المصلحة العامة والمقاصد الإلهية العليا.
6 - إن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في زماننا هذا وإن كان يبدو أنه ذو
طبيعة سياسية، إلا أنه ليس مطلباً فئوياً أي يخص الإسلاميين وحدهم بل هو مطلب
شعبي جماهيري، لأنه يهدف إلى إعادة المصداقية والمشروعية المستلبة لقانون
الأمة الحقيقي، ولا مجال للتعبير عن ذلك في الظرف الراهن في رأيي إلا من
خلال المؤسسات التي تقرها الأنظمة المتغربة في كثير من بلادنا الإسلامية، أي
تكوين الأحزاب والمشاركة السياسية المشروعة.
وقبل الختام؛ يجدر بنا أن نشير إلى أن الموقف من تنزيل مضمون الشريعة
الإسلامية في الواقع الإسلامي الراهن لا يزال يتوزع داخل الصف الإسلامي بين
ثلاث اتجاهات:
- اتجاه أول يدعو إلى التطبيق الفوري، وخاصة مسألة الحدود.
- اتجاه ثان يدعو إلى تأجيل الشعار وانتهاج أسلوب إصلاحي قصد تعديل أو
تطوير الشرائع السائدة في الاتجاه الذي لا يتعارض ومقاصد الشريعة الإسلامية
العامة.
- اتجاه ثالث يدعو إلى فتح الحوار وتعميق النقاش حول «القاع النظري»
لهذا الموضوع على حد تعبير الكاتب التونسي صلاح الدين الجورشي من أجل إيجاد
مقترحات عملية وتفصيلية للتطبيق.
ولعل هذا التوزع يعكس مدى الشتات النظري القائم حالياً بين الاتجاهات
الإسلامية، مما يعني أن الأمر يحتاج إلى رؤية منهجية واضحة تلم بمختلف جوانب
الموضوع، ولن يتأتى ذلك إلا بإدارة الحوار الواسع بين مختلف الاتجاهات قصد
إيجاد الإجابات لمجمل الأسئلة التي تتداولها النخب الفكرية والسياسية في العالم
العربي والإسلامي، كما أن المفكرين الإسلاميين مطالبون بدراسة المجتمعات
الإسلامية ابتداءاً من المجتمع القدوة (مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم) حتى
مجتمعاتنا المعاصرة مع تبيان مختلف الأنماط التطبيقية للأحكام الإسلامية التي
سادت في كل مجتمع على حدة، وتجلية الخروقات والتجاوزات التي شهدتها؛ وذلك
لتبرئة ذمة الدين الإسلامي الحنيف من كل جور أو عسف ارتكب باسمه في زمن
من الأزمان، مما يتخذ في يومنا هذا تَعِلّة لأي رفض أو تحفظ.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن دراسات الفقه الدستوري والجنائي الإسلامية لا
تزال ضعيفة إلى يومنا هذا، فإذا استثنينا بعض المجهودات التي خلفها لنا الشهيد
عبد القادر عودة من خلال مؤلفيه القيمين: «الإسلام وأوضاعنا القانونية» ،
و «التشريع الجنائي في الإسلام» وكذا ما ألفه الدكتور محمد فتحي الدريني حول
«نظرية التعسف في استعمال الحق في الشريعة الإسلامية» فلا نكاد نجد إلا
اجتراراً لاجتهادات فقهية قديمة كانت في واقع أمرها صدى لواقعها بالدرجة
الأولى مما يتطلب اجتهادات جديدة في هذا المضمار تجيب بدقة عن الإشكالات
المطروحة في العصر الحاضر.
وختاماً: نقول إن هذا الموضوع يحتاج إلى مجهودات فكرية ونظرية
متضافرة تخدم الصالح العام للأمة الإسلامية لإخراجها من واقع التردي الحضاري
الذي تعيشه في الوقت الراهن، ولن يتأتى ذلك إلا بالحوار الهادف والبناء بدل
الاتهامات والاتهامات المضادة الفجة.(156/46)
نص شعري
لقد طال ليلك أرضَ السلام!
مرْوَان كُجُك
لَقَدْ طَالَ لَيْلُكِ أَرْضَ السَّلامْ ... وَآدَكِ [1] ظُلْمٌ شَدِيدُ الظَّلامْ
وَبِتِّ كَأَنَّكِ بَيْنَ الْبَرَايَا ... تُسَاقِينَ سَوْقَ ذَلِيلِ السَّوَامْ
يَقُودُكِ عِلْجٌ إلَى مُبْتَغَاهُ ... شَحِيحُ الْفِعَالِ سَخِيُّ الْكَلامْ
يُزَوِّرُ كُلَّ صَبَاحٍ مَقَالاً ... بِأَنَّ الْبِلادَ عَلَى مَا يُرَام
فَلا ذُلَّ فِيهَا وَلا فَقْرَ فِيهَا ... وَلا هَمَّ فِيهَا سِوَى أَنْ تَنَامْ
لَقَدْ طَالَ لَيْلُكِ، وَالْمُجْرِمُونَ ... أَحَلُّوكِ سِجْناً وَخِيمَ الرَّغَامْ
وَقَالُوا: هُنَا الْعَيْشُ حتَّى تَمُوتِي ... قَضَى الْقَاضِيَانِ: الْهَوَى وَالْخِصَامْ
بُعِثْنَا لِنَهْدِمَ كُلَّ المَعَالِي ... وَعِثْنَا فَسَاداً بِكُلِّ نِظَامْ
فَنَحْنُ الْعَدُوُّ وَنَحْنُ الصَّدِيقُ ... وَنَحْنُ الْعِرَاكُ وَنَحْنُ الْوِئَامْ
سَطَوْنَا عَلَى الدَّارِ وَالنَّاسُ فِيهَا ... فُرَادَى سُكَارَى الْفُؤَادِ نِيَامْ
فَلَمْ نَلْقَ حَرْباً وَلَمْ نَلْقَ إلاَّ ... رُؤُوساً تُجِيدُ فُنُونَ الْكَلامْ
لَهَا صَوْلَجَانُ الْحُرُوفِ الْمُقَفَّى ... وَنَثْرُ تَخَارِيفِ أَهْلِ الْمَنَامْ
تَبِيتُ وَفِي مُقْلَتَيْهَا بَرِيقٌ ... وَتُصْبِحُ غَارِقَةً فِي الظَّلامْ
تَعِيشُ عَلَى ذِكْرَيَاتِ الْجُدُودِ ... وَتَهْدِمُ مَجْداً رَفِيعَ الْمَقَامْ
وَتَحْيَا عَلَى قَوْلِ: نَحْنُ الأُبَاةُ ... وَتَأْبَى مَسِيرَةَ قَوْمٍ كِرَامْ
وَتَجْتَرُّ فِي النَّاسِ: كُنَّا وَكُنَّا، ... وَتُسْلِمُ مُهْجَتَهَا وَالْخِطَامْ
وَتُعْطِي الزِّمَامَ لِفَسْلٍ ذَمِيمٍ ... سَلِيلِ بُغَاةٍ حَفِيدِ لِئَامْ
بِهِ الْغِلُّ يَأْوِي سَعِيداً وَلُوداً ... قَوِيَّ الْمِرَاسِ شَدِيدَ الضِّرَامْ
يَذُرُّ الرَّمَادَ بِعَيْنِ الْحَسُودِ ... وَيَسْحَرُ لُبَّ الْفَتَى الْمُسْتَهَامْ
وَيَكْتُبُ بِالسَّيْفِ عَدْلاً عَمِيماً ... وَيَمْلأُ أَعْيُنَنَا بِالسِّهَامْ
لَنَا مِنْهُ كُلَّ صَبَاحٍ وُعُودٌ ... تُقِيتُ الظُّنُونَ، تُحَاكِي الْغَمَامْ:
سَنَجْعَلُ أَرْضَ السَّلامِ مُرُوجاً ... حَدَائِقَ غُلْباً، وَجَيْشاً عُرَامْ
يَكِيدُ الْعَدُوَّ وَيَحْمِي الْبِلادَ ... مِنَ الذُّلِ وَالْقَهْرِ وَالإنْقِسَامْ [2]
وَيَبْنِي صُرُوحَ الْحَيَاةِ بُرُوجاً ... وَيَعْدِلُ فِي الْخَلْقِ حَاماً وَسَامْ
لَكِ الله يَا شَامَةً فِي الدِّيَارِ ... وَإنْ طَالَ لَيْلٌ وَسَادَ طَغَامْ
وَلَوْ كَبَّلُوك بِكُلِّ الصُّكُوكِ ... وَظَنُّوا الأُمُورَ انْتَهَتْ لِلْخِتَامْ
فَعُودِي لِرَبِّكِ وَاسْتَرْشِدِيهِ ... وَظَلِّي عَلَى الْعَهْدِ حَتَّى التَّمَامْ
فَمَهْمَا يَجُرْ فِيكِ مِنْ مُسْتَبِدٍّ ... وَيَجْعَلْ حُصُونَ الْهُدَى كَالْحُطَامْ
فَلَيْسَ لِحُكْمِ الدَّعِيِّ بَقَاءٌ ... وَلَيْسَ لِعَهْدِ الشَّقَاءِ دَوَامْ
وَسَوْفَ نُمَزِّقُ سِتْرَ اللَّيَالِي ... وَنَبْعَثُ فِي الأَرْضِ رُوحَ السَّلامْ
__________
(1) أي: أجهدك وشقَّ عليك.
(2) الانقسام: مصدر خماسي، وهمزته همزة وصل؛ إلا أنها قطعت لضرورة الشعر.(156/50)
نص شعري
في السحر
عبد الرحمن السنوسي
رَبَّاه هَذِي جَبْهَتي ... تَعْنُو لِوَجْهِكَ فِي حُضُورْ
وَتَسُلُّ مِن أَيَّامِهَا ... هَذِي الدَّقَائِقَ في السَّحُورْ
فَلَعَلَّهَا تَحْظَى بِمَا ... أَكْنَنْتَ مِن سِرٍّ ونُورْ
وَتَذُوقُ مَعْنًى قَدْ طَوَتـ ... ـه.. سِجَافُ هَاتيكَ السُّتُورْ
وَتَصُوغُ مِنْ هَالاتِهِ ... سَوْطاً لأَهْوَاءٍ تَثُورْ
فَلَقَدْ أَمَضَّ فُؤَادَهَا ... فَوضَى بِأَحنَاءِ الصُّدُورْ
وَتَشَعَّبَتْ مِنْ حَوْلِهَا ... فِكَرٌ كَأَسْرَابِ الطُّيُورْ
وَيَسُوقُهَا أَمَلٌ إلى ... نَجوَاكَ في كَنَفِ السَّحُورْ
فَلكَمْ حَدَاهَا بُؤْسُهَا.. ... فَتَصِيح لَيْلاً: ... يَا غَفُورْ
وَلَكَم أَثَارَ شُجُونَهَا ... أَلَمٌ مُمِضٌّ لا يَغُورْ
لا الصَّبْرُ ثَاوٍ في الفُؤَادِ ... وَلا المُقِيمُ بِهِ صَبُورْ
أبداً حياتي في عَنَاء ... ليس يُحْيِيهَا السُّرُورْ
قَدْ بَرَّحَ الأَلَمُ الممضُّ ... بِهَا وَأَضْنَاهَا الفُتُورْ
فَإِلَيْكَ أَشْكُو شِقْوَتِي ... في هَدْأَةِ اللَّيْلِ الوَقُورْ
وإلَيْكَ أَرْفَعُ هَامَتِي ... ويَدَيَّ إبَّانَ الحُضُورْ
لتشُدَّ أزري يا كَرِيم ... وتمحُ أَخْطَاءَ الشُّعُورْ!(156/52)
نص شعري
كنت أدعو للصواب
محمد عبد السلام الباشا
عندما أَسْفَرَ شَيبي
باكياً عهد الشبابِ
عندما أيقنتُ أَنّي
مِنْ تُرابٍ
عائداً نحوَ التراب
عندها جالستُ نفسي للحسابِ
قد سألتُ النفسَ
من غيرِ تغابي
علَّها تَدري سَوادَ الأَمر
مِنْ قَبْلِ الجوابِ
علَّها تبني مَلاذاً
في جِنانِ اللهِ،، تسعى للثوابِ
هل أقومُ الليلَ في جوفِ الظلامِ؟
هل أبُاري الطيرَ..
في تسبيحةٍ تعني التزامي؟
هل أصونُ الصومَ في شهرِ الصيام؟
هل رَعَيْنا حقَّ جيرانٍ لنا قبلَ الملامِ؟
هل نُريدُ الحقَّ..
في أقوالِنا عندَ الكلامِ؟
هل نصونُ العهدَ..
حتّى في الخِصامِ؟
هل تَوَاصَيْنَا بِصَبْرٍ..
في النوازلْ؟
هل أجبْنَا دعوةً للخيرِ..
أو جُدْنا لِسَائِلْ؟
هل تَمَسَّكْنَا بأنواعِ الفضائلْ؟
هل سَلَكْنا للعُلا كلَّ الوَسائلْ؟
إنْ فَعَلْنَا..
نحنُ في الإبحارِ أقوى
بلْ إلى الخيراتِ نَسعى..
قُلْ وَنَهْوى
عندها يزداد شوقي للمآبِ
عندها تُشْرِقُ شَمْسي..
بعد طولٍ للغيابِ
قد دنتْ مني الأماني
في جنانِ اللهِ مِنْ غيرِ عذاب
عندها تَدْري بأنّي
كنُتُ أدعو للصواب
كانَ قَولي:
إنَّما الدُّنيا سرابٌ في سراب
حاذِرُوها..
إنَّها تجري سريعاً كالشهابِ(156/53)
الإسلام لعصرنا
الأمم المتحدة.. ما حدود صلاحياتها؟ !
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
أظهرت الجلسة الأخيرة الخاصة للأمم المتحدة قضية يجدر بالدول الأعضاء -
ولا سيما الإسلامية منها - أن توليها قدراً كبيراً من العناية، لما يترتب عليها من
آثار خطيرة بعيدة المدى.
سميت الجلسة بالخاصة؛ لأنها إنما عقدت لإجازة «القرارات» التي كان
مؤتمر بالصين قد أجازها قبل خمس سنوات. ولذلك سميت الجلسة
«بيجن/5» [*] وقد أعطيت المنظمات غير الحكومية فرصة لحضور هذه
المناسبة لمناقشة القرارات والتأثير على الممثلين الرسميين، وإن لم يؤذن إلا
للقليل جداً منهم بحضور جلسات الجمعية نفسها.
لقد كانت مقررات «بيجن» كلها متعلقة بالمرأة، وكان فيها كثير من
الاقتراحات الجيدة والمفيدة، كتلك المتعلقة برفع المعاناة عن الشعوب ولا سيما
النساء فيها، وكتلك التي تتحدث عن الجوانب السلبية للعلمنة الاقتصادية. لكن
المقررات تضمنت أيضاً دعوة إلى الإباحية الجنسية من شذوذ بين الرجال وشذوذ
بين النساء، وأن البنت لها الحرية في أن تتصل بمن تشاء وأن تتزوج من تشاء
من غير اعتبار لدين، ولا لرأي أسرة.
كنت فيمن شهد هذه الجلسة فرأيت فيها عجباً أثار في نفسي كثيراً من الآراء
والمقترحات للجماعات الإسلامية، أرجو أن أتعرض له في مناسبات أخرى. أما
الآن فيكفي أن أقول: إن معظم المنظمات غير الرسمية التي شهدت هذه الجلسة
كانت من النوع المتحمس للإباحية الجنسية والداعي لها بقوة، حتى إنك تكاد ألاَّ
تسمع صوتاً غير أصواتها، وقد بذلتْ جهداً كبيراً ومنظماً في التأثير على الممثلين
الرسميين أصحاب القرار. ولولا لطف الله تعالى ثم اعتراض بعض المنظمات
الإسلامية وكان من أهمها رابطة العالم الإسلامي والدول الإسلامية لأجيزت هذه
التوصيات الإباحية.
لكن عرض هذا الموضوع على هيئة الأمم أثار في ذهني سؤالاً مهماً انتهزت
فرصة وجودي في هيئة الأمم للتعبير عنه بين الجماعات الإسلامية، وللكتابة عنه
في نشرات رابطة العالم الإسلامي. والموضوع هو: ما حدود صلاحيات الأمم
المتحدة؟ قلت: إنه ليس من حق منظمة الأمم المتحدة أن تصدر قرارات في مسائل
تتعلق بالمعتقدات والقيم التي يختلف فيها الناس اختلافاً كبيراً. وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: إنه بما أن الدول المكونة للأمم المتحدة يختلف كثير منها ذلك الاختلاف
الكبير في المعتقدات والقيم؛ فإنه لا يمكن لهؤلاء الأعضاء أن يستمروا متعاونين
لمواجهة المشكلات التي تهمهم جميعاً إلا إذا كانوا مستعدين لأن يتعايشوا ويتحمل
بعضهم بعضاً رغم هذه الخلافات. إن التغيير في هذه المسائل الجوهرية الأصولية
لا يأتي إن أتى وسواء كان إتيانه إلى خير أو إلى شر إلا بالتدرج وبالطرق السلمية.
لكن الذي نراه الآن هو أن بعض الجماعات الغربية تريد أن تستغل المنظمات
العالمية لكي تفرض معتقداتها وقيمها على المجتمعات الأخرى. وقلت: إنني موقن
بأن بعض الدول ومنها الدول الإسلامية لن تنفذ هذه القرارات. وأن هذا سيؤدي إلى
عدم احترام قرارات الأمم المتحدة، وربما أدى في النهاية إلى إضعاف المنظمة
وعدم فعاليتها.
إننا نحن المسلمين مثلاً لا نأخذ معتقداتنا وقيمنا من الأمم المتحدة أو غيرها من
المنظمات، ولا نعدها مصدراً مشروعاً لها، وإنما نأخذها من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم.
والغريب الذي لا يعلمه كثير من الناس أن موقف أمريكا شبيه بموقفنا
الإسلامي هذا؛ فالدستور الأمريكي والقوانين الأمريكية هي عند الأمريكان فوق كل
ما سواها من قرارات واتفاقات، فلا شيء من هذا يصير ملزماً قانوناً إلا إذا أجازته
الهيئة التشريعية، وهي لا تملك أن تجيز أمراً مخالفاً للدستور. ولذلك فإن وزيرة
الخارجية الأمريكية اعتذرت في خطابها بهيئة الأمم بهذه المناسبة بأن بلدها لم
يستطع إجازة مقررات «بيجن» بسبب معارضة بعض الشيوخ!
ونحن نضع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فوق كل قانون وكل قرار
وكل اتفاق، بل ونفسر ما نوافق عليه منها في حدود هذا القانون الأعلى [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]
(الحجرات: 1) ، [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
(الحشر: 7) .
ثانياً: إن إعلان حقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة يعطي الناس حق
الحرية الدينية؛ فماذا يبقى للناس من هذه الحرية إذا أعطت الأمم المتحدة نفسها
الحق في أن تفرض عليهم كيف يفهمون دينهم، وماذا يأخذون منه وماذا يدعون،
وإلا كانوا معرضين للعقوبات؟ إن المسلم لا يظل مسلماً إذا هو أباح ما حرم الله
تعالى، وإن من أشد المحرمات في دين الله جرائم الزنا وعمل قوم لوط. فكأن الأمم
المتحدة تطلب من المسلمين إذن أن يتخلوا عن دينهم! ! كيف يستقيم هذا مع اعتبار
الحرية الدينية حقاً من الحقوق الإنسانية التي تدافع عنها الأمم المتحدة؟
إن الدين في المفهوم الإسلامي هو منهاج الحياة الذي يختاره الناس لأنفسهم،
سواء كان هذا المنهاج قائماً على أسس من دين أنزله الله تعالى، أو كان شيئاً
اختاره الناس وتصالحوا عليه. فما يسمى بالعلمانية هو بهذا الاعتبار دين،
وقرارات «بيجن» هي أيضاً دين. فإذا فرضتها الأمم المتحدة على الشعوب تكون
قد أكرهتهم على الالتزام بدين لا يؤمنون به؛ فأين حرية الدين إذن؟
ثالثاً: ماذا يبقى للدول من سيادة قومية إذا كانت قرارات الأمم المتحدة ستكون
فوق ما تقرره الشعوب في أوطانها، حتى لو كانت قراراتها صادرة عن هيئات
تشريعية كتلك التي توجد في البلاد الغربية؟ لكن الواقع أن هذا التطاول على
السيادة القومية لن يمارس إلا على الشعوب الفقيرة والضعيفة. أما الشعوب الغنية
والقوية فلن يجرؤ على مساءلتها أو محاسبتها ومعاقبتها أحد. وهذا يعني أن ما
تقرره أو ترضى عنه الشعوب في الدول القوية هو الذي يفرض عن طريق الهيئات
العالمية على الشعوب الفقيرة. هذا على افتراض أن الشعوب هي فعلاً التي تقرر.
أما في الواقع الذي نراه فإن شعوب تلك البلاد هي نفسها مستغلة ومسخرة لأهواء
جماعات أقلية غنية نشطة.
إذا كانت الحكومات القطرية تحدد صلاحيات الحكومة الفدرالية أو المركزية
وصلاحيات حكومات الولايات أو الإمارات؛ بحيث لا يجور بعضها على بعض،
أفلا يكون من العدل أن تحدد صلاحيات منظمة الأمم المتحدة، وصلاحيات
الحكومات القطرية المكونة لها؟
__________
(*) «بيجن» أي: بكين، وهي عاصمة الصين.(156/54)
وقفات
الرؤية أم الحساب؟ ! الخلاف شر
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من المسائل المتفق عليها قديماً وحديثاً: إعذار المجتهد المخالف؛ فما زال
العلماء يخالف بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، ولا يمنعهم ذلك من التواد
والتحاب؛ وأقوال الأئمة في ذلك كثيرة جداً، منها:
قال يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أجلاَّء التابعين: «ما برح المستفتون
يُستفتَوْن، فيُحل هذا، ويُحرِّم هذا، فلا يرى المحرِّم أنَّ المحلِّل هلك لتحليله، ولا
يرى المحلِّل أن المحرِّم هلك لتحريمه» [1] .
وقال سفيان الثوري: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه
وأنت ترى غيره فلا تنهه» [2] .
وقال ابن قدامة المقدسي: «لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه؛
فإنه لا إنكار على المجتهدات» [3] .
وقال ابن تيمية: «التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى
يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله،
وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى
الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم
خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع
والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله» [4] .
وهذه المسألة على الرغم من وضوحها وجلائها واتفاق الناس عليها إلا أن في
تطبيقها عند بعض الناس خللاً ظاهراً؛ فخلافٌ يسير في مسألة فقهية اجتهادية
يسوغ فيها الخلاف يؤدي إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. نسأل الله السلامة.
ومن المسائل الفقهية التي يتجدد حولها الجدل في البلاد الغربية خاصة في مثل
هذه الأيام، مسألة: (إثبات دخول شهر رمضان وخروجه) ؛ فمنهم من يرى
وجوب الاعتماد على الرؤية، ومنهم من يرى الاعتماد على الحساب. والقائلون
بالقول الأول يختلفون فيما بينهم على أقوال: فمنهم من يرى اعتماد رؤية مكة،
ومنهم من يرى اعتماد رؤية أقرب بلد إسلامي، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أي بلد
إسلامي ...
ومثل هذا الخلاف أدى في العام المنصرم في بعض المدن الأوروبية مثلاً إلى
جدل عريض، ثم تطور إلى قيل وقال، ثم وصل الحال إلى تراشق بالتهم عند
بعضهم، وراح بعض أتباع كل فريق يستدعي خلافات أخرى، ويستثير كوامن من
الاختلافات القديمة..! ! ووقع بعضهم فيما أشار إليه العلاَّمة القاسمي بقوله:
«غريبٌ أمر المتعسفين، والغلاة الجافين، تراهم سراعاً إلى التكفير والتضليل،
والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه
الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم» [5] .
فالقائلون بالقول الأول: يرون إخوانهم قد ردوا النص الشرعي، وساروا
على منهاج أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوص ولا يرعون
حرمتها، وربما عظم بعضهم هذا الخلاف، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً، بل هو
خلاف منهجي، وما الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره! !
والقائلون بالقول الثاني: يرون إخوانهم قد جمدوا في فهم دلالة النص،
فمقصود الشارع أن يتثبت الناس من دخول الشهر، فإذا استطاعوا معرفة دخوله
بأي طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع. والحساب الذي ردَّه المتقدمون من
أهل العلم كابن تيمية وغيره هو الحساب الظني الذي يكثر فيه خطأ الحسابيين
واختلافهم فيما بينهم، أما الحساب في هذا العصر فقد تغيرت آلياته وتطورت أدواته،
وأصبحت نسبة الخطأ فيه قليلة جداً، والشرع لا يأتي بما يخالف العقل.
وأحسب أن حسم الخلاف بين الفريقين متعسر جداً إن لم يكن متعذراً؛ فمن جاء
بفتوى من أحد العلماء رُدَّ عليه بفتوى أخرى مخالفة لها من عالم آخر، وكل عالم
لدى صاحبه أوْلى بالاتباع من الآخر.
إذن ما الحل في ظل غياب الولاية الإسلامية التي تجمع الناس على رأي
واحد؟ !
أرى أن أمامنا خيارين:
* الخيار الأول: أن يأخذ كل مركز بما يرى أنه الأرجح، وعلى الأئمة
ومديري المراكز الإسلامية والمساجد أن يتقوا الله تعالى في الترجيح، ويبذلوا الجهد
في الوصول إلى الحق الذي تبرأ به الذمَّة، ويستشعروا عظم الأمانة المناطة في
أعناقهم.
ثم ينبغي لكل مركز ومسجد أن يقدر رأي الآخرين الذين خالفوه، ويلتمس لهم
العذر، ويذبَّ عنهم، ولا يسمح بالجدل والمراء.
وهذا الرأي وإن كانت نتيجته تفريق الناس في المدينة الواحدة، إلا أن فيه
قطعاً لمادة الخلاف والتنازع، وسداً لأبواب الغيبة والنميمة، قال ابن تيمية:
«.. وإن رجح بعض الناس بعضها [يعني: بعض الاجتهادات] ولو كان أحدهما
أفضل؛ لم يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا يعاب بإجماع
المسلمين، بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين، ولا يجوز
التفرق بذلك بين الأمة» [6] .
* الخيار الثاني وهو الأوْلى والأرجح: أن يجتمع أهل الرأي من الأئمة
ومديري المساجد والمراكز ويتدارسوا المسألة، ثم يخرجوا باتفاق موحَّد؛ ويتطلب
هذا حرصاً من الجميع على ضرورة التآلف والاتفاق، والالتزام بقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «تطاوعا ولا تختلفا» [7] . فليس المقصود أن ينتصر المرء
لرأيه، بل المقصود هو تحقيق المصلحة الشرعية؛ فمفسدة التدابر والتنابذ والتقاطع
أعظم أثراً وأشد خطراً من الأخذ بأحد القولين؛ لأن غاية ما في أحدهما أنه اجتهاد
مرجوح يثاب عليه صاحبه بأجر واحد، وأما الاختلاف فكما أنه يزيد من الشرخ
المستشري في جسد العمل الإسلامي، ومدعاة لسخرية غير المسلمين من المسلمين؛
فهو مخالف لمقصود الشارع الذي أمر بالتعاون على البر والتقوى، قال الله
تعالى: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ]
(آل عمران: 105) .
أنا لا أدعو إلى المثالية في إنهاء الخلاف برمته؛ فهذا أمر غير واقعي على
الإطلاق، ولو سلم منه أحد لسلم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن
الذي نهى عنه علماء السلف والخلف: هو أن يتحول الخلاف إلى صراع وتصادم
وشقاق. قال الإمام الشاطبي نقلاً عن بعض المفسرين: «فكل مسألة حدثت في
الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا
فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر
والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعاً] (الأنعام: 159) .... فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها،
ودليل ذلك قوله تعالى: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] (آل عمران: 103) ، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك
لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى. هذا ما قالوه، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى
الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف؛ فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن
الدين» [8] .
وها هنا مسألة جديرة بالاهتمام: فإذا آمنا بأن مسألة (إثبات دخول الشهر
وخروجه) مسألة خلافية يسع فيها الاجتهاد، فهل يصح للإنسان أن يترك الرأي
الراجح الذي يراه، ويأخذ بالرأي المرجوح، من أجل توحيد الكلمة وتأليف القلوب
وتجميع الصفوف ودرء النزاع والتدابر؟ ! أم أن ذلك من التفريط والتمييع
والتساهل والاجتماع على أرض هشة؟ !
والحق الذي لاريب فيه أنَّ مصلحة الاجتماع والائتلاف أوْلى، وترك الرأي
الراجح تحقيقاً لهذه المصلحة ممَّا دلَّ عليه الشرع المطهر، وإذا تعارضت المصالح،
فتحصيل المصلحة الأعلى مقدم على المصلحة الأدنى، كما هو مقرر في علم
الأصول، قال ابن تيمية: «.. ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة الواجبات
يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله، بل قد
يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك.
ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو
تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف
القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما:
عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:» لولا أن قومك حديثو عهد
بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً
يخرجون منه « [9] . وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يترك
بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها، ولهذا نص الإمام أحمد
على أنه يُجهَر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان بالمدينة.
قال القاضي:» لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون، فيجهر بها للتأليف وليعلمهم أنه
يقرأ بها، وأن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة
الجنازة « [10] .
إذن فالمسألة تحتاج إلى فقه رشيد يتسع فيه الصدر، ويسمو فيه المرء عن
أهوائه؛ فليس الفقيه هو الذي يتعصب لرأيه، أو يشدّد على الناس، وقديماً قال
الثوري:» إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد « [11] .
وكأني بقائل قد يقول: إننا معاشر أهل الحق إذا تنازلنا عن رأينا في مسألة
فقهية اجتهادية من أجل اجتماع الصف؛ قادنا ذلك إلى التنازل في مسائل منهجية
وعقيدية أخرى فيكثر الخلط، وتتميع الصفوف..!
وهذا تحفُّظ مردود؛ لأنَّ التنازل في مسائل منهجية وعقيدية انحراف غير
سائغ، وهو مخالف للسبيل الشرعي الذي سلكه سلفنا الصالح، ولكن الذي ندعو
إليه هو التحاور والتطاوع في مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف تحقيقاً لمصلحة
أعظم نفعاً بإذن الله، ومراعاة لقاعدة تعد من أعظم قواعد الإسلام وأصوله، وهي:
الاعتصام بحبل الله تعالى، وترك التفرق والاختلاف المذموم، وها هو ذا عبد الله
ابن مسعود رضي الله عنه يترك رأيه بقصر الصلاة في الحج ويأخذ بفعل عثمان بن
عفان رضي الله عنه لمَّا رأى الإتمام؛ فلمَّا سئل عن ذلك قال:» الخلاف
شر « [12] ، وفي رواية:» إني أكره الخلاف « [13] . فهذا خلاف في مسألة
متعلقة بركن مقدَّم على الصوم، وقعت في ذاته لا في زمانه، ومع ذلك فقد
تطاوع الصحابة رضي الله عنهم ولم يختلفوا؛ فلله دَرُّهُمْ! وما أحوجنا للاهتداء
بهديهم.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، وأعذهم من نزغات الأهواء.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/903) .
(2) الفقيه والمتفقه (2/69) .
(3) الآداب الشرعية، لابن مفلح الحنبلي (1/186) .
(4) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة، لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/116) .
(5) الجرح والتعديل، للقاسمي (ص 37) .
(6) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة، لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124) .
(7) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الجهاد والسير رقم (1733) .
(8) الموافقات (4/186 187) .
(9) أخرجه البخاري، رقم (26، 1583، 1584 وغيرها) ، ومسلم (2/968 973) .
(10) خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (3/124 125) .
(11) جامع بيان العلم وفضله (10/784) .
(12) أخرجه: أبو داود، رقم (1960) .
(13) أخرجه: البيهقي (3/144) والحديث أصله في صحيح البخاري، رقم (1084، 1657) .(156/56)
قراءة في كتاب
تفكيك أمريكا
المؤلف: رضا هلال
عرض: وائل عبد الغني
الطبعة الأولى فبراير 1998م
الإعلامية للنشر
229 صفحة - كبير
نقلت السيولة اللغوية التي يحياها العالم اليوم «التفكيك» من عالم الماديات
إلى مجال الاجتماع والسياسة، في دراسة التجربة الإنسانية الفردية والجماعية من
خلال الفكر والممارسة ومعرفة وسائل ممارسة السلطة وأساليبها من الفرد والمجتمع.
وفي النموذج الأمريكي يرتبط التفكيك بالتفكك كما سنرى برابط كالرابط بين
الدليل والدلالة، أو البرهان والقضية.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي يراها المؤلف فكرة أكثر من كونها دولة آخذة
في انفراط عقدها داخلياً، وهي في ذلك أشبه ما تكون بثوب مبهرج تبدو بهرجته
بادي الرأي للبسطاء والسذج شديدة الجاذبية، لكن عند التدقيق ترى رقعاً شوهاء
تفتقر إلى التناسق في غالب أحيانها إلى جانب هشاشة الرابط أو التنافر بين الرقع؛
تلك هي أمريكا تحت المجهر.
والمؤلف الذي قسم كتابه إلى: مقدمة، وخاتمة، وملحق، ضمَّنه نصاً
لإعلان الاستقلال، والدستور الأمريكي وتعديلاته، بالإضافة إلى لبِّ الكتاب
بفصوله الخمسة؛ استفاد في تأليفه من اطلاعاته ودراساته وطبيعة عمله مراسلاً
صحفياً في حشد الأرقام والشواهد والمتابعات الخاصة؛ مما يسهل من محاولة فهم
الواقع الأمريكي الذي يبدو لأول وهلة مستعصياً على التفكيك.
الفصل الأول: شخصية أمريكا:
يتناول في هذا الفصل السمات العامة للشخصية الأمريكية على المستوى
الفردي والاجتماعي والآليات التي استخدمت في تشكيل هذه الشخصية.
* فالشخصية النموذج: هي شخصية «الفرونتيير» أو «الرائد المكتشف»
الذي تحرك نحو أرض الأحلام، والتي تطورت وفق الظروف إلى «الغازي
المتقدم» (الكاوبوي) الذي اجتاح القارة طمعاً في الثروة وحباً للسيطرة، وحين
سيطر على القارة؛ دفعته أطماعه نحو الخارج في مشروعه الإمبريالي.
هذه الشخصية تمثل الشخصية الأمريكية النموذجية التي تتسم بعدة سمات
نفسية وفكرية أهمها:
- الطموح: الذي يحفز على العمل ويدفع نحو المجهول؛ لاعتقاد أن ما هو
كائن وراء الأفق لا يمكن إلا أن يكون الأفضل.
- ومنها: الاعتماد على الذات في مواجهة ظروف العيش القاسية التي
واجهها المكتشف مرة مع الأرض الجديدة، ثم واجهها «الكاوبوي» مرة أخرى مع
السكان الأصليين «الهنود الحمر» ، والصفتان السابقتان جعلتا المجتمع في حالة
سيولة دائمة؛ فهناك 40 مليون أمريكي يغيرون مساكنهم سنوياً كما يغيرون وظائفهم
وأزواجهم، والأمريكي يغير مسكنه خلال عمره بمتوسط 14 مرة.
- وسمة ثالثة: هي «الفردية المقدسة» التي طغت بجوانبها المختلفة على
الوجدان الأمريكي، بدءاً بـ «المذهب البروتستانتي» الذي يرفض وصاية
الكنيسة ويرى فردية التجربة الدينية، ومروراً بـ «الرأسمالية» التي تقدس الملكية
الفردية، وانتهاءاً بالديمقراطية التي تقدم الحرية الفردية على المصلحة الجماعية،
وربما كان لتقديس الفردية أسبابها التاريخية والأيديولوجية خلال النشأة والتكوين
لضمان البقاء والتوحد والاستقلال، ولكنها كانت بداية أزمة كما كانت طرف حل؛
لأنها أوجدت أنواعاً من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والمجتمع، والفرد
والدولة؛ وذلك للنسبية السائدة في تفسير القيم وتأويل المصطلحات.
- مثل هذا الجو أفرز الفلسفة الأمريكية الوحيدة «البراجماتية» التي تعلي
من مصلحة الفرد بوصفها قيمة فوق كل القيم، وتؤمن بالنتائج العملية دون اعتبار
للثقافة. وقد أشار المؤلف إلى سمات أخرى مثل: الاعتداد بالذات، والتعالي على
الآخر، والعدوانية الشديدة في مواضع أخرى من الكتاب.
بوتقة الانصهار:
أما الآلية التي تم بها ختم الشخصيات المهاجرة إلى أمريكا بالختم الأمريكي
(أي: لتتأمرك) بعد أن خلَّف المسدس رصيداً أسود من التجربة فكانت فكرة أخرى
مارسها الرجل الأبيض للحفاظ على السمة الأمريكية وهي فكرة «بوتقة الانصهار»
أي أن الجميع ينصهرون بماضيهم داخل هذه البوتقة لتتأمرك شخصيتهم، ولكن
هذه الفكرة لم تكن سوى لون من الهيمنة المستترة للثقافة الأنجلو ساكسونية على
باقي الثقافات ليصبح «الأمريكي» هو «الإنجليزي المعدل» ، هذه الهيمنة
تصطدم صراحة مع قيم حرية التحييد والمساواة، لكنها جعلت اللغة والقوانين
والمؤسسات والأفكار السياسية والعادات والآداب والصلوات كلها أمريكية؛ ولكن
المجتمع الأمريكي لم يكن «بوتقة انصهار» وإنما كان «صحن سَلَطة» اختلطت
فيه الأصناف دون أن تمتزج.
لكن هذه الفلسفة ما لبثت أن تراجعت أمام الفلسفة الإثنية والجيتو العرقي ضد
هيمنة الرجل الأبيض؛ إذ يتزايد الآسيويون بنسبة 108% (زيادة معدل المواليد
والهجرة) ، والهيسبانيون بنسبة 53%، والسود بنسبة 13% بينما لم تتعد نسبة
البيض 6%؛ ووفقاً لهذه المعدلات فإن القارة البيضاء يمكن أن تتحول إلى اللون
البني أو الرمادي في غضون 20 أو 30 سنة.
رسالة أمريكا «المصير المبين» :
القوم كما يقدسون الفردية يقدسون كل ما هو أمريكي؛ لأن أمريكا كما يقولون
منحة الله للأرض، وأنه أوكل إليها حراسة معاقل الحرية في العالم، وأن السلام
يسود على يديها؛ ولهذا فهي تقوم بدور رسالي وعليها أن تسيطر على العالم؛ لأن
مصير العالم المبين أو نهاية التاريخ سيكون أمريكياً، هذه النظرية شكلت الخلفية
العقدية والفكرية لدى صانع القرار والرأي العام في التدخلات الأمريكية في العالم؛
لأن التدخلات تعني مباركة الرب لأمريكا، ومن ثم كانت التدخلات بدءاً بالحرب
الأوروبية (العالمية) الثانية وانتهاءاً بالتدخلات الأخيرة ومروراً بإيران ودول
أمريكا الجنوبية وفيتنام والخليج؛ ففي كل مرة لم تعدم الولايات المتحدة مسوغاً؛
فقد كان أولاً: مواجهة الشيوعية، ثم مكافحة الإرهاب، ثم حماية الديمقراطية
وحقوق الإنسان والحماية من الاضطهاد الديني؛ أما الهدف المستتر فهو تمكين
المصالح الاقتصادية الأمريكية من التوسع على مستوى الأرض؛ لأن من حق
أمريكا مقاسمة الآخرين أقواتهم ومقدراتهم!
وبعد بيان الملامح وطريقة التشكيل يرسم المؤلف لأمريكا صورة بالأرقام: -
فالسكان (267 مليون) منهم 194 مليون بيضاً، 33. 8 مليوناً سوداً،
29. 5 مليوناً إسبانيين، 10. 5 ملايين آسيويين، 2. 2 مليونان ومائتا ألف
هنوداً حمراً.
- وكان 36. 5 مليون أمريكي تحت خط الفقر (عام 1996م) .
- 55% هي نسبة المتزوجين في الرجال، 52% في النساء (فوق 15
سنة) .
- 10337 عدد المحطات الإذاعية الخاصة.
- 170. 212 مليار دولار هو رقم العجز التجاري (عام 1996م) .
- (34% زنوج، 63% بيض، 51% هسبانيون) يرون أن الشخصية
الأمريكية تغيرت للأسوأ خلال عشرين سنة ماضية.
- و (41% زنوج، 26% بيض، 38% من الهسبانيين) يرون أن
أمريكا لن تبقى أمة واحدة بعد قرن.
- معدل الجريمة 50789 في المليون.
الفصل الثاني: أمريكا الحلم والسياسة:
في هذا الفصل يقابل بين قيم الحلم الأمريكي حول الحرية والمساواة والسعادة،
وبين الواقع المليء بالازدواجية والبراجماتية والمعضلات التي يتسرب الحلم
تحت ضغطها؛ فبينما يحصل الـ 25% من العائلات الأكثر غنى على 51. 3%
من الدخل عام 1993م فإن نصيب الـ 25% الأفقر كان 6. 25%؛ ولكن
الفارق يزداد مع الوقت. أما نسبة الفقراء فقد بلغت 18% عام 1995م إضافة إلى
35 مليوناً يعيشون دون تأمين صحي. أما العائلات التي تمثل نسبتها 1% الأكثر
غنى فتمتلك 5. 6 تريليون (ألف مليار) دولار.
ومع اتساع الهوة يتحول الحلم الأمريكي في المساواة وتكافؤ الفرص إلى
كابوس بفعل النخبة الطفيلية التي تحاول زيادة نصيبها من الثروة على حساب
الفقراء؛ حتى إن بعضهم لا يعد نفسه أمريكياً وعلى استعداد للإقلاع بطائرته إذا ما
وقعت أي هزات داخلية.
* المعضلة الثانية: لما كانت المعضلة الأولى هي تجاور الأغنياء والفقراء
في مجتمع واحد فإن المعضلة الثانية تتمثل في تجاور أمتين من السود والبيض،
وصعود ما يعرف بـ «القبلية الجديدة» فالجيتو الزنجي تتزايد خصوصياته
الثقافية والأيديولوجية المنبثقة من اللون يوماً بعد يوم في أحياء وأعمال ووضع
اجتماعي ومعيشي يحكي جزءاً من الحرب العنصرية التي جعلت الحديث عن
المساواة أشبه بطرفة ثقيلة، بعد تجربة ثلاثة قرون مليئة بالمرارة والازدواجية
الأخلاقية والسياسية خلفت العنف والعنف المضاد. وقد بلغت جرائم العنف
العنصري عام 1993م وحده: 627759 جريمة.
* أما المعضلة الثالثة: فتتمثل في رأسمالية البورصة بوصفها نموذجاً
متضخماً لحجم الاقتصاد الحقيقي؛ حيث تبلغ التعاملات في الدقيقة الواحدة 20
مليون دولار تدور كلها في إطار الرأسمالية المالية مرحلة ما بعد الرأسمالية التجارية
والصناعية التي تقامر في الأوراق المالية، وتكمن خطورة الوضع في أن كل لحظة
تحمل في ثناياها فرص الانهيار التام أو الصعود.
* والمعضلة الرابعة: تتمثل في الصدام بين الرأسمالية والديمقراطية.
وقد عرف هذا الصدام منذ وقت مبكر، وكثر حوله الجدل بين طرفين:
طرف يرى أن الأحق بالحكم هم الأقلية المالكة الرأسمالية، والآخر يرى أحقية
الأغلبية وإن كانوا فقراء، وانحاز مجلس الشيوخ إلى مصالح الأغنياء، بينما عبر
مجلس النواب عن مصالح الفقراء، ولضمان حقوقهم أكثر أنشؤوا الحزب
الديمقراطي، فأنشأ الرأسماليون الحزب الجمهوري الذي استطاع بتحالفه مع المال
أن يقلب الطاولة على ما قيل إنه ديمقراطية. ونتيجة لذلك دخل النظام السياسي في
أزمة مستفحلة ضد الأغلبية نتيجة الضغوط التي تمارسها مجموعات المصالح ولجان
العمل السياسي؛ حيث أصبح المرشحون عرضة للشراء في سوق مالية بمال وطني
وأجنبي.
* وأما المعضلة الخامسة: فتتمثل في سيطرة اللوبي الصهيوني والتراث
اليهودي المسيحي؛ فسيطرة التراث اليهودي المسيحي على العقلية الأمريكية مثَّل
مركز دعم ونقطة ارتكاز للوبي الصهيوني الذي رتب أجندته مبكراً وجمع أوراقاً
كثيرة في يده منها:
- وسائل الإعلام التي يمتلكها اليهود أو يسيطرون عليها، ورموزهم
الإعلامية المؤثرة وذات الشعبية الكبيرة؛ هذه الورقة تستخدم وسيلة للضغط
ولتشكيل الرأي العام في آن واحد.
- ومنها جماعات الضغط التي تطوِّق مؤسسة الرئاسة والكونجرس [1] من
خلال الدعم المالي وغيره؛ فهناك 76 عضواً في مجلس الشيوخ من مجموع 100
عضو قد تلقوا الدعم المالي المباشر من لجان الإيباك بالإضافة إلى 334 من
مجموع أعضاء مجلس النواب البالغ 437 عضو.
- ومنها التسلل غير العادي لليهود إلى مراكز صنع القرار منذ عهد بوش.
- ومنها ما أشرنا إليه من تسلل المفاهيم التوراتية إلى العقيدة الإنجيلية التي
تجعل من دعم اليهود وإسرائيل ليس مجرد موقف سياسي بل التزاماً عقدياً أيضاً؛
فهناك 2500 منظمة إنجيلية داخل أمريكا تمارس هذا الدعم بصوره المختلفة.
* أما المعضلة السادسة: فتتمثل في تناقض القوة العسكرية والتراجع
الاقتصادي: يرى نعوم تشومسكي أن النظام العالمي أحادي القطبية عسكرياً، لكنه
ثلاثي اقتصادياً: «اليابان، وألمانيا، والولايات المتحدة» ، ولكن القوة
العسكرية دون قاعدة تدعمها كارثة، ولكم أثقلت هذه القوة كاهل دافعي الضرائب،
وإذا كانت الولايات المتحدة نجحت على المستوى العسكري إلا أنها لم تثبت جدارة
في مجالات أخرى مثل: البيئة والمخدرات والمنافسة الاقتصادية؛ فمع أن إنفاقها
على الدفاع يقدر بـ 300 مليار دولار وتخصص له 65% من جهود البحث فإن
الصناعة لا تستحوذ إلا على 2% في أواخر الثمانينيات. وكان لذلك أثره على
تدهور الصناعة وتراجع معدل نمو الإنتاجية، وزيادة الديون الخارجية، وعجز
الميزانية والميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتراجع الاقتصاد الصناعي
لصالح اقتصاد الخدمات، ولهذا فإن استطلاعات الرأي بين الأمريكيين تشير إلى أن
الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، ولا أمل في الإصلاح إلا من خلال كارثة قومية؛
لأن طبيعة السلطة تحول دون تمرير تشريعات للإصلاح، كما أن النظام الحزبي
في حالة من السيولة، والطريق مفتوح أمام جماعات المصالح، والتغير
الديموغرافي في غير صالح الرجل الأبيض وله ظلاله على المستقبل السياسي
والاقتصادي، والشركات المتعددة الجنسيات تلعب دوراً خطيراً لإبقاء الأمور على
ما هي عليه، والمأزق يزداد تعقيداً؛ فقد بلغت الديون الخارجية 3,4 تريليون
دولار في عام 1995م في مقابل 14 مليار في عام 1991م.
الفصل الثالث: الدين الأمريكي:
مع أن الولايات المتحدة علمانية؛ بمعنى أنها لا تتبنى مذهباً معيناً، إلا أن
الدين فيها له مكانة قوية، حتى إن أول تغيير للدستور كان سببه الدين، وقبل هذا
ارتبط المؤسسون الأولون للدستور (البيوريتان) بالدين ارتباطاً واضحاً في ارتباط
تحركاتهم وأسمائهم وأحلامهم بالكتاب المقدس، ومع كثرة الطوائف والخوف من
الاضطهاد أو نشوء حرب دينية أسس جيفرسون فكرة إيجاد حائط فاصل بين
الكنيسة والدولة يحمي من الاضطهاد الديني، أو بمعنى آخر إبعاد السلطة عن
المجال الديني، وكان ذلك الحائط يرتفع حيناً، وينخفض حين تعلو موجة من
التدين الفكري العام، ومع مجيء كارتر أخذ هذا الحائط بانخفاض مستمر حتى إن
المحكمة العليا انقلبت على أحكامها السابقة بزواية 180 درجة.
ولكي نتفهم طبيعة الدين الأمريكي لا بد من معرفة الخريطة الدينية التي
تتشكل من: 88% من النصارى (60% بروتستانت، 17% كاثوليك، 1%
أرثوذكس) 2% يهود - 1% مسلمون [2]- 2% ملحدون - 3% لا دينيين - 4
% أديان أخرى.
ومن خلال هذه الخريطة يظهر جلياً أن المسيحية هي الضلع الثالث لمثلث
ضلعاه الآخران الديمقراطية وفلسفة «دعه يعمل دعه يمر» ، وكانت المسيحية
كالْفينية مصطبغة بالأمريكية متسمة بالمادية والفردية تركز على فردوس الدنيا وليس
على فردوس الآخرة.
وقد لعب الدين الأمريكي دوراً مهماً في ترسيخ الانقسام؛ حيث ظلت الكنائس
بمذاهبها المختلفة أسيرة العرق والطبقة نتيجة عدم وجود كنيسة رسمية للدولة. في
هذا الخضم برز نجم الأصولية الإنجيلية واستطاعت أن تكسب أنصاراً وتوحد
صفوفها لتلعب دوراً سياسياً قوياً؛ فقد لعبت دوراً في إنجاح كل من ريجان وبوش.
ومنذ عام 1990م دخلت في تحالف مع الحزب الجمهوري، ورفعت شعاراً أكثر
صراحة مثل «حزب الله» .
ومع نجاح كلينتون الديمقراطي تحول اليمين إلى الكونجرس لينال الأغلبية في
المجلسين، وبهذا يعود الدين قوة محركة لعجلة السياسة، ومن مواقف أكثر توراتية
متزعمة الحملة الصهيونية العالمية تحت ستار حماية المسيحيين المضطهدين في
العالم بما يهدد بصدام عالمي محتمل، وقد حقق الإنجيليون هذه المكاسب من خلال
عمل مؤسسي منظم يحمل برنامجاً متكاملاً ويمتلك من وسائل التأثير ما لا تمتلكه
دولة قوية.
وعند تحليل الخطاب الإنجيلي يبدو واضحاً البصمة اليهودية التي اخترقت
البروتستانتية منذ مارتن لوثر ثم تجذرت مع الأيام.
الفصل الرابع: حالة الجنس في أمريكا:
تضخم الجنس في الولايات المتحدة حتى أصبح ظاهرة من حيث المعايير
والسلوك؛ حيث لا يمكن لمن يحلل المجتمع الأمريكي أو الفكرة الأمريكية أن
يتجاوزه؛ لأنه أصبح جزءاً من صلب المكون الثقاقي والاجتماعي الأمريكي.
وأصبح - كمال الثقافة الأمريكية مادة لقلب الحقائق؛ فالشذوذ تحرر جنسي،
والفوضوية في العلاقات ثورة جنسية، وإلغاء قوامة الرجل مساواة، وحماية الشواذ
تسامح جنسي، والخوض في أدق خصوصيات العلاقة ثقافة جنسية من حق الجميع!
والمؤلف في هذا الفصل تجاوز حدود ما يمكن أن يكون نقلاً علمياً إلى ما
يمكن أن يكون تزويقاً أو تسويقاً؛ لأن مجاراة القوم في خوضهم لا يخضع للنسبية،
والنزول على اصطلاحاتهم بُعد عن الفطرة وعدوان عليها.
ومن يطالع الفصل يرى كيف تآكلت مسألة الأعراض وفقدت حساسيتها لدى
الأمريكيين؛ نتيجة لقيام الرأسمالية بتفكيك المجتمع وروابطه والتي من أهمها رابطة
الزوجية والمصاهرة وهو الأمر الذي أوجد حالة من الفوضى الاجتماعية والأخلاقية؛
حيث أصبحت المرأة سلعة تباع وتشترى وتُسوَّق وسيلةً للجذب والإعلان وعقد
الصفقات دون أدنى مشقة! وأصبح البغاء صناعة ذات أعراف وتقاليد وسوقاً يبلغ
حجم أمواله 5,1تريليون دولار تقوم عليه مافيا تحميه من مؤسسات الدولة. كما
حولت أفلام هوليود بإصداراتها المتتابعة في هذا المجال الولايات المتحدة إلى
ماخور كبير، وإلى جانب هوليود تأتي الدوريات والقنوات التلفزيونية، وانتشار
وسائل منع الحمل، وتوفر أدوات خاصة بالممارسة، وظهور النظريات التي تشجع
على الحيوانية والشذوذ ك «نظريتي دارون، وفرويد» ، وكان لتمرد المرأة على
استغلال الرجل أثر بالغ في انتشار حزمة من الأفكار التي تدعو إلى زواج المرأة
بالمرأة والانقلاب على القوامة والأسرة وبعد أن فقد المجتمع المناعة الأخلاقية
والدينية إلا من بقية من الكاثوليك أفاق الجميع على صدمة الإيدز، وتبنت الدولة
على استحياء برنامجاً لنشر ثقافة تحمي من الأمراض، وعاد الحديث عن الأسرة
بوصفها مؤسسة مهمة؛ ففي دراسة أجريت على عينة ممثلة لفئات المجتمع وافق
90% على أن العائلة هي المؤسسة الأكثر أهمية في المجتمع الأمريكي، ولكن
الكثيرين من هؤلاء فقدوا طريق العودة؛ إذ لم تتجاوز نسبة من لديه استعداد لإقامة
أسرة سوى 20% من الرجال، و13% من النساء!
وبهذا يبدو أن المجتمع فقد طريق الرجعة إلا أن يشاء ربي شيئاً سبحانه.
الفصل الخامس: الثقافة الشعبية الأمريكية:
هل يعني إفراد المؤلف هذا الفصل للحديث عن الثقافة الشعبية لا عن ثقافة
النخبة أن الثقافة الأمريكية ثقافة تافهة ولا تعرف ثقافة النخبة على عكس الحال في
فرنسا مثلاً أم أن البراجماتية الأمريكية لا تعبأ بثقافة النخبة، وأن الثقافة الشعبية
هي الأبلغ أثراً على اعتبار أن النقد الرديء يطرد النقد الجيد؟
وأياً كانت الإجابة فإنها سبة للثقافة هناك. أما عن الخلطة السحرية للثقافة
الأمريكية فتتبنى الوسيلة أكثر من تبنيها للغاية، وتعتمد الاستهلاك لا البناء،
وتعكس إلى حد بعيد الصورة النفسية للأمريكي المشبع بالغرور وحب الذات وجنون
القوة ونزعة الأنا العنصرية.
والتوليفة التي يرى المؤلف أنها تعبر عن مضمون الثقافة الأمريكي هي:
أفلام هوليود ومادتها الرئيسة حول العنف والجنس، والنجوم الأمريكيون المعبرون
عن الذوق الأمريكي في تجاوز الموضة والجنس، وأفلام رامبو التي تصنع رأياً
عاماً لتأييد مواقف مستقبلية، وأغاني الراب في تعبيرها عن التصدع الثقافي
المتمثل في تمرد الجيتو الزنجي، والنظرة الذاتية للآخر «نظرة الاستعلاء
والتنقص» .
* وفي الخاتمة: يلخص المؤلف نتائج التفكيك في أن الولايات المتحدة تحيا
أزمة حقيقية ومتكاملة، ويخلص إلى أن العنصر الأهم في الأزمة يكمن في العقيدة
الأمريكية وتناقضات المفاهيم حول الحرية والمساواة والديمقراطية والرأسمالية،
وتتعارض هذه القيم بعضها مع بعض في كثير من الأحيان؛ فالولايات المتحدة
ليست بالدولة العضوية كألمانيا التي قامت على تلاقي عرق ولغة وثقافة أو الدولة
القومية كفرنسا، وإنما هي متعددة الأعراق والثقافات جمع بين أطرافها العقيدة
الأمريكية لهيمنة الثقافة الأنجلو ساكسونية لقرون، ولكن استمرار الولاءات الفرعية
والفصل العنصري واتجاه مؤشر النمو السكاني والهجرة تؤكد أن أمريكا القرن
العشرين مهددة بألا تعود ساكسونية بروتستانتية.
ويختم بقول هانتنجتون بأن تفكك الاتحاد السوفييتي يقدم مثالاً معقولاً
للأمريكيين؛ لأن الدولتين ليستا قوميتين بالمعنى التقليدي، وأن العقيدة هي التي
صبغت الدولتين؛ فإذا تفككت العقيدة الأمريكية، وسادت الانفصالية الثقافية،
وتفكك الإجماع على الحرية والديمقراطية فتنضم أمريكا إلى الاتحاد السوفييتي على
كل نفايات التاريخ.
إن الولايات المتحدة تمتلك من عوامل القوة الكثير لكنها لم تعد في يد واحدة
ولا في طريق واحد. وهي مع هذا تنوء بأحمال وأثقال تمثل عامل نحر وإضعاف
لأمريكا ما بعد الحداثة. فأمريكا الإنسان مهزومة نفسياً محبطة في مهاوي الاستدراج
بعدما فقدت مفاتيح الاستدراك، وأمريكا الدولة تعجز عن تطوير آلياتها القديمة
لتواكب ما تبشر به من أمركة، وأمريكا ولدت ميتة تعتمد على ضخ الدماء المهاجرة
إليها.
وإلى جانب الحسابات المادية التي حفل بها الكتاب يبقى للمؤمن نظرته السُّننية
التي تزيد القضية في حسه عمقاً وانتظاماً.
بقي أن نقول لوكلاء توزيع النموذج الأمريكي في عالمنا الإسلامي: إن
النموذج الأمريكي بات منتهي الصلاحية! فضلاً على أنه غير صالح للاستخدام
الآدمي!
__________
(1) كشف الرئيس ترومان حجم الضغوط التي تعرض لها من اليهود لدعم دولتهم في عام 1948م، ومن أبرز صور الضغط ما مارسه اللوبي لإثناء الرئيس فورد عن منح الأردن صفقة صواريخ هوك.
(2) يبدو أن هذه الإحصائية غير دقيقة؛ لأن المسلمين البالغ تعدادهم 10 ملايين يمثلون نسبة 3 7 تقريباً.(156/60)
التقرير السنوي للمنتدى الإسلامي
1412هـ
السلام عليكم
الحمد لله وحده، والصرة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه..
وبعد:
فها هو ذا المنتدى الإسلامي يلتقي بكم مجددًا وهو مقدم على أعتاب عامه
السادس عشر بخطى متئده ومنهج منضبط وفق الكتاب والسنة؛ مستمدًا عونه من
الله - سبحانه، فله الحمد والفضل -، ومستنيرًا بآراء أهل العلم والفضل.
وعبر مسيرته الماضية كانت تحفه دعوات ومشاعر وعطاء محبي الخير والإحسان؛
فلهم من الله الكريم أعظم الأجر ووافر الهبات ومنا أبلغ الشكر وأوفاه.
ونقلِّب فيما يأتي صفحات من العطاء أشرقت في بقاع كثيرة من العالم هادية ومرشدة
إلى دين الله بالكلمة الطيبة والحكمة الرشيدة.
وقد حرصنا على تنويع أساليب إيصالها؛ فحينًا بالدروس العلمية
والمحاضرات التوجيهية، وأحيانًا أخرى بعقد الدورات الشرعية والتدريبية، وأولينا
الجانب التعليمية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم عناية كبيرة سعيًا لتربية النشء على
تعاليم الإسلام ومبادئه.
وانطلقت قوافل الدعاة إلى المناطق النائية والقرى الريفية مبشرة بالدين
الحنيف.
ولم ننس الجانب الإغاثي لما يجسده من تراحم المسلمين وتوادهم، ولدوره
الهام في تأليف القلوب وتهيئتها لقبول الحق.
وكان للجانب الإعلامي دوره الفعال في نشر الوعي عبد الكتاب الهادف
والشريط المتميز.
وأُنشئت المساجد والمراكز الإسلامية لتجميع كلمة المسلمين، ولتكون منطلقًا
لهذه الأنشطة وغيرها.
وأخيرًا.. فهذه خطوة سبقتها خطوات، سار خلالها المنتدى وفق خطة
مرسومة وأهداف مدروسة؛ آخذًا على عاتقه مواصلة المسيرة والعطاء بمشيئة الله
وعونه ثم بعونكم ودعائكم وتوجيهاتكم.
المنتدى الإسلامي
النشاط الدعوي
* مشروع كفالة الدعاة:
الدعاة المحليون هم الأداة الأجدى لنشر الإسلام بين بني جلدتهم، ولهذا فقد
حرص المنتدى الإسلامي على إعداد نخبة من الدعاة وبنائهم بناءًا علميًا ودعويًا
ليدعوا إلى الله على علم وبصيرة، وما يميز المنتدى في هذا المشروع أمران هما:
- أن الداعية يخضع لإشراف مباشر ومتابعة دقيقة بشكل مستمر من قبل
مشرفين مؤهلين.
- أن المنتدى يحرص على تقديم برامج وأنشطة تهدف إلى رفع مستوى
الداعية المكفول، ومن هذه الأنشطة: اشتراكه في دورات علمية وإدارية - عقد
لقاء شهري علمي وتربوي لدعاة كل دولة - تكليف الداعية بإعداد بحوث شرعية
متنوعة خلال السنة.
ويبلغ عدد الدعاة المكفولين من قبل المنتدى الإسلامي (485) داعية منتشرة
في (13) دولة من دول العالم.
من ثمرات دعاة المنتدى
4647 درسًا علميًا أسبوعيًا
851 محاضرة أسبوعية
هذا وقد تم الانتهاء بحمد الله من شرح كتاب (القول المفيد في شرح كتاب
التوحيد) في مركز المنتدى بلندن هذا العام.
البرامج الدعوية:
1- الدورات الشرعية: أعد القسم العلمي في المنتدى الإسلامي منهجًا متكاملاً
للدورات الشرعية يشمل أربع مستويات بحسب مستوى المشاركين، ويحرص
المنتدى على استضافة نخبة من طلبة العلم والمربين المتميزين للمشاركة في برامج
هذه الدورات.
2- اللقاءات التربوية للدعاة: وهي برامج تربوية فكرية ينظمها المنتدى
لدعاته بشكل شهري أو شبه شهري، ويهدف هذا البرنامج إلى توحيد الأهداف
المرحلية، ومراجعة عمل الدعاة، وقد أعد المنتدى لهذا البرنامج منهجًا خاصًا،
ويُعد هذا البرنامج من أكثر البرامج تأثيرًا في تصحيح مسار الدعاة إلى الله عز
وجل.
3- الدورات الإدارية: التفت المنتدى إلى أهمية تطوير طاقاته ورجاله إداريًا
وتنظيميًا ورفع مستوى قدراتهم وإمكاناتهم؛ لأن بناء الرجل هو الكفيل - بإذن الله -
باستمرار العمل وتطوره؛ ولذا فقد واصل المنتدى عقد الدورات الإدارية
المتنوعة، وقد بلغت في هذا العام (13) دورة إدارية، استفاد منها قرابة
(615) داعية.
النشاط التعليمي
كلية لندن المفتوحة:
أنشئت الكلية في لندن عام (1420هـ) لتدري العلوم الشرعية باستخدام
وسائل اتصال حديثة كالإنترنت والفاكس والهاتف بهدف نقل العلم الشرعي وتيسيره
للدارسين حيثما كانوا، ويشرف على هذه الكلية نخبة مؤهلة من المدرسين، وتمنح
الكلية: درجة الدبلوم، والبكالوريوس باللغة العربية والإنجليزية، وقد بلغ عدد
الدارسين فيها في العام المنصرم (115) دارسًا.
المعاهد الشرعية:
حرصًا من المنتدى الإسلامي على نشر العلم الشرعي القائمة على الكتاب
والسنة وهدي سلف الأمة فقد تولى المنتدى - بحمد الله ومنته - تشغيل معهدين
شرعيين أنشأهما البنك الإسلامي للتنمية في الصومال، أحدهما للمرحلتين المتوسطة
والثانوية ويبلغ عدد طلابه (175) طالبًا. والآخر معهد متخصص لإعداد
المعلمين ويبلغ عدد طلابه (120) طالبًا.
المدارس الشرعية:
يتم في هذه النوع من المدارس تعليم العلوم الشرعية بشكل مكثف، وقد أنشأ
المنتدى الإسلامي حتى الآن (4) مدارس شرعية متخصصة وهي على النحو
الآتي:
* متوسطة البيان الشرعية في نيجيريا، ويبلغ عدد طلابها (45) طالبًا.
* ثانوية البيان الشرعية في نيجيريا، ويبلغ عدد طلابها (45) طالبًا.
* ثانوية الإمام مالك في مالي، ويبلغ عدد طلابها (80) طالبًا.
ويحرص المنتدى في هذه المدارس على رفع المستوى العلمي والتربوي
للطلاب من خلال برامج متنوعة تستثمر قدرات الطلاب ومهاراتهم.
* المدارس النظامية:
يدرس الطالب في هذه المدارس نوعين من المواد:
- العلوم المقررة في بلده.
- العلوم الشرعية المعدة من قبل المنتدى.
ويهدف المنتدى من هذا النوع من المدارس إلى تأهيل أبناء المسلمين تأهيلاً
شرعيًا وعصريًا يُمكِّنهم من مواصلة الدراسة في الجامعات الحكومية في مختلف
التخصصات. وقد بلغ عدد المدارس النظامية التابعة للمنتدى (27) مدرسة يدرس
فيها (6652) طالبًا.
ومن هذه المدارس:
اسم المدرسة - الموقع - عدد الطلاب
مدرسة المنتدى الابتدائية - لندن - 190
مجمع الصديق التعليمي
(ابتدائي - متوسط - ثانوي) غانا 780
مجمع الفاروق التعليمي
(ابتدائي - متوسط) غانا 500
مدرسة عمر بن الخطاب
(ابتدائي) مالي 150
مدرس أبخ الإسلامية
(ابتدائي) جيبوتي 370
مدرسة دار الحنان
(ابتدائي) الصومال 232
مدرسة الطيبة
(ابتدائي) بنجلاديش 150
التعليم الإسلامي ... صناعة رجال وحماية أجيال
النشاط التربوي
يحرص المنتدى على توفير المناخ التربوي المناسب لشباب الأمة الإسلامية؛
وذلك لكي يتحول العلم فيها إلى عمل وممارسة، ومن هذه المناخات:
* المحاضن التربوية:
واصل المنتدى الإسلامي مسيرته في تكوني محاضن تربوية تضم نخبة من
شباب الجامعات يجمعهم سكن واحد، ويشرف عليهم شخص مؤهل تربويًا وعلميًا.
وتقام في هذه المحاضن أشكال عدة من البرامج العلمية والدعوية والتربوية تم
تصميمها من قبل المنتدى الإسلامي.
ومن هذه المحاضن: (دعاة المستقبل في نيجيريا) الذي يضم عشرين طالبًا
جامعيًا يدرسون في مختلف التخصصات الجامعية، ويهدف هذا المحضن إلى بناء
هؤلاء الطلاب الجامعيين ليكونوا دعاة عاملين في مختلف التخصصات.
المراكز الصيفية، والمخيمات الطلابية:
وهي برامج تربوية تقام بشكل دوري في مختلف الدول التي للمنتدى فيها
مكاتب، وتخدم هذه البرامج فئة الشباب بهدف بنائهم وتنشئتهم تنشئة دعوية جادة،
من خلال احتكاكهم بأقرانهم ومن هم أكثر منهم علمًا خلال فترات زمنية مناسبة.
وقد أقام المنتدى الإسلامي العام الماضي (12) مخيمًا ومركزًا صيفيًا، استفاد منها
(690) طالبًا في كل من الدول الآتية: مالي، نيجيريا، غانا، توجو، بنين،
تشاد، بنغلاديش.
* برامج الاعتكاف:
تربية الشباب على العبادة وحثهم على المنافسة في الخيرات هو أحد أنشطة
المنتدى التي يقيمها في العشر الأواخر من رمضان المبارك في كل عام , وقد
أشرف المنتدى على اعتكاف ما لا يقل عن (530) شابًا خلال رمضان 1420هـ
في (5) دول هي: بريطانيا، غانا، التوجو، نيجيريا، بنين.
الجدير بالذكر أن يوم الشاب المعتكف مليء بالبرامج الفردية والجماعية.
برامج الاعتناء بالقرآن الكريم
يهتم المنتدى الإسلامي اهتمامًا خاصًا بكتاب الله - عز وجل - حفظًا وتجويدًا
ودراسة، ويسعى لتربية النشء المسلم على آدابه وتوجيهاته؛ وذلك من خلال عدد
من البرامج والأنشطة:
* حلقات تحفيظ القرآن الكريم:
وهي حلقات تعليمية يتم فيها تعلم القرآن الكريم وحفظه، ويحرص المنتدى
على توفير سبل استمرار الطلاب في الحلقات، كما يحرص على اختيار المعلم
الكفء، وقد أصدر المنتدى كتابًا خاصًا بالحلقات يسلط الضوء على النواحي
التربوية والإدارية في الحلقات؛ ويعتبر هذا الإصدار مرشدًا لمعلم الحلقة والمشرف
عليها.
* عدد حلقات التحفيظ في المنتدى: (282) حلقة.
* عدد الطلاب والطالبات: (10. 469) طالبًا وطالبة.
* عدد الحافظين لكتاب الله في العام الماضي فقط: (195) طالبًا وطالبة.
إقامة مسابقات حفظ القرآن الكريم:
ينظم المنتدى في كثير من مكاتبه مسابقات مختلفة المستويات لتشجيع الناس
ولا سيما الشباب على حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد أقام المنتدى بتوفيق
من الله (25) مسابقة في كل من مالي، غانا، بنين، جيبوتي، الصومال، تشاد،
شارك فيها ما لا يقل عن (1712) شخصًا.
تأهيل معلمي الحلقات:
نظرًا لما لمعلمي الحلقات من دور أساسي في سير العملية التعليمية والتربوية
داخل الحلقة فقط حرص المنتدى على رفع قدرات المشرفين على الحلقات
والمدرسين فيها؛ وذلك بعقد دورات علمية لهم. وقد أقام المنتدى خلال هذا العام
(9) دورات في دول عدة.
قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) .
منابر المنتدى الإعلامية
مجلة البيان:
مازالت مجلة البيان - بتوفيق من الله عز وجل - تشق طريقها بخطوات
راسخة ومنهج واضح، وقد بلغ عدد النسخ التي يطبعها المنتدى من البيان شهريًا
(42.000) نسخة، توزيع في أكثر من (100) دولة، وإخوانكم في البيان
جادون على إيصال كلمة الحق ونشرها بين الدعاة وطلاب العلم في أنحاء العالم.
الجدير بالذكر أن المنتدى يوزع شهريًا (5.000) اشتراك مجاني للمراكز
الإسلامية والدعاة وطلاب العلم الذين يشق عليهم شراؤها.
مجلة الجمعة:
وهي مجلة فتية تصدر باللغة الإنجليزية عن المنتدى الإسلامي في أمريكا،
وتستهدف الأسرة المسلمة الناطقة بالإنجليزية، ومع أن المجلة تمر بظروف مالية
صعبة إلا أن ذلك لم يُعق انتشارها لا سيما في أمريكا وأوربا؛ فقد بلغ عدد
الاشتراكات فيها (10.300) اشتراك.
ومجلة الجمعة مادة مفيدة للتواصل مع المسلم الجديد وتعليمه أصول الإسلام،
ووسيلة مناسبة للمساهمة في ثباته على الهداية.
كتاب المنتدى:
هي سلسلة من الكتب الدعوية والفكرية والتربوية يحرص على المنتدى على
حسن اختيارها وإعدادها ومراجعتها من قبل بعض العلماء وطلاب العلم. وقد
أصدر المنتدى الإسلامي حتى الآن (24) كتابًا ثم توزيع وبيع ما يقارب
(000,931) نسخة منها. ومن الإصدارات الجديدة في هذا العام:
1- اعترافات علماء الاجتماع.
2- مَعْلَم في تربية النفس.
كتاب الجمعة:
سلسلة تصدر باللغة الإنجليزية عن المنتدى الإسلامي، وقد بدأت هذه السلسلة
بطباعة خمسة كتب تم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، ومنها: كتاب: (منهج
التلقي والاستدلال) للشيخ أحمد الصويات، وكتاب: (يا بين.. لقد أصبحت رجلاً)
للشيخ محمد الدويش، وكتابا: (عالمية الإسلام) و (الخطيئة الأصلية)
وكلاهما للدكتور عبد الله القحطاني.
مطويات المنتدى:
وهي مطويات صغيرة تصدر بشكل دوري عن بعض مكاتب المنتدى
الإسلامي باللغات المحلية، وتهدف هذه المطويات إلى نشر العلم الشرعي لغير
الناطقين بالعربية.
ومن أبرز هذه المطويات:
* مطوية (رسالة الإسلام) وتصدر عن مكتب المنتدى في بنغلاديش باللغتين
العربية والنبغالية.
* مطيوة (أسبوعية المنتدى) تصدر باللغة الفرنسية وتوزع في دولتي توجو
وبنين.
* مطوية (المنار) تصدر عن مكتب المنتدى في لندن ببريطانيا باللغة
الإنجليزية.
* برامج الإذاعة والتلفاز:
يحرص المنتدى من خلال دعاته على إيصال كلمة الحق من خلال الوسائل
الإعلامية المتاحة، ولذلك واصل دعاة المنتدى استثمار الفرص المتاحة للمشاركة
في البرامج الإذاعية والتلفازية إضافة إلى المشاركات في الصحف المحلية، وقد
كانت المشاركات في هذه الوسائل على النحو الآتي:
المشاركة - العدد
برامج تلفاز: 15
برامج إذاعية: 741
صحف: 42
المشاريع الإنشائية
بناء المساجد:
لما للمسجد من دور هام في بناء المجتمع المسلم؛ ومن أجل تحقيق هذا الدور
فقد حرص المنتدى على دقة اختيار الموقع المناسب لإنشاء المسجد وتسجيل
الأوراق الرسمية له باسم المنتدى، كما أن المنتدى يحرص على أن يشرف بشكل
مباشر على إنشاء المسجد وتشغيله، وقد بنى المنتدى حتى الآن (417) مسجدًا
بتكلفة لا تقل عن (33. 360. 000) دولار في مختلف بلدان العالم.
المراكز الإسلامية:
يهدف المنتدى من إنشاء المراكز الإسلامية إلى توفير مكان متعدد المرافق
والمنافع من أجل تسهيل تنفيذ البرامج الدعوية التعليمية. وقد بلغ عدد المراكز التي
بناها المنتدى الإسلامي حتى الآن (21) مركزًا في كل من بريطانيا: بنغلاديش،
نيجيريا، مالي، غانا، توجو، بنين، جيبوتي، كينيا، السودان، إندونيسيا،
اليمن.
* وكان من آخر هذه المراكز (المركز الإسلامي في باماكو) بدولة مالي،
الذي تم بناؤه حاليًا وهو يضم إضافة إلى المسجد الجامع معهدًا شرعيًا، ومبنى
إداريًا، ومكتبة عامة، وقاعة محاضرات.
نشر الكتاب الإسلامي
للكتاب والشريط الإسلاميين دور كبير في نشر العلم والعقيدة الإسلامية
الصحيحة؛ وبسبب ندرتهما في بعض الدول فقد تبنى المنتدى عددًا من الأنشطة
لسد الحاجة إليهما، ومنها:
توزيع المصاحف:
يتشوق المسلمون في الدول الفقيرة إلى اقتناء نسخة من كتاب الله عز وجل؛
ولذا فقد سعى المنتدى لتوفير نسخ من القرآن الكريم لمن يظن أنهم حريصون على
قراءته وتدبر آياته، وقد بلغ عدد المصاحف التي وزعها المنتدى العام الماضي
(7750) مصحفًا.
طباعة وتوزيع الكتب الإسلامية:
يحرص المنتدى على طباعة الكتب الإسلامية باللغات المختلفة وتوزيعها على
دول العالم، وقد وزع من هذه الكتب خلال العام الماضي (212. 720) كتابًا
بعدة لغات. ومن ضمن الكتب التي قام المنتدى بطباعتها وتوزيعها:
الوسيط بين الحق والخلق، لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مترجم
بلغة الهوسا.
الدروس المهمة لعامة الأمة، لسماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله (مترجم
بالغة السواحلية) .
كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لسماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله -
(مترجم باللغة الفرنسية) .
العقيدة الإسلامية الصحيحة، للشيخ محمد جميل زينو (مترجم باللغة
الإنجليزية) .
إنشاء المكتبات العامة:
توفير المراجع وأمهات الكتب العلمية في الدول الفقيرة أمر ضروري للعلماء
وطلاب العلم والدعاة في تلك الدول؛ ولذا فقد قام المنتدى باختيار قائمة من أهم
الكتب في مختلف التخصصات الشرعية وعلم على توفيرها في مختلف الدول الفقرة
وقد بلغ عدد المكتبات التي أنشأها المنتدى وأثثها قرابة (52) مكتبة في أكثر من
(9) دول.
توزيع المناهج الدراسية:
تفتقر كثير من المدارس الإسلامية في كثير من الدول الفقرة إلى المناهج
الدراسية، وهذا بدوره قد يؤدي إلى ضعف المستوى العلمي للطلاب؛ ولهذا سعى
المنتدى إلى توفير المناهج الدراسية وشحنها إلى بعض المدارس، وقد بلغ عدد
الكتب الموزعة (182. 846) كتابًا تقريبًا.
توزيع الشريط الإسلامي:
مع افتقار كثير من دول العالم إلى علماي موجهين فقد حرص المنتدى على
نشر الشريط الإسلامي بمختلف اللغات بين صفوف الدعاة وعامة الناس. كما حصر
المنتدى على توفير أجهزة نسخ الأشرطة لتسهيل نشر الشريط الإسلامي، وقد بلغ
عدد الأشرطة التي تم توزيعها عبر مكاتب المنتدى قرابة (14. 270) شريطًا.
الكتاب الإسلامي ... معين لا ينضب وزاد لا ينفد.
نشر الإسلام
إقبال الناس في الشرق والغرب على الإسلام جعل المنتدى الإسلامي يفكر في
استثمار هذا الإقبال؛ ولذلك قد تبنى المنتدى برامج متنوعة لنشر دين رب العالمين
تختلف باختلاف المدعوين. ومن ذلك:
القوافل الدعوية:
استمر المنتدى الإسلامي في تسيير القوافل الدعوية في أدغال إفريقيا،
وبفضل من الله تمكن المنتدى خلال العام من تنفيذ (200) قافلة في (9) دولة.
ويصاحب القافلة عادة طبيب لمعالجة أهالي القرآن، كما يتم توزيع مواد
غذائية لتليين قلوبهم. ومن فضل الله منته أن هدى للإسلام أقوامًا من الناس في
مختلف القرى والمناطق التي زارها الدعاة، وقد بلغ مجموعهم في العام الماضي
(4821) مهتديًا.
مراكز المهتدين الجدد:
إن تحويل المسلم الجديد إلى إنسان يجمل همّ الإسلام ويساعد في نشره بين
بني جلدته أحد الأنشطة التي يقوم بها المنتدى الإسلامي من خلال إنشاء مراكز
المهتدين الجدد وتشغيلها. وهي مراكز ينشئها المنتدى في بعض الدول لإعطاء
المسلم الجديد دورات شرعية تمتد إلى أربعة أشهر متواصلة يتعلم فيها العقيدة
الصحيحة وطرق تأدية العبادات وغير ذلك.
وقد أنشأ المنتدى حتى الآن (4) مراكز للمهتدين الجدد. ويضم المركز
مسجدًا وفصولا دراسيًا وسكنًا للمهتدين ومكتبة وصالة طعام، وغير ذلك من
المرافق.
وقد أقيمت في هذه المراكز خلال العام الماضي (16) دورة تعليمية خاصة
بالمهتدين الجدد، واستفاد منها قرابة (600) شخص من حديثي الإسلام.
اكتشف الإسلام.
وهو موقع يعمل المنتدى الإسلامي على إنشائه عبر شبكة (الإنترنت) وذلك
لدعوة مستخدمي هذه الشبكة العالمية من غير المسلمين الناطقين بالإنجليزية ومن
أهم محتويات هذا الموقع:
تعريف شامل بالإسلام.
شبهات حول الإسلام.
الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل.
ترجمة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية.
توضيح خطوات الدخول في الإسلام.
المسلم الجديد:
وهو كذلك موقع يشرف عليه المنتدى الإسلامي في الإنترنت، ويهدف هذا
الموقع لخدمة الذين منَّ الله عليهم بالهداية وسيكون الموقع - بإذن الله - مرجعًا
للمهتدين الجدد للتعرف على أمور دينهم من أحكام وتشريعات وآداب وغير ذلك.
وسوف يضم هذا الموقع ركنًا خاصًا بالرجال وآخر بالنساء.
الطاولات الدعوية:
يغتنم دعاة المنتدى الإسلامي في لندن تجمع الناس في بعض الأماكن لا سيما
في عطلة نهاية الأسبوع ويضعون طاولات تضم كتيبات ونشرات وأشرطة تعريفية
بالإسلام، كما يقوم الدعاة بالإجابة على تساؤلات الناس حول الإسلام، ولقد كان
لهذه الطاولات أثر إيجابي في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ودخولهم فيه.
الدورات التدريبية في طرق دعوة غير المسلمين:
تتطلب دعوة الناس إلى الإسلام معرفة أحوالهم ومداخلهم والأسلوب الأنسب
لمحاورتهم؛ ولذا فقد حرص المنتدى على إقامة دورات تدريبية للدعاة والمهتمين
بدعوة غير المسلمين تتناول أساليب الدعوة وطرقها وبعض الموضوعات الشرعية
المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أقام المنتدى دورتين في مركزه بلندن.
الأنشطة الإغاثية
يهدف المنتدى من خلال تنفيذه للبرامج الإغاثية إلى استثمار إقبال الناس على
هذه البرامج في الدعوة إلى الله - عز وجل - وتصحيح العقائد ونشر السنة النبوية
على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. ومن الأنشطة والإغاثية التي يقيمها المنتدى:
مشروع إفطار الصائمين:
أقام المنتدى الإسلامي في رمضان عام 1420هـ مشروع الإفطار في
(56) دولة، وبلغ عدد المستفيدين من هذا المشروع (804,669,1)
مستفيدًا، بميزانية تقدر بـ (667,066,1) دولارًا.
وقد رافق المشروع برامج دعوية مصاحبة بلغ عددها قرابة (290,24)
برنامجًا.
ومن مبشرات الخير لهذا المشروع إسلام (811) شخصًا تأثرا بهذا
المشروع المبارك؛ إضافة إلى إسلام قرية كاملة في دولة بنين يبلغ عدد سكانها
(300,6) نسمة. فاللهم لك الحمد والمنة.
المخيمات الطبية:
يقيم المنتدى بشكل دوري بالتعاون مع (مؤسسة البصر العالمية) مخيمات
لمكافحة العمى في الدول الفقيرة، وهي تخدم بالدرجة الأولى فقراء المسلمين مع
عدم حجب خير هذه المخيمات عن غير المسلمين لدعوتهم وتأليف قلوبهم.
وقد أقام المنتدى - بتوفيق الله- خمسة مخيمات في كل من: نيجيريا، كينيا،
الصومال، مالي، توجو.
تم الكشف فيها على أكثر من (400,30) مريض، وإجراء (290,2)
عملية جراحية، وتوزيع المخيمات وذلك بإعداد وتقديم عدد من المحاضرات،
وتوزيع الكتيبات والكلمات الإرشادية والتعليمية.
ويسعدنا في المنتدى الإسلامي أن نقدم جزيل شكرنا وتقديرنا للجهود الحثيثة
التي تقوم بها مؤسسة البصر العالمية، فهي مؤسسة رائدة في النشاط الإنساني
المتخصص.
مشروع الأضاحي:
وهو مشروع ينظمه المنتدى كل عام، وقد بلغ عدد الأضاحي التي تم ذبحها
وتوزيعها على فقراء المسلمين عام 1420هـ (700,3) رأس من الغنم
و (50) من البقر. واستفاد من هذا المشروع قرابة (500,43) شخص.
البرامج الإغاثية للمنكوبين:
يسهم المنتدى في رفع المعاناة عن إخوة لنا في الدين ابتلاهم الله - عز وجل-
ببعض المصائب والنكبات: فقد سيَّر المنتدى الإسلام قوافل إغاثية لإغاثة المنكوبين
من الجفاف الذي أصاب منطقة أوجادين في شمال الصومال. كما قدم المنتدى
معونات سريعة للاجئين الإرتيريين النازحيين إرتيريا إلى شرق السودان بسبب
الحرب التي دارت بين إرتيريا وإثيوبيا.
ويستعد المنتدى في الوقت الحالي لتقديم المساعدة للمتضررين من المجاعة
التي ظهرت آثارها في شرق دولة كينيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أحب الناس إلى الله أنفعهم و، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور
تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا) .
رواه الطبراني وحسنه الألباني.
مشروع عيون الحياة لحفر الآبار
الجفاف شبح يهدد كثير من الدول الفقيرة، ويكدر صفو الحياة فيها ولا سيما
في القارة الإفريقية، ولذا حرص المنتدى على المساهمة في تخفيف هذه المعاناة عن
المسلمين من خلال:
محطات المياه:
وهي محطات كبيرة لاستخراج المياة نضخ قرابة (7000) جالون يوميًا،
ويهدف المنتدى من هذا النوع من المحطات إلى توفير مصدر مائي ثابت يساعد
على استقرار أهل المنطقة. وبحمد الله فقد أنشأ المنتدى حتى الآن (4) محطات
كبيرة في شرق السودان.
الآبار الأرتوازية:
وهي آبار تحفر بواسطة أجهزة الحفر الحديثة، ومن ثم يركب عليها مضخة
يدوية؛ لأنها الأنسب في مناطق الجفاف التي لا يتوفر فيها الكهرباء. وقد حفر
المنتدى حتى الآن (254) بئرًا أرتوازيًا في مختلف الدول التي تعاني من شح
الماء.
الآبار السطحية:
وهي آبار تحفر في المناطق التي يقترب فيها مستوى الماء على سطح
الأرض أو التي يصعب استخدام أجهزة الحفر الحديثة فيها. وقد حفر المنتدى
الإسلامي حتى الآن (320) بئرًا سطحيًا.
مشروع سلسبيل لسقيا الماء:
وهو عبارة عن خزانات كبيرة تنشأ في الأحياء الفقيرة للمسلمين الذين يعانون
من قلة الماء، ويتم تغذية هذه الخزانات بشكل يومي من خلال صهريج كبير تابع
للمنتدى، وقد أنشأ المنتدى (6) خزانات في منطقة كسلا بالسودان.
قال صلى الله عليه وسلم: (أيما مؤمن سقى مؤمنا على ظما سقاه الله من
الرحيق المختوم يوم القيامة) .(156/68)
المسلمون والعالم
زفرات قلم.. مع القدس في محنتها
عبد العزيز كامل
(1)
* رغم التغريب والتغييب ... ورغم التجهيل والتغفيل والتأجيل.. فرضت
قضية بيت المقدس نفسها على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة، ولكن.. لا يدري
أحد إلى أي منتهى ستقود المنطقة والعالم تلك البقعة الصغيرة المبنى والعظيمة
المعنى؟ !
كل الاحتمالات واردة إلا احتمال تحقق الوهم أو الإيهام العربي بعودتها عن
طريق عملية الدجل الكبرى المسماة: (عملية السلام) !
(2)
* الأحداث الأخيرة التي اجتاحت فلسطين منطلقة من ساحات المسجد الأقصى
أثبتت أن هناك شعباً كاملاً يريد أن يجاهد، ولديه كامل الاستعداد للبذل والفداء،
ولكن هذا الشعب أعزل ... إلا من الحجارة! ! فكيف ذلك؟ ! ومن المسؤول عنه؟
وكيف يظل شعب من المسلمين احتُلت أرضه، واغتُصب حقه مجرداً من السلاح
طيلة أكثر من نصف قرن؟ من المسؤول عن حرمان أهل الأرض المقدسة من
حمل السلاح للدفاع المشروع عنها كما يدافع الشيشان الآن ومِن قَبلِهم الأفغان؟ ! ..
إنها حقاً معضلة تحتاج لمن يحل لغزها ويسعى لفكها! !
(3)
* زيارة رمز الشر (شارون) لباحة المسجد الأقصى كانت على غرابتها
ووقاحتها تصرفاً طبيعياً لمن أراد أن يدشن حرباً دينية صريحة في المنطقة؛ لأن
رد الفعل المترتب عليها لم يكن متوقعاً فقط، بل كان منتظراً من جيش أعد نفسه
لمثل هذا اليوم منذ حادثة النفق عام 1996م. و (شارون) لم يكن ليبادر بمفرده
بخطوة كتلك الخطوة البعيدة الأثر على الحكومة الإسرائيلية بأسرها، لولا أن
(باراك) قد بارك خطوته هذه؛ ليبني الاثنان (حزب الليكود وحزب العمل) عليها
بعد ذلك ما يريان من خطوات في شأن ما يسميه اليهود: (جبل الهيكل) بعيداً عن
أهزولة (عملية السلام) .
(4)
* من غرائب وعجائب تلك الجدلية الهزلية، الإسرائيلية العربية، المعروفة
بالعملية السلمية؛ أنها استمرت نحواً من عشر سنوات للبحث في كل قضايا
الصراع إلا المساءل المهمة، والخطيرة، والمعقدة: (القدس العَوْدة الحدود الدولة
المياه المستوطنات) فلما جاء موعد مناقشة تلك القضايا الكبيرة من أجل الوصول
إلى (الحل النهائي) .. تبرع الراعي (الكاوبوي) الأمريكي، بعشرة أيام في
كامب ديفيد للفراغ منها، ثم تكرم بأربعة أيام أخرى، ليكون نصيب البقعة المباركة
التي ظلت تحت كنف المسلمين أربعة عشر قرناَ، أربعة عشر يوماً، لكي تنقل
ملكيتها إلى من سرقوها واغتصبوها بصكوك دائمة، عنوانها: (الحل النهائي) أو
المحطة الأخيرة في عملية السلام.. «العادل والشامل والدائم» !
(5)
* ظهر عملياً في مفاوضات الحل النهائي في كامب ديفيد، أن كل ما أسماه
اليهود: (أرض إسرائيل) هو جميعه في كفة، والقدس وحدها في كفة، وظهر
أيضاً بعد تسريب بعض تفاصيل المفاوضات أن القدس كلها كانت في كفة، وما
أسماه اليهود (جبل الهيكل) في كفة. و (جبل الهيكل) الذي أصبح (فجأة) هو
الاسم الإعلامي الدولي لمسجدي الأقصى والصخرة؛ ظهر أن يهود العالم يرجحون
كفته على كل شيء من أراضي الشرق الأوسط. وأثبت اليهود أن قادتهم من أمثال
بن جوريون وبيجن وغيرهما، كانوا يعنون ما يقولون عندما رددوا مراراً:
(لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) .
(6)
* ترجمة هذا الكلام من الناحية الواقعية أن كامب ديفيد الثانية وربما ما يأتي
بعدها من ثالثة ورابعة كانت تمثل في حقيقتها حواراً تفاوضياً صعباً حول موضوع
مركزي أساسي، وهو أرض المسجد الأقصى نفسها التي لم يكن للحديث المكثف
عن (القدس الشرقية) والسيادة عليها أي معنى غير معنى السيطرة التامة عليها؛
وبهذا اختُصرت أزمة الشرق الأوسط وأعيدت إلى نقطة المركز: المسجد الأقصى
والسيادة عليه: هل هي للمسلمين، أم لليهود، أم للنصارى؟
وأصبح الصراع في الشرق الأوسط صراعاً على أرض مسجد كما قال
(شلومو بن عامي) وزير الخارجية الإسرائيلي بالوكالة.
(7)
* الخطاب الإسرائيلي والأمريكي في الآونة الأخيرة اضطر للإفصاح عن
حقيقته الدينية الصرفة فيما يتعلق بالسيطرة على أرض المسجد الأقصى، واضطر
الخطاب الرسمي السياسي والإعلامي العربي إلى أن يتكلم باللهجة نفسها أو قريباً
منها ليتحدث عن السيادة على (أرض الحرم القدسي) [*] . ولكن ظهر في هذا
الخطاب العربي تصنُّع ظاهر؛ فالخطاب العلماني بدا هزيلاً وهو يتحدث عن
(المقدسات) و (الحرمات) ؛ إذ كيف يتحدث عن القدسية أقوام انتهك أكثرهم كل
شيء مقدس في الدين، بدءاً من الشريعة المقصاة عمداً وقصداً، وانتهاءاً بمحاربة
التدين والمتدينين سراً وعلناً. وقد كان شيئاً مزرياً أن نسمع عن مغادرة الوفد
الإسرائيلي لمكان التفاوض كلما حل يوم السبت احتراماً له، بينما ما زلنا نرى
النظم المعمول بها لا تمانع في أكثر بلاد المسلمين من ممارسة كل الأعمال الحياتية
وقت صلاة الجمعة استهانة بها!
(8)
* الروح الإسلامية على ما يبدو سوف تُستنفر قريباً وتُستدعى للذود عن
المقدسات، بعد الإعلان عن إفلاس الزعامات اللادينية، وتلك الروح تُخاطب الآن
على استحياء، بعد أن (اكتشف) العلمانيون العرب أن الصراع يسفر يوماً بعد يوم
عن وجهه الديني الحقيقي ... ولكن هذا (الاكتشاف) وللأسف الشديد ظهر لهم بعد
أن كسروا بأنفسهم رماح تلك الروح، وقصوا ريشها في أنحاء العالم العربي
والإسلامي، وبعد أن قام عرفات ذاته بخضد الشوكة الإسلامية داخل الأرض
المقدسة، وليجد الفلسطينيون العاديون أنفسهم بعد خراب مالطة قوة عزلاء شلاَّء
تقف وجهاً لوجه أمام قوىً دينية يهودية ونصرانية متربصة بدين الحق، ومتشبثة
بدين الباطل تحت الرايات التوراتية والغايات التلمودية.
(9)
* يبدو أيضاً أن العلمانية العربية لا يزال في جعبتها المزيد من عيِّنات
المزايدين على قضية فلسطين، وأنها تُعِد، أو تُعَد لتتخطى مرحلة الثورية القومية
حيث دعاوى القتال والنضال، إلى مرحلة «الجمهوريات الملكية» ، حيث
الانبطاح بعد الانفتاح على (العدو المصيري) للوصول إلى «تسوية» القضية
نهائياً بالأرض. والتوصل إلى «حل» نهائي لتلك العقدة التي أظهرت عوار
الدعاوى العلمانية بكافة أطيافها وأصنافها الدعائية الخائبة.
(10)
* مفارقة عجيبة، تلك التي يكشفها تسلسل أحداث القضية الفلسطينية؛ فبعد
أن كانت قضية إسلامية، تحولت إلى قضية عربية قومية، ثم إلى قضية أوكِلَ
أمرها إلى (دول المواجهة) ثم إلى قضية تُهم جبهة (الصمود والتصدي) ، ثم إلى
قضية تعني الشعبين الفلسطيني والأردني، ثم إلى قضية تخص الشعب الفلسطيني
وحده، ثم إلى قضية في يد السلطة الفلسطينية دون سائر الشعب الفلسطيني، ثم
إلى قضية تحت تصرف عرفات وحده! ! وإذا بعرفات يتحول بتدبير مقصود إلى
رجل يتكلم وحده باسم أكثر من مليار [**] مسلم بشأن المقدسات، ويجتهد نيابة عنهم،
ويتفاوض ويتفق، ويُوقِّع سراً وجهراً، ومختاراً ومكرهاً، بالوكالة والأصالة عن
العالم الإسلامي بأسره!
(11)
* هذا العالم الإسلامي، استُبعد منذ عقود طويلة ليقف موقف المتفرج على ما
أطلق عليه العلمانيون: (الصراع العربي الإسرائيلي) . وطيلة خمسين عاماً من
صراعات الحرب والسلام البائرة ظل العالم الإسلامي متفرجاً بالفعل، بناءاً على
طلب (أصحاب القضية) فلما جَدَّ الجِدُّ، وبرزت جسامة المسؤولية، إذا بهؤلاء
يستنجدون بالعالم الإسلامي، ويعاتبونه على المواقف الباردة التي يتعامل بها مع
التطورات الساخنة لأكثر قضايا المسلمين المعاصرة خطورة، حتى إن عرفات
ورفاقه بعد أن أيسوا من السيادة الفلسطينية على القدس، طلبوا إسناد تلك السيادة
إلى العالم الإسلامي، ولكن ... أنى للمتفرجين المستبعدين طيلة عقود أن يتحولوا
إلى مشاركين أساسيين في (اللعبة) التي لم يُمكَّنوا من فهم قواعدها، أو يشاركوا
في صنع تطوراتها؟ ! ... لقد رُفض الطلب، قبل أن يتكلم عن المطلوب!
(12)
* في حمأة التورط الفلسطيني الرسمي، والانكشاف العربي العلني، والحرج
المتزايد للعالم الإسلامي، بدا العالم النصراني في أوج التنسيق والتنظيم مع اليهودية
العالمية، حتى إن حديث باراك وشارون وليفي وابن عامي لم يعد يختلف في
جوهره وغايته كثيراً عن حديث كلينتون وأولبرايت وآل جور وبوش عند
الخوض في مسألة (جبل الهيكل) ، وأصبحت القدس كما لم تكن من قبل أحد
الموضوعات الأساسية للمزايدة السياسية في الانتخابات الأمريكية بين الحزبين
الكبيرين الديمقراطي والجمهوري، حتى أصبح البيت المقدس بوابة للدخول إلى
البيت الأبيض.
(13)
* بدا أن كلينتون بعد كامب ديفيد الثانية لم يكن يرغب في ختم عهده الملوَّث
بحيازة جائزة نوبل للسلام، بقدر ما كان حريصاً على إسدال الستار على الفصل
الأخير من عملية الاستسلام التي كانت أمريكا الراعي الأول لها. فتوقيع ياسر
عرفات أو من ينوب عنه أو يأتي بعده على وثيقة التنازل عن القدس ليهود الشرق
(إسرائيل) أو يهود الغرب (أمريكا) تحت مسمى السيادة الدولية لن يكون له معنى
آخر سوى الاعتراف الرسمي للعرب جميعاً؛ بل للمسلمين جميعاً بالهزيمة في
المعركة الراهنة مع اليهود، ولكن لعل الانتفاضة الجديدة تتمكن بعون الله من قلب
السحر على الساحر.
(14)
* قيل الكثير عن «إخفاق» كامب ديفيد الثانية، وقد يأتي يوم يُكشف فيه
عن أن تلك القمة لم تتعثر سوى في موعد التوقيع المعلن عن اتفاقات سبق التوصل
إليها، ولهذا تردد على لسان أكثر من مسؤول عربي وغربي أن كامب ديفيد الثانية
تخطت أكثر من 80% من المسائل المعلقة! وقد تعلمنا من الممارسات السياسية
العربية في السنوات الأخيرة أن أخطر الاتفاقات والمعاهدات لم يتم التوصل إليها إلا
سراً، وعبر مفاوضات متكتم عليها، ثم ترفع المداولة بشأنها لكي تعلن النتائج في
وقت أكثر مناسبة. وبالمناسبة؛ فإن المرء يجد نفسه أمام السؤال: لماذا كان هذا
الحرص القاتل على إحاطة مفاوضات الكامب الثانية بتلك السرية الفولاذية التي لم
تحظ ببعضها مفاوضات الكامب الأولى؟ !
(15)
* بعد انفضاض كامب ديفيد هدد عرفات بالإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية
في موعدها، ورد كلينتون بالتهديد بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل موعدها،
ولكن عرفات سحب تهديده وأجَّل إعلان الدولة للمرة الثالثة، وبقي تهديد كلينتون
قائماً؛ لأنه ليس مجرد تهديد من رئيس راحل، بل هو قرار ملزم من مجلس نيابي
يمثل الشعب الأمريكي؛ فقرار نقل السفارة صدر عن الكونجرس الأمريكي منذ عام
1995م وتم التأكيد عليه عام 1997م، ولكن الرئيس الأمريكي لا يملك إلا التأجيل
فقط وليس من حقه الإلغاء، وعندما يحين وقت تنفيذ القرار سيتوالى الاعتراف
الدولي بالقدس عاصمة لدولة (إسرائيل) ، وعندها.. سيكون مسموحاً لعرفات
بالإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة (العلمانية) كما وعد وعاصمتها
القدس.. عفواً: أبو ديس!
(16)
* الذاكرة العربية المصابة بداء النسيان المزمن نسيت أو تناست أن مدينة
(أبو ديس) قد حصل ما يشبه الاتفاق على اعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية حال
قيامها، وذلك بعد إطلاق اسم (القدس) عليها، وقد كُشف عن ذلك أكثر من مرة
عن طريق تسريب بعض التفاصيل عما يسمى بوثيقة (مازن بيلين) نسبة إلى
محمود عباس (أبو مازن) أمين سر السلطة الفلسطينية و (يوسي بيلين) وزير
العدل الإسرائيلي.
وقد كَشَفتْ سر (أمين السِّر) في السلطة الفلسطينية، وعن (عدل) وزير
العدل الإسرائيلي صحيفةُ نيوزويك الأمريكية في منتصف سبتمبر 2000م، ولم
تشأ السلطة أن تنفي كما فعلت طيلة سبع سنوات سابقة مصداقية هذه الوثيقة! !
ومع ذلك لم يكشف لنا (أمين السر) في المنظمة عن السر في اختيار (أبو ديس)
مقراً للبرلمان الفلسطيني الذي تم بناؤه بالفعل فيها! والْتُقطت له الصور ونشرت
بالصحف.
(17)
* أدمن الخطاب العلماني العربي على امتداد عهود وعقود خلت تصوير
الانكسارات بصورة الانتصارات، والهزائم المنكرة على شكل اختراقات مبتكرة،
ولقد كان عجيباً في حس العقلاء أن يصور الموقف المأساوي السلطوي للمنظمة
الفلسطينية؛ رغم تكرار التخاذل والتنازل بمواقف البطولة والرجولة! فعرفات
ورفاقه ما ذهبوا للتفاوض بشأن الحل النهائي في كامب ديفيد إلا بعد أن فرغوا
بشكل نهائي من حرق جميع الأوراق التي كان يمكن الضغط بها والمساومة بشأنها،
وعلى رأسها المقاومة الداخلية الإسلامية، هذا في الوقت الذي ذهب فيه اليهود
للتفاوض (النهائي) بعد أن فرغوا بشكل عملي شبه نهائي من تهويد القدس خلال
ما يزيد على ثلاثة عقود، وخاصة في عقد التسعينيات الذي تكفل عرفات فيه
بتأمين الإسرائيليين (المسالمين) من خطر (الإرهابيين) الإسلاميين حتى قال
(بيريز) عن ذلك العقد: إنه أزهى العصور الأمنية في عمر الدولة الإسرائيلية!
(18)
* ألح عرفات كثيراً على التمسك بـ (الشرعية الدولية) ومقرراتها عند
إبرام أي اتفاق بشأن القضية الفلسطينية، وقد رددت الزعامات العربية العبارات
بهذا المعنى، فهل كان هذا تمهيداً نفسياً ووجدانياً للشعوب العربية والإسلامية لأن
تقبل بأي حل ما دام لا يتعارض مع (الشرعية الدولية) ؛ وإن كان يتعارض مع
الشرعية الإسلامية؟ !
إن الحديث عن حل في ظل الشرعية الدولية شرعية اليهود والنصارى يعيد
القضية إلى نقطة الصفر حيث كانت قبل أكثر من خمسين عاماً، عندما قدمت الدول
الكبرى مشروعاً لوضع أرض المسجد الأقصى تحت الوصاية الدولية، بمقتضى
القرار (181) الصادر عام 1947م، وإذا تم إقرار هذا الحل وهذا احتمال قائم
فإن العرب يكونون بذلك قد أحبطوا بأنفسهم نصف قرن بجهده وجهاده، حرباً وسلماً،
(وكأنك يا أبو زيد ما غزيت) !
(19)
* الشرعية الدولية اليوم تقوم عليها الأمم المتحدة، والأمم المتحدة خاضعة من
الناحية الواقعية للسيطرة الأمريكية؛ وأمريكا واقعياً تحت سيطرة اليهود، فهل
سيبخل يهود أمريكا يوماً على يهود (إسرائيل) بقرار يعيد أرض المسجد الأقصى
للدولة الإسرائيلية؟ ! وهل ستحول دولة من الدول المائة والثمانين من أعضاء
المنظمة الدولية ضد استخدام الفيتو الأمريكي الذي يَنقُض ولا يُنقَض؟ ! ويلغي ولا
يُلغى، حقاً إنه عصر العلو الكبير.
(20)
* وهنا مفارقة أخرى كبرى تكمن بين تقزيم قضية القدس على مستوى
العالمين العربي والإسلامي، حتى تصبح قضية سلطة بلدية، في ظل قيادة فردية
وتضخيم تلك القضية على المستوى الآخر، حتى تتحول من قضية عصابات
يهودية محلية إلى قضية حكومة لها علاقات دولية، إلى قضية عالمية تتبناها
الشرعية الدولية بمنظمتها العالمية، من وجهة نظر يهودية ونصرانية بحيث تمهد
لمفهوم أهل الكتاب من جعل القدس عاصمة للعالم، ريثما يحل زمان السيطرة
اليهودية على العالم.
ونعود إلى ما بدأناه؛ فالقضية تفرض نفسها على الدنيا، وكل العالم يتحدث
بشأنها: الأمريكان، والبريطان، والروس، والطليان، والفرنسيون، والألمان،
وكل عبدة الصلبان والأوثان كلهم يسترضون اليهود، ويتكلمون بلسان اليهود، وقد
لمس عرفات ذلك في جولته التي طاف خلالها بعشرين دولة، حتى أحس بأن دولته
لن يؤيدها أحد ما لم يأذن بها اليهود، يهود أمريكا ويهود إسرائيل، نقول: أما وقد
تكلم أصحاب كل الأديان؛ فقد حُق لنا أن نتساءل: أين أهل الإيمان؟ ! أين القدس
عند أهل الإسلام؟ !
أين بيت المقدس في قلوبنا؟ ! هل قدسناه كما قدسه ربنا؟ ! هل عظمنا
مسجده كما عظمه كتابنا؟ هل شددنا إليه الرحال ولو بقلوبنا كما ندب إلى ذلك
رسولنا ... ؟
اللهم غَفراً ... اللهم ستراً ... اللهم رحمة وعفواً.
__________
(*) أرض المسجد الأقصى، رغم بركتها وقدسيتها، ليست حرماً، لأن للحرم في الإسلام أحكاماً
شرعية معروفة، وهذه الأحكام يُعمل بها في مكة والمدينة وهما حرمان ولكن لم يشرع العمل بها في بيت المقدس، انظر فتاوى ابن تيمية، ج 14، ص 27.
(**) المليار: ألف مليون.(156/84)
المسلمون والعالم
العالم الإسلامي ماذا فعل من أجل القدس؟
عبد العزيز الحامد
اقترحت السُّلطة الفلسطينية على الإسرائيليين والأمريكيين بعد أن (فوجئت)
بتصلب الموقف الأمريكي والإسرائيلي في رفض السيادة العربية والفلسطينية على
القدس اقترحت أن تُسند السيادة عليها إلى العالم الإسلامي ممثلاً في منظمة المؤتمر
الإسلامي، وبالرغم من أن هذا الاقتراح الفلسطيني كان بمثابة أول تنازل من
السُّلطة الفلسطينية عن شعار: (لا تفريط في السيادة الفلسطينية على القدس
عاصمة لدولة فلسطين) ، بالرغم من ذلك فقد رفض الإسرائيليون هذا الطلب،
وقال (شلومو بن عامي) وزير الخارجية الإسرائيلي بالوكالة مؤكداً رفض
(إسرائيل) للسيادة الإسلامية على القدس: «بالنسبة إلينا.. إن السيادة الفلسطينية
والسيادة الإسلامية العالمية يعنيان عملياً الشيء ذاته، وأؤكد رفض رئيس الوزراء
لهذه الفكرة» . [الحياة/20/9/2000م] .
وصدر بعد ذلك بيان عن مكتب (إيهود باراك) في اليوم التالي جاء فيه:
«إن إسرائيل لا تعارض فقط نقل السيادة على» جبل الهيكل «إلى الفلسطينيين،
بل ترفض تماماً نقل السيادة إلى أي هيمنة إسلامية» [الشرق الأوسط 21/9/
2000] ومن يسمع هذا الطلب الفلسطيني وذاك الرفض الإسرائيلي يظن أنه كان
بالإمكان فعلاً أن تسند السيادة على القدس إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، مع العلم
بأن تلك المنظمة في واقع الأمر لا تملك الآلية القادرة على تحمل هذه التبعة العظيمة؛
ولا أدل على ذلك من أن الدور الذي مُكنت هذه المنظمة من القيام به منذ أقيمت
لأجل القدس، هو دور متواضع جداً مقارنة بتلك القضية الضخمة العظيمة، هذا
مع أن السبب في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في الأساس إنما جاء رد فعل على
حريق المسجد الأقصى الذي حدث في 21 أغسطس عام 1969م؛ وللتدليل على
تواضع هذا الدور مقارنة بما كان يُتوقع من منظمة المؤتمر الإسلامي فإننا نسُوق
استعراضاً للملامح الرئيسة لطريقة تلك المنظمة في التعامل مع قضية المسلمين
الأولى.
فكما سبق تشكلت منظمة المؤتمر الإسلامي رداً على إقدام الصهاينة [1] على
إحراق المسجد الأقصى، فقد تنادى زعماء العالم الإسلامي لعقد مؤتمر قمة لبحث
الموقف الواجب اتخاذه تجاه تلك الجريمة الشنعاء، وبدا وقتها أن قضية القدس
والأقصى يمكن أن تكون عامل توحيد للأمة الإسلامية، ولكن هذا ما لم يحدث طيلة
العقد التالي، عقد السبعينيات؛ إذ شُغل العالم الإسلامي بهموم كثيرة صرفته عن
الاهتمام بقضيته المركزية، وأصبحت منظمة المؤتمر الإسلامي رمزاً مجسِّداً لما
يمكن أن يقدمه العالم الإسلامي على مستوى الدول لصالح قضية فلسطين؛ ذلك
الدور الذي لم تُتح له سوى أن يكون رمزياً فقط في غالب الأحوال؛ لقد أثمر
المؤتمر الأول لزعماء العالم الإسلامي نتيجة مهمة، كان يمكن أن يستفاد منها
لأقصى الغايات لو فعِّلت ورتب لها ترتيباً إيجابياً؛ ذلك أنه قد صدر في نص ميثاق
منظمة المؤتمر الإسلامي أن من أهم أهدافها: «الحفاظ على سلامة الأراضي
المقدسة وتحريرها، ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرجاع حقوقه
وتحرير أراضيه» . ونص الميثاق أيضاً على خصوصية القدس على المستوى
التنظيمي، حيث جاء النص على أن: «يكون مقر المنظمة في مدينة جدة مؤقتاً،
إلى أن يتم تحرير القدس، لتصبح مقراً دائماً لها» ؛ ولكن نشاط منظمة المؤتمر
الإسلامي المخصص في الأساس لخدمة قضية بيت المقدس تقلص واختُصر من
(مؤتمر إسلامي عالمي) إلى «لجنة» لجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر عام
1975م، وتحول دور هذه اللجنة، من الناحية الواقعية إلى «صندوق»
يستجدي من العالم الإسلامي بفقرائه وأغنيائه من الأموال ما يمكن أن تصرَّف به
شؤون محدودة داخل الأرض المقدسة، ليس منها ما يساعد في قليل ولا كثير
على تحرير تلك الأرض المقدسة؛ وذلك في الوقت الذي تنهال على تلك الأرض
منذ ما يقرب من قرن من الزمان مليارات الدولارات من اليهود والنصارى، بهدف
إعادة صهرها ثم تشكيلها في هيئة يهودية صرفة؛ وبمقارنة بسيطة بين الواقع
العربي الإسلامي، والواقع اليهودي في مدينة القدس بعد أربعة وثلاثين عاماً من
احتلالها وهو واقع معروف ندرك بُعد الشقة بين ما قدمه العالم الإسلامي للقدس
وما قدمه ولا يزال يقدمه العالم اليهودي والعالم النصراني أيضاً؛ والسؤال المرير
هنا هو: من الذي يقدس القدس.. نحن أم هم؟ ! وللتذكير ببعض ما تعهدت به
المنظمة، نذكر شيئاً من قراراتها ووعودها فيما يتعلق بالمسؤولية التي تحملتها نحو
القدس والأقصى، ونحن نذكرها لنقارن فقط بين الأقوال والأفعال.
* في مؤتمرها الأول المنعقد في سبتمبر 1969م، أكدت القمة الإسلامية
«أن حكومات الدول الإسلامية وشعوبها يرفضون أي حل للقضية الفلسطينية لا
يكفل لمدينة القدس وضعها السابق قبل الاحتلال في يونيو 1967م» ومعنى هذا
أن الدول الإسلامية كلها ترفض أي سيادة على مدينة القدس لغير أهلها من
الفلسطينيين المسلمين.
* وفي القمة الإسلامية الثانية التي عقدت في لاهور في شهر فبراير 1974م
جاء في قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي النص الآتي: «القدس رمز فريد من
نوعه لالتقاء الإسلام بالأديان السماوية (المقدسة) ، ولقد تولى المسلمون لأكثر من
1300 سنة شؤون القدس كأمانة لكل من يعتزون بها، وبهذا كان انسحاب إسرائيل
من القدس شرطاً لا يقبل التغيير؛ لتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط» .
* وعندما أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارها بضم القدس الشرقية المحتلة
انعقد مؤتمر للمنظمة على مستوى وزراء الخارجية في مدينة فاس بالمغرب في
20 /9/1980م؛ وقد التزمت الدول الإسلامية في هذا المؤتمر باستخدام
(جميع) قدراتها السياسية والمالية والنفطية والعسكرية (! !) لمجابهة القرار
الإسرائيلي، والتعهد بفرض مقاطعة [2] سياسية واقتصادية على البلدان التي
تساند القرار الإسرائيلي.
* وفي المؤتمر الثالث للمنظمة والمنعقد في يناير 1981م، أعلنت المنظمة
الإسلامية العالمية (الجهاد المقدس) لتحرير القدس (! !) وفقاً لمواد القانون
الدولي التي تَكْفُل الدفاع المشروع عن النفس في المادة (51) من ميثاق الأمم
المتحدة، وجددت القمة الدعوة إلى مقاطعة (إسرائيل) وقررت: أن إبقاء أي دولة
إسلامية على أي شكل من أشكال العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية معها يُعد
تشجيعاً لها على مواصلة احتلال الأراضي العربية المحتلة وعلى رأسها القدس
الشريف.
* وعندما أقبل العرب بسعي جماعي على (نسخ) تلك القرارات والتوصيات،
والتعهدات السابقة، بالدخول في التفاوض السلمي مع اليهود في مؤتمر مدريد في
أكتوبر عام 1991م أعلنت منظمة المؤتمر الإسلامي: «أن القدس هي جوهر
قضية فلسطين، ولذلك لا يمكن تغييبها عن مفاوضات السلام» ؛ ولكن القدس
غُيِّبت بالفعل، واستمرت مفاوضات السلام ما يقرب من عشر سنوات دون أن
يكون هناك همس عن القدس، ومع ذلك سكتت المنظمة، وسُلمت القضية إلى
(أصحابها) الأصليين وهم: منظمة التحرير! ! وكأن القدس كانت أو أصبحت ملكاً
لتلك المنظمة لتتحدث عنها وتنفرد بها عن مئات الملايين من المسلمين. وعندما
أُعلن عن انعقاد كامب ديفيد الثانية التي تحطمت نتائجها على صخرة القدس بدأ
الكلام عن أنواع متعددة من أشكال السيادة على القدس من طرف اليهود والنصارى؛
ولكنها تستثني العالم الإسلامي ممثلاً في المنظمة الإسلامية العالمية، وعندها
أصدرت منظمة المؤتمر الإسلامي في دورتها السابعة والعشرين في 30 يونيو
2000م، ما أطلق عليه: «نداء القدس» وجاء فيه: «إن القدس هي العاصمة
السياسية والتاريخية للشعب الفلسطيني وللدولة الفلسطينية، وهي ملتقى الأديان
والرسالات السماوية، ومركز تعايش الحضارات والثقافات، وهي جزء لا يتجزأ
من الأراضي الفلسطينية» [3] فإن الظاهر من هذا النداء أنه كان يهدف إلى مساندة
الموقف الفلسطيني المعلن بعدم التفريط في (ذرة تراب) من القدس الشرقية؛ ولكن
هذا الموقف المعلن بدأ ينافسه الموقف غير المعلن وهو القبول بجزء من خارج
القدس، وهو (حي أبو ديس) ليكون عاصمة للدولة الفلسطينية إذا قامت وعندها
أصدر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي إعلاناً في (19/9/2000م)
جاء فيه: «نعبر عن تقديرنا للجهود الرامية إلى اتفاق على المسار الإسرائيلي
الفلسطيني من عملية السلام» .... والسلام! !
__________
(1) الذي قام بذلك العمل لم يكن صهيونياً يهودياً، بل كان صهيونياً نصرانياً، وهو مايكل دنيس.
(2) هذا قبل مقاطعة هذا القرار بالهرولة إلى التطبيع.
(3) جريدة الأهرام، 1 يوليو 2000م.(156/89)
المسلمون والعالم
كامب ديفيد.. هل أخفقت؟
عماد الغزي
ببساطة حاول عرفات وباراك إقناع العالم بأن محادثاتهما المغلقة والتي
استمرت 14 يوماً برعاية كلينتون نفسِه لم تكن ناجحة، ليس على القضايا الفرعية
وحسب، وإنما على القضايا الأساسية؛ فهل حقاً كانت كذلك؟ أم أن الإخفاق
الظاهري للمحادثات هو من مقتضيات التوقيع على الاتفاق النهائي، وأن هناك
ترتيبات مكملة خارج إطار الأطراف الحاضرة يجري إعدادها الآن؟ هذا ما
سنسعى للإجابة عليه.
عرفات بحاجة لهذا الإخفاق:
بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو دخل عرفات غزة دخول الفاتحين، واستُقبل
استقبال الأبطال من البعض؛ وما كان له ذلك لولا استغلاله لمجموعة من العوامل
استطاع توظيفها لتمنحه شرعية تمثيل الفلسطينيين في هذا الاتفاق ثم قيادتهم.
ومن هذه العوامل:
أ - الرصيد النضالي القديم لحركة فتح والمنظمة التي يتزعمها عرفات، هذا
الرصيد قام على أشلاءِ رجالٍ كثيرين قاتلوا وجاهدوا لتحرير فلسطين في الستينيات
والسبعينيات ولم يكونوا يقبلون أي سلام مع اليهود.
ب - داعب عرفات مشاعر الفلسطينيين حين صور لهم الاتفاق مع
«إسرائيل» بأنه المخرج الوحيد من حياة البؤس والشقاء في مخيمات الذل،
حتى صوَّر لهم غزة سنغافورة الشرق الموعودة بعد أن تنهال عليهم المساعدات
الدولية من كل جانب.
ج - الفلسطينيون في البداية كانوا يجهلون حقيقة اتفاقية أوسلو وبنودها
السرية. أحلام الدولة المستقلة ... آمال زوال الاحتلال، كانت أكبر من أن تسعى
هذه الشعوب للتفكير قليلاً في تبعات الاتفاق. إنها فترة التقت فيها العاطفة والاندفاع
الفطري للإنسان نحو الخلاص على مسافة بعيدة من تغليب العقل والتأمل، إنه
ملتقى التائهين من الشعوب المغلوبة التي قُيِّد علماؤها في السجون، وغيّب
الناصحون المخلصون عن القرار.
اليوم تغير الأمر:
الرصيد النضالي الذي منح عرفات الشرعية تغير إلى صورة قاتمة لدى
الفلسطينيين وتمخض عن استبداد أجهزة السلطة وقطاعاتها الأمنية الثلاثة عشر
وعن الفساد المالي والإداري.
* أما سنغافورة الشرق فواقع الفلسطينيين بعد الاتفاق أصبح مدعاة للإحباط
عند بعضهم؛ فمن زيادة معدلات البطالة مروراً بالغلاء الفاحش إلى انخفاض
مستوى المعيشة المتدني أصلاً حتى أصبح جزء كبير من سكان ما سمي بمناطق
الحكم الذاتي يعيش تحت مستوى الفقر.
* أما حقيقة الاتفاق وبنوده وما يترتب عليه فقد أخذت تتضح يوماً بعد يوم،
وإذا بالمهمة الأولى للدولة الموعودة هي حماية أمن «إسرائيل» وحدودها، وتنفيذ
أوامر الموساد والـ C I A، وكل عملية جهادية يقوم بها فلسطيني ضد
«إسرائيل» أصبحت خرقاً للميثاق وتراجعاً عن العهود.
رئيس الدولة الرمز لا يستطيع دخول دولته أو التنقل فيها إلا بإذن من
السلطات الإسرائيلية!
مظاهر كثيرة ومعاناة أكثر أدرك الفلسطينيون من خلالها مدى ضعف هذا
الكيان وحجم المأساة التي وصلوا إليها بعد صبرهم الطويل.
* ومن ثم فعرفات الآن بحاجة لعملية تلميع جديدة وقد تكون الأخيرة وقد يريد
هو ويُراد لعملية التلميع هذه أن تمنحه الشرعية مجدداً ومن ثم الجرأة على توقيع
الاتفاق التاريخي القادم الذي جَبُنَ أن يوقع عليه في اللحظات الأخيرة في كامب
ديفيد الهالكة.
عاد عرفات من كامب ديفيد بصورة حاولت السلطة من خلالها أن تصنع منه
البطل صلاح الدين الذي رفض التنازل عن القدس.
الإعلام الفلسطيني والعربي ساهم في الجريمة، حتى الذين اتهموه بالخيانة
والتنازل عادوا لمدح صموده في صحفهم ومجلاتهم وكأنهم جميعاً في نسق واحد
يقودهم ويوجههم هم وعرفات قائدٌ واحد! !
القدس:
لم تكتفِ «إسرائيل» أو تقبل بما وقَّع عليه قادة المنظمة وعرفات في أوسلو
وما أعلنوه من قبولهم بحق «إسرائيل» في الوجود؛ بل اشترطت وسعت لأجل
إقرار علني من المجلس الوطني الفلسطيني وأمام كلينتون نفسه بإلغاء البنود التي
تدعو لإزالة دولة «إسرائيل» من الوجود. إسرائيل تدرك أن عرفات وقادة
المنظمة هم في نهاية الأمر لا يمثلون شعوبهم، وهي بهذه الخطوة حصلت على
إقرار تاريخي وشعبي بحقها في فلسطين.
واليوم ونحن على أبواب التسوية المرتقبة حول قضية هي من أخطر قضايا
العالم الإسلامي ومدار حروب تاريخية بين المسلمين والنصارى.. ألا وهي القدس،
فإن «إسرائيل» لا تريد توقيع عرفات فقط أو المجلس الوطني الفلسطيني فقط
إنما تريد إضافة لذلك كله إقراراً عربياً ضمنياً أو علنياً بما سيوقع عليه ويقبله
عرفات حول القدس.
ومن هنا يأتي الحديث بعد كامب ديفيد المحبَطة وقبل القمة القادمة عن لمّ
الشمل العربي الذي ظاهره طي صفحة الماضي للخلافات العربية، وحقيقته
الاستجابة للضغوط الأمريكية لإضفاء الشرعية العربية على ما سيقوم به عرفات
حول القدس.
الاستحقاقات المالية للاتفاق تحتاج إلى ترتيب:
لاتفاقية التسوية النهائية تبعات مالية ضخمة من الناحية النظرية على
الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي مع اختلاف جذري في التطبيق لكلتا الحالتين.
فعلى الصعيد الفلسطيني تتراوح هذه الاستحقاقات بين عصا يهدد بها الراعي
الأمريكي أغنياء العرب بوجوب تمويل الاتفاق وصندوق التعويضات للاجئين
الفلسطينيين، وجزرة يُلوِّحون بها للفقراء فيتنازلون عن حق العودة أملاً بالاستقرار
ولقمة العيش طالما أن الوطن ميئوس من رجوعه.
أما في الجانب الآخر فتختلف المعادلة؛ حيث تطالب «إسرائيل» بعدة آلاف
من ملايين الدولارات لتقوم بتفكيك بيوت جاهزة تتكون منها المستوطنات الصغيرة
التي ستسلم أراضيها للفلسطينيين بموجب اتفاقية التسوية النهائية.
الراعي الأمريكي يملك من الرأفة والنزاهة ما يجعله يمول جزءاً كبيراً مما
تطلبه «إسرائيل» هذا عدا المساعدات العسكرية لتقوية أمن «إسرائيل» التي
سيصبح بعض أراضيها في الضفة مكشوفاً للعدو بسبب التسوية النهائية.
الثوابت الإسرائيلية والثوابت الفلسطينية:
نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح أن هناك ثابتاً فلسطينياً واحداً طوال العقود
الماضية لدى المنظمة وقادتها، وهو أنهم على استعداد دائم للتراجع عن مطالبهم
وبشكل مرحلي، وهم أيضاً على استعداد دائم بمرور الزمن للقبول اليوم بما رفضوه
بالأمس، أمام هذا الثابت الذي يقود أية أمة أو جماعة للكارثة، أمام هذا تقف
الثوابت الإسرائيلية على الجهة المقابلة، بعنادها وصلابتها واتفاق قادة «إسرائيل»
قديماً وحديثاً على قواعدها الأساسية مع اختلاف واجتهاد لكل واحد منهم على
شكليات التطبيق.
إذا أردنا الآن أن نتصور الاتفاق النهائي وبنوده وما يترتب عليه فقد يكفينا
فقط دراسة الثوابت الإسرائيلية وفهمها.
إن الاتفاق القادم سيمنح «إسرائيل» ما تريد، أما القادة الفلسطينيون فيمكن
إخراجهم من المأزق بأن تُصاغ بنود الاتفاق بطريقة مبهمة الألفاظ في بعض فقراتها،
يستطيع من خلالها هؤلاء القادة تفسير هذه البنود بالطريقة التي ترضي شعوبهم
وتخرجهم من الحرج وتهمة الخيانة، إلا أنها في نهاية المطاف تصطدم مع الواقع
المشاهد المحسوس الذي يناقض تفسيرهم ويطابق تفسير «إسرائيل» ومطالبها.
وفي هذه العجالة سنتناول ثوابت اليهود وأهدافهم من خلال محاور اللاجئين
والسلام والأمن:
اللاجئون:
ترتكز العقيدة الإسرائيلية في قضية اللاجئين على ثلاث ركائز أساسية، وهي
حسب الأهمية:
أولاً: إلغاء هوية: «لاجئ فلسطيني» :
إن وجود أي شخص فلسطيني يحمل هوية «لاجئ» في أي مكان من العالم
يعني أن له قضية تحتاج لحل، وأن له وطناً قد شرد منه يطالب بعودته، وأن الذي
أخرجه من وطنه عدو لا بد من محاربته.
ومن هنا كانت «إسرائيل» ومنذ تأسيسها تطالب بتوطين اللاجئين
الفلسطينيين، وتتعرض الدول العربية التي تقطنها جاليات فلسطينية منذ فترة طويلة
لضغوط أمريكية قوية لأجل التوطين.
وقد يتم توطين بعض منهم في أماكن إقامتهم الحالية، وتهجير بعضهم مرة
أخرى ليستقروا في بلد جديد كالعراق مثلاً مقابل رفع الحصار عنه، وكل ذلك
ضمن اتفاقات مصالح دولية بعضها معلن والآخر غير معلن تذهب ضحيتها في
النهاية الشعوب.
ثانياً: إبعاد الفلسطينيين عن الحدود مع «إسرائيل» :
لا تريد «إسرائيل» للفلسطيني أن يعيش ولو بعد التوطين على مقربة من
حدودها، إنها ترى في قربه إثارة للذكريات والحنين للوطن المسلوب على الجانب
الآخر من السياج، وقد يتحمس بعضهم فيقرر القيام بعملية جهادية ضد عدوه الذي
لا يبعد كثيراً عنه، وقد ترددت أنباء أثناء الضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة
للجنوب اللبناني رداً على استفزازات حزب الله عن وجود اتفاق شيعي يهودي
لتهجير الفلسطينيين من جنوب لبنان إلى شماله، ويعجب القارئ حين يعلم أن
سفارتي أمريكا وكندا في لبنان تقومان بجزء من هذه المهمة حيث تركزان في
قبولهما لطلبات الهجرة للشباب الفلسطينيين المقيمين في لبنان على الذين يسكنون
المخيمات الجنوبية المحاذية لـ «إسرائيل» .
ثالثاً: تفكيك بنية المخيمات الفسلطينية:
(مخيمات الحقد والكراهية) هكذا يصف نتنياهو المخيمات الفلسطينية في
لبنان والأردن وسوريا، وهو يعبر عن وجهة النظر اليهودية التي ترى في
المخيمات وتجمع الفلسطينيين في مكان بائس واحد أرضاً خصبة للجماعات
الأصولية والمد الإسلامي، واجترار ذكريات الماضي وإثارة الكراهية ضد
«إسرائيل» ومن ثم فهي تهدف إلى تفكيك هذه المخيمات وتشتيت الفلسطينيين
الذين يعيشون فيها داخل الدولة، وقد خرجت في الآونة الأخيرة دعوات داخل
الدول العربية التي تحوي هذه المخيمات ظاهرها الرحمة والشفقة مطالبة بإعادة
تأهيل المخيمات وتحسين حالة الفسلطينيين، وحقيقتها الاستجابة لمطالب اليهود
بتفكيك بنية هذه المخيمات وإزالتها نهائياً؛ وللمنتفعين دور في هذه القضية؛
فهناك من يطمح ببيع أراضيه لصندوق التعويضات لبناء مساكن للفلسطينيين
عليها كوليد جنبلاط مثلاً.
السلام:
السلام هدف استراتيجي لـ «إسرائيل» يسعى إليه اليهود بشتى السبل،
وهم على استعداد للتنازل عن بعض مكتسباتهم ومطالبهم لأجله، والسلام يحقق
لـ «إسرائيل» الكثير من المكاسب منها:
أولاً: الشرعية:
تمثل الشرعية العامل الأهم في وجود أي نظام سياسي واستمراره، ولا يخفى
أنه كلما توسعت عملية السلام ترسخت شرعية «إسرائيل» .
أن تتحول «إسرائيل» عند العرب من دولة معتدية إلى صاحبة حق في
الوجود، وأن يتحول العداء العربي إلى صداقة وسلام وتعاون إنجاز لا يعادله إنجاز
لدولة «إسرائيل» ، وحين تترسخ هذه الشرعية سيتحول المصرُّون على عداء
«إسرائيل» إلى خارجين على القانون والإجماع العربي وناقضين للعهود والمواثيق
مع اليهود، وبعد أن كان أولئك المناضلون يكتسبون شرعيتهم من عداء «إسرائيل»
إذ تتحول المعادلة إلى شرعية قيام «إسرائيل» وحلفائها بمحاربتهم وقتلهم! !
ثانياً: تخفيف الضغط العسكري والأمني:
تتيح عملية السلام لـ «إسرائيل» تخفيف الضغط الأمني الداخلي، وتقليل
توقعات الهجوم الخارجي والخوف منه؛ مما سيجعلها تتفرغ أكثر لأمورها الداخلية
كاستيعاب المهاجرين وتدريبهم عسكرياً وتأهيلهم، وترسيخ بناء الدولة، وتحويل
جزء من تكاليف الاستعداد العسكري الدائم إلى الأبحاث والصناعات العسكرية
والتقنية.
ثالثاً: الاستقرار السياسي:
استقرار «إسرائيل» سيجلب لها المزيد من الاستثمارات الأجنبية الأمريكية
والأوروبية؛ مما سينعكس إيجاباً على الاقتصاد الإسرائيلي.
رابعاً: سهولة الاختراق الأمني:
الانفتاح على الدول العربية والتبادل الدبلوماسي والتجاري سيتيح
لـ «إسرائيل» القرب أكثر من المنطقة وجمع المعلومات الاستخباراتية بشكل أدق،
ومن ثم تتبع أي حركات جهادية أو معارضة للسلام مع «إسرائيل» داخل هذه
الدول.
خامساً: الانفتاح الاقتصادي:
زيادة التبادل التجاري مع الدول العربية وتصدير التقنية الإسرائيلية والخبرات
الأمنية سينعكس إيجاباً على الاقتصاد الإسرائيلي، ويربط الاقتصادات العربية
تدريجياً باقتصاد «إسرائيل» ، وقد تردد الخبر كثيراً عن تملك اليهود أسهماً في
الكثير من الجامعات الأردنية؛ مما سيجعلهم مؤثرين حتى في مناهجها.
الأمن:
اليهود شعب جبان بطبعه يحتل الهاجس الأمني العامل الأكبر في صنع قراره
السياسي والعسكري، حتى قادة «إسرائيل» السياسيون هم في الأصل قادة
عسكريون، ولا يمكن أن يُنظر إلى التطبيع أو أية اتفاقات سلام إلا بالقدر الذي
يحقق لـ «إسرائيل» أهدافها الأمنية، ولـ «إسرائيل» مطالب أمنية على
الصعيد الخارجي التهديدات الخارجية والصعيد الداخلي، وقد تحقق بعض هذه
المطالب علناً أو سراً، وهي تسعى بشكل دائم لتحقيق أقصى درجات مطالبها
الأمنية.
المطالب الخارجية:
الحفاظ على تفوق «إسرائيل» العسكري العددي والنوعي والتقني بحصولها
على أحدث الأسلحة خاصة الطيران ومضادات الصواريخ، ومنذ تأسيس
«إسرائيل» كان السلاح والدعم العسكري الثمن الذي كان على الولايات المتحدة
أن تدفعه دائماً استرضاءاً لـ «إسرائيل» كلما برزت الحاجة لقبولها بمقترحات
جديدة لعملية السلام وتقديم تنازلات للعرب، وفي الجهة المقابلة إضعاف القوة
العسكرية للدول العربية وتحييدها وخاصة المجاورة لها وذلك من خلال:
1 - منع زيادة هذه الجيوش أو تقليل أعدادها.
2 - الحيلولة دون امتلاك سلاح طيران قوي ومتطور وصواريخ بعيدة المدى.
3 - إضعاف نفوذ رجال العسكر السياسي.
4 - تقليل الميزانية العسكرية مما سيؤدي إلى تقليل برامج التدريب وعدم
تحديث الأسلحة القديمة.
5 - منع قيام أي صناعة عسكرية تقنية متطورة وأهمها السلاح النووي،
والاعتماد على استيراد السلاح خاصة الأمريكي.
* وقد استجاب العرب عملياً لبعض هذه المطالب؛ فقد استُحدثت أنظمة في
بعض الدول العربية المجاورة لـ «إسرائيل» تسمح للمزيد من الشباب بالإعفاء
من الخدمة العسكرية الإلزامية، وتم تسريح بعض الاحتياطي، حتى الطائرات بدلاً
من تجديدها بِيعَ بعضُها لسداد الديون.
* حُيِّدت الجيوش العربية تدريجياً، بل الجيش المصري الذي كان أحد أقوى
الجيوش العربية تُرِكَ ليتآكل على مدى عشرين سنة.
المطالب الأمنية الداخلية:
وما نعنيه هنا داخل حدود «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية:
1 - محاصرة مد الإسلاميين ونفوذهم.
2 - تفكيك بنية الجماعات الإسلامية الجهادية.
3 - محاربة أعداء السلام سواء كانوا أشخاصاً أو جماعات أو مؤسسات.
4 - التخلص من عبء ضبط الفلسطينيين أمنياً.
5 - لجم العمليات الجهادية ضد اليهود.
6 - الحفاظ على أمن «إسرائيل» ورجالها.
بعد سنوات من نشوء كيان السلطة الفلسطينية ظهر حجم الالتزامات الملقاة
على عاتقها بموجب بنود الاتفاقيات العلنية والسرية للحفاظ على أمن «إسرائيل»
ومنع قيام أي فلسطيني بعمل جهادي ضد اليهود.
وأخيراً: عرفات.. هل هو المتهم الوحيد؟
لأن عرفات ضعيف، وزعيم شعب مشرد، وشخصية مكروهة لدى العديد من
حكومات العرب؛ فقد سُمح بنقده واتهامه بالخيانة في وسائل الإعلام المختلفة،
ونحن إذ نتحدث عنه فإننا نؤكد الآتي:
أ - لم يكن عرفات ليجرؤ على السلام مع اليهود لولا تخاذل العلماء في أكثر
أقطار العالم الإسلامي، وقبولهم بأن يكونوا خارج الميدان.
ب - صمت الشعوب العربية نتيجة عملية تغريب وتخريب أخلاقي مركزة
تعرضت لها منذ حرب الخليج الثانية عبر كم هائل من القنوات الفضائية التي
حوَّلت هموم الشباب نحو الفن وسعارالجنس.
ج - العصبية والقومية التي زُرعت في الشعوب العربية خلال العقود الأخيرة
جعلتهم ينظرون إلى القضية الفلسطينية وكأنها قضية خارجية لا تعنيهم.
د - يؤكد الكثير من زعماء الدول الغربية وكذلك مذكرات الخارجية
البريطانية ومراسلاتها بأنهم لم يشعروا أبداً من خلال تعاملهم الرسمي مع الدول
العربية بالاهتمام بالقضية الفلسطينية، ويؤكدون كذلك أنه لم يحدث أبداً أن أحداً من
الزعماء العرب طلب خلال مقابلاتهم السرية تحرير فلسطين أو إزالة دولة
«إسرائيل» ، وأن جل اهتمامهم أن تسير الأمور بطريقة لا تثير حفيظة شعوبهم
أو توقعهم في الحرج.(156/92)
المسلمون والعالم
الإجراءات (الإسرائيلية) لتهويد المدينة المقدسة
المشاريع المطروحة حول المدينة
مركز العودة الفلسطيني - بريطانيا
نعتقد أنه ما من مسلم إلا ويعلم تمام العلم منزلة المسجد الأقصى في عقيدته،
من حيث هو أُولى القبلتين ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ثاني
مسجد يبنى بعد البيت الحرام بأربعين سنة كما ورد ذلك في الحديث الشريف.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن مزايا المسجد الأقصى ومنزلته في عقيدة المسلم ودينه،
ولكننا سنسلط الضوء على الإجراءات (الإسرائيلية) لتهويد القدس، وما يتهدد
المسجد الأقصى من خطر، وكذلك المشاريع المطروحة لإنهاء هذه القضية.
جهودهم لتهويد المدينة المقدسة:
ما فتئ الصهاينة منذ اليوم الأول لاحتلال القدس يعلنون أن القدس عاصمة
موحدة وأبدية لدولتهم، وقد عمدوا إلى كل الوسائل والأساليب لتهويد المدينة المقدسة
وتهجير أهلها الفسلطينيين منها. وتمثلت هذه الأساليب بأشكال عدة نورد منها ما
يلي:
1 - سن التشريعات والقوانين التعجيزية الخاصة بأهالي القدس: فمنذ اليوم
الأول لاحتلال المدينة أُعلن عن توسيع حدود بلدية القدس لتمتد حتى رام الله شمالاً
وبيت لحم جنوباً؛ وذلك لضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد من السكان
العرب، وكذلك لتشمل المستوطنات والمناطق اليهودية المأهولة. فأصبح
الفلسطينيون للمرة الأولى في تاريخ المدينة أقلية تبلغ نسبتهم 30% من مجموع
السكان!
- ثم توالت الإجراءات التعسفية بحل مجلس أمانة القدس العربية، ونقل
جميع أملاكها، ووضع جميع موظفيها تحت تصرف بلدية القدس اليهودية.
- وفي شهر يوليو 1967م صدر قرار بضم القدس العربية إلى القدس الغربية
المحتلة منذ عام 1948م، وبعد هذا القرار سارعت السلطات الصهيونية إلى تطبيق
قانون «أملاك الغائبين» ، والغائب: هو كل مقدسي لم يشمله الإحصاء الرسمي
(الإسرائيلي) الذي جرى في يوليو 1967م، وبهذا القانون وضعت الحكومة
(الإسرائيلية) يدها على عقارات المقدسيين «الغائبين» وطبقت الحجز على
أموالهم المنقولة وأسهم الشركات التي تخصهم.
- ثم عمدوا بعد ذلك إلى إلغاء القوانين الأردنية السارية واستبدالها بتشريعات
(إسرائيلية) مما أدى إلى إغلاق البنوك والدوائر الحكومية الأردنية، وأسفر ذلك
عن تشريد الموظفين وعائلاتهم ومن ثَمَّ التأثير على التركيبة السكانية.
- تم إخضاع التعليم العربي (للمناهج الإسرائيلية) ولإشراف وزارة التعليم
الإسرائيلية. ثم بعد المعارك الشرسة التي خاضها المقدسيون ضد سلطات الاحتلال
اضطرت إلى التراجع عن تدريس المناهج الإسرائيلية في المدارس العربية.
- إزالة أجزاء كبيرة من الأحياء العربية القائمة تدريجياً، وإجلاء المزيد من
أهلها كما حدث في حي المغاربة، وحارة الشرف، وحي المصرارة، ومنطقة باب
الخليل.
- تطبيق قوانين الدفاع البريطانية لعام 1945م ضد سكان القدس العرب؛
وتشمل: العقوبات الجماعية، وهدم المنازل، ومنع التجول، والاعتقال بدون
محاكمة.
2 - مصادرة الأراضي والعقارات واستملاكها: فقد صادرت سلطات
الاحتلال الصهيوني أكثر من 30 ألف دونم [1] من أراضي القدس العربية من عام
1967م إلى يومنا هذا. وكانت أول عملية هدم واستملاك لأراضي فلسطينية في
القدس قد جرت بعد ثلاثة أيام من احتلال المدينة عام 1967م عندما أرسلت سلطات
الاحتلال جرافاتها إلى حارة المغاربة في البلدة القديمة الملاصقة لحائط البراق؛
حيث أعطت السكان إنذاراً مدته نصف ساعة قبل أن تهدم 135 منزلاً وبعض
المساجد والمدارس والمتاجر؛ مما أدى إلى تشريد 435 عائلة مقدسية. ثم توالت
عمليات الهدم والمصادرة تمهيداً لبناء المستوطنات داخل المدينة وخارجها حتى
وصل عددها إلى 29 مستوطنة سرطانية في القدس وما حولها. كما تم الاستيلاء
على الكثير من البيوت العربية داخل البلدة القديمة وإسكان اليهود المتطرفين فيها
واعتبارها بؤراً استيطانية؛ وذلك بحجج شتى منها تطبيق قانون الغائب أو عن
طريق التزوير والادعاء بملكية الأرض والبيت المقام عليها، وما إلى ذلك.
3 - سياسة مصادرة هويات الإقامة: خلال حكم نتنياهو فقط تم سحب
2083 بطاقة إقامة من فلسطينيين مقيمين في القدس وهو ما يعني طرد أكثر من 8
آلاف مقدسي آخذين بعين الاعتبار أفراد عائلاتهم الملحقين بهم. وهناك أكثر من
70 - 100 ألف مقدسي مهددون بفقدان هويتهم وحق الإقامة في مدينتهم لأوهن
الأسباب.
ثم عمدت هذه السلطات الصهيونية إلى تطبيق قانون رقم 11 لسنة 1974م
والذي ينص على إلغاء الإقامة في حالات عدة منها:
- إذا قيَّد وزير الداخلية الإسرائيلي حق الإقامة بأي شرط، وكان هذا الشرط
لا ينطبق على طالب الإقامة المقدسي.
- إذا وقع تغيير على وثيقة السفر التي منح بموجبها حق الإقامة في القدس.
- في حالة التخلي عن الإقامة في (إسرائيل) والعيش في دولة أخرى سواء
حصل على جنسية من هذا البلد أم لا، بل يكفي تقديم طلب جنسية من بلد آخر
حتى يسقط حقه في الإقامة في القدس. وينطبق هذا الشرط على جميع أهل القدس
الذين يقيمون لسبب أو لآخر خارج حدود القدس البلدية بما فيها ضواحي القدس!
وقد وضعت سلطات الاحتلال شروطاً إضافية حتى لا يتمكن المقدسيون من
الاحتفاظ بهوياتهم تشمل: تقديم إثباتات معينة مثل فواتير الأرنونا (ضرائب
الممتلكات) والماء والكهرباء، وشهادات تطعيم الأولاد، وأخرى تثبت دراستهم في
القدس. ومن لم يستطع تقديم أي من هذه الشهادات تسحب هويته، وليس من حقه
أن يسكن في المدينة، وإذا سكن فيها بعد ذلك ولو يوماً فإنه يعتقل فوراً!
أما بالنسبة لتصاريح البناء فإنها تشبه المستحيل لكثرة التعقيدات والإجراءات
التي يتطلبها ذلك، إضافة إلى الرسوم العالية جداً التي تدفع مقابل الحصول على
حق إضافة غرفة لبيته؛ حيث تبلغ قيمة هذه الرسوم 25 ألف دولار أمريكي! مما
أدى إلى وضع المقدسيين في وضع حرج للغاية؛ فكل من أراد الزواج إما أن يسكن
مع أهله في بيتهم الصغير أو يغامر وينتقل للسكن في إحدى الضواحي، مما
يعرضه لخطر سحب هويته وإقامته المقدسية.
4 - فرض الضرائب الباهظة: فرضت السلطات الصهيونية سلسلة من
القوانين والأنظمة الضرائبية على سكان مدينة القدس بغرض ضرب البنية التحتية
للقطاع التجاري في المدينة؛ حيث ثبت بدراسات ميدانية أن أكبر نسبة ضرائب في
العالم هي المفروضة على سكان مدينة القدس؛ رغم أن هذه الضرائب غير قانونية
دولياً بموجب معاهدة جنيف ولاهاي التي تُحرِّم فرض ضرائب على المحتل.
ومن هذه الضرائب: ضريبة الدخل، وتجبى بنسبة 35% من أرباح الأفراد
وما نسبته 55% على الشركات، وضريبة القيمة المضافة، وتجبى بنسبة 17%
من قيمة المبيعات. وهناك ضريبة الأملاك، وهي ضريبة على الأراضي بنسبة 5,3% من قيمة الأرض حسب تخمين موظفي الضريبة (اليهود) . وضريبة
البلدية (الأرنونا) وتجبى على أساس مساحة الشقق والمحلات التجارية، بقيمة
تتراوح بين 60 - 70 دولاراً على المتر الواحد من المحلات التجارية سنوياً، ومن
20 - 40 دولاراً على المنازل. وهناك رسوم التأمين الوطني، وتجبى من السكان
العرب ومن أصحاب العمل بنسبة 10% من الدخل. ورسوم إعلام، وهي رسوم
تجبى على كل جهاز تلفزيون موجود في المنزل. وضريبة أمن الجليل وهي
ضريبة فرضت على السكان العرب إثر تعرض منطقة الجليل الأعلى للهجمات
الفدائية؛ وبناءاً على ذلك فإن سكان القدس العربية مجبرون على دفع ضريبة
عن هذه الهجمات لتعويض اليهود عن خسائرهم.
علماً بأن جميع هذه الضرائب مرتبطة بجدول غلاء المعيشة، ويتم تحصيلها
في حالة الامتناع عن الدفع بحجز الأملاك والمصادرة والسجن، ولزيادة الإمعان في
خنق الاقتصاد العربي وشل الحركة التجارية في المدينة فرضت سلطات الاحتلال
الإسرائيلي طوقاً وحصاراً أمنياً على مداخل القدس العربية منذ 1/4/1993م مما
أثر سلباً على المدينة وشل الحركة التجارية والاقتصادية فيها بعد أن فصلت القدس
عن الضفة الغربية والقطاع ومنعت البضائع الوطنية من دخولها، مما أدى إلى
خسائر كبيرة في القطاع التجاري. هذا إلى جانب البطالة؛ حيث أثر الطوق الأمني
على زيادة نسبة البطالة، مما أدى إلى ارتفاعها إلى ما نسبته 55% في مدينة
القدس.
5 - والخطر الأعظم الذي يشكله اليهود: هو الخطر الذي يتهدد المسجد
الأقصى بالسعي لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم الذي يعدونه قبلتهم المفقودة منذ ألفي
عام. وهذا ما عبر عنه أول رئيس وزراء في إسرائيل وهو بن غوريون عندما قال:
«لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل» ويقول: «إن
شعبي الذي يقف اليوم على أعتاب الهيكل الثالث لا يستطيع أن يتحلى بالصبر على
النحو الذي كان يتحلى أجداده به» . كما عبر عن ذلك الممثل الحكومي لوزارة
نتنياهو، موشى بيلد في كلمة أمام مؤتمر في 17/9/1998م وحضره نحو سبعة
آلاف من المتشددين اليهود؛ حيث قال: «إننا جيل الهيكل الذي هو قلب الشعب
اليهودي وروحه» . والهيكل ليس له مكان آخر في اعتقاد اليهود غير الأرض التي
يقوم عليها المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، ولا يتم بناء الهيكل إلا بهدم هذين
المسجدين.
وهناك الآن نحو 120 جماعة دينية متعصبة من ضمنها ما لا يقل عن
25 جماعة وتنظيماً يتخصص أعضاؤها في أمر واحد: هو التخطيط والترتيب لهدم
المقدسات الإسلامية مع التخطيط والترتيب لبناء المعبد اليهودي مكانها. وقد شكلت
في الآونة الأخيرة تحالفات فيما بينها للعمل المنظم بهذا الصدد، ومن أبرز هذه
التحالفات ما يسمى بـ «رابطة القدس» وهي تضم أكبر عشر منظمات.
وقد قامت هذه المنظمات بأكثر من خمسة وأربعين عملاً عدائياً ضد مسجدي
الأقصى والصخرة؛ بدءاً بمحاولة إحراق الأقصى وإشعال النار فيه إلى إطلاق النار
على المصلين إلى محاولة تفجيره وفتح الأنفاق والطرق السفلية لتهديد أساساته
وتفريغ التربة من تحته ليكون عرضة للانهيار عند أي عارض طبيعي أو صناعي
من الاهتزازات العنيفة، وذلك ما قاله خبير الآثار الإسرائيلي جوزيف سيرج في
18/8/1990م: «سنقوم بإعادة بناء الهيكل الثالث على أرض المسجد الأقصى
الذي تستطيع إسرائيل تصديعه باستخدام الوسائل الحديثة» ! وقبل بضعة أيام
شكلت الحاخامية الكبرى في إسرائيل لجنة من الحاخامات لاتخاذ قرار ببناء الهيكل،
وجابت مسيرة ضخمة البلدة القديمة وحاولوا دخول الأقصى مطالبين باتخاذ القرار
ببناء الهيكل وهدم المسجد الأقصى.
مشاريع الحلول المطروحة حول المدينة:
المشاريع التي طرحت لحل قضة القدس خلال سني الاحتلال كثيرة جداً، إلا
أن أياً منها لا يحقق العدالة واسترجاع الأقصى إلى حوزة المسلمين؛ فكلها تراوحت
بين الحكم الذاتي لبعض الأحياء العربية، أو سيادة محدودة عليها مع السماح برفع
العلم الفلسطيني فوق المسجد الأقصى؛ كما عرض ذلك إيهود باراك رئيس الوزراء
الإسرائيلي على رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات خلال قمة كامب ديفيد
الأخيرة؛ فقد عرضت إسرائيل على الفلسطينيين تطبيق مبدأ السيادة الوظيفية على
بعض الأحياء العربية؛ بحيث تكون بعض هذه الأحياء تحت السيادة الفلسطينية
ذات الطابع الخدماتي، مثل المسؤولية عن خدمات الكهرباء والمواصلات والتعليم
والصحة والضرائب وجمع القمامة وما إلى ذلك. أما بالنسبة إلى المسجد الأقصى
فقد سمح للفلسطينيين برفع العلم الفلسطيني فوق الأقصى دون أن تكون لهم سيادة
فعلية عليه، مع تأمين ممر آمن للفلسطينيين يصلهم بالمسجد الأقصى بحيث لا يرى
الزائر العربي أي جندي إسرائيلي في هذا الممر، (كما قال باراك لعرفات) .
وهناك بعض الاقتراحات لتكوين مجلس بلدي واحد لإدارة القدس الشرقية يتم
انتخابه لإدارة الشؤون المدنية لها. كما أن هناك اقتراحاً بسيادة مطلقة لبعض
الأحياء والقرى العربية المحيطة بالقدس بعد ضمها إلى «القدس الكبرى» وبذلك
يحقق الفلسطينيون عاصمتهم بإقامتها في هذه القرى التي تعد جزءاً من القدس
الشرقية، ويرفع الحرج عن القيادة الفلسطينية؛ حيث إنها أعلنت دولة عاصمتها
القدس الشرقية!
وأخيراً نقول: إن الوضع جد خطير؛ فالمفاوضات ما زالت جارية،
والمؤشرات تشير إلى احتمال عقد قمة كامب ديفيد ثالثة تكون للتوقيع فقط وليس
للتفاوض. ومع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الرهيب في ميزان القوى بين
«الفلسطينيين» و «إسرائيل» المدعومة أمريكياً بكل أسباب القوة، وكذلك
التراخي العربي والإسلامي في نصرة قضية القدس؛ فإن مستقبل القدس الشريف
في خطر شديد، وقد يتم التنازل عنها بحجج الواقعية، والضعف المستشري في أوصال الأمة، ونقص الدعم العربي والإسلامي أو بأي حجة أخرى.
نقول: إن واجب المسلمين عظيم هذه الأيام في الحفاظ على أغلى مقدساتهم
ومسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أمانة عظيمة سوف يُسأل عنها
المسلمون أمام الله، ولا ندري ماذا ينتظر المسلمون حتى يتحركوا لنصرة أقصاهم
المبارك؟ هل ينتظرون أن يُحوَّل إلى معبد يهودي؟ أم يُحوَّل إلى إسطبلات للخيل
كما حصل في زمن الصليبيين؟ !
__________
(1) الدونم: تبلغ مساحته 1200 متر مربع تقريباً.(156/98)
المسلمون والعالم
الانتخابات الأمريكية الحدث والتفاعلات
خالد حسن
تشكل الانتخابات الأمريكية حدثاً هاماً في حياة الشعب الأمريكي يتكرر على
مستوى الرئاسة كل أربع سنوات، بينما تنظم انتخابات الكونجرس كل سنتين تقريباً،
حيث ينتخب جميع أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ. وتسبق
عملية الاقتراع العام تعبئة عامة وحملة انتخابية يمكن وصفها بالشرسة لا سيما في
مرحلة الانتخابات الأولية التي تتضمن تصفية مرشحي الأحزاب وإفراز مجموعة
تحظى بالتأييد الشعبي والحزبي، والتي لا تلبث أن تتناقص حتى تصل إلى مرشح
واحد للحزب. من ناحية أخرى تأخذ العملية الانتخابية نوعاً من الهدوء الذي يتغير
مع اقتراب موعد انعقاد مؤتمرات الأحزاب القومية في شهر أغسطس، على أن
حدتها تستمر بالتصاعد التدريجي حتى تصل ذروتها عشية يوم الاقتراع العام في
الثامن من نوفمبر المقبل.
الأحزاب السياسية الأمريكية ومعمعة الانتخابات:
النظام السياسي الأمريكي مبني على أساس تعددي مؤداه تنافس الأحزاب
السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لإفراز قيادات تحظى بالدعم الشعبي؛ وذلك
بهدف إدارة شؤون الحكم وفق ما تمليه مصالح جماعات الضغط ومؤسسات صناعة
القرار؛ فالأحزاب السياسية تشكل الركيزة الأساسية لما يسمى بـ «الديمقراطية
الأمريكية» ، على أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري يهيمنان على إدارة شؤون
الحكم لفترة تزيد على القرنين من الزمن، وطوال هذه الفترة طرأ تعديل مشهود في
وجهات نظر الأحزاب إزاء قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وقضايا
تركيبة المجتمع الأمريكي وتعميم الحريات.
وإلى جانب الحزبين الكبيرين هناك العديد من الأحزاب الصغيرة والناشئة
التي تسعى لإيجاد حزب سياسي ثالث قادر على تجاوز مشكلات الحزبيْن المهيمنين
ورؤاهما في معالجة الملفات الأكثر حساسية وإثارة للجدل، ومن أبرز تلك الأحزاب:
حزب الإصلاح الأمريكي THE REFORM PARTY الذي أنشأه رجل
الأعمال روس بيرو المليونير من ولاية تكساس، وهناك حزب الخُضْر، وحزب
دافعي الضرائب، والحزب الاشتراكي الأمريكي.
وتتجلى أهمية الأحزاب في حياة المجتمع الأمريكي في كونها هيئات سياسية
تتنافس على تعبئة الجماهير، وتوجيه مقدراتها المالية والقيمية نحو الهيمنة على
إدارة تملك برنامجاً للحكم يتم طرحه على عامة الشعب الذي يصوت بدوره على من
يمثله بالقبول أو بالرفض؛ لذلك فإن التأثير الفعال في العملية الانتخابية ينبع من
خلال الانتماء لأحد الأحزاب القومية وتقديم برامج تحظى بموافقة قطاعات الحزب،
ومن ثم تطرح على المستوى القومي ليتم مداولتها والتصويت عليها.
وإن أهم الأحداث السياسية التي تجري على أرض الواقع على الصعيد
التنظيمي تتجسد في مؤتمر الحزب الذي ينعقد في شهر أغسطس، وذلك بحضور
ممثلي الولايات، وأثناء ذلك يعلن عن الترشيح الرسمي لمرشح الحزب الذي تمكَّن
من تحقيق القبول على مستوى الانتخابات الأولية. وقد انعقد مؤتمر الحزب
الجمهوري في مدينة فيلادلفيا، بينما انعقد مؤتمر الحزب الديمقراطي في مدينة لوس
أنجلوس في أغسطس 2000م.
ويلاحظ على المؤتمر الجمهوري لهذا العام والذي حظي فيه بوش تشيني
بتأييد ودعم من قِبَل مبعوثي الحزب من كافة الولايات وأعضاء الإدارات الجمهورية
السابقة وزعماء الكونجرس الأمريكي يلاحَظ عليه نوع من التغيير في رؤية الحزب
للأقليات ودورها في حياة المجتمع الأمريكي؛ فقد سعى المؤتمر لإشراك أكبر عدد
ممكن من أقليات السود واللاتين وجماعات المزاد وغيرهم، وإعطائهم دوراً بارزاً
في الحياة السياسية، لكن لا يعدو الأمر هالة دعائية وطابعاً استهلاكياً وتمويهياً أملاه
واقع التهافت على أصوات الناخبين وتلميع صورة الحزب وواجهاته عبر الادعاء
بأنه يمثل كافة طوائف المجتمع الأمريكي من النواحي الدينية والعرقية، ويولي
اهتماماً خاصاً لشؤون الأقلية مقابل تأييدها لبوش الابن في الانتخابات القادمة. وقد
برز شخص «كولن باول» في المؤتمر الأخير بوصفه مدافعاً عن الأقلية السوداء
والذي أكد على أولوية الاهتمام الفعال بمشكلات السود، وطالب كوادر الحزب
بالعدول عن معارضتها للبرامج الإنمائية والتعليمية الهادفة إلى تحسين أوضاعهم
ومعاناتهم في المجتمع الأمريكي.
في حين لقي الثنائي غور ليبرمان دعماًَ وقبولاً من المشاركين في مؤتمر
الحزب الديمقراطي الذي ارتكز علي الرخاء الاقتصادي الذي تحقق في العهد
الرئاسي الديمقراطي السابق للترويج والدعاية للمحافظة على الإرث السابق
ومكتسبات مرحلة «الانتعاش» .
محاور استقطاب في الانتخابات الأمريكية:
المعركة الانتخابية الحالية تدور بشكل رئيس بين الحزبين الديمقراطي
والجمهوري؛ إذ يتطلع من خلالها كلا الحزبين للسيطرة على مؤسسات الحكم لا
سيما الجهازين التنفيذي والتشريعي ومن ثم القضائي؛ فالحزب الديمقراطي يلهث
لإحكام قبضته على الرئاسة إلى جانب تحقيق أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ،
أما الحزب الجمهوري فيسعى للإطاحة بالديمقراطيين واصفاً إدارة الرئيس كلينتون
بأنها تفتقر للضوابط الأخلاقية اللازمة لإدارة شؤون المجتمع، كما أنها تفتقر إلى
الحكمة والكفاءة الإدارية في تسيير شؤون الحكم في السياسة الخارجية والداخلية.
ومن ناحية أخرى يعتبر الجمهوريون آل جور امتداداً لهذا النهج غير
المنضبط الذي أدى إلى زعزعة ثقة الشعب الأمريكي بمؤسسة الرئاسة، ومن ثم لا
بد من وضع حد لمثل هذا التسيب، وذلك بانتخاب إدارة جديدة تحظى بمؤهلات
أخلاقية رفيعة أو هكذا يزعمون وقد فرض التوجه نحو السطو على إدارة البيت
الأبيض توسع الجمهوريين على حساب الحزب الديمقراطي باتجاه الأقليات والتي لم
تكن تحظى باهتمام يذكر في مراحل خلت من الحزب الجمهوري.
انتدابات نواب الرئيس وأثرها على العملية الانتخابية:
مما لا شك فيه أن مسألة انتداب نائب الرئيس واختياره لخوض العملية
الانتخابية من الخطوات المحورية في السباق نحو مؤسسة الرئاسة، وقد سعى كل
من بوش وجور لاختيار شخص ليس فقط ليخلفه رئيساً للولايات المتحدة في حالة
عجز الرئيس أو انعدام مقدرته على الوفاء بأداء واجباته الرئاسية، بل نائباً يساهم
بفعالية في العملية الانتخابية من خلال ما يجلبه للقائمة الانتخابية من رصيد شعبي
وتأييد حزبي ومالي وعرقي، إلى جانب قدراته وخبراته في السياستين الداخلية
والخارجية، وحسب رأي عدد من المراقبين فإن بوش كان موفقاً إلى حد ما
باختياره وزير الدفاع السابق تشيني نائباً له؛ وذلك لتدارك القصور الذي يعاني منه
في مجالات السياسة الخارجية والدفاعية، فقد كان تشيني أداة تدبير وعقل مخطط
في إدارة الرئيس بوش الأب، ويحظى بتأييد الكونجرس الأمريكي وزعمائه،
ويضاف إلى هذا ما يتمتع به من شبكة قوية في العلاقات الدولية والصداقات
الحميمة التي تربطه مع الدول الأوروبية، وحلف الناتو، ودول الخليج، والعديد
من الدول العربية والآسيوية، مما يعزز من دور السياسة الأمريكية على المستوى
الدولي ويعيد إلى الأذهان أطروحات النظام الدولي الجديد والرامي إلى جعل القرن
الحادي والعشرين قرناً أمريكياً كما كان القرن العشرون أو هكذا يتصورون.
أما اختيار آل جور للسناتور ليبرمان فإنه استهدف الظفر بتأييد الجالية
اليهودية بثقلها المالي والتنظيمي والإعلامي، واعتبر بعض المحللين الأمريكان مثل
هذا الاختيار مؤشراً على «قدرة» المرشح الديمقراطي على اتخاذ قرارات غير
مسبوقة وأنه مرشح «شمولي» يهدف إلى أن تشمل إدارته المجتمع الأمريكي
بتنوعه الديني والعرقي.
الدين والسياسة في الانتخابات الأمريكية:
يثار جدل واسع حول دور الدين في الانتخابات الأمريكية؛ وذلك للاعتبارات
الآتية:
- مفهوم العلمانية الأمريكية مختلف تماماً عما هو سائد في العالم العربي
والإسلامي؛ فالعلمانية الأمريكية تعني فصل الدين والمؤسسات الدينية عن سلطة
الحكومة وتدخلها وتعسفها، وعليه فإن الجماعات والمؤسسات الدينية تترك وشأنها
لتنمو وتتوسع بمنأى عن تدخل الحكومة؛ ولذلك فإن الطوائف والجماعات الدينية
النصرانية واليهودية وإلى حد ما الإسلامية تحظى بحرية تامة لإدارة شؤونها، وكما
لا يخفى على القارئ فإن العلمانية بصورتها هذه تختلف عما هو عليه الحال في
أوطاننا؛ حيث يحاصر الدين ليس فقط في دور العبادة بل وحتى أهل التدين
يتعرضون لمضايقات وتحرشات لتجفيف منابع التدين.
ولا يفهم من سياقنا هذا إقرار التجربة العلمانية الأمريكية، وإنما للتبيين
والوقوف على مظاهر الغلو والتطرف في عملية محاكاة التجارب ونقل النماذج التي
برع في نسجها ونبغ في هضمها واجترارها بعض المهووسين بالأمركة أو المولعين
بالاستنساخ، ولو أنهم أمعنوا النظر وراجعوا حساباتهم لوجدوا أنهم أوصلوا الأمة
إلى مرحلة من الغلو والتطرف في تطبيق العروض المستوردة، وليتهم التزموا
بحرفية التلقي والتنفيذ، وأوغلوا في المحاكاة برفق!
- عامل آخر ساهم في تفاقم دور الدين في حركية الانتخابات الحالية وهو
الفضائح الأخيرة التي عصفت ولا تزال تعصف بالبيت الأبيض والكونجرس
الأمريكي؛ فقد أدت فضيحة مونيكا لوينسكي إلى مساءلة الرئيس، كما أدت فضائح
جنسية مماثلة للإطاحة بزعيم مجلس النواب السابق جنجرش، واعتبر هذا الوحل
الأخلاقي بمثابة الناقوس الذي «نبَّه» المجتمع الأمريكي بشكل عام إلى ضرورة
التزام السياسة بضوابط الأخلاق، ودور الدين بوصفه محورياً في تنمية الوازع
الديني في إدارة شؤون المجتمع.
- أمر آخر يتجلى في الدعم المشهود الذي يتلقاه جورج بوش الابن من
«التجمع المسيحي» وهو مؤسسة كنسية ضخمة يتزعمها بات روبرستون،
والذي خاض الانتخابات الأولية لعام 1988م، هذا التجمع يحظى برصيد شعبي
وإعلامي ومالي معتبر يؤهله إلى التأثير الفعال على عملية الانتخابات.
- «التجمع المسيحي» يدير أيضاً إمبراطورية إعلامية محلية ودولية وهي
في توسع مستمر تمكنت من توصيل الرسالة النصرانية إلى العديد من الدول
والمجتمعات المختلفة بلغاتها المحلية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلاً
عن دورها داخل المجتمع الأمريكي.
- ويضاف إلى هذه العوامل انتداب اليهودي الأرثوذكسي نائب آل جور عن
الحزب الديمقراطي السيناتور ليبرمان، وهو معروف بالتزامه الديني وتمسكه
بشعائر التلمود، وبذلك سعى الديمقراطيون إلى تقديم لائحة انتخابية تتجاوز القصور
الأخلاقي الذي تعاني منه الإدارة الحالية.
أبعاد السياسة الخارجية لإدارة بوش وآل جور:
إن فوز بوش وتشيني سيعيد إلى أرض الواقع الأطروحات السياسية المتعلقة
بمفهوم «النظام الدولي الجديد» والذي نظَّر له بوش الأب وأعضاء إدارته لا سيما
تشيني، ومؤدى هذا النظام أن تكرس الولايات المتحدة زعامتها للشؤون الدولية
سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً، وعليه فإن هذا الطرح ينادي بقرن أمريكي جديد
ثان هو القرن الحادي والعشرون، خاصة في ظل الوهن الذي أصاب الأمة
الإسلامية، وإخفاق روسيا الفيدرالية في إعادة ترتيب أوضاعها وتبوُّؤ مكانة دولية،
وتراجع دور الاتحاد الأوروبي في السياسة الدولية بالرغم من «استماتة» فرنسا
لإدارة الحلف سياسياً؛ فقد أحبطت جهود الاتحاد في حل مشكلات القارة بمنأى عن
القيادة الأمريكية؛ وما البلقان عن المراقبين ببعيدة؛ حيث راح ضحيتها الآلاف من
المسلمين على يد الصرب المجرمين.
ومن شأن الإدارة الجديدة في حالة انتخاب بوش تشيني أن ترفع من ميزانية
الدفاع وتعزز الوجود الأمريكي على مستوى القواعد العسكرية، وكذا تطوير شبكة
الدفاع الجوي الأمريكي القادرة على اعتراض أية صواريخ عابرة للقارة تستهدف
الإخلال بالأمن الأمريكي، هذا بالإضافة إلى ما ورَّثه بوش الأب لابنه من
علاقات «حميمة» مع دول الخليج العربي والدول العربية والإسلامية.
من ناحية أخرى فإن انتخاب آل جور رئيساً للولايات المتحدة، وليبرمان نائباً
له سيعزز من نهج الإدارة الحالي المتمثل في هيمنة اليهود على السياسة الأمريكية
ومن ثم هيمنة المصالح «الإسرائيلية» على حساب قضايا العرب والمسلمين،
وليس هذا فحسب بل هيمنة مصالح «إسرائيل» على حساب المصالح «الأمريكية»
نفسها؛ ففوز آل جور يعني أن مناصب نائب الرئيس ووزير الخارجية والمالية
والدفاع والاحتياط الفيدرالي والعديد من السفارات، إلى جانب الهيمنة التقليدية
لليهود داخل الكونجرس الأمريكي وحتى سلك القضاء ستكون جميعها غالباً تحت
قبضة اليهود حيث تستخدم لصالح الكيان الصهيوني وأهدافه التوسعية.
الديمقراطية الأمريكية رؤية من الداخل:
لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل القوى الصهيونية الأمريكية في التأثير على
العملية الانتخابية وعلى مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة خاصة ما يخدم
قضايا «إسرائيل» ومصالحها، وتحتمي هذه القوى في سعيها لإحكام قبضتها على
هذا الحدث السياسي بالانطباع القائم حالياً والمتوارث منذ فترة أن هناك توافقاً في
المصالح الأمريكية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وكذا شرعية تشكيل لوبي أو
جماعة ضغط في أمريكا؛ لأن اللوبيات إحدى القضايا المحورية في المؤسسة
السياسية الأمريكية، وحتى في المجتمع الأمريكي؛ إذ إن الفرد الأمريكي كما ينص
عليه القانون له الحق في إسماع صوته للمشرعين الأمريكيين، والتأثير عليهم، إما
لدفع ظلم، أو لرفع قضايا معينة، ومن هنا تبرز أهمية اللوبي في استراتيجية
الأقلية اليهودية.
وبالمفهوم التقليدي كان اللوبي يشير إلى تجمعات طلاب الحاجات في الأروقة
بالقرب من المجالس والمؤسسات السياسية للوصول إلى صاحب القرار أو المشرع،
لكن مع التغييرات التي طرأت في المجتمع الأمريكي، وفي وسائل الاتصال
والتواصل، ظهرت طرق أخرى للوصول إلى أعضاء الكونجرس من بينها ربط
صلات وعلاقات مع الشخصيات السياسية ذات النفوذ القوي، وإسماعها مختلف
الآراء، وإذا أخذنا مؤسسة الكونجرس عينةً لذلك، فإنها غير مركزية، وأعضاؤها
يخضعون لضغوط متضاربة من أطراف ذات مصالح خارجية عبر
المناطق والولايات التي ينتمون إليها، ومن ثم يتم التأثير في اتجاهين:
- الناخبين الأمريكيين، ومصادر صنع القرار.
- وعملية الضغط التي تبدأ من القاعدة، وعبر التبرع بالأموال خلال
الحملات الانتخابية.
ومع نمو المؤسسة السياسية الأمريكية واتساعها تفاقمت ظاهرة الاستعانة
بخبراء من خارج المؤسسة، وهذا ما أدى إلى تزايد عدد أعضاء اللوبي اليهودي
ونشاطاته، ومن هنا تكمن «قوة» اللوبي الموالي لـ «إسرائيل» فهو منظم
ونشط وفعال، ويمتلك قدرات مشهودة في جمع وإيصال المعلومات ووجهات النظر
التي يراد فرضها.
وقد نما هذا اللوبي منذ إنشاء مؤسسة صغيرة سنة 1954م تعرف بمنظمة
«الإيباك» AIPAC وقد بدأت بعدد محدود جداً، وبإمكانيات مالية لا تكاد تذكر،
إلى أن وصلت الآن إلى ملايين الدولارات (حيث تقدر ميزانيتها السنوية حالياً أكثر
من 15 مليون دولار) ، وتمثل «إيباك» في الوقت الحاضر البنية التنظيمية التي
تعمل على مضاعفة النفوذ السياسي لليهود الأمريكيين، وهي تشكل مركز التنظيم
المعقد للهيئات اليهودية في أمريكا.
وتُعِدُّ هذه المؤسسة مؤتمرها السنوي في واشنطن للأعضاء العاملين وقادة
الطائفة اليهودية وممثلين عن المجموعات المستهدفة أو المشاركين المخلصين
وعشرات السياسيين والوجهاء الصهاينة، ويعتبر المؤتمر السنوي المنبر الذي
تعرض من فوقه «إيباك» مواقفها السياسية وأولوياتها الضاغطة، كما تستخدم
المؤتمر للتأثير على الساسة الأمريكيين للتعهد العلني بدعم الكيان الصهيوني،
ويكفي للدلالة على تأثير ونفوذ هذه المؤسسة الإشارة إلى عدد الوفود التي شاركت
في هذا المؤتمر ونوعيتها؛ ليس فقط على مستوى الإدارة الأمريكية ولكن وهو
الأهم على مستوى الهيئات التشريعية بالكونجرس؛ فقد شارك في حضور هذا
المؤتمر على الأقل 47 عضواً من مجلس الشيوخ، و67 عضواً من مجلس النواب
وحوالي40 سفيراً من دول مختلفة.
ويذكر الكتاب اليهودي السنوي لعام 1997م أن «إيباك» منظمة مسجلة
للقيام بالعمل السياسي (اللوبي) لإيجاد التشريعات المتعلقة بالمصالح الإسرائيلية
الأمريكية، وبدعم السياسيين الذين يؤمنون بأن دعم أمن «إسرائيل» من مصالح
الولايات المتحدة الحيوية، وتظهر فعاليةً من خلال لجان العمل السياسي المختلفة
والتي تقوم بالتبرع لمن تختاره «إيباك» من المرشحين بمبالغ تفوق المبالغ التي
تتبرع بها أي لجنة عمل سياسي أخرى خلال الحملات الانتخابية، إلا أن هذه
المبالغ تنفق في السر وبعيداً عن مرأى أجهزة الإعلام الأمريكية، وقد أصبح
بمقدور هذه المؤسسة انتخاب المرشح الذي تريده وتؤيده، كما أنها تعمل على إسقاط
الأعضاء الذين لا يتعاونون معها كما حدث لعدد من أعضاء مجلس النواب والشيوخ.
وتجدر الإشارة إلى أن اليهود في أمريكا هم الأكثر تبرعاً ليس فقط
لـ «إسرائيل» أو للقضايا المرتبطة بها، بل أيضاً للمشاريع الاجتماعية
والثقافية، ومعدل تبرعاتهم يفوق المعدل الأمريكي، وهم معروفون لدى الرأي العام
بهذا الأمر، كما أنهم حين يسخطون على مرشح ويدعمون مرشحاً آخر، لا يعلنون
وهذا في الغالب أن سخطهم متعلق بموقف ما من الكيان الصهيوني، ويتظاهرون أن
دعمهم موجه لخدمة قضايا المجتمع الأمريكي، ومن المعروف أن المهم بالنسبة
للناخب الأمريكي أن يتخذ المرشح مواقف إيجابية في قضايا اجتماعية واقتصادية
محلية، ولا يأبه هذا الناخب بطبيعة المواقف التي يتخذها المرشح تجاه قضايا
العرب والمسلمين.
ولنأخذ حملة الرئيس كلينتون في عام 1992م مثالاً على هذا الثقل والنفوذ؛ فقد
كان كلينتون مدركاً لأهمية الثقل اليهودي في الانتخابات وحجم التبرعات
التي يخصصونها للحملات الانتخابية؛ ولذا عين موظفين ومستشارين من
المحيط اليهودي في حملته، ونشط اليهود خلال حملته فنظموا له حملات تبرع،
وعملوا على تحويل ما بين 10% إلى 20% من الأصوات لصالح المرشح
كلينتون عبر المدن الرئيسة. وأشارت التقارير إلى أن اليهود قد ساهموا بنحو 60%
من مجموع التبرع الذي حصده لحملته الانتخابية، وأن نحو 80% من أصوات
اليهود ذهبت إلى كلينتون.
فأي «ديمقراطية» هذه التي يتحكم فيها الأقلية؟
وأي «ديمقراطية» هذه التي تشترى فيها المواقف والأصوات؟
وأي «ديمقراطية» هذه التي يعرض فيها المرشح نفسه في المزاد العلني؟
فهل وعى المستلَبون والمهووسون بتمثال الحرية الأمريكي حقيقة
«الديمقراطية» الأمريكية وراجعوا حساباتهم وأمعنوا النظر في التجربة
الانتخابية الأمريكية؟
معظم الناخبين المسلمين الأمريكيين مترددون حسب استطلاع المجلس
المسلم الأمريكي:
في ردهم على استطلاع قومي أُجري بين 844 مسلم أمريكي تبين أن ثلثي
هؤلاء ليسوا منتسبين إلى أي حزب سياسي على الرغم من أن أربعة من كل خمسة
منهم أفادوا بأنهم مسجَّلون للانتخاب، وقد كانت هذه النتائج حصيلة استبيانات
للناخبين تسلمها المجلس المسلم الأمريكي ما بين شهري أغسطس ونوفمبر.
وقد كان المسلمون المنتسبون إلى حزب سياسي وتبلغ نسبتهم 32% من
مجموع المنتسبين موزعين مناصفة ما بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ حيث اعتبر
53% أنفسهم ديمقراطيين في مقابل 47% اعتبروا أنفسهم جمهوريين.
وأفاد 22% من المسلمين الأمريكيين أنه لو أجريت الانتخابات الآن لانتخبوا
مرشحاً ديمقراطياً، في حين أفاد 25% منهم أنهم ينتخبون مرشحاً جمهورياً،
وبقيت نسبة 37% مترددة في اختيارها.
ولقد استكملت ثلاثة أرباع هذه الاستبيانات في مؤتمرات ومواقع تسجيل
الناخبين والمساجد، في حين استكمل الربع الباقي على موقع المجلس المسلم عبر
الشبكة البينية (الإنترنت) أو بالبريد الحاسوبي.
وقد صرح المدير التنفيذي للمجلس المسلم الأمريكي قائلاً: «إن كون معظم
المسلمين الأمريكيين في هذا الاستطلاع غير منتسبين حزبياً يؤكد حَدْسَنا بأن
المسلمين الأمريكيين ينتخبون لصالح القضايا والمرشحين وليس لصالح الأحزاب»
كما أشار إلى أن ازدياد نسبة الناخبين المسجلين من المجتمع المسلم الأمريكي يجب
أن يدفع المرشحين إلى التواصل مع هذه الشريحة النامية التي تقدر حالياً بنحو ستة
ملايين إلى ثمانية ملايين مسلم.
وقد قام المجلس المسلم الأمريكي في شهر سبتمبر بجهد رائد تمثل في إقامة
مواقع تسجيل الناخبين في المساجد والمراكز الاجتماعية في أرجاء الولايات
المتحدة، وتم تسجيل ناخبين جدد في مدن تراوحت بين شارلوت، و پيترزبرج،
وتولسا، وبشكل خاص في فترة ما بعد الصلاة أيام الجمعة.
ويعزم المجلس الإسلامي الأمريكي على المضي في جهود تسجيل الناخبين
خلال العام 2000م إضافة إلى الالتقاء مع حملات الانتخابات الرئاسية وإصدار
دليل الناخب الذي يبين موقف المرشحين من القضايا الرئيسة التي تهم المسلمين لا
سيما الأمريكيين.
نتائج استطلاع المجلس المسلم الأمريكي:
1- المسلمون الأمريكيون المسجلون للانتخاب:
الجواب ... العدد ... النسبة
نعم ... ... ... 693 ... 82.11 ?
لا ... ... ... 120 ... 14.22 ?
غير مؤهل / لا جواب 31 ... 3.67 ?
المجموع [1] ... ... 844 ... 100 ?
2- الانتساب الحزبي:
الجواب ... ... العدد ... النسبة
غير منتسب ... ... 574 ... ... 68 ?
ديمقراطي ... ... 141 ... ... 17.71 ?
جمهوري ... ... 125 ... ... 14.81 ?
لا جواب ... ... 4 ... ... ... 0.48 ?
المجموع ... ... 844 ... ... 100 ?
3- إذا قام المسلمون الأمريكيون بالانتخاب اليوم (فمن ينتخبون؟)
المنتخب ... ... العدد ... ... النسبة
غير محدد ... ... 314 ... ... 37.30 ?
بوش ... ... ... 142 ... ... 16.82 ?
لا جواب / لا ينتخب 130 ... ... 15.40 ?
جور ... ... ... 116 ... ... 13.74?
جمهوريون آخرون 72 ... ... 8.29 ?
برادلي ... ... ... 70 ... ... 8.29 ?
المجموع ... ... 844 ... ... 100 ?
4- السلوك الانتخابي والانتساب الحزبي:
الجواب ... ... ... ... ... العدد ... ... النسبة
غير محدد ... ... ... ... ... 314 ... ... 27.20 ?
المسلمون الذين ينتخبون مرشحًا جمهوريًا 214 ... ... 25.36 ?
المسلمون الذين ينتخبون مرشحًا ديمقراطيًا 186 ... ... 22.04 ?
لا جواب / لا ينتخب ... ... ... ... 130 ... ... 15.40 ?
المجموع ... ... ... ... ... 844 ... ... 100 ?
هذه النتائج مبنية على 844 إجابة لاستبيانات المجلس المسلم الأمريكي التي
تم استرجاعها في الفترة ما بين أغسطس ونوفمبر 1999م بوصفها سَبْراً أولياً
للمجتمع المسلم الأمريكي.
أهم عشر قضايا يحددها المسلمون الأمريكيون:
بيان الأولويات عبر استبيان جديد لألف مسلم أمريكي.
اعتبر المسلمون الأمريكيون موضوع كفالات المدارس، والقدس،
والعقوبات على العراق، إضافة إلى الحقوق المدنية للمسلمين في الولايات المتحدة
أهم القضايا التي تشغلهم حالياً. وذلك في دراسة جديدة للأولويات السياسية عند
المسلمين الأمريكيين. وقد جاءت هذه النتائج عبر استبيان لألف أمريكي أجرته
هيئة الاستثمارات والتسويق الاجتماعي العالمي «ICMI» في يناير 2000م
للمجلس الإسلامي الأمريكي.
وأظهرت النتائج شريحة مسلمة أمريكية مهتمة بقضايا تواجه كل العائلات
الأمريكية بما في ذلك اتجاهات التغيير في المدارس (كالكفالات والمدارس المدعومة
رسمياً) والحقوق المدنية، والرعاية الصحية، وفي نفس الوقت كان الاهتمام بأمور
السياسة الخارجية كالقدس وتأثير العقوبات على العراق على رأس الأولويات، وتم
التعرف على هذه الأولويات من خلال استبيان هاتفي في شهر يناير 2000م شمل
خمسمائة من أعضاء المجلس الإسلامي الأمريكي ومجموع خمسمائة مسلم آخرين،
وقد طلب من هؤلاء أن يقوِّموا عشرين قضية، فكانت القضايا العشر الأهم كما يلي:
* كفالات المدارس (المدارس المدعومة رسمياً) .
* وضع القدس.
* العقوبات على العراق.
* الحقوق المدنية للمسلمين.
* الإجهاض.
* إدراج المسلمين الأمريكيين في المؤسسات الإسلامية.
* الرعاية الصحية.
* منع الجريمة.
* ضبط الأسلحة.
* سياسات الهجرة وقانون الأدلة السرية.
هذا ويوجد نحو سبعة ملايين مسلم في الولايات المتحدة، وسوف تمثل هذه
الأولويات العشر بحول الله تعالى محوراً للدليل الانتخابي الذي يصدره المجلس
الإسلامي الأمريكي.(156/102)
المسلمون والعالم
شباب العالم في الفاتيكان
إبراهيم بن محمد الحقيل
«عزيزي الشاب: ليكن عندك طموح لتصبح قديساً كما أن عيسى قديس.
ياشباب العالم في كل قارة: لا تخشَوْا أن تصبحوا قديسي هذه الألفية؛ لعل المسيح
يصبح لكم رصيداً ثميناً، ولعل مريم العذراء القديسة تعطيكم القوة والحكمة
لتستطيعوا التحدث مع الإله وللإله» .
كان هذا نداء بابا الفاتيكان «يوحنا بولس الثاني» وقد وضع هذا النداء في
إطار ومُيّز بخط واضح ضمن نشرة تعريفية بالتجمع العالمي للشباب الذي دعا إليه
البابا، وقد طبعت هذه النشرة التعريفية بست لغات في كتيب صغير وهي:
الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية، ووزعت منه
ملايين النسخ في روما والفاتيكان خاصة على كل الزوار والسيًّاح.
واللافت للنظر صورة في آخر كل صفحة من اللغات الست المذكورة وفيها
رجل ذو لحية وعليه لباس عربي جبة وعمامة وقد فتح يديه مستقبلاً شخصاً قادماً
من بعيد يتوكأ على عصا كأن زيه زي راهب والشمس قد أشرقت من جهته. ولعل
هذه الصورة تومي إلى حاجة الشرق الإسلامي إلى التنصير أو ترحيبه بالرسالة
التي يحملها الرهبان، ولم يذكر عليها أيُّ تعليق، وأغلب الظن أنها رسالة إلى
هؤلاء الشباب للانخراط في أعمال الكنائس وممارسة التنصير لا سيما أن نداء البابا
آنف الذكر واضح في دعوة هؤلاء الشباب المغرر بهم لأن يكونوا منصرين.
والتنصير هدف رئيس يسعى إليه الفاتيكان وباباه بكل قوة، ويسخِّرون في سبيل
نجاحه كل وسيلة، وما فتئ البابا يهتبل كل فرصة للدعوة إليه والتأكيد عليه،
منطلقاً في ذلك من نص ورد في إنجيل متى (28/19) يقول: «فاذهبوا وتلمذوا
جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس» .
اسم التجمع ووقته ومدته:
سمي هذا التجمع الشبابي بـ «اليوم العالمي للشباب» وصادف
الـ (Givbileo) أي: العيد الخمسيني أو (اليوبيل) وهو يعني الفرحة
الكبرى بالغفران أو الصفح أو العفو البابوي الذي يمنحه البابا كل نصف قرن؛ مما
جعلهم يطلقون عليه أيضاً «يوبيل الألفية الثالثة للميلاد» .
وأما مدته الرسمية فخمسة أيام (15 - 20 أغسطس 2000م) ، واهتمت
الكنيسة به، وسخرت كل إمكاناتها لنجاحه والدعاية له؛ لأنه صادف بداية الألفية
الثالثة؛ التي جعل النصارى الاحتفال بها ممتداً من أول السنة إلى آخرها، وقسّمَ
البابا أعيادها وأيام الاحتفال بها على مختلف الفئات النصرانية؛ فمنها أيام للعمال،
وأيام للمعاقين، وأيام للسجناء، وأيام للأطفال، وأيام للشباب ... وهكذا، ومنها
يوبيل الشباب هذا.
وتم هذا التجمع الضخم في موعده المحدد؛ إذ حضرته جموع غفيرة من
شباب النصارى الذكور والإناث زادوا على مليوني شاب وشابة قدموا من ستين
ومائة بلدٍ من مختلف القارات السبع حسبما أذيع رسمياً في أجهزة الإعلام الإيطالية
والصحف؛ حتى ازدحمت روما في هذه الأيام الخمسة بالشباب والشابات، وخلت
من أهلها الذين كانوا يقضون إجازة نصف الصيف في أطراف إيطاليا وخارجها.
واستعدت له الفاتيكان والأجهزة الحكومية وبلدية روما بما يناسب حجمه،
ووفرت ما يحتاجه الزوار؛ فبيوت قضاءِ الحاجة المتنقلة قد صُفت على الأرصفة،
ومراكز الإسعاف المؤقتة أقيمت في جنبات ساحة الفاتيكان وكافة الكنائس،
وسيارات الإسعاف تقوم بدورياتها لنقل المصابين من الزحام أو حرارة الشمس التي
بلغت 37 درجة مئوية.
وقد أعد الفاتيكان وبلدية روما المدارس والكنائس ليسكن فيها الشباب بالمجان،
ورحبت بعض الأسر بإقامة بعض الشباب عندهم، ووفر الفاتيكان للحضور
وجبات الطعام والمياه دون مقابل، وتطوع سبعون ألفاً من الشباب والشابات بالقيام
على التنظيم وحركة السير وتوزيع المنشورات وتقديم الإرشادات للزوار إضافة إلى
ما تقوم به أجهزة الأمن في روما.
الصبغة العالمية لهذا التجمع:
أراد بابا الفاتيكان لهذا اليوبيل الشبابي النصراني أن يكون عالمياً؛ ولذلك
نص في ندائه على: «شباب العالم في كل القارات» وحثهم على التنصير كما مرّ
ذكره وكأنه لا يوجد في العالم إلا شباب النصارى.
وزاد ذلك وضوحاً أن أعلام جميع الدول قد رُفعت في ساحة الفاتيكان أثناء
هذا اليوبيل مع أن دولاً عدة ليس من مواطنيها نصارى البتة، وهذا التعميم له
دلالات لعل منها:
1 - إضفاء الصبغة العالمية على الفاتيكان ونشاطاته، واعتبارها مهمة لكل
الدول ولكل سكان الأرض، وسيأتي مزيد إيضاح ذلك في ذكر أهداف مثل هذه
التجمعات.
2 - الإيماء إلى أن كل بلد في العالم لا بد أن يكون فيه مواطنون نصارى،
وإذا لم يكن فيه نصارى في حقيقة الأمر فلا بد أن يوجدوا، وهذا ما تدل عليه
إحصائياتهم التابعة للمنظمات الدولية أو المؤسسات الغربية التي تتعمد إنقاص نسبة
المسلمين عن النسبة الحقيقية في الدول التي فيها مسلمون وغير مسلمين، كما تتعمد
رفض وجود دولة ليس فيها إلا مسلمون وغير مسلمين، كما تتعمد رفض وجود
دولة ليس فيها إلا مسلمون أي نسبة المسلمين فيها 100%؛ فهم في إحصاءاتهم لا
بد أن يقللوا هذه النسبة 2% أو أكثر كأقلية غير مسلمة مخترعة في واقع الأمر
وذلك لأمور أهمها:
أ - تنشيط التنصير في البلاد التي ليس فيها نصارى البتة على أمل أن
يتنصر بعض أبنائها ومن ثم المطالبة بحقوقهم.
ب - إيجاد ذريعة لبناء المدارس والكنائس لهذه الأقلية التي يتم اختراعها عن
طريق التنصير، أو زرعها بالتجنيس.
ج - استخدام الأقلية غير المسلمة بعد زرعها ورقة ضغط على تلك الدولة
الإسلامية بتأليبهم على السلطات، ثم التدخل لحمايتهم تحت ذريعة حرية التعبد
وحقوق الأقليات ونحو ذلك؛ خاصة إذا فكر المسؤولون في ذلك البلد بالاستقلال
السياسي أو الاقتصادي، أو رفض وصاية الدول العظمى على بلادهم.
واستخدام ورقة الأقباط في الضغط على مصر بين حين وآخر واضح للعيان
سواء فيما يتعلق بالخنوع لإرادة اليهود الظالمة فيما يسمى بعملية السلام، أو غير
ذلك.
د - التهيئة لتجزئة الدولة الواحدة وذلك بزرع تلك الأقلية، ومن ثم دعمها في
ثورتها الانفصالية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً حتى يتم فصلها عن دولتها الأم
والاعتراف بها، ومن ثم جعلها بؤرة للتنصير وإثارة القلاقل والفتن في الدولة الأم
تحت حماية الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وحال إندونيسيا شاهد على ذلك
خاصة بعد انفصال تيمور الشرقية، وفي الطريق مناطق أخرى يريدون فصلها
عنها.
3 - قوة النصارى في هذا العصر وضعف المسلمين؛ فهم رفعوا أعلام الدول
الإسلامية في هذا التجمع دون مشورة منهم وتلك مصيبة؛ فإن كانوا شاوروهم
فالمصيبة أعظم، لا سيما أنهم رفعوا أعلام دول ليس بين مواطنيها نصارى البتة.
أهداف هذه التجمعات العالمية:
ما كان الفاتيكان لينفق هذه النفقات الباهظة إعاشة وإعالة مليوني شاب وشابة
مدة خمسة أيام إلا لتحقيق أهداف توازي حجم الخسائر التي تحملها؛ ولعل من أبرز
أهدافه هدفين مهمين يحتاجان إلى شيء من البسط والبيان:
الهدف الأول: إعادة قوة الكاثوليك، وإثبات شعبية البابا يوحنا بولس الثاني
وكنيسته على سائر الكنائس الأخرى ورهبانها وبطاركتها، وإظهار أنه الممثل
الوحيد للنصارى كلهم بل ولسائر الأديان؛ إذ هو يرى أنه أعلى زعيم ديني في
العالم.
وهذا الهدف ظاهر في نشاط البابا وقد بلغ من الكبر عتياً، ورحلاته المكوكية
إلى كثير من دول العالم كانت لتفقُّد الأقليات النصرانية ولو كانت من غير الكاثوليك،
فضلاً عن خطاباته الدينية الممزوجة بالسياسة التي تدعو إلى السلام وتحض عليه؛
على اعتبار أن الدعوة إلى السلام هي البضاعة الرائجة هذه الأيام في سوق
السياسة الذي سيطر فيه إخوان القردة على رعاة البقر وألزموهم بتبنيه وفرضه على
العالم تيمناً بخروج ملك السلام الذي ينتظره اليهود المسيح الدجال.
وتذكر الموسوعات أن البابا الحالي أكثر البابوات نشاطاً في تاريخ الكنيسة؛
فقد سافر كثيراً ورآه الناس أكثر من أي بابا سابق، وقد ساعدت الرغبة في معالجة
القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة في تاريخ الغرب النصراني في زيادة مقام
البابوية (الفاتيكان) [1] .
ولنشاط البابا السياسي والاجتماعي وتدخله في شؤون الآخرين استحق أن
يحمل ألقاباً عدة تومئ إلى أنه أعلى سلطة دينية على وجه الأرض منها: «أُسقُف
روما خليفة القديس بطرس نائب يسوع المسيح أمير الرسل الحَبْر الأعظم للكنيسة
العالمية بَطْرِيَرْك الغرب كبير أساقفة إيطاليا رئيس أساقفة المقاطعة الرومية عاهل
دولة الفاتيكان» وذلك وفقاً لما ورد في كتب الكاثوليك وموسوعاتهم [2] .
فالبابا يحاول بكل وسيلة أن يكون الممثل الوحيد لكافة النصارى في الأرض
على اختلاف مذاهبهم، بل يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك وهو توحيد الناس على
دين واحد يكون هو الزعيم الأعلى له؛ كما حدث في الصلاة الجماعية التي أقامها
ودعا إليها في مدينة (ESIS) الإيطالية وحضرها ممثلون عن شتى الملل حتى
عن المسلمين مع الأسف، ووصفته أجهزة الإعلام عقبها بأنه: بابا الأديان
كلها! ! [3] .
وهذا ما جعل بني دينه وجلدته يتهمونه بالسلطوية والتوسع كما قال أحدهم:
«إن التوسع الكاثوليكي يعد بمثابة سياسة إمبريالية دينية عالمية قامت البابوية بقيادتها
بصورة متزايدة، كما أنه يمثل موقف الكنيسة من الدول إلى جانب طموحاتها
ومصالحها والقوى التي تمتلكها البابوية في كافة البلدان، أي أن هذا التوسع يعبر
عن وجودها العالمي، ويسهم في أن يجعل منها قوة يتعين على أية سياسة أن تأخذ
ذلك في اعتبارها» [4] .
وفي الوقت الذي تقمع فيه الأجهزة العلمانية ومن ورائها الدولية أي توجهات
سياسية إسلامية ولو كانت بطرقهم الانتخابية الديمقراطية كما يزعمون فإن بابا
الفاتيكان لم يفتر عن تسييس الكنيسة، وجعل الفاتيكان ذات الأساس الديني دولة
سياسية بمنظمات عالمية: في عالم الصحافة والإعلام، وفي التنظيمات الشبابية
شباب بلا حدود والتنظيمات النقابية العمالية الحركة العمالية للعمال المسيحيين ثم
دخوله في الاتفاقات السياسية والحركات التحررية.
ولم نسمع الغربان العلمانية الناعقة بمكافحة الإرهاب والمنادية بفصل الدين
عن الدولة تتهمه بتسييس الدين وأدلجته، واتخاذه ستاراً لأنشطة سياسية؛ فتلك
التهم خاصة بمن يدين بالإسلام فقط! !
الهدف الثاني: محاولة إرجاع الناس خاصة الشباب إلى الكنائس بعد عزوفهم
عنها بسبب العلمانية.
أرادت الكنيسة بهذا التجمع وأمثاله أن تثبت وجودها، وتشد الانتباه إليها.
أرادت أن تقول لبني دينها العلمانيين: إنني موجودة، والحل عندي.
وذلك بعد الضياع الذي وصلت إليه الأمم الغربية اللادينية، وكان للكنيسة
دور في ذلك بما مارسته من ضغوط جعلت الشعوب الغربية تثور عليها وترفض
مرجعيتها وتلغي تعاليمها، وتتخذ بديلاً عنها الإلحاد والحرية البهيمية المطلقة.
ولهذا كان البابا وهو يخاطب الشباب يدعوهم إلى الكنيسة ويعتذر بصراحة
عن أخطائها السابقة، ويطلب السماح والعفو.
إن الغرب المتقدم في كافة المجالات المادية والترفيهية يبحث عن شيء فقده
كلياً، ولا يدري ما هو هذا الشيء المفقود، ولا كيفية الوصول إليه والحصول عليه!
ذلكم هو الأساس العقائدي، والميزان الأخلاقي.
إنهم نصارى وفي الوقت ذاته لا يدينون بالنصرانية، تسأل أكثرهم: هل
تؤمن؟ ! فيجيبك: نعم أؤمن بالله؛ ولكني لا أؤمن بالكنيسة.
يقول: أؤمن بالقوة العظمى التي كانت وراء خلق هذا الكون وتدبيره ولكني لا
أؤمن بالأديان. لقد فقد الثقة بالكنيسة ورهبانها بما مارسوه عبر تاريخها الطويل من
عنف وإرهاب، وبما يمارسونه في هذه الأزمان من دجل وأكاذيب لا يمكن لعقل
سوي أو نصف سوي أن يقبلها.
إنه صراع يجده الغربي المسكين بين نداء الفطرة التي يولد عليها كل إنسان،
وبين ما يتوارثه ويتربى عليه ويواجهه من إلحاد صارخ ومادية بغيضة وحرية
مطلقة.
ترى الفرد الغربي يتطور في نظرته للكون والإنسان إثبات وجود الخالق
سبحانه ولما يجب أن يكون عليه العالم من الإيمان بالله تعالى ومحبته؛ ولكن هذه
النظرة مبتورة عن أصل الإنسان وسرِّ سعادته الكامن في تشرفه بالعبودية لله تعالى
خالق الكون ومدبره وسلوك الطريق التي توصل إليه باتباع رسله عليهم الصلاة
والسلام وتلك حقيقة ظاهرة في أولئك الشباب الذين قدموا من كل مكان علَّهم يجدون
ما يملأ هذا الفراغ الذي تعاني منه قلوبهم، ولم تغن عنه الحياة المادية والرفاهية
التي يعيشونها، والكنيسة تراهن على ملء هذا الفراغ القلبي لدى الشباب متى ما
ترددوا عليها وأخذوا تعاليم الرهبان ووصاياهم.
لقد كان البابا في خطابه للشباب يحاول إقناعهم بالعودة إلى الله تعالى وأنه
قريب منهم، ومهتم بأمرهم وهذا ظاهر في قوله لهم: «أيها الشباب: إلهنا هو الله
الذي يدعونا ويتحدث إلينا، وأنت حقيقة موجود عندما تكتشف أنه يتحدث إليك،
ولديك القدرة أن تتجاوب معه ... ماذا تقول عندئذ عن حياة شاب مسيحي لا يتحدث
إليه الإله إطلاقاً، إنها حياة لا يعني فيها الإله شيئاً ... الإله يكشف نفسه بالتحدث
إليك ويقول لك:» إن الإنسان مهم له. وهو يجعل حياتنا معه قائلاً: أنا سوف
أكون معكم حتى نهاية الزمان «.
وكثيراً ما أكد في حديثه إليهم ذلك، وذكَّرهم بيسوع ورحمته بهم وشفقته
عليهم، وحبه لهم.
إن الكنيسة مستميتة في محاولة إقناع الشعوب النصرانية بالعودة إليها خاصة
فئات الشباب التي يُنذر ضياعها العقيدي، وفسادها الأخلاقي بعواقب وخيمة على
الغرب وحضارته المادية. ولا أدل على تلك الاستماتة والحرص من الشعار
المختار لهذا اليوبيل الشبابي العالمي الذي كان شعاره:» الإيمان صعب ولكنه
ممكن «.
وواضح في الشعار تلمسه للجرح النازف وتحسسه للأزمة التي يعاني منها كل
مادي ملحد، وقد روعي فيه نفسية الشباب المتسمة بالتحدي ومحبة المغامرات
والإقدام بقصد دفعها إلى الإيمان والعودة إلى الكنيسة وترك الملذات التي أسرت
الشباب الغربي واستعبدته وحولته من إنسان عاقل إلى حيوان شهواني.
إن الشباب ما حضروا إلى ذلك التجمع إلا للبحث عما يقنعهم بدينهم، ويسعد
قلوبهم التي تعيش شقاءاً سببه البعد عن الله تعالى وعن دينه الذي ارتضاه لعباده
الإسلام والمقابلات التي أجريت مع بعضهم دالة على ذلك، فقد سئل أحد الشباب:
لماذا تحضرون، وماذا تريدون؟ فقال: نريد الجنة. فهو يفكر فيما بعد الموت
رغم أنه يعيش عيشة مادية في بيئة مادية لا تعترف إلا بالدنيا؛ لكنه يعود إلى
فطرته أحياناً فيظل يبحث عن سبل نجاته وأسباب سعادته الأبدية؛ فربما وجدها
فأسلم، وربما أضلته الكنيسة فمات على كفره.
وعرض التلفزيون الإيطالي لقاءاً مع شاب فسأله المذيع: لماذا حضرت إلى
هذا اليوبيل؟ فقال الشاب: لأن البابا دعانا.
قال المذيع: ومن هو البابا، أو ماذا تعرف عنه؟
قال الشاب: هو خليفة عيسى وأرى فيه عيسى.
والبابا يصرح دائماً أنه خليفة الإله.
وواضح من هذا الحوار أن قصد حضور الشاب كان دينياً، ويريد اتباع
الأنبياء وأخذ تعاليمهم، ويظن أن البابا يدله على هذا الطريق.
ويؤكد تلك الحقيقة أن الشباب كانوا متحمسين للقاء البابا وسعداء بحديثه إليهم؛
فهم يصغون إلى كلماته ومواعظه، ومنهم من كان يدونها بقلمه، وكأنه يحس
بحاجته إلى ذلك لعله يجد في مواعظه ما يملأ فراغ قلبه، ويروي ظمأه.
لقد كان الشباب يصفقون للبابا بحرارة شديدة، ويهتفون بحياته، فهم يرونه
الوحيد القادر على الأخذ بأيديهم إلى بر الأمان وموطن السعادة في غابة الغرب
المادية الموحشة، ويظنون أنه الدليل الذي سيربطهم بخالقهم ورازقهم.
والسؤال الذي ينبغي طرحه: هل سينجح البابا في توفير ما يطلبون،
وتعويضهم عما يفقدون؟
كلا؛ لأن ما يدعوهم إليه محرف، ويزداد تحريفاً يوماً بعد يوم. وما لم
يحرف منه فمنسوخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والخطأ - كالمادية مثلاً - لا يصحح بالخطأ المتمثل بالدين المحرف،
والجرح لا يعالج بفتقه دون رتقه، وكم من كافر تنقل بين ملل شتى منها المحرف
ومنها المخترع فما وجد ضالته إلا في الإسلام الذي من ذاق حلاوته فلن يبتغي عنه
بديلاً.
فيا ليت شعري! من يدل هؤلاء الشباب الضالين على الطريق الصحيحة،
ومن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذ بأيديهم من الشقاء إلى السعادة؟ ثم إن
الكنيسة لم تعد تبيّن الحرام من الحلال ولو في دينهم المحرف وإنما اكتفى رهبانها
بالدعاية إلى كنائسهم عن الدعوة إلى دينهم [5] ، وبالمواعظ البسيطة التي تحث على
الاتصاف بمكارم الأخلاق ولا تلزم بذلك ولو من جهة بيان الثواب والعقاب. وكان
من ثمرة ذلك أن شبابهم بل كبارهم ليس عندهم معايير للحرام والحلال ولو على
وفق دينهم المحرف، ولا أدل على ذلك من مقابلة أجراها التلفزيون الإيطالي مع
مجموعة منهم قدمت لهذا اليوبيل فطرح المذيع عليهم هذا السؤال:
ما هو الحرام حسب رأيكم؟
فلم يعط أي واحد منهم جواباً ينطلق من أساس ديني سواء أكان صحيحاً
الإسلام أم محرفاً كالنصرانية مثلاً ولا ذكر واحد منهم أن المحرم ما حرمه الله تعالى،
أو ما أخبر عيسى عليه السلام أنه حرام أو ما قال البابا أو الراهب: إنه حرام.
بل كانت إجاباتهم لا تعدو عن كونها وجهات نظر حسب الأهواء والأمزجة، وتلك
هي عبادة الهوى الذي سماه الله إلهاً في قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]
(الجاثية: 23) .
ولذا فإن أحد الصحفيين المشاهير لما سئل على شاشة التلفزيون عن رأيه في
يوبيل الشباب هذا قال: إن الشباب يريد أن يعود إلى الكنيسة؛ ولكنه في سلوكياته
لا يتبع تعاليمها، فهو يمارس الجنس بشكل طبيعي وعادي، والمعيار عنده هو
الحاجة اليومية التي تتطلبها منه الحياة المدنية الحديثة وليس ما يصدر من الكنيسة.
ودين ليس فيه حرام ولا له حدود ليس بدين، ولا يمكن أن يحقق السعادة التي
يطلبها من دانوا به؛ لأن الإنسان مفطور على العبودية ولا بد له من آمر وناهٍ؛
فخيرٌ له أن يكون عبداً لمن يستحق العبودية ويتلقى منه الأوامر والنواهي وهو الله
تعالى وإلا كان عبداً لمن لا يستحق العبودية كالشيطان والهوى والبابا وغيره من
البشر.
تنازلات الكنيسة:
رغم الجهود الجبارة التي يقوم بها البابا وكنيسته الكاثوليكية وسائر الكنائس
الأرثوذكسية والبروتستانتية؛ فإن الكنيسة عجزت عن إقناع النصارى بالرجوع
إليها، وضبط شهواتهم على وفق تعليماتها؛ فما كان منها إلا أن تنزلت إلى
متطلبات الناس، ووافقتهم فيما يريدون لإرضائهم وكسب اعترافهم بها ولجوئهم
إليها.
وهكذا كل دين محرف لا يمكن أن يصمد أمام المتغيرات؛ فلا بد من تحديثه
وتجديده وتحريفه كلما استجد زمن، أو تغير مكان، أو طرأت طوارئ، وهكذا كان
حال الرهبان مع دين النصرانية المحرف يزيدونه تحريفاً كلما دارت عجلة الزمن،
وليس المقام مقام تتبع وتأريخ واستقراء. وفي التاريخ القريب وذلك عام 1962م
افتُتح مجمع الفاتيكان الثاني ليبحث في تجديد العقيدة والحياة الدينية الكاثوليكية
وتحديثها؛ لجذب الناس إلى الكنيسة [6] .
ولم يكن متعصبة الكاثوليك راضين عن التمييع والتنازلات التي يقدمها
باباوات الفاتيكان وخاصة الأخير منهم» يوحنا بولس الثاني «الذي أثارت تنازلاته
مع العلمانيين أسقف الكنائس السويسرية (لوفبر) فخطب في سبعة آلاف من أتباع
كنيسته متهماً بابا الفاتيكان بالعداوة للمسيح عليه السلام وعنّفه حتى قال:» إن
رئيس الكنيسة الكاثوليكية ولم يسمه البابا يقف الآن في صف أعداء المسيح وهذا
عار شنيع ... ولهذا نرى لزاماً علينا تحمل المسؤولية لإيقاف هذا الانهيار باسم
الحداثة أو تحديث الكنيسة الكاثوليكية التي وصلت إلى حد الإفراغ والتآكل تحت
شعار الإصلاح الدستوري « [7] .
ومن مظاهر التمييع والتنازلات الكنيسية في هذا اليوبيل الشبابي ما يلي:
1 - لم يذكر البابا في خطاباته للشباب حرمة الممارسات الجنسية المحرمة في
دين النصارى التي غرق في مستنقعاتها الآسنة أكثر شباب الغرب وشاباته كالزنا
واللواط والسحاق وسائر أنواع الشذوذ، مع مسيس الحاجة إلى ذلك؛ لكونها ظاهرة
آثمة بين الشباب سببت الأمراض والطواعين والأوجاع والتفكك الأسري،
والمفترض أنه داعية إصلاح، والمقام مقام توجيه وإرشاد؛ لكنه لم يرد إثارة
حفيظتهم والحدّ من حرياتهم الآثمة ومخالفة أهوائهم لكيلا يعزفوا عنه وعن تجمعاته
وكنيسته.
2 - الكنائس أماكن عبادة النصارى، والمفترض في أماكن العبادة أن تكون
محترمة معظمة عند أهلها مصونة من التبذل؛ ولذا كان الرهبان إلى وقت قريب
يمنعون المرأة المتهتكة في لباسها من دخول الكنيسة، وبعض الكنائس توفر جلابيب
تعلق بقرب الكنيسة تلبسها من أرادت الدخول ولباسها غير لائق، وكانت اللافتات
التي تنبه على منع المتهتكة من دخول الكنيسة تعلق على أبوابها، ثم مع مرور
الزمن بدأت تختفي الجلابيب وتزال اللافتات ليسمح للمرأة بدخول الكنيسة للتعبد أو
للفرجة على أي شكل.
وفي يوبيل الشباب هذا كانت الفتيات يملأن ساحة الفاتيكان وكنيسة القديس
بطرس [8] وهن نصف عاريات. ولم يعد للكنيسة قدسيتها عند النصارى؛ إذ إن
مقدمات الزنا من التقبيل والضم تمارس أمام الرهبان داخل كنيسة بطرس في قلب
الفاتيكان، وتحت التصاوير والتماثيل المقدسة التي وضعوها لمريم وعيسى عليهما
السلام ولمشاهير القديسين.
3 - سمح البابا والرهبان بنصب منصات قرب الكنائس الكبرى ليرقص
عليها الشباب من الجنسين في هذا اليوبيل على أنغام الموسيقى الغربية الصاخبة،
وبعضها يتم بحضور أرباب الكنائس وإشرافهم؛ وذلك كل ليلة.
4 - كان من المناظر المخجلة والمزرية بالرهبان في هذا اليوبيل الشبابي أن
ترى الراهب وقد لبس الرداء الكهنوتي، وأثقل رقبته بالصلبان المقدسة عنده جالساً
بجانب فتاة نصف عارية في حديقة الكنيسة لتعترف له بذنوبها، ولا يدري من
يراهما: هل الحاجة لها أن تنفس عن نفسها بالاعتراف بخطاياها، أم أن الحاجة
للراهب يشبع غريزة فطرية حرمتها عليه الكنيسة وقد أباحها الله له بالزواج؟
وكان من آخر تقليعات الكنيسة الكاثوليكية تكليف الرهبان بالخروج إلى
المراقص يرقصون مع المخمورين والعاريات بقصد جذبهم إلى الكنيسة، ولإثبات
أن الكنيسة تتفهم متطلبات رعاياها، ولا تعارض حاجاتهم ولو كانت هدماً لدينهم؛
فأي دين هذا يا ترى؟ !
بين الإسلام والنصرانية:
بان بما سبق عرضه أن الكنيسة تنازلت مضطرة عن مبادئها المحرفة حتى
وصلت إلى هذا الحد المخجل الذي قد يستحي منه بعض العلمانيين، واتضح بذلك
أن الدين المحرف لا يمكن أن يصمد أمام المتغيرات، ولا بد من تحريفه وتجديده
كلما اقتضت الأحوال ذلك.
أما الإسلام فمختلف تماماً عن ذلك من حيث شموليته وصلاحيته لكل الأزمان
والأماكن والأحوال؛ بل لا يوجد ما يصلح للناس ويُصلحهم وتستقيم الحياة به إلا
في دين الإسلام، وما عداه فباطل وإثم وسبب لشقاء الإنسان في الدنيا قبل الآخرة.
وبهذا ندرك الخطأ الفاحش الذي وقع فيه من تشبهوا بقساوسة النصارى ورهبانهم
في تمييع الإسلام وتحريف نصوصه، وتبديل شريعته، وتغيير أحكامه ليوافق
أهواء الناس وشهواتهم، وحتى يتناسب مع هذا العصر كما يفعله كثير من متفقهة
المسلمين ومتعلمتهم أو متعالميهم الذين يتصدر بعضهم للفتيا في القنوات الفضائية.
وهذا منهج خطير يرمي إلى علمنة المسلمين كما عُلمنت النصرانية المحرفة،
وإضفاء الشرعية على هذه العلمنة باعتبارها صادرة من شيوخ معممين؛ وربما
كانوا ذوي تخصصات شرعية ويحملون أعلى الشهادات الشرعية من جامعات
إسلامية عريقة!
والإسلام لن يتضرر بذلك؛ لأنه دين محفوظ بحفظ الله تعالى له؛ لكنَّ مَنْ
يتضرر من جرائه المفتي الذي تجرأ على الله تعالى وأضل الناس عن الحق،
والمستفتي الذي وقع في الإثم بسبب اتباعه لمن يفتيه بهواه، والعامة الذين يستمعون
إلى تلك الفتاوى.
ومن مظاهر الإضلال في الفتيا: مخالفة النصوص الصحيحة الصريحة أو
الإجماع، وإحياء الأقوال الضعيفة والشاذة التي أخطأ فيها أصحابها. بل إنهم في
بعض الأحيان يأتون بفتاوى ليس لهم فيها سلف، وربما دعا بعضهم إلى المحرم
باسم الدعوة والمصلحة المرسلة وتحت شعارات صحيحة؛ لكن يراد بها باطل
كتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، ويتوسعون في ذلك توسعاً عظيماً بلا
ضوابط ولا ورع ولا تقوى.
بين العلمانيين والرهبان:
دأب العلمانيون العرب عند إرادتهم القدحَ في الإسلام أو تعاليمه أو ردَّ فتوى
شرعية على استرجاع التاريخ واستدعاء ما حصل من أرباب الكنائس فيما يسمى
في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى التي كانت الهيمنة فيها للكنيسة ورهبانها،
ويساوون بين الإسلام والنصرانية، وبين علماء المسلمين ورهبان النصارى إمعاناً
في الإضلال وطمساً للحقائق وتلبيساً على المتلقي عنهم.
وقد لوحظ في الآونة الأخيرة تغيّر هذا الاتجاه عند كثير من العلمانيين الذين
أخذوا يطالبون علماء المسلمين بالتسامح وتفهم متطلبات العصر وتغير الزمن،
ويؤكدون على ضرورة احتذاء علماء المسلمين بالرهبان والقسيسين الذين خضعوا
لشهوات الناس، وفصَّلوا لهم النصرانية على وفق ما يتناسب مع العصر المادي
العلماني، ثم لما اقتنع بعض المنتسبين للعلم بهذه الفكرة وخضعوا لرغباتهم وضعهم
العلمانيون في صف الرهبان بجامع العقلانية والبعد عن التشدد والتطرف والإرهاب
الديني ومخاطبة الناس بأسلوب حضاري كما يقولون. وكفاهم شرفاً أن يُشبهوا
بأصحاب الكنائس لا بأقلام الأثريين الرجعيين عندهم وإنما بأقلام المتنورين
العلمانيين! !
وفي الوقت ذاته يتمالأ من ميعوا الإسلام مع العلمانيين على حرب المتمسكين
بالإسلام كما أنزل الذين يرفضون التلاعب بشريعته لموافقة أهواء الناس ويصمونهم
بكل نقيصة، ويلصقون بهم كل تهمة؛ فتأمل إلى ما أدى إليه التنازل عن بعض
الشريعة باسم المصلحة الفضفاضة، وانظر إلى الهوة السحيقة التي تردى فيها
أصحاب هذه الاتجاهات الخاطئة!
هُبَل لا يزال يُعْبَد! !
يسمى هذا العصر عصر العلم والتقدم، وحين تذكر البلاد الغربية يتبادر إلى
ذهن كثير من الناس أن تلك البلاد التي أفرزت الحضارة الحديثة لا يمكن أن
تغزوها الخرافة أو يصدق أفرادها بها، أو يلغوا عقولهم ويتعلقوا بأوثان لا تنفع ولا
تضر كما كان أهل الجاهلية يعبدون هُبَلاً واللات والعزى؛ لأن بلاد الغرب
عمرت حضارتهم وقامت على احترام العقل وتقديسه؛ ولكن الحقيقة مجانبة لذلك؛
فمظاهر الخرافة منتشرة، وسوق السحرة والكهان والعرافين رائجة في بلادهم.
وفي يوبيل الشباب هذا كان الرهبان ركعاً وسجداً وجاثين على الركب يتلون
الأناجيل، ويرددون الترانيم، ويؤدون الصلوات تحت التماثيل والتصاوير التي
امتلأت بها كنيسة القديس بطرس، ومنهم من تعلق بأقدام الوثن يقبلها باكياً؛
والشباب يمرون بهم ليتعلموا الوثنية من أئمتهم ورهبانهم في عصر الذرة والنفاثة
والاستنساخ والدخول في الألفية الثالثة كما يقولون. وشرك العبادة ليس أمراً جديداً
عند النصارى فقد قال الله عنهم: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ]
(المائدة: 72) ، وقال تعالى: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ]
(المائدة: 73) . والنصوص في إثبات ذلك كثيرة.
وشركهم ليس شرك أفراد من عامتهم؛ بل هو شرك أحبارهم ورهبانهم أقروه
في مجامعهم الكنسية الكبرى التي ألَّهوا فيها عيسى عليه السلام وجعلوه مساوياً لله
تعالى وجعلوا لأمه مريم صفة الأمومة الإلهية وأنها والدة من تم تأليهه، واعتبار
الاعتراض على ذلك هرطقة [9] توجب التكفير والقتل. تعالى الله عن شركهم علواً
كبيراً.
ولن تجد وصفاً وأنت تراهم يترددون على تلك الأوثان في كنائسهم أبلغ وأدق
من وصف الله تعالى لهم بالضُلاّل كما قال تعالى: [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ] (الفاتحة: 7) . قال ابن أبي حاتم: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في
تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى [10] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» اليهود مغضوب عليهم،
والنصارى ضُلاّل « [11] .
لماذا الصدُّ عن الإسلام؟
اتضح بما سبق عرضه أن دين النصارى المحرف ليس مقنعاً لأُناس يوصفون
باحترام العقل وإعماله، ومهما عمل البابا والفاتيكان والنصارى أجمعون من وسائل
لإقناع أنفسهم بصحة دينهم فلن يقتنعوا به فضلاً عن إقناع غيرهم به.
وفرح الشباب بهذا التجمع العظيم؛ إلا أن استئناسهم به لن يدوم طويلاً، كما لم تدم
سعادة الشعوب الغربية بالتطور والرفاهية العظيمة؛ وهكذا كل سعادة بغير الله تعالى
والعبودية له واتباع رسله مهما كانت كبيرة وأسبابها عظيمة فلن تلبث إلا يسيراً
حتى تنقلب شقاءاً على صاحبها في الدنيا قبل الآخرة. وقد قرر هذه الحقيقة العالم
الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:» فإن حقيقة العبد قلبه
وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا
إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا
بلقائه، ولو حصل للعبد لذَّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك؛ بل ينتقل من نوع
إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال،
وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ به غير منعم ولا ملتذ به؛ بل قد يؤذيه
اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك « [12] .
وما دام الأمر كذلك فإن سدنة الباطل والقائمين عليه لم يألوا جهداً ولن يألوا
في إخفاء الحق ومحاولة طمسه وتشويهه وحجبه عن الناس وصدهم عنه بكل وسيلة
يملكونها. وهكذا كان حال الإسلام مع خصومه قديماً وحديثاً. ففي القديم كان
المشركون في عهد الرسالة يمنعون الناس من سماع القرآن خشية اتباعهم لمن أُنزل
عليه، وتواصوا بالتشويش عليه كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] (فصلت: 26) ، وقد ذكر
المفسرون أن المشركين كانوا يطردون الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم، ويقابلون القرآن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد
الأشعار والأراجيز [13] .
قال ابن عاشور:» وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكمموا أفواه
الناطقين بالحق والحجة بما يستطيعون من تخويف وتسويل وترهيب وترغيب، ولا
يدعون الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة؛ لأنهم يوقنون أن حجة
خصومهم أنهض؛ فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان
والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعم نورها الناس
الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام، ونفخوا في أبواق اللغو
والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق، ويغمرون الكلام الصالح باللغو،
وكذلك شأن هؤلاء « [14] .
وثبت في الصحيح أن المشركين شرطوا على ابن الدغنة لما أجار أبا بكر
رضي الله عنه أن لا يُظهر عبادته خشية أن يتبعه أقوامهم وقالوا: مُرْ أبا بكر فليعبد
ربه في داره فلْيُصلِّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا
نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا» [15] .
وكذلك يفعلون في العصر الحاضر؛ إذ إن أعداء الإسلام من يهود ونصارى
ووثنيين ومنافقين قد حملوا على عواتقهم حرب الإسلام، وصدَّ الناس عنه بكل
وسيلة تارة بالترغيب تحسين الشهوات وبثها ونشرها وتارة بالترهيب إيذاء
المسلمين ومحاصرتهم وتجويعهم وإعلان الحرب عليهم وتارة بالتنفير وصف
المسلمين بالتطرف والإرهاب وتشويه الإسلام عند غير المسلمين ومع ذلك فإن
أعداد من يدخلون في الإسلام بحمد الله تعالى في ازدياد لا يشهد له مثيلاً أي دين
آخر، وجُلُّ من يدخل في الإسلام يدخله عن قناعة بعد بحث وتقصٍّ، وفيهم من
علية القوم من المثقفين والمنظِّرين والمنصرين كثر؛ لأنه لا يحق إلا الحق، ولا
يبقى إلا الصحيح، ومهما اجتهد أهل الباطل في طمس الحق وإخفائه فإنهم لا
يستطيعون.
بعد هذا العرض المختصر لهذا اليوبيل الشبابي النصراني العالمي أود التنبيه
على أمور أربعة:
1 - وجوب شكر الله تعالى على نعمة الإسلام التي هدانا لها، ولو شاء لجعلنا
من أولئك الضالين الحيارى الذين تعلقوا بالمخلوقين ونسوا الخالق سبحانه وتعالى
فنحمد الله تعالى أن هدانا، ونسأله الثبات على الإسلام إلى الممات إنه سميع مجيب.
2 - فريضة الدعوة إلى هذا الحق الذي عرفناه وهو الإسلام ودلالة الضالين
عنه عليه، والمسؤولية عظيمة، والأمانة ثقيلة؛ أبت حملها السموات والأرض
والجبال وأشفقن منها وحملناها ففرض علينا أداؤها، وإلا تعلق أولئك الضلال
برقابنا يوم القيامة يشكون إلى الله تعالى تقصيرنا وتفريطنا في دعوتهم. نسأل الله
تعالى العافية.
3 - إن ضلال أولئك الشباب المجتمعين يزيد يقيننا بديننا، ويقوي إيماننا،
ويحثنا على التمسك به والعض عليه بالنواجذ؛ لأنه حق هدانا الله إليه؛ فمن الغبن
والحمق التفريط فيه أو تضييعه، ومن مظاهر التفريط فيه عدم التزام أحكامه.
4 - إن تأجيل بيان بعض شرائع الإسلام لمن أسلم حديثاً منهج صحيح كما
كانت شرائع الإسلام تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً، ولكن
التنازل عن شيء منها بحجة الدعوة أو المصلحة المرسلة أو دواعي العصر أو نحو
ذلك فباطل وإثم وافتيات على الإسلام واستدراك على الشارع سبحانه وتعالى.
وفرق كبير بين التنازل الذي يسلكه المزورون لشريعة الإسلام وبين التأجيل
لمصلحة راجحة، ومن سلك مسلك التنازل والتحريف لأحكام الإسلام من متعلمة
المسلمين فقد تشبه بالرهبان الذين حرفوا وما زالوا يحرفون النصرانية إلى اليوم،
«ومن تشبه بقوم فهو منهم» [16] كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
__________
(1) انظر مثلاً: الموسوعة العربية العالمية، 4/10.
(2) (Boydas: Philoso Phies Reliaiohsn: 951 2-A) عن تنصير العالم، د زينب
عبد العزيز.
(3) سلسلة تقارير المعلومات الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، 1/ 185.
(4) «البابوية المعاصرة» لمارك بونيه عن المصدر السابق، 88.
(5) هذا بالطبع في المجتمعات الغربية فقط، وإلا فهم يسعون بجد ونشاط إلى تنصير غيرهم، والمطلع على أحوالهم يتبين له أن تنصيرهم خارج أرضهم وبين الغرباء عنهم أكثر وأقوى من عملهم في أراضيهم وبين بني قومهم لأسباب وأهداف ليس هذا مقام عرضها.
(6) انظر: الموسوعة العربية العالمية، 4/9.
(7) سلسلة تقارير المعلومات، 1/184.
(8) يعتقد الكاثوليك أن بطرس كان صياداً ودعاه المسيح عليه السلام إلى التبشير بدينه، وسماه بطرس، وهو الذي رأس الكنيسة في مهدها، وقتل في روما، فبنيت كنيسته على قبره، وهي أكبر كنيسة في روما، وهي وما يحيط بها من بنايات مقر عمل بابا الفاتيكان وإقامته، وهو أعلى مرجعية دينية لدى الكاثوليك، وفي ساحتها يحيي البابا قُدَّاسات النصارى في المناسبات والأعياد؛ فهي من أقدس الكنائس عندهم وأقدمها، ومع هذا لا قدسية لها عندهم في واقع الحال.
(9) الهرطقة: مصطلح كنسي يعني الخارجين على تعاليم الكنيسة.
(10) انظر: تفسير ابن أبي حاتم، 1/23، وفتح الباري، 8/159، والدر المنثور، 1/16.
(11) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الفاتحة وقال: حسن غريب (2954) وأحمد، 4/ 378،
والطبراني في تفسيره، 1/79، وصححه ابن حبان كما في الموارد (224) ، وأحمد شاكر في تخريج الطبري (194) .
(12) مجموع الفتاوى، 1/24 25.
(13) انظر: تفسير ابن كثير، 4/147، وروح المعاني للآلوسي، 12/371.
(14) التحرير والتنوير، 24/277.
(15) صحيح البخاري، كتاب: مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة (3905) .
(16) رواه أبو داود، ح/ 3512.(156/110)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
المكافحة مستمرة! !
دعا رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى إلى مشاركة روسيا في معاهدة خماسية
لـ «مكافحة الإرهاب والتطرف السياسي والديني والإجرام المنظم» .
وحضر رؤساء كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان اجتماعاً
في العاصمة القرغيزية «بيشكيك» أعلن على أثره رئيس الدولة المضيفة عسكر
أكايف أن روسيا: «دولة عظمى ويمكن أن تغدو القوة الرئيسية» في منظومة
لتحقيق الأمن والاستقرار في آسيا الوسطى التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي.
وعقد الاجتماع بعد اتساع نطاق العمليات التي تخوضها أوزبكستان
وقرغيزستان ضد تنظيمات إسلامية تحمل السلاح في المثلث الواقع بين هاتين
الدولتين وطاجكستان. وأكد الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف أن «المراكز
الإسلامية المتطرفة» التي قال إنها تعمل من أفغانستان؛ تهدف إلى: «حرف دول
آسيا الوسطى عن الطريق العلماني الديموقراطي» .
وأضاف: «لا يمكننا ضمان الأمن في آسيا الوسطى ما دامت الحرب قائمة
في أفغانستان، لأن المجموعات المتمردة التي تعتبر أساس المشكلة موجودة في
أفغانستان. ودعا رؤساء الجمهوريات الأربع المنظمات الدولية» كمنظمة الأمم
المتحدة «إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة لوضع حد للحرب الأهلية في أفغانستان
» واستئصال هذا الخطر «.
[جريدة الحياة، العدد: (13677) ]
العولمة المفترسة
إن ظاهرة اندماج المؤسسات الاقتصادية والشركات متعددة الجنسيات برؤوس
أموال تصل إلى مئات المليارات من الدولارات أفضت إلى تمركز الثروة في يد قلة
قليلة من الدول أولاً ثم قلة قليلة من أفراد تلك الدول ثانياً إلى الدرجة التي أصبحت
معها ثروة ثلاثة أغنياء أمريكيين تعادل أو تزيد على ثروات 48 دولة من دول
العالم الفقيرة. وثروة 48 أمريكياً تزيد على ثروة 1. 3 مليار صيني يبلغ الناتج
القومي لهم حوالي 700 مليار دولار سنوياً، وأن 225 ثرياً من أثرياء الدول
المتقدمة يملكون ألف مليار دولار أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لـ 47% من
سكان العالم، في حين أن 40 مليار دولار أي ما يوازي 4% فقط من ثروات الـ
225 شخص كافية لكي تؤمن لكل سكان المعمورة الخدمات الاجتماعية الأساسية
التي يحتاجون إليها أي الغذاء والصحة والمياه والتعليم. وأوضحت الدراسة أنه في
ظل العولمة المتوحشة أصبح نصف سكان العالم أي ثلاثة مليارات نسمة من الفقراء
يعيش منهم 1. 3 مليار نسمة تحت خط الفقر، ويقبع أغلبهم في الدول النامية في
حين أن 10% فقط من القابعين على قمة العالم في الاتحاد الأوروبي وأمريكا
يستحوذون على 50% من تجارة العالم. وأن 13% فقط من سكان العالم ينفقون
68% من الإنتاج العالمي الأمر الذي يعكس عدم مساواة صارخة واستغلال تتعرض
له شعوب العالم الثالث. كما أشارت الدراسة إلى أن خمس دول فقط هي: الولايات
المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وبريطانيا تتوزع بها 172 شركة من أصل
200 شركة الأكبر والأشرس عالمياً والمسيطرة على الاقتصاد العالمي. وتعرضت
الدراسة للزيادة المستمرة في عدد الشركات متعددة الجنسيات موضحة أن عددها
ارتفع أخيراً من 11000 شركة تتحكم في 82000 شركة فرعية تزيد مساحتها
على 25% من حجم التجارة العالمية عام 1975م إلى 37500 شركة تتحكم في
207000 شركة فرعية تتعامل بأكثر من حجم التجارة العالمية عام 1990م.
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (180) ]
انتكاسة ليبرالية
معضلة الاتجاه الليبرالي تكمن في قدرته على تكوين هالة إعلامية ودعائية لا
تتلاءم مع حجمه الطبيعي، لقد انشغل المؤسسون باستثارة الرأي العام، دون اهتمام
بالقاعدة الشعبية وتنميتها.
من يستمع للطروحات الليبرالية، وزخم الأقلام الصحفية المساندة و» المطبلة «للنهج الليبرالي يظن أن المجتمع الكويتي يسير نحو العلمانية وهو منها قاب
قوسين أو أدنى، ولكن من ينظر إلى حقيقة المجتمع الكويتي من الداخل يجد أنه
أقرب للمجتمع الإسلامي المحافظ المتشبع بالقيم والمبادئ الإسلامية. لقد نجح
الليبراليون مع بداية الستينيات بفضل موجة المد القومي، ومناهضة الإمبريالية في
كسب ود الكويتي وعطفه، فصفقت لهم الجماهير، ثم ما لبثت الفئة الواعية من هذه
الجماهير أن تخلت عنهم عندما أدركت زيف الخطب والشعارات والهتافات البراقة
والبعيدة عن الواقع.
[الكاتب الكويتي: عادل القصار، جريدة القبس، العدد: (9781) ]
استهزاء بالدين ودعوة للمنكر
إن البنت اليمنية لا تترهل البتة. إنها تتزوج وتنجب دزينة من الأطفال
وتظل برشاقة عود القات محتفظة برشاقتها إلى أن تشيخ، وحتى عندما يجف
عودها وتموت فإنها لا تتعفن في قبرها كغيرها من نساء العالم ولا تقربها الديدان! !
كل هذا ببركات هذا العشب السحري الذي قيل: إن أبانا آدم تناوله وطرد من
الجنة بعد أن أغرته أمنا حواء! ! ولِمَ لا! وها هي بعض دول العالم تُحرِّم القات
وتطرد من جنانها المصطنعة كل يمني يتناوله وتنزل به أشد العقوبات، لكن القات
سيغدو عشباً عالمياً في عصر العولمة، وسيكتشف العالم المتخم عما قريب ميزة هذا
العشب الموضوع في القائمة السوداء.
ومع احترامي وتقديري لجمعية مكافحة القات التي تصدر نشرة دورية بعنوان
يمن بلا قات إلا إنني على يقين بأن المستقبل في اليمن للقات. بل إنني أخشى على
هؤلاء الذين يحلمون بيمن بلا قات أن يتحقق حلمهم بالمعكوس؛ فكل الدلائل
والمؤشرات تؤكد أنه في المستقبل سيكون هناك قات فقط. قات بلا يمن.
[الكاتب اليمني: عبد الكريم الرازحي، مجلة المجلة، العدد: (1075) ]
بئس ما صنعوا! !
يعرض موقع على شبكة الإنترنت في الأرجنتين خدمة غير تقليدية؛ وهي
مساعدة من يمارسون الخيانة الزوجية على اجتناب افتضاح أمرهم.
فنظير سداد مبلغ 120 دولار أمريكي يحصل المشترك في الموقع على خطة
متكاملة لتمويه تحركاته وتسويغ غيابه عن العمل والمنزل. وتتضمن الخطط التي
يضعها العاملون في الموقع إرسال بطاقات دعوة لحضور مؤتمرات وهمية وتذاكر
طيران مزيفة، وشهادات تثبت حضور تلك المؤتمرات.
ويقول المسؤولون عن الموقع: إن الخدمة التي يقدمونها لعملائهم متقنة لدرجة
تمكنهم من خداع زملائهم ورؤسائهم في العمل وليس فقط الزوجات والأزواج. وقد
لاقى الموقع إقبالاً شديداً فور بدء عمله لدرجة أن مسؤوليه قرروا عدم قبول أكثر
من ألف عميل في وقت واحد، واللافت للنظر أن عملاء الموقع ليسوا جميعاً من
الرجال، فنصفهم تقريباً من النساء. وذكر القائمون على الموقع أن النجاح الضخم
الذي حققه مشروعهم في الأرجنتين جعلهم يفكرون في إقامة خدمات مماثلة في دول
أخرى بأمريكا اللاتينية. ولم ينس القائمون على الموقع تجهيز مؤثرات صوتية
تحاكي صوت قاعة اجتماعات، وتسمع تلك المؤثرات عبر الهاتف أثناء حديث
السكرتيرة المزيفة.
ويقول مسؤولو الموقع: إن احتمال انكشاف المؤامرة شبه معدوم؛ لأنهم
يدرسون حالة كل عميل على حدة، ويضعون له الخطة المناسبة له.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
تحسبهم جميعاً
دلت نتائج استطلاع رأي جديد في» إسرائيل «أن الشباب من طلاب
المدارس الثانوية يكرهون المستوطنين اليهود في الضفة الغربية بالدرجة الأولى ثم
يكرهون العرب بمقدار مشابه تقريباً. وجاءت هذه النتيجة مفاجئة للغاية.
وأجرت الاستطلاع صحيفة» يديعوت أحرونوت «بواسطة معهدين جامعيين
إسرائيلي (الجامعة العبرية في القدس) وفلسطيني (جامعة بيرزيت) بمشاركة
6200 تلميذ من ثانويات يهودية وعربية في» إسرائيل « (العرب هم فلسطينيو
1948م) ونشرت نتائجه في الصحيفة، وفيما يلي أبرز ما جاء فيها:
- في المجموعة الكاملة للتلاميذ، بغض النظر عن الانتماء تبين أن 51%
منهم يكرهون المستوطنين في الضفة الغربية أكثر من أية فئة سياسية أخرى، وأن
50% يكرهون العرب بالدرجة الأولى، و47% يكرهون اليهود المتدينين
المتزمتين (حريديم) بالدرجة الأولى.
- في هذه المجموعة أيضاً، قال 47%: إنهم يكرهون رئيس الحكومة
اليميني السابق بنيامين نتنياهو، و27% قالوا: إنهم يكرهون إيهود باراك،
و24 % قالوا: إنهم يكرهون شمعون بيريز.
- بلغت نسبة الذين يكرهون حركة» سلام الآن «34%، لكن نسبة
الكراهية لليكود أكثر 35% والكراهية لحزب العمل 24%.
- عند الدخول في التفاصيل يتضح أن الفوارق في الكراهية للمستوطنين
والعرب تعود إلى الانتماءات الطائفية. إذ أنه في صفوف التلاميذ اليهود الأشكناز،
يكرهون اليهود المستوطنين 56%، واليهود المتدينين المتزمتين 50% أكثر من
كراهيتهم للعرب 38%. أما اليهود الشرقيون فإنهم يكرهون العرب أولاً 63% ثم
حركة» سلام الآن «. وأما التلاميذ العرب فإنهم يكرهون أولاً اليهود المتدينين
المتزمتين 85% ثم المستوطنين 73%.
ورأت الدكتورة داليا مور، المشرفة على هذا البحث، أن الوضع بين الشباب
مثله بين الكبار في» إسرائيل «: يشكل هوة اجتماعية كبيرة بدأت تأخذ طابع
الكراهية، وهناك خطر في تدهوره إلى العنف. وقالت: إنها تجد في موقف اليهود
من المستوطنين كراهية للعنف ولمحاربة مسيرة السلام، وكذلك إحساساً لديهم بأن
المستوطنين يبتزون الدولة، ومواقفهم ليست مبنية على أية مبادئ.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7959) ]
مع القرامطة والماركسية
ماذا لفت نظرك في تجربة» ثورة ظفار «، لكي تكتبها من جديد؟
لفت نظري في هذه التجربة جرأتها في محاولة وضع الشعارات الثورية موضع
التنفيذ والتطبيق، في مجتمع تقليدي كان شديد التخلف، خصوصاً أنها تمت في
إطار من المرجعيات المختلفة المتأثرة بشعارات القوميين العرب، وصعود عبد
الناصر ومواجهته للرجعية وللنفوذ الاستعماري في المنطقة. إضافة إلى استفادتها
من الماركسية. وهذه التأثيرات كانت مهمة عصر كامل، وهي تجربة حاولت الرد
على أسئلة كانت مطروحة ولا تزال، في اتجاه البحث عن طريق للتنمية والتحديث
والاستغلال الوطني. وبمعنى آخر فإن ثورة» ظفار «ليست إلا محاولة للتغيير،
اصطدمت بأوضاع معقدة. ولأن قوانين التغيير جزء أساسي من قوانين الحياة، فلا
بد من تأملها للاستفادة منها في المستقبل، وهي تجربة أجهضت تحت ضغط عوامل
وتناقضات عدة، بين التقليدية والتحديث، وبين الأنانية الفردية والجماعية، وبين
صورة الاستقلال الوطني عندما تتناقض مصالحه مع النفوذ الأجنبي ومؤامراته
ومصالحه. لدي تجربة قديمة في هذا الموضوع، حدثت عام 1979م حيث عملت
على سيناريو عن ثورة القرامطة بالتعاون مع السينمائيين السوريين عمر أميرلاي
ومحمد ملص، وللأسف لم يخرج هذا العمل إلى النور في شكل فيلم، وأفكر جدياً في
الاشتغال عليه من جديد في شكل روائي، لكن ما عطلني هو أنني وجدت أن
» ثورة ظفار «وأحداثها أكثر قرباً من لحظتنا الراهنة.
[الكاتب المصري: إبراهيم أصلان، مجلة الوسط، العدد: (451) ]
أخلاق أمريكية في مهمة إنسانية
أظهر تقرير عن تحقيق عسكري نشره البنتاجون رسمياً أن جنوداً أمريكيين
من قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في كوسوفا أساؤوا معاملة مدنيين (من
خلال انتهاك المبادئ الأساسية لكرامة البشر) .
وأفاد التحقيق الذي قام به الكولونيل جون مورجان أن عناصر من الوحدة
الأمريكية خالفوا التعليمات العسكرية وعمدوا إلى (مضايقة واستجواب وإهانة
وضرب ألبان) . واعترف التقرير بوجود عدد من الحوادث التي تعرضت لها نساء
من كوسوفا؛ حيث قام بعض الجنود بملامسة عوراتهن إضافة إلى شكاوى من
إجراء عمليات تفتيش غير ملائمة. كما قام أحد أعضاء القوة الأمريكية باغتصاب
وقتل فتاة ألبانية عمرها 11 عاماً! !
[جريدة البيان، العدد: (7399) ]
بذور الشر
الصورة التي يطالعها المرء في موقع» بذور السلام «على الإنترنت تبدو
بريئة وجذابة إلى حد كبير، يقولون: الحكومات تصوغ المعاهدات، لكن الناس هم
الذين يصنعون السلام. وحركة بذور السلام تفعل ما لا تستطيع أي حكومة أن تقوم
به، إنها تغرس بذور ذلك الحلم الجميل في أعماق الأطفال الذين شبوا وسط أهوال
الحرب، فتعلمهم كيف يتعايشون مع بعضهم بعضاً، وكيف يتبادلون الثقة فيما بينهم
على نحو يمتص أسباب الصدام والصراع، ويُمكِّن الذين أعمتهم الكراهية من أن
يبصروا الوجه الآخر، الإنساني لأعدائهم. في موضع آخر يقولون: نحن منظمة
أهلية غير رسمية، ومحايدة، ولا شأن لنا بالسياسة، وكل مرادنا أن نساعد صبيان
وصبايا مناطق الصراع على أن يتعلموا» مهارات صنع السلام «، وقد جعلنا
المعسكر الذي أقمناه في غابات ولاية» مين « (في الشمال الشرقي للولايات
المتحدة) مختبراً لمساعدة تلك الفئات على التفاهم والتفاعل المتبادل بعدما وفرنا جواً
مواتياً لهذا الغرض؛ إذ من خلال تعليم الجميع فضائل الاتصالات واحترام الرأي
الآخر، وعبر استمرار التواصل ومع استخدام تقنيات وفنون حل الصراعات؛ فإننا
نتيح لأولئك الفتيان أن يتفهم ويتقمص كل منهما الآخر، إننا نسلح الجيل القادم
بالأفكار والقدرات القيادية اللازمة لإنهاء دورة العنف وإقامة السلام على الأرض.
وهدفها هو الجمع بين الأجيال الجديدة من العرب والإسرائيليين، وتنقية
وجدانهم من بذور» الخوف والتوجس والكراهية «في بداية عملها نجحت في جمع
50 فتى وفتاة من ثلاثة أقطار شرق أوسطية، بينها» إسرائيل «، وبمضي الوقت
نجحت في جذب أبناء ثماني دول بالمنطقة هي: إسرائيل، الأردن، فلسطين،
مصر، المغرب، تونس، قطر، اليمن، ووصل عدد المشاركين في المعسكر
الصيفي الذي أقيم في العام الماضي إلى 400 شخص قدموا من تلك الدول، وهؤلاء
تم انتقاؤهم من بين ألفي فتى وفتاة تقدموا للالتحاق بالمعسكر.
[مجلة المجلة، العدد: (1073) ]
احتمال وارد
وجدت حكومة جنوب إفريقيا نفسها مرة أخرى في صلب جدل حول مرض
الإيدز بعدما وزعت نسخة عن فصل في كتاب أكد أن مؤامرات دولية ساهمت في
نقل هذا الفيروس إلى القارة الإفريقية. وأكدت باتريسيا لامبرت الناطقة باسم وزيرة
الصحة أن الأخيرة نقلت نسخة لهذا الفصل الوارد في كتاب يتضمن فرضيات
مشكوكاً فيها إلى وزراء الصحة في مختلف أقاليم البلاد.
وفي كتابه:» هاك حصان شاحب «أكد وليام كوبر أن طائفة» إيلوميناتي «
الداعية إلى تشكيل حكومة عالمية نقلت الفيروس إلى إفريقيا في 1978م بواسطة
لقاح ضد مرض الجدري للقضاء على سكان القارة.
[جريدة الحياة، العدد: (13692) ]
في عهد الشيخ وحيد
قام وفد إندونيسي اقتصادي رسمي يضم رؤساء شركات الصناعة والاستثمار
بزيارة (إسرائيل) لأول مرة من أجل عقد لقاءات اقتصادية وتجارية، وقام الوفد
بزيارة الأردن ومناطق السلطة الفلسطينية حسب تعليمات حكومة إندونيسيا؛ وذلك
بهدف تفادي أي نقد من جانب العناصر الإسلامية بسبب إرسال الوفد إلى (إسرائيل)
وذلك في أعقاب زيارة وفد إسرائيلي لإندونيسيا لدراسة العلاقات الاقتصادية بين
الدولتين، وقد استضافت الغرفة التجارية في (إسرائيل) الوفد الإندونيسي، وكذلك
وزارتي التجارة والصناعة والخارجية واتحاد الصناعيين ومعهد الصادرات.
[صحيفة معاريف اليهودية (مترجم) ]
لا يتحملون الأخلاق! !
لم يستطع حزب العمال البريطاني تحمل أعباء انتهاج المبدأ الأخلاقي في
سياسته الخارجية لمدة طويلة؛ فقد صرحت مصادر بالحزب بأن زعامات الحزب
قررت إسقاط هذا المبدأ في حملتها الانتخابية المقبلة. وقالت المصادر: إن شعار
ربط السياسة الخارجية بالأخلاق أصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل وزير الخارجية
البريطاني روبن كوك، الذي كان قد أعلنه بعد أيام من وصول حزب العمال إلى
الحكم في مايو 1997م. وأضافت المصادر أن هذا الشعار امتلأ بالثقوب بعد رفض
وزراء حزب العمال منع مبيعات الأسلحة لأنظمة حُكْم سجلُّها سيئ في مجال حقوق
الإنسان.
[جريدة الأهرام، العدد: (41546) ]
فليبكوا على حائط آخر! !
كشف عالم الأثار اليهودي (إبراهام برانيس) الذي قضى معظم حياته في
إجراء حفريات حول القدس وعلاقتها باليهود إلى استنتاجات غاية في الخطورة
تقول: إنه لا يوجد أي دليل على وجود ما يسمى بـ» حائط المبكى «. وقال
عالم الآثار في تصريحات أدلى بها مؤخراً:» إنه في المكان الذي يدَّعي اليهود
الآن أنه حائط المبكى والملاصق لسور المسجد الأقصى لا يوجد شيء اسمه حائط
المبكى «.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (351) ]
تعليق على الأحداث
لا تتركوها وحيدة! !
لم تكن المجزرة التي قام بها الصهاينة في حق المسلمين في المسجد الأقصى
المبارك بعد زيارة» أريل شارون «لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة في
صراعنا مع يهود، مواقف اليهود لا تستغرب؛ لكن الذي نستغربه الآن هي تلك
الحال التي وصل إليها المسلمون في تفاعلهم مع مذابح الأقصى، مع تهويد القدس،
مع ضياع فلسطين. كانت الأحداث تجري في الأرض المقدسة، تجري معها أعين
المسلمين تتابعها، كان الدم يقطر من جريح واحد، تفور له دماء المسلمين، غضبة
وحزناً، كان الخطيب يخطب والكاتب يكتب والمتظاهر يُظهر غيرته على بلاد
الإسلام وحرماتها المنتهكة، يندد العلماء، تشجب الحكومات، تعترض النقابات،
كان الكل يتفاعل مع الحدث هناك، ومع هذه المذبحة لم تكن هذه الصورة كما هي!
بالرغم من أن فلسطين كما هي، واليهود كما هم، والقتلى والجرحى كما هم كذلك.
ما الذي حدث للمسلمين؟ ! كنا نظن أن تفاعلهم مع الأحداث مرتبط بمدى التأثير
الإعلامي وحجم الصور المنقولة، كما حدث مع البوسنة والصومال والشيشان،
ولكن الأمر قد ازداد سوءاً، فالصور المعروضة عليهم أيضاً كما هي من عشرات
السنين. إن دلالات كثيرة تحملها إلينا الأحداث، ونخشى أن يكون أشدها: موت
الإحساس بداخلنا تجاه إخواننا ومقدساتنا. ونخشى نسيان القضية بآلامها المريرة بعد
هدوء العاصفة، ولا نفيق ولا نمد لها يد العون إلا مع مجزرة أخرى وقتلى آخرين،
فنتكرم عليهم ببعض دموعنا وبعض من حسراتنا المؤقتة وبعض من أحاديثنا،
ونحسب أننا قدمنا شيئاً بهذه المشاركات الكبيرة! ! وإن كان الشعار السياسي
المخزي الذي ترفعه كثير من الدول العربية» التسوية «لم تغيره تلك الأحداث
بجسامتها! ! إلا أن هذه المواقف لا تعبر عن أحاسيس الأمة، لكن الذي نخشاه
ونحزن له أن يتحول واقع كثير من المسلمين اليوم شعاراً جديداً بعنوان:
» لفلسطين رئيس يحميها «! !
العولمة الدينية.. دعوة خطيرة
في سابقة خطيرة وقبل القمة الألفية التي جمعت زعماء العالم، عُقد في الأمم
المتحدة ما سمي بمؤتمر الأديان، ولم ينل هذا المؤتمر حظه من التغطية الإعلامية،
فيبدو أنه كان مقصوداً أن تكون هناك» تغطية «كاملة على أعمال المؤتمر فلا
يظهر منه شيء. انطوى المؤتمر على دعوة كفرية انتهت بتوقيع زعماء العالم
الدينيين على أن كل الأديان سواء!
ولم يحدد المنظمون معنى الدين بشكل من الأشكال، وكان الاتفاق الضمني أن
الدين هو ما تعتقد أنه دين، وحدد المنظمون شرطين فقط لمنع ازدحام المؤتمر بعد
هذا التعريف المائع فاشترطوا للمشاركة في هذا المؤتمر ألا يقل عمر هذا الدين عن
100 سنة، وألا يكون مؤسس هذا الدين على قيد الحياة! !
ولا يخفى على مسلم أن دين الإسلام خاتم الأديان وأفضلها، وأنه الدين الحق
الذي لا يقبل الله غيره، وأن مساواته مع غيره من الأديان حتى السماوية منها التي
سبقته كفر؛ إذ هو ناسخ لها، فكيف بأديان أتت بعده.
وإن كان هذا عجيباً، فالأعجب من هذه الدعوة: مشاركة بعض المنتسبين إلى
العلم في بعض بلاد الإسلام في هذا المؤتمر الكفري العالمي، وتوقيعهم على ما اتفق
عليه من هذه المساواة الشائنة.
والأكثر من ذلك: شعور أحد المفتين في بلاد الإسلام بخيبة الأمل الكبيرة لعدم
مشاركة» الدلاي لاما «البوذي في هذا المؤتمر لأسباب سياسية وحزنه لذلك
كثيراً!! فإذا كان الدين على حد قوله لا يتدخل في السياسة؛ فلا ينبغي للسياسة
أن تتدخل في الدين.
إن تبني الأمم المتحدة لهذا المؤتمر خطوة خطيرة لعولمة الأديان تسعى لتذويب
ما تبقى للمسلمين من دينهم في ديانة عالمية جديدة، فانتبهوا معاشر المسلمين! فلم
يبق لنا إلا ديننا، فإنه وإن تمت عولمة المسلمين وهم مجبرون في كافة شؤونهم؛
فإن للدين شأناً آخر.
أم َّالكاثوليكية.. كم أنت بغيضة! !
ما زالت فرنسا على عهدها مع دينها وعدائها الشديد للإسلام والمسلمين، وفي
الفترة الأخيرة وخلال أسبوع واحد فقط كان لفرنسا مع المسلمين في بلادهم وفي
بلادها ثلاثة مواقف لافتة للنظر:
- الموقف الأول: عند دخول طالبة مصرية مدرستها الفرنسية المتوسطة في
مدينة الإسكندرية وهي مرتدية الحجاب إيشارب! ! ، اعترض مدير المدرسة؛ لأن
هذا الحجاب محظور في المدارس الفرنسية حتى لو كانت خارج فرنسا، فهي
خاضعة لنظام التعليم الفرنسي في المدارس الفرنسية، فهو لا يريد تمييزاً بين
الطالبات بحجابها المرفوض؛ وقد تم فصل الطالبة من المدرسة وأشقائها الذكور
الثلاثة! ! .
- الموقف الثاني: في مدرسة بنات ثانوية فرنسية أيضاً في أبو ظبي، تم
توزيع كتاب مقرر على الطالبات تحت عنوان» زهرات الشر «غلاف الكتاب
يحمل صورة لفتاتين مخمورتين وعاريتين تماماً وتمارسان الشذوذ، هذا الغلاف! ! !
أما المضمون: فهو دعوة تفصيلية لممارسة هذا السلوك الذي تترفع عنه
الحيوانات، وسوَّغ المستشار الثقافي للسفارة الفرنسية في أبو ظبي ذلك بأنه منهج
جديد لهذا العام، ولم يكن لديه علم به! !
- الموقف الثالث: في قلب فرنسا بلد الحرية والثقافة، وبالتحديد في مدينة
نيس» جنوب فرنسا «رفض جاك بيرا، رئيس البلدية السماح للمسلمين هناك
ببناء مسجد، وقال: إن المساجد التي هي أماكن للعبادة يصعب تصورها في
جمهورية علمانية، لدينا حصة كافية من قبائل المسلمين في فرنسا، ولا أرغب في
المزيد.
سبق تلك المواقف أكبر منها وأكثر وستتلوها مثلها وأكثر منها كذلك، هذا
يقين؛ فتاريخ أمِّ الكاثوليكية مع إسلامنا مرير، بيد أننا نهيب بالمسلمين الذين
يضعون بناتهم في أحضان هذه الأم أن يفيقوا لأنفسهم.(156/122)
في دائرة الضوء
الموقف من العولمة! !
د. زيد بن محمد الرماني
استحوذت العولمة على أوسع اهتمام في أدبيات العالم العربي الاقتصادية
والثقافية والسياسية والتربوية والإعلامية والتقنية، وسيتضاعف هذا الاهتمام في
القرن الحادي والعشرين الذي ستصبح العولمة من أبرز مظاهره، والأكثر تأثيراً
على صياغة ملامحه وقسماته وتضاريسه.
إن العولمة التي أصبحت لغة دارجة في الأدبيات المعاصرة ما زالت تعاني
من بعض الغموض؛ فهناك غموض فيما يتعلق بمعنى العولمة وبحقيقتها: فهل هي
ظاهرة حياتية جديدة، أم مجرد موضة فكرية طارئة مصيرها للزوال؟ وهل هي
حركة تاريخية ستستمر في النمو، أم هي فقاعة من الفقاعات التي ولدت لتموت؟!
وهناك غموض فيما يتعلق بنتائج العولمة ومترتباتها بالنسبة للواقع العربي؛
فهل العولمة حالة صحية، أم مرضية؟ وهل هي حركة استعمارية، أم تحريرية؟
هل ستصب في سياق الاستقلال والذاتية، أم التبعية والاستتباع؟ !
ثم هل المطلوب منا الانغماس فيها، أم الانكماش عنها؟ هل ستحتوينا، أم
سنحتويها؟ هل ستزيدنا تقدماً أم ستضاعف تأخرنا؟ ! !
إن مؤلفات: مثل كتاب: «نهاية التاريخ» لفوكاياما، وكتاب: «صراع
الحضارات» لهنتنجتون وكتاب: «صعود وهبوط الإمبراطوريات» لبول كيندي،
وكتاب: «الموجة التالية» لتوفلر، وكتب أخرى من تلك التي برزت خلال
السنوات الأخيرة، تأتي ضمن سياق المشروع الفكري في الدول المتقدمة لفهم
العولمة والكوكبية الاقتصادية، باستكشاف آفاقها وفرصها وتحدياتها ومساراتها
المستقبلية.
يقول د. محيي محمد مسعد في كتابه: «ظاهرة العولمة: الأوهام
والحقائق» [1] : إن الكتابات السابقة تشكل درجات عالية من الوعي بالعولمة
(اللحظة الحضارية القائمة) .
لقد كان ملفتاً للمتأمل ما تعرضت له العولمة من نقد صارم وعنيف برهن على
تخوفات حقيقية؛ فالأمم والحضارات ليست على استعداد للاستتباع الحضاري لتيار
العولمة الجارف، وما أطلقته من أحلام وردية ووعود سحرية تخفي وراءها
أضراراً خطيرة، كالتي حاول أن يصورها كتاب «العولمة والجنوب» [2]
لكرولين طوماس وبيتر ولكين، الذي اعتبر العولمة آلية لتكريس الفوارق بين
الشمال المتخم بالغنى والجنوب الذي يعاني من الفقر المدقع.
أو التي صورها كتاب «العولمة: النظرية والممارسة» [3] لمؤلفيه: إلينور
كوفمن وجيليان ينغز؛ حيث اعتبر أن ظاهرة العولمة قد دشَّنت عهداً فظاً من
العدوان على البيئة، كان من مظاهرها انتشار التلوث وتآكل طبقة الأوزون،
وانكماش التنوع الأحيائي، والهدر في مصادر الطاقة.
أو الذي تحدثت عنه فيفيان فورستر في كتابها: «الرعب الاقتصادي» [4]
حيث عرضت السؤال الآتي: ما الذي يحصل عندما نعلم أنه ليس ثمة أزمات، بل
مجرد تبدل وتحول يقودان مجتمعاً بأكمله، بل وحتى حضارة بأجمعها إلى
المجهول؟ !
وقد انتقد هذه الأصوات الغاضبة آلان ميك في كتابه: «العولمة
السعيدة» [5] الذي حاول أن يقدم العولمة على أنها ليست شراً أو خيراً في ذاتها،
ولا داعي للإفراط في وصفها بالوحشية أو الفتك والرعب ونشر الأجواء المفزعة
حولها.
ومن ثم فإن البشرية بحاجة إلى تكوين وعي عالمي له خاصية الاتصال
والتواصل على الأصعدة والمستويات المختلفة، لمواجهة المخاطر والتحديات التي
يتأثر فيها العالم كله، مثل: ظاهرة العولمة ومشكلات البيئة والتلوث، والاحتباس
الحراري، وقضايا الصحة والسكان والفقر والمجاعة ونقص الغذاء والمياه.
يقول زكي الميلاد في كتابه: «المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في
عالم متغير؟» [6] : إن المشكلة الحقيقية ليست في العولمة، وإنما جذر المشكلة
في تباين مستويات التطور الحضاري في العالم، الذي يجعل من الغرب الطرف
المستفيد من هذه العولمة، باعتباره أنجز مشروعه في التقدم.
والمشكلة مع الغرب أنه حوَّل مشروعه في التقدم إلى تكريس التبعية وضبط
آليات السيطرة على العالم.
فالمواجهة الحقيقية للعولمة هي عن طريق الإنماء والبناء وإنجاز مشروعات
التقدم والعمران.
يذهب صادق جلال العظم في مقالة له بعنوان: «ما هي العولمة؟» [7] إلى
أن العولمة هي عقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول
المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير
المتكافئ.
ويشير محمد عابد الجابري في مقالة له بعنوان: «العولمة والهوية
الثقافية» [8] إلى أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، وأنها مجرد آلية من آليات
التطور الرأسمالي يعكس إرادة الهيمنة على العالم.
وفي مقالته: «أصل العولمة وفصلها» [9] يقول جورج طرابيشي: إن
مفهوم العولمة لم يعرف الاستقرار بعد، وتبقى العولمة هي الظاهرة التاريخية لنهاية
القرن العشرين أو لبداية القرن الحادي والعشرين.
هذه العولمة، إذن، إنما تخدم مصالح وأفكار الطرف القوي في العالم،
وتطمس الأطراف الأخرى، وهي ليست العولمة التي يحتاجها العالم في هذه
المرحلة، أو التي يتطلع إليها مع القرن الحادي والعشرين.
فهذه العولمة التي عبر عنها الغرب ترتكز على الانتفاع المادي والجشع
الاقتصادي واحتكار الثروات ورفع القيود عن الأسواق والبضائع وامتصاص
الأموال، وهذه الأمور هي من أكثر العوامل سبباً وتحريضاً على النزاع والصدام
والصراع.
إن عولمة الغرب اقتصادية في الأساس تتوخى الربح والنفع المادي؛ والأبعاد
والحقول الأخرى التي ارتبطت بها كالثقافة والاجتماع والتربية والإعلام وغيرها
إنما وظفت لذات الغاية الاقتصادية النفعية.
إن الخوف الحقيقي على هويات العالم وثقافاته من اكتساح العولمة الغربية
وفرض الاتجاه الواحد جاء نتيجة وجود الضعف والضمور في بنية بعض تلك
الهويات والثقافات وتكويناتها، مما يستدعي ضرورة التجديد الداخلي لمزيد من
الحماية والمناعة والتحصين [10] .
ومن ثم، فإن العولمة التي يحتاج إليها العالم هي العولمة التي يشترك الجميع
في صنعها وصياغتها لا أن ينفرد طرف واحد بها ويسخِّرها لصالح امتيازاته،
ووفق فلسفته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كانت العولمة قد قوبلت في العالم باعتراضات شديدة وانتقادات قاسية،
فلأنها تخدم طرفاً واحداً، وتعبِّر عن رؤية هذا الطرف وهو الغرب.
إن العولمة تضع أمام المفكرين المسلمين سؤال المستقبل عن المشروع
الحضاري الإسلامي المعاصر الذي تجد فيه الأمم والحضارات خياراً واتجاهاً مقنعاً
وفعالاً ومختلفاً عن الخيار والاتجاه الذي يفرضه الغرب على العالم.
والمستقبل ليس مفتوحاً على الغرب فحسب، بل هو مفتوح على كل الثقافات
والأمم والحضارات وبحاجة إلى اكتشاف جديد في زمن زحف العولمة.
إن الأدبيات الإسلامية والعربية في هذا الوقت مطالبة وبإلحاح لتكثيف الحوار
والمناقشة والتباحث حول المشروع الحضاري الإسلامي، والآلية الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والإعلامية والفكرية التي تتناسب مع إمكانات وقدرات كل
دولة.
وأخيراً، فإن العولمة تستدعي من الأمم والحضارات أن تجدد نظرتها إلى
العالم وتعيد تقويمها حضارياً فهل ستكون العولمة آخر مطافات الغرب؟ أم أنها
ستكون قاعدة انبعاث الحضارات الأخرى؟
هذا يعني أن للعولمة أسئلتها الصامتة والمتجددة، وأنها ستفتح أكثر من
احتمال على العالم والمستقبل.
ورغم ما سبق، فإنه سوف يستمر الجدل الذي يختلط فيه المعقول باللامعقول،
والحقائق بالأوهام، والوقائع بالافتراضات، والموافق والمخالف، في قضية
العولمة! !
__________
(1) ص 43.
(2) كرولين طوماس وآخر «العولمة والجنوب» ص 30.
(3) إلينور كوفمن وآخر «العولمة النظرية والممارسة» ص 23.
(4) فيفيان فوستر «الرعب الاقتصادي» ص 7.
(5) آلان منك «العولمة السعيدة» ص 62.
(6) زكي الميلاد «المسألة الحضارية» ص 38.
(7) د صادق العظم «ما هي العولمة؟» ، ص 34.
(8) د محمد عابد الجابري «العولمة والهوية الثقافية» ، ص 2.
(9) جورج طرابيشي «أصل العولمة» ، ص 16.
(10) ميكل تومبسون وآخرون «نظرية الثقافة» ص 10، 11.(156/128)
في دائرة الضوء
ظاهرة القلق.. الأعراض والعلاج
لطف الله خوجه
نسمع أن في الغرب أعداداً هائلة من المصابين بالقلق والاكتئاب يضطرون
لزيارة عيادات الصحة النفسية بصفة دورية، وليس غريباً أن يكونوا كذلك، لكن
الغريب أن نسمع عن مثل ذلك بين المسلمين؛ فأعداد المترددين على العيادات
النفسية في ازدياد، وقد سمعنا منذ فترة أن شاباً مات منتحراً، فَلِم يحدث مثل هذا
عند المسلمين، وهذا القرآن والنور النبوي بين أيديهم، والعلماء الصادقون لا
يبخلون عليهم بنصيحة؟ أظن أن السبب هو الإغراق في الماديات.
فالغربيون مبدؤهم وحياتهم وأهدافهم كلها مادية، وليس لهم عناية بالجانب
الروحي، وهذا هو السبب في شقائهم، والمسلم الذي يبالغ في العناية بجسده مع
إهمال روحه يعتريه ما يعتري الكافر من ضيق واكتئاب وحاجة ملحة إلى زيارة
العيادات النفسية بصفة دائمة. إن الإنسان مخلوق من مادة جامدة أرضية محصورة
في نطاق معين، ومادة لطيفة روحية تسيح في العالم بلا حدود، وكل من هاتين
المادتين تحتاج إلى عناية خاصة؛ فالعناية بإحداهما دون الأخرى تنقص إنسانيته،
وذلك ينعكس سلباً على راحته.
وأكثر الناس اليوم يغلِّبون جانب المادة الجامدة (الجسد) فيسري هذا الجمود
إلى المادة اللطيفة (الروح) فتصبح كذلك جامدة محصورة في حدود الجسد،
فيفقدون إنسانيتهم ويصبحون قوالب حجرية لا تقبل التمدد؛ وترفض التوسع
والانشراح.
وأساس الراحة والطمأنينة الانشراح والسعة، وتلك القوالب الحجرية الجامدة
تمنع من ذلك فيحدث الضيق والقلق والاضطراب، فهذه نتيجة العناية بالمادة الجامدة
مع إهمال المادة اللطيفة.
لكن العناية بالروح والجسد كل بقدره يفسح المجال أمام هذه المادة اللطيفة أن
تعانق العالم العلوي، وأن تسري في مجال الكون الرحب الواسع، تنظر فيه وتتأمل
حقائقه، وترجع بالعبر المفيدة، والفوائد العجيبة، دون مانع أو قيد يكون من الجسد،
بل ربما سرت لطيفة الروح إلى الجسد فيزول عنه الجمود، وذلك مما يشرح
الصدر وينفس الكربات، ويزيل عن البدن أمراضه وعلله، وهذا حال من أعطى
كل شيء حقه، فلم يهمل حاجات الروح مقابل حاجات الجسد، قال الله تعالى:
[فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] (الأنعام: 125) .
إن الإنسان نصفه روح ونصفه جسد، فمن صار غايته في جسده لم يعد إنساناً،
أرأيتم في يومٍ ما نصف إنسان، ليس له إلا عين واحدة وأذن واحدة، وشق فم،
وشق أنف، وشق وجه وشعر، ويد ورجل واحدة؟ هل رأيتم صورة بشعة كهذه؟
فهذا مثل من جمد ولم يلطف. من نظر إلى جسده ولم يلتفت إلى روحه هو نصف
إنسان في كل شيء، لم يعرف من إنسانيته إلا الجمود والتحجر والقسوة والغلظة،
فأنَّى لمثل هذا أن ينعم أو يطمئن؟ إنه يخالف إنسانيته وطبيعته وخلقته التي خلقه
الله عليها، ومن رام مخالفة الإنسانية أو كسر الطبيعة أو تغيير الخلقة الربانية
انكسر وتشتت وضاع، وأحاط به القلق والاكتئاب، فيبحث عن المخرج فلا يجده
إلا في الانتحار، بعد يأسه من عيادات الطب النفسي أن يجد فيها الطمأنينة
والانشراح.
إن الله جل شأنه عندما خلقنا في هذه الدنيا لم يخلقنا هملاً، بل خلقنا لغاية،
وهذه الغاية باختصار أن نعبد الله وأن ندعو الناس إلى عبادته، ومن لازِم ذلك
عمارة الأرض بالقدر الذي يحقق تلك الغاية، وهذه العبادة منسجمة غاية الانسجام
مع إنسانيتنا؛ فالعبادة تلبي حاجة الروح. قال تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] (الأعلى: 14-15) ، والعبادة لا تحصل إلا بعمارة الأرض
بالسعي في الرزق وإعداد القوة لإرهاب العدو، وتلك تلبي حاجة الجسد. قال تعالى:
[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ] (الملك: 15) ، وقال: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) ، وبذلك تكون الإنسانية
متكاملة متوازنة فتستقر الحياة، وتحلو اللحظات، ويزول عنها أسباب القلق، فأنَّى
للقلق أن يغزو الإنسان إذا صار مدركاً لأهمية التوازن في الحياة بين حاجات الروح
والجسد؟ ولا يحقق هذا التوازن إلا المؤمن، ولذا فإنه يعيش حياة طيبة مطمئنة،
[الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد:
28) بعكس الذي يقدم حاجات الجسد فإنه يختل ميزانه، وتختفي حدود إنسانيته
فيدركه الشقاء، كالبقال الذي لا يملك ميزاناً يبيع به، وصاحب الأرض الذي لا
يعرف حدود أرضه، قال تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً]
(طه: 124) .
تقولون: قد عرفنا وسمعنا مراراً ما تقول؛ فاذكر لنا المخرج من هذا المأزق
الذي نقع فيه دائماً، مع معرفتنا أهمية العناية بالروح وأنه سبب السعادة إلا أننا
ننساق وراء الجسد فنشعر بخيبة الأمل والضيق يحاصرنا في كل مكان؛ فلا نحن
الذين علمنا فسعدنا، ولا نحن الذين جهلنا فاعتذرنا بجهلنا!
فالجواب أن نقول: لا تُنال الثمرة بالأماني والأحلام، إنما تُنال بالعمل والجد
والصدق؛ فنحن نعلم ونسمع دائماً مثل هذا الكلام، لكن من الذي يعمل له؟ إننا
نريد أن يدخل الاطمئنان في قلوبنا والعيش الهنيء بمجرد أن نسمع ونعلم دون أن
نعمل، وهذا خطأ، فلم يكن الإنسان ليبلغ الرزق بلا سعي، ولم يكن له أن يرزق
الولد بلا زوجة، ولم يكن له ليُشفى من المرض بلا دواء، وكذا لم يكن له ليطمئن
وينشرح صدره بلا عمل صالح وذكر دائم؛ فحاجات الروح كحاجات الجسد، وهل
يستغني المرء عن الطعام يوماً؟ هل يستغني عن اللباس وقتاً؟ هل يستغني عن
المسكن لحظة؟ كذلك لا يستغني عن الذكر والعمل الصالح؛ فهو محتاج إليه أعظم
من حاجته إلى الطعام والماء واللباس والمسكن بل والهواء؛ فإن حاجات الجسد إذا
امتنع منها فإن غاية ما في الأمر هلاك نفسه وبدنه، لكنه إذا امتنع من حاجات
روحه خسر الدنيا والآخرة، وكان في جهنم معذباً لا يموت فيها ولا يحيا.
هذا العالم المادي بدأ يجمع ما تناثر منه في الحقبة الماضية ويعود إلى رشده
بعد إلحاده ويقر بأن عبادة الله هي المنجاة من كل الأمراض الجسدية والروحية،
وعلماء العالم الماديون يعقدون كل سنة اجتماعات مكثفة لدراسة تأثيرات العبادة
والذكر على البدن، ويخرجون بتوصيات تتفق مع ما جاء به الإسلام من أهمية
العناية بالعبادة وخطورة الإغراق في الماديات؛ فهؤلاء أصحاب المادة والعلم المجرد
والإلحاد يقولون هذا، رجعوا عن إلحادهم بعد أن ذاقوا ويلات مخالفة الطبيعة
الكونية ومحاولة كسر الخلقة الربانية، وعرفوا أن الطريق الصحيح هو انسجام
الجسد مع الروح لا طغيانه عليه؛ فهل نحن بحاجة إلى اعترافاتهم ليؤمن بعضنا بما
جاء عن ربنا؟ نعم! فإن بعض المسلمين وهذا ما يؤسف له لا يؤمن ولا يطمئن
إلى الحقائق الكونية والشرعية إلا إذا جاءت عن العالم الغربي المادي، وهذا نوع
من الانهزامية والتبعية المقيتة التي تشكك في إيمان المسلم وتجعله عرضة للتقلبات،
لكن الله تعالى يقول: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) ، فنحن
نؤمن بما جاء عن الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يأتنا
دليل غيره، فما جاءنا عن الشرع كافٍ في حملنا على الاتباع؛ فثقتنا بربنا سبحانه
وبرسول ربنا صلى الله عليه وسلم أعظم من كل شيء.
ثم إننا ننبه إلى أمر هو غاية في الأهمية؛ فعندما نقول: إن العبادة تبعث
على السعادة والطمأنينة لا نزعم أن الدنيا تصبح جنة كجنة الآخرة، ينتفي منها كل
مظاهر الألم والحزن، لا، بل الذي ينتفي هو دوامه ولزومه.
أما الألم فهو موجود في الدنيا ولا بد؛ لأن الله تعالى خلق دارين: دار الدنيا
وهي مزيج من الخير والشر، ودار الآخرة وهي إما خير محض وذلك في الجنة،
وإما شر محض وذلك في النار، فما دمنا في الدنيا فلا بد إذن من الألم. قال تعالى:
[وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 155) ، لكن الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن
موعود بالثواب على الصبر، وعنده من العلم الإلهي ما يملأ نفسه صبراً ورضىً؛
فما من ألم يصيبه إلا ويكون كفارة له أو رفعاً لدرجته، ومهما صبر على المصائب
فإنها تنقلب في حقه هي بذاتها نعمة لما كان محتسباً، يقول صلى الله عليه وسلم:
«ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا أذى ولا همٍّ ولا غمٍّ حتى الشوكة
يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه» [1] وقال: «إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء،
وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله
السخط ... » [2] .
أعراض القلق:
لا يسلم الإنسان من الهموم؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، قال صلى الله
عليه وسلم: «أصدقها يعني الأسماء حارث وهمَّام» [3] فهذان الوصفان ينطبقان
على الإنسان، فهو حارث يسعى في رزقه، وهو همَّام يهتم لما يريده. والهموم
على نوعين: هموم دنيوية، وهموم أخروية، فأشرفها الأخروية، ولا يمكن
علاجها، وأما الدنيوية فيمكن علاجها، وهي إما أن تتعلق بالماضي أو الحاضر أو
المستقبل، أما الهم المتعلق بالماضي فإن سببه الإخفاق في عمل ما، أو الألم من
إساءة الآخرين، أو طلب الانتقام من المعتدين، أو الشعور بنكران الجميل من
القريبين، وأما الهم المتعلق بالحاضر فإن سببه الشعور بالنقص في الذات، وعدم
الثقة بالنفس.. وأما الهم المتعلق بالمستقبل فإن سببه الخوف من الإخفاق في عملٍ
مَّا، والخوف على النفس من الأذى، وعلى الرزق من الضياع.. هذه أهم أسباب
القلق، ومعرفة السبب أول العلاج.
فأما الهموم المتعلقة بالماضي: فعلاجها النسيان؛ فالرجل الذكي هو من يعيش
دقائق ساعاته دون أن ينبش ما في الماضي؛ فإن حوادث الإساءة والتعدي ونكران
الجميل والإخفاق أمور شائعة في كل مجتمع لا نتخيل العالم بدونها؛ فإن الناس
جائرون في أحكامهم إلا القليل، ومن النادر أن نجد من يعطي كل ذي حق حقه،
ولذا فمن الخطأ أن نتوقع الإحسان من الإنسان في كل شيء؛ فالظلم والجهل غالبان،
قال تعالى عن الإنسان: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72) والكامل
من غلبت حسناته سيئاته. إذا فهمنا هذه الحقيقة البشرية استرحنا من التألم من
إساءة فلان أو ظلم فلان أو جحوده، ولو كانوا أقرباء أو أبناءاً، وليس من الحكمة
أن نشغل أوقاتنا وقلوبنا بطلب الانتقام ممن ظلمونا، فأوقاتنا أثمن من أن نضيعها
في هذه الصغائر، ألا يكفي أننا أضعنا دقائقنا ونحن نستمع إلى إساءتهم؟ إن قلوبنا
الغضة تتألم وتمرض وقد تموت إذا نحن سمحنا لأنفسنا بإعادة التفكير في المآسي
الماضية، ولا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغه الجاهل من نفسه، فالجاهل يهلك
نفسه بما مضى، وعدوه في راحة مما هو فيه.. والإحسان إلى الناس عمل نبيل،
ومن كان نبيلاً ينبغي له ألا ينتظر ممن أحسن إليهم شكراً أو ثواباً، بل ينتظر
الثواب من الله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً] (الإِنسان: 8-9) ، فالمنتظر
ثوابه من الناس يرجع آسفاً متألماً، لكثرة الجاحدين، وقد لا يكونون جاحدين بل
ناسين غافلين.
إن الرجل المثالي يفرح أن يحسن للآخرين، ويخجل من إحسان الناس إليه؛
لأن تقديم الإحسان علامة التفوُّق، أما تلقيه فهو دليل الفشل. والإخفاق من طبع
البشر، فلماذا نتألم من حصوله؟ إن مخترع الكهرباء أجرى مئات التجارب ولم
يفلح في واحدة منها قبل أن يصل إلى التجربة الناجحة، ولو أنه توقف عند أول
تجربة منها لما اخترع المصباح؛ فليس الإخفاق عيباً بل العيب في اليأس، وليس
صحيحاً أن نتوقع النجاح في كل عمل.
وأما الهموم الحاضرة: وهي المستمرة في الإنسان، المتعلقة به على الدوام،
وهي في العادة تكون متعلقة بشخصيته، فعلاجها الثقة بالنفس. إن بعض الناس
يشعرون بالنقص، وسبب هذا الشعور أشياء متعددة، كأن يكون المرء فيه عاهة،
أو غريباً عن المجتمع في لونه أو جنسه، فيدفعه ذلك إلى التقيد أو الانزواء، وهذا
خطأ يولد القلق، لماذا يستحي الإنسان من شيء لم تعمله يداه؟ إن الله تعالى لحكمةٍ
مايز بين خلقه، وكل إنسان له عقل يستطيع أن يقدم الشيء الكثير لنفسه ولأمته،
ولو كان فيه نقص في بدنه. كان عطاء بن أبي رباح عالماً لا يفتي في مكة غيرُه،
وقد ذكروا أنه كان عبداً أسود دميم الخلقة جداً، لكن ذلك لم يمنعه من التطلع إلى
المستقبل حتى بلغ أعلى مرتبة، حتى إن الخليفة جاء وجلس بين يديه كالتلميذ يتعلم
منه، وقام وهو يوصي أولاده بالعلم، واليوم نسمع برجل مؤمن عظيم يقود شعباً
بأكمله وهو مشلول، وليس فيه شيء يتحرك إلا لسانه، يقودهم؛ لأنه لم يلتفت
يوماً إلى عاهته ونقص بدنه؛ فالإنسان في مقدوره أن يكون شيئاً عظيماً في كل
الأحوال ما دام يملك هذا العقل. إن 90% من شؤون حياتنا صحيحة، و10% فقط
هي التي تحتاج إلى تصحيح، أليس من الخطأ أن نتجاهل هذه التسعين وننتبه
للعشرة؟
وأما الهموم المتعلقة بالمستقبل: فهي التي دافعها الخوف، الخوف من الإخفاق
في العمل، والخوف على النفس من الأذى، والخوف على الرزق من الضياع،
وعلاجها غرس الأمل والشجاعة في النفس، والتعلق بالرب جل شأنه. فلماذا نتوقع
الإخفاق؟ إذا أقبلنا على عملٍ ما فلنتفاءل؛ فالفأل من الرحمن، وهو حسن ظن
برب العالمين، والتشاؤم من الشيطان، وهو سوء ظن برب العالمين، فإذا أخفقنا
في أمر فلنجابه هذا الإخفاق بهدوء وضبط نفس، ولندخل العمل ونحن متفائلون
نرجو أحسن النتائج؛ فإذا أخفقنا فلا بأس أن نسأل أنفسنا: ما هي أسوأ النتائج
المترتبة على هذا الإخفاق؟ وما هي الحلول الممكنة؟ وكيف يمكن البدء بأفضلها؟
إن الإخفاق شيء متوقع في كل مهمة؛ ولذا يجب علينا أن نوطِّن النفس على تحمل
النتائج السيئة فيما لو أخفقنا.
إن التفاؤل لا بد أن يكون رفيقنا، لكن يجب كذلك أن نتوقع الإخفاق ونهيئ
أنفسنا لتقبل نتائجه، ونفكر بهدوء في أمثل الطرق التي تخفف من آثاره. إن أنجح
الناس من يملك القدرة على أن يجعل المر حلواً، والإخفاق نجاحاً، وهو الذي
يحتال على الأزمات فيخرج منها غانماً أو سالماً.. أما الخوف على النفس من أذى
الناس فيكفي أن نعلم أن الأمور بيد الخالق، قال تعالى: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (الأنعام: 17) ،
وأن الناس لا يبلغون أن يضروا أو ينفعوا ولو اجتمعوا على ذلك.. وأما الخوف
على الرزق فهو خوف لا معنى له إذا علمنا أن كل إنسان لن يأخذ إلا ما قُدِّر له؛
وبدل أن يقلق الإنسان على رزقه كان ينبغي له أن يعد النعم التي يعيشها، فمهما
سُلِبَ الإنسان من نعمة فقد أبقى الله له نعماً مقابلها كثيرة، فقط لننظر في أنفسنا
جيداً، فإذا كان لدينا الماء الصافي والطعام الكافي واللباس الساتر والمسكن الذي
يُكِنُّ فإن علينا أن ألاَّ نتذمر أبداً.
علاج القلق:
إن وسائل القضاء على القلق كثيرة ومن أهمها: العمل؛ فالفراغ يولد الملل
والقلق، والانشغال بأي عمل مفيد يقي الإنسان شر القلق، وإن خير عمل يُذْهِبُ
القلق هو محاولة إسعاد الآخرين؛ فالذي يرسم البسمة على شفاه الآخرين يجد
البسمة في قلبه. ولا ريب أن إيمان المسلم بالقضاء والقدر أكبر معين على تخطي
حواجز الاكتئاب؛ فاسمعوا إلى قوله تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ
وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ] (الحديد: 22-23) ، فكل شيء مكتوب
مقضي مقدر، فلماذا الجزع والهلع؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قدر
الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» [4] . هذه
العقيدة إذا رسخت في النفس فإن الأثر هو ما بيَّنه القرآن الكريم: عدم الأسى على
ما مضى، وعدم الفرح بما يحصل، وإذا انضمت إلى هذه العقيدة عقيدة الإيمان
باليوم الآخر فإنه لا يبقى للقلق مكان في النفس؛ فإن الإيمان باليوم الآخر يورث
الإنسان الرضا بما يصيبه ابتغاء ثواب الآخرة، فإن لم يكن الرضا فالصبر،
والصبر مانع من القلق والملل.. ومن أعظم مُذهِبات القلق: توحيد الله وعدم
الشرك به؛ فالمشرك هو أعظم الناس قلقاً؛ ولذا فإن الانتحار في المشركين كثير،
وكلما عظم التوحيد تصاغر القلق، وكلما قلَّ التوحيد زاد القلق، ومن هنا نفهم لماذا
كانت: لا إله إلا الله، هي دعوات المكروب؟ لأن القلق من الشيطان، وكلمة
التوحيد تطرد الشيطان، وفي ذلك زوال القلق. يقول صلى الله عليه وسلم:
«دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين،
وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» [5] . وعن أسماء بنت عميس قالت:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب
أو في الكرب الله الله ربي لا أشرك به شيئاً» [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«دعوة أخي ذي النون؛ إذ دعا وهو في بطن الحوت: [لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] (الأنبياء: 87) ، لم يَدْعُ بها رجل مسلم في
شيء قط إلا استجاب له» [7] ، وكان إذا أكربه أمر قال: «يا حي يا قيوم،
برحمتك أستغيث» [8] .
وما سبب كثرة القلق بين المسلمين اليوم إلا ضعف توحيدهم، وسبب ضعف
توحيدهم كثرة معاصيهم وجهلهم بأمور التوحيد، لكنهم لا يقرون بهذا الجهل؛
فالكثير يزعم أنه يعرف أمور التوحيد التي تقيه من الشرك، لا لأنه تعلَّمها، لا،
بل لأنه نشأ بين أبوين مسلمين، في بلاد المسلمين، وكأن النشوء في بلاد المسلمين
يهب الإنسان علماً! وما هذا إلا تلبيس الشيطان، ولو أجرينا اختباراً بسيطاً في
أمور التوحيد وأمور الشرك لهؤلاء المتعالمين لوجدناهم أجهل الناس بما زعموا أنهم
به عالمون؛ إذ التوحيد لا ينال إلا بالتعلم والعمل؛ فمن علم وعمل واجتنب
المعاصي استراح من القلق.
إن أعظم وسيلة للشفاء من القلق هو الإيمان بالله، والمؤمن الحقيقي لا يصاب
بالقلق، وآلاف من البشر المعذبين بين أيديهم الشفاء لو أنهم تطلعوا إلى رحمة الله
بدلاً من أن يخوضوا معارك الحياة بمفردهم.
أما الهموم الأخروية فهي التي تتعلق بما يتعرض له الإنسان بعد الموت من
عذاب القبر وأهوال القيامة وأحوال الجنة والنار؛ فهذه الأمور لا ريب أنها مقلقة
ولا مخرج منها؛ فكيف للإنسان أن يسلم من الموت أو من أحوال القبر أو أهوال
القيامة؟ إما إلى جنة أو إلى نار؟ يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ]
(الحج: 1-2) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من
عذاب النار وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال في كل
صلاة.
إن هموم الدنيا بمقدورنا أن نتغلب عليها، أما هموم الآخرة فمن المحال أن
نتغلب عليها؛ لأنها آتية واقعة لا محالة: [فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ
مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] (الذاريات: 23) ، والتهرب منها نقص في العقل؛ فإن من
تعامى عن هموم الآخرة يسيء إلى نفسه مرتين: المرة الأولى بتغافله عن الحقيقة،
والثانية أنه يبعد عن نفسه سبباً هاماً من أسباب علاج القلق، وبيان ذلك: أن همَّ
الآخرة يدفع الإنسان إلى العمل الصالح والتوقف عن العمل السيِّئ الذي هو سبب
الشقاء. إذاً هموم الآخرة هي بذاتها تزيل الهموم، وهذا من أعجب الأمور.. هموم
تزيل هموماً؟ نعم! إذا صار الإنسان لا يهتم إلا لآخرته، ويخاف من الخسران
ومن النيران، فإنه سيقصر عن المعاصي التي هي من أهم أسباب الاكتئاب، وهو
بذلك يستريح من السبب الأعظم المسبب للقلق، وفوق ذلك، فإن من جعل الآخرة
همه كفاه الله هم الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت همَّه
الآخرة، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت
همه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما
كتب الله له» [9] .
وقد كان السلف رحمهم الله كثيراً ما يهتمون لأمر آخرتهم، ولا يهتمون لشيء
من أمر الدنيا، حتى كان منهم من يبول الدم خوفاً من الله، ومنهم من يصفرُّ لونه
إذا قام يتوضأ، بين جباههم كأمثال رُكَب المِعزَى من طول السجود، يعلوهم حزن
عميق، وعيونهم تنهمر على الدوام؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان كثير البكاء،
وعمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان كشِراك النعل من أثر البكاء، وكان
منهم من إذا ذكر الموت انتفض كما ينتفض الطير، وبعضهم إذا أوى إلى فراشه
تقلب وتأوه، لا يأتيه النوم من ذكره للنار، وقد عُرِضَ بول الإمام أحمد حين
مرضه على طبيب فقال الطبيب: «هذا رجل قد فتت الغم والحزن جوفه» [10] .
القلق كما ورد في القرآن:
والقرآن الكريم يصور حال هؤلاء القلقين في معرض المدح لهم، قال تعالى:
[أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) ، وقال تعالى: [وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم
مُّشْفِقُونَ] (المعارج: 27) ، إذاً فقد كانوا يقلقون ويهتمون، لكن شتان بين من
يهتم لآخرته، وبين من يهتم لدنياه؛ فالأول عبد لله حقاً، والآخر عبد لنفسه، عبد
للدرهم والدينار، عبد للخميصة والخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط:
[هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] (هود: 24) . كذلك من أنواع الهموم
الأخروية همُّ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكل من سلك
سبيل الدعوة فلا بد أن يقلق ويغتم؛ لأنه يدعو الناس إلى أمرٍ أكثرهم معرضون
عنه، فهو يحزن لأجل إعراضهم، وهو يتألم لأذاهم، وهو يخاف على مستقبل
الدعوة، وقد كان الأنبياء يعانون من هذا النوع من القلق أكثر من غيرهم؛ لأن
حياتهم كلها كانت في سبيل الله، وكل همهم كان في إصلاح الناس، ولنتصور
مقدار معاناة بعضهم حين يبذل وقته ونفسه وماله وأهله من أجل دعوة قومه ثم لا
يؤمن له إلا القليل، بل بعضهم لا يجد من يؤمن له، قال صلى الله عليه وسلم:
«عُرِضَتْ عليَّ الأمم، فرأيت النبيَّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان،
والنبي وليس معه أحد» [11] ، ونوح عليه الصلاة والسلام يمكث في قومه ألف
سنة إلا خمسين عاماً، ثم إذا ركب السفينة لم يركب معه إلا القليل: [قُلْنَا احْمِلْ
فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ
قَلِيلٌ] (هود: 40) . إن قلق الأنبياء كان شديداً للغاية، وقد صوَّر القرآن لنا
كثيراً من أوجه هذه المعاناة التي كانت تطوف بنبينا الكريم صلوات الله وسلامه
عليه قال تعالى: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ المُرْسَلِينَ * وَإِن
كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] (الأنعام: 33-36) ، وقال
تعالى: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً]
(الكهف: 6) ، أي مهلك نفسك حزناً عليهم، فمن شدة ما يصيبه من ألم وقلق
بسبب إعراض قومه كاد يهم ويترك بعض ما يدعوهم إليه خشية أن يكذبوه، قال
تعالى: [فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ
عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]
(هود: 12) ، لكن القرآن كان يخفف عنه، ويدعوه إلى التقليل من الحزن
والأسف. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ] (فاطر: 8) ، ويقول سبحانه: [وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي
ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ] (النحل: 127) ، وكم من آية في القرآن تبين للرسول
الكريم أن مهمته البلاغ لا الهداية: [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن
يَشَاءُ] (القصص: 56) ، [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ] (الشورى: 48) ، وكم من
قصة قصها الله في القرآن من أخبار الأولين من أنبياء ومرسلين تسلية له على ما
كان يصيبه من حزن وقلق جراء تكذيب قومه له، والله يذكِّره أنه ليس بدعة في
هذا الأمر، ويعده بالغنيمة والفتح القريب، ويذكر له أنواع النصر الذي
أنزله على المؤمنين: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ
نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (يوسف: 110-111) .
علماؤنا والموقف من القلق:
إن موضوع القلق كان محل عناية العلماء؛ فقد اعتنى بعضهم بجمع الآثار
التي تسلي الإنسان وتذهب همومه، نجد ذلك في كتب الأذكار كالأذكار للنووي،
وبعضهم أفرده بكتاب خاص، كتاب: «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين»
و «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم، وبعضهم أفرد
بعض أسباب القلق بمؤلف خاص مثل كتاب: «برد الأكباد عند فقد الأولاد»
لمحمد بن ناصر الدين الدمشقي، ومن الكتب التي اعتنت بعلاج القلق كتاب:
«دع القلق وابدأ الحياة» للمؤلف الأمريكي دايل كارنيجي [*] ، وهو كتاب جيد
في الجملة، اعتنى بالطرق العلمية والعملية لعلاج القلق، وهي طرق استفادها
من تجاربه الخاصة وتجارب غيره في الحياة، لكنَّ في الكتاب عيباً لا يخفى على
مسلم، هو أن مؤلفه كافر، وقد قلنا إن أساس الانشراح هو التوحيد، وأساس القلق
هو الشرك والكفر؛ فكيف لكافر أن يخط للناس طريق السعادة؟ ! هذا مستحيل،
فهذا الكاتب حشد في كتابه عشرات القصص والتجارب الحقيقية المفيدة لعلاج القلق،
إلا أن كل تلك العلاجات كانت أشبه ما يكون بالمخدر الموضعي الذي يطغى على
الألم بقوته لكنه لا يعالج المرض، فإذا زال أثر التخدير عاد الألم، وهكذا كان
يفعل هذا المؤلف، فكل آرائه ونصائحه في علاج القلق كانت سطحية خالية من
العلاج الناجع القاطع لأسباب القلق. ولعلكم لا تستغربون بعد هذا أن تعلموا أن هذا
المؤلف الذي كتب كتابه هذا الذي يدعو فيه إلى التفاؤل والأمل قد مات منتحراً، قال
تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) ، فأي طريق لعلاج القلق مهما كان جميلاً
وتجربة صحيحة فإنه يبقى علاجاً مؤقتاً ما لم يخالطه الإيمان بالله والتحلي بدين
الإسلام. والمسلم هو أوْلى من يتصدى لهداية البشر إلى السعادة ونبذ القلق؛
فأين هو عن هذه المهمة النبيلة التي هي من أهم الواجبات المنوطة به؟ تلك هي
أهم أسباب القلق وأنواعه وعلاجه، أرجو أن أكون وُفِّقت فيما قدمت وبينت،
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) رواه البخاري، ح/5210.
(2) رواه الترمذي، ح/2320.
(3) رواه أحمد، ح/1858.
(4) رواه مسلم، ح/4797.
(5) رواه أبو داود، ح/4426.
(6) رواه أبو داود، ح/1304.
(7) رواه الترمذي، ح/3427.
(8) رواه الترمذي، ح/3446.
(9) رواه ابن ماجه، ح/4595.
(10) سير أعلام النبلاء، 11/336.
(11) رواه البخاري، ح/5311.
(*) للشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتاب قيم بعنوان: (جدد حياتك) من خيرة ما ألف وهو قراءة جديدة وإعادة لما كتبه (كارنيجي) في كتابه المذكور لأصوله الإسلامية، وهو كتاب جيد في بابه.
- البيان -(156/132)
قضايا ثقافية
الإبداعية الجماعية
(2 -2)
بقلم: جان كلود أبريك ترجمة: محمد بلحسن
راجع ترجمته وقدَّم له وعلَّق عليه: د. محمد أمحزون
في الحلقة الماضية مهد الكاتب لمراجعته بالإشارة إلى تقدم الغربيين في «علم
النفس الاجتماعي» وما هي الجوانب التي يهتم بها هذا العلم. ثم تطرق إلى مقدمة
المؤلف التي تحدثت عن اهتمام علم النفس بالإبداع، وبين ماهية الجماعة التي
تفضل التغيير، ثم الجماعة التي تفضل المخاطرة، وألمح إلى عدم تجانس الجماعة
وأثره في الإبداعية، وانتقل إلى الكلام عن الزعامة والإبداعية، فتحدث عن الزعيم
المستبد، وعن الزعيم الشوري، والزعيم الاسمي، ثم بين أنه إذا كان هدف
الجماعة هو الإبداعية فالقيادة الشورية هي الأكثر إنتاجاً وعطاءاً، وفي هذه الحلقة
يتابع الكاتب مراجعته القيمة. البيان
مهمة وإبداعية الجماعات:
الأبحاث التي سوف نعرضها الآن تدرس جميع العلاقات التي تجمع بين
«طبيعة المهمة» المنجزة من طرف الجماعة و «السلوك الاجتماعي
والشعوري والإداري» لهذه الأخيرة، ويتبيّن من خلال الأبحاث أن ظاهرة
الجماعات محدّدة مباشرة بأربعة أنظمة معادلة، سوف ندرسها على التوالي:
(أ) تلاؤم «نموذج المهمة» مع «شبكة الاتصال» فلامون
(Flament) 1965م:
تعني «شبكة الاتصال» مجموع الإمكانيات الحقيقية للاتصال بين أفراد
جماعة ما، ويمكن تقديمها على الشكل الآتي:
إن عدداً كبيراً من الأبحاث المنجزة في الولايات المتحدة في سنوات
الخمسينيات أظهرت كيف أن قدرة جماعة على التنافس، ونوع الزعيم،
والاتصالات: هي محدّدة بواسطة شبكة الاتصالات المفروضة على الجماعة.
وتبدو النتائج متناقضة: لأن الشبكة المركزية تظهر أحياناً عنصراً مسهلاً، وأحياناً
مشوشاً على كفاءة الجماعة.
ويرجع الفضل لفلامون في إزالة كل هذه المتناقضات بإدخال مفهوم جديد
لدراسة الجماعات: وهو: «نموذج المهمة» .
فنموذج المهمة أُنجز بواسطة تحليل منطقي رياضي لتطوير الاتصالات
الضرورية لإنجازات اجتماعية أفضل: فهو مجموع الاتصالات الصغيرة
الضرورية، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المهمة. وأظهر فلامون أن كفاءة
الجماعة وقدرتها على التنافس تكون أفضل عندما يكون هناك تماثل أو تطابق بين
شبكة الاتصالات ونموذج المهمة. وبمعنى آخر: فشبكة الاتصالات ليست لها
مميزات خاصة، وينبغي أن ترتبط دائماً بنوع المهمة المنجزة [4] ؛ فهذا هو نظام
الملاءمة الأول الذي يدير ظاهرة الجماعات: تلاؤم أو تطابق «نموذج المهمة»
مع «شبكة الاتصال» .
(ب) تلاؤم طبيعة المهمة مع بنية الجماعة:
سوف يتحول اهتمام موسكوفيسي وفوشو (Foucheax / Moocovici)
عن دراسة شبكات التواصل لينصبَّ على تحليل العلاقات الرابطة «لبنية
الجماعة» [5] وطبيعة التواصل الفعلي المتبادل داخل الجماعة.
والجماعات التي تمّ انتقاؤها للاختبار تضم كل واحدة منها أربعة أفراد، تواجه
على التوالي مهمتين نوعيتين:
* أشكال أولر (Euler) : نعرض للأفراد ألواحاً بها أشكال رسمت من
خلال تقاطع خطوط وأعمدة، وهي عبارة عن مربعات منسقة. نجد في كل خانة
حرفاً (أ، ب، ج) ورقماً (1، 2، 3، 4) ، علماً بأنه لا يسمح بتكرار نفس
الحرف ونفس الرقم على الخط الواحد والعمود الواحد، وأن التوفيقات (أ 1، ب
2، د 3، ج 4) غير جائزة. يطالب الأفراد باكتشاف التوفيقات: س (x) من
أجل ملء الخانات. وهذه المهمة تفرض استعمال حساب رياضي من أجل بلوغ حلّ
يقدّم جواباً صحيحاً واحداً.
* أشجار ريجي (Riguet) : المطلوب من الأفراد تركيب سبعة عيدان
بطريقة تمكّن من الحصول على أشكال مختلفة، يختلف كل شكل عن آخر إذا تمّ
تركيبه بطريقة لا تفضي بعد دورانه إلى شكل تمّ اقتراحه. وباستثناء البنيات
المغلقة نستطيع تركيب 23 شكلاً مختلفاً فقط. وهذه المهمة بالغة التعقيد عن سابقتها،
إلى حدّ أنه لم تكشف الطريقة السليمة لاستخراج جميع الأشكال، ولذلك فهي
توجب استحضار سلسلة من الاستنتاجات والابتكارات.
تتطلب المهمتان من أفراد الجماعة سلوكيات معينة وخاصة؛ إذ يفترض لتأدية
مهمة «حلّ المسألة» إيجاد تنظيم وتنسيق بين أفراد الجماعة؛ وذلك لما تفرضه
هذه المهمة من وضع استراتيجية مشتركة بين العاملين، في حين أن المحاولات
الفردية المبذولة لتأدية مهمة الإبداعية، والتي لا تخضع لتنسيق سابق بين أعضاء
الجماعة لا تعيق سير العمل من بلوغ الأهداف المرسومة، بل على العكس، فإن
هذا النهج هو المطلوب في هذه الحالة شريطة أن يتم تصويب هذه الاجتهادات
الفردية وضبطها فيما بعد من طرف الجماعة ككل.
تختلف إذن كل من الضغوط والضرورات الإدراكية [6] للمهمة اختلافاً جذرياً،
ولهذا يفترض الباحثون أن الضغوط التي تمارسها المهمة هي المحددة الفعلية
لدينامية (حركية) الجماعة. «على أنه توجد علاقات متكافئة بين كل من
» طبيعة المهمة «و» بنية التواصل «داخل الجماعة، ومدى قدرة الأخيرة على
» حل المسألة «. وتؤكد النتائج هذه الفرضيات (انظر الجدول رقم 2 أدناه) .
نستنتج فعلاً أن مهمة» حلّ المسألة «تشجع على ظهور بنية مركزية للجماعة،
بالمقابل فإن» مهمة الإبداعية «تقود نحو إفراز جماعات ذات بنيات متجانسة؛
بمعنى أن كلّ الأفراد متكافئون، ولا توجد أية تراتبية هرمية تجدد عطاءاتهم
وإنتاجاتهم.
فضلاً عن ذلك، فإن عطاء الجماعة يكون أحسن إذا ما تبنّت هذه الأخيرة
علاقات تواصلية ذات بنية تلائم نوعية المهمة:» بنية مركزية « [7] عندما يخصّ
الأمر مهمة» حل مسألة «. و» بنية غير مركزية « [8] في حالة مهمة
» الإبداعية «.
وعلاوة على ذلك، فإن كل نوع من المهمات ينتج نوعاً خاصاً من التواصل
داخل الجماعة:» تواصل خطابي «موجه لمجموع أفراد الجماعة، ويحتوي أساساً
على معلومات في حالة مهمة تستوجب إيجاد حلول لمسألة معينة.» تواصل متبادل «
يشمل مجموع أفراد الجماعة ويتبنى توجهاً نقدياً في حالة الإبداعية.
أخيراً نستنتج أن الجماعات من أجل تحسين مستوى عطاءاتها، تغير بنيتها
(تركيبتها) التواصلية بمجرد إنجازها للمهمة الأولى، وذلك لتتلاءم مع طبيعة
الضغوط التي تفرزها المهمة اللاحقة.
على أن مجموع هذه النتائج يبيّن: أن طبيعة المهمة هي المحدد الفعلي
والحقيقي لبنيان الجماعات، وكذا طبيعة التواصل المطلوب بين الأعضاء ونوعيته،
وأن إنتاج الجماعة وعطاءها يصبح فعلياً وأكثر حضوراً على مستوى الواقع إذا
ما استطاعت الجماعة اتخاذ بنية (تركيبة) تماثل (تكافئ) بنية المهمة [9] .
وهكذا فإن مستوى إنتاج الجماعة يتحدد فعلاً من خلال نظام كامل للتلاؤم:
تلاؤم» طبيعة المهمة «و» بنية التواصل «داخل الجماعة.
(ج) تلاؤم طبيعة المهمة مع البنية الاجتماعية للجماعة تتميماً للتحليلات
السابقة:
عملت أبحاث بواتو وفلامون: على دراسة التفاعل الحاصل بين البنية
الاجتماعية للجماعة التي تم تحديدها من خلال الاختبارات المعيارية [10] للعلاقات
الاجتماعية، وكذا الاختلافات الوظيفية لأعضاء الجماعة وطبيعة نموذج المهمة.
ولن نعرض هنا تفاصيل الترتيبات التجريبية، وكذا تفاصيل المهمة: كونها بالغة
التعقيد، وسنكتفي فقط بالإشارة إلى أن الجماعات: تضم كل واحدة منها ثلاثة أفراد
تربطهم علاقة تراتبية (هرمية) .
وتختلف كل جماعة عن الأخرى، من حيث طبيعة بنيتها الاجتماعية.
تقوم الفرضية العامة التي قدّمها الباحثون والتي تم التحقق منها على مستوى التجربة
من افتراض أن الجماعات تكون أكثر عطاءاً بشكل ملحوظ عندما تتلاءم بنيتها
الاجتماعية مع طبيعة نموذج المهمة، مما يدفعنا إلى استنتاج وجود ما يسمى:
» مبدأ التلاؤم الوظيفي الرابط لبنية المهمة مع البنية الاجتماعية للجماعة «.
ولهذا فإن كل جماعة ترغب أن تكون منتجة ومعطاءة، يجب عليها أن تتوفر
على بنية اجتماعية معينة ملائمة لطبيعة المهمات المنوطة بها. وبالإضافة إلى ذلك
فإنّ التلاؤم الحاصل بين الجماعة وطبيعة المهمة يعمل على تقوية العلاقات بين
أفراد الجماعة كلهم.
وبهذا يمكن البرهنة على النظام الثالث للتلاؤم، والذي يربط طبيعة المهمة
بالبنية الاجتماعية للجماعة.
خلاصة: إن معرفة العوامل الموضوعية الخاصة بالجماعة: شبكة العلاقات،
والبنية الاجتماعية للجماعة، وكذا طبيعة المهمة المراد إنجازها تسمح بالإحاطة
معرفياً بالديناميكية [11] الاجتماعية والتصورية للجماعة والتنبؤ بمسيرتها ونموها.
(د) تلاؤم تصور المهمة مع طبيعة المهمة:
يمكن تعريف تصور المهمة (البعد الرمزي) على أساس أنه» نظرية أو
نسق من الافتراضات ينتجه أفراد الجماعة حول طبيعة المهمة، غايتها، الوسائل
الكفيلة لإنجازها، وكذا مجموع السلوكيات الضرورية من أجل بلوغ حدٍ مُرضٍ من
الفعالية والحضور على مستوى الواقع «.
تتكون الجماعة الممتحنة من أربعة أفراد، يطلب منها القيام بإحدى مهمتي
فوشو وموسكوفيسي (Faucheux - Mascovice) : الأولى: مهمة» حل
المسألة « (أشكال أولر Euler) والثانية: مهمة الإبداعية (أشجار ريجي
Riguet) .
يعمل المُخْتبر أثناء كل مهمة من المهمتين على تمرير تصورين مختلفين،
وذلك عبر استمارات مستقرِئة ومسهلة لتداعي الأفكار:
تصور المهمة: يقال لعناصر الجماعة من أجل حثهم على تصور المهام
موضوع الاختبار: إن هذه الأخيرة ترتكز على الاستنباط: المنهج والتفكير الدقيق.
تصور الإبداعية: حيث يبدو لأفراد الجماعة أن المهمة تعتمد على الإبداع:
الجِدَّة والابتكار.
وتُظهر الفرضيات الأساسية للبحث، والتي تم التحقق منها على مستوى
التجربة استنتاجين:
يحدّد تصور المهمة درجة فعالية (عطاء) الجماعة؛ إذ إن تصورين مختلفين
لنفس المهمة يؤديان إلى بروز درجتين من الفعالية.
تصل فعالية الجماعة حدودها القصوى في حالات تلاؤم» تصور المهمة «مع
» طبيعة المهمة «، (انظر الجدول رقم (3) أدناه) .
إن» تصور المهمة «يحدد السياق الحركي للجماعة؛ إذ يشجع على ظهور
نشاط المراقبة بين المستويات المكونة لهرمية الجماعة:» طبيعة المهمة «التي
تستوجب ضرورة تكوين بنيات تواصلية هرمية، في حين تشجع» مهمة الإبداعية «
عناصر الجماعة على الإنتاج المتنوع والأكثر حدة.
فالتصور يحدد إذن نوع النشاط الذي سوف يسيطر على الجماعة، والذي
يدفع هذه الأخيرة إلى تحقيق إنجازات معينة.
وإجمالاً، تعمل مجموع هذه النتائج على إبراز نظام رابع للتلاؤم يسهم في
تسيير ظاهرة الجماعة؛ فتصل الجماعة حدوداً قصوى من العطاء والفاعلية عندما
يتحقق التلاؤم بين تصور المهمة وطبيعة المهمة.
تقييم تنافس وإبداعية الجماعات:
إذا كان التوجه السائد في علم النفس الاجتماعي هو أن تقييم الجماعات يوقف
إبداعيتها، فإنه من الثابت أن القليل من نتائج التجارب يساند هذا الرأي. وفيما
يتعلق بنتائج المسابقات المنظمة بين عناصر الجماعة الواحدة أو فيما بين الجماعات،
فلا يبدو أنه بإمكاننا أن نستنبط من هذه النتائج المتعارضة المحصل عليها إلى
الآن توجهاً ما أو خلاصات متماسكة.
ومن وراء لفظة» إبداعية «يبرز مشكل إضافي ناتج عن إمكانية دراسة
ظواهر ذات طبيعة مختلفة أو أبعاد مختلفة لنفس الظاهرة. غير أنه يبدو جلياً أن
هذه المتغيرات سياق التقييم، سياق التنافس بإمكانها أن تؤثر بكيفية مميزة على
مختلف مكونات النهج الإبداعي. ويبدو لنا أن التجربة الحديثة نسبياً التي قام بها
جلوفر (Glover) سنة 1979م توضح وتبرهن بما فيه الكفاية على صحة هذا
الرأي.
وتدرس هذه التجربة النتائج الخاصة بثلاث حالات للجماعة:
حالة تأخذ بعين الاعتبار قدرات الجماعة على التنافس من خلال سياق التقييم
والتنافس بين الجماعات.
حالة تأخذ بعين الاعتبار قدرات الفرد على التنافس من خلال سياق التقييم
والتنافس بين عناصر الجماعة الواحدة.
حالة تغيّب أهمية قدرات الفرد أو الجماعة على التنافس، وكذا كل تقييم أو
تنافس بين عناصر الجماعة الواحدة أو فيما بين الجماعات.
تقسم الموضوعات على جماعات من ستة أفراد؛ وعليها أن تحقق مهمة متبعة
من خلال اختبارات الإبداعية: أي إيجاد كل الاستعمالات الممكنة لمعطيات معلومة.
في مرحلة أولى: تشتغل جميع الجماعات في نفس السياق غير الخاضع
لعمليتي التقييم والتنافسية. وفي مرحلة ثانية: يقوم المشرف على التجربة بإدراج
التعليمات المصوغة للشروط التجريبية الثلاثة.
وتكمن أهمية عمل جلوفر في كون اهتمامه لن يرتكز على النتائج الخاصة
المحصّل عليها من لدن الجماعات، بل على النتائج المحصل عليها من خلال أربعة
أبعاد مختلفة لهذا الناتج.
في حالة السلاسة: يكون عدد الأجوبة مختلفاً.
في حالة المرونة: يكون عدد الأجوبة النموذجية مختلفاً.
غنى الإعداد: أي مدى القدرة على إغناء الجواب.
الأصالة: وتحدّد من خلال عدد الأجوبة النوعية أو المتفرّدة.
هذا وتبيّن النتائج أن كل سياق له تأثير خاص على مختلف الأبعاد الإدراكية للمهمة
(انظر الجدول رقم (4) أدناه) .
يساعد السياق غير الخاضع للتقييم والتنافس على الإثراء والابتكار المتعلقين
بإنتاج الجماعة غير أنه يقلّص من سلاسته ومرونته.
يساعد السياق» التقييمي التنافسي «على سلاسة الجماعة ومرونتها، إلا أنه
يحول دون إثراء إعدادها وأصالتها.
يؤدي التركيز على الجماعة في الوضعيتين: التنافسية والتقييمية إلى حصول
السلاسة والمرونة الإدراكية أكثر مما يتم الحصول عليه عند التركيز على أفراد
الجماعة؛ في حين لا يؤثر ذلك على تطور الإعداد والأصالة لديها.
وتبدو لنا هذه النتائج ذات أهمية بالغة إذا ما أكدتها أبحاث أخرى؛ ذلك أنها
ستسمح باستنباط تحليل جديد لإبداعية الجماعات، حيث سيلعب تحليل النظم
الإدراكية الذي تمّ استعماله في الإبداعية دوراً حاسماً، كما سيسمح عند الاقتضاء
بتفسير التناقضات الملموسة بين بعض النتائج.
مناهج وتقنيات الإبداعية في إطار الجماعات:
لنترك الأبحاث التجريبية جانباً، ونتطرق للإبداعية في مظهرها الآخر:
إبداعية مجموعة من المناهج المعدّة لتحديد قدرات كل فرد، لابتكار حلول جديدة ...
وبمغادرتنا المختبر وعالمه القاتم، سنلج عالم التعبير العفوي والتحرري؛ حيث
تبدو البشاشة والضحك والفكاهة ورفض الآراء شروطاً لازمة وضرورية لتطوير
الإبداعية.
ومهما كانت تقنيات الإبداعية، فإنها تسعى فعلاً إلى تحقيق هدف واحد هو
رفع الضغوط العاطفية والاجتماعية أو الإدراكية التي تعمل على تقييد الخيال
الإبداعي.
ونجد من بين أهم عوائق الإبداعية:
التقاليد والعادات الفردية والجماعية [12] : يجب إذاً الحد من كل مقاومة تعرقل
التغيير.
السلطة وثقل الأنظمة والبيانات: يجب العمل على إزاحة الخضوع للسلطة؛
سواء كانت سلطة رئيس أو سلطة خبير [13] .
عالم الضوابط الاجتماعية والإدراكية: يجب التغلب على الامتثالية [14]
والتماثل [15] .
العقل: أطره وحدوده وقواعد عمله: يجب الانسلاخ عن السلوك العقلاني أو
تعليقه أثناء مراحل الإبداع [16] .
ومن أجل رفع هذه العراقيل تم إعداد حالات مختلفة تسعى جميعها إلى تحقيق
الهدف نفسه: ألا وهو تحرير العفوية التي تُعتبر أساس الفكر الإبداعي. ومن ثم
تبدو أهمية هذا المناخ الودي، واستعمال كل وسائل الإثارة الفكرية والعاطفية التي
تهدف إلى استرجاع أو خلق وضع ونظرة جديدة إلى الأشياء والأفكار المقبولة على
العموم، وليس بإمكاننا طبعاً تقديم كل هذه التقنيات في إطار هذا البحث، غير أن
معظمها لا يشكل سوى متغيرات للمناهج الأربعة التي آثرنا تقديمها لاحقاً.
1 - تحفيز الإبداع (Lebrainstarming) والتقنيات المشتقة
عنه:
» تحفيز الإبداع «تقنية نشيطة، عرف وما زال يعرف نجاحاً هائلاً،
ضبطه منذ 1938م أوسبورن (Osbarn 1962 / 1921) عندما كان يشغل
منصب مدير وكالة إشهارية بالولايات المتحدة. ولا يزال» تحفيز الإبداع «مع
التقنيات المشتقة منه أحد أكبر الوسائل المعتمدة في دراسة الأسواق من لدن معظم
المصالح العمومية الأمريكية، وعدد كبير من المقاولات والمنظمات.
أ - المنهج:
يرتكز تحفيز الإبداع على مبدأين أو فرضيتين أساسيتين:
ضرورة فصل دالَّة الإنتاج والبحث عن أفكار دالَّة التقييم والحكم (إيجابي أو
سلبي) .
يفضل تحقيق تحرير الإبداعية عن طريق الجماعة شريطة أن تكون
الاجتماعات منظمة ومنشطة بإتقان.
وتستلزم التقنية في حد ذاتها ثلاث مراحل:
* المرحلة الأولى: الإعداد، ويتعلق الأمر بتحديد محور الدراسة فضلاً عن
تكوين جماعة من عشرة إلى اثني عشر فرداً غير متجانسة ما أمكن.
* المرحلة الثانية: تتكون من جلسة تحفيز الإبداع ذاتها التي تتراوح مدتها
بين نصف ساعة وساعة واحدة ويسيّرها منشطان اثنان. والهدف المحدد للجماعة
هو تقديم أفكار مع التقيّد بالقواعد الأربعة الآتية:
يمنع خلال الجلسة إصدار أي حكم نقدي (إيجابي أو سلبي) .
تشجيع الخيال الحرّ: يجب صياغة كل الأفكار مهما كانت غريبة ووهمية.
المطلوب في هذه المرحلة هو كمية الأفكار وليس كيفيتها.
أخيراً المبتغى هو قرصنة أفكار الآخرين، أي من الممكن في هذا الصدد جمع
وخلط وتتميم الأفكار المعبّر عنها من طرف باقي أفراد الجماعة.
* المرحلة الثالثة: وتتم فيها عملية فرز وانتقاء وتمحيص حصيلة هذه الأفكار،
ويتم إنجاز ذلك في أعقاب الجلسة من طرف مجموعة صغيرة مختلفة عند
الاقتضاء. وبالإمكان اعتبار معدل 10% من الأفكار المعبّر عنها خلال جلسة
» تحفيز الإبداع «هو الصالح للاستعمال.
ب - التقنيات المشتقة:
* الفكرة الرئيسة: يرى أوسبورن (Osborn) أن تجميع الأفكار يلعب
دوراً أساسياً في الإبداعية؛ حيث تنبثق أحسن الأفكار عن الخلط والتجميع
المرتكزين على المحاكاة والمفارقات والتقارب. ويمكن لهذا البحث أن ينجز بحرية،
كما يمكن بواسطة طرف الاستفهام (الأسئلة) إما لذاتها أو مندمجة مع حصة من
حصص» تحفيز الإبداع «.
* منهج البيانات الاستقرائية: يرتكز على تكوين أفكار انطلاقاً من الشبكة
التالية: وضع قاعدة تفكير، واكتشاف استعمالات جديدة لشيء ما مثل: عبّر، كبّر،
كيّف، قلّل، استبدل، أعاد الترتيب، قلب، خلط.
* منهج حذف أو تغيير عناصر موجودة: يرتكز على تكوين أفكار انطلاقاً من
حالات خيالية مرتبطة بالمحور أو الشيء المدروس، مثلاً ماذا كان سيجري:» لو
اختفت الكهرباء فجأة من الكون؟ «أو لو نما إبهام ثان في اليد اليمنى؟» أو «لو
تضاعف ثمن الخبز والدقيق مائة مرة؟» .
ومن جهة أخرى يمكن استعمال هذا المنهج إما لإطلاق عملية البحث عن
أفكار حول محور ما، أو كمنهج تربوي تكويني للإبداعية: إنه يسمح فعلاً بالتمرن
على عدم التمركز الإدراكي وعلى المرونة والأصالة.
ج - أبحاث مختبرية فحصية:
يعتبر «تحفيز الإبداع» (Braingtorming) أحد المناهج القليلة المحثة
على الإبداعية والتي أثارت العديد من الأبحاث المختبرية، للتأكد من صحة المبدأين
الأساسيين المقترحين من لدن أسبورن (Osborn) . ونؤكد أن نتائج هذه
الأبحاث المختبرية (انظر روكيت 1976: Rouquette) جاءت مخيبة لآمال
مؤيديها (أي لم تأت تماماً كما كان يأمل مؤيدوها) ؛ فإذا كان المبدأ الأول الذي
يقول بوجوب فصل عمليتي إنتاج الأفكار وإصدار الأحكام حولها قد تحققت فعاليته
بامتياز على مستوى التجربة، فإن المبدأ الثاني الذي يحث على ضرورة إحداث
عمل جماعي من أجل رفع مستوى الإبداعية لم يتمّ استيفاؤه مختبرياً.
ومن دون الدخول في جدل المقارنة بين حالتي الجماعة والفرد، فقد اتضح
من خلال استقراء نتائج المهمات المدروسة داخل المختبر أن «تحفيز الإبداع»
(Braingtorming) في حالة الجماعة يؤدي إلى مستوى إبداعي مشابه (مقارب)
للذي نحصل عليه في الحالات الفردية.
2 - السينكتيك La synectique:
يستند منهج «السينكتيك» أساساً على الاستعمال الواعي والمنظم للاستعارة
(أو المجاز) ، ويهدف إلى تكوين الفكر الإبداعي المناسب للجماعة، ثم استعماله في
تحليل المشاكل الملموسة.
ويدور منهج جوردون (1965: Gordon) وفكرته المركزية حول اعتبار
الاستعمال الاستكشافي للاستعارة أساس الإبداعية، ومن ثم سنتعلّم وسندفع الجماعة
إلى جمع وخلط وتقريب العناصر التي تبدو في الظاهر دون علاقة فيما بينها.
يتعلق الأمر إذاً بجماعة تهدف إلى تحويل الغريب إلى مألوف والمألوف إلى
غريب. والمحاولة التي تمّ تحقيقها جماعياً وتستعمل دينامية (حركية) الجماعة؛
محاولة تستلزم خلق جو من الاطمئنان واللهو والمتعة حتى يسترجع المشاركون
نظرة الطفل وسلوكه تجاه الواقع؛ فاللعب باعتباره سلوكاً ذهنياً وملكة إبداع هو
الجواب الصحيح عند الكبير عن سلوكيات الطفل وملكاته، ولا يعدو الأمر بالنسبة
للكبير أكثر من اكتشاف حالة الطفولة في حين نعتبر على العموم الكبير الذي يجد
متعة في اللعب طفولياً. وعلى العكس من ذلك تعتبر «السينكتيك» أن هذه الحالة
يجب الاعتناء بها واستغلالها بتأنّ بهدف تشجيع الحركة الإبداعية [17] .
على أنه سيتحقق انقلاب في وجهات النظر والنظرة الجديدة المتوخاة بواسطة
تقنية تقتضي الاستعمال المنهجي لثلاثة أنواع من التماثل:
التماثل الشخصي: ويقتضي مطالبة المشاركين في الاختبار بالتماثل مع
عنصر من عناصر المسألة المدروسة ثم تصور ردود الأفعال والسلوكيات
والأوضاع التي سيصبحون عليها حينئذ [18] .
التماثل المباشر: ويقتضي استعمال معارف مادةٍ ما في ميدان مادةٍ مختلفة؛
فيمكن مثلاً الرجوع إلى البيولوجيا الحيوانية لدراسة مشاكل إطلاق القذائف البحرية،
أي أننا ننقل معلومات ميدان معلوم لإيجاد حلول مسألة في ميدان مغاير.
التماثل الرمزي أو الخيالي: يقتضي استبدال مادة الإشكالية (محلّ الدرس) :
إما بصورة رمزية (الكويرة من الكريستال بالنسبة لاختبار بسيكولوجي نفسي
مثلاً) أو رسوم كلمية [19] تستند إلى عنصر التعجب والخيال واللا معقول إلخ.
ويتعلق الأمر هنا بترك المجال حرّاً للأوهام والتعبير الشعري والحُلم، بكيفية تجعل
إنتاج أفكار جديدة أو أسلوب جديد يتصدى للمسألة.
ويمنح منهج «السينكتيك» امتيازاً للجماعات الأكثر تبايناً بكيفية تجعل
فوارق الرأي تزداد حدة، وفضلاً عن ذلك، يكون أعضاء هذه الجماعات قد
تعرّضوا لعملية انتقاء بناءً على اختبارات ومحادثات ترتكز على «سلوكهم
الاستعاري» ، وقد رتبهم على عدم التمحور الذاتي والإدراكي، ويتوزع التكوين
على عدّة أشهر ويضم ثلاثة أطوار:
ففي طور أوّلي تتفاعل الجماعة بكل عفوية مع المسألة المطروحة التي تحاول
تحديد كل مظاهرها، بما في ذلك الأكثر غرابة، ويؤول هذا الطور إلى كشف
الأبعاد الواجب تحليلها. ويعتبر الطور الثاني مرحلة إنتاج ترتكز على الاستعمال
المنهجي للمعادلة القياسية. وفي الأخير تتم العودة إلى الواقع ضمن مرحلة ثالثة،
وذلك لدراسة مختلف الحلول المرتقبة وتكييف الحلول القياسية مع المسألة الملموسة.
وقد عرف المنهج السينكتيكي نجاحاً كبيراً، مثله في ذلك مثل «تحفيز
الإبداع» ، ولا يزال حالياً يُستعمل كثيراً إما في شكله الكلاسيكي (التقليدي) أو في
أشكال متفرعة عنها مثل منهج (Interlog) (انظر: جوي 1975:
Jaoui) أو منهج (Bionique) (انظر: جيراردان 1972: Jerardin) .
3 - التحليل التشكُّلي [20] :
يرتكز التحليل التشكُّلي على الاستعمال المنهجي للتنظيمات، باعتبار النشاط
الإبداعي استكشافاً تنظيمياً لمجموعة من العناصر الموجودة والمرتبطة بمسألة
معلومة. ما نبحث عنه إذن هو: كيف يمكن أن تنتظم هذه العناصر وتتجمع؟ وما
هو نوع الحلول التي تنتج عن هذه التنظيمات؟ وبذلك نكون قد شكّلنا «قوالب
حقيقية للاختراع» تسمح لنا باستكشاف منهجي لعالم ما هو ممكن (انظر: كوفمان
1970: Kaecfmon) .
في مرحلة أولى بالطبع يمكن استعمال هذه الخطة في حالة فردية يكون هدف
الجماعة هو دراسة المسألة لمحاولة طرحها بعبارات أوسع وأعمّ؛ ثم استقراء
العناصر (أو كل الأبعاد) المكونة للمسألة العامة، وفي الختام تحليل كل عنصر
بالنسبة لأبعاده المختلفة [21] .
وبعد وضع قالب أو عدة قوالب، أي إعداد جدول ذي مدخلين يضم قائمة كل
العناصر؛ إذ تقتضي المرحلة الثانية دراسة كل الحلول الممكنة المطابقة للتقاطع
الثنائي لكل متغيّر. وفي هذه المرحلة يمكن لإبداعية الجماعة أن تتطور بفضل ما
تمنحه لها شبكة الاستكشاف المنهجي الذي يحدده القالب من تشجيع وإثارة وتوجيه.
وفي المرحلة الثالثة يتم تدارس واختيار الحلول الملائمة للمسائل أخذاً
بالحسبان العراقيل التقنية والقانونية والمالية.
يتضح إذن أن هذا المنهج بطيء حتى ولو كانت مرحلة التنظيم تتم بمساعدة
الحاسوب، غير أنه يبدو حالياً في توسع كبير. وإن حصلنا على القليل من النتائج
المضبوطة، فإنه يحسب الأمر لتطبيقه في مجالات حساسة جديرة بالكتمان:
الملاحة الجوية، علم الفلك، الفيزياء ... إلخ.
4 - المناهج التطبيقية [22] :
نجمع تحت هذا العنوان نوعاً أخيراً من المناهج السائدة بكثرة، والتي تلامس
مجال التحليل الطبي للجماعة، وإن كانت أهدافها مختلفة تماماً، وتتطلب منشطاً أو
منشطين ذوي كفاءة خاصة ويخضعان للمراقبة.
أ - مناهج ترتكز على القيام بدور:
يقوم كل عنصر من الجماعة مقام الشخصية المعنية أو مقام مادة من مواد
المسألة المعروضة، ويمثل السلوك الذي يمكن أن تنتجه بتفاعله المحتمل مع باقي
عناصر الجماعة الذين يقومون مقام مواد أخرى. وإذا تعذّر القيام بهذا الدور فيمكن
مطالبة المشاركة بالتعبير الشفهي لمدة عشر دقائق فقط باسم المادة التي يمثلها. وفي
كلتا الحالتين يتابع جزء من الجماعة ما يحدث ويكرره في نفسه، ويحاول توجيهه
إلى المسألة الملموسة قيد الدرس.
ب - الحُلم اليقظ الموجَّه [23] :
يتم تحقيق هذاالمنهج بواسطة جماعة قليلة العدد (عشرة أفراد على الأكثر) ،
وتستلزم جعل المشاركين في حالة بين النوم واليقظة؛ حيث يكون المشاركون
ممدودين في ظلمة خفيفة، مستعملين تمارين استرخائية مناسبة. تدوم الحصة من
ساعة إلى ساعتين، ويقوم المنشط باستعراض رسوم ومواضيع حيادية في البداية،
ثم يجعلها تقترب شيئاً فشيئاً من المسألة المدروسة، ويكون رد فعل عناصر الجماعة
بواسطة أحلام يقظة مقرونة بالمواضيع المقترحة. بعد ذلك يتم معالجة هذه القرائن
والأحلام وتحليلها من لدن الجماعة والمنشط والملاحظين.
ومن الواضح أن هذه المناهج تهدف جميعها إلى التقليل من سلبية الأفراد
وتحفُّظهم بكيفية تسمح لهم بإزالة العقبات والعوائق أمام قدرتهم الإبداعية،
والوصول إلى صور وأحاسيس أكثر تعمقاً [24] . ويظهر أنها تعرف نجاحاً كبيراً
في مجال دراسة الأسواق والإشهار؛ حيث يظل الهدف المهيمن هو البحث عن
ردود الفعل والحوافز الكامنة، كما يظهر من جهة أخرى أن تطوير هذه المناهج
واستعمالها دون مراقبة يطرح عدة مشاكل أدبية جديّة.
خلاصات:
كما سبق أن رأينا من خلال هذا العرض الموجز، فإن تقنيات الإبداع وافرة،
كما أن جهود الذين يعملون على تطبيقها مثمرة بصفة خاصة، بما في ذلك الذين
يزعمون أنهم يكونون بأنفسهم علم الإبداعية. وكما هو معلوم فإن مسألة التجديد
تصير شيئاً فشيئاً مشكلة اجتماعية اقتصادية أساساً، وتمر عن طريق العمل
الجماعي؛ لأن هذا الأخير تم تعميمه في المقاولات، وكذلك في ميدان البحث
العلمي والتربية، وفي كل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لكن رغم كل هذا
فإن البحث في إبداعية الجماعات سواء كان نظرياً أو تجريبياً لا يزال في بدايته.
وكما أشار ماكجرات وكرافيتز (1962: Kravitg/ Mcgrath) في مجلة
نشرت أخيراً تهتم بالأبحاث حول الجماعات؛ فقد بقي علينا أن نقوم بكل شيء في
هذا الميدان أو تقريباً كل شيء؛ ذلك أنه باستثناء فترة قصيرة تم خلالها نشر
«تحفيز الإبداع» (Brainatorming) وما حققه من نجاح، فإن هذا المبحث من
علم النفس الاجتماعي ظل مبحثاً مشؤوماً لأسباب تتعلق بصعوبة إجراء التجارب
والتحليل المنهجي الإبداعي، كما تتعلق بتعقّد التطور التدريجي المتتابع نفسه الذي
تجري عليه المتغيرات الإدراكية والعاطفية والاجتماعية في نفس الوقت [25] .
ومع ذلك يبدو أن علم النفس الاجتماعي لا يمكنه أن يهمل هذه المسألة طويلاً،
وبإمكانه تغذيتها بأجوبة رئيسة بفضل الخطة التجريبية التي تبدو ملائمة لهذا
النوع من الأسئلة في شأن التطور الاجتماعي والاقتصادي.
يبدو لنا إذن أن دراسة إبداعية الجماعات يجب أن تتحول في السنوات القادمة
إلى أحد موضوعات البحث المهيمنة على نظامنا.
__________
(1) الرسم رقم (1) يمثل شبكة اتصال ذات سُلطة هرمية، تصدر الأوامر، وتقوم عناصر الجماعة بتنفيذها.
(2) الرسم رقم [2] : يمثل شبكة اتصال متفاعلة وإيجابية؛ إذ يقوم عناصر الجماعة بالاتصال بعضهم ببعض، مما يساهم في تفعيل العلاقات بينهم وإغنائها، وإذكاء روح الإبداع لديهم.
(3) الرسم رقم [3] : يمثل شبكة اتصال مركزية؛ إذ يقوم المركز وحده بدور الاتصال بالأطراف.
(4) يعني ذلك أن تكون شبكة الاتصال التي تتكون منها عناصر الجماعة متفاعلة فيما بينها ومنسجمة، ومدركة تماماً لطبيعة المهمة المنوطة بها وأبعادها.
(5) العناصر التي تتركب منها الجماعة.
(6) مجموع الخصائص المحددة للمهمة.
(7) بنية هرمية تعمل على توجيه المعلومات من القيادة إلى القاعدة.
(8) بنية متجانسة، بمعنى أن جميع الأفراد متكافئون وظيفياً داخل الجماعة.
(9) القياسية.
(10) القياسية.
(11) مجموعة القوانين التي تحدّد سلوكيات جماعة معينة، مستندة إلى نظام ترابطي بين أعضاءها، وتعنى بدراسة الدور الذي تلعبه هذه القوانين في التواصل، واتخاذ القرارات والإبداعية داخل الجماعة (12) عندما تكون سلبية وجامدة، وخاضعة للأمزجة والأهواء، وتعيق توظيف الطاقات المبدعة لدى الأفراد والجماعات فالإسلام لم يلغ جميع الأعراف والعادات الجاهلية، وإنما ألغى منها ما كان مخالفاً للفطرة والحق.
(13) يعني تعويض مفهوم السلطة والزعيم بالمنشط والمنظم، لتطوير الإبداعية وتفجير الطاقات الكامنة.
(14) إنتاج سلوك مشترك ومتشابه لدى مجموع من الأفراد.
(15) النمطية والتشابه في الأفكار.
(16) يقصد هنا إطلاق العنان للخيال والتفكير الخصب، وذلك بغية توليد الأفكار؛ إذ كلما زاد عدد الأفكار المقترحة من أعضاء الجماعة زاد احتمال بلوغ قدر أكبر من الأفكار الأصيلة أو المعينة على الحل المبدع للمشكلات.
(17) فنحن في تصورنا الإسلامي نعتقد بأن أعظم مصدر للتنوع وتحقيق الذات هو خلق اتجاهات متعددة لإنجاز الأعمال، وتنويع الطروحات الفكرية، والسير الأفقي على امتداد الزمان والمكان للنظر والاعتبار: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ] (آل عمران: 137) ، [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ] (العنكبوت: 20) .
(18) ويقتضي ذلك تجاوز ذواتهم وتقمص الخصائص المحدِّدة للمسائل المعروضة للدرس، لمعايشة المشاكل والقضايا عن قرب، وتمثل السلوك الذي يمكن أن تنتجه، وإيجاد الحلول المناسبة لها.
(19) لها علاقة بتفسير الأحلام.
(20) علم التشكل (المورفولوجيا) علم يبحث في شكل الحيوانات والنباتات.
(21) أي الانتقال من الخاص إلى العام أو من الجزئي إلى الكليّ، لأنه بعد استقراء العناصر الجزئية، يمكننا استنتاج قواعد كلية أو عامة.
(22) قريبة إلى التحليل الطبي.
(23) ما يطلق عليه جلسة القصف الذهني.
(24) ومعنى ذلك إطلاق العنان للتفكير، والترحيب بكل الأفكار مهما يكن مستواها (سطحية أو عميقة) ما دامت متعلقة بالمشكلة موضوع الاهتمام ومغزى هذه القاعدة أنه كلما كانت الفكرة فجّة أو بكراً، أي غير مصقولة ولا مشذبة كانت أفضل فالمهم وجود أفكار، وسيكون تشذيبها فيما بعد أسهل والغرض من هذه القاعدة مساعدة الفرد على أن يكون أكثر استرخاءاً وأقلّ تحفظاً، ومن ثَمَّ أعلى كفاءة في توظيف قدراته على التخيل وتوليد الأفكار (انظر: عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة) وفي مرحلة ثانية، فإن هذا الكمّ أساسي في توليد الأفكار الأصيلة والآراء المبدعة بمعنى أن الكم يولد الكيف، أو يتبخّر الغثاء من الأفكار ويبقى جيّدها: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .
(25) وهذا مما يدل على عجز الفكر الغربي لضبط بنية العلاقات الإنسانية والنفسية المجتمعية في سيرورتها الآنية أو المستقبلية، مما يوحي بأن المرجعية الوحيدة القادرة على ضبط السلوك الإنساني هي «الوحي» : [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 14) لكن لا بأس من الاسترشاد والاستئناس بالخبرات الإنسانية، وخاصة الغربية المعاصرة والاستفادة من أدواتها ووسائلها المختبرية وتجاربها الميدانية في مجال تفكيك وتحليل الظواهر الاجتماعية، شريطة توظيفها في إطار المبادئ والقيم الإسلامية.(156/140)
متابعات
وداعاً أخي وشيخي
أحمد الشوادفي
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، اللهم إنا
نؤمن بقضائك ونحتسب عندك أجر الصبر على بلائك [وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ
الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ] (البقرة: 155) .
أحسن الله عزاءنا في أخي وشقيقي الشيخ صفوت الشوادفي، أحسن الله
عزاءنا في ناصر السنة وقامع البدعة، الذي أعمل ذكاءه وأبلغ جهده في خدمة
الإسلام والمنافحة عن التوحيد. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل
مسمى، طبت حياً وميتاً يا أبا أنس. لقد هز قلبي وأعضائي خبر وفاته، وتشتت
تفكيري وكياني، لكني سرعان ما دعوت ربي أن يرزقني الصبر ويلهمني صوابي.
كان رحمه الله واسع الأفق، ثاقب النظر، حاضر الذهن، سريع البديهة،
كان داعية بليغاً رقيقاً حليماً متواضعاً قوالاً بالحق عاملاً به، لا يخاف في الله لومة
لائم، كان رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، كان معلماً ومرشداً وناصحاً، وكان
ذا همة عالية، يحمل هموم الأمة.
وإنه مما أثلج صدري مشاركة تلك الجموع [1] في تشييع الجنازة لا سيما وقد
كان فيهم أفاضل القوم وشيوخ الأزهر وعلماء كافة الجمعيات الإسلامية، وكذلك ما
أخبرني به بعض الإخوة أنه صلى المغرب قبل الوفاة [قبل الحادث] بعشرين دقيقة
إماماً وكان آخر آية قرأها: [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء: 19) . كان رحمه الله في هذا اليوم الأخير من
صباحه إلى مسائه في زيارة لوالدته حيث قضى عندها كل اليوم هو وأسرته، ولعل
من حُسن خاتمته أنه كان حديث عهد بالبيت الحرام؛ فقد كان عائداً من عمرة قبل
وفاته بأسبوعين تقريباً.
ولد رحمه الله في 1/9/1955م في بلدته الشفانية بمدينة بلبيس محافظة
الشرقية بمصر، ومات في حادث سيارة يوم 18 من جمادى الآخرة 1421هـ،
عن عمر 45 سنة. حصل على شهادة جامعية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
بالقاهرة، وأثناء دراسته بالكلية حصَّل كثيراً من العلم؛ حتى إنني أذكر أنه في
السنة الثالثة من دراسته الجامعية ناقش عالماً من علماء الأزهر [واعظ المدينة] فقال
له ذلك العالم: إني أتعجب كيف جمعت بين تحصيلك للعلوم الشرعية ودراستك! !
وكان له رحمه الله عدة مناقشات ومناظرات أذكر منها ما كان مع فضيلة شيخ
الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي، ورئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم؛
وقال له حينها شيخ الأزهر [وكان مفتياً لمصر في ذلك الوقت] : يا أستاذ صفوت،
أنت رجل فقيه وأنا أحترم فقهك ... وقد نُشرت هذه اللقاءات على صفحات جريدة
اللواء الإسلامي في ثلاثة أعداد على ما أذكر.
كان رحمه الله في دعوته صابراً حكيماً مخلصاً يترك لله ويعطي لله؛ فقد ذكر
لي أحد الشيوخ بالرياض أنه رحمه الله عندما كان يعمل بالمملكة العربية السعودية
وأراد أن يعود إلى مصر من أجل الدعوة؛ عرض عليه عدد من أهل الخير رواتب
مغرية جداً، ولكنه رفض كل العروض والإغراءات من أجل الدعوة إلى الله عز
وجل وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني اثنين من الشيوخ بالرياض وكانا في زيارته
بمصر يعرضان عليه المجيء إلى السعودية للدعوة وهو الذي يحدد الراتب،
ويعددان له المزايا الأخرى، فرفض في أدب وحكمة وقال لهما: الدعوة هنا بحاجة
لي.
وكان رحمه الله ورفع درجته يخاطب الناس على قدر عقولهم وإدراكهم؛ فقد
كنت معه ذات يوم في دار التقوى للنشر والتوزيع الخاصة به في مدينة بلبيس
بمصر ودخل رجل رث الثياب وقال وهو يدخل من الباب: يا بدوي [2] ثم اقترب
من الشيخ رحمه الله وقال: أعطني شيئاً يا عم الشيخ. فقال له الشيخ: لن أعطيك
شيئاً. فقال الرجل ليه [لماذا] ؟ فقال له الشيخ: خلِّ البدوي يعطيك! فسكت الرجل،
فقال له الشيخ: الذي يعطي كل المخلوقات هو الله سبحانه ثم أدخل يده في جيبه
وأعطاه بعض المال.
ومن أمثلة إخلاصه وحكمته في دعوته أن أنصار السُّنة في بلبيس أحيوا إقامة
سنة صلاة العيد في الخلاء، فكانوا يفرشون مكاناً يسمى الساحة وهو نادٍ رياضي
كبير ربما استوعب خمسين ألف مصل، وكانوا يقدمون هدايا للأطفال بعد الصلاة،
والحقيقة أن المنظر والاجتماع لصلاة العيد كان لهما أثر كبير في مشاعر المجتمعين،
وكانت الخطبة تحرك المشاعر والقلوب، ثم قامت وزارة الأوقاف بهذا العمل بدلاً
من أنصار السُّنة؛ فغضب بعض طلبة العلم وبعض الشباب وأتوا إلى الشيخ رحمه
الله وقالوا: كيف نحيي نحن هذه السُّنة في هذا المكان لعدة سنوات ثم تأتي الأوقاف
وتأخذ منا المكان؟ فقال لهم: لماذا تغضبون؟ ! هم أقاموا السنة ونحن نصلي
خلفهم، المهم إحياء السُّنة، فانظروا إلى سُّنة أخرى لتحيوها.
ويرجع الفضل في صفاته الحميدة وإيثاره وكرمه وتقواه بعد الله عز وجل إلى
تربية الوالدين أسأل الله سبحانه أن يجزيهما عنا خير الجزاء.
وبعدُ: فقد تُوفي الشيخ رحمه الله مربياً وقائداً من قادة أنصار السُّنة المحمدية
في مصر، ومن أهم أعماله رحمه الله طباعة مجموع فتاوى ابن تيمية، طباعة
مختارات من فتاوى دار الإفتاء المصرية عن مئة عام، جمع وطبع فتاوى لجنة
الإفتاء بالمركز العام لأنصار السنة، جمع وطبع مجموعة من فتاوى اللجنة الدائمة
بالسعودية، ألف عدة كتب ورسائل أشهرها: اليهود نشأة وتاريخاً، أشرف على
طبع موسوعة الشيعة للدكتور علي السالوس، إلى غير ذلك. فاللهم أكرم نزله،
ووسع مدخله، واجزه عن الإسلام والسنة خير الجزاء، واجمعنا به مع المتقين في
جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والحمد لله على كل حال، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخبرني أحد الإخوة أن المشيعين كانوا قرابة الخمسين ألفاً.
(2) أي يستغيث بأحمد البدوي؛ أحد أقطاب الصوفية، وله بمدينة طنطا قبر عليه مسجد معروف باسمه تكثر فيه الشركيات والبدع، ويقام له مولد يشهده كثير من العوام الجهال والصوفيين.(156/152)
المنتدى
دعوة للمصالحة والوحدة
محمد فضل محمد فضل
الصلح شَعِيرة عظيمة حثَّ عليها الإسلام في قوله تعالى: [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]
(النساء: 128) والدعوة الإسلامية أحوج ما تكون لمثل هذه الشعيرة وهي تشق
طريقها في وجه التحديات والمخاطر التي تحاك ضد الإسلام، ولما ظلت تتعرض
له الدعوة الإسلامية من تصدع وانقسامات أثرت سلباً على مسارها الدعوي وكان له
انعكاس سيئ على أفرادها، فمن كان يصدق أن الدعوة الإسلامية سيصيبها ما
أصاب الأمم الأخرى من الشتات والتحزب إلى جماعات وفرق حتى أصبح كل
فريق يكيل للآخر السباب ويتحين الفرص للانقضاض عليه، وفقد كلا الفريقين
الثقة في الآخر، فانتشر بينهما سوء الظن، وانفرط عقد الأخوة الإسلامية وحل
محلها الكراهية والبغضاء حتى أصبح الأخ ينفر من أخيه المسلم، وإذا رآه في
المجالس العامة لا يصافحه ولا يسلِّم عليه؛ وهكذا ضاعت الأخوة الإسلامية في
وسط هذا الركام من الخلافات والنزاعات التي لا يوجد ما يسوغها خاصة أن الفرقاء
يجتمعون في الأصول؛ وقد يختلفون في مسائل اختلف فيها أهل الفضل قديماً،
وليس عيباً أن يختلفوا اختلافاً سائغاً ولكن العيب أن يقنن البعض لهذا الخلاف
ويسعى لتحزيب الناس عليه.
وقد اختلف السلف الصالح في مسائل كثيرة ولكنهم لم يتحزبوا ولم يدعو إلى
مقاطعة مخالفيهم ولا إشاعة الكراهية بينهم؛ لأنهم كانوا يدركون أن الشخص قد
يجتمع فيه الخير والشر، فيحبون ما عنده من خير، ويبغضون ما عنده من شر،
وظلت جذوة الأخوة الإسلامية متقدة في صدورهم؛ ولهذا دانت لهم الأمم والشعوب
واستطاعوا أن يسودوا العالم، فما أحوج الدعوة الإسلامية اليوم لهذا الفقه (أدب
الخلاف) فالتاريخ يحدثنا أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: «من زعم أن
محمداً صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» بينما كان ابن
عباس وجمهور الأمة يقول بالرؤية ولم نسمع أن أحداً قد وصف عائشة رضي الله
عنها بأنها قد جاءت بمنكر من القول، بل اعتبرها المخالفون أنها قد اجتهدت ولها
أجر الاجتهاد، ولم يسعوا إلى تجريمها أو اتهامها بالانحراف والخروج عن منهج
السلف. وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط؛ «ولو كان كلما اختلف
مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر
وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة:» لا يصلين أحدٌ العصر إلا
في بني قريظة « [1] فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في
بني قريظة ففاتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق،
فلم يُعب أياً من الطائفتين» أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر؛ وهذا
إن كان في الأحكام فما لم يكن في الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام « [2] .
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره، ح/946.
(2) الفتاوى، ج 24، ص 172.(156/154)
المنتدى
البيان والتجديد
تركي بن عبد الله الشريف
تلمع مجلة البيان في سماء الإعلام الهادف لتعكس صورة هي أوضح ما تكون
عن مدى الوعي الذي وصلت إليه الصحوة المباركة، وتجمع بين دفتيها هموم حَمَلة
الرسالة السامية واهتماماتهم وآمالهم في اتساق رائع وإخراج فريد، فكانت بحق
لساناً صادقاً نزيهاً لهذه الصحوة المباركة، ولعل ما جاء في العدد 152 يعد دليلاً
ناطقاً لما زعمت؛ غير أني أقف وقفة المتسائل مع افتتاحية ذلك العدد فأقول: فعلاً
نحن بحاجة إلى مثل هذه المراجعات الواقعية التي تضع اليد على الجرح، وتنمي
القدرة على المواجهة والتفكير والاعتراف بالتقصير بدلاً من السير الأعمى
الفوضوي، غير أن الكلمة الصاعقة التي في بداية الحديث: «تشهد الحركة
الإسلامية تراجعاً» تشعر المرء بالإحباط؛ إذ كيف تتراجع وهي لم تحقق أهدافها
المرجوة منها بعد؟ أم كيف تراجعت ونحن نشهد انتصارات لها بين الفينة والأخرى؟
إن الحركة الإسلامية ما زالت في طور التكوين رغم جميع الإنجازات التي
حققتها، ومعظم الأسباب المذكورة في الافتتاحية إن لم يكن كلها هي أسباب وأخطاء
في تكوين الحركة وليست في الأداء فقط. وهذه الأسباب لم يحصل فيها تقدم أصلاً
على حد علمي حتى نقول بالتراجع؛ وإنا لنحمد الله عز وجل أن هذه الأخطاء لم
تكن عائقاً في تقدم الصحوة، لكن علينا المبادرة إلى إصلاحها.
هذا الحديث يدفعني إلى التأكيد على ضرورة مراجعة الذات في فترات قصيرة
ولا ننتظر السنين لتبدي لنا الأخطاء بل نسعى بهذا الأسلوب الوقائي لإجهاض
الأخطاء قبل وقوعها. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يحاسبون أنفسهم
ويستغفرون لزلتهم إنه الغفور الرحيم.(156/155)
المنتدى
البدعة
محمود جمال البكر
تختص البدعة في الشرع بقيود ثلاثة هي:
1 - الإحداث: والمراد بالإحداث: الإتيان بالأمر الجديد المخترع إذا لم
يسبقه مثيل كعبادة الأصنام أول وجودها.
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث» . وقوله:
«كل محدثة بدعة» وبهذا القيد خرج ما لا إحداث فيه أصلاً مثل فعل الشعائر الدينية
كالصلوات المكتوبات، وصيام شهر رمضان، والأمور الدنيوية المعتادة كالطعام
واللباس ونحو ذلك.
2 - تعلق هذا الإحداث بالدين: والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه
وسلم: «في أمرنا هذا» ، والمراد بأمره ها هنا دينه وشرعه، [جامع العلوم
والحكم 1/177] وبهذا القيد تخرج المخترعات المادية والمحدثات الدنيوية مما لا
صلة له بأمر الدين.
3 - ألاَّ يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي بطريق خاص ولا عام؛
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ليس منه» ، وقوله:
«ليس عليه أمرنا» . وبهذا القيد خرج ما له أصل شرعي عام أو خاص.
كما أن البدعة بالإطلاق الشرعي هي البدعة الواردة في حديث «كل بدعة
ضلالة» دون البدعة اللغوية. ولذلك فإن البدعة الشرعية موصوفة بأنها ضلالة
بخلاف البدعة اللغوية لا يلائمها وصف الضلالة والذم.(156/155)
المنتدى
لا للعنصرية
محمد بن عبد الله الرويلي
من المؤسف أن الواقع اليوم يعجّ بألوان وأشكال من العنصرية؛ فبالإضافة
إلى العصبية القبلية هناك العنصرية الإقليمية التي تسود بين بعض الأقطار العربية
والإسلامية؛ فبعض الأقطار لا يطيق الأقطار الأخرى، وكذلك هناك العنصرية
العرقية بين بعض السود والبيض، أو بين بعض العرب والعجم، أو غيرها من
الصور البغيضة لهذا الداء العضال.
ولكن المصيبة العظمى تكمن في تأثر بعض الدعاة الذين يحملون لواء
الصحوة بهذه النظرات الجاهلية بقصد أو بغير قصد، ومن ذلك ما يمارسه بعض
الصالحين من تصرفات لا تخلو من العنصرية، كالحزبية في الدعوة، وعدم
السماح للآخرين بالمشاركة في هذا العمل أو ذاك بحججٍ واهية، أو احتقار الدعاة
لبعض إخوانهم في المناطق النائية وعدم الاقتناع بأي عمل يعملونه، أو الحديث عن
مثل هذه الأمور والخوض فيها في المجالس الدعوية باسم المزاح، أو حصر الدعوة
على فئات معينة من المجتمع وإهمال فئات أخرى وفقاً لموازين طبقية أو مادية،
وغير ذلك من الصور والممارسات، وقد رأيت وسمعت الكثير من هذه الأمور بل
شَمِمْتُ رائحة العنصرية وهي تفوح من بعض الدعاة.
إن وجود مثل هذا الأمر بين رجالات الدعوة لا شك في أنه تشويه للصحوة
الإسلامية وتنفير منها وحيادةٌ عن المنهج الصحيح، ومن شأنه أن ينزع الثقة من
قلوب الناس الذين تعلقت قلوبهم بالدعوة الإسلامية.
وليحذر الداعية المخلص، الحريص على نشر الخير والذي له قدم صدق عند
الناس أن يعمل عملاً أو أن يُسمع منه قولٌ يوحي بشيء من التعصب أو التكبر أو
الاحتقار لأحد؛ فإنه إن فعل ذلك يكون قد كتب سقوطه بنفسه، سقوطاً لا قيام بعد!(156/156)
المنتدى
لماذا التقاعس؟ !
صالح بن محمد
في خضم الأحداث وكثرة الجراحات والدماء النازفة في جسد الأمة، ومع
التحديات العلمانية والكفرية الإلحادية لتجفيف المنابع وبخاصة عقيدة الولاء والبراء
في قلب المسلم، وإزاغته عن دينه ومنهجه وعقيدته ولغته؛ نجد في هذه الأجواء
من أبناء الإسلام ومن أهل الدعوة وأصحاب الصحوة: من رفع يده عن العمل
الدعوي واكتفى بنواحه على الإسلام وأهله وندب الحظ بحد زعمه وآخرون منهم
يعملون ولكن بخطى ثقيلة وخطوات بطيئة ليأسه من الإصلاح العام الشامل، وقليل
هم أولئك الدعاة العاملون الصادقون المخلصون الجادون الواثقون بنصر الله وتمكينه
لأهل دينه في الأرض.
فلماذا كل هذا التراجع والتقاعس والضعف والهوان؟ ! ألم يقل الله تعالى:
[وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) ثم إن من سنن الله الثابتة
في هذا الكون: [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) هي التمكين
والنصر والغلبة لعباده المؤمنين: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) فالتمكين حاصل لا محالة؛ ولكن ما
دورنا في رفع كلمة الله ونصرتها؟ !
إن من المتحتم على المسلم وسط هذه الأجواء: الصبر والمصابرة، والجد
والعمل، والدعوة الصادقة إلى الله، والدلالة على سبيله بجميع الوسائل والتقنيات
العصرية، والاستقامة على الدين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واصفاً
حال أولئك: «وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام
جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور
بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا
والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنبه؛ فليصبر إن
وعد الله حق ويستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار» .
[الفتاوى، 18/293]
وهمسة أخيرة في أذن كل مصلح وداعية وعامل: [فَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ] (الأنبياء: 94) . فلماذا
التقاعس؟ ! فقد مضى عهد النوم! !(156/156)
المنتدى
دموع الغروب
عبد الله بن حماد البلوي
وقف ذلك الشاب.. ينظر غروب الشمس.. ويرمقها وهي تختفي بعيداً..
ويختفي معها نورها الذي كسا الأفق.. فدمعت عيناه.. فقد تذكر أن غروب هذه
الشمس إنما هو غروب عام كامل.. فلقد انتهى العام.. ولم يبق منه سوى بقايا هذه
الأشعة التي بدأت في الرحيل.
فمر به شريط حياته في هذه السنة.. ليشاهد نفسه المعرضة ترخي زمام
الهوى، ولتمضي به بعيداً عن الله وعن طريقه..
شاهد نفسه الغارقة في بحر الشهوات الذي تقاذفته أمواجه في كل مكان..
وهو بلا حراك..
شاهد الصائمين في رمضان يخرجون من المساجد بعيون دامعة وقلوب
منكسرة وهو في لعب ولهو.
تذكر أنه في هذا العام الذي رحل قد عق أمه كثيراً، وخالف أمرها كثيراً،
فدمعت عينه لهذا العقوق..
انهال دمعه أيضاً وهو يرى أهله يصومون أياماً من شوال؛ وهو لم يفكر
بقضاء ما عليه من رمضان..
ويمضي هذا الشريط ليرى الناس وقوفاً في عرفة يدعون الله ويبتهلون إليه
بالمسألة حين كان هو مقبلاً على قنوات الفضاء بكل جوارحه.
في هذه الأثناء توارت الشمس وغابت عن الأنظار، وادلهمَّ الليل، فشعر هذا
الشاب بالخوف، وأحس أن الحياة تمضي وهو في إعراضه غارق.. وفجأة سمع
صوت الأذان وكأنه يسمعه لأول مرة.
وقال في نفسه: كم ناداني المؤذن في هذا العام وأنا في إعراض عن ندائه؟
وتساءل في نفسه: هل سيغفر الله هذا الذنب؟ وهل سيمحو هذه الخطيئة؟ وأنا لا
أذكر متى دخلت المسجد! فما أشد إعراضي وما أكبر ذنبي! ! فأجهش بالبكاء..
وحين أراد القيام سمع صوت الإمام يقرأ بصوت شجي ندي آياتٍ أحيت فيه الأمل
وحركت منه الفؤاد: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: 53) .(156/157)
المنتدى
وكذلك ننجي المؤمنين
عبد الله بن هادي بن ناجير
ظلماتُ الهوى ستُمحى كثلج ... ذوّبتهُ البحار، والحق يُنجي
ويحَ قومي! تقاطروا نحو سُفْنَ ... دَفّةُ السّفْنِ لا تُدارُ لِنَهجِ
هل ستُؤوي مراكب الشرق فوجاً ... واحداً أم مراكب الغرب تُنْجي؟ !
خُدِع القومُ بالمراكب لمّا ... زيّنوها بغانياتٍ وهَزْجِ
مركب الشرق بالسماجة يهذي ... وكذا الغرب قد تلاقوا بِسُمْجِ
ينسجون المُنى وهيهات بُعداً ... مثل أعشى يرى سراباً بَفَجِّ
أو مريضٍ على الفراشِ طريحٍ ... كلما أنْ خدَّرُوه ببِنجِ
يُوهمون الورى بأنْ ليس يشكو ... كيف يهنا وقد أُصيب بَشَجِّ؟
لا يزالون في ثيابِ صديق ... لا يُطيق المسيرَ إلا بِعرْجِ
وإذا ما خلا بعضهم ببعضٍ ... أسرعَ الخطو في ملابس عِلْجِ
وإذا الفلكُ في البحارِ تجارت ... كان رُبانهم يُجيز بِخَرْجِ
ركبوا البحرَ والرياحُ عواتٍ ... تطلب القوم في مراكبَ خُدْجِ
تطلب القومَ، والبحارُ تنادي ... يا سماء الدُّنا أَهِلِّي بَثَجِّ
فالتقى الماء، والمراكب تجري ... فوق موجٍ وتارة تحت موجِ
هلك الجمعُ بالمراكب إلا ... فُلْكُ نُوحٍ؛ دعا الإله فنُجّي(156/157)
المنتدى
ردود
* الأخ: محمد عبد الله التميمي: أرسل هذه الرسالة: «يسرني أن أشكر لكم
جهودكم الخيرة في هذا المنتدى؛ منتدى الخير والبركة، وجهودكم الجبارة نحو
مجلتنا (مجلة البيان) المحبوبة، فكم تغمرني الفرحة ومشاعر الغبطة نحو مجلتنا
هذه في إهلال كل شهر؛ حيث أجد فيها روضة غناء فيها من مختلف الثمار،
والفواكه الدانية، إبداع في الأسلوب، تجديد في الطرح، تنوع في المواضيع،
معالجة لمشاكل الأمة ونوازلها؛ فكم طرح فيها من قضية، وعولجت من مسألة؛
فهذا جزيل شكري، وصادق دعواتي أهديها لكم، وفقكم الله، وسدد على درب
الخير خطاكم، وجعل الجنة مثوانا، ومثواكم» .
ونحن إذ نشكر الأخ على هذه المشاعر الطيبة نسأل الله تعالى أن نكون عند
حسن الظن، وأن يوفقنا لخدمة دينه.
* الأخ: عبد الله بن حذافة السهمي: وصلتنا رسالتك، ونشكر ونقدر ثقتك
بمجلة البيان، وعن الأسئلة التي أرسلتها حول المسألة الشيشانية، فيمكنك مراجعة
المقابلة التي أجريت مع الشيخ محمد السيف في المجلة، كما يمكنك التواصل مع
الإخوة من خلال موقعهم على الإنترنت، وفقنا الله وإياك لكل خير.
* الأخ: د. عبد الله بن هادي القحطاني: وصلتنا مشاركتكم الكريمة، ولكنها
كانت ناقصة، نرجو التكرم بإعادة إرسالها وجزاكم الله خيراً.
* الأخوين: إبراهيم بن صالح الهزاع، فيصل بن حسين الحلواني: نشكر
لكما تواصلكما الكريم مع المجلة، كما نشكر لكما اقتراحاتكما الطيبة التي هي محل
اهتمامنا، بارك الله فيكما.
* الإخوة والأخوات: د. ماهر عباس جلال، أحمد عبد الله السعد، أسعد
التهامي، د. زيد الرماني، أحمد عبد الدايم، عبد العزيز عبد الله الصالح، نوري
بشير مبارك، خولة درويش: جزاكم الله خيراً على هذا التواصل الطيب، ونفيدكم
بأن مشاركاتكم مجازة للنشر بإذن الله تعالى مع تمنياتنا بدوام التواصل.
* الإخوة: سلمان بن يحيى المالكي، أحمد الخرجي، علي بن سليمان
الدبيخي، ممدوح الشيخ، رضا أمين عطية، طارق العمودي، رضا فهمي، سالم
فرج سعد، خالد الهديب: سعدنا بمشاركاتكم، وحرصكم على التواصل،
ومشاركاتكم ستعد للنشر في المنتدى إن شاء الله تعالى.
* الإخوة والأخوات: عطية فتحي الويشي، سمل وهبي فرح أحمد،
د. محمد خليل جيجك، عبد الله العنزي، سيد سراج الهدى، عبد العزيز الحيدري،
عبد الغني فطاني، عبد اللطيف الوابل، أبو محمد الجزائري، سعود آل عوشن،
عبد الملك محمد التويجري، أبو حذيفة الأعظمي، مندوبية الروابي بجدة،
أبوصالح الحجيلان، محمد بن حسين عطار، نور الفضلي: أسعدنا تواصلكم
مع مجلتكم، بارك الله فيكم وفي جهودكم، مع تمنياتنا لكم بالتوفيق في مشاركات
قادمة.(156/158)
الورقة الأخيرة
التدافع بالأكتاف والأكعب.. من المستفيد؟
د. محمد البشر
الولوغ في الأشخاص والهيئات مسلك ذميم.. ومن ظلم النفس والآخرين أن
تكون هذه الصفة دأباً لصاحبها إما عن غفلة وإما عن قصد، وكلاهما مر.
وهذا المسلك المشين يلحظ على أخلاقيات بعض المحسوبين من الصالحين.
فإذا اغتنى أحد بمال.. استكثره عليه، وتساءل: من أين له؟ وكأن الغنى
حكر على غير الصالحين، وغاب عنه أنه: «لا حسد إلا في اثنتين» [1] ،
و «ذهب أهل الدثور بالأجور» [2] . وكأنه لا يجتمع داعية وغنى! !
وإذا سبق أحدٌ بالخير تجشَّأت نفسه بالبَشَم الدنيوي؛ فسخر من قَدْره، أو سفه
بعمله، أو هزأ بفضله، وغاب عنه قوله تعالى: [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ]
(الحديد: 21) ، وقوله: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ]
(النساء: 54) .
وإذا عمل معه آذاه ووشَى به، وتجنى عليه بالثلب والسلب، وزاحمه
بالأكتاف والأكعب، وكأن المكان لا يتسع إلا له، وغاب عنه قول ربه: [وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 58) .
إن التدافع بالألسنة والأكتاف والأكعب لا يكون إلا في الخير وللخير، أما أن
يدور في فلك المنفعة الشخصية الذاتية؛ فيقترف صاحبه لأجله خطيئة، أو يكسب
إثماً، ويتجاوز ضرره النفس إلى الغير، فهو أمر يستدعي تهذيب النفس وصَقْلها،
وربما عَسْفها وأَطْرها على الحق راغمة وصاغية.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم
وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [3] ، وسلامة القلب علامة خير عظيم
ونبوءة أجر كبير، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلمعن أحد أصحابه أنه من
أهل الجنة، فلما تقصَّى صحابيٌّ دأبه في ليله ونهاره لم يجد كثير عمل غير أنه
يمسي ولا يجد في قلبه على أحد شيئاً.
التُّقى والصلاح لا يُحلان التجني على الآخرين وإيذائهم والنيل منهم، ولن
يكونا شفيعين لصاحبهما أن يَلِغَ بلسانه في سيرهم أو يجد في نفسه شيئاً عليهم، بل
حري بمن هو في عداد الصالحين أن يكون التُّقى والصلاح سياجاً يحميه من الإثم
وأسباب الخصومة والبغضاء التي تضر ولا تنفع، وتفرق ولا تجمع، وأكبر
الضرر أن يتعدى الأشخاص إلى مؤسسات الخير والدعوة.
ومعنى أن يصدر ذلك كله من الدعاة الصالحين هو تجريح للنماذج، وتهافت
للرموز.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 71.
(2) رواه مسلم، ح/ 1674.
(3) رواه مسلم، ح/ 4651.(156/159)
رمضان - 1421هـ
ديسمبر - 2000م
(السنة: 15)(157/)
كلمة صغيرة
نهاية الإحساس
كان لأحداث انتفاضة الأقصى أثر في إثارة مشاعر العداوة والبغضاء لليهود
على كافة المستويات الثقافية، والانتماءات الفكرية، والمراحل العمرية كذلك،
وهذا أمر إيجابي حين تتحرك مشاعر الإنسانية والتعاطف في وقت يتطلب إظهار
هذه المشاعر ولو على سبيل المجاراة والمحاكاة، لكن نفراً يحسبون أنفسهم من
«بني آدم» قد استبدلوا بإنسانيتهم شيئاً آخر لا ينتمي حتى إلى خلق آخر ولو
كان جماداً صلباً! !
وكان نصيب ما يسمى «حركة السلام العربية أو جماعة كوبنهاجن» من ذلك
الشيء الكثير؛ ففي مقابلة مع أحدهم اعتبر أن ما قام به الفلسطينيون من مقاومة في
المسجد الأقصى نوع من أنواع الفاشية الجديدة! ! «إنه قهر للمجتمع المدني
وإحراج لقوى السلام في إسرائيل، حتى المظاهرات التي خرجت في الشوارع
العربية لم تكن إلا تمهيداً لهذه الفاشية وليست في صالح الشعب الفلسطيني» .
ويؤمِّن على هذا الكلام الذي يحتاج إلى تأميم، وتأمين للناس من سفهه كاتب
آخر، فيقول: «نحن نعيش حالة الحرب في عقولنا فقط، ونرفض الاستماع إلى
أصوات السلام داخل إسرائيل، إن التصور الصحيح أن كل الأطراف مسؤولة عما
جرى وعما يحدث الآن، ومن العبث تصور أن إسرائيل وحدها هي المخطئة، لقد
رأيت صورة محمد الدُّرة، ولكن رأيت أيضاً صورة الجنود الإسرائيليين الثلاثة
وهم يذبحون وتُحرق جثثهم، لماذا تتجاهلون ذلك أيضاً؟ ! !» .
لا يدري المرء وهو يسمع ذلك ماذا يقول! ! في الوقت الذي يطالب فيه
بعض اليهود حكومة باراك بالكف عن المجازر التي يفعلونها! ألم يستمع أولئك إلى
رفض المسؤولين في حركة السلام الإسرائيلية تنظيم أية مظاهرات تأييداً لعملية
السلام، وذلك لشعورهم بالإحباط؛ لأن باراك قد قدم تنازلات لم تحدث من قبل
وخاصة في شأن القدس، وأن الفلسطينيين غير مستعدين لذلك.. فرحمة الله على
بني الإنسان.. ولا عزاء للإحساس.(157/1)
الافتتاحية
أمة حيّة.. أمة ولاّدة
يرى بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي أن انفصال السلطة عن الأمة في
الدول الإسلامية المتعاقبة لم يكن سيئاً من جميع جوانبه؛ إذ إن التقلبات
والاهتزازات التي كانت تصيب أنظمة الدولة نتيجة فقدان السمة المؤسساتية فيها لم
يكن يطول الأمة المسلمة التي كان لها آلياتها الخاصة ومؤسساتها المستقلة والمتنامية،
كنظم القضاء والتعليم والأوقاف والجهاد في سبيل الله والحسبة، ولذلك «فإن
حضارة أمم الإسلام ظلت حية نشطة معظم الوقت تقريباً» [1]
ومنذ دخول الأمة في نفق الغثائية وانقضاض القوى المتربصة بها عليها
يحرص أقطاب هذه القوى على قياس «درجة الحياة» في الأمة المسلمة من حين
إلى آخر، وذلك بالقيام بعمليات «جس نبض» مدروسة ومخطط لها بعناية
لشعوب هذه الأمة، وبناءاً على طبيعة «رد الفعل المعاكس» الصادر من هذه
الشعوب يعرفون الواقع الحقيقي وليس المفترض الذي تعيشه هذه الشعوب، من
جهة وعيها وتصوراتها وأفكارها وعواطفها وإرادتها، ومن ثم: يضعون خطواتهم
القادمة بناءً على تصور واقعي وليس متخيلاً لما وصلت إليه هذه الشعوب، ومن
هنا ندرك الأهمية القصوى للدور الحيوي الذي تلعبه هذه الشعوب أفراداً
ومجموعات في معركة الصراع الذي تعيشه أمتنا مع أعدائها.
ولعل من عمليات جس النبض هذه ما قام به مؤخراً مجرم الحرب الصهيوني
(شارون) ، عندما قام بزيارة اقتحامية منظمة ومعد لها سلفاً للمسجد الأقصى
المبارك، ظانّاً هو ومن وراءه أن الصمت البادي من الشعوب الإسلامية المغلوبة
على أمرها صمت أبدي، وفي أقصى الحالات لن يكون صراخ هذه الشعوب إلا
أنيناً يدل إن خرج على احتضار الفريسة، وهذا ما صرح به شارون نفسه عندما
قال: (إنه كان يتوقع ردود أفعال، ولكنه لم يتصور أن تكون ردود الأفعال بهذه
القوة) !
نعم.. جاءت ردود الأفعال قوية على غير المتوقع من الشانئين، بل من كثير
من المتفائلين والمتعاطفين، جاءت تمزق شهادة الوفاة التي كان يُعِدُّها أعداء هذه
الأمة لها، لتكتب من جديد شهادة بالدم أن هذه الأمة بحمد الله حية لا تموت، وأن
حبل اتصالها التاريخي غير منقطع؛ لأنها ببساطة أمة الشهادة على الناس، ولأن
حضورها مستمر حتى قيام الساعة. [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143)
لم تكن قوة رد الفعل وحدها ما يلفت النظر، بل حملت التحركات الشعبية
المتوالية عدة دلالات رمزية لا تُغفَل ولا يستهان بها، من ذلك:
- ارتباط هذه التحركات في مجملها بالرموز الإسلامية، سواء أكانت مساجد،
أو شخصيات إسلامية التوجه ذات مكانة علمية أو دعوية عند الناس، أو في
صورة تبني الشعارات الإسلامية الواضحة، وفي ذلك دلالة على أن روح هذه الأمة
وشخصيتها المستقلة المتميزة مرتبطة بإسلامها.
وهذا يؤكد واجب العلماء والدعاة في ريادة الأمة وتوجيه مسيرتها، فَهُم قلبها
النابض، ودمها المتدفق.
- انتشار هذه التحركات من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، بل تعديها إلى
الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، ولا يقل عنها دلالة انتشارها بين
فلسطينيي (48) ، ليؤكد جميع هؤلاء للعالم أن هويتهم الحقيقية هي الإسلام،
وليؤكدوا أيضاً إخفاق مشروع الدولة القومية المعاصرة في القضاء على شعور
الوحدة والانتماء الإسلامي.
- وإذا كانت هذه التحركات ارتبطت برموز إسلامية، إلا أن المتحركين
الفعليين لم يكونوا جميعاً أصحاب توجه إسلامي عقائدي، بل كانوا في الغالب
أصحاب عاطفة إسلامية متأججة، بل لقد خرجت صيحات (الجهاد) أحياناً من
شخصيات وتجمعات محسوبة عادة على الاتجاه المعاكس للتيار الإسلامي، ولكنها
هنا اقتربت جداً من شعاراته وإن اختلفت معه في منطلقاته، وقد يكون دافعها إلى
هذا الاقتراب: إما العاطفة، وإما التقاء المصالح، وإما الانتهازية وركوب الموجة؛
وفي ذلك كله دلالة على يقظة الحس العام؛ وإن كان يحمل في طياته خطورة
الارتكاز على هذا الحس وحده، ولكن ينبغي النظر في كيفية توظيفه واستثماره.
- تعددت مظاهر هذه التحركات كل حسب موقعه وإمكاناته واستطاعته: من
مواجهات بطولية يومية للشعب المسلم الفلسطيني مع العدو في الداخل، وبذله لدمه
رخيصاً في سبيل المقدسات الإسلامية، إلى مظاهرات مليونية أو آلافية في بعض
البلدان، إلى مقاطعة أو محاصرة للرموز الغربية والأمريكية بما يشبه عمليات تأميم
شعبية، إلى تبرعات بالملايين للشعب المسلم الفلسطيني في الداخل مع التمييز
الواعي للجهة التي ستصلها هذه التبرعات، إلى تحركات فردية ذات دلالة عظيمة،
كالذي قام به الطفل المصري أحمد شعراوي بصورة عفوية عندما ترك أهله وسافر
وحده إلى الحدود المصرية الفلسطينية رغبة منه في مشاركة أطفال فلسطين في
انتفاضتهم.
ولكن هذه المظاهر على اختلافها أعطت دلالات قريبة من أهمها بخلاف
إظهار التعاطف والتآلف والوحدة:
-حق الشعوب الإسلامية في المقاومة وقدرتها على ذلك، وأن هذه الأحداث
الأخيرة رجعت بعقارب الزمن ثلاثين عاماً على الأقل في اتجاه يقظة الأمة،
وتقدمت بتلك العقارب أعواماً عديدة باتجاه وعي الأمة.
إن هذه الأحداث كما أنها تضيء بارقة أمل إلا أنها أيضاً تلقي بمزيد من
المسؤولية على عاتق من يريدون قيادة الأمة نحو فلاحها، ومن هذه المسؤولية:
البحث في كيفية توقع عمليات جس النبض والاستعداد لها والتعامل معها، وكيفية
الاستفادة من المظاهر السابق ذكرها، وأيضاً: كيفية سد النقص ومعالجة الأخطاء
التي قد تعتريها، وصولاً إلى ترشيدها.
فهناك تحديات كبيرة أمام هؤلاء؛ ومنها:
- ربط الشعوب الإسلامية بمنابع العزة والتمكين: كتاب الله تعالى وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم، وتربيتها على الجدية والعطاء، وإحياء روح الغيرة على
الشعائر والمقدسات الإسلامية.
- إدراك تنوع ميادين المعركة ووسائلها، والتي ليس من أقلها: الإعلام،
والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع.
- البحث عن وسيلة تجنبنا تحول حركة الشعوب إلى مظاهر سلبية قد تؤثر
عليها وعلى قضيتها.
- البحث في استنباط أساليب فعالة للمقاومة والضغط الشعبي، ووجود آليات
شعبية متاحة يستطيع كل فرد من خلالها تقديم العون لقضيته.
- كيفية اتساق هذه الأعمال والجهود في منظومة واحدة تخدم القضية.
- كيفية القضاء على الإحباط والفتور وانقطاع النَّفَس مع إعطاء هذه الأعمال
طاقة متجددة منتظمة ومستمرة (النفَس الطويل) .
- كيفية إخراج هذه التحركات بصورة مدروسة ومقصودة، وعدم الاكتفاء
بانتظار أن تكون رد فعل على استفزازات الآخرين، أو مجرد تحركات عفوية أو
فوضوية.
- كيفية نشر الوعي بهذه الأمور بين الأفراد ليستطيعوا توجيه مشاعرهم
وجهودهم وتوحيدها.
إننا في النهاية نذكِّر بأن هذه الأمة أمة حية، كما أنها أمة ولاَّدة، فيها من
الطاقات والإمكانات ما لا يستهان به إن أُحْسِنَ إخراجه وتوظيفه.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) د / حسين مؤنس، (الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها) ، ص 177.(157/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
دمعة على حب النبي - صلى الله عليه وسلم -
نظرات متأملة للواقع في حب النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1 - 2)
عبد الله الخضيري
قلِّب عينيك في الملكوت ترَ الجمال بديعاً، وافتح قلبك لأسرار هذا الجمال ترَ
الحياة ربيعاً، وخض في معترك الحياة تكن لك الحياة جميعاً، واجمعْ لي قلبك أجمعْ
لك عقلي، وامنحني يدك فإني لأرجو أن أمنح لك حياةً هادئة سعيدة بإذن الله،
وافتح صدرك أملؤه دفئاً ومحبةً وصدقاً. كن معي لأكون لك وكما تحب.
وأعطني دمعةً تحيي بها قلبك، وتسلّي بها نفسك، فدموعنا مداد للفكر،
وعبراتنا ثباتٌ على المبدأ، وبكاؤنا دوامٌ على النهج والمنهج، قلوبنا أهديناها
بالحب إلى غير محب ففقدنا أعزَّ ما نملك، وإذا بنا نتحسس أماكنها وقد تَوَهَّمنا
وجودها، إننا بحاجة إلى أن نحب ولكن لا نغلو، ونهوى ولكن لا نفرط، ونعشق
ولكن بتعفف.
إن القلب هو الكنز الذي لا يقرؤه إلا من يملكه، وإن راحة الضمير أنوارٌ
تتلألأ في الغَلَس، وينابيع متفجرة في الصحارى، وكنوز داخل البيوت المهجورة،
كم من الوقت ضاع لأجل الحب وفي دوّامته؟ وكم من العقول ذهبت لأجل الحب
وفي دائرته؟ ونغرق يومنا في أبجديات الحب! ! فمحب يعيش بين الذكرى
والنسيان، ومحب يتيه بين الوصل والحرمان، حبٌّ يُسعد في الاسم، ويُشقي في
الرسم، جمالٌ في الصورة، وغموضٌ في الحقيقة، الحب تاجٌ لكنه من حديد،
وكنزٌ لكنه من تراب، ومعدنٌ لكنه من سراب، وأي حبٍ يُدَّعى فإنه ناقصٌ إذ
العلاقات بين الآدميين بنيت على المصالح في الغالب وإن تنوعت صور الجمال أو
تجمَّلت الصور. وإن لكل فؤادٍ نزعةَ حبٍّ عذريةً تفيضُ بعذبِ الهوى ونميره، ولو
اطَّلع الناس على قلوب القساة لوجدوا فيها أنهاراً متدفقة من الحب والرحمة، ولكنها
تصب في أرض قيعان.
وإني أحمل راية بيضاء لبيض القلوب أن تتوجه بالحب إلى أصدق الحب
وأبقاه، وأبقى البر وأوفاه إلى....
أشواقنا نحو الحجاز تطلّعت ... كحنين مغترب إلى الأوطانِ
إن الطيور وإن قصصتَ جناحها ... تسمو بهمَّتها إلى الطيرانِ
لن أقول: «كانت الحياة قبل البعثة ظلاماً» ؛ إذ لا يجهل ذلك أحد، ولن أقول:
«كان الظلم، ولم يكن غيره» ؛ إذ لا أحد يشكُّ في ذلك، ولن أقول: «كان
الحق للقوة» ، و «كانت الحياة للرجل لا للمرأة» ؛ إذ الناس أجمعوا على ذلك،
ولكني أقول: مع البعثة وُلدت الحياة، وارتوى الناس بعد الظمأ:
لمّا أطلَّ محمدٌ زكت الرُّبى ... واخضرَّ في البستان كل هشيم
وكان من المبشرات بميلاد الحياة ما صادف المولد النبوي من إهلاك أصحاب
الفيل؛ فإنه بشرى بإهلاك الطاغوت والطغاة، وولادةٌ لفجر العدالة والحياة، كما أن
في إهلاكهم اجتماعاً لكلمة قريش وتوحدها، ولذا أنزل الله تعالى بعد سورة الفيل
سورة قريش، بياناً لسبب من أسباب إهلاك أصحاب الفيل وهو أنه لتأتلف قريش،
ومن بعد ذلك كلِّه ذكَّر قريشاً بنعمتين عظيمتين أُولاهما: أن أطعمهم من جوع،
وتمثَّل ذلك في رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وثانيهما: أن آمنهم من خوف، وهنا
كلمة «خوف» جاءت نكرة دالة على العموم، فيدخل في ذلك كلُّ خوفٍ ألمَّ بهم
فأمنوا منه، كما في قصة أصحاب الفيل وأبرهة الأشرم، أو خوفٍ يحدث لهم بعد
ذلك ظاهراً كبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو رحمةٌ وأمنٌ وأمان لهم
ظاهراً وباطناً، حينما يظهره الله تعالى كما أهلك الله أصحاب الفيل لكي تتعلق
القلوب بربِّ البيت الذي أهلك البغاة، وكيف يكون شكرهم له.
وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ ... من الدروع وعن عال من الأُطم
ومما كان ممهِّداً ومقدِّماً لدعوة الإيمان التي حملها محمد - صلى الله عليه
وسلم - ما روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت:
«كان يوم بُعاث يوماً قدمه الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم - فَقَدِم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقد افترق مَلَؤُهم، وقُتلت سرواتهم، وجُرِّحوا، فقدَّمه الله
لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم الإسلام» [1] .
ثم ولي ذلك اجتماع النفوس على نصر المظلوم، وردِّ الفضول على أهلها،
وبه سمي الحلف، وفيه انتصار للعدالة، وإنْ كان ذلك على نطاق ضيق لكن:
«لا شك أن العدل قيمةٌ مطلقةٌ وليست نسبيةً، وأن الرسول- صلى الله عليه
وسلم- يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين؛ فالقيم
الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية» [2] .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الحلف: «شهدت حلف
المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه» [3] ،
وسمَّاه: المطيبين؛ لأن العشائر التي عقدت حلف المطيبين هي التي عقدت حلف
الفضول، وإنما كان حلف المطيبين قبل ميلاد محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد
وفاة جده قصي [4] .
هذا على العموم وفي الظاهر. أما ما كان ممهداً له - صلى الله عليه وسلم -
في ذاته فإن الخلوة والتعبد من أهم سمات العظماء [5] ، فإنه بعد ذلك ممتلئٌ بما فرّغ
نفسه له؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يتحنث في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود
لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار
حراء» [6] .
ومما كان مطمئناً له- صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الوحي الرؤيا الصادقة؛
فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فلق الصبح [7] .
ومع بشريته- صلى الله عليه وسلم- وإعلانه بإعلان القرآن لذلك، إلا أنه
ذكر من المعجزات والآيات ما كان آية على علو منزلته، ورفيع قدره؛ فقد حدَّث-
صلى الله عليه وسلم-: أن حجراً كان يُسلم عليه قبل النبوة [8] . فلله ما أعظم هذا
القائد، وما أصدقه؛ فما عرفت مكة أميناً كأمانته - صلى الله عليه وسلم -، فلما
أظهره الله بالحق الذي معه لم يكن عندهم ظاهراً كذلك:
لقبتموه أمين القوم في صغر ... وما الأمين على قولٍ بمتَّهم
ولعلي أقف عند هذا الحد وأدخل فيما أردت من موضوع الحب لرسول -
صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الحب أسمى العلاقات، ولعله أرقها، وإنما يبعث على
كتابة مثل هذا الموضوع قول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-: «أنت مع
من أحببت» [9] ، وأي سعادة تقارب تلك السعادة في الحب؟ وأي نجاح في النهاية
يوازي ذلك الحب؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإنما ينفع العبدَ الحبُّ لله لما
يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته،
وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم» [10] .
وإذا تعلق قلب العبد بالله أحب كل ما يقرب إلى الله ويزيده، ويبقى أنه أشد
حباً لله، فلا حب يوازي ذلك الحب، وإنما يحب بحب الله وله. قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: «فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما
تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت
النبي- صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين،
وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم، وبهم إذا
كنت تحبهم لله؛ فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصاً لله
فإن الله هو محبوبه؛ فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله
والمحبوب لله يجذب إلى الله» [11] .
وإن مما دعاني إلى كتابة هذه الأحرف ما أراه من تخلي القريب الأدنى عن
سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وتحليهم بما يؤسف له من رموز
الفكر والأدب في جميع أحاديثهم، وإن هذا نكس ونقص في الفطرة والتعليم، وإلا
فقد قال تعالى: [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] (البقرة: 61) .
وما أراه من هجوم البعيد على سنة الكريم - صلى الله عليه وسلم - وسيرته،
مما تبثه وسائل الإعلام المختلفة، تصريحاً وتلميحاً، ظاهراً وباطناً، والله
المستعان.
«وإنه لنافع للمسلم أن يقدرمحمداً بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم،
فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها؛ لأن مسلماً يقدر محمداً على هذا
النحو يحب محمداً مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم
الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس» [12] .
وحسبي إن أنا خضت في هذا الموضوع أن أنال محبة القوم، وحسبي من
القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم:
أسيرُ خلف ركاب النُجْبِ ذا عرج ... مؤملاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً ... فما على عرج في ذاك من حرج
واسمح لي أن انتقل وإياك إلى جيل تعيش معهم الأمن والسكينة بعد أن ذقت
من الدنيا خوفاً وهلعاً، ودعني أستل من قلبك خيطاً أبيض نلتمس به الصلة بيننا
وبينهم، وأعرني دمعة تخفف بها الهوة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وتوقيره. قال صاحب الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه
وسلم -: «ذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني؟ فقال:» ما حدثتكم عن
أحد إلا وأيوب أوثق منه « [13] . وقال عنه مالك:» وحجّ حجتين، فكنت أرمقه،
ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بكى حتى
أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت
عنه « [14] .
وقال مصعب بن عبد الله:» كان مالك إذا ذكر النبي -- صلى الله عليه
وسلم - يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك،
فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون «، وذكر مالك عن محمد ابن
المنكدر وكان سيد القراء:» لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى
نرحمه « [15] ، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا
ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفرَّ لونه، وما رأيته يحدث عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً فما
كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا
يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله. وكان الحسن رحمه
الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه [16] يقول:» يا معشر المسلمين! الخشبة
تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى لقائه؛ فأنتم أحق أن
تشتاقوا إليه « [17] .
وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي-صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى
لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه
وسلم -، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله
عليه وسلم - بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
ولقد رأيت الزهري وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى
الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه) [18] .
وقال عمرو بن ميمون:» اختلفت إلى ابن مسعود سنة فما سمعته يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حدّث يوماً فجرى على لسانه: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم علاه كربٌ، حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم
قال: هكذا إن شاء الله، أو فوق ذا، أو ما دون ذا، ثم انتفخت أوداجه، وتربَّد
وجهه وتغرغرت عيناه « [19] .
وبلغ معاوية أن كابس بن ربيعة يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما
دخل عليه من باب الدار قام عن سريره وتلقّاه وقبّل بين عينيه، وأقطعه المِرغاب،
لشبهه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم [20] .
وإني سائل بعد تلك الصور المتحدثة: أين نحن من سيرتهم؟ وأين حالنا من
حالهم؟ وما أثر الحب عندنا؟ وما أثره عندهم؟ بل وما صدق ما ندَّعي؟ وما
صدق ما لم يدَّعوه؟ وأين حقيقة ما ندَّعي؟ وما دلائل المحبة عندهم؟
لقد قام في قلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقله، وأحيوا في شعورهم ما
ماتت مشاعرنا دونه، وتعلقت أبصارهم فيما وراء الطرف، في حين لم تتجاوز
أبصارنا أطرافنا، ألا رجل لم تقعد به همته ولم يتأخر به عمله؟ ! ألا صادق
يترجم المحبة قولاً وعملاً وغيرة؟ ! ألا فارس لا يرجع إلا بإحدى الحسنيين؟ !
أيها المُحبُّون: لقد تباعد بنا الزمن، واستنسرت الفتن، واشتغل الأكثرون
بالحطام من المهن، غاب عنا الحب وإن ادعيناه، ونسينا الواجبات فكانت من
أحاديث الذكريات، نتحدث عن السنة النبوية والهدي النبوي لكن لا ترى جاداً في
الاتباع، ولا صادقاً في الكلام إلا قليلاً:
وكل يدْعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
ولمزيد من التوضيح فلنعرض أنفسنا على السنة المطهرة، على صاحبها
أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولنعرض بعض المظاهر التي أحسبُ أنها كافية في
إيضاح الجفاء الذي اتصف به بعضنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وسنته، لعل الله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يبدل الجافي إلفاً، والبعيد قرباً،
والغالي قصداً.
ويأتي في أول تلك المظاهر البعد عن السنة باطناً؛ وذلك بتحول العبادات إلى
عادات ونسيان احتساب الأجر من الله، أو ترك متابعة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - وتعظيمه، والمحبة القلبية الخالصة له، ونسيان السنن وعدم تعلمها، أو
البحث عنها، وعدم توقير السنة، والاستخفاف بها باطناً.
ومن ذلك أيضاً البعد عن السنة ظاهراً؛ وذلك بترك العمل بالسنن الظاهرة
الواجب منها والمندوب، وعلى سبيل المثال سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها بل
وهجرهم، أو السنن المؤكدة مثل: سنن الأكل، واللباس، أو الرواتب، أو الوتر،
أو ركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة، والسنن المتعلقة بالصوم في
الزمان والمكان. فصارت السنة عند بعض الناس كالفضلة والله المستعان.
ولعمر الله لا يستقيم قلب العبد حقيقة حتى يعظم السنة ويحتاط لها، ويعمل بها.
هذا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» فمن رغب عن سنتي فليس
مني «كما في الصحيحين [21] ، وكان كلامه هذا - صلى الله عليه وسلم - في أمر
الزواج وأكل اللحم ونحوهما.
وقد قال أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه:» عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما من
عبد على السبيل والسنة ذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتَّت عنه خطاياه،
كما يتحاتُّ الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله
خالياً ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً، وإنَّ اقتصاداً في سبيلٍ
وسنة خير من اجتهاد فيما [هو] خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم
اقتصاداً واجتهاداً على منهاج الأنبياء وسنتهم « [22] .
ومما يلاحظ من الجفاء رد بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة بأدنى حجة من
الحجج، كمخالفة العقل أو عدم تمشيها مع الواقع، أو عدم إمكان العمل بها، أو
المكابرة في قبول الأحاديث، وتأويل النصوص وحرفها لأجل ذلك، أو رد
الأحاديث الصحيحة باعتبار أنها آحاد وأغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق
الآحاد أو دعوى العمل بالقرآن وحده، وترك ما سوى ذلك، وقد قال - صلى الله
عليه وسلم -:» لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما
أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري؛ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه « [23] .
وإن زعموا ما زعموا من وجوب وحدة المسلمين على القرآن وحده، فإن الله
تعالى أوجب في القرآن الأخذ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ما أتى به
جملة وتفصيلاً فقال تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
(الحشر: 7) . وقد ذكر الله طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن في
ثلاث وثلاثين موضعاً. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» ألا إني
أوتيت القرآن ومثله معه « [24] .
قال الحميدي:» كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل، فسأله في مسألة؟
فقال: قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فقال رجل
للشافعي: ما تقول أنت؟ ! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة!
ترى على وسطي زناراً؟ ! أقول لك: قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأنت تقول: ما تقول أنت؟ ! [25] . وقال مالك: أكلما جاءنا رجل أجدل
من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -
لجدله؟ ! « [26] .
ويقول رحمه الله:» سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وولاة الأمر
بعده سنناً الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله عز وجل واستكمالٌ لطاعة الله، وقوة على
دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير
سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى « [27] .
قال ابن القيم رحمه الله:» ومن الأدب معه ألا يُستشكَل قوله، بل تُستشكَل
الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا
يُحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن
الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد. فكان هذا من قلة
الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -، بل هو عين الجرأة « [28] .
دعوا كل قولٍ عند قول محمدٍ ... فما آمِنٌ في دينه كمخاطر
وفي عصر الإعلام يتجلى الجفاء في العدول عن سيرته - صلى الله عليه
وسلم - وسنته وواقعه وأعماله إلى رموز آخرين من عظماء الشرق والغرب كما
يسمون سواء كانوا في القيادة والسياسة، أو في الفكر والفلسفة، أو في الأدب
والأخلاق؛ والأدهى من ذلك مقارنة أقوال هؤلاء ومقاربتها لأقوال النبي - صلى
الله عليه وسلم - وأحواله، وعرضها للعموم والعامة؛ وتلك مصيبة تهوِّن على
العوام التجني على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وتثير
الشكوك في أقواله وأعماله التشريعية - صلى الله عليه وسلم - والتي هي محض
وحي: [إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] (النجم: 4) . لكن بعض الأذهان لا تتعلق إلا
بالواقع المشاهد، واللحظة المعاصرة، فينبهرون بأولئك، وينسون العظمة التي
عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحياء وللأموات، للحاضر وللمستقبل، بل
للحياة وللموت.
أتطلبون من المختار معجزة ... يكفيه شعبٌ من الأجداث أحياهُ
وقد سمى الله الكفر قبل الإيمان موتاً، والإيمان حياة، قال تعالى: [أَوَ مَن
كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] (الأنعام: 122) .
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له ... وأنت أحييت أجيالاً من العدم
وأعماله - صلى الله عليه وسلم - ما زالت وستظل قائمة بأعيانها متحدثة
بعنوانها عن عظيم وعظمة وحياة، ولا تحتاج إلى دليل وبيان:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ويلحق في ذلك تقديم أقوالهم على أقواله - صلى الله عليه وسلم -، وأحوالهم
على أحواله، وأعمالهم على أعماله، ويا للأسف! من يقوم بمثل تلك الأعمال؟
إنهم رجال العفن وفئة من أهل الصحافة وبعض ساسة الإعلام والتعليم ممن تسوّدوا
بغير سيادة، وقادوا بغير قيادة! !
وفي مجالسنا ومنتدياتنا يلاحظ المتأمل منا جفاءاً روحانياً يتضح في نزع هيبة
الكلام حين الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنها حديث عابر، أو
سيرة شاعر، أو قصة سائر، فلا أدب في الكلام، ولا توقير للحديث، ولا
استشعار لهيبة الجلال النبوي، ولا ذوق للأدب النوراني القدسي، فلا مبالاة، ولا
اهتمام، ولا توقير، ولا احترام، وقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ]
(الحجرات: 2) .
هذا أيها الناس هو الأدب الرباني؛ فأين الأدب الإنساني قبل الأدب الإسلامي؟
كما نهى الله قوماً كانوا ينادونه باسمه: (يا محمد) كما ذكره كثير من
المفسرين، فيسلب المنادي الشرف الذي تميز به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وهو النبوة والرسالة، وهذا ليس على إطلاقه لكنه أدب فتأمله.
» كان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا
يقوم أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة؛ فإذا رأى أحداً منهم
تبسم أو تحدث لبس نعله وخرج « [29] . ولعله بذلك يتأول الآيات الثلاث في أول
سورة الحجرات؛ كما تأولها حماد بن زيد بهذا المعنى [30] .
» وكان مالك رحمه الله أشد تعظيماً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فكان إذا جلس للفقه جلس كيف كان، وإذا أراد الجلوس للحديث اغتسل
وتطيب ولبس ثياباً جدداً وتعمّم وقعد على منصته بخشوع وخضوع ووقار، ويبخر
المجلس من أوله إلى فراغه تعظيماً للحديث « [31] .
ولذا حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تعليم الناس
تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتاً كتعظيمه حياً، وذلك من تمام وفائه
للنبي - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري رحمه الله عن السائب بن يزيد قال:
» كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال:
اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من
أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ! « [32] .
ويلحق بالجفاء، جفاء القلوب والأعمال، تجاه من خدموا السنة، ويتمثل ذلك
في هجر أهل السنة والأثر العاملين بها، أو اغتيابهم ولمزهم والاستهزاء بهم
واستنقاص أقدارهم، وانتقادهم وعيبهم على التزامهم بالسنن ظاهراً وباطناً.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وتصور حالة الغربة والغرباء تجد قلتهم في هذا الزمن وغيره، وقد سبقنا إلى
تصويرها ابن القيم حين قال:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّم
ولكننا سبي العدو؛ فهل تُرى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وبه وصف أهل السنة والأثر يقول /:» لا تزال طائفة من أمتي على الحق
ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك « [33] .
وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها
وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول:» الطرق إلى الله تعالى كلها
مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع
سنته ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه. كما قال تعالى: [لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيراً] (الأحزاب: 21) [34] .
أما من لم يدرك السنة والعمل بها فلا همّ له إلا الكلام والملام.
أقلِّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
وفي الحقيقة أن من تكلم فيهم فلا يضر إلا نفسه:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها ... فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل
ولعل هذا أيضاً مما ينشر السنن بين الناس:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت؛ أتاح لها لسان حسود
__________
(1) البخاري، ح/ 3777.
(2) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، (1/112) .
(3) أخرجه أحمد برقم 1655، وصححه أحمد شاكر، كما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني فيه برقم 441 / 567، وفي السلسلة الصحيحة برقم 1900.
(4) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، (1/112) ، وانظر تعليق أحمد شاكر على الحديث كما في المسند (3/120) مكتبة ابن تيمية.
(5) فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/426) : «ولا بد للعبد من أوقات ينفرد فيها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذا يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس: (نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه) ، وإما في غير بيته» .
(6) البخاري، ح/ 3، ومسلم، ح/ 160.
(7) البخاري، ح/ 3، ومسلم، ح/ 160.
(8) مسلم، ح/ 2277.
(9) البخاري، ح/ 6167، مسلم، ح/ 2639.
(10) الفتاوى (10/610) .
(11) الفتاوى (10/608) .
(12) مجموعة العبقريات، لعباس العقاد، ص: 10.
(13) سير أعلام النبلاء، (6/24) .
(14) المصدر السابق، (6/17) .
(15) حلية الأولياء، (3/147) ، وسير أعلام النبلاء، (5/354- 355) .
(16) البخاري، ح/3584.
(17) سير أعلام النبلاء، (4/570) ، وجامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ص 572، مكتبة ابن تيمية.
(18) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، للقاضي عياض 598 بتصرف وإحالة.
(19) المصدر السابق، (2/599) .
(20) المصدر السابق، (2/610) .
(21) البخاري، ح/ 5063، ومسلم، ح/ 1401.
(22) أبو نعيم في الحلية 1/253، وابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص: 16.
(23) الترمذي، ح/ 2800، وأبو داود، ح/ 4605، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،
ح/3849.
(24) أبو داود، ح/ 4604، صححه الألباني في صحيح أبي داود، ح/3848.
(25) سير أعلام النبلاء، (10/34) ، وحلية الأولياء، (9/106) .
(26) سير أعلام النبلاء، (8/99) ، وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، ص 5.
(27) شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، ص 7.
(28) مدارج السالكين: (2/406) .
(29) سير أعلام النبلاء، (9/201) .
(30) سير أعلام النبلاء، (7/460) .
(31) تذكرة الحفاظ للذهبي، (1/196) ، والشفاء لعياض، (2/601) .
(32) البخاري، ح/470.
(33) البخاري، ح/3641، ومسلم، ح/ 1037.
(34) أبو نعيم في الحلية، (10/257) ، وابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص 19.(157/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
سنابل الخير
(2 - 2)
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
في العدد الماضي بيَّن الكاتب أن المال مال الله، وأن الصدقة شُرعت
لغرضين جليلين: أحدهما: سد خَلَّة المسلمين وحاجتهم، والثاني: معونة الإسلام
وتأييده. ثم تحدث بعد ذلك عن بعض فضائل الصدقة وآثارها، من علو شأنها
ورفعة منزلة صاحبها، ووقايتها للمتصدق من البلايا والكروب، وعظم أجرها
ومضاعفة ثوابها، وإطفائها الخطايا وتكفيرها الذنوب، ومباركتها المال وزيادتها
الرزق، وأنها وقاية من العذاب وسبيل لدخول الجنة.... وغير ذلك من الفضائل،
واليوم يتابع ذكر فضائلها وآثارها.
- البيان -
11- أن الجزاء عليها من جنس العمل:
من أنفق شيئاً لله عوضه الله من جنس نفقته ما هو خير له، فيُحِسن إليه من
نوع ما أحسن، ويُعطيه من مثل ما أعطى، جزاءاً وفاقاً، وقد دلت على ذلك
أحاديث وآثار عديدة، منها: «أن رجلاً جاء بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل
الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها
مخطومة» [1] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله له
بكل عضو منها عضواً من النار حتى فَرْجه بفَرْجه» [2] ، وقوله صلى الله عليه
وسلم: «لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» [3] والستر هنا
شامل لمعايب العبد وعورته [4] ، وقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أيُّمَا
مسلم كسا مسلماً ثوباً على عُري كساه الله من خضر الجنة، وأيُّمَا مسلم أطعم مسلماً
على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيُّمَا مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من
الرحيق المختوم» [5] .
ولا يقتصر الأمر على المجازاة على الصدقة بمثلها؛ بل الأمر يتجاوز ذلك
إلى حال المتصدق عليه؛ إذ بمقدار إدخالها للسرور عليه، وإزالتها لشدائده،
وتفريجها لمضايقه، وإصلاحها لحاله، ومعونتها له وسترها عليه؛ ينال المتصدق
أجره من الله من جنس ذلك، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس
عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يَسَّر
على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا
والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» [6] ، وقوله صلى الله
عليه وسلم: «من يلق أخاه المسلم بما يحب لِيَسُرَّه بذلك، سرَّه الله يوم القيامة» [7] .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:
«كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن
يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه» [8] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً لم يعمل خيراً قط [9] ، وكان يداين
الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا،
قال: فلما هلك، قال الله: هل عملتَ خيراً قط؟ قال: لا؛ إلا أنه كان لي غلام،
وكنت أداين الناس، فإذا بعثته ليتقاضى قلت له: خذ ما تيسر واترك ما تعسر
وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك» [10] .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: «أُتيَ اللهُ بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال
له: ماذا عملتَ في الدنيا؟ قال: [وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً] (النساء: 42) قال:
ما عملتُ من شيء يا ربِّ إلا أنك آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خُلُقي
أن أيسر على الموسر وأُنظِر المعسر، قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك،
تجاوزوا عن عبدي» . قال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا
سمعنا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم [11] .
فيا من يرى ضخامة ذنبه وعظم تقصيره في حق ربه اشترِ نفسك وأكثر
صدقتك فداءاً لنفسك، وتفريجاً لكربتك، وإزالة لشدتك في قبرك وبين يدي ربك؛
فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل «ومن بطَّأ به عملُه لم يسرع به
نَسبُه» [12] .
12- إظلالها لصاحبها في المحشر:
في المحشر حر شديد يفوق الوصف؛ إذ يمكث العباد فيه مدة طويلة مقدارها
خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، والشمس دانية من رؤوسهم ليس بينهم
وبينها إلا مقدار ميل، فترتوي الأرض من عرقهم ويذهب فيها سبعين ذراعاً، ثم
يرتفع فوقها؛ فيكون الناس في العرق على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يكون العرق
إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقوَيْه ومنهم من
يلجمه العرق إلجاماً [13] .
وهناك آخرون من ذوي الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة لا يعانون من شيء
من ذلك، ومن هؤلاء المتصدقون الذين أفادت النصوص بأنهم يكونون في المحشر
في ظل صدقاتهم تحميهم من شدة الحر، وتدفع عنهم وهج الشمس [14] ، ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس» [15] .
ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل إن العبد متى فرَّج عن غريمه أو عفا عنه،
ومتى أسرَّ بصدقته وأخفاها كان ذلك مؤهلاً له للاستظلال في ذلك الموقف العظيم
تحت العرش، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن غريمه أو محا عنه كان
في ظل العرش يوم القيامة» [16] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله
تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم -: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [17] .
وقد أدرك السلف هذا الأمر واستوعبوه، فاعتنوا بالصدقة والإنفاق في مرضاة
الله تعالى أيما عناية؛ ومواقفهم في ذلك أكثر من أن تحصر، ومن ذلك أن الفاروق
عمر رضي الله عنه أرسل بأربعمائة دينار مع غلام إلى أبي عبيدة، وقال للغلام:
تَلَهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك
أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثم قال:
تعالَيْ يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى
أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لمعاذ، فقال: اذهب
بها إلى معاذ بن جبل ثم تَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها إليه،
فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله
ورحمه، تعالَيْ يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت
فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: نحن والله مساكين فأعطنا. فلم يبق في
الخرقة إلا ديناران فدفع بهما إليها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فَسُرَّ بذلك، وقال:
إنهم إخوةٌ بعضهم من بعض « [18] .
وهذا مرثد المزني الفقيه الثبت كان لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء، ولا
يخرج إلى المسجد إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح حتى ربما
شوهد ومعه في كُمِّه بصل، فيقال له: إن هذا ينتن ثيابك. فيقول: إني لم أجد في
البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» ظل المؤمن يوم القيامة
صدقته « [19] .
وهذا شبيب بن شيبة يقول:» كنا بطريق مكة وبين أيدينا سفرة لنا نتغدى
في يوم قائظ، فوقف علينا أعرابي ومعه جارية له زنجية، فقال: يا قوم! أفيكم
أحد يقرأ كلام الله حتى يكتب لي كتاباً؟ قال: قلنا: أَصِبْ من غدائنا حتى نكتب
لك ما تريد. قال: إني صائم. فعجبنا من صومه في تلك البرية، فلما فرغنا من
غدائنا دعونا به، فقلنا: ما تريد؟ فقال: أيها الرجل! إن الدنيا قد كانت ولم أكن
فيها، وستكون ولا أكون فيها، فإني أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه الله وليوم
العقبة، أتدري ما يوم العقبة، قوله عز وجل: [فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا
العَقَبَةُ] (البلد: 11-12) ، فاكتب ما أقول لك ولا تزيدن حرفاً: هذه فلانة خادم
فلان قد أعتقها لوجه الله وليوم العقبة. قال شبيب: فأتيت بغداد فحدثت بهذا
الحديث المهدي، فقال: مائة نسمة تُعتق على عُهدة الأعرابي « [20] .
13- توفيتها نقص الزكاة الواجبة:
أوجب الله الزكاة وجعلها أهم أركان الإسلام العملية بعد الصلاة، فقال سبحانه:
[وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] (البقرة: 43) ، كما عد
عدم إخراجها من خصال المشركين فقال تعالى: [وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ] (فصلت: 6-7) ، ورتب الوعيد الشديد على البخل بها وعدم
إخراجها فقال: عز وجل: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] (التوبة: 34-35) ،
وقال صلى الله عليه وسلم:» من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثِّل له ماله شجاعاً
أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول: أنا
مالك، أنا كنزك - ثم تلا هذه الآية: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ]
(آل عمران: 180) « [21] .
ولا يتوقف الأمر على ذلك؛ إذ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
» ما مانع الزكاة بمسلم « [22] ، وذهب بعض أهل العلم وإن كان خلاف الراجح إلى
كفر من لا يخرج الزكاة بخلاً بها أخذاً من قوله سبحانه وتعالى: [فَإِن تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ] (التوبة: 11) وحيث رتب الله
تعالى فيها ثبوت أخوة الدين على هذه الأوصاف مجتمعة؛ فإذا لم تجتمع انتفت
الأخوة الدينية، وهي التي لا تنتفي بحال إلا بانتفاء الإيمان وخروج العبد من
الإسلام [23] .
ونظراً لكون الزكاة بهذه المنزلة والأهمية، والعبد عرضة للتقصير في أدائها
أو السهو في إخراجها أو الخطأ في حسابها فقد شرع الله رحمةً بخلقه وإحساناً إليهم
صدقة التطوع لتكون توفية لنقصها، وجبراناً لخللها، وإكمالاً للعجز الحاصل فيها؛
ويشير إلى ذلك حديث تميم الداري رضي الله عنه مرفوعاً قال:» أول ما يحاسب
به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن كان لم يكملها قال
الله تبارك وتعالى لملائكته: هل تجدون لعبدي تطوعاً تكملوا به ما ضيع من
فريضته؟ ثم الزكاة مثل ذلك، ثم سائر الأعمال على حسب ذلك « [24] ، والذي
يدل على أنه يُنظر في زكاة العبد فإن كملت كتبت له تامة، وإن ضيع شيئاً منها
نظر هل له من الصدقة ما يتم به نقص الفرض، فإن لم يكن له منها ما يتم به
نقص الفرض كان معرضاً للعقاب الشديد الذي أوضحته النصوص، وذلك إن لم
يتغمده الله بعفو منه وتجاوز [25] .
14- أنها كنز لصاحبها يوم القيامة:
توزن الأعمال يوم القيامة فيكون العبد أحوج ما يكون إلى عمل صالح يثقل به
ميزانه ليكون ذلك سبب سعادته وفلاحه كما قال تعالى: [فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المؤمنون: 102) والصدقة من الأعمال الجليلة التي
أخبر -صلى الله عليه وسلم- بأن العبد يدخرها لغده، ويكتنزها لنفسه، ويجدها
عند ربه إذا قدم إليه ووقف بين يديه وافرة محفوظة، يشهد لذلك قوله تعالى:
[وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً] (المزمل: 20) وقوله سبحانه: [مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ]
(النحل: 96) .
والنصوص النبوية الدالة على أن الصدقة ذخر لصاحبها وكنز له كثيرة منها:
قوله -صلى الله عليه وسلم-:» يقول ابن آدم: مالي مالي! ! وهل لك يا ابن آدم
من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ ! « [26] ،
وفي رواية:» إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى
فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس « [27] .
بل إنه -صلى الله عليه وسلم- جعل الصدقة هي مال العبد الحقيقي فقال -
صلى الله عليه وسلم-:» أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله!
ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما
نعلم إلا ذاك يا رسول الله! قال: ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله.
قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قَدّم، ومال وارثه ما
أَخّر « [28] .
وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على غرس هذا الأمر وتقريره في
نفوس صحابته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه:» أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أمر أن تذبح شاة فيقسمها بين الجيران، قال: فذبحتها فقسمتها بين
الجيران، ورفعت الذراع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أحب الشاء إليه
الذراع، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما بقي عندنا منها إلا الذراع.
قال: كلها بقي إلا الذراع « [29] .
وقد استوعب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فزهدوا
بالدنيا وأكثروا من الصدقة؛ فها هو -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه يوماً أن
يتصدقوا: يقول عمر -رضي الله عنه-:» فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم
أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي؛ فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما
عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أبقيتَ لأهلك؟ قال: أبقيتُ
لهم الله ورسوله. قلتُ: لا أسابقك إلى شيء أبداً « [30] .
وها هو عثمان رضي الله عنه:» يجهز جيش العسرة ويشتري بئر رومة
وأرضاً بجوار المسجد ليوسع به من صلب ماله « [31] ، وها هو طلحة بن عبيد
الله رضي الله عنه:» يتصدق يوماً بمائة ألف درهم، وأخرى بأربعمائة ألف،
وباع أرضاً له بسبعمائة ألف، فبات أرِقاً من مخافة المال حتى أصبح
ففرقه « [32] ، ومعاذ رضي الله عنه:» كان يعطي حتى ادّان ديناً أغلق
ماله « [33] .
وهاهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يسمع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يحث على الصدقة، فيقول:» يا رسول الله! عندي أربعة آلاف:
ألفان أقرضهما ربي، وألفان لعيالي « [34] ثم تصدق بعد ذلك بأربعين ألف، ثم
تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم على
ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله» [35] .
وهاهو سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه «بعث إليه عمر بألف دينار،
وقال: استعن بها على أمرك. فقالت امرأته: الحمد الله الذي أغنانا عن خدمتك.
فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ! ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها.
قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصررها صرراً ثم قال: انطلق
بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى
آل فلان. فبقيت منه ذهيبة فقال: أنفقي هذه. ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا
تشتري لنا خادماً؟ ! وما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين» [36] .
وأخبارهم رضي الله عنهم في الزهد بالدنيا والادخار للآخرة أكثر من أن
تحصى.
فكن كيِّساً يا عبد الله! وآثر آخرتك؛ فإنها أعظم من الأولى، وما عند الله
خير وأبقى لك.
15- جريان أجر الباقي منها بعد الموت:
حياة العبد دار امتحانه وموضع سعيه، وبموته ينقطع عمله ويتوقف كسبه؛
فلا ينقص من حسناته ولا يزاد إلا بأعمال محددة جلاها الشارع وأوضحتها
النصوص [37] ، ومن أجلِّ الأعمال التي تزيد الحسنات وأبرزها الصدقة الباقية بعد
موت العبد سواء ما كان منها في سبيل نصرة الدين أو في تخفيف معاناة المعوزين
أو غير ذلك من أبواب البر، والأدلة على ذلك عديدة منها: قوله -صلى الله عليه
وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: وذكر منها صدقة
جارية» [38] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد
الموت وذكر منهم ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت» [39] .
وقد وردت أحاديث تُعدد أنواعاً من هذه الصدقة الجارية [40] ، ومنها: قوله -
صلى الله عليه وسلم-: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته وذكر
من ذلك: ومصحفاً ورَّثَه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه،
أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته» [41] ، وقوله -
صلى الله عليه وسلم-: «سبعة يجري للعبد أجرهن بعد موته وهو في قبره وذكر
منها: أو كرى نهراً [42] أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث
مصحفاً» [43] .
والصدقة الجارية كالوقف ونحوه من آثار العبد وبقايا عمله التي أخبر سبحانه
أنه يكتبها له؛ وذلك في قوله تعالى: [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ] (يس: 12) ، ومعناه: أن الله يكتب أعمال العباد التي
باشروها في حياتهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك إن خيراً
فخير، وإن شراً فشر [44] ، يقول سيد قطب: «كل ما قدمت أيديهم من عمل،
وكل ما خلفته أعمالهم من آثار، كلها تكتب وتحصى، فلا يند منها شيء
ولا ينسى» [45] ، ولأبي السعود كلام أجلى يقول فيه: « [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا]
(يس: 12) » أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، [وَآثَارَهُمْ]
(يس: 12) التي أبقوها من الحسنات كعلم علَّموه، أو كتاب ألَّفوه، أو حبيس
وقَفُوه، أو بناء بنوه من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البر،
ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان، وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما
بين العباد، وغير ذلك من فنون الشر التي أحدثوها وسنوها لمن بعدهم من
المفسدين « [46] .
فلو لم يكن في الصدقة من فضل إلا هذا لكان فيه كفاية لمن عقل وأراد النجاة
. فيا من إذا مات انقطع عمله، وفاته أمله، وحق ندمه، وتوالى همه، احرص
على ما ينفعك، وأكثر صدقتك التي يجري أجرها لك بعد موتك؛ فإن ذلك قرض
منك لك مدخر عند ربك [47] .
16- مشروعية إهداء ثوابها للميت:
أوجب الله البر بالوالدين، وحث على صلة الأقربين، والإحسان إلى الآخرين.
وإن من أعظم البر بعد البر، والصلة بعد الصلة، وأرفع الإحسان بعد الإحسان
نفع من كان يُبَر في حياته ويوصل ويحسن إليه، إذا أُدخل في قبره، وتوقف كسبه،
وبدأت آخرته، والسعي في إيصال الثواب إليه وهو أحوج ما يكون إلى ذلك بفعل
بعض الطاعات والقُرَب التي أفاد الشارع بوصول ثوابها إلى الميت [48] ، ويأتي في
طليعة تلك الأعمال: الصدقة عليه، والتي أجمع العلماء على نفعها له ولحوق
ثوابها به للنصوص الصحيحة الواردة في ذلك [49] ، ومنها: حديث عائشة رضي
الله عنها:» أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن
أمي افتُلِتَتْ نفسُها [50] ولم توص، وأظنها لو تكلَّمتْ تصدَّقَتْ. أفلها أجر إن
تصدقتُ عنها؟ قال: نعم « [51] .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:» أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه
وسلم-: «إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟
فقال: نعم» [52] .
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه
توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها؛
أينفعها شيء تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم! قال: فإني أُشهدك أن حائطي المِخْرَاف
[53] صدقة عليها» [54] .
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن العاص بن وائل نذر في
الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن
عَمْراً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: أما أبوك فلو أقر
بالتوحيد فصُمتَ وتصدَّقتَ عنه نفعه ذلك» [55] ، قال الشوكاني في شرحه له:
«فأخبره أن موت أبيه على الكفر مانع من وصول نفع ذلك إليه، وأنه لو
أقر بالتوحيد لأجزأ ذلك عنه ولحقه ثوابه» [56] .
وليس ذلك مقصوراً على صدقة الولد عن والديه [57] ، بل إنَّ تصدُّق
الصاحب ينفع الميت؛ كما يدل عليه حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال:
كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فأتاه نفر من بني سليم،
فقالوا: يا رسول الله! إن صاحباً لنا قد أوجب [58] ، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من
النار» [59] .
وحين علم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الميزة العظيمة
للصدقة وهم من هم براً وفضلاً وإحساناً بادروا إلى التصدق عن أمواتهم، ومن ذلك:
أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق عن والدته بعتق عشر رقاب [60] ،
وأعتقت عائشة رضي الله عنها عن أخ لها مات في منامه تلاداً من تلاده [61] .
فيا صاحب الخلق الجميل، ويا من لا تنسى بر من برك، ومعروف من
أحسن إليك! رد برهم ببرٍ أعظم، وفضلهم بفضل أجلَّ، وهم في دار الحسرة أشد
ما يكونون اضطراراً إلى تفضلك ومعروفك؛ فإن الأيام دول وكما تدين تدان، فكما
تبر والديك وتحسن إلى ذويك وأهل الفضل عليك يبرك أولادك ويحسن إليك ذووك
ومن تفضلت عليهم في دنياك.
17- سترها عيوب العبد واستجلابها محبة الناس
وحمدهم ودعاءهم له:
الصدقة والبر وصنائع الخير حارسة لعِرض صاحبها، غافرة لزلته، ساترة
لعيوبه، متجاوزة عن هفواته، وفي المقابل فلؤم العبد وشحه من دواعي هتك
عرضه، وتتبع زلاته، وكشف عيوبه، وإظهار هفواته، قال الشاعر:
ويُظهرُ عيبَ المرءِ في الناس بخلُه ... ويَسترُه عنهم جميعاً سخاؤُه
تَغطَّ بأثوابِ السخاءِ فإنني ... أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غطاؤُه
وهي من أسباب القُرْب من العباد ونيل مودتهم ودعائهم وتعظيمهم،
والحصول على شكرهم وثنائهم؛ فصاحبها محمود الأثر في الدنيا يحبه البعيد
والداني، ويألفه المتسخط والراضي؛ لأن صاحبها بعمله ذلك يرتهن الشكر،
ويسلف المعروف ليربح المحبة والدعاء والحمد.
ولا يقتصر نيل المتصدق للمحبة والشكر والدعاء من المتصدَّق عليهم فقط،
بل إنه ليود المتصدق ويحمده ويدعو له من لا ينال الصدقة ولا تقدم إليه، قال
أبو الفتح البستي:
أَحْسِن إلى الناسِ تَستعبدْ قلوبَهمُ ... فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
مَن جادَ بالمال مالَ الناسُ قاطبةً ... إليه، والمالُ للإنسان فتَّانُ
أَحْسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ ... فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ
وعلى الضد من ذلك فالبخيل ليس له خليل، وهو بشحه يستجلب السخط،
ويستدعي الذم والبغض؛ فاللائق بالعاقل إذا أمكنه الله تعالى من حطام هذه الدنيا،
وعلم زوالها عنه، وانقلابها إلى غيره، وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا ما قدم من
الأعمال الصالحة، أن يكثر من الصدقات، وأعمال البر، وصنائع المعروف،
مبتغياً بذلك الثواب في العقبى، والذكر الجميل في الدنيا؛ إذ السخاء محبة ومحمدة،
وسبب لنيل الدعوة بالخير، والبخل مذمة، ومبغضة، وسبب لنيل الدعوة بالشر،
ولا خير في مال بدون وجود إحسان، كما لا خير في النطق بدون فعال. قال
الشاعر:
الجودُ مكرمةٌ، والبخلُ مبغضةٌ ... لا يستوي البخلُ عندَ اللهِ والجودُ [62]
فيا من تريد المرتبة العالية في الآخرة، والمنزلة الجليلة في الدنيا الزم
الصدقة والجود، وأكثر من الإحسان وأعمال البر، وتجنب الشح؛ فإنك قادم على
ربك وحالك كما وصف الشاعر:
وما تزودَ مما كان يَجمَعه ... إلا حنوطاً غداةَ البين معْ خِرَقِ
وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشدُّ به ... وقلَّ ذلك مِن زادٍ لمنطلقِ [63]
18- أنها طريق للظفر بمحبة الله ورحمته ورضاه:
في الصدقة إحسان ورحمة، وتفضل وشفقة، ولذا كانت من وسائل نيل محبة
رب العالمين، والحصول على رحمته، والظفر برضوانه؛ لأنه سبحانه يحب
المحسنين ويرحم الراحمين، وقد دلت نصوص القرآن والسنة على ذلك، فمما دل
منها على أن التصدق والإنفاق في مرضاة الله من دواعي حبه عز وجل للعبد قوله
تعالى: [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُحْسِنِينَ] (البقرة: 195) قال السعدي: «وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان
بالمال» [64] .
كما أتت أحاديث عديدة تبين أن الله يحب المتصدقين وذوي البر والإحسان
وصانعي المعروف، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب العباد إلى الله
أنفعهم لعياله» [65] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الناس إلى الله
أنفعهم» [66] ، ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاثة يحبهم الله
وثلاثة يبغضهم الله، أما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم
بقرابة بينهم وبينه، فتخلف رجل أعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله
والذي أعطاه ... » [67] .
كما جاءت أحاديث تبين أن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء بخلقه،
المشفقين على عباده وهي صفة المتصدق ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-:
«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء» [68] ،
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز
وجل» [69] .
ومن النصوص الدالة على أن الصدقة دافعة لغضب الله وسخطه، جالبة
لرضوانه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» [70] ،
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تضمن قصة الأبرص والأقرع والأعمى،
وفيه قول الملَك للأعمى لما بذل المال محتسباً الثواب من الله وأمسكه صاحباه شحاً
به وبخلاً: «أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك وسخط على
صاحبيك» [71] .
فيا طامعاً في محبة الله ورضوانه، ويا راجياً رحمته وإحسانه.. عليك
بالصدقة؛ فإنها نِعْمَ الوسيلة لتحقيق غايتك والوصول إلى بغيتك.
19- أن فيها انتصاراً للعبد على شيطانه:
حذر الله عباده من الشيطان، وأوضح لهم عداوته لهم، وتوعده إياهم
بإغوائهم وتزيين الباطل لهم، وعمله بما يستطيع على إضلالهم وزجِّهم في دوامة
الشهوات والشبهات، لكي يكونوا له طائعين، ولخطواته متبعين، وعن الخير
متخاذلين، وعن رضوان ربهم متباعدين فقال تعالى: [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (البقرة: 168) ، وقال سبحانه حكاية عن إبليس:
[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]
(الأعراف: 16- 17) ، وقال عز وجل فيه: [لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ] (النساء: 118-119) ، وقال تعالى:
[قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ] (الحجر: 39-40) .
وفي باب الصدقة فإن الشياطين تتكالب على العبد، داعية له إلى البخل،
حاثة له على الشح، ناهية له عن الجود والبذل، كما قال سبحانه: [الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]
(البقرة: 268) فإن هو تصدق فقد غلبهم وانتصر عليهم، يدل لذلك قوله -صلى
الله عليه وسلم-: «ما يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنه لَحْيَيْ [72]
سبعين شيطاناً» [73] ، يقول المناوي معللاً ذلك: «لأن الصدقة على وجهها إنما
يُقصد بها ابتغاء مرضاة الله، والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة
العظيمة، فلا يزالون يدأبون في صده عن ذلك، والنفس لهم على الإنسان ظهيرة؛
لأن المال شقيق الروح فإذا بذله في سبيل الله فإنما يكون برغمهم جميعاً، ولهذا كان
ذلك أقوى دليلاً على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته» [74] .
فهل بعد هذه الرتبة من رتبة، والفضل من فضل؟ فيا من يريد إرضاء ربه،
والانتصار على أعدائه، وجعل شياطينه تعيش حسرة وندامة، عليك بالصدقة
والإنفاق في طاعة ربك ومرضاته!
20- سعة صدر صاحبها وانشراحه:
الصدقة ونفع الخلق والإحسان إليهم من أسباب انشراح الصدر وسعة البال
وتحصيل السعادة؛ ومردُّ ذلك إلى شعور المتصدق بطاعة الله تعالى وامتثال أمره،
والتحرر من عبودية المال وتقديسه، والقيام بمساعدة الآخرين، وإدخال السرور
عليهم، والسير في طريق أهل الجود والإحسان، والتعرض لنفحات الرب ورحمته
وإحسانه.
وعلى الضد من ذلك يكون حال البخيل؛ فإن هو همَّ يوماً بالصدقة ضاق
صدره، وانقبضت يده، خوفاً من نقص المال الذي صَيَّر جمعه غايته، يقول ابن
القيم: «فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً،
والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأعظمهم هماً
وغماً» [75] ، ويقول ابن عثيمين: «فالإنسان إذا بذل الشيء ولا سيما المال يجد
في نفسه انشراحاً، وهذا شيء مجرب، ... لكن لا يستفيد منه إلا الذي يعطي
بسخاء وطيب نفس، ويخرج المال من قلبه قبل أن يخرجه من يده، أما من أخرج
المال من يده، لكنه في قرارة قلبه فلن ينتفع بهذا المال» [76] لأنه قد يخرجه خجلاً
من الناس أو مجاراة لهم بدون استحضار نية.
وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لانشراح صدر المتصدق وانفساح
قلبه، وضيق صدر البخيل وانحصار قلبه مثلاً [77] ، فقال: «مثل البخيل
والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما،
فكلما همَّ المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما همَّ البخيل بالصدقة
انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى ترقوته، فيجتهد
أن يوسعها فلا تتسع» [78] ، قال الخطابي في شرحه: «هذا مثل ضربه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- للجواد المنفق، والبخيل الممسك، وشبههما برجلين
أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستجنُّ بها على رأسه ليلبسها، والدرع أول ما
يلبس إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميها،
ويرسل ذيلها على أسفل بدنه فيستمر سافلاً، فجعل -صلى الله عليه وسلم- مثل
المنفق مثل من لبس درعاً سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل
البخيل كرجل كانت يداه مغلولتين إلى عنقه، ناتئتين دون صدره، فإذا أراد لبس
الدرع حالت يداه بينهما وبين أن تمر سفلاً على البدن، واجتمعت في عنقه فلزمت
ترقوته، فكانت ثقلاً ووبالاً عليه من غير وقاية وتحصين لبدنه، وحقيقة المعنى:
أن الجواد إذا همَّ بالنفقة اتسع لذلك صدره، وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء والبذل،
وأن البخيل يضيق صدره، وتنقبض يده عن الإنفاق في المعروف والصدقة» [79] .
والأمر كما هو متضح مرتبط بالممارسة؛ فيا من تريد شرح الصدر وسعة
البال والولوج من بوابة السعادة جَرِّب تَجِدْ.
21- نفعها المتعدي:
لا يقتصر نفع الصدقة على صاحبها بل يتجاوزه إلى غيره من الأفراد،
ويتخطى الأفراد إلى المجتمعات، في كثير من جوانب الحياة، ولعل من أبرز
منافعها المتعدية ما يلي:
* إسهامها في علاج مشكلة الفقر؛ إذ تدفع حاجة المعوزين فتسد جوعهم،
وتستر عوراتهم، وتقضي ديونهم وحاجاتهم، وتفرج كربهم، وتنفس مضايقهم،
وتحسن معايشهم، وتدخل السرور على قلوبهم ... إلى آخر ذلك من الأعمال التي
حث الشارع عليها، ورغبت النصوص والآثار فيها، ومن ذلك قوله -صلى الله
عليه وسلم-: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل
سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه
جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد
شهراً» [80] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة! استتري من النار ولو
بشق تمرة؛ فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان» [81] ، وقول علي رضي الله
عنه: «من آتاه الله منكم مالاً فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك به
العاني الأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء والمجاهدين، وليصبر فيه على
النائبة؛ فإن بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة» [82] .
* ما فيها من إشاعة التكافل الاجتماعي، وعميق الأخوة، ونشر المودة،
وبث الرحمة بين أفراد المجتمع المسلم؛ بحيث تجعله كأسرة واحدة متراصة يرحم
فيه القوي الضعيف، ويحسن فيه القادر إلى العاجز، والغني إلى الفقير؛ فتنكسر
بذلك سَوْرة الحسد، وتخف حدة الحقد التي قد توجد لدى بعض المعوزين؛ لأنهم
يرون مساعدة إخوانهم الأغنياء لهم، ويشعرون بوقوفهم إلى جانبهم في أوقات
الأزمات والمحن فيألفونهم ويحبونهم [83] .
* من دوافع الجريمة الرئيسة شدة الفقر؛ لأنه يحمل المرء تحت ضغط
الحاجة على فعل المعايب وارتكاب المحظور، بل قد يؤدي ببعضهم إلى التسخط
والاعتراض على الله تعالى وعدم الرضاء بقضائه، ولذا صح من جهة المعنى
حديث: «كاد الفقر أن يكون كفراً» [84] .
والصدقة وأعمال البر تقلل من أثر هذا الدافع جداً، فتسهم بذلك في إصلاح
المجتمع ووقاية أفراده من التورط في اقتراف الجريمة وبخاصة المالي منها لأن
الفقير حين يأتيه ما يسد حاجته، ويفك كربته يرى أن الغني الذي أعطاه من ماله
محسناً إليه فلا يعتدي على شيء من ممتلكاته، فينتشر بذلك الأمن ويعم الاطمئنان.
وفي المقابل فإن إمساك المال والشح به بوابة المهالك كما جاء في الحديث:
«واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم
واستحلوا محارمهم» [85] ، وفي رواية: «أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور
ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» [86] قال المناوي معللاً ذلك: «وإنما كان
الشح سبب ما ذكر؛ لأن في بذل المال والمواساة تحابباً وتواصلاً، وفي الإمساك
تهاجر وتقاطع، وذلك يجر إلى تشاجر وتغادر من سفك الدماء واستباحة
المحارم» [87] .
ولا يقتصر أثر الصدقة على ذلك؛ إذ إنها تصلح أخلاق الفرد، وتمنعه من
الوقوع فيما لا يحمد؛ لأن العبد متى اشتد فقره، وكثر دَيْنُه: حدث فكذب، ووعد
فأخلف [88] ، وحين تأتيه الصدقة تكون حجاباً بينه وبين الوقوع في ذلك.
* ما فيها من نصر الحق وتقويته؛ إذ لها تأثير ظاهر في نشر الدين وقيام
الكثير من المناشط الدعوية والعلمية، والأعمال التي يقارع بها الشر، ويذاد بها عن
حياض الدين، والواقع خير شاهد؛ إذ يجد المتأمل أن جل العمل الدعوي والخيري
في أرجاء الأرض يقوم على الصدقة وصنائع المعروف؛ بحيث لو توقفت لكان ذلك
سبباً في حرمان الأمة بل والبشرية من كثير من صنوف الخير.
وبهذا تتجلى أهمية الدور الذي يقوم به المتصدقون في الدعوة إلى الله،
وإشاعة الخير ودحض الشر، بل إن لأصحاب الأموال كما يظهر أجر الأعمال
التي تقوم على صدقاتهم من غير أن ينقص ذلك من أجر مباشريها والقائمين
عليها شيئاً.
__________
(1) مسلم: 2/1505 رقم: 1892.
(2) البخاري، فتح: 11/607 رقم: 6715.
(3) مسلم: 3/2002 رقم: 2590.
(4) انظر: تحفة الأحوذي، للمباركفوري: 8/215.
(5) سنن أبي داود: 2/130 رقم: 1682 مرفوعاً، وقد جعله ابن حجر الهيتمي في الزواجر:
1 /318 320 غير نازل عن رتبة الحسن، وضعف رفعه غير واحد، وهو الظاهر، وقال أبو حاتم كما في علل الحديث لولده: 2/171 رقم: 2007 (الصحيح موقوف، والحفاظ لا يرفعونه) وقال الترمذي في جامعه: 4/633 رقم: 2449 عن وقفه: (وهذا أصح عندنا وأشبه) ، وانظر تعليق الأرناؤوط على المسند 17/167، ضعيف الجامع، للألباني: 330 رقم: 2249، ولا يخفى أن مثله إذا ثبت موقوفاً فمرده إلى السماع لا الرأي.
(6) مسلم: 3/2074 رقم: 2699.
(7) المعجم الصغير، للطبراني: 2/288 رقم: 1178 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8/193 (وإسناده حسن) .
(8) البخاري، فتح: 4/361 رقم: 2078.
(9) أي سوى الإسلام بما له من أركان لا يقوم بدونها كما أبان ذلك أبو حاتم انظر: صحيح ابن
حبان: 11/423.
(10) المستدرك، للحاكم: 2/28 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، صحيح ابن حبان:
11/422 رقم: 5043، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/417 رقم: 2077.
(11) المستدرك، للحاكم: 2/306، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/85 رقم: 125 قوله: «من فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» : أي: من فمه.
(12) مسلم: 3/2074 رقم: 2699.
(13) انظر: مسلم: 3/196 رقم: 2683، 2684.
(14) انظر: فيض القدير، للمناوي: 2/363، سبل السلام، للصنعاني: 2/141.
(15) المسند، لأحمد: 28/568 رقم: 17333، وصححه ابن خزيمة: 4/94 رقم: 2431، وابن حبان: 8/104 رقم: 3310، والحاكم: 1/416.
(16) المسند، لأحمد: 5/300، سنن الدارمي: 2/340 رقم: 2589، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/1119 رقم: 6576.
(17) البخاري، 3/344 رقم: 1423.
(18) الزهد، لابن المبارك: 178 رقم: 511، المعجم الكبير، للطبراني: 20 / 33: 46.
(19) صحيح ابن خزيمة: 4/95.
(20) شعب الإيمان للبيهقي: 4/69 رقم: 4344.
(21) البخاري، فتح: 3/315 رقم: 1403.
(22) المصنف، لابن أبي شيبة: 2/353.
(23) الفروع، لابن مفلح: 1/296، الشرح الممتع، لابن عثيمين: 6/8، والذي بين حفظه الله أن هذا القول له وجه جيد في الاستدلال بهذه الآية، ثم أوضح بأنها مخصوصة فقال: (لكن دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم (1/682 رقم: 987) على أن الزكاة ليس حكمها حكم الصلاة أي في الخروج من الإسلام بتركها تهاوناً وكسلاً حيث ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مانع زكاة الذهب والفضة، وذكر عقوبته، ثم قال: «ثم يرى سبيله إلى الجنة وإما إلى النار» ولو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة) .
(24) سنن أبي داود: 1/541 رقم: 866، المستدرك، للحاكم: 1/262 263، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/503 رقم: 2574.
(25) انظر: شرح الموطأ، للزرقاني: 1 /501، فيض القدير، للمناوي: 3/95، سبل السلام، للصنعاني: 2/141.
(26) مسلم: 6 /2273 رقم: 2958.
(27) مسلم: 6 / 2273 رقم: 2959.
(28) البخاري، فتح: 11/265 رقم: 6442، صحيح ابن حبان: 8/122 رقم: 333 واللفظ له.
(29) مختصر زوائد مسند البزار، لابن حجر: 1/390، وحسنه الحافظ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/109 وقال: (رواه البزار، ورجاله ثقات) .
(30) سنن أبي داود: 2/312 رقم: 1678، وجامع الترمذي: 5/614 رقم: 3675، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 1/315 رقم: 1472.
(31) جامع الترمذي: 5/627 رقم: 3703، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 3/209 رقم: 2921.
(32) الحلية، لأبي نعيم: 1/88.
(33) الحلية، لأبي نعيم: 1/231.
(34) مختصر زوائد البزار، لابن حجر: 2/85 رقم: 1469.
(35) الحلية، لأبي نعيم: 1/99.
(36) الحلية، لأبي نعيم: 1/246.
(37) جمع السيوطي الأعمال التي تجري للعبد بعد الموت في قوله (كما في الديباج: 4/328) : ثم أضاف: وتعَليمٌ لقرآن كريمٍ فخذه من أحاديثَ بحصر ِ.
(38) مسلم: 2/1255 رقم: 1631.
(39) المسند، لأحمد: 5/261، المعجم الكبير، للطبراني: 8/205 رقم: 7831، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/212 رقم: 877.
(40) انظر: الترغيب والترهيب، للمنذري: 1/97، فيض القدير، للمناوي: 4/84.
(41) سنن ابن ماجه: 1/88 رقم: 242، وذكر في الزوائد تحسين ابن المنذر له، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/443 رقم: 2231.
(42) أي حفره وأخرج طينه انظر: لسان العرب: 5/3867.
(43) كشف الأستار، للهيثمي: 1/149، جامع المسانيد والسنن، لابن كثير: 23 /199 رقم: 2659، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/674 رقم: 3602.
(44) انظر: معالم التنزيل، للبغوي: 7/9، تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/565.
(45) في ظلال القرآن، لسيد قطب: 5/2960.
(46) إرشاد العقل السليم، لأبي السعود: 7/161.
(47) انظر: فيض القدير، للمناوي: 2/16.
(48) اختلف الناس في جواز إهداء ثواب القُرَب إلى الميت، على أقوال: فمنع المعتزلة من ذلك مطلقاً، وأجاز قوم ذلك مطلقاً، وفصل آخرون فأجازوا ذلك في بعض الأعمال دون بعض على
خلاف، والراجح: جواز إهداء ثواب الطاعات التي دلت النصوص الصحيحة على وصول ثوابها إلى الميت كالصدقة عنه والدعاء له والحج عنه، أما ما لم يثبت فيه دليل صحيح فهو باق على المنع؛ لأن الأصل في العبادات التوقف انظر: المغني، لابن قدامة: 3/519 523، نيل الأوطار،
للشوكاني: 4/142 143، فتاوى اللجنة الدائمة: 9/43.
(49) انظر حكاية الإجماع في: شرح مسلم للنووي: 7/125، المغني، لابن قدامة: 3/519، شرح الموطأ، للزرقاني: 4/72.
(50) أي: ماتت فجأة، وانظر: فتح الباري: 3/300.
(51) صحيح البخاري، فتح: 3/299 رقم: 1388، مسلم: 1/696 رقم: 1004.
(52) المسند، لأحمد: 14/436 رقم: 8841، مسلم: 2/1254 رقم: 1630.
(53) المخراف: البستان والمكان المثمر، انظر: فتح الباري: 5/454.
(54) المسند، لأحمد: 5/201 رقم: 3080، البخاري، فتح: 5/453 رقم: 2759.
(55) المسند، لأحمد: 11/307 رقم: 6704، السنن الكبرى، للبيهقي: 6/279 وحسن إسناده الأرناؤوط.
(56) نيل الأوطار، للشوكاني: 4/141.
(57) كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم منهم: الشوكاني في نيل الأوطار: 4/142، وانظر: الفتح: 5/390.
(58) أي: استحق النار بالقتل إن لم يتغمده الله برحمة منه انظر: سنن أبي داود: 4/271 رقم: 3964.
(59) المستدرك، للحاكم: 2/212، صحيح ابن حبان: 10/145 رقم: 4307، وقال الأرناؤوط: (إسناده صحيح) .
(60) المصنف، لعبد الرزاق: 9/60 رقم: 16342.
(61) السنن الكبرى للبيهقي: 6/279 وقال: (تلاداً من تلاده، يعني: مماليك قدماء، والتلاد كل مال قَدُم) .
(62) انظر: روضة العقلاء، لابن حبان: 193، الصدقات، للضبيعي: 12.
(63) روضة العقلاء، لابن حبان: 197.
(64) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 72.
(65) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن مرسلاً كما في كشف الخفاء، للعجلوني:
1/54 رقم: 128، وهو حسن لغيره، انظر: صحيح الجامع، للألباني: 1/96 رقم: 172.
(66) قضاء الحوائج، لابن أبي الدنيا: 40 رقم: 36، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/ 97 رقم: 176.
(67) المستدرك، للحاكم: 1/416 وقال: (صحيح على شرطهما) ، صحيح ابن خزيمة: 4/ 104 رقم: 2456، صحيح ابن حبان: 136/8 رقم: 3349 وصححه الأرناؤوط.
(68) المسند، لأحمد: 11/33 رقم: 6494 وقال المحقق: (صحيح لغيره) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/661 رقم: 3522.
(69) البخاري، فتح: 13/370 رقم: 7376، مسلم: 2/1809 رقم: 2319 واللفظ له.
(70) المعجم الصغير، للطبراني: 2/205 رقم: 1033، وصححه الألباني في صحيح الجامع:
2/702 رقم: 3759.
(71) مسلم: 3/2276 رقم: 2964.
(72) هما عظما الحنك اللذان عليهما الأسنان انظر: تاج العروس للزبيدي: 20/145.
(73) المسند، لأحمد: 5/350، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/109 (رجاله ثقات) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2/1012 رقم: 5814.
(74) فيض القدير، للمناوي: 5/504.
(75) زاد المعاد، لابن القيم: 2/25 26.
(76) الشرح الممتع، لابن عثيمين: 6 / 10 11.
(77) انظر: زاد المعاد، لابن القيم: 2/26.
(78) البخاري، فتح: 6 / 116 رقم: 2917 واللفظ له، مسلم: 1/708 رقم: 1021.
(79) أعلام الحديث، للخطابي: 1/ 769 770 وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 3/359 360، فيض القدير، للمناوي: 5/506.
(80) قضاء الحوائج، لابن أبي الدنيا: 40 رقم: 36، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1/ 97 رقم: 176.
(81) المسند، لأحمد: 6/79، وحسنه المنذري والألباني انظر: صحيح الترغيب والترهيب:
1/362.
(82) روضة العقلاء، لابن حبان: 194.
(83) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين: 6/11 12، الصدقات، للضبيعي: 14.
(84) جزء من حديث ضعيف رواه البيهقي في الشعب: 6/267 رقم: 6612، انظر: ضعيف الجامع، للألباني: 605 رقم: 4148.
(85) مسلم: 3/1996 رقم: 2578.
(86) تفسير النسائي: 2/409 رقم: 603، وصححه المحقق.
(87) فيض القدير، للمناوي: 1/135.
(88) انظر: البخاري، فتح: 5/74 رقم: 2327.(157/14)
قضايا دعوية
بعض ما ينسب إلى السلف يؤدي للإحباط! !
سليمان بن سعد بن خضير
يزخر ملف السلف [1] بأخبار قولية وعملية في غاية الجمال، وبالغ التأثير،
ولقد ملأ طيب ذكرهم المشارق والمغارب؛ إذ أوتوا مواهب فذة، وفتوحات ربانية
مدهشة، وقد نمت فيهم فضائل وربت، وعاشوا متقلبين في العلم والعبادة والجهاد
وطلب العيش بإقبال على الله بين زهد ومراقبة وجد. كان يجري عليهم ما يجري
على غيرهم: من مرض وضعف وفقر، فلا ينزعون مما هم فيه.. تسابقوا
(في الله) مخلصين دائبين، فرادى وزرافات؛ للمحافظة على صرح الإسلام
سامقَ البناء، وطيدَ الدعامة، مكينَ الأساس، مشرقَ المعالم. كانوا أبرَّ الأمة
قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً [2] .
وقد نُقل لنا شيء من أخبارهم في كتب التراجم والسير العامة وفي أثناء كتب
الرقائق، والشيء الذي لا ينكر أن لمنقول أقوالهم وأفعالهم أثراً عجيباً في تصحيح
الفهم، وتهذيب السلوك، ورِقَّة القلب، وإشعال العزائم، وإذكاء الهمم، وقدح
المواهب كل ذلك بلا أمر أو نهي.
وقد دأب الدعاة على أن يجعلوا لذكر أخبار السلف من أقوالهم وأفعالهم نصيباً
من دعوتهم وتأصيلهم: في الكتابة والخطابة والحوار وبخاصة في مواسم الطاعات
التي تتطلب عادة قدراً من الإعداد للتذكير والموعظة! ! وربما أفضى بهم ذلك إلى
ذكر نماذج مثالية تبهر المستهدَفين من القراء والمستمعين، وتوقفهم على البون
الشاسع بينهم وبين السلف، وتقنعهم بضرورة الجد في أخذ الدين! وربما دفعتنا
وإياهم الحماسة لذكر أخبار ليست على المنهج الشرعي الصحيح مما مسته يد
التصوف أو غلب عليها عدم الاتزان في أعمال القلوب كالخوف والمحبة والرجاء.
غير أن لهذه الأخبار المثالية والغريبة ولو كان لها حظ من الشرعية آثاراً
سلبية في المدعوين من حيث نظن أنها ستعمل فيهم أبلغ مما هو دونها من الأخبار؛
فعندما نورد قصة من يقوم الليل كله كالحسن بن صالح [3] ، أو من يختم القرآن في
ليلة كعثمان بن عفان رضي الله عنه [4] ، أو من تتعرض له امرأة لإغرائه فيقف
ويعظها، وما هي إلا أن سمعت كلامه حتى تحولت إلى عابدة متنسكة، كما يروى
عن الربيع بن خثيم [5] رحمه الله، أو من يواصل الصيام من الجمعة إلى الجمعة
كعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما [6] ، أو لا يشعر بمن حوله إذا دخل في الصلاة
كمسلم بن يسار رحمهما الله [7] ، أو من يُغشى عليه لسماع آيٍ من القرآن كحال
علي بن الفضيل رحمهما الله [8] ، أو يضحك لموت ابنه رضىً بقضاء الله كما فعل
الفضيل بن عياض رحمه الله [9] ، أو يحضر مجالس وعظه وتذكيره الألوف من
الناس كما يذكر في ترجمة ابن الجوزي [10] ، ونحوها من الأخبار.
عندما نورد هذه الأخبار وهي بهذه الدرجة من المثالية على قوم يعدُّون
المحافظة على الصلاة ضرباً من الإنجاز؛ فمن السذاجة أن نتصور أنها ستنقلهم
180 درجة إيجابية أو قريباً منها، بل إن هذه الأخبار وأمثالها مع ما لبعضها من
صحة في الرواية وموافقة للشرع قد تورث الإحباط واليأس في نفوس بعض
المدعوين؛ لأن فيهم من يشعر أننا قدمناها على أنها هي الأنموذج الذي نتطلع إليه،
والغايات التي نصبو إليها؛ والغايات إذا لم تكن قريبة المنال فستكون مستصعبة
التنفيذ؛ و (إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع) ، كما أنها بحكم الإيغال في
الغرابة تشغل المخاطبين بالتفكير في صحتها وإمكان وقوعها بدلاً من أن يشتغلوا
بالتفكر فيها هي والتطلع لحال أهلها، وربما جرّهم ذلك إلى الدخول في نقاشات مع
الدعاة في مدى صحة تلك الأخبار تنقلهم عن الموضوع الأساس! ويزداد الأمر
سوءاً إذا كان ناقل تلك الأخبار من مبتدئي الدعاة.
لذا فإنه ينبغي ألاَّ تشاع في العامة ومن قاربهم على أنها أخبار طبيعية متكررة
أو غايات نهدف إليها، وذلك لأمور منها:
1 - ما تقدم من الإشارة إلى الآثار النفسية التي تعود بالسلب على المخاطبين،
والشرع الحنيف يراعي هذه المفسدة: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
«ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [11] ،
وبوَّب البخاري في كتاب العلم: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ
يفهموا [12] .
قال ابن القيم في نحو ما نحن بصدده: «فلا بد من مخاطبة أهل الزمان
باصطلاحهم؛ إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم
وهديهم، ولو برز لهم هديهم وحالهم أنكروه، فهؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير
السلف، وعن عمق علومهم، وقلة تكلفهم..» [13] .
وكان الحسن البصري يخص بعض طلبته بالحديث في معاني الزهد والنسك
وعلوم الباطن التي قد تلتبس على غيرهم ولا تدركها فهومهم، فكان لا يتكلم فيها إلا
في منزله معهم [14] .
2 - أن هناك فرقاً بين أسلوب ما روي من أحاديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم في الاجتهاد في الطاعة، وبين ما روي عن غيره، فغيره جاءت عنده محددة
متكلفة: (يصلي 1000 ركعة) ، (يصلي الفجر بوضوء العشاء) ، أما هو عليه
الصلاة والسلام فهناك أحاديث تتناسب مع فهوم الناس ومنها أنه «كان يصلي من
الليل حتى تتفطر قدماه» [15] ؛ فهذا وصف قد ينطبق على كثيرين ولو لم يبلغوا
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالمبتدئ تتفطر قدماه في عُشر صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم، والجَلْدُ يحتمل ما لا يحتمل مَنْ دونه وهكذا. كما أنه صلى الله عليه
وسلم كان يقوم ويرقد [16] ، وربما يعجز عن القيام ليلة لعارض من سفر أو مرض
فيستعيض من الضحى [17] ، وما أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر
بوضوء العشاء! !
هذا ونعتقد أن ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم قد جاءنا متكاملاً لم يطغَ منه
جانب على جانب، ولم يعارض حال حالاً؛ بل جاء في تناسق جميل، وتوازن تام؛
فأين ما روي عن غيره مما روي عنه صلى الله عليه وسلم؟ ! وما روي عنه
صلى الله عليه وسلم محدداً بمقدار كثير نحو: «أنه صلى مرة فقرأ في ركعة
بالبقرة والنساء وآل عمران» [18] وأمثالها فإنما هي في مواسم عبادية خاصة
كرمضان، وقد قالت أمّنا عائشة رضي الله عنها: «ولا أعلم نبي الله صلى الله
عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح» [19] .
3 - أن بعض الأخبار التي تروى عن بعضهم إنما صدرت في حال [20]
عارضة، ولا يمكن والأمر كذلك أن توصف حياتهم كلها بأنها كانت على هذه الحال،
ولا يمكن أن يطالب الناس بأن يكونوا على حال لم يكن المذكور بها على الدوام!
كمن يغلب عليه الخوف فيبدر منه قول أو فعل، كما كان ابن عمر رضي الله عنه
إذا شرب ماءً بارداً بكى وذكر أمنية أهل النار [21] ؛ فلم يكن ذلك مطرداً في كل مرة
يشرب الماء؛ إذ لو كان كذلك لتلفت نفسه ولتنغص عيشه، ونحوه قول حنظلة
لأبي بكر: نافق حنظلة! .. الحديث وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو
تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي
طرقكم ... » [22] قال الحافظ ابن رجب في أحوال الناس بعد سماع الذكر ما
ملخصه: قسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها، فتذهل بذلك
قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر: من استحضار عظمة الله وجلاله
وكبريائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم، وشدة خوفهم أن يكون نفاقاً؛
فإن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جداً، ولا يقدر كثير من
الناس أو أكثرهم عليه، فيكتفى منهم بذكر ذلك أحياناً، وإن وقعت الغفلة عنه في
حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك، بل
يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه [23] .
4 - أن من هذه الأخبار المثالية ما دُوِّن لغرابته؛ فإن النفوس تحفل بالغريب
من الأحداث والأحاديث، وبحكم الغرابة برزت في حياة المترجَم له، وإذا كانت
غريبة على أهل ذلك الوقت الذي ذكرت فيه ودونت وهم من هم فكيف بمن بعدهم
بزمن ومراحل؟ !
5 - كما أن هناك أخباراً لا يُسَلَّم بمشروعيتها، وهي مما حدث بعد الصدر
الأول أفضل القرون، نحو التأثر بالقرآن لدرجة الإغماء والصعق وهي مما قد يعذر
صاحبها فيها؛ لما تقدم من غلبة بعض الأحوال لكن لا يمكن (بحال) أن تقدم على
أنها النموذج الشرعي المرغوب أو الممدوح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن
يحصل لهم آثار من سماع القرآن كالاضطراب والإغماء: «أما جمهور الأئمة
والسلف فلا ينكرون ذلك؛ فإن السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد
عنه معذوراً، لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم، وضعف قلوبهم عن حمله،
فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين ... ولو أثر فيهم آثاراً محمودة لم يجذبهم
عن حد العقل لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة محمودين أيضاً ومعذورين» [24] .
وقال في موضع آخر: «وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته
وجماله أموراً عظيمة تصادف قلوباً رقيقة فتحدث غشياً وإغماءً، ومنها ما يوجب
الموت، ومنها ما يخل العقل، وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري
الناقصين عنهم، لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود
عليه؛ فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالاً مضلاً» [25] .
كما أن بعضاً من تلك الأخبار فيه تبتل ورهبانية ظاهرين. قال الذهبي:
«كل من لم يزمَّ نفسه [*] في تعبده وأوراده بالسنة النبوية يندم ويترهب ويسوء مزاجه،
ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على
نفعهم، وما زال صلى الله عليه وسلم معلماً للأمة أفضل الأعمال، وآمراً بهجر
التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال،
وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن
ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي. فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك
معذور مأجور، والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور» [26] .
وقال: «الطريقة المثلى هي المحمدية، وهو الأخذ من الطيبات وتناول
الشهوات المباحة من غير إسراف ... فلم يشرع لنا الرهبانية، ولا التمزق
والوصال، بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة» [27] .
6 - أن بعضاً من تلك الأخبار مبالغات صريحة حمل عليها عواطف بشرية
كالحب وربما الغلو، فلا ينبغي والحالة هذه أن نسير في ركاب محب أصاب أو
أخطأ، ونقدمه للناس على أنه أنموذج واقعي. وكان للذهبي رحمه الله تعليقات
لطيفة على بعض ما ينقل من تلك الأخبار القولية أو الفعلية أذكر نماذج منها:
ذكر الذهبي قول من قال: «عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر،
يظنون أنه من الملائكة!» ، وقول: «نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة!» .
فقال أي الذهبي: «هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في
الله» [28] .
وحين ساق قول محمد بن مصعب العابد: «لَسَوْطٌ ضربه أحمد بن حنبل في
الله؛ أكبر من أيام بشر بن الحارث» ، علق الذهبي عليه بقوله: «بِشر عظيم
القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما الله يعلم ذلك» [29] ، وعد من المبالغة
في الرأي قول يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله: «لو جمعت أمة
لوسعهم عقله» [30] ! ! ، وأنكر ما روي من أن عدد من يحضر مجالس الوعظ التي
يعقدها ابن الجوزي مئة ألف، فقال: «لا ريب أن هذا ما وقع، ولو وقع لما قدر
أن يُسمعهم ولا المكان يسعهم» [31] .
7 - أن بعضاً منها يحتمل أن يكون خطأ في الرواية، وسَبْقَ قلم، نحو ما
ذكره ابن النجار في تاريخه أن عدد من أقرأهم أبو منصور الخياط من العميان بلغ
سبعين ألفاً! قال الذهبي: «هذا مستحيل؛ والظاهر أنه أراد أن يكتب: نفساً.
فسبقه القلم فخط ألفاً، ومن لقن القرآن لسبعين ضريراً فقد عمل خيراً كثيراً» [32] .
وربما كان الخبر غير صحيح روايةً مع ما له من الشهرة نحو ما جاء في
ترجمة (ربيعة الرأي) شيخ الإمام مالك، وهو أن أمه كانت تقوم على تربيته
وتعليمه وتنفق عليه مما خلفه عندها زوجها فرّوخ، وكان ثلاثين ألفاً ... إلخ
الخبر [33] ، قال الحافظ الذهبي: «حكاية معجبة، ولكنها مكذوبة! !» ثم ساق
أوجه ردها بالنظر في المتن [34] ، وطعن في إسنادها العلامة عبد الرحمن
المعلمي، وانتهى إلى الحكم باختلاقها [35] ، قلت: وهي قصة مشهورة، تحمل
معاني تربوية رائدة، ولكن....! !
فهذه ملاحظات مما يرد على بعض تلك الأخبار (المثالية) ، كما يرد على
غيرها، لكن المصلحة من إشاعتها مضافاً إليها تلك الملاحظات أو بعضها مرجوحة،
وما أردت استقصاء الاحتمالات ولا تتبع القصص، ولكن حسبي أن أنبه إلى
مثال جديد من أمثلة مراعاة المصلحة والمفسدة، وأن درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح، وأن العبرة بالسنة المحمدية والحنفية السمحة، وغيرها يقاس بها،
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الأصل في إطلاق السلف أنه خاص بالقرون الثلاثة المفضلة، ولكني توسعت في هذه المقالة في مفهوم هذا المصطلح ليشمل قروناً بعدهم ممن اتبعهم بإحسان.
(2) «كانوا أبر الأمة قلوباً» ، من قول ابن مسعود رضي الله عنه في وصف الصحابة، رواه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: (2/947) برقم: 1810، وأوله: «من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا أبر» ، وانظر رسالة الحافظ ابن رجب: فضل علم السلف على علم الخلف.
(3) حلية الأولياء: (7/328) .
(4) انظر نحوه مع تقسيم وتفصيل في لطائف المعارف: (318، 319) .
(5) حلية الأولياء: (2/116) .
(6) سير أعلام النبلاء: (3/370) .
(7) طبقات ابن سعد: (7/186) ، حلية الأولياء: (2/290) .
(8) حلية الأولياء: (8/297) ، سير أعلام النبلاء: (8/442) .
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (10/47) .
(10) سير أعلام النبلاء: (21/370) .
(11) رواه مسلم في صحيحه، انظر شرح النووي عليه: (1/76) ، ونحوه عن عروة بن الزبير في سير أعلام النبلاء: (4/437) .
(12) فتح الباري: (1/272) ، وساق البخاري أحاديث تناسب هذا المقام تركتها اختصاراً , وانظر: سير أعلام النبلاء: (2/597) ، (10/603، 604) وهو مهم.
(13) مدارج السالكين: (1/159) ، ومفهوم عبارته: فلا بد من مخاطبة أهل الزمان بمستوى فهمهم وإدراكهم.
(14) ذكره ابن الأعرابي في طبقات النساك وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: (4/579) .
(15) الحديث رواه البخاري في التفسير، سورة الفتح: ح (4557) ، وانظر البخاري في التهجد: ح (1078) ، ومسلم في صفات المنافقين: باب إكثار الأعمال، ح (2819) .
(16) الحديث رواه البخاري في أول النكاح: (5/1949) ، ح (4776) ، ومسلم في النكاح: باب استحباب النكاح، ح (1401) .
(17) الحديث رواه مسلم في المسافرين: باب صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (6/27 نووي) .
(18) أصل الحديث رواه مسلم في المسافرين: باب استحباب تطويل القراءة (6/61 نووي) وورد بتقييده برمضان في المسند: (5/400) وسنن النسائي: (2/224) .
(19) جزء من حديث رواه مسلم في المسافرين: باب صلاة الليل ومن نام عنها أو مرض (6/27 نووي) تقدم طرف منه قريباً.
(20) انظر مجموع الفتاوى: (10/5 فما بعدها) ، ومدارج السالكين: (1/154 160) فهو مهم، والتعريفات للجرجاني: (110، 289) ، كشف المحجوب للهجويري: (615، 409) الرسالة للقشيري: (32) .
(21) لطائف المعارف: (557) .
(22) رواه مسلم في التوبة: باب فضل دوام الذكر (2750) ، والترمذي في القيامة: باب (59) ، ح (2514) .
(23) انظر لطائف المعارف: (48- 51) .
(24) مجموع الفتاوى: (11/590) وأول كلامه كان عن السماع المشروع، حيث يقول رحمه الله: «وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الزكية وله آثار في الجسد محمودة: من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن، وكانت موجودة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثني عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب والاختلاج والإغماء (أو الموت والهيام) فأنكر بعض السلف ذلك؛ إما لبدعتهم وإما لحبهم وأما جمهور الأئمة والسلف» وانظر مجموع الفتاوى:.
(10/348 353، 378 386) ففي الموضعين توسع مفيد للغاية.
(25) مجموع الفتاوى: (11/75) وكان أشار في معرض حديثه رحمه الله إلى ما قد يقع في كلام بعض الشيوخ من معانٍ لا تجوز قد تصل للكفر صدرت عن بعضهم (في حال استيلاء حال عليه ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفِّر من يقوله) وقال: «وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له» انظر: مجموع الفتاوى: (11/74، 75) ، ومدارج السالكين:
(1/177، 178) .
(*) يزم نفسه: يربطها ويعلقها.
(26) سير أعلام النبلاء: (3/85، 86) .
(27) سير أعلام النبلاء: (12/89، 90) وتتمة كلامه نافع رحمه الله.
(28) سير أعلام النبلاء: (11/211) .
(29) سير أعلام النبلاء: (11/201) .
(30) سير أعلام النبلاء: (10/15) .
(31) سير أعلام النبلاء: (21/370) .
(32) سير أعلام النبلاء: (19/223) ، قال المعلق على هذا المجلد: رد ابنُ الجزري في الطبقات
(2/74) : نَقْدَ الذهبي لهذا الخبر بما لا ينهض حجة.
(33) تاريخ بغداد: (8/421) ، وفيات الأعيان: (1/183) .
(34) تاريخ الإسلام: (5/246) ، ومجمل أوجه الرد: [1] أن ربيعة لم يكن له حلقة وهو ابن سبع وعشرين سنة، بل كانت الحلق ذلك الوقت لشيوخ المدينة مثل القاسم، وسالم [2] الخبر تضمن ذكر إعانة الإمام مالك لربيعة على أبيه (الذي لا يعرفه) ؛ ولما كان ربيعة ابن سبع وعشرين سنة كان الإمام مالك فطيماً، أو لم يولد بعد [3] والخبر تضمن ذكر (القلنسوة) وهي لم تكن خرجت للناس، وإنما أخرجها المنصور، وإن كان ربيعة لبسها فهو ابن سبعين سنة! [4] كان يكفي ربيعة في السبع والعشرين سنة ألف دينار أو أكثر.
(35) انظر التعليق على الأنساب للسمعاني: (6/61، 62) ، والسمعاني نفسه أشار إلى ضعفها بقوله: حكي.(157/26)