وقفات
سلامة الصدر
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من أعظم نِعَمِ الله تعالى على العبد المسلم أن يجعل صدره سليماً من الشحناء
والبغضاء، نقياً من الغلِّ والحسد، صافياً من الغدر والخيانة، معافىً من الضغينة
والحقد، لا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على المسلمين.
قد يجد المرء من بعض إخوانه أذىً أو يصيبه منهم مكروه، وربما يسرف
بعض إخوانه في جرحه أو الحط من قدره، بل قد يصل الأمر والعياذ بالله إلى أن
يفتري أحد إخوانه عليه الكذب ويتهمه بالسوء.. ومع ذلك كله تراه يدعو الله عز
وجل بقلب صادق أن يتوب على إخوانه، ويتجاوز عنهم، ويهديهم سبيل الرشاد،
ولا يجد في نفسه سبيلاً إلى الانتقام أو الانتصار للنفس. وبقدر إدبارهم عنه وأذاهم
له، يكون إقباله عليهم وإحسانه إليهم، يهتدي دائماً بقول الله تعالى: [وَلاَ تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت: 34-35)
كما يهتدي بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي
قرابة أصِلُهم ويقطعونني، وأُحسِنُ إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُمُ عنهم، ويجهلون
عليّ!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت كما قُلتَ فكأنما تُسِفُّهم
المَلَّ [1] ، ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك» [2] .
وما أجمل قول الشاعر:
إذا أدْمَتْ قوارِصُكم فُؤادي ... صبرتُ على أذاكُم وانطويتُ
وجئت إليكمُ طَلْقَ المُحَيَّا ... كأنِّي ما سمعتُ ولا رأيتُ
كم يعلو قدر الإنسان، وتشرُف منزلته حينما يصل إلى هذه المنقبة العظيمة
والخَلَّة الكريمة التي لا يقوى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص.. ولا يستطيع أن
يصل إلى أعتابها إلا من جاهد نفسه حق المجاهدة، وفطمها عن شهواتها..؟!
أرأيت إلى ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه الذي أشار النبي صلى الله عليه
وسلم ثلاثاً إلى أنه من أهل الجنة، فلما ذهب إليه عبد الله بن عمرو بن العاص
وبات عنده ثلاث ليال فلم يره فعل كبير عمل، فعجب عبد الله من حاله وسأله: ما
الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: «ما هو إلا ما
رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على
خير أعطاه الله إياه» . فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق! [3] .
إن هذه الصفة الجليلة من الصفات التي رفعت أقدار الصحابة رضي الله عنهم
فها هو ذا سفيان بن دينار يقول: قلت لأبي بشير وكان من أصحاب علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: «كانوا يعملون
يسيراً ويؤجَرون كثيرا ً» . فقال سفيان: ولِمَ ذلك؟ قال: «لسلامة صدورهم» [4] .
ولهذا بيَّن ابن القيم أن سلامة القلب: «مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق
حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك
ثأره، وشفاء نفسه؛ بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه
أنفع له، وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما
هو أهم عنده، وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً، والرشيد لا يرضى بذلك،
ويرى أنه من تصرفات السفيه؛ فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس،
وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟» [5] .
إن ثمة حقيقة في غاية الأهمية والخطورة: وهي أن بعض صفوف الدعاة قد
يكدرها بعض الأذى والسوء، فقد أصبح الشغل الشاغل لبعض الجهلة والقاعدين
البطالين هو الوقوع في أعراض إخوانهم، ثم اشتغل آخرون بإشاعة السوء والنميمة، يفرون في أعراض الناس فرياً، ولا يقيمون وزناً لكبير ولا صغير، ولا يخافون
الله تعالى في لحوم إخوانهم!! ، واشتغل بعض من جرحهم هؤلاء بالرد عليهم
وتبرئة ساحتهم، وإذا كان بعض ذلك مشروعاً، إلا أن الخوف كل الخوف أن
يتحول إلى مجرد انتصار للنفس وتنفيس للهم، ينشغل بذلك عن الأوْلى والأهم.
أما النفوس العليَّة الكبيرة العامرة بنور القرآن، وذكر الرحمن فإنها لا تلتفت
إلى هذه الصغائر، ولا تشغلها تلك التوافه عن السير قُدُماً في هذا الطريق؛ فالناس
في شغل، وأولئك الأبرار في شغل آخر.. الناس في قيل وقال، وأولئك الأطهار
لهم شأن آخر وهم أعظم، ومن نذر نفسه وجنّد وقته لخدمة دين الله تعالى فأسهر
ليله وأشغل نهاره في تتبع أحوال المسلمين وعلاج مشكلاتهم أيجد في نفسه اطمئناناً
لسماع الوشاة، أو رغبة في الانتصار للذات؟!
قد رشَّحوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له ... فاربأْ بنفسك أن تَرعَى مع الهَمَلِ
إن الأمة الإسلامية تمر بمرحلة خطيرة تكالبََ فيها الأعداء عليها
من كل مكان، وأمامها مفرق طريق، ولا وقت هنا للهو والعبث والاشتغال بهذه الهموم الوضيعة التي أدنى ما فيها أنها تشتت الفكر، وتقبض الصدر، وتلهي الإنسان عن معالي الأمور..!
__________
(1) الملّ: هو الرماد الحار، أي: كأنما تطعمهم إياه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2558) .
(3) أخرجه: أحمد في المسند (3/166) بإسناد صحيح.
(4) أخرجه هناد في الزهد (2/600) .
(5) مدارج السالكين، (2/320) .(151/46)
فتاوى أعلام الموقعين
دولة اليهود آخر الزمان
فضيلة العلامة: محمد الأمين الشنقيطي
في هذا العدد نورد جواباً متيناً قائماً على أدلة شرعية مع استدلال عميق
واستنباط دقيق.. إنه جواب الشيخ العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي [1] صاحب
تفسير أضواء البيان رحمه الله تعالى عندما سئل أثناء رحلته إلى الحج إلى بيت الله
الحرام سنة 1367هـ: هل يوجد نص شرعي يدل على وجود دولة لليهود في
آخر الزمان؟ فذكر رحمه الله جواباً غاية في التحرير والتحقيق، فبيّن الشيخ من
خلال نصوص شرعية بعض الأحوال المستقبلية في آخر الزمان، دون جمود
ظاهري، أو تكلف في الاستدلال، أو تحميل للنصوص الشرعية ما لا تحتمله كما
وقع فيه بعض المعاصرين، فإليك ما قاله هذا الإمام رحمه الله:
سألَنا بعضُ طلبة العلم: هل عثرنا على نص من الكتاب أو السنة يُفهَمُ منه
وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟
فكان جوابنا: إنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل
بالدلالة المعروفة عند الأصوليين بدلالة الإشارة على وجود دولة لهم في آخر الزمان، أما النص الذي دل على ذلك بدلالة الإشارة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم
الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم! هذا يهودي
ورائي فاقتله» رواه البخاري بهذا اللفظ، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
وقد أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب الجهاد والسير في باب: قتال اليهود.
ومسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» في باب: لا تقوم الساعة حتى يمر
الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء. ومثل الحديث المذكور
قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون اليهود فتُسَلَّطون عليهم حتى يختبئ أحدُهم
وراء الحجر فيقول الحجر: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فاقتله» رواه البخاري
ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. أما البخاري فقد أخرجه في (كتاب الجهاد
في باب قتال اليهود) وأما مسلم فقد أخرجه في كتاب الفتن مختصراً. فهذا نص
صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من قتال المسلمين واليهود حتى
تكون عاقبة النصر والظفر للمؤمنين.
والمقاتلة بحسب الوضع اللغوي تقتضي وجود القتال من طائفتين مقتتلتين؛
لأن المفاعلة تقتضي الطرفين وضعاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون
اليهود» على وجود جنس مقاتل من اليهود.
وذلك إنما يكون من طائفه متحدة الكلمة تحت طاعة أمير يقاتل بهم؛ وذلك هو
معنى دلالة الحديث على وجود دولة لهم في آخر الزمان؛ لأنهم لو كان دائماً عليهم
مضمون قوله تعالى: [وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً] (الأعراف: 168) وكانوا
متفرقين غير مجتمعين أبداً تحت أمير على كلمة واحدة ما صح قتالهم مع المسلمين
الذي نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فإذا حققت ذلك
فاعلم أن دلالة الإشارة في اصطلاح الأصوليين في دلالة اللفظ على معنى ليس
مقصوداً منه بالأصل بل بالتبع؛ لأن ذلك المعنى لازم للمعنى المقصود من اللفظ
كدلالة قوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] (البقرة: 187)
المعنى: بغايةٍ هي تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أعني قوله
تعالى: [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ] (البقرة: 187) الآية على صحة
صوم من أصبح جنباً للزومه للمقصود به من جواز جماعهن ليلة الصيام إلى آخر
جزء منها؛ بحيث لا يبقى بعد ذلك الجزء المجامَع فيه جزء من الليل أصلاً حتى
يغتسل فيه قبل النهار، فلزم جواز إصباحه جنباً وصحة صوم من أصبح جنباً؛
فالمقصود بلفظ النص المذكور إباحة الجماع في ليلة الصيام إلى انتهائها، ولم يقصد
باللفظ صحة صوم من أصبح جنباً إلا أنها لازمة للمقصود باللفظ؛ لأنه إذا جاز له
الجماع في جزء الليل الأخير الذي ليس بعده إلا النهار لزم كونه جنباً في النهار،
فدل بالإشارة على صحة صوم من أصبح جنباً، ومن دلالة الإشارة أخذ علي رضي
الله عنه كون أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً] (الأحقاف: 15) مع قوله تعالى: [وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ] (لقمان: 14) ،
وقوله تعالى: [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ] (البقرة: 233)
لأن ثلاثين شهراً التي هي أمد الحمل والفصال إذا أسقط منها العامان اللذان هما أمد
الفصال بأربعة وعشرين شهراً بقي للحمل ستة أشهر هي باقي الثلاثين، فإذا حققت
ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود» المقصود
منه أن قتال اليهود والمسلمين واقع لا محالة إلا أن هذا المعنى المقصود بالنص
يلزمه كون اليهود فئة متحدة الكلمة تحت إمارة أمير يقاتل بهم؛ وذلك هو معنى
وجود حكومة منهم في آخر الزمان دل عليها النص بالإشارة.
__________
(1) هو الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني، ولد عام 1325هـ بشنقيط (موريتانيا) ، واجتهد في طلب العلم، وكان آية في التفسير والأصول، له المؤلفات النافعة في عدة فنون على رأسها (تفسير أضواء البيان) ، كما كان له جهود مشكورة في الدعوة إلى الله تعالى ونشر العلم الشرعي، وكان زاهداً ورعاً تقياً، وله تلاميذ كثيرون، توفي بمكة سنة 1393هـ انظر: ترجمة عطية سالم للشنقيطي في آخر الجزء التاسع من أضواء البيان، وكتاب ترجمة محمد الأمين الشنقيطي، لعبد الرحمن السديس.(151/48)
نص شعري
حزيران!
مروان كُجُك
في اليوم الخامس من شهر حزيران (يونيو) من عام 1967م وقعت الحرب
بين العرب بقيادة الثوريين وبين اليهود المحتلين في فلسطين، وهي الحرب التي
سماها اليهود بـ (حرب الأيام الستة) وتفتق فكر قادة الهزيمة النكراء عن تسميتها
بـ (النكسة) حيث ظهر عُوار الفكر الثوري التقدمي الذي أضاع سيناء كلها مع
زيادة امتدت حتى مشارف القاهرة، والجولان جميعها حتى ضواحي دمشق،
والضفة الغربية بتمامها بما فيها القدس؛ وهكذا وفي أيام تقل عن أسبوع بيوم واحد
تهاوت فيها أخيلة البطولة الجوفاء التي رسمها الفكر التسلطي الذي قاد الأمة بحماقته
وعنجهيته إلى عار ما يزال بحاجة إلى جهاد فذ ونضال مرير ابتدأه أطفال ثورة
الحجارة ولم تُنهِهِ مخازي اتفاقيات (أوسلو) وتوابعها: المعلنة والمضمرة، ما عُلِمَ
منها وما لم يُعلَم.
حُزَيْرَانُ فِيكَ تَعَرَّى الضَّلالْ ... وَتَاهَتْ عُقُولٌ، وَضَاعَتْ تِلالْ
سَتَبْقَى إلَى أَنْ يَشَاءَ الإلهُ ... سَرِيعَ الْمَجِيءِ، بَطِيءَ الزَّوَالْ
تُذَكِّرُنَا بِالْخِدَاعِ الرَّهِيبِ ... وَطَيْشِ الْكِبَارِ وَسُخْفِ الرِّجَالْ
أَضَاعُوا الْبِلادَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ ... وَبَاتُوا أُسُوداً بِغَيْرِ جِدَالْ
* * *
حُزَيْرَانُ يَا جُرْحَ كُلِّ أَبِيٍّ ... وَيَا إرْثَ قَهْرِ دُعَاةِ النِّضَالْ
ظَمِئْنَا فَجَاءَ الشَّرَابُ حَمِيماً ... وَقَالُوا لَنَا: فَارَ نَبْعٌ زُلالْ
هَلُمُّوا بَنِي يَعْرُبٍ نَتَلاقَى ... عَلَى مِحْنَةٍ حَارَ فِيهَا الْخَيَالْ
نُبَايِعُ أَجْهَرَ صَوْتٍ وَنَمْضِي ... عَلَى إثْرِهِ دُونَ أَدْنَى سُؤَالْ
حُزَيْرَانُ يَا دُرَّةً لِلْيَهُودِ، ... وَلِلْعُرْبِ عَاراً وَسِيعَ الْمَجَالْ
قَتَلْتَ بِنَا زَهْوَةَ الْفَاتِحِينَ ... وَأنشَأْتَ صَرْحاً لِذُلٍّ عُضَالْ
وَقَلَّبْتَنَا فَوْقَ جَمْرِ الطُّغاةِ ... لِنَهْتِفَ كَالْبُهْمِ: يَا ذَا الْجَلالْ!
أَطِلْ عُمْرَ مَنْ حَمَّلُونَا الشَّقَاءَ ... وَكَانُوا الْمَهَازِيمَ يَوْمَ النِّزَالْ
وَمَاتَتْ صَرَامَةُ شَعْبٍ أَبِيٍّ ... وَذَلَّتْ كَرَامَاتُ عَمٍّ وَخَالْ
وَبِتْنَا مِنَ الْحَيْفِ كَالإمَّعِينَ ... نُبَايِعُ كَالْبُلْهِ أَخسَا رِجَالْ
غُلِبْنَا عَلَى أَمْرِنَا فَاسْتَطَارَتْ ... شُرُورٌ، وَقُطِّعَ حَبْلُ الْوِصَالْ
وَصَارَ التَّفَرُّقُ صِبْغَةَ شَعْبٍ ... وَأَضْحَى الْحَرَامُ لَدَيْهِ حَلالْ
فَيَا تَعْسَ مَنْ أَوْصَلُونَا لِهَذَا ... وَيَا بُؤْسَ جِيلِ الْهَوَى وَالْخَيَالْ
* * *
حُزَيْرَانُ فِيكَ أَقَامَ الْيَهُودُ ... صُرُوحاً مِنَ الزَّهْوِ فِعْلاً وَقَالْ
وَنَحْنُ هَدَمْنَا صُرُوحَ الْجُدُودِ ... وَبِتْنَا نُصَارِعُ أَسْوَأَ حَالْ
شَبِعْنَا شِعَارَاتِ لَيْلٍ طَوِيلٍ ... وَلَمْ يَبْقَ فِينَا زَعِيمٌ طُوَالْ
وَصِرْنَا أَضَاحِيكَ أَهْلِ الزَّمَانِ ... وَكُنَّا بَنِي قُدْمَةٍ وَاحْتِمَالْ
* * *
حُزَيْرَانُ يَا ذِلةَ الْيَعْرُبِينَ ... وَيَا نَزْفَ قَلْبٍ أَمَضَّ وَطَالْ
بِسِتٍّ مَضَتْ مِنْكَ أَضْحَى الْعَرِينُ ... خَوَاءاً وَطَاشَتْ فُنُونُ الْقِتَالْ
بَكَيْنَا شَكَوْنَا بِكُلِّ اللُّغَاتِ ... وَذُقْنَا مَرارَةَ ذُلِّ السُّؤَالْ
وَبَاتَ الصَّدِيقُ عَدُوًّا وَصِرْنَا ... أَلاعِيبَ لَمْ نَجْنِ غَيْرَ الْوَبَالْ
فَقُلْ لِلْبُغَاةِ، وَإنْ طَالَ لَيْلٌ، ... سَيَبْزُغُ فَجْرٌ بَهِيُّ الْجَمَالْ
وَيَنْهَزِمُ الْبُطْلُ والمُبْطِلُونَ ... وَيَعْلُو الجِهَادُ وَيَهْوِي الضَّلالْ(151/50)
نص شعري
رسالة إلى الحبشة
عباس شعيب حسن
تسربلي من عقودِ الفخرِ سِربالاً ... وبلِّغي عنيَ الأجيالَ أقوالا
رسالتي من صميم القلب أكتبها ... يخط فيها يراعي اليوم آمالا
أنجبتِ للمجد سلطاناً يذاد به ... عن الخطوب، بلى أنجبت رئبالا
بلالنا يا رعاك الله من بطلٍ ... الصبر في أرضكم قد صال أو جالا
رمضاء مكة في الأكوان شاهدة ... أن العناءَ من الأبطال ما نالا
معذَّب في لهيب الحر، مُفْتَرِشٌ ... صخراً شديد اللظى والعزم ما زالا
فيا أميَّةُ! ماذا ذنب صاحبنا: ... أآبقٌ أم إلى الأرزاء قد مالا
أم نال من عرض سادات ومزَّقه ... أم قد مضى في دروب الأمن قتالا؟
فقال كلاَّ!! ولكن صابئ عَمِهٌ ... قد راح يتبع أوباشاً وضلالا
قد أنكر اللات والعزى وثلَّمها ... وعاب أربابه.. والزيف ما قالا
ألا فزيدوه ضرباً كي يعود إلى ... ديانة القوم أو زيدوه أثقالا
فردٌ وحيد وفذٌّ في السما أبداً ... فلترسموا في ثنايا الظهر أدغالا
أو فاضربوني إلى أن ترتووا بدمي ... أو مزقوني أشلاءاً وأوصالا
تقارب الموت من روح الفتى ودنا ... فجاءه النصر واستبقاه آجالا
يقول بدر الدُّنا الصديق في أسفٍ: ... سأشتري منك هذا العبد إجلالا
دعوا أخانا لوجه الله منطلقاً ... من الإسار وفكوا عنه أغلالا
فصار للأمة العظمى مؤذنَها ... وصار أسيادُه الأغرار أذيالا
حتى مشى في جنان الخلد موطِئُه ... لأنه كان للخيرات فَعَّالا
الله أكبر يا ضُلاُّل رايتنا ... والله أكبر إكثاراً وإقلالا
هيا بنا للذرا يا شعر في ألقٍ ... تاريخنا ممطر عزماً وأبطالا
ثقي تماماً بنصر الدين أمتنا ... إن أكثر البغيُ إيغالاً وإدخالا
مهما استطالت ليالي الرعد قاصفة ... وأُوقِف الناسُ إدباراً وإقبالا
سينجلي الغيم حتماً بعد ساعته ... ويمتطي الوردُ ظهرَ الروض خَيَّالا(151/52)
نص شعري
من البلقان إلى الشيشان
مشبب بن أحمد القحطاني
مشاهدُ القتلِ والتشريدِ تُبكيني ... وجذوةٌ من لهيبِ الحزنِ تكويني
وجحفلُ الهمِّ لا عزمٌ يُدافعه ... وغَادر الرَّمي يُدميني ويُرديني
وأَعصب الرأسَ بالآلام مُتَّشِحاً ... أُساهر الليلَ والآمالُ تُضنيني
يا أصدَقَ الشِّعرِ هَلاّ قُلتَ قافيةً ... تَبُثُّ همِّي وتَروي ما يُعزِّيني
أُترجم الشِّعر من فِكري إلى قلمي ... وأَكشِفُ اليومَ آهاتي ومكنوني
أُمْسي وأُصْبِح في حُزنٍ يُصَارِعُني ... فَحالُ أَمتنا في البُؤْس يشقيني
أُسائلُ النّاس ما بالُ الجِهَادِ غدا ... في مُعْجَمِ العصرِ (إرهاباً) و (لا ديني) ؟
أضحى الشموخُ الذي عِشْنا به حِقَباً ... مُمَرّغاً بالأسى في الوحلِ والطّينِ
عَلامَ يا أُمّتي ضَلّتْ مَسالِكُنا؟ ... نَهيمُ في مَهْمَهٍ مِثْلَ المَجَانينِ
يا رحمةَ اللهِ هَلْ في الأمر من فَرَجِ؟ ... وهَلْ سبيلٌ إلى عِتْقٍ من الهُونِ؟
(كشميرُ) تبكي وفي (الشيشان) ملحمةٌ ... وصرخةٌ من رُبَى (البلقان) تُشْجِيني
و (كابلٌ) أصْبَحت مِثلَ (البَسوسِ) أَسىً ... ولم يَزَل راعفاً جُرحي الفِلسْطِيني
تَأَبّطَ الكُفْرُ سَيفَ الظُّلمِ فانحسَرَتْ ... مبادئُ العَدْلِ من جَوْرِ المَوازِينِ
يا أُمّةً لم تَزل في التيهِ ضائِعة ... في حمأةِ الضُّرِّ من كيدِ الشّياطِينِ
أينَ الملايينُ في أعدادِ أُمتنا؟ ... أينَ الحَمِيّةُ والإخلاصُ للدينِ؟
أينَ الكماةُ حُماة الحقِّ لم أَرَهم؟ ... أليسَ (معتصمٌ) فيهم يَواسيني؟
لو قام منا (صلاحُ) الحقِّ لانطلقتْ ... كتائبُ الفتحِ في عِزٍّ وتَمْكِينِ
أما تَرَوْنَ بِنَاءَ الدِّينِ كَيْفَ هَوى! ... يَهُدُّه مِعْوَلٌ من كفِّ مأَفُونِ
وبينما سرتُ والليلُ البئيسُ معاً ... أحادِثُ النَّفْسَ والآلامُ تُعييني
رأيتُ للفَجْرِ ثوباً مسفراً أَلِقَاً ... ومَفْرقُ الصُّبحِ وضَّاءٌ يُنَاديني
العَوْدُ أَحْمَدُ والنصَّرُ المُبِينُ أَتَى ... وَمَوْكِبُ الحَقِّ للعلياءِ يَدْعُوني(151/53)
مراجعات في السيرة والتاريخ
البعد الاستراتيجي للخطة النبوية
في مواجهة الروم والتمهيد لفتح بلاد الشام
د. محمد أمحزون [*]
عالمية الدعوة:
مما لا ريب فيه أن النشاط الحربي والسياسي والاقتصادي في العهد المدني
كان مرتبطاً بالدعوة الإسلامية.
والدعوة منذ أيامها الأُوَل كانت واضحة المعالم بأنها دعوة عالمية غايتها إقامة
حكم الله في كل الأرض.
وإن نظرة سريعة في القرآن المكي بشكل عام تؤكد ذلك بوضوح، قال
تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يَعْلَمُونَ] (سبأ: 28) وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ]
(الأنبياء: 107) .
وقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم عمله في المجال العالمي مع مطلع السنة
السابعة للهجرة حينما أرسل رسله يحملون كتبه إلى الملوك والأمراء [1] .
وجدير بالإشارة أن بلاد الشام كانت ضمن الإطار الحيوي للأمة الإسلامية
الناشئة، ولا بد من الربط بين الوجود الإسلامي القديم في الشام (مسرى الأنبياء،
المسجد الأقصى) وبين إيصال الدعوة إلى الناس في تلك البلاد.
تأمين طرق المواصلات إلى الشام بفتح خيبر ووادي القرى:
على أن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد كانت قائمة على فهم
عميق لهذه العوامل الدينية والتاريخية، مع تفهم واضح وواقعي للظروف السياسية
والقبلية كما سنرى ونهج سياسة حكيمة وخطة ناجحة في تأمين طرق المواصلات
إلى الشمال.
وقد كانت نقطة البدء في هذه الخطة هي إخضاع معاقل يهود في خيبر، من
منطلق وقوعها على إحدى الطرق المؤدية إلى بلاد الشام، ولدور هؤلاء في حشد
الأعراب مثل غطفان وبني فزارة وقريش ضد المسلمين، وكونهم مصدراً هاماً
من مصادر الميسرة والدعم الاقتصادي والسياسي لمشركي قريش وحلفائهم من
الأعراب [2] .
ويضاف إلى خيبر صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل فدك وأهل
تيماء وفتحه لوادي القرى [3] ؛ مما يدل على وضوح سياسته في إصراره على
تأمين طريق الشام استراتيجياً وتجارياً. وتتضح أهمية هذه المراكز في الغزوات
اللاحقة إلى الشمال.
ولا شك أن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الشام والواحات الشمالية
يمكن أن يُفهم في ضوء التطورات الجديدة؛ ليس فقط بسبب صلح الحديبية والتفرغ
للمناطق الشمالية، وإنما أيضاً فيما يتعلق بعودة الحكم البيزنطي إلى الشام بصورة
خاصة؛ حيث أصبح المسلمون في مواجهة البيزنطيين لأول مرة [4] .
وعلى الرغم من انشغال النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة القضاء [5] ،
ومواجهة مشاكل بعض القبائل العربية التي كانت تتربص بالمسلمين الدوائر من:
بني مُرّة وبني فَزارة وبني القُشير [6] ، فقد ظلت طريق الشام تشغل حيّزاً هاماً في
خطّته عليه الصلاة والسلام؛ إذ حاول أن يوطّد علاقاته بفروع من جُذام؛ حيث
أعطى كتاباً بالأمان لرهط رافعة بن زيد الجذامي الذي قدم عليه في هدنة الحديبية
قبل خيبر [7] ، واتصل بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان عاملاً لقيصر على عَمَّان
من أرض البلقاء، وقد دخل في الإسلام وسجنه الروم [8] .
استطلاع الأوضاع في الشام بإرسال السرايا:
ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ بمحاولة استطلاع الأوضاع في
الشام بعد عودة السيطرة البيرنطية مباشرة» [9] .
وعلى هذا الأساس يمكن فهم إرساله سريّة بقيادة عمرو بن كعب الغفاري على
رأس خمسة عشر فارساً إلى ذات أطلاح في الشام [10] .
والواقع أن خبر هذه السريّة يدلّ بوضوح على تتبّع الرسول صلى الله عليه
وسلم لأخبار الروم في الشام؛ حيث إن جيش فارس انسحب من الشام وسلم الإدارة
للروم البيزنطيين في شهر حزيران (يونية) سنة 629م الموافق شهر صفر سنة
8 هـ، بينما أُرسلت سرية ذات أطلاح بعد ذلك مباشرة في شهر ربيع الأول سنة
8 هـ. ولم يكن إرسالها مجرد مصادفة، ومن الواضح أن هدفها لم يكن القتال؛
لأن عدد أفرادها لم يتجاوز خمسة عشر رجلاً، وإنما كان غرضها استطلاعياً [11] .
غزوة مؤتة ومواجهة الروم البيزنطيين:
ولا شك أن تزايد اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالشام يتضح من
إرساله جيش مؤتة بقيادة زيد بن حارثة على رأس ثلاثة آلاف مقاتل [12] .
وتُعدّ غزوة مؤتة أول وقعة يصطدم فيها المسلمون بالبيزنطيين مباشرة؛ فقد
كانت في جمادى الأولى سنة 8 هـ[13] أي بعد ذات أطلاح بشهرين.
وينبغي إدراك أهمية هذه الغزوة من عدد الجيش؛ فهذا أكبر جيش يُسيّره
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أيّة جهة كانت حتى ذلك الوقت.
كما يبدو من هذه الغزوة تصميم المسلمين على مواجهة الروم وحلفائهم من
متنصِّرة العرب بالشام، وقد كان من بين القبائل المحالفة للروم: بَهراء، ووائل،
وبَكر، ولخم، وجُذام، وبُلَيّ [14] .
وقد وصل جيش المسلمين إلى منطقة مُعَان من بلاد الشام [15] ، ومعنى هذا
أن القبائل في الطريق من المدينة إلى مؤتة كانت موادِعة للمسلمين، كما أن عودته
إلى المدينة تدلّ بوضوح أن الطريق إلى بلاد الشام قد أصبحت مفتوحة أمام
المسلمين [16] .
وتتجلى أهمية مؤتة باعتبارها أول معركة هامة بين المسلمين من جهة،
والروم وحلفائهم من القبائل العربية في الشام من جهة ثانية، فيما تذكره المصادر
البيزنطية والأرمنية [17] .
وقد أفاد المسلمون دروساً وخبرة من هذا اللقاء الأول مع الروم في مستقبل
جهادهم معهم؛ حيث تعرفوا على عددهم وعُدّتهم وخططهم العسكرية وطبيعة
الأرض التي وقع فيها القتال [18] .
ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك بعد مؤتة ضرورة الحذر والتريث،
ومن هنا وجّه بعد ذلك مباشرة سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه
المعروف بحنكته وتأنّيه، وقد وصلت هذه السرية إلى ذات السلاسل في أطراف
الشام في جمادى الثانية سنة 8 هـ[19] .
لماذا غزوة تبوك؟
على أن أهم غزوة قادها الرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق كانت
غزوة تبوك، وهي باتجاه الشام أيضاً. فمن حيث العدد بلغ الجيش حسب ما ذكرته
المصادر قرابة ثلاثين ألفاً [20] . ومن حيث المدّة استغرقت هذه الغزوة قرابة
شهرين (رجب شعبان سنة 9 هـ) [21] ، منها عشرون يوماً أقامها المسلمون في
راحة في تبوك نفسها [22] .
ولكن تبقى الأسئلة الرئيسة: لماذا هذه الغزوة بهذا الحجم الكبير؟ ولماذا تبوك
بالذات؟ وهل كان هدفها غزو الروم فعلاً؟ ولماذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم
عشرين يوماً في تبوك نفسها، وهي أطول مدة يقيمها جيش إسلامي في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع واحد؟
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على توجيه المسلمين إلى جبهة
الشمال التي تُعدّ في غاية الأهمية بالنسبة للمسلمين لأسباب تاريخية ودينية كما
أسلفنا.
يضاف إليها كون الشام موطناً لقبائل عربية كثيرة تربطها بعرب الحجاز
ونجد وتهامة صلات نسب، وعلاقات تجارية وثقافية [23] .
ومن الناحية الاقتصادية والجغرافية تظهر أهمية تبوك في كونها واحة كبيرة
على طرف الشام، وأهم محطة وراء خيبر وتيماء وفدك ووادي القرى، ومن
الناحية الاستراتيجية، فهي تشكّل مركزاً هاماً يمكن الاتصال منه بمراكز كثيرة في
الشمال، كما حصل فعلاً أثناء الغزوة [24] .
الإنجازات التي حققتها غزوة تبوك:
ويبدو أن الإنجازات التي حققتها هذه الغزوة ضمن خطة النبي صلى الله عليه
وسلم العامة: جمعت بين الدبلوماسية والنشاط الحربي، فكانت تقوم بالدرجة الأولى
على كسب القبائل العربية وتأمين طرق المواصلات دعوياً وتجارياً.
وبصدد هذه السياسة سعى النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مستمرة لكسب
قبائل قُضاعة من بُلَيّ وعُذرة وبَلقين وغيرها على امتداد طريق الشام. واتصل
في هذه الغزوة بالذات ببطون وعشائر متعددة من هذه القبائل وغيرها كسعد وهُذيل
وطيء [25] .
إلا أن أهم إنجازات غزوة تبوك تتمثل في إقامة علاقات وطيدة مع عدد من
المراكز الاستراتيجية في جنوب الشام ومنها كتب الصلح، وهي دُومة الجندل
وأَيْلة ومَقْنا وأَذْرُح. فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أثناء إقامته في تبوك خالد
بن الوليد إلى أُكَيْدَر بن عبد الملك صاحب دُومَة الجندل وكان نصرانياً فأخذه خالد
أسيراً [26] فصالح المسلمين على حيازتهم للسلاح والخيل، ولهم أشجار النخيل التي
معهم في المصر، وموارد المياه الظاهرة مثل العيون [27] .
وفكرة نزع السلاح من مثل هذه المجموعة التي كانت على اتصال
بالبيزنطيين، ولا يطمئن المسلمون إلى ولائها تبدو مسألة طبيعية؛ إذ كان من أهم
الأهداف التي سعى النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذها من زحفه لتبوك، هو تأمين
حدوده الشمالية ضد أي تحركات عدوانية من قِبَل الروم أو الدويلات الخاضعة لهم
على الحدود. وقد يكون نزع السلاح إحدى الوسائل لتحقيق هذا الهدف [28] .
علماً بأن دُومة الجندل ستصبح قاعدة هامة للانطلاق في المرحلة التالية من
فتح الشام.
أما أَيْلة فهي موقع هام على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام في اتجاه
العقبة [29] ، وقد كاتب النبي صلى الله عليه وسلم أهل أيلة يدعوهم إلى قبول
الإسلام أو دفع الجزية، فجاءه ملك أيلة يوحنا بن رؤبة متحدثاً باسم بلدته أيلة،
فكتب له الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح؛ يدفع بموجبه أهل أيلة الجزية، ويتعهد لهم المسلمون بالحماية [30] .
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن المسلمين هم سادة الموقف في المنطقة الممتدة
حتى خليج العقبة [31] .
ويظهر من كتاب الصلح مع أيلة التركيز على النواحي الدعوية: «فإني
رسول الله بالحق» [32] والاستراتيجية: «فإن أردتم أو يأمن البحر والبحر، فأطع
الله ورسوله» [33] ، والاقتصادية: «ورسل رسوله أكرمهم واكسهم كسوة
حسنة» [34] .
وللإشارة فإن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتسم بالحلم والمعاملة
الحرة الكريمة، حتى يمكن وصف صلحه مع أيلة بأنه تحرير لها: «ويمنع عنكم
كل حق كان للعرب والعجم إلا حق الله وحق رسوله» [35] .
كما أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليوحنا بن رؤبة عندما انحنى له هذا
الأخير: «ارفع رأسك» [36] ، لهو قول ذو دلالة بالغة من الناحية الدينية، ولا
شك أن ذلك كان له أثر في نفوس نصارى العرب في الشام، وفي موقفهم من
العرب المسلمين فيما بعد إبّان الفتوح.
أثر الخطة النبوية في فتح بلاد الشام:
ويتضح من شروط الصلح مع هذه المراكز وغيرها مثل أَذْرح ومَقْنا الحرص
على الحصول على السلاح والكُراع والمال والعون فيما يتعلق بالمواصلات
والأخبار [37] ، وتأمين طرق المواصلات للمسلمين [38] ، وكل هذه الأمور هامة
لمستقبل فتح الشام.
وستتضح عناصر هذه الخطة في الغزوات التالية؛ ذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعد أن نظم شؤون المسلمين في شبه الجزيرة العربية، ورتّب أعمال
الصدقات، وأوضح للناس أمور دينهم في حجة الوداع، وجّه همّه بعد ذلك إلى
إرسال جيش كبير إلى الشام مرة أخرى، وهو الجيش المعروف بجيش أسامة [39] .
وليس من قبيل المصادفة أن يصر النبي صلى الله عليه وسلم على إنفاذ جيش
أسامة وهو على فراش الموت، وأن أبا بكر رضي الله عنه لم يخالجه أدنى شك في
وجوب إنفاذ ذلك الجيش إلى الشام رغم الأخطار التي سببتها ردّة بعض القبائل
العربية [40] .
ومرجع ذلك أن جيش أسامة ما هو إلا حلقة في سلسلة من الغزوات والسرايا
الموجهة إلى الشام نتيجة خطّة بعيدة المدى قائمة على فهم عميق للظروف الراهنة
سواء كانت إقليمية (قبلية) أو دولية (بيزنطية) .
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد كتب إلى ملوك وأمراء
عصره، ومنهم هرقل ملك الروم الذي راسله مرتين؛ المرة الأولى بعد
الحديبية [41] ، والثانية أثناء مقامه بتبوك [42] .
ويشير المؤرخ سيبيوس الأرمني الذي عاش في النصف الأول من القرن
الأول الهجري / السابع الميلادي إلى مراسلة الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل،
ويضيف أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلبوا من الروم التخلي عن
أراضي العرب وميراث أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالشام [43] .
ولا شك أن حادثة مؤتة تركت صداها عند البيزنطيين؛ حيث شعروا بقوة
المسلمين فعلاً منذ تلك الوقعة، ومنذ غزوة تبوك بالذات وبعث أسامة رضي الله
عنه، وليس منذ أيام أبي بكر رضي الله عنه فقط. وأنهم اعتبروا أن فتح الشام قد
بدأ فعلاً أيام الرسول صلى الله عليه وسلم [44] .
وهذا ما تؤيده الدراسة المتأنية للمصادر الإسلامية، ولخطط الرسول صلى الله
عليه وسلم تجاه الشام بشكل عام، مما ينبئ أن فتح الشام لم يبدأ مصادفة في عهد
أبي بكر رضي الله عنه، وإنما بدأ منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم، واكتمل بعد
ذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وبهذا يتقرر أنّ ما تربى عليه المسلمون من عالمية هذا الدين منذ
العهد المكي، لم يكن مجرد فكرة، وإنما هو من سمات هذه الدعوة وخصائصها،
لا بد من تحقيقها على أرض الواقع، ولم يلتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعاً قد دانوا بالإسلام، وحتى وضعت الدعوة خطوات ثابتة ومدروسة في طريق التبليغ العالمي.
__________
(*) أستاذ التاريخ، جامعة مولاي إسماعيل، المغرب.
(1) انظر: البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب كُتّاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى وقيصر، ج 5، ص 136، ومسلم: الجامع الصحيح (بشرح النووي) ، كتاب الجهاد، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار، ج 12، ص 112.
(2) موسى بن عقبة: المغازي، ص 216، 217، 254، والواقدي في المغازي، ج 2، ص 640، 642، وابن هشام: السيرة، ج 3، ص 236.
(3) موسى بن عقبة: المغازي، ص 179، وابن هشام: السيرة، ج 3، ص 391، 408، وخليفة: التاريخ، ص 83، 85.
(4) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية في العصر النبوي مع بلاد الشام وبيزنطة، ص 7.
(5) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، ج 5، ص 84 85، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) ، باب استحباب الرمل في الطواف، والعمرة، ج 9، ص 10.
(6) موسى بن عقبة: المغازي، ص 245، والواقدي: المغازي، ج 2، ص 727 730 وخليفة: التاريخ، ص 77 78.
(7) ابن هشام: السيرة، ج 4، ص 267، والطبري: التاريخ، ج 3، 140.
(8) ابن سعد: الطبقات، ج 1، ص 281.
(9) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 7.
(10) موسى بن عقبة: المغازي، ص 263، والواقدي: المغازي، ج 2، ص 752 753، وابن سعد، الطبقات، ج 2، ص 127.
(11) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 7.
(12) الطبري: التاريخ، ج 3، ص 107، وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني ورجاله ثقات إلى عروة، ج 6، ص 157 158.
(13) موسى بن عقبة: المغازي، ص 264، وخليفة: التاريخ، ص 86.
(14) ابن هشام: السيرة، ج 3، ص 429.
(15) المصدر نفسه، ج 3، ص 429.
(16) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 7.
(17) ثيوفانيس (Theophones) Chronogfophia (الترجمة الإنجليزية الجديدة) ، ص 36 وسيبيوس الأرمني (Seboes) تاريخ هرقل (الترجمة الفرنسية) ، ص 94.
(18) أكرم العمري: السيرة الصحيحة، تج 2، ص 470.
(19) موسى بن عقبة: المغازي، ص 267، وابن هشام: السيرة، ج 4، ص 298، وابن سعد: الطبقات، ج 2، ص 131.
(20) الواقدي: المغازي، ج 3، ص 996، وابن سعد: الطبقات، ج 2، ص 377.
(21) ابن هشام: السيرة، ج 4، ص 169، وابن سعد: الطبقات، ج 2، ص 165.
(22) أخرجه عبد الرزاق في المصنف، رقم 4335، ج 2، ص 532، وأحمد في المسند، ج 3، ص 295.
(23) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 9.
(24) المرجع السابق، ص 9.
(25) الواقدي: المغازي، ج 3، ص 1017، 1019، 1027.
(26) موسى بن عقبة، المغازي، ص 297، وابن سعد: الطبقات، ج 2، ص 166.
(27) أبو عبيد: الأموال، ص 208، والبلاذري: فتوح البلدان، ص 80، وابن حجر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير رقم 2301، ج 4، ص 225.
(28) عون الشريف قاسم: نشأة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص 216.
(29) ياقوت: معجم البلدان، ج 1، ص 292.
(30) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الزكاة، باب خرص التمر، ج 2، ص 132، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) ، كتاب الفضائل، ج 15، ص 43 44، وابن أبي شيبة المصنف في الأحاديث والآثار، ج 14، ص 540.
(31) أحمد الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 10.
(32) ابن سعد: الطبقات، ج 1، ص 277.
(33) ابن سعد: الطبقات، ج 1، ص 277.
(34) أبو عبيد: الأموال، ص 212، وابن حجر: المطالب العالية، رقم 2631.
(35) ابن سعد: الطبقات، ج 1، ص 277 278، ومحمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، رقم 30، ص 116.
(36) ابن سعد: الطبقات، ج 1، ص 290.
(37) في هذا الشأن يذكر المؤرخ البيزنطي ثيوفانس أن بعض العرب قد ساعدوا جيشاً في أيام محمد صلى الله عليه وسلم على الوصول إلى جنوب فلسطين، كما أن هؤلاء العرب أيضاً ساعدوا جيوش أبي بكر بنفس الطريقة Chranagfophia (الترجمة الإنجليزية) ، ص 36.
(38) أحمد الشبول، علاقات الدولة الإسلامية، ص 10.
(39) انظر البخاري في الجامع الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب زيد بن حارثة، ج 4، ص 213، ومسلم في الجامع الصحيح (بشرح النووي) وكتاب فضائل الصحابة، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، ج 15، ص 195 196.
(40) أخرجه سعيد بن منصور في السنن، رقم 2890، ج 2، ص 317 318.
(41) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان، ج 1، ص 68، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كُتّاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، ج 12، ص 103.
(42) طرف منه في الجامع الصحيح للبخاري، كتاب بدء الوحي باب حدثنا أبو اليمان، ج 1، ص 7، وأخرجه أحمد في المسند، ج 3، ص 441، وقال ابن كثير في السيرة: هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به، تفرّد به الإمام أحمد، وأورده الهيثمي في موارد الضمان بسند صحيح رقم 1628، وقال في المجمع: رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك، ج 8، ص 234 236.
(43) سيبيوس: تاريخ هرقل (الترجمة الفرنسية) ، ص 94 95.
(44) الشبول: علاقات الدولة الإسلامية، ص 11.(151/54)
ندوات ومحاضرات
ندوة حول المستقبل الاقتصادي
طوفان العولمة واقتصادياتنا المسلمة
(1 - 2)
إعداد: وائل عبد الغني
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، وعلى
آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.. وبعد:
فقد تحدث الناس قديماً عن العنقاء بوصفها إحدى المستحيلات ذلك الطائر
الغريب الأطوار.. الضخم الذي يضرب بجناحه المدينة الكبيرة.
وحديثًا تحدث الناس عن العولمة باعتبارها واقعاً، ورأوا فيها ذلك المستحيل
القديم.. تلك القضية المثيرة للجدل التي تتكرر فيها قصة العميان والفيل مع فارق
أن فيلنا متناهٍ في الضخامة والتعقيد والشراسة.. وعمياننا ضعفت لديهم سائر قوى
الإدراك.. وقلَّ أن تجد معنى في بطن شاعر.. وعز من يداوي..!
وفي ندوتنا هذه نتناول الجانب الاقتصادي للعولمة، والذي لا نقول: إنه
الأخطر ولكنه بحق من أخطر الجوانب.
والأمر الذي نريد بلوغه وإبلاغه هو تصوُّر لمستقبل هذه الأمة الممتحنة في
ظل هذا الخطر.
لا نزعم أنا سنتناول كل شيء عن القضية.. ولكن حسبنا أن ننصب الأقدام
على الطريق الصحيح.. ونخطو عليه خطوات، ونرتقب الرافد من بعد. نحن
على ثقة أن المستقبل بيد الله تبارك وتعالى وهو سبحانه يداول الأيام بين الناس..
ثقتنا هذه هي لب زادنا ونحن نسعى لأن نقدم لأمتنا ولأنفسنا كما أمرنا ربنا.
معنا في ندوتنا هذه أربعة من خيرة الاقتصاديين المتخصصين:
* الأستاذ. يوسف كمال، أستاذ الاقتصاد الإسلامي غير المتفرغ بكلية
التجارة جامعة عين شمس الدراسات العليا.
* الدكتور/ عبد الرحمن يسري، رئيس قسم الاقتصاد الإسلامي بجامعة
الإسكندرية.
* الدكتور/ عبد الحميد الغزالي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة.
* الدكتور / رفعت العوضي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة.
والضيوف الكرام أصحاب إسهامات قوية في مجال الاقتصاد الإسلامي كما أن
لبعضهم كتابات متنوعة أخرى في التفسير والمنهجية والحضارة.
نبدأ ندوتنا عن العولمة بوصفها مصطلحاً.. فماذا يعني هذا المصطلح في
حقيقته وفق نظرة موضوعية مدققة؟
د. عبد الرحمن يسري:
قضية العولمة قضية من أعقد قضايا العصر؛ فهذا المفهوم ظهر في الحقبة
الأخيرة، وحاول أنصاره أن يروِّجوا لفكرة أن العالم أصبح قرية واحدة، بينما رأى
غيرهم أنه في سبيله لأن يصبح تلك القرية، ورأى فريق ثالث أنه لن يصبح كذلك
أبدًا، كما كثر الجدل حول حيادية هذه الفكرة ومصداقيتها.
وتحريًا للموضوعية علينا أن نبحث في المضمون حتى يمكننا استخلاص
صياغة تقربنا من فهم العولمة.
هذا المصطلح ظهر من خلال الأطر الاقتصادية والثقافية والسياسية
والاجتماعية التي تعكس تجربة العالم الغربي التاريخية والحضارية واتجاهاتها
المستقبلية. وإذا كنا سنتناول هذه القضية من شقها الاقتصادي كما هي طبيعة الندوة
فإني لا أزعم أن الشق الاقتصادي هو أهم الجوانب، وإنما بمنظورنا الإسلامي
يجب أن يلحق البعد الاقتصادي دائمًا بأبعاده العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وحتى لا نسهب أكثر يمكن أن نستخلص مفهومًا اقتصاديًا للعولمة من خلال
كتابات أنصار العولمة في الفكر الغربي؛ حيث تعني: «تحرر العلاقات
الاقتصادية القائمة بين الدول من السياسات والمؤسسات القومية والاتفاقات المنظمة
لها بخضوعها التلقائي لقوى جديدة أفرزتها التطورات التقنية والاقتصادية تعيد
تشكيلها وتنظيمها وتنشيطها بشكل طبيعي على مستوى العالم بأكمله وجعلها وحدة
واحدة» .
ومن ثم فإن اقتصاديات بلدان العالم ستصبح بلا سياسات قومية، وإنما تخضع
لنظام عالمي مسيَّر بقوانين طبيعية حتمية بما يحقق مصالح الجميع، وهذا هو ما
يفهمونه أو ربما يريدونه في العالم الغربي الذي يقود قاطرة الحضارة في عصرنا
الحاضر.
د. رفعت العوضي:
الدكتور عبد الرحمن حاول أن يقدم صياغة قريبة لمفهوم العولمة، ولكنها من
حيث إنها مفهوم أو مصطلح حتى في الغرب ما زال يشوبه قدر كبير من
الغموض.. هذا الغموض ربما ينتج من أن العولمة ما زالت في طور التشكُّل؛
حيث تقابل الصياغة الفلسفية بمشاكل تطبيقية ضخمة وغير متوقعة، وأرى أن من
المهم هنا أن أربط بين العولمة باعتبارها فكرة وبين الرأسمالية باعتبارها نظرية؛
لأن العولمة تعني إخضاع العالم كله لطور من أطوار هذه الرأسمالية التي مرت
بثلاث مراحل يمكن التمييز بينها:
المرحلة الأولى: رأسمالية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: في
هذه المرحلة كانت الرأسمالية تتسم بسمتين بارزتين:
الأولى: اعتمادها على استنزاف موارد الدول الأخرى من خلال الاستعمار.
والثانية: تغييبها العدالة الاجتماعية. وانعكس ذلك من خلال تركُّز الملكية في
شريحة داخل المجتمع، ومن تغييب الاهتمام بإعادة توزيع الدخل، وجعل علم
الاقتصاد يدور محورياً حول التوازن.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد قيام الثورة الشيوعية عام 1917م وحتى
سقوطها عام 1990م: وفي هذه المرحلة أخذت الرأسمالية في تهذيب أنيابها لتحافظ
على وجودها في مواجهة المد الاشتراكي. في هذه المرحلة أعادت (الكينزية)
دورًا للدول، كما طرح الاهتمام بقضية الفقر وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وهذه المرحلة شهدت حركة الاستقلال بعد نضال قاس ومرير من الدول التي كانت محتلة.
المرحلة الثالثة: ما بعد 1990م حيث انفردت الرأسمالية بالسيطرة على العالم، وعادت إلى نهب موارد العالم الثالث من جديد؛ ولكن النهب هذه المرة لم يكن باستعمار مباشر وإن كان واردًا، وإنما من خلال منظومة فكرية ومؤسسات دولية، وهنا غاب البعد الاجتماعي بصورة أبشع. وتسويقاً للفكرة صدرت عدة كتب في الغرب ككتاب «نهاية التاريخ» لفوكوياما الذي حاول أن يوصل للعالم أن الإنسان في كل تجاربه التي مرَّ بها من حيث النظم التي ابتدعها وأخضع نفسه لها قد انتهى إلى نظام واحد هو النظام الليبرالي سياسيًا الرأسمالي اقتصاديًا، ولعله حاول أن يقنن لواقع كان يصنع.
أ. يوسف كمال:
العولمة كغيرها من القضايا لا بد من أن أناقشها من زاوية كوني مسلمًا له
رؤيته المستقلة ومنهجيته في تناول الأمور، وله عالمه الخاص بمنأى عن أي انتماء
آخر سواء كان عالمًا ثالثًا أو غير ذلك، حتى وإن كانت هناك اتفاقات جوهرية.
لهذا يروق لي جدًا أن نبدأ مناقشة العولمة من كتاب «صراع الحضارات»
لهنتنجتون؛ لأن مؤلفه حدد بصراحة أن ما يواجه الغرب المسيحي إنما هو الإسلام.
والمتفحص للأحداث العالمية يجد أنهم لا يُحكمون الحصار إلا على العالم
الإسلامي، ولذا نبدأ المسألة من كونها حربًا عقدية في الدرجة الأولى، وهنا نفهم
القرآن ونستطيع أن نفهم حركة التاريخ فهمًا جيدًا فاعلاً.
في هذا الكتاب يشير مؤلفه إلى طبيعة المواجهة المقبلة؛ حيث يقول: إن
عصر الحروب القومية انتهى، والعالم مقبل على حروب حضارات، وهو لا يعني
بالحضارات مجرد الثقافات، وإنما يعني الأديان التي تشكل الحضارات،
ويحصرها في ثلاث: الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية،
والحضارة الصينية الكنفوشيوسية، ثم يؤكد ويؤكد أن المواجهة الرئيسة ستكون مع
الإسلام.
د. عبد الحميد الغزالي:
العولمة ليست مصطلحًا، وإنما اكتسبت هذا الانتشار وهذه الشهرة؛ لأن
الغرب وأمريكا يحاولون أن يجدوا إطارًا لتنفيذ سياساتهم على العالم بعد انتهاء نظام
القطبين، بعد أن أصبح العالم يسير وفق نظام دولي أحادي القطبية، ومن ثم فهي
محاولة نقل ما هو محلي إلى بقية دول العالم، ليس في الاقتصاد وحده وإنما في
السياسة والاجتماع والثقافة، وكأي ظاهرة يتعين أن ندرسها بموضوعية وبهدوء
وبعمق، ولهذا أرى أن كتاب نهاية التاريخ وصراع الحضارات كلاهما مكمل للآخر. فالأول يبشر بسيادة النموذج الغربي، وبالذات في بُعده الأمريكي، والثاني يحذر
من الحضارات الأخرى، ويقترح تآمريًا «الآخر» الجديد، بعد انهيار «الآخر»
القديم، وهو الاتحاد السوفييتي السابق؛ وذلك بالتركيز على الحضارات الشرقية،
وبالذات الإسلام.
وفي الحقيقة فإن صانعي العولمة لم يعنوا بعولمتهم نهاية التاريخ فحسب وإنما
جعلوها خمس نهايات:
النهاية الأولى: نهاية التاريخ التي تعني سيطرة النموذج الرأسمالي على العالم
بعد انتهاء الشيوعية.
والنهاية الثانية: نهاية الجغرافيا: وهو أمر مهم جدًا؛ لأن نهاية الجغرفيا
تنقلني مباشرة إلى الشركات العملاقة التي تجاوزت الحدود الجغرافية والتي تعادل
ميزانية إحداها ميزانية العالم الإسلامي بأسره!
والنهاية الثالثة: نهاية الدولة: وهذا يتم من خلال استخدام الشرعية الدولية
للتدخل في شؤون الدول الأخرى وضرب السيادة الوطنية من قبل الناتو.
ثم النهاية الرابعة: وهي أبشع وهي نهاية الهوية: ومن ثم القضاء على
الخصوصية بالنسبة للشعوب.
أما خامس النهايات: فهي نهاية الأيديولوجية «الدين» : وإحلال آلهة المادة
ويقولون أستغفر الله بموت الإله!
هذه النهايات الخمس تشكل الأساس المذهبي للعولمة، ومن ثَمَّ لنا أن نتصور
كيف تكون العولمة المطروحة والتي تقابلها عولميتنا أو عالمية الإسلام، ومن ثَمَّ
فهي تستخدمها لذاتها.. ولمصالحها، بينما قامت عالميتنا لصالح البشرية جمعاء،
نورًا وهدى للعالمين.
د. عبد الرحمن يسري:
كي تكتمل الصورة وباعتبار العولمة هي بدعة غربية جديدة علينا أن نفرق
بين العولمة «Globalizaion» وبين التدويل «internationalism» ،
فالعولمة كما ذكر الدكتور عبد الحميد الغزالي تتجه إلى إلغاء كل السلطات الشرعية
الوطنية وعلى رأسها سلطة الدولة التي عرفت في النظام السابق على العولمة وما
زالت قائمة. وأود هنا أن أقول: إن النظام العالمي القائم على تشابك سلطات الدول
المختلفة واتفاقها على إجراءات «مستقلة» من قِبَل كل دولة قد بلغ شأوه في حقبة
التسعينيات. وهذه هي ظاهرة التدويل. لقد نمت ظاهرة التدويل وشهدت تصاعدًا
بعد الحرب الأوربية العالمية الثانية؛ فقامت مؤسسات مختلفة ذات طابع دولي:
الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وصندوق النقد، والبنك الدولي، واتفاقية الجات.
هذه المؤسسات هيأت للعولمة ابتداءاً، ثم هي الآن في طور تعديل برامجها وأهدافها
ومواثيقها لتتماشى مع العولمة.
د. رفعت العوضي:
لا بد أن نبين أن العولمة ارتبطت بالفكر الأمريكي؛ لأن الولايات المتحدة هي
التي تقود المدنية الغربية اليوم من خلال ذراعها القوي الذي يرهب العالم باسم
الشرعية الدولية وسيطرتها على حلف الناتو، ومن خلال قيادتها لمجموعة الدول
الصناعية السبع الكبرى استطاعت أن تفرض سياستها الاقتصادية على العالم،
إضافة إلى فرض معاييرها وقيمها من خلال المنظمات الدولية ونفيرها الإعلامي،
ومن خلال اتفاقية التجارة العالمية كذلك التي حولتها إلى منظمة ملزِمَةٍ ولها سلطتُها
على الجميع. ونذكر في هذا الصدد أن مصطلح النظام العالمي الجديد استخدمه
لأول مرة (جورج بوش) الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية في عام
1991م بعد حرب الكويت العراق.
البيان: هذا يذكرنا بكلمة لأحد الكتاب: «إن الدولة التي لا تتصهين سياسيًا
ولا تتعولم اقتصاديًا يكون مصيرها الحل العسكري» فالخيارات واضحة ومحددة
ومعلومة للجميع، والأمثلة على ذلك معروفة تكاد تنحصر في عالمنا الإسلامي!
لكن هنا يجدر سؤال حول السرعة التي تسير بها العولمة وتنتشر وتتطور، لو
قورنت بأي نظرية سابقة حتى قال عنها أصحابها: «ستدرككم العولمة ولو كنتم في
بروج مشيدة!» مشبهًا إياها بالموت الذي يتجاوز كل الحصون، ومع أن العبارة
تحمل نوعًا من المبالغة وربما الحرب النفسية، إلا أن الجميع يعترف بعموم بلواها
مع أننا موقنون من هشاشتها بنسبة كبيرة ولذا لا بد من معرفة السر الذي ربما لم
يعد سرًا.
د. عبد الرحمن يسري:
السر وراء هذه المقولات التي شاعت أخيرًا هو أن العولمة تمتلك قوى غير
عادية لم تتوفر لأي مشروع من قبل، وأهم هذه القوى تتمثل في الأمور الآتية:
حرية الاستثمار في أي مكان في العالم، وهذه الحرية اقترنت بحرية تحرك رأس
المال الخاص دون قيود على مستوى العالم.
- حرية إقامة الصناعة في أنسب الأماكن لها في العالم بغض النظر عن
الجنسية أو السياسة القومية لأي دولة.
- عالمية الاتصالات التي تعتمد على التقنيات المتطورة والأقمار الصناعية
التي سهلت عملية انتشار الفروع وإمكانية إدارتها من أي مكان في العالم.
- عالمية المعلومات التي ترتبت على تطور تقنيات الكمبيوتر ووسائل
الاتصال، وتوفر شبكات معلومات عالمية تخدم صناع القرار في كل المجالات.
- توحد النمط الاستهلاكي عالميًا، وإطلاق حرية المستهلك في اختيار مصدر
شرائه؛ بحيث استطاعت العولمة أن تدخل أسواقًا جديدة وتنافس عليها دون
عقبات.
هذه القوى أتاحت للعولمة الانتشار والسيطرة في ظل تهميش السلطات
الوطنية؛ فحرية الاستثمار تعتمد على حرية رأس المال، وكلاهما يفتح الطريق
أمام حرية إقامة الصناعات في أنسب مكان في العالم هذا المكان يتم انتقاؤه بعناية
من خلال التراكم المعلوماتي وتقنيات الاتصال العالمية والتي من خلالها أيضًا
يستطيع المستهلك العالمي التعرف على كل الخيارات.
أ. يوسف كمال:
تستخدم العولمة شعارين للسيطرة على العالم: شعار التحرير، وشعار التجديد
وشعار التحرير معناه فتح الأسواق دون قيود أمام حركة التجارة الخارجية.
ولتقوم الشركات الدولية بعمليات إغراق وتكتل واندماج يمكنها امتلاك السوق
المحلية كليًا، ومن ثم القضاء على الصناعات المحلية في أي لحظة تريدها،
وتدفقت رؤوس الأموال قصيرة الأجل لصناديق الاستثمار الدولية التي تملكها
الشركات الاحتكارية ذات النشأة الدولية كما حدث في ماليزيا؛ حيث قام (سوروس) بلعبته وانهارت العملة، واتجهت العولمة بشراء المؤسسات هناك بثمن بخس
تحت مسمى الإصلاحات، متسترة بستار التحرير، ولكن (محاضر محمد) عاد
إلى لون من التقييد في سعر العملة وحركة رؤوس الأموال؛ ليحافظ على البقية
الباقية من الاقتصاد المنهار ورفض معونة صندوق النقد وشروطه التي تربط
سياسات الإصلاح ببرامج تدمر الاقتصاد لخدمة العولمة؛ ولهذا شددوا الحملة عليه.
وبهذا حين نسحب رؤوس الأموال قصيرة الأجل تعاني البنوك من قلة السيولة
ثم تعاني المؤسسات وراءها، ثم تنخفض أسعار العملة وتهوي وراءها أسعار
الأسهم.
وهذه العولمة التمويلية تجذب معها إلى الهاوية القطاعات الحقيقية لإنتاج السلع
والخدمات رغم أن لديها المقومات التكنولوجية والمادية، والحاجة إليها ماسة.
أما التجديدات المالية فتؤدي إلى تضخم القطاع التمويلي بصورة مبالَغ فيها إذا
ما قيس بالقطاع الإنتاجي الحقيقي، وهو ما يعرف «باقتصاد البالونة» ؛ نظرًا
لاستحداث أنواع من عقود المقامرة والاتِّجار في المال التي أصبحت مصدر ثراء
واسع للعالم الغربي واليابان في منتصف التسعينيات؛ حيث كانت حركة التجارة
العالمية 30 تريليون دولار، بينما حجم التجارة الحقيقي 3 تريليونات فقط، و27
تريليون بيع وشراء في الهواء بعقود ما أنزل الله بها من سلطان.
التجديدات المالية تحيل المال الذي تُقَوَّم به الأشياء سلعةً تباع وتشترى؛ وهذا
فساد كبير لحياة الناس كما قال فقهاؤنا.
د. رفعت العوضي:
آليات العولمة ومؤسساتها تركِّز الغنى في جانب والفقر في الجانب الآخر،
ويزيد التضخم لأسباب كثيرة منها نظام الفائدة، وهو نظام يواجه انتقادات حادة من
الاقتصاديين.
البيان: ذكر الدكتور عبد الرحمن أن الحرية هي أحد الأسس أو القوى التي
تقوم عليها العولمة ولكنها حرية ذات مذاق خاص غير الحرية التي يتحدث عنها
مروِّجو العولمة في بلادنا، أليس هذا صحيحًا؟!
د. عبد الرحمن يسري:
فكرة الحرية هنا تحمل ازدواجية؛ فهي حرية من طرف واحد وإذعان من
طرف آخر؛ والمراد ألاَّ تمارس الدولة أي ضغوط لتحقيق مصالحها أو حمايتها ضد
أي دولة أخرى، ولكن الولايات المتحدة نفسها تكسر هذه القاعدة حين يمارس
كلينتون ضغوطًا شديدة على اليابان بشأن شراء سيارات أمريكية، وحين يمارس
كوهين وزير دفاعه مرارًا ضغوطه على دول عديدة لشراء أسلحة رغم عدم الحاجة
إليها ورغم أن هذه الدول مدينة وستستدين من أجل إنعاش الصناعة الأمريكية!
هناك كذلك حروب القوانين الاقتصادية كقانون داماتو، حرب الموز. أما
حرية الاستثمار فلا تحمل مصلحة للدول الفقيرة؛ لأنه كما يدخل بسهولة يمكن أن
يخرج أيضًا بسهولة مخلفًا الدمار.
وفي المقابل لا تملك الأيدي العاملة الحرية نفسها في الانتقال. إذن! هي
حرية لطرف ضد طرف؛ فإذا وضعنا في الاعتبار أن غالبية المشروعات
الاستثمارية الوافدة لا تستهدف خدمة اقتصاد البلد المضيف بل ربما ذهبت إلى
مجالات قد تضر أكثر مما تنفع كمجال السياحة والفنادق والأعمال الإباحية
وصناعات التجميل وسلع الرفاهية.
د. رفعت العوضي:
اتفاقية تحرير التجارة تحوِّل العالم إلى سوق شاملة واحدة يعمل فيها قانون
واحد هو قانون الأقوى الذي يتاح له كل شيء بهدف تضخم أرباحه بأكبر قدر في
أقصر زمن وإن تضرر من تضرر.
أشير في هذا الصدد إلى أن دراسة تاريخ الاقتصاد للدول المتقدمة الآن كشفت
عن أنها كلها استخدمت الحماية وهي في بداية تقدمها؛ ففرنسا استخدمت قوانين
خاصة لحماية صناعتها الناشئة في مواجهة إنجلترا التي سبقتها إلى الثورة
الصناعية، وألمانيا فعلت الشيء نفسه، والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر فعلت ذلك. ولهذا فإن إجبار الدول المتخلفة التي تسعى الآن إلى التقدم إجبارها على فتح أسواقها وعدم حماية صناعتها الناشئة يعتبر أمرًا غريبًا على تجارب النمو.
د. عبد الرحمن يسري:
يؤسفني أن أقول: إن الدول الإسلامية دخلت مرحلة التحرير أعني تحرير
الأسواق وحركة رؤوس الأموال وعولمة للاستثمار دون رصيد، بل وهي محملة
بأعباء الماضي التي تراكمت فيها المديونيات نتيجة لعدم اكتراث الحكومات العلمانية
بالشريعة وتبعيتها للغرب؛ وهنا أشير إلى أن استمرار ارتباط إنتاجنا المحلي
بوصفنا دولاً إسلامية بالسياسات العالمية دون أية ضوابط أو حتى تفهم لاتجاهاتها
ومضامينها قد لا يكون من ورائه كسب على الإطلاق بل ربما خسائر محققة خاصة
إذا احتكمنا إلى معاييرنا الإسلامية الصحيحة.
البيان: وماذا عما يردد من أن الاقتصاد العالمي في طريقه لأن يقاد من خلال
قوى خفية من شأنها أن تنظم السوق العالمي بحياد تام ودون تحيز؟
د. عبد الرحمن يسري:
فلسفة اليد الخفية التي تدير النشاط الاقتصادي وتهيمن عليه هي مسألة فلسفية
غير واقعية وقد وضع أساسها آدم سميث في القرن التاسع عشر ليدل على أن
استخدام الموارد المتاحة والقيام بالإنتاج والاستهلاك لا يستدعي تدخل الدولة، بل
إن هذا التدخل يفسد الأمور. ويريد الآن فلاسفة العولمة في العالم الغربي أن يقولوا
مثل ما قال سميث ولكن على مستوى العالم بأسره، وهذا غير مقبول. إن مثل هذه
المقولة التي ثبت إخفاقها من قبل على مستوى الاقتصاد القومي حينما ظهرت
الاحتكارات وحينما اضطرت الحكومات إلى تقديم برامج للخدمة الاجتماعية أو
للتكافل الاجتماعي سوف تثبت إخفاقها بشكل أكبر على المستوى العالمي. وغير
مقبول أن نصبح ونحن أمة إسلامية جزءًا من العالم ليس لنا إلا التبعية لما يجري
فيه وليس لنا دور التأثير فيه.
إن الحق تبارك وتعالى جعل للإنسان عقلاً وإرادة وتدبيرًا وقدرة على تصحيح
الأخطاء وهو ملزم بذلك، وهذا لا يعني أن الإنسان مطلق الإرادة وإنما هو محكوم
بسنن ربانية؛ وهذه السنن لا تلغي إرادة الإنسان. كذلك فإن سنة نبينا وهدي
القرآن العظيم تجعلنا نقيم أهمية كبيرة لدور الدولة الراعية، ومن ثَمَّ فإن أي مجتمع
إسلامي لا يمكن أن يقبل أو يسلِّم لهذه الفكرة ظنًا بأن الخير قد يأتي في نهاية
الطريق؛ لأن هذا مخالف لعقيدتنا بوصفنا مسلمين.
د. عبد الحميد الغزالي:
كيف لنا أن نقبل بفكرة من هذا النوع في ظل وجود آليات تتدخل وتدير
وتراقب وتتابع وتخطط، هذه الآليات ذات أشكال وملامح مختلفة، ولكنها في
الحقيقة تهدف إلى تكريس العولمة وخدمة أهدافها ومصالحها، وهو ما يعني بالطبع
سيطرة النموذج الغربي!
البيان: إذنْ! فكرةُ حيادية قوى العولمة غيرُ متصوَّرة في ظل المعطيات
الواقعية.
د. عبد الرحمن يسري:
فكرة الحيادية أو سيادة منافسة خالصة بين جميع الأطراف في معاملاتهم
وتحرك عناصر الإنتاج من مكان إلى آخر وفقًا للقدرة على استخدام هذه العناصر
بشكل أكفأ ليست حقيقية؛ فالتجربة التاريخية للنظام الاقتصادي الحر الذي تحكمه
قوى الطلب والعرض في إطار المنافسة الكاملة بعيدًا عن التدخل الحكومي والذي
كان الاعتماد فيه على فلسفة اليد الخفية للمواءمة بين المصالح الفردية والمصلحة
الجماعية على مستوى المجتمع الواحد لم يدم طويلاً وتعرض لهزات أدت إلى
تغيرات هيكلية وأزمات اقتصادية تفشت فيها البطالة.. فإذا كان هذا على مستوى
المجتمع الواحد فهل يمكن أن نثق بتجربة مشابهة تجري على مستوى العالم؟ ولهذا
فعلينا من حيث إننا دول إسلامية أو فقيرة ألاَّ نسلِّم بقضية الانصهار في عالم بلا
حدود بحجة حتمية فلسفية لا أكثر.
حتى وإن سلمنا بحياديتها التامة وبما سنجنيه من مكاسب اقتصادية، فهل
يجوز لنا نبذ سياستنا المستمَدة من شريعتنا.. وخاصة أن الجانب الاقتصادي لا
يمكن فصله عن الجوانب الأخرى؟ وهذا يعني دخولنا بوصفنا مجتمعات إسلامية
في أطر لا نقبلها إطلاقًا لأنفسنا ولنسائنا وأولادنا.
أ. يوسف كمال:
العالم بكل مستوياته يتوجس خيفة من العولمة ولا يتصور حياديتها، أما نحن
المسلمين فربنا يقول لنا: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) والتاريخ يروي لنا عن حروب القرصنة التي شُنَّت على البلاد
الإسلامية في الأندلس، وحروب العصابات التي جاءت لنهب العالم الإسلامي والتي
استمرت حتى اليوم من خلال المعايير المزدوجة بمخالبهم في الشرعية الدولية في
مجلس الأمن والجات والشركات الدولية النشاط.
ولعل أزمة جنوب شرق آسيا تكشف لنا بعض هذه الحيادية؛ فبعد تلك الأزمة قدم
صندوق النقد الدولي لكوريا الجنوبية 80 مليار دولار دون أي شروط في حين
اشترط لتقديم 43 مليار دولار لأندونيسيا مزيدًا من التحرر الاقتصادي من أجل بيع
مؤسساتها بأبخس الأثمان في الوقت الذي انهارت فيه العملة الأندونيسية؛ مع العلم
أن عدد السكان 43 مليوناً في كوريا بينما في أندونيسيا أكثر من 220 مليون.
فالمسألة واضحة سواء من زاوية الواقع أو من زاوية الرؤية القرآنية التي
تعطينا المفاتيح الصحيحة.
د. رفعت العوضي:
في كتاب «المدخل الاستراتيجي للقرن الحادي والعشرين» لبول كينيدي
وهو من أقوى المفكرين المؤثرين في الغرب يقول المؤلف: إذا كنا نريد أن ندخل
القرن الحادي والعشرين فمن خلال نظرية (مالثس) في السكان، وهي نظرية
مؤسسة على أن السكان أكبر من الموارد؛ ولذلك لا بد من التخلص من جزء منهم،
والحروب القائمة في العالم الآن وخاصة في الدول الإسلامية هي إعمال لهذه
النظرية.
العولمة وهي تتبنى نظرية مالثس تفرض صيغة معينة على العالم.. هذه
الصيغة هي نظرية 20: 80 أي: 20 % فقط من سكان العالم هم الذين لهم حق
الملكية والعمل وكذلك العيش، في مقابل 80% يمثل فائضًا بشريًا في دول العالم
الثالث، والحديث عن هذه النظرية جاء في كتاب: (فخ العولمة) وقد ترجم إلى
العربية ونشر في سلسلة عالم المعرفة التي تصدر من الكويت.
د. عبد الحميد الغزالي:
أعتقد أن الصورة الحالية أبشع من هذا، فقد تكون 10: 90 % أو أقل من
عشرة.
10 % دول متقدمة في مقابل 90 % متخلفة أو نامية تأدبًا!!
د. عبد الرحمن يسري:
لا يمكن تصور الحيادية في ظل سيطرة القلة على كل شيء واحتكاره
لصالحهم؛ فهم يدَّعون أنه في ظل تحرير التجارة ستتكافأ الفرص، وأنا أقول: إنها
حتى في ظل ذلك لن تتكافأ لا إنتاجيًا ولا استهلاكيًا؛ ففي ظل توحيد النمط
الاستهلاكي على مستوى العالم هل نتصور أنه سيكون هناك تكافؤ فرص بين
مواطن من سيراليون متوسط دخله السنوي 180 دولارًا ومواطن ياباني متوسط
دخله السنوي 30000 دولار؟
وحتى على المستوى الثقافي فإن تعميم النمط الاستهلاكي العالمي يحمل في
طياته نمطًا أخلاقيًا مغايرًا، وعلى سبيل المثال: فلسفة «السندويتش» أو الوجبات
الخفيفة.. تعني أن الأسرة لا تجتمع على طعام واحد أو مائدة واحدة!
أما على المستوى الإنتاجي ففي ظل احتكار الأموال والمعلومات، وانعدام القدرة
التنافسية والتفاوضية لدى العالم الفقير.. لا يمكن تصور هذه الحيادية!
د. رفعت العوضي:
أود أن أشير أيضًا إلى جانب آخر من عدم الحيادية؛ إذ إن الغرب بما يملكه
من تراكم معلوماتي وجرأة تجريبية وعمل مؤسسي قوي وتبني الشخصيات النابغة
استطاع أن يولِّد ثورة في المعلومات اختص نفسه بها، وزاد من سُعار هذه الثورة
توفر التقنيات الحديثة من كمبيوتر وشبكات اتصالات ومعلومات لديه مع احتفاظه
بأسرارها، كما أنه يملك برامج متكاملة ومتطورة للتعامل مع قاعدة البيانات. إن
احتكار الغرب لهذه الأمور باعتبارها ضمانة أخرى لتفوقه لن يولد الحيادية
بصورتها الوردية كما يزعم منظِّر والعولمة.
د. عبد الرحمن يسري:
يشبِّه بعض الكُتَّاب الثورة العلمية بالجنِّي الذي خرج من القارورة ليخدم سيده، ولكن علينا أن ندرك أن القارورة ما زالت بيد السيد الذي صنعها، أعني بذلك أن العالم الغربي هو وحده الذي يملك أسرار التقنيات ويتحكم في استخداماتها.
وهذا تحدٍّ آخر أمام الفقراء كما أشار الزميل الدكتور رفعت؛ فرغم أن
المعلومات متاح كثير منها عبر شبكة الإنترنت إلا أن الفجوة ما زالت في اتساع بين
عالمين متقدم ومتخلف، هذه الفجوة تمثل في جانب منها تحديًا اقتصاديًا وسياسيًا،
كما تمثل في جانبها الآخر تحديًا ثقافيًا يشكل خطرًَا على الهوية الإسلامية.
البيان: تحدثنا فيما سبق عن العولمة ومفهومها وبعض القضايا الفلسفية
والتطبيقية المتفرعة على ذلك، وتحدثنا كذلك عن القوى التي تمتلكها العولمة في
بسط سيطرتها وهيمنتها على العالم، ولا شك أنها تعتمد مع هذه القوى على آليات
تدعمها وتسعى على خدمتها من خلال أدوار يكمل بعضها بعضًا؛ ولذلك نود تسليط
الضوء على هذه الآليات وما تقوم به في خدمة العولمة.
د. عبد الحميد الغزالي:
هناك آليات عملت واستفادت من القوى التي توفرت للعولمة بل وساعدت هي
على تكريسها، هذه الآليات ذات طبائع مختلفة لكنها متكاملة الأدوار ابتداءًا من
المنظمات الدولية: منظمة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي،
وما يعرف الآن بهيئة برلمانات العالم، هذه المؤسسات فرضت ما يسمى بالبرامج
الإصلاحية وتنظيم حركة الأسواق ومتابعة التشريعات القانونية على مستوى الدول
لضمان التجاوب الأسرع مع سياسات العولمة.
- هناك كذلك منظمة التجارة العالمية التي ورثت الجات عام 1994 والتي
تنظم عمليات انفتاح الأسواق وتحرير التجارة من القيود الحكومية وتتابع ذلك.
- ثم يأتي بعد ذلك المؤتمرات الدولية المتخصصة (ابتداء من مؤتمر الأرض
مؤتمر السكان مؤتمر المرأة.. الخ) لفرض ثقافة العولمة.
- ثم الشركات العملاقة عابرة القارات والتي تعد المستفيد الأكبر والمحرك
القوي للعولمة.
- ثم التكتلات الاقتصادية (أوروبا الموحدة النافتا دول النمور فيما سبق..
وما تبع ذلك من تكتلات أخرى) .
ولهذا أقول: إن الربط بين العولمة وفكرة اليد الخفية بمعنى الحرية بعامة
والاقتصادية بخاصة المراد منه إلغاء المقاومة الذاتية في مواجهة قوى الجذب
الغربية.
أ. يوسف كمال:
هناك آلية أخرى من آليات العولمة وهي المشاريع المطروحة للتطبيق في
منطقة القلب الإسلامي لإذابة إسرائيل في المنطقة أولاً من خلال المشروع الشرق
أوسطي الذي تطرحه الولايات المتحدة والذي بدأ مؤتمراته من الدار البيضاء في
عام 1994 في العام نفسه الذي تشكلت فيه منظمة التجارة العالمية بل وفي الدولة
ذاتها المغرب؛ حيث عقد في مراكش. أما المشروع الثاني فهو الشراكة الأوروبية
المتوسطية وهو المشروع الذي تطرحه أوروبا في مقابلة المشروع الأمريكي، وهو
يهدف لذات الهدف بحيث يتحول الصراع العقدي تدريجيًا إلى تنافس اقتصادي ثم
تكامل تتزعمه إسرائيل بما لديها من تقدم صناعي يموله رأس المال الإسلامي ويمده
بالأيدي العاملة وبالمواد الخام وبأسواق الاستهلاك في الوقت ذاته.. وبالمناسبة فإن
المؤتمر الاقتصادي الشرق أوسطي الخامس يجري الإعداد له هذه الأيام على قدم
وساق.
د. رفعت العوضي:
بالنسبة لاتفاقية تحرير التجارة التي ترعاها الآن منظمة التجارة العالمية
ويساعد في ذلك كل من صندوق النقد والبنك الدولي، هذه الاتفاقية هي في الواقع
أقرب إلى سياسة الفرض منها إلى الاتفاق؛ لأن الدول الإسلامية مرغمة على
التعامل مع صندوق النقد والبنك الدولي كي تتهيأ للدخول في منظمة التجارة العالمية، وهي بذلك أمام قائمة طويلة مما يعرف بالإصلاحات الاقتصادية باتباع سياسات
نقدية ومالية معينة وسياسات سعر الصرف وتخصيص القطاعات الإنتاجية العامة
وفرض أسلوب معين في الإدارة وفق معايير هم يضعونها.
وهنا نلاحظ أن منظمة تحرير التجارة تؤدي الدور نفسه الذي أداه الاحتلال
قديمًا في استغلال موارد الدول الفقيرة لصالح الدول الغنية وفرض التخلف والتبعية
على هذه الدول.
لهذا فإن التحرير لن يؤدي بالضرورة إلى نمو كل من المبادلات وحركة
الاستثمار والتشغيل في كل الدول التي يحلم شعوبها بالرفاهية والرخاء؛ لأنه في
ظل الإنتاج من جانب واحد تفقد الدول الميزة النسبية لخاماتها؛ حيث تبيع الخامات
بأسعار رخيصة ثم تشتري نفس الخامات بعد تصنيعها بأسعار كبيرة جدًا.
د. عبد الحميد الغزالي:
لم تتضمن اتفاقية تحرير التجارة أي إشارة لانتقال الأيدي العاملة مع العلم أننا
دول الفائض، ولكن الدول الغربية لم تشأ النص على حرية انتقال العمالة خوفًا على
الخصوصية الثقافية والسكانية والمصالح الاقتصادية لمجتمعاتها، وحفاظًا على
الوضع الاقتصادي حيث متوسط الدخل هناك 000. 20 دولار سنويًا في مقابل
000، 2 دولار في المتوسط للدول الفقيرة وهذا من شأنه أن يزيد الفجوة
الاقتصادية.
د. عبد الرحمن يسري:
قد ترحب الدول الغربية بشيء من النمو الاقتصادي يتحقق في بعض الدول
كي تضمن أسواقًا لمنتجاتها لكن دون أن يبلغ هذا النمو حد المنافسة الحقيقية، وإذا
ما استشعرت خطرًا على مصالحها سارعت بالانقضاض على تلك التجارب
الناجحة.
ولهذا فإن العالم الغربي دائم الحرص على توسيع الفجوة التقنية ليضمن عدم
اللحاق به؛ وهذا من شأنه أن يضعنا في الجانب الأضعف في أي وضع تفاوضي.
كما أشير إلى أنه ينبغي علينا ألا نُخدع بوصفنا مسلمين بموجة التخصيص المطلقة
التي تأتي على كل شيء؛ لأن هناك على الأقل ملكية مشتركة حددها النبي صلى
الله عليه وسلم بـ «الماء والنار والكلأ» والاجتهادات الحديثة تقول: إن النار
تشمل موارد الطاقة، والماء يشمل جميع الموارد المائية، والكلأ: الموارد الطبيعية
غير المملوكة ملكًا خاصًا لأحد؛ وعليه يجب علينا المحافظة عليها بعيدًا عن
استنزاف الشركات عابرة القارات، ويدخل في هذا أيضًا كل ما من شأنه أن يحافظ
على المصالح العامة للأمة أو للشعوب.
قد يقال إن مجهودات الشركات الأجنبية وما تتملكه من موارد وطنية يمكن أن
يندرج تحت مسمى حق الإحياء، وهذا لا يصح؛ لأن حق الإحياء لأراضينا يكون
للمسلمين وحدهم ولمن عاش معهم من أهل الذمة دون غيرهم، أما حق الإقطاع
مقابل الاستصلاح فينبغي ألاَّ تُملَّك الأرض وإنما تؤجَّر لمدة معلومة مقابل
الاستصلاح إذا دعت إلى ذلك الحاجة.
البيان: وماذا عن الشركات دولية النشاط التي أشار الدكتور عبد الحميد
الغزالي إلى أنها أصبحت إحدى آليات العولمة وأحد أكبر المستفيدين منها في الوقت
ذاته، هذه الشركات بعد أن كانت عابرة الحدود عبرت اليوم حدودًا أخرى من خلال
ما أصبحنا نسمع عنه من ثورة اندماجات عالمية يصعب على المتابع إدراك أبعادها، وبعض المتابعين والمحللين عدها أهم آليات العولمة على الإطلاق؛ لنفاذها إلى
مجالات أكثر تأثيرًا، هذه الشركات نريد أن نلقي الضوء على نشاطها وأهدافها
وسياساتها ومخاطرها.
د. رفعت العوضي:
هناك حركة اندماجات عنيفة جدًا بين الشركات فوق العملاقة؛ والدراسات في
هذا الموضوع مخيفة للغاية؛ فلم يكتف العالم المتقدم بإقامة تكتلات اقتصادية بين
الدول كالاتحاد الأوروبي، والنافتا في أمريكا، فقام بتطوير أشكال التكتل كي
يضمن الهيمنة المطلقة على السوق الدولية.
ومن هنا فإن اندماج الشركات دولية النشاط من شأنه أن يُحْكِمَ السيطرة
السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح قطب واحد.
هذه الشركات تسعى للاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير والانتشار
الجغرافي في توسيع أسواقها، وتخفيض تكلفة الإنتاج والنقل، وإعادة تقسيم العالم
على المستوى الدولي بما يدعم كفاءتها الاقتصادية وفرض سيطرتها على الأسواق.
هذه الشركات أصبحت تتضخم بشكل مفزع من خلال الاندماجات السريعة
والمتلاحقة حيث أصبح العالم أمامها سوقًا واحدة.
على سبيل المثال سوق السيارات يتوقع أن تسيطر عليها أقل من عشر
شركات في العالم في الدول المتقدمة.
سوق البترول سوف تسيطر عليها أقل من خمس شركات.
حتى الشركات غير الوطنية دخلت في عمليات اندماج؛ فشركة كهرباء لندن
اشترت شركة كهرباء نيويورك.
أما مصرفيًا فسوف يسيطر على العالم 26 بنكًا.. ومن ذلك أن اندماج بنكين
في الولايات المتحدة الأمريكية كانت حصيلته رأس مال يقدر بـ 600 مليار دولار، علماً بأن هذه الشركات تدير 70% من تجارة العالم.
وبينما نجد أن شركات الدول الكبرى تتوحد وتكبر فإن العالم كله يتفتت؛ ومن
ثَمَّ فإن الكلام عن عجز الحكومات أمام هذه الشركات في ظل تحرير التجارة أمر لم
يعد جديدًا؛ لأن هذه الشركات أصبحت تمارس ضغوطًا شديدة وتملك صلاحيات في
كثير من البلدان وعلى المستوى الدولي أحيانًا بما يمكنها من تحقيق مآربها وأهداف
الدولة الأم.
د. عبد الرحمن يسري:
الدول العربية والإسلامية لم تنتفع بوجود الشركات الدولية خلال عقدي
السبعينيات والثمانينيات على أراضيها إلا قليلاً، وما يقال حول دور هذه الشركات
في عمليات الإنماء لا تشهد له التجارب ولا الواقع.
فعلى مستوى التقنية الحديثة فإن هذه الشركات تحتفظ بأسرارها للدولة الأم ولا
تصدرها إلا في مجالات محدودة جدًا وهامشية؛ وإذا ما اضطرت إلى نقل فعلي
للتقنيات الحديثة فإنها تسعى جاهدة للاحتفاظ بإدارة أجنبية للنشاط بعيدًا عن الخبرة
المحلية؛ وعلى سبيل المثال فإن فرنسا عندما خرجت من الجزائر قامت بتدمير كل
تقنيات البترول الحديثة التي خلَّفتها.
وفي الإطار نفسه إذا ما اضطرت إلى توسيع نشاطها الإنتاجي من خلال عقود
التراخيص كما فعلت في دول جنوب شرق آسيا فإنها تقصر تلك العقود على حلقة
إنتاجية واحدة حتى لا تتسرب الأسرار التقنية.
وهناك نوع ثالث من العقود التي تلجأ إليها وهي عقود تسليم المفتاح الذي
يكثر تطبيقها في التعامل مع دولنا؛ حيث إن الخبرة المحلية لا تعرف عن التكوين
التقني إلا مجرد الاستخدام دون اطلاع على أسرار أو معرفة كيفية الصيانة ومن ثم
تقوم بإدارة المشروع إما من خلال الخبرة الأجنبية أو من خلال الإرشادات المملاة
كما هو الحال في الأجهزة المنزلية.
وهناك نوع آخر هو نقل الصناعات كثيفة العمالة خفيفة التقنية التي تحتاج
إلى العمالة الرخيصة وهي متوفرة لدينا بالطبع أو المشروعات ذات معدل التلوث
العالي التي تلاحقها منظمات البيئة هناك وتفرض عليها ضرائب باهظة فتلجأ إلى
البلاد الفقيرة التي نحن منها، وذلك هربًا من القيود التي تفرض عليها في بلادها.
وأخيرًا لجأت هذه الشركات إلى تضمين اتفاقية تحرير التجارة بنودًا عن حفظ حقوق
الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وبهذا تحجز هذه التقنيات من المنبع خاصة،
وأكثر الدول قد وقَّعت على هذه الاتفاقية.
أ. يوسف كمال:
لا بد من التنبيه إلى خطر فتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الدولية
النشاط والاستثمار الأجنبي، فبالإضافة إلى ما ذكره الأخ الدكتور عبد الرحمن
يسري فإن هناك جانباً آخر ربما كان أكثر خطورة وهو جانب الاستثمار؛ لأن هذه
الشركات نادرًا ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة (أي طويلة الأجل) ، وإنما
تدخل بما يعرف «بالأموال الطائرة» في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة العائد
التي تحقق لها عوائد هائلة دون أن يكون لذلك مردود على التنمية المحلية، بل ربما
يحدث مثلما حدث في دول النمور.
وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من
التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال
المحلية، بما يعرقل الاقتصاد المحلي.
أضف إلى هذا أن جُلّ أنشطتها يقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد
الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد والذي يشكَّل خصيصًا لأجل هذا الغرض في
بلادنا! ومن هنا فالواضح أن الاعتماد على هذه الشركات في إقامة قاعدة إنتاجية
تنموية في بلادنا أمر مستبعد، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الشركات تقوم
بامتصاص الفوائض المالية لدى المستهلكين عن طريق الإغواء والإغراء
الاستهلاكي.
وغالبًا ما تعيد تصدير عوائدها إلى الدولة الأم أو إلى أي مكان يمكن
استثمارها فيه بشكل أفضل، وبهذا تتآكل المدخرات المحلية وتضعف القدرة
الشرائية لدينا مع الوقت.
وفي أحيان أخرى تدخل هذه الشركات شريكاً بالخبرة والإدارة إلى السوق
المحلية، ثم تقوم بتمويل نشاطها من خلال الاقتراض أو الاكتتاب المحلي دون أدنى
مخاطرة بأموالها لفتح أسواق جديدة لها!
ومن ثم يتعين علينا أن نمحِّص المزايا التي يتحدثون عنها، والتي قد يصعب
أن تتحقق للاقتصاد المحلي من جراء فتح الأبواب أمام هذه الشركات للاستثمار في
بلادنا.
البيان: وماذا عن التكتلات الدولية التي أصبحت تنذر بمزيد من التهميش
لعالمنا الإسلامي في ظل العولمة؟
د. رفعت العوضي:
هناك بعض الدول ذات الحجم الكبير التي تُعَدُّ بذاتها كتلة سواءاً بمعيار حجم
الإنتاج القومي أو عدد السكان أو حجم التجارة الخارجية، وهذه الدول بالتحديد هي: الولايات المتحدة والصين والهند واليابان، ومع بروز الصراع الاقتصادي في
ظل العولمة سارعت بعض هذه الدول في الدخول في تكتلات تضمن لها بقاءًا أقوى، فدخلت اليابان في مجموعة الآسيان، وشكلت الولايات المتحدة مع كندا والمكسيك
مجموعة النافتا وهي عبارة عن اتحاد جمركي ذي سياسة واحدة، فيما تسعى
الولايات المتحدة إلى دمج الأمريكتين في منطقة تجارة حرة تمهيدًا لخطوات أخرى
نحو التكتل.
وفي الاتجاه نفسه سارت الدول الأوروبية بعد أن قطعت شوطًا؛ حيث
وصلت إلى مرحلة الوحدة؛ إذ أصبح لها برلمان واحد وعملة واحدة «اليورو»
وسياسة اقتصادية واحدة في مواجهة الدول والتكتلات الأخرى، وعلى غرار هذه
التكتلات قامت تكتلات أخرى في كل من آسيا وإفريقيا؛ ولكنها لا تعتبر تكتلات
بالمعنى المعروف لضعف التنسيق بين دول المجموعة الواحدة، وضعف مستواها
الاقتصادي كذلك.
ولهذا فإن العالم الفقير والذي منه الدول الإسلامية بالطبع سيحاول اللحاق بهذه
التكتلات في أحسن أحواله لضمان الفتات! وإذا تصورنا أن الاقتصاد العالمي عبارة
عن طاولة فإن الذين يملكون الجلوس عليها في ظل العولمة هم الكبار فقط والذين
يملكون زمامها هم الكبار جدًا؛ لأنهم يملكون سياسة واحدة! ومن ثَمَّ فإن الأمر ينذر
بمزيد من ضعف القدرة التنافسية وباتساع أكبر للفجوة الدخلية والفجوة التكنولوجية
وبانخفاض أسعار صرف العملات الإسلامية؛ مما يعني مزيدًا من الاعتماد على
الخارج ومزيدًا من التبعية.(151/60)
المسلمون والعالم
الانسحاب من لبنان وسياسة عض الأصابع
د. يوسف الصغير
إن ما يجري في لبنان وإن كان يمثل الفصل ما قبل الأخير من مسرحية
السلام، فإنه يمثل حالة نادرة ومعقدة تتداخل فيها القوى، وتختلط فيها المصالح،
وتبرز فيها القدرات العالية للأطراف المختلفة على المناورة والبراعة في لعب
الأوراق مما يؤهلها لتقدم حالات دراسية في أقسام العلوم السياسية.
إن العامل المشترك في المفاوضات على مختلف المسارات هو حرص اليهود
على التعامل مع كل طرف عربي على حدة والانفراد به بمعونة مباشرة من أمريكا،
وبعد الانفراد بكل طرف فإن رئيس الوزراء اليهودي يدخل المفاوضات مكرراً أنه
يمثل دولة ديمقراطية تديرها المؤسسات، وأنه لا هو شخصياً ولا حزبه يستطيع
تجاوز خطوط حمراء في المفاوضات؛ لأنها ستثير المعارضة وتسقط مشروع أي
تسوية إما بواسطة تهديد بعض الأحزاب الصغيرة بالخروج عن الائتلاف الحكومي، أو التهديد بطرح الثقة بالحكومة، أو اشتراط قيام استفتاء حول أي اتفاقية.
وأيضاً فإن أي اتفاق يوقعه الرئيس يظل عرضة للقبول أو الرفض من قِبَل الكنيست. إن هذا التكتيك يريح المفاوض اليهودي من التعرض لأي ضغوط؛ لأن الرد
البسيط هو أنه ولو وافق الكنيست فإن الموضوع لن يمر؛ وهنا تتجه الضغوط على
الطرف المقابل؛ حيث إن الجانب العربي يمثله شخص وحيد تنجح المفاوضات
بمجرد إقناع الزعيم أو إغرائه أو إجباره على صيغة تناسب الطرف المقابل؛ ولهذا
فإن الاتفاقيات تتم غالباً بعد مفاوضات سرية؛ لأن علنية المفاوضات ستجعل الزعيم
يحس بالحرج.
فمثلاً اتفاقية كامب ديفيد كانت المفاوضات سرية وبرعاية الحسن الثاني في
المغرب. أما زيارة القدس واحتفالات التوقيع فهي من قبيل الإخراج المسرحي ليس
إلا.
أما المسار الأردني فإن الاتفاقية تتوج حوالي عشرين سنة من العلاقات
الحميمة والاتصالات السرية مع الملك حسين، أما المسار الفسلطيني وهو أهم
المسارات على الإطلاق لحيويته في إضفاء الشرعية على وجود الدولة اليهودية
وحدودها الحالية والتي تتجاوز قرار التقسيم فإن الزعيم حريص على أن تكون
جميع الأوراق بيده وأن يكون هو الوحيد الذي ينال شرف الانحناء أمام ضغوط
الراعي الأمريكي والقبول بمطالب الجانب اليهودي.
لقد كانت اتفاقية أوسلو صدمة شخصية لحيدر عبد الشافي وكان عليه إن
يتساءل أولاً عن السر في اختياره لقيادة مفاوضات المسار الفلسطيني وكان أصعب
ما فيها الوقوف أمام الناس وتسويغ أول مفاوضات علنية ومباشرة أساسها الاعتراف
بشرعية وجود دولة اليهود في فلسطين، ومن ثم مطالبتها بالتكرم بالتنازل عن جزء
عزيز من أرض (إسرائيل) ليقيم عليها الشعب الفلسطيني «إن لفظة التنازل
يحرص الساسة اليهود على تردادها ومن ورائهم الإعلام الموجه؛ حيث إنها تعني
أن اليهود يتنازلون عن شيء هو من حقهم» .
إن حيدر عبد الشافي ليس من رجال عرفات وليس بذي توجُّه إسلامي، ولكنه
من الشخصيات الوطنية التي تحظى بشيء من الاحترام، وقد تعب المسكين من
كثرة ركوب الطائرات، وكان عزاؤه الوحيد هو التركيز الإعلامي على أخبار
المفاوضات، وأصبح اسم حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي على كل لسان،
وفجأة وبدون مقدمات يُعلَنُ التوصل إلى اتفاقية تم التفاوض عليها بصورة سرية في
أوسلو واكتشف الناس أن حيدر عبد الشافي وأعضاء وفده الكرام كانوا مجرد شلة
من المهرجين في نظر الزعيم؛ وكم كان منظرهم مضحكاً بالنسبة إليه عندما
يقدمون لسيادته التقارير المطولة عن مفاوضاتهم الجادة مع الوفد اليهودي ويتكرم
عليهم الزعيم بتوجيهاته الكريمة بعدم التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني!!
إن اعتراف عرفات بدولة (إسرائيل) وهو الذي يُتَعامَل معه على أنه الممثل
الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني! «لأنه هو المنظمة» هذا الاعتراف فتح
مجالاً واسعاً لعلاقات علنية مع كثير من الدول العربية (تونس، والمغرب،
وعمان، وقطر، وموريتانيا) والإسلامية مثل أندونيسيا ودول إفريقيا،
وكان العذر المباشر هو أنه إذا كان أصحاب الشأن قد أقاموا علاقات مع
(إسرائيل) فما المانع من القيام بالشيء نفسه.
وأخيراً لم يبق إلا سوريا ولبنان؛ لأن جميع الدول العربية المترددة والرافضة
للتطبيع مع اليهود قد تترست خلف سوريا، وربطت التطبيع بالمسارين السوري
واللبناني وكلها أمل أن تطول المفاوضات وهي مرشحة لذلك؛ نظراً لكثرة اللاعبين
وإجادتهم لفن شد الحبل وسياسة عض الأصابع، وسنحاول فيما يلي إلقاء الضوء
على مطالب كل طرف وأهدافه وطريقة إدارته للقضية؛ ولكن نظراً لتغير الظروف
واللاعبين فإننا سنضطر للتعريج على كل طرف أكثر من مرة.
سوريا والجولان:
إن من الأمور الغريبة في قضية الجولان أنه بعد حرب 1967م ثم حرب
1973م واتفاقية فض الاشتباك التي رعاها وزير الخارجية الأمريكي اليهودي
هنري كيسنجر، ومرابطة قوات تابعة للأمم المتحدة على الحدود فإن الهدوء التام
يعم الجولان، ولم تقم سورية بأي عمل من شأنه تعكير صفو المحتلين الذين هدموا
مئات القرى السورية، وهجروا أهلها الذين يبلغ عددهم وفق التقديرات السورية
حوالي نصف مليون، وبدؤوا إقامة المستوطنات ومعسكرات الجيش بل وأصدر
الكنيست قانوناً بضم الجولان.
لم نسمع بقيام أحد من المهجرين من الجولان بأي عمل عدائي مسلح، ولم تقم
الدولة بأي محاولة لاستعمالهم ورقة ضغط مع تضلعها وبراعتها في رعاية
المنظمات الفلسطينية المختلفة واحتضانها، ورعايتها التامة لحركة أمل، وتعاونها
مع حزب الله في عملياته الموجعة في لبنان، لقد كان وما زال بمقدور سورية
تكوين مجموعات من أهل الجولان مهمتهم إزعاج المحتلين وإبقاء قضية احتلال
الجولان حية، وكان يمكن أن يكون مركز هذه المجموعات الجار المفتوح
«لبنان» . إنني ادعو القارئ أن يتساءل معي عن سر هذا الإحجام مع براعة النظام السوري في استغلال أوراق أخرى أقل أهمية!
إن المتتبع ظاهرياً للأحداث يكتشف بسهولة أن جهود النظام السوري منصرفة
بصورة شبه كلية نحو استغلال الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وظروف الحرب
الأهلية من أجل الهيمنة على لبنان مع تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع
(إسرائيل) تحت أي ظرف.
لبنان:
عندما دخلت القوات الفرنسية دمشق، وزار الجنرال الفرنسي غورو قبر
صلاح الدين الأيوبي قال: «ها قد عدنا» نعم لقد عاد أحفاد لويس التاسع ليقيموا
دولة نصرانية في المشرق، ولم يخرجوا من الشام إلا بعد إرساء قواعد دولة يهيمن
عليها الموارنة النصارى اسمها لبنان. ويمكن إعادة كثير من أحداث لبنان إلى
سيطرة هاجس الحفاظ على الهيمنة الذي أدى إلى ارتكاب الموارنة أخطاءاً ساهمت
في تعقيد الوضع نظراً لكثرة اللاعبين وتبدُّل أدوارهم.
لقد تعرضت الهيمنة المارونية للتهديد منذ أواخر الخمسينيات عندما برز المد
القومي الناصري مما اضطر الرئيس اللبناني كميل شمعون لطلب تدخل الأسطول
السادس الأمريكي عام 1958م، وقد استقرت الأوضاع لهم طوال الستينيات، ولكن
الأحوال تغيرت بعد استقرار القيادات الفلسطينية في لبنان بعد خروجهم من الأردن
بعد أحداث أيلول الأسود 1970م. لقد استفاد قادة المنظمات من وجود عدد كبير من
اللاجئين الفلسطينيين الموزعين على مخيمات في مختلف أنحاء لبنان. ومع بداية
العمل المسلح الفلسطيني في لبنان بدأت الحساسيات تظهر، واشتبك الجيش اللبناني
مع الفلسطينيين مما أدى إلى تدخل الدول العربية، وتم التوقيع على اتفاقية القاهرة
التي تنظم الوجود الفلسطيني. لقد وقع الموارنة تحت ضغط ذاتي للتخلص من
الوجود الفلسطيني الذي يهدد هيمنتهم إضافة إلى ضغط إسرائيلي لتكرر الحكومة
اللبنانية ما فعله الأردن من قبل. ولما كانت الحكومة اللبنانية أعجز من أن تقوم
بذلك حتى لو رغبت، فقد بدأت (إسرائيل) تقوم بعمليات داخل لبنان، ومن ناحية
أخرى نسجت خيوطها حول الأحزاب المارونية وخاصة حزب الكتائب الذي بدأ
يشكل ميليشيات مسلحة. وللأسف فإن السُّنَّة في لبنان غافلون عما يدبر لهم، وقد
خدرتهم أسطوانة أن لبنان مثال حي للتعايش بين الطوائف التي كان يرددها
الموارنة لعشرات السنين، وتكشف مدى الحقد الدفين الذي أعماهم عن هدف
الحرب التي أشعلوها؛ فقد بدأت ضد الوجود الفلسطيني بحادث الحافلة المشهور،
ولكنها سرعان ما تحولت إلى عملية فرز طائفي دموية قام خلالها الموارنة بتصفية
التجمعات الإسلامية والفلسطينية المتداخلة مع مناطقهم بصورة وحشية كما حصل
في تل الزعتر والكرنتينا، ودارت معارك طاحنة للسيطرة على وسط بيروت؛
ولا أنسى صور النصارى وهم يسحلون جثث أهل السنة ويشربون أنخاب الخمر
احتفالاً بانتصارهم الذي سرعان ما انقلب إلى هزيمة مروعة، ولا أنسى القصص
المأساوية لعمليات القتل على الهوية التي بدأها النصارى. لقد أفلت زمام الحرب
من الموارنة التي تحولت إلى صراع من أجل البقاء اضطر فيه النصارى إلى طلب
العون الخارجي. وإذا كانت (إسرائيل) على استعداد للدخول ضد الفلسطينيين فإن
الأمر صعب نظراً لتوسيع النصارى دائرة الحرب بحيث شملت جميع الطوائف
وخصوصاً السنة؛ ولهذا فإن دخول (إسرائيل) الحرب في تلك الفترة سيكون
محرجاً وحساساً خاصة أنه في تلك الفترة لم يكن أحد يجرؤ على التصريح بعلاقات
مع (إسرائيل) ولهذا تم التوجه إلى سوريا التي كانت تنتظر الفرصة السانحة
بالدخول الأول في حزيران 1976م، وخاضت معارك عنيفة خاصة في بحمدون
وصيدا، وبعد فترة من الزمن خمدت فرصة النصارى بالتدخل السوري، وبدأت
أصواتهم ترتفع بخروج قوات الردع العربية؛ لأنهم اكتشفوا أن التدخل السوري
الذي حصل بناءاً على طلب ماروني ومباركة إسرائيلية مع غطاء عربي ليس
بالضرورة معنياً بالرغبة المارونية بإعادة الأمور إلى ما قبل الحرب التي أشعلوها؛
لأن (إسرائيل) يهمها أساساً تصفية الوجود الفلسطيني المسلح، ولهذا فقد أطلقت
يد سوريا في لبنان ما عدا خطوطاً حمراء تم الاتفاق مع سوريا على عدم تجاوزها.
لقد كان هدف التدخل السوري كما أعلنه الرئيس الأسد هو «الحفاظ على التوازن
في لبنان» الذي إذا كان يعني أنه لن يسمح بسيطرة المسلمين فإنه يعني أيضاً أنه
لن يعيد السلطة كما كانت للموارنة. أو بصورة أخرى فإن سوريا ستحكم لبنان؛
لأنها ببساطة هي الوحيدة القادرة على حفظ التوازن وستعمل جاهدة لإثبات ذلك.
لقد قامت سوريا بنصف المهمة، وكان تسرُّع الموارنة بالتمرد على سوريا
عاملاً أساسياً في عودة العلاقة المصلحية مع الفلسطينيين الذين عادوا لشن عمليات
داخل فلسطين المحتلة. وفي المقابل قامت (إسرائيل) باحتضان قوات نصرانية
يقودها الرائد سعد حداد مرابطة في منطقة الشريط الحدودي. وبدأت (إسرائيل)
باحتلال مناطق في جنوب لبنان، وتوالت عمليات الجيش الإسرائيلي داخل لبنان
مثل عملية غزو الجنوب عام 1978م. (عملية الليطاني) .
لقد وصل الموارنة إلى طريق مسدود؛ فالمخابرات السورية هي التي تحكم
لبنان، والرئيس لا يستطيع اتخاذ أي قرار بدون الرجوع إلى دمشق وكان بشير
الجميل ذاك الشاب الطموح ذو الابتسامة التهكمية يمنِّي نفسه بقيادة لبنان؛ ولذا فقد
وطد سلطته في قيادة القوات اللبنانية، وعمل على تصفية أقرانه من الزعامات
المارونية مثل طوني سليمان فرنجية (حزيران 1978م) وداني كميل شمعون
ليخلو له الجو، وفي الوقت نفسه عمل على توطيد علاقات خاصة مع قيادات
الجيش الإسرائيلي وضباط المخابرات، وكانت الزيارات المتبادلة لا تنقطع،
وحصل على كثير من المساعدات العسكرية، وتم تدريب المئات من جنود الكتائب
على خوض المعارك والاشتراك في مناورات مشتركة منذ عام 1979م، وبدأ بشير
الجميِّل بالتحرش بالسوريين ومحاولة جر الإسرائيليين لضربهم، وفيما كان
السوريون يخططون لوصول سليمان فرنجيه لسدة الحكم أعلن بشير الجميِّل ترشيح
نفسه لرئاسة الجمهورية التي لا أمل له بالفوز فيها إلا بالتدخل الإسرائيلي المباشر
وهو ما أقره مجلس الوزراء الإسرائيلي برئاسة بيغن في كانون الثاني 1981م.
وبدأت عمليات غزو لبنان في 4 حزيران (يونيو) 1982م، وسميت:
(عملية سلامة الجليل) واستمرت الحرب حتى 21 آب (أغسطس) وبلغت
الإصابات تقريباً 29506 شخص بين قتيل وجريح. وبعد يومين من بدء عملية
إخلاء الفلسطينيين انتُخب بشير الجميل رئيساً لجمهورية لبنان، وبعد أسبوع سافر
بشير إلى نهاريا، وقابل بيجن ومما قال له: «هدفنا الآني الآن إخراج الفلسطينيين
والسوريين من البقاع وشمالي لبنان وبعدها يمكننا التصرف كدولة ذات سيادة» وفي
يوم الثلاثاء الرابع عشر من أيلول في بيت الكتائب في الأشرفية وأثناء إلقائه
خطاب وداع لأنصاره بمناسبة فوزه برئاسة الجمهورية تم تفجير المبنى، وقتل
بشير الجميل على يد حبيب طانيوس الشرتوني النصراني من الحزب القومي
السوري. وبعيد ذلك قامت القوات الإسرائيلية بمحاصرة مخيمي صبرا وشاتيلا،
ونقلت إليهما قوات الكتائب التي ارتكبت مجزرة رهيبة بحق النساء والأطفال
والعزل. وبقدر ما صدمت هذه المجزرة الرأي العام فقد حكمت بالموت على حزب
الكتائب، وعجلت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت، وتولت القوات متعددة
الجنسية والتي تتكون أساساً من قوات أمريكية وفرنسية تولت تهدئة الأوضاع
ومحاولة ترتيب الأمور بما يناسب المصالح الإسرائيلية والمارونية، وبقيت القوات
الإسرائيلية في منطقة الجنوب والشوف وأجزاء من البقاع وفي صيدا. وإلى هنا
تم التخلص من الوجود الفلسطيني المسلح، وبقي تقديم الشكر لسوريا على خدماتها
وإبلاغها بأنه آن الأوان لمغادرة قواتها لبنان، ولكن هذا لم يحن بعدُ؛ حيث برزت
حركة أمل الشيعية الموالية لسوريا لملء الفراغ في بيروت الغربية والمخيمات
الفلسطينية؛ وذلك بعد انسحاب القوات الدولية من بيروت بعد تفجير مقري قيادة
القوات الأمريكية والفرنسية وقتل حوالي 500 جندي ثلثلهم من مشاة البحرية
الأمريكية، واقتصر الرد الأمريكي على إطلاق البوارج الأمريكية قذائف مدافعها
الضخمة على أهداف وهمية، وحتى الآن لم يتم التأكد مَنْ هم المدبرون. وفي
الوقت نفسه تمت عملية مماثلة في صيدا ضد مركز القيادة الإسرائيلية خلفت حوالي
سبعين قتيلاً، وبالمثل قامت (إسرائيل) بتقليص المنطقة العازلة إلى الشريط
الحدودي الحالي، واعترفت الدول الثلاث بعجزها عن التعاطي مع الوضع في
لبنان وتسليم الملف إلى سوريا. وتولت حركة أمل مهمة تصفية بقايا الوجود
الفلسطيني المسلح في المخيمات، وبدأت مرحلة ما يسمى بحرب المخيمات، وبقدر
ما نجحت الحركة في إنجاز المهمة الموكلة إليها فقد أفرزت وضعاً جديداً؛ حيث إن
المجازر غير المسوَّغة بحق الفلسطينيين وحصار المخيمات الذي طال أمده قد أدى
إلى موت الحركة وضمورها وانشقاق مجموعة منها كونت حزب الله وارتبط
(حزب الله) بإيران، ونما بسرعة في البقاع والضاحية الجنوبية من بيروت؛ بحيث
أزاح حركة أمل. وأما في الجنوب فما زال التنافس بينهما على أشده في أوساط
الشيعة.
إن محاولة (إسرائيل) الاحتفاظ بالشريط الحدودي لدعاوى أمنية فارغة بعد
تصفية الفلسطينيين تخفي مطامع اقتصادية وسياسية؛ حيث إن (إسرائيل) دأبت
على استنزاف موارد الشريط من المياه والتربة، وترددت في حل مشكلة المتعاونين
معها؛ فهي ليست على استعداد لقبولهم، ولم تستطع إقناع الحكومة اللبنانية بالعفو
عنهم، وضيعت الوقت بالبحث عن ممول لتوطينهم في فرنسا أو كندا.
لقد كان هذا الوجود أكبر ورقة وأهم دعوى استغلها حزب الله في سبيل تثبيت
أقدامه في لبنان والحصول على رصيد شعبي تجاوز الطائفة الشيعية، وكان الغطاء
الإيراني ضرورياً لتأمين عدم ضربه من قِبَل سوريا لحساب حركة أمل؛ وذلك
للتحالف الاستراتيجي بين البلدين، ولذلك رضيت سوريا بالتنسيق مع الحزب، بل
وإعطائه الحق بحمل السلاح عن طريق استثناء السلاح المقاوم من قانون تجريد
الميليشيات من السلاح.
الانسحاب من لبنان شعار أم هدف؟
لقد كانت محاولة الرئيس العماد ميشال عون إخراج القوات السورية ودخوله
في معارك طاحنة معتمداً على الحماية الغربية آخرَ صِدَام جدي مع الموارنة، وقد
طال الصراع لسبب بسيط هو أن سوريا تنتظر الضوء الأخضر الذي جاء عندما
تمنعت عن المشاركة في حرب الخليج، وقد تم الهجوم على قصر بعبدا «وهرب
عون إلى السفارة الفرنسية التي أمنت نقله إلى فرنسا؛ حيث يعيش حتى اليوم»
وفي الوقت نفسه وافقت سوريا على المشاركة؛ ومنذ ذلك اليوم فهم الموارنة أن
على الرئيس اللبناني ورئيس الحكومة أن يدبر أمورهما مع سوريا، ولكن المشكلة
أن مجرد رفع الغطاء الدولي عن وجودها في لبنان كفيل بارتفاع الأصوات الداعية
لخروج القوات الأجنبية من لبنان؛ ولذا فمن المهم لسوريا أن يعرف العالم أنها
الجهة الوحيدة القادرة على الإمساك بخيوط اللعبة في لبنان، وهذا ما تقوم به عن
طريق توثيق العلاقة مع حزب الله، والتأكد من ولاء كبار السياسيين الموارنة
المقيمين في لبنان، وأخيراً التلويح بالعودة لاستعمال الورقة الفلسطينية؛ حيث
صرح رئيس الجمهورية اللبناني رداً على تهديد باراك بالانسحاب من جنوب لبنان
بأن لبنان لن يسمح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيه، وأن من حقهم
الكفاح من أجل العودة.
إن تهديد باراك بالانسحاب من لبنان دون اتفاق مع سوريا يوحي أنه يعرف
أن سوريا تستخدم ورقة عمليات حزب الله للضغط من أجل الحصول على أكبر قدر
من المكاسب في الجولان، وأن نجاحه في جمع التأييد لهذا الانسحاب وتصويره
بأنه تنفيذ لقراري مجلس الأمن 425، 426 اللذين مضى عليهما أكثر من عشرين
سنة والحماس الفرنسي المريب واستعداد فرنسا لإرسال قوات للمنطقة، ومسارعة
الشرع إلى باريس لاستجلاء الموقف الفرنسي بعد تصريحات وزيري الخارجية
والدفاع الفرنسيين الموالية لـ (إسرائيل) .
إن موقف باراك المعلن أنه بعد الانسحاب ستكون سوريا مسؤولة عن أي
عملية ضد (إسرائيل) وأن الرد سيكون قاسياً وسيتجاوز لبنان؛ لأن ضرب البنى
التحتية اللبنانية أصبح عمليات اعتيادية. إن وضع سوريا العسكري صعب،
والنظام مشغول بترتيب انتقال السلطة السلس لبشار الأسد، وعمليات فصل كبار
المسؤولين ومحاكمتهم الذين قد يفكرون في منافسة المرشح الأثير بتهمة إساءة
استعمال السلطة والفساد لا تسمح للنظام بخوض أي مغامرة عسكرية هي في
الأساس مرفوضة من جانب النظام السوري.
إن أخطر وضع يمكن أن يحدث هو ما لم يتحدث عنه باراك خوفاً من
مسارعة سوريا للموافقة، ماذا يحدث عندما تعلن سوريا أنها ستقوم بالانسحاب من
لبنان بالتزامن مع انسحاب (إسرائيل) من جنوب لبنان لتعود الأوضاع إلى نقطة
الصفر؛ حيث إن سوريا لن يكون لها نظرياً أي قدرة على التحكم بالتنظيمات
اللبنانية.(151/74)
المسلمون والعالم
الدور الغربي في الصراعات الإفريقية
حسن الرشيدي
«إننا خليط ثقافي، ثمرة تحول أوجده الغرب، لقد جاؤوا إلينا وقالوا لنا:
سنستعمركم، اتركوا جانباً التنُّورات وأوراق الشجر واستخدموا الترجال والبلوجينز
ونظارات ريبان. ثم إذا بهم يغيِّرون رأيهم في منتصف الطريق ويقولون: أنتم
مستقلون لقد قهرنا الرجل الأبيض. والآن بعد أن غيَّروا عاداتنا وثقافتنا ووضعوا
لغتهم على لساننا يقولون إننا أبناء غير شرعيين لحضاراتهم!! !» .
هذه مقولة أحد مثقفي دولة ساحل العاج يعبر فيها عن حالة الاغتراب التي
يعيشها الأفارقة وتحياها إفريقيا وتبلغ معاناة إفريقيا ذروتها في الحروب التي يبدو
أنها لا تنتهي في هذه القارة، فأصبحت تظهر كأنها مستودع للنزاعات لا تكاد تخبو
حتى تنفجر مرة أخرى حاصدة الآلاف من الأرواح ومشردة الملايين من البشر.
فالدم ينزف في أنجولا وغينيا بيساو وسيراليون ويكاد ألاَّ يتوقف في الكونغو
ولا زالت حروب القبائل في الصومال مشتعلة بين الحلفاء أو قل العملاء في
إثيوبيا وإرتيريا. أما مذابح الجزائر فحدث عنها ولا حرج. وفي إحصائية حديثة
«منذ بداية هذا العقد شهدت إفريقيا أكثر من مئة نزاع حدودي» [1] وتقول
إحصاءات أخرى: «إن عدد الدول الإفريقية المتورطة الآن في معارك مباشرة قد
وصل إلى نحو 12 دولة» [2] ولا يقتصر العدد على هؤلاء وحدهم؛ ذلك أن أعداداً
أخرى من الحكومات الإفريقية مشاركة بصورة غير مباشرة، وهناك دول إفريقية
تنتج السلاح وتبيعه للمتقاتلين، وهناك دول أخرى ينتقل السلاح عبر أراضيها
وبرضاء حكوماتها، وهناك دول تقف بعيدة عن أتون الحرب ولكنها لا تنكر
تعاطفها مع طرف أو آخر من المتحاربين ولا تخفيه، وهكذا فإن السحب السوداء
توشك أن تغطي المدى الإفريقي بأكمله.
ولا شك أن العامل الاستعماري الغربي بأشكاله القديمة والحديثة له الدور
الأكبر في إثارة هذه النزاعات وتجددها المستمر، هذا المكر الغربي تجاه إفريقيا هو
جزء من عدائه وحقده العقدي والتاريخي على الإسلام؛ فلقد انتشر الإسلام في القارة
الإفريقية انتشاراً واسعاً في شمالها وشرقها وغربها وفي أجزاء من وسطها وجنوبها، وبلغ انتشاره في القارة درجة أصبح معها المسلمون يشكلون نسباً كبيرة من السكان
في جميع أنحائها؛ فهناك أغلبيات عظمى أو أغلبيات كبيرة وأقليات تتراوح بين
نصف السكان وأقل من عُشْرهم في بعض البقاع، وكان لانتشار الإسلام باعتباره
ديناً وطريقاً للحياة أثره في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعوب القارة،
كما كانت له قوته الثقافية والحضارية التي بها استطاع أن يوجد كياناً ويسهم في
صنع جانب من الشخصية الإفريقية ويحقق فيما بين شعوب القارة بعضها مع بعض
وبينها وبين غيرها خارج نطاق القارة صلات متعددة الجوانب.
إفريقيا في المنظور الغربي:
ينظر الفكر الغربي على وجه العموم إلى المجتمعات الإفريقية باعتبارها
مجتمعات غريبة الشأن؛ فهي مضطربة ومثيرة للأطماع ومتخلفة ومخنوقة
بالمجاعات والحروب الأهلية والجفاف وغارات الجراد والإيدز. فالإنسان الإفريقي
في المفهوم الغربي «نشأ وتطور من الخلية الحية التي نشأت في البرك
والمستنقعات» [3] ، ويوضح فرانسوا بيار هذا الجنس بقوله: «لقد كان من
المفهوم أن جنس السود نوع من البشر مختلف عنا؛ إنها بلاد الذهب المنغلقة على
نفسها، بلاد الطفولة المغلفة بلون الليل الأسود قبل أن يبدأ نهار التاريخ الذي أدركه
الوعي» [4] وهو طبعاً التاريخ الذي يصنعه الأوروبيون بجهودهم الكريمة كما كتب
القبطان فاليه في عام 1900م وهو في أغوار غابات الكونغو: «لا نجد هنا سوى
الفوضى وسوء النية، وباختصار مجتمع لا يزال في عهد الطفولة بلا أي تنظيم
وهو عبارة عن شتات من البشر يستحيل التعامل معهم، ويشلُّون جهودنا الكريمة
بجمودهم» [5] .
ويعترف جان فرانسوا بيار قائلاً: «إن الإحجام عن الاعتراف بالمجتمعات
الإفريقية باعتبارها مجتمعات تاريخية وسياسية كاملة الأهلية يرتبط بإقدام الغرب
على إخضاع أهلها ابتداءاً من النخاسة وحتى الاستعمار» [6] .
وكان اللورد جونستون وهو من منظِّري الإمبراطورية البريطانية «يشك في أن
يكون للأفارقة تاريخ قبل هجمات الغزاة الآسيويين والأوروبيين» [7] .
باختصار: كانت المفاهيم الغربية بالنسبة للمجتمعات الإفريقية تدور حول عدة
عناصر:
- افتقادها لتاريخيتها.
- بلاهة شعوبها ووحشيتها وهمجيتها.
- انعزالها عن بقية العالم وبعضها عن بعض.
ولكن هل ما يزال هذا المفهوم هو المسيطر على عقول الغربيين وخاصة
الساسة منهم؟ بالطبع هؤلاء الساسة لا يصرحون بذلك؛ فطبيعة السياسة وخاصة
هذه الأيام لا تدع للصراحة مجالاً؛ ولكن الأفعال هي التي تجعل الانطباع السائد أن
الفكر الغربي لم يغير نظرته إلى الأفارقة، ويبدو هذا في تصرفات الساسة الغربيين.
مظاهر الدور الغربي في تأجيج النزاعات في إفريقيا:
لقد فعل الغرب بإفريقيا الأفاعيل واستغل شعوبها وثروتها أبشع استغلال،
واستناداً إلى تقديرات كتاب (الزنجي) الصادر في نيويورك عام 1915م فإن
تجارة الرقيق الأمريكية أدت إلى إزالة ستين مليون زنجي على الأقل من إفريقيا
توفي منهم حوالي خمسين مليوناً قبل وصولهم إلى أمريكا « [8] .
وتتجلى ممارسات الغرب الاستعمارية في إفريقيا خاصة منها الذي يساعد على
إثارة الخلافات في ثلاثة مسارات:
أولاً: الصراع العرقي:
العرقية أو القبلية أو كما يسميها علماء الاجتماع (الإثنية) هي ظاهرة شديدة
التعقيد؛ فهي تتميز بالتمركز حول النوع والوعي المشترك والإحساس بالهوية
والانغلاق» [9] وهي مثل أي ظاهرة في المجتمع ليست ثابتة بل يمكن أن تغير
شكلها وموقعها ودورها في حياة المجتمع؛ بل وربما تظهر عناصر جديدة في
محتواها؛ ومن أهم خصائصها أنها «لا تتواجد في شكل نقي بل ترتبط وبشدة
بالرؤى السياسية القانونية والاجتماعية الأخرى التي تشكل مكوناتها
الضرورية» [10] .
لقد ظهرت القبلية لأول مرة على يد الاستعماريين؛ فهم أول من نشر هذا
المنظور؛ إذ كان جزءاً من جهودهم لإخضاع إفريقيا المستعمرة، واحتلت القبلية
موقعاً هاماً في الأيديولوجية العنصرية للاستعمار فقد صُوِّرت أمراً يتسم بالسحر
والبدائية والبربرية تميز الإفريقي وينظر إليها رابطاً رئيساً بين الماضي الإفريقي
اللاتاريخي البدائي البربري المزعوم الخالي من أي مبدأ إنساني من ناحية والمهمة
الحضارية وعبء الرجل الأبيض الاستعماري من ناحية أخرى.
ولكن كيف افتعل الاستعمار هذا الصراع؟
«بدأ الاستعمار يقسم المجموعات الإفريقية اللغوية إلى قبائل لتسويغ هذه
الرؤية العنصرية للأفارقة لينشأ بينها تفاوت في الثقافة ويروج فكرة أن الصراع فقط
هو ما يميز التواصل بينهم ويتجلى امتداد هذه العنصرية في ميل المستعمر إلى
اعتبار المجموعات اللغوية الإفريقية بعضها أعلى أو أدنى من بعض حسب تشابه
تنظيمها الاجتماعي السياسي لتنظيم المستعمر وتقدمهم في بلوغ مصائر المستعمر
السياسية والاجتماعية» [11] .
ثم جاءت الخطوة الثانية «جمع الاستعمار مجموعات عرقية متباينة تحت
إدارة سياسية واحدة، وفي بعض الحالات نجد مجموعة عرقية واحدة مقسمة إلى
أقسام تديرها قوى استعمارية مختلفة أو منضوية تحت إدارات سياسية مختلفة بين
قوة استعمارية واحدة» [12] وقد وضَّح بايار دور المستعمر في صنع الصراع
العرقي وإن لم يعتبره العامل الوحيد؛ فإن هناك عوامل أخرى أسهمت في هذا
الصراع فقد «حرصت نظرة المستعمر على تصور الأوضاع البشرية التي يعوزها
الوضوح على شكل هويات متميزة تخيلها وفق نموذج هابط (للدولة الأمة) لعدم
تصوره ما هو أفضل، وكان مفهوم الإدارة الفرنسية المعتادة على المركزية الإدارية
مفهوماً قائماً بكل وضوح على تحديد المساحات؛ بينما كانت فكرة الحكم غير
المباشر البريطانية أميل إلى النزعة الثقافية. وأياً كانت هذه الفروق فقد تم تنظيم
الحكم الاستعماري حسب هذه التصورات، واتجهت النية لترتيب الواقع على هذا
الأساس. وقد استخدم القهر لتثبيت الإقامة قسراً والتحكم في حركات الهجرة وتجميد
الهويات العرقية بطريقة مفتعلة إلى حد أو آخر من خلال البطاقات الشخصية
وجوازات السفر الداخلية» [13] .
إن الصراع العرقي استخدم من قِبَل الغرب لإخضاع الشعوب، ولقد كان
المحدِّد الرئيس لهذا السلوك الاستعماري هو رغبة المستعمرين في إخضاع الأفارقة، كما لعبت سياسة (فرِّق واحكم) دوراً هاماً في عملية الإخضاع هذه؛ فشجعوا
المشاعر العرقية بين الأفارقة، واستغلوا كل فرصة متاحة لنشر أسطورة تمايزهم.
تأخذ القبلية في إفريقيا أشكالاً عدة:
- يغالي القبلي باستمرار في صفات رجال قبيلته وعشيرته وأعمالهم ويفاخر
بها، وعلى العكس فإنه ينكر عيوبهم، ويحاول التستر عليها باستمرار؛ وموقفه من
القبائل الأخرى هو عكس ذلك تماماً.
- يمارس القبلي المحسوبية بالنسبة لأفراد قبيلته في توزيع المزايا المادية
وإسناد كافة المناصب المسؤولة إليهم.
- يعتقد القبلي أن مَنْ هم ليسوا من أفراد قبيلته وعشيرته لا يستحقون
مساعدته.
- ويتمادى بعضهم في القبلية إلى حد الاعتراض على الزواج بين القبائل
وإلى تفضيل الزواج بين البيض والسود عليه.
- ويتمثل الشكل الأقصى للقبلية على الصعيد السياسي في المطالبة بتأسيس
جمهوريات ذات استقلال مزعوم ولكن على أساس قبلي، وإذا لم يتيسر ذلك الحل
تتم المطالبة باتحاد فيدرالي واستقلال ذاتي إقليمي على أن تتم تجزئة السلطة
السياسية والإدارية في إطار طبقي.
كذلك كان للمبشرين البروتستانت الذين قدموا مع الاستعمار دور في إثارة
صراع الأعراق فقد «ساعد المبشرون خاصة البروتستانت منهم على تنميط لغات
إقليمية ونشرها عن طريق التعليم وترجمة الكتاب (المقدس) وتكوين نخب محلية
رفيعة المستوى. ومن أشهر هؤلاء: الأب جونسون في بلاد اليوروبا، والقس
كاجام في رواندا» [14] ويقول الشيخ عيسى جيسيسي مفتي رواندا: «القبيلتان
المتناحرتان (التوتسي والهوتو) يعود أصلهما إلى أسرة واحدة؛ إلا أن الاستعمار
استطاع أن يخلق جواً من التوتر بينهما، وأصبحت كلتا القبيلتين في صراع محتدم
للوصول إلى السيطرة على البلاد، وكان للكنيسة دور أساس في إشعال نار الفتنة
بين القبيلتين كلما أوشكت أن تهدأ، وكانت تبذل كل ما يمكن لقتل المزيد من الناس
أما عن موقف المسلمين من هذا التناحر والصراع فهو موقف مشرف؛ فقد
التزموا الحياد ولم يسببوا أي توتر بين القبيلتين حتى إن الحكومة الحالية قامت
بجمع تقارير عن سبب الفتنة، فأبرزت أنه لا يوجد مسلم واحد متورط في هذه
الفتنة مما دفع رئيس الجمهورية ومعه نائبه معلنين أمام حشود كبيرة من الناس أن
المسلمين لهم دور كبير في إخماد نار الفتنة التي أشعلتها الكنيسة حتى إن رئيس
الدولة أمسك بيديه القرآن الكريم وقال للناس: إن هذا الكتاب هو الذي منع
المسلمين أن يتدخلوا في الصراعات التي حدثت، وإن ما دعاهم لذلك هو الدين
السمح الذي يعتنقونه» [15] ويعترف أحد علماء الاجتماع الفرنسيين المعاصرين
بأثر الإسلام في تجانس الأعراق وتوحدها فيقول: «إن الحركات الثقافية الكبرى
التي انتشرت في القارة قبل الاستعمار تتجاوز الأعراق ومنها الإسلام» [16] ويقول
آخر عن قبائل كوتوكو التي تعيش في غانا: «بفضل الإسلام الذي اعتنقوه توحدوا
برغم العناصر المتباينة بينهم» [17] .
لقد تغلغلت فكرة التقسيم العرقي التي ابتدعها المستعمر حتى بات كثير من
الأفارقة يتقبلونها ظناً منهم أنها الأصل، وأضحت العرقية المعاصرة قناة يتحقق من
خلالها التباري من أجل الحصول على الثروة والمركز. وتستفيد المجموعة العرقية
لحزب الطبقة الحاكمة من الامتيازات والاستثناءات، وتغدو الجماهير الضحية
الحقيقية لهذا الاستقلال السياسي وما يصاحبه من تميز إثني وعرقي.
ثانياً: إيجاد الصفوة المختارة:
أوجد الغرب قبل أن يرحل فئةً من الشباب الإفريقي تلقوا تعليمهم في مدارس
وجامعات غربية وتربَّوْا على مناهج الغرب فكانوا صنيعته في إفريقيا، وساهمت
الإرساليات التبشيرية الأوروبية في هذا المخطط «ففي أوغندا ظل التعليم حتى عام
1925م تتولاه الكنائس، وفي غرب إفريقيا 557 مدرسة تعينها الحكومة مالياً منها
521 مدرسة تشرف عليها أو تديرها البعثات التبشيرية؛ وذلك بخلاف 2175
مدرسة غير معانة معظمها تمولها هيئات التبشير المختلفة. وفي الكونغو تسيطر
الكنيسة الكاثوليكية على نسبة 80% من التعليم، وفي هذه المدارس تلقَّى التعليمَ
القادةُ الذين برزوا في الحركات التي خلفت الاستعمار مثل نكروما ولومومبا
وسيكوتوري ونيريري وغيرهم» [18] والجامعة الإفريقية في أوغندا التي يشرف
عليها البريطانيون تخرج منها أفورقي وزيناوي وموسيفيني وجارانج [19] ،
وعمدت كل دولة غربية إلى تهيئة الظروف أمام هذه النوعية لتتمكن من أخذ زمام
الأمور بيدها «لقد عمد البرتغاليون إلى خلق فئة من أهل المستعمرات وثيقة الصلة
بالبرتغال وموالية لها؛ وطبقاً لهذه الفكرة يمكن للإفريقي أن يندمج إذا استوفى
شروطاً معينة مثل معرفة القراءة والكتابة باللغة البرتغالية، واعتناق المسيحية،
والاستعداد لنبذ بعض العادات السائدة كتعدد الزوجات. وهذه الطبقة من المتطورين
التي أطلق عليها (الطبقة المختارة) أريد منها أن تعرقل سير الحركة الوطنية [20] ، وطبقاً لهذه الفلسفة فإن الفرد لن يتمتع بحقوق متساوية، وسوف يرغم أغلبية
الأفراد لزمن غير محدود في المستقبل على الخضوع لأقلية تحمي امتيازاتها
الخاصة.
لقد استخدم الاستعمار على نطاق واسع وسطاء من سكان البلاد الأصليين
الذين استغلوا امتيازاتهم فرصة للإثراء من خلال عملهم معاونين للإدارة، وهكذا
أصبح الفساد أحد تروس جهاز الحكم غير المباشر.
ولم يغادر الاستعمار الدول الإفريقية إلا بعد أن وضع على رأس الحكم
مجموعات أو طبقة موالية له تتكون من الأفراد الذين كانوا وسطاء بين الاحتلال
والأهالي؛ ففي رسالة بعث بها أعضاء من الحركة الوطنية في الكونغو إلى
رؤسائهم في الحزب الحاكم:» نحن أصحاب الفضل في الحركة الوطنية الكونغولية
بتنا أشبه بالكلاب وسيدها؛ ففي الصباح الباكر يذهب الكلب مع سيده إلى الغابة
للبحث عن صيد والكلب مستعد دائماً لالتقاط الصيد وإحضاره للسيد.. . وفي
المساء يعودان للقرية لأكل الصيد، وعندما يُطهى اللحم يوضع في الطبق ويبدأ
السيد بطرد الكلب قبل أن يبدأ الأكل مع أن الكلب هو الذي أحضر اللحم؛ ونحن
أيضاً حاربنا للمطالبة بالاستقلال؛ وكثيراً ما كانوا يدبرون المؤامرات (يقصد
زعماء الحزب) مع المستعمرين لإلقاء القبض على مناضلي الحركة الوطنية
الكونغولية، وهم حتى الآن جالسون فوق كافة المقاعد ولا يزالون يواصلون إلقاء
القبض علينا لكي يضعوا حداً لنشاطنا « [21] .
لقد أصبح المركز في السلطة موقعاً للنهب، ويلجأ القائمون على هذه السلطات
إلى احتكارهم للقوة الشرعية للمطالبة بمنتجات وإتاوات وخدمات» ففي شمال
الكاميرون مثلاً فرضت على القرويين غرامة قدرها 60 نايرا (عملة محلية)
بسبب سرقة جرس دراجة، وثمن هذا الجرس يعادل 5 ناير في السوق، والناير
يتمكن من إطعام شخص بالغ طوال اليوم، ومن المفروغ منه بالطبع أن رئيس
الناحية احتفظ لنفسه بكل بساطة بمبلغ الغرامة « [22] .
وهناك نوع آخر من النهب أشد خفاءاً يرجع إلى علاقات أصحاب المراكز في
السلطة في المدن مع أوساط الإجرام» ففي كينيا نسبت موجة من عمليات السطو
مع استخدام القوة إلى بعض رجال السياسة، كما تورط رأس السلطة في زامبيا
وهو رئيس الجمهورية في مختلف عمليات التهريب ومنها تهريب المخدرات «كما
يعطي المركز في السلطة الفرصة للحصول على الرشاوي تحت مسميات عديدة؛
فنجد في الكونغو (زائير سابقاً) أغنى هذه المسميات فتسمى الرشوة:» شيء
بسيط حافز مظروف لزوم آخر الشهر التفاهم حق الدخان الأخذ والعطاء التوصل
إلى حل زائيري؛ وجميعها تعبيرات للإشارة إلى المتاجرة في الأختام والتوصيات
وقرارات التعيين « [23] .
كذلك يمتد الفساد ويتشعب مع الخارج» فقد اتهمت شركة فرنسية بدفع
97,10 مليون ناير داخل نيجيريا لحساب الحزب الحاكم هناك وذلك من أجل عقود
يبلغ إجمالي قيمتها 746 مليون ناير «كما تطبق الحكومات الإفريقية نظاماً
للجمارك يدعو للسخرية» فلقد فرض حسين حبري عام 1983م في تشاد
رسوماً على المعدات العسكرية الفرنسية التي كان يلح في المطالبة بها،
وأقدمت سلطات موزامبيق على فرض جمارك على التوابيت التي كان سيشيَّع
فيها جنازة الرئيس سامورا ميشيل وأصحابه في كارثة الطائرة التي سقطت
بهم « [24] .
لقد سلم الغرب إلى هؤلاء السلطةَ بعد أن أفسدوا الضمائر وخربوا العقائد
وأشاعوا الفساد في جميع جنبات الحياة؛ فكان هؤلاء المفسدون ثمرة تربيتهم
وخططهم الخبيثة، وعانت إفريقيا، ولا يزال يعاني أهلها من الظلم والاستبداد
والفساد.
ثالثاً: اللعبة الأمريكية:
منذ بداية التسعينيات نزع عدد من الزعماء الأفارقة إلى التعامل مباشرة مع
الولايات المتحدة بصفتها القطب الأوحد في عالم اليوم، وتقديم خدمات لمصالحها
المباشرة وغير المباشرة في المنطقة، والمساهمة في الجهود الأمريكية الخاصة
بإعادة هيكلة القارة الإفريقية، وإقامة حلف أمني وعسكري معها متمثل في دفع
المبادرة الخاصة بإنشاء قوة حفظ سلام إفريقية تتبناها بجانب الولايات المتحدة كل
من فرنسا وبريطانيا عبر تقديم السلاح والتدريب والاستشارات الفنية، والتأكيد
على أن هذه القناة هي المؤهلة فقط لإمدادات السلاح الأمريكي للدول الإفريقية
الواقعة جنوب الصحراء. والمعروف أنه برغم عدم موافقة منظمة الوحدة الإفريقية
على هذه المبادرة فقد تمت مرحلتها الأولى» حيث أنهى الأمريكيون تدريبات
للجيشين الأوغندي والسنغالي في سبتمبر 1997م، وأشرف البريطانيون في إبريل
1997م على تدريبات في زيمبابوي لقوات من 8 دول إفريقية تنتمي إلى مجموعة
الكومنولث في حين تقوم فرنسا بإنشاء قاعدة للتدريبات العسكرية في ساحل
العاج « [25] .
إن السياسة الأمريكية تتوجه إلى قادة الدول الإفريقية وتهتم بالأشخاص
لاعتبارات تتعلق بمدى قربهم من وجهات النظر الأمريكية أكثر من كونهم قادة
متمسكين بسياسات انفتاحية أو بعيدة الصلة عن الفساد في بلدانهم؛ فدولٌ مثل
أوغندا وغانا ورواندا تفتقر إلى الحد الأدنى من الحريات السياسية، وقادتها
محاطون بنخب ليست بعيدة عن التورط المباشر في الفساد، ومع ذلك فهم موضع
اهتمام أمريكي لاعتبارات أمنية واستراتيجية.
وفي أثناء زيارة كلينتون الأخيرة إلى إفريقيا ترددت عبارة على لسانه قبل
الزيارة وأثناءها وبعدها:» إنه باسم الولايات المتحدة سوف نقدم مظلة الحماية لكل
إفريقيا « [26] وقد أثارت هذه الجملة الكثير من الشكوك التي أحاطت بحقيقة النيات
الأمريكية الكامنة وراء الانقلاب الذي حدث في السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا، وقد
بلغت هذه الشكوك حد الحديث عن عودة للاستعمار ولكن في ثوب جديد وبأسلوب
متطور يتفق مع سمات العصر وتوجهات النظام العالمي الجديد.
والواقع أن الحديث عن محاولات الهيمنة الأمريكية لم يأت من فراغ؛ فهو
يمثل امتداداً طبيعياً للسياسات الأمريكية المنفَّذة حالياً في كثير من مناطق كثيرة من
العالم سواء في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط، والغريب أن يعلن كلينتون عن
هذه المظلة دون أن يطلب منه أحد من قادتها هذه الحماية ثم يتحدث عن الاستقلال
الكامل والحرية المطلقة للدول الإفريقية؛ ومثل هذا القول قد اعتبرته العديد من
الدوائر الإفريقية أنه يعني استبدال الحماية الفرنسية البريطانية الاقتصادية على
العديد من دول القارة بالحماية الأمريكية. لقد تركزت السياسة الأمريكية على فتح
أبواب القارة أمام الاستثمارات الأمريكية وفتح أسواقها الضخمة أمام السلع
الأمريكية.
أما الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية فهما وسيلتان للضغط على الدول
الإفريقية بوصفهما ورقة مساومة عند اللزوم وفي الوقت نفسه تغطية لأهداف التدخل
الأمريكية في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية وتكريس الزعامة الأمريكية عالمياً.
هذا النفوذ الأمريكي المتعاظم استتبعه زيادة حدة الصراع في القارة المتمثل
في:
- التنافس على السيادة الإقليمية ولقب شرطي المنطقة ولعل النموذج
الإرتيري الأثيوبي خير شاهد على ذلك وما تلاه من حرب ضروس وهلاك الحرث
والنسل بين أكثر حلفاء أمريكا في القارة: أفورقي، وزيناوي.
- زيادة حدة المذابح؛ وأوضح مثال على ذلك منطقة البحيرات العظمى نتيجة
دعم قبيلة أو نخبة ضد أخرى مما أطال أمد الحرب بين موبوتو وكابيلا ثم بين
كابيلا نفسه والمتمردين التوتسي.
- الحرب على الإسلام وخاصة في السودان، ولولا دول الحزام المسيحي
المحيط به الداعم لتمرد جارانج لانتهى تمرده من فترة طويلة.
ومند عشرات السنين والكتب تنشر، والشعر يُلقى، والقصص تُروى عن نضال
إفريقيا وكفاح شعوبها ضد الاستعمار ورموزه وأدواته، وعن المارد الذي كسر
الأغلال، وحطم القُمْقُم، وتحرر من الرق والاستبداد؛ فهل يجيء اليوم الذي
يصبح فيه هذا الحلم حقيقة؟
__________
(1) التقييم الاستراتيجي، ص 328، إصدار مؤسسة راند الأمريكية ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
(2) الخليج الإماراتية، 6/3/1999م.
(3) أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ (إفريقيا) ، ص 14، د جمال عبد الهادي.
(4) سوسيولوجية الدولة الإفريقية، ص 18، جان فرانسوابيار، ترجمة حليم طوسون، دار العالم الثالث.
(5) المرجع السابق، ص 18.
(6) المرجع السابق، ص 17.
(7) المرجع السابق، ص 18.
(8) الاستعمارالأمريكي في إفريقيا، ص 27، ستيورات سميث، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، دار الثقافة الجديدة.
(9) الصراع العرقي في إفريقيا، ص 7، أوكوادبا نولي، ترجمة عادل شعبان، مركز البحوث العربية.
(10) الصراع العرقي في إفريقيا، ص 7، أوكوادبا نولي، ترجمة عادل شعبان، مركز البحوث العربية.
(11) المرجع السابق، ص 18، 26.
(12) المرجع السابق، ص 18، 26.
(13) الصراع العرقي في إفريقيا، ص 73.
(14) المرجع السابق، ص 75.
(15) مجلة الفرقان الكويتية، فبراير 1999م.
(16) الصراع العرقي في إفريقيا، ص 71.
(17) المرجع السابق، ص 11.
(18) مشكلات القارة الإفريقية السياسية والاقتصادية، ص 30، د راشد البراوي.
(19) الأسبوع، 20/12/1997م.
(20) المرجع السابق، ص 35.
(21) مرجع سابق، ص 112.
(22) مرجع سابق، ص 112.
(23) مرجع سابق، ص 112.
(24) مرجع سابق، ص 112.
(25) الأهرام، 3/5/1998م.
(26) الأهرام، 10/5/1999م.(151/82)
المسلمون والعالم
مسلمو شبه جزيرة القرم
صورة عن قرب
مبارك عبد اللطيف
معلومات أساسية:
جمهورية القرم: هي جمهورية ذات حكم ذاتي، وداخلة في تكوين جمهورية
أوكرانيا. وتقع شبه جزيرة القرم في الجزء الجنوبي لأوكرانيا.
عاصمتها: سيمفيروبل.
السكان: 000، 400، 2 نسمة. (الروس 55%، الأوكران 30%،
التتار 12%) .
تاريخ القرم وتتار القرم:
كل الدراسات والأبحاث العلمية المتعلقة بشبه جزيرة القرم تؤكد أن هذه
المنطقة ذات المناخ المعتدل وطبيعتها المميزة كانت من أول المناطق الصالحة لحياة
الإنسان، وأن أول من سكنوها هم التتار والمغول والأتراك. أما السكان الأصليون
لشبه جزيرة القرم فهم التتار وهم خليط من سكان المناطق الجبلية كريمسي (وهم
السكان الأصليون) ، اسكيفي، قوتي، الإغريق، سارماتي والمناطق الشمالية
(كبشاكي - أتراك) . وفيما يتعلق باللغات التي كانت سائدة في شبه جزيرة القرم
فنجد أنه لكل قومية لغتها الخاصة بها، ولكن نمو العلاقات وتطورها في مجالات
التجارة والاقتصاد أدى إلى ظهور لغة موحدة هي اللغة التركية التي أصبحت اللغة
السائدة التي يتحدث بها الجميع في شبه جزيرة القرم التي كانت في ذلك الحين تعد
مركزاً كبيراً للتجارة والاقتصاد.
دخول الإسلام إلى أوكرانيا والقرم:
الإسلام يعتبر الديانة الثانية بعد المسيحية (أرثوذكس) . أما دخول الإسلام
إلى أوكرانيا والقرم وتعرُّف شعب أوكرانيا والقرم على الإسلام فإنه يرجع إلى
النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين الذين
كانوا يصلون إلى مدينة كييف عاصمة دولة روس الأوكرانية والقرم محملين
بالبضائع المختلفة؛ وهذا ما تثبته المراجع والعملات النقدية التي عثر عليها
مصكوكة بأحرف عربية يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي. أما البداية
الحقيقية لدخول الإسلام إلى القرم فكانت متمثلة في اعتناق (بركة خان) أمير
القبيلة الذهبية في القرم للإسلام في عام 1267م. هذا العام يعتبر بداية لمرحلة
جديدة في انتشار الإسلام في شبه جزيرة القرم وخروج الإسلام من مرحلة الانتشار
عن طريق الأفراد إلى مرحلة أخرى تدعمها السلطة، ولقد أسس الأمير بركة خان
دولة إسلامية امتدت من حوض الفولجا وحتى شبه جزيرة القرم؛ حيث كانت
عاصمتها مدينة بخشيساراي (حديقة الزهور) .
السيطرة الروسية:
أما عن وضع المسلمين بعد أن تمت لروسيا السيطرة الكاملة عام 1873م
على القرم فلم يزدد إلا سوءاً، وأصبحت أمامهم خيارات الهجرة والإبعاد أو ترك
دينهم واعتناق المسيحية. بدأت السلطات الروسية حملات التطهير العرقي والديني
لمسلمي القرم؛ حيث قامت السلطات بإغلاق المدارس والمساجد، ومصادرة
الأوقاف، ومطاردة المسلمين وملاحقتهم وإجبارهم على مغادرة موطنهم القرم،
وقامت بإبعاد الأئمة والمعلمين وترحيلهم إلى المدن الروسية وإجبار أبناء المسلمين
في الخدمة العسكرية على أكل لحم الخنزير وكل ما هو محرم من طعام وشراب.
نتيجة لهذه السياسات القمعية والإرهابية اضطر كثير من المسلمين إلى الهجرة
من موطنهم القرم، فهاجر إلى تركيا تقريباً أربعة ملايين مسلم هرباً من سياسات
القمع الروسية، أما الذين لم يتمكنوا من الهجرة فتم ترحيلهم إلى مدن روسيا
المختلفة لتذويبهم في المجتمع الروسي، وكان كل من يتم إبعاده أو طرده من القرم
يفقد حق العودة إلى القرم مرة أخرى.
من الواضح أن السلطات ركزت في المقام الأول وبشدة على إبعاد المسلمين
عن دينهم ووطنهم، وثانياً على طمس معالم الحضارة الإسلامية وإزالة كل شيء له
علاقة بالإسلام من أرض القرم؛ ففي عام 1833م قامت السلطات بالاستيلاء على
المكتبات وهدمها وحرق الكتب الإسلامية وإبادتها. أما المساجد فأكثر من 900
مسجد تم هدمها وتحويلها إلى مجالات أخرى؛ وحتى الآن توجد في كثير من قرى
القرم معالم لتلك المساجد تقف شاهداً ودليلاً. لم تكتف السلطات بما فعلته في
المساجد والمدارس بل وصلت يدها إلى مقابر المسلمين التي تم نبشها والعبث بها،
وسُرقت الحجارة منها لاستخدامها مواد للبناء.
وهكذا سارت حياة المسلمين على هذا النمط حتى قيام الثورة الاشتراكية
الشيوعية في أكتوبر 1917م لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام والمسلمين في
القرم.
تتار القرم في ظل ثورة أكتوبر الاشتراكية الشيوعية
وقيام الاتحاد السوفييتي:
لم يُخْفِ البلاشفة منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر الاشتراكية في 1917م
عداءهم ومحاربتهم لتتار القرم؛ حيث قاموا منذ الأيام الأولى للثورة بأعمال إرهابية
ضد التتار، وعندما قام التتار برفض تلك الأعمال الإرهابية وإدانتها أغضب ذلك
البلاشفة، وقاموا بحرب شعواء واسعة النطاق ضد التتار في القرم واصفين القرم
بأنهم بؤرة الرأسمالية والتجسس، وكانت نتيجة ذلك حمامات دماء وحرق جماعي
وقتل بالرصاص وبالتجويع وبالتعذيب أودى ذلك بحياة أكثر من 60000 تتري
(ستين ألفاً) ، وفي عهد ستالين ازداد الحال سوءاً؛ حيث أعدم بالرصاص حوالي
3500 تتري (ثلاثة آلاف وخمسمائة) من المثقفين وعلماء الدين، وكذلك عشرات
الآلاف من الشباب ورجال الأعمال الذين رفضوا الاتحاد مع المزارع الحكومية.
في سنة 1929م تم إبدال أحرف اللغة التترية بأحرف لاتينية، وتم إبعاد أي
مطبوعات باللغة التترية من كتب وغيرها عن المكتبات الحكومية، وكذلك قاموا
بنزع كل الكتب والجرائد وكل ما يمت إلى اللغة التترية بصلة وحرقوه وأصدروا
قانوناً يمنع حفظ أي مطبوعات باللغة لها علاقة بالتترية.
الحرب العالمية الثانية:
بحلول عام 1941م قل عدد تتار القرم ووصل تقريباً إلى ربع مليون نسمة،
وعند قيام الحرب العالمية الثانية تم تجنيد 6000 تتري في الجيش الأحمر. عندما
وصل الألمان إلى القرم سعوا إلى تمكين وجودهم في القرم وقاموا بترحيل حوالي
85000 تتري إلى معسكرات حول برلين للاستفادة منهم أيدي عاملةً، مما دفع
التتار إلى مقاومة الألمان باللجوء إلى حرب العصابات وتكوين مجموعات فدائية
أدت إلى إزعاج الألمان الذين قاموا بأعمال انتقامية ضد التتار؛ حيث قاموا بالقتل
وحرق 52 قرية بسكانها. والحقيقة التي لا بد من ذكرها هي أن حوالي ألفين من
سكان القرم تعاونوا مع الألمان ومن بينهم تتار؛ إلا أن عدد التتار ما كان يصل إلى
الحد الذي يمكن أن يوصفوا فيه بالعمالة؛ فقد تعاون مع الألمان كذلك روس
وأوكران بأعداد أكبر من التتار.
كارثة ثقافية وأخرى إنسانية:
لم تُخفِ الثورة الاشتراكية منذ لحظة قيامها محاربتها وعداءها للأديان
وبالأخص للإسلام والمسلمين؛ فلقد شهدت العشرينيات والثلاثينيات حرباً شعواء
واسعة النطاق ضد الدين والمتدينين على حدود الاتحاد السوفييتي سابقاً، وكانت
مطرقة النظام موجهة وبقوة ضد مسلمي أوكرانيا والقرم على وجه الخصوص وهو
ما أثَّر تأثيراً مباشراً على المسلمين وعلى حياتهم الدينية. قام النظام في القرم
وبصورة واسعة وبقسوة متناهية بإغلاق المساجد والمدارس الإسلامية والمكتبات
الدينية والقبض على الزعماء الإسلاميين وتعذيبهم في السجون، وكانت الدعاية
البلشفية تربط وبصورة مباشرة بين التوجه الإسلامي وعدم الوعي الاشتراكي
والخرافة البورجوازية. وتحت ضغط السياسة الاشتراكية ومحاربتها للإسلام بَعُدَ
المسلمون شيئاً فشيئاً عن دينهم ودين أجدادهم، أما ذوو العزيمة والإيمان الصادق
الذين ثبتوا على دينهم فإنهم عاشوا وبصورة دائمة في خوف واضطهاد. وبصورة
واضحة وعلنية ودعائية كان يقوم النظام بوضع الحواجز في طريق العمل المنظم
للجمعيات الإسلامية، وفي نهاية الثلاثينيات تم إبطال أي نشاط إسلامي وإعدام كل
القيادات الإسلامية تقريباً ونفيها بحجج واهية كقيادتهم لجماعات وحركات عنصرية؛ وذلك لتسويغ الأعمال الوحشية وغير الإنسانية تجاه القيادات الإسلامية.
هكذا كانت حياة تتار القرم مقبوضاً عليها بيد من حديد حتى بداية الستينيات
عندما رُدَّ إليهم اعتبارهم في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي بإدانة
أعمال ستالين الوحشية التي ارتكبها ضد التتار بتهجيرهم من وطنهم الأصلي القرم.
رغم الصعاب الكثيرة التي كانت تعترض طريق التتار المتمثلة في فقدانهم لوطنهم
وممتلكاتهم وسيطرة الروس والأوكران الذين حلوا مكانهم عليها لم ييأس التتار من
مواصلة صراعهم من أجل الحياة والرجوع إلى وطنهم الأم القرم؛ حيث قاموا
بتجميع صفوفهم وتنظيمها وتأسيس الحركة القومية لتحرير القرم التي ترأسها
(مصطفى جميلوف) وقامت في المدن والقرى في القرم حملات توعية وسط السكان
لشرح أهداف الحركة الوطنية وإمكانية اتحاد الحركة مع الحركات الديمقراطية
والدينية التي كانت تقاوم النظام، كما تم إرسال ممثلين إلى موسكو لمقابلة رؤساء
الكريملين وتسليمهم رسائل حول مشاكل التتار وعودتهن إلى وطنهم الأصلي في
القرم، وقامت الحركة بإرسال المعلومات والوثائق والأخبار والخطابات إلى الجميع
عن طريق البريد والإذاعات مثل صوت أمريكا وهيئة الإذاعة البريطانية وراديو
الحرية وموجة ألمانيا وراديو كندا؛ وهذا شكَّل بدوره ضربة كبيرة للشيوعية التي
كانت تتبجح بالمساواة بين جميع البشر.
بعد هذه الأحداث قامت السلطات بإعفاء أعضاء الحركة من العمل الحكومي ثم
محاكمتهم وسجن بعضهم. وفي يونيو 1969م خرجت مجموعة من التتار في
مظاهرة إلى إحدى الساحات المركزية في موسكو مطالبين بإطلاق سراح (بيتر
قريقورينكا) الذي دافع عن حقوق تتار القرم، وكان ذلك في يوم لقاء رؤساء
الأحزاب الشيوعية للدول الشيوعية الصديقة، ولقد تمكن المتظاهرون التتار من
توزيع بعض المنشورات والأوراق عن تتار القرم ومشاكلهم وعن (بيتر
قريقورينكا) إلا أن المظاهرة لم تستمر أكثر من ست دقائق؛ حيث قامت الشرطة
مع جهاز الأمن بتفريق المتظاهرين.
ورغم أن مجلس السوفييت الأعلى في سنة 1967م أصدر قراراً يعطي تتار
القرم حق السكن في أي مكان في الاتحاد السوفييتي إلا أن هذا كان مجرد قرار. أما
الواقع فكان يقول إن من حق التتار السكن في أي مكان في الاتحاد السوفييتي ما عدا
القرم؛ فقد كانت أراضيه محرمة عليهم، وحتى بعد أن بدأت تهب رياح الحرية
والديمقراطية عادت إلى القرم مئات الأسر، ولكنهم في القرم فوجئوا بالرفض
لعودتهم ومنعهم من السكن والحصول على قطع سكنية وطردهم مرة أخرى من
وطنهم بحجج واهية مثل عدم الإقامة والتسجيل، وعدم قانونية البيع والشراء في
مجال الأراضي. بهذه الأسباب تم طرد أكثر من عشرة آلاف منهم. وصاحب
حالات الطرد الأخيرة مآسٍ كثيرة بعد أن فقدوا كل شيء في حياتهم من أجل
الوصول إلى وطنهم القرم؛ ولكن عندما وُوجِهوا بالرفض لرجوعهم دخل بعضهم
في اشتباك مع السلطات التي زجت ببعضهم في السجون التي توفي فيها الكثيرون،
وآخرون قاموا بالانتحار وحرق أنفسهم في مناطق عامة احتجاجاً على سياسات
الدولة ضدهم.
تتار القرم في ظل أوكرانيا المستقلة:
المجلس التتري:
لقد بدأ الظهور الفعلي للتتار في الحياة السياسية وممارسة حرياتهم والمطالبة
بحقوقهم في 1991م عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها. وفي مدينة سيمفيروبل يوم
26/2/1991م تم عقد مؤتمر عام لكل التتار بالقرى (قارورتاي) وحضر المؤتمر
وفود من عدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وفي المؤتمر تم تكوين
المجلس التتري ممثلاً وحيداً للشعب التتري، وتم انتخاب (مصطفى جميلوف)
رئيساً للمجلس التتري و (رفعت شوباروف) نائباً لرئيس المجلس. وقد التف
حول المجلس التتري جميع التتار وأصبح الجهة الوحيدة التي تمثلهم على الصعيد
السياسي. هذا ويقود المجلس التتري منذ تأسيسه نضالاً متواصلاً للحصول على
المزيد من الحقوق والمكاسب للشعب التتري، ويسعى المجلس كذلك للمشاركة في
الحكومة باعتباره الممثل الشرعي للشعب التتري صاحب الحق والشرعية في شبه
جزيرة القرم؛ إلا أن الحكومة حتى الآن تعترف به حزباً سياسياً لا غير، وأعطت
المجلس التتري في الانتخابات البرلمانية في القرم لعام 1994م مقعداً في برلمان
شبه جزيرة القرم من جملة 94 مقعداً من غير انتخاب. وبينما المجلس التتري
يسعى جاهداً لزيادة عدد المقاعد إلى الحد الذي يمكنه من التأثير في اتخاذ القرارات
قامت الحكومة بسحب الـ 14 مقعداً من المجلس التتري وطالبت المجلس التتري
بخوض الانتخابات البرلمانية في عام 1998م كبقية الأحزاب الأخرى، ولقد خاض
المجلس التتري الانتخابات كبقية الأحزاب إلا أنه لم يحصل على أي مقاعد في
البرلمان؛ وذلك لأن أغلبية التتار لم يشاركوا في الانتخابات لعدم وجود الجنسية
الأوكرانية.
وللمجلس التتري دور كبير في حياة التتار السياسية والاقتصادية والثقافية
والاجتماعية؛ ففي المجال السياسي ما زال المجلس يقود نضالاً متواصلاً للحصول
على المزيد من الحقوق والمكاسب للشعب التتري.
وفي المجال الاقتصادي نجد المجلس في سعي دائم مع الحكومة لتوفير أماكن
عمل للتتار وتسويق مشاريع في القرم وخارج القرم لدعم الأسر الفقيرة، كما يسعى
جاهداً لجذب الاستثمارات الخارجية وخاصة من العالم العربي والإسلامي لتحسين
الوضع الاقتصادي للتتار، وكذلك لفت أنظار العالم العربي والإسلامي لمشاكل
التتار الأخرى المتمثلة في السكن والتعليم والعلاج والخدمات العامة من ماء وكهرباء
وغاز وغيرها وكذلك الجانب الخيري والإنساني.
وفي المجالات الاجتماعية والثقافية نجد أن للمجلس مؤسساته الاجتماعية
والثقافية بين التتار التي لها خططها وعملها ونشاطاتها المتمثلة في التوعية والتربية
الوطنية، والاهتمام بالمواهب وإعداد الكوادر التنظيمية، والمحافظة على العادات
والتقاليد، وعرض الوجه الحضاري والثقافي للتتار على مستوى القرم وأوكرانيا
والعالم أجمع، وفي المجال الإعلامي يمتلك التتار قناة للبث التلفزيوني لساعات
معينة يومياً، وبرامج إذاعية في عدد من الإذاعات، وكذلك هنالك عدد من الجرائد
التي يصدرها التتار باللغتين التترية والروسية.
هذا ورغم الجهود المبذولة من جانب المجلس التتري في الحلول المناسبة
لمشاكل التتار إلا أنه ما زالت هناك عدد من المشاكل ذات الأهمية الكبيرة التي لا
بد من تضافر الجهود مع المجلس التتري وخاصة من جانب العالم العربي
والإسلامي لإيجاد الحل المناسب لها، وهذه المشاكل تتمثل في إيجاد أماكن عمل
للتتار وخاصة لحاملي الشهادات العليا والجامعية. والذي يعتبر من المشاكل التي
تتطلب تدخلاً سريعاً هو توفير فرص للتعليم في القرم وخارجه وخاصة بالنسبة
للتعليم الجامعي وبناء المدارس واللغة التترية، والعلاج وبناء المستشفيات،
ومشاريع صغيرة لدعم الأسر ذات الدخل المحدود. وكما ذكرنا فإن هذه المشاكل
تتطلب تضافر الجهود؛ ولذا فسوف نتطرق لها بالتفصيل.
الإدارة الدينية لمسلمي القرم:
لم يستطع المسلمون ممارسة شعائرهم الدينية بحرية إلا بعد أن أعلنت
أوكرانيا استقلالها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه. لقد وعت أوكرانيا المستقلة
الخطأ الكبير الذي ارتكبه النظام الشيوعي في محاربة الأديان، ولذلك لم تعطِ شعبها
فقط حرية الدين والعبادة بل أعطت كل الديانات الحق في استرجاع كل المباني
والممتلكات التي سلبها منها النظام الشيوعي. بدأ مسلمو القرم في تجميع صفوفهم
والعودة إلى دينهم الإسلامي، والتنسيق فيما بينهم، والاستفادة من خبرات إخوانهم
في جمهورية روسيا الاتحادية لتوحيد كلمة المسلمين وضم صفوفهم والعودة بهم إلى
تعاليم الدين الإسلامي، وفي هذه الفترة وجدوا مساعدة كبيرة وتعاوناً تاماً من جانب
المؤسسات الإسلامية والخيرية وطلبة الجامعات والدراسات العليا من الدول العربية
والإسلامية مما ساعدهم كثيراً في وضع اللبنات الأساسية لعملهم الإسلامي.
في عام 1991م تم تكوين أول إدارة دينية في أوكرانيا وتسجيلها في مدينة
(سيمفيروبل) عاصمة القرم، وعلى رأسها المفتي (سيد جليل إبراهيم) . تولت
الإدارة الدينية شؤون المسلمين التتار العائدين من أوزبكستان وكازاخستان
ومساعدتهم في شتى المجالات، وأصبح مقر الإدارة الدينية يتوافد عليه كل
المسلمين من مختلف مناطق القرم بمختلف الأسئلة الدينية والدنيوية. وفي الإدارة
الدينية أصبحت تقام دروس اللغة العربية والتربية الإسلامية في المبادئ الأساسية
للإسلام.
قامت الإدارة الدينية لمسلمي القرم بتشجيع المسلمين في مختلف مناطق القرم
على تكوين الجمعيات الإسلامية وبذلت الإدارة الدينية مجهودات كبيرة في هذا
المجال، حتى إن عدد الجمعيات الإسلامية التي تم تسجيلها في مناطق القرم
المختلفة الآن يقارب مئتي جمعية إسلامية تولت شؤون المسلمين من تعليم إسلامي
واحتفال بالمناسبات الدينية، وعقد القِران والختان وغيرها من الأمور التي تهم
المسلمين، وعملت في تنسيق تام مع الإدارة الدينية مما كان له كبير الأثر في دفع
المسلمين إلى الإسلام والتعاليم الإسلامية.
عملت الإدارة الدينية والجمعيات الإسلامية بالتنسيق والتعاون والاستفادة من
المنظمات الخيرية من الدول العربية والإسلامية العاملة في المجال الدعوي
والخيري، وعلى الرغم من أن المنظمات الخيرية العربية العاملة في المجال الدعوي والخيري تركز وبشكل أساس في عملها الدعوي والخيري على مسلمي روسيا وأوزبكستان وأذربيجان، إلا أنها مع ذلك كان لها الدور الكبير في تعريف مسلمي القرم بالإسلام وتعاليم الدين الإسلامي وتعميق معاني الحب والإخاء بين المسلمين، ولقد لعبت هذه المنظمات دوراً كبيراً في توفير الكتاب الإسلامي باللغة الروسية في علوم القرآن الكريم والعقيدة والفقه والأحاديث والسيرة النبوية الشريفة، وقامت هذه المنظمات أيضاً ببناء عشرات المساجد وترميم بعضها، وبمساعدة تلك المنظمات يتم وبصورة شبه منتظمة تنظيم المخيمات التربوية الصيفية للرجال والنساء والأطفال، وكذلك بمساعدة تلك المنظمات تنظم مشاريع الأضاحي والإفطارات الجماعية، كما أن لتلك المنظمات دوراً محموداً في مجال الإغاثة والأعمال الخيرية.
أما عن المسائل الملحَّة التي تقف الآن أمام الإدارة الدينية والتي لا بد من
تضافر الجهود لإيجاد الحل المناسب لها باعتبارها مسائل لا تهم فقط مسلمي القرم
ولكن يجب أن تجد الاهتمام من كل المسلمين فإنه يمكن تلخيصها في عدم وجود
الكادر المحلي المؤهل لقيادة العمل الإسلامي في المستقبل؛ فالعمل الإسلامي لا زال
يعتمد على الأجانب من طلبة ومنظمات؛ لذا لا بد من العمل الجاد لتأهيل فريق
محلي يفهم الدين الإسلامي فهماً صحيحاً ويكون بمقدوره قيادة العمل الإسلامي ورفع
راية الإسلام على أساس عالمية الدين الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا
لا يتأتى إلا بالتعليم الإسلامي وفتح مدارس إسلامية تستقبل أبناء المسلمين من
المرحلة الإعدداية وحتى المرحلة الجامعية، وتخرِّج للمجتمع الأوكراني أجيالاً من
علماء ودعاة ومثقفين يحملون القيم الإسلامية الأصيلة فهماً وعملاً وسلوكاً.
وبما أن بناء المدارس والإشراف عليها يتطلب مجهودات كبيرة وإمكانيات
ضخمة يقف أمامها مسلمو القرم عاجزين فإن الأمل يظل على المنظمات والهيئات
الخيرية والدعوية العاملة في المجال الخيري والدعوي وعلى الخيِّرين من أبناء
الأمة الإسلامية. ومسلمو القرم لا ينسون أبداً الدور الكبير والمجهودات الجبارة
التي بذلها وما زال يبذلها إخوانهم المسلمون عبر المنظمات والهيئات الخيرية
والدعوية في مساعدتهم على العودة إلى دينهم الإسلامي.
قامت الإدارة الدينية لمسلمي القرم بالتنسيق مع مركز الجمعيات الإسلامية
المستقلة (الجمعيات التي تعمل خارج إطار الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا) لعقد
المؤتمر الأول لمسلمي أوكرانيا يوم 24/9/1994م في سيمفيروبل عاصمة القرم
للأهداف الآتية:
* توحيد المسلمين والجمعيات الإسلامية في إدارة دينية واحدة لكل مسلمي
أوكرانيا.
* اختيار مفتٍ لمسلمي أوكرانيا بدلاً عن (أحمد تميم) مفتي الإدارة الدينية
لمسلمي أوكرانيا التي مقرها في مدينة كييف عاصمة أوكرانيا.
* يكون مقر الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا في سيمفيروبل عاصمة القرم
باعتبار أن القرم يمثل مركز ثقل المسلمين. وبعد أن اكتملت كل الاستعدادات
لانعقاد المؤتمر جاء القرار المفاجئ يوم 23/9/1994م من السلطات المحلية بمنع
قيام المؤتمر بحجة عدم ملاءمة الظروف الصحية لقيام المؤتمر. وهكذا أخفق أول
مؤتمر لمسلمي أوكرانيا في ظروف غامضة وأسباب حتى الآن لم يكشف عنها أحد.
مشكلة الإسكان:
معاناة التتار من السكن كثيرة ومتشعبة حتى يمكن القول بأن 362 ألف تتري
يملك سكناً دائماً بينما 133. 2 ألف وحوالي 4000 ألف أسرة لا تملك سكناً دائماً، ويعيشون في ظروف غير ملائمة من السكن الجماعي أو المعيشة مع الأقارب
ومع اتخاذ بعض التدابير لتوفير السكن عن طريق الدعم المقدم للبرامج الخاصة
بتحسين الأوضاع للتتر العائدين بمبالغ زهيدة، وترى السلطات أن الدعم سيقتصر
على الأسر الفقيرة، ولتوفير سكن دائم للتتار لا بد من بناء مليون متر مربع،
سيكون جزء يسيرٌ منها على حساب الحكومة ومصادر أخرى بينما سيتم توفير
معظم السكن بصورة أساسية على حساب التتار أنفسهم وبمواردهم الذاتية.
وقد نتج عن ضعف التمويل الحكومي الخاص بتوفير سكن للتتار العائدين
مشكلة كبيرة هي ديون على الحكومة للشركات العاملة في مجال البناء والتي وصلت
في عام 1996م إلى 2. 5 مليون دولار أمريكي. هذا ونجد أن الحكومة تخفض
دعمها لمشاريع توفير السكن للتتار بينما عدد التتار يزداد في كل يوم حتى إنه في
الفترة الأخيرة خفضت دعمها لدرجة تمكنها فقط من دعم أسرة واحدة من مائة أسرة.
مشكلة التعليم والمدارس واللغة:
في مجال التعليم نجد التقصير الكبير من جانب الحكومة؛ حيث إن عدد
المدارس التي يُدَرَّس فيها باللغة التترية قليل جداً بالمقارنة بحاجة التتار إليها؛ مع
العلم بأن التدريس باللغة التترية من حقوق التتار المثبتة في الدستور.
وحسب الدستور في أوكرنيا فإنه توجد لغة رسمية واحدة هي اللغة
الأوكرانية، وحتى على مستوى القرم فإن اللغة التترية لا تعتبر لغة رسمية؛ ولكن التدريس بها مسموح به في المدارس الحكومية. وفي فترة الخمسين سنة الماضية، وبسبب سياسة التفرقة تعرضت اللغة التترية لخسارة كبيرة؛ وذلك لأنها في هذه الفترة كانت محصورة فقط في محور الأسرة، وتم تحويل حروفها إلى اللاتينية بطريقة ليست علمية كان الغرض منها دمج الشعوب في ثقافة شيوعية موحدة، وكذلك اختلطت ببعض اللغات مثل الروسية والأوزبكية، بينما في فترة ما قبل التهجير كانت اللغة التترية تعتبر اللغة الرسمية، فكانت هي لغة التعامل والتعليم في كل مراحله.
في عام 1965م في أوزبكستان بدأت بعض المدارس تدرس اللغة التترية
ابتداءاً من الفصل الثالث لمدة ساعتين في الأسبوع، ولكنها كانت مخلوطة ببعض
الكلمات الروسية. وفي الفترة من 17 إلى 20/6/1992م في مدينة سيمفيروبل
وبطلب من المجلس التتري ومعهد التشريق في أكاديمية العلوم الأوكرانية عقد
مؤتمر علمي عالمي في القرم لتحويل حروف اللغة التترية من الروسية إلى اللاتينية، وتم تكوين لجنة تضم بين أعضائها علماء من القرم وبولندا والمجر وتركيا
وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ذات اللغات التي تنحدر من أصل
تركي، حيث قامت هذه اللجنة بوضع أحرف جديدة للغة التترية. ويتم الآن تدريس
اللغة التترية القرمية في عدد من المدارس مادة اختيارية ما عدا المدارس التترية
السالفة الذكر.
وفي النهاية نخلص إلى أن اللغة التترية محتاجة أولاً إلى أن يُعترف بها لغة
رسمية في جمهورية القرم؛ وهذا السؤال ما زال معلقاً، والجميع في انتظار الحل
من البرلمان الأوكراني والقرمي، وثانياً محتاجة إلى حماية وتطور؛ وهذا بدوره
يحتاج إلى إمكانات ضخمة لإعداد المعلمين والمترجمين، وطبع الكتب والمناهج
العلمية ونشرها. ولا شك أن حماية اللغة التترية هي حماية لتاريخ التتار وثقافتهم.
مشكلة العمالة:
من المشكلات الكبيرة والمعقدة التي تواجه التتار هي مشكلة الحصول على
عمل؛ حيث نجد أن نسبة 49% من التتار ليس لهم عمل ثابت ولا مؤقت؛ ومن
جملة 133106 تتري يشكلون اليد العاملة، منهم حوالي 66873 تتري لهم عمل
ثابت أو مؤقت أو موسمي. وتتار القرم يعملون بشكل أساس في مجالات منها:
الزراعة 30564 تتري، والبناء والصناعة 11039 تتري، والتعليم 4382 تتري، والصحة 3642 تتري. أما في المجالات الأخرى فأعدادهم قليلة جداً؛ فمثلاً في
أقسام وزارة الداخلية يعمل 200 تتري (1. 3% من العدد الكلي للعاملين) وفي
أقسام وزارة المالية يعمل 6 تتار؛ أما بين المسؤولين فلا يوجد أحد. وحسب
التقرير الحكومي الخاص بالعمالة بالقرم لسنة 1997م الذي أعدته اللجنة الحكومية
الخاصة بالعمالة كان ينتظر أن يصل عدد التتار العاطلين عن العمل في القرم بنهاية
العام 1997م إلى 70744 تتري. لقد قامت الحكومة بوضع برنامج لتطوير عدد
من المدن وتوفير فرص عمل فيها مثل جانكوي وبخشيساراي وكراسنقفارديسكي
ونيجناقورسكي وسافيتسكي ومناطق أخرى يصل عدد التتار العاطلين عن العمل
فيها إلى 17988 تتري إلا أن هذا المشروع لم ينفذ؛ ولذا نجد أن أغلب التتار
يتمسكون بأعمال مؤقتة أو موسمية أو يلجؤون إلى أعمال هامشية في المزارع
والأسواق والحقيقة المؤلمة هي أن من بين هؤلاء حملة شهادات جامعية في
مجالات الطب والهندسة وغيرها وذوو خبرة في هذه المجالات. أما المشاكل التي
تقف عائقاً في طريق التتار للحصول على فرص عمل فيمكن أن نلخصها
في الآتي:
1 - العامل القومي: هذا من المشاكل الكبيرة التي تواجه التتار في مجال
البحث عن العمل؛ وذلك لأن كثيراً من التتار لا يتم استيعابهم في العمل؛ لأنهم
تتار؛ وهذه المشكلة نجدها بشكل ملحوظ في مجالات التعليم والهندسة، وكذلك
مجالات الفن والثقافة؛ والسلطات المحلية تعي تماماً تلك الحقائق وتعترف بها أيضاً.
2 - الجنسية الأوكرانية: في القرم الآن حوالي سبعين ألف تتري ليس لديهم
الجنسية الأوكرانية؛ والسبب في ذلك هو صعوبة إجراءات الحصول على الجنسية
الأوكرانية وتعقيدها، وكذلك تكاليفها الباهظة؛ والقاعدة تجاه هؤلاء واضحة وثابتة: من ليس له جنسية ليس له فرصة في العمل الحكومي.
3 - التقصير من جانب المسؤولين: وهذا واضح في عمل اللجان العاملة في
هذا المجال، وكذلك الأقسام الخاصة بالعمالة والتي لا تقوم بواجبها في توصيل
المعلومات الكاملة من التتار وإليهم، إضافة إلى ذلك التقصير في عمليات التسجيل
ومراكز التسجيل [*] .
__________
(*) كل الأرقام والإحصائيات التي وردت في الفقرات الخاصة بمشكلات السكن والتعليم والعمالة
مأخوذة من تقارير لوزارة الداخلية وجهات رسمية متخصصة فيما يتعلق بعودة التتار وتوطينهم.(151/90)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
في الشيشان.. فتش عن الأمريكان
في القوقاز تشترك شركات بترول أمريكية في بناء أنابيب بترول من بحر
قزوين عبر أذربيجان وجورجيا ومن تركمانستان إلى تركيا. وفي هذا يقول مدير
وكالة المخابرات المركزية: «حكام كثير من الدول في تلك المنطقة أصدقاء لنا.
ولكن الأنظمة والحكام ليسوا مستقرين وهناك كثير من الجرائم والمخدرات وتجارة
الأسلحة» .
معنى هذا أن وكالة المخابرات المركزية انتقلت إلى منطقة القوقاز لحماية هذه
المصالح الأمريكية الجديدة.
ولا ينسى مدير وكالة المخابرات المركزية أن أغلبية سكان هذه الدول مسلمون
ولأنه قال إن الفقر والظلم من أسباب مشكلة الإرهاب فإنه يحذر من إرهاب جديد
في دول القوقاز، ويحذر بالذات من المتطرفين الإسلاميين. ولا ينسى أيضاً
الحرب في الشيشان، ولا يعطف على المتطرفين الإسلاميين في الشيشان، ويقول: إنهم بعد هزيمتهم سيتسللون إلى الدول المجاورة ويسببون مشكلات لحكامها.
لكنه لا يقول إن واحداً من أسباب مشكلة الشيشان هو ظلم الروس لهم وإن
الحرب القاسية والمدمرة ضد الشيشان ستزيد غضب شعوب القوقاز وآسيا الوسطى
على الروس. وهذه المنطقة نفسها التي تريد وكالة المخابرات المركزية حماية
المصالح البترولية الأمريكية فيها.
[مجلة المجلة، العدد: (1049) ]
ما ز ال مُصرّاً
س: تردد أكثر من مرة أنك من مؤيدي فصل الدين عن الدولة؟ فهل هذا
صحيح؟
ج: طبعاً بكل تأكيد أنا أؤيد فصل الدين عن الدولة؛ لأن ذلك فيه مصلحة
الجميع، وفصل الدين عن الدولة لا يعني الفهم الخاطئ لدى كثير من إخواننا
الإسلاميين بأنه لا يوجد دين، بالعكس، وأكثر دولة دينية هي أمريكا وتسمح
لأصحاب الأديان بمن فيهم البوذيون الذين يمارسون طقوسهم الدينية واليهود،
والمسيحيون والمسلمون، وهؤلاء يمارسون شعائرهم بكل حرية ولا يهيمنون على
الآخرين، ولكن لا تسيطر الدولة الدينية على مقاليد الحكم، الدين ليس مقاليد حكم،
ولنفترض أننا أقمنا دولة دينية في الكويت فعلى أي مبدأ أو مذهب سياسي ستسير؟
فإذا قلنا على المذهب السني، فعلى نهج أي إمام سنسير: أبي حنيفة أو مالك أو
الشافعي أو ابن حنبل؟ والأمر الآخر: ماذا عن أبناء الطائفة الشيعية؟ وماذا عن
المسيحيين الكويتيين؟
س: أفهم من كلامك أنك ما زلت تفضل الدولة الدستورية على الدولة الدينية؟!
ج: بالتأكيد أفضل الدولة الدستورية على الدولة الدينية؛ لأن التجارب
الإنسانية كلها تثبت ذلك، وأعطني دولة دينية عاشت أو تقدمت، وانظر ماذا يحدث
عند طالبان أفغانستان؟ والشيشان؟
[د. شملان العيسى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، جريدة الأنباء،
العدد: (8595) ]
البوابة الجديدة
معلومات محدودة التداول وصلت مؤخراً تفيد أن الوحدة السرية للمخابرات
المركزية الأمريكية كانت قد وصلت العاصمة اليمنية صنعاء وباشرت نشاطها
الأمني والاستخباري. وتنفذ C. I. A بعض المهام السرية في اليمن والمنطقة.
وتؤكد المعلومات أن نشاط هذه الوحدة يجري بموافقة الحكومة اليمنية التي لم
تعارض وجودها طمعاً في الحصول على مساعدات مالية أمريكية في ظل تدهور
الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
المعلومات أشارت أيضاً إلى أن جميع عناصر الوحدة يجيدون التحدث باللغة
العربية وكذلك يجيدون التقاليد والعادات العربية، ومنهم من يظهر في شوارع
صنعاء وهو يرتدي لباساً تقليدياً يمنياً. ويحاولون التصرف كمواطنين يمنيين بهدف
الاندماج في المجتمع اليمني.
والهدف الرئيس لهذه الوحدة بعد رصد الحركات والجماعات الإسلامية في ظل
تصاعد نفوذ التيار الإسلامي في اليمن والذي بات يشكل إزعاجاً وقلقاً للإدارة
الأمريكية هو محاولة التقرب من المسؤولين اليمنيين باعتبارهم دبلوماسيين
أمريكيين.
ويبدو أن ليس من مهام الوحدة حالياً تجنيد عملاء سريين من المواطنين
اليمنيين للعمل لحساب المخابرات الأمريكية كما هو الحال في دول عربية أخرى،
غير أنه من غير المستبعد أن يكون هذا الهدف من بين الأهداف المكلفين بتحقيقها
خلال فترة وجودهم في اليمن.
وعلم أن جميع عناصر الوحدة هم من فئة الشباب وهم يتحركون بحذر شديد
ويحيطون نشاطاتهم بسرية تامة خاصة في ظل التدهور الأمني في اليمن أو ما
تسميه الدوائر الأمنية الغربية «الانفلات الأمني» .
[السبيل الأردنية، العدد: (330) ]
لا فائدة
قامت عدة منظمات نصرانية بحملة إعلامية ضخمة لتشجيع النصارى في
الولايات المتحدة على قراءة الإنجيل بعدما دلت الإحصاءات على جهل كبير لدى
القوم هناك بدينهم، إذ إن الاستبيانات التي جرت هناك بتمويل من هذه المنظمات
بينت أن أكثر من نصف الذين تم سؤالهم لا يتذكرون خمساً من النصائح العشر التي
أمر بها الإنجيل، ورغم أن معدل ما تقتنيه الأسرة الأمريكية النصرانية من أناجيل
يبلغ حوالي 3 أناجيل في كل بيت، إلا أن معظم الأمريكيين لا يتآلفون مع الإنجيل، كما قال أحد كبار قادة الحملة.
ورغم أن المؤسسات التنصيرية في سباقها لكسب الإنسان الأمريكي النصراني
قد خصصت أناجيل للأطفال، وأخرى للمراهقين، وثالثة لمخاطبة السيدات،
ورابعة لمخاطبة الرجال، وأخرى للتائبين، إلا أن تدني مستوى قراءة الإنجيل
أصبح مشكلة تؤرق المؤسسات المسيحية هناك.
[مجلة الكوثر، العدد (5) ]
مخربون لا قرآنيون
قلتَ عن حرية الاعتقاد: إنه لا توجد في الإسلام استتابة؛ فهل تعني أنه لا
يوجد لها أصل؟
- نعم لا يوجد لها أصل مطلقاً لا في القرآن الكريم ولا من الرسول صلى الله
عليه وسلم، فالقرآن الكريم فتح باب حرية الاعتقاد على مصراعيه [فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] (الكهف: 29) وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
هناك من كفر أو ارتد أو نافق، ومع ذلك لم يعمل الرسول لهم شيئاً ولم يستتبهم.
تريد أن تقول إنه يجب أن لا نتعرض لمسلم غيَّر عقيدته؟
- مع السلامة. لا أستطيع أن أعمل له شيئاً [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ]
(القصص: 56) ولكننا نجد أن العلماء توسعوا في هذا الباب بعبارة: «من أنكر
معلوماً من الدين بالضرورة» ، وبهذه العبارة حكمت محكمة سودانية بالإعدام على
الشيوعي محمود محمد طه، فمن السهولة أن أوجه لشخص واحد 500 تهمة استناداً
إلى هذه العبارة.
لكن هناك حديث شريف يقول: «من بدل دينه فاقتلوه» ؟
- هذا حديث. الله أعلم به لا يمكنني قبول هذا الحديث؛ لأنه لا يوجد حديث
يناقض عشرات الآيات القرآنية الكريمة التي تقرر حرية الاعتقاد، إن هذه الآيات
هي الأصول وطبائع الأشياء.
أنت إذن لا ترى داعياً لدعوة تطبيق الشريعة في القوانين؟
الشريعة هي العدل فإذا طبق العدل طبقت الشريعة بأي قانون وبأي صورة،
وثق أن هناك دولاً أوروبية أقرب إلى تطبيق الشريعة بقوانينها.
تفاسير القرآن: لك رؤية مختلفة أيضاً عن تفسير القرآن الكريم؟
- كل هذه التفاسير افتئات وجناية على القرآن الكريم وهي المسؤولة عن أن
القرآن لم يقم إلى اليوم بالدور الذي قام به أيام الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا
أردت أن تفهم القرآن فاقرأه وسلم قلبك له ولا تقرأ تفسيره.
ولكن «التفسير» علم قائم بذاته؟
- علم ضال أساء إلى القرآن الكريم، إن كلام الله إعجاز محكم فكيف يفسره
بشر؟ إذا فسره فسيفتئت عليه ويحكمه رأيه الخاص.
[جمال البنا، صاحب كتاب: (نحو فقه جديد) ، مجلة المجلة، العدد:
(1052) ]
العولمة و «الشم» !
ربط تقرير دولي حديث بين ازدهار تجارة المخدرات وموجة العولمة
الاقتصادية التي يشهدها العالم، وقال التقرير السنوي لجمعية جيوبوليتيكال درج
ووتش المعنية بمراقبة المخدرات: إن العولمة الاقتصادية جعلت عمليات غسيل
الأموال أكثر سهولة، وذكر التقرير أن مهربي المخدرات تمكنوا في العام الماضي
من دمج ما يتراوح بين ثلاثمائة وخمسين مليار دولار وأربعمائة مليار دولار من
أرباح المخدرات في الاقتصاد العالمي.
ويلقي التقرير باللائمة على فتح الحدود ورفع القيود على تنقل الأموال وتزايد
عمليات الخصخصة التي عادة ما تتضمن انتقال كميات كبيرة من الأموال عبر
شراء الأسهم، ويشير التقرير إلى أن أموال المخدرات عادة ما تستخدم في تمويل
الصراعات وتأجيجها في كل أنحاء العالم.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية/ بي. بي. سي أونلاين
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news
الفكر المستنير!
س: لماذا أنكرت عذاب القبر؟
ج: هذا كلام في غيب لا يوجد شيء اسمه عذاب القبر في القرآن كله؛ لأن
الإنسان في نفس لحظة موته يبدأ حسابه، والآية الصريحة في القرآن تقول:
[وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا
أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ] (الأنعام: 93) انتهت الآية، أين عذاب القبر؟
هنا العذاب يبدأ منذ لحظة الحشرجة.
معنى كلامك أنه لا يوجد شيء اسمه عذاب القبر؟
- الحديث عن شيء اسمه عذاب القبر جدل في جدل، وكل إنسان حر في أن
يكذِّب أو أن يصدق كلامي.
س: ولكن أنت أول من ينكر عذاب القبر؟
ج: علماء غيري قالوا هذا الكلام، ولكن أنت لا تقرأ! الناس في غفلة
ويصدقون الكلام الفارغ والكتب المنتشرة على الأرصفة.
س: ولماذا اعترضت على صحيح البخاري؟
ج: لأن صحيح البخاري ليس كله صحيحاً.
س: وما الأدلة؟
ج: قصة سيدنا موسى الموجودة في صحيح البخاري والتي تقول إن سيدنا
موسى ضرب ملك الموت عزرائيل على عينه، عندما أرسله ربنا له ليقبض روحه
فيرفض سيدنا موسى أن يموت، ثم يضرب الملك على عينه فيفقأ عينه، فيعود
عزرائيل إلى ربنا يشتكي من موسى الذي فقأ له عينه، فيرد له الله بصره. هذه
قصة في البخاري هل يمكن تصديقها.
س: عفواً يا دكتور لماذا تشاهد عروض الأزياء؟
ج: حتى أستطيع الحكم عليها.
س: وما جدوى حكمك وأنت عالم الدين على عروض الأزياء؟
ج: وكيف أحكم عليها من دون مشاهدتها؟ لا بد أن أشاهدها حتى أستطيع
الحكم عليها.
س: وما أهمية الحكم عليها؟
ج: أليست عروض الأزياء حدثاً ضمن أحداث الحياة؟
[د. مصطفى محمود، مجلة الأهرام العربي، العدد: (159) ]
هؤلاء هم حماة حقوق الإنسان
خلف جدران السجون والمعتقلات، يقول تقرير صدر في الولايات المتحدة
مؤخراً إنه بعيداً عن أعين المحققين الخارجيين تمارس أشد أنماط العنف،
ويتعرض السجناء، بشكل خاص لانتهاكات حقوق الإنسان، علماً بأن هناك أكثر
من 1. 7 مليون سجين في الولايات المتحدة. ويتعرض بعض السجناء للأذى على
أيدي زملائهم السجناء أنفسهم، من دون أن يقوم حراس السجن بحمايتهم،
ويتعرض بعضهم الآخر للاعتداء والضرب على أيدي حراس السجن أنفسهم، كما
تتعرض النساء والرجال على السواء لاعتداءات جنسية وجسدية. أما السجون
المزدحمة بالنزلاء والتي تفتقر إلى التمويل الكافي، والتي تمت خصخصة العديد
منها، فتحكم السيطرة على النزلاء من خلال عزلهم لفترات طويلة واستخدام
أساليب تقييد وحشية ومهينة. وتشكل في بعض الأحيان خطراً على حياتهم، ويبدو
أن النساء وحتى الحوامل منهن لا ينجين من هذه المعاملة السيئة وانتهاك حقوقهن؛
حيث يقول التقرير بهذا الصدد: «ومن بين الضحايا نساء حوامل ومتخلفون عقلياً، وأطفال، وقد أدى ضعف المعاينة المستقلة، إلى جانب وجود مزاج شعبي يطالب
بمعاملة أقسى للمجرمين إلى خلق مناخ مناسب لانتهاكات حقوق الإنسان، ويضيف
التقرير إلى ذلك» تعرض السجينات للضرب والاغتصاب والبيع من قِبَل حراس
السجن لممارسة الجنس مع مساجين في سجن فيدرالي بكاليفورنيا، ويذكر التقرير
أيضاً أن «اغتصاب النزيلات من قِبَل موظفي السجن يعتبر أحد ضروب التعذيب» ويورد أيضاً كيفية انتهاك حقوق الأطفال بمقاضاتهم وكأنهم بالغون، ويذكر أن
احتجازهم في معتقلات البالغين يعرضهم للانتهاكات البدنية والجنسية من قِبَل
البالغين.
[مجلة المجلة، العددك (1054) ]
صلوا قبل أن تدفعوا!!
وكالة جديدة للصلاة بالإنابة عن من يجعلهم الإيقاع السريع للحياة من الغافلين تلك كانت الفكرة التي راودت شابة إيطالية تبحث عن مشروع جديد تدخل به
الحياة العملية.
تقول مونيكا باليناري وهي ربة منزل (26عاماً) إنها حريصة على مساعدة
من لا يؤدون فريضة الصلاة بسبب انشغالهم، وأن وكالتها الجديدة (الجنة) التي
تديرها من منزلها في فاريسي بشمال إيطاليا حددت أسعاراً لكل صلاة.
فالصلاة من أجل الموتى على سبيل المثال تتكلف 3000 ليرة (50,1)
دولار) أما إذا كانت الصلاة المطلوبة ستقام في منزل الزبون فيرتفع السعر إلى 25
ألف ليرة بل قد يصل سعر الصلاة إلى 50 ألف ليرة إذا كانت الصلاة مصحوبة
بدعاء على المسبحة، وتقول مونيكا وهي أم وممثلة سابقة شارحة فكرتها: «الحياة
أصبح إيقاعها سريعاً للغاية لدرجة أن وقت الناس لا يكفي سوى للعمل والمنزل،
لهذا السبب انشغل الناس عن الصلاة رغم أنهم قد يشعرون باحتياج نفسي لها» وفي
محاولة لجذب الزبائن تذكِّر مونيكا في إعلاناتها الناس أنه ليس هناك أغلى من
الروح وتقول: «إذا لم يكن عندك الوقت الكافي لإنقاذها اتصل بي وسأعتني
بالأمر» .
لقيت هذه الخدمة بعض النجاح في إيطاليا؛ إذ تقول مونيكا إن نحو 30
شخصاً من بينهم اثنان من المشاهير تحولوا إلى هذه المهنة الجديدة.
[جريدة الرياض، العدد: (11623) ]
اختراق واستلاب!!
يتقاضى القنصل الأمريكي العام السابق في القدس الشرقية المحتلة إدوارد
أبينغتون مليونين و 250 ألف دولار سنوياً عن عمله كمستشار خاص في الولايات
المتحدة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بحسب ما كشفه أبينغتون نفسه، وهذا
يعني أن أبينغتون يحصل على ما قدره 62 ألف دولار في الشهر، وكان أبينغتون
البالغ من العمر 55 سنة، قد عمل في سفارات الولايات المتحدة بدول عربية طوال
عقدين ماضيين، أنهى آخر 3 سنوات منها في 1997م قنصلاً عاماً لبلاده في
إسرائيل، ثم بدأ يعمل لحسابه الخاص، منذ أن أسس في العام الماضي شركة
استشارات في واشنطن وأول زبائنها كان الرئيس الفلسطيني الذي وقع معه العقد
منذ 4 أشهر ليكون مستشاره الخاص في تعاملاته مع الإدارة الأمريكية، بوصفه
معروفاً لديها.
وبموجب الاتفاق، فإن أبينغتون يعد تقارير إرشادية للرئيس الفلسطيني في
الكيفية التي يمكن أن يتصرف بها مثلاً لشرح مواقفه بطريقة يفهمها ويستوعبها
المتخذون للقرارات في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ومراكز الأبحاث والهيئات
الاقتصادية والمؤسسات الإعلامية النافذة في الولايات المتحدة، ويعتقد أبينغتون
الذي يقول إنه يتمتع بخبرة تزيد على 30 سنة في الصراع العربي الإسرائيلي أنه
قادر على تأسيس وقيادة أول لوبي حقيقي للفسلطينيين في الولايات المتحدة، يكون
هو أول فرد فيه، طبقاً لما أقنع به الرئيس عرفات حين وضعه العام الماضي في
جو اتخاذ القرار بتعيينه مستشاراً، وبراتب شهري يزيد 3 مرات على ما يتقاضاه
الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، وحوالي 30 مرة عن راتب أي نائب في المجلس
التشريعي الفلسطيني.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7808) ]
تعليق على الأحداث
لقد جئتم شيئاً إدّاً!
ضمن سلسلة التجرؤ على المقدسات، ونشر المذهب الإلحادي تحت الغطاء
الأدبي والروائي الذي يضرب الأمة في أعز ما تملك من عقيدة وأخلاق، وتحت
إشراف وزارة الثقافة المصرية، صدرت رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب
السوري حيدر حيدر، ضمن سلسلة آفاق الكتابة، العدد 35، الهيئة العامة لقصور
الثقافة، والتي يرأس مجلس إدارتها علي أبو شادي، ويرأس تحريرها إبراهيم
أصلان، وتقع الرواية في سبعمائة صفحة، ويبدو أن أقلام الردة ما زالت بحاجة
إلى من يقصف أسنانها بذلك التجاوز الخطير لكثير من الحرمات التي يتوارى منها
ومن الخوض فيها كبار مجرميهم.
ومما جاء في تلك الرواية الآثمة:
«إن رب هذه الأرض كان يزحف وهو يتسلل من عصور الرمل والشمس
ببطء السلحفاة» ويسوق في حوار فاجر: «هو من صنع ربي.. لا بد أن ربك
فنان فاشل إذن» «داخل هذه الأهواز التي خلقها الرب في الأزمنة الموغلة في
القدم ثم نسيها فيما بعد لتراكم مشاغله التي لا تحد في بلاد العرب وحدها حيث
الزمن يدور على عقبيه منذ ألفي عام» ويقول: «أقام الله مملكته الوهمية في فراغ
السموات» «ربي خذ بيدي في مملكتي لآخذ بيدك في مملكتك، ربي زدني أرصدة
في الدنيا والمصارف لأزيدك ابتهالاً في الآخرة، ربي لتكن منافعنا متبادلة وليتحقق
القصد الذي من أجله ولدتني فأكون طفلك البار على هذه الأرض الفانية» ويستمر
في فجوره وجرأته ويقول: «وهؤلاء يهمشون التاريخ ويعيدونه مليون عام إلى
الوراء في عصر الذرة والفضاء والعقل المتفجر بقوانين آلهة البدو، وتعليم
القرآن.. خراء» .
إن ما في هذه الرواية من كفريات لا أحسب أنها تتصادم مع مفاهيم
«المتطرفين» فحسب كما يزعمون، بل تتصادم مع أصحاب الفطر السليمة، بل
إن الفجرة والفسقة لا يتجرؤون برغم كبير جرمهم على الخوض في ذلك، فما بقي
لأمة الإسلام بعد سب ربها ووصم كتابه بأنه «خراء» ؟! فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
لقد دأبت بعض وزارات الثقافة العربية بين فترة وأخرى على إثارة مشاعر
المسلمين، وكأنها تختبر إيمان القوم وردود أفعالهم بتلك المهاترات والكفريات.
فتحت مسمى «التنوير» ينشرون ظلام الإلحاد والكفر.
وقد نُشرت هذه الرواية منذ زمن، إلا أن أهل العلمنة دأبوا على إحياء
مقبورهم الإلحادي لنشره على أحياء النفوس من المسلمين، هادفين إلى طمس نور
قلوبهم [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]
(الصف: 8) .
إن هذا التجاوز البشع ليدلنا على مدى كراهية هذه الأقلام الملوثة لرب الناس
ولدينه وأنبيائه وأوليائه، ومع ذلك فإن هذه الزندقة تطبع وتوزع بأموال المسلمين.
وإن كانت الرواية قد سحبت من الأسواق المصرية فلم يكن ذلك تطوعاً من
الوزارة، وإنما جاء امتصاصاً للغضبة التي غضبها أصحاب أقلام طاهرة وقلوب ما
زالت تؤمن بربها، وما زال الوزير يردد أن من يقرأ الرواية سيرى أنها تدعو
للعقيدة والإيمان!! . وحسبنا الله ونعم الوكيل.(151/98)
متابعات
الشيخ سيد سابق
ودمعة وفاء لرحيل العلماء
نشأت أحمد
في عام واحد فقد العالم الإسلامي كوكبة من خيرة علمائه ممن اشتهر عنهم
طول الباع في العلم والعمل ولزوم السنة حتى كان كل واحد منهم أمة وحده.
وإذا كان موت العالم موتاً للعالَم فإن مصيبتنا في هؤلاء الرهط تجلُّ وتعظم،
ولئن كان مصاب الأمة فادحاً في جراحها في كشمير وفلسطين وكوسوفا
والشيشان و.. .. فإن مصابها في علمائها أفدح؛ وكيف لا، وقد كانوا
سمعها وبصرها؟!
وقد كان آخرهم موتاً الفقيه المجاهد الذي كان له من اسمه حظ ونصيب؛
الشيخ سيد سابق رحمه الله إذ توفي في القاهرة على إثر وعكة اشتدت به، لزم فيها
المستشفى أسبوعين افتقده خلالهما محبوه وتلاميذه على أمل أن يعود، ثم احتسبوه
عند ربهم في جنازة شاهدة مشهودة رأينا فيها أثر عمر عامر بالعلم والجهاد.
ولد رحمه الله تعالى في يناير (كانون الثاني) عام 1915م بقرية «إسطنها» من مركز (الباجور) بمحافظة المنوفية، وأتم حفظ القرآن ولم يتجاوز تسع
سنوات، التحق على إثره بالأزهر في القاهرة، وظل يتلقى العلم ويترقى حتى
حصل على العالمية في الشريعة عام 1947م، ثم حصل بعدها على الإجازة من
الأزهر وهي درجة علمية أعلى [1] .
عمل بالتدريس بعد تخرجه في المعاهد الأزهرية، ثم بالوعظ في الأزهر، ثم
انتقل إلى وزارة الأوقاف في نهاية الخمسينيات متقلداً إدارة المساجد، ثم الثقافة..
فالدعوة فالتدريب إلى أن ضُيِّق عليه فانتقل إلى مكة المكرمة للعمل أستاذاً بجامعة
الملك عبد العزيز، ثم جامعة أم القرى وأسند إليه فيها رئاسة قسم القضاء بكلية
الشريعة، ثم رئاسة قسم الدراسات العليا، ثم عمل أستاذاً غير متفرغ.
وقد حاضر خلال هذه الفترة ودرَّس الفقه وأصوله، وأشرف على أكثر من
مئة رسالة علمية، وتخرج على يديه كوكبة من الأساتذة والعلماء، وفي الأعوام
الثلاثة الأخيرة عاد إلى القاهرة واستقر بها حتى وافاه الأجل.
شاب على الجادة:
تربى الشيخ في مقتبل حياته في الجمعية الشرعية على يد مؤسسها الشيخ
السبكي رحمه الله، وتزامل مع خليفته الشيخ عبد اللطيف مشتهري رحمه الله،
فتشرَّب محبة السنة. وكان لهمَّته العالية وذكائه وصفاء سريرته أثر في نضجه
المبكر وتفوقه على أقرانه، حتى برع في دراسة الفقه واستيعاب مسائله وما أن
لمس فيه شيخه تفوقاً حتى كلفه بإعداد دروس مبسطة في الفقه وتدريسها لأقرانه ولم
يكن قد تجاوز بعدُ 19 عاماً من عمره.
وكان لشيخه أثر عظيم على شخصيته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ما يحكيه
في بداية حرب فلسطين فيقول: وقد كنا في ريعان شبابنا أخذني الحماس أمام الشيخ
السبكي في أحد دروسه فقلت له: ما زلتَ تحدثنا عن الأخلاق والآداب! أين الجهاد، والحث عليه؟! قال: فأمرني الشيخ بالجلوس! فرددت: حتى متى نجلس؟ قال: يا بني إذا كنت لا تصبر على التأدب أمام العالِم فكيف تصبر على الجهاد في
سبيل الله؟ قال: فهزتني الكلمة جداً وظل أثرها في حياتي حتى يومنا هذا.
ثم تعرف الشيخ سيد سابق على الشيخ حسن البنا رحمه الله واشترك في دعوته،
وعاونه بعد ذلك في تعليم الإخوان وتربيتهم داخل الشُّعَب، واستمر على طريقته في
إعداد دروس الفقه وتدريسها، وصادف أن سمعها منه الشيخ البنا ذات مرة
فاستحسن أسلوبه وطلب منه أن يعدها للنشر. يقول الشيخ: فشرعت في جمع
المادة من قصاصاتي، وبدأت نشر كتاب «فقه السنة» .
مؤلفاته:
أشهر كتبه وأحبها إليه الذي اقترن اسمه به هو «فقه السنة» قدَّم فيه أسلوباً
رائداً في تبسيط مسائل الفقه بعد أن ظل عالقاً بالأذهان على درجة من الصعوبة
بحيث لا يفهمها إلا القليل، لكنه مع تبسيطه لها لم يُخِلَّ بها حين كان يتعرض
لاختلاف العلماء وترجيح ما يشهد له النص وإن خالف رأي الجمهور خلافاً لعادة
مدارس التقليد في ذلك الوقت إلى جانب حسن عرض وترتيب للأفكار دفعت ملايين
الناس لاقتناء الكتاب والاستفادة منه، وقد اغتنى من طباعة كتابه كثير من الناشرين
لم يستأذنوه في النشر ولم يثرِّب عليهم، فضلاً عن ترجمته إلى كثير من لغات
العالم [*] ، ومما يروى في ذلك: أنه أُوفد رسمياً إلى الاتحاد السوفييتي في الستينيات في أحد المؤتمرات للحديث عن الإسلام، وما أن خرج من المطار في صحبة المسؤول الرسمي الذي جاء لاستقباله حتى فوجئ بحشد ضخم قد جاء لاستقباله في موسكو! بين مقبِّل ليديه أو رأسه وبين هاتف باسمه، فتعجب الشيخ متسائلاً: كيف عرفتموني؟ فكان الردُّ: من كتابك. وإذا بالجماهير تلوِّح بالكتاب المترجم وتهتف باسمه! يقول: فلم أتمالك نفسي من البكاء؛ إذ لم أكن أتصور أن فضل الله عليَّ سيبلغ بي إلى هذا الحد! ولعله حين ألفه استحضر مقولة الإمام مالك رحمه الله: «ستعلمون أيها أريد بها وجه الله غداً» .
ومن مؤلفاته أيضاً:
- مصادر القوة في الإسلام.
- الربا والبديل؛ وهو رد على ما أفتى به بعض المعاصرين من جواز فوائد
البنوك وشهادات الاستثمار.
- رسالة في الحج وأخرى في الصيام وهما مستلَّتان من فقه السنه بتصرف.
- تقاليد وعادات يجب أن تزول في الأفراح والمناسبات.
- تقاليد وعادات يجب أن تزول في المآتم.
وهذه الأربعة الأخيرة ألفها ضمن نشاطه العلمي في إدارة الثقافة بوزارة
الأوقاف، وتُظهر الأخيرتان أثر الجمعية الشرعية في نشأة الشيخ على حب السنة
ومحاربة البدع، في وقت قلَّ فيه من يميِّز بين السنة والبدعة.
جهاده وسجنه:
كان مع علمه وعبادته وكثرة صومه ذا شوق للجهاد، وما أن لاحت أمامه
الفرصة حتى كان في أول كتيبة في حرب 1948م مفتياً ومعلماً للأحكام، ومربياً
على القيام والدعاء والذكر، وموجهاً إلى حسن التوكل والأخذ بالأسباب، ومحرضاً
على الفداء، ومدرباً على استخدام السلاح وتفكيكه، وبعد مقتل النقراشي اتُّهم الشيخ
بقتله وأطلق عليه: «مفتي الدماء» ممن أرادوا وأد الجهاد يومها. وحوكم الشيخ
بعد أن قضى عامين من الاضطهاد والتعذيب فما لانت له قناة ولا وهنت له عزيمة
بل كان كما عهد عنه مربياً فاضلاً حاثاً على الصبر، مبيناً لسنن الابتلاء
والتمحيص، وبعد أن بُرِّئت ساحته خرج ليواصل جهاد الكلمة، وحين تكررت
الفرصة بعد النكسة عاد أدراجه لساحة القتال في حرب رمضان يوجه الجنود ويرفع
معنويات الجيش.
مكانته وفضله:
يعرف للرجل مكانته وفضله كل من عاشره أو تتلمذ على يديه؛ فقد تخرج
على يديه ألوف العلماء وطلبة العلم من عشرات الأجيال، ومن هؤلاء: الدكتور
يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد العسال، والدكتور محمد الراوي، والدكتور
عبد الستار فتح الله، وكثير من علماء مكة وأساتذتها من أمثال الدكتور صالح بن
حميد، والدكتور العلياني.
بل إنه في شبابه كان محل ثقة واستعانة علماء كبار في حينها من أمثال:
الشيخ محمود شلتوت، وأبي زهرة، والغزالي.
يحكي عنه ولده محمد أنه كان يزوره في بيته علماء كبار من الأزهر، وكان
يجلس للتدريس وهم مصغون مستمعون من أمثال: الشيخ عبد الجليل عيسى،
والشيخ منصور رجب، والشيخ الباقوري، كما كان قوله فصلاً بين المختلفين في
المسائل.
أخلاقه ومآثره:
كان رحمه الله فقيهاً مجرَّباً محنَّكاً مثالاً للعلم الوافر والخلق الرفيع والمودة
والرحمة في تعامله، ويمتاز بذاكرة قوية وذكاء مفرط ونفس لينة ولسان عف
وحضور بديهة.
رزق حسن منطق في جزالة وإيجاز، وروحاً مرحة [2] وُضعت له معها
المحبة والقبول.
كان ذا وعي شديد واطلاع دائم على الأحداث والمتغيرات: إن شئت أن تراه
قارئاً رأيته، أو تجده مصلياً وجدته، أو مستمعاً ومتابعاً لأخبار العالم ونشرات
الأخبار وناقلاً لحديثها في دروسه قبل أن تنشره الصحف آنستَ ذلك منه، وما من
حدث يقع في الأمة إلا ويعرض له ويبين حكمه في غاية الوضوح بلا مواربة
وكانت ردوده حاسمة قاطعة.
وكان ذا جرأة في الحق رغم ما كان يمكن أن يتحمله من نتائج لا طاقة لجسمه
الضعيف بها، ومن ذلك أنه حين عُيِّن خلفاً للشيخ الغزالي في مسجد عمرو بن
العاص في عهد عبد الناصر ظن الناس أن الشيخ سيُداهن بعد أن غُضب على سلفه، فأفرد في أولى خُطَبه خطبة فريدة في نوعها ومضمونها تناول فيها شروط الحاكم
المسلم ذكر فيها 13 شرطاً بأدلتها الشرعية وشواهدها التاريخية فكانت جامعة مانعة، حتى قال عنها أحد العلماء الحاضرين: الشيخ قال كل شيء، ولم يؤخذ عليه
شيء.
وكان يبلغ مأربه دون عناء؛ ومن ذلك أنه حين سئل عن أحدهم قال: إنه
«كُذُبْذُب» (يعني أدمن الكذب) .
وحين ساء الحال في السبعينيات سئل عن رؤيته للأوضاع، فقال: «إن علة
مصر سؤالان وجيهان.. .» .
ومن سعة صدره: أنه خطب يوماً فأطال، فلما فرغ الشيخ من خطبته وقف
أحد الحاضرين وكان ذا مرض قائلاً: أنت لا تفهم!
فجاء رد الشيخ هادئاً: وهل قلت لك إنني أفهم؟ فأُسْقِطَ في يد الرجل واعتذر
للشيخ.
أواخر حياته:
وبعد أن استقر به الحال في القاهرة قبل ثلاث سنوات، تجول بين عدد من
المساجد لإلقاء دروسه في ستة أيام كل أسبوع؛ أربعة أيام للرجال ويومين للنساء.
ولكم أتعبه المرض دون أن يُقعده، وقد حاول ولده الدكتور مصطفى أن يمنعه من
التدريس بعد أن نصحه الأطباء بالراحة، فأبى ما دام فيه نَفَس، فكان يذهب لدرسه
رغم مرضه ليبلِّغ الحق للناس.
ويكفي الشيخ وقد لقي ربه بأكثر من سبعين سنة حافلة بالدعوة والجهاد ما
أعقبه الله من ثناء وذكر حسن بين الناس ودعاء.
رحمه الله رحمة واسعة، وأخلف على الأمة في مصابها فيه وفي إخوانه
خيراً.
__________
(1) حصل الرجل بالإضافة إلى هذا على أوسمة وجوائز عديدة كجائزة الملك فيصل في مجال الدراسات الإسلامية عام 1994م عن كتاب فقه السنة، ووسام الامتياز من مصر.
(*) ومما زاد الكتاب قيمة علمية تعليق العلاَّمة ناصر الدين الألباني وتحقيقه على فقه السنة تحت
عنوان: (تمام المنة على فقه السنة) وهو مطبوع مند سنوات، ويا حبذا لو جُعِلَ هذا التحقيق على
الكتاب عوضاً عن كونه مفرداً.
- البيان -
(2) كان من مرحه رحمه الله أنه كان يحفظ لكل مسألة فقهية موقفاً طريفاً أو دعابة يملأ بها درسه
مرحاً ويجتذب انتباه السامعين حتى يسهل عليهم فهم المسائل.(151/104)
متابعات
مع رحيل العام رحل الإمام
عبد الله بن سليمان القفاري [*]
لقد استقبل المسلمون في شهر الله المحرم أوائل العام الفائت رحيل عالم الأمة
وإمام هذا العصر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى واليوم ومع رحيل هذا
العام يودع المسلمون عالِمَ القصيم وأحد أئمة العقيدة السلفية الشيخ العالم المجاهد
محمد بن صالح المنصور، وكان بين رحيل الشيخين الجليلين رحيل كوكبة من
علماء الإسلام ودعاته في عام أشبه ما يكون بعام الحزن من هنا وهناك..
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وحيثما ذكر اسم الله في بلد ... عددت أرجاءه من لب أوطاني
إن رحيل العلماء ثلمة في مسيرة الأمة.. فهم عمادها المتين وسياجها المنيع
أمام تيار الفتن وحوادث الزمن وبموتهم يموت خلق كثير.
لعمرك ما الرزية فَقْدُ مال ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذٍّ ... يموت بموته خلق كثير
نسبه ونشأته:
هو الشيخ: محمد بن صالح بن منصور المنصور و (المنسلح) لقب لجده
صالح الذي انسلح أي انخزل من الشمال في ظروف اختُلِفَ في سببها، وهو من
الطوالة من قبيلة شمر القبيلة العربية المعروفة.
من مواليد بريدة عام 1350هـ وقد كف بصره بسبب مرض الجدري وهو
في السنة السادسة من عمره ولم يكن ذلك عائقاً له عن طلب العلم فقد طلب العلم
مبكراً، وحفظ القرآن الكريم ولم يكن تجاوز الثانية عشرة من عمره على يد الشيخ
محمد بن صالح الوهيبي.
صفاته:
كان رحمه الله تعالى يتسم بصفات عديدة من أبرزها:
1 - حب العلم والعلماء والجد والاجتهاد في تحصيل ذلك مع ما يعانيه من
كف البصر؛ فقد أعطاه الله البصيرة الثاقبة والذاكرة الحافظة حتى وهو في مرضه
الأخير؛ ولهذا حفظ كثيراً من المتون ومن ذلك: زاد المستقنع، والطحاوية، وألفية
ابن مالك، والآجرومية في النحو، والبيقونية في المصطلح، وألفية العراقي وبلوغ
المرام وعمدة الأحكام والرحبية في الفرائض، وغيرها. وكان يحفظ عدداً من
الوقائع والمناسبات التاريخية بالسنة والشهر واليوم في أحيان كثيرة.. ولهذا يقول
عنه الشيخ محمد السعوي: إنه كثيراً ما يحفظ ولا ينسى على كثرة المترددين عليه
من سؤالهم عن أقاربهم وأنسابهم.. وإنزالهم منازلهم مع عظيم تواضعه وجميل
محياه في لقاء الآخرين سواء منهم الصغير أو الكبير على حد سواء.
2 - زهده وبعده عن الدنيا فلم يكن يحزن عليها كما أنه كان صابراً على
البلاء فلا تجده إلا شاكراً لا شاكياً كما يقول الشيخ صالح الونيان، ويقول عنه
الشيخ صالح الخضيري إنه كثيراً ما يحمد الله على ما هو فيه من البلاء والمرض
ويقول: (إذا عُمِّرَ الإنسان أكثر من سبعين فقد أكل عمره) ويقصد بذلك أنه أخذ
نصيباً وافراً من عمره وحياته. ويقول أحد تلاميذه: إي والله! لقد كان الشيخ
مشتاقاً إلى لقاء ربه، عازفاً عن الدنيا، مستبطئاً للموت، وكان يقول كل ليلة في
مرضه: اللهم إني قد اشتقت إليك. ولقد دعوت له مرة بطول العمر، فقال: وما
أصنع بطول العمر؟ ولكن عسى الله أن يقبضني على الإسلام! وفي مثل شيخنا
أبي صالح يجمل قول الشاعر:
وكيف تبكي فائزاً عند ربه ... له في جنان الخلد عيشٌ مخرفج [1]
وقد نال في الدنيا سناءاً وصيتة ... وقام مقاماً لم يقمه مزلج [2]
3 - الجرأة في قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الخاصة
والعامة لا يخاف في الله لومة لائم؛ فقد كان يقول ويكتب ما يراه حقاً في كثير من
الأمور التي يحتاجها المسلمون والنوازل التي تنزل بهم والقضايا التي تهمهم، وكان
محتسباً ذلك عند الله عز وجل لا يرجو من أحد جزاءاً ولا شكوراً وهي من أبرز ما
اتصف به الشيخ رحمه الله وبز به أقرانه.
4 - العبادة الجمة، والعمل الصالح المبرور من القيام والصيام والذكر
والتلاوة مع حرصه الشديد على إخفائها متحرياً بذلك حسن الإخلاص وجميل
المتابعة، وكان ذلك ديمة اقتداءاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل
إلى الله أدومه وإن قل» [3] ولهذا لم ينقطع عنه أبداً حتى في أيامه الأخيرة؛
وصراعُه مع المرض لم يمنعه ذلك، مما كان له حسن الختام ورفع المنزلة في
قلوب الناس من آلاف المشيعين له والباكين على فراقه.
5 - حبه للأعمال الخيرية والعلمية على اختلافها وتنوعها وتشجيعه لمن يقوم
بها وزيارته والاتصال به ودعمه مادياً ومعنوياً سواء كان على المستوى المحلي أو
العالم الإسلامي.
سفره لطلب العلم وصبره عليه:
عند بلوغه السنة السادسة عشرة من عمره وهي مرحلة الحيوية والنشاط
والمرح ومع ذلك فإنه كان شغوفاً بالعلم مشتاقاً إلى العلماء مما دفعه للسفر إلى
الرياض؛ وكانت تلك الرحلة علامة بارزة في حياته تدل على الصبر والجد
والاجتهاد؛ وذلك حينما طلب من أحد سائقي السيارات وهم ما يسمون باللهجة
العامية: (الحمالية) أن ينقله إلى الرياض، فطلب منه السائق أجرة الطريق فلم
يكن الشيخ يملك شيئاً لصغر سنه وكف بصره مما جعله يلح على هذا السائق ولكن
لا جدوى.. ففكر قليلاً ثم جلس وتلمس بيده إطار (كفر) السيارة وهي ما تسمى
بـ (الوانيت) وجلس بجوار الإطار وعندما شعر بتحرك السيارة ومن فيها صعد
وجلس متعلقاً على حديدة (سستة) قريبة من إطار السيارة ولم يعلم به أحد واتجهت
السيارة في طريقها إلى الرياض ولم يكن الطريق سهلاً؛ فقد كان وعراً ترابياً مما
عرَّض السيارة إلى الوقوف في أدغال الرمال في مكان يسمى بـ (نفود الربيعية)
قريباً من قرية الربيعية شرق بريدة، وعند نزول الركاب وقائد السيارة فوجئوا
بوجود الغلام وقد أرهقه التعب وأضناه النصب، وكاد يسقط بسبب آلام الكتف
واليدين فتأثر الركاب بهذا المشهد وظهر عليهم علامات الحزن والأسى مما جعل
أحدهم يتكفل بهذا الغلام ويدفع عنه تكاليف النقل.
وعند وصولهم إلى الرياض أوصلوه إلى منزل الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي
عام المملكة وجلس يطلب العلم في حلقات الشيخ وسكن بما يسمى بـ (الرباط)
وهو مكان سكن طلاب العلم آنذاك. وقد واصل طلب العلم على الشيخ لمدة 7
سنوات بالإضافة إلى مجموعة من علماء الرياض من أبرزهم: الشيخ عبد اللطيف
ابن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد العزيز بن ناصر
ابن رشيد، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم، كما طلب العلم على يد الشيخ عبد الله بن
حميد، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ محمد
ابن صالح المطوع، والشيخ عبد الله الخليفي، حيث حفظ عليه كثيراً من المتون،
ثم أكمل دراسته الجامعية وتخرج في كلية الشريعة بالرياض رحمهم الله جميعاً
رحمة واسعة.
وكان كثيراً ما يذكر شيخه محمد بن إبراهيم؛ كما أنه تأثر كثيراً عند وفاة
شيخه عبد العزيز بن باز وكان ذلك واضحاً على صحته.
أبرز طلابه:
كان للشيخ دور كبير في إبراز نخبة من العلماء الذين تتلمذوا عليه وهم الآن
يتقلدون مناصب علمية بارزة منهم:
معالي الشيخ: عبد الله بن عثمان البشر، والشيخ العالم المحدث: عبد الله بن
محمد الدويش رحمه الله تعالى فقد لازمه 6 سنوات، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح
الفوزان عضو هيئة كبار العلماء حيث حفظ عليه الزاد كاملاً، والشيخ سليمان
العمرو رئيس محاكم مكة المكرمة، والشيخ الدكتور صالح المحيميد رئيس محاكم
المدينة المنورة، والشيخ يحيى اليحيى، والشيخ دبيان الدبيان، والشيخ علي
الخضير، ومجموعة كبيرة من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام بالقصيم ومنهم
فضيلة الشيخ سليمان العودة، والشيخ عبد العزيز العقل، والشيخ الدكتور صالح
الونيان، والشيخ الدكتور سليمان العبيد، والشيخ الدكتور عبد العزيز البجادي
والشيخ الدكتور محمد المنصور الفايز، والشيخ تركي الغميز، والشيخان: يوسف
وعبد الرحمن العقل، وكذلك الشيخ الدكتور محمد الفوزان رئيس قسم الدراسات
القرآنية بكلية المعلمين بالرياض، والشيخ محمد المحيسني، والشيخ عبد الله الجبر، والشيخ علي المنسلح، والشيخ صالح الخضيري، ومجموعة من القضاة منهم:
الشيخ إبراهيم الحسني قاضي محكمة المجمعة، والشيخ صالح الصقعبي، والشيخ
عبد الرحمن الصعب رئيس محاكم محايل عسير، والشيخ خالد القفاري والشيخ
يوسف العبيد، والشيخ عبد الرحمن المرشود، والشيخ عبد العزيز المشيقح،
والشيخ محمد المشوح، والشيخ فيصل الحازمي، وغيرهم كثير.
أعماله:
في عام 1378 هـ تولى منصب القضاء في (تربة) بعد التخرج في كلية
الشريعة، ثم انتقل إلى السليل، ثم إلى الباحة ومنها انتقل إلى تبوك، ثم إلى مكة
المكرمة. وفي عام 1389 هـ طلب الإعفاء من فضيلة المفتي الشيخ محمد بن
إبراهيم لعدم رغبته في القضاء وعمل مديراً لمعهد النور في بريدة، ثم تفرغ للعمل
مرشداً وموجهاً للمكتبة العلمية في بريدة والتدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية بالقصيم في قسم العقيدة ثم تقاعد في عام 1410هـ.
بعد ذلك تفرغ للتدريس في مسجده في جنوب بريدة، ثم انتقل إلى مسجده
بحي السلام شرق بريدة، علماً أنه بدأ التدريس عام 1379 هـ أي منذ ما يقرب
من 40 عاماً حين كان في الرباط وأثناء الدراسة بالكلية يومياً ما عدا يوم الجمعة،
ولم ينقطع عن التدريس إلا قبل وفاته بشهرين تقريباً عندما اشتد به المرض.
إنجازاته العلمية:
تفرغ للتعليم والتدريس في مسجده وكان من دروسه: بعد صلاة الفجر شرح
كتاب العقيدة الطحاوية، وكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والواسطية
في العقيدة لابن تيمية، والأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة، وكشف
الشبهات، وبلوغ المرام في الحديث لابن حجر، وعمدة الأحكام لعبد الغني المقدسي
وزاد المستقنع لموسى الحجاوي في الفقه الحنبلي والرحبية في الفرائض، والبيقونية
في مصطلح الحديث، وألفية ابن مالك في النحو حتى الساعة السابعة والنصف
تقريباً.
ثم بعد صلاة العصر يجلس في مجلسه للرد على المكالمات واستقبال الزوار
والرد على استفتاءاتهم وتساؤلاتهم، وبعد صلاة المغرب يقوم بشرح كتاب زاد
المعاد وكتاب متن الآجرومية، وفي وقت العشاء يعمد إلى شرح موطأ الإمام مالك،
وتفسير ابن كثير. وبعد الانتهاء من تفسير ابن كثير يبدأ بتفسير السعدي. هذا
بالإضافة إلى الكتب التي كانت تُقرأ عليه بعد نهاية شرحه لهذه الدروس وهي كثيرة
ومتنوعة، ومنها: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد.
مؤلفاته:
كان له مجموعة من المؤلفات منها: شرح الزاد، وشرح العقيدة الطحاوية،
وكتاب الرد على (علي السقاف) كما قام بكتابة ومراجعة وتقريظ لكتاب الشيخ
حمود العقلاء في حكم دخول الكفار للجزيرة العربية، وقد طبع منها كتاب الرد على
السقاف، وكذلك كتب بعض الفتاوى والرسائل في مناسبات عديدة من آخرها الرد
على الكاتب تركي الحمد.
عبادته:
كان الشيخ رحمه الله تعالى ممن يتميز في هذا الجانب بكثرة عبادته وطول
قيامه، فقد كان كما تقول إحدى زوجاته: إنه لم يمض يوم واحد منذ تزوجت الشيخ
فاته فيه قيام الليل، وكان يقوم رحمه الله من الساعة الحادية عشرة والنصف أو
الثانية عشرة ليلاً حتى الفجر، أي ما يقارب 5 إلى 6 ساعات تقريباً، ثم يضطجع
حتى أذان الفجر. وقد أكد ذلك الشيخ محمد السعوي عندما كان معه في أحد أسفاره
للدعوة إلى الله عز وجل فقد كان يقوم من منتصف الليل.. وكان يصوم يوم الإثنين
والخميس وثلاثة أيام من كل شهر، ويحافظ على ركعتي الضحى ويطيل القراءة
فيهما والسجود، ويختم القرآن حفظاً كل ثلاثة أيام حتى أيام مرضه الأخير كما
يقول ابنه عبد الله الذي رافقه في المستشفى.
وكان يحضر مبكراً إلى صلاة الجمعة، وكان كثيراً ما يختم القرآن، ومما
يذكر ابنه عبد الله: أنه سمع أباه يقرأ في قيام الليل في أحد أيام مرضه الأخيرة
سورة البقرة، وفي الليلة التي تلتها سورة يس وعندما سأله ابنه عن هذا الموقف
تأثر الشيخ وتغير لون وجهه ونهاه عن متابعته، ولقد كان الشيخ على هذه الحال من
العبادة حتى في صغر سنه؛ فقد ذكر ابنه عبد الله نقلاً عن الشيخ صالح الأطرم أنه
عندما كان والده في بداية طلب العلم في الرياض كان يكثر قيام الليل حتى إنه كما
يقول الشيخ صالح يشغلنا عن النوم، وكثيراً ما يحثنا على القيام ويكرر ذلك حتى لا
نجد فرصة للنوم.
مع الأسرة:
للشيخ رحمه الله ثلاث زوجات وله منهن: خمسة عشر من الذكور وثماني
عشرة من الإناث جعلهم الله خير خلف لخير سلف وكان يتعامل كما يقول أبناؤه
معهم باللين والرفق والتوجيه والتهذيب وأحياناً الترغيب والترهيب إذا اقتضى الأمر
ذلك، كما أنه كان يجلس مع أولاده من الساعة العاشرة والنصف صباحاً تقريباً حتى
الظهر بعد أن يصلي صلاة الضحى ويقوم أحد أبنائه أو بناته بالقراءة عليه حتى
أذان الظهر.
اهتمامه بالمسلمين:
كان يهتم بأمر المسلمين اهتماماً كبيراً، ويكتب الرسائل والفتاوى في ذلك
للعامة والخاصة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ وهذا الجانب مما برز
فيه الشيخ رحمه الله تعالى، وقد سافر للدعوة إلى الله عز وجل وحضور الندوات
والمؤتمرات ومن ذلك كان سفره إلى أمريكا والكويت والسودان، وكان مما أشغل
باله كثيراً في السنوات الأخيرة قضية الشيشان حتى وهو في مرضه الأخير وقد
أغمي عليه يقوم من الليل وهو يقول لابنه عبد الله: اكتب عن الشيشان! اكتب
للمسلمين والحكام بمناصرتهم ومؤازرتهم، وكثيراً ما يكرر ذلك ويلح إلحاحاً شديداً
حتى نخشى على صحته حتى كانت وصيته التي ختم بها حياته محملاً الأمانة إلى
من يهمه الأمر كل حسب مكانته واستطاعته.
وكان يقوم على آلاف الأسر المحتاجة في الداخل والخارج ويكفلهم ويرعاهم
وهو بعيد عن أعينهم، وكذلك فقد أنشأ في السودان سبعة مساجد وملجأ للأيتام يضم
ألف يتيم، ومسجدين في الفلبين على نفقته الخاصة. كما يقول عنه الشيخ صالح
الونيان: إنه كان يسأله عند كل لقاء عن أخبار المسلمين في الشيشان ويحث على
الدعاء لهم رغم ما هو فيه من المرض العضال بالإضافة إلى سؤاله عن أخبار
الدعوة والدعاة، وكان يوصي بتلمس حاجات الفقراء. ومن ذلك ما يروي الشيخ
صالح الخضيري أنه زار الشيخ في أول عام 1420هـ ومعه رجل ممن يقوم على
بعض الأعمال الخيرية خارج المنطقة فلما سلَّم على الشيخ وأخبرته بمكانة هذا
الرجل فسألني إن كان يحتاج إلى مساعدة فقلت: إنه لا يستغني عن إعانتكم،
فأدخل الشيخ يده في جيبه بخفية وأخرج مبلغاً يزيد على الألف ريال فوضعه في يد
الرجل بحركة سريعة وخفية حتى لا نراها.
اللحظات الأخيرة:
كان الشيخ يعاني من المرض منذ أمد بعيد في صراعه مع مرض السكري،
واشتد المرض عليه منذ سنتين وهو صابر ومحتسب، ثم بعد ذلك أصيب بغرغرينة
في أطراف قدمه وأُدخِل المستشفى عدة مرات والأطباء يحثونه على بتر قدمه وهو
يقول: (أموت مكتمل الأعضاء، وكل له أجله عشت من الحياة ما يكفيني) إلى
أن اشتد به الأمر عندما أصيب بجلطة بالجهة اليمنى في رأسه مما تسبب بشلل
للجزء الأيسر من جسمه وذلك في 2/12/1420هـ وقد قال لابنه عبد الله:
«الأمر نازل بي» يعني الموت. ولم يكن ينام أبداً منذ ذلك التاريخ وكثيراً ما يقول:
اللهم إني اشتقت إلى لقائك، ويكررها كثيراً ويذكر حديث: «من أحب لقاء الله
أحب الله لقاءه» [4] .
كذلك كان كثيراً ما يذكر أحوال المسلمين وخاصة الشيشان مع أنه يغمى عليه
وكان حريصاً جداً على وقت الصلاة، فإذا دخل الوقت أو قرب دخوله أفاق من
إغمائه وقال: هل دخل الوقت؟ فيُخبر بذلك، فيجلسونه، ثم يتيمم ويبدأ بالصلاة
وكأنه نَشِطَ من عقال.
وفي يوم الخميس الموافق 24/12/1420هـ نقل الشيخ إلى مستشفى
التخصصي بالرياض وقد وصل إليه عند الساعة الثالثة ظهراً وكان يقرأ القرآن
طيلة الطريق، وأثناء مكوثه في المستشفى لم ينم تلك الثلاثة الأيام هو وابنه عبد
الملك الذي كان يرافقه، وكان يقول لابنه: اجمع الصلاة؛ فأنت في سفر. وفي
يوم السبت الموافق 26/12/1420هـ كان وقت الرحيل إلى الرفيق الأعلى حيث
كان الشيخ منذ فجر ذلك اليوم وهو يقرأ القرآن ويصلي ما شاء الله أن يصلي حتى
قبيل المغرب؛ حيث جاء العشاء؛ فكان ابنه يعرض عليه العشاء وكأساً من الحليب
وكان يقول له: سوف أكمل القرآن. وعندما أذَّن المؤذن لصلاة المغرب دخل
الشيخ في صلاته وأكمل قراءة القرآن، ثم بعد أن انتهى منها استمر في قراءته
وإلحاحه على ربه حتى سقط رأسه، وقُبِضَتْ روحه إلى بارئها وابنه بجواره ممسك
بعشائه كأن الشيخ ينتظر له موعداً بفارغ الصبرِ؛ وحنينُ الشوق شغله عن طعامه
وشرابه (اللهم إني اشتقت إلى لقائك) وكان آخر ما نطق به لفظ الجلالة رحمه الله
رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وصيته:
كانت وصيته رحمه الله تعالى كغيره من العلماء الحث على التوحيد والإيمان؛
كما حث أولاده على الصلاح والثبات على الحق وعدم البكاء عليه.. . وكان مما
أوصى به أن يغسله الشيخ الدكتور صالح الونيان ويؤم المسلمين للصلاة عليه،
وكذلك أوقف عمارة كاملة في مدينة بريدة لرعاية المساجد والمراكز التي أنشأها في
الخارج.
وفي مشهد مهيب حضر آلاف المصلين من أقطار المملكة إلى جامع الشيخ
صالح الونيان في بريدة، وامتلأ بهم المصلى والساحات المحيطة بالمسجد في مشهد
مهيب قَلَّ نظيره تأثر منه الكثيرون، وسالت منه الدموع واختلطت بماء السحاب
وزخات المطر، وسارت هذه الحشود بعد الصلاة على الشيخ مشياً على الأقدام
متقاربين في صفوف ممتدة حتى المقبرة وقد علت جنازته على الأكتاف والأعناق
يتدافعون إليها حرصاً على القرب من جنازته مذكرة بجنازتي الشيخ عبد العزيز بن
باز والشيخ صالح الخريصي رحمهم الله تعالى جميعاً حتى وصلوا المقبرة مشياً على
الأقدام وقد صلى عليه المئات أكثر من مرة وهو في طريقه إلى قبره. هذا المشهد
العظيم الذي لم تشهد المنطقة مثيله ذكَّرنا بمقولة الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
(موعدهم يوم الجنائز) . ولم ينفضَّ الجمع الغفير إلا مع صلاة المغرب، فكانت
اللحظات الأخيرة التي يواري المسلمون فيها جثمان هذا العالم الجليل، وحينها خطر
ببال الكثيرين ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن
يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبِقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» رواه البخاري.
رحم الله الشيخ وتغمده برحمته، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين
والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، والله نسأل أن يخلف خيراً على الأمة الإسلامية.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالرياض، والمشرف العام على مجلة شباب.
(1) مُخَرفَج: أي واسع.
(2) مزَلج: أي الرجل الناقص.
(3) رواه البخاري، ح/5983.
(4) رواه البخاري، ح/ 6026.(151/108)
متابعات
نظرات في العالمية الإسلامية الثانية
صلاح الخليفة أحمد الحسن
حدثني أحد الأكاديميين بلهجةٍ قوية عن كتاب من جزأين عنوانه: (العالمية
الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) من تأليف (أبو القاسم حاج
حمد) باعتبار هذا الكتاب يمثل نقطة تحول في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر.
وقد تشوقت نفسي إلى اقتناء الكتاب المذكور أملاً أن أجد فيه ما يجعلني أشعر بأن
هناك جهوداً ضخمة تبذل من قِبَل المفكرين المسلمين المعاصرين في خدمة الدعوة
الإسلامية، وقد عكفت لأيام متصلة على قراءة الكتاب واستيعاب قضاياه، وأرجعت
البصر فيه كرتين، وقد خرجت من قرءاتي للكتاب المذكور بأشياء كثيرة منها:
1 - رؤية الكتاب للمذاهب الغربية:
استطاع الكاتب أن يبين الثغرات التي تشتمل عليها الشيوعية والرأسمالية،
وقد انتقدهما بقوة، وأكَّد على اضمحلال الفكر الشيوعي والرأسمالي ووراثة الإسلام
لذلك. وقد تميز العرض والنقد والتقييم والتقويم الذي قام به الكاتب تجاه المذاهب
الغربية بالقوة والمنطقية، وكان الأمل أن يسير على النهج نفسه في تناوله لبعض
القضايا التي عرضها في كتابه.
2 - منهج جديد للحديث النبوي:
كانت المفاجأة الأولى عند قراءتي للكتاب المذكور أن وجدت الكاتب قد ابتدع
منهجاً جديداً للحديث النبوي حيث يحدثنا الكاتب عن ضوابط الاستخدام المنهجي
النبوي للغة فيقول: «سق أن أكدت على الاستخدام الإلهي المميز لمفردات اللغة
العربية؛ فإني أؤكد أيضاً على التوافق والانسجام التامَّين بين لغة الرسول صلى الله
عليه وسلم ولغة القرآن بحيث لا يحدث التضارب في المعاني والدلالات، واتخذت
نموذجاً لذلك الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يَرِدُ فيه
القول:» لكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته « [1] وأوضحت تضاربه مع آيتين
وردتا في القرآن الكريم، الأولى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (البقرة: 104) والثانية: [مِنَ الَّذِينَ
هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا
لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:
46) ، إن دلالات (راعنا) التي نهى الله عنها مرتين واستبدلها بـ (انظرنا)
خطيرة جداً؛ فراعنا تحط من قدر الناس بتحويلهم إلى (رعية) من مرعى؛ حيث
يقودها الراعي بعصاه، أما (انظرنا) فمن النظر والعناية والتكافؤ، ولم يستخدم
الله في كل القرآن مفردة مراعاة أو رعاية وإنما استخدم مفردة (عناية) رجوعاً إلى
العين والنظر؛ فالمسألة هنا منهجية؛ إذ ترتبط بمضمون العلاقة بين الله والبشر
وبين الأنبياء والبشر، فلا تنحط إلى دونية البهائم؛ فالله لا يستلب الإنسان ولا يحط
من قيمته، وقد عزا الله ذلك إلى تحريفات اليهود في آية النساء رقم 46؛ فلغة
الرسول صلى الله عليه وسلم تتوافق بالضرورة المنهجية مع لغة القرآن؛ كما أن
الذين جاؤوا بهذا المتن حول الرعية والمراعاة لم يتبينوا موقف القرآن من مجتمعات
البداوة والرعي؛ فقد أظهر الله ما تنطوي عليه سلوكيات تلك المجتمعات من قسوة
ونفاق» [2] . وهكذا يرفض الكاتب الحديث النبوي الثابت: «كلكم راعٍ وكلكم
مسؤول عن رعيته» وفقاً لمنهجه الجديد الذي يجعل لغة القرآن مرجعاً لتوثيق متن
الأحاديث أياً كان سندها. ووفقاً لمنهجه هذا لا بد من مراجعة الأحاديث التي وردت
في صحيحي البخاري ومسلم اللذين تلقتهما الأمة بالقبول.
ومع هذا الرفض التام لكلمة (رعى) من الكاتب ولكل ما اشتق منها فيما
يتعلق بالأحاديث النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي
الله عنهم يناقض الكاتب نفسه في موضع آخر من كتابه؛ إذ يقول: (إن نظرة
وضعية للفارق بين الوعي المفهومي الجديد الذي طرحه (محمد) على العرب
وتركيب العرب العقلي ضمن حالة التعدد الإحيائي توضح لنا إلى أي مدى كانت
المهمة شاقة وصعبة بل ومستحيلة دون تدخُّل الله الغيبي؛ فقد كان على أمة من
الرعاة أن تصبح سيدة الحكمة في عصرها) [3] .
3 - حجية السنة:
جاء كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) بمنهج جديد للحديث النبوي؛ فما وجه
الاعتراض عليه؟ يقرر العلاَّمة عبد الغني محمد عبد الخالق رحمه الله تعالى أن ما
جاء عن الله تعالى لا يمكن أن يكون فيه اختلاف مع الحديث النبوي؛ إذ كلٌّ من
القرآن والسنة من عنده عز وجل.
فلا يمكن أن توجد سنة صحيحة الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تخالف الكتاب في الواقع وإن حصلت مخالفة في ظاهر اللفظ؛ لأن المراد من
أحدهما حينئذ عين المراد من الآخر؛ وكل ما في الأمر أن هذا المراد قد يخفى في
بادئ الأمر على المجتهد [4] .
وهناك من تمسَّك بأحاديث تدعو إلى عرض السُّنَّة على كتاب الله، ولكن
أحاديث العرض على كتاب الله كلها ضعيفة لا يصح التمسك بها؛ فمنها ما هو
منقطع، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول، ومنها ما جمع بينهما؛ وقد بين
ذلك ابن حزم في الإحكام، والسيوطي في مفتاح الجنة نقلاً عن البيهقي
بالتفصيل [5] .
فكل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو: حسن جميل،
معروف عند العقل السليم، وقد يقصر عقلنا عن إدراك حسنه وجماله، فلا يكون
ذلك سبباً في إبطال صدوره عنه، أو حجيته، بل إذا رواه لنا الثقات وجب علينا
قبوله، وحَسُنَ الظن به، والعمل بمقتضاه، واتهام عقولنا [6] .
ولكن كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) لا يتهم عقله في هذا الصدد إنما يتهم
الثقات في رواية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - رده للحدود الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة:
يقول كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) : «فلا يمكن أن تكون شرعة القرآن
هي شرعة (التخفيف والرحمة) ثم تستجيب لروايات تنسب إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم تطبيق شرعة (الإصر والأغلال) فإذا استجبنا لذلك فإن المسألة ستنتهي
لما هو أخطر؛ فالقول بأن الرسول قد طبق شرعة الإصر والأغلال فذاك يعني أنه
أي الرسول ليس هو النبي الأمي المبشَّر به في سورة الأعراف والذي من علائمه
أنه يضع عن اليهود ومعتنقي الديانات السابقة شرعة الإصر والأغلال، ويتحول
بالدين نحو الخطاب العالمي» [7] .
ويقرر الكاتب بأن الرجم وغيره من الحدود الشرعية هو من كيد اليهود؛
وذلك بهدف إبطال النبوة الخاتمة التي تنزلت على غيرهم [8] .
والسؤال: هل اليهود يريدون للحدود الشرعية أن تطبق في واقع المسلمين
حتى يدسوا مثل هذه الأحاديث بين المسلمين؟ إن الكاتب من حيث يدري ولا يدري
يخدم الأهداف اليهودية التي لا تريد للحدود الشرعية أن تطبق في المجتمع المسلم
باعتبارها تمثل حجر الزاوية في مجال الضبط الاجتماعي في الإسلام.
يريد الكاتب من المسلمين أن يتخلوا عن الحدود الشرعية باعتبارها شرعة
توراتية حتى يقتنع الإنسان المعاصر بالدعوة الإسلامية؛ فالإصرار على تطبيق
الحدود الشرعية (من شأنه حصر الإسلام ضمن حدود عالميته التقليدية حيث
يتعامل مع الناس من منطلق الإيمان الوراثي) [9] .
ويعمل الكاتب على إيراد تفسير جديد لقول الله تبارك وتعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) ، فيقول: «قد أراد الله عبر هذا النص أن
يطلعنا على تسببه التشريع المنزل تبعاً للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية
المختلفة. إن عقوبات القطع والرجم والجلد كانت سارية المفعول في ذلك العصر
التاريخي السابق على الإسلام. إن الثابت في التشريع هو (مبدأ العقوبة) أو
الجزاء؛ أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر حسب أوضاعه
وأعرافه وقيمه بهذا استوعب القرآن متغيرات كل العصور، ويبقى كما أراد له الله
صالحاً لكل زمان ومكان» [10] .
هكذا تفعل منهجية الحداثة فعلها في رد النصوص الشرعية ومتابعة الهوى في
تفسيرها.
5 - الأصول العامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال:
تشمل الأصول العامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال الآتي:
الأصل الأول: رد النصوص والجرأة في الاعتراض عليها. ...
الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية للاستدلال وتشويهها.
الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية جديدة للاستدلال والتلقي [11] .
فهل يخرج كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) عن الأصول العامة لمنهج
المبتدعة في الاستدلال؟ لقد أخذ الكاتب بحظٍ وافر من تلك الأصول في رده
للأحاديث الصحيحة وتشويهه للأصول الشرعية وتأسيسه لمنهج مبتدَع في هذا
الصدد، والكاتب لا يخرج في ذلك عما نبه إليه ابن تيمية من قول بعض رؤوس
الجهمية بشر المريسي أو غيره أنه كان يوصي أصحابه إذا جادلوا أهل السنة قائلاً:
«إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم
بالتأويل» [12] هذا هو منهج المبتدعة في تعاملهم مع الكتاب والسنة.
وللفلسفة وزن كبير في التكوين الفكري للكاتب في الوقت الذي نجد أن العلوم
الشرعية عنده تكاد تكون غائبة، وذلك له أبلغ الأثر في فكره الذي طرحه عبر
(العالمية الإسلامية الثانية) ، وكما يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى «ومن المعلوم
أن المعظِّمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونها هم أبعد الناس عن معرفة الحديث، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما
يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم سواء كان موضوعاً أو غير
موضوع» [13] .
ولله درُّ ابن تيمية؛ إذ نجد أن الكاتب يردُّ بعض الأحاديث المتواترة في الوقت
الذي يقبل فيه حديثاً باطلاً لا أصل له مع شهرة لفظه وهو: «اطلبوا العلم ولو
بالصين» إذ أورده في كتابه (1/255) في الوقت الذي قال فيه ابن حبان: هو
باطل لا أصل له، وفي إسناده أبو عاتكة وهو منكر الحديث. وقد أخرج هذا
الحديث البيهقي في الشعب ولفظه مشهور وأسانيده ضعيفة، وقد أورده ابن الجوزي
في الموضوعات [14] .
6 - منهجه في تفسير القرآن الكريم:
يقرر الكاتب بأن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم هو (حاكمية كتاب)
مطلق لتتوارثه الأجيال؛ لذلك فهو يرفض من يقول بأن الرسول قد وضع تفسيراً
للقرآن [15] . وهو بذلك يرد ما أوردته كتب السنة من تفسير نبوي لبعض آيات
الكتاب المبين الذي نص القرآن على أن الرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن
رسالته أن يبين للناس آيات التنزيل:.
ويقرر الكاتب بأنه ليس ضد فهم السلف للقرآن بموجب التركيبة التي تناولوه
من خلالها؛ غير أن تكشُّف القرآن عن تركيبة أخرى يجعلنا في مواجهة عطاء
جديد ظل مكتوباً لمرحلة تاريخية خطيرة، مرحلة يهيمن بها القرآن على كل مناهج
الفكر الوضعي، ويتجاوز بها كل معطيات الوضعية السلفية الدينية [16] .
ويقرر الكاتب بكل ثقة بأنه مُقْدِم على عمل كبير في دراساته القرآنية التحليلية
جعله الله من بدايات القرن الخامس عشر الهجري يشمل فهماً جديداً ناسخاً لمفهومات
الوضعية العلمية والوضعية الدينية على سواء [17] .
ولا يرى الكاتب أي غضاضة من أن يذكر بأن المنهج عبر التحليل قد أصبح
بديلاً عن النبوة وذلك ليستدرك الإنسان بالتطور ضمن مقوماته الوضعية ما لم
يستدركه بالتزكية النفسية ضمن مقوماته الروحية [18] .
7 - محاكمة النصوص إلى الدماغ المعاصر:
لا يختلف الكاتب عن العلمانيين الذين يشن عليهم هجومه في كتابه من حين
لآخر وذلك في محاكمته للنصوص الشرعية إلى الدماغ المعاصر؛ فالإسلام يحاكم
غيره ولا يتحاكم إلى غيره بأي حال. ويتضح بيان منهج الكاتب في محاكمة
النصوص القرآنية إلى الدماغ المعاصر في قوله: «إذا تتبعنا مراحل التطور في
التفكير الإنساني على ضوء فرضيات (جون ديوي) و (آثر بتلر) نستطيع أن
نميز خصائص السلوك الفكري العربي في تلك الآونة بانتمائه إلى مرحلة الحركة
الذاتية (sefaction) وهي مرحلة تتميز خصائصها بمحاولة الإنسان تفسير كل
ظاهرة من ظواهر الكون بمعزل عن غيرها من الظواهر، فلم يكن الإنسان في تلك
المرحلة قد أدرك ما بين ظواهر الكون جميعاً من علاقات، وقد أطلق رجال علم
الأجناس البشرية على تلك المرحلة اسم الأنيميا (Animistic stage) . وبغضِّ
النظر عن حقيقة التطورية أو بطلانها فالمهم أن التطورية بمدارسها المختلفة غير
الدارونية الآن هي جزء من الدماغ المعاصر وتتضمن إسقاطاته النظرية على كل
المواضيع بما فيها آيات الكتاب» [19] .
وقد استخدم الكاتب مصطلح (التاريخيانية) ومصطلح (القطيعة المعرفية)
بنفس المعنى المستخدم عن أهل النظرة العلمانية.
8 - إنكاره للمعجزات النبوية ما عدا القرآن الكريم:
يولع بعض الباحثين على شاكلة كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) في
تصوير حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عن الخوارق والمعجزات، وإذا أمعنا
في منبع هذه النظرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أنها في الأصل فكرة
بعض المستشرقين والباحثين من الأجانب أمثال (جوستاف لوبون) و (أوجست
كونت) و (هيوم) و (جولد زيهر) وغيرهم، ثم تلقَّف هذه النظرية منهم أناس
من المسلمين كان من سوء حظ العالم الإسلامي أن جندوا كل مساعيهم وعلومهم
للتبشير بأفكار أولئك الأجانب دون أي مؤيد سوى الافتتان بزخرف خداعهم،
وانخطاف أبصارهم بمظهر النهضة العلمية التي هبت في أنحاء أوروبا، وكان من
هؤلاء المسلمين الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي، وحسين هيكل [20] .
يقول كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) : «ثم يأتي من يفترض له معجزات
كجريان لبن من بين أصابعه، أو تكثير خبز ليضاهوه بمن سبقه من الأنبياء،
وهؤلاء مع غيرتهم قد جهلوا منهاج نبوته ورسالته وخصائصه وخصائص نبوته،
فاختصروه إلى وعيهم الذاتي وهو أكبر من ذلك بكثير وبما لا يدرك منه إلا
قليلاً» [21] .
فالكاتب بإنكاره لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية يخدم أهداف
علماء الاجتماع الغربي والمستشرقين بعيدة المدى، ويجتر نظرياتهم العتيقة في هذا
الخصوص ليجدد الدماء في عروقها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
9 - تقييمه لفكر ابن عربي:
يقرر الكاتب بأنه قد نسب إلى ابن عربي زوراً وجهلاً القول بوحدة الوجود
والاستبطان الغنوصي والتأثر بالفلسفات الإغريقية والهندية؛ غير أن الدراسات
المعاصرة قد قيَّمت فلسفته خارج إطار تلك المنسوبات من هذه الدراسات القيمة على
حد قول الكاتب ما أصدره الدكتور (نصر حامد أبو زيد) [22] ، فمن هو (نصر
حامد أبو زيد) الذي استند إليه الكاتب في تقييمه لفلسفة ابن عربي؟!
والحقيقة أن الطيور على أشكالها تقع، فقد طُرِحَتْ آراء مشبوهة من أمثال
(فرج فودة) و (سعيد العشماوي) و (محمد أحمد خلف الله) ثم ما أثاره مؤخراً
(نصر حامد أبو زيد) في كتاباته ومنها: (مفهوم النص) و (إشكاليات القراءة
وآليات التأويل) و (نقد الخطاب الديني) التي دعا فيها إلى محاكمة «النص
القرآني» وتأويل تعاليمه بما يخرجها عن معناها الشرعي، وقد صدرت فتوى من
علماء الأزهر بردة (نصر حامد أبو زيد) على ضوء ما كتبه من آراء وأفكار
منحرفة في حق الإسلام، والحُكمِ بالتفريق بينه وبين زوجته [23] .
وهكذا يعمل المبتدعة على تصوير ابن عربي مفكراً له إشراقاته وبصماته
على الفكر الإسلامي، في الوقت الذي تشهد عليه آثاره بخلاف ذلك؛ فالعلامة ابن
خلدون رحمه الله تعالى يحكم على الكتب المتضمنة لفلسفة ابن عربي مثل:
الفصوص، والفتوحات المكية وأمثالها بإذهاب أعيانها إن وجدت بالتحريق بالنار
والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتابة لما في ذلك من المصلحة في الدين [24] .
10 - رؤيته بأن ربط توقيت فرض الصلاة بليلة الإسراء من
الإسرائيليات:
جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين السنة أن الله تبارك
وتعالى قد فرض الصلاة في ليلة المعراج مع ما هو معلوم من قصة موسى عليه
السلام مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن؛ ولكن كاتب (العالمية
الإسلامية الثانية) يرى أن ربط توقيت فرض الصلاة بليلة الإسراء (خدعة
إسرائيلية) انطلت على المسلمين، وهي ليست مجرد خدعة عبثية، ولكنها
مقصودة تهدف إلى التقليل من شأن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وإظهاره
بمظهر المتلقي عن موسى بما يبطل إمامة محمد صلى الله عليه وسلم لموسى عليه
السلام، وبما يبطل نسخ القرآن للتوراة، هكذا قالوا: إن الصلاة فرضت في ليلة
الإسراء؛ حيث فرضها الله علينا (خمسين) ركعة في اليوم لولا (إقناع) موسى
عليه السلام المتكرر لمحمد صلى الله عليه وسلم للعودة مجدداً وأكثر من مرة إلى
ربه ليخفض عدد الركعات، وهكذا بوساطة موسى عليه السلام وتوجيهه لمحمد
صلى الله عليه وسلم أصبحت صلواتنا خمساً. ويقرر الكاتب أن الآثار المنسوبة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد تجمع بين السخافة والبطلان؛ فمحمد
صلى الله عليه وسلم إمام لموسى عليه السلام وليس العكس، وشريعته القرآنية
ناسخة للشريعة التوراتية [25] .
أرأيتم كيف أن هذا الكاتب يخلط الأوراق؟ وقد سبق لي أن دخلت في
محاورة عبر بعض الصحف اليومية مع أحد منكري السنة النبوية قال بنفس قول
هذا الكاتب الذي ذكرته آنفاً.
أين السخافة والبطلان في أن يراجع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في
شأن الصلاة؟
أليس في هذه المراجعة مكرمة له صلى الله عليه وسلم؟ ففي الوقت الذي كان
يراجع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه في هذا الخصوص كان نبي الله موسى
عليه السلام منتظراً في مكانه؛ فأيهما أفضل حسب هذه الرواية؟ وإذا كانت الرواية
من نسج اليهود لقالوا بأن الذي كان يراجع الرب تبارك وتعالى في هذا الشأن هو
موسى عليه السلام وليس محمداً صلى الله عليه وسلم. وهل يرضى اليهود بأن
يروِّجوا بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد عُرج به إلى السماء حتى ينسجوا
مثل هذه الرواية التي تثبت معراجه صلى الله عليه وسلم، مما ينكره صراحةً أولئك
الذين ينكرون السنة النبوية ومعجزاته الحسية صلى الله عليه وسلم. إن إنكار مثل
هذه المرويات المقطوع بصحتها فيه خدمة عظيمة لليهود والنصارى؛ إذ يعني
تشكيك أهل الملة الإسلامية في معتقداتهم وبلبلة أفكارهم؛ فاليهود.. . اليهود هم
الذين يروِّجون لمثل هذه الأفكار في المجتمع المسلم.
11 - نظرة عصرية جديدة للإبداع الفني:
يقرر الكاتب بأن سائر أنواع الجماليات التي تجسد حيوية الإنسان، وتفاعله
مع الحياة تعد مقدمة ضرورية في بناء الإنسان الحضاري الحر المنطلق؛ ويقصد
بهذه الأنواع النحت والرسم والموسيقى وسائر الجماليات الأخرى [26] .
ويشير الكاتب في هذا الصدد إلى دراسة قيمة على حد زعمه كتبها (عبد
المجيد وافي) بعنوان: (محمد والفنون) صدرت ضمن مجموعة مقالات: (محمد
نظرة عصرية جديدة) ، وقد كفت هذه الدراسة الكاتب كما يقول عناء الموضوع،
على ما في المعاناة من متعة؛ فقد أوضح وافي موقف القرآن والرسول من هذه
الفنون بقوله: ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم موقف مباشر يهدف إلى
إباحة شيء بعنوان الفنون، أو تحريم شيء بعنوان الفن [27] . هذا القول المغلوط
لا يمكن الأخذ به بكل هذه البساطة؛ فما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
من بعد ما بيَّن للأمة كل جزئية تقربهم من الله تبارك وتعالى أو تبعدهم عنه،
وللإسلام كلمته القاطعة فيما يتعلق بالآداب والفنون، يؤخذ ذلك من كتاب الله تعالى
وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهناك (أدب إسلامي) وفن (إسلامي) كما
أن هناك (أدباً جاهلياً) و (فناً جاهلياً) ولكن الكاتب الذي يتجرأ في رد أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم القطعية الثبوت له رؤية أخرى في هذا الموضوع؛ إذ
يقول: «والملاحظ هنا أن حجج المجوِّزين تعتمد على القرآن فيما رواه عن
(سليمان) و (عيسى) ، وحجج المحرِّمين تعتمد على أسانيد (الأحاديث) وأهمها
الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم برواية ابن عمر رضي الله
عنهما وهو حديث متفق عليه في قوله:» الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم
القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم «وكان بإمكاننا حل المسألة في هذه الحدود
بتكذيب مسندات الأحاديث؛ لأنها متعارضة مع نص قرآني. والرواة كما نعلم
ليسوا أنبياء مهما تحققوا من مصادر الإسناد» [28] . والهوى يجعل الكاتب يرى أن
الحدود الشرعية التي وردت في القرآن الكريم تتعلق بشرعة الإصر والأغلال التي
جاء بها موسى عليه السلام فهي منسوخة، والهوى يجعله يرى أن ما أورده القرآن
عن (سليمان) و (عيسى) عليهما السلام فيما يتعلق بالصور والتماثيل غير
منسوخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!! !
وبالرغم من أن الكاتب قد انتقد المذاهب الغربية بقوة كما بينا آنفاً إلا أنه عاد
يكيل المدح لها مشيداً بروائعها الفنية والجمالية والحضارية؛ لأنه يريد للمسلمين أن
يحذوا حذوها شبراً بشبر وذراعاً بذراع في هذا المجال، يقول (محمد أبو القاسم
حاج حمد) : «هناك تصدح في ساحات (فيينا) كل مساء روائع الموسيقى التي
أصبحت عالمية، وفي زواياها تنتصب تماثيل العباقرة من أبنائها الذين استلهموا
معنى النغمة من الحياة» [29] .
وهل إنتاج أوروبا الفني والجمالي والحضاري نشأ من فراغ دون أن يكون
لمذاهبها التأثير في تكوينه؟ وهل يتفق ذلك مع المذهبية الإسلامية؟
12 - د. طه جابر العلواني وتقديمه لكتاب
العالمية الإسلامية الثانية:
د. طه جابر العلواني تقلَّد منصب رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي
يتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية مقراً له لفترة طويلة، ويشغل الآن منصب
رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بالولايات المتحدة أيضاً، وله آثار علمية
طيبة وكثيرة، وهو الذي سعى إلى طباعة كتاب العلاَّمة الدكتور عبد الغني محمد
عبد الخالق رحمه الله تعالى: (حجية السنة) بواسطة المعهد العالمي للفكر
الإسلامي مع التقديم له بمقدمة طيبة، والذي يمثل سهاماً موجهة إلى نحر كل من
يسعى إلى الغمز واللمز في السنة النبوية المطهرة كما فعل كاتب (العالمية الإسلامية
الثانية) .
والشيء الذي أستغرب له هو: كيف قدَّم د. طه جابر العلواني لكتاب
(العالمية الإسلامية الثانية) في طبعته الثانية بمقدمة لا تخلو من الإطراء والإعجاب
بمحتوياته دون أن يبين ما حواه من قضايا منهجية خطيرة تُعد حرباً على الإسلام؟
ولا يشفع للدكتور قوله في المقدمة: (ومهما كان حول بعض ما أورده من
ملاحظات أو تحفظات قد تتراوح بين النقد والقبول أو المراجعة، كل ذلك لا ينبغي
أن يأخذ أو يلفت أنظارنا وعقولنا عن قضية الكتاب الأساسية التي هي قضية
المنهجية المطلوبة لبروز العالمية الإسلامية الثانية، وظهور الدين على الدين كله،
وبروز كلمة الله مرة أخرى في الأرض) [30] .
فهل المنهجية المبتدعة التي حواها هذا الكتاب من شأنها أن تخدم الدعوة
الإسلامية؟
إن تقديم د. طه جابر العلواني للكتاب قد فتن ثلة من الباحثين المسلمين الذين
يعملون في حقل تأصيل العلوم؛ فهل مثل هذا المنهج الذي جاء به يفيد عملية
التأصيل؟
وقد قررت د. منى عبد المنعم أبو الفضل وهي ذات نشاط ملحوظ في أعمال
المعهد العالمي للفكر الإسلامي كتاب (العالمية الإسلامية الثانية) ضمن منهاج النظم
العربية للسنة النهائية بقسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة [31] .
وقد بذل الكاتب شكره لأولئك الذين استضافوه في مراكزهم العلمية وجامعاتهم
وندواتهم ومؤتمراتهم، وقد خص بالذكر منهم: المركز الإسلامي الثقافي في مالطا،
وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية في طرابلس، والجامعة العالمية في ماليزيا طلاب
جامعة اليرموك بالأردن، منظمي مؤتمرات الاتجاه الإسلامي ولجنة فلسطين
الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وجمعية الترقية الاجتماعية لولاية بسكرة
بالجزائر [32] .
أما كان الحق يحتم أن تتدارس تلك الجهات الدعوية التي ذكرها الكاتب ما
حواه كتابه وحمله فكره بتأنٍ ومراجعة شاملة لمنهجه، ووزن ذلك بميزان الكتاب
والسنة قبل أن يحتفوا به؟ فما وافق الكتاب والسنة فهو الحق المبين، وما خالفهما
لا بد من بيانه للناس بالتفصيل؛ فهذه قضية غاية في الأهمية وليس كما قرر د.
طه جابر العلواني؛ فالجامعات والجمعيات والمراكز العلمية الإسلامية ذات تأثير
واسع في حقل الدعوة إلى الله تعالى ويتحتم عليها أن تضبط مسيرتها القاصدة إلى
الله تعالى بالكتاب والسنة.
ونأمل أن يجد هذا الكتاب الاهتمام المطلوب من المختصين فينبري له من يرد
على كل جزئية من جزئياته بالتفصيل حتى لا ينطلي زخرفه على بعض الناس.
ونأمل أن يراجع (محمد أبو القاسم حاج حمد) ما سطره في كتابه:
(العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) وفقاً للثوابت الإسلامية
دون أن يجعل للهوى نصيباً في ذلك؛ فما أكرم أن يرجع الإنسان إلى سبيل الحق
المبين: [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] (الرعد: 17) .
__________
(1) متفق عليه، محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، 2 / 242.
(2) محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، 1/ 59 60.
(3) المرجع السابق، 2/155.
(4) د عبد الغني محمد عبد الخالق، حجية السنة، ص 495.
(5) المرجع السابق، ص 474.
(6) المرجع السابق، ص 478.
(7) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 1/64.
(8) المرجع السابق، 1/64.
(9) المرجع السابق، 2/ 495.
(10) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 2/ 496، 497.
(11) أحمد عبد الرحمن الصويان، مجلة البيان، العدد 96، ص 10، مقال بعنوان: المنهج العلمي للاستدلال بين أهل السنة وأهل البدعة.
(12) المرجع السابق، ص 13.
(13) عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 4 / 95.
(14) محمد بن علي الشوكاني، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، ص 272.
(15) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 1/ 66.
(16) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 2/482.
(17) المرجع السابق، 2 / 483.
(18) المرجع السابق، 2/ 493.
(19) المرجع السابق، 2/491.
(20) د محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة، ص 147، 148.
(21) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 1/451.
(22) المرجع السابق، 1/412.
(23) انظر افتتاحية مجلة البيان العدد 108.
(24) د كمال محمد عيسى، نظرات في معتقدات ابن عربي، ص 98، 99.
(25) محمد أبو القاسم حاج حمد، المرجع السابق، 2/200.
(26) المرجع السابق، 2/ 434.
(27) المرجع السابق، 2/ 435.
(28) المرجع السابق، 2/ 437.
(29) المرجع السابق، 2/ 423.
(30) المرجع السابق، 1/ 22.
(31) المرجع السابق، 1/ 135.
(32) المرجع السابق، 1/ 134، 135.(151/114)
قضايا ثقافية
تشكيل القيم في أزمنة الوهن!!
سليمان بن عبد العزيز الربعي
الحديث عن تشكيل قيم الوعي المادية والروحية؛ حديث هويةٍ جمعيَّة لا ينفك
عن ظروف الأمم ومناهج تفكيرها، وهو بكل حال حديث ذو شجون قلَّ أن يتاح
لمرء مناقشته في فرصة، أو تشخيصه في مقالة؛ ولذا فكتابة اليوم أمشاج فِكَر
تنتمي إلى مرحلة بعدية منه، أرجو ألا أجانب المنهج العلمي إن قلت: إن البحث
فيها مدخل ضروري لفهم أوَّلياتها؛ وهي أوليات مهمة بلا ريب آمل أن يتسع الوقت
لمناقشتها لاحقاً.
وبدءاً، لا مناص من الإشارة إلى أنّ رُتْبَتَيِ القِيَم: المادة والروح مرتبطتان
تماماً بالفعل الجمعي، مما يجعله بحثاً شاملاً لمناهج السيكيولوجيين والديموغرافيين
المتميزة بالتباين المنهجي والتكامل البحثي، وهو أمر يشير كذلك إلى أهمية
اصطحاب المناهج التطبيقية في البحوث المشاكلة، وصلة القيم بهذا تتأتى من القول
بأن ملامح القسمين الآنفين تفريعٌ غنيُّ الدلالة لتلك المناهج؛ فالمعطى المادي قيمياً
في التفكير والممارسة قريب الصلة بالعلاقات الإنسانية المتصفة بالجماهيرية
والوقتية وعدم الفرز، مما يمنحها نعوت البراءة في التطبيق لمصطلح (العولمة)
في مجالات بعينها. أما القيمة الروحية النوعية فعلى العكس؛ إذ ترتبط غالباً
بالتشكيل الذاتي، وقد تخرج إلى فضاءات أرحب نسبياً، وتتميز بالتحليل والتروي
والتفكير الطويل.
ما أرمي إليه من هذه المقدمة، أولاً، التأكيد على أن قيم الروح تشكل في
مناخات بالغة الحساسية، متميزة بالجدية والعملية والمعيارية، وهذا ما يجعلها
صعبة على الطبيعة الإنسانية المجبولة على ضد هذه الصفات من تعلُّق باللهو
والكسل وعدم الانضباط، وكل هذه الصفات وما ناظرها تؤول بسببٍ إلى الهوى
الغلاب أو الجهل بحقائق الاستخلاف ومقاصده. والناظر في النصوص الشرعية
يجد هذه المعالم بارزة أشد ما يكون في قصص المرسلين وحواراتهم عليهم صلوات
الله وسلامه مع مخالفيهم، بل وفي مجمل النص خبراً وإنشاءاً، بحسب الأصوليين.
والقصد الأبعد التالي هو التركيز على أن صراع القيم في المجتمعات صراع
طبعي قد قدره الله تعالى، بل إنه سبحانه خلق الخلق على شاكلة مختلفة في الطاعة
والمعصية. وأهل المعصية مختلفون متفرقون فيها، دون (أهل التوحيد) إذ هم
الأمة الواحدة يدل عليه قوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ....] (هود: 118-119) .
فالناس لا يزالون «مختلفين في أديانهم على أديان وملل وأهواء شتى، (إلا من
رحم ربك) فآمن بالله وصدق رسله؛ فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق
رسله، وما جاءهم من عند الله» [1] ، ويؤكد هذا المعنى أن الآية الكريمة وضَّحت
أن الخلق قد جاؤوا على هذا التقدير الحكيم: [وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: 119) ،
أي: «وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم» [2] ، دون أن يُفهم منه أن المختلفين
غير ملومين على اختلافهم كما فهمت المعتزلة؛ بل اللام هنا بمعنى (على) [3] ،
أي: وعلى هذا التقدير خلقهم. بل أبعد من هذا الأسلوب الخبري: أن تتضمن
آيات الذكر الحكيم والحديث الشريف أساليب إنشائية كثيرة تحث على الموازنة بين
قيم المادة والروح، وأبعد: أن تنهى عن القعود والتبتل والانقطاع التام عن الدنيا؛
إذ فيه أي الانقطاع مفاسد تتنافى مع حِكَمِ المولى تبارك وتعالى في الاستخلاف.
المهم: إدراك أن الاختلاف القيمي سُنَّة ربانية لا سبيل لدفعها؛ ولذا فالحديث
يرمي إلى محاور ذاتية داخل حيز الحقيقة الكونية الكبرى، وهي ما تمثل مجالات
البحث والمراجعة والتقويم. ولئن كانت الآية الكريمة تقرر هذه الحقائق بسبيل عام
ومقاصد كبرى فإن في الواقع الواحد الذي يتميز أهله بأنهم (لا يختلفون في توحيد
الله.. . إلخ) كثيراً من سلبيات التطبيق للقيم وممارساتها الفردية والجمعية،
وكثيراً من الآثار المترتبة على الخلل المنهجي والمضموني في تعامل مؤثرات
التوعية وآلياتها مع الجماهير، ولعلي أكتفي هنا بالإشارة إلى مفارقات الوعي بين
نوعي القيم؛ حيث طغت على الأجيال الجديدة القيم المادية المرتبطة كما سلف
بالهوى والكسل على حساب قيم فضلى تمثل على سبيل الحقيقة صِمَام أمان للمجتمع
من الفراغ النفسي والروحي، وهذا الاهتمام السالب يتوجه بأوَّلية إلى النشاط الذهني
والفكري لأثرهما الكبير على المناشط الأخرى.
والحقيقة الكبرى التي لا ينبغي أن تغيب عنا؛ أن هذه الأجيال لا تتحمل تبعة
المفارقات القيمية وحدها؛ بل ثمة روافد كثيرة ومؤثرات عدة، تعمل عملها في
تشكيل مخيلات التوعية لهم وللأمة بعموم؛ فالبيت مثلاً وهو النواة الأولى للأجيال،
كثيراً ما تنعكس سلبياته على التشكيل القيمي للشاب. وفي ظروف كثيرة يعمل
التخلخل العلائقي بين قطبي البيت على تمزيق القيم الإيجابية لدى المُشاهد الراصد
(المؤثَّر فيه) = الابن، ومن ثم تجد القيم السلبية طريقها الرحب في وعيه
المنعكس على سلوكه. إن كثيراً من مشكلات الشباب القيمية أياً كان نوعها هي في
الغالب حصيلة طبيعية لمآسٍ ذاقوا ويلاتها وتجرعوا غصصها، فلم يجدوا سوى
السلوك المشين للتعبير عن رفضها والسخط عليها هذا من جهة. وهم لم يجدوا
سوى الحرية غير المؤطرة لإشباع رغباتهم النفسية الظامئة من جهة أخرى؛ فهم
ناقمون ظامئون.
مشكلة المؤثرات التي تنصهر في مثال البيت أنها بعيدة عن إدراك حاجة
الجيل للقيم الروحية. ومشكلة آليات تشكيل الوعي أنها لا تنظر إلى النفس قدر
نظرتها إلى أهداف أخرى؛ فالقنوات الفضائية (الفضائحية) تتعامل مع القيم
والمجتمع تعاملاً تجارياً صرفاً، همها الأول والأخير: الاستقطاب. ولا بأس
عندهم أن يكون هذا الاستقطاب على حساب القيم الشعورية والروحية للمشاهد؛ إذ
هي أبعد ما تكون عن الإسهام في تشكيل القيم الإيجابية في النشء، ناهيك عن
القنوات التي ترمي، أصلاً، إلى خلخلة القيم بشكل صريح، وكثير من الكتّاب
الصحفيين مشغول بغير شغل، وجُلُّ دور النشر تقذف التشكيك العقدي، (وتسهم)
بدفع الروايات الخواء للجيل!
في هذا الجو الملوث تتشكل القيم! غير أنها القيم المادية التي تعمل في
النفوس عملها السالب، فتضخم الشك، وتفرغ الفكر، وتسلم متلقيها إلى مهاوي
الردى! في مثل هذه الظروف الصعبة، وإن تنوعت درجاتها، تتصف القيم
المشكَّلة بالسلبية الحادة التي لا يمكن دفعها بآمال عابرة، ويُصاب الجيل بأزمة قيمية
عنيفة ينعكس صداها على سلوكهم اليومي في مناشط الحياة كافة. والذي يحز في
النفس أن تتعامل بعض الدوائر التربوية والأكاديمية إزاء ظاهرة الهبوط القيمي لدى
الشباب بـ (سوريالية) غير مفسَّرة، وذلك عندما تحلل أسبابها أي الظاهرة بضيق
أفق ظاهر، بعيداً عن تلمس المؤثرات الفاعلة. إن الجيل الذي يُمارس فاعليته
السلبية في القيم والوعي هو على العموم ضحية العوامل المؤثرة، وهو في الوقت
ذاته يعيش فراغاً نفسياً هائلاً يندر فيه الموجه الحكيم!
إن كثيراً من الذين نرى فيهم الشر والنزعة الجامحة لقيم المادة الطاغية، إنما
هم في الأعم الأغلب ذوو نفوس حيرى، قد أرهقهم الضيم الذي عايشوه، وأودى
بهم القَيِّم غير الكفء، ونفوسهم في الوقت ذاته نفوس عطشى لمتجرد نبيل ينتشلها
من سَوْرَاتِ الخوف والضنك في مثالها الذي تعيشه من قيم دنيا، إلى رحاب
الطمأنينة والحب والخير متجسدة في قيم الروح الفاضلة. وهكذا كلُّ نفس تجد في
مربيها الصد والخوف، تسعى لأمانها الضائع، وتهش لبارقة أمل من حكيم يُخرجها
من تيه المادة إلى يقين الروح.
إن السحرة الذين حشرهم فرعون لمواجهة موسى عليه السلام مع الإشارة إلى
الفرق في المثال قد جاؤوا بنفوس ظاهرها الحرص على الشر والرغبة في المغالبة
يُقصيهم عن الود كفرهم بالله، وذاك الخطاب الشهير يوم الزينة؛ إذ جاء مكثفاً
بالتذلل والخنوع لفرعون الذي يقول لبني إسرائيل: [مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص: 38) ، [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) ، ويقول لموسى: [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] (الشعراء: 29) . إنهم
يقولون، في مواجهة الداعية عليه السلام مستظهرين العزة، محاولين الترهيب
بالقسم: [بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ] (الشعراء: 44) . هؤلاء
المتظاهرون بالطغيان والجبروت، ما هم في الحقيقة سوى أصحاب نفوس ضائعة،
نفوس فارغة من الهم، مكتظة بالفراغ، سابحة في الضيق الذي لا ترى منه
مخلصاً إلا بالعبّ من الشهوات. وهم لذلك لم يشترطوا على حاشرهم (فرعون)
إلا المال فقضيتهم التمتع فحسب، ولو كانوا أولي هدف لعملوا لنصرة سيدهم ورب
نعمتهم؛ أما وقلوبهم هواء من برد اليقين، غريبة غرابة مواجدهم، فليسألوا المال
طرداً للهمِّ بالهمِّ. إنهم بعيدون في شعورهم من مشاركة فرعون مشاركة وجدانية،
بل هم أُجراء: [أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ] (الشعراء: 41) . وحين
يرى هؤلاء آيات اليقين وأمارات الطمأنينة بالإيمان ينجلي الغبش وتهفو النفس.
وحين يعاتبهم الطاغية على اليقين ويستكثر عليهم الطمأنينة تصدع النفوس قبل
الألسن بأنه كان سبب السلب الحقيقي وأداة القيمة المادية الفاعلة: [إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (طه: 73) ،
إنه كان يُكرههم على القيمة السالبة بسخرتهم في تعلم السحر وصرفهم إليه صغاراً،
فهو متجبر في القوامة، قد سلبهم أمانَ النشء ويقين الفطرة، وغشهم في الرعاية.
إن علماء النفس والاجتماع الغربيين يتحدثون عن إشكاليات خطيرة في واقع
الأجيال، وهي مشكلات تزداد صعوبة في كل يوم في أزمنة القيم المادية المشرعة؛ فمثلاً نجد أن المنتسبين إلى حركة (حافظي الوعد) (Promise keeprs)
الغربية وهم في ازدياد قد سئموا سُعار المادة الطاغي، فأجمعوا على بنود سبعة
تمثل بالنسبة لهم أسس الممارسة، وعليها بناء الوعي القيمي لشبابهم، وهي بنود
تطغى عليها الديانة النصرانية وتتوجه إلى ربط الجيل بمستوى أخلاقي نوعي؛ إذ
يشير البند الثالث إلى أن على المنتسب للحركة الالتزام بممارسة (الطهارة الروحية
والمعنوية والأخلاقية والجنسية) وفي فقرة أخرى نلحظ الاهتمام بالتكافل الاجتماعي
ولو على نطاق ضيق [4] . ونحن مع التسليم بضلالهم المبني على سوء الاعتقاد
بالله ورسله واليوم الآخر، لا نرمي إلى مناقشة تلك الأسس من منظور إسلامي،
بل القصد: الإشارة إلى الرغبة الطاغية لأمم الأرض اليوم في استعادة شيء من
الهوية، وحرصها على تشكيل الجيل تشكيلاً جديداً ينأى به عن طغيان المادة وفراغ
الحضارة الموحش. ونرمي من وراء ذلك كله للتساؤل الملحّ: أفليس المسلمون
وهم أهل الحق والدين القويم أجدر الأمم بالعمل على استعادة تاريخهم المجيد بتربية
أجيالهم على قيم الدين المستقيم؟ أفليس المسلمون أوْلى الناس بالعمل على مغالبة
أزمنة الوهن بتحصين أجيالهم وتشكيل وعيهم تشكيلاً قيمياً نافعاً؟ ولا ريب أنها
مهمة كبيرة على المربين، غير أن ثمة بواعث واقعية ينبغي أن تجعلهم يستسهلون
الصعب، كان من آخرها المسابقة التي أجرتها إحدى الإذاعات العربية؛ حيث لم
يستطع مستمع واحد أن يذكر اثنين من المبشَّرين بالجنة، في حين لم يتخلف أحد
عن الإجابة الصحيحة في ذكر «اللقب» الشهير للمطرب الذي رحل يوم كان
المستمعون الآن ما يزالون في أصلاب آبائهم!!
__________
(1) تفسير الطبري: م 7 ج 12 / 139.
(2) تفسير الطبري: م 7 ج 12 / 139.
(3) تفسير الطبري: م 7 ج 12 / 139.
(4) انظر جريدة الحياة 18 جمادى الآخرة، 1418هـ.(151/122)
في دائرة الضوء
وجهة نظر:
حول ظاهرة أسلمة العلوم
د. أحمد إبراهيم خضر [*]
ظهر في العَقدين الأخيرين دعاوى جديدة ذات أصول قديمة ومتكررة تحمل
اسم: (مشروع أسلمة وتأصيل العلوم) والتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم
الاجتماعية والإنسانية؛ أو التكامل بين معطيات الوحي والخبرة البشرية، وأنشئت
لهذا الغرض جامعات ومعاهد وكليات تخرِّج أجيالاً تحمل هذا الفكر وتروِّج له.
اتجاهات ثلاثة تؤصل المشروع:
وهناك اتجاهات ثلاثة داخل هذا المشروع، أحسب أنها: تتسم جميعها بسمة
الاستعلاء على الكتاب والسنه وما انبثق منهما من شريعة وفقه. يلبس الاتجاه الأول
ثوب الاعتدال، وهو أخطرها فيدعو أصحابه إلى الاستعانه بالقواعد الفقهية
والمنهجية الأصولية، وتطبيقها في العلوم الاجتماعية، وعرض نتائج العلوم
الاجتماعية على علماء الدين وإقامة جسر بينهما. ويغلب على الاتجاه الثاني صفة
السطحية والوصولية. أما الاتجاه الثالث فقد تطرف إلى الحد الذي دعا فيه إلى نقد
التراث ومراجعة الدراسات التى بنيت على القرآن والسنة وتجديدها مع استبعاد
مفاهيم الحق والباطل والإيمان والكفر.. . إلخ [1] .
وأياً كانت الاتجاهات داخل هذا المشروع بما فيها الاتجاه المعتدل فإن جميعها
تعتقد أن مستجدات العصر قد أحدثت خللاً في الأبنية الاجتماعية ومشكلات لم تكن
قائمة في الصدر الأول مما يستوجب مواجهتها بالعلوم الاجتماعية العصرية الحديثة؛ مع مراعاة اتساق ما يؤخذ منها مع الكتاب والسنة. فالمسالة إذن ليست مواجهة
تغيرات العصر بحلول مستنبطة من الخطوط العريضة للشريعة، أو إقامة مصالح
الدنيا بالرجوع إلى التعاليم المتضمَّنة في القواعد الكلية للشريعة، وإنزال الوقائع
المتجددة التي تعرض للأفراد والجماعات عليها، وفحص ما يترتب عليها من
المصالح والمفاسد، وإنما الاستعانة بنظريات وتحليلات العلوم الاجتماعية والخبرة
البشرية التي لا يبدو لهم أنها تتعارض مع معطيات الوحي في مواجهة هذه التغيرات، فيصبح لدينا مصدران للتعامل مع الحياة الإنسانية هما: العقل، والشرع. وهذا
اتجاه قديم ترجع جذوره في اليهودية عند فيلون السكندري، وفي النصرانية عند
كليمونتس وتلميذه أوريجنس، وفي الإسلام عند أبي يوسف الكندي، وإخوان
الصفا، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وغيرهم. ولأن أكثر الناس لا
يجمعون بين معرفة حقيقية بما جاء به الأنبياء والرسل وحقيقة الأفكار التي تحملها
هذه الدعاوى سادت البلبلة والفوضى الفكرية مما أتاح الفرصة لانتشار مثل هذا
الفكر [2] .
ويمكن القول حسبما نرى بأن المشروع برمته بما فيه الاتجاه المعتدل يقع في
خطأ أساس وهو عدم اعتقاد كمال الشريعة وتمامها وعدم كفايتها في مواجهة تغيرات
العصر، وكأنما الله تعالى الله عما يتصورون - لا يعلم بأن هذه التغيرات ستحدث
فلم يحسب حسابها، فجاء هذا المشروع ليستدرك ويستكمل على الله، فسلب صفات
الكمال عن الله تعالى وعلوه على خلقه وكماله وقدرته، وزاد في الدين وأفسده
وخلطه بما لم يأمر الله به، ولبّس الحق بالباطل وأعطى مشروعية لهذا الباطل.
ولا يخرج هذا المشروع برمته عن كونه هوى متبع وتبدُّع وتنطُّع وخروج على
الصراط المستقيم بنص مصطلحات العلماء لا مصطلحاتنا؛ وذلك لأن الطرائق في
الدين تنقسم إلى ما له أصل في الشريعة، وما ليس له أصل فيها، والأخير هو
القسم المخترَع، أي إنه طريقة ابتدعت على غير مثال تقدَّمَها في الشرع. ومن
خواص البدعة أنها خارجة عما رسمه الشارع، ومن ثَمَّ يدخل هذا المشروع تحت
هذا المسمى؛ فالشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة والنقصان، كما أن الله تعالى
قد أكمل للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته ولم يحوجه لا
هو ولا أمته إلى عقل أو نقل سواه، وأنكر الله تعالى على من لم يكتف بالوحي فقال: [أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] (العنكبوت: 51) وقال
تعالى: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) وقد تُوفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذَكَرَ منه لأمته
علماً.
هدف المشروع:
حدد دعاة المشروع أهدافه في إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام مما يؤدي
إلى أسلمة العلوم بثلاث طرق بريئة المظهر، وأحسبها فاسدة المخبر وهي:
1 - فهم العلوم الحديثة واستيعابها في أرقى حالات تطورها والتمكن منها،
وتحليل واقعها بطريقة نقدية لتقدير جوانب القوة والضعف فيها من وجهة نظر
الإسلام.
2 - فهم واستيعاب إسهامات التراث المنطلق من فهم المسلمين للكتاب والسنة
في مختلف العصور، وتقدير جوانب الضعف والقوة في ذلك التراث في ضوء
حاجة المسلمين في الوقت الحاضر، وفي ضوء ما كشفت عنه المعارف الحديثة.
3 - القيام بتلك القفزة الابتكارية الرائدة اللازمة لإيجاد تركيبة تجمع بين
معطيات التراث الإسلامي وبين نتائج العلوم العصرية مما يساعد في تحقيق غايات
الإسلام العليا [3] .
أما الأهداف الحقيقية لهذا المشروع فتتلخص في الآتي:
1 - إضفاء الشرعية على علوم أوروبية الصنع ليست حيادية كالعلوم
الطبيعية، وإنما ذات موقف خاص من الدين؛ فهي قد نشأت أصلاً لتزيح الدين
وتحل محله، وتجعل الإنسان محور الكون بدلاً من الله، وترى أن الدين من صنع
الإنسان، وأن التجربة الدينية الآن مواجهة مع الله وتحد له. ومن ثَمَّ فهي فاسدة
الأصل، وفساد الأصل لا بد أن يمتد إلى كل فروعه.
2 - إفساد المقصد من الشريعة وضرب الفقه الأول؛ وذلك بتلقيح الشريعة
بمعطيات هذه العلوم مع تحميل هذا الفقه أوزار تخلُّف المسلمين وما يسمونه بتشويه
شخصياتهم، ومن ثَمَّ إزالة هيمنتهما على العقل المسلم.
3 - استبعاد مفاهيم الحق والباطل، والإيمان والكفر، والفرقة الناجية والفرقة
الهالكة، وغير ذلك من المفاهيم المحورية في الإسلام بحيث تكون آخر ما يُرجَع
إليه.
4 - تحويل المقولة القديمة لزكي مبارك إلى واقع ملموس وهي التي يقول
فيها: «قد نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة ويقصد بهم علماء الدين - وصار
إلى أقلامنا المرجع الأول في شرح أصول الدين» .
وقد وصف الشيخ مصطفى صبري هذه الأقلام بأنها أقلام تنتقص خزائن
الإسلام الفقهية التي ورثناها من السلف بأصولها وفروعها، وتفتح حصون العلوم
بأسلحة مطلية بالذهب بدل الفولاذ المحض [4] .
مكمن الخطورة في المشروع:
وتكمن خطورة هذه الدعاوى في الآتي:
أولاً: الإيحاء بان الشريعة لم تتم:
تعطي هذه الدعاوى الإيحاء بأن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو
يستحب استدراكها، ولو كان أصحاب هذه الدعاوى معتقدين كمالها وتمامها من كل
وجه لما فكروا في الاستدراك عليها. قال مالك في هذا: من ابتدع في الإسلام بدعة
يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى
يقول: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] (المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون
اليوم ديناً.
ثانياً: معاندة الشرع ومضاهاة الشارع:
عيَّن الشارع لمطالب الناس طرقاً خاصة على وجه خاص، وقصَرهم عليها
بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها والشر في تعدِّيها؛ لأن الله
تعالى يعلم، ونحن لا تعلم. ولهذا فإن من زعم بأن هناك طرقاً أخرى غير التي
حصرها الشارع وعينها؛ يعني أن الشارع يعلم وهو يعلم أيضاً، بل يفهم أنه
استدرك الطرق الجديدة على الشارع أي علم ما لم يعلمه الشارع.
يضاف إلى هذا أنه أنزل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع
الشرائع وألزم الخلق بها وتفرد بذلك؛ فهو الذي حكم بين الخلق فيما كانوا فيه
يختلفون ودعواه هذه تعني أنه صيَّر نفسه بمنزلة النظير والمضاهي الذي يشرِّع مع
الشارع؛ فيكون بذلك قد رد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وفتح للاختلاف باباً.
ثالثاً: تلبيس الحق بالباطل:
لو كانت العلوم الإنسانية أو الخبرة البشرية باطلاً محضاً لما قبلت، ولبادر
كل أحد إلى ردها وإنكارها؛ ولو كانت حقاً محضاً لكانت موافقة للشريعة. لكنها
تشتمل على الحق والباطل ويلتبس فيها الحق والباطل. وقد قال تعالى: [لِمَ
تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (آل عمران: 71) ، فنهى
الله بذلك عن تلبيس الحق بالباطل. ولَبْسُه هو خلطه حتى يلتبس أحدهما بالآخر.
والشريعة حق محض والعلوم الإنسانية والخبرة البشرية فيها الحق والباطل،
والجمع بين ما هو حق محض وما هو حق وباطل تلبيس لأحدهما بالآخر.
والتلبيس هو التدليس والغش الذي باطنه خلاف ظاهره؛ فكذلك الحق إذا لُبِّس
بالباطل يكون قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بمقولة لها معنيان: معنى
صحيح، ومعنى باطل؛ فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراد المتكلم هو
الباطل.
رابعاً: اجتهاد في غير موضعه ومن غير أهله:
يضع أصحاب هذه الدعاوى أنفسهم موضع المجتهدين في الدين. والاجتهاد
ضربان: أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعاً وهو الصادر من أهله الذين اضطلعوا
بما يفتقر إليه الاجتهاد. والثاني: هو غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس
بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ وحقيقته كما يرى العلماء «أنه رأي بمجرد التشهي
والأغراض، وخبط في عماية، واتباع للهوى» فكل رأي صدر على هذا الوجه لا
شك في عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذي أنزله الله تعالى يقول تعالى: [وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ] (المائدة: 49) .
إن أصحاب هذه الدعاوى ليسوا من أهل الاجتهاد، ولكنهم أدخلوا أنفسهم فيه
خطأً ومغالطةً؛ فالشروط الشرعية المتطلبة في المجتهد لا تتوفر فيهم، كما لم تتوفر
فيهم كذلك شروط العالم بالعلم الشرعي التي منها: أن يكون عارفاً بأصوله وما
ينبني عليه، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه قائماً على
دفع الشُّبَه الواردة عنه.
خامساً: قياس للدين بالرأي:
خص الله تعالى بالهداية من علم فيه القبولَ والإنصاف والأهلية. كما قال في
إبراهيم عليه السلام: [وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ] (الأنبياء: 51) . وقال معاذ: العلم
والإيمان مكانهما، من طلبهما وجدهما، فاطلبوا العلم من حيث طلبه إبراهيم، حيث
قال: [وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] (الصافات: 99) .
فأصحاب هذه الدعاوى طلبوا الدين من غير طريق الأنبياء. وقد قال صلى
الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، أشدهم فتنة الذين
يقيسون الأمور بآرائهم» [5] . وسماهم ابن المبارك بالأصاغر أي الذين يقيسون
الدين بآرائهم وعلى غير أصل، فيتكلمون فيه بالتخرُّص والظن. إن عملهم لا دليل
عليه في الشرع، وقد يدفعهم اجتهادهم المزعوم إلى القول في القرآن برأيهم؛ في
حين أنه لا بد عند القول بالقرآن من بيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم
مراد، وهذا ما لم يتوفر فيهم. وقد نقل عن الصدِّيق رضي الله عنه أنه قال: «أي
سماء تظلني، وأي أرض تقلني أن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم، أو قلت في كتاب
الله برأيي؟» [6] وهذا هو ثاني اثنين إذ هما في الغار.
سادساً: اتباع للهوى:
إذا لم يكن العقل متبعاً للشرع لم يبق إلا الهوى والشهوة. وقد أوضح العلماء
أنه لو كانت الأهواء واحداً لقال قائل: لعل الحق فيه، فلما تشعبت وتفرقت عرف
كل ذي عقل أن الحق واحد لا يتفرق.
الأمر إذن محصور بين الوحي وهو الشريعة، وبين الهوى ولا ثالث لهما؛
وهما متضادان؛ وحيث تعين الحق في الوحي توجه الهوى ضده، واتباع الهوى
مضاد للحق وفي كل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى جاء في معرض الذم له
ولمتبعيه ومعنى ذلك أن الشريعة هي الوحي وهي الحق، وأن العلوم الإنسانية
والخبرة البشرية (بحقها وباطلها) هي الهوى؛ لأن الحق واحد لا يتفرق كما ذكرنا.
سابعاً: زيادة في الدين:
يقول العلماء: «إن رفع المظنون في العقليات إلى مرتبة المعلوم زيادة في
الدين» ؛ لأن فيه تجويز خلو كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
من بيان بعض مهمات الدين؛ وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدين القيم
تاماً كاملاً ليس لأحدٍ أن يستدرك عليه، وقد أكمل الله له الدين ولأمته من بعده.
ويعرف العلم الحق بأنه صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، وهو الذي
يجمع ما بين الجزم والمطابقة والتثبت عند التشكيك. ولهذا نقول: إنه لولا الفرق
بين العلوم الشرعية والعلوم الظنيه لما تميز إسلامٌ مِنْ كفر، ولا شرك من توحيد،
ولا صحيح من خاطئ. هذا الفرق هو الذي يسميه أصحاب هذه الدعاوى بالفصل
التعسفي ويسعون إلى القضاء عليه، فإذا تم لهم ذلك التبست الظنون بالعلوم
الشرعية ودخل فيها ما ليس منها.
ثامناً: طلب للشريعة بما هو غير أداة لها:
إن هذه العلوم التي يسعون إلى تأصيلها إسلامياً وجمعها مع الشريعة علوم
أوروبية الصنع كما ذكرنا صدرت بلسان غير عربي. والشريعة نزلت بلغة العرب
لا دخل فيها للألسن الأعجمية. والله تعالى يقول: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ]
(يوسف: 2) ، ويقول أيضاً: [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ] (الشعراء: 195) . ولذا
يلزم عند فهم الشريعة الاقتصار على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، وليس
إلى غيرهم. كما لا يستقيم للمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
أن يتكلم فوق ما يسعه لسان العرب.
وينطلق أصحاب هذه الدعاوى في سعيهم إلى أسلمة العلوم من المفاهيم
والمصطلحات الغربية بالبحث عن أصول لها في القرآن والسنه ولو تعسفاً، وقد
حسم العلماء هذه المسألة بقولهم: «إن كل معنى مستنبط من القرآن غير جارٍ على
اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء، ولا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد
به، ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل» .
تاسعاً: الخروج على مقتضى وضع الشريعة التي جاءت للعموم:
تتضمن العلوم الإنسانية التي يسعى أصحاب هذه الدعاوى إلى تأصيلها إسلامياً
وجمعها مع الشريعة ترسانة ضخمة من المصطلحات الغامضة والنظريات المتعددة
التي تحتوي على تناقضات فكرية وتصورات متباينة. ومع ذلك فإن عالم الاقتصاد
الأمريكي (فرتز ماشلوب) يقول: «إن معنى العلم أمر لا يستطيع رجل الشارع
أن يفهمه، والمعرفة لا تدنو منها إلا العقول العالية فقط» وذلك في معرض محاولته
إضفاء الصبغة العلمية على العلوم الإنسانية.
والأمر نقيض ذلك في الشريعة، فقد خرَّج الترمذي وصححه عن أُبي بن كعب
قال: «لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: يا جبريل! إني
بُعثت إلى أمة أمية فيهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ
كتاباً قط، فقال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» [7] . ولهذا يقول
العلماء: إن طلب ما لا يشترك عامة الناس فيه في الشريعة خروج على مقتضى
الشريعة الأمية [8] التي تسع تكاليفها الاعتقادية والعملية الأمي فيتعقلها ويدخل في
حكمها، كما أنها قريبة الفهم سهلة على العقل؛ بحيث يفهمها من كان ثاقب الفهم أو
بليداً؛ فلو كانت الشريعة مما لا يدركها إلا الخواص والمثقفون لم تكن شريعة
عامة ولا أمية.
عاشراً: محدَثات ومخالفات لم تكن على عهد الأولين:
إن خير القرون هو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ثم الذي
يليه، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة
منهم، وأصحاب هذه الدعاوى في قرننا هذا إما أنهم أدركوا من فهم الشريعة ما لم
يفهمه الأولون، أو أنهم حادوا عن فهمها. وهذا الأخير هو الصواب. وقَرْنُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم والذي يليه من السلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الشريعة إلا ما كانوا عليه، ولم تكن هذه المحدَثات فيهم ولا عملوا
بها بالرغم من أنهم عاصروا أكبر حضارتين وقتها، وظلت الشريعة على نقائها
وصفائها فيهم.
وصحبح أن هناك من العلماء من تجاوز الحد في الدعوى على القرآن؛
فأضاف إليه كل علم يذكر للمتقدمين في علوم الطبيعة والمنطق وغيرهما، لكن هذا
لم يحدُث من السلف الصالح الذين كانوا أعرف بالقرآن ويعلمون ما أُودِع فيه، ولم
يبلغنا أن أحداً منهم تكلم في شيء من ذلك؛ مما يدل على أنه لا يجوز أن يضاف
إلى الشريعة ما لا تقتضيه أو أن ينكر منها ما تقتضيه.
وأخيراً: فإن العلم وسيلة من الوسائل وليس مقصوداً بذاته، وذلك حسب نظر
الشرع، وكل علم لا يفيد عملاً ولا يترتب عليه ثمرة تكليفية ليس في الشرع ما يدل
على استحسانه، ولو كان له غاية شرعيه لكان مستحسناً شرعاً، ولهذا فإن هذا
المشروع لا يفيد علماً ولا عملاً ولا يترتب عليه ثمرة تكليفية، وليست له غاية
شرعية، ومن ثم فهو ليس بمستحسن شرعاً.
إن هذا المشروع يدخل تحت مقولة البَطْرِيَرْك التي نصح بها ملك الروم حينما
عرض عليه أمر طلب خليفة المسلمين بترجمة كتب الفلسفة وغيرها إلى العربية:
«أيها الملك! أرسلها إليهم، والله! ما دخلت هذه الكتب على قوم عندهم شريعة
سماوية إلا أفسدت شريعتهم، وأوقعت الخصومة بينهم» [9] .
__________
(*) أكاديمي مصري.
(1) عشوى، مصطفى، نحو تكامل العلوم الاجتماعية والشرعية، التجديد، الجامعة الإسلامية، ماليزيا، العدد الثاني، يوليو 1997م، ص 81 55.
(2) ابن تيمية، شيخ الاسلام، بغية المرتاد فى الرد على المتفلسفة والقرامطية، تحقيق ودراسة موسى الدويس، مكتبة العلوم والحكم، ص 67 62.
(3) رجب، إبراهيم، المنهج الإسلامي وعلاج المشكلات الاجتماعيه والنفسية، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، مجلد 26، عدد 4، ص 66.
(4) صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ج2 ص152.
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1673) ، وقال المحقق: لا يصح - البيان -.
(6) كنز العمال لعلاء الدين هندي، ج 2، ص 327 رقم (4149) .
(7) رواه البخاري، ح/ 2241.
(8) الأمية: أي العامة التي هي لكافة الأمة.
(9) استنبطنا الردود على أصحاب هذه الدعاوى من المصادر الآتية: الموافقات في أصول الأحكام، والاعتصام للإمام الشاطبي - مختصر الصواعق المرسلة، للإمام ابن القيم، شرح وتعليق رضوان جامع رضوان والفوائد، لابن القيم.(151/126)
مصطلحات ومفاهيم
التعليم المستمر
د. عادل الجندي
منذ القرن الثامن عشر تطور مفهوم التعليم؛ حيث أصبح من أهدافه تنمية
مواهب الفرد لكي تتطور حتى يضيف كل «متعلم» خبراته الجديدة وربما
مكتشفاته ومخترعاته إلى التراث، بما قد يؤدي إلى مضاعفة العلم المطلوب تعلمه،
أو إلى تغيير التراث كله بتغيير طريقة التفكير فيه، أو نقده وتعديله، أو طريقة
الانتفاع به.
ولكن على المستوى العلمي ظلت عملية التعليم والتربية عملية اجتماعية،
بمعنى أن مؤسسات المجتمع القائم هي التي تقوم بها، سواء من خلال الأسرة أو
البيئة الاجتماعية المباشرة، أو من خلال مؤسسات التعليم والإعلام والتثقيف التي
يملكها الأفراد أو الهيئات أو الجماعات المستقلة، أو تملكها وتديرها الدولة.
ثم كان تقرير اللجنة الدولية التي عملت بتفويض من اليونسكو برئاسة «إدجار فور» الذي نشر عام 1972م نقطة تحول في تنمية التربية التي بدأت تحتمل تصوراً
جديداً من حيث كونها نشاطاً إنسانياً، قد يكون نظامياً كما في التعليم المدرسي، أو
شبه نظامي كما هو في المؤسسات التربوية المساندة للمدرسة، أو غير نظامي
كالتعليم من الحياة وبالحياة.
وظهر منذ ذلك الوقت البحث عما يسمى «المجتمع المتعلم» الذي ينبغي أن
تهدف إليه الجهود بالوسائل المختلفة المناسبة لكل دولة بحسب ظروفها الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية.
وحاولت بعض الدول أن تقترح الوسائل المناسبة لتنفيذ ذلك التصور الجريء
وتمويله، وهو ما يسمى الآن بـ «التعليم المستمر» الذي نادت به «لجنة إنتاريو»
في كندا في الوقت الذي ظهر فيه رأي «اللجنة الدولية» التي شكلها اليونسكو
رغم استقلالهما عن بعضهما.
وقد زامن هاتين اللجنتين جهود أخرى قام بها مجموعة العمل التي شكلت عام
1972م، والتي نادت بفكرة «التعليم الأساسي» لإصلاح التعليم الابتدائي التقليدي
واستحداث أنماط جديدة للتربية والتعليم تجمع بين التعليم النظامي والتعليم غير
النظامي وتربط بين العمل والتعليم.
ومع هذا الاهتمام المتزايد بالتنمية العامة تأكد الدور الذي يمكن أن يلعبه التعليم
والتدريب في المجال الاقتصادي وفي زيادة الإنتاج وقدرة الأفراد على القيام بالدور
الإيجابي الذي يؤدي إلى تنمية المجتمع.
وقد أكد الباحثون على أهمية التدريب والتعليم في محيط العمل والعمال،
وحاول الباحثون قياس القيمة المضافة التي تحدثها إطالة التعليم في إنتاجية العاملين، وهو ما يؤدي إلى الاعتراف الكامل بإسهام التربية والتعليم في التنمية الاقتصادية؛ وبذلك لا يكون التعليم مجرد خدمة تؤدى باعتباره حقاً من حقوق الفرد وإنما أصبح
عملية استثمار، ووسيلة لرفع الكفاية الإنتاجية وبذلك أصبح موضوعاً هاماً في
الميدان الاقتصادي وطريقاً إلى التنمية الشاملة.
إذن فالتربية التي تشمل التعليم المستمر يقصد بها كل ما يمكن أن يكتسبه
الفرد على مدى حياته من المؤسسات التربوية والاجتماعية من برامج تعليمية
وثقافية ومهنية باستخدام الأساليب والوسائل التعليمية المتاحة له، بما يساعد على
استمرار الاستزادة العلمية والثقافية للأفراد والجماعات في النواحي المهنية
والحياتية، بحيث لا يعتمد في ذلك على المدارس النظامية وحدها بل تشارك فيه المنظمات والهيئات الأخرى، وتصبح الحياة مدرسة، ويتعلم كل فرد من الحياة بالحياة، وهو ما كان مطبقاً بالفعل أثناء تألق الحضارة الإسلامية.
وعموماً ونظراً للاهتمام بالتعليم المستمر في الوقت الحالي، فإن بعض الناس
ينظر إليه بوصفه «نظاماً ثالثاً في المجتمع» ، أما النظام الأول، فيشمل المدارس
الابتدائية والثانوية، بينما يشمل النظام الثاني مؤسسات ما بعد المرحلة الثانوية،
وهذان النظامان «الأول والثاني» يمثلان جزءاً من العمليات التربوية التي يمر بها
المتعلم الذي يدرس لوقت كامل Full Time، وقبل أن يتجه إلى سوق العمل أو
إلى أي مكان آخر. أما التعليم المستمر من حيث إنه «نظام ثالث» فيشمل كل
المؤسسات التربوية التي من خلالها يحصل الفرد على فرص تعليمية، سواء كانت
قبل الالتحاق بالتعليم النظامي أو خلاله أو بعد التخرج فيه. ومن هنا يصبح التعليم
المستمر ذا مغزى ومعنى بالنسبة للنظامين الأول والثاني، ولذا فإن التعليم المستمر
ما هو في الواقع إلا تمديد للنظام التربوي في الزمان والمكان، وتنظيم للخبرات
والنشاطات التربوية وجعلها متاحة لكل من يرغب فيها على مدى الحياة؛ فهو له
بُعدان: أفقي، ورأسي. ففي بعده الأفقي يُعنى بتنويع التعليم في الأماكن المختلفة،
وفي بعده الرأسي يعنى بإتاحة الفرص للدخول في أي نوع من أنواع التعليم في
الأزمنة المختلفة.
والتعليم المستمر ينادي في جوهره بالتحول والتغير الكيفي والنوعي للنظام
التعليمي الحالي؛ فهو ليس مجرد زيادات كمية طفيفة ولا سلسلة من الإصلاحات
الجزئية في هذا النظام؛ ودائماً هو نظرة فلسفية شاملة لمعنى التغير ومضامينه على
صُعُد التربية والتعليم والسياسة والمجتمع والاقتصاد. فهو لذلك يهدف أساساً إلى
تحقيق الذات بالنسبة للفرد وعن طريق اختيار حر من بين كلٍّ متكامل مرن من
المعارف والخبرات التنظيمية؛ وهذا التنوع ضمن الوحدة للمعارف والخبرات هو
الذي لا يزود الأفراد أو نخبة معينة فحسب، بل المجتمع كله باحتياجاته المعرفية
في كل مجالات الحياة، وبذلك يوجد المجتمع المعلم المتعلم.
فالتربية لا بد أن تتميز بما يلي:
1 - المرونة.
2 - دفع عجلة التطور الاجتماعي إلى الأمام للأفراد والجماعات في آن واحد.
3 - تلافي العيوب الناجمة عن التعليم التقليدي.
4 - الربط بين التربية والمجتمع.
5 - التركيز على التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
6 - اختيار المناهج المتماشية مع حاجات الدارسين (المناهج الأكاديمية
المفروضة) .
مرتكزات التعليم المستمر:
ويعتمد التعليم المستمر على:
- التركيز على الجوانب العملية التي تساهم في بناء المجتمع وتقسيم الأنشطة
إلى أنشطة أساسية وأخرى تعالَج حسب الأولويات.
- دراسة أوضاع الفئات الفقيرة والعمل على سد احتياجاتها الاجتماعية
والاقتصادية.
- التعاون مع ذوي الخبرة للوصول إلى التوصيف الصحيح لأوضاع المجتمع
وحاجاته.
- تمكين الفئات المحدودة الإمكانيات على تطوير هذه الإمكانات والارتقاء
بمستواها كي لا تقف عقبة في طريق تقدم هذه الفئات وتحد من إسهامهم في نمو
مجتمعهم.
- أخذ الأوضاع الاجتماعية للسكان بعين الاعتبار عند التخطيط للتطور
والتنمية الصناعية؛ بحيث تتماشى خطوط التنمية مع هذه الفئات وقدراتها وتلبي
حاجاتها المختلفة.
- تبنِّي الاتجاه الجماعي في التخطيط لبرامج التعليم المستمر، والقضاء على
جميع مظاهر التفرقة الاجتماعية التي من شأنها تشتيت الجهود وبعثرتها.
أما فيما يتعلق بالوسائل والأساليب التي يمكن أن تحقق أهداف التعليم
المستمر:
فإنه يمكن أن تتعدد الأساليب والطرق والوسائل التي تحقق أهداف التعليم
المستمر، ويمكن أن تختار كل دولة وكل مؤسسة وكل جهة تود أن تسهم في التعليم
المستمر أي وسيلة تراها مناسبة لظروفها وطبيعة عملها وإمكاناتها.. . على أن يتم
ذلك وفق تخطيط وتنظيم محكم يأخذ في الاعتبار جميع العوامل والمؤثرات التي
تضمن نجاح برامج التعليم المستمر.
وفيما يلي أمثلة من هذه الوسائل وتلك الأساليب:
أ - المؤسسات التي تسهم في التعليم المستمر.
ب - الوسائل الممكن الاستعانة بها.
ج - أساليب أخرى حديثة.
مع توضيح لما يمكن أن تؤديه كل منها من خدمات وما تعمل على تحقيقه من
أهداف.
أ - المؤسسات:
1 - مراكز التعليم الموازي للتعليم النظامي التي يمكن أن توفر التعليم
المستمر للمتسربين من المدارس، أو من فاتهم قطار التعليم النظامي بحيث تعوضهم
عما فقدوه من فرص الحصول على الشهادات الدراسية.
2 - المراكز الثقافية والاجتماعية بالمدارس والمعاهد التربوية التي يمكن أن
تنظم الدراسات والندوات للآباء والأمهات والشباب لزيادة ثقافتهم، وتوعيتهم
بالمشكلات الصحية والاجتماعية بما يساعد على رفع المستوى الثقافي وخدمة البيئة.
3 - مراكز خدمة المجتمع بالجامعات، وما يقوم به من تنظيم للمشروعات
العلمية التي يشترك فيها الطلبة وما تقدمه من برامج في الدراسات التكميلية أو
المهنية لمن يطلبها من المواطنين في مختلف الأعمال.
4 - مراكز التعليم بالمراسلة أو الجامعات المفتوحة، أو ما يسمى أحياناً
جامعات الهواء التي تنظم برامج متنوعة في مستويات مختلفة تصل بها إلى من
يرغب في الاستزادة التعليمية في المجالات المختلفة؛ بحيث تنقل إليهم التعليم في
أماكنهم بدلاً من أن ينتقل المتعلم إليها.
5 - مراكز تعليم الكبار ومدارس مكافحة الأمية التي يلتحق بها من يرغبون
في استكمال تعليمهم الأساس، والقضاء على الأمية بمختلف صورها.
6 - المكتبات الحديثة بما فيها من كتب ومجلات، وما تقدمه لروادها من
تيسيرات للاطلاع والبحث، خصوصاً إذا استكملت بالوسائل التعليمية الحديثة: من
تسجيلات صوتية، وأفلام سينمائية وبرامج مختلفة.
7 - مراكز التدريب أثناء الخدمة، وما تقدمه من برامج تثقيفية وبرامج
لزيادة المهارة المهنية لرفع كفاءة العاملين بما يضمن زيادة الإنتاج ويزيد من ثقافة
العاملين وإيقافهم على المستحدثات في مجالات تخصصهم أو المجالات الثقافية
العامة.
8 - النقابات والاتحادات المهنية وما تنظمه من برامج تعليمية وفق تخطيط
جيد في مواعيد مناسبة ومنتظمة لأعضائها ولأسرهم بما يقوي الروابط المهنية
ويرفع من المستوى الثقافي للأعضاء.
9 - المؤسسات الدينية وما تقوم به من برامج في التوعية الدينية والثقافية
والاجتماعية وبالأخص في مجال التربية الخلقية والتعامل الاجتماعي.
10 - الهيئات النسائية، وما يمكن أن تقوم به من برامج في التوعية الأسرية
والتربية الحيائية وتنشئة الأطفال والعلاقات العائلية بما يضمن سعادة الحياة للأسرة
والمجتمع.
ب - الوسائل الممكن الاستعانة بها:
1 - الاستعانة بوسائل الاتصال الثقافي وبالأخص الصحف اليومية
والأسبوعية والمجالات العلمية والنشرات خصوصاً إذا نظمت في صورة هادفة
مسلسلة وفق تخطيط معين.
2 - الاستعانة ببرامج الإذاعة والتلفزيون بحيث يخصص بها مواعيد معينة،
وبحيث يتم التنسيق بين هذه المواعيد التي يسمح فيها للعاملين بالمؤسسات المختلفة
بمتابعة برامج، هذا فضلاً عن:
أ - بناء الحقائب التعليمية متعددة الوسائل واستخدامها، وهي تحتوي أنواعاً
مختلفة من المواد التعليمية كالأفلام والخرائط والمطبوعات.. إلخ وتعمل كل واحدة
من هذه المواد على توفير نوع من الخبرة التعليمية بما يحقق أهدافاً مقصودة في
دراسة موضوع معين بطريقة متكاملة.
ب - استخدام الكمبيوتر في التعليم؛ حيث تعد البرامج التعليمية بمعرفة
مختصين في التربية والتعليم، ويغذى بها الكمبيوتر لتبقى في ذاكرته؛ بحيث يمكن
للمتعلم أن يستدرج الكمبيوتر ويطرح الأسئلة التي يريد الحصول على إجاباتها،
فيتلقى الرد فوراً على الشاشة التي تستخدم للاستقبال والتي تشبه شاشة التلفزيون،
ويحتاج وضع برامج الكمبيوتر إلى مهارة خاصة وتعاون بين الفني في الكمبيوتر
والفني في التعليم وفق البرامج المراد تعلمها.
3 - برامج التعليم الذاتي التي تقوم على أساس فكرة التعليم المبرمج والتي
يستطيع بها أن يعلم الشخص نفسه بنفسه، وأن يسير في التعليم بحسب سرعته
الخاصة، بحيث يقل التركيز على المدارس ويعتمد المتعلم على نفسه، ويسير في
التعليم إلى المستوى الذي يناسب قدراته واستعداداته الخاصة.
وواضح أن من الممكن الجمع بين طريقتين أو أكثر وبين أكثر من أسلوب في
الأوقات المختلفة بحسب المستوى ونوع الخبرة بما يحقق أهداف التعليم المستمر.
المراجع:
- محمد خليفة بركات، مفاهيم التعليم المستمر أساليبه، جامعة الكويت،
مجموعة البحث التي ألقيت في الندوة العلمية العربية للتعليم المستمر، 1981م.
- محمد أحمد موسى البكري، ودور التعليم في السنة الاقتصادية والاجتماعية جامعة الكويت، 1981م.
- سامي خشبة، مصطلحات فكرية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 1994م.
- إبراهيم محمد إبراهيم الحنكادي، تعليم الكبار ومشكلات العصر، الرياض
دار الأندلس للنشر والتوزيع، 1996م.
- المنظمة العربية والثقافة والعلوم، استراتيجية تطوير التربية العربية.
- عبد الله الدحيم، الثورة التكنولوجية في التربية العربية، دار العلم للعلامة
1974م.
- عبد الله هنداوي التربية المستمرة: مفهومها، أهدافها مجالاتها.(151/132)
المنتدى
هل يعيد التاريخ نفسه؟
ماجد بن عيد الحربي
قبل حوالي خمس وعشرين سنة وتحديداً في أواخر عام 1973م كان الرئيس
الأمريكي وقتها ريتشارد نيكسون في زيارة لمنطقة المشرق العربي قيل عنها إنها
تهدف إلى محاولة تسوية النزاع العربي اليهودي؛ وحقيقة الأمر أنها كانت تهدف
إلى تحقيق انتصار شخصي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية على حساب حقوق
العرب. فوقتها كانت فضيحة ووتر جيت على أشدها ومحاكمة الرئيس قاب قوسين
أو أدنى. ولكن لم تشفع له تلك الزيارة أمام محكمة الشعب الحر. فقد أرغم نيكسون
بعد عودته على الاستقالة وكاد أن يقدَّم للمحاكمة لولا صدور قرار خليفته بالعفو عنه.
وفي هذه الأيام نجد أن التاريخ يعيد نفسه فها هو كلينتون بين ظهرانينا وبنفس
الحجة التي كان يدعيها سلفه. فالهدف المعلن هو دفع عملية السلام بين الفلسطينيين
واليهود إلى الإمام وفي واقع الحال ما هي إلا محاولة من محاولات كلينتون الهادفة
إلى تحقيق أي انتصار يواجه به خصومه من أعضاء الحزب الجمهوري الذين
يعدون العدة لبدء محاكمته في فضيحة مونيكا لوينسكي.
وهنا يحق لأي عربي أن يتساءل: لماذا المنطقة العربية بالذات هي التي يلجأ
إليها رؤساء أمريكا لتحقيق الانتصارات التي يحتاجونها أمام شعبهم؟ هل لأننا
كرماء بطبعنا أوفياء لأصدقائنا نتنازل بكرمنا المعهود عن حقوقنا لهؤلاء الأصدقاء
حتى يظهروا أمام شعوبهم بمظهر الأبطال الذين يحققون الانتصار تلو الانتصار
لصالح دولة (إسرائيل) الصديقة، حتى ولو كان ذلك على حساب حقوق العرب
وكرامتهم؟ أم لأننا شعب مغلوب على أمره تفرض عليه الحلول الظالمة ويرضى
بها دون تردد أو مناقشة؟ وقد وصل بنا الانهزام إلى درجة أننا نعتبر قمة الانتصار
أن يأتي عظيم الروم إلى بلادنا ويصدر إلينا تعليماته المقدسة التي نتقبلها بكل فخر
واعتزاز، ولا أدل على ذلك من وقوف ما يسمى بأعضاء المجلس الوطني
الفلسطيني لرئيس أمريكا في مدينة غزة والتنازل له عن ميثاق الشعب الفلسطيني
الذي يعتبر آخر رموز السيادة التي تم التنازل عنها لصالح اتفاقية أوسلو وأخواتها.
وهنا نصل إلى نتيجة مفادها: أن كل ما ذكر آنفاً يدل دلالة واضحة على
الاستهانة بهذه الأمة واعتبارها الجانب الأضعف باللعبة السياسية الذي تعوَّد هؤلاء
الأعداء على تحقيق انتصاراتهم عن طريقه.
وما أريد أن أقوله لأبناء أمتي هو الانتباه لخطورة الأمر؛ فأمريكا ممثلة
برئيسها الذي يعمل بوحي من شعبها تعمل لمصلحة دولة يهود التي احتلت أرضنا
ومقدساتنا، وشردت أبناء شعبنا، وقتلت مجاهدينا، وتعمل ليل نهار على مسخ
عقيدتنا الإسلامية لإحلال عقيدة التلمود محلها. فالرئيس نيكسون ومن بعده كلينتون
مروراً بجميع رؤساء أمريكا المتقدمين منهم والمتأخرين لم يعتلوا كراسيهم إلا
بصوت الناخب اليهودي؛ فهم مدينون لهم بالولاء والنضال من أجل قيام دولتهم
وتحجيم جميع القوى المعارضة لهم، لا أقول بالمنطقة فحسب ولكن بجميع أنحاء
العالم. لذا يجب علينا أن نستيقظ من غفوتنا ونؤوب إلى رشدنا ونحزم أمرنا
ونعرف صديقنا من عدونا ونعلن للعالم كله أننا مجاهدون لإعلاء كلمة الله أولاً ثم
منافحون عن حقوقنا المغتصبة حتى تعود والتاريخ لم يذكر يوماً من الأيام أن فيه
حقوقاً سلبت عنوة عادت بدون القوة وإراقة الدماء. وبكل الأحوال نحن الفائزون
بإذن الله تعالى فشهداؤنا في الجنة وموتاهم إلى جهنم وبئس المصير. وإن لم نفعل
ذلك فسيأتي يوم نقول فيه: أُكِلنا من قِبَل يهود كما أُكِل الهنود الحمر من قبل
الأمريكان؛ وعندها سيلعننا التاريخ ونكون قد جنينا على الأجيال الآتية من بعدنا
بإطالة أمد الجهاد ورفع نسبة التضحيات لدرجة ما كان ينبغي أن تصل إليها لولا
تخاذلنا. ونحن على يقين أن العاقبة لهذا الدين وأهله، أسأل الله أن لا يجعلنا من
الذين قال عنهم: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
(محمد: 38) .(151/138)
المنتدى
المرأة المسلمة وشموخ الأمة
غازي المهر
لم تحظ المرأة العربية في الجاهلية الأولى بأدنى قيمة، بل كانت مجرد متاع
تُباع وتُشترى، حقوقها مهضومة وكرامتها مهدَرة حتى جاء الإسلام فأشرق نوره
على البشرية جمعاء، فلانت قُلوب العرب وازدانت عقولهم بنوره، وانزاحت عن
عيونهم ظلمة الجاهلية، فحفظوا كرامتهم بحفاظهم على كرامة المرأة العربية حين
أحسنوا إليها، ودفعوا إليها حقوقها؛ وحينئذٍ قامت المرأة المسلمة بإنشاء جيل صالح
قام ببناء الحضارة الإسلامية الزاهرة.
حين تلتزم المرأة بالإسلام دين الأخلاق والفضيلة فإنها تستمد منه كل أسباب
العفاف والكرامة؛ فهي إن كانت أختاً شرّفت أخاها، وإن كانت ابنة وقد أحسن
الأب تربيتها تكن له ستراً من النار، وإن كانت زوجة فهي نصف الحياة، والمسلم
لا يكتمل دينه إلا بالزوجة الصالحة التقية، وإن كانت أماً فهي نعم الأم المربية
الفاضلة وعليها عبء كبير في تنشئة الجيل القادم، فإن نجحت في تربيته التربية
الإسلامية فقد سادت الأمة وعظُم شأنها وإلا فقد هوت في وادي الضياع.
وحين تخرج المرأة من بيتها سافرة متبرجة تسقط من أعين الرجال وهي
تحسب أنها أعجبتهم إذ تثير فيهم الشهوات الحيوانية، فكيف تقبل الحرة بهذا؟!
وأية كرامة تسعى إليها بخروجها؟! وكيف ستقوم بتربية أبنائها؟! ومتى؟! وهو
الأنموذج السيئ القابع في أوحال الفجور، وهم بلا شك مقلدوها ومنها يرضعون
العقوق والعصيان والأخلاق المنحلة والشذوذ.
العجب كل العجب من فتاة تدين بالإسلام وتؤدي الصلاة وتصوم رمضان
ولكنها تخرج سافرة متبرجة منكرة قوله تعالى: [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] (النور: 31) ،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط
كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات
رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يُرحن ريحها، وإنَّ ريحها لتوجد
من مسيرة كذا وكذا» [1] ، وفتاة مثل هذه أقرب إلى النفاق ولا تعي من الصلاة
والصوم شيئاً.
تلهث المرأة في مجتمعاتنا العربية للحاق بركب المرأة الغربية، فتسارع في
تقليدها الأعمى: في لباسها وخروجها للعمل ومخالطتها للرجال بشتى الوسائل،
وهي تظنّ أنها بلغت الحرية التي حُرمت منها في الإسلام، وقد أصاب هذا التقليد
عين المرأة وعقلها بالغشاوة، فلم تعد ترى ما حلّ بالمرأة الغربية من ذل وهوان
وانحلال، وأنها باتت في قيود الرذيلة والفجور.
وإذا نظرنا إلى حجة بعض النساء اللواتي يخرجن للعمل لأدركنا أنها تريد
التقليد الأعمى، فهي تخرج للعمل بذريعة مساعدة الزوج، فأين ثمار تلك المساعدة
وهي تنفق كل ما تحصل عليه على الأزياء وأدوات الزينة؛ لتظهر أنيقة جميلة في
أعين زميلاتها وزملائها في العمل؟ وعلاوة على ذلك فهي تُلقي أبناءها في مهب
الضياع حين تتركهم بين يدي خادمة أجنبية لا تحسن التربية.
تملك المرأة بإسلامها وعفتها مصير الأمة ورفعتها وشموخها وحفظ مكانتها بين
الأمم؛ فأية مكانة أسمى من تلك المكانة التي تسعى إليها في ظل الإسلام؟ فرفقاً
أيتها المرأة بنفسك ومجتمعك الذي تهدمت أركانه؛ فالمجتمع لا ينجو إلا بك؛ فمتى
تُدركين ذلك؟!
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 3971.(151/139)
المنتدى
مكتي واحتي
محمد حمادو أحمد
أيا أم القرى! أهلاً وسهلاً ... إليك تحيتي جبلاً وسهلا
فضائل مكة الإسلام تترى ... على الآفاق، والظلمات تُجلى
ففيك منابع الآيات تُتلى ... وتنبض بالمنى قولاً وفعلا
وقلبك خافق والشوق يسمو ... على قسمات وجهك قد تجلى
ووجهك مشرق والشمس تجلو ... غشاء الليل والصلوات أحلى
رأيت جبال مكة مشرقات ... وترفع رأسها في الكون أعلى
وماء عيون مكة سلسبيلٌ ... ويأتي بالشفا عقلاً ونقلا
وكم في مكتي من معجزات! ... وكم رفعت لواء الحق عدلا!
إليك مواكب الحجاج تهفو ... وجاءك كل من زكَّى وصلى
سيبقى حبك المعقود فينا ... مدى الأعوام أحوالاً فحولا
ومدحك واجب فرض علينا ... لأنك واحتي طفلاً وكهلا(151/140)
المنتدى
ملكة جمال الحظايا والجواري
تركي بن عتيبي الغامدي
عندما كان يشرح لنا مدرس مادة التاريخ في الصف الرابع الابتدائي حال
العرب في الجاهلية، وكيف كانت معيشتهم مع الإنسان الآخر المرأة تحديداً كانت
تدور في رأسي الصغير مشاهد أسطورية لنساء وُضِعْنَ على دكة وسط السوق أشبه
بتلك التي توضع اليوم لعارضات الملابس العارية وأخواتهن بداعي الجمال والغنج
والإغراء فينادي النخاس على بضاعته من السبايا والإماء، فيتقدم هذا ويتقدم ذاك،
يقلِّب هذه ويتأمل تلك، فيدفع الثمن قلَّ أو كثر، فهو ثمن بخس، والحظ الوفير
لمن كان سيدها ذا مال وجاه.
إنها صور منوعة أشبه بما يدور اليوم في غير مكان من هذا العالم المجنون
لانتخاب الحظايا والجواري، حظايا لأصحاب النفوذ وأرباب المال والمتاجرة
بالأجساد، وجوارٍ في شارع الليل والبغاء، والفرق الوحيد ذهاب الإماء والعبيد
اليوم طواعية إلى السوق الكبير!
فمن يضع صوته في صندوق انتخابات الفاضلات؟
ومن يحتج على هذا الامتهان لكرامة جعلها الله عز وجل لبني آدم؟
ولكن كيف يحدث ذلك الاحتجاج، ما دام الحياء مذبوحاً على قارعة الطريق
تلبية لنداء الشيطان لمشاهدة سطوته على جسد المرأة، وتفننه في إغوائها؟
وكيف يحدث ذلك الاحتجاج، والرجل أيضاً لتلك السطوة يُساق بين الجموع
عارياً لعرض ما يحمله حتى بين.. .؟!
وكما قال صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى:» إذا لم تستحِ فافعل ما شئت «.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.(151/140)
المنتدى
إن نصراً لقريبٌ
عبد الرحمن عبد الهادي العمري
أي حالٍ، مسلمون! ... كلَّ يومٍ تشتكون!
في بلاء، في مآسٍ ... في قبورٍ تسكنون!
في دموعٍ، في دماءٍ ... في شكاوى تقطنون!
إن نظرتم في شمالٍ ... أو نظرتم في يمين!
ما لقيتم غيرَ طفلٍ ... في بلاءٍ، في أنين!
أو ثكالى قد سكبن الدم ... معَ سكباً في هتون!
أي كربٍ قد دهاكم ... كل يومٍ في شجون!
جمرةٌ تحرق قلباً ... أيها الكون الحزين!
إنّ نصراً لقريبٌ ... إن غدونا صالحين!(151/141)
المنتدى
ما أحوجه إليك الآن!
خديجة الأحمدي
الحمد لله الذي جعل الدين يسراً وليس بعسر، وجعل السبيل إلى الجنة سهلاً
يسيراً إلا أنه محفوف بالمكاره، والنفس قد جبلت على حب الكسل والدعة، فنرانا
نترك أشياء سهلة قد تدخلنا الجنة بسبب لهو أو نسيان أو تقصير.. ولكن الله بعباده
خبير؛ فقد رزقنا نعمة الأخوة في الله وهي هدية غالية؛ حيث إن أخاك في الله إذا
رآك على منكر نصحك، وإذا رآك ناسياً ذكَّرك، وإذا رآك متهاوناً وعظك، وإذا
رآك جاهلاً علَّمك.
قال الشافعي رحمه الله: «من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه
علانية فقد فضحه وشانه» [1] . وقد جاء في الأثر: «مثل الأخوين مثل اليدين
تغسل إحداهما الأخرى» . ففي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان قد آخاه فخرج
إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال: ما فعل أخي؟ قال: ذلك أخو
الشيطان. قال: مَهْ. قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر. قال: إذا
أردت الخروج فآذنِّي؛ فكتب عند خروجه إليه: بسم الله الرحمن الرحيم [حم *
تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ] (غافر: 1-3) . ثم عاتبه وعذله، فلما قرأ
الكتاب بكى وقال: صدق الله ونصح لي عمر. فتاب ورجع.
قال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه؛ فإنه يرتكبه
اليوم ويتركه غداً.
لذلك علينا بوصفنا إخوة في الله أن لا نترك أخانا إن رأينا فيه تغيُّراً، يكون
هنا أحوج منا إلى النصح والتذكير؛ فقد قال أبو الدرداء: «إذا تغير أخوك فلا
تدعه لأجل ذلك؛ فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى» وفي ذلك قال صلى الله
عليه وسلم: «لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم» [2] .
فيا إخوتي في الله! يا أيها المتحابون في الله! ويا أيها السائلون محبة الله!
إليكم جميعاً.. . إليكم البشرى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول:» حقت محبتي
للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وحقت محبتي
للذين يتباذلون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي « [3] .
__________
(1) عن كتاب الحب والألفة، للغزالي.
(2) أخرجه أحمد، ح/ 3955.
(3) أخرجه أحمد، ح/ 18621.(151/141)
المنتدى
أمتي الذبيحة
محمد بن مطخان الرويلي
يا أيها القلم الذي أمسكتُه ... ما لي أراك معانقاً أوراقي
ما لي أرى يمناي قد جرأتها! ... إياك يا يمناي أن تنساقي
بالله يا قلمي العزيز لترعوي ... أتريد كشف الجرح في أعماقي؟
أتريد تفجير الأسى من خاطري ... وتخطه نظماً على الأوراق؟
انظر إلى مسرى الحبيب محمد ... عبث الطغاة بخيره المهراق
فبنو يهود تغطرسوا في قدسنا ... قتلاً وتشريداً مع الإحراق
هذا وكشمير الجريحة تشتكي ... ظلم الجبان بحقده الدفاق
والصرب عاثوا في سراييفو سروا ... هتكاً وتنكيلاً بلا إشفاق
أما عن الشيشان إن دمارها ... ترك البلاد بذلة الإملاق
قد حار فكري بالتأمل في الألى ... قد أعراضوا عن طاعة الخلاق
وضعوا الدشوش لكي تُغيث دعارة ... وتبثها من أغلب الآفاق
عشقوا المعازف والخنا فهواهمُ ... أرداهم بمصارع العشاق
لو أنهم عادوا إلى قرآنهم ... لوجدت شعباً طيب الأعراق(151/142)
المنتدى
ردود
* الأخ: نايف عقاب المطيري: نشكر لك تعاونك الكريم مع مجلتك،
ونفيدك بأن اقتراحك محل عناية أسرة التحرير.
* الأخ: الداعية من تشاد: والذي أرسل مقالاً عن أحوال المسلمين في تشاد، نرجو إن يفيدنا باسمه حتى نتمكن من نشر المشاركة.
* الإخوة والأخوات: أمين عبد الرحمن الغنام، د. عبد الرحمن أمين،
ميمون بارميش، عبد الله بن شبيب الدوسري، حفيظ الدوسري، علي جبريل أمين، د. حمدي شعيب، داعية من تشاد، سميرة جدي، فاتن سعد الصويلح، أمل
القصيمي، فاطمة بنت محمد السليمان: وصلتنا مشاركاتكم الطيبة، سائلين الله عز
وجل أن يجعلها في موازين أعمالكم، آملين دوام التواصل والمشاركات مجازة
للنشر.
* الإخوة: عمر محمد رزق الله، سعود الصاعدي، حباب بن عطا الله
الحيوني، عبد الله منصور العمران، عبد الرحمن اليحيا، زكي صالح الحربول،
فهد بن عبد العزيز الشويدخ، محمد الباشا، عبد الرحيم أحمد المسجدي، محمد بن
عبد العزيز الفوزان، سعود بن حامد الصاعدي: سعدنا بتواصلكم الكريم مع مجلتكم، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجزة للنشر في المنتدى، وفقكم الله.
* الإخوة والأخوات: محمد معصوم رسول، علي عبد الرحمن العسيري،
موسى الزهراني، صلاح معاطي، عبد الله بن سيد شعبان، مبارك ابن يوسف
الخاطر، أحمد محمد أشرف، عمر الرماش، يوسف عبد المنعم زين، أحمد
الأموي، محمد محمد خليل، عصام محمد النيل، أحمد محمود أبو زيد، محمد
علي شماخ، علي سليمان الدبيخي، أبو عبد الله الرحابي، هدى مرهون المرعي:
وصلتنا مشاركاتكم الكريمة، وكم سعدنا بهذا التواصل، آملين دوام التواصل، مع
تمنياتنا لكم بالتوفيق في المرة القادمة.(151/142)
الورقة الأخيرة
الإرهاب الروسي
د. عبد الله هادي القحطاني
لم يبدأ الروس إرهابهم وغطرستهم ضد المسلمين منذ أشهر فقط، بل إن
تاريخ القوقاز تاريخ مليء بكراهية الروس للمسلمين ووحشيتهم في التعامل معهم،
كما أنه تاريخ مليء ببطولات المسلمين من أهل القوقاز وتضحياتهم وجهادهم
وتحديهم لكل عقيدة دخيلة وطغيان مستبد؛ فما عرفت شعوب القوقاز الذل يوماً رغم
تلاحق الإبادة والقمع القيصري أولاً، ثم اللينينيين ثم الستالينيين مروراً بالحقد
والإرهاب الروسي الحالي؛ فكل شعب له حق تقرير المصير إلا المسلمين؛ فما أن
نشأت أقلية من النصارى في تيمور الشرقية في خضم عشرات الملايين من
المسلمين حتى هبت لهم مؤسسات العالم بقضِّها وقضيضها لفرض قضيتهم؛ فتلك
تتدخل عسكرياً، والأخرى تقاطع اقتصادياً، وأما الذين لا نعلمهم فهبوا لإثارة الفتن
والانقسامات الداخلية، كيف يسوِّغ العالم الغربي احتفاله بألفيته الثالثة والتاريخ
يسجل وحشيته وطغيانه لأمم المستقبل بالحرب والعار والظلم والطغيان ليس برفات
ودم فقط بل بلهيب الصورة وصواعق الصوت من خلال وسائل الإعلام ليبقى
وصمة عار للمستقبل؟
إن الروس طغوا وبغوا وعاثوا في أرض المسلمين أسوأ الفساد؛ فقد خلفوا
أفغانستان خراباً، وأبادوا غالبية المسلمين في بلاد القرم، وسعَّروا هجمتهم على من
تشبث بالعزة منه وأبى الضيم والمهانة. حربهم في الشيشان حرب إبادة عرقية
دينية لا هوادة فيها لاستئصال شعب بأكمله وعقيدة برمتها. هم لا يريدون احتلال
الشيشان من أجل مصالحهم الاقتصادية والسياسية وإخماد أي تململ للجمهوريات
الإسلامية الأخرى فحسب، وإنما رغبة جامحة في إبادة ذلك الشعب القليل العدد
القوي الإيمان بدينه وعقيدته الذي ما فتئ يذيقهم الويل ويستعصي على الطوق لعقود
طويلة، ولكننا نؤمن بأن العاقبة للمؤمنين الصابرين مهما جار الباطل وزمجر
وأرعد.
ومن أهم الدروس التي أوضحتها هذه الحرب ضد من يطالب بحقه ويحرس
داره وأهله أن «العالم الحر» ! بمؤسساته وقوته الاقتصادية منحاز للباطل ما دام
يسير في فلكه ويحقق مصالحه، ولقد كانت فلتة من هنتنجتون حين أعلن أن العالم
يمر بصراع بين الحضارات، وخاصة الإسلامية والغربية. يتمركز ذلك الصراع
حول محورين أساسيين: العداوة التاريخية والمصالح الحيوية، وأدواتهما:
المقاطعة الاقتصادية، والحصار السياسي، والتدخل العسكري، وميزانها الكيل
بمكيالين؛ رغم تدخُّل كثير من الساسة الأمريكيين والغربيين لدحض مثل هذه
النظريات التي أثارت حفيظة كثير من المسلمين الغيورين الذين ما زال بعضهم
يظن بعض الخير في الوصولية الغربية.
فهلاَّ نهضنا لنصرة إخواننا في الشيشان وهم في أمسِّ الحاجة لدعائنا ووقوف
العالم الإسلامي بمؤسساته السياسية والاقتصادية والإعلامية وقفة صادقة مع الحق
ونصرة إخوانهم المظلومين؛ قبل أن يفوت الأوان؛ وحينئذ لات ساعة مندم.(151/143)
ربيع الآخر - 1421هـ
يوليو - 2000م
(السنة: 15)(152/)
كلمة صغيرة
بركة الرب في الخرطوم! !
(تعالَ واسمع ونَلْ بركتك من الله) ، (سوف تكون هناك صلاة للمرضى
والمحتاجين يومياً) . بهاتين العبارتين صُدِّرت الإعلانات الكثيرة الملونة التي ملأت
أنحاء الخرطوم، والتي تدعو للمشاركة في احتفالات عيد القيامة، وتبشر الناس
بوصول (القس رينهارد بونكي) إلى السودان.
وهذا القس معروف بإقامة هذه الاحتفالات الصاخبة التي يجتمع لها ألوف من
البشر، كما حصل في تشاد وإثيوبيا وأوغندا.. وغيرها. وهو مشهور بمزاولة
السحر والشعوذة والاستعانة بالجن، وادعاء شفاء المرضى.
وقد اجتمع في الخرطوم لتلبية هذه الدعوة جمع كثير من النصارى الذين
امتلأت بهم الساحة الخضراء وهي ساحة كبيرة أنشئت للاحتفالات الرسمية
الجماهيرية لحضور القدَّاس اليومي، إضافة إلى حضور الصلاة الخاصة بالمرضى
والمحتاجين، وافتتن بهذه الدعوة فئام من جهلة المسلمين من المرضى وذوي
الحاجات، وتقاطروا من كل مكان لينالوا بركة الرب ويحصل لهم الشفاء..!
وإنك لتعجب أشد العجب من تلك الأفواج الهائلة التي غصَّت بها الساحة
الخضراء، ثم تعجب أشد العجب من بعض المسلمين الذين تعلقوا بتلك التراتيل
النصرانية التي تشدَّق بها ذلك المنصِّر، وتحزن أشد الحزن حينما تراهم يستمعون
للتعاليم الإنجيلية التي يتردد صداها في أنحاء الخرطوم..!
إن هذا الاختراق التنصيري الصارخ للسودان حلقة من سلسلة طويلة من
الاختراقات التنصيرية التي أجلب فيها المنصرون بخيلهم ورجلهم، مستغلين فيها
جهل بعض الناس وفقرهم.
وقد كان لبعض الغيورين من الدعاة في السودان دور محمود في التحذير من
هذا المنكر، لكن الخطب عظيم، والمسؤولية كبيرة، وفي العدد (142) كتبنا في
هذه الزاوية كلمة بعنوان: (من ينقذ السودان؟ !) وها نحن نقولها ثانية. نسأل
الله تعالى أن ينصر دينه، ويُعلي رايته.(152/1)
الافتتاحية
عاجل.. إلى من يهمه الأمر
تشهد الحركة الإسلامية تراجعاً ملحوظاً، شهد بذلك كثير من المتابعين لشأنها، خاصة من أبنائها ومحبيها، كما شمت في ذلك أعداؤها ومناوئوها، وإن سلمنا
بذلك التراجع الذي نعده تراجعاً مركباً في الفكر والأداء والنوع فلا بد أن نقرر بدايةً
أننا حين نتحدث عن تراجع الحركة الإسلامية فإننا نتحدث عن ذواتنا، نتحدث عن
خلل فينا، نتحدث عن التراجع الذي حدث بداخلنا، هذا التقرير نؤكد عليه في
الوقت الذي بدأت تظهر فيه أصوات تطرق الباب ذاته، وهم من أبناء هذه الحركة، بل منهم من كان سبباً في بعض هذا التراجع بتقلباته المتشنجة وتحولاته المتعددة،
وهذه الفئة حين تتحدث عن تراجع الصحوة تستنفر كل مفرداتها المستفزة في تسفيه
الحركة، وتستدعي النائحات المستأجَرَات للمشاركة في هذا المأتم الكبير الذي
صنعوه، وقد ينصب بعضهم سرادقات العزاء في مجالسه الخاصة ومنابره
الإعلامية. إن هذا «المنهج الاستبرائي» مِنْ نسبٍ طالما تفاخروا بالانتساب إليه
مسلك خطير يطلب به القوم البراءة لأنفسهم في الوقت الذي لم يتهمهم فيه أحد،
ولكن يكاد المريب أن يقول خذوني.
أحببنا أن نؤكد على أن نقدنا للحركة هو نقد لأنفسنا للسعي في إصلاحها،
وليس عرضاً لأدلة الاتهام، ومن ثم إصدار الحكم وتنفيذه.
وإن من المسلَّمات أن المد والانحسار لأي دعوة هو من متلازمات سيرها إلى
هدفها، ودين الإسلام لم تخطئه هذه السُّنَّة؛ فقد شهد فترات مد كثيرة، وتراجعات
كثيرة كذلك، كما يشهد التاريخ أن الثورات وصحوات الأمم تشهد في بداياتها زخماً
كبيراً ونشوة قوية وسرعة في الحركة، ثم ما تلبث حين تمضي الأيام أن تفتر الهمم
والعزائم إلى أن يقيِّض الله لها من يجدد الدماء فيها، فتعود إلى سابق عهدها، أو
يكون عكس ذلك فتموت الأمة.
ولذلك تأتي المراجعة لأسباب التراجع خطوة هامة على طريق العودة لمعرفة
الخطأ والصواب، ولإدراك مواطن الضعف والقوة للاستفادة من تجارب خاضتها
الحركة وذاقت فيها طعم الإخفاق أو النجاح.
من أسباب التراجع:
يعزو بعض المتحدثين عن التراجع أن حدوثه راجع إلى أسباب خارجية
صرفة؛ فالكيد الغربي بيهوديته ونصرانيته وتحالفاته مع قوى الشر من المذاهب
الكفرية من جانب، وأذناب الغرب من المنتسبين إلى الإسلام، أو صنيعته من دول
الإسلام من جانب آخر، كان لهم الدور الأكبر في محاربة الدعوة، وهذه الحرب
الشرسة كانت السبب الرئيس في هذا التراجع.
ومنهم من يقصر سبب التراجع على الخلل الداخلي في الحركة بقصورها
الفكري في تطبيق منهج صافٍ بصورة مُرْضِية، أو بتشتتها وتفرقها، أو بأمراض
قلوبها التي لم تبرأ بعدُ من أدوائها.
ولا شك أن لكلا السببين أثراً في تراجع المسيرة المباركة، ولكننا نرى أن
النصيب الغالب لن يكون في كفة الكيد الخارجي؛ فقد قال الله عز وجل: [وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) فالكيد ينفذ ويؤثر
حين يضعف التحصين الداخلي ويغفل الحُرّاس. وعند الإمام مسلم عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: «.. . وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة،
وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا
محمد! إني إذا قضيت قضاءاً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة
عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم
من أقطارها أو قال: بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم
بعضاً» [1] .
إن الخطورة الحقيقية للخطر الغربي وتوابعه تكمن في عدم إدراك طبيعته،
وعدم التخطيط لكيفية التعامل معه؛ فإن من يسعى إلى أن يحوِّل كل الأرض أن
تصبح خاضعة لحكم الله وشرعه لا بد له أن يدرك هذه الهجمة الشرسة من بداية
سعيه هذا.
ولقد بلغت الغفلة عن هذا الخطر الداهم ببعضٍ أن جازف وارتمى في أحضان
الغرب يطلب الأمان الذي لم يجده في ديار المسلمين، فما نال عنب الغرب ولا تمر
الشرق.
لم تحسب بعض فصائل الحركة جيداً حساب القوى الدولية والإقليمية ولا
فهمت أهدافها إلا بعد زمن طويل تعرضت خلاله إلى خسارات كبيرة.
نعم كانت الهجمة شرسة! ولكن الأبواب كانت مشرعة، ولم يكن هناك
حراس للقلعة.
أما السبب الآخر، وهو الخلل الداخلي، ففيه من التعقيد والتكدير للنفوس ما
لا يعلمه إلا الله؛ فقد ولدت فصائل العمل الإسلامي المنتسبة لمنهج أهل السنة
والجماعة من أرحام فكرية مختلفة وإن جمعها نسب واحد إلا أن هذا النسب الجامع
«المنهج العام» لم يكن عاصماً لبعضها من الانزلاق إلى مخاطر كثيرة، وذلك
لعدم فهمها الصحيح المتكامل لهذا المنهج وتبعات الانتساب إليه، ونتج عن ذلك ما
أدى إلى التراجع الداخلي الذي كان من أسبابه:
1 - غياب كثير من العلماء عن توجيه الحركة؛ فقد كانت بدايات الصحوة
مقترنة بجهود شباب متحمسين من طلبة العلم، ولأن حركة كهذه بضخامتها لا
تستطيع أن توجهها عقول متوثبة للخير بمفردها، لذلك كان غياب العلماء عاملاً
مؤثراًَ في تشتت الجهود وتفرق الفرق؛ حيث الجميع أقران.
وفي الوقت ذاته لم يستفد أولئك الشباب من بعض علماء المؤسسات الدينية
الرسمية ممن عُرِفوا بالتقى والبعد عن الهوى، ولم يحرصوا على استمالتهم إليهم
والاستفادة من علمهم وخبرتهم، بل لقد تم استعداء هذه المؤسسات بشكل سافر،
وختم أولئك على كل علمائها بخاتم «علماء السلطة» .
2 - ضعف الولاء للمنهج العام، وقَصْر ذلك على الفصيل المنتمى إليه، بل
تعدى الأمر ما هو أسوأ من ذلك؛ حيث صارت المعاداة والبراءة تقاس على أفكار
ذلك الفصيل وتوجهاته وسياساته.
3 - ضعف التربية القلبية والوجدانية لدى كثير من فصائل الحركة الإسلامية
مما أدى إلى ظهور أمراض أعلَّت القلوب وأوهنتها، وأبعدت النفوس عن طهارتها
وسلامتها، وأضرَّت النوايا والمقاصد، وأسلمت ذلك كله إلى الظنون والوساوس.
4 - عدم إدراك الحركة لماهية الواقع الذي تحياه وحجم المواجهة التي
تنتظرها؛ فقد تعاملت الحركة ببراءة الأطفال مع واقع تسيطر على سياساته ذئاب
شرسة ماكرة، وشياطين إنس أُشرِبوا العداوة لدين الله حتى استعذبوها.
5 - عدم ترتيب أوليات العمل، وذلك ناتج طبعي لتنوع الفصائل وتوجهاتها
الدعوية. صحيح أن تنوع الفصائل وتوجهاتها يفيد من حيث الجملة في توسيع
شريحة المنتسبين إلى الدعوة إلا أنه أضر بسبب عدم التنسيق. وبسبب الموالاة
على الخط الحركي للفصيل، وبسبب أمراض القلوب أضيرت الجهود والإمكانيات
والطاقات بتشتيتها: فمن رأى أهمية العمل السياسي وضرورة قصر الجهود عليه لم
يلتفت إلى من رأى أهمية التربية العلمية، والأخير لم يلتفت إلى من يرى أن الوقت
بحاجة إلى المواجهة والعمل الجهادي، فراح كلٌّ في وادٍ، وذهب كثير من الجهود
إما إلى خسارة بالغة، وإما إلى نجاحات باهتة، ونسي الجميع مع اختلافهم أن
عدوهم ينظر إليهم حتى عامة الناس أنهم جزء واحد؛ فمن أساء فعلى نفسه وإخوانه.
6- غياب العمل المؤسسي بشكل فاعل في إدارة الدعوة وتوجيهها وتخريج
طاقات علمية وعملية، وغياب هذه الفاعلية نشأ بسبب أن التوجه إلى هذا العمل
جاء متأخراً عن بدايات الصحوة، وعندما أدركت أهميته صار لكل فصيل مؤسسته
أو مؤسساته، فصار التحزب مؤسسياً! !
7 - ضعف توسيع قاعدة الخطاب الدعوي، وقصره في الغالب على فئات
معينة من المجتمعات، وتصنيف عامة الناس الخارجين عن فصائل الحركة
الإسلامية إلى جاهليين، ومن تلطف معهم قال: «نحن» و «هُمْ» فنأوا عن
أكثر الناس وعن الانسياب فيهم، في الوقت الذي استباحهم فيه أهل العلمنة،
فخسرت الحركة قاعدتها العريضة من الناس، وانحازت هذه الفئة إلى جانب
أعدائها في كثير من البلدان.
ولو حاولنا تتبع أسباب التراجع لطال حديثنا، ولكن أحببنا أن نذكِّر أنفسنا
بعيوبنا ونقف معها لنصحها وإرشادها إلى مواطن الضعف، وتنبيهها إلى مواطن
الخطر ومزالق الزلل.
وإن من الأهمية بمكان إدراك أن الوقوف على التوصيف لمسببات التراجع له
فائدته الكبيرة، لكن الفائدة الأكبر والواجب الأهم هو السعي لتغيير هذا الواقع
بتلافي ما سبق والاسترشاد بنتائجه.
ولا يُظن أن الدعوة من بداياتها إلى منتهاها لا تخرج عن طريقها أو تقف
أثناء سيرها، أو أن هذا الطريق سيكون مفروشاً ورداً وأزهاراً، هذا كله نعلمه
«نظرياً» لكن هذا التراجع الذي نراه اليوم جعله لدينا «علم يقين» .
وإن كان من كلمة أخيرة فلن تكون إلا الدعوة إلى الائتلاف الصادق، وترك
العداوة والمبالغة فيها، وإن لم نتفق فلا أقل من أن لا يرى عدونا تناحرنا، وإن لم
نتوحد فبالإمكان أن ننسق، وإن لم ننسق فيبقى الود في القلوب قائماً، والمحبة في
النفوس وافرة، وإن لم تكن المحبة على هذه الصورة فلا أقل من ترك الكراهية
والمعاداة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة، ب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ح/2889. ...(152/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أحكام الرطانة
د. عبد الرحمن آل عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
وبعد:
فإن الله تعالى قد حبانا بلغة عظيمة هي لغة الرسول الخاتم صلى الله عليه
وسلم والكتاب الكريم الذي لم ينزل قبله مثله، ولن يُنزِل كتاباً بعده، فهو آخر
الكتب الإلهية.
وإن مِنْ شُكْرِ هذه النعمة أن نُحافظ على هذه اللغة ونعتز بها، وأن نعلمها
الأجيال، ونبعث في نفوسهم محبتها والحفاظ عليها. ومن الاعتزاز بها أن تكون
وسيلة مخاطباتنا دائماً بحيث لا نلجأ إلى غيرها من غير حاجة، وكما أن هذا يُعد
من الوفاء لهذه اللغة فهو كذلك من جملة الأمور التي تحفظ للأمة كيانها بل
شخصيتها التي تميزها عن غيرها.
كما أن ذلك من الأمور التي تُؤثر في قلب الإنسان ونفسه ومزاجه المعنوي،
وقد قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بقوله: «واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر
في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة
من الصحابة والتابعين. ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق» [1] .
وذلك أن التكلم بلغة قوم فيه نوع محاكاة لهم، ولا يخفى أثر المحاكاة على
نفس صاحبها.
«وأيضاً فإن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم
الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب» .
ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية. وهذا
معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي
موسى رضي الله عنه: «أما بعد: فتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه
عربي» . وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا العربية؛
فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم» وهذا الذي أمر به عمر
رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يُحتاج إليه؛ لأن الدين فيه
أقوال وأعمال؛ ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه
أعماله « [2] .
وبهذا تعلم أن هذه مسألة شرعية ينبني عليها بعض الأحكام الشرعية؛ ذلك أن
الكلام بغير لغة العرب على قسمين، يتفرع عن كلٍ منهما نوعان على النحو الآتي:
القسم الأول: وهو ما كان من قبيل الألفاظ المفردة كأسماء الأشخاص أو
الشهور أو الآلات أو غيرها، وهو نوعان:
النوع الأول: ما كان باقياً على أعجميته أي: أنه لم يُخالط اللغة العربية ولم
يداخلها حتى يصير كأنه واحد من ألفاظها، وهو نوعان:
الأول: أن يكون من الألفاظ التي لا يُعرف معناها.
قال حرب الكرماني رحمه الله:» باب تسمية الشهور بالفارسية «قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف [3] ؟ فكره ذلك أشد الكراهة.
وروى فيه عن مجاهد حديثاً: أنه كره أن يقال: آذرماه [4] ، وذي ماه [5]
قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ
الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك
الأسامي اسم يكره فأرجو. قال: وكان ابن المبارك يكره (إيزد) أن يحلف به،
وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية. قال:
وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس. قال: كل اسم
معروف في كلامهم فلا بأس» [6] .
وقد وجه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله قول الإمام أحمد في كراهة هذه
الأسماء بأن الاسم الذي لا يعرف معناه يحتمل أن يكون له معنى محرم، والمسلم لا
ينطق بما لا يعرف معناه [7] .
وقال: «إن جهل معناه فأحمد كرهه» [8] .
الثاني: ما له معنى معروف. وهو على نوعين:
أ - ما كان له معنى محرم.
فهذا يُمنع بلا ريب من باب أوْلى؛ حيث مُنع ما لا يُعرف معناه [9] .
ب - ما كان له معنى غير محرم؛ فهذا على نوعين:
1 - أن يتكلم به لحاجة كأسماء بعض المصنوعات أو المصطلحات العلمية
ونحوها مما لا يعرف لها مقابل في العربية أو كان السامع لا يفهم مراده إلا باللفظ
الأعجمي [10] فلا بأس بالتكلم بها في هذه الحال؛ لكن ينبغي السعي في تعريبها
حفظاً للغة العربية من الضمور والانحسار.
2 - أن يتكلم به لغير حاجة، وله صورتان:
الأولى: أن يقع ذلك منه على سبيل الإعجاب بالأعجمية ومحبتها وإيثارها
فهذا لا ينبغي، وفاعله مبتلى بالنقص والهزيمة النفسية.
الثانية: أن لا يكون منشأ ذلك محبة الأعجمية والإعجاب بها؛ والذي يظهر
أن هذا على قسمين:
1 - أن يكون ذلك قليلاً أو نادراً. وهذا لا حرج فيه إن شاء الله. قال
البخاري رحمه الله: «باب من تكلم بالفارسية والرطانة» [11] .
وأورد تحته ثلاثة أحاديث، الأول: حديث جابر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير فتعالَ أنت ونفر. فصاح
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سوْراً،
فحيَّ هلا بكم» [12] .
والشاهد هنا في قوله: «سُوْراً» بضم السين وسكون الواو وهو الطعام
مطلقاً أو الطعام الذي يُدعى إليه. وهو بالهمز (السُّؤر) بقية الشيء. قال الحافظ
: «والأول هو المراد هنا» [13] ونقل عن الطبري أنه من الفارسية. قيل له:
أليس هو الفضلة؟ قال: لم يكن هناك شيء فضل ذلك منه، إنما هو [أي معناه]
بالفارسية: من أتى دعوة « [14] .
الحديث الثاني: حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد؛ قالت:» أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعَلَيَّ قميص أصفر قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: سَنَهْ سَنَهْ « [15] . قال عبد الله (وهو عبد الله بن المبارك رحمه الله أحد
رواة هذا الحديث) : وهي بالحبشية: حسنة. والشاهد فيه قوله:» سَنَهْ سَنَهْ «
بفتح النون وسكون الهاء، وفي بعض الروايات:» سناه «بزيادة ألف. والهاء
فيهما للسكت وقد تحذف؛ وقد جاءت بعض الروايات بحذفها.
وأم خالد رضي الله عنها وُلِدت في الحبشة، وقدمت مع أبيها وهي صغيرة.
والحديث الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه:» أن الحسن بن علي
أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
بالفارسية: كخ، كخ! أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة؟ « [16] .
فقوله» كخ، كخ «كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يُستقذر، قيل
عربية، وقيل أعجمية، وذهب بعضهم إلى أنها مُعرَّبة [17] . وصنيع البخاري يدل
على أنه يرى أنها أعجمية. والله أعلم.
قال الحافظ: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة أعجمية؛ لأن الأول
يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله:» حسنه «
محرف أوله إيجازاً، والثالث من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن
المنيِّر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به
الرجل مع الرجل؛ فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته. قلت: وبهذا يُجاب
عن الباقي» [18] .
ولعل هذا الأخير لا يظهر؛ لأن هؤلاء جميعاً كانوا من العرب.
ويحتمل أن الأول والثالث من قبيل الدارج في لغة العرب الذي صار من جملة
الألفاظ المستعملة عند أهل العربية.
وأما الثاني وهو حديث أم خالد فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
قاله لهذه الجارية الصغيرة على سبيل الملاطفة والمداعبة لكونها قدمت من الحبشة؛
والغالب أنها تعرف بعض كلامهم. والله أعلم.
ومما ورد في هذا الباب ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه [19] ، وساقه
الذهبي بسنده [20] عن علي رضي الله عنه أنه قال للقاضي شريح وقد حكم في
قضية بين يديه فأعجبه حكمه: «قالون» وهي بلسان الروم بمعنى: أحسنت أو
جيِّد. ولم يكن شريح رومياً ولا مقيماً في أرض الروم، بل كان من كندة في أهل
اليمن، وولي القضاء في الكوفة ستين سنة.
ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وفيه من لا يُعرف أن أبا هريرة رضي الله
عنه أشرف على السوق فقال: سحت وداست [21] .
وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن منذر الثوري قال: «سأل رجل ابن الحنفية
عن الجبن فقال: يا جارية: اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به ينيراً [22] ، فاشترت به
ينيراً ثم جاءت به» [23] يعني: الجبن.
وذكر القرطبي وعزاه للخطيب عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت
عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما
قام بالباب قال: أندر؟ قالت: أندرون [24] .
وقال القرطبي: وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل
أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: (أندرون) فلقبه أهل
المدينة «الدراوردي» [25] و (أندرون) كلمة فارسية تعني: «داخل، باطن»
ونحو ذلك.
وقال حبيب بن أبي ثابت: «كنا نسمي أبا صالح: [26] » دزوزن «وهو
بالفارسية: كتاب» [27] .
فهذه الآثار تدل على أن السلف كانوا يتكلمون في أحيان قليلة بالكلمة من
الأعجمية.
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: «ونُقِل عن طائفة منهم أنهم كانوا
يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية.
وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون
ذلك إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام
عليه» [28] .
2 - أن يكثر ذلك مع عدم الحاجة؛ فهذا ينبغي أن يُجتنب.
قال الشافعي رحمه الله: «سمَّى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع
تجاراً، ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا
نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً، إلا تاجراً. ولا ينطق بالعربية فيسمي
شيئاً بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به
كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول:
ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأوْلى بأن يكون
مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية» [29] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي
بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن
الصحابة والتابعين» [30] .
النوع الثاني: من القسم الأول [31] : وهو ما خالط كلام العرب ودخل في
لغتهم حتى صار بمنزلة مفرداتها الأصيلة، وهو المُعرَّب وما في حكمه. وهو
نوعان:
أ - ما استعملته العرب قبل اختلاط ألسنتها [32] .
فهذا معدود في حكم كلام العرب ولا غضاضة في استعماله [33] .
ب - ما دخل على اللغة بعد اختلاط الألسنة، وقد وقعت الجمهرة من ذلك في
القرنين الأخيرين؛ ذلك أن أكثر بلاد المسلمين وقعت تحت سيطرة أعدائها، إضافة
إلى أن الأمة صارت تستقبل من غيرها أشياء كثيرة من الثقافة والصناعة وغير ذلك
فتستقر اللفظة في الأمة غالباً بثوبها الذي جاءت به من حيث التسمية وغيرها.
فصار الناس ينطقون بتلك الألفاظ الأعجمية نطقهم بالعربية دون تنبه أو تمييز
لأصلها؛ فهم حين يتلفظون بها لا يقصدون التكلم بالأعجمية سواء كانوا عالمين
بأصلها أم لم يكونوا كذلك.
وفي هذه الحال لا يُعد من صدر منه مثل ذلك محاكياً للأعاجم أو متشبهاً بهم،
ومن ثَمَّ فالحرج الشرعي مرتفع عنه.
لكن ثمة أمر آخر ينبغي مراعاته، وهو أن هذه الكلمات الدخيلة على اللغة
ينبغي استبدالها بالألفاظ التي تقوم مقامها في العربية، كما ينبغي أن يُنبَّه الناس إلى
أصل تلك المفردات ليكون ذلك معيناً على التخلص منها؛ ذلك أنها تزاحم مفردات
العربية وإذا كثرت فإنها تفسد اللغة من أساسها وتقوضها كما لا يخفى.
* فائدة: من عادة العرب إذا نطقوا بلفظة أعجمية أنهم يلقونها على طريقتهم
في النطق من غير تكلف، ودون ترقيق في اللفظ فضلاً عن نبرة الصوت،
وقاعدتهم في ذلك «أعجمي فالعب به» كما قرر ذلك بعض المتقدمين من أئمة
اللغة، وهذا على خلاف ما شاع في أوساط المثقفين من تمحُّل في إخراج
اللفظة مصحوبة بنبرتها الأعجمية.
القسم الثاني: ما كان من قبيل التراكيب والجُمل وليس من قبيل اللفظة
المفردة، وهو نوعان:
الأول: ما دعت إليه الحاجة فهذا لا بأس به كأن يكون المخاطب لا يعرف
العربية. لكن ينبغي أن تتضافر الجهود على بث العربية ودعمها بكل وسيلة ممكنة
حتى تكون هي لغة التخاطب بين العرب وغيرهم كما كان عليه الأمر في الأزمنة
التي كانت فيها القوة والغلبة للمسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما
سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلها رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة
أهلهما فارسية. وأهل المغرب، ولغة أهلها بربرية عوَّدوا أهل هذه البلاد العربية،
حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم. وهكذا كانت خراسان
قديماً» [34] .
ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت
عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه. إنما
الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي
الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه
معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى
فإنه يصعب.
الثاني: ما لم تدْعُ إليه الحاجة. وهو نوعان:
1 - ما كان الباعث له محبتها والإعجاب بها؛ فهذا لا ينبغي فعله سواء كان
قليلاً أم كثيراً ويُخشى على صاحبه أن يقع في النفاق العملي كما لا يخفى وهو من
ألوان محاكاتهم والتشبه بهم، وهذا يكثر وقوعه عادة بين من ابتُلوا بالهزيمة النفسية
لا سيما في أوقات ضعف الأمة وتراجعها؛ فالأمم القوية تسعى لفرض ثقافتها على
الأمم الضعيفة المغلوبة، وإنما يعبر ذلك كله على جسد اللغة.
ولغات الأمصار تكون عادة بلسان الأمة الغالبة عليها، ولما كان المسلمون
غالبين على غيرهم من الأمم صارت اللغة العربية هي لغة التخاطب في كثير من
البلاد التي هي في أصلها أعجمية [35] .
قال ابن حزم رحمه الله: «فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها
ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما
يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تَلِفَتْ
دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم
فمضمونٌ منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم
وأخبارهم، وبُيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة» [36] .
2 - ما لم يكن الباعث له الإعجاب بها ومحبتها. وله صورتان:
الأولى: أن يعتاد ذلك ويكثر منه. وهذا لا ينبغي أيضاً؛ لأن «اللسان
العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها
يتميزون» [37] .
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال: «ما تعلَّم الرجل
الفارسية إلا خَبُثَ [38] ، ولا خبث [39] إلا نقصت مروءته» [40] .
وأخرج عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سمع قوماً يتكلمون
بالفارسية، فقال: «ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟» [41] .
وأخرج عن عطاء قال: «لا تَعَلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم
كنائسهم؛ فإن السخط ينزل عليهم» [42] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه: «وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية
التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمِصْرِ وأهله، أو لأهل
الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو
لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه؛ فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما
تقدم» [43] .
الثانية: أن يقع ذلك نادراً؛ فهذا أسهل من الأول لكن ينبغي أن يُجتنب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) الاقتضاء، 1/470.
(2) ما بين الأقواس «» من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء، 1/470 471.
(3) أي لا يعرف معناها.
(4) أسماء لبعض الشهور في الفارسية.
(5) أسماء لبعض الشهور في الفارسية.
(6) نقلته بواسطة الاقتضاء، 1/ 461 462.
(7) انظر: الاقتضاء، 1/462.
(8) السابق، 1/462، وانظر نحوه، ص 464.
(9) السابق، 1/462، وانظر نحوه، ص 464.
(10) أخرج الطبراني في الكبير، 6/218، أن سلمان رضي الله عنه أصاب جارية فقال لها بالفارسية: صلِّي قالت: لا، قال: اسجدي واحدة إلخ.
(11) البخاري مع الفتح، 6/183، والرِّطانة بكسر الراء ويجوز فتحها هو كلام غير العربي انظر: الفتح، 6/184.
(12) البخاري في الجهاد باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (3070) ، 6/183، وأورده في موضعين آخرين، حديث رقم: (4101، 4102) .
(13) الفتح، 6/184.
(14) المرجع السابق.
(15) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (3071) 6/183، وذكره في مواضع أُخرى، انظر الأحاديث رقم: (3874، 5823، 5845، 5993) .
(16) البخاري في الجهاد، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، حديث رقم: (3072) ، وذكره في الزكاة، باب ما يُذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم: (1491) 3/354.
(17) انظر: الفتح، 3/355.
(18) المرجع السابق، 6/185.
(19) مختصر تاريخ دمشق، 10/297.
(20) السير، 4/103.
(21) مصنف ابن أبي شيبة، 9/12.
(22) هكذا في المطبوع وبعض المعاصرين يرجح أن صوابها: «نيزا» .
(23) المصنف، 9/12.
(24) الجامع لأحكام القرآن، 12/218.
(25) السابق، وذكره الذهبي في السير، 8/366.
(26) وهو أبو صالح مولى أم هانئ.
(27) نقله النسائي في الكبرى، 2/252.
(28) الاقتضاء، 1/ 468.
(29) نقلته بواسطة الاقتضاء، 1/465.
(30) نقلته بواسطة الاقتضاء، 1/465.
(31) وهو ما كان من قبيل الألفاظ المفردة.
(32) قال الأصمعي: «ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة، وهو آخر الحجج» تاريخ بغداد، 6/131 مختصر تاريخ دمشق، 4/87.
(33) على خلاف مشهور بين أهل العلم في أصله، هل هو أعجمي فأخذته العرب، أو العكس، أو أنه مما توافقت فيه اللغات إلخ.
(34) الاقتضاء، 1/ 469 470.
(35) لابن خلدون رحمه الله كلام مفيد في هذا الموضوع فراجعه إن شئت في المقدمة، ص 379.
(36) الإحكام، 1/31.
(37) ما بين الأقواس «» من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء، 1/463.
(38) هكذا في المطبوع، ولعلها: خبَّ: أي صار مخادعاً.
(39) هكذا في المطبوع، ولعلها: خبَّ: أي صار مخادعاً.
(40) المصنف، 9/11.
(41) المصدر السابق.
(42) المصدر السابق.
(43) الاقتضاء، 1/469.(152/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تقديس البشر
(2 - 2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
تكتمل الفكرة باكتمال عناصرها. وقد عرض الكاتب في (الحلقة الأولى)
لأصنافٍ من البشر تم تقديسهم مثل: (العُبَّاد، العلماء، والحكام) ثم ألقى الضوء
على بعض مظاهر هذا التقديس، ويتابع في هذه الحلقة بقية تحليلاته لعناصر هذه
الظاهرة حتى تتضح الصورة وتكتمل.
- البيان -
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن أسباب ظاهرة تأليه البشر وبواعثها فقد يتعذر
الإحاطة بتلك الأسباب نظراً لاتساع تلك الظاهرة وتعدد صورها وتنوع أنماطها.
لكن نسوق جملة من الأسباب الرئيسة مع تضمينها شيئاً من العلاج:
من أعظم أسباب تأليه البشر: ضعف التعلق بالله تعالى وضعف تحقيق
العبودية لله تعالى وحده لا شريك له.
فإذا ضعف تعلُّق العبد بربه، وانحسر تحقيقه لعبودية الله تعالى قوي تعلُّق
قلبه بغير الله، وصُبَّ في قلبه من العبودية للبشر بحسب ذلك؛ فما كان لبشر أن
يُستعبَد قلبه لبشر مثله إلا بسبب إخلاله بعبودية الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير ذلك: «كلما قوي طمع العبد في
فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له وحريته مما
سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه
عنه. وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه
لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبِّراً
لأمورهم، متصرفاً بهم؛ فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا
تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تتَحَكَّم فيه وتتصرف بما
تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو
أسيرها ومملوكها» [1] .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على تمام التعلق بالله
وحده [2] ، ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسألوا الناس شيئاً؛ فإن من احتاج إلى الناس نقص قدره عندهم وفاته من عبودية الله تعالى بحسب ذاك الاحتياج «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله؛ فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرَك به شيء» [3] .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «والله! ما صدق اللهَ في عبوديته مَنْ
لأحد من المخلوقين عليه ربَّانية» [4] .
ومما سطره ابن القيم في هذا الباب: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا
الله وحده، تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمَل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه
لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله
الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة
الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو
يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع
غيره.
فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق
ومحبته وخدمته» [5] .
ولذا كان اليأس مما في أيدي الناس أعظم التحرر من رق عبوديتهم، فأما إذا
طمع فيما عندهم فإن قلبه يتعلق بهم ويفتقر إليهم.
«ولهذا يقال:
العبد حر ما قنع ... والحر عبد ما طمع
ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس
غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه.
وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه؛ فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا
يطمع فيه، ولا يبقى قلبه فقيراً إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من
الأمور ورجاه فإن قلبه يتعلق به فيصير فقيراً إلى حصوله وإلى من يظن أنه سبب
في حصوله» [6] .
وما أروع كلام ابن الجوزي إذ يقول: «والقناعة بما يكفي، وترك التشوُّف
إلى الفضول أصل الأصول، ولما أيأس الإمام أحمد بن حنبل نفسَه من قبول الهدايا
والصلات اجتمع همه وحسُن ذكره، ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكرهم.
ثم فيمن يطمع؟ إنما هو سلطان جائر، أو مُزَكٍّ منّان، أو صديق مُدِلٌّ بما يعطي،
والعز ألذُّ من كل لذة، والخروج عن ربقة المحنة ولو بسفّ التراب» [7] .
ولما أعرض قوم فرعون عن عبادة الله تعالى اشتغلوا بتأليه فرعون حتى
صدَّقوه في دعواه [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) وما كان لفرعون
أن يدعي ذلك لولا أن قومه خارجون عن عبادة الله تعالى فاستخفهم فأطاعوه،
كما قال عز وجل: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ]
(الزخرف: 54) .
يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية: «واستخفاف الطغاة للجماهير
أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون
عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما
يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثَمَّ
يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال
مطمئنين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون
على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يَزِنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون
فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح، ومن هنا يعلل
القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ] (الزخرف: 54) » [8] .
ومن أسباب تأليه البشر وبواعثه: الغلو في محبة البشر وتعظيمهم وإطرائهم؛
فهؤلاء النصارى لما غلوا في إطراء عيسى عليه السلام جعلوه إلهاً من دون الله
تعالى.
كما قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ] (النساء: 171) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «ينهى تعالى أهل الكتاب عن
الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى؛ فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى
رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً
من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه
على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً،
أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال الله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة: 31) [9] .
ومن حكمة الشارع أنه نهى عن الغلو وحذّر منه أيما تحذير، حتى قال صلى
الله عليه وسلم:» إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو
في الدين « [10] .
كما قرر عجز البشر وضعفهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا
يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ومن الظواهر المؤسفة في الواقع والإعلام: الغلو في الإطراء، والمبالغة
الممجوجة في المديح لا سيما إن كان ذاك الإطراء المكشوف صادراً عمن ينتسب
للعلم!
فما أسمج أن يبادر هؤلاء بإطلاق المدائح جزافاً تجاه قوم لم يُعرَفوا إلا بالظلم
والفجور! وكما قال الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله أثناء حديثه عن ذاك المديح:
» إن إطراء الشيوخ للحكام ومسارعتهم المريبة إلى تهنئتهم في كل مناسبة،
وتعزيتهم في كل مصيبة بأسلوب يكتبه الأرقاء والأتباع، ويتنزه عنه الرجال
الأحرار، هذه الظاهرة التي تدل على داء عياء بالقلوب، قد غضت من شأن الدين
ومنزلته لدى العامة.
وقد تذاكر الناس أن شيخاً كبيراً من جلة العلماء كما يقولون كان في المرض
الذي يُسقِطُ عنه الصلاة لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية، على حين كان
الدكتور طه حسين وموقفه من الدين معروف يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقدر! !
هذا في الوقت الذي شُطبت فيه ميزانية الأزهر، وأُرسل المال سيلاً غدقاً إلى
وزارة المعارف التي كان يشرف عليها آنذاك طه حسين « [11] .
ومما يحسن ذكره ها هنا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه قال:» سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في
المدحة فقال: «لقد أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» [12] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: حاصل النهي أن من
أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة؛
فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به، ولذلك تأوّل
العلماء في الحديث الآخر» احثوا في وجوه المداحين التراب «أن المراد من يمدح
الناس في وجوههم بالباطل، وقال عمر: المدح هو الذبح، قال: وأما من مُدِحَ بما
فيه فلا يدخل في النهي، فقد مُدِح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب
والمخاطبة ولم يحثُ في وجه مادحه تراباً» انتهى ملخصاً [13] .
وإذا كان مدح الشخص بما فيه لا يأمن أن يحدث فيه كبراً أو إعجاباً أو فتوراً
عن العمل الصالح فكيف إذا مُدِح الشخص بما ليس فيه مما يعدّ كذباً وباطلاً؟ بل
وما ظنك بمن يُمدح بنقيض حاله! كمن يُمدح بأنه أكمل الناس بِراً وعدلاً، وهو في
الحقيقة أعظم الناس فجوراً وظلماً.
وكم أفضت كثرة المديح والإطراء إلى الولوغ في آفات الكبر والغرور
والعُجب، ومن ذلك أن عبد الله بن زياد بن ظبيان خوّف أهل البصرة أمراً،
فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من نواحي المسجد: أكثر الله فينا مثلك.
فقال: لقد كلفتم الله شططاً.
قال الماوردي معلقاً على حال هذا المغرور وأشباهه «فانظر إلى هؤلاء كيف
أفضى بهم العُجْب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين، ومثلاً في الآخرين، ولو
تصور المعجَب المتكبر ما فُطِرَ عليه من جِبِلَّة، وبُلي به من مَهْنة لخفض جناح
نفسه، واستبدل ليناً من عُتُوِّه، وسكوناً من نُفُوره، وقال الأحنف بن قيس: عجبت
لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر» [14] .
ومن أقبح الغلو في محبة الأشخاص وأشنعه: عشقهم واستغراق القلب في
ذكرهم ووصلهم؛ حتى آلَ بهم العشق إلى الكفر بالله تعالى وسوء الخاتمة، كما في
قصة عاشق أسلم [15] الذي أنهكه العشق وأتلفه، حتى أنشد عند موته:
أسلم يا راحة العليل ... رفقاً على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل [16]
فعياذاً بالله تعالى من مصارع السوء ومن الحَوْر بعد الكَوْر.
وهذا رجل كان يجاهد مع المسلمين فعشق نصرانية فتنصّر من أجلها [17] ،
وثالث كان مؤذناً فشغف قلبه بنصرانية فارتد عن الإسلام وتنصر ومات على
ذلك [18] . ورابعهم كان متنسكاً عابداً فهوى شخصاً فتهتك وأظهر الخلاعة
والفجور [19] .
«كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ينشد:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الخزي والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار [20]
ومما يجدر ذكره أن هؤلاء المعظَّمين من البشر يُضفون على أنفسهم أنواعاً
من الهالات والبهرجة والأبهة والرسوم التي تسلب عقول السذج والرعاع، وتشغل
قلوبهم بالمهابة والتقديس لأولئك المتألهين، وعندما قارن الشيخ علي الطنطاوي
رحمه الله بين حجاب المتبرجات، وحجاب الأمراء قال:» والحجاب عند الصنفين
زينة وفخر، ولو كان النساء عاريات أبداً كسائر المؤنَّثات.. . من باقي المخلوقات
لفقدْنَ تسعة أعشار فتنتهن ونصف العشر أيضاً، ولو تعرّى الأمراء عن الشارات
والزينات والأبواب والحُجَّاب لخسروا مثل ذلك من هيبة الحكم « [21] .
وها هي قبور الأموات إذا بُني عليها وأُسرجت وزُيّنت أورثت تأليهاً لأولئك
المقبورين، فكيف ببهرجة الأحياء من ذوي النفوذ والتأثير ورسومهم؟ !
وكما قال العلاَّمة الشوكاني رحمه الله في أثر بناء القبور وتزيينها:» إن
الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على
القبور الستور الرائعة والسرج المتلألئة، وقد سطعتْ حوله مجامر الطيب، فلا شك
ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا
الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه العقائد
الشيطانية « [22] .
ومن أسباب تأليه البشر: إلغاء دور العقل وطمسه عن التأمل والتفكر، ولمَّا
غلب على المتصوفة وكذا غلاة الشيعة تحجيم العقل وإهماله استحوذ عليهم تقديس
البشر وتأليههم.
إن تحرير العقل من رق تقديس الأشخاص إنما يكون بالتفكر وإمعان النظر
والتأمل، والحذر من وصاية الآخرين وهيمنتهم، وعدم قبول الدعاوى إلا ببينة
وبرهان.
ولذا فإن المجتمعات التي يعمها الجهل وتقليد الآخرين والتبعية العمياء تكون
ذليلة منقادة لكل ناعق، كما وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله
عنه هذا الصنف بقوله:» همج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم،
ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق « [23] .
ولابن هبيرة كلام جميل في شأن التدبر والتأمل وخطر وثنية التقليد؛ حيث
قال رحمه الله:» ومن مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن؛ لعلمه أن
الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في
القرآن تورعاً. ومنها أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله، مثل أن يَبين
الحقُّ، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليداً للمعظَّم عنده، قد قدَّمه على الحق « [24] .
وتحدّث الكواكبي عن التلازم بين استبداد المتألهين وبين الجهل وإهمال العقل
فكان مما قاله:» بين الاستبداد والعلم حرب دائمة وطراد مستمر، يسعى العلماء
في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام.
ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا «. العوام
هم قوت المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته،
ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري
بعضهم ببعض فيفتخرون بسياسته، وإذا سرف في أموالهم يقولون: كريم، وإذا
قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيماً.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل
والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف» .
- إلى أن قال -: «والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل
إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل،
والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم
في تنوير أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون
بهم» [25] .
ومن أسباب تأليه البشر وبواعثه: الطاعة العمياء والاستجابة المطلقة
للمتألهين؛ وإنما استكبر من استكبر من الفراعنة والجبابرة لأنهم وجدوا من الرّعاع
من يسارع إلى إجابة أهوائهم وإطاعة نزواتهم دون بصر أو حذر فعتوا في
الأرض وعلوا علواً كبيراً.
وفساد الأديان الأولى جاء من طراوة الأتباع في أيدي رؤسائهم، وتحولهم مع
مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مسيَّرة لا فكر لها ولا رأي.
إن الفراعنة والأباطرة تألهوا؛ لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي.
والأحبار والرهبان والبابوات تألهوا كذلك؛ لأنهم وجدوا رعايا تمنحهم الثقة
المطلقة وتلغي وجودها الأدبي أمام ما يصدرون من أحكام، والشعوب التافهة في كل
زمان ومكان هي التي تصنع المستبدين وتغريهم بالأثرة والجبروت « [26] .
ومن ثم فينبغي الاعتناء بضوابط الطاعة وشروطها؛ فإن الطاعة العمياء
والاستجابة المطلقة للحكام لا تقل ضرراً وفساداً عما يضادها من الطيش والفوضى
دون طاعة لحاكم أو أمير.
ومن تلك الضوابط: أنه لا طاعة مطلقة إلا للرسل عليهم السلام فليس من
المخلوقين من أمره حتم بإطلاق إلا الرسل عليهم السلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد:» من نصب إماماً فأوجب
طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛
حيث جعلوا في كل وقت إماماً معصوماً تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد
الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء « [27] .
ومن هذه القيود: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما في قصة
سرية عبد الله بن حذافة رضي الله عنه عندما أمر أصحابه بأن يوقدوا ناراً
ويدخلوها؛ فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:» لو دخلوها ما خرجوا
منها أبداً؛ إنما الطاعة في المعروف « [28] .
ومما قاله ابن القيم في شأن تلك الحادثة:» وإن كانوا مطيعين لولي الأمر فلم
تدفعهم طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله؛ لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه
فهو مستحق للوعيد؛ فإذا كان هذا حكم من عذب نفسه طاعة لولي الأمر، فكيف
من عذّب مسلماً لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر.
وأيضاً فإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم
طاعة الله ورسوله بذلك الدخول، فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة
الرغبةُ والرهبة الدنيوية؟ « [29] .
ومن ضوابط الطاعة أنه ليس للسلطان أن يلزم بمسائل الاجتهاد إن لم يكن
معه دليل من كتاب أو سنة، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في
مناظرته خصومه بشأن العقيدة الواسطية، كما قررها أثناء محنته في مصر سنة
706 هـ كما في مقدمة كتابه التسعينية. يقول رحمه الله:» وأما إلزام السلطان
في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق
المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك.
إلى أن قال: ومما يجب أن يُعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن
ينكر إلا بحجة وبيان؛ إذ ليس لأحد أن يلزم أحداً بشيء، ولا يحظر على أحد شيئاً
بلا حجة خاصة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عن الله « [30] .
ومن أسباب تأليه البشر: غلبة أرباب الاستبداد وهيمنة أهل العلو في الأرض
والفساد، وإنهاكهم في البغي والعدوان، واستفحال قمع النفوس وإتلافها.
وقد خلّف ذاك الاستبداد والطغيان ثماراً نكدة في حياة الناس، فعمّ الجبن
والمهانة والذل والاستكانة، فراج سوق النفاق، وأُهدرت الحريات، وشُلت
الطاقات، ونُهبت خيرات البلاد.
إن» الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا؛ فهو بلاء يصيب الإيمان
والعمران جميعاً.
وهو دخان مشؤوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد فلا
سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج! !
إن المستبدين ينبتون في مناصبهم نبتاً شيطانياً لا توضع له بذور، ولا تحف
به رعية، ولا تشرف عليه موازنة أو مشورة!
وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلا بد أن يفرض عليه تفاهته،
وأثرته، وفراغه.
بل تمادى المستبدون في كبت الحريات، حتى نهوا عن ذكر عمر الفاروق
رضي الله عنه [31] . فقال أحدهم: أنهى عن ذكر عمر؛ فإنه مرارة للأمراء مفسدة
للرعية [32] .
وذلك لما اشتهر به عمر الفاروق رضي الله عنه من تمام الإحسان
إلى الرعية، والقيام بحقوقها والرفق بهم، وإكرامهم والشفقة عليهم.
ومن ذلك أنه كتب إلى أمراء الأجناد: «لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا
تحرموهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم» [33] ، كما فرض عمر
عطاءاً لكل مولود في الإسلام [34] .
وكان يقول: «والله لأزيدن الناس ما زاد المال، لأُعدنّ لهم عدّاً؛ فإن
أعياني كثرته لأحثونَّ لهم حثواً بغير حساب؛ هو مالهم يأخذونه» [35] .
وكان يقول: «لو مات جمل ضَياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله
عنه» .
وقد كشف ابن خلدون عن عواقب الاستبداد والطغيان وما يخلفه من الضيم
وذهاب المنعة وضعف الأمم وفنائها فكان مما كتبه: «وأما إذا كانت المَلَكة
وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكف حينئذ من سَوْرة بأسهم وتُذِهب
المَنَعة عنهم» .
وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمُذهِبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم
يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سَوْرة بأسه بلا شك.
إلى أن قال: والأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء،
والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا مُلكِ أمرها عليها
وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل.
ثم قال: وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى
الاستخلاف الذي خُلِقَ له، والرئيس إذا غُلب على رياسته وكُبِحَ عن غاية عزه
تكاسل حتى عن شِبَع بطنه ورِيِّ كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي « [36] .
وتحدث ابن خلدون عن تأثير المغارم والضرائب في وقوع الذل والهوان فقال:
» إن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية، إلا إذا
استهونته عن القتل والتلف، وإن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية،
ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل
له الانقياد للذل، والمذلة عائقة؟
هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب
ملكة القهر « [37] .
إن إباءة الضيم خلق مجيد، وخصلة نابعة عن العزة والشجاعة، ولذا فهي
حاجز منيع تجاه الاستبداد والطغيان، فما أجمل أن يأبى أحدنا الضيم لنفسه أو أهله
أو أمته فيكره الظلم والاضطهاد والاستعباد.
لقد كان العرب في الجاهلية يأبون الضيم بكل حماسة وصلابة، ويضربون
لاحتمال الضيم أبشع الأمثال وأشدها تنفيراً منه، كما قال شاعرهم:
ولا يقيم على ضيم يُراد به ... إلا الأذلان: عَيْرُ الحي والوَتِدُ
هذا على الخسف مربوط برمَّته ... وذا يُشَجُّ فلا يرثي له أحدُ [38]
وقد كان الإسلام وسطاً تجاه هذا الخُلُق بين الإفراط والتفريط؛ فهناك من
تجاوز حد الاعتدال وأفرط في إباءة الضيم كما كان العرب في الجاهلية؛ حيث
كانوا لا يكتفون بالقصاص في القتال، بل يقتلون بالواحد جماعة من الناس [39] .
وأما الأنظمة الجاهلية المعاصرة المستبدة فإنها تسعى إلى استئصال هذا الخُلُق، ومسخ الشعوب إلى قطعان مذعنة، كما وصفهم الكواكبي بقوله:» المستبد يود
أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، وعلى الرعية أن تكون
كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شَرست، وعليها أن تكون كالصقور لا
تُلاعَب ولا يُستأثَر عليها بالصيد كله، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أَطَعِمَتْ أو
حُرمت حتى من العظام.
نعم! على الرعية أن تعرف مقامها: هل خلقت خادمة لحاكمها تطيعه إن
عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هي جاءت به
ليخدمها لا يستخدمها؟ ! والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون
بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته « [40] .
وتحدث الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله عن إباءة الضيم بكلام نفيس
فكان مما قاله رحمه الله:» هذب الإسلام إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي
يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقاً إسلامياً، أينما وجد الإيمان الصادق
وجدت إباءة الضيم بجانبه.
ألا تقرؤون فيما تقرؤون من الكتاب المجيد قوله تعالى: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] (المنافقون: 8) ؟ ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً
فيطأطئ له رأسه خاضعاً.
ووقاية الأمة من مهانة الضيم تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية،
ومعنوية إلى أن قال: وأما المعنوية فبتربية النشء على خلق الشجاعة وصرامة
العزم والاستهانة بالموت؛ فالأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً
وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف،
وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم على قدر ما تلد من
أبطال، وما تعده من أدوات الرمي والطعان.
متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبْكَ المظالمُ
ومن الحِكمة أن يعمل الإنسان للتخلص من الضيم بعد شيء من التدبُّر وإحكام
الرأي حتى لا تفضي به مكافحة الضيم الصغير إلى ضيم أفظع منه « [41] .
__________
(1) العبودية، ص 94 96 باختصار.
(2) انظر الرد على البكري، لابن تيمية، ص 337.
(3) الفتاوى، 1/39.
(4) انظر الفتاوى، 10/598.
(5) الفوائد، ص 77.
(6) العبودية، ص 89.
(7) صيد الخاطر، ص 267.
(8) في ظلال القرآن، 5/3194.
(9) تفسير ابن كثير، 1/558.
(10) رواه النسائي، ح 2/ 49، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1283.
(11) تأملات في الدين والحياة، ص 31، 32.
(12) رواه البخاري، ح/ 6060.
(13) فتح الباري، 10/ 477.
(14) أدب الدنيا والدين، ص 233.
(15) انظر: تفصيل القصة في المنتظم لابن الجوزي، 15/247 249، والبداية لابن كثير، 12/ 317.
(16) لكن أين يقع كفر عاشق أسلم مما سطّره صاحب» الأزقة المهجورة «متبجحاً بكفره البواح على لسان عاشقته حين تقول له:» أنا أعبدك يا هشام، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً «ثم تقول له:» إذاً أنت ربي ترحمني وتعذبني ألا تعلم أني أعبد كل ذرة فيك «رواية الشميسي، ص 164 171؟ وإذا كانت مقالة عاشق أسلم ردة وخروجاً عن الملة، فإن ما سوّده كاتب هذه الرواية ردة مغلظة ومحاربة لله ورسوله، وإفراط في العداوة والطعن في دين الله، وصاحب هذه الردة المغلظة لا يسقط عنه القتل وإن تاب بعد القدرة عليه كما حرره شيخ الإسلام في الصارم المسلول، 3/696، وأما المناقشة فقد لا تجدي كما يجدي إجراء حكم الردة، وكما قال ابن العربي رحمه الله عن كفر هؤلاء الزنادقة بأنه» كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه «العواصم من القواصم، ص 247.
(17) انظر تفصيل القصة في البداية لابن كثير، 11/64.
(18) انظر ذم الهوى، لابن الجوزي، ص 409.
(19) انظر تفصيل قصته في المنتظم لابن الجوزي، 10/71.
(20) روضة المحبين لابن القيم، ص 374.
(21) فكر ومباحث، ص 122.
(22) شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ص 17.
(23) جامع بيان العلم وفضله، 2/112، وقال الحافظ ابن عبد البر عن هذا الأثر» وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم.
(24) ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، 3/273.
(25) طبائع الاستبداد، ص 49، 51، 53 = باختصار.
(26) من معالم الحق، لمحمد الغزالي، ص 238، 239 = باختصار.
(27) الفتاوى، 19/69.
(28) رواه البخاري، ح/ 7145.
(29) زاد المعاد، 3/69.
(30) مجموع الفتاوى، 3/240، 245.
(31) الإسلام والطاقات المعطلة، لمحمد الغزالي، ص 50.
(32) انظر البداية لابن كثير، 9/66، 119.
(33) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 2/281.
(34) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 2/301.
(35) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 2/305.
(36) مقدمة ابن خلدون، 2/479، 480، 511، 512 = باختصار.
(37) المقدمة، 2/503 = باختصار.
(38) انظر رسائل الإصلاح، لمحمد الخضر حسين، 37، 38.
(39) انظر رسائل الإصلاح، لمحمد الخضر حسين، 37، 38.
(40) طبائع الاستبداد، ص 22، وانظر، ص 144.
(41) رسائل الإصلاح، ص 39، 41 = باختصار.(152/16)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الشمس آية من آيات الله
عظمتها، وتسخيرها، ومنافعها، ومصيرها
إبراهيم بن محمد الحقيل
آيات الله تعالى في خلقه كثيرة عجيبة سواء ما كان منها في السماوات من
أبراج وأفلاك ومجرات، أو ما كان منها على الأرض من عجائب النبات والحيوان
والبحار والسهول والجبال، أو ما كان منها في خلق الإنسان من أجزاء جسده
الكثيرة، وتعقيداتها الدقيقة. قال الله تعالى: [وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي
أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] (الذاريات: 20-22) .
ولو نظرنا في الأرض وما فيها من عجائب المخلوقات من كبير وصغير،
وقليل وكثير لتملكنا العجب من كثرتها وتنوعها واختلافها وتسخير بعضها لبعض،
ولو حاول الإنسان أن يظهر نسبته من بين المخلوقات التي يراها على الأرض لعلم
أنه لا يكاد يذكر، وأنه ذرة صغيرة من بين تلك المخلوقات. ثم لو قدر له أن يطلع
على ما في الكون من أفلاك ومجرات، وأنجم وبروج ومجموعات لهاله الأمر،
ولأيقن أن هذه الأرض العظيمة ببحارها وجبالها ونباتها وما فيها ومن عليها لا يكاد
يساوي ذرة في هذا الكون العظيم، وما لا يعلمه البشر ولم يكتشفوه من خلق الله
تعالى أعظم وأكثر، فيا لله! ما أعظم خلقه، وما أدق صنعه! ! وما عظمة
المخلوق إلا أكبر برهان على عظمة الخالق سبحانه وتعالى: [فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الخَالِقِينَ] (المؤمنون: 14) .
ومن الآيات العظيمة التي تدل على عظمة الخالق هذه الشمس التي تشرق كل
يوم فلا أجمل من شروقها، وتغرب فلا أحسن من غروبها، ينفعنا عند البرد
دفؤها، وتؤذينا أثناء الحر أشعتها، وهي جزء يسير من خلق الله سبحانه وتعالى:
[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]
(الأنبياء: 33) .
القرآن يثبت عظمة الشمس:
خلق الله تعالى الشمس وبيّن قدرها فأنزل فيها سورة تتلى إلى يوم القيامة،
وتكرر ذكرها في القرآن كثيراً حتى جاء في اثنين وثلاثين موضعاً.
ولأجل هذه العظمة فإن أقواماً عبدوها من دون الله تعالى كما قال الهدهد
لسليمان عليه الصلاة والسلام: [إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ] (النمل: 23-24) .
إن حركة الشمس وضوءها، وإشعاعها ودفئها، وانتظامها في سيرها،
وضخامة حجمها كانت ولا تزال عند البشر مثار الدهشة، وموضع الانبهار، وما
عبدها من عبدها إلا من هذا القبيل؛ ولذا جاء القرآن بالبيان أنها آية من آيات
الخالق المستحق للعبادة، وأن عظمتها مهما بلغت لا توجب عبادتها بل توجب عبادة
خالقها ومدبرها ومسخرها [وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] (فصلت: 37)
وجاء الخبر في السُّنَّة أن المشركين كانوا يسجدون للشمس فنُهي المؤمن عن الصلاة
قبل شروقها وارتفاعها قِيدَ رمح وقبل غروبها وأثناء توسطها في السماء مخالفة لهم.
لقد كانت الشمس ولا تزال حجة داحضة، وآية ظاهرة على عظمة الخالق
جل جلاله بذكرها أنهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فصول المناظرة، وقطع حجج
المخاصمة [قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] (البقرة: 258) .
وفي مناظرة أخرى له عليه الصلاة والسلام ذكر الشمس مما يدل على أهميتها
عند البشر [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (الأنعام: 78-79) [1] .
والأرقام الهائلة تدل على هذه العظمة أيضاً:
بينت الدراسات الفلكية الحديثة ضخامة الشمس بالنسبة للأرض؛ حيث قدر
الفلكيون أن قطر الشمس يبلغ (865380) ميلاً بينما قطر الأرض (7913)
ميلاً؛ فهي أكبر من الأرض بنحو مليون وثلاثمائة ألف مرة، وكتلتها تعادل
(333000) مرة من كتلة الأرض وتعادل جاذبيتها ضِعْف جاذبية الأرض (28)
مرة، وتتكون من غازين أساسين هما: الهيدروجين والهليوم ونسبتهما (98%)
وما بقي (2%) غازات مختلفة يتجاوز عددها سبعين عنصراً، ويقدر الهيدروجين
بنسبة 80% والهليوم (18%) ويتحول الهيدروجين باندماج نووي إلى هليوم
وتتحرر طاقة هائلة على شكل حرارة وأشعة وضوء، ويتحول (400) مليون طن
من الهيدروجين إلى هليوم، في كل ثانية، وتفقد في الدقيقة الواحدة (250)
مليون طن من المادة لتتحول إلى طاقة [2] .
وإذا كان ما سبق من أرقام أمراً عجباً فإن ما هو أعجب منه حرارة الشمس
التي لا نطيقها في الصيف ونتظلل منها ونتبرد، ونهرب منها إلى المناطق الباردة؛
هذه الحرارة الشديدة تقطع مسافة طويلة تقدر بخمسة وتسعين مليون ميل أي
(150) مليون كم وهي المسافة التي بين الأرض والشمس، ولا يصل إلى
الأرض من حرارة الشمس إلا واحد على مليار (1/000 000 1000) فقط وهي
النسبة المطلوبة للحياة، وما يزيد على ذلك ينكسر ويرتد بفعل الغلاف الجوي
المحيط بالأرض. وللشمس نواة من الهليوم تتجاوز درجة حرارتها (25) مليون
درجة مئوية، تحيط بها منطقة إشعاع درجة حرارتها (15) مليون درجة مئوية،
وتصل حرارة سطح الشمس إلى (10) ملايين درجة مئوية. ولإدراك معنى هذه
الأرقام الهائلة لا بد من التذكير بأن الحديد الصلب لا يحتاج إلى أكثر من
(1500) درجة مئوية ليتحول إلى سائل يجري كالماء [3] .
الشمس تعبد الله سبحانه وتعالى:
رغم هذه الضخامة والعظمة التي اتصفت بها الشمس إلا أنها خاضعة لربها
عابدة له سبحانه وتعالى فهي تسبِّح الله تعالى كما قال تعالى: [وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] (الإسراء: 44) وهي أيضاً تسجد لله سبحانه وتعالى كل يوم تحت
عرش الرحمن. قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي
الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ
حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ] (الحج: 18) وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟
قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش
فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: ... ... ...
[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] (يس: 38) [4] .
وأخطأ من تأول هذا الحديث ونفى حقيقة سجودها قال ابن العربي: أنكر قوم
سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هو عليه من التسخير الدائم [5] .
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها
من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد
والخضوع في ذلك [6] .
وقد أحسن الإمام الخطابي رحمه الله تعالى حينما قال: والخبر عن سجود
الشمس والقمر لله عز وجل قد جاء في الكتاب؛ إلى أن قال: وليس في هذا إلا
التصديق والتسليم، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في
سيرها والتصرف لما سخرت له [7] .
إذن هي تسبح الله تعالى وتسجد له وقد بلغت هذا المبلغ من الضخامة والعظمة
ولم تستنكف عن عبادة الله سبحانه وتعالى فلماذا يستنكف هذا العبد الضعيف عن
عبادة ربه وهو مثل الذرة على الأرض التي هي أصغر من الشمس بأكثر من مليون
مرة؛ فلو تأمل العاقل ذلك لعلم ضعفه وعجزه وصغره، ولأدرك شيئاً من عظمة
الخالق سبحانه وتعالى مما يدفعه إلى مزيد من الخشية والمحبة والخضوع والعبادة.
تسخير الشمس لخدمة بني آدم:
من تكريم الله تعالى المتتابع على بني آدم أن سخر لهم عظائم مخلوقاته؛ فهذه
الشمس العظيمة مسخرة لهؤلاء البشر الضعفاء، قال تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ] (النحل: 12) ، وقال تعالى:
[وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] (إبراهيم:
33-34) نعم والله! لا نستطيع عدّ نعمة الله تعالى علينا كما لا نستطيع عدّ منافع
الشمس التي سخرت لنا؛ فكان فيها من الفوائد ما لا يحصى؛ فالوقت إنما تمّ
ضبطه على ضوء حركتها، فغروبها ليل، وشروقها نهار، وأوقات الصلوات
عرفت بالظل الذي هي سببه كما في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ
وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً] (الفرقان: 45) تضيء النهار
وتبدد الظلام، وتستيقظ على شروقها الأحياء في الأرض، فتسعى في رزقها،
وتكتسب قوتها، وتعم الحركة أرجاء الأرض على ضوئها ونورها، فإذا غربت خيم
الظلام وعم السبات وخلدت الأحياء إلى الراحة استعداداً ليوم جديد، فلو أنها أمسكت
عن المغيب فلم تغب، فكيف يرتاح الأحياء على الأرض، وكيف ينامون؟ ! ولو
أمسكت عن الشروق فلم تشرق، فكيف يعملون ويكتسبون؟ ! وقد جاء لهذه المنة
الكبرى ذكر في كتاب الله تعالى حيث امتن الله تعالى على عباده بتعاقب الليل
والنهار حتى تستقيم الحياة على الأرض وذلك في قوله تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ
اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ *
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم
بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (القصص: 71-73) .
والتسخير يعني التكليف بعمل بدون أجر، ومن معاني (سَخَر) : جرى،
فالله تعالى أجرى هذه الأجرام والظواهر الكونية بما فيها الشمس لتكون في خدمة مَنْ
على الأرض بغير أجر ولا ثمن؛ وتلك نعمة كبرى من الخالق جل جلاله [8] .
ولولا أن الله تعالى خلق الشمس وسخرها لنفع الأرض لما انتظمت الحياة فيها
على ما هو مشاهد من هذا النظام البديع؛ فمن جرَّاء الشمس تحدث ظواهر في
الأرض من تبخير المياه، وتحريك الرياح، مما يسبب هطول الأمطار، وانتفاع
الأرض وبث الحياة فيها، والنبات والحبوب والثمار تنضج بتأثير أشعتها، وتستمد
طاقتها من حرارتها، وتنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان ثم إلى الإنسان عبر سلسلة
غذائية منتظمة، وتحرق الشمس بحرارتها ما لا يُعلم من الفطريات والجراثيم التي
لولا الشمس لانتشرت بسببها الأمراض والأوبئة فلا يبقى على الأرض حياة [9] .
وتقدير سيرها وبعدها عن الأرض آية أخرى، ونعمة من نعم الله الكثيرة؛
فقد قدر الله تعالى سيرها وجعلها منتظمة في هذا المسير لم يختل نظامها عنه يوماً
من الأيام، فما تأخرت يوماً عن موعد شروقها أو غروبها، وقدر تعالى بُعدها عن
الأرض حتى تنتفع بها ولذا يحكي الفلكيون أنها لو كانت أبعد لتجمدت الأرض ومن
عليها، ولو كانت أقرب لأحرقت الأرض بمن فيها، وفي ذلك يقول الله تعالى:
[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 38-40) ، إنه نظام دقيق بديع يسير وفق أمر الله
تعالى وإرادته، لا يتقدم شيء على شيء ولا يتأخر شيء عن شيء، ليحصل من
جرائه النفع، ويرتفع الضرر وفق تقدير العزيز العليم.
ومن عجائب الشمس مع الأرض أن لها في الأرض مشارق ومغارب كثيرة،
ففي كل لحظة لها مشرق ومغرب كما قال الله تعالى: [فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ]
(المعارج: 40-41) .
علاقة الشمس باليوم الآخر:
إن للشمس ارتباطاً وثيقاً بيوم القيامة ولهذا فمواقفها في ذلك اليوم متعددة:
الموقف الأول: بما أن الشمس علامة في الكون ظاهرة يراها كل البشر،
كان اختلالها عن نظامها المعهود علامة على إيصاد باب التوبة، وآية على قيام
الساعة، وانتهاء التكليف؛ وذلك بطلوع الشمس من مغربها؛ حيث روى معاوية
بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» لا تنقطع
الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها « [10]
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:» لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس
من مغربها فإذا طلعت من مغربها؛ ورآها الناس آمنوا جميعاً؛ فذلك حين لا ينفع
نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل « [11] .
ويبدو أنه يسبق طلوعها من مغربها ليلة طويلة جداً كما هو ظاهر في حديث
أبي ذر السابق في قصة سجودها تحت العرش؛ إذ جاء فيه أمرها بالرجوع وعدم
الإذن لها بالطلوع، والرجوع يحتاج وقتاً قدر وقت المجيء مما يدل على أن الليلة
التي تسبق طلوعها من مغربها تعدل ليلتين أو أكثر، وقد ذكر الحافظ ابن حجر
رحمه الله حديث عبد الله بن أبي أوفى وفيه:» تأتي ليلة قدر ثلاث ليال لا يعرفها
إلا المتهجدون، يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ، ثم ينام؛ فعندها يموج
الناس بعضهم في بعض، حتى إذا صلوا الفجر وجلسوا فإذا هم بالشمس قد طلعت
من مغربها فيضج الناس ضجة واحدة حتى إذا توسطت السماء رجعت «. وعند
البيهقي في البعث والنشور من حديث ابن مسعود نحوه:» فينادي الرجل جاره: يا
فلان! ما شأن الليلة؟ لقد نمت حتى شبعت وصليت حتى أعييت « [12] .
الموقف الثاني: مصير الشمس بعد انتهاء العالم، وانقضاء الدنيا حيث تُكَوَّر
وتصاحب القمر إلى نار جهنم كما قال تعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]
(التكوير: 1) ، وقال تعالى: [فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ] (القيامة: 7-9) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:» الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة « [13] ، وفي رواية:
» الشمس والقمر نوران يكوَّران في النار يوم القيامة، فقال الحسن: وما ذنبهما؟
فقال أبو سلمة: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: وما
ذنبهما؟ ! « [14] قال الإسماعيلي: لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما؛ فإن لله
تعالى في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذاباً وآلة من آلات العذاب
وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة [15] .
وأما الحكمة من ذلك فقيل: لأن الشمس والقمر خلقا من نار فأعيدا فيها [16] ،
وقيل: حتى يراهما من عبدهما معه في النار وهو الأقرب لقوله تعالى: [إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا
وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ] (الأنبياء: 98-99) ، ولما جاء في حديث أنس رضي الله
عنه أن الحكمة من ذلك (ليراهما من عبدهما) قال الخطابي: ليس المراد بكونهما
في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم
لهما كانت باطلاً [17] .
الموقف الثالث: في عرصات القيامة؛ حيث تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فيتأذَّوْن من حرارتها ويصيبهم من الكرب ما يجعلهم يطلبون سرعة القضاء
فيذهبون إلى أبيهم آدم من أجل الشفاعة لهم في سرعة القضاء، ثم إلى سائر أولي
العزم من الرسل حتى يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم كما في حديث
الشفاعة المشهور. وعن دنو الشمس من رؤوس الخلائق قال النبي صلى الله عليه
وسلم:» تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون
الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون
إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. وأشار
النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه « [18] وفي حديث آخر قال عليه الصلاة
والسلام:» إن العَرَقَ يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً، وإنه ليبلغ إلى
أفواه الناس وآذانهم « [19] .
وقد يُشْكل على بعضٍ عدم إحراق الشمس للناس في موقف العرض يوم
القيامة مع هذا الدنو الذي لا يتجاوز الميل سواء كان ميل المسافة أو ميل المكحلة
مع أنها لو اقتربت قليلاً من الأرض في الدنيا لأحرقتها ومن عليها. والحق أنه لا
إشكال في ذلك؛ لأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا؛ فلا تقاس عليها، ولو
صح القياس عليها لكان الموت أسرع من عرق الناس إلى آذانهم وأفواههم، ومن
بلوغ العرق في الأرض سبعين باعاً.
هذه هي الشمس التي نراها كل يوم، ويوشك أن يأتي اليوم الذي تتأخر فيه
عن موعد شروقها لتعود مرة أخرى فتشرق من مغربها؛ فيوصد على إثر ذلك باب
التوبة، ولا ينفع الندمُ مَنْ يندم، وهي التي يهرب العباد من شدة حرها في الصيف،
فهلاَّ تذكروا قربها وحرارتها في موقف القيامة حين تستخرج العرق من الأجساد،
فتسيله في الأرض حتى يبلغ الآذان والأفواه! وهلاَّ تذكروا ما هو أعظم من ذلك:
حرارة جهنم التي لا تقضي على من فيها فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها:
[كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ] (النساء: 56) .
إن حرَّ الدنيا يذكِّر بحرِّ الآخرة، وإن لهب الشمس اللافح يذكِّر بلهيبها في
عرصات القيامة كما يُذكِّر بحرِّ نار السعير أجارنا الله منها والمسلمين ولن ينجي من
حرِّ ذلك اليوم سفر ولا سياحة، ولن يطفئ لهبه تبريد ولا ماء. نعم والله! لن
ينجي من حرِّ ذلك اليوم ولهب شمسه، ثم زفرة ناره إلا الإيمان والعمل الصالح،
والأخذ بالأسباب التي تجعل العبد في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله،
وويل لمن كان في الدنيا منعَّماً وفي الآخرة معذَّباً، فما أحسن الاعتبار في الدنيا قبل
أن لا تنفع العظة في الآخرة!
__________
(1) آية البقرة جاءت في ذكر محاججة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للذي كفر وهذا ظاهر، أما آية الأنعام [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً] (الأنعام: 78) فاختلف المفسرون في مقامها: هل كان مقام نظر أو مناظرة؟ فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان مقام نظر واختاره ابن جرير، وقال
آخرون: إنه مقام مناظرة وأن إبراهيم عليه السلام تنزل مع حجج قومه ليدحضها ورجحه ابن كثير لأدلة كثيرة منها أدلة الخلق على الفطرة، وأن إبراهيم إمام الحنفاء وقد أوتي رشده فلا يعقل أن يكون عنده شك، والسياق يؤيد ذلك؛ حيث جاء في ضمن الآيات قوله تعالى: [وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ] (الأنعام: 80) انظر جامع البيان (7/247) وتفسير ابن كثير (2/242) عند تفسير الآية (87) من سورة الأنعام.
(2) ظواهر كونية في القرآن، لمحمد فيض الله الحامدي (114) .
(3) القرآن وعلوم العصر، لإبراهيم فواز عراجي (39) وانظر كتاب: مع الله في السماء للدكتور أحمد زكي (146) والعالم الفلكي لسيمون (315) .
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق (3199) والتفسير (3802 3803) والتوحيد (7424 7433) ومسلم في الإيمان (159) والترمذي في التفسير (3225) .
(5) انظر تفسير ابن كثير (3/910) عند تفسير الآية (38) من سورة يس وفتح الباري لابن حجر (8/402) ومجلة المنار (32/773) وحاشية الأرناؤوط على جامع الأصول (2/333) .
(6) فتح الباري (8/402) .
(7) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/1892) حديث رقم (940) وانظر أيضاً: تفسير الطبري (23/5) وزاد المسير لابن الجوزي (7/17) .
(8) ظواهر كونية في القرآن (116) .
(9) انظر في ذلك: مجلة الهداية عدد 174، ص 25، وظواهر كونية في القرآن (115) .
(10) أخرجه أحمد (1/192) وأبو داود في الجهاد (2479) والدارمي في السير (3513) والطبراني في الكبير (19/387) قال الهيثمي في الزوائد: ورجاله ثقات (5/251) .
(11) أخرجه أحمد (2/398) والبخاري في الرقاق (6506) ومسلم في الإيمان (157) .
(12) ساق هذه الأحاديث الحافظ في الفتح كتاب الرقاق (11/362 363) .
(13) أخرجه البخاري في بدء الخلق (3200) والبغوي في شرح السنة (4307) .
(14) أخرج هذه الرواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1/170) برقم (183) وعزاه الحافظ في الفتح للبزار (6/346) وعزاه الألباني للبيهقي في البعث والنشور والإسماعيلي والخطابي وصححه على شرط البخاري، انظر السلسلة الصحيحة (124) .
(15) فتح الباري لابن حجر (6/346) .
(16) المصدر السابق (6/346) .
(17) السابق (6/346) ورجحه الألباني بقوله: وهو الأقرب إلى لفظ الحديث، انظر السلسلة الصحيحة (1/194) .
(18) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2864) والترمذي في صفة القيامة (2423) .
(19) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2863) .(152/26)
تأملات دعوية
لا تنسوا كتب السلف
محمد بن عبد الله الدويش
إن الاعتناء بالقراءة وإدراك أهميتها أمر لم يعد قاصراً على طلبة العلم وحدهم؛ فالعقلاء من الناس أجمع يتفقون اليوم على ذلك، وها هي حركة النشر الواسعة تعطي دليلاً على الطلب المتزايد على الكتاب.
والنفس مفطورة على حب الجديد والميل إليه، حتى ما يقتنيه الناس من
سيارات وملابس وأدوات يبحثون فيه عن آخر ما أُنتج، ولو كان ذلك على حساب
الجودة. وسرت العدوى في ذلك إلى الكتاب، فأصبح الكتاب الجديد يلقى رواجاً
وانتشاراً أكثر من غيره، ولهذا يحرص باعة الكتاب والناشرون على إبراز الجديد
من الإصدارات والدعاية لها.
والكتاب الجديد المعاصر كُتِب بلغة العصر ونَفَس العصر، ويعالج قضايا
العصر، مما يدفع القارئ إلى الميل إليه وقراءته.
وهو يتناول في الأغلب القضايا الساخنة والمطروحة على الساحة الفكرية أو
العلمية أو الأدبية، ومن ثم فهو يتسق مع اهتمامات القارئ ويجيب عن تساؤلاته.
هذه جوانب لها صلة بمضمون الكتاب ولغته، وثمة جوانب لا تقل عنها
أهمية لها صلة بالكاتب والمؤلف؛ فلئن كان القراء ينظرون إلى عنوان الكتاب
وموضوعه فهم في المقابل ينظرون نظرة لا تقل عن ذلك إلى مؤلفه، والناشرون
يحرصون على الظفر بالمؤلف صاحب الصيت والانتشار الواسع، ويمنحونه من
الإغراءات ما لا يمنحون غيره.
إن المؤلف المعاصر يعيش بين الناس، ويتفاعل القراء معه، ويعرفه طائفة
من القراء باسمه أو بشخصه، ومن ثم فهم يُقبلون على اقتناء كتبه وقراءتها، وربما
كان اسم المؤلف أعظم دافع لدى كثير من القراء إلى قراءة الكتاب من موضوعه
ومضمونه.
هذه العوامل وغيرها تدفع الناس إلى الاعتناء بقراءة الجديد من الكتب
والإقبال عليها، ولا اعتراض على ذلك، بل هو ضرورة لا بد منها، فلا يمكن
لطالب العلم الذي يتحمل مسؤولية الإصلاح والتغيير أن يعيش خارج عصره، وثمة
قضايا كثيرة هي من النوازل العلمية أو الفكرية لا بد له أن يحيط بها ويعيها.
لكن الاعتراض هو على إهمال كتب السلف ونسيان كتب السابقين؛ فنحن أمة لها
امتداد وتاريخ ولسنا نبتة مجتثة في العراء.
إن كتب السلف أغزر علماً وأصدق لهجةً، ولئن أدى تطور صناعة النشر
اليوم إلى أن يصبح التأليف والنشر ميداناً رحباً يتسع لطائفة كثيرة من الناس، وأن
يتصدر له طائفة ممن لا يحسن، أو من الباحثين عن الصيت والشهرة فالأمر كان
يختلف لدى سلف الأمة؛ فالأغلب على ما كتبه أولئك الإخلاص والصدق، وسعة
العلم والاطلاع.
والسلف الصالح رضوان الله عليهم أسَدُّ منهجاً وأقوم طريقة؛ بل إن طالب
العلم اليوم يفتخر بأنه ينتسب إلى منهجهم، ويحتج بأقوالهم وهديهم، في حين
كثرت الأهواء ما بين ترخُّص وتساهل، أو جرأة على الشرع وأحكامه، أو مجاراة
للواقع ولهاث وراء مسايرته.
لكننا نلحظ اليوم إفراطاً في الإقبال على الكتاب المعاصر، وإهمالاً لكتب
السلف وقلة اعتناء بها، بل قد نجد تسابقاً في قراءة الكتب والروايات المنحرفة
وإضاعة الأوقات فيها على حساب ما يزيد الإيمان ويحيي القلوب الميتة.
وحتى في ميدان العلم الشرعي يحظى المعاصرون باعتناء واهتمام أكثر من
غيرهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاعتناء بجمع فتاوى المعاصرين ونشرها
وقراءتها، وهذا أمر حسن، لكن ينبغي ألا ينسينا الاعتناء بفتاوى فقهاء السلف،
وغيرهم ممن يدعِّم المعاصرون فتاويهم بآرائهم واختياراتهم، فنحن بحاجة لجمع
طائفة من فتاوى علماء السلف واختياراتهم ونشرها للناس، وإبراز أولئك العلماء
الأفذاذ أمام الناس الذين كادوا أن ينسوهم.
إنه من إضاعة الوقت أن نستطرد في المقارنة بين كتب السلف وكتب
المعاصرين؛ فالأمر أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى براهين.
لكنها ذكرى ووصية أوصي بها نفسي وإخواني لإعادة الاعتبار لكتب السلف،
والاعتناء بها، والإقبال عليها، وإعطائها النصيب الأوفر، دون إهمال للقراءة
المعاصرة.(152/32)
دراسات تربوية
هذا كله موجب الطباع ومقتضاه
بدر السحيل
إنك لتعجب أن ترى رجلاً عليه سَمْتُ الصالحين ووقار الأخيار، يعجبك في
هديه ودلّهِ، تراه يجالس امرأة أجنبية عنه، ربما سمعتَ منها ضحكاتٍ صاخبة أو
قولاً خاضعاً، هيئتها لا تسر الناظرين. سترت القبيح من نفسها وأظهرت الجميل.
ثم أنتقل بك إلى صورة أخرى لا تقلُّ عجباً عن تلك تجعلك أمام كمٍّ من
الأسئلة: رجل قد أعفى لحيته، واتبع السنة في ظاهره، إذا بك تراه مرّة جالساً مع
بعض قرابته أو زملائه يشاهدون فيلماً أجنبياً على شاشة التلفاز ولا يخفى عنك ما
فيه ولا ينتهي بك العجب ههنا؛ فالرجل ينظر بتفاعل، ويتابع بتلذذ، ويشارك في
الحديث عمن يسمونهم أبطالاً لتلك الأفلام، وكأن الرجل صاحِب دراية قد اعتاد
ذلك وألفه.
وما هاتان الصورتان غير مثال وإشارة إلى كثير من المشاهد التي على
شاكلتهما تثير الدهشة والعَجَب. قوم يتدثَّرون بلباس غيرهم في مفارقة بين القول
والعمل [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] (الأعراف: 26) .
ولْنَعُد إلى المثالين السابقين.
الأول: رجل صالح نحسبه والله حسيبه اضطرته ظروف عمله أن يخالط تلك
المرأة الساعات الطوال؛ فهي زميلة عمل، وكثيراً ما ترى هذا في المستشفيات
ونحوها؛ ولكن هل المشهد الذي رأيته في هذه الصورة حدث عند أول لقاء عمل؟
الجواب: لا؛ فقد بلغ به الضيق مبلغه في أول الأمر، لكنها طبيعة العمل؛ فكان
حريصاً على غض بصره، وألاّ يتكلم إلا بقدر الحاجة. وكذلك كانت زميلته على
جانب من الحياء والستر؛ فالرجل ذو هيبة ووقار.
المثال الثاني: هو من الدعاة إلى الله عز وجل يتجول في حقول الدعوة يجاهد
بقاله وحاله؛ سلاحه قلمه ولسانه، وينتهي به التجوال إلى منزل أهله أو مجلس
قرابته أو منتجع زملائه، وهنا ينسى وظيفته ويلقي سلاحه، إنهم يرغبون أن
ينظروا إلى التلفاز في مجلسهم والداعية إلى الله أجلُّ من أن تكون له فيه رغبة،
ولكن لا بد من اللقاء والأنس. فكان كلما حضر مجلسهم؛ أغلقوا التلفاز أدباً. ثم
تتتابع المجالس وتأخذ دورتها مع الأيام، فيرغب بعضٌ في فتح الجهاز؛ فمن أراد
المشاهدة ينظر، ومن لم يرد فلا. ثم بعد ذلك بمدّة تكون خطوة أخرى برفع مستوى
الصوت في بعض البرامج كالفقرات الإخبارية فقط، ثم تتلوها المباريات الرياضية. ومع اعتياد ذلك يتتابع التردي في خطوات الشيطان ليُسمح أو يُتَسامَح في رفع
مستوى الصوت وخفضه عند مشاهد مثيرة في أفلام ومسلسلات! فكان ينظر لا
إرادياً استجابة لشدة تفاعل جلسائه مع لقطة مباراة، ثم يغض بصره سريعاً وينظر
ثانية استجابةً لتفاعل آخر لإثارة الفيلم. وهكذا حتى أصبح يسارق النظرات تلو
النظرات، ثم يستجيب لتلك المثيرات، ومع توالي الأيام وصل الأمر إلى ما رأيت.
أيها القارئ الكريم! لا تظن أن هذا المقال كتابة ناقد أو نقدُ كاتب؛ بل هو
بث محزون وخلجات محب، عجب مما عجبتَ منه، وآلمه ما رأيتَ فكان هذا
المقال انبعاثاً من قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون كرجل واحد إن اشتكى
عينه اشتكى كُلُّه، وإن اشتكى رأسه اشتكى كُلُّه» [1] وقوله: «مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى» [2] .
فليس ثمة إلا تداعي الجسد لعضو من أعضائه.
ولعلاج ذلك العضو الشاكي لا بد من تشخيصٍ دقيق للداء الذي أصابه؛ فإذا
كان كافة المؤمنين هم الجسد فإن أعيانهم هي الأعضاء، وبمجموعهم يتكوَّن جسد
الأمة؛ لذا أحببت أن يكون ما تقدم من أمثلة نموذجاً لعضو أو بعض من هذا الجسد
أصابه الداء نسترشد في تشخيصه بأنوار الوحي «فكل الصيد في جوف الفَرَا» [3] .
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن
كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا
وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه» [4] . قال ابن رجب رحمه الله:
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مَثَلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوك
ويمنعون غيرهم من قربانه، والله عز وجل حمى هذه المحرمات ومنع عباده من
قربانها وسماها حدوده فقال سبحانه: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا]
(البقرة: 187) وهذا فيه بيان أنه حدَّ لهم ما أحل لهم، وحدَّ لهم ما حرم عليهم،
فلا يقربوا الحرام ولا يتعدوا الحلال؛ ولذلك قال في آية أخرى: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ
تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 229) . وجعل من
يرعى حول الحمى وقريباً منه جديراً بأن يدْخُل الحمى ويرتع فيه، وفي هذا إشارة
إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات وأن يجعل المسلم بينه وبينها حاجزاً « [5] فنبه
رحمه الله تعالى على هذه الإشارة النبوية إلى الدواء المتضمن لبيان الداء؛ فإن كان
الدواء التباعد عن المحرمات فإن الداء في التقارب منها» يرعى حول الحمى «ألا
ترى أن المحرَّم هو ما بداخل الحمى، وما حوله حلال، ولكن» يوشك أن يرتع
فيه «فالرَّعْيُ حول الحمى ذريعة موصلة إلى رعي الحمى نفسه.
إن في دلالة الحديث على الداء» التقارب من المحرمات «معانيَ لطيفة؛
ذلك أن الشارع إذا نهى عن معصية وزجر عنها أوجب ذلك على المسلم نفرة
ووحشة من هذه المعصية» الحمى «فكلما كان بعيداً عن الحمى كانت النفرة
والوحشة أبلغ، والزجر قد أخذ مأخذه؛ وذلك أن طبائع النفوس البشرية تألف ما
تقاربت منه وتعتاده، وتزول بينها وبينه كل الحواجز وتتكسر العوائق، فتضعف
في النفس زواجر الوعيد وقوارع التهديد بسبب الإلف والاعتياد الذي هو أثر
المقاربة للمحرمات.
ولتستبين أن الداء هو التقارب من المحرمات (الحمى) وأثره المترتب عليه
فانظر إلى أثر التقارب في النفوس البشرية وما تقاربت منه وإن كانت لا تحبه، بل
قد يكون خطيراً عليها.
ألا ترى إلى ساكن البادية قد أَلِفَ المبيت بها بين دوابها وهوامّها. بينما لو
أتينا بساكن المدينة ليبيت ليلة في البادية لكثرت عليه الخواطر: يفزعه كل صوت
يسمعه، يتخيل دواب الأرض وعقاربها وأفاعيها تحيط به من كل جانب،
يستحضر قوة سمومها وسرعة نفوذها، فلا يكتحل طرفه بمنام. فانظر إلى أثر
القرب والبعد عند كلٍ منهما. ساكن البادية لا يجهل أنها إن لدغته تقتله، وقد لا
يتيسر له الدواء في زمن كافٍ، ويعلم أنها خطيرة عليه وعلى صغاره الذين
يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم حتى ولو بالهرب عنها. بل كم شيَّع من جنازة
قريب أو صديق كانت هذه الهوامّ سببها! ولا تعجب فكم من مرة يرى هذه الدواب
ويذهب في شؤونه دون أن يتعرض لها بسوء! إنه التقارب منها وما يترتب عليه
من طبيعة الإحساس بكل هذه المخاطر؛ فعينه قد اعتادت رؤيتها، وأذنه قد ألفت
سماع أصواتها؛ إنه الإلف والاعتياد بسبب المقاربة. وذاك صاحب المدينة ينام
قرير العين هادئ البال بعد أيام أو أسابيع من سكناه البادية.
وليتجلى لنا أثر التقارب والتباعد في غياب حرمة الحِمى وخطره وشناعة
المحرمات واستشعار ذلك فإننا نتدارس هذا النص النبوي:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:» مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين،
وفرِّقوا بينهم في المضاجع « [6] .
إن شطر الحديث الأول يرشد إلى أن التقارب من الصالحات سبيل إلى إلفها
واعتيادها وترويض النفس على قبولها والمداومة عليها، فإذا بلغ الصبي سبع سنين
فإنه يؤمر بها فتألف أذنه الأمر بها؛ إذ يتكرر عليه ذلك خمس مرات في اليوم
والليلة، وتعتاد قدماه المشي إلى المساجد، وترى عينه المصلين يترددون إلى
المسجد. يرى المصلين صفوفاً يتقدمهم الإمام. يتكرر هذا لمدة ثلاث سنوات،
وهذه السنوات الثلاث تعد مرحلة أولية تهيئةً لما بعدها. ثم المرحلة الثانية
» واضربوهم عليها لعشر سنين «وفي هذه المرحلة يكون الصبي قد اعتاد
الصلاة وأصبح لديه تصور مجمل لهيئتها وعدد مراتها والتمييز بين الفروض،
وتكون هذه المرحلة أكثر حزماً؛ فإن فيها أمراً زائداً عن مجرد الأمر بالصلاة:
» واضربوهم «. وتستمر هذه المرحلة إلى سن البلوغ. فهذه قرابة ثماني سنوات
تشكِّل دورة تدريبية في التقارب مع هذه الطاعة، فيألفها ويعتادها ويحبها بسبب
تقريبه منها ومن أهلها كما مر بك. فإذا أُعلِم بها وبمكانتها في الإسلام عند جريان
قلم التكليف عليه سهل عليه القيام بها بخلاف من لم يُراعَ في حقِّهِ هذا الإرشاد
النبوي.
وفي شطر الحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم:» وفرِّقوا بينهم في
المضاجع «انظر إلى لطيف الإشارة النبوية في تحديد وقت التفريق في المضاجع
عند سن العاشرة بين الأبناء والبنات؛ ففي هذه السن تكون بعض البنات قد بلغن
سن الرشد أو قاربن البلوغ [7] ؛ وإن لم يكن فلا أقل من تغيُّر جسمها وهيئتها عن
جسم الصبية.
وقد جرت عادة الناس أن يتخذوا لنومهم ملابس لها خصوصيتها من خفة
وشفافية وقد تكون مجسِّمة (كالبجامة) ، وما كان هذا وصفه من اللباس من حيث
الشفافية أو التجسيم أو كشف أجزاء من البدن لا يكون ساتراً للعورة. وقد ينكشف
الغطاء أثناء النوم فتبدو العورات، فإن لم يكن التفريق في المضاجع انكسر حاجز
الحياء، وضعفت الاستجابة للأمر والنهي في حفظ العورة وسترها. وذلك كله
بسبب الاعتياد والإلف لتكرار هذا المشهد نتيجة المقاربة والمجاورة، بل قد يتعدى
الأمر إلى أبعد من ذلك وأخطر. فهذا صاحب كتاب» مسؤولية الأب المسلم «
يضمِّن كتابه مبحثاً عن الانحرافات الجنسية عند الأطفال؛ فإذا به يتعرض للحديث
الذي نحن بصدد دراسته فيقول:» ولا بد من التفريق بين الأولاد عند النوم خاصة
بينهم وبين البنات؛ فإن كثيراً من الانحرافات الجنسية المبكرة يعود سببها إلى
إهمال التفريق بين الأولاد في المضجع، ونومهم مع الأبوين في غرفة واحدة.
ويكون ذلك بتخصيص غرفة للأولاد، وأخرى للبنات، وثالثة للأبوين، مع
استقلال كل طفل بغطاء يخصه فينبغي عدم المشاركة في الغطاء « [8] فانظر إلى
لطيف الإشارة:» وفرقوا بينهم في المضاجع «.
وإلى دليل آخر من الوحي:
إن الإسلام يُرغِّب في النكاح ويحث عليه؛ ولأن الأسرة لَبِنَةٌ في بناء صرح
الأمة فإن الإسلام يحافظ عليها من أن تُهدم، ويجعل سياجاً منيعاً من الترغيب
والترهيب يطوقه علاقة الزوجين ببعضهما؛ لتشتد هذه اللبنة؛ فيبدو صرح الأمة
شامخاً. فعندما يحدث خلاف بين الزوجين فإن الشرع قد وضع مراتب لتأديب
الزوجة. ومحل الشاهد من ذلك مرتبة الهجر؛ حيث شرع الله تعالى أن يكون
الهجر في المضجع فحسب؛ لأن البعد شأنه أن يزيد من اتساع الفجوة بينهما،
فشرع الهجر في المضجع؛ لأن القرب له أسرار منها: عدم النفرة، وسكون
النفس، والصحة، والأنس.
واسمع إلى قول صاحب تفسير المنار:» لأن الاجتماع في المضجع هو الذي
يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل واحد منهما إلى الآخر ويزول اضطرابهما
الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر الزوج زوجته وأعرض عنها في هذه
الحالة احتمل أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب،
ويهبط من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة « [9] .
سبحان الله! إن المقام مقام تأديب وبنوع من التأديب فيه حزم وشدة، ومع
ذلك يرشد الشارع بأن يكون الهجر مقيداً بالمضجع، وذلك لما فيه من المقاربة من
المعاني التي سقناها، فتتبدل المخالفة إلى الموافقة في أكثر الأحيان.
ثم إن لم تحصل الموافقة وحصل الطلاق، فإن كان رجعياً فإنه يجب عليها أن
تمكث مدة عدتها في بيتها لا تخرج منه، كما لا يحق للزوج أن يخرجها قال تعالى:
[لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ] (الطلاق: 1) فتأمل كيف أن الشارع
أمر الزوج بعدم إخراجها وأمرها بعدم الخروج؛ وذلك مدة العدة وقدرها ثلاثة قروء،
ثم تأمل قوله سبحانه بعد ذلك: [لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً]
(الطلاق: 1) ففي ذلك حكمة لطيفة؛ حيث إن الشارع أشار إلى أن بقاء الزوجة
في بيتها قريبة من زوجها من أقوى عوامل المراجعة. وذلك أن في القرب
أسراراً فيراها وتراه، ويحن لها وتحن له، فتتحرك في النفس كوامن الرحمة
والمودة والعطف، ولهذه المقاربة دور في إبعاد النفرة وتسكين الألفة بدلاً منها،
وإلى هذا المعنى الموجود في التقارب بين الزوجين وعدم المفارقة زمن العدة إن كان
الطلاق رجعياً نجد الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: [لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً] (الطلاق: 1) . وكما أن
الرجعة تكون بالقول فهي أيضاً تكون بالفعل [10] . هذه الحكمة بما فيها من معان
تكون متعذرة إذا كانت الزوجة خارج بيتها بعيدة عن زوجها.
وإلى شاهد آخر من السنة النبوية يقرر أثر التقارب والتباعد في النفوس
البشرية:
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:» أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين؛ لا تراءى
نارهما « [11] .
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» أبايعك على أن
تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق
المشرك « [12] .
فانظر رعاك الله إلى أي مدى من الخطورة يُشعِر بها هذا الحديث في الإقامة
بين المشركين والقرب منهم؛ بل انظر إلى الدقة في الحرص على قطع جميع
العلائق حتى ما كان منها بالاتصال البصري» تراءى نارهما «ذلك أن هذا الأمر
يفضي إلى ما قدمناه من الألفة والأنس به والتطبع على مقاربته، ويزيل من النفس
الوحشة والنفرة من المشرك ومعاداته على سبيل المسارقة والتدرج، بل قد يفضي
به إلى مودته لما قد يتصف به من حسن خُلُقٍ وطيب معشر وكرم جوار، وينبهر
بما لديه من تقنية أو حرفة أو علم فيحبه لذلك، ولأجل هذا القرب وما تبعه من آثار
غاب عنه منافرة المشرك وبغضه واستشعار حقيقة [إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ]
(التوبة: 28) .
إذا ما علمت هذا تجلت لك الحكمة من قوله صلى الله عليه وسلم:» لا
تراءى نارهما «وما في ذلك من المبالغة في مباعدة المشرك وبغضه، ولهذا كان
صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك في نفوس أصحابه فيقول لجرير بن عبد الله رضي
الله عنه في بيعته، ويبايعه على» وتفارق المشرك «.
ثم إلى إشراقة أخرى من أنوار الوحي فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل،
والسكينة والوقار في أهل الغنم « [13] .
فانظر إلى أثر التقارب على كلا الفريقين. قال صلى الله عليه وسلم من
حديث أبي مسعود رضي الله عنه:» والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين عند
أصول أذناب الإبل « [14] .
قال الإمام النووي رحمه الله: وقوله:» عند أصول أذناب الإبل «معناه:
الذين لهم جَلَبَةٌ وصياح عند سَوْقهم لها» [15] فما كان هذا حاله من الدواب كان حرياً
بمن يتولى رعيها أن يتصف بالغلظة والجفاء المكتسب من طبع هذه الدواب بخلاف
حال الغنم؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: «اتخذي غنماً؛
فإنها تروح بخير وتغدو بخير» [16] وقال: «اتخذوا الغنم؛ فإنها بركة» [17] .
فلما كان هذا حالها تروح بخير وتغدو بخير كان وصف أهلها «السكينة في
أهل الشاء» [18] ومن أصيب بالغلظة والجفاء جديرٌ بأن يكون من أهل الفخر
والخيلاء. فتدبر.
ومع كلمات نيرات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في التشبه بالكفار
نجد فيها شاهداً لما نحن بصدده فيقول رحمه الله: «إن الله جَبَلَ ابن آدم بل سائر
المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان
التفاعل في الأخلاق والصفات أتم؛ ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني
آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة. وكذلك الآدمي إذا عاشر
نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه؛ ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل
الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمَّالون والبغَّالون فيهم أخلاق
مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلاَّبون، وصار الحيوان الإنسي فيه من
أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم،
كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من
غيرهم ممن جَرَّدَ الإسلام. والمشابهة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور
الباطنية على وجه المسارقة والتدريج الخفي» [19] ، فانظر إلى تقريره رحمه الله
كيف تورث المشابهة والمشاكلة والمعاشرة المحبة والألفة وقلة النفرة، وهل
المشابهة والمشاكلة والمعاشرة إلا وسيلة تقارب بين المتشابهين والمتشاكلين
والمتعاشرين فكان الأثر مترتباً عليها؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة
ومحبة وموالاة في الباطن حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار
غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مِصْرهما لم يكونا
متعارفين أو كانا متهاجرين، وذاك أن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن
بلد الغربة. بل لو اجتمع رجلان في سفر أو في بلد غريب وكانت بينهما مشابهة
في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب، ونحو ذلك، لكان بينهما من
الائتلاف أكثر مما بين غيرهما. هذا كله موجب الطباع ومقتضاه إلا أن يمنع من
ذلك دين أو غرض خاص» .
وتأمَّلْ صنيع البخاري رحمه الله في صحيحه؛ حيث جعل في كتاب الإيمان
باباً أسماه «باب من الدين الفرار من الفتن» ضمنه حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خيرَ
مال المسلم غنم يتبع بها شَعفَ الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن» [20] .
وبعد هذه الإضاءات من النصوص الشرعية أرجو أن يزول عنك العَجَبُ
وتقف على مكمن الداء، وفي ضده يكون الدواء، ولله در شيخ الإسلام! فذلك كله
موجب الطباع ومقتضاه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى
يوم الدين.
__________
(1) رواه مسلم، ح/4686.
(2) رواه مسلم مع شرح النووي، (16/356) .
(3) الفَرَا: حمار الوحش وهو مثل يضرب لِمَا يُغْني عن غيره.
(4) رواه مسلم، ح/2996.
(5) جامع العلوم والحكم (208) بتصرف.
(6) المسند (6756) ، قال أحمد شاكر: صحيح.
(7) ولا يخفى عنك دخول النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين.
(8) مسؤولية الأب المسلم، اعدلوا عدنان حسن باحارث (643) .
(9) نقلاً عن مفصل أحكام المرأة، للدكتور عبد الكريم زيدان (7/ 315) .
(10) المراد بالفعل هنا الجماع.
(11) إرواء الغليل (5/30) وقال: صحيح.
(12) صحيح الجامع (1 687) .
(13) مسلم (2، 223، ج 190) .
(14) البخاري مع الفتح (7/701 ح/4387) ، مسلم (2/219 / 179) .
(15) مسلم بشرح النووي (2/221) .
(16) صحيح الجامع (1/78) .
(17) صحيح الجامع (1/78) .
(18) صحيح الجامع (1/687) .
(19) اقتضاء الصراط المستقيم (1/487) .
(20) صحيح البخاري في الفتح (1/87 / ح 19) .(152/34)
قضايا دعوية
مع القرآن
دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء
د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
تنتشر في هذه الأيام «مؤتمرات» عديدة، هنا وهناك، لما يسمى بوحدة
الأديان، ويحضر هذه المؤتمرات مندوبون عن مختلف الأديان المنتشرة في العالم،
سواء كانت أدياناً ذات أصل سماوي، أو أدياناً أرضية، كالبوذية والهندوسية،
ويشارك في هذه المؤتمرات حاخامات يمثلون الديانة اليهودية، وقساوسة يمثلون
الديانة النصرانية، كما يشارك فيها «مشايخ» رسميون يمثلون الإسلام. وتُعدُّ في هذه المؤتمرات أوراق عديدة، من قِبَلِ يهود أو نصارى أو مسلمين أو
آخرين، وتُلقى محاضرات عديدة، وتعقد ندوات كثيرة، يؤكد المتحدثون فيها على
«الأمور» المشتركة بين الديانات، ويطالبون بالتعاون والتنسيق بين أصحابها
لتحقيق أهداف مشتركة للمشاركين والمتحدثين.
بعض ما يجري في مؤتمرات الأديان:
ويقدم ممثلو كل دين أنفسهم للمؤتمرين أنهم على حق وصواب، وأن دينهم
الذي يدينون به دين صحيح مقبول عند الله، وأن أتباعه مؤمنون موحدون، وهم
خالدون في الجنة في الآخرة، سواء كان ذلك الدين يهودية أو نصرانية أو هندوسية
أو بوذية، أو قاديانية أو غير ذلك.
ويتعامل المؤتمرون في هذه المؤتمرات مع «الإسلام» كما يتعاملون مع أي
دين آخر على قدم المساواة، ويقولون: الإسلام حق وصواب، واليهودية حق
وصواب، والنصرانية حق وصواب! ! !
ويوافق «المشايخ» المشاركون في هذه المؤتمرات على هذه الطروحات
والأفكار، ويعلنون اعتراف الإسلام باليهودية والنصرانية، وأن هاتين الديانتين
صحيحتان ربانيتان، وأن أتباعهما مؤمنون موحدون، وأنهم على صواب، وأنهم
من أصحاب الجنة، وأنهم جميعاً «أبناء إبراهيم» عليه السلام!
ويستشهد هؤلاء «المشايخ» وغيرهم من المسلمين المتحدثين في هذه
المؤتمرات بآيات من القرآن، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في
الحديث عن التوراة والإنجيل، والحديث عن موسى وعيسى وغيرهما عليهم
الصلاة والسلام، والثناء على مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى! !
مشاركة بعض المسلمين فيها بسذاجة أو خبث:
وبدايةً نقرر أن هذه المؤتمرات العالمية حول وحدة الأديان، وتعاون أتباعها
لتحقيق السلام ومواجهة الإرهاب مؤتمرات مشبوهة يعدها ويرتب لها خبثاء ماكرون
من اليهود والماسونيين والصليبيين لتحقيق أهداف اليهودية العالمية في السيطرة
على العالم، واستغفال الآخرين وخداعهم.
وليست المشكلة عند الذين يرتبون لهذه المؤتمرات من اليهود والماسونيين؛
فإنهم يحققون أهدافهم الشيطانية منها، وهم يخدمون شياطينهم ومخططاتهم في ذلك؛
ولكن المشكلة عندنا هي في أولئك «المشايخ» والكتاب والمفكرين المسلمين من
ذوي الأسماء اللامعة، والمراكز العالية الذين يشاركون في هذه المؤتمرات،
ويسمعون كلام ممثلي الأديان الأخرى، ويوافقونهم عليه، ويقبلون أن يتعاملوا مع
الإسلام كما يتعاملون مع اليهودية والنصرانية على قدم المساواة والاعتراف! !
إنهم يشاركون في هذه المؤتمرات بسذاجة وغفلة وبلاهة، وبعضهم يعرف
حقيقة أهداف القائمين عليها، ويوافقهم عليها، ويشارك فيها بخبث وسوء نية!
والكلام الذي يقدمه هؤلاء المشايخ في المؤتمرات كلام باطل، وفهمهم للآيات
والأحاديث التي يقدمونها خاطئ، وهم يحرفون معانيها، ويخرجون بها لتكون
شاهدة لأهداف المؤتمرات الخبيثة!
وعندما تناقش هؤلاء المشايخ والمفكرين المسلمين في أفكارهم، وتنتقدهم في
مشاركاتهم يحتجون بآيات من القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويقولون: أليست آيات القرآن تدعونا إلى مجادلة أهل الكتاب ومحاورتهم؟ ألم
يوجه القرآن الدعوة إلى أهل الكتاب؟ ألم يحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم
أهل الكتاب؟
نقول لهم: نعم! لقد دعا القرآن إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن،
ولقد دعا القرآن أهل الكتاب إلى كلمة سواء، ولقد حاور رسول الله صلى الله عليه
وسلم أهل الكتاب، ودعاهم إلى اتباع الحق والدخول في الإسلام!
لكن أين هذا مما أنتم تشاركون فيه وتدعون إليه؟ شتان!
الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق دعوة القرآن إلى كلمة سواء:
الدعوة الموجهة إلى أهل الكتاب للتفكير في كلمة سواء، دعوة قرآنية صريحة، لكنها دعوة لها شروط، لا بد من تحققها وإلا فقدت الدعوة معناها وهدفها، وكان القرآن دقيقاً في تحديد شروط الدعوة وأهدافها! !
قال الله عز وجل: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من طبق مفهوم هذه الآية، والتزم
بشروطها عندما وجه الدعوة إلى أهل الكتاب، وبلَّغهم الإسلام، وأقام عليهم الحجة:
في صيف السنة السابعة من الهجرة وبعد صلح الحديبية وجَّه رسول الله صلى
الله عليه وسلم الدعوة إلى حاكم أقوى دولة نصرانية وأكبرها «هرقل» زعيم
الروم، وسجَّل في كتابه له هذه الآية، وطالبه بالدخول في الإسلام، وحمَّل رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم كتابه الصحابيَّ «دحية بن خليفة الكلبي» رضي الله عنه
وكلفه بالذهاب إلى هرقل وتبليغه الدعوة!
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى
هرقل كتاباً جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت
فإن عليك إثم الأريسيين.. و [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) » [1] .
ولما وصلت الدعوة إلى هرقل أوشك أن يستجيب لها ويسلم، لكنه آثر ملكه
وسلطانه فرفضها، وقد ذكر الإمام البخاري تفاصيل الحوار بينه وبين أبي سفيان
حول ذلك. وذكرنا تفاصيل قصة هذا الكتاب الموجه لهرقل وماذا نتج عنه، في
كتابنا «الرسول المبلِّغ صلى الله عليه وسلم» [2] .
حقائق من كتاب الرسول إلى هرقل:
ومن الواضح في نص كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل أنه لا
ينظر لدين هرقل النصراني على أنه «مساوٍ» للإسلام في الحق والصحة كما
يفعل المشاركون في مؤتمرات الأديان وإنما اعتبر أن الإسلام وحده هو الحق
والصواب، وأن النصرانية دين باطل منسوخ مردود، ولذلك لا بد أن يتخلى عنه
أصحابه، ويتبعوا الإسلام.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً في دعوة هرقل إلى الدخول في
الإسلام: «أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم» .
فإن لبى هرقل الدعوة ودخل في الإسلام فإن الله يؤتيه أجره مرتين وليس مرة
واحدة: مرة لإيمانه بعيسى ابن مريم عليه السلام، ومرة لإيمانه بمحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وإن لبَّى الدعوة ودخل في الإسلام فإن شعبه وأتباعه سيتبعونه ويدخلون في
الإسلام، وبذلك سيأجره الله على إسلامهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً.
أما إن رفض الدعوة للدخول في الإسلام، وأصر على البقاء على
«نصرانيته» فسيكون ضالاً كافراً خاسراً، وسيحمل إثم «الأريسيين» من
شعبه وقومه، لأنه بكفره يكون قد صدهم عن الدخول في الإسلام!
والأريسيون هم الرومان من أتباع «آريوس» الذي كان موحداً لله، ويرى
أن عيسى عليه السلام هو عبد الله ورسوله، وليس ابناً لله، فحاربه وحارب أتباعَه
الرهبانُ الذين ألَّهوا عيسى عليه السلام!
حقائق قرآنية من الدعوة إلى كلمة سواء:
وعندما نمعن النظر في الآية موضوع الكلام، فإننا نأخذ منها ما يلي:
-[قُلْ] (آل عمران: 64) : هي «قل التلقينية» فالله هو الذي يلقن
رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ويأمره أن يقول هذا القول لأهل الكتاب،
فالله هو الذي يوجه الدعوة إلى أهل الكتاب للدخول في الإسلام، والله هو الذي يحدد
الشروط الضرورية لهذه الدعوة، وهذا معناه أن هذا الموضوع موضوع رباني،
وليس اجتهاداً بشرياً خاضعاً لأهواء البشر، أو متأثراً بأهوائهم وتقلباتهم!
- هذا الأمر [قُلْ] (آل عمران: 64) ليس موجهاً للرسول صلى الله
عليه وسلم وحده، وإنما يتعداه ليشمل كل مسلم من بعده، قادر على محاورة أهل
الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان؛ لأنه من المعلوم أن خطاب الرسول صلى الله عليه
وسلم في القرآن خطاب لأمته، ما لم يقم دليل على تخصيص به.
-[يَا أَهْلَ الكِتَابِ] (آل عمران: 64) : المراد بأهل الكتاب في القرآن
اليهود والنصارى فقط، وهذا المصطلح وقف عليهم.
-[أَهْلَ الكِتَابِ] (آل عمران: 64) لأن الله أنزل لكل طائفة منهم
كتاباً؛ حيث أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأمر بني إسرائيل باتباعها،
وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام وأمر النصارى باتباعه.
ولكن اليهود لم يتبعوا كتاب الله التوراة، وإنما حرفوها وبدلوها فنسخها الله،
والنصارى لم يتبعوا كتاب الله الإنجيل، وإنما حرفوه وبدلوه، فنسخه الله، ووصف
الفريقين بالكفر في آيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى: [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] (البينة: 1) .
المسلم يوجه الدعوة ويضع الخطة:
-[تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] (آل عمران: 64) : يطلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يأتوا
إليه، للاتفاق على [كَلِمَةٍ سَوَاءٍ] (آل عمران: 64) بينه وبينهم.
وكونه هو الذي يوجه لهم الدعوة: [تَعَالَوْا] (آل عمران: 64) يدل على
أنه هو صاحب الأمر والنهي، وأنه هو الذي يقرر ويوجه ويخطط، وأنه هو الذي
يضع الأهداف ويحدد الشروط والمواصفات، وأن اليهود والنصارى مدعوون
للمشاركة والمجادلة والحوار، والالتزام بخطة صاحب الدعوة وبرنامجه.
وهذا من صلاحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي على حق،
ورسالته حق، ودينه حق، ودعوته حق، وهم على باطل، ولا بد أن يحاورهم
ليقيم عليهم الحجة، ويتخلوا عما هم عليه من باطل، ويتبعوا ما معه من حق.
وهذا ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ينسحب على كل
إمامٍ سلطانٍ للمسلمين من بعده، وكل عالم أو مفكر أو داعية من بعده!
فالأصل أن تصدر الدعوة إلى أهل الكتاب من المسلمين، وأن يضع برنامج
المؤتمر المسلمون، وأن يعد الكلمات والمحاضرات المسلمون، بهدف الحوار
والنقاش، وتقديم الإسلام الحق لأهل الكتاب! وهذا مفقود في مؤتمرات الأديان
المشبوهة! !
والكلمة السواء هي الكلمة المستوية العادلة، ولن تكون مستوية عادلة إلا إذا
انطلقت من الحق، والتزمت بالحق، وكان هدفها بيان الحق والاحتجاج له
والبرهنة عليه، ونقد الباطل وتزييفه.
شروط قرآنية ثلاثة للكلمة السواء:
وقد فسرت الآية الكلمة السواء المقصودة من الدعوة تفسيراً محدداً، وذلك في
قولها: [أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ ... ] (آل عمران: 64) .
الهدف من المؤتمرات الحوارية مع أهل الكتاب الالتزام بشروط ثلاثة،
والخروج بنتائج ثلاثة:
الأول: [أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ] (آل عمران: 64) : عبادة الله وحده، وعدم
عبادة مخلوق غيره، وهذا غير موجود عند اليهود والنصارى؛ فهم يزعمون أنهم
يعبدون الله، ولكنهم يعبدون معه غيره من أحبارهم ورهبانهم.
الثاني: [وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً] (آل عمران: 64) عدم الإشراك بالله،
وعدم تأليه غيره من المخلوقين، وهذا موجود عند اليهود والنصارى؛ فاليهود
يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، ويعبدون آلهة ثلاثة، يسمونها: «الأقانيم» الثلاثة الأب والابن والروح القدس وهذا شرك منهم بالله.
الثالث: [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (آل عمران: 64) :
عدم الاعتراف بالربوبية لغير الله، وعدم قبول تشريع غير الله، وهذا غير
موجود عند اليهود والنصارى؛ فهم يزعمون إيمانهم بالله رب العالمين، لكنهم مع
ذلك يتخذون أرباباً غيره من أحبارهم ورهبانهم. وأخبرنا الله عن ذلك بقوله تعالى:
[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) .
المسلمون وحدهم هم الذين: لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون به شيئاً، ولا
يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
نتيجة المؤتمرات: الجهر بالإسلام وكفر غير المسلمين:
وهدف مؤتمرات الحوار مع أهل الكتاب التي ينبغي أن يُعِدَّ لها المسلمون
أنفسُهم تخلي اليهود والنصارى عن الشرك بالله وتأليه غير الله أو ربوبيته، وعبادة
الله وحده، ولن يكون هذا إلا بتخليهم عن دينهم المحرف الباطل المنسوخ،
والدخول في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
[فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) : تُقدِّم هذه
الجملة من الآية الحل الصحيح للمسلمين المشاركين في مؤتمرات الحوار مع أهل
الكتاب، فإن رفض أهل الكتاب قبول الأمور السابقة التوحيدية، وتولوا عن الحق،
وأعرضوا عن الدعوة، وأصروا على يهوديتهم ونصرانيتهم فعلى المسلمين أن
يكونوا صريحين معهم، وأن يخاطبوهم قائلين: [اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
(آل عمران: 64) .
إنهم يجهرون بإسلامهم معتزين، وهذا معناه أنهم وحدهم المسلمون، وأن
اليهود والنصارى ليسوا مسلمين، ومن ثَمَّ ليسوا موحدين لله، وليسوا على حق،
وإنما هم كافرون، ومتبعون للباطل.
هذا هو توجيه القرآن للمسلمين عندما يدعون أهل الكتاب إلى [كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ] (آل عمران: 64) ، وهكذا فلتكن مشاركة المفكرين المسلمين في
مؤتمرات الأديان، فإن لم تكن المشاركة هكذا على أساس توجيهات القرآن فلا
تجوز، لأن المشاركين المسلمين حينئذ يكونون شهود زور! ! !
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 7، ومسلم، ح/ 1773.
(2) الرسول المبلغ صلى الله عليه وسلم، ص 91 151.(152/40)
قضايا دعوية
أيها الدعاة..
الخطوة الأولى لم تتخذ بعد!
محمد بن عبد الرحمن الزامل
النجاح في أي عمل، صغر أم كبر، مرتبط بشكل كبير بتوافر المعلومات
عن مجال العمل ومكانه وزمانه، وليس من المبالغة حينما أشير إلى أن بعض
الأعمال كان رأس مالها الحقيقي هو المعلومة.
إذا كان هذا من المسلَّمات عند أصحاب الأعمال التجارية فإن مما يعتقده الدعاة
أن عملهم ورسالتهم أنبل من الماديات وأرقى، وهي أهم وأبعد أثراً، وحاجة
الناس إليها أشد، ومع ذلك فهم لا يحتفون بالمعلومة ولا يقيمون لها وزناً؟ !
وقد يكون هناك عدة أمور نستطيع بها تفسير ظاهرة العزوف عن دراسات
المعلومات عند بعض الدعاة، ولكني أراها تُهَماً لهم قبل أن تكون تفسيرات؛ ولذلك
فإني أدرك قسوة بعضها، لكن هذا لا يغني أبداً عن تسليط الأضواء عليها، حتى لو
جهرت أعيننا الأضواء لبعض الوقت.
أول هذه التفسيرات (الاتهامات) : أن بعض الدعاة - على الرغم من جهدهم
العملي - لا يقلقهم حقاً عملية النجاح ولا تؤرقهم، كما لو كان الأمر متعلقاً بشأن من
شؤون الدنيا. وانعدام هذا الشعور بالقلق «القلق الفاعل» يورث بلادة في الحركة
ورتابة فيها، ويحولها إلى نوع من أداء مهمة صرفة ينجزها عامل لا يشعر بأي
روح انتماء إلى مؤسسته التي يعمل بها.
ثاني هذه التفسيرات (الاتهامات) : الفهم القاصر لمفهوم التوكل، ومفهوم
الإيمان بالغيب، ومفهوم القدر، ولو قلنا بسلامة المفهوم فستبقى الإيحاءات الخاطئة
التي تتركها بعض هذه المفاهيم في نفوس الدعاة، الإيحاءات الخاطئة التي سببُها
الرئيس عدم تحويل هذه المفاهيم إلى واقع عملي يهدي طاقتها الإيحائية إلى الاتجاه
الصحيح. فالإيمان بالقدر عند بعض الناس معناه عدم أهمية التخطيط والرصد،
والتوكل على الله يوحي أحياناً بعدم قبول المقارنة بين الأعمال الدعوية، والأعمال
ذات الطابع الدنيوي البحت.. والإيمان بالغيب يوحي أحياناً بتفاهة الدراسات
المستقبلية، وهكذا، فإن المفهوم الصحيح نظرياً يتحول بانحراف إيحاءاته إلى قوى
مثبطة غير فاعلة.
ومن هذه التفسيرات ما يمكن وصفه بأن الدعاة يبقون بشراً، والإنسان لا
يصنع نفسيته وطريقة تفكيره وشخصيته وحده، بل لمجتمعه المحيط أثر بالغ في
ذلك، ومجتمعاتنا لم تعلمنا أهمية المعلومة، ولم تعلمنا كيف نتمكن من نقلها إلى
الواقع، ولو فعلنا ذلك فإنا لم نتعلم كيف نحسن استغلال المعلومة والإفادة منها،
والتأثير في عملية سيرها الفعلي.
وحتى لا تنحدر الكلمات إلى مجرد تهويمات فإن أحد التحديات التي تواجهنا
اليوم تحدي الانفتاح الإعلامي الذي أثار بيننا موجة عاصفة من الاستياء، فقد تحول
هذا الاستياء من العمل إلى النهش من أطرافنا نحن بدل أن يكون له دور في
المقاومة؛ فطاقتنا تحولت إلى مجرد ضجيج وتنديد مستمر، والنياحة المفرطة
صارت تمارس عملية تهويل الانفتاح إلى وحش لا يقهر، ولو كنا أدركنا واقع قوله
تعالى: [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ] (القصص: 88) باعتباره مفهوماً شرعياً
كما أدركناه نظرياً لعلمنا أنَّ ما من شيء إلا ويحمل في ذاته بذور هلاكه، فقط يبقى
فصل البحث المعلوماتي عن هذه البذور، واستنبات بذور غيرها لعمل إعلامي
هادف.(152/46)
فتاوى أعلام الموقعين
المجلات الخليعة:
دعوة للرذيلة وإشاعة للفاحشة
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السعودية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
فقد أصيب المسلمون في هذا العصر بمحن عظيمة، وأحاطت بهم الفتن من
كل جانب ووقع كثير من المسلمين فيها، وظهرت المنكرات، واستعلن الناس
بالمعاصي بلا خوف ولا حياء، وسبب ذلك كله: التهاون بدين الله، وعدم تعظيم
حدوده وشريعته، وغفلة كثير من المصلحين عن القيام بشرع الله والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وإنه لا خلاص للمسلمين ولا نجاة لهم من هذه المصائب والفتن
إلا بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى وتعظيم أوامره ونواهيه، والأخذ على أيدي
السفهاء، وأَطْرِهم على الحق أَطْراً.
وإن من أعظم الفتن التي ظهرت في عصرنا هذا ما يقوم به تجار الفساد
وسماسرة الرذيلة ومحبو إشاعة الفاحشة في المؤمنين: من إصدار مجلات خبيثة
تحادُّ الله ورسوله في أمره ونهيه، فتحمل بين صفحاتها أنواعاً من الصور العارية
والوجوه الفاتنة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، وقد ثبت بالاستقراء أن هذه
المجلات مشتملة على أساليب عديدة في الدعاية إلى الفسوق والفجور وإثارة
الشهوات وتفريغها فيما حرمه الله ورسوله، ومن ذلك أن فيها:
1 - الصور الفاتنة على أغلفة تلك المجلات وفي باطنها.
2 - النساء في كامل زينتهن يحملن الفتنة ويغرين بها.
3 - الأقوال الساقطة الماجنة، والكلمات المنظومة والمنثورة البعيدة عن
الحياء والفضيلة، الهادمة للأخلاق المفسدة للأمة.
4 - القصص الغرامية المخزية، وأخبار الممثلين والممثلات والراقصين
والراقصات من الفاسقين والفاسقات.
5 - في هذه المجلات الدعوة الصريحة إلى التبرج والسفور واختلاط
الجنسين وتمزيق الحجاب.
6 - عرض الألبسة الفاتنة الكاسية العارية على نساء المؤمنين لإغرائهن
بالعري والخلاعة والتشبه بالبغايا والفاجرات.
7 - في هذه المجلات العناق والضم والقبلات بين الرجال والنساء.
8 - في هذه المجلات المقالات الملتهبة التي تثير موات الغريزة الجنسية في
نفوس الشباب والشابات فتدفعهم بقوة ليسلكوا طريق الغواية والانحراف والوقوع في
الفواحش والآثام والعشق والغرام.
فكم شُغِفَ بهذه المجلات السامة من شباب وشابات فهلكوا بسببها وخرجوا عن
حدود الفطرة والدين!
ولقد غَيّرت هذه المجلات في أذهان كثير من الناس كثيراً من أحكام الشريعة
ومبادئ الفطرة السليمة بسبب ما تبثه من مقالات ومطارحات.
واستمرأ كثير من الناس المعاصي والفواحش وتعدي حدود الله بسبب الركون
إلى هذه المجلات واستيلائها على عقولهم وأفكارهم.
والحاصل: أن هذه المجلات قوامها التجارة بجسد المرأة التي أسعفها الشيطان
بجميع أسباب الإغراء ووسائل الفتنة للوصول إلى: نشر الإباحية، وهتك
الحرمات، وإفساد نساء المؤمنين، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى قطعان بهيمية لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، ولا تقيم لشرع الله المطهر وزناً، ولا ترفع به رأساً؛ كما هو الحال في كثير من المجتمعات، بل وصل الأمر ببعضها إلى التمتع بالجنسين عن طريق العري الكامل فيما يسمونه (مُدُن العُراة) عياذاً بالله من انتكاس الفطرة والوقوع فيما حرمه الله ورسوله.
هذا وإنه بناءاً على ما تقدم ذكره من واقع هذه المجلات ومعرفة آثارها
وأهدافها السيئة وكثرة ما يرد إلى اللجنة من تذمر الغيورين من العلماء، وطلبة
وعامة المسلمين من انتشار عرض هذه المجلات في المكتبات والبقالات والأسواق
التجارية فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى ما يلي:
أولاً: يحرم إصدار مثل هذه المجلات الهابطة سواء كانت مجلات عامة، أو
خاصة بالأزياء النسائية، ومن فعل ذلك فله نصيب من قول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]
(النور: 19) .
ثانياً: يحرم العمل في هذه المجلات على أي وجه كان سواء كان العمل في
إدارتها أو تحريرها أو طباعتها أو توزيعها؛ لأن ذلك من الإعانة على الإثم
والباطل والفساد. والله جل وعلا يقول: [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (المائدة: 2) .
ثالثاً: تحرم الدعاية لهذه المجلات وترويجها بأية وسيلة؛ لأن ذلك من الدلالة
على الشر والدعوة إليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من
دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم
شيئاً» أخرجه مسلم في صحيحه.
رابعاً: يحرم بيع هذه المجلات، والكسب الحاصل من ورائها كسب حرام،
ومن وقع في شيء من ذلك وجب عليه التوبة إلى الله تعالى والتخلص من هذا
الكسب الخبيث.
خامساً: يحرم على المسلم شراء هذه المجلات واقتناؤها لما فيها من الفتنة
والمنكرات، كما أن في شرائها تقوية لنفوذ أصحاب هذه المجلات ورفعاً لرصيدهم
المالي وتشجيعاً لهم على الإنتاج والترويج. وعلى المسلم أيضاً أن يحذر من تمكين
أهل بيته ذكوراً وإناثاً من هذه المجلات حفظاً لهم من الفتنة والافتتان بها. وليعلم
المسلم أنه راعٍ ومسؤول عن رعيته يوم القيامة.
سادساً: على المسلم أن يغض بصره عن النظر في تلك المجلات الفاسدة
طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبعداً عن الفتنة ومواقعها. وعلى الإنسان
ألا يدَّعي العصمة لنفسه؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري
من ابن آدم مجرى الدم. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كم نظرة ألقت في قلب
صاحبها البلاء! فمن تعلق بما في تلك المجلات من صور وغيرها أفسدت عليه قلبه
وحياته وصرفته إلى ما لا ينفعه في دنياه وآخرته؛ لأن صلاح القلب وحياته إنما
هو في التعلق بالله جل جلاله وعبادته وحلاوة مناجاته والإخلاص له وامتلائه بحبه
سبحانه.
سابعاً: يجب على من ولاَّه الله على أي من بلاد الإسلام أن ينصح للمسلمين
وأن يجنبهم الفساد وأهلَه، ويباعدهم عن كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم؛ ومن
ذلك منع هذه المجلات المفسدة من النشر والتوزيع وكف شرها عنهم؛ وهذا من
نصر الله ودينه ومن أسباب الفلاح والنجاح والتمكين في الأرض كما قال الله
سبحانه: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ] (الحج: 40-41) .
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عضو ... ... ... ... ... ... ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
... ...
عضو ... ... ... ... ... ... ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد ... ... صالح بن فوزان الفوزان
الرقم: 21298
التاريخ: 21/1/1421هـ(152/48)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء البيان على ما يتيسر لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة
لقارئها ... سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر،
والله الموفق.
* شرح صحيح البخاري، لابن بطال أبي الحسين علي بن خلف بن عبد
الملك، تعليق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد بالرياض، 1420هـ
(عشرة مجلدات) .
من أقدم شروح الصحيح، حوى كثيراً من أقوال السلف ومذاهبهم، واعتنى
بآثار الصحابة والتابعين، وأكثر النقل عن الإمام مالك وأصحابه، حتى صار
مرجعاً فيه. وكثيراً ما ينقل عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
* تجديد الوعي، أ. د. عبد الكريم بكار، دارالمسلم، 1421هـ.
حلقة ثانية في سلسلة (الرحلة إلى الذات) ، كانت أولاها (فصول في
التفكير الموضوعي) ، فبعد أن يعرف المرء وضع الأمور في نصابها الصحيح
بتجرده عن مغريات الهوى وتهويمات الظنون يضحي لزاماً عليه أن ينظر في
آليات استيعابه للواقع وفي تنظيم ردود فعله عليه.
* العولمة وخصائص دار الإسلام ودار الكفر دراسة فقهية مقارنة، د.
عابد بن محمد السفياني، دار الفضيلة بالرياض، 1421هـ (جزء من رسالة
دكتوراه) .
في ظل الدعوة المسعورة إلى إدخال العالم بأسره تحت منظومة واحدة فكرية
وثقافية وتشريعية كفرية بلا شك نجد في ثنايا الكتاب دراسةً جادة عن كلٍ من: دار
الإسلام ودار الكفر، وخصائص كلٍ منهما، وبياناً لخصائص الأمة، وحكم
اندماجها في (النظام العالمي الجديد) .
* الدوحة النبوية الشريفة، دراسة موثقة في السيرة النبوية والذرية الطاهرة،
أ. د. فاروق حمادة، دار القلم بدمشق، 1420هـ.
لا يتم الإيمان إلا بتحقيق المحبة الصادقة الشرعية للنبي الكريم وذريته
الطاهرة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ومما يحقق المحبة:
المعرفة بسيرهم العطرة من طرقها الثابتة الصحيحة. وهذا موضوع الكتاب الذي
جمع مؤلفه مشكوراً مادته من وثيق المصادر، مع التحقيق والتنقيح فيما يتصل
بالكمال النبوي حساً ومعنى، وما يتعلق بسيرة أولاده والسبطيْن (الحسن والحسين)
رضي الله عنهم، وختم بسيرة مختصرة للأئمة الاثني عشر وما لهم من المرويات
في كتب السنة النبوية، كل هذا في وقت عظم فيه الكذب والافتراء على العترة
الطاهرة ادعاءاً لمحبتهم!
* موسوعة المرأة المسلمة المعاصرة، تأليف د. عبد الرب نواب الدين
الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية، دار
العاصمة، الطبعة الأولى، 1420هـ، 2000م.
وهي دراسة علمية يتناول فيها الباحث حقوق المرأة المسلمة وواجباتها
وحرياتها وأخلاقها وحياتها العامة والخاصة، ودورها في المجتمع والأسرة. صدر
المجلد الأول منها عن دار العاصمة بالرياض، فجاء حاوياً ومتتبعاً للآيات القرآنية
التي تضمنت أحكام النساء وما يتعلق بها على ضوء أقوال المفسرين المعتبرين،
فيورد الآية ويفسرها من باب تفسير القرآن بالقرآن مع التعقيب على ذلك بصحيح
السنة؛ متوخياً الأقوال المعتبرة للعلماء مع الميل لاختيارات مذهب الإمام أحمد
ومدرسته السلفية التي تبناها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والعلماء
الأثبات غيرهم؛ حيث يتوقف عند الآية ويستهدي بهديها وهو ضرب من التفسير
الموضوعي في أكثره وإن كان يخالف ما عرف عن هذا الضرب من التفسير الذي
يقوم على جمع الآيات القرآنية الواردة في موضوع واحد ثم التفريع عليه
والاستنباط منه، وذلك بتتبع المؤلف الآيات القرآنية التي جاءت في أحكام النساء
وما يتعلق بهن جاعلاً استنباطه من معطيات كل آية في موضعها كما أنه لم ينأ
عن عرض القضايا والشبهات المثارة في عصرنا حول المرأة ومكانتها والرد
عليها. والكتاب يتسم بحسن العرض وسهولة الأسلوب وغزارة الماد.
* حراسة الفضيلة للشيخ العلاَّمة بكر بن عبد الله أبو زيد، نشر دار
العاصمة بالرياض، الطبعة الأولى، 1421هـ.
من آخر عطاءات العلاَّمة المحقق الشيخ بكر أبو زيد هذا الكتاب القيم الذي
جاء في وقته وهو كما قال عنه المؤلف: هو رسالة تثبيت النساء المؤمنات على
الفضيلة وكشف دعاوى المستغربين في نشر الرذيلة، وهو خلاصة استخلصها من
نحو مئتي كتاب ورسالة ومقالة عن المرأة فضلاً عن كتب التفسير والحديث والفقه.
والكتاب فصلان: الأول في عشرة أصول منها:
وجوب الإيمان بالفوارق من الرجل والمرأة، وحجاب المرأة، والاختلاط
محرم شرعاً، والزواج تاج الفضيلة، ووجوب الغيرة على المحارم وعلى نساء
المؤمنين.
والفصل الثاني: كشف فيه المؤلف دعاة المرأة إلى الرذيلة وخطتهم في
إشاعتها في الحياة عن طريق الإعلام والتعليم والتوظيف للمرأة بلا استثناء. وهذا
شر مستطير.
ثم سلط الضوء على تلك الجهود المشبوهة ممن يثيرون هذه المسائل بدعوى
نصرة المرأة؛ وهم يعملون لإفسادها وإضلالها.
* المؤامرة الكبرى على بلاد الشام دراسة تحليلية للنصف الأول من القرن
العشرين، إعداد: محمد فاروق الخالدي، دار الراوي بالدمام، الطبعة الأولى،
1421هـ (572 صفحة من القطع الكبير) .
يأتي الكتاب في خمسة أبواب، الأول: خصص للحديث عن فضائل بلاد
الشام ومناقب أهلها والدور المنتظر لهم، الثاني: تكلم فيه عن عوامل سقوط الدولة
العثمانية، ودور السلطان عبد الحميد في الدفاع عن فلسطين، الباب الثالث: رصد
لعناصر المؤامرة الكبرى ممثلة في دور الحركة الطورانية ورد فعل الحركات
القومية عند العرب، ثم ثورة الشريف حسين وما كان وراء ذلك، أما الباب
الرابع: فتحدث عن الحصاد المر للتحالف مع الإنجليز، ومن ذلك احتلال
دمشق وبيروت. ويأتي الباب الخامس: ليتحدث عن الانتداب الاستعماري: مرحلة
تقسيم بلاد الشام وتجزئتها بين الإنجليز والفرنسيين، وإنشاء إمارة في شرقي
الأردن، وتهويد فلسطين.(152/52)
قراءة في كتاب
الإسلام وخرافة المواجهة
الدين والسياسة في الشرق الأوسط
المؤلف: فريد هاليداي [*]
تلخيص: خليفة البلة إسماعيل
الاستشراق ونقاده:
تحدَّث كثير من الكتاب والباحثين الغربيين عن العالم الإسلامي ديناً وشعوباً
وفكراً من منطلقات مختلفة، ومن هذه الدراسات الأخيرة هذا الكتاب لمؤلفه:
(فريد هاليداي) الذي تطرق في فصله الأول إلى: الشرق الأوسط والسياسة الدولية
بعد الحرب العالمية الثانية، فأكد على أنه أكثر المناطق اضطراباً في العالم الثالث،
ودلل على ذلك بالأزمات التي حدثت بعد تلك الحرب حتى الآن، كما أكد على
خصوصيته، وذلك باعتباره منطقة يسودها الإسلام، وأن الطريقة الوحيدة لفهم
مجتمعاته هي تحليل الإسلام ومعرفته. وأكد على أن الديمقراطية بكل أشكالها ليست
ممكنة في بلدانه. واقترح حلاً لهذه المشكلة من خلال حجتين هما:
1 - أن المقولات المستخدمة لوصف هذه المجتمعات يجب أن تكون نوعية
منبثقة من هذه المنطقة.
2 - لا يمكن فهم خصوصيات الشرق الأوسط المعاصر إلا على ضوء
التكوين التاريخي لمجتمعات المنطقة وسياساتها.
وتطرق للمحددات الخارجية والداخلية للنزاعات في الشرق الأوسط، فعزى
أسباب اندلاعها في رأيه إلى الإسلام و (النفوذ السوفييتي السابق) والإمبريالية،
أي أن أسباب النزاعات ترجع إلى عوامل داخلية وخارجية. وعادة ما يستبعد
العوامل الخارجية باعتبارها أسباباً رئيسة لاندلاع النزاعات في الشرق الأوسط. ثم
تطرق إلى التكوين التاريخي للشرق الأوسط من حيث عدد دوله وسكانه وموقعه
المتاخم لأوروبا، وهو ما جسد العداء بينهما منذ القدم؛ حيث اتخذ أشكالاً عدة:
عسكرية واقتصادية، وأيديولوجية، واستراتيجية. وفي هذا الإطار تحدث عن
الهجمة الاستعمارية على دول المنطقة وتقسيمها مستعمرات للدول الأوروبية؛ حيث
كانت الأهمية الاستراتيجية تلعب دوراً كبيراً في البداية ثم الأهمية الاقتصادية لدول
المنطقة، هذا الجو أدى إلى مقاومة شعوب المنطقة للاستعمار، وبخاصة بعد
الاستيطان اليهودي في فلسطين. وبدأت شعوب المنطقة تصارع المستعمر حتى
نالت استقلالها واحدة تلو الأخرى، ولكن مع ذلك ظل الصراع بعد الاستقلال،
وهو ما يمكن القول معه: إن الشرق الأوسط قد خضع لسيطرة الغرب الرأسمالي
المباشر وغير المباشر مما ولد سمات الكراهية للغرب. كما أكد على تشابه التكوين
التاريخي للمنطقة في فترة ما قبل الاستقلال وبعدها من حيث الهياكل السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والمشكلات التي تواجه دوله.
أما في الفصل الثاني: فقد تحدث عن الثورة الإيرانية من منظور مقارن،
وذلك لاختبار الحجة التي صاغها في الفصل الأول والتي تقول: إن تطور سياسات
المنطقة لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى الإسلام. ولاختبار ذلك أكد على إنجازات
تلك الثورة باسم الدين، إلا أنه قال برجعيتها لأنها ترفض الحداثة، أي أنها ترفض
حسبما ذكر التاريخ والتقدم وتحسين الظروف المادية والسيادة الديمقراطية. وأكد
على أنها أول ثورة معاصرة ذات اتجاه ديني. ثم تطرَّق إلى مسارها من المعارضة
حتى الاستيلاء على السلطة من الشاه، وإعلان إيران جمهورية إسلامية. وقد
عزى أسباب قيام الثورة إلى خمسة أسباب هي:
1 - تنمية اقتصادية سريعة وغير متوازنة.
2 - ضعف الحكومة الشاهنشاهية السياسي.
3 - الائتلاف الواسع لقوى المعارضة.
4 - دور الدين الإسلامي التعبوي.
5 - السياق الدولي المتناقض.
وبذلك يؤكد على أن الثورة لم تكن دينية لأن العوامل التي مكنت علماء الدين
من تحدي الشاه كانت كما ذكر عوامل علمانية، كما أكد كذلك على أن الثورة كان
لها أثر واضح في تردي الأوضاع الاقتصادية في إيران، وأدت إلى الحرب مع
العراق. وأشار إلى أن الأبعاد الاقتصادية والسياسية والدولية شكلت قيوداً على
إقامة جمهورية إسلامية. وأكد على أن الثورة على الرغم من أنها كانت تنكر
وترفض الاعتبارات الاجتماعية المادية إلا أنها انهارت بسببها.
أما في الفصل الثالث: فقد تطرق إلى حرب الخليج الثانية؛ حيث اعتبرها
من أهم الأزمات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. وأشار إلى أنه لم يكن للإسلام
دور كبير في أصول النزاع أو مساره أو حصيلته. ثم قدم استعراضاً تاريخياً
لسيناريو الحرب حتى تحرير الكويت بواسطة القوات الدولية، مشيراً إلى أهداف
الحرب، ومستبعداً صلة الحرب بالنظام العالمي الجديد وهو ما يعني اتفاق
المعسكرين على حل المنازعات الدولية التي كانت تشكل مثار خلاف بينهما. ولكنه
أكد على أن هذا المعنى لا يتسق مع خصائص النظام العالمي الجديد الذي سقط أحد
أقطابه الاتحاد السوفييتي ونفى الحكم العام الذي يؤكد على هيمنة الولايات المتحدة
على النظام العالمي الجديد، ودلل على ذلك برفض الرأي العام الأمريكي
والكونجرس للدور الأمريكي في الحرب. إلا أنه قد أشار إلى استخلاص عام طُرح
من بعض الكتاب تمثل في أن الحرب هي بداية نزاع عالمي جديد ومتجدد بين
الإسلام والغرب، ولكنه نفى ذلك الطرح. وأشار إلى أن الحرب ليست جديدة في
موضوعها، ولكنها جديدة فيما خلفته من ائتلاف بين دول عربية وأوروبية
وأمريكية في الحرب. ولكن هذه الحرب لم تحقق أهدافها؛ حيث لم يسقط صدام،
كما أنها لم تؤثر على مسار المفاوضات بين الفلسطينيين و «إسرائيل» بسبب
موقفهم مع صدام. وتطرق إلى تحليل الحرب وتقييمها؛ وذلك من خلال أربع
قضايا رئيسة وهي:
1 - أسباب التدخل العراقي.
2 - قضية البدائل الدبلوماسية للحرب في فترة الشهور الخمسة الفاصلة.
3 - طبيعة الحرب التي نشبت.
4 - سياسة الحلفاء تجاه العراق بعد الحرب.
وقد أكد على أهم سمة لهذه الحرب تمثلت في شكل التدخل العسكري
والسياسي الذي فرض على العراق في أعقابها. وتطرق إلى قضايا في تحليل
العلاقات الدولية، فتحدث عن القضايا التحليلية والقضايا المعيارية أو الأخلاقية التي
تطرحها الحرب، وبيَّن أن الآراء اختلفت في هذه القضايا؛ حيث جاءت متمشية
مع المواقف الأخلاقية.
أما في الفصل الرابع: فقد تساءل: هل ثمة خطر للإسلام أم خطر على
الإسلام؟
وللإجابة على هذا السؤال حاول شرح النزاع بين العالم الإسلامي والعالم
الأوروبي النصراني؛ حيث يرى بعض الساسة الأوروبيين أن الإسلام يشكل خطراً
عليهم، ويرى بعض الإسلاميين أن الغرب يشكل خطراً على الإسلام منذ القدم،
كما أن انتهاء الحرب الباردة يستدعي النزاع بين الغرب والإسلام، وبرهنوا على
ذلك بحرب الخليج الأخيرة، وأكد على أن كون الإسلام يشكل خطراً على الغرب
فهذه خرافة؛ لأنه ليس في مقدوره ذلك لعدم توحده، كما أنه ترتبط بعض أجزائه
بمصالح بالغرب، لذلك كثيراً ما حاربت دوله بعضها بعضاً. ونفى أن يكون
الإسلام هو العدو للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكنه مع ذلك أكد بأن
الغرب يمثل قوة توسعية تسعى للسيطرة على الآخرين وإجبارهم على اتباع
الديمقراطية الغربية، وذلك في نظرنا حتى تتحقق لهم مطالبهم التي يريدونها،
وأشار إلى أن الإسلام لا ينشأ عنه مجموعة واحدة من المبادئ السياسية أو
الاجتماعية وبخاصة في قضيتين رئيستين للجدال المعاصر هما:
1 - قضية الهوية والعرقية.
2 - قضية الديمقراطية.
وقد أكد على أن عملية فصل الدين عن الدولة قد رفضها الإسلام بجميع
مذاهبه وأشكاله. وتطرق كذلك إلى الجاليات الإسلامية في العالم الغربي، وذكَّر
بأنها على الرغم من اختلافها في الأصل وبلد الإقامة إلا أنها تجمعها خصائص
مشتركة، وأشار إلى أن دراسة هذه الجاليات يجب أن لا تقوم على سوسيولوجيا
الدين وحدها، وإنما يجب أن تتضمن سوسيولوجيا التفاعل بين الدين والقوى
العرقية والثقافية والسياسية الأخرى. وتطرق إلى النزاع الذي تم حول كتاب
(آيات شيطانية) للكاتب البريطاني سلمان رشدي، والذي أثار غضب المسلمين في
بريطانيا وفي جميع أنحاء العالم. وقد أكد على أن المشكلات بين الإسلام والغرب
على الرغم من إرجاعها إلى الدين إلا أنها ستستمر بدونه، ولكنها تجد تعبيراً أقوى
بالدين. ويرى أن الحل الوحيد هو تنافس العالم الإسلامي والعالم الغربي في المجال
الاقتصادي والعسكري الذي يشكل بصورة متزايدة أساس النزاع الدولي في أواخر
القرن العشرين، وبالإضافة إلى ذلك دعا أوروبا الغربية أن تضع سياسة متوازنة
ذات جانبين إزاء القضايا التي يلخصها تعبير الإسلام وهما:
1 - ينبغي أن يكون هناك وعي أكبر وعداء أكبر للعنصرية والتحيزات
العرقية والدينية العامة الموجهة ضد المهاجرين المسلمين في المجتمعات الأوروبية،
وتجاه البلدان الإسلامية في الخارج.
2 - أن يرسم الغرب سياسة طويلة الأجل للتفاعل مع هذه البلدان ترمي إلى
مساعدتها في طريق التنمية.
أما في الفصل الخامس: فقد تطرق الكاتب إلى موضوع حقوق الإنسان
والشرق الأوسط؛ حيث أشار إلى أن الإسلام يتناول الحياة ومشكلاتها بصورة كلية.
واحتلت البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط في الجدال الدولي حول حقوق
الإنسان مكاناً عاماً وخاصاً؛ فهي من ناحية تعتنق أفكاراً تتقاسمها مع بلدان العالم
الأخرى، ومن ناحية خاصة حددت موقفاً من حقوق الإنسان مستمداً من الطابع
الديني الخاص لمجتمعاتها ومعتقداتها. وقد أورد الكاتب أنواعاً من التفسيرات
للعلاقة الصحيحة بين الإسلام بوصفه ديناً وقضية حقوق الإنسان، وحدد أربع
استجابات أو مواضيع متميزة من داخل (الخطاب الإسلامي) ، ونهجاً آخر خامساً
يمثل (الخطاب السياسي) وهي:
1 - الاستيعاب: والذي يعني إنكار النزاع الجوهري بين الإسلام والمفهوم
الدولي عن حقوق الإنسان. فالإسلام والقانون الإسلامي مستوفيان للمعايير الدولية،
بل إن القوانين الدولية جزء ضئيل من الإسلام.
2 - التملك: ويقصد به أن الدول الإسلامية تحترم حقوق الإنسان وتطبقها
بدرجة أكبر من المجتمعات الأخرى.
3 - الخصوصية: وتتمثل في النوعية الثقافية والتاريخية لهذه المجتمعات؛
فإن الدول الإسلامية لا تنكر حقاً مَّا إلا أنها تقول: إن هذا غير ملائم عندنا.
4 - المواجهة: وقد حدثت مع الغرب وذلك برفض الإسلاميين مفاهيم
القانون العلماني الذي أرسته الدول الاستعمارية. وأكدوا على أن الشريعة هي
أساس كل تشريع في العالم المعاصر.
5 - عدم التوافق بين التقاليد والقوانين الإسلامية مع القوانين المعترف بها
دولياً. وأشار إلى أن الحقوق لا يمكن أن تُرسى إلا في سياق يُستبعَد فيه الدين من
الحياة العامة.
ويؤكد الكاتب على أن الأساس الوحيد لمفهوم حقوق الإنسان هو الاستنباط
العلماني من القانون الطبيعي الذي يرتكز عليه (الخطاب الفرانكو أمريكي) في
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من صكوك. ويرى أن أي محاولة لتطوير
حقوق الإنسان في العالم الإسلامي محكوم عليها بالإخفاق، لذلك يقول: الرد الوحيد
على ذلك هو الانتظار لسنوات طويلة لكي تتحول المجتمعات المسلمة إلى العلمانية.
وعلى هذا الأساس يرى أن المدونات الدولية لحقوق الإنسان تعتبر كلية، أما
القوانين الإسلامية فما هي إلا جزء منها أي أنها نسبية، ولكن العكس صحيح. أما
العالم الإسلامي فإنه يرى أن هذه الدول على الرغم من أنها صاغت حقوق الإنسان
وحاولت إملاءها على الآخرين إلا أنها كثيراً ما انتهكتها هي نفسها، وذلك من
خلال تعاملها مع القضايا الدولية بمعايير مزدوجة، وبمعنى أدق: أن العالم
الإسلامي يرى أن الغرب يستغل عملية حقوق الإنسان لأغراض سياسية. وفي
ختام هذا الموضوع أكد الكاتب على أنه لا يمكن الوصول إلى صيغة دولية تلتزم بها
الدول الإسلامية بالنسبة لحقوق الإنسان، ولكن رغم التشاؤم فإنه دعا إلى التعامل
مع بعض الذين يقبلون الاتفاقات والممارسات الدولية عن حقوق الإنسان في العالم
المسلم؛ لأن ذلك سوف يعزز العلمانية، ولأنه يرى أن الإسلام لا يوفر في زعمه
قدراً كافياً لحقوق الإنسان.
أما في الفصل السادس: فقد تطرق إلى العداء للمسلمين والسياسة المعاصرة؛
حيث أكد على أن الغرب يرى أن الإسلام يشكل خطراً على المجتمع الأوروبي،
وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانعكس ذلك على المسلمين الذين يعيشون
في المجتمعات الأوروبية. ومسألة العداء للمسلمين قديمة وتعود إلى القرن السابع،
ولكن لماذا ظهرت في الوقت الحاضر؟
فقد أشار في هذا الإطار إلى الاعتقاد الشائع بين المسلمين الذي يرى أن العداء
سمة قديمة ومستمرة. ويرى آخرون أن العالم الإسلامي هو العدواني، ومن ثَمَّ
يستحق ما أنتجه من معارضة. ولكنه أكد على نقطة مهمة وهي أن الدول الإسلامية
لم تمثل تهديداً استراتيجياً للغرب منذ القرن السابع عشر، ويرى أن القضايا الكامنة
خلف الاضطراب الحالي هي قضايا التنمية والتغيير السياسي. وقد عدد الكاتب
بعض الدول المعادية للإسلام قديماً وحديثاً، فذكر صربيا واليونان وبلغاريا
والهند وأوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل، حيث ارتبط العداء بزعمه
بقضايا أخرى: كالإرهاب، وقهر المرأة، والعرقية واللون، والنزاعات بين
الطوائف، والفساد الإداري والنزاع بين الدول وغيرها. ويتوقف إلى حدٍ كبير
على تقدم هذه العمليات والنزاعات الأخرى.
أما في الفصل السابع: وهو الخاتمة: فتحدث عن الاستشراق ونقاده؛ حيث
اعتبره من أكثر القضايا إثارة للجدال في تحليل الشرق الأوسط المعاصر، إلا أنه
تحول إلى الجدال حول الإسلام، وخاصة في فترة الستينيات؛ حيث ظهرت كتابات
انتقدت الأفكار الأوروبية عن الشرق الأوسط من مفكرين يساريين أو ممن ينتمون
إلى الشرق الأوسط أمثال: مكسيم ردونسون، وإدوار سعيد الذي أصدر كتاباً عن
الاستشراق عام 1978م قدم فيه نقداً شاملاً للكتابات الغربية عن الشرق الأوسط يمتد
من القرن الثامن عشر حتى الوقت الحالي، ويشمل جميع نواحي الحياة، وقد انتقد
سعيد كتابات ميشيل فوكو الذي أنكر ثقافة الشعوب الخاضعة وتاريخها، وتجاهل
عملية المقاومة التي قدمتها، ومن ثَمَّ يدعو مشروعه للسيطرة أو الإمبريالية. ومن
الكتَّاب الذين كتبوا عن المنطقة برنارد لويس الذي دعا إلى نهج يندرج في فئة
الاستشراق. وقد وجد كل من سعيد ولويس مناصرين لأفكارهما. وأشار المؤلف
أن هناك قضايا عامة تحثُّ الباحثين في الغرب على الكتابة عن الشرق الأوسط
وهي: (اللغة الدين الإسلامي التغير التاريخي على التوالي. أي: استحالة التغير
في اتجاه ليبرالي وعلماني بالنسبة للمنطقة) . وقام بنقد كتاب إدوار سعيد عن
(الاستشراق) ؛ حيث أكد أن هناك عدداً من المسائل عجز سعيد عن حلها، ولذلك
عدَّد أربع مسائل تسمح بوجه خاص بالاختلاف وهي:
1 - الاختلاف حول تعبير الاستشراق نفسه.
2 - غموض مقولة الشرق.
3 - الاختلاف فيما يطرحه سعيد من افتراض منهجي عن العلاقة بين منشأ
الأفكار وصحتها، فهو يوحي بأنها أُنتِجَتْ في سياق من السيطرة الغربية ولخدمتها.
4 - أن سعيداً لم يحلل أفكار الشرق الأوسط ذاته وأيديولوجياته.
وقد أنهى الكاتب كتابه بنداء قال فيه: دعونا لنمضي إلى أبعد من هذا الجدال
المستقطب دون ضرورة والفقير منهجياً في بعض النواحي، ولنواصل مهمة دراسة
المجتمعات من خلال شعار يمكن السعي وراءه وهو قوله تعالى: [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا] (الحجرات: 13) .
__________
(*) ترجمة الأستاذ: محمد مستجير، دار النشر، مكتبة مدبولي، مصر، الطبعة الأولى، 1997م، عدد صفحات الكتاب، 260 صفحة.(152/54)
نص شعري
براءة الليل
محمد محمد صديق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر، فإنّ الله هو
الدهر» [1] .
رحل الهوى وتشتت الفكْرُ ... والهمُّ ممتلئٌ به الصدْرُ
والكونُ أطفأ نورَ شمعته ... فأطلّ من إغفائه البدْرُ
صمتٌ سَرى في كل ناحيةٍ ... لا نَسمةٌ هبّتْ ولا صِرُّ
همٌّ تسرّبَ في وريدِ دمي ... فغدتْ به الأعماقُ تغترُّ
كُتبَتْ على صفحاتِ ذاكرتي ... جملُ الكآبةِ، فانْزوى البِشْرُ
وخواطري أمستْ على شفتي ... لحنَ الأسى ليصوغه الشِعْرُ
لحنٌ تردّد في مخيِّلتي ... حتّى انقضى من ليلي الشّطْرُ
بالليل أقلامي معي سهِرتْ ... أرقًا، وملءُ إداوتي حِبْرُ
الهمُّ أغرقَ كل أوديتي ... وجرى من استغراقه نهْرُ
وَوُرودُ روضي كلُّها ذبلتْ ... قد زال عنها الحسنُ والعِطْرُ
عصفورتي يا ليلُ ساهمةٌ ... في العشِّ تقبعُ، حولها الذُّعْرُ
كلُّ الهموم بظلّكَ اجتمعتْ ... يا ليلُ! فيكَ مشاعري جَمْرُ
هل آخذٌ بيديك ناصيتي؟ ... أم منكَ يأتي النهيُ والأمرُ!
يا ليلُ! فلترحلْ على عجلٍ ... فعسى يطيب بِبُعدك الدّهْرُ
ما دمتَ بالظّلماءِ متّشِحاً ... يغتالُ كلَّ خصالكَ الغدْرُ
في حينها هبّتْ نسائمُه ... ورنا بطرفٍ ملؤه ثأْرُ
في صوته المبحوحِ فَهْفَهةٌ ... كنواحِ طيرٍ هدّه الأسْرُ
مهلاً! إليكَ الآن أجوبتيْ ... وإليَّ من ديواننا شِعْرُ
حرُّ الحقيقة لا مداهنةً ... إن الحقيقةَ طعمُها مُرُّ
صوّبتَ نحوي سْهمَ منتقدٍ ... وبراءتي في أرضكم جِذْرُ
لغةُ الأسى للفعل ترجمةٌ ... ولشرحِ ما اقترفتْ يدٌ ثَغْرُ
فدعِ التَّسَخُّطَ دونما أسفٍ ... ولْيمضِ عن أنفاسك الزّفرُ
أجران إن تنل الصوابَ، وإن ... أخطأت ينقص منهما أجرُ
أمسى يلاطفني على ثقةٍ ... أنْ لاح في حسبانه النّصرُ
فطوى بساطَ ظلامه ومضى ... والنور شعشع وانبرى الفجْرُ
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 2246.(152/60)
نص شعري
بلعام [*] .. عاد من جديد
عبد الحميد بن سالم الجهني
عاد بَلْعامُ بْنُ باعورَ على ... فترةٍ يصرخ: أين الأنبياءْ
أتراهم أخلدوا للأرض أم ... فارقوا الدنيا وساروا للسماءْ
لاهثاً كالكلب في آثارهِ ... مِزَعٌ من علمه كانت نجاء [1]
وإذا الشيطان يتبعه وقد ... تبع الدنيا وأهواء الشقاءْ
عدت يا بلعام مسعوراً كما ... كنتَ من قبلُ تَؤمُّ الأدعياءْ
عدت يا بلعام ها قد عدت في ... ثوب قسٍ ماجنٍ كلَّ مساءْ
يجمع الناس على شقوته ... بعد أن دُكَّتْ صواميع الرياءْ
ومضى يدعو إلى عَلْمَنَةٍ ... خلط الإنجيل فيها بالهُراءْ
لاعقاً في كل عام بعد أن ... يترك القُدَّاس سُوق الأغنياء [2]
لعنة الآثام في أَنْفاسهم ... وتراهم في ثياب الأتقياءْ
عدت يا بلعام ها قد عدت في ... طيلسانٍ تَنْتَشِي فيه الدماءْ
يقتل الفجر إذا ما وقعتْ ... عينهُ في عين أطفال الإِباءْ
يرسل الحزن إلى أكواخهم ... شبحاً يَقْصِفُ وَرْد الأبرياءْ
رقصتْ عندك (راحيلُ) على ... منبر الأقصى مصلى الأنبياء
ذلة الكفر على أعناقهم ... ولهم في موطني عِزُّ البقاءْ
عدت يا بلعام ها قد عدت في ... بردةٍ قَصَّبها بعضُ الغثاءْ
يجمع الديباج من سُبحَتِهِ ... ويرى في ظلمة القَرْش الضياءْ
نتن الدنيا أريجٌ حَوْله ... والهوى يحدو به أيَّ حُداءْ
سادر في غيه في غمرةٍ ... من تسابيحَ وأحلامٍ هباءْ
سكرة الدنيا على أبصارهم ... والفتاوى بجموع الفقراءْ
عدت يا بلعام سحقاً إن في ... أمتي أتباعَ خير الأنبياءْ
علماءٌ.. أتقياءٌ.. لم يكن ... فيهمُ يوماً عبيدٌ للثَّراءْ
سُجَّدٌ لله لم يعتصموا ... بسواه فله كلُّ الولاءْ
__________
(*) ذكر المفسرون أن بلعام هو المقصود في قوله تعالى: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا] (الأعراف: 175) .
(1) النجا (مقصوراً) : الجلد ومددته ضرورةً وقد قال تعالى: [فَانسَلَخَ مِنْهَا] (الأعراف: 175) إذ كانت له كالجلد.
(2) القُدَّاس: ما يقيمه النصارى في نهاية كل عام في كنائسهم سوق: جمع ساق ساق.(152/62)
نص شعري
نفث وتَبْثِيْث
مشبب بن أحمد القحطاني
ماذا تُفيدُ تَرانيمِي وأشعَاري ... وكيفَ أشْدُو إذا ضَيَّعتُ قِيثَارِي؟
وكَيفَ أجمعُ آمالاً مُبَعثَرةً؟ ... في ليلةٍ ذاتِ إرعادٍ وإعصَارِ
وأعصِرُ الفِكرَ عَلّ اللهَ يُرشِدُني ... دَرباً قَويماً بِلا شَوكٍ وأحجَارِ
يَا أمّتي ما عساكِ اليومَ فاعلةً ... وأنتِ في مَركَبٍ من غَير بَحَّارِ
يا أمّتي والرَّزايَا ثَوبُها دَنِسٌ ... وبَعضُ قَومِي على أهوائهِ عَارِي
يا أمّتي كم أُنادي لا مُجِيبَ فَقَد ... حُبِسْتِ قَسراً عَنِ العَلياءِ والثَّارِ
تَمضِي اللّيالِي ولَم نَبرح مَنازِلَنَا ... ومَا انقَضَى الخَطوُ في الظَّلماءِ للسَّارِي
نَتِيهُ في مَهمَهٍ لا رَايةٌ نُصِبَت ... ونَحنُ في ذِلَّةٍ مِن كُلّ كَفَّارِ
إنّا لنَنْظُرُ للمَجهُولِ في هَلَعٍ ... كَأنَّ غَايَتَنا فِي كفِّ جَزَّارِ
وَبَينما هِمتُ في بُؤسٍ ومَحزَنَةٍ ... ولَذَّةُ النَّوم نَدَّت دُونَ إشعارِي
رأيتُ في حَالِكِ الظَّلمَاءِ بَارقَةً ... والصُّبحُ شَمَّرَ عَن نُورٍ وإسفَارِ
وَيَنزِلُ الله في الثُّلْثِ الأخِيرِ إذا ... تَقَارَبَ الفَجرُ للدّاعِي بأسحَارِ
وَيكشِفُ الله للمُحتَاجِ كُربَتَهُ ... أنعِمْ بِرَبٍّ قريبٍ واهبٍ بارِي
والنَّصر يا قومِ لن تَهمِي سَحَائِبُه ... إلا لجِيلٍ عظيمِ العزمِ مِغوَارِ
هُبّوا وَلَبّوا فما في البُؤسِ من رغدٍ ... فالجذعُ مِن مكَّةٍ والغُصنُ أنصَارِي
مَهمَا تَكُن هَمْلَجَاتُ الدَّهرِ مُزبِدَةً ... وَجَحفَلُ الشَّرِّ مُلتَفّاً على الدَّارِ
فَلم تَزَل رايةُ التَّوحِيدِ خَافِقَةً ... وَمُرهَفُ الحَدِّ مَسنُوناً عَلَى النَّارِ(152/63)
الإسلام لعصرنا
دين لا تكفير فيه ليس بدين
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
في عالمنا الإسلامي العربي منه وغير العربي مخلوقات غريبة تريد أن تجمع
بين المتناقضات ولا تريد مع ذلك أن يعترض على تناقضها معترض. يريدون أن
يقولوا لإخوانهم الذين كفروا من أهل الغرب إنما نحن مثلكم ننتقد الدين كما تنتقدون،
ولا نلتزم به كما أنكم لا تلتزمون، ولا نترك فرصة للسخرية منه ومن
المستمسكين به إلا اهتبلناها كما تهتبلون، ونرى كما ترون أن من حق الأديب
والفنان أن ينتقد قيم المجتمع ومعتقداته ويدعو إلى نبذها؛ لأنه لا يكون أديباً أو فناناً
مبدعاً إلا إذا فعل كل هذا بحرية كاملة كما تفعلون.
لكن الفرق بين مخلوقاتنا العريبة الممسوخة المقلِّدة هذه وبين من هم أسوة لهم
من إخوانهم الذين كفروا في الغرب، أن أولئك إذا قيل للواحد منهم: إنك كافر
بالمسيحية أو اليهودية اعترف بهذا وعده من تحصيل الحاصل. لكن مخلوقنا
الممسوخ يرتجف ويولول ويطلب النجدة إذا قيل عن كلامٍ كتبه هو أو أحد من
شاكلته: إنه كفر وخروج عن دين الإسلام. إنه يريد أن يكون كافراً حقاً، لكنه
يرتعد حين يوصف بالكفر المعبر عن تلك الحقيقة. يريد أن يكون كافراً لكنه يريد
أن يعيش في أمن، وأن يكون ذا سمعة حسنة في المجتمع الذي يتنكر لأحسن ما فيه
من معتقدات وقيم، ويريد شأن كل منافق أن يتخذ من انتمائه للإسلام حصناً لهدمه.
وهيهات.
وهو حين يواجه هذا الخطر على نفسه وعلى سمعته يتحول إلى واعظ يذكِّر
من رموه بتهمة الكفر بقول الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) وهي الآية التي لا يكاد
الواحد منهم يحفظ من كتاب الله تعالى غيرها يحفظها ليحتمي بها بعد أن يحرِّف
معناها ويؤولها على غير تأويلها. نعم نحن مأمورون بأن ندعو بالحكمة والموعظة
الحسنة! لكن الذي نحن مأمورون بالدعوة إليه هو سبيل ربنا، وهو أمر واضح
المعالم، بيِّن الحدود. فنحن نفهم السبيل إلى الدعوة بالتي هي أحسن؛ لكننا لا نفهم
من الدعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن أن نميع حقائق هذا الدين، أو أن نطمس
معالمه، أو نزيل الحدود التي تميزه عن غيره فيكون شيئاً هُلامياً لا يُعرف أوله من
آخره، ولا يُعثر فيه على ما يميزه عن غيره، فلا يمكن لذلك أن يحكم على إنسان
بأنه داخل فيه أو خارج عنه. وما هكذا يكون الدين المنزل من عند الله، بل ما
هكذا يكون أي مذهب: حقاً كان أم باطلاً. لا بد لكل مذهب من معالم تحدد هويته،
وتميزه عن غيره، حتى يقال عن إنسان إنه منتمٍ إليه أو ليس بمنتمٍ، وإنه مؤمن به
أو كافر به. إن المذهب الذي ليس فيه ما يميزه عن غيره ليس بمذهب. والإسلام
دين منزل من عند الله مرتكز على مجموعة من الحقائق، من آمن بها كان مسلماً،
ومن أنكرها أو سخر منها أو استهزأ بها كان كافراً. فإمكانية الحكم على إنسان
بالكفر أمر لازم لهوية الدين. فالدين الذي لا إكفار فيه ليس بدين؛ لأنه لا هوية له.
إذا لم تكن للدين هوية ولم تكن له معالم فإلى أي شيء تكون الدعوة بالحكمة
والموعظة الحسنة؟ والآية الكريمة التي يستدل بها هؤلاء الممسوخون تبطل
دعواهم، وتدل على تحريفهم. وذلك أنها تبدأ كما قلنا بقوله تعالى: [ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ] (النحل: 125) وسبيل الله هو مجموعة الحقائق والقيم المبينة في
كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إنها دعوة إلى توحيد الله تعالى وعدم
الإشراك به، دعوة إلى حبه وتقديره حق قدره، دعوة إلى الإيمان برسوله وتعزيره
وتوقيره، دعوة إلى الإيمان بأن ما قرره الإسلام حق لا ريب فيه، وما أمر به عدل
لا ظلم فيه [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً] (الأنعام: 115) . فكل قول أو
فعل يتناقض مع هذا فهو كفر، وكل قائل به وعامل به على بصيرة فهو كافر
خارج عن ملة الإسلام، روائياً كان أم ممثلاً أم فناناً، ناطقاً بالشهادتين أو غير
ناطق.
لكن المخلوقات الممسوخة تريد أن تتستر بكفرها وراء الأدب والفن، فتزعم
تارة أننا لم نفهم ما قيل على أنه عمل أدبي فني. هكذا قال المدافعون عن سلمان
رشدي في آياته الشيطانية في البلاد الغربية، وهكذا يقول المدافعون عن حيدر
حيدر في وليمته لأعشاب البحر. وإن المرء ليعجب إذا كان جماهير الناس، بل
خاصتهم لا يفهمون القصص والروايات؛ فيا ليت شعري ماذا يفهمون؟ ثم هل
يعقل أن يكتب كاتب قصة لا تفهمها الجماهير؟ إذن من الذي سيشتريها، ومن ذا
الذي يقرؤها؟
وتزعم أخرى بأن الفنان لا يحاكم بالمعايير نفسها التي يُحاكَم بها سائر عباد
الله. أي إنه من حقه وليس من حق السياسي مثلاً أن يظهر الكفر ويدعو إلى التهتك
ما دام يعرض علينا كفره وتهتكه في صورة أدبية أو فنية، وما دام الكلام ليس
صادراً منه هو مباشرة، وإنما يقال على لسان شخصيات روايته أو قصته. فهنيئاً
إذن لك فاحشاً بذيئاً؛ إذ ما عليه لكي ينجو من كل محاسبة إلا أن يضع شتمه
وبذاءته على لسان شخصية يخترعها، في قصة أو رواية قصيدة يكتبها.
ماذا يعني هذا؟ أيعني أن الأعمال الفنية إنما هي أشكال لا محتوى لها؟ وأنها
إنما يحكم عليها لذلك بشكلها لا بمضمونها؟ هل هذا صحيح؟ هل هذا هو الذي
يفعله النقاد في تقويمهم للأعمال الفنية؟ وهل الشكل وحده هو الذي يبتغيه متعاطو
هذه الأعمال؟ وهل معنى هذا أنه إذا كان كاتب ذو مواهب فنية رائعة أنه يجوز له
أن يكتب قصة فحواها الاستسلام لإسرائيل، وأنه لا يحق للفلسطينيين ولا غيرهم
أن يعترضوا على ما فيها؛ لأنها عمل فني؟ أم أن المحتوى الوحيد الذي لا يجوز
الاعتراض عليه هو الاستهزاء بدين الله وتنقُّص أنبياء الله؟
وإذا كان بعض الناس يضعون الجمال الفني فوق الحق وفوق القيم، فما هكذا
يرى المسلم المهتدي بكتاب ربه الذي يعلي من قدر الصدق والعدل، ويذم الكذب
والجور في أي شكل جاء هذا أو ذاك. ولهذا حكم على الشعر بمحتواه لا بمجرد
شكله.
[وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ
مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] (الشعراء: 224-227) .(152/64)
وقفات
نور الهداية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت عائداً من سفر طويل، وقدَّر الله تعالى أن يكون مكاني في مقعد الطائرة
بجوار ثلَّة من الشباب العابث اللاهي الذين تعالت ضحكاتهم، وكثر ضجيجهم،
وامتلأ المكان بسحاب متراكم من دخان سجائرهم؛ ومن حكمة الله تعالى أن الطائرة
كانت ممتلئة تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير المقعد.
حاولت أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم، ولكن هيهات هيهات..
فلمَّا ضجرت من ذلك الضجيج أخرجت المصحف ورحت أقرأ ما تيسر من القرآن
الكريم بصوت منخفض، وما هي إلا لحظات حتى هدأ بعض هؤلاء الشباب،
وراح بعضهم يقرأ جريدة كانت بيده، ومنهم من استسلم للنوم.
وفجأة قال لي أحدهم بصوت مرتفع وكان بجواري تماماً: يكفي، يكفي..!!
فظننت أني أثقلت عليه برفع الصوت، فاعتذرت إليه، ثم عدت للقراءة
بصوت هامس لا أُسْمِعُ به إلا نفسي، فرأيته يضم رأسه بين يديه، ثم يتململ في
جلسته، ويتحرك كثيراً، ثم رفع رأسه إليَّ وقال بانفعال شديد: أرجوك يكفي..
يكفي.. لا أستطيع الصبر..! !
ثم قام من مقعده، وغاب عني فترة من الزمن، ثم عاد ثانية، وسلَّم عليَّ
معتذراً متأسفاً. وسكت وأنا لا أدري ما الذي يجري! ولكنه بعد قليل من الصمت
التفت إليَّ وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لي هامساً: ثلاث سنوات أو أكثر لم
أضع فيها جبهتي على الأرض، ولم أقرأ فيها آية واحدة قط..! وها هو ذا شهر
كامل قضيته في هذا السفر ما عرفت منكراً إلا ولغت فيه، ثم رأيتك تقرأ،
فاسودَّت الدنيا في وجهي، وانقبض صدري، وأحسست بالاختناق، نعم..
أحسست أنَّ كل آية تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط..!
فقلت في نفسي: إلى متى هذه الغفلة؟ ! وإلى أين أسير في هذا الطريق؟ !
وماذا بعد كل هذا العبث واللهو؟ !
ثم ذهبت إلى دورة المياه، أتدري لماذا؟ !
أحسست برغبة شديدة في البكاء، ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس
إلا ذلك المكان! !
فكلمته كلاماً عاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.. ثم سكت.
لما نزلت الطائرة على أرض المطار، استوقفني وكأنه يريد أن يبتعد عن
أصحابه، وسألني وعلامات الجدّ بادية على وجهه: أتظن أن الله يتوب عليَّ؟ !
فقلت له: إن كنت صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإنَّ الله تعالى يغفر
الذنوب جميعاً.
فقال: ولكني فعلت أشياء عظيمة.. عظيمة جداً..! !
فقلت له: ألم تسمع قول الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ]
(الزمر: 53) .
فرأيته يبتسم ابتسامة السعادة، وعيناه مليئتان بالدموع، ثم ودعني ومضى..!
سبحان الله العظيم..!
إن الإنسان مهما بلغ فساده وطغيانه في المعاصي فإنَّ في قلبه بذرة من خير،
إذا استطعنا الوصول إليها ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى.
إنَّ بذرة الخير تظلُّ تصارع في نفس الإنسان وإن علتها غشاوة الهوى؛ فإذا
أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوار الهداية، وسلكه في سبيل المهتدين. قال
الله تعالى: [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] (الأنعام: 125) .(152/66)
ندوات ومحاضرات
ندوة حول المستقبل الاقتصادي
في ظل العولمة ... نكون أو لا نكون
شعار ... متى نرفعه اقتصادياً؟
(2 - 2)
إعداد: وائل عبد الغني
البيان: وقفنا في الحلقة الماضية مع ضيوفنا الكرام على مفهوم العولمة،
ورأينا حجم التناقض في الفكرة وحجم الإشكاليات في التطبيق، وتعرفنا على القوى
التي تحرك العولمة لتنفرد بالعالم، كما تعرفنا على الآليات التي تدار بها العولمة
لتحقق أهدافها، وتوقفنا على هذا الخطر الذي بات يتهددنا نحن تحديدًا وربما يتهدد
غيرنا أيضًا، وهنا نواصل الحديث حول مفردات المشكلة في عالمنا الإسلامي
محاولين استشراف الحل.
ونرحب بضيوفنا الأكارم.. وقرائنا الأعزاء؛ ولنبدأ بسؤال ربما يثور في
نفس كل غيور وهو: لماذا حقق هؤلاء كل هذه الإنجازات المادية في بلادهم ولم
نحقق نحن أيّاً من ذلك، رغم الفارق بين المنهجين؟ نستمع للدكتور عبد الحميد:
د. عبد الحميد الغزالي:
السبب واضح؛ وهو أن الرأسمالي عندما يطبق الرأسمالية على مستوى الفرد
يقيم هذه الرأسمالية رغم ما فيها من مثالب، وبذلك تتفق قناعاته مع تطبيقه.
أما في العالم الإسلامي فنجد أن الفرد في داخله حقيقة العقيدة الإسلامية، لكنه
يرى الأنظمة أشياء بعيدة تمامًا عما يعتقده!
هذا الانفصام وهذه الازدواجية كانا من أهم أسباب الأداء المتدني في الإنتاجية
على مستوى الفرد والمجتمع، ومن هنا يأتي التخلف الاقتصادي والاجتماعي؛ لأننا
إذا طبقنا المعايير الاقتصادية سنجد أن دول العالم الإسلامي كلها متخلفة، وبشهادة
المنظمات الدولية، بما في ذلك مجموعة الدول ذات الرساميل النفطية؛ لأن المسألة
ليست ثراءاً ماديًا وإنما الأمر يقاس بمدى مساهمة القطاعات السلعية بالذات في
الناتج القومي، وبالذات.. الصناعة التحويلية. أو بمعنى آخر: مدى قدرة المجتمع
على إنتاج ما يحتاج إليه أبناؤه من سلع وخدمات. ووفقًا لهذا المعيار فإن العالم
الإسلامي كله يقع ضمن العالم المتخلف المسمى بالنامي.
البيان: ولكن مقاييس التخلف يمكن التلاعب فيها سلبًا أو إيجابًا حسب الزاوية
والوجهة التي ينطلق منها الباحث. ألا ترى أن الأمر يحتاج إلى ضوابط موضوعية
أكثر تحديدًا للقياس؟
د. عبد الحميد الغزالي:
مقاييس التخلف تطورت اليوم عن ذي قبل، وأصبحت أكثر موضوعية؛
لأنها أصبحت تستبعد أثر الأسعار وتضيف أبعادًا أخرى مثل المشاركة السياسية
ومستوى الحالة الصحية.
والتخلف هو عبارة عن حالة الانخفاض النسبي في مستوى النشاط الاقتصادي
لمجتمع من المجتمعات.
لكن عندما نتحدث عن التخلف في العالم الإسلامي فلا بد من إضافة أبعاد
أخرى يمكنها أن تصوب النظرة للقياس وذلك لضبط المعنى المراد من اللفظ
بوصفها وحدة للقياس. ومن هذه الزاوية يمكن أن أضيف تعريفين منضبطين
للتخلف الاقتصادي:
الأول: إذا وجدت مجتمعًا من المجتمعات الإنسانيَّة فيه مقهور سياسيًا ومستغَلٌّ
اقتصاديًا أي فقد شرطي العدالة والحرية فنحن أمام مجتمع متخلف!
الثاني: إذا وجدت مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية وهي: حفظ الدين،
والعقل، والنفس، والمال، والنسل مغيبة فثق أنك أمام مجتمع متخلف مهما أوتي
المجتمع من موارد مادية وبشرية ومالية.
والعالم الإسلامي يعيش هذه الحالة، وينطبق عليه كِلا التعريفين رغم ما حباه
الله من امكانيات بشرية ومادية.
د. رفعت العوضي:
تكملةً لكلام الدكتور عبد الحميد: علينا أن نفرق بين ما يملكه العالم الإسلامي
من موارد اقتصادية ضخمة والتي تعد قوة كامنة وبين ما ينتجه العالم الإسلامي..
الأرقام في هذا المجال تمثل صدمة كبيرة إذا ما قيست بالعالم من حولنا.
فالعالم الإسلامي كما تقول الأرقام مكون من 56 دولة، وعدد سكانه 2. 1
مليار نسمة، ويبلغ إجمالي إنتاجه المحلي حوالي 735 مليار دولار سنويًا. وفي
المقابل نجد أن الولايات المتحدة بتعدادها البالغ 265 مليون نسمة (خمس سكان
العالم الإسلامي) تنتج وحدها 6. 6 تريليون دولار سنويًا (أي حوالي 9 أضعاف
إنتاج العالم الإسلامي بمجموعه!) أما اليابان (والتي يقدر سكانها بعُشر سكان
العالم الإسلامي) فيبلغ إجماليي إنتاجها 6، 4 تريليون (أي حوالي 6 أمثال
إنتاجنا) .
وإذا ما قارنا الصادرات نجد أنها في العالم الإسلامي 281 مليار دولار في
مقابل 513 مليار (الضعف) بالنسبة للولايات المتحدة و 9. 3 تريليون دولار
(14 ضعف) لليابان!
إذن ونحن نتحدث عن العالم الإسلامي ومشاكله والمزايا التي يمكنه الحصول
عليها، علينا أن ندرك أننا لسنا أمام عالم واحد بل أمام 56 دولة، 56 سوقًا، 56
مفاوضًا، 56 قراراً، هذا التفكك هو أحد أخطر أبعاد قضية التخلف والتبعية التي
يحياها عالمنا الإسلامي!
د. عبد الحميد الغزالي:
التجارة البينية بين دول العالم الإسلامي الذي نريد له أن يكون حاضراً
ومنافسًا قويًا في ظل العولمة لم تتعد 8% وفي بعض الأرقام المتفائلة 10% من
إجمالي حجم التجارة الخارجية للعالم الإسلامي، وهذه قضية لها أبعادها الاقتصادية
والسياسية والنفسية والمنهجية.
أما إذا نظرنا إلى هيكل الإنتاج فنجده عبارة عن مواد خام وبعض السلع رديئة
التصنيع، أو التي لا ترقى للمستوى العالمي، ومن ثم فإن قدرتنا التنافسية محدودة
للغاية، ولهذا فنحن في أسوأ وضع؛ والسبب أننا لم نستغل مواردنا استغلالاً
صحيحًا. نحن لدينا العقول المبدعة، ونملك رأس المال، والموارد لدينا متاحة،
كل عناصر الإنتاج متوفرة بحمد الله، ولكن السر يكمن في الإرادة: إرادة التقدم..
إرادة التنفيذ.. إرادة التنافس.. إرادة الوحدة.. والإرادة مسألة نفسية ترجع إلى
الإنسان.
د. رفعت العوضي:
باستقراء الأحداث التي تجري في عالمنا الإسلامي نجد أن هناك سقفًا
مفروضًا على العالم الإسلامي، ولا يُسمح له بتجاوزه.. قد يخفى وقد يبدو أحيانًا.
والعالم الإسلامي رغم التكتلات محروم من أن يكون له كيان كبير في ظل
العولمة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي إذا ما اعتبرناها جامعة إسلامية لا تعدو أن
تكون هيئة شرفية استشارية ولدت في ظل ظروف خاصة.. ولم يُرَدْ لها البروز
على ساحة القرار.
في ظل العولمة زاد التفرق بين الدول الإسلامية. وأذكر أن الدكتور عبد
الحميد قد قال في إحدى محاضراته: إن حصاد العولمة كان 21 حربًا في العالم
الإسلامي وحده! وضَرْبُ النماذج الإسلامية الناجحة من دول النمور الآسيوية
مؤشر على هذا الأمر خاصة أنه سمح للدول غير الإسلامية باستعادة كيانها ثانية.
العولمة ضربت العالم الإسلامي في أمر آخر هو السلع الاستراتيجية كالبترول
وغيره.
حتى الصلاحيات التي كانت تتمتع بها بعض الدول الإسلامية داخل المنظمات
الدولية ضعفت جدًا في ظل العولمة.
صندوق النقد قبل العولمة كان مختلفًا تمامًا عما هو عليه الآن.
منظمة التجارة لم تكن كما تبدو اليوم.
معظم محاولات الاندماج أو التكامل التي كانت تمثل حلمًا في العالم الإسلامي
جُمّدت؛ لأنها كانت تفتقد الرؤية الصحيحة في إيجاد الحلول.
د. عبد الحميد الغزالي:
الأنظمة لدينا بين مغيَّب ومغرَّب مع ما نملكه من مقدرات ومقومات للتنمية
الناجحة.
ولهذا يمكن القول بأنه لو لم يكن هناك تغييب وتغريب للعقل المسلم على كافة
الأصعدة لما كان هذا حالنا أبدًا.
ولأننا كذلك فلا نعتمد على الإنسان لدينا، ونتصور أن حل مشاكلنا الإنمائية
وغيرها في الاعتماد على الخارج.
أليس أبشع ما تصاب به أمة أن تعتمد في ضروراتها على أعدائها سواء في
السلاح أو الغذاء أو التقنيات التي لا تتمشى مع خصائص عناصرنا الإنتاجية،
حتى نظل تابعين للغرب، وبذلك نبقى مهمشين في صناعات غير ذات جدوى،
ونسير وفق مشاريع تسليم المفتاح؟
ولأننا أيضًا نعتمد على القروض والمعونات، فهذه التي تعد استعمارًا أبشع
من استعمار القرن التاسع عشر؛ لأن القروض من أكبر معوقات التنمية؛ فهي
توقعنا في كبرى الكبائر، ولسنا في حاجة إلى قروض! لدينا فائض يزيد عن 800
مليار دولار ودائع في البنوك الغربية؛ بينما نحن مدينون لهم وبأسعار فائدة ربوية؛
وقد بلغ إجمالي الفوائد أضعاف أصل الدَّيْن!
البيان: عندما طُرح مشروع مارشال بعد الحرب الأوربية الثانية لتمويل
الدول التي خرجت منها من الحرب لدفعها نحو التنمية وفق الشروط الأمريكية
وافقت فرنسا وإنجلترا على هذه الشروط، ورفضت كل من اليابان وألمانيا
المشروع وفضلتا الاعتماد على الذات، ولنا أن نقارن بين النتيجتين حتى في العالم
الغربي ذاته واليوم يسير صندوق النقد على نفس الخطا في تكبيل محاولات
النهوض وإعاقتها.
د. عبد الحميد الغزالي:
اليابان استطاعت من خلال عملية تنميتها أن تستخلص فائضًا من النشاط
الزراعي لا يمكن استخلاصه، ومولت به مشاريعها الإنمائية والصناعية؛ ولذلك
نجحت لأنها اعتمدت على سواعد أبنائها وعلى التخطيط الداخلي دون أي تدخل
أجنبي حتى حدثت الطفرة.
د. عبد الرحمن يسري:
المشكلة من وجهة نظري تكمن في أن العالم الإسلامي يئن معظمه تحت
سيطرة حكومات علمانية تابعة للعالم الغربي.. هذه الحكومات قد ارتبطت
بالاقتصاديات العالمية بلا أية ضوابط أو فهم لاتجاهاتها أو مضامينها، والتي قد لا
يكون من ورائها مكاسب على الإطلاق، بل ربما خسائر محققه خاصة إذا احتكمنا
إلى المعايير الإسلامية الصحيحة.
البيان: ولهذا يجيء رد فعلها على الأحداث العالمية والإقليمية ضعيفًا
وبصورة مؤسفة ومخزية، فضلاً عن أنها قنعت بمجرد ردود الأفعال ولم تشارك
في صنع اللعبة بما يخدم مصالح الأمة.
أ. يوسف كمال:
النظرة المصلحية البحتة إلى الحلول لا توصل إلى نهاية الطريق، وإنما
التبصر والتمسك بالطريق مهما كانت العقبات هو الذي يوصل، ولذلك لا بد من
تصحيح المنطلقات أولاً.
الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إلى الطائف وعرض الإسلام على
أهلها عرضوا عليه أن يقيموا جبهة قومية.. فقالوا: «ننصرك على أن يكون لنا
الأمر من بعدك» ! ولكن هذا لا يتفق مع طبيعة المنهج، والمعادلة هكذا لا تصلح
ولا بد من إرادة الآخرة أولاً حتى ننتصر، ولهذا كان رده عليه الصلاة والسلام:
«الملك لله يضعه كيف يشاء» .
أما الأنصار فقالوا: «ننصرك على ماذا؟ ! .. قال:» الجنة «!
قالوا:» ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل «.
ولما صحت المنطلقات كان النتاج سريعًا وناضجًا، فلم تمض سنوات على
هذه الصفقة الرابحة حتى سقطت فارس والروم على يد هذه العصبة التي وضعت
بصمتها على كل شيء في الدنيا.
لهذا فإن إدخال الإسلام في القضية يضع الأمور في نصابها؛ لأنه يعتبر
الإنسان هو أساس التقدم، والتخلف يمثل ظاهرة هوية أساسها الإنسان، والإنسان
يتغير، ولا يثبت في نفسه غير العقيدة التي تشكل مسار حياته.
فإما أن يكون ديناميكيًا أو استاتيكيًا.. ذا تطلعات أو إمعة. ونحن حين ننظر
إلى الكتابات التي تعالج مسألة العولمة على سبيل المثال نجد أن الثقافة الغربية قد
تسللت إليها دون انتباه لذلك؛ لغياب طعم العقيدة عنها، حتى في كتابات إخواننا
الذين يتحدثون عن الإسلام، نجد مزيدًا من التهميش المرجعي في مقابل مزيد من
الاقتباسات عن الغرب.
لا عيب في أن نستفيد من تجاربهم لكن دون الافتتان عن منطلقاتنا أو الافتئات
على ثوابتنا؛ لأن ذلك هو عين الهزيمة.
والعقيدة هنا هي المرتكز وهي السلاح الاستراتيجي الذي لا يملكه غيرنا؛
لأننا نريد الآخرة وهم يريدون الدنيا.
هذه العقيدة لها مضمونها في إيقاظ الإنسان وإحياء الإرادة لديه، وهي وحدها
التي تملك أن توجه الإنسان المسلم وتبين له هدفه الصحيح.
الغرب يدرك ذلك تمامًا؛ ولهذا يقول ماسنيون:» استطعنا أن نحول العالم
الإسلامي تحويلاً كبيرًا عن طريق إحداث انحرافة طفيفة في أول طريقه «كما لو
حدث ذلك في قضبان القطار فإن الانحراف بزاوية ضيقة جدًا في الابتداء كفيل أن
يبعده عن الهدف كلما سار على الطريق؛ وقد كان هذا بإدخاله في نظام حياة يختلف
عن نظام الإسلام؛ ولهذا يقول:» الخطر الوحيد الذي يواجهنا أن يعرف المسلمون
عقيدتهم؛ لأن هذا يشعل الإسلام في قلوبهم «.
ولهذا فإن المسلم لن ينتصر في أي معركة إلا حين يعلن عن موقفه، نحن لا
نطلب المستحيل، على الأقل أن يعرف الإسلام فكراً لا يشوه ولا يحرف ولا يخلط
بغيره.
ثم نحن مع التيسير على قدر الطاقات لكن بشرط أن نسير في الطريق
الصحيح هذا الطريق عليه منارات واضحة تهدي السائر عليه.. حتى وإن قابله
جبل واستدار حوله فإنه سرعان ما يرى المنارة التي ترده إلى الجادة، ولهذا لو
عرفنا ديننا حق المعرفة فستأتي الحركة؛ والحركة فيها النصر بإذن الله تعالى.
د. عبد الرحمن يسري:
تصحيح المنطلقات هي الخطوة الأولى على طريق الحل، والوعي الإسلامي
وحده هو الذي يجعلنا أكثر انتباهًا للمخاطر المحدقة بنا؛ لأن الوعي الرأسمالي لا
يثير أي شكوك بالنسبة للأساليب التي تنتهجها قوى العولمة للهيمنة على العالم، بل
يضفي عليها هالة من القداسة بحيث يصعب معها التنبه إلى خطئها أو خطرها.
والمسلم ليس بالإمعة الذي يسير في ركاب الآخرين ولا يدري إلى أين يقاد،
وحتى لا نكون كذلك علينا أن نتجاوز عقلية المنهزم ومرحلة التلقي السلبي وسياسة
ردود الأفعال المجردة، لنصل إلى مرحلة الفعل.
لدينا آمال كبيرة، ومن يدرس تجارب النهوض في العصر الحديث سواء في
ألمانيا واليابان بعد الحرب أو حتى في دول النمور الأسيوية يدرك أن الأمل ما زال
كبيرًا إن عدنا بإسلامنا إلى المعترك؛ وحينها لن نبدأ من الصفر وإنما ننظر فيما
فعلناه أولاً ونصححه ثم نبني عليه ثانيًا، وعلينا انتهاز الفرص، ولدينا مؤسسات
قائمة نبحث كيف نستفيد منها.
ننظر في حاجاتنا الفعلية، وننظر في كيفية تلبيتها داخليًا بالنسبة لنا..
الاعتماد على النفس ربما كان قاسيًا في أول الطريق لكنه لن يكون بقسوة خضوعنا
للغير سواء كان عولمة أو غيرها.
د. عبد الحميد الغزالي:
تكميلاً لكلام الزميلين العزيزين.. فإن النظرة الإسلامية للإنسان تعيد الاعتبار
إلى رأس المال البشري، وهو رأس المال الحقيقي؛ لأن الإنسان هو القيمة الأرفع
والأكثر أثرًا في عملية التنمية والإنسان الفاهم لدينه المستوعب لتغيرات عصره هو
الإنسان القادر على النهوض الحقيقي في مواجهة أي خطر مهما كان وبأقل
الإمكانات.
ولهذا فإن الاستثمار في هذا المجال استثمار استراتيجي وقائم على الإسلام،
وإذا لم نستطع ترتيب بيتنا من الداخل قبل أن تطغى علينا العولمة بآلياتها ومفاهيمها
وتطبيقاتها فلا أرى أملاً.
معظم الدول الإسلامية على مدى نصف قرن جربت استراتيجيات عديدة..
النمو المتوازن.. النمو غير المتوازن.. استراتيجية الدفعة القوية.. استراتيجية
البعد الأدنى الحساس.. استراتيجية التغلغل.. استراتيجية الحاجات الأساسية..
استراتيجية الصناعات الثقيلة.. استراتيجية الطلب النهائي.. استراتيجية الانطلاق
والنمو.. إلى آخر هذه الاستراتيجيات، وكانت النتيجة بشهادة المنظمات الدولية
المتخصصة: مزيدًا من التخلف ومزيداً من معاناة الإنسان، والسبب في ذلك هو
أننا أهملنا العنصر الأساس وهو الإنسان.
د. عبد الرحمن يسري:
من الموضوعية أن نعترف أن الآثار السلبية للعولمة ستكون شديدة الخطورة،
ومن ثم فإن الأمر يلح علينا لتدبر أمورنا تجاهها بسياسة اقتصادية حكيمة
واجتهادات عميقة ترمي إلى تحقيق مصالح الأمة في إطار القواعد الشرعية الأصلية،
وتقدم حلولاً لما يجدُّ من مشكلات.
ولا نعني أن تكون الحلول سهلة المنال، ولربما كانت موجعة، فالجراحة قد
تكون صعبة ولكنها وسيلة الشفاء إن شاءه الله تعالى ولأن العولمة ليس لها سابقة في
التاريخ ولا يستطيع أحد أن يقول: إن لديه سياسات اقتصادية جاهزة لمواجهتها،
ولكن الإسلام معين لا ينضب وعلينا الاجتهاد.
البيان: ولكن الاجتهاد قضيةً ومفهوماً قد جمد في حقبة سابقة، وهو اليوم
يتعرض للون من التحريف في مضمونه وفحواه.. نحن نؤكد على هذا الواجب
ولكن المشكلة في: من؟ وكيف؟
أ. يوسف كمال:
الاجتهاد واجب الطليعة المؤمنة من العلماء المتخصصين كلٌ في مجاله، بأن
تكشف عن حكم الله تعالى في قضايا العصر، وتعيد الأمة إلى مسارها بعد توضيح
المعالم؛ لأن الشرع محكم ومن رحمة الله بنا وإحكامه لدينه أن الآية من القرآن
يمكن أن تقيم نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وهنا نحتاج إلى اجتهاد هذه
الطليعة لاستنباط ذلك.
نحن لسنا ضد الدراسات المتخصصة المتعمقة، ولكن عندما يتحدث العالم
المسلم عن العولمة لا نريده أن يتحدث بمنطق العالم الثالث.. وإنما بمنطق: قال
الله، وقال الرسول.. من منطلق الاتباع والأسوة والطاعة.
هذا هو مفرق الطريق!
نحن اليوم ونحن نواجه العولمة لا بد أن نضع كل شيء في نصابه، ولا
يمكن أن تكون المواجهة في مجال واحد! المواجهة في كل المجالات. ولهذا لا بد
من مشروع حضاري شامل يستوعب كل طاقات الأمة ويوحد بينها. إن ما ذكر عن
جمود في العالم الإسلامي وتخلف سببه الأساس هو جهود الإنسان من داخله!
على سبيل المثال: السوق العربية المشتركة وهي هدف مقدم مطروح منذ عام
1956م وقبل السوق الأوربية التي طرحت عام 1957م؛ وها هي السوق الأوربية
تجاوزت اليوم مرحلة السوق إلى مرحلة الوحدة، ونحن ما زلنا نقول: منطقة حرة
أو اتحاد جمركي أو سوق مشتركة..!
د. عبد الحميد الغزالي:
هنا أمر يجدر الإشارة إليه، ولا أحب أن يضيع في زحمة كلامنا.. وهو أن
العولمة بصورتها الراهنة ليست قدرًا وليست شرًا محضًا، وإنما هي واقع جديد
يُصنَع، ولا بد أن نتعايش معه بعقيدة المسلم وذكاء المسلم وحزم المسلم وحسمه.
نحن مع العولمة إذا ما كانت تعني التفاعل الحيوي بين شعوب الأرض..
نحن مع حرية التجارة، وحرية الانتقال التي تعني حريتنا أيضًا في كل ذلك؛
وحين نملك القرار سنملك التأثير.
ولهذا أقول: إن العولمة الصحيحة بضاعتنا ويجب أن ترد إلينا لكن من
منظورنا الإسلامي، لكن لن نستطيع أن ندخل تنافس العولمة ومعتركها المفروض
علينا إلا بتربية إسلامية صحيحة وتطبيق إسلامي في الاقتصاد وفي السياسة في
الاجتماع وفي الثقافة.. وبدون هذا التطبيق لن نكون قادرين على مواجهة العولمة.
نحن جربنا الاشتراكية فكنا مستهلكي شعارات، وجربنا الرأسمالية فكنا مستهلكي
سلع.. فلماذا لا نجرب الإسلام لننفتح على العالم من دائرة التأثير لا التأثر.
نحن أصحاب الانفتاح الحقيقي ولا يوجد انفتاح في أي عقيدة سماوية أو
أرضية مثل الانفتاح في الإسلام؛ فالحكمة ضالة المؤمن والأصل في الأشياء
الإباحة، ولهذا فإن انفتاحنا على العالم سيكون له إسهامه في الحضارة.
وأود أن أشدد على ضرورة توحُّد الدول الإسلامية تجاه هذه الظاهرة، وأن
نضع أيدينا في أيدي بقية الدول النامية للحصول على نصيب عادل من التجارة
الدولية والعلاقات الاقتصادية الدولية. فلقد رفعت الدول النامية دول السبع والسبعين
في أوائل الستينيات شعار» التجارة وليست المساعدة Tsade Not Aid «؛
وذلك لأن المساعدة كانت على عكس المأمول عبئًا على التنمية وليست عاملاً
مساعدًا لأحداثها. والآن ترفع الدول النامية شعار» عدالة التجارة وليس حرية
التجارة «بمعنى أن حرية التجارة باعتبارها جزءاً من ظاهرة العولمة يتعين ألا
تكون لصالح دولة واحدة أو حفنة قليلة من الدول المتقدمة.
د. رفعت العوضي:
العالم كله اليوم يتطلع إلى حل جديد وهو الذي يُعبَّر عنه بالطريق الثالث؛
لأن الشيوعية سقطت بالفعل، والرأسمالية في عولميتها تعيش أزمة خانقة رغم أن
عمرها قصير وهو تسع سنوات لم يعدُ عمر طفل في المرحلة الابتدائية؛ هذا
الطريق الثالث تكلَّم عنه كلينتون وتوني بلير وجاك شيراك ...
الإسلام يقدم أكفأ نموذج للطريق الثالث، ولو أننا جمعنا ما كتب عن هذا
الطريق الثالث لوجدنا كأنهم يحومون حول الإسلام، وهذا يجعلنا نقول: على العالم
الإسلامي أن يقدم الإسلام باعتباره الطريق الثالث الذي يبحث عنه العالم كله.
سنُسأل أمام الله تعالى إذا لم ننتهز الفرصة ونقدم الإسلام للعالم على أنه
الطريق الثالث المنقذ؛ لأن الحرية المطلقة سببت الكوارث. والإسلام وحده هو
الذي يقدم الحلول والضوابط في هذا المجال، والإسلام وحده هو الذي يربط التنمية
بالتوزيع والعدالة الاجتماعية. الإسلام يقنن دور الدولة في الاقتصاد ولا نبالغ إذا
قلنا: إن الإسلام هو سبيل النمو الذي يحتاجه العالم.
د. عبد الحميد الغزالي:
بعد سقوط الاشتراكية وتبني جورباتشوف البروستريكا التي أراد من خلالها
أن يبحث عن طريق غير الرأسمالية؛ لأنه أعلم بمشاكلها، أرسل وفدًا إلى مصر
ليدرس النظام الإسلامي للاستفادة منه، وشُكِّلت لجانٌ في مركز الاقتصاد الإسلامي
التابع لجامعة الأزهر من المتخصصين، وعكفت هذه اللجان على صياغة برنامج
متكامل للنظام الإسلامي في شكل بنود وفقرات قدمنا فيه نظامًا اقتصاديًا تشغيليًا يبدأ
بفلسفة النظام والعمل والأجور ونظام الملكية المتعددة، الاستهلاك والاستثمار
والادخار والشركات وصيغ الاستثمار والسياسة النقدية والسياسة المالية.. إلى آخر
كل مكونات النظام الاقتصادي الفاعل..
وعندما قُدم هذا النظام للوفد تساءل رئيسه الوزير (بافلوف) : كيف يكون
لديكم مثل هذا النظام وأنتم على هذه المسألة من التخلف؟ ! وأسندت أمانة المؤتمر
الرد إليَّ، وكان ردي:» لأننا بعيدون تمامًا عن هذا النظام «.
ولكن توالت أحداث تفكك الاتحاد السوفييتي، ولم تُعطَ القيادة الروسية
الفرصة للاستفادة من هذا المشروع الذي أصر الوفد الروسي على مناقشته تفصيلاً
في جولة ثانية في موسكو.. إلا أن الجولة المقترحة لم تتم بسبب هذه الأحداث.
البيان: هل يمكننا ونحن في إطار الحديث عن المشروع الحضاري بصفة
عامة أن نطرح تصورًا له في ظل مخاطر العولمة؟
أ. يوسف كمال:
إذا كنا نتحدث عن مواجهة فالمواجهة تحتاج بداية إلى إرادة، ولا إرادة بدون
عقيدة؛ لأننا إذا نظرنا على سبيل المثال إلى الفجوة التقنية بيننا وبين الغرب والتي
تتسع وتتسع فسنصاب باليأس؛ لأننا في حاجة إلى تكوينات رأسمالية وهي بدورها
تتطلب فائض مدخرات كبير، وهذا الفائض يحتاج إلى زيادة الدخل وإلى ضغط
الإنفاق! ومستحيل أن نصبح كروسيا؛ لأن الإنسان الروسي هو الذي هدم روسيا
بسلبياته وعدم حرصه على مصلحة بلده.
إذن لا بد من عامل ذاتي يدفع الإنسان نحو مضاعفة عمله وضغط نفقاته؛
بحيث يكون على استعداد دائم لبذل أكثر مما هو مطلوب منه.
ليس شيء سوى العقيدة يصنع مثل هذه المعجزة، إذن العقيدة هنا يمكن أن
تحدث الطفرة؛ لأنها تربي الفرد على المسؤولية في إطار جماعي وتحميه من
الهزيمة النفسية والفكرية.
ثم تأتي بعد ذلك الشريعة لتضع له الضوابط العملية والتطبيقية التي توجه
جهوده التوجيه الأمثل.
د. عبد الرحمن يسري:
لماذا لا يرفع المسلمون شعارًا واحدًا يوحد بينهم كما يرفع غيرهم من الشعوب
الشعارات؟ الثورة الشيوعية رفعت من قبلُ شعار:» يا عمال العالم اتحدوا «
والأمريكيون رفعوا شعار:» بالله نثق «، والفرنسيون رفعوا شعار:» حرية
إخاء مساواة «والمسلمون يملكون الشعار الذي يوحد بينهم وهو كلمة الشهادة التي
نرددها صباح مساء هذه الكلمة تمثل شعارًا حقيقياً للإسلام عقيدةً وفكرةً ونظاماً،
ويمكن من خلال توظيف مفهومها أن تستعيد الأمة ما فقدته حتى في ظل طغيان
العولمة.
البيان: لكن كيف نترجم هذا الشعار إلى واقع حضاري عمومًا، واقتصادي
خصوصًا؟
د. عبد الحميد الغزالي:
إذا تكلمنا عن المشروع الحضاري فلا بد أن ينقلنا هذا للحديث عن الثوابت
التي ينبغي أن نحتكم إليها ونحن نواجه العولمة:
أولى هذه الثوابت: أن يكون مدخل التعامل عقديًا؛ لأننا إذا فقدنا المقياس
ونقطة الانطلاق فستصبح الأمور كلها نسبية تقبل التسويغ واحتمال وجهات النظر
المختلفة، أما إذا احتكمنا إلى العقيدة وانطلقنا منها فسوف يكون سعينا مطردًا بنّاءاً،
ويكفي أننا نملك حينئذ المعية الإلهية.
وثانيها: أن تكون المصلحة الاقتصادية لأمتنا وأوطاننا هي المحرك الأساس
لعملنا، وهذا لا يكون إلا بإرساء حرية الإنسان وإشراكه في العمل؛ فلا تهدر طاقة
ولا تزيف إرادة، وإلا أحس الإنسان بالغربة، وهذا شعور قاتل لكل مبادرة..
ولكل عمل جاد.
ثالثها: سياساتنا الاقتصادية التي لا بد أن تنبع من خططنا المبنية على
مصالحنا، أما خطط صندوق النقد والبنك الدولي فينبغي ألا تكون ملزمة.
رابعها: أن تكون حلولنا استراتيجية، بأن ننظر إلى عملية التنمية نظرة غير
تقليدية، بأن نستفيد من فترات السماح المتاحة لاتفاقيات التجارة، وهي ما بين 5
10 سنوات، ويمكن أن تُمد عن طريق التفاوض حتى نقف على أرجلنا وهكذا..
د. عبد الرحمن يسري:
يمكن من خلال هذه الثوابت التي طرحها الدكتور عبد الحميد أن نطرح
تصورًا لدور الدولة في الإسلام خاصة في مثل هذه الظروف، هذا الدور يتمثل في
عدة واجبات يمليها الشرع على الدولة، هذه الواجبات كانت موجودة منذ عهد النبي
صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم جميعًا ويمكن لنا أن
نطرحها بإيجاز:
1- واجبها نحو بناء الفرد المسلم الذي يعد العنصر الأهم في التنمية وفي
المواجهة، وذلك عن طريق تربية الناس وتوعيتهم بواجباتهم وحقوقهم الشرعية،
وضرورة تماسكهم قطريًا وعالميًا، وهذا يستدعي زيادة الإنفاق على التربية
والتوعية الإسلامية في جميع المستويات التعليمية، وإحياء دور المسجد، وإعداد
المناهج اللائقة بذلك.
2 - واجبها في إيجاد الكفاءات، وهو ما يمثل فروض الكفايات عن طريق
وضع خطة تعليمية مركزية تتضمن برنامجًا زمنيًا تفصيلياً يبدأ بمحو الأمية، ويمتد
للتوفيق بين برامج التعليم والتدريب وبين احتياجات سوق العمل حاضرًا ومستقبلاً،
والارتقاء بالبحث العلمي من خلال توفير التقنيات الحديثة والعمالية، والتشجيع
على البحث والإبداع والابتكار.
3 - واجبها نحو المال باعتباره قيمة إسلامية لها دورها العقدي والاقتصادي
والاجتماعي، وهذه المسألة تمثل نقطة ارتكاز تفصل بين النظرة الإسلامية والنظرة
المادية عمومًا، فتقوم بوظيفتها المالية من جمع الزكاة والصدقات والعشور وغيره
وتصرفها في وجوهها حتى لا يكون المال دُولة بين الأغنياء كما تريد العولمة.
4 - واجبها نحو ضمان استقرار النشاط الاقتصادي الحقيقي بالإشراف على
أسواق رؤوس الأموال وتنظيمها، وتنظيم تدفق رؤوس الأموال، وضمان الالتزام
بالأحكام الشرعية واتخاذ الإجراءات الحاسمة لمنع الإخلال بالقواعد الشرعية.
5 - تنظيم الانتفاع بالموارد كالموارد المائية وأراضي الرعي والغابات
والصحراء لصالح أبناء المجتمع وضبط عمليات التملك بما يضعف النفوذ الأجنبي.
6 - الابتكار في تشجيع الاستثمار؛ وعلى سبيل المثال من خلال المعاملة
التفضيلية للشركات الأجنبية التي تسهم إسهامًا فعليًا في التنمية الحقيقية.
7 - ضبط التعامل مع الأسواق الأخرى من خلال مراقبة الواردات لضمان
عدم مخالفتها للشريعة الإسلامية، وأخذ العشور وإدارة التجارة الخارجية بما يحقق
المصالح، وعلى هذا الغرار تكون واجبات الدولة التي يمكن أن تتطور وفق هذه
الواجبات بآليات أحدث.
د. رفعت العوضي:
التطورات الراهنة تفرض على الدولة مزيدًا من أدوار الحماية وإدارة الإنماء
بطريقة ذكية وفاعلة تعتمد فيها على البحث العلمي والدراسة والتخطيط الجاد..
وقيام الدولة بهذه الأدوار يقلل كثيرًا من الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها في ظل
العولمة.. وعلى سبيل المثال:
- الاتفاقيات الدولية الملزمة كاتفاقية تحرير التجارة تحتاج إلى دراسة متأنية
ومتخصصة تتيح لنا معرفة عناصر القوة والضعف والثغرات في هذه الاتفاقية، كي
تتمكن الدولة من توسيع مجال المناورة وتفسير هذه المواد بما يخدم مصالحها.
- تحتاج الدولة بدلاً من أن تغري الاستثمارات الأجنبية بالقدوم أن تنتهج
سياسات تعيد الثقة بالاقتصاديات المحلية، بما يشجع الاستثمارات المهاجرة إلى
الخارج على العودة إلى بلادها مرة أخرى.
- حماية الصناعات الناشئة من المنافسة الأجنبية وسياسات الإغراق من خلال
فرض لون من القيود الجديدة التي تعتمد على المواصفات في الحيلولة من دخول
الصناعات المنافسة.
- توجيه الدراسات الجامعية والأكاديمية الشرعية والمتخصصة إلى حل
مشكلات الانفتاح والتحرير والبورصة بحلول عملية.
- تطوير القدرة التنافسية لصناعاتنا من خلال دعمها عن طريق الدراسات أو
مساعدتها في فتح أسواق جديدة أمامها.
هذه الأدوار مجرد أمثلة على ما يمكن أن تفعله الدولة الآن.
أ. يوسف كمال:
السياسة الحمائية لها بُعْدٌ شرعي مهم يتمثل في تطبيق الشريعة؛ لأنه لا قيمة
لوضع سياسات لحماية الصناعات دون حماية البنية التحتية التي يمتد إليها التمويل
الأجنبي ليتلاعب بها، وأمامنا تجارب معاصرة تخلت فيها الحكومات عن الحماية
الشرعية المتمثلة في تحريم الربا الواقع في عمليات الإقراض، وتحريم المقامرات
التي تجري في البورصات، فكانت النتيجة أن أُتيَ الاقتصاد من حيث لم يحتسبوا
والله قد ضمن لنا العصمة في التمسك بحبله؛ فلماذا النكوص؟ !
د. رفعت العوضي:
مسألة التكامل الإسلامي، وكيف يمكن للدول الإسلامية اليوم أن تكمل في
إطار هذا التكامل.
في ظل الظروف الراهنة ليس بمقدور أي دولة إسلامية أن تخرج عن
الإجماع العولمي الذي تمليه الدول السبع الكبار عبر المؤسسات والمنظمات الدولية،
ومن ثم فإن المتنفس أمام الدول الإسلامية يبدأ عبر الساحة الإسلامية ذات الامتداد
الجغرافي والاستراتيجي والسكاني والمادي بدءًا بالتكامل وانتهاءاً بالتوحد عبر
سياسات منضبطة ومحكمة.
لأن المنظومة العولمية آخذة بالتطور عبر القرارات والاتفاقات والتكتلات
والاندماجات بشكل يملي على العالم الإسلامي سرعة المبادرة قبل أن يفلت الزمام.
العالم الإسلامي يمتلك مخزونًا جبارًا من رؤوس الأموال ومن الثروات الحيوية
والمعدنية بالإضافة إلى التلاحم الجغرافي والتكامل في الموارد، ولهذا لو قامت
تجارة فعلية بين العالم الإسلامي لأمكننا الاستغناء عن العالم الخارجي على الأقل في
الاحتياجات الاستراتيجية.
وهنا يبرز دور مؤسسات التكامل سواء على مستوى الإطار الإسلامي العام
كمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو حتى على المستوى الإقليمي كالاتحاد المغاربي،
ومجلس التعاون الخليجي، أو اتحاد جمهوريات وسط آسيا الإسلامية، أو على
المستوى الوظيفي كمجموعة الثمانية الإسلامية؛ لكن المثير للعجب أن دور هذه
المؤسسات لم يزل مقصورًا على الدور الاستشاري ولا يحمل أي صورة من الإلزام.
لدينا كذلك مؤسسات متخصصة كاتحاد الغرف التجارية والصناعية الإسلامية،
والبنك الإسلامي للتنمية ولدينا مؤسسات أخرى في الإطار العربي، لكن هذه
المؤسسات لم تقم بدورها المرسوم والمراد لها، والأسباب معروف أكثرها، وإذا ما
أرادت الدول الإسلامية لنفسها بعض المتنفَّس من ضغط العولمة فعليها أن تُفعِّل
العلاقات البينية والتكاملية لمواجهة آثار الهيمنة الخارجية.
أما على مستوى رؤوس الأموال فلدينا فرص استثمار ممتازة، ويسيل لها
لعاب المستثمر الأجنبي داخل المجال الإسلامي من آسيا الوسطى وحتى الأطلنطي
تحتاج إلى رؤوس أموال وخبرة كافية لاستغلال المقدرات الموجودة.
عبد الحميد الغزالي:
لا بد أن يكون هناك نظرة استراتيجية لموارد العالم الإسلامي وإمكانياته من
خلال التخصص وتقسيم العمل، بتوزيع الأدوار، ومن هنا فعلاً نستطيع إقامة تكتل،
وحتى لا نكون حالمين علينا أن نبدأ بأدنى ما يمكن قبوله.. وهو أن ننظر فيما
ينتج العالم الإسلامي فيتم التبادل فيه بدلاً من استيراده من العالم الخارجي.
ثم من خلال التخطيط الاستراتيجي يمكن تنمية بعض الصناعات الاستراتيجية
وحل إشكالات التطور التقني بتنظيم حقوق الملكية الفكرية على مستوى العالم
الإسلامي للاستفادة من عقولنا الإسلامية التي نهدرها بينما تنمو إذا ما احتضنها
الغرب.
العالم الإسلامي كذلك يحتاج إلى دليل تنمية حقيقي، ودليل استثمار على
مستوى العالم الإسلامي يتم تداوله بين رجال الأعمال المسلمين، ويحتاج كذلك إلى
بنوك معلومات، ومجموعات استشارية إسلامية تقدم دراسات وافية عن جدوى
الاستثمار وعوائده ومزاياه على نطاق العالم الإسلامي.
ونحتاج إلى دوريات متخصصة في هذا المجال تقدم الدراسات الإنمائية من
المنظور الإسلامي؛ وهذه المؤسسات تحتاج إلى دعم الحكومات ومؤسسات التكامل
تمامًا كما تدعم الأنشطة الوضعية.
أ. يوسف كمال:
هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها على الحوار:
لماذا لا توجد كيانات كبرى قوية فاعلة على مستوى العالم الإسلامي مع توفر
الإمكانات والدواعي؟ !
ولماذا لا توجد شركات إسلامية دولية النشاط مع توفر الإمكانات والدواعي؟
ولماذا لا يوجد ابتكارات واختراعات في الدول الإسلامية مثلما يوجد في
الغرب؟ هل العيب في العقول، أم في النظم؟
ثم لماذا تتفوق العقلية المسلمة في الخارج بصورة تدعو إلى العجب؟ !
انعدام الإرادة السياسية أو ضعفها وتبعيتها لدينا هو السبب في جل ما أصابنا،
ما زلنا نرفع شعارات للاستهلاك دون تطبيق؛ لأننا غير جادين في ذلك!
السوق العربية المشتركة.. التكامل الإسلامي.. حتى على مستوى التكامل
الثنائي أو الثلاثي بين الدول.. الاتفاقيات الثنائية لم تصمد أمام أول ريح للخلافات
السياسية!
ما زال للنظرة القطرية الدور الأخطر في سياساتنا فلا رؤى مشتركة، ولا
سياسات مشتركة.
وإذا أضفنا إلى ذلك التأثر بطابور المستفيدين بالعولمة اليوم في سن
التشريعات وفرض السياسات واتخاذ القرارات.
ولهذا أقول: إنه ما من حل إلا من خلال تحرير الإرادة، والإرادة لا يحررها
سوى العقيدة التي تبني الفرد وتبني المجتمع وتصحح المنطلقات والمعايير.
د. رفعت العوضي:
الدول الإسلامية تستورد أكثر من نصف غذائها من العالم الخارجي؛ مع أنها
لم تستغل سوى أقل من 40% من المساحات الصالحة للزراعة. وبنظرة
استراتيجية نتساءل: لماذا لا نزرع هذه الأراضي بفوائض أموالنا المعطلة في
البنوك الغربية والتي تربو على 800 مليار دولار في أقل تقدير؟ عندنا الأيدي
العاملة الرخيصة، والأراضي الصالحة للزراعة، ولدينا في السودان وحدها
مساحات يمكن أن تكفي العالم الإسلامي من الغذاء، ولدينا مساحات شاسعة في
الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز؛ وكازاخستان وحدها فيها 117
مليون فدان صالحة للزراعة!
العالم الإسلامي ما زال يتمتع ببعض الميزة النسبية في مجال الزراعة؛ فعلينا
أن نطور هذه الميزة رأسيًا وأفقيًا.
وفي مجال الصناعة يمكن الاستفادة من الخبرات التي تكونت في ماليزيا
وإندونيسيا ومصر وباكستان في هذا المجال لتوسيع قاعدتنا الصناعية، وأيضًا
يجب علينا الاستفادة من العنصر البشري المتميز في الجمهوريات الإسلامية في
آسيا الوسطى والقوقاز. العالم يسعى لجذب هؤلاء العلماء، وعالمنا الإسلامي
غائب كلية عن ذلك. وفي هؤلاء علماء في الذرة ولا بد أن يُخَطَّط للاستفادة منهم.
حتى الآن ما زال أمامنا الكثير؛ لكن بمرور الوقت تتضاءل أمامنا الفرص
وربما تضيع.
د. عبد الرحمن يسري:
لا شك أن الحرص على مصلحة بلادنا يدفع نحو ابتكار حلول عملية ونحن
راضون بأقل القليل، لن نقول وحدة اقتصادية كما فعلت أوروبا، أو منطقة تجارة
حرة كما هو الحال في أمريكا الشمالية، ومع أن هذا يندرج ضمن الواجبات
الشرعية، لكنا نقنع بالحد الأدنى من التنسيق بين السياسات من خلال النظر في
السوق الإنتاجية وما ينتج فيها وإعطائه الأولوية والابتكار في أساليب التعامل،
حتى لو عدنا إلى أسلوب المقايضة بعيدًا عن العملة الصعبة بالاستناد إلى قيم ثابتة
من الدينار الإسلامي (وحدة النقد المشتركة) حتى نتحرر بعض الشيء من قيود
التعامل بالعملة الصعبة والآليات الدولية المفروضة.
هذا لا يعني رفض الارتباط الإنتاجي بالعالم على إطلاقه ولكن يعني على
سبيل التأكيد عدم التسليم بهذا الارتباط قبل فهم مضمونه واتجاهه أو التعرف على
مكاسبه: من أين؟ ولمن؟
د. رفعت العوضي:
أود أن أشير أيضًا إلى أهمية دور المؤسسات العلمية والمؤتمرات العلمية
المتخصصة على مستوى العالم الإسلامي في تقديم حلول مؤسسية لإشكالات ثورة
الاتصالات والمعلومات وكيفية الإفادة من الانترنت التي أصبحت متاحة للجميع لكن
دون آليات وضوابط تضمن حسن الاستفادة.
ومن ثم توفير مراكز معلومات قادرة على خدمة اتخاذ القرار والإشراف
والمراقبة. هل تتصور أن جامعة هارفارد لديها مركز عن البنوك الإسلامية، بينما
لا يوجد مثله في أي جامعة على مستوى العالم الإسلامي؟ !
وهذا يعني أن المعلومة لدينا إما مضللة أو مشوشة.. أو سطحية إذا ما
اعتمدنا على امكانياتنا التي لم تزل دون المستوى.
كما نطرح لوناً آخر من التفعيل وهو كيفية الإفادة من البحوث العلمية المقدمة
لنيل الدرجات العلمية في جامعاتنا؛ فبين هذه البحوث عدد كبير يمكن أن يفيد في
هذا الجانب، ولنا أن نتصور أيضًا حجم الفائدة إذا ما قامت مؤسسة إسلامية على
مستوى العالم الإسلامي لرعاية الباحثين وتشجيعهم على البحث في هذا المجال عن
طريق المسابقات البحثية أو شراء الأبحاث التي تقدِّم إضافة في هذا المجال.
إلى جانب هذا إيجاد مؤسسات للتدريب ورفع مستويات الأداء واكتساب
الخبرات بمعايير شرعية وموضوعية.
ومؤسسات أخرى لتصميم المشاريع النموذجية التي تضمن أداءاً متميزاً من
جهة العائد والتكاليف والضوابط الشرعية والعمل على انتشارها.
ومؤسسات كذلك تعمل على استيعاب التقنيات وتطويرها بل والابتكار
أيضًا..
قد تكون برامج التطوير أكبر كلفة في المدى القصير لكن مردودها وتكاليفها لا
تقارن على المستوى الاستراتيجي.
وفي هذا الصدد أشير إلى أن التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية إذا
تحقق فسوف يمثل وعاءاً ملائمًا لرعاية التقدم التكنولوجي.
إن الدول الإسلامية إذا اجتمعت فسوف تتوافر العناصر اللازمة للتقدم العلمي:
العناصر البشرية المتوافرة في بعض الدول الإسلامية، ورؤوس الأموال،
ومراكز البحوث العلمية.
د. عبد الحميد الغزالي:
المشروع الحضاري الإسلامي له منظومة تائية مكونة من تسع كلمات
تستوعب في مجملها وتفصيلها ما يمكن أن تتناوله أي خطة للتطوير وتزيد.
هذه التائية تتمثل في: التوحيد.. التحديث.. التنمية.. التقنية.. التكافل..
التكامل.. التعاون.. التغيير.. التوحد.
فالتوحيد.. هو المدخل؛ لأن (لا إله إلا الله) سنة حياة.. توحيد الشعائر
والشرائع، والذي أجمله الحق سبحانه في قوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
(الفاتحة: 5) ؛ وبهذا المدخل تتحقق خلوصية العبادة لله تبارك وتعالى وتتحقق
حرية الإنسان صانع التقدم؛ لأن صنع الرجال يصنع معه كل شيء، كما قال علي
بن أبي طالب رضي الله عنه:» مجتمع المنتجين المتقين حقًا «.
وثانيها: التحديث: الذي يبدأ بتحديث العقل قبل الأشياء.. وتحديث العقل
فريضة بدأ بمشروع» اقرأ «.. ونحن نعيش عصر المعرفة.
وثالثها: عنصر التنمية: والإسلام جاء لإعمار الأرض وتنميتها وفق المفهوم
الشامل للتنمية؛ والذي يشمل التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ورابعها: التقنية: ونحن مأمورون أن نأخذ بأحدث ما أنتجه العقل البشري
من مستجدات وابتكارات ما لم تخالف نصًا أو تهدر أصلاً؛ لأن الحكمة ضالة
المؤمن لكن التقنية ليست سلعًا تستورد، وإنما مادة تطور وفقًا لنظام تعليمي
مستوعب قائم على خصوصياتنا.
وخامسها: عنصر التكافل: وهو جزء أصيل لهذا المشروع، وما حُرِّم الربا
وفرضت الزكاة إلا من أجل التكافل والتكاتف بين أفراد المجتمع.
سادسها: التكامل: وهو مهم جدًا بين أفراد المجتمع الواحد وبين المجتمعات
الإسلامية تكوينًا للوحدة، ونحن كما قلنا: نملك مقومات هذا التكامل ماديًا ومعنويًا.
وسابعها: التعاون: وأعني به التعاون مع الآخر بعد الاعتماد على الذات،
وبشرط أن يقوم هذا التعاون على النِّدِّية وليس على التبعية.
وثامنها: التخطيط والذي يعني الاستخدام الأمثل والأكفأ لما لدينا من إمكانات
مادية وبشرية ومالية تحقيقًا للحياة الطيبة الكريمة لكل إنسان يعيش في كنف النظام
الإسلامي.
وتاسعها: التوحد: على أساس وحدة العقيدة ووحدة الأمة ووحدة المصلحة.
الاتحاد الأوربي تبعنا في فكرة السوق المشتركة لكنه سبقنا وتخلفنا نحن؛ لأنه
صحح منطلقه وفقًا لرؤيته وملك قراره وعرف مصلحته ووصل الآن إلى وحدة
سياسية واحدة، وعملة واحدة.
أ. يوسف كمال:
العولمة ليست معنى جديدًا على البشرية؛ فقد سبقت هذه العولمة عولمات
أخرى، وقد قدم لنا القرآن النموذج الإسلامي للعولمة بصورته المشرقة في ذي
القرنين الذي مكَّن الله له في الأرض من مشارقها إلى مغاربها، وآتاه من كل شيء
سببًا، فأتيحت له إمكانيات ضخمة [فَأَتْبَعَ سَبَباً] (الكهف: 85) فأضاف إلى
هذه الأسباب أسبابًا فكرية وعملية.. وأخذ بالأسباب.. لم يطبق المعايير المزدوجة
وإنما طبق المنهج الإسلامي، ولخصه في: [وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ
جَزَاءً الحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً] (الكهف: 88) ، فأقام المنهج في
جنبات الأرض، وعمل على تحرير المستضعفين في كل شبر منها.. هذا هو
النظام العالمي الذي يبشر به الإسلام ممثلاً في ذي القرنين.. وقد ذكر المفسرون أن
ما فعله عند مغرب الشمس فعله عند مطلعها.
[حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً *
قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً
عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَداًّ] (الكهف: 93-94) وكان رده: [قَالَ مَا مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً] (الكهف: 95) لم يقل:
فعلت أو أفعل أو أمرت، وإنما تواضع لله مع ما وهبه من قوة.
وهنا قمة التقنية [آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً] (الكهف: 96) فخلط الحديد
بالنحاس ليكون أقوى.. وبعد أن انتهت المهمة قال: [هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي]
(الكهف: 98) ولم يقل: من إنجازاتي.
هذا أساس العولمة في الإسلام وهذا الذي يراد من الإنسان أن يفعله بالدنيا،
فليس الهدف فقط إقامة عمران مادي؛ لأنه كله سيعود [دَكَّاءَ] (الكهف: 98) .
أما العولمات الأخرى فهي التي قال الله عنها: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ
أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ] (الكهف: 103-105) .
وحبطت أي: انتفخت، ونحن نرى الحضارة تشبه الجسم المتورم! لا وزن
لها في ميزان الله [فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً] (الكهف: 105) .(152/68)
المسلمون والعالم
ماذا يحدث في السودان؟
محاولة لتفسير ما جرى وأسبابه
حسن الرشيدي
«إن هذه اللحظة الحاسمة تستدعي خطاباً كريماً للدعوة إلى الجهاد» .
هذه كانت كلمات الدكتور حسن الترابي يرد بها على إجراءات عزله عن
رئاسة البرلمان في السودان بعد أن ظل طوال ما يقرب من عشر سنوات شبه
المسؤول المطلق عن إدارة النظام السوداني؛ حيث استطاع أن ينقل الحركة
الإسلامية لأول مرة من طور الدعوة إلى طور الحكم؛ فماذا حدث؟
في مساء الأحد 12/12/1999م أقدم الرئيس عمر البشير على إعلان حالة
الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وحل المجلس الوطني، وتعطيل أربع مواد من الدستور
تتعلق بانتخاب ولاة الأقاليم. هذه الإجراءات كانت صدمة لبعض الناس ومفاجأة
كاملة، ولكنها بالنسبة للآخرين كانت تطوراً طبيعياً؛ فقد تحدثت وسائل الإعلام في
الفترة الأخيرة بكثرة عن وجود خلاف بين البشير والترابي، وأسهبت في سرد
تفاصيل كثيرة، ولم يلبث أن توقف الكلام حتى يظهر كلام جديد عن الخلاف، ثم
تفجر الوضع بإعلان البشير الأخير.
أطراف الخلاف ومظاهره:
يمكن تقسيم أطراف الخلاف إجمالاً إلى فصيلين: أحدهما الجهاز التنفيذي
للحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) ويضم إجمالاً: قصر الرئاسة، ومجلس الوزراء،
وحكام الأقاليم، والوزارات الإقليمية، والمحافظين ومساعديهم وهم من مؤيدي
البشير إضافة إلى الجيش، وعلى رأس هذا الفريق خمسة عسكريين وخمسة مدنيين.
والعسكريون هم: الفريق البشير، واللواء بكري حسن صالح وزير شؤون رئاسة
الجمهورية، وأمين رئاسة الجمهورية، واللواء مهندس إبراهيم شمس الدين وزير
الدولة في وزارة الدفاع المكلف بتأمين الوضع العسكري للنظام، واللواء الهادي عبد
الله رئيس جهاز الأمن الداخلي، ووزير الداخلية اللواء عبد الرحيم حسنين. أما
المدنيون الخمسة فهم: علي عثمان طه نائب الرئيس، والدكتور نافع علي نافع
مستشار الرئيس لشؤون السلام، والدكتور مجذوب الخليفة والي الخرطوم،
والدكتور غازي صلاح الدين وزير الثقافة والإعلام، والدكتور إبراهيم أحمد عمر.
ويؤيدهم معظم القادة القدامى الذين رافقوا الترابي في تأسيس الحركة قبل أربعة
عقود لكنه عمد إلى تهميشهم بدعوى ضرورة تجديد دماء الحركة، وأضحى الشارع
السوداني ينادي هذه المجموعة بـ (5 + 5) .
وفي مقابلها يقف الجهاز التشريعي وهم معظم أعضاء البرلمان السوداني
إضافة إلى المليشيات المسلحة التابعة للحزب وعلى رأسه الترابي وعدد من أعوانه
المقربين، ومنهم: محمد الحسن الأمين، والدكتور علي الحاج محمد آدم،
وإبراهيم السنوسي، والدكتور معتصم عبد الرحيم.
وتقول بعض المصادر السودانية إن الترابي غدا متحصناً في الآونة الأخيرة
بالبرلمان وحزب المؤتمر الوطني، بينما يسيطر تلاميذه الذين شقوا عصا الطاعة
عليه على الجيش والأجهزة الأمنية.
وقد بدأ الخلاف يظهر على السطح في الفترة الأخيرة؛ وإن كان بعضهم
يرجع بدايته إلى عام 1992م؛ إلا أنه مؤخراً وبالتحديد في أواخر العام قبل
الماضي بدأ الخلاف يأخذ عدة أشكال:
1 - مذكرة العَشَرة: وتقدم بها عشرة قياديين من حزب المؤتمر الوطني في
ديسمبر 1998م وهم: البروفيسور إبراهيم أحمد عمر وزير التعليم العالي،
والدكتور أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم سابقاً ومستشار رئيس
الجمهورية للتأصيل، والمحامي عثمان خالد مضوي؛ وهؤلاء من جيل الترابي
نفسه. أما الجيل الثاني من الإسلاميين فقد مُثِّلوا في المذكرة بالدكتور نافع علي نافع
وزير الزراعة الحالي، والدكتور بهاء الدين حنفي مدير مركز الدراسات
الاستراتيجية، والأستاذ سيد الخطيب، وعلي الكرتي، وغيرهم.
وملخص هذه المذكرة أنها دعت إلى تنحي الترابي عن رئاسة البرلمان
واقتصاره على أمانة الحزب الحاكم.
يقول عنها حامد تورين وهو أحد مقدميها: «هي واحدة من مظاهر الصراع
في المؤتمر الوطني، وهي مذكرة ترمي في الأساس لعدم تحول الحزب إلى شكل
دكتاتوري، وكانت تسعى لبسط الديمقراطية واعتبار وجهة نظر المواطن السوداني،
وتدعو لإلغاء الأساليب التقليدية التي كانت موجودة، وتقديم تنظيم بشكل جيد
يصلح نموذجاً للأحزاب القادمة كما طُرِحت في التوالي على السلطة» .
والذين كتبوها ظلوا يرددون بأنها لم تكن تستهدف شخصيات بعينها وإنما
كانت تعني إفساح المجال إلى الشورى الحقيقية، وتكوين مكتب قيادي فاعل يتولى
إدارة العمل السياسي بمؤسسيَّة.
2 - اجتماع المؤتمر التأسيسي لحزب المؤتمر الوطني: وقد عقد هذا
الاجتماع في الفترة من 7 - 10 أكتوبر 1999م، وفي هذا الاجتماع الذي ضم
أعضاء الحزب البالغ عددهم حوالي 10 آلاف عضو تم انتخاب هيئة الشورى
وعددها 600 عضو، وانتخبت هيئة لقيادة الحزب تضم 60 شخصاً، وتأيَّد فيه
انتخاب الترابي أميناً عاماً لهيئة القيادة، والبشير رئيساً للحزب ومرشحه لانتخابات
رئاسة الجمهورية عام 2001م، كما تم انتخاب البشير مسؤولاً عن القطاع السياسي
والتنسيق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبذلك تكونت الهياكل الثلاثة الرئيسة
في الحزب: المؤتمر القومي، وهيئة الشورى، وهيئة القيادة كما تم تقسيم الأعمال
التنفيذية إلى سبعة قطاعات.
3 - استقالة وزير التعليم العالي إبراهيم أحمد عمر احتجاجاً على إخفاقه في
انتخابات مجلس شورى الحزب الحاكم، وكان وزير التعليم العالي ضمن القياديين
العشرة الذين تقدموا بمذكرة العشرة الشهيرة، ولقد رفض البشير استقالته.
4 - تلميحات عبر الصحف المحلية والجلسات الخاصة: ظل بعض
الإسلاميين القياديين يلمحون في الصحف وفي الجلسات الخاصة إلى ضرورة تنحي
الترابي قليلاً لآخرين أكثر شباباً وحيوية.
5 - ما تردد عن التغييرات الأخيرة في القوات المسلحة وأنها شملت معظم
الضباط من رتبة عقيد فما فوق، وهي المجموعة التي تتكون في غالبيتها من
أنصار الجبهة الإسلامية القومية الذين أُلحِقوا بالكلية الحربية في عام 1991م وكانت
تعتبر سنداً قوياً للدكتور الترابي داخل الجيش، وتتحدث مجالس الخرطوم عن أن
قرار إحالة هؤلاء الضباط إلى التقاعد تم بإيعاز من النائب الأول علي عثمان طه.
ولكن ما تفسير الذي جرى؟ وما الأسباب التي دفعت الأحداث حتى وصلت
إلى هذا المستوى؟
إن أي إطار تحليلي للأحداث لا بد وأن يأخذ في حسابه ثلاثة أمور:
الأول: الحركة الإسلامية في السودان.
الثاني: النظام السوداني.
الثالث: التدخل الخارجي.
الأول: الحركة الإسلامية في السودان:
في نهاية الأربعينيات برزت الحركة الإسلامية في السودان استجابة لنداء
عميق سرى من داخل الحركة الطلابية السودانية وتلبية لاحتياجات أعمق في
السودان وبديلاً سياسياً وفكرياً لأنواع التشتت والتمزق والضياع الطائفي والعقائدي.
واختلف الكُتَّاب الذين أرَّخوا للحركة في تقسيم مراحلها: فنجد حسن مكي -
وهو مؤرخ معتمد للحركة - يُقَسِّم تاريخها إلى: بناء الحركة من عام 1944 -
1954م، ومن 1958 - 1969م، ومن 1969 - 1972م، ومن 1973 -
1977م، ومن خندق المقاومة إلى مركز المشاركة من 1977 - 1985م [1] .
أما الترابي فيقسمها إلى: عهد التكوين (1949 - 1959م) ، وعهد الظهور
الأول (1956 - 1959م) ، وعهد الكمون (1959 - 1964م) ، وعهد
الخروج العام (1964 - 1969م) ، وعهد المجاهدة والنمو (1969 1977م) ،
وعهد المصالحة والتطور من (1977 - 1984م) [2] بينما يقسمها حيدر إبراهيم
علي وهو من المحسوبين على التيار العلماني في السودان إلى: مرحلة النشأة
والتكوين م 1946 - 1957م، ومرحلة التطور والانتشار منذ انقلاب عبود
1958 م وحتى ثورة أكتوبر 1964م، ومرحلة انقلاب نميري 1969م حتى انقلاب
البشير 1989م [3] .
ولسنا بصدد ذكر تاريخ الصحوة في السودان، ولكننا نقتبس منها قبسات،
ونقف عند عوامل أثرت فيها ونخرت في جسدها وأدت بها إلى الحال الذي وصلت
إليه الآن، ومن هذه العوامل:
عدم وضوح الأساس العقدي:
مرت الحركة الإسلامية في مصر بمراحل بدءاً برؤية محمد عبده والأفغاني
التي نظَّرت للإسلام بوصفه إصلاحياً حضارياً، ومروراً بنظرة الشيخ حسن البنا
وجماعة الإخوان ومحاولة تفعيل دور الإسلام السياسي والأخلاقي، ومروراً بسيد
قطب الذي نقل الحركة الإسلامية نقلة عقدية، وأخيراً التوجه الشرعي التأصيلي
السلفي مع بداية السبعينيات.
ولكن بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان وبالرغم من تأثرها بمثيلتها في
مصر فإنها لم تقطع هذه المراحل؛ ففي بداياتها تأثرت بجماعة الإخوان المسلمين،
ومع تبوؤ الدكتور الترابي زعامة الحركة بدأ يصبغها بصبغته الفكرية التي تأثرت
إلى حد كبير بالمدرسة العقلية.
وتتلخص أطروحات الترابي فيما يلي:
1 - نظرته للقرآن بأنه حوى القواعد الكلية الأصولية العامة، ولا ضابط في
تفسيره إلا ما يمليه عليه تجديد اللغة، وتغير الواقع الاجتماعي والإعمال العقلي لفهم
الدلالة دون قيود تحده.
2 - السنة عنده معظمها ظني الورود والدلالة، وخبر الواحد لا يقوى على
الاحتجاج به.
3 - إمكانية التجديد والنظر في أصول علم الحديث ومناهج الجرح والتعديل
ومعايير التصحيح والتضعيف، مع عدم التسليم بعدالة الصحابة.
4 - إنكاره لبعض الحدود الثابتة كحد الردة مثلاً.
5 - آراؤه بالنسبة للمرأة في توليتها للقضاء وحتى إمامتها للصلاة [4] .
هذه الآراء أدت إلى انفصال الجناح السلفي في جبهة الميثاق (الذي يضم
جعفر شيخ إدريس، ومالك بدري، وعبد الرحمن رحمة، ومحمد مدني سبال)
وجبهة الميثاق هي الإطار الذي كان يقود الحركة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت
جماعة الإخوان هي لبه، وعلى رأس قيادة الجبهة والجماعة الدكتور الترابي.
ولا نقصد بالأساس العقدي جانب العقائد فقط، ولكننا نقصد ما هو أشمل
وأوسع بكثير؛ حيث نعني به الميزان الذي يزن به الفرد أعماله والمعيار الذي به
تحدد الجماعة وتقيِّم أفكارها وأطروحاتها. إنها الركائز والأعمدة والميزان الذي لا
يقوم البنيان إلا به؛ فبه يتم تقييم الواقع المحيط وفق شروطه، وبمناهجه تضبط
أحكامه ويكون فيه التمييز بين الطوائف والتجمعات الموجودة، ولقد بحثت في
الكتب والمجلات التي تعبر عن الحركة الإسلامية في السودان: عن أفكارها
وتصوراتها العقدية فوجدتها قليلة قياساً بتجاربها الحركية الواسعة، وحتى في القليل
الموجود تكاد تخلو من التأسيس المنهجي والتأصيل الشرعي؛ ولذلك لا عجب إن
وجدنا في خضم الخلاف الذي حدث بين فريقي البشير والترابي مجادلات تثور
حول البيعة والشورى والإمامة. وعند عرض هذه المماحكات على المنهج الشرعي
التأصيلي لا نجد دليلاً شرعياً يستدل القوم به من الكتاب أو السنة، ولا نرى أقوال
علماء تقال، ولكن نجد تهويمات وشذرات ليس وراءها منهج علمي أو غير علمي
شرعياً كان أو غير شرعي، وهذا كله نتاج المدرسة التي ربَاها الترابي والحصاد
الذي زرعه.
النزعة الميكيافيلية عند بعض رجال الحركة الإسلامية في السودان:
إن السياسة في مفهوم الإسلام هي «معرفة الواقع تماماً ومحاولة النهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، وليس المقصود
منها المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق» [5] .
وإن العمل السياسي في الإسلام يقوم على مرتكزات أهمها:
1 - عدم التنازل في المسائل الاعتقادية أو التي تتعلق بأصول الإسلام التي
حسمها الكتاب والسنة؛ أو أجمع عليها المسلمون.
2 - أما المسائل الاجتهادية مثل السياسات الشرعية فتراعى فيها القواعد
الشرعية الكلية كقاعدة درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد
المصالح المرسلة وأصولها، والاستحسان وغيرها من القواعد المعروفة.
3 - عدم فتنة الناس أو التلبيس عليهم، وهذه القضايا تتطلب وجود علماء
قادرين على ضبطها والموازنة بينها، والتفريق بين أصولها والمجمع عليه وبين
الاجتهادي منها.
أما بعض رجال الحركة الإسلامية في السودان فأرى أنهم خالفوا هذا المنهج
في بعض تصرفاتهم وطروحاتهم فمثلاً:
1 - النظام السوداني على استعداد لمناقشة فصل الدين عن الدولة وهذا ما
ردده علي عثمان طه نائب الرئيس.
2 - إن أساس العلاقة بين الدولة والفرد هو المواطنة، وليس العقيدة كما
يقول الترابي.
وعندما نتأمل آيات سورة الأنعام: [وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] (الأنعام: 52) قال الطبري مسنداً إلى ابن مسعود
رضي الله عنه: مر الملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب
وعمار وبلال وخباب ونحوه من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت
بهؤلاء من قومك؟ ! هؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ ! أنحن نكون تبعاً
لهؤلاء؟ اطردهم عنك؛ فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فنزلت هذه الآية. والفرد
منا يتأمل موقف القرآن الذي يجيء محذراً من أي اعتبار أو أي أهداف أو غايات
تبيح طرد المؤمنين!
الثاني: النظام السوداني:
نشأة النظام الحالي:
جاء عام 1989م وعلى رأس الحكم في السودان حكومة الصادق المهدي
الضعيفة، وكانت الحركة الشعبية لجنوب السودان بزعامة جارانج توالي
انتصاراتها مستغلة جو الفوضى السائد في الخرطوم حتى أصبح الجنوب بأكمله
على وشك السقوط في أيديها.
ونما إلى علم قيادات الجبهة القومية الإسلامية حينئذ أن هناك مجموعات من
الضباط من اتجاهات مختلفة تخطط للقيام بانقلاب؛ وهنا تذكرت هذه القيادة أحداث
مايو 1969م عندما استولت مجموعة من الضباط القوميين والشيوعيين على الحكم
وزجت برموز الحركة الإسلامية في السجون. فاتجهت النية لدى قيادة الجبهة إلى
تكليف العميد عثمان محمد حسن بقيادة الانقلاب لكنه تردد في اللحظة الأخيرة،
وبعدها تم تكليف العميد البشير بمغادرة منطقة عمله في غرب السودان ليحضر إلى
الخرطوم بشكل عاجل؛ ولدى وصوله إلى العاصمة تمت ترتيبات زعم فيها أنه
تقرر اختياره للمشاركة في فترة دراسية في جمهورية مصر العربية لتشتيت
العناصر الاستخبارية داخل الجيش؛ وكان لا بد من تقديم ساعة الصفر لتنفيذ
الانقلاب حتى لا تطول إقامة البشير في العاصمة بلا مُسوغات مقبولة، وسجل
البشير بيانه الانقلابي الأول في الاستوديو التلفزيوني الخاص بمنظمة الدعوة
الإسلامية وهي إحدى منظمات الجبهة القومية الإسلامية، واجتمع البشير بالترابي
ليلة الانقلاب وتم الاتفاق على أن يذهب الترابي للسجن للتمويه، وحين تم الانقلاب
أبلغ البشير فروع القوات المسلحة أنهم قرروا التحرك بناءاً على تعليمات من القيادة
العامة للجيش للإطاحة برئيس الوزراء الصادق المهدي، وكان اسم البشير قد تردد
بشدة في عام 1985م إثر خبر نشرته مجلة الدستور التي كان يصدرها حزب البعث
السوداني في لندن وذكرت فيه أن البشير يتزعم حلقة من الضباط الموالية للجبهة
الإسلامية المكلفة بتنفيذ انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة.
كانت آلية عمل النظام تسيرها كوادر الجبهة من وراء الستار بينما بقيت
مجموعة الضباط التي قامت بالانقلاب مجرد واجهة فقط أمام العالم الخارجي، وكان
من الطبيعي أن يبدأ هؤلاء الضباط في التململ من ذلك الوضع حينما أخذت
خبراتهم تتراكم في العمل السياسي، في حين اشتد الحصار على النظام الحاكم من
قِبَل المعارضة المدعومة من دول الجوار والولايات المتحدة و (إسرائيل) ،
وتأزمت العلاقة مع مصر، كل ذلك بينما الأداء السياسي كان سيئاً للمجموعة
الحاكمة؛ لظهور التناقض والقرارات المتضاربة في العلن بين التنظيم الحاكم من
وراء الستار ومجموعة الواجهة؛ مما حدا بالترابي إلى أن يتخذ قراراً بالظهور
علانية هو وأفراد تنظيمه واشتراكهم في الحكم تحت مسمى حزب المؤتمر الوطني
وقانون التوالي، وعبر هذا الحزب وتشكيلاته أراد الترابي أن يظل ممسكاً بدفة
الحكم في السودان متحكماً في توجيهه واستئثاره بصنع القرار، ولكن وربما للمرة
الأولى يظهر عجز الترابي عن مسايرة الواقع وعن فهم متغيراته، وهو الذي اشتهر
عنه سبقه للأحداث، وواصل تحديه للمجموعة المناوئة لزعامته التي لم تجد
صعوبة في إزاحته من القيادة وتحجيم نفوذه ووضع الإطار المناسب لدوره الذي لا
يتعداه في المستقبل.
الثالث: التدخل الخارجي:
1 - الدور الأمريكي في تفجير النظام السوداني:
إن السؤال المطروح هو: ما حقيقة الدوافع الأمريكية في النظر إلى السودان؟
يقع السودان في موقع قريب من منطقة القرن الإفريقي، وتمثل هذه المنطقة
أهمية حيوية للتحكم في الملاحة في البحر الأحمر: هذا البحر الذي تمر به نسبة
كبيرة من تجارة العالم إضافة إلى ناقلات النفط القادمة من الخليج إلى أوروبا
وأمريكا، والمعروف أن تدفق البترول والتحكم فيه وفي أسعاره كان دائماً
ورقة ضغط أمريكية على أوروبا واليابان والصين تلوح بها في وجه هؤلاء الكبار
الذين يريدون الخروج عن السياسة الأمريكية وأهدافها في العالم؛ فضلاً على أن
أمريكا تعد منطقة القرن الإفريقي عمقاً استراتيجياً لقواتها الموجودة في
الخليج.
كما يمثل البحر الأحمر عمقاً حيوياً لـ (إسرائيل) ؛ حيث يطل السودان
عليه، وأمن (إسرائيل) يعد من أولويات السياسة الأمريكية وأهدافها الاستراتيجية
، والتحيز الأمريكي لليهود ليس كما يظن بعض الناس أنه نتيجة فقط لتغلغل اللوبي
اليهودي الأمريكي وتأثيره على صانعي القرار الأمريكي فقط، ولكن العامل الآخر
هو التأثير البروتستانتي النصراني على السياسة الأمريكية.
* إن السودان مدخل مهم إلى منطقة البحيرات العظمى؛ حيث قامت أمريكا
بمحاولة ترتيب الأوضاع هناك، فقامت بدعم قبيلة التوتسي التي استولت على
الحكم في رواندا وأوغندا، وحاولت ذلك في زائير (الكونغو) . وفي تقرير
للبنتاجون نشر موخراً اعتبر أن منطقة البحيرات العظمى هي مصدر استراتيجي
مهم لا يمكن الاستغناء ولا التنازل عنه باعتبار أن هذه المنطقة تمثل حلقة الوصل
الرئيسة بين الدول الإفريقية ودول الشرق الأوسط، إضافة إلى أن من يتحكم في
هذه المنطقة سيحدد إلى حد كبير الآثار الاستراتيجية والسياسية لمنطقتي الشرق
الأوسط وإفريقيا. وأكد التقرير أن النهج الاستقلالي الذي تسعى دول المنطقة إلى
تبنيه ممثلاً في السعي إلى إنشاء السوق الإفريقية المشتركة سوف يؤثر على
المصالح الأمريكية، وأن السودان والحكم الإسلامي فيه سوف يحدث بلبلة في
المنطقة، وأن الهدف الأمريكي هو إحداث تغيير سياسي سريع في السودان وعلمنة
الحكم ليرتبط مع بقية دول البحيرات العظمى في إطار تحالف قوي يضم أوغندا
وإثيوبيا وإرتيريا والكونغو والسودان الجديد.
* التحكم في منطقة حوض النيل لإخضاع الدول الواقعة عليه للسياسات
الأمريكية.
* وقف المد الإسلامي وانتشاره في إفريقيا: فقد صرحت أولبرايت في
5/ 1998م: أن ترك هذه المنطقة (تقصد شرق إفريقيا) دون توجيه استراتيجي
أمريكي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج في مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق
الإفريقي. وفي حديث لوزير الخارجية السوداني مصطفى إسماعيل نشر مؤخراً
قال فيه: «إن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تصنع عدواً لتخيف به الآخرين،
وآلياتها الإعلامية والسياسية تصب في هذا الاتجاه، ومن ثَمَّ فهي تدعو الأطراف
الأخرى في ضوء ذلك للاعتماد عليها، وأمريكا تصوِّر السودان الآن على أنه
العدو» .
في ضوء هذه الأهداف السابقة بدأت أمريكا في رسم السياسات التي تمكنها
من الوصول إلى هذه الأهداف:
والمتتبع للسياسة الأمريكية في أي بقعة أو بؤرة من بؤر التوتر في العالم
يلحظ خاصية هامة يجب علينا فهمها والاهتمام بها وهي: الاستدراج البطيء
والتعامل الهادئ مع الخصم، الممزوج بالتصعيد التدريجي أي سياسة الشد
والاسترخاء حتى إذا تهيأت الظروف دفعت الأحداث إلى إحكام الطوق والحصار
العسكري بالأساطيل والجيوش والحلفاء، ثم تتبع أسلوب ساعة الحسم.
إن عدم فهم هذه الخاصية وإدراكها يوقعنا في الحيرة والاضطراب ووصف
السياسة الأمريكية بالتناقض والارتباك وهي ليست كذلك في كل وقت؛ ولكن يحدث
أحياناً خلاف بين صانعي القرار الأمريكي حول وصول الوضع إلى ساعة الحسم،
وهنا قد يحدث نوع من الاجتهادات المختلفة تؤثر بدورها على المواقف التي تتخذها
أمريكا؛ وذلك مثل ما حدث بالنسبة للسودان في قرار إعادة الدبلوماسيين الأمريكيين
إلى السفارة الأمريكية في الخرطوم؛ فبعد أسبوع واحد تراجعت الخارجية الأمريكية
عن القرار.
وطبقاً للقاعدة السابقة فإن حديثنا عن السياسة الأمريكية تجاه السودان يسير
على أربعة محاور:
المحور الأول: سياسة الاسترخاء؛ ومن ذلك:
* صدور تقارير صحفية تفيد اعتزام الإدارة الأمريكية بحث إمكانية إسقاط
النظام السوداني من قائمة الدول الراعية للإرهاب تمهيداً لإتمام الصفقة النفطية بين
الحكومة السودانية ومؤسسة أوكسيدنتال النفطية الأمريكية.
* الترحيب الرسمي الأمريكي باتفاق السلام الموقع في 21/4/1997م بين
الحكومة السودانية وست من فصائل المعارضة الجنوبية.
* زيارة وفد أكاديمي أمريكي للسودان وبحث المشاكل التي تعوق تطوير
العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان.
* إقرار صندوق النقد الدولي اتفاق المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادي
ابتداءاً من أواخر يونيه 1997م.
* إعراب الإدارة الأمريكية عن انزعاجها مما نسب إلى الرئيس الإريتري
حول وجود مشاركة إريترية في القتال الدائر بشرق السودان.
* وفي تصريح لمسؤول في مجلس الأمن القومي الأمريكي أن أمريكا لا تؤيد
الدعوة لتقسيم السودان، وترغب في أن يحافظ على وحدته ضمن صورته الحالية
المعترف بها من المجموعة الدولية.
* السماح للسودان باستيراد المواد الغذائية من الخارج؛ حيث إنها غير
مدرجة في العقوبات.
المحور الثاني: سياسة الشد:
* صدور عدة تقارير أمريكية من وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن
القومي قدمت إلى الكونجرس في الفترة من سبتمبر إلى نوفمبر 1996م والتي
أجمعت على اعتبار السودان بين الدول الأشد خطراً.
* تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي في ديسمبر
1996م، تؤكد أن استراتيجية الإطاحة بالنظام السوداني هي أفضل الخيارات
المتاحة.
* في 24/11/1997م قررت الولايات المتحدة سحب البعثة الدبلوماسية من
السودان.
* تصريح مادلين أولبرايت أثناء جولتها في المنطقة أن الولايات المتحدة
تسعى لإسقاط النظام في الخرطوم سلماً أو حرباً.
المحور الثالث: إحكام الطوق:
* في عام 1996م تم تخصيص مبلغ 20 مليون دولار في صورة مساعدات
عسكرية لثلاث دول إفريقية تتعاون لإسقاط النظام السوداني وهي: إريتريا،
وأوغندا، وإثيوبيا؛ وهو ما أكدته السفارة الأمريكية.
* في 15/12/1997م اتهم البشير أمريكا بأنها حرضت حركة التمرد على
إلغاء ما تم التوصل إليه، وألقت بكل مبادئ الإيغاد في سلة المهملات دعماً
لاستمرار القتال.
* عملت إدارة كلينتون على شل الصف الإفريقي عبر صنع لوبي بين الدول
الموالية لواشنطن يتبنى فكرة إقرار آلية متعلقة بتشكيل قوة عسكرية من هذا اللوبي
تتولى التدخل لفض ما تسميه واشنطن بالصراعات في القارة؛ وهي الآلية التي
تشرف عليها واشنطن في أوغندا.
* الجولات المتتالية للمسؤولين الأمريكيين في المنطقة بدءاً من كلينتون
ومروراً بأولبرايت وانتهاءاً بسوزان رايس مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون
القرن الإفريقي، ويسعى هؤلاء المسؤولون إلى القضاء على أي تعارض في
الأهداف وإلى تخفيض حدة التنافس بين زعماء المنطقة.
حاولت أمريكا ترتيب لقاء يجمع بين جارانج والمنشقين عنه في نيويورك ولكن
المفاوضات بين الأطراف وصلت إلى طريق مسدود.
المحور الرابع: مؤشرات لحظة الحسم:
بعد إتمام الحصار على السودان كان الوضع مهيأ لزحف عسكري من تحالف
المعارضة مدعوم بجيوش دول الجوار (إثيوبيا وإريتريا وأوغندا) وخاصة بعد أن
أصبحت مصر على الحياد بعد المحاولة التي لم تنجح لاغتيال الرئيس حسني
مبارك في إثيوبيا، وبدا النظام السوداني شبه معزول، وظهر أن هذا التوقيت هو
الأنسب لتوجيه تلك الضربة القاصمة للنظام. ولكن سرعان ما حدثت تطورات كان
من أبرزها تورط أوغندا في الصراع الذي اندلع مجدداً في الكونغو، واندلاع قتال
ضارٍ بين الحليفين في القرن الإفريقي: إثيوبيا، وإريتريا. وتغير الموقف
المصري من النظام السوداني بعد أن أعاد حساباته الاستراتيجية وأصبح يقف حجر
عثرة في وجه هذه المخططات.
وهنا بدأت أمريكا تُغيِّر سياساتها تجاه السودان لتبدأ مرحلة جديدة من أهم
خصائصها:
* تقليل الاعتماد على دول الجوار نظراً لتشتتها وتشرذمها.
* محاولة إضعاف الدور المصري في السودان، وممارسة الضغوط على
النظام المصري لرفع يده من القضية السودانية.
* تحريك الأساطيل الأمريكية تجاه السودان، واستخدام أساليب القصف
الصاروخي لضرب منشآت حيوية؛ كما حدث في ضرب مصنع الشفاء في
الخرطوم.
* إرسال المبعوثين إلى الجنوب؛ كما حدث في زيارة عضوي الكونجرس
إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ثم عودتهم ومطالبتهم الإدارة الأمريكية
بالتدخل.
* التحرك نحو إيجاد مناطق معزولة ضد الطيران السوداني على غرار شمال
العراق وجنوبه تمهيداً لانفصاله.
تعيين مبعوث خاص بالسودان، وذلك للتركيز على هذه القضية والدلالة على
أنها بؤرة الاهتمام الأمريكي. إن الحالة السودانية أكثر شبهاً بالمسألة العراقية
بالنسبة للولايات المتحدة؛ فهي بين خيارين:
الاحتواء: وجعل السودان في حالة حصار دائم ليساعد على انهيار النظام
وتفكيكه، أو ثورة الشعب عليه. وسياسة الاحتواء الأمريكية: هي ممارسة
الضغوط القوية على الخصم من جميع الاتجاهات حتى ينفجر من الداخل، وهذه
السياسة باتت الخيار المفضل الذي تتبعه الإدارة الأمريكية مع الجماعات الإسلامية
سواء بنفسها مباشرة أو عن طريق عملائها في المنطقة، وتجلى ذلك واضحاً في
أحداث انشقاق حزب الوسط من جماعة الإخوان المسلمين، وما حدث في انفجار
الخلافات داخل المجموعة الحاكمة في النظام السوداني.
التفكيك: أي تجزئة السودان إلى دويلات عدة تحت أي صيغة أو مسمى من
المسميات مثل حق تقرير المصير، أو الكونفدرالية. وقد ذكرت جريدة الأسبوع
المصرية في 22/12/1997م أن أولبرايت استشارت جيمي كارتر الخبير في
الشؤون السودانية والقرن الإفريقي (الرئيس الأمريكي الأسبق) فأشار بتفتيت
السودان للسيطرة على المنطقة وإزالة النظم المعادية، وبالذات التي لها توجه ديني.
2 - الدور المصري:
حملت السياسة الأمريكية تجاه السودان وفي القرن الإفريقي دائماً تهديداً مبطناً
لمصر؛ فقد لعبت واشنطن دوراً هاماً في إبطال المبادرات المصرية في الصومال،
وأبدت امتعاضاً واضحاً تجاه الدعم المصري الليبي لإريتريا. والجولة الإفريقية
الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لم تشمل القاهرة تعمداً منها
لإلغاء أي دور مصري في إفريقيا أو عدم تحبيذه، وتبع ذلك لقاؤها بـ (جون
جارانج) وإعلانها استعداد واشنطن تقديم مساعدات رسمية للمشروع الانفصالي في
جنوب السودان، ومعارضتها الصريحة للمساعي المصرية الليبية المشتركة العاملة
على إيجاد صيغة للمصالحة السودانية. لقد استخدمت الحكومة المصرية جارانج
وأطراف المعارضة السودانية الأخرى لبعض الوقت في لعبة الشد والجذب مع
الخرطوم، ولكن جارانج شخص لا يعتمد عليه، وكان من المفترض لأساطين
رجال السياسة المصرية أن يدركوا طبيعة شخصيته وأهدافه، ولكنهم خُدعوا فيه؛
فعند أول بادرة تنكر للمبادرة المصرية الليبية وتمسك بمبادرة الإيغاد عند لقائه
بأولبرايت.
ثمة دلائل عديدة على أن التصعيد الأمريكي الأخير ضد السودان رغم التهديد
المباشر للسودان موجه في جوهره ضد مصر؛ فالعداء الأمريكي للسودان هو بشكل
من الأشكال تحصيل حاصل، ولكن الذي يبعث على الاندهاش في النشاط الأمريكي
أن مصر وأمريكا دولتان حليفتان تجمعهما سياسة وتفاهم مشترك وتنسيق طويل
المدى، بل إن تصريحات أولبرايت الأخيرة تجاه المبادرة المصرية الليبية جاءت
في الوقت الذي تجري فيه مناورات مصرية أمريكية متعددة القوات، والتي تسمى:
(النجم الساطع) هي في حد ذاتها مؤشر على عمق العلاقات المصرية الأمريكية؛
فكيف الجمع بين هذه وتلك؟ بعض الجواب يكمن في اللقاء الذي ضم الرئيس
المصري ووزير الدفاع الأمريكي وليم كوهين في القاهرة قبل يوم واحد من
تصريحات أولبرايت العدائية، ووفقاً لمصادر صحفية فقد طرح وزير الدفاع
الأمريكي على مبارك فكرة تطبيع عسكري بين مصر و (إسرائيل) من أجل
إعطاء مزيد من الدفع لعملية السلام والتطبيع في المنطقة. والتطبيع في المفهوم
الأمريكي الإسرائيلي هو إخضاع مصر عسكرياً، وهو الأمر الذي يتناقض مع
الحلم الأزلي للنظام المصري في الهيمنة على المنطقة. وبما أن الهيمنة الإسرائيلية
على المنطقة هي ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأمريكية في هذه البقعة في العالم؛
فإن تهديد مصر في جنوب السودان يستهدف أساساً التلويح بالتحكم في مياه شعب
مصر وطعامه وإجبار مصر على الإذعان أمام الدور والقوة الإقليمية للدولة العبرية.
بمجيء حكم الإنقاذ في مايو 1989م اختلفت الأسس الفكرية للنظامين؛
فالنظام المصري قائم على العلمانية وإبعاد الدين عن السياسة؛ بينما جاءت ثورة
الإنقاذ وأفرادها يتعاطفون مع الإسلام ويتحالفون مع فصيل من فصائل التيار
الإسلامي، وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام. وجرت محاولة اغتيال الرئيس
المصري في أديس أبابا لتشتعل العلاقة، وتدخل منطقة حلايب مرة أخرى ورقة
للإثارة وهي منطقة حدودية تدخل في حدود مصر ولكن يديرها السودان منذ
الاستقلال، والوضع فيها ظل كذلك حتى إذا تجدد النزاع بين الحكومتين أطلت هذه
القصة برأسها. والأصل أنه لا توجد حدود طبيعية بين الدولتين، بل إن المنطقتين
على جانبي الحدود أشبه بوحدة واحدة: نفس البشرة، والعادات والتقاليد، حتى
اللهجة الواحدة، لكن الاستعمار قبل أن يرحل زرع هذه البؤر المتوترة ليس بين
مصر والسودان فحسب، بل بين معظم الأقطار الإسلامية، كما أسهم اتهام مصر
للسودان بإيواء المتطرفين الإسلاميين واتخاذهم السودان قاعدة لهم ساهم ذلك في
ازدياد حدة التوتر. كما اتهمت السودان مصر بأنها تستقطب زعماء المعارضة
السودانية الذين يعقدون اجتماعاتهم في القاهرة.
ولكن بعد تصريح أولبرايت في أثناء زيارتها لأوغندا بأن الولايات المتحدة
ستغير النظام السوداني سلماً أو حرباً ساهم هذا التصعيد في تخفيف حدة التوتر بين
الدولتين؛ حيث رأت مصر خطورة استراتيجية على أمنها القومي من ناحية
الجنوب ووجود الفوضى في منطقة حوض النيل والبحر الأحمر، كذلك سارع
السودان إلى الارتكاز على مصر للمساعدة في صد هجمات المعارضة التي أخذت
بعداً دولياً، ولذلك تمت زيارة الفريق الزبير صالح نائب رئيس الجمهورية
السودانية في ذلك الوقت إلى القاهرة وتبعها زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى
السودان مع فريق عمل وبحث الموضوعات المعلقة ومن بينها مسألة إيواء الهاربين،
كما بحث إمكانية تزويد السودان بمحطات للرصد ووسائل دفاعية في الجنوب،
وقد أثمرت هذه المعونات في إحباط محاولة جارانج احتلال مدينة (واو) حين
تمكن جارانج من استقطاب أحد زعماء المعارضة المنشقة عليه في السابق
(كاربينو) ؛ ولكن الجيش السوداني تمكن من رصد الاتصالات التي جرت بين
أطراف التمرد وإبطالها نتيجة للدعم المصري.
وبهذا بدا الدور المصري عاملاً حاسماً في إحباط المخططات على الجنوب.
وللمرة الأولى تقريباً منذ توتر العلاقات بين البلدين نوقش ملف العلاقات مع
السودان في اجتماع موسع لمجلس الوزراء المصري بحضور الرئيس مبارك أوائل
مايو الماضي، وللمرة الأولى أيضاً يخرج الاجتماع بتوصية تقول: «إن الأولوية
للعلاقات مع السودان» فقد حرص وزير الخارجية المصري على انتقاء عبارات
تدل على التحسن الحقيقي في العلاقات، وتكشف ضمناً أن هناك اتفاقات أبرمت
على الرغم من عدم الإعلان عنها؛ فقد قال عمرو موسى في لقاء مع الصحفيين،
وآخر مع أعضاء لجان الشؤون الخارجية والعربية والأمن القومي بالبرلمان
المصري: «نحن مقبلون ومقدمون على وضع هذه العلاقات في أولوية عالية» ،
واعترف بوجود «لقاءات مكثفة وعمل مستمر الآن بين الجانبين انطلاقاً من
الحرص الكامل على مصالح السودان الشقيق وعلى العلاقات المصرية السودانية
الخاصة والمتميزة، ومحاولة تنقية المسار حتى لا يتعرض لعملية تشويش؛ لكن
هذا التقارب بين النظامين بدا بطيئاً جداً؛ حيث إن النظام المصري ينظر إلى
السودان بمنظارين:
- أنه نظام إسلامي متطرف، ومجرد وجوده يدعم مكانة الجماعات التي
يخوض معها النظام المصري حرباً لا هوادة فيها، ويسميها متطرفة.
- أما النظرة الثانية فهي مصالح مصر الاستراتيجية في السودان والتي
تهددها الحرب الأهلية، وعدم استقرار النظام في الخرطوم.
هذه المعضلة تحدَّث عنها الرئيس مبارك في لقائه بالمفكرين أثناء معرض
الكتاب في القاهرة في يناير 1997م؛ حيث قال بالحرف الواحد:» أنا أمام معادلة
صعبة (مش عارف) أتصرف فيها (إزاي) «ويبدو أن القاهرة توصلت أخيراً
لحل هذه المعضلة بالضغط على النظام السوداني لتغيير ولائه للإسلام عن طريق
إدخال المعارضة بأي صورة داخل النظام، ويأتي في هذا السياق استقبال الحكومة
لـ (جارانج) لأول مرة علناً في القاهرة. والملاحظ أن الحكومة المصرية تحاول
ترتيب لقاء يجمع أركان المعارضة مع الحكومة السودانية للتوصل إلى اتفاق على
غرار ما حدث مع أطراف الصراع الصومالي.
وعلى درجة تخلي النظام في السودان عن توجهاته الإسلامية يستمر التحول
التدريجي في العلاقة بين الطرفين. وفي الوقت نفسه تقوم الحكومة المصرية
بإحباط أي محاولة لزعزعة نظام الحكم بالقوة في السودان وإحداث فوضى بالمنطقة.
ولم يكن من قبيل المفاجأة انحياز زعماء الدول المجاورة للسودان وخاصة
مصر وليبيا إلى صالح الرئيس البشير في نزاعه الأخير مع الترابي فليس ذلك حباً
فيه واطمئناناً له بل كرهاً للترابي والنهج الإسلامي الذي يتبعه، ويرون فيه تهديداً
وخطراً على أنظمتهم واستقرار بلادهم؛ فالرئيس حسني مبارك أعلن أكثر من مرة
أنه لا توجد أي مشكلة بينه وبين الرئيس السوداني، وإنما مشكلته مع الدكتور
الترابي الذي اتهمه بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة وإمدادها بالمال والسلاح
والوقوف خلف محاولة الاغتيال التي استهدفته.
والرهان المصري الليبي على الرئيس البشير هو الرهان الرابح ولو في
المستقبل المنظور؛ فالرئيس السوداني يتزعم المؤسسة العسكرية التي تعتبر
المؤسسة الوحيدة المستقرة والفاعلة ليس في السودان وحده وإنما في جميع دول
العالم الثالث، ولذا خرج الرئيس المصري لاستقبال ضيفه في المطار وهو الذي
رفض لسنوات عدة استقباله برغم إلحاح البشير لزيارة مصر؛ فما الذي جدَّ سوى
إزاحة الترابي الذي كان على ما يبدو العقبة المهمة في تحسين هذه العلاقات؟
وسارع مبارك إلى جولة في الدول المجاورة لكسب الدعم للبشير ومساندته في
توجهاته الأخيرة.
__________
(1) حركة الإخوان المسلمين في السودان، حسن مكي محمد أحمد، دار القلم، الكويت.
(2) الحركة الإسلامية في السودان، التطور والمكسب والمنهج، حسن الترابي، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية الخرطوم.
(3) أزمة الإسلام السياسي، الجبهة القومية في السودان نموذجاً، د حيدر إبراهيم علي، مركز الدراسات السودانية، الإسكندرية.
(4) ولسنا هنا في مقام عرض تفصيلي لآرائه من كتبه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتابات الدكتور محمد الطحان، وكتاب الشيخ محمد أحمد حامد،» نقض ديني لدعوة الترابي التجديدية «وكتاب الأستاذ أحمد مالك» الصارم المسلول في الرد على الترابي «.
(5) التصور السياسي للحركة الإسلامية، رفاعي سرور، الناشر: بيت الحكمة للإعلام والنشر والتوزيع.(152/82)
المسلمون والعالم
المجاعة في القرن الإفريقي
عبد الرحمن إبراهيم جيلة [*]
منذ أكثر من ثلاثين سنة تقريباً وإقليم أوجادين (الصومال الغربي) يذوق
ويلات الحروب ويتجرع مرارتها؛ إذ كانت إثيوبيا العدو التقليدي للصومال؛ وذلك
بسبب قوة الصومال المتزايدة آنذاك، وأخذ الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي يبذل
ما في وسعه لإقناع حلفائه الغربيين بتزويد إثيوبيا بالأسلحة الهجومية، وحتى بعد
أن حدث الانقلاب العسكري في إثيوبيا عام 1974م وولَّت إثيوبيا وجهها نحو
السوفييت استمرت القلاقل والمخاوف بين البلدين المتجاورين، وكان كبش الفداء
في هذه المخاوف منطقة أوجادين؛ إذ قدم الإثيوبيون مذكرة للزعماء الأفارقة عام
1976م يزعمون فيها أن الصومال لديه خطط حربية لضم الصومال الغربي
(أوجادين) وجيبوتي إليها، وأن المخابرات الصومالية موجودة الآن في أوجادين
ومحافظة هرر الإثيوبية، مما سبب زيادة في الفتن والقتل في منطقة أوجادين التي
يدعمها آنذاك الجيش الصومالي النظامي، ولا يزال حكام إثيوبيا يشككون في أهالي
أوجادين ويسومونهم تعذيباً وقتلاً حتى عام 1964م، حين اندلعت شرارة الحرب
الكبيرة بين إثيوبيا والصومال، وأُعلنت الحرب رسمياً عام 1977م؛ وقد أبدى
المقاتلون الصوماليون براعةً حربية هائلة يساندهم إخوانهم في الصومال الغربي،
ثم كانت الخيانة العظمى التي حصلت في صفوف القادة الميدانيين بإيعاز من القيادة
الصومالية لأمرٍ مَّا؛ فانقلب النصر هزيمة بين عشية وضحاها.
وأثناء تلك الحرب وبعدها وإلى اليوم ذاق الشعب الأوجاديني ألواناً من الحياة
البائسة المتمثلة في شظف العيش، وسوء دخل الفرد، وتتابعت ويلات الحروب
من الجبهات التي تعادي النظام الإثيوبي إما عن طريق حرب العصابات أو
التفجيرات، أو بملاحقة النشطين في المدن والقرى الأوجادينية من قِبَل أذناب الحكم
الإثيوبي؛ فأصبح هذا الشعب والذي يزيد قليلاً على أربعة ملايين نسمة بين سندان
النظام الحاكم في إثيوبيا ومطرقته، ولا فرق في حقيقة الأمر بين حكامه ومصالحهم
ونظرتهم لهذا الشعب وبين تنكُّر إخوانهم المسلمين لهم؛ لِمَا يعيشونه من أحوال
معيشية بائسة منذ عشرات السنين. ولا تزال الأنظمة الظالمة في إثيوبيا تلاحقهم
بسياط القتل والتشريد والتجويع، ولا تزال بعض الجبهات الإسلامية تقاتل ضد
النظام الإثيوبي الكافر، ولا تزال مآسي تآمر الأنظمة الصومالية القبلية المتعددة
الحاكمة الآن تلاحقهم وتتحالف مع أنظمة أديس أبابا جرياً وراء مصالحها، وطلباً
لرضى الحكومة الإثيوبية عنها؛ حيث تعدهم بالوعود الكاذبة [وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلاَّ غُرُوراً] (النساء: 120) .
ويا ليت الأمر اقتصر على هذا؛ بل إن الناظر في شؤون هذه المنطقة
المنكوبة من الداخل يجد العجب؛ فنكبة المجاعة التي تعصف بهم وبغيرهم من أهل
القرن الإفريقي في هذه الأيام لم تكن وليدة ثلاثين شهراً مرت على المنطقة لم ينزل
فيها الغيث فحسب؛ بل هي امتداد لمجاعات ونكبات سابقة مرت على المنطقة
بسبب غياب الحكومة التي تهتم بمصالح الناس هناك وغياب البنى التحتية في
أوجادين، على مرأى ومسمع من العالم الذي لم يتخذ الخطوات الجادة لمنع حدوث
مثل هذه الكوارث عن قصد أو عن غير قصد ففي عام 1979م تقريباً أي بعد انتهاء
الحرب هناك وقعت كارثة إنسانية؛ حيث مات المئات من الناس، والألوف من
البهائم في تلك المنطقة بسبب المجاعة، وكذلك مجاعة 1991م الشهيرة بين تلك
المنطقة والصومال، وغيرها من النكبات التي مرت على هذه المنطقة، والتاريخ
اليوم يعيد نفسه بمجاعة عام 2000م التي يعتبرها كثير من المحللين السياسيين
عاراً في جبين العالم المتحضر اليوم.
أسباب المجاعة في هذه المنطقة:
يمتد إقليم أوجادين جنوب شرقي إثيوبيا، وتبلغ مساحته أكثر من 250 ألف
كم2، ويقارب عدد سكانه خمسة ملايين نسمة، كلهم مسلمون، ويتكلمون اللغة
الصومالية، وبعضهم يستطيع التحدث باللغة الهررية والآرومية لالتصاقهم بهم.
وسكان الأوجادين هم بدو رحل وريفيون يعتمدون في الغالب على مياه الأمطار التي
انحبس نزولها عليهم منذ شهر إبريل من عام 1998م تقريباً؛ وهذا الإقليم قد اشتهر
منذ زمن بعيد بالجفاف المتكرر بسبب موقعه الجغرافي؛ إلا أن بعضاً من المتابعين
يرجعون عدم نزول الأمطار عليهم خلال هذه الفترة بسبب مصانع أوروبا وغازاتها،
التي سببت كتلةً هوائية وضغطاً جوياً طرد السحب الركامية الملبدة بالغيوم إلى
الناحية الشمالية أو الجنوبية.
وأياً كان السبب فإن الله عز وجل لم يأذن بهطول الأمطار لحكمة أرادها
سبحانه منذ أكثر من ثلاثين شهراً، مما تسبب في مجاعة أكثر من 77% من
مجموع السكان الريفيين والبدو الرحّل الذين خسروا مصدر عيشهم المتمثل في
الزراعة والرعي، وأكثر مدن هذا الإقليم تأثراً هي: (قدي - دنان - وردير -
جبردهر - هارعد - أفدير - إيمي الشرقية خصوصاً - حمارو - غاربو - فيق
دجحبور) حيث فقد أهالي مدينة قدي الذين يبلغ عددهم أكثر من أربعمائة ألف نسمة
أكثر من 90% من الماشية وأكثر من 70% من الأغنام، حسب إحصائيات لجنة
النكبات في تلك المدينة.
أما المظاهر اليومية لهذه المجاعة فهي:
1 - ندرة الطعام والشراب، والموت بين النساء والأطفال وكبار السن بسبب
الجفاف وقلة الوزن وتلوث المياه التي يشربونها، وذلك بنسب متفاوتة بحسب
المناطق، وخصوصاً في المدن السابق ذكرها، والتي يبلغ تعداد سكانها مجتمعة
أكثر من مليون وثلاثمائة ألف نسمة. والتقارير الغربية تذكر أن الفرد الواحد يأكل
في الشهر الواحد أقل من كيلو غرام واحد من المواد الغذائية في بعض المدن، وتقل
هذه النسبة في مدن أخرى. وإن بعض الجمعيات المحلية والهيئات الغربية توزع
الآن ما نسبته 4. 5 كلغ على الشخص الواحد من المواد الغذائية شهرياً.
2 - حالة الهلع والذعر، وتنكُّر الناس بعضهم لبعض، وانتشار الكراهية
والبغضاء بينهم؛ حيث يتقاتل الناس فيما بينهم على مورد ماء لا يكفي لمائة شخص،
بل تدخل الحيوانات كالخنازير والقردة في هذا الصراع. والأشد من ذاك أن
يترك كبار السن لمواجهة الموت من غير نصير ولا معين على أكناف الطرق.
3 - انتشار الأمراض بين الأطفال بسبب الجفاف، وقلة الوزن؛ فقد أجريت
في سبع قرى تابعة لمدينة دنان دراسة حالات الأطفال في الشهر قبل الماضي
(ذو الحجة 1420هـ) فوجد أن 6. 5% من الأطفال دون سن الخامسة من
أعمارهم وزنهم أقل من 60% من أطوالهم الطبيعية، وأنهم لا يستطيعون الاستمرار
على قيد الحياة إلا ببرنامج غذائي علاجي سريع.
4 - انعدام الماء الصالح للشرب، مما سبب استحالة إقامة برامج غذائية
وعلاجية متكاملة؛ فقد قامت اللجنة الأمريكية (2S) ببناء خزانات طوارئ في
مدينة دنان وقراها، كما قامت كل الهيئات الغربية المشاركة لإنقاذ الناس من هذه
المجاعة بشراء كميات لا بأس بها من الخزانات الحافظة للمياة، وكذا قامت
الجمعيات المحلية والحكومية، والهيئات الإسلامية القليلة العاملة هناك.
5 - موت وهلاك المواشي والأغنام، وانتشار الأمراض المهلكة بينها، وقد
ذكرنا آنفاً أن أكثر من 90% من الماشية وأكثر من 70% من الأغنام هلكت في
مدينة واحدة هي (قدي) بل إن الأمر يزداد سوءاً إذا عُلِمَ أن النوق قد توقفت عن
إدرار الحليب منذ يناير 2000م، وهي الآن تموت بالمئات يومياً، كما يذكر
برنامج الغذاء العالمي (UN) ، وهذا مؤشر خطير لما يعانيه البدو هناك.
دور الهيئات العاملة في الأزمة:
تدَّعي الجمعيات الغربية العاملة في الصومال وجيبوتي وكينيا وإثيوبيا بأنها
كلها تعمل لإنقاذ البيئة الريفية في أوجادين وإعادة تأهيلها، وأن لديها برامج إغاثية
كبيرة في هذه المحنة في تلك المنطقة، والحق أن أغلب هذه الهيئات لا تعمل شيئاً،
بل موقفها لا يتعدى نقل صور هذه المأساة من خلال الكاميرات العادية وكاميرات
الفيديو ونشرها أمام شعوبها لتلقِّي المزيد من الدعم المالي والإداري والسياسي.
والحق يقال أيضاً: إن الهيئات الغربية أكثر من غيرها عملاً في تلك المجاعة
مثل (UN) متمثلة في برنامج الغذاء العالمي، USAID المساعدات الأمريكية
تعمل في قدي، واليونسيف متمثلة في برنامج واحد هو (أطعم الأطفال)
و (DPPCOFA) الأمريكية، WEP الإغاثات النصرانية، والسفارة
الألمانية CRDA والتي تسببت في مشاكل كثيرة مع الحكومة الإثيوبية بسبب
إخفاق الحكومة في برامج الإغاثة، وكذبها على المانحين والداعمين،
OXFAM البريطانية، والبعثة السويدية والإيرلندية CONCERN والبلجيكية،
وبلا حدود، وهناك أكثر من خمس وثلاثين هيئة غربية تدعي العمل عن طريق
جمعيات محلية، ولم نرَ أثر عملها في الغالب.
ولم يقتصر الأمر على الهيئات الغربية بل شارك السفراء الغربيون يقودهم
السفير الأمريكي في أديس أبابا في الوقوف على هذه المحنة بأنفسهم؛ فقد استأجروا
طائرة تجارية في شهر ذي القعدة 1420هـ تقلهم إلى مدينة قدي للوقوف على
أحوال المدينة دون إذن مسبق من الحكومة الإثيوبية.
ولا يخفى على أحد أهداف بعض هذه الحكومات والهيئات الدينية؛ فقد قامت
البعثة البلجيكية ببناء خيمتين في مدينة قدي خاصة بالأطفال كتب على واحدة منهما:
(محمد) وعلى الثانية: (عيسى) ، وملئت خيمة عيسى بأصناف المأكولات
والمعلبات الغذائية، أما خيمة محمد فلا يوجد فيها إلا بعض أكياس الدقيق،
ويرسلون الأطفال إليها ليختاروا أي الخيمتين أفضل. وفي مدينة دنان يدعو
الأطباء السويديون للناس بالشفاء باسم عيسى عليه السلام مما سبب بعض المشاكل
في الأسبوع الأول من عملهم مع بعض سكان المدينة.
أما الحكومات الإسلامية المتعاطفة مع هذه المشكلة فقد آثرت العمل من خلال
الحكومة الإثيوبية وبعض الجمعيات المحلية هناك. والجمعيات الإسلامية غير
المحلية العاملة هناك لا تزيد عن عشر جمعيات، وهي تعمل مباشرة أو عن طريق
الجمعيات المحلية المصرح لها من الحكومة الإثيوبية، وأكثرها عملاً البنك
الإسلامي للتنمية، وهيئة الإغاثة العالمية، ومؤسسة الحرمين، ولجنة مسلمي
إفريقيا، والمنتدى الإسلامي، رغم وجود مصاعب مالية وتنظيمية لدى هذه
الجمعيات في ظل غياب الدعم الحكومي والدعم السياسي لمثل هذه الهيئات،
وبسبب عدم تخصص هذه الجمعيات في برامج الإغاثة، وبسبب القصور والضعف
الإداريين؛ فتجد أن مندوبي الجمعية يفدون دون تخطيط لكيفية العمل أو ما هو
الأنسب للعمل الإغاثي؛ فيضطر بعضهم للاستعانة بالهيئات والتنظيمات الغربية.
مرئيات مستقبلية:
نرى ونحن نعمل في الميدان أن ستة أشهر غير كافية للعمل هنا لاستعادة
الأمل، وطرد شبح الحاجة والمرض من هذه البقعة من أرض المسلمين، ثم إن
العاملين هنا سواء من المسلمين أو المسيحيين يعملون الآن بشكل جدي في الغالب
لدرء آثار المجاعة الحالية ولإنقاذ ما يمكن انقاذه منها، ولكنهم وعلى السواء لا
يقدمون الدراسات والبحوث التي تعالج المأساة من أصلها عدا بعض البحوث الغربية،
وهنا نقترح الآتي درءاً لحدوث مثل هذه المجاعات في المستقبل في هذه المنطقة
المنكوبة عن طريق الدول والحكومات الإسلامية، وصناديق التنمية فيها؛ فرغم كل
المجاعات التي أصابت هذه المنطقة لم يُجَرَّب إعادة تنظيم المجتمع الريفي وهيكلته
هنا، إضافة إلى أنك لا تجد تجاوباً جاداً من حكومة أديس أبابا في تنمية هذا
الإقليم، فنقترح الآتي:
* إعادة توطين المجتمع البدوي والريفي في هذه المنطقة، ونشر المدارس
فيها، وخصوصاً المدارس التي تهتم بالجانب المهني والفني، وإنشاء معهد زراعي
وصناعي وتجاري وإداري في كل مدينة من مدن هذا الإقليم.
* هناك مئات المواقع القابلة للاستصلاح الزراعي؛ حيث توجد الأراضي
الخصبة الصالحة للزراعة، والتي تخترقها عدة أنهار في الجنوب الشرقي.
* الاستفادة من البحوث والدراسات الغربية التي قدمتها بعض الهيئات الغربية
للحكومة الإثيوبية لتنمية البلاد، وعدالة تقسيم الموارد الاقتصادية على الأراضي
الإثيوبية، والاهتمام بالبنى التحتية في هذا الإقليم.
* السماح لسكان هذا الإقليم بممارسة شعائرهم التعبدية، وانتشار مدارسهم
الدينية، وحلقات تحفيظ القرآن بكل حرية ونزاهة، والبعد عن القسر والظلم
والاضطهاد، والكف عن محاربة الدين الإسلامي في إثيوبيا عموماً، وفي هذا
الإقليم خصوصاً.
* السماح الكامل وغير المشروط للجمعيات والهيئات الإسلامية حكومية كانت
أو غير حكومية للعمل في أوساط هذا الشعب المسلم، وتنميته مَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ
المجتمعات الإسلامية في بقية القرن الإفريقي.
وقد قصرنا حديثنا هنا على إقليم أوجادين بسبب ظهور المجاعة فيه عياناً؛ إذ
هو أشد المناطق تضرراً، أما المناطق العفرية والإرتيرية فهي أقل ضرراً منها،
وبعيدة عن خط الخطر بمشيئة الله تعالى.
__________
(*) مندوب المنتدى الإسلامي في الصومال.(152/94)
المسلمون والعالم
بيان علماء اليمن
حول التطبيع مع اليهود وإعادة توطينهم هناك
تعد قضية فلسطين وما ابتليت به الأمة الإسلامية من تدنيس يهود لأرضها
وإقامة دولتهم عليها وجلبهم لما يسمونه بالشعب اليهودي من جميع أنحاء العالم
للتوطن فيها.. إحدى القضايا المصيرية التي تعيشها الأمة الإسلامية في العصر
الحديث، ولا يقتصر هدف اليهود ومن يدعمهم على مجرد اغتصاب فلسطين من
أهلها، بل يراد أن تكون هذه الخطوة هي نقطة الانطلاق نحو مد الأخطبوط
الصهيوني الصليبي أذرعه للإجهاز على الأمة الإسلامية كلها، عبر غزو تطبيعي
يشمل الفكر والاقتصاد والسياسة والإعلام والاجتماع ...
وقد توالت منذ بداية هذه النكبة فتاوى العلماء التي تحاول الوقوف سداً منيعاً
ضد طوفان التطبيع والهزيمة النفسية التي منيت به الأنظمة العلمانية والتي تحاول
أن تنقله إلى شعوبها.
وفي هذا الإطار جاء بيان علماء اليمن الأخير الذي وقعه جمّ غفير من أجلَّة
العلماء والدعاة تحذيراً من الوقوع في هذا الخطر الداهم، وأداءً لأمانة البلاغ الذي
أخذه الله عهداً على العلماء الربانيين: [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ]
(آل عمران: 187) .
- البيان -
الحمد لله القائل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
(البقرة: 120) .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله
صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن اليهود أمة غضب الله عليهم ولعنهم على لسان أنبيائهم، كما قال سبحانه:
[لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] (المائدة: 78) .
وقال سبحانه: [قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ
عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ] (المائدة: 60) .
وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بما لا يخفى على أحد من المسلمين؛ فهم
الذين يطعنون في ذات الرب سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: [وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ]
(المائدة: 64) ، وقال سبحانه في اليهود: [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] (آل عمران: 181) .
ومن جرائمهم أنهم كفروا بالله تعالى وكذبوا رسله، وقتلوا الأنبياء والمصلحين،
كما قال سبحانه: [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] (البقرة: 61) .
بل إنهم لا يتركون مُصلحاً أو آمراً بالقسط إلا قتلوه وتآمروا عليه، كما أخبر
الله عنهم، فقال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] (آل عمران: 21) .
ولقد تآمروا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فَهَمُّوا بقتله، ووضعوا له
السم، وآذوه بأنواع الإيذاء في حياته، ولا يزالون يتطاولون عليه ويسيئون إليه
بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
واليهود أشد الناس فساداً في الأرض؛ فهم يستبيحون الأمم الأخرى، كما قال
سبحانه: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 75) .
وجرائم اليهود في حق الله تعالى وفي حق الأنبياء، وإفسادهم في الأرض،
وتحريفهم للتوراة، وعداوتهم للأنبياء والمصلحين، وغير ذلك من الجرائم لا تخفى
على أحد.
ولا يزال اليهود متصفين بنقض العهود، كما أخبر عنهم سبحانه بقوله:
[أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]
(البقرة: 100) .
والمعلوم من تاريخ اليهود أنهم نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم
وتآمروا على قتاله مع المشركين والمنافقين، ومعلوم حقدهم على الإسلام والمسلمين،
وحرصهم على بث الفرقة وإثارة الفتن بينهم، وهم يسعون اليوم لإقامة دولة
اليهود الكبرى على أنقاض الدول العربية وفي أرضها!
لقد احتل اليهود أرض فلسطين بعد أن قتلوا أبناءها، وأخرجوهم من ديارهم،
وسلبوا ممتلكاتهم، وحاربوا العرب من أجل ذلك، واستعانوا بالقوى الدولية على
تحقيق أهدافهم، ولا يزالون يسعون لإقامة دولة اليهود الكبرى من النيل إلى الفرات
ومن الإسكندرية إلى المدينة المنورة، وإلحاقها بفلسطين المحتلة، ويسعون في هذه
الفترة مع من يعينهم من القوى الدولية لتحطيم مقومات العرب من دين وأخلاق،
وقوة واقتصاد، وجيش وأمن، ووحدة سياسية، ويفرضون على العرب اليوم
التسليم بكل ما فعلوا ضدهم وضد إخوانهم في فلسطين، ويطلبون منهم الرضا
بالأمر الواقع، واعتبار ذلك أمراً طبيعياً، بينما هم لا يتوقفون عن تنفيذ بقية
مخططاتهم المدمرة للعرب والمسلمين ومقوماتهم.
واليوم نسمع عن عودة هؤلاء اليهود إلى اليمن، باسم الزيارة لأهليهم، أو
السياحة، بعد أن نبذوا الجنسية اليمنية، وخرجوا من البلاد خروجاً نهائياً،
فخرجوا محاربين الجيوش العربية، ومنها جيش اليمن، ونحن نحذر من أن الهدف
الحقيقي لهم هو إعادة استيطانهم في اليمن، وتمكينهم من شراء الأراضي اليمنية
والعقارات، وادعاء الملكية، وتشكيل أقلية يهودية تعيش تحت الحماية الأجنبية،
وتُعَرِّض اليمن لضغوط دولية إن لم يسلموا لها ولخططها الماكرة، كما يهدفون في
هذه المرحلة إلى إعادة معابدهم، وابتزاز ثروات اليمن، والتملك في البلاد.
وقياماً بواجب البيان الذي أخذ الله ميثاقه على العلماء ونصحاً للأمة، وإبراءاً
للذمة نفتي بما يلي:
أولاً: إن موالاة أعداء الإسلام محرمة شرعاً وبخاصة هؤلاء اليهود؛ لأنهم
في حالة حرب مع العرب والمسلمين، واغتصاب لأراضيهم ومقدساتهم،
ويخططون لإقامة دولتهم اليهودية الكبرى على أراضي المسلمين، وعليه فيحرم
شرعاً التطبيع معهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: [إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن
يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (الممتحنة: 9) .
وكما قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]
(المائدة: 51) .
وكما قرر ذلك علماء المسلمين في فتواهم منذ بداية تكالب اليهود على أرض
فلسطين عام 1935م إلى يومنا هذا.
ثانياً: يحرم التعامل مع هؤلاء اليهود الحربيين بيعاً أو شراءاً أو استثماراً أو
تمليكاً للأراضي حتى لا يكون سبباً في توطينهم وادعائهم الإقامة حيث يملكون،
وحتى لا يكون ذريعة لإعادة استيطانهم في اليمن.
ثالثاً: يوصي العلماءُ المسلمين جميعاً والشعبَ اليمني خصوصاً حكاماً
ومحكومين بالتنبه لخطر موالاة اليهود، والحذر من خططهم الماكرة، والوقوف
صفاً واحداً أمام هذا الخطر الداهم الذي يهدف إلى حرب الإسلام والمسلمين؛ مما
يستوجب الوقوف أمام المخططات التي تسير في هذا الاتجاه وتشجع على موالاة
اليهود المحاربين للإسلام والمسلمين وإقامة العلاقات معهم.
نسأل الله أن يوفق الأمة الإسلامية لما فيه خيرها وصلاحها. وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.(152/98)
المسلمون والعالم
الغزو اللاتيني في كردستان العراق
فرست مرعي الدهوكي
كانت إحدى الطامات الكبرى التي ألحقها العلماني الأول مصطفى كمال
أتاتورك في ثلاثينيات القرن العشرين أمره بإلغاء كتابة اللغة العثمانية (التركية)
بالأبجدية العربية؛ حيث أدخل عوضاً عنها الحروف اللاتينية، وهذا ما جعل
الجيل التركي المعاصر ينقطع عن جذوره الإسلامية العثمانية؛ بحيث لا يستطيع
التركي الآن قراءة رسالة كتبها أبوه أو جده في الربع الأول من القرن العشرين،
ناهيك عن قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهذا ما جعل التراث الذي
سطره العثمانيون طيلة ستة قرون من عمر الخلافة 1300 1924م يذهب سدىً،
ولعله إلى حين إن شاء الله.
والحقيقة أن تغيير الكتابة التركية لم يأت بسبب المأزق الذي وقعت فيه هذه
اللغة بقدر ما كان خطة مدبرة طبقها (أتاتورك) بكل دقة لفصل تركيا عن الجسم
الإسلامي وامتداداتها المشرقية وإلحاقها بالغرب الأوروبي. والدليل على ذلك تغيير
يوم العطلة الأسبوعية الإسلامية (الجمعة) ، لتكون عطلة النصارى يوم الأحد
عوضاً عنها، وفرض لبس القبعة الأوروبية محل الطربوش العثماني، إلى جانب
إخراج المرأة التركية من حجابها الشرعي، واتخاذ العلمانية (اللادينية) المذهب
الرسمي لدولته.
والحق يقال: إن تركيا بهذا الإجراء خسرت تاريخها وماضيها الناصع، ولم
يستفد الجيل الحالي أية لغة أوروبية، وإنما تعلَّم الحروف الأوروبية، وهذا العمل
لا يأخذ من تلميذ الابتدائية أكثر من ثلاثة أسابيع لتعلمه [1] .
وفي السياق نفسه يحاول بعض المثقفين الأكراد من ذوي الاتجاهات العلمانية
(الماركسية والليبرالية) تطبيق فكرة أتاتورك الآنفة الذكر وإنزالها في عالم الواقع
في محاولة كتابة اللغة الكردية بالأبجدية اللاتينية عوضاً عن الأبجدية العربية التي
هي سائدة الآن في كردستان العراق وإيران دون كردستان تركيا وسوريا؛ حيث
طغت هناك اللاتينية بواسطة التأثير التركي، ولا ننسى أن الأدب الكردي من شعر
ونثر تراثي إنما دُوِّن بالحرف العربي، وكذلك الصحافة الكردية؛ فقد استعملت في
غالبيتها الحرف العربي على مدى مائة عام تقريباً [2] .
وكانت هذه الفكرة قد راودت بعضاً من أبناء الكرد منذ عدة عقود بتأثير
الموجة الأتاتوركية، ولكن قلة عدد هؤلاء اللاتينيين وسيطرة علماء الدين الإسلامي
على الساحة العلمية والثقافية في كردستان خلال النصف الأول من القرن العشرين
حالت دون استطاعتهم الجهر بفكرتهم هذه، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير
هي تغلغل الفكر البلشفي الماركسي في كردستان في ثلاثينيات القرن العشرين
والاقتداء بالاتحاد السوفييتي الذي قام باستبدال الأبجدية العربية السائدة عند مسلمي
القوقاز وآسيا الوسطى بالأبجدية الروسية.
وكانت حجة هؤلاء هي انتماء اللغة الكردية إلى عائلة اللغات الهند أوروبية
بعكس العربية التي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية، ولأن العربية قاصرة عن
التعبير عن كل الأصوات والأحرف الكردية [3] .
ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة اللغوية موجودة في اللغة الفارسية، ولكنها
استطاعت أن تطوِّع قسماً منها لتبعد عن أصوات فارسية لا وجود لها في اللغة
العربية، فيلاحظ أن الباء المهموسة وهي التي ترى في حرف (P) الإنجليزي
موجودة في الفارسية، غير معترف بها في العربية، فلجأ الفرس إلى كتابة هذا
الصوت بوضع نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الباء، ليصبح
المجموع ثلاث نقاط [4] ، وجرى هذا في الحرف الإنجليزي (CH) ، حيث
أضاف اللغويون الفرس نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الجيم
ليصبح المجموع ثلاثاً، وهكذا دواليك في الحروف الأخرى التي لا نظير صوتياً لها
في العربية، وهذا الأمر عمل به اللغويون الكرد؛ فاللغتان الفارسية والكردية
تنتميان إلى عائلة اللغات الهند أوروبية؛ حيث تنتمي الفارسية إلى الفصيلة الجنوبية
الغربية، بينما تنتمي الكردية إلى الفصيلة الشمالية الغربية [5] .
ومن جهة أخرى فإن انتماء لغةٍ مَّا إلى عائلة لغوية لا يعني بالضرورة
استخدام أبجديتها، وإلا لكان من الطبيعي استخدام الأتراك للأبجدية الألتية Altaic
على أساس انتماء لغتهم إلى عائلة الأورال تاي. وهذا ينطبق على اللغات الإفريقية
التي لا تنتمي إلى عائلة اللغات الهند أوروبية ومع ذلك فقد استخدمت هي الأخرى
الأبجدية اللاتينية، بينما لا زالت اللغات الفارسية والأوردية والكردية تستعمل
الأبجدية العربية، إضافة إلى أنه ليس من الضروري وجود ارتباط بين شكل
الحرف ونطقه، وإنما هناك علاقة غير واضحة يُكسِبها المجتمع لا الحرف نفسه
قدراً من الاتفاق والترابط؛ والدليل على ذلك أن صوت الراء يكتب بأشكال متعددة،
فيكتب في الإنجليزية على شكل (R) وفي العربية (ر) وفي الروسية (P) ،
فلو كان هناك اتفاق بين شكل الحرف والصوت لكتب بصورة موحدة في اللغات
المختلفة [6] .
ومن الجدير ذكره أن اللغة اللاتينية هي إحدى اللغات الأوروبية القديمة التي
تنسب إلى سهل (لاتيوم) المحيط بالعاصمة الرومانية القديمة الإيطالية حديثاً روما،
ومنه أخذت تسميتها، وقد تفرعت منها عدة لغات أوروبية حديثة وهي: الإيطالية،
الفرنسية، الأسبانية، البرتغالية، الكتلونية، وأغلب الدراسات والأدب المدون
بهذه اللغة وثني إباحي يقوم على تمجيد الطقوس الوثنية والإباحية بجانب تقديس
المنحوتات العائدة للأباطرة الرومان والفلاسفة الإغريق؛ مع التركيز على مبدأ القوة
وسيادة العنصر الروماني على بقية شعوب العالم القديم آنذاك، والتي سماها
الرومان بالبرابرة، وهذا ما طبقه أحفادهم الأوروبيون عندما قسموا العالم إلى شمال
وجنوب، أو شعوب متمدنة راقية وشعوب متخلفة بدائية.
وعلى أي حال فقد بدأ بعض المثقفين الكرد من المنتمين إلى التيارات الفكرية
المتنوعة من ماركسية واشتراكية وليبرالية بالكتابة الأبجدية اللاتينية في الآونة
الأخيرة في بعض الصحف والمجلات العائدة لأحزابهم وجمعياتهم العاملة في
كردستان العراق، بقصد جس نبض القراء الكرد، ومعرفة ردود فعلهم الأولية على
هذا المشروع، ومدى محاولة المضي فيه حتى النهاية في حالة عدم وجود ردود
فعل سلبية تجاههم؛ حيث لا يخيفهم شيء سوى ردة فعل الاتجاهات الإسلامية
والمحافظة التي تريد البقاء على التراث الكردي القديم بصورته الحالية، ولكن مع
الأسف فإن الاتجاهات الأخيرة قد خَفَتَ صوتها في الآونة الأخيرة نتيجة اتهامها
بالعمالة للفكر الإسلامي أو وصمها بالتعصب والانغلاق وعدم الانفتاح على الفكر
العالمي، والهدف الأخير لهؤلاء العلمانيين ليس إخراج اللغة الكردية من بعض
الإشكاليات التي تعانيها مثل بقية اللغات بقدر ما هو قطع كل صلة للكرد بماضيهم
الإسلامي المجيد، ومحاولة دفع الكرد شيئاً فشيئاً نحو بوتقة التغريب والعلمنة،
علماً بأن للعلماء الأكراد باعاً طويلاً في الدفاع عن حياض اللغة العربية.
والحقيقة أن كتابة الكردية باللاتينية أصبحت موضة شائعة بسبب التقليد
الأعمى للغرب في كل حركاته وسكناته؛ مثل تقليده في المظاهر الأخرى كالأزياء
وشرب الخمر والأكل باليد اليسرى، إلى غير ذلك من هذه المظاهر المستنكرة التي
تدل على استلاب الشخصية المسلمة وتبعيتها لأعداء دينها وعقيدتها.
وانطلاقاً مما تقدم يبدو أن هناك عدة عوامل تصب في نجاح المشروع
اللاتيني في كردستان العراق، ولعل من أبرزها كثرة وجود المنظمات الغربية
(التنصيرية) التي تتخذ من الإنسانية مظهراً، والتي ليس لها هدف محقق في واقع
الأمر إلا تغريب الكرد ومحاولة إخراجهم من دينهم، ومحاولة قطْع كل رابطة لهم
بأشقائهم العرب المسلمين أو باللغة العربية، ولا سيما أن الكرد تعرضوا إلى
صنوف شتى من الظلم والقهر على أيدي بعض المحسوبين على العرب! بجانب
محاولة الغرب تغريب الجيل الكردي الحالي من خلال السماح له بالهجرة المنظمة
وغير المنظمة إلى الغرب، ومنحه التسهيلات المادية والمعنوية من خلال السماح
لهم بالحصول على اللجوء السياسي أو الإنساني على أقل تقدير.
وإنني في هذه المقالة أطلب من إخواني المسلمين وبالأخص العرب منهم
مساعدة الشعب الكردي للخروج من أزمته التي طالت، والتي تعرَّض خلالها إلى
أشد صنوف التنكيل والعذاب والضرب بالأسلحة الكيمياوية وغيرها من أعتى
وسائل الإجرام على يد بعض الأنظمة التي لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وهذا
كان أحد الدواعي التي استند إليها هؤلاء المتغربون اللاتينيون لإخراج الكرد من
دينهم على أساس أن ظالميهم أو الذين وضعوهم في معسكرات التعذيب والاعتقال
كانوا ينتمون اسماً إلى الإسلام! لذا فلا مناص بزعمهم من الالتجاء إلى الغرب
والاحتماء به، والإذعان لكافة عاداته وتقاليده؛ وإن تطلَّب الأمر معتقداته؛ والعياذ
بالله.
ولكن هل من مستجيب لنصرة الأكراد المسلمين قبل الكارثة؟ ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد!
__________
(1) طالب عبد الرحمن: نحو تقويم جديد للكتابة العربية في كتاب الأمة (69) قطر، ص 137.
(2) منذر الموصلي: رؤية عربية للقضية الكردية، لندن، رياض الريس، 1991م، ص 32.
(3) جلال الطالباني: كردستان والحركة القومية الكردية، بيروت دار الطليعة، ص 48.
(4) أحمد كمال الدين حلمي: المرجع في اللغة الفارسية، الكويت، دار البحوث العلمية، 1975م، ص 13.
(5) فلاديمير منيورسكي، الأكراد وملاحظات وانطباعات، ترجمة معروف خازندار، بيروت، دار الكاتب، 1987م، ص 54، 55.
(6) طالب عبد الرحمن: نحو تقويم جديد، ص 141، 142.(152/100)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
إلى المُطبّعين.. مع التحية! !
كشفت مصادر خاصة أن مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية C. I.
A الجنرال (جورج تينت) زار إحدى الدول الخليجية مؤخراً زيارة خاصة لها
علاقة مباشرة بمؤتمر مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني الذي عقد في الكويت.
ونقلت المصادر أن (تينت) اجتمع مع مسؤولين في تلك الدولة، وأجرى
معهم محادثات تركزت حول السماح لمقاومي التطبيع بعقد مؤتمرهم في الكويت.
وأكد (تينت) خلال اللقاء أنه مندهش تماماً لعقد مثل هذا المؤتمر. مدير وكالة
المخابرات المركزية الأمريكية اتهم خلال محادثاته مع المسؤولين الجماعات
الإسلامية التي وصفها بـ «المتشددة» في تلك الدولة بأنها وراء انعقاد المؤتمر
مطالباً بالعمل سريعاً على ضرب «الأصوليين» وتحجيم نفوذهم قبل أن يفوت
الوقت وبخاصة في ظل تصاعد «الأصولية» كما يقول واعتبر الجنرال الأمريكي
أن عقد مؤتمر مقاومة التطبيع في الكويت ظاهرة خطيرة، محذراً من أن مثل هذه
المؤتمرات ربما تمتد وتنتشر في دول أخرى.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (333) ]
رسالة إلى الرجال
الشيخ الفاضل/ أمير جماعة «تحريك المجاهدين» جامو وكشمير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد:
إنه من دواعي سعادتي وسروري أن أقدم لكم ابني شفيق الرحمن قريشي بن
محمد إسحاق قريشي الساكن في مدينة لاهور للتدريب في المعسكر وبعد إكمال
التدريبات اللازمة سمحت له بأن يذهب إلى كشمير المحتلة للجهاد هناك وأنا أفتخر
بهذا القرار الذي قررته؛ حيث إنني أتمنى أن أكون أماً لشهيدٍ قاتلَ ضد الباطل
وجاهد في سبيل رفع كلمة الله، وأسأل الله أن يجعله من الشهداء، وأن يتقبل
شهادته، وأن يجعله سبباً في دخولنا الجنة.
إن الله سبحانه وتعالى لن يضيع أجر المحسنين وإن إيماني وعقيدتي هو أن
الغلبة للإسلام وللمسلمين، والله سبحانه وتعالى حسيبنا وكفيلنا. والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته،،،
أختكم في الله: والدة شفيق الرحمن لاهور
[مجلة سياحة الأمة الكشميرية، العدد: (28) ]
زادكم الله غماً
المدهش أن الجيل الذي يقود الثقافة في مصر الآن هو جيل ستيني بالأساس،
باستثناء بعض الأمثلة القليلة مثل محمود أمين العالم، هذا الجيل الستيني يضم عبد
المعطي حجازي وجابر عصفور ووزير الثقافة وغيرهم من الكتاب والمبدعين،
فلم هذه المعارك المفتعلة بين أبناء جيل واحد جمعهم ظرف سياسي واحد ومناخ
واحد وحلم واحد؟ لقد اخترنا كلمة قاسم أمين «الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل
رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب» شعاراً للجريدة، وحين أتذكر أن هذه
الكلمة قيلت قبل مائة عام وأننا الآن نجاهد في سبيل تطبيقها، ينتابني الأسى والغم.
[صلاح عيسى، رئيس تحرير جريدة «القاهرة» التي صدرت حديثاً عن وزارة
الثقافة في مصر، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7849) ]
ولا يزالون يقاتلونكم
حمَّلت دراسة اجتماعية قام بها الباحث النيجيري د. محمد ثابت (المنظمات
الدولية والجمعيات غير الحكومية) مسؤولية تفشي الظاهرة الإباحية في المجتمع
النيجيري.
وأوضح الباحث وهو أستاذ بكلية التربية جامعة بايروا بكانو أن نتائج الدراسة
وتحرياتها عن عوامل وأسباب اختفاء تلك القيم والتقاليد أثبتت أن للوكالات
والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية العاملة في مجال الإغاثة والصحة
والطفل والمعونات ضلعاً كبيراً في ذلك. وقال: إنه بعد مسح شامل تبينت أنه
توجد أكثر من 50 وكالة في مناطق شمال نيجيريا فقط التي توصف بأنها «مناطق
محافظة» وهي تابعة للمنظمات والمؤسسات الدولية.
وأضاف: إن وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية هي أكثر تلك الوكالات
والمنظمات اختراقاً للأوساط الاجتماعية، وتعمل بشكل مباشر في الأوساط النسائية
لا سيما (الفتيات في المدارس والجامعات) . وذكر أن من أهداف هذه الوكالة
التمكين للديمقراطية في المجتمعات النامية، وتنمية الوعي بتنظيم الأسرة، وتحديد
النسل، ثم العمل على تقوية النسوة في كافة المحافل والمجتمعات، واعتبر الدكتور
الشيخ أن هذه الأهداف مجرد غطاء تتستر بها لنشر الفساد والإباحية في المجتمع؛
لأنها توزع مجاناً أدوات مختلفة بين الشباب والفتيات والنساء عموماً لمنع الحمل..
وأضاف: إن الملاحظ على مضامين دعاتها واتصالاتها أنها تحث وترغِّب على
استخدام هذه الوسائل عند ممارسة الجنس عموماً، وتسوِّغ دعوتها إلى استخدام هذه
الأدوات بأنها تحمي من الأمراض المكتسبة عن طريق الممارسة الجنسية غير
الشرعية، مما يُقوي الناس على الفاحشة. من جهة أخرى أضاف التقرير أن
مشروعاً تعليمياً للتربية الجنسية بدأ نشاطه بمدينة لاجوس بحضور ممثلين من
منظمة الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (333) ]
يسارعون فيهم
كشف بيان صادر عن اتحاد الصناعيين الإسرائيليين أن الربع الأول من سنة
2000م شهد ارتفاعاً كبيراً في الصادرات إلى الدول العربية بنسبة 44% مقابل
انخفاض طفيف في الواردات 1. 6% ووفق هذا البيان فإن البضائع الإسرائيلية
تصل إلى 12 دولة عربية!
وجاء في البيان أن قيمة الصادرات الإسرائيلية بلغت في هذه الفترة 29
مليون دولار (20 مليون دولار في الفترة نفسها من السنة السابقة) ، معظمها
صدر إلى مصر (16 مليون دولار تنطوي على زيادة بنسة 69%) يليها الأردن
6. 3 مليون دولار بزيادة 49% عن السنة الماضية.
وتصل الصادرات الإسرائيلية إلى 12 دولة عربية هي إضافة للأردن ومصر:
لبنان (الجنوب المحتل بالأساس) واليمن، والكويت، والبحرين، وقطر،
وسلطنة عمان، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة، وتونس. هذا فضلاً عن
فلسطين، التي لم يرد اسمها في التقرير.
وارتفعت الصادرات الإسرائيلية إلى المغرب بنسبة 90% لكنها لم تتجاوز
مليوني دولار. وصدرت (إسرائيل) للبنان ما قيمته 3. 7 مليون دولار بزيادة
19% عن السنة الماضية.
وانخفضت الصادرات الإسرائيلية إلى تونس بنسبة 90 % لتصبح قيمتها
164 ألف دولار. بينما ارتفعت إلى الإمارات بنسة 29% لتصبح 205 ألف دولار.
أما الواردات لـ «إسرائيل» من الدول العربية فهي بقيمة 11 مليون دولار
في هذه الفترة، معظمها من مصر (5. 7 مليون دولار) يليها الأردن بمبلغ 4.
6 مليون دولار. وتستورد «إسرائيل» من المغرب الأغذية الجاهزة والمشروبات
والسجائر بقيمة 408 ألاف دولار.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7828) ]
الصين تحافظ على هويتها
الغضب على الكتب والكُتَّاب لا يتوقف على العالم العربي، فالصين هي
الأخرى تدخل في حلبة حرق الكتب ومنعها. وتأتي الحرب الصينية على خلفية
أيديولوجية تريد تأكيد الذات الصينية ضد نزعات العولمة والثقافة الجديدة التي بدأت
تظهر في الصين بعد عصر الانفتاح الاقتصادي، وعصر «الماكدونالدز» والغزو
الأمريكي.
ويتركز غضب المؤسسة الصينية الحاكمة على الجيل الذي يطلق عليه
«الجيل الجديد» الذي ولد ونشأ في السبعينيات؛ حيث بدأت تظهر على هذا
الجيل مزايا العولمة، وفي مركز الجدال الدائر الآن في العاصمة الصينية فتاة تنتمي
إلى هذا الجيل قامت بإصدار رواية اعتبرتها المؤسسة الصينية خطراً على
الأخلاقيات العامة. واسم الرواية التي تثير الجدل في الصين وتعيد تشكيل
التقاليد الأدبية الصينية التي تنتمي إلى قرون عديدة «طفل شنغهاي» ؛ حيث
يشير اسم الرواية إلى ظلاله الجنسية، وتم توزيع أكثر من 80 ألف نسخة من
الرواية قبل أن تكتشفها السلطات وتجدها ضد الذوق العام وتطالب بعزل كاتبتها
وتهميشها، ومن هنا قام ناشر الرواية بتدمير النسخ الباقية وإتلافها، وفي معركة
المؤسسة الثقافية ضد الرواية فإنها قامت في الأسبوع الماضي باقتحام معرض كتاب
وصادرت عدداً كبيراً من النسخ.
[جريدة القدس العربي، العدد: (3423) ]
استباحة الأمة
صعَّد مثقفون مصريون اعتراضهم على تدخل الأزهر في تقويم الأعمال
الأدبية، ووجه 2500 أديب مصري أعضاء في «الأمانة العامة لأدباء مصر في
الأقاليم» مذكرة إلى النائب العام، اعتبروا فيها أن الحملة التي تبنتها صحيفة
الشعب الناطقة باسم حزب العمل ضد رواية حيدر حيدر «أثارت الذعر في القلوب
الوادعة، وروعت الأقلام التي تتمتع بالحرية لتتخيل وتبدع وفتحت الباب للغوغاء
بما يبدد الأمن ويهدد السلام الاجتماعي» .
وأكد هؤلاء تأييدهم سياسة النشر في هيئة قصور الثقافة التي تصدر سلسلة
(آفاق الكتابة) وشددوا على أن نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» عمل ثقافي
مشروع في إطار توسيع دور الأدب عموماً والرواية خصوصاً في نقد الحياة
وتطوير مناحيها وأساليب العيش فيها «ولفتت المذكرة إلى أن تقويم العمل الأدبي
» لا يتعين أن يصدر من غير ذي صفة أدبية «. وأعلن الموقعون على المذكرة
تضامنهم» مع كل مسؤول عن نشر الرواية وغيرها من الأعمال الأدبية الجيدة
ذات الرؤى الإنسانية المهمة «. وأضافوا: إذا كان ثمة اتهام إلى أحد فكل الأدباء
متهمون ويشاركون الجميع في تحمل المسؤولية والاستعداد لتقبل ما يراه السلك
القضائي من التزامات» .
وأضافت المذكرة «نرفض بكل شدة ما دعا إليه شيخ الأزهر الدكتور محمد
سيد طنطاوي من ضرورة فرض الرقابة على كل كتاب؛ لأن ذلك يعني النكوص
والردة بعدما بلغت الأمة منذ زمن سن الرشد، وإذا فرضت الرقابة فلن يكون هناك
أدب ولا فن ولا حرية ولا رأي ولا تقدم بل ولا حياة حقيقية تليق بالإنسان المصري
في زمان لم يعد فيه أدنى مجال لتكميم الأفواه أو التحكم في أدوات التعبير.
[جريدة الحياة، العدد: (13593) ]
الحرية الأوروبية!
أصدرت المحكمة الابتدائية في العاصمة النرويجية أوسلو حكماً برفض
الدعوى المقدمة من المجلس الإسلامي ضد وزارة التعليم للحصول على حق الإعفاء
الكامل لأبناء المسلمين من دراسة مادة الدين المسيحي التي أصبحت مادة إجبارية
منذ عام 1997م. وقد ورد في الحكم الصادر أن إجبار أبناء المسلمين على دراسة
هذه المادة لا يعتبر مخالفاً لقوانين حقوق الإنسان والأقليات الدينية، واعتبرت أن ما
ذكره المسلمون من تأثير هذه المادة على أطفالهم بسبب التباين الواضح بين معتقدات
المسلمين، وما تطرحه المادة من معتقدات، ليس سبباً مقنعاً لمنحهم إعفاءاً من
دراسة هذه المادة.
[مجلة الكوثر، العدد: 7]
هذا حيدر الوليمة! !
س: هل أصبحت الكتابة من المهن الخطيرة في العالم العربي؟
ج: الكتابة تحاول أن تقترب من أمور قد لا تسمح بها المؤسسة الرسمية
سواء كانت مؤسسة اجتماعية أو مؤسسة دينية أو سياسية. الكتابة العميقة، الكتابة
الأصيلة منحازة للحرية، منحازة للعقل، للتنوير، فعندما تقترب الكتابة من هذه
المناطق في هذه المسائل الحساسة والأساسية من الممكن أن تكون في خطر.
الواقع العربي المأزوم والمطوق بكثير من القوى التي تعيق تقدم هذا المجتمع
وتحاول أن تصادر ما يمكن أن نسميه الرأي الذي يخالف المؤسسة. الرأي الذي
يقول الحقيقة إلى حد كبير عارية.
س: ما هي القوى التي تعيق هذه الحركة؟
ج: هي القوى الإسلامية المتعصبة والمتطرفة والمعروفة بأعمالها الإرهابية
في كل أنحاء الوطن العربي تقريباً. هي التي حاولت وتحاول الآن أن تدمر
المجتمع الجزائري. هي التي أقامت الدنيا وأقعدتها في مصر. هي التي تحركت
في سورية قبل عشرين عاماً. القوى الكلامية، القوى المتطرفة التي تحتكر الإسلام
لنفسها وتحور كل ما يمكن أن يقال باتجاه مصالحها وباتجاه أهدافها.
وسَّعوا الحملة باتجاه الطيب صالح وباتجاه إدوار الخراط والآن باتجاه محمد
الماغوط وإلياس خوري فإنهم يحاربون كل فكر ويتصدون لأي فكر أو لأي أدب
تنويري طبيعي يتحدث عن إمكانية بناء مجتمع عربي ديمقراطي. أنا ربما كنت
البداية الآن ولكن نستطيع أن نأتي بأمثلة كثيرة: القصة بدأت منذ غيلان الدمشقي
من المعتزلة الذي صلبوه في خلافة هشام بن عبد الملك مروراً بالحلاج وطه حسين
ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وحسين مروة ومهدي عامل. القافلة طويلة،
هناك نوع من المواجهة للفكر النقدي والفكر الطليعي والفكر التنويري.
أنا واحد من هذه القافلة المستهدفة منذ المعتزلة حتى الآن هذا ما أقوله منذ بدأ
الاجتهاد عند المعتزلة والفكر الحر. أنا الآن وربما غدا يأتي آخر.
الإسلام والنص المقدس حَمَّال أوجه والاجتهاد منذ المعتزلة حتى الآن هو
أساس في بنية الإسلام ولا يحق لأي جهة أن تحتكر ذلك. لنا اعتقاد أن معظم
المثقفين الإسلاميين التنويريين يرفضون أن يكون هناك نوع من الاحتكار للإسلام.
الإسلام نص مفتوح للجميع ويحق لأي مسلم أن يجتهد فيه من خلال فهمه وإدراكه
بعمق لحقيقة الإسلام.
س: كيف يمكن مواجهة هذا التيار؟
ج: نواجهه بكل ما نستطيع من قوى. نحن نستطيع بوصفنا مثقفين أن
نواجهه بالكتابة أو نواجهه بالإعلام، نواجهه بأساليبنا الخاصة باعتبارنا مثقفين،
أما بالنسبة للقوى الأخرى مثلاً السلطة فنحن لسنا في السلطة. المثقفون ليسوا في
السلطة. فمن المفترض أن تواجه القوى العلمانية هذا، وأيضاً من خلال السلطة.
وهذا ما حدث في مصر على سبيل المثال عندما قاوموا الإرهابيين المتطرفين.
وهذا ما حدث في سورية أيضاً قبل عشرين سنة.
والآن إغلاق جريدة الشعب وحل حزب العمل هو رد على هؤلاء.
[الكاتب السوري: حيدر حيدر، جريدة القدس العربي، العدد: (3433) ]
أقل واجب! !
دولة عربية أبرمت صفقة مع دولة غربية لاستيراد هراوات ودروع
ورصاص مطاطي وقنابل مسيلة للدموع ووسائل أخرى لمنع التظاهرات بعدما بدأ
موسم الصدامات.
[مجلة الوسط، العدد: (434) ]
إلا إفريقيا
كان من المفروض أن يكون العام الحالي هو عام الاهتمام بإفريقيا؛ إذ أعلن
مجلس الأمن شهر يناير (كانون الثاني) شهراً لإفريقيا. وأضاف آل غور نائب
الرئيس الأمريكي بيل كلينتون صوته إلى العديد من الأصوات المؤيدة لإفريقيا.
وترددت أحاديث حول» عام إفريقيا «بل و» قرن إفريقيا «. ولكن الحروب لا
تزال بأكبر القارات في العالم:
إذ انهار اتفاق السلام الذي تم التوصل إليه في سيراليون بعد أسر حوالي
500 من قوات الأمم المتحدة في أوائل الشهر الحالي.
واستأنفت كل من إريتريا وإثيوبيا في الوقت الذي تحاولان فيه تجنب شبح
المجاعة حرب خنادق دموية بينهما.
ولم تفقد الحرب الأهلية في أنغولا تأججها بعد مرور أكثر من 25 سنة على
اشتعالها.
وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاقية سلام في العام الماضي، فلا تزال 6
دول تحتفظ بقوات في الكونغو التي تتقاسمها الحكومة وقوات المتمردين.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الأمم المتحدة حل هذه النزاعات فإن السؤال الذي
يُطرح هذه الأيام هو: هل يمكن تحقيق أية إنجازات بدون عضلات الولايات
المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي؟
لقد أكدت القوى الغربية مراراً أنها لن ترسل قواتها إلى إفريقيا. وهو الموقف
الرسمي لها منذ سحل جندي أمريكي في شوارع الصومال في عام 1993م. وفي
الوقت الذي تدرس فيه الأمم المتحدة في الأسبوع الحالي زيادة قواتها من 13 ألف
إلى 16 ألف في سيراليون. وإرسال 5500 جندي إلى الكونغو، فإن عليها
الاعتماد على الدول الفقيرة لتقديم الدعم البشري، ويقول بيرل روبنسون مدير
مركز الدراسات الإفريقية في جامعة تافتس بولاية ماساشوستس» إذا لم تتدخل
الولايات المتحدة، فإن الناس لن تتعامل مع بعثات الأمم المتحدة بجدية «.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7850) ]
الأرض السائبة
اقترح مستشار سياسي لجورج بوش مرشح الرئاسة الأمريكية أن تستخدم
الولايات المتحدة القوة الجوية ووسائل أخرى لاقتطاع أجزاء من العراق من سيطرة
الرئيس العراقي صدام حسين.
وصرح روبرت زويلك الذي كان يعمل وكيل وزارة بالخارجية خلال فترة
حكم جورج بوش الأب بأنه مثلما ساعدت الولايات المتحدة الأكراد على إدارة
منطقة للحكم الذاتي في شمال العراق يتعين عليها الآن مساعدة خصوم صدام على
إنشاء جيب في الجنوب. وقال زويلك: إن سياسة الرئيس بيل كلينتون تجاه
العراق كارثة سمحت لصدام بأن يزداد قوة.
[جريدة الاتحاد، العدد: (9086) ]
تعليق على الأحداث
نمور على المسلمين:
لا شك أن الكثيرين يسمعون عن» نمور التاميل «في سيرلانكا، ولكن من
يسمع عما يفعله نمور التاميل بمسلمي سيرلانكا، وهي سرنديب التي عرفها العرب
قبل الإسلام بهذا الاسم ثم سيلان بعد ذلك، وتبلغ نسبة المسلمين (10%) من
السكان البالغ عددهم 20 مليون نسمة، وفي قتال النمور مع الحكومة السيريلانكية
لم يجدوا أضعف من المسلمين للإيقاع بهم وطردهم من ديارهم في مناطق» جافنا «
و» باتيكالوا «وقد شرد مئات الآلاف من المسلمين وتم تصنيفهم على أنهم
» مشردون محليون «أي أنهم غير مؤهلين لتلقي معونات من منظمات الإغاثة
التابعة للأمم المتحدة، ولا يخلو الوضع من مجازر تحدث للمسلمين بين فترة
وأخرى والتي كان منها المذبحة التي راح فيها 140 مسلماً وهم يصلون، وتلتها
أخرى بعد أيام تسعة راح فيها 122 مسلم، وهذه الأيام تم إعادة العلاقات
الدبلوماسية بين سيرلانكا ودولة يهود والاتفاق على مد سيرلانكا بالسلاح
الإسرائيلي، ويخشى المسلمون هناك من الوقوع بين فكي النمور وأحفاد القرود.
حلف الشيطان ضد مسلمي الشيشان:
في الوقت الذي تندد فيه بعض العواصم الأوروبية بانتهاكات حقوق الإنسان
في الشيشان، تقوم العواصم ذاتها بعقد حلف شيطاني يجمع بينها وبين بقية حلف
الأطلسي والولايات المتحدة من جانب، وبين الروس من جانب آخر، وكان
الرئيس الروسي، السفاح بوتين، قد حذر أوروبا بأنها ستدفع ثمناً غالياً ما لم تنتبه
إلى تهديد المتطرفين الإسلاميين على حدودها، وقام رئيس المخابرات الألمانية
» أوجست هاننج «بزيارة إلى روسيا للتأكد ما إذا كان الشيشان قد حصلوا على
أموال وأسلحة من دوائر إسلامية، كما تقوم المخابرات الألمانية بتقديم معلومات
ثمينة للروس في صراعهم مع مسلمي الشيشان حسب ما أكدته المجلة الأسبوعية
الألمانية» ديرشبيجل «.
وكما لبت المخابرات الأمريكية نداء موسكو وأمدتها بالمعلومات التي تريدها
في حربها مع المسلمين في الشيشان وكذلك فقد قام مدير المخابرات الأمريكية
» جورج تينيت «بزيارة جورجيا وقزقستان وأوزبكستان وعقد لقاءات سرية
مع قادة هذه الدول، وذكر جورج أن هذه المنطقة تعتبر أرضاً خصبة لنمو
الجماعات الأصولية المتطرفة.
كما أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي» جورج روبرتسون «أن
روسيا غير قادرة على ضمان الأمن في آسيا الوسطى، ودعاها إلى التعاون مع
الحلف لمكافحة» الإرهاب الإسلامي «في هذه المنطقة، وقال: إن روسيا تشكل
قوة مهمة في مواجهة الإرهاب الإسلامي، ويمكن أن يكون التعاون في هذا المجال
مفيداً لكل العالم خصوصاً أن حلف الأطلسي يملك خبرة في مكافحة الإرهاب
والتطرف. ومع هذه الحلقات التي تحاول الإحكام على المسلمين في الشيشان تأتي
حلقة أخرى تزيد من الآلام ومن مرارتها وقسوتها، وهي حلقة التعامي الحاصلة من
العالم الإسلامي والتقاعس عن نصرتهم في هذه المواجهة الشرسة التي عرضنا
صورة لها هنا، وبالرغم من ذلك كله إلا أن من ينصر الله ينصره، وما نزال
نسمع عن انتصارات إخواننا في الشيشان، وإخفاق الروس في القضاء عليهم.
والله نسأل أن يثبتهم وينصرهم على حزب الشيطان، وأن يخذل المتخاذلين.
مصيدة الفلبين:
في الوقت الذي انشغل فيه الناس بأزمة الرهائن في الفلبين، ويمموا وجوههم
صوب جماعة (أبو سياف) وتحركاتهم، كان الجيش الفلبيني يدك ديار المسلمين
في مواجهة شرسة مع جبهة مورو الإسلامية بقيادة سلامات هاشم، وقد أوردت
الصحف صورة لبعض الجنود الفلبينيين وهم يعتلون مئذنة مسجد قد حطموه،
ويرفعون فوقها العلم الفلبيني وهم في سعادة بالغة، وإن كنا لا نذهب إلى اتهام
جماعة أبي سياف بأنها مستخدَمة من قِبَل الحكومة أو جهات خارجية لإبعاد الأنظار
عن الجبهة الداخلية، أو نتهم جماعة نور ميسواري بالتخاذل والوقوف إلى جانب
الحكومة للحفاظ على مكاسبها التي تحققت بالاتفاق الذي تم منذ فترة، إلا أننا
نتساءل عن هذه المصيدة التي يقع فيها المسلمون في البلد الواحد، والتي تكررت
من قبل وتتكرر اليوم، ولا نتوقع أن يسلم منها آخرون بعد غد، نتساءل: إلى متى
لا ينتبه إخواننا إلى ما يراد بهم؟
النفي والإثبات:
في تطور لم يكن مستبعداً أعلنت مصادر دبلوماسية أن ياسر عرفات أبلغ
الإدارة الأمريكية أنه موافق على التخلي عن القدس بشكلها الحالي لـ» إسرائيل «،
واعتماد البلدات المجاورة ومنها أبو ديس والعيزرية لكي تكون عاصمة للدولة
الفلسطينية، كما أعلن أنه يشارك (إسرائيل) الرأي في عدم عودة اللاجئين إلى
الأراضي المحتلة شريطة تعويضهم مالياً وتسهيل استيطانهم في عدد من الدول
العربية والغربية. وعلى العادة التي عودتنا عليها السلطة الفلسطينية فقد تم نفي ذلك
كله جملة وتفصيلاً وأن هذه الأنباء غير مسؤولة ومدسوسة، الغرض منها إثارة
البلبلة والفوضى في الصف الفلسطيني، وغير ذلك كثير من عبارات النفي وجمل
الاستنكار، تعودنا ذلك وتعودنا أن نفي السلطة إثبات، ولكن مع هذه المسألة يزيد
خوفنا من» البيع النهائي «لفلسطين.(152/104)
قضايا ثقافية
الطاغية والطغيان
من خلال قصة فرعون
محمد حسن بريغش
الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها، وتهلك
أهلها، وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس،
وتستشري شروره ثم يركن الناس إلى الطغاة، ويستمرئون الخضوع والاستكانة
لمظالمهم وطغيانهم، يعمهم الله بالعذاب، ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة
أنفسهم.
ولقد كان فرعون مثلاً صارخاً للطاغية المتجبر، وكان قومه صورة للأقوام
التي خضعت وتابعت الطاغية، ووصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية
والاستخفاف بعقول الناس، والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى
أهلكه الله وقومه.
ووردت قصة فرعون في سبع وعشرين سورة، فضلاً عن الإشارة إليها في
ثنايا بعض السور الأخرى [1] وعرضتها الآيات مفصلة ومقتضبة، وعرضت
صوراً لطغيان فرعون وضلالاته وبغيه وكفره.
وأمرُ فرعون مثلٌ لكل طاغية يجاوز الحد في الظلم والتجبر والاستبداد
والمعصية، والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم، وكلما أنس منهم
السكوت على ظلمه، والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلفاً وتجبراً وتمرداً، حتى
يصل إلى التألُّه، وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله.
ولكي نبين ملامح الطغاة، ونتذكر بعض صور طغيانهم ووسائلهم نستعرض
عدداً من الأمور التي نستخلصها من الآيات الكريمة التي وردت في معرض الحديث
عن فرعون وقومه:
1 - ما هو الطغيان وما تعريفه وحدوده؟
يقول اللغويون عن هذه المادة ما يلي:
طَغَا يَطْغَى، ويطغو طُغياناً: جاوز الحد، وكل مجاوز حده في العصيان طاغٍ.
وعن الليث أن الطاغية: الجبار العنيد.
وعن ابن شميل: أنه الأحمق المستكبر الظالم [2] .
وورد أن الطغيان معناه: مجاوزة القدر والغلو في الكفر، والإسراف في
المعاصي [3] .
القرآن يفضح الفراعنة:
وفرعون في التاريخ المصري رجل عاتٍ كانت الأمة المصرية تدين بعبادته
وتذعن لقداسته، وكان الملوك الفراعنة في قديم الزمان يحيطون أنفسهم بهالة من
التقديس، ويضعون مكانتهم في إطار من الإلهية، لا جهلاً منهم بأنهم أناس لا
يختلفون عن غيرهم، ولكنهم يفعلون ذلك تمويهاً على العامة حتى يأمنوا غائلة
الثورات الهوج من الذين يطمعون في تبوُّؤ عرش الملك [4] .
وحيث وردت قصة فرعون في عدد كبير من السور والآيات وفُصِّلت ذلك
التفصيل في مناسبات كثيرة، فإن الوقوف عندها سوف يعطي القارئ المسلم ملامح
ذلك الطاغية، وصور ذلك الطغيان لتكون مَعْلَماً له في معرفة الصور المشابهة في
كل عصر ومصر، مهما اختلفت الألوان، وتغيرت العناوين والشعارات؛ لأن الله
عز وجل لم يقصَّ على عباده المؤمنين إلا لكي يتعظوا ويعتبروا ويتدبروا أمرهم فلا
يقعوا فيما وقع فيه الأقوام، وحتى لا ينالهم من الله العذاب.
[كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً] (طه: 99-100) .
[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (يوسف: 111) .
سمات الطاغية:
ومن استعراض الآيات القرآنية يتبين لنا كثير من سمات مَنْ يكون فرعوني
النهج، ومن أهمها:
أولاً: أنه يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ويجعل من نفسه معبوداً من دون
الله عز وجل يتحكم بالناس، ويأمرهم أن يطيعوه، ويشرع لهم ما يراه متفقاً مع
أهوائه ومصلحته ويدعي أنه الخير لهم. [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ
مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ] (القصص: 38) .
[وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي
مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ]
(الزخرف: 51-52) .
وهذا الادعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك والمال والقوة والنعيم،
والحاشية والأتباع.
ولكن ذلك مقترن أيضاً بخضوع الناس للطاغية، وسكوتهم عن مظالمه،
وخوفهم من سطوته وجبروته، وانكبابهم على الأمور المادية، والمنافع الدنيوية،
ونسيانهم لآخرتهم مما يجعلهم مستعبدين للظالم وأتباعاً للطاغية كما فعل أتباع
فرعون وقومه.
ثانياً: أنه يفتخر بما يملك من مال، أو قوة، أو ملك، أو تقدُّم مادي وينسى
مصدر ذلك كله، وينسبها لنفسه معتمداً على حب الناس لمتاع الدنيا، ولذلك افتخر
فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء، ولديه الماء والأنهار والسلطان [وَنَادَى
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ] (الزخرف: 51) .
وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله، وأن دعوة موسى
عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم، استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم، ويسد
عليهم طريق الهدى فقال: [فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ] (الزخرف: 53) .
والناس المضللون الذين استعبدهم الطغاة وأذلوهم حتى أفسدوا فِطَرَهم
يستجيبون لمثل هذه المغريات، ويذعنون لحواسهم القاصرة، وينكرون ما لا تصل
إليه حواسهم، ويعطلون عقولهم.
ثالثاً: الطغاة ينكرون الغيبيات، ويعادونها؛ لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون
ولأن إيمان الناس بالغيب يحررهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسح
أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل فيعرفون أن هناك مالكاً قديراً، وأن هؤلاء
الطغاة بشر مخلوقون مثلهم انحرفوا عن شرع الله وتجبروا وظلموا، وأنهم سوف
يمضون بعد حين ليواجهوا مصير العذاب؛ لأن الله وحده يملك المصير، ويملك
الموت والحياة. [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً
وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ] (آل عمران: 10-11) .
رابعاً: أنه يكذب بآيات الله، ويعادي الرسل والدعاة وأولياء الله عز وجل،
وينكل بهم، ويرميهم بشتى التهم والأباطيل: [ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ
عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ
يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ] (يونس: 75-77) .
ولا تنفع الوسيلة الليِّنة، والخطاب الشفوق مع الطاغية؛ لأنه متجبر لا
يصغي لغير نفسه. ها هو موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون
بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر، وأرعد وأزبد، وهدد كل الخارجين
على سلطانه. [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ
يَخْشَى] (طه: 43-44) .
ثم إن الطاغية لا يستمع للبرهان القاطع، ولا يصغي للحجة المقنعة ولا يفهم
معنى الآيات الدالات والمعجزات الباهرات، بل يقابل ذلك بالتجبر، والتهديد،
ورمي أولياء الله بشتى التهم كما فعل فرعون عندما حاجَّه موسى وبيَّن له أن الله
المعبود حقيقة هو الخالق المدبِّر [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى]
(طه: 50) ، [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] (الشعراء: 23) ، [قَالَ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ] (الشعراء: 24) ، [قَالَ رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] (الشعراء: 26) ، [قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (الشعراء: 28) .
فماذا كان رد فرعون عندما واجهه موسى عليه السلام بهذه الحجج التي لا
يملك ردها؟
لقد هدده وتوعده فقال: [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
المَسْجُونِينَ] (الشعراء: 29) .
ولكن موسى لم يَخَفْ هذا التهديد، بل قدَّم لفرعون الآية تلو الآية لعله يخشى
ويعود إلى الحق، [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ] (الشعراء: 32-33) .
وظلت الآيات تترى واحدة إثر أخرى، والطاغية لا يستمع ولا يرعوي حتى
أهلكه الله وقومه الظالمين، ونجَّى موسى وقومه المؤمنين.
خامساً: والطاغية يلجأ إلى كل المحاولات الظالمة للتنكيل بالمعارضين
والبطش بالدعاة إلى الله، ولا يمنعه شيء من ارتكاب كل جريمة مهما بدت منافية
للخلق والمنطق، [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ]
(غافر: 23-26) .
أتباع الطاغية ومواقفهم:
ولكل طاغية أعوان: منهم من يعين بالرأي للتضليل والإفساد وتزيين الباطل
للناس وإنفاذ رغبات الطاغية مثل (هامان) ، ومنهم من يعين بالمال، ويستغل
ويزداد كنزاً وغنى من المال (كقارون) [إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا
خَاطِئِينَ] (القصص: 8) .
[وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ
عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ]
(القصص: 38) .
ومع هذا الوزير الطاغية أيضاً حشد من الجنود والأعوان والأتباع التي تنكل
بالناس، وترصد حركاتهم، وتبطش بهم، وتتعالى على الناس بما لديها من قوة
وسلاح وسلطان [وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ
يُرْجَعُونَ] (القصص: 39) .
ولكن الله لهؤلاء بالمرصاد: للطاغية وأعوانه ولكل من يشايعه ويخضع له
[فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً
وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ] (القصص: 40-42) .
وهذه الآيات تضع للناس معالم الطريق في الحياة كي لا يكون لهم حجة في
اتباع الظالمين، والخضوع للطغاة والجبارين، أياً كانت الأسباب والحجج؛ لأن في
ذلك إنكاراً لقدرة الله وألوهيته وربوبيته، وتكذيباً لما عنده في الدنيا والآخرة؛
فالمؤمن لا يخشى إلا الله، ولا يخضع إلا لسلطانه، ولا يرضى بغير الحق، ولا
يشايع الباطل والظلم والطغيان حتى لا يرد مورد الطغاة كما حل بفرعون وقومه.
ولذلك ضرب الله لنا أمثلة رائعة من إنكار المنكر والتبرؤ من الطغيان
والطاغية والخروج عن طغيانه، وعدم الاكتراث بما يحل بالمنكرين والمتبرئين من
أذى في الحياة؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.
فهذه امرأة فرعون وهي أقرب الناس إليه تتبرأ منه، وتكشف باطله وتدعو
الله عز وجل أن يبدلها الجنة، ويورثها المغفرة بدلاً مما هي فيه، لم تخش جبروت
الطاغية ولم تضللها أكاذيبه، ولم تغرها الأبهة والملك والجبروت والزينة في الدنيا
[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي
الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] (التحريم: 11) .
وأخيراً:
وبعد هذا العرض السريع للطاغية والطغاة مُمَثَّلاً بفرعون وقومه يتبين لنا أن
«الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك
أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله، وما صلحت الأرض قط
ولا استقامت حياة الناس إلا أيام كانت عبوديتهم لله وحده: عقيدة وعبادة وشريعة،
وما تحرر الناس قط إلا في ظلال ربوبيته الواحدة» [5] .
إن نسيان ذلك من الناس يضللهم في الحياة فيجعلهم أشياعاً للباطل وجنوداً
للطغاة الظالمين الذين لا يكفُّون عن تسخيرهم لغير ما أراد الله وامتلاك إرادتهم
وقلوبهم وعقولهم.
إن أصناف الطغيان كثيرة، وأنواع الطغاة متعددة؛ فإذا كان بالأمس فرعون
ففي الحياة كثير من أصناف الفراعنة، «وعلى كل ما عُرف من طغيان فرعون
فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين في
مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين، وتهديد لسلطان الباطل بهذه الدعوة
الخطيرة» [6] .
فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من
المحن، ويمرون في حنايا فتنة كبيرة نسأل الله عز وجل أن يجعلها نصراً للحق
والإسلام والمسلمين؟ وكل ذلك بفعل الطغيان، وتصرفات طاغية جبار دفعه
طغيانه إلى ارتكاب أبعد صنوف الشرور وأقسى أنواع المظالم.
__________
(1) وردت قصة فرعون في السور التالية: (البقرة، آل عمران، الأعراف، الأنفال، يونس، هود، إبراهيم، الإسراء، طه، المؤمنون، الشعراء، النمل، القصص، العنكبوت، ص، غافر، الزخرف، الدخان، ق، الذاريات، القمر، التحريم، الحاقة، المزمل، النازعات، البروج،
الفجر) .
(2) لسان العرب، 15/7 9، طبعة دار إحياء، بيروت.
(3) القاموس المحيط، 1684، ط 1، 1406هـ 1986م، مؤسسة الرسالة بيروت.
(4) قصص الأنبياء، ص 182، عبد الوهاب النجار، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(5) في ظلال القرآن، 3/1345.
(6) في ظلال القرآن، 3/1348.(152/110)
في دائرة الضوء
العلمانية من منظور معرفي
عبد العزيز بن محمد التميمي
الدكتور عبد الوهاب المسيري [*] ، علماني سابق، كان مبشراً بالعلمانية
ومؤمناً إيماناً عظيماً بمستقبلها، وأنوارها القادمة! ورحمتها وإنسانيتها ...
وبالتدريج تكشفت له الحقيقة ... ! «لم تكن العلمانية في يوم من الأيام إنسانية
قط ... ! ! خصوصاً إذا دفعناها إلى نهايتها المنطقية وكنا علميين حقاً ... ! ومن
هنا كان هذا البحث الممتاز له» .
في مطلع هذا البحث المهم يدرس الأستاذ المسيري هذا المصطلح وكيف
تشكَّل بدايةً في القاموس الأجنبي حيث ولد، وفي البيئة الغربية، ومن ثَمَّ استخدمته
الكنيسة كي تذم من يستولون على أموالها بالقوة، ثم صار يطلق على الاستيلاء
الشرعي على أراضي الكنيسة وهو الاستخدام الإيجابي للمصطلح. ثم تحدث عن
استعمالات واشتقاقات أخرى للنص، ثم خلص إلى الحديث عن دلالة النص في
المجال الثقافي العربي؛ حيث ذكر أنها تعني «فصل الدين عن الدولة» وهو
تعريف قاصر وقدرته التفسيرية ضعيفة، ووصفها بأنها في حقيقتها: رؤية معرفية
وأخلاقية مادية محضة. «فالخالق إما غير موجود عند المتطرفين أو غير مؤثر
عند المعتدلين» ، لكن الطرفين يستويان في النموذج المعرفي الفعال. وفي الرؤية
الأحادية المادية للإنسان فهو جزء من منظومة كونية تتحدث من خلاله ولا يتحدث
هو من خلالها، ويخضع لقوانينها نفسها، ولا سر فيه ولا غريب، تتفق في ذلك
علوم الاقتصاد والنفس والتاريخ، بل هي تسعى لاستخدام المناهج والأدوات ذاتها
التي تستخدمها العلوم التجريبية. وتفسر السياسة والقانون بالعقد الاجتماعي الطبيعي،
والأخلاق باللذة والمنفعة. ورغم مقدرة النموذج العلماني المدهشة على التفسير،
والمذهلة على التغيير فهو يواجه مشاكل مهمة منها: أن الإنسان مركَّب وليس
بسيطاً يتحدى المعادلات الرياضية؛ لذلك فقد ينجح هذا النموذج حين يتعامل مع
المادة أو مع الجانب المادي للإنسان، لكنه يضعف أو يخفق حين يتعامل معه بما
يميزه بوصفه إنساناً (تطلعاته، أحلامه، آلامه) ومنها أن حلم العلمانية الكبير
بالفهم المطلق للكون بدأ يتبدد، وأن رقعة المجهول تتزايد ولا تتناقص. ومنها أن
أزمات التلوث والبيئة أثبتت إخفاق القدرات المطلقة للإنسان، وأثبتت الحدود
الانطولوجية والمعرفية للإنسان. ومنها أن النظرية العلمانية ترى أن الإنسان جزء
من كلٍّ هو الكون، وأكبر من الجزء، ولا بد أن يخضع لقوانينه؛ ولكن هذا
الخضوع يعني إلغاء الإنسان؛ فالإنسان في النموذج العلماني يبدأ في المركز
وينتهي بالإعدام.
ومنها أيضاً مشكلة القيمة، والنظرية الأخلاقية؛ فالقوانين الطبيعية تظهر
وكأنها بلا غاية، فهل يمكن إيجاد تفسير «علمي» لقضايا الخير والشر، والحُسن
والقُبح ... ؟ ! في منظومة (سبينوزا) كان الله تعالى هو الطبيعة ثم جاء نيتشه
ليعلن موت الإله عياذاً بالله ثم جاء «جاك دريدا» حيث يختفي معه المركز
ويختفي الإنسان وتعم الفوضى في عالم ما بعد الحداثة.
هذا بالنسبة للنموذج العلماني ... أما بالنسبة للنموذج المقابل له وهو النموذج
الديني فإن الإنسان يدور حول مطلق موحى به، ويؤمن بإله يحفظ الإنسان ويوجه
الطبيعة والتاريخ، ويحتكم الإنسان فيه إلى مجموعة من القيم المطلقة التي تتجاوزه،
أما الآليات العلمانية الإجرائية التي يستخدمها فتظل هي الهامش لا المركز، على
العكس من النموذج العلماني الذي إن وجد فيه المطلق فهو في الهامش.
في العلمانية تتفتت وحدة المؤسسات، لتصبح كل مؤسسة تسعى لتحقيق
كفاءتها الذاتية الامبريقية في غياب أي قيم مطلقة، وكان الاقتصاد والسياسة أول
قطاعين يستقلان؛ حيث جعل «ميكيافيلي» من الأمير خالقاً، و «هوبز» جعل
من وحش الدولة إلهاً علمانياً «يقدس العلم والنشيد الوطني والأرض، والأمة فوق
الجميع» ، ثم تنسلخ الفلسفة؛ حيث تظهر الفلسفة المادية، ثم علمنة الأحلام؛
حيث تدور على الأرض وحدها، ثم الأخلاق والبراجماتية، ثم الأسرة؛ حيث
تتفتت وتظهر حقوق الإنسان الرجل والمرأة والطفل والحيوان وتختفي حقوق أخرى
مهمة مثل حقوق الأسرة، والإنسان تظهر فيه معدلات المنفعة. تنتقل العلمنة إلى
الأدب؛ حيث يصبح مؤسسة مستقلة بلا مرجعية حيث الأدب للأدب، والانغماس
في البنية الهندسية للأدب وموت المؤلف. ويعلمن الجنس، فيصبح هنالك جنس
للإنجاب، وآخر للحب، وثالث للمتعة، وهكذا ... فالمعرفة العلمانية ليست معرفة
المحبين للتواصل مع الطبيعة وإنما تهدف للسيطرة إنها معرفة إمبريالية.
ولذلك ظهر مفهوم (الترشيد) عند «ماكس فيبر» ويعني به تحويل العالم
كله بما فيه الإنسان إلى حالة المصنع.
ثم يتحدث الباحث عن بعض آليات العلمنة، ويذكر ثلاثاً منها هي: العلمانية
البنيوية، وعلمانية الرغبات، وعلمانية النسق الديني. في الآلية الأولى أشار
لتجربة روسيا، وأن دعايتها الإلحادية لم تنجح إلا عندما أقامت كيان الدولة الذي
صنع مؤسسات العلمانية وانتشار المصنع والسوق وجعلها وحدات أساسية. وفي
أمريكا تسير معدلات العلمنة بشكل أكبر. وعن علمنة الرغبات يتحدث الباحث عن
تحويل كل شيء لمساحة تستثمر حتى بدلات الرياضيين وسياداتهم، إنه عالم ما بعد
الحداثة المفتقر للمركز؛ وإنما هو شبيه بالثقوب السوداء؛ حيث لا مكان ولا زمان.
وعن علمنة النسق الديني؛ فيرى الباحث فيه أن الله يُعرف بالعقل لا غير،
ويطوع المؤمن النص ولا يطيع الله، ويفقد الخطاب الديني بعده المركب المجازي
ويهتم المؤمن بجمع الحسنات.
هذه الآليات الثلاث تعمل في العالم الإسلامي كله.... وإذا كان سقوط الفكر
الاشتراكي بسبب سقوط منطلقاته، فكذلك نفهم سقوط الفكر القومي نظراً لنزع
القداسة والإطلاق والدعوة للنسبية والواقعية من هذا الباب ... وبهذه الآليات يمكن
أن نفهم النازية والصهيونية.
من هذا العرض القصير لهذا المبحث الخصب والحيوي تتجلى لنا كيفية
التحول الذي حدث لدى الأستاذ عبد الوهاب المسيري؛ ذلك أن بداياته الأولى كانت
علمانية قومية تحاول تعرية الصهيونية ... ثم لم تلبث أن تبدت له الحقيقة في عدم
فهم الرجل الأمريكي للحق العربي في منهج التفكير والنسق الاعتقادي الذي يحكم
قيم الغرب وحساباته؛ ومن هنا بحث عن سر الأزمة والانقطاع وعدم التواصل بين
تفكيره وتفكير الآخر ... فكانت العلمانية التي تبدت له حقائقها واحدة تلو الأخرى
تبدت له وحشاً ضارياً شديد الفتك تسعى للتسوية والتناظر، ونجحت نجاحاً باهراً
في تسوية خصومها حتى الشيوعية المتطرفة، وهي لا تزال تحاول تفكيك النسق
الديني لمحاولة احتوائه وهي محاولة خطيرة تقضي على آخر بوارق الأمل في
النجاة، ما لم يَعِ الإسلاميون بالذات خطورة هذا الطرح ويستعدون لمواجهته.
وبعد، فلا ريب أن ما قاله الدكتور المسيري وفقه الله بالغ الأهمية ويحتاج
لمزيد من الدراسات والإثراء. والله من وراء القصد.
بقيت ملحوظة مهمة لهذه الدراسة:
ألا وهي الجدة والأصالة والطرافة التي احتواها هذا العمل المتميز؛ إذ
تحولت العلمانية من قول في السياسة إلى قول في كل شيء ... ومن رؤية فكرية
إلى منهج حياة مفصل، ومن سلاح يستخدم ضد خصم إلى نار تلتهم أول ما تلتهم
صاحبها، إنها سرطان يظهر ثم لا يمكن ضبطه بعد ذلك. ولقد تمكن الباحث
بصبر ودأب من تتبع جذورها، وامتداداتها، وآلياتها وفاعلياتها حتى أحاط بها،
وسلط الأضواء عليها، وكشف عن خطورتها، ودلل على وجودها حتى في نقضها
الصريح للنموذج الديني؛ ومن هنا تجيء قيمة هذا المبحث أن يكون بين أيدينا،
ومن هنا تبرز أهمية الموسوعة التي صدرت منذ أكثر من عام! !
وفق الله الجميع وسدد الله الخطا.
__________
(*) الدكتور عبد الوهاب المسيري له جهد متميز في مجال البحث الأكاديمي في المذاهب والنظريات المعاصرة وتاريخها، وخاصة فيما يتعلق بالفكر الصهيوني وجذوره اليهودية والفكر الغربي بوجه عام وهذا الموضوع جزء منه، لكن هذا لا يعني تقديم طروحاته على أنها (فكر إسلامي) ، فلا تزال في فكر الأستاذ المسيري أشياء كثيرة تحتاج إلى مراجعات ومناقشات، ولعلنا نتعرض لشيء منها في أعداد مقبلة إن شاء الله.
- البيان -(152/116)
اقتصاديات
سياسة الإسلام في محاربة الفقر
ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
جاء الدين الإسلامي ومن أهدافه: معالجة المعضلات الإنسانية على أسس
وخصائص ثابتة تميزه. ومنها: «الربانية، الشمولية، الواقعية» . ونعرض هنا
لسياسة الإسلام في معالجة واحدة من هذه المشكلات وهي (مشكلة الفقر) بعدما
استعرضنا في مقال سابق آثار هذه المشكلة المدمرة التي عمل أعداء الإسلام
لتأصيلها في مجتمعاتنا الإسلامية.
استخدم الإسلام أساليب متعددة لمحاربة الفقر يمكن إجمال بعضها تحت
مجالين:
أولاً: مجال الفكر والتصور.
ثانياً: مجال السلوك والتصرف.
أولاً: مجال الفكر والتصور:
يقول العلماء: «التصرف ناتج عن التصور» وقد أراد الله سبحانه وتعالى
أن يميز المسلم بالتصور الناضج لقضية الفقر (الحرمان والحاجة) وأن ينطلق من
نظرة صحيحة نحوها تمهد للمواقف المتخذة في معالجته ومحاربته.
لذا نجد أن الإسلام من خلال نصوص القرآن والسنة له تصوره المتميز لهذه
القضية؛ حيث:
1 - يعتبر أن الفقر مصيبة وآفة خطيرة توجب التعوذ منها ومحاربتها، وأنه
سبب لمصائب أخرى أشد وأنكى كما رأينا في مقال سابق (الآثار المدمرة لسياسة
الإفقار) .
2 - ينكر النظرة التقديسية وكذلك الجبرية للفقر والحرمان؛ فكيف تُقدَّس
الآفات ذات الأثر السيئ على دين الأمة ودنياها؟ وكيف ينظر إلى الفقر على أنه
قدر الله المحتوم، ولا يُعدُّ الغنى كذلك قدرٌ يدفع به الفقر لتصلح الأوضاع وتعمر
الأرض ويتكافل الناس؟
3 - حث الإسلام على الدعاء بطلب الغنى: ورد في صحيح مسلم من دعاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف
والغنى» [1] ، ومن أدعية الصباح والمساء: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً
طيباً وعملاً صالحاً مُتقبَّلاً» [2] .
4 - جعل من دلائل حب الآخرين وابتغاء الخير لهم الدعوة لهم بوفرة المال:
أورد البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لصاحبه وخادمه:
«اللهم أكثر ماله» [3] ، وكذا دعا لعبد الرحمن بن عوف وعروة بن جعد
بالبركة في تجارتهما كما في صحيح البخاري.
5 - اعتبر الغنى بعد الفقر نعمة يمتن الله على عباده بها: قال تعالى:
[وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى] (الضحى: 8) . وقال تعالى: [الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن
جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] (قريش: 4) .
6 - أكد أن المال ركن هام لإقامة الدين والدنيا: يقول الله تعالى:
[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً] (النساء: 5) .
وفي الحديث القدسي يقول تعالى: «إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة» [4] .
وفي الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعني مال قط ما
نفعني مال أبي بكر» [5] ، وقد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في معظم
المواضع القرآنية.
7 - جعل الرزق الوفير ثمرة يُرغِّب إليها إتيان الصالحات: قال تعالى:
[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ]
(الأعراف: 96) ، وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من
أحب أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له أثره فليصل رحمه» [6] .
8 - جعل الحرمان والحاجة نتيجة يُرهِبُ بها من اجترح السيئات: يقول
تعالى: [..... فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ] (النحل: 112) ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث
الحسن: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» [7] .
9 - جعل الغني المنفق أحد اثنين تمدح غبطتهم؛ حيث يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على
هلكته في الحق ... » [8] .
10 - رغَّب في الإنفاق والصدقة وهي لا تتحقق غالباً إلا في ظل الغنى.
11 - ميز بين الغني المنفق والفقير الآخذ: في الحديث المتفق عليه من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليد
العليا خيرٌ من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة» [9] .
12 - اعتبر المال خيراً فُطِرَ الإنسان على حبه: قال تعالى: [وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الخَيْرِ لَشَدِيدٌ] (العاديات: 8) ، وقال تعالى: [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ]
(الفجر: 20) .
ثانياً: في مجال السلوك والتصرف:
لم يكتف الإسلام بصياغة النظرة المتفردة لأتباعه تجاه الفقر، بل حدد
مجالات السلوك والتصرفات التي يستوجبها ذلك التصور، وقدّم حلولاً عملية واقعية
يأخذ بها الناس ليدرؤوا عن أنفسهم شبح الفقر والحرمان وما ينجم عنه، ومن ذلك:
1 - العمل والسعي:
يعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد الإسلامي؛ فهو المصدر الرئيس
للكسب الحلال. والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي
استُخْلِفَ فيها والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه وبني جنسه في تحقيق
حاجاته وإشباعها.
وقد حث الإسلام على السعي والعمل من خلال:
أ - الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها، وطلب الاستفادة منها
عبادةً لله: قال تعالى: [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ]
(الأعراف: 10) ، وقال تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ] (الملك: 15) .
ب - جعله دليلاً على صدق التوكل على الله والثقة به: في صحيح الجامع
الصغير من حديث عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لو أنكم تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً
وتروح بطاناً» [10] ، والشاهد من الحديث: «تغدو، تروح» سعياً وحركة،
وليكن شعار المسلم: «ابذر الحَبَّ ... وارجُ الثمار من الرب» .
ج - الحث على أنواع المهن والحرف ومن ذلك:
- التجارة: وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة، وتاجر مع
عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها واشتغل صحابته الكرام
بذلك ومنهم: أبو بكر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله
رضي الله عنهم وغيرهم، وقد تواصى السلف فيما بينهم ومع تلامذتهم أن:
«الزموا السوق» ، وفي كتب الفقه تُخَصَّص كتب للبيوع وما يتعلق بها وغيرها
من الكتب حول التجارة ومعاملاتها.
- الزراعة: ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً
فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة» [11] .
وعند الترمذي وغيره من حديث جابر وسعيد بن زيد يقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميْتة فهي له» [12] .
- الصناعات والحرف: ففي البخاري يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما أكل أحدٌ طعاماً قَطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده» [13] .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الكسب أفضل؟» قال:
«عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» [14] .
وفي صحيح البخاري ومسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ
يحتطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه» [15] .
د - اعتبار العمل والكسب من الصدقات ووسيلة إليها: في الحديث المتفق
عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «على كل مسلم صدقة قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه
ويتصدق» [16] .
هـ - تربية صفوة البشر من الأنبياء على العمل لاتخاذهم قدوة: فقد عمل
الأنبياء في أعمال وحرف عدة ومنها رعي الأغنام، وصناعة الحديد، والتجارة،
وغيرها، ومما ورد في ذلك من الأدلة:
قول الرجل الصالح لموسى عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل:
[قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ]
(القصص: 27) .
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، وأنا كنت أرعاها لأهل مكة
بالقراريط» [17] .
وفي البخاري أيضاً من حديث المقدام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» [18] ، وهكذا فعل
ورثة الأنبياء من العلماء الربانيين فاشتهرت أسماء أمثال: البزَّاز، الجصَّاص،
الخوَّاص، القطَّان، الزجَّاج.
و عدم الاعتراف بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة:
فحرّم الإسلام أعمال الغصب والسلب والسرقة والنصب والمقامرة والربا وما ينشأ
عنها من مكاسب مالية، واتخذ إزاء ذلك العقوبات الرادعة، وفي ذلك إلزام لأفراد
المجتمع في البحث عن الكسب المشروع؛ وأغلب ذلك لا يتأتى إلا عن طريق
العمل.
ز - الترهيب من التسوّل والاحتيال على الآخرين: ففي القرآن الكريم الحث
على الاهتمام بالذين لا يتسوَّلون وتحسس أحوالهم ورعايتهم: قال تعالى:
[لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً]
(البقرة: 273) .
وروى الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه
مُزعة لحم» [19] .
وفي مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «من سأل الناس أموالهم تَكثُّراً؛ فإنما يسأل جمراً؛ فليستقلَّ، أو
ليستكثر» [20] .
ح - النهي عن التصدق على غير المحتاج: أخرج الإمام أحمد وغيره في
صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّةٍ
سوي» [21] .
وفي الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع،
أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» [22] .
مسؤولية ولي الأمر (الدولة) :
تتجلى هذه المسؤولية فيما تهيئه من سبل العمل للعاطلين وتزويدهم بأدواته
وإعدادهم مهنياً لذلك والاطمئنان على يسرهم: روى أصحاب السنن من حديث أنس
بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى: حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه،
وقعب نشرب فيه الماء، قال: «ائتني بهما» ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال: «من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم،
قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين،
فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشترِ بأحدهما
طعاماً وانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به.. فشد فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له:» اذهب فاحتطب وبِعْ.. ولا أرينَّك خمسة
عشر يوماً. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم؛
فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً.. إلى آخر الحديث « [23] .
وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف رحمه الله إلى جواز إقراض المحتاج من
بيت المال كما نقل عنه الفقيه ابن عابدين:» يدفع للعاجز أي العاجز عن زراعة
أرضه الخراجيه لفقره كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل ويستغل أرضه « [24] .
مسؤولية أصحاب العمل وولاة الأمر (الدولة)
عن حفظ حقوق الأُجَراء والعمال:
وقد حكى الله تعالى عن الرجل الصالح أنه قال لموسى عليه السلام:
[..... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ] (القصص: 27) ، وفي الحديث المتفق عليه من
حديث أبي ذر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إخوانكم
خَوَلُكم، جعلهم الله قنيةً تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه،
وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه « [25] .
وفي الحديث الحسن من حديث أربعة من الصحابة: (ابن عمر - أبي
هريرة - جابر - أنس) رضي الله عنهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه « [26] .
أخرج أبو داود والحاكم كما في صحيح الجامع الصغير من حديث المستورد
بن شداد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» من كان لنا عاملاً
فلم يكن له زوجة فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم
يكن له مسكن فليكتسب مسكناً، من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ أو سارق « [27] .
بل لقد توعّد الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري وابن ماجه
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه توعّد ذلك الذي يبخس العامل أو الأجير حقه،
فقال:» ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته ... ورجل استأجر
أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره « [28] .
2 - الجهاد [*] :
من الوسائل التي شرعها الإسلام لمحاربة الفقر والحاجة وسيلة الجهاد لنشر
نور الهدي الإسلامي، وفتح مصاريع البلاد أمامه، وتحطيم عروش الطغاة الذين
يحولون بينه وبين عباد الله، واغتنام الأموال المستخدمة في عصيان الله ومبارزته
بالحرب واستعباد عبيده من أجل استغلالها في تعمير الأرض وعبادته.
لذا فقد رغب الإسلام في الجهاد من خلال الوعد الأخروي وكذا الفتح الدنيوي
والغنائم. قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ
إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] (الصف: 10-13) .
وقال تعالى: [وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ....]
(الفتح: 20) .
وفي صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم:» بُعِثْتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعْبَدَ الله
وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي « [29] .
لقد كان الجهاد في الفتوحات إبان الخلافة الإسلامية الراشدة أكبر مصدر
لواردات بيت مال المسلمين مما أمكن من توزيع العطاءات على كل مسلم.
3 - كفالة المجتمع:
لا يخلو مجتمع من العاجزين عن العمل والجهاد والكسب من كدّ اليد والاعتماد
على النفس من أمثال الأرامل واليتامى والشيوخ وأصحاب العاهات المعوّقة،
وكذلك الذين لا يكفيهم دخلهم من العمل أو القادرين الذين لم يتيسر حصولهم على
عمل، وهؤلاء جميعاً لم يتركهم الإسلام هملاً وعرضة لآفة الفقر والحرمان تسحقهم
وتلجئهم مكرهين إلى ذل السؤال والتكفف، بل عمل على كفالتهم من قِبَلِ المجتمع
المسلم الذي ينتمون إليه ويُحسَبون عليه.
ويمكن تقسيم كفالة المجتمع المسلم للفقراء المحتاجين إلى قسمين:
1 - كفالة الأرحام والأقارب.
2 - كفالة الآخرين.
1 - كفالة الأرحام والأقارب:
قرن الله تعالى حق القربى في الإحسان بحقه سبحانه وتعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ
وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى ... ] (النساء: 36) . وأمر
الله تعالى بإعطائهم ما يحتاجون فقال: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
القُرْبَى ... ] (النحل: 90) .
وجعل لهم حقاً فقال تعالى: [وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ... ] (الإسراء: 26) .
وقال سبحانه: [فَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ... ] (الروم: 38) .
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:» من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه « [30] بل
جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام ومواساتهم سبباً في سعة الرزق؛ ففي
الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:» من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره فليصل
رحمه « [31] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» الرحم معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله « [32] .
ومن أهم مظاهر صلة الأرحام كفالتهم وإعانتهم مادياً وعدم الالتزام بذلك يعد
قطيعة لهم، ولنقرأ ما يقوله ابن القيم كما نقل عنه د. يوسف القرضاوي:» وأي
قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعاً وعطشاً ويتأذى غاية التأذي بالحرّ والبرد،
ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد
ويسكنه تحت سقف يظله؟ ! « [33] .
يتبين مما سبق أن الأقارب والأرحام ملزمون بكفالة قريبهم الفقير وإعانته من
أموالهم حقاً وصلة.
2 - كفالة الآخرين:
هذه الكفالة العامة من قِبَلِ أفراد المجتمع للفقراء والمحتاجين تتم عن طريق:
أ - زكاة المال:
وهي ركن من أركان الإسلام يمثل الحد الأدنى المحدد الثابت المفروض في
أموال أغنياء المجتمع ليرد على فقرائهم وبقية الأصناف الثمانية التي ذكرتها الآية
(60) من سورة التوبة التي بينت في آخرها أنها فرض واجب. قال تعالى:
[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]
(التوبة: 60) ، وقد جاء في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس رضي الله
عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذاً إلى اليمن وبعد أن أمره
بدعوتهم إلى التوحيد ثم الصلاة قال له:» فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة
تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم « [34] .
تعد الزكاة من أهم الموارد التي تستحق بشروطها المعروفة في معظم ثروات
المجتمع: النقود، الذهب، الفضة، الحاصلات الزراعية، الثروات الحيوانية،
وبقية المستغلات التي تدر أرباحاً.
ب - الحقوق المالية الواجبة مثل:
- حق الجوار: جاءت آية الأمر بالإحسان إلى الأقارب والأرحام في قول الله
تعالى: [وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ] (النساء: 36) لتؤكد حق الجار
في الإحسان إليه.
كما ورد في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال:» ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى
ظننت أنه سيورّثه « [35] .
- الكفارات: العقوبات الدنيوية المكفّرة لبعض الذنوب مثل:
* كفارة اليمين: قال تعالى: [ ... فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ
مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... ] (المائدة: 89) .
* كفارة الجماع في نهار رمضان: وهو ما يبطل الصيام ويوجب القضاء
والكفارة، وقد بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه
الجماعة عن الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فقال له:» هل تجد
ما تعتق رقبة؟ هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فهل تجد ما تطعم ستين
مسكينا؟ « [36] .
* كفارة الظهار: والظهار أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي،
وقد بيّن القرآن وكذا السُّنَّة كفارة الظهار؛ ففي القرآن وردت الآيات (3، 4) من
سورة المجادلة، وفي السنة أخرج الترمذي وحسنه أبو داود (وهو حديث صحيح)
من حديث مسلمة بن صخر البياضي ما يبين كفارة الظهار بما يماثل كفارة الجماع
في رمضان.
* فدية ارتكاب المعذور لمحظور من محظورات الإحرام:
قال تعالى: [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] (البقرة: 196) .
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما تفصيل ذلك في حديث كعب بن عجرة
رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي آذى رأسه الهوام:
» احلق ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على
ستة مساكين « [37] .
- فدية الصيام: قال تعالى: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ]
(البقرة: 184) .
وقد بيّن ابن عباس المقصود منها كما في صحيح البخاري وكما روى عطاء
أنه سمع ابن عباس يقرأ: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ]
(البقرة: 184) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة
الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما عن كل يوم مسكيناً.
ومن الفقهاء من يرى أن تفدي المرأة الحامل والمرضع التي تفطر خوفاً على
نفسيهما أو أولادهما.
- النذور: يقول تعالى: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ] (البقرة: 270) ، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النذر:» وإنما يستخرج به من
البخيل « [38] .
د - الأطعمة والذبائح: ومن ذلك:
- الهدي: التي تذبح ضمن مناسك الحج ويكون للفقراء منها نصيب قال
تعالى: [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ] (الحج: 36) .
- الأضحية: التي تذبح في عيد الأضحى المبارك وفيها قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن واقد (في آخر الحديث) :
» فكلوا وادخروا وتصدقوا « [39] .
- العقيقة: التي تذبح عن المولود في اليوم السابع: شاتان للغلام وشاة
للجارية، ويكون للفقراء فيها نصيب، بل قد ورد في الحديث الحسن الذي أخرجه
أحمد في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي رافع أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة:» احلقي شعره وتصدقي بوزنه من الورق
على الأوقاص أو على المساكين « [40] [41] .
هـ - الصدقات الاختيارية:
يقصد بها نافلة الواجبات المالية التي تُترك لإيمان الإنسان ونفسيته الخيِّرة
الكريمة بأن يعطي دون طلب؛ وينفق دون سؤال وإنما يؤمن بالخَلَف، ويبتغي
مزيد الأجر والمثوبة.
قال تعالى: [وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ
أَجْراً] (المزمل: 20) .
وقال تعالى: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]
(سبأ: 39) .
ويكفي أن نختار من أحاديث الحث على الصدقات ما رواه الشيخان عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من تصدّق بعِدْل
تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها
لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه أول ما يولد حتى يكون مثل الجبل « [42] .
ومن الصدقات الاختيارية: الصدقة الجارية (الوقف الخيري) : وقد حث
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» إذا مات الإنسان
انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية.... . « [43] .
واستجاب المسلمون لهذا الترغيب فأصبحت الصدقات الجارية من الكثرة
والضخامة ما يجعلها مفخرة وميزة للنظام الإسلامي؛ إذ تتبع المسلمون مكامن
الحاجات الاجتماعية الظاهرة والخفية فأرصدوا لها الأوقاف المختلفة التي شملت
كافة احتياجات الإنسان والحيوان.
رابعاً: كفالة ولي الأمر (الدولة) :
أوجب الإسلام رعاية الإمام (ولي الأمر) أو ما يطلق عليه في عصرنا
(الدولة أو الحكومة) لجمهور الناس عامة وأصحاب الحاجات خاصة، وجعله
مسؤولاً عن ذلك أمامهم ثم بين يدي الله تعالى. قال جل جلاله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]
(النساء: 58) ، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق
عليه:» كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع ومسؤول عن
رعيته.... « [44] . وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية ولي الأمر
تجاه الفقراء والمحتاجين وإعالتهم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه فقال:» أنا أوْلى بالمؤمنين في كتاب الله، فأيكم مَّا
ترك ديناً وضيعة (عيالاً) فادعوني فأنا وليه « [45] .
أما الموارد التي يستعين بها ولي الأمر (الدولة) في كفالة الفقراء وأصحاب
الحاجات ورعايتهم فهي:
1 - الزكاة: التي يجمعها ولي الأمر ويأخذها من الأغنياء ليردها على
الفقراء.
قال تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا]
(التوبة: 103) .
2 - ما يدخل إلى بيت مال المسلمين من الأموال الآتية:
أ - خُمس الغنائم: والغنائم: المال المأخوذ من الكفار بالقتال يؤخذ خمسه
لبيت مال المسلمين، قال تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ] (الأنفال: 41) .
ب - الفيء: ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، قال تعالى: [مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ] (الحشر: 7) .
ج - الخراج: ضريبة مالية على الأراضي المفتوحة عنوة وتركت بيد أهلها
يزرعونها ويستغلونها.
د - الجزية: ما يؤخذ من الذمي بشروط محددة مقابل الحماية والمنع.
هـ - العشور: ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمَنون في أموالهم
المعدة للتجارة التي تدخل وتنتقل في ديار الإسلام ويختلف مقدارها باختلاف التجارة
والبلاد ومدة الإقامة والمعاملة بالمثل.
و خمس الركاز: يقصد به ما وجد مدفوناً من كنوز الأرض في أرض
موات أو طريق سابل وهو من ضرب الجاهلية. أما إذا كان من ضرب الإسلام
(علامات تدل على ذلك) فهو لقطة تجري عليها أحكامها.
ز - غلة أراضي الدولة وعقاراتها.
ح - الضوائع والودائع التي تعذر معرفة صاحبها.
ط - التعزيرات المالية التي يحكم بها القضاة على مرتكبي المخالفات الشرعية.
ي - ميراث من لا وارث له.
3 - الضرائب: ويُقصد بها ما تفرضه الدولة على الأغنياء في حالة عدم
تحقيق الكفاية من الموارد السابقة الذكر، وقد ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام
الترمذي عن جماعة من الصحابة:» إن في المال حقاً سوى الزكاة « [46] . وهو
ما يدل على إعطاء صلاحيات واسعة في جباية الأموال اللازمة من الموسرين في
الحدود اللازمة للإصلاح ولتحقيق الكفاف لأصحاب الحاجات أو لمتطلبات البلاد
الضرورية مثل الدفاع عن أهلها وردّ العدوان وفداء الأسرى وغيرها.
وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان عن (المحلّى) ما قاله الفقيه المعروف ابن
حزم:» وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم
السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيقام لهم مما يأكلون من القوت الذي لا بد
منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف
والشمس وعيون المارة « [47] .
ونقل كذلك في الصفحة نفسها عن القرطبي في تفسيره:» واتفق العلماء على
أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال
مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا
إجماع أيضاً «.
وأخيراً:
فتلكم كانت النصوص التي تدل على أن الإسلام قد وضع الأدوية المتعددة لداء
الفقر، وبيَّن الحلول المتنوعة لمعضلة الحاجة والحرمان، ولم يكن ذلك مجرد
مبادئ نظرية يتم الحديث عنها بعيداً عن صلاحيتها للواقع، بل إن المسلمين قد
طبقوها وأقاموها في مجتمعاتهم فحصل ما تكلم عنه التاريخ بفخر واعتزاز، حتى
إن تأريخ الأمة الإسلامية ليشرُف بذلك العهد الزاهي الذي لحق عهد الخلفاء
الراشدين ونقصد به عهد خلافة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز، ولنقرأ معاً ما
رواه ابن كثير في البداية والنهاية فيقول:» كان منادي عمر ينادي كل يوم: أين
الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلاً من
هؤلاء «.
وفي تأريخ الخلفاء يذكر السيوطي:» قال عمر بن أسيد: والله ما مات عمر
حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح
حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس «.
فهل لولاة أمر المسلمين أن يعودوا إلى دين ربهم وشرعة رسولهم صلى الله
عليه وسلم ليسوسوا شعوبهم ودولهم بها، فيجتنوا خير الدنيا ونعيم الآخرة، وينعموا
بالعيش والحكم بعيداً عن نُفايات الغرب والشرق واستغلالهم؟ لعلهم يفعلون، والله
نسأل أن يرد الجميع إلى دينه رداً جميلاً، ويبصِّرهم الحق والسداد.
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 4898.
(2) رواه البخاري، ح/ 5859.
(3) رواه ابن ماجه، ح/ 915.
(4) صحيح الجامع من حديث أبي واقد الليثي.
(5) أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) رواه البخاري، ح/ 1925.
(7) رواه ابن ماجه، ح/ 4012.
(8) رواه البخاري، ح/ 71.
(9) رواه البخاري، ح/ 1339.
(10) رواه الترمذي، ح/ 2266.
(11) رواه البخاري، ح/ 2152.
(12) رواه الترمذي، ح/ 1299.
(13) رواه البخاري، ح/ 1930.
(14) رواه أحمد، ح/ 16628.
(15) رواه البخاري، ح/ 1932.
(16) رواه البخاري، ح / 5563.
(17) رواه البخاري، ح/ 2102.
(18) رواه البخاري، ح/ 1930.
(19) رواه مسلم، ح/ 1724.
(20) رواه مسلم، ح/ 1726.
(21) رواه الترمذي، ح/ 589 ذو المرة السوي: القوي سليم الأعضاء.
(22) رواه الترمذي، ح/ 590 مدقع: شديد، مفظع: ثقيل، دم موجع: دية باهظة.
(23) رواه أبو داود، ح/ 1398.
(24) أصول الدعوة، د عبد الكريم زيدان.
(25) رواه البخاري، ح/ 29.
(26) رواه ابن ماجة، ح/ 2434.
(27) رواه أبو داود، ح / 2556.
(28) رواه البخاري، ح/ 2075.
(*) تابع لمجال السلوك والتصرف.
(29) رواه أحمد، ح/ 4868.
(30) رواه البخاري، ح/ 5673.
(31) رواه البخاري، ح/ 1925.
(32) رواه مسلم، ح/ 4635.
(33) انظر كتاب: مشكلة الفقر، للدكتور يوسف القرضاوي، ص 51، 52.
(34) رواه البخاري، ح/ 1308.
(35) رواه البخاري، ح/ 5555.
(36) رواه البخاري، ح/ 6217.
(37) رواه أبو داود، ح/ 1582.
(38) رواه البخاري، ح/ 6118.
(39) رواه مسلم، ح/ 3643.
(40) رواه أحمد، ح/ 25941.
(41) تحقيق محمد الحلاق على متن الدرر البهية للشوكاني، ص 266 الورقِ: الفضة الأوقاص: أهل الصفة.
(42) رواه البخاري، ح/ 1321.
(43) رواه الترمذي، ح/ 1297.
(44) رواه البخاري، ح/ 844.
(45) رواه مسلم، ح/ 3041.
(46) رواه الترمذي، ح/ 595.
(47) انظر كتاب: أصول الدعوة، للدكتور عبد الكريم زيدان، ص 246.(152/118)
مصطلحات ومفاهيم
البراجماتية
د. محمد يحيى
مع تزايد نفوذ الولايات المتحدة وقوتها وغُدُوِّها مؤثراً يكاد يكون وحيداً في
توجيه مجريات السياسة الدولية من نواحٍ متعددة أبرزها: الإعلامية، والاقتصادية،
ومع تزايد التحليلات الفكرية التي تطرح لتفسير أبعاد هذا النفوذ وشرحه - كثر
ترديد مصطلح «الفكر البراجماتي» باعتباره يمثل الفلسفة السائدة في المجتمع
الأمريكي والبعد الفكري لقيم ذلك المجتمع ومفاهيمه ولسياسات أجهزة الحكم والقرار
وتوجهاتها هناك، وتراوح الحديث عن البراجماتية أو PRAGMATISM
(وهي اشتقاق يعود إلى الكلمة اليونانية بمعنى العمل أو الفعل أو الممارسة أو
المزاولة) في وصفها بأنها الفلسفة الأصلية التي تميز العقل الأمريكي عن مدارس
الفلسفة الأوروبية الكبرى المعروفة، من المثالية وحتى الوجودية مروراً بالماركسية
والظواهرية ... إلى القول الدارج في المقالات الصحفية من أن ذلك المذهب لا
يعدو أن يكون توجهاً انتهازياً يرتكز على اتباع الوسيلة - أية وسيلة - المحققة
للغرض موضع الاهتمام في لحظة معينة.
والحق أن الفكر البراجماتي يحتمل هذين التأويلين على تباعد البون بينهما من
الجدية إلى الاحتقار الهازئ؛ فالفكر البراجماتي الأمريكي يدين في تشكله إلى
مجموعة من العقول الفلسفية الأمريكية التي من أبرزها: ويليام جيمس وجون
ديوي منذ أواخر القرن الميلادي الماضي إلى أواسط الحالي، وصحيح كذلك أن
البراجماتية من هذه الناحية تعد إسهاماً فكرياً مهماً يميز أمريكا عن أوروبا؛ ولكن
الصحيح كذلك أن البراجماتية امتداد أصيل لروافد رئيسة في الفكر الأوروبي
أبرزها الفكر التجريبي المستند إلى فلسفة العلوم الطبيعية الذي يحتوي على مكون
مادي مهم.
كذلك فإن جون ديوي وهو الركن الثاني في تكون البراجماتية وتطورها بعد
ويليام جيمس أو معه كان متأثراً في مطلع حياته الفكرية وإلى أواسطها بالفكر
المثالي الألماني وإن تخلى عنه تحت تأثير جيمس. وأياً كان الحال فقد طورت
البراجماتية الفكر التجريبي العلمي المادي الأوروبي النشأة، وجعلت منه الأساس
لمذهب يتجاوز نطاق الفكر الفلسفي المتخصص في مباحث علم المعرفة أو
الميتافيزيقا إلى المجالات الاجتماعية والسلوكية وميادين القيم والدوافع، وقبل كل
شيء الأخلاق.
ولعل الذي يصم البراجماتية بأنها مجرد مذهب يكرس نسبية الأخلاق والقيم
والانتقاء من القيم كما يناسب اللحظة أو الغرض أو الميل ينظر إلى المحصلة الذاتية
التي قد ينتهي إليها هذا المذهب دون أن يعبأ كثيراً بينابيعه الفكرية الكبرى؛ ولكنه
لا يخطئ كثيراً.
إن البراجماتية إذا لخصنا فكرها الجوهري ترفض ما تسميه بالمبادئ المطلقة
العامة، وترى أنها - في أهم ميدان فكري أو حياتي - جاءت نوعاً من الجمود
الذي لا يتفق مع المنهج التجريبي العلمي الذي حددته (بشكل مطلق كذلك!)
أفضل المناهج العقلية البشرية، وإذا كان المنهج التجريبي يقوم - كما يدل اسمه -
على التجربة والاختبار والتحقق باعتبارها وسائل وأدوات للوصول إلى المعرفة،
ويرفض الأفكار المسبقة ذات الطابع المطلق والعمومي باعتبارها مصادرة على
مرونة العقل ودقة المعرفة؛ فإن البراجماتية تتخذ من هذا المنهج ووفق هذا الفهم
نبراسها في وضع كافة المباحث الفلسفية الكبرى - كما أسلفنا - من علم المعرفة
والميتافيزيقا إلى الأخلاق والتعليم.
فالأفكار والقيم والمبادئ لا ينبغي أن تُعتَنَق بشكل مجرد وعمومي ومطلق
بمعزل عن واقع الحياة وممارستها (أي: المحك التجريبي العملي) وهذه الأفكار
والقيم والمبادئ التي يجب ألاَّ تكون منعزلة أو مفصولة عن واقع الحياة وممارساتها
ينبغي - وهذا هو ما يعنيه عدم الانفصال - أن تسهم في سيولة النشاط البشري
وتدفقه في سعيه الدائب والدائم إلى تحسين المعيشة (بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح)
وحل المشكلات وتذليل العقبات التي تحول دون تحقيق السعادة للمجتمع.
والواقع أن كُنه البراجماتية نجده في هذا المبدأ المادي العلماني القديم، وهذا
المبدأ مستمد من الفلسفات الوثنية (اليونانية) القديمة؛ لكنه عاد يهيمن على مباحث
علم النفس الحديث بعد انفصاله في أواخر القرن الماضي عن الفلسفة، واصطناعه
للمنهج العلمي التجريبي. والمبدأ بسيط للغاية؛ فهو ينظر إلى الوجود البشري
بمعزل عن أي وجود أوسع؛ أي بمعزل عن الألوهية ووحيها وسننها ولا يرى
سوى هذا الوجود البشري، كما يرى أن هدفه وسعيه ومغزاه إنما هو تحقيق السعادة
للبشر في هذا العالم (وليس في الآخرة التي هو في شك منها) سواء أكانوا أفراداً
أم جماعات، وسواء أكانت تلك السعادة كمّاً يقاس، أو كيفاً يذاق، وسواء أكانت
مادية خالصة أم مادية ونفسية معاً.
والسلوك البشري في سعيه لتحقيق تلك الغاية الكلية والغايات الفرعية الكثيرة
المؤدية إليها لا يسير في خط واحد سهل؛ بل يقابل المشاكل والعقبات التي يحاول
التغلب عليها، والمبادئ المطلقة أو الجامدة - في نظر البراجماتية - لا تساعد في
هذه العملية الحاكمة للسلوك البشري بل تعينها؛ لأنها تفقدها المرونة اللازمة،
والبديل عن هذه المبادئ أو القيم أو الأفكار الجامدة المعوقة (المطلقة المجردة)
والمنفصلة عن الواقع هو القيم والمبادئ والأفكار المجربة والمختبرة في نار الواقع؛
والصحيح منها هو ما أثبت الواقع والخبرة أنه يؤدي إلى النجاح؛ بمعنى: حل
المشكلات وتجاوز العوائق وصولاً إلى غايات السعادة البشرية.
أما الباطل والخاطئ فهو الذي يثبت الواقع والخبرة أنه لا يؤدي إلى النجاح
في ذلك، ومن هنا اشتهر عن البراجماتية أنها تحكم على الأفكار والقيم والمبادئ
بالصحة والبطلان لا بمعايير المنطق أو «الحق» .. إلخ؛ بل بمعايير النجاح أو
الإخفاق في تسهيل حركة السلوك البشري نحو غاية السعادة، ومن هنا كذلك اشتهر
عن البراجماتية اعتناقها للنسبية في القيم والأخلاق وسهولة التحول عن المبادئ لدى
معتنقيها دوراناً مع المصلحة كما يفهمونها بالمعنى المادي الدنيوي للسعادة.
والبراجماتية في جوهرها الذي عرضنا له هنا هي في الحقيقة التجسيد الحي
(أو أحد التجليات الكبرى) للفكر العلماني الغربي. إن القضية الحاسمة هنا هي أن
الوجود البشري يساس ويجري التفكير فيه في نطاق مغلق عن الله وسننه وأمره في
كونه، وما دام الوجود البشري قد عزل عن المصدر الإلهي فإن الباقي يصبح سهلاً
أو بالأصح: واضحاً وحتمياً؛ فالوجود البشري المعزول عن الله لن يفكر في آخرة
أو وحي أو شريعة إلهية تحدد له مساره، والهدف الأسمى سيكون هو السعادة
الدنيوية التي ستنحصر تعريفاتها المختلفة في المادة بدرجاتها. والقيم أو المبادئ أو
الشرائع المعتمدة في كل الميادين وأولها الأخلاق ستكون هي المؤدية بالسلوك
البشري بصورة أو بأخرى إلى الوصول لتلك الغاية الكبرى مروراً بالغايات الفرعية
وحلول المشاكل وتذليل العقبات.
وما دام الأمر كذلك فلا مجال للقيم المطلقة العامة التي تقول البراجماتية إنها
ترفعها لصالح النسبية؛ لأنها لا تنبع من الواقع ولا تساعد بالأوْلى على حل مشاكله
والوصول بالنشاط البشري إلى تحقيق السعادة؛ لكن «الواقع» يقول: إن
البراجماتية ترفض ما تسميه بالمبادئ المطلقة في علوم الميتافيزيقا والأخلاق؛ لأن
تلك المبادئ مستمدة من الأصول الدينية التي ترفضها (المسيحية) استناداً إلى
المنهج المادي المسمى بالتجريبي، أو العلمي الذي تعلي البراجماتية من شأنه.
قد تكون للبراجماتية أصول أوروبية رغم الزعم بأنها ذات أصول أمريكية
بحتة، وقد تكون لها دعاوى فكرية عالية المستوى تمثلت في طروحات فلسفية؛
لكنها عند التطبيق على مجال الأخلاق والسياسات والسلوكيات الاجتماعية - وهو
مجالها النهائي حسب تعريفها هي - نجدها ولَّدت لنا الاتجاهات النسبية الكبرى التي
زعزعت ميدان الأخلاق نفسه، وجعلت منه عبثاً بلا طائل؛ لأن القيم فيه متغيرة
تغير الواقع الذي يزداد تغيراً كل يوم مع تراكم التغيرات بشكل مطرد، ولا نبالغ
إذا قلنا: إن أدواءاً تعاني البشرية منها اليوم كثيراً في مجال القيم والأخلاق في كل
منحى من مناحي الحياة تعود في أصولها إلى سريان الفكر البراجماتي واستشرائه
في أفق التفكير الفلسفي المنعزل عن الحياة ليصبح هو الشريعة والقانون الذي يهدي
السلوك البشري ويحكمه، ولعلنا نضيف أن واسطة الانتقال من ذلك المجال إلى هذا
كان هو التعليم ومؤسساته.
ولعلنا نذكر أن أكبر مؤسسي الفكر البراجماتي (جون ديوي) كان له باع
كبير في ميدان التعليم، ووضع أسسه وسياساته في أمريكا ومنها إلى سائر دول
العالم بحكم التأثير الأمريكي المعروف والرغبة في تقليد الأقوياء على أمل الوصول
إلى قوتهم بالتقليد الأعمى، ولعل في ذلك ما يفسر لنا ما لاحظناه في العقود الأخيرة
من استماتة العلمانيين في البلاد الإسلامية في السيطرة على حقل التعليم في سعي
للوصول من خلاله إلى السيطرة على العقول بنشر فكرة العلمانية التي من أهم
أبوابها مبادئ نسبية القيم والأخلاق والأفكار.
ولعلنا كذلك نلاحظ في عبارة: «إن الفكر البراجماتي قد ظهر في بعضه
وفي آخر تجلياته في البلاد الإسلامية في الفكرة التي نسمعها كثيراً حول تطوير
الشريعة أو في مفهوم الاجتهاد الفقهي لا باعتبار ذلك أداة لبسط سلطان المبادئ
الشرعية على نواحي الحياة؛ بل أداة لهدم عمومية مبادئ الشريعة الإسلامية نفسها
وفرض النسبية والتغير العشوائي عليها، كما يؤدي في النهاية إلى إلغاء تلك
المبادئ ذاتها؛ وذلك كله تحت شعارات: مجاراة العصر، واللحاق بركب التقدم،
والتحلي بروح العلم، والتمشي مع الواقع» وكلها من الأفكار التي تنضح بروح
البراجماتية، وقبلها بروح العلمانية أو اللادينية.
ومن اللافت للنظر أن الفكرة العلمانية التي تريد بسط مفاهيم النسبية على
الجميع حتى الدين المقدس والمطلق بطبعه لا تفكر أبداً في أن تكون هي نفسها
نسبية أو بنت عصرها؛ لأنها جعلت من المنهج التجريبي - وهو اسم يدل على أنه
ليس مطلقاً - إلهاً مقدساً يُعبد!(152/128)
بأقلامهن
الحياء تاج المرأة
فاتن سعد الصويلح
للجرأة على اقتراف الذنب والمعصية عواقب ذُكرت في آيات كثيرة وأحاديث
وأقوال للعلماء. ومن عواقب الذنوب والمعاصي:
«أولاً: ضعف القلب عن حب الخير، وقوة إرادة المعصية.
ثانياً: حرمان العلم والمعرفة؛ لأن العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب؛
والمعصية تطفئ ذلك النور.
ثالثاً: نقص الأرزاق وذهاب بركتها ف» إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب
يصيبه «.
رابعاً: وحشة يجدها العاصي بينه وبين الخلق؛ بحيث ينفر منه مَنْ كان
يأنس به من قبل.
خامساً: حرمان دعوة الملائكة الذين يدعون بالخير للصالحين.
سادساً: أنها تنتج مثلها، وتثمر شبهها. بمعنى أن العبد إذا عمل معصية ولم
يبادر بالتوبة منها وقع في معصية أخرى ثم أخرى.
سابعاً: أن شؤمها يعم فاعلها وغيره من الخلائق حتى قال مجاهد رحمه الله:
» البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنةُ، وأمسك المطر تقول: هذا من شؤم
معاصي ابن آدم «.
ثامناً: أنها تذل فاعلها وتهينه؛ لأن العزة والشرف في طاعة الله عز وجل
فمن عظَّم أمر الله عظَّم الله قدره، ورفع شأنه، ومن خالف أمره أذله الله وأهانه.
تاسعاً: ظهور الفساد في البر والبحر، وحدوث الزلازل والأمراض
المهلكة» [1] .
الصبر والطمع في الثواب من الله:
لقد خلق الله الإنسان وهو يملك أشياء عديدة وغرائز متنوعة، خلقه وهو يملك
الإحساس، والمشاعر، ولكن لم يجعل هذه المشاعر والأحاسيس والعاطفة هكذا
دون حد أو ضابط وما من شك في أن لدى المرأة ميلاً فطرياً للرجل والعكس كذلك،
لكن هل يعني ذلك أن نترك هذا الميل على عواهنه مما يؤدي إلى انتشار الفساد؟
طريق آمن عرفه الصالحون:
دروب الحياة متفرقة، وساعات الراحة فيها معدودة، والسائر فيها يتلمس
خطواته حتى لا يقع في منحدر أو منزلق من المزالق «وطريق العفة والحياء
والستر طريق آمن عرفه الصالحون فلا تستوحشي الطريق يا أختاه؛ فأنت لستِ
الوحيدة التي سارت هذا الطريق وسلكته؛ فمن قبلك أناس كثيرون رجالاً ونساءاً قد
ساروا عليه؛ فلم تضرهم غربتهم ولم تزعجهم صيحات المثبطين، بل كانوا
مصابيح تنير ظلام الدنيا. عرفوا لذة الطاعة فلم يقارنوها بلذة ساعة كانت في
معصية الله. طهر وعفاف، ملؤوا قلوبهم بالإيمان، وعوَّدوا أنفسهم على طاعة
الرحمن، وشاركوا إخوانهم في كل ميدان.
لقد ذكر القرآن الكريم عفة يوسف عليه السلام ذلك الفتى الذي توفرت فيه كل
الشروط من شباب وحيوية وقوة، وفي مقابل ذلك امرأة العزيز: جمال، ومنصب،
وإغراء؛ فما الذي منع يوسف عليه السلام من تلبية الرغبة والجري وراء هوى
النفس وشهواتها؟ لقد كانت عفة يوسف عليه السلام عفة مستوفية كل شروطها
وأركانها، كانت من أعظم أمثلة العفة في تاريخ الإنسان. ففي يوسف الحيوية
والشباب والدافع القوي، وفي امرأة العزيز الإثارة بكل أبعادها، مع خلوة تامة،
وتهديد إن لم يستجب؛ ومع استيفاء كل هذه العوامل القوية تبرز فضيلة العفة في
يوسف عليه السلام فيضبط نفسه بصبر منقطع النظير، ويقاوم الدوافع والمغريات
بإصرار وعزيمة قوية ترفعاً عن السقوط، وطلباً لمرضاة الله، فينتصر خلقه
العظيم في معركة الدوافع والمغريات والتهديدات. وقد عرض القرآن قصة يوسف
أروع عرض يبرز قوة الإيمان عنده، وقوة الضبط الخلقي الذي جعله عليه السلام
يكف عما لا يحل له، ويعطي أروع أمثله العفة» [2] .
هذا نموذج ومثل من أعظم أمثلة العفة في تاريخ الإنسان. وها هي عائشة
بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها تقول: «نِعْمَ النساء نساء الأنصار لم
يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» [3] امتدحت فيهن حياءهن وحرصهن على
طلب العلم والتفقه فيه؛ كيف لا وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها واحدة ممن
شاركن في شتى العلوم والآداب؛ فهي «حاملة لواء العلم والعرفان في عصرها،
والنبراس المنير الذي يضيء على أهل العلم وطلابه؛ وكان يأتيها أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم يسألونها عن عويص العلم ومشكله فتجيبهم جواباً مشبعاً بروح
التروي والتحقيق مما لا يتسنى إلا لمن بلغ في العلم مقاماً علياً» [4] ، فهل منعها
هذا يا أُخية من الحياء والستر؟ لا والله! فقد كانت رضي الله عنها «شديدة الحياء
حتى كانت تدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وهي واضعة ثوبها وتقول: إنما زوجي وأبي. فلما دفن عمر بن الخطاب فكانت لا
تدخله إلا مشدودة عليها ثيابها حياءاً من عمر» [5] ، فليكن يا أُخية طريق السائرين
على الهدى طريقك ونور الإيمان ينير دربك، واقتفي أثر من قبلك ولا تستوحشي
الطريق؛ فلَكِ في نساء السلف الصالح أسوة وقدوة.
صلاح الأمة بصلاح أهلها:
«المرأة مدرسة وهي مربية الأجيال، فإن انهارت أخلاقها، وشذّ سلوكها
انهارت من ورائها الأمة وانحطت الأخلاق، وفسد المجتمع، وضاعت الفضائل،
وانحلت الأسرة، وعمَّت الفوضى، وانتشرت الفتن» [6] وما من شك في أن
مصدر انهيار الأخلاق وانهيار الأمة ناتج عن ضعف متولد من أفراد المجتمع؛
والمرأة جزء من ذلك المجتمع. لقد حول أعداء الإسلام المجتمع إلى ملهاة كبرى،
فإلى جانب جنون «الموضة» جنون الأزياء، وجنون الزينة (التبرج) أوجدوا
جنون وسائل الإعلام أرضيَّةً وفضائية وما فيها من اللهو العابث الذي لا يليق
بالبشر الأسوياء، ولا ينغمس فيها «إنسان» يعي حقيقة إنسانيته، ويدرك غاية
الوجود البشري في الأرض « [7] وماذا كانت النتيجة؟ تحطمت الأسرة إلا مَنْ
رحم الله، وبدأت الفتاة تنفر من حجابها وسترها، وأصبح سماع الشكوى من
الحجاب وأنه تخلف وتقييد شيئاً معلناً من بعضهن، وبدأت كذلك في البحث والتطلع
واختيار الصديق بحجة التعرف على العالم من حولها والتسلية مؤكدة أنها لا تتفوه أو
لن تتفوه بكلمة تزيل الحياء وتخدشه:» سُهى فتاة جامعية لا يفارق الجوال يدها،
تقول: لا أرى أي مانع أو حرج في التعرف على الثقافات من خلال أشخاص لا
أراهم ولا يرونني ولا يوجد أي احتمال لرؤيتهم، ولا أتحدث إلا في موضوعات
عامة، وقد يكون الطرف الآخر فتاة مثلي، وليس بالضرورة شاباً وإن كانت هناك
بعض المحاذير من الأهل خوفاً من فاتورة الهاتف؛ لكن كل شيء الآن أصبح
مفتوحاً من حولنا من فضائيات وإنترنت ووسائل اتصال. أليست هذه هي العولمة
للقرية الكونية؟ ! « [8] هكذا وبكل بساطة أصبحت بعض الفتيات المسلمات لا
يتحرجن من الحديث في بعض الأمور؛ و» إذا لم تستح فاصنع ما شئت « [9] .
وإلى جانب هذه الثغرة ثغرة أخرى تقويها وتدعمها: إنه ذلك الرجل الذي لا
يملك من معاني الرجولة إلا الشكل والمظهر، ذاك الذي حُرِمَ الغيرة على أهله؛
فهو لا يستقبح الذنب، ولا يبغضه، ويقر المنكر في أهله. لقد أصبحنا نراه
بأشكال متعددة إما مع امرأة سافرة متبرجة أو عليها مسمى الحجاب بكامل زينتها
يمازحها أمام الرجال بل يتعمد إضحاكها، وآخر يطلب منها أن تنزع حجابها؛ لأنها
في وسطٍ ينكر ما ترتديه، وآخر يشاركها في أماكن اللهو والعبث كالمراقص
والسينما؛ بل هناك من لا يتحرج في جلوس أهله إلى جانبه لمشاهدة منظر فاحش؛
فأين هذا من غيرة سعد بن عبادة؛ فعن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت
رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفِح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال:» تعجبون من غيرة سعد؛ والله! لأنا أغير منه، والله أغير مني،
ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر
من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من
الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة « [10] .
هكذا يا حبيبتي في الله أحدثنا في أمتنا ثغرة تلو ثغرة توهنها وتضعفها وترد
النصر عنها. ومتى يكون النصر لأمتنا؟ ! إنه لن يكون إلا بالرجوع إلى الله
وامتثال أمره واجتناب نهيه. إن العفة والحياء والستر متى وجدا في أمة كان لها
العزة والنصر. أليس الإسلام يدعو إلى ذلك؟ أليس صلاح الأمة بصلاح أهلها؟
إن صلاح المرأة واستقامتها سبب في صلاح الأمة التي يتحقق لها النصر
والتمكين من الله جل جلاله.
فلا تغترِّي بما لديك من علم، ولا تري نفسك بعيدة عن السقوط؛ فالقلوب
بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء، والغرور عامل من عوامل
الانتكاس والفتنة» لقد قال ابن مسعود رضي الله عنه كلمة تحمل معاني عظيمة
لمن تدبرها وفقه معناها: «اقتدوا بمن مات؛ فإن الأحياء لا تؤمَنُ عليهم الفتنة»
فانظر إلى أي مدى كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يضمن أحدهم الاستمرار
على هذا الطريق، وكيف أن الواحد منهم لا يرى الاقتداء بالأحياء؛ لأنهم ليسوا
بمنأى عن الفتن « [11] عليكِ بالصبر والمجاهدة وترويض النفس على الطاعة
ومخالفة هواها» واعلمي أن رياضة النفس أصعب من رياضة الأُسْد؛ لأن الأُسْد
إذا سُجنت في البيوت التي تتخذها الملوك أُمن شرها، والنفس وإن سجنت لم يؤمَن
شرها « [12] ؛ لأن النفس إن لم تَعْتَدِ الحياءَ والستر والعفة كانت قنبلة تجلب الدمار،
وتخرب الديار، وتحول كل شيء جميل إلى شيء بشع يمثل الخسة والدناءة وكل
ما ينافي أطيب الأخلاق وأجملها.
احرصي على تعميق العاطفة الدينية والإيمان بالله لما لها من دور في ردع
النفس ومحاسبتها؛ فإن الشباب مجموعة من الغرائز المتحفزة والعواطف المشبوبة
والمشاعر الملتهبة، وإن هذه المجموعة أشبه بقوة أسدية إن لم نحسن توجيهها
وتهذيبها انقلبت بغياً وعدواناً، ولا يمكن تهذيب هذه الغرائز الملتهبة للوثوب
والجموح إلا بتركيز العاطفة الدينية، وتوطيد الوازع الخلقي؛ فعلماء النفس
وزعماء الإصلاح والاجتماع يقررون أن العاطفة الدينية إذا انغرست في نفس
الشباب كانت خير موجه لغرائزه وأفضل ملطف لحدة عواطفه [13] ، ومن الأمثلة
على الإيمان وأهميته في النفس وأنه يدفع الإنسان إلى عدم الوقوع في الحرام قصة
مرثد مع عناق ف» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال:
كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة حتى
يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له في
الجاهلية وأنه وعد رجلاً من أسارى مكة بحمله وقال: فجاءت (عناق) ،
فأبصرت سواد رجل تحت حائط؛ فلما انتهت إليَّ عرفتني، فقالت: مرثد؟ فقلت:
مرثد، فقالت: مرحباً وأهلاً، هَلُمَّ بِتْ عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق، حرم
الله الزنا « [14] فها هو إيمان مرثد لم يجرَّه إلى ارتكاب الحرام رغم وجود الفرصة،
ورغم أنه كان يحبها حباً شديداً؛ ولكن كان للإيمان دور في صدره وعدم وقوعه
فيما حرم الله.
فلا تغفلي عن الدعاء؛ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز
وجل بهذا الدعاء:» اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى « [15] وكثيراً
ما يقول:» اللهم ثبِّت قلبي على دينك « [16] .
لا تهملي جانب التربية الإيمانية التي لها دور في حياة المرأة المسلمة وحفظها
من الفتن المتعددة الأشكال، وتشمل: ذكر الله عز وجل وقراءة الكتب، والحرص
على طلب العلم والاستزادة منه وإيصاله للآخرين، وتعويد النفس على الصبر
والصيام وقيام الليل، ومحاسبة النفس على التقصير، والاهتمام بشخصيتك وبشغل
أوقات فراغك بما يلائمك من أنشطة متعددة كالقراءة وتعلُّم الحاسب الآلي والمشاركة
بكتابة مقال أو أبيات شعرية مفيدة، وما إلى ذلك من الأعمال النافعة المفيدة.
لا تسمعي لتلك الدعاوى الكاذبة التي تقول إن الحياء جبن، والستر تشدد
وإخفاء للعيوب، والعفة كمن يشرب الماء المالح فلا يرتوي منه» لقد شاع في
وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور،
والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة شاع أن كل
هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد
النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون.
شاع هذا على أثر بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه
التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين!
وبخاصة نظرية فرُويْد. رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود
الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية ما يكذبها وينقضها من الأساس. نعم!
شاهدت في البلدان التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي،
بكل صوره وأشكاله أن هذا لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها! إنما
انتهى إلى سُعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ
والاندفاع « [17] .
محاولة تطبيق العفة الحياء الستر وفرضه على الواقع بغضِّ البصر؛ لأن
غض البصر يوجِدُ في القلب حلاوة ولذة، وبستر العورات والبعد عن مثيرات
الفتنة ودواعيها من غناء وكشف للعورات وخضوع في القول مع الرجال، وبتعويد
الصغار على الحشمة والتستر وغض البصر عما حرمه الله، ولا نكذب على أنفسنا
مدعين بحجج واهية كالقول: إن طفلتي لا زالت صغيرة ولا داعي أن اتعبها وهي
في هذا السن.
على الداعيات إلى الله أن يكثرن من الحديث في مثل هذه الموضوعات
وفروعها، وكيف عالج القرآن والسنة هذا الباب. عن أبي أمامة» قال: إن فتى
شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل
القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ، فقال: ادنُهْ فدنا قريباً، فجلس. قال: أتحبه
لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم،
قال: أتحبه لابنتك؟ قال: لا؛ والله! يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال:
ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا؛ والله! جعلني الله
فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله!
جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فرفع يده عليه، وقال:
اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى
شيء « [18] .
ولا تنسي أختي الداعية أن الإنسان لا بد أن يمر في ساعات غفلة يحتاج إلى
من يذكِّره، وهنا يأتي دورك في التذكير وإيجاد الحلول، وذكر القصص المؤثرة
ودور الصحبة في ذلك، وتعويد المدعوات على أطيب الأخلاق ومشاركتهن حتى
تكون الداعية قريبة إلى النفوس.
__________
(1) طريقة المتقين، عبد الرحمن الأنصاري، 2/127 باختصار.
(2) الأخلاق، الميداني، 2/ 562.
(3) مسلم، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة مسك في موضع الدم، 1/261، البخاري، كتاب العلم، باب الحياء من العلم، 1/228، سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الاغتسال من الحيض، 1/85، سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب في الحائض كيف تغتسل، 1/210، مسند الإمام أحمد، 6/148.
(4) أعلام النساء، 3/104، 125.
(5) أعلام النساء، 3/104، 125.
(6) المناهج البهية بتصرف، 1/352.
(7) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، 96.
(8) مجلة الأسرة، العدد 70، محرم، 1420هـ.
(9) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، رقم الحديث 3484، 6/515، كتاب الأدب، باب إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، 10/523، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، باب الحياء، 2/1400، سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الحياء، 4/ 252، مسند الإمام أحمد، 4/121، 122.
(10) غير مصفح، وهو بكسر الفاء، أي غير ضارب بصفح السيف وهو جانبه، بل اضربه بحده، البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:» لا شخص أغير من الله «، فتح الباري، 13/399، مسلم، كتاب اللعان، رقم الحديث (17 1499) ، 2/1136.
(11) من أخبار المتنسكين، صالح العصيمي، 13.
(12) الأخلاق والسير في مداواة النفس، 73.
(13) الموسوعة الشربصية، الشرباصي، 5/339.
(14) الترمذي، عارضة الأحوذي بشرح الترمذي أبواب تفسير القرآن سورة النور، 11/42.
(15) مسلم: كتاب الذكر، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، حديث 72 4/ 2087، الترمذي، عارضة الأحوذي، كتاب الدعاء، سؤال الله الهدى والتقى والعفاف والغنى، 13 /26، ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، 2/1260، مسند الإمام أحمد، 1/400، 437.
(16) الترمذي، العارضة، كتاب الدعاء، دعاؤه إذا كان عند أم سلمة، 130/ 48، ابن ماجة، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، 2/1200، المسند، 3/112، 257، 4 / 182.
(17) أمريكا من الداخل، سيد قطب، صلاح الخالدي، ص 174.
(18) مسند الإمام أحمد، 5/256.(152/132)
المنتدى
هم العدو
عبد الله التميمي
سألتُ أحد العامة في معرض حديثنا عن فتن هذا الزمان: هل يوجد منافقون
في هذا العصر؟ فأجاب بأنه لا يوجد، بل كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
ثم ذهبوا بذهابه! فقلت: وما يدريك؟ فقال: إنا لا نسمع الآن عنهم شيئاً.
إن هذا النموذج الذي يمثل جزءاً من عامة الناس يترك أمراً مهماً غاية
الأهمية، ويغفل عن قضية من أخطر القضايا. فهو ينام في أحضان عدوه ويظنه
أمه، ويطعنه العدو من خلفه ويظنه أخاه يمازحه، ويعتقد أنه لا يوجد منافقون.
ولا غرابة! فإنه قلَّما يسمع عن المنافقين في مجتمعاتنا وعن أساليبهم هذا إن سُمُّوا
منافقين فهو إن سمع يسمع أخباراً عن العلمانيين أو الحداثيين أو غيرهم دون أن
يدرك أن هؤلاء هم المنافقون.
لقد حذر الله في كتابه العزيز أفضل خلقه وأتقاهم وأعلمهم حذَّره من المنافقين
وأخبره بأنهم هم الأعداء الحقيقيون، فقد قال تعالى: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ
اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) يقول الشيخ السعدي رحمه الله: «فهؤلاء هم
العدو على الحقيقة؛ لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو الذي لا يُشعَر به،
وهو مخادع ماكر، يزعم أنه وليُّ وهو العدو المبين» [تفسير السعدي، ص
801] فالمنافقون هم الخطر الأكبر على الأمة؛ إذ إنهم يكونون في وسط الصف
يدسُّون فيه السم، وينفثون فيه نار الفتنة دون أن يشعر بهم أحد؛ ولأن طبيعتهم
الخوف والذعر فإنهم لا يستطيعون مواجهة المجتمع بشكل مباشر وبارز، بل
يعتمدون على المكر والخديعة وإشعال نار الفتنة بين الثلة المؤمنة حتى يزعزعوا
قوتهم وهيمنتهم فيعتلُوا بعد ذلك ويتولوا المناصب، وهم لا يستطيعون أن يواجهوا
الإسلام بشكل عام والصحوة بشكل خاص مواجهة رجل لرجل، بل دائماً يحاولون
أن يتخفوا حتى إذا وجدوا أهل الصحوة قد غفلوا عنهم خرجوا وأفسدوا ما
يستطيعون ثم يرجعون عندما يسمعون صيحة المنذر: [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ]
(المنافقون: 4) .
فهم كالفئران تماماً، تجدهم في جحورهم ما دام الناس موجودين وأهل
الصحوة منتبهين؛ فإذا ذهبوا وغفلوا أخرجت الفئران أنوفها المنتنة ورؤوسها
الخاوية لتتحسس: هل هناك من أحد؟ هل هناك من دعاة يقفون لهم بالمرصاد؟
فإذا شعرت بأمان المكان وخلو الساحة خرجت فأفسدت ما تستطيع، وبثت سمومها
في كل مكان تسير عليه، ثم سرعان ما تعود إلى جحورها خاسئة عندما يرجع
الناس ويفيق الدعاة لهم ولمكرهم.
والمجتمع يكره المنافقين ويعاديهم؛ لأن الله كرههم وذكر نصوصاً كثيرة في
سبِّهم وفضحهم وتبيين أخلاقهم السيئة وأعمالهم المفسدة، لذلك تجد المجتمع يحذِّر
منهم غاية الحذر ويقابلهم بالشدة كما حدث مع عمر رضي الله عنه في أكثر من
حادثة (دعني أضرب عنق هذا المنافق) وغيره من الصحابة كخالد وسعد
وغيرهم.
فما أن يسمع المجتمع كلمة منافق حتى تجده يكره ويعادي ويحذر من نُعِتَ
بهذه الصفة أعاذنا الله وإياكم من النفاق وأهله أما إذا سمع عن العلمانيين أو غيرهم
فتجده لا يكرههم ولا يعاديهم مثل كرهه وعداوته للمنافقين لا لشيء إلا لأنه لم يطلق
عليهم لقب المنافقين، وتجد أن عامة الناس لا يدركون أن هؤلاء العلمانيين وغيرهم
هم المنافقون وهم المفسدون أحفاد عبد الله بن أبيِّ بن سلول وغيره ممن سار على
نهجه.
لذلك فإني أتوجه إلى العلماء والدعاة وطلبة العلم أن يحذِّروا الناس من النفاق
وأهله، ويبينوا للناس أساليبهم كما كان نهج القرآن مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأن يسموا العلمانيين والحداثيين وغيرهم ممن سار على شاكلتهم بالمنافقين
مع الأخذ بالاعتبار عدم إطلاقها على المعيَّن حتى يتلقاهم المجتمع بحزم وحذر أكثر،
ويكرههم غاية الكراهية، وعندما يقرأ المسلم مواقفهم في سورة آل عمران أو
النساء أو الأنفال أو التوبة أو الحشر أو المنافقون أو غيرها يُنزِل هذه الآيات على
الواقع ويدرك خطورة الأمر وبذلك يكسب أهلُ الصحوةِ المجتمعَ تلك القوةَ الضاربة
في مواجهة أولئك الفئران (المنافقين) دون تعب أو عقد محاضرات وكتابة مقالات؛
إذ المجتمع جاهز لمعاداة هؤلاء ومحاربتهم ما داموا منافقين.
أسأل الله أن يكفي المسلمين شر المنافقين، وأن يفضحهم بين العالمين، وأن
يرد كيدهم في نحورهم ويريح المسلمين منهم.(152/138)
المنتدى
دعي الناس!
خالد بن محمد المنصور
دعي الناسَ تستلهمُ الأنكدا ... من التيه، واستقبلي المسجدا
دعيهم على سكرات الهيام ... إلى من أزاحوا الدنا هجَّدا
سرى الناسُ بالناس في كل صوب ... ولم يحسموا في السرى مقصدا
ولستِ وإن جرّعوك الأماني ... وإن حبسوا الزاد والموردا
تحابين غيرَ البشيرِ المفدّى ... إمامِ الهدى للورى أحمدا
ولا تجزعي يا نصير المآسي ... فما آفة السيف أن يغمدا
وفارسه اليوم أضحى وحيداً ... يبارز أعداءه أوحدا
فلا المغرياتُ تكف أذاها ... ولا العاصماتُ تمدُ يدا
ينادي: النجادَ النجادَ، ولكن ... تلاشى ولم يستجيبوا الندا
ينامون والعار ملءُ المآقي ... وقد أفسد البغي ما أفسدا
عبيداً تواروا عن الفاجعات ... وذا يستطيب الردى سيدا
هو الباتر المستزيد سعاراً ... بإغماده النار لن تخمدا
هو الفارس المستعيد حنيناً ... لتلك الفتوحات لو جددا
به أمل أن يرى الصبح يأتي ... قريباً غدا يرقب الموعدا
وأن تبعث الأرض فرسان ثأرٍ ... وأسيافه الحمرَ كي تعضدا
فلا غائر منك إلا تسامى ... ولا شارد عنك إلا اهتدى(152/139)
المنتدى
على أطلال المجد
صلاح بن عبد الله بن هندي
على المذلة غنّى اليوم حادينا ... «لم يبق شيءٌ من الدنيا بأيدينا» [1]
بالأمس كُنَّا ملوك الأرض قاطبةً ... لم نعرف الذُّلَّ حتى ذلّ شانينا
نسعى إلى المجد لا نرضى به بدلاً ... فلا الخطوبُ عن الأمجاد تُثنينا
نسابق الريح بالأجياد نركبها ... إذا تقهقر علجٌ من أعادينا
ونُرخِصُ الروح يوم الروع في جذل ... نيلُ الشهادةِ من أسمى أمانينا
الله أكبر في أسماعنا نغمٌ ... نهفو إليه على شوقٍ مُلبِّينا
إذا تلألأ نجمُ الليل تبصرنا ... نرتل الذكر أو نخلو مصلينا
نعم عشقنا ولكن عشق حنظلة الـ ... غسيل لا عشق قيس وابن زيدونا
إن هام قومٌ بأنغام موقَّعة ... نهيمُ نحن بـ (طه) أو بـ (ياسينا)
لقد بكينا على أطلال عزتنا ... ما نَذْكُرُ المجدَ إلا في مراثينا
فليت شعري! هل جَفَّتْ منابعنا ... أم أننا اليوم لا نهفو لماضينا؟
__________
(1) شطر البيت لشاعر النيل: حافظ إبراهيم، من قصيدته «حسرة على فائت» .(152/139)
المنتدى
أعراض قساوة القلوب واسودادها
عمر الرماش
إن مرض قساوة القلوب له أعراض ومظاهر كثيرة، ولعل أهمها شعور
الإنسان بقسوة قلبه وخشونته حتى ليحس أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يتأثر
بشيء ولا يرق لشيء، وليس في قولنا هذا مبالغة ولا تهويل؛ فقد أثبت القرآن
الكريم أن القلب يقسو حتى يصبح كالحجارة أو أشد. يقول الله تعالى: [ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] (البقرة: 74) .
وفيما يلي بعض أهم أعراض الصدأ ومظاهره أو الضعف اللذين يصيبان
القلوب:
- انحباس الطبع وضيق الصدر والتضجر من لا شيء، والشعور بالقلق
والضيق بالناس، وعدم المبالاة بما يصيبهم من نكبات ومصائب، بل والشعور
بكرههم.
- عدم التأثر بآيات القرآن الكريم، ولا بوعيده وتخويفه، ولا في طلبه ونهيه،
ولا في وصفه ليوم القيامة وأهواله الكثيرة والمخيفة.
- عدم التأثر بحوادث الحياة ومصائبها ولا اعتبار الدروس والعبر
واستخلاصها كالمرض والموت والآيات الكونية والزلازل والفيضانات.
- الشغف بملذات الدنيا وشهواتها وحظوظها: كالمال والجاه والمنصب
والسكن واللباس، والإحساس بالألم والحسد والكراهية عند رؤية الآخرين ينعمون
بشهوات الدنيا المتعددة والمتنوعة.
- الشعور بظلمة الروح التي تنعكس على الوجه والتي لا يحس بها إلا
أصحاب الفراسة الإيمانية.
- إتيان المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها، وعدم الإسراع بالتوبة والندم
والإقلاع عن الذنب والقيام بالأعمال الصالحة والنافعة.
- التكاسل عن القيام بأعمال الخير والإحسان وبالواجبات الدينية كالصلاة
وأدائها في أوقاتها مع الجماعة بالمسجد مصداقاً لقول الله تعالى: [وَإِذَا قَامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى] (النساء: 142) .
- عدم تعظيم الله والخوف منه، وعدم ذكره باللسان والجوارح، وهجر
القرآن الكريم والسنة النبوية.(152/140)
المنتدى
المعلم
ناجي صالح علوي
صغها من النور البهي حروفا ... واختر أعاجيب الزهور قطوفا
أمعلمَ الأجيال جوهر عيشهم ... ما زلتُ فيك محيَّراً مشغوفا
فلأنت أكرم من يُجَلُّ مقامه ... ولأنت سر المعجزات صنوفا
أنت الحضارة والسعادة والوفا ... أنت الحياة بجمعها موصوفا
أنت الطبيب وأنت جندي الحمى ... أنت المرابط في الحدود وقوفا
فانهض بجيلك للعلا نحو السما ... كن مخلصاً وأباً نراه رؤوفا
إن المعلم فكر أمته فإن ... أعماه أعمى بالمئات ألوفا
ولئن مضى سبل السلام لشعبه ... يبني الوفاء ويصنع المعروفا
يا أيها المتجاهلون لفضله ... مهلاً فقد أخطأتم التصنيفا
هو شمس ليلكم المضيئة في الدجى ... جعل الطريق بنوره مكشوفا
فالعلم كم أرسى بناءاً شاهقاً ... قد كان يوماً ساقطاً منسوفا
والفضل للرحمن ثم معلم ... أجلى الظلام وبصَّر المكفوفا
ذاك الذي بات الليالي ساهراً ... يعطيك زهر حياته مقطوفا(152/140)
المنتدى
أصلي وفصلي
أحمد بن مسفر بن معجب
كثيرٌ من الأمم والقبائل والشعوب تفتخرُ بأنسابها وأحسابها وتتباهى بأجذامها،
ويعدُّون ذلك شرفاً لرفعتهم وفخراً سمَا بهم. ولا ضير في أن يتعلم المسلمُ نَسَبَهُ
ليكون عوناً له على صلة رحمه، وقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإنَّ صِلة الرحم محبةٌ في الأهل،
مثراةٌ في المال، منسأةٌ في الأثر» [1] .
فالأصل واحد، والنفوس متشابهة:
النَّاس من جهة التمثيل أكفاءُ ... أبوهمُ آدمُ والأمُّ حَواءُ
نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مُشاكَلةٌ ... وأعظُمٌ خُلقت فيهم وأعضاءُ
فإن يكن لهم من أصلهم حسبٌ ... يُفاخرون به فالطين والماءُ
والمسلم الحصيف يستطيع أن يجعل من الأنساب مدرسةً يتعلم منها النافع:
- يتعلم من نسبه ما يصلُ به رحمه كما في الحديث المتقدِّم.
- يجعل من نسبه مجالاً للتعارف والتعاون امتثالاً لقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ] (الحجرات: 13) .
- يعلم عِلم اليقين أنَّ نسب العبد يوم القيامة عند الله لا يُساوي شيئاً: [وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ] (سبأ: 37) فبلال وسلمان
وصُهيب رضي الله عنهم أكرم عند الله من أبي جهل وأمية بن خلف وشيبة
وربيعة! [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ] (المؤمنون:
101) .
«كل نَسبٍ وصِهرٍ ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» [2] .
روت عبدة بنت خالد بن مَعْدان الحمصي [3] رحمه الله تعالى: «قلَّما كان
خالد يأوي إلى فراش مقيله إلا وهو يذكر شَوقهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يُسَمِّيهم ويقول: هم أصلي وفصلي،
وإليهم يحنُّ قلبي، طال شوقي إليهم، فعجِّل رب قبضي إليك، حتى يغلبه النوم
وهو في بعضِ ذلك» [4] .
هل يعي معلمو أبنائنا هذه المعاني فيغرسوا في نفوس النشء حب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحب صحابته رضي الله عنهم ويعملوا بسنته وسنة خلفائه
الراشدين المهديين؟
ورحم الله «ابن الوردي» القائل:
لا تقُلْ أصلي وفصلي أبداً ... إنَّما أهلُ الفتى ما قد حَصَلْ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
__________
(1) حديث صحيح: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 1/570.
(2) حديث صحيح: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/838.
(3) تابعي، ثقة، اشتهر بالعبادة، أصله من اليمن، وإقامته بحمص، توفي عام (104هـ) .
(4) تهذيب الكمال، 8/171، وحلية الأولياء، 5/210.(152/141)
المنتدى
أطروحة شريد
علي بن حسن بن علي الرديني
ناء عن الأنظار أقلقه السهر وبريق طلعته تضاءل في السحر
ولمحت في عينيه أعماق الأسى وبراءة النظرات بالغة الأثر
فتحركت فيه الحياة متمتماً ومردداً نفساً طويلاً واكفهر
ويقول حزني في الوجود على السوا غاب السرور عن المحيا أو حضر
أنا أشتكي جرحاً بليغاً في الحشا وجراح قلبي بات رسماً في النظر
سالت جراحي والسهام تغلغلت نحو الفؤاد تريد أسرار المقر
فطُعنتُ في لُبِّ الفؤاد بطعنة ما زال يتلوها الزمان على البشر
أنا بالجراح أمد كل قريحة قامت تنادي أن خطباً قد حضر
أنا بالجراح أصيح في قومي فلا صوت يرد ولا مجيب ينتظر
أنا بالجراح أدور في قومي فلا صوت يرد سوى جريح يحتضر
أنا بالجراح أدين ذئباً قد عدا أنا بالجراح أدق ناقوس الخطر
أنا قد مللت الصمت يطبق مرعباً فلفرط وجدي صرت أَهْذِي: ما الخبر؟
ألأنني ناءٍ وبيتي قد هوى وديار أهلي قد تقاسمها الضرر؟
يا قومنا عذراً فإن سلب العدا مني الكلام فنبض قلبي ما استقر
أنا بالحياة ونبض قلبي قد أرى أملاً بفجر لاح في خلدي ومر
إن البلاء وإن تقادم في دمي ودهى بلادي لن يطول به المقر(152/142)
المنتدى
ردود
*الأخ: حمود أحمد الحمود: أرسل ملاحظة حول نشر مقال: الرد على
الرفاعي، للشيخ صالح الفوزان. والمأخذ الذي يذكره أن المقال نشر في مطبوعة
أخرى تحت عنوان آخر، ويقول: إن هذا مخالف لما هو متعارف عليه في قواعد
النشر، ونشكر الأخ على هذه الملاحظة، ونفيده بأن المقال جاءنا من قِبَل الشيخ
صالح الفوزان، ولم نعلم بنشره في مكان آخر، وجزاكم الله خيراً.
*الأخ: عبد الباري أحمد العطار: مقالتك: «حول مفحص التاريخ»
أجيزت للنشر؛ أما المقالة الأخرى فغير مجازة.
*الإخوة والأخوات: محمد جلال، محمد مهاوش الظفيري، علي جبريل
أمين، سلطان عبد الله الشهري، أسيد عبد الرحمن الأثيري، سالم الرزيق، أمل
القصيمي: نشكر لكم تواصلكم الكريم مع المجلة، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة
للنشر.
* الإخوة والأخوات: جابر بن راشد الفهيد، عبد الحميد بن مسفر الغامدي،
فهد علي العبودي، علي بن محمد الزنيدي، سعود الصاعدي، عبد الوهاب حسين
الأمير، محمد العشري، خالد بن أحمد الشاجري، سهيلة بنت محمد: وصلتنا
مشاركاتكم، وسوف تعدُّ للنشر في المنتدى بمشيئة الله تعالى.
*الإخوة والأخوات: د. عبد المنعم علي السيد، عبد الله بن عواض الألمعي،
جمعية دار الأرقم، عبد الله بن راضي المعيدي، عبد الله الحميدي، أبو عبد الله
الرحابي، العنود بنت عبد الله، محمد الباشا، عبد الكريم عايد الشمري، حسن
سالم عبد الله، عبد العزيز الصالح، منصور الزعيبي، طلال الراجح المالكي،
عمر الرماش: سعدنا بتواصلكم الكريم ونتمنى دوام التواصل، مع تمنياتنا بالتوفيق
في مرات قادمة.(152/142)
الورقة الأخيرة
المطلوب: إسكات المرتزقة
د. محمد البشر [*]
الأمة تشقى أو تسعد بكُتَّابها.. والأقلام الناصحة التي تهتم بالقضايا لا
الأشخاص لا تكتب لتقتات من مداد القلم.. بل إن الفكرة لتعتلج في صدر صاحبها
حتى تخرج من بين أضلعه صادقة، ناصحة، ناضجة، سوية، تحمل رسالة
وترمي إلى غاية، وعندئذ يكون صاحبها أبعد من أن يوصف بالمرتزق، أو
المتسلق، أو السمسار الذي يمتطي صهوة القلم ليثير به نقع التبعية في مزاد الفكر
والمساومة على القيم والمبادئ.
وإن مما يشي ببوادر إفلاس النخب العربية وبخاصة في كتاباتها الصحفية
اهتمامها بالكتابة عن «الذوات» وتهميشها لـ «القضايا» حباً في الحضور
والتقرب والارتزاق، وطَفَتْ على صفحات الرأي وأعمدة الصحف «الكلمة المنافقة
بكل تفسخها.. المداهنة المداجية.. المادحة الغاشة بكل عفنها، وأرغمت أقلامها
على الولوغ في المداد القذر.. وجرت ألسنتها إلى الوقوع في» شرنقة المناسبات
والتزلف والمدح المستدعي لحشو التراب «.
فمن هؤلاء الكتبة من هو مرتزق بالأصالة، ومنهم المرتزق بالاحتراف،
وأعلاهم مرتبة في هذا السياق الذميم من جمع بين السوأتين، أما الأول فسوأته
جِبِلَّةٌ فُطِر عليها، وهم قلة ميئوس منهم، وأما الآخر فسواده الأكثر، وأثره الأخطر؛
ذلك أنهم يخادعون الأمة بهيئاتهم، أو بألقابهم، أو بمناصبهم، أو بغير ذلك أو
بجميعه.
ومكمن الداء عندما يرتفع صرير الأقلام وينتثر مدادها للكتابة عن» الذوات «
في المجتمع أن تَغِيب أو تُغَيَّب الأولويات.. وتُهمَّش القضايا الجادة؛ إذ الصحافة
ليست منبراً للسِّيَر الشخصية التي تأتي في غير سياقها الصحيح، أو بما ينعكس
على قضية تهمُّ فئة أو شريحة في المجتمع. ومن شأن ذلك أيضاً أن يفقد الرأي
العام ثقته ومصداقيته في مجهودٍ كان ينبغي أن يستثمر لبناء فكر، أو تشييد حضارة،
أو تقويم واقع.
ليس ذلك تعميماً يصدر على إطلاقه؛ فهناك الكثير من الأقلام الجادة
والرصينة التي تشرق بالأمل وتبعث الطمأنينة، ولكننا لا نريد أن يتسلل إلى
مجموعها من يخرم القاعدة أو ينحرف عن المسير. وإنما يقال ذلك ومثله معه
ابتغاء الارتقاء بالمهنة، والمحافظة على التصور السليم للأشياء.
إنها دعوة للقيِّمين على الصحف العربية وهي مرآة الأمة ألاَّ تدع أبوابها
مُشْرَعة لتسوُّل النخب، وتوظيف أقلامها لبناء الذوات، أو المتاجرة بالفكر على
حساب القضايا، فللصحافة رسالتها، وللتسول أبوابه.
__________
(*) أستاذ في قسم الإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.(152/143)
جمادى الأولى - 1421هـ
أغسطس - 2000م
(السنة: 15)(153/)
كلمة صغيرة
مفتي في الرئاسة!
تستحق واقعة تعيين مفتي الشيشان السابق أحمد قادروف في رئاسة الجمهورية
الشيشانية أكثر من وقفة تأمل لاستخلاص العبر والدروس.
فالرجل عيَّنه بوتين والكرملين بعد المذابح والخراب الذي أحدثوه بمسلمي
الشيشان، فماذا ينتظر من ذلك الرئيس الجديد: هل سيسير سيرة أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما أم أنه سينفذ ما يفتي به بوتين ويشرعه الكرملين؟ ! ولماذا أُتي به
رغم علمانية الدولة ونصرانية حكامها؟ لا شك أن أسياد الكرملين ما أتوا به إلا لأنه
أصلح من يساعدهم على تنفيذ مخططاتهم في هذه البلاد، وهنا تظهر انتهازية
العلمانيين بكل وضوح؛ فهم رغم فصلهم الحاد بين الدين والسياسة لا يمانعون في
استغلال (رجال الدين) مطية لصالح هذه السياسة، وهو ما يحدث في بلاد أخرى
كثيرة، فيكون الهدف هو أن يصبح الدين خادماً للسياسة مع رفضهم القاطع لعكس
ذلك!
وهم في هذه الخطوة يرومون إعطاء شرعية شعبية لما يقومون به بوضع
واجهة دينية لسلطتهم في الشيشان، وأيضاً إحداث انقسام بين قطاعات الشعب
الشيشاني الذي يرى أحد أصحاب العمائم متعاوناً مع الشيوعيين السابقين، وربما
يصل الانقسام إلى فصائل المجاهدين أنفسهم، هكذا يأمل حكام موسكو.
وإذا كان سماحة المفتي! لم ينتبه إلى الحكم الشرعي للدخول في ولاية الكفار
والمساعدة على تثبيت حكمهم في بلاد المسلمين فإنه لم ينتبه أيضاً إلى أنهم سوف
يلقون به ويأتون بآخر في أقرب فرصة بعدما يستنفد أغراضه ويرون أن المطية قد
بليت وآن أوان التخلص منها، وحينها سيلقونه في مزبلة التاريخ. نسأل الله
العافية!(153/1)
الافتتاحية
حقيقة الولائم المنتنة
وحرية الفكر المزعومة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإنه من الملاحظ في السنوات الأخيرة ظهور أعمال أدبية وبخاصة في فن
الرواية والقصص قام مؤلفوها بتضمينها فكرهم المادي وتوجهاتهم الشعوبية في
قوالب لا تخلو من المشاهد الإباحية، ويزيد الطين بلة أن يأتي هذا النسق الرديء
في كثير من الأحيان محتوياً التهجم على الإسلام وقيمه وأخلاقياته ورموزه؛ فمن
«آيات شيطانية» لسلمان رشدي إلى «مسافة في عقل رجل» لوحيد حامد،
وأخيراً إلى «وليمة لأعشاب البحر» للمدعو حيدر حيدر، وقد أثارت هذه
الروايات الساقطة ردود أفعال شديدة من الرأي العام المسلم تمثَّلَ في نقدها والدعوة
لمصادرتها ... إلى غير ذلك مما جعل كُتَّابها محل سخط الشعوب المسلمة
ومقتها.
ولم يتخذ أي إجراء صارم حيال تلك التجاوزات بدعوى أنها أعمال إبداعية
فنية؛ ولذلك توالت أمثال تلك الأعمال المسفة، بل تجرأ بعضهم على إعادة نشر
روايات مصادرة رسمياً كما فعلت مجلة (القاهرة) من نشر فصول من رواية
(أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، وما قام به المشرف الثقافي لصحيفة الجمهورية
اليمنية في تعز من نشر رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) للروائي الشيوعي اليمني
الهالك «محمد عبد الولي» والتي سماها أحدهم: «وليمة يمنية صغيرة» لمجيئها
بعد تداعيات ومتابعات رواية حيدر حيدر [انظر: جريدة الحياة، الصادرة في 14/
3/1421هـ] .
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يدفع بعض الكتاب والقصاصين إلى
مهاجمة الإسلام والسخرية من تعاليمه في أعمالهم الأدبية في دول إسلامية تدين
بالإسلام، وتحتوي دساتيرها على معاقبة كل من يتهجم على دين الأمة؟ لا شك في
أن دافعهم في استمرائهم هذا العبث هو عدم معاقبة من يقوم بمثله بما يستحقه،
وكذلك ما استقرَّ في أذهانهم من أن الحرية للأديب مكفولة ليقول ما يقول؛ وهذه
مقولة خاطئة وتصور منحرف للحرية؛ فالحرية ينبغي أن تمارس لكن ليس على
حساب المبادئ والقيم؛ ولذا يلزم مصادرة حرية الأديب متى انحرف وضل ليبقى
للمجتمع توازنه واستقامته؛ فانضباط الفرد ضمان لحريته وصون لكرامته، وهذا
ليس مصادرة للحرية بقدر ما هو تهذيب للحرية وتسديد لطريقها [1] .
لكننا نفاجأ أن هذه الدساتير والقائمين عليها يقفون بغير مبالاة أمام هذه الأعمال ويصمتون صمت القبور حيال تلك المخالفات بالدعوى ذاتها أن الحرية في هذه
الدساتير مكفولة للجميع؛ بينما لو تجرأ كاتب أو قاصٌّ سواء في مقالة أو قصة أو
رواية بالإساءة للنظام القائم والحط منه أو حتى الإساءة لحكومة صديقة للنظام حينها
يستيقظون من نومهم ويعلنون الطوارئ، وتصدر الأحكام بالإيقاف والسجن
والمساءلة والمصادرة لتجاوز نظام المطبوعات! !
فهل أصبح الإسلام وتعاليمه وقيمه وحريته في مرتبة دنيا حينما يُمَسُّ،
ويصبح للنظام الموضوع وواضعيه مكانة يجب ألا تمس؟ فأين الثرى من الثريا؟!
بل أين الغيرة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين؟ وأين الغضب لله الذي هو
عنوان الإيمان حينما يساء للإسلام وقيمه ورموزه في مثل تلك الأعمال المشبوهة؟
إن الإعلام العربي في جل الدول العربية علماني الاتجاه يسوسه نفر من
متطرفي العلمانية الذين يذهبون مذهب الآداب الأجنبية شرقية أو غربية، ويسير
على إثرهم المستغربون من العلمانيين والشعوبيين الذين يتبنون الدعوة لتحرير
الأدب من الطابع الأخلاقي ودفعه إلى تصوير الغرائز والأهواء باسم حرية الأدب
المعروفة بـ (الفن للفن) ، والتي أنشأت صراعاً مريراً بين الدين والفن؛ ومردُّ
ذلك اعتبارهم الفنَّ نوعاً من التعبير مقطوع الصلة بكاتبه؛ فلا عبرة لديهم
بالموضوع في حد ذاته وإنما العبرة بتقنيات التعبير؛ فالأدب عندهم لا حَجْرَ عليه
من تصوير ما يشاؤون من المشاعر والأحاسيس ولو خرج في ذلك على الدين والقيم
والأخلاق.
ومن هنا فلا عجب أن يتجرأ هؤلاء الكتاب والقصاصون ويتمادوا في
انحرافاتهم وزيفهم، والنقاد العلمانيون يحوطونهم من ورائهم، يمجدون أعمالهم
ويثنون عليها بدعوى أنها قمة الإبداع الفني والفكري، وأن من يرفضها إنما هم
متخلفون وظلاميون. ومن أشهر النقاد في هذا الباب المدعو (جابر عصفور) وهو
أحد متطرفي العلمانية العربية وأحد منظِّريها الذين يشنون الحملات الكاذبة والظالمة
على التيارات الإسلامية مدَّعين أن ما يكتبه العلمانيون ما هو إلا تنوير وإبداع لا
يصح بحال محاكمته أو تحريمه أو مصادرته.
والأعجب أن يكون هناك تلاميذ لـ (جابر عصفور) ومدرسته في الاحتفاء
بتلك الأعمال المشبوهة مثل: «وليمة أعشاب البحر» فهذا كاتب يقول عن هذه
الرواية بأنها: «عمل باسق، وكاتبها قلعة شامخة ومترسخة في فضاءات السرد
العربية» . [انظر: جريدة البلاد، الصادرة في 23/2/1421هـ] .
ويقول الآخر عمن هاجم تلك الرواية ناقداً لهم بأنهم: «يستندون في نقدهم
لما هو منشور عنها في الصحف والمجلات والفضائيات بما في ذلك بيان الأزهر،
وأن هذا مع أهميته لا يكفي للحكم على عمل أدبي» . [انظر: الرياض، الصادرة
في 9/3/1421هـ] فإلى متى يدافَع عن هذا الإجرام بحق الإسلام بدعاوى تافهة
ورديئة؟
ورواية حيدر حيدر كما يبدو تصوير لحال كاتبها؛ حيث سجل فيها جزءاً من
إخفاقه السياسي بالعراق؛ ففي نهاية الخمسينيات نكب الشيوعيون بالعراق، وكان
معهم؛ إذ كان مقيماً آنئذٍ في العراق؛ حيث تفرقوا شذر مذر في كثير من البلدان
العربية، وكان نصيبه أن ذهب للجزائر، وكان يظن أنه سيكون شيئاً مذكوراً،
لكنه أخفق، وهذا الإحباط جعله يصور نفسيته تلك والتي كان يسب ويشتم فيها
المبادئ والقيم الإلهية بأسلوب إلحادي لا يستغرَب من منحرف عقدياً وفكرياً،
والرواية بمضمونها أنموذج للأدب المنحرف والفكر الضال، والدفاع عنها أسلوب
لتمجيد التيارات المعادية للإسلام يلزم فضحه وتعريته.
لكن ما لم يقله النقد المهاجم لهذه الرواية أن كاتبها (حيدر حيدر) هو كاتب
باطني والشيء من معدنه لا يستغرب.
والغريب أن فيها لمزاً وسخرية من الأنظمة السياسية؛ فكيف يفوت ذلك على
الرقيب الذي يبدو أن همه شيء آخر معروف للجميع، والأعجب في المسألة أن
تغار الدول الكافرة على دينها وقيمها وأخلاقها وتصادر أي عمل أدبي يتضمن المس
بشيء من تلك القيم كما حصل مؤخراً من مصادرة الصين الوثنية لرواية جنسية
اعتبرتها المؤسسة الحاكمة تهديداً للأخلاقيات [انظر: القدس العربي، الصادر في 9/2/1421هـ] .
وفي فرنسا صودرت رواية (بادية فرنسا) بسبب ما قيل فيها من عبارات
مهينة لليهود ولمعاداتها للسامية [انظر: المدينة، العدد الصادر في 4/3/1421هـ،
في مقالة (د. محمد خضر عريف) ] .
فهل يكون الوثنيون والنصارى أكثر غيرة منا نحن المسلمين على القيم
والأخلاق والمبادئ؟ ولماذا يترك للعلمانيين الغلاة والفرق الضالة الإساءة لديننا
ونحن نتجاهل ذلك بدعاوى ساذجة ومزاعم متهالكة؟ !
إننا باسم الإسلام ندعو إلى إيقاف ذلك المد الإلحادي المتوالي المسيء لديننا
وقيمنا والذي بلغ إلى حد ادعاء النبوة من بعض المهووسين أمثال (صلاح بريقع)
ومهاجمة الإسلام بشكل جلي من بعض الشاذين فكرياً مثل المدعو (محسن صالح)
بمصر، وندعو في الوقت نفسه إلى تطبيق شرع الله في أولئك المفترين؛ فقد حكم
القرآن الكريم في أحد المنافقين المستهزئ بالصحابة حينما قال: «ما أرى قرَّاءنا
هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسِنة، وأجبننا عند اللقاء» ولما رُفِعَ ذلك
للرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد ارتحل وركب ناقته، فقال هذا المنافق
للرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن الكريم: [إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ] (التوبة: 65) فقال صلى الله عليه وسلم: [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] (التوبة: 65-66)
[انظر: تفسير ابن كثير للآيات] .
ولذا أجمع علماء الإسلام قديماً وحديثاً أن من يفتري على الله ورسوله فهو
مرتد قبل توبته كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (الصارم المسلول
على شاتم الرسول) .
هذا هو حكم الإسلام الذي إن أُعْمِلَ فلن يجرؤ بعده أي منحرف أو ملحد على
المساس بآيات الله وشعائر الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ !
والله المستعان.
__________
(1) الالتزام الإسلامي في الشعر، د ناصر بن عبد الرحمن الخنين.(153/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإجماع عند المفسرين
العناية به ودواعيه وأسباب مخالفته
لدى بعض المفسرين
محمد بن عبد العزيز الخضيري
الإجماع أصل من أصول الشريعة، وهو في الوقت ذاته ظاهرة واضحة في
كتب التفسير اختلفت مشارب المفسرين حيالها اختلافاً بيِّناً تبعاً للاختلاف العقدي في
كثير من الأحيان، أو تبعاً لمنهجية المفسر ودقته في تحرير المسائل وذكر الدلائل،
وفي هذه المقالة ذكر لبعض جوانب هذا الأصل في كتب التفسير بعيداً عن الساحة
المعتادة لدراسة الإجماع، وهي كتب الأصول أو الفقه، كما أن فيها تجلية لأهم
دوافع الفِرَق الضالة في خرق إجماعات السلف، واستحداث إجماعات مخالفة لما
كانت عليه القرون المفضلة في أبواب الاعتقاد والعمل.
عناية المفسرين بالإجماع:
عُني المفسرون بذكر المسائل المجمَع عليها في كل موطن استدعى ذكر
الإجماع، أو أُثِرَ فيه إجماع، في شتى العلوم الإسلامية: عقيدةً، وفقهاً، وأصولاً،
وتفسيراً، ولغةً، وتاريخاً.
ويكاد ألاَّ يوجد هذا المقدار الكبير بهذا التنوع في كتب أيٍّ من الفنون
الإسلامية، مما يؤهِّل كُتُبَ التفسير لأن تكون من أهم مصادر المسائل المجمع عليها
في الشريعة، وما ذاك إلا لكون القرآن الكريم هو مدار جميع علوم الإسلام.
ولشدة عناية المفسرين بالإجماع فإنهم قلَّ أن يطَّلعوا على إجماع في مصدر
من المصادر التي يعتمدونها في تفاسيرهم إلا ويقوم المفسِّر بنقل ذلك الإجماع
للاستدلال به؛ لعلمه بعظم هذا الأصل، وقوة حجيته.
ومن أظهر الشواهد على ذلك: الإجماعات التي يحكيها ابن عطية رحمه الله
مما تجد معظمها قد نقلها القرطبي وأبو حيان رحمهما الله في تفسيريهما؛ لكونهما
اعتمدا تفسير ابن عطية، وضمنا كتابيهما معظم ما فيه؛ لجلالته، وقوة نظر مؤلفه،
وتحريره للأقوال. وابن عطية يعتمد غالباً فيما يحكيه من الإجماع والخلاف على
تفسير الطبري، وقلَّ أن يخالفه في شيء من ذلك.
وكذلك الشوكاني في تفسيره ينقل كثيراً من الإجماعات من تفسير القرطبي؛
لأنه اعتمد تفسير القرطبي، ولخصه في كتابه، وما يقال عن الشوكاني يقال عن
صدِّيق حسن خان في تفسيره «فتح البيان» ؛ فإنه قد ضمنه خلاصة «فتح
القدير» .
وجملة من إجماعات الإمام الطبري قد اعتنى ابن كثير بنقلها في تفسيره.
ولم تكن عنايةُ المفسرين مقصورةً على حكايته ونقله، بل عنوا أيضاً بمناقشته
والاعتراض عليه من جهة، أو تأييده بالأدلة من جهة أخرى.
فأما مناقشة الإجماع والاعتراض عليه فقد تكون إبطالاً بالكُلية، وقد تكون
استدراكاً وتقويماً.
فمن أمثلة الأول: وهو إبطالُه بالكلية:
1 - ما ذكره القرطبي: من أنه لا خلاف بين العلماء على أن المراد
بالخليفة: آدم، في قوله تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً] (البقرة: 30) ، وقد تعقبه ابن كثير بذكر الاختلاف في المراد، ورجح
القول الآخر في المسألة.
2 - ما ذكره ابن عطية من أن السلوى: طير بالإجماع. وقد تعقبه القرطبي
والآلوسي وغيرهما بذكر القول الآخر في تفسير السلوى، وهو العسل.
ومن أمثلة الثاني: وهو الاستدراك على الإجماع وتقويمه: ما حكاه الطبري
من الاختلاف في المراد بحاضري المسجد الحرام، فقال محرراً موضوع النزاع:
«اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله: [ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ
الحَرَامِ] (البقرة: 196) ، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به،
وأنه لا متعة لهم» فقد استدرك عليه ابن عطية ذلك، فقال: «واختلف الناس في
[حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ] (البقرة: 196) بعد الإجماع على أهل مكة وما
اتصل بها. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال..» ثم
بيَّن الدلالة على ذلك.
وقد تكون المناقشة في الإجماع على نحو مُغَاير لما تقدم؛ حيث يكون
الاعتراض على مخالف الإجماع، وبيان سقوط قوله، ومجافاته للصواب. ومن
أمثلة ذلك:
ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن القَسَم في قوله تعالى: [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] (الحجر: 72) ، إنما هو بحياة محمد صلى الله عليه وسلم،
وخالف الزمخشري ذلك مدعياً بأن القسم إنما هو بحياة لوط عليه الصلاة والسلام
فانبرى له ابن القيم والآلوسي بالرد والنقض.
دواعي ذكر الإجماع عند المفسرين:
لقد كان النصيبُ الأوفر من مسائل الإجماع الكثيرة المبثوثة في كتب التفسير
لآيات الأحكام.
أما الإجماع المتصل بتفسير القرآن الكريم فإن المفسرين لم ينصوا عليه في
جميع موارده التي وقع فيها إجماع في القرآن الكريم، وسبب ذلك عائد في نظري
إلى كثرتها إلى الحد الذي يصعب معه حصرها، ويضاف إلى ذلك: أن المرويات
في التفسير كثيرة قد يعزُّ على المصنف في التفسير الإحاطة بها فضلاً عما دخل تلك
المرويات من ضعف وقلة تمحيص، ولذلك فإنهم يكادون ألاَّ يذكروا الإجماع في
تفسير لفظ، أو تحديد معنى معين إلا لسبب يدعوهم لذكره.
ومن أهم تلك الدواعي والأسباب ما يلي:
السبب الأول: وجودُ الاشتراك في المعنى: بحيث يرد في الآية لفظ مشترك
بين معنيين فأكثر، وقد يتسع السياق لحمل المشترك على أيٍّ من معانيه، لكن يقوم
دليل على قصر المشترك على أحد تلك المعاني، ويُجْمِع العلماء عليه.
ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى: [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] (البقرة: 231) ، فإن «البلوغ» لفظ مشترك يطلق في
اللغة على المقاربة وعلى الانتهاء. وقد أجمع العلماء على حمل البلوغ هنا على
المقاربة؛ لأنه إذا انتهى أجل المطلقة وانقضت عِدَّتُها فلا يَدَ لزوجها عليها؛ وقد دل
لذلك أدلة كثيرة ليس هذا موضعَ بيانها. وهذا بخلاف معنى «البلوغ» في الآية
التي تليها، وهي قوله تعالى: [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن
يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ] (البقرة: 232) ، فإن معنى
«البلوغ» هنا: هو الانتهاء، وذلك لكون المعنى يضطر إليه، والسياق يدل
عليه، هذا فضلاً عن أدلة أخرى، من أهمها: سبب نزول الآية.
السبب الثاني: تحريرُ محل النزاع في الآية: وهذا كثير عند المفسرين،
وذلك أنهم حينما يذكرون الخلاف في تفسير لفظ أو في معنى يبدؤون أولاً بذكر ما
أجمع المفسرون عليه تحريراً لمحل النزاع، وقد يكون ما ذكروه من الإجماع أمراً
واضحاً لا إشكال فيه، لكن دعا إلى ذكره بيانُ المحلِّ المتنازع فيه. ومن أكثر
المفسرين ذكراً للإجماع لهذا السبب الإمامان: الطبري، وابن عطية رحمهما الله.
ومن أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]
(البقرة: 53) ، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بـ «الكتاب» : هو
التوراة، وهذا إجماع لا يُشك فيه، بل ولا يُحتاجُ لذكره لبداهته لولا أن الذي دعاهم لذكره هو الاختلاف الواقع في المراد بالفرقان، حيث اختلف المفسرون فيها على خمسة أقوال.
السبب الثالث: الرد على المخالفين:
فقد كثرت دعاوى الفرق المنحرفة في الاحتجاج على بدعهم وضلالاتهم
بالقرآن الكريم، فانبرى العلماء لرد احتجاجهم بسقوط تلك الدعاوى، وبيان أن
تفسيرهم للآيات على الوجه الذي ذكروه مخالف لإجماع السلف الذين هم أدرى
بالتنزيل، وأعرف بلغة العرب، وأبعد عن الأهواء، وأسلم من الزيغ، وإجماعهم
سابق على وجود من بعدهم، سواء قيل: إنهم أجمعوا على قول معين، أو قيل:
إنهم اختلفوا على قولين أو أكثر، وخلافهم عليها إجماع منهم على عدم الزيادة عليها، كما تقدم تقريره.
ومن أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99) حيث
حكى العلماءُ الإجماعَ على أن المراد باليقين: الموت. رداً على غلاة الصوفية
الذين زعموا أن اليقين منزلةٌ من بلغها سقطت عنه العبادة.
وهذا أحد الأسباب التي تستدعي حكاية الإجماع في كل زمن بحسبه؛ بحيث
يقوم العلماء برد مقالة كل ضال متقوِّل في القرآن برأيه أو هواه، مُفسِّر له على
غير تنزيله وتأويله الذي أطبق عليه السلف، مبينين مجافاة ذلك القول لإجماع
السلف.
السبب الرابع: ذكر الإجماع على تفسير آية للاحتجاج به في ترجيح قول
على قول في تفسير آية أخرى. وذلك عندما يذكر المفسرون الخلاف في تفسير آية، فإنهم يستعينون في الترجيح بين الأقوال على جملة من المرجحات، ومن أهمها:
ورود إجماع في آية لها علاقة بالآية المختلف فيها، وأكثر المفسرين استعمالاً لهذا
الإمام الطبري رحمه الله.
ومن أمثلة ذلك:
1 - لما ذكر رحمه الله الخلافَ بين المفسرين في اليوم الذي عنى الله
تعالى بقوله: [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]
(آل عمران: 121) ، فقيل: المراد به غزوة أحد، وقيل: بل عنى يومَ
الأحزاب، وقيل: بل عنى يومَ بدر. ثم رجح الطبريُّ أن المعنيَّ بها يوم أحد،
وقال معللاً ترجيحه لهذا القول بأن «الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها:
[إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا] (آل عمران: 122) ، ولا خلاف بين أهل
التأويل: أنه عُني بالطائفتين بنو سَلِمة وبنو الحارثة، ولا خلاف بين أهل السِّيَر
والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر الله من أمرهما
إنما كان يوم أُحُدٍ دون يوم الأحزاب» علماً بأنه لم يذكر الإجماع على ذلك
عندما فسر قوله: [إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا] (آل عمران: 122) .
ولأجل هذا السبب غالباً ما تجد الإجماع في تفسير الآية في غير مظنته، مما
يعني ضرورةَ جمعِ ما حكى المفسرون الإجماع عليه في تفاسيرهم، ليوضع في
مَظِنته، تسهيلاً لمراجعته.
السبب الخامس: دفع توهم معنى فاسد:
اعتنى المفسرون رحمهم الله في تفسيرهم للقرآن بدفع ما يتوهم من المعاني
الباطلة التي قد تقع في أذهان بعض الناس لسبب من الأسباب، وقد يحكون الإجماع
في تفسير الآية؛ لأجل دفع ذلك الوهم الفاسد.
ومن أمثلة ذلك:
1 - ما ذكره المفسرون عند قوله تعالى: [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] (البقرة: 34) ؛ حيث ذكروا
أن السجود لآدم لا يراد به سجودُ التعبد إجماعاً، قال الرازي: «أجمع المسلمون
على أن ذلك السجود ليس سجودَ عبادة» .
2 - ما ذكره ابن عطية من إجماع المفسرين على أن السجود الواردَ في قوله
تعالى: [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً] (يوسف: 100) ، كان
سجودَ تحيةٍ لا عبادة.
السبب السادس: مخالفة تأويل الآية للظاهر أو الغالب في الاستعمال:
ومن أمثلة ذلك:
1 - ما ذكره المفسرون من الإجماع على أن المراد بقوله تعالى: [فَاقْتُلُواْ
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ] (البقرة: 54) ، هو الأمر بأن يقتلَ بعضهم
بعضاً؛ وذلك لأن ظاهر الأمر في الآية دالٌّ على أن كل واحد يقتل نفسه بيده؛ بيد
أن المراد هو أن يقتل بعضهم بعضاً، لكنه نُزِّل منزلة النفس، لبيان شدة الاتصال
وكمال القرب.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً]
(النساء: 29) ، وقوله جل ذكره: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ] (الحجرات: 11) .
السبب السابع: ألا يرد في ألفاظ الآية ما يدل على المراد بها صراحة، مما
لا يتم معناها إلا به، فيحتاج المفسر إلى التصريح بالإجماع على ذلك المراد لقطع
احتمال غيره.
ومن أمثلته:
ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن القيام المذكور في قوله تعالى:
[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ]
(البقرة: 275) ، إنما هو في يوم القيامة.
وقريب منه: أن يذكر الإجماع على إلحاق ما لم يذكر في الآية لقوة الصلة،
وانعدام الفرق بين المذكور والمحذوف.
ومن أمثلته:
1 - ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن شَحْمَ الخِنزير داخل في عموم
تحريم لحمه المذكور في قوله تعالى: [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ]
(البقرة: 173) .
اختلاف التنوع والإجماع:
أكثر الخلاف الوارد في التفسير بين مفسري السلف هو من باب اختلاف
التنوع.
وقد قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أحسن تقرير فقال: «الخلافُ بين
السلف في التفسير قليلٌ، وخلافهم في الأحكام أكثرُ من خلافهم في التفسير، وغالب
ما يصح عنهم من الخلاف: يرجع إلى اختلاف تنوع، لا إلى اختلاف تضاد» [1] .
وقال الشاطبي رحمه الله: «من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو
ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم
التنبيه عليه.
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف، وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك
في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب
أقوالاً مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة [2] كالمعنى
الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل
فلا يصحُّ نقلُ الخلافِ فيها عنه، وهكذا يتفق في شرح السنة، وكذلك في فتاوى
الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه؛ فإنَّ نقل الخلاف
في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوِفاق في موضع الخلافِ لا
يصح» [3] .
إذا تقرر هذا فإن الحديث عن أثر اختلاف التنوع على الإجماع يدعو إلى
معرفة أقسام اختلاف التنوع بين المفسرين [4] ، وهي على النحو الآتي:
الأول: اختلاف في اللفظ دون المعنى، وهذا لا تأثير له في تفسير الآية.
ومن أمثلته: ما ذكره المفسرون من الاختلاف في تفسير كلمة «قضى» من قوله
تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] (الإسراء: 23) ، فقال ابن عباس:
[وَقَضَى] (الإسراء: 23) : أمر. وقال مجاهد: [وَقَضَى] (الإسراء:
23) : وصَّى. وفسَّرها الربيع بن أنس بـ «أوجب» . وهذه التفسيرات معناها
واحد أو متقارب، فلا تأثير لهذا الاختلاف في معنى الآية.
الثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد
بينهما، فتُحْمَل الآية عليهما وتفسر بهما، ويكون الجمع بين هذا الاختلاف أن كل
واحد من القولين ذُكِرَ على وجه التمثيل لما تعنيه الآية أو التنويع، وهذا يشمل
نوعين:
أوّلهما: ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «أن يعبر كلُّ واحد منهم
عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمَّى غير المعنى الآخر
مع اتحاد المسمَّى» [5] كتفسيرهم: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] (الفاتحة: 6) ،
بالقرآن، وبالإسلام، وبالسنة والجماعة.
ثانيهما: أن يذكر كل واحد منهم من الاسم بعض أنواعه على سبيل المثال؛
كتفسيرهم: [ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ] (فاطر: 32) [6] . بالذي يؤخِّر العصرَ إلى
الاصفرار، أو بآكل الربا، أو مانع الزكاة، و [مُّقْتَصِدٌ] (فاطر: 32) : بالذي
يُصلِّي في أثناء الوقت، أو الذي يؤتي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا،
و [سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ] (فاطر: 32) : بالذي يصلي في أول الوقت، أو
بالمُحسن بأداء الواجبات مع المستحبات، وبالمتصدق مع إخراجه
الزكاة [7] .
وبناءاً على هذا التقسيم يمكن الإجابة عن أثر اختلاف التنوع في الإجماع بأن
يقال:
أما القسم الأول: فإنه لا أثر للاختلاف فيه على حكاية الإجماع؛ لأن اختلاف
الألفاظ في التعبير عن المعنى المراد أمرٌ معهود، بل لا يكاد يُسْلَم منه، وإذا كان
المقصود من التفسير هو الوصول إلى المعنى فإن اختلاف اللفظ في التعبير عنه لا
يضرُّ قطعاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن الأقوال الموجودة عنهم (أي السلف)
ويجعلها بعض الناس اختلافاً أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن
الترادف في اللغة قليل. وأما في ألفاظ القرآن فإما نادرٌ وإما معدومٌ، وقَلَّ أن
يعبروا عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه،
وهذا من أسباب إعجاز القرآن» [8] .
ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن عطية في قوله تعالى: [وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً] (المائدة: 12) ؛ حيث حكى الإجماع
على أن النقيب «هو كبيرُ القوم القائم بأمورهم التي ينقِّب عنها وعن مصالحهم
فيها» .
وقد فسره الحسن بأنه: الضمين، وفسره قتاده بأنه: الشاهد، وفسره الربيع
بن أنس بأنه: الأمين، قال ابن عطية بعد ذكر هذه الأقوال: «وهذا كله قريب
بعضه من بعض» ، وقال ابن الجوزي: «وهذه الأقوال تتقارب» .
أما القسم الثاني بنوعيه: فإن الخلاف أيضاً لا يؤثر على حكاية الإجماع؛
لأن الأقوال متفقة على المعنى، فإذا حُكيَ الإجماع على نحو تجتمع فيه الأقوال،
وليس فيه إلغاءٌ لأحدها، فإن الإجماع صحيح، ولا يُنتَقض أو يُعترض عليه بمثل
هذا الاختلاف.
قال ابن جُزي رحمه الله مبيناً أقسام اختلاف التنوع:
الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، فهذا عَدَّهُ كثير من المؤلفين
خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولاً واحداً، وعبرنا
عنه بأحد عبارات المتقدمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها.
الثاني: اختلاف في التمثيل، لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس
مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العام الذي تندرج تلك
الأمثلة تحت عمومه؛ فهذا عدَّه كثير من المؤلفين خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعده نحن خلافاً؛ بل عبرنا عنه
بعبارة عامة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع
التنبيه على العموم المقصود « [9] .
ومن الشواهد على ذلك الخلاف: ما ذكره المفسرون في تفسير (المحروم)
في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] (المعارج:
24-25) ، قال ابن عطية:» واختلف الناس في (المحروم) اختلافاً هو عندي
تخليط من المتأخرين؛ إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في تلك العبارات
على جهة المَثُلات، فجعلها المتأخرون أقوالاً «وذكر جملة من أقوالهم ثم قال:
» والمعنى الجامع لهذه الأقوال: أنه الذي لا مال له، لحرمان أصحابه « [10] .
هذا إذا حُكي الإجماع على قول يجمع بين الأقوال، أما إذا حُكِي الإجماع على
أحد تلك الأقوال، فإن حكايته على هذا النحو قد تكون إلغاءاً للأقوال الأخرى؛ لذا
فإنه يُستفصلُ عند حكاية الإجماع: هل المراد به أن يكون القول الذي حُكِيَ الإجماعُ
عليه هو أحدُ ما يراد بالآية وتفسر به، أو هو المراد وحده مع نَفْي ما عداه؟
فإن كان الثاني فإن حكاية الإجماع لا تصح؛ لوجود الخلاف، وإن كان الأول
فلا يقال بأنه صحيح بإطلاقٍ لوجود الاحتمال، وإن كان الغالب الصحة.
ومن أمثلته:
ما ذكره الماوردي في تفسير (الحق) من قوله تعالى: [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ] (ق: 5) ؛ حيث ذكر أن المراد به:» القرآن في
قول الجميع «، وقد وَرَدَ عن المفسرين في الآية ستة أقوال أخرى، فقيل: الإسلام،
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: البعث، وقيل: هو ضد الباطل،
وقيل غير ذلك.
وعليه فقولُ الماوردي:» إنه القرآن في قول الجميع «، إن كان مرادُه أن
الجميع لا يقولون إلا بهذا، فهذا لا يُسَلَّمُ له، وإن كان مراده أن التكذيب بأيِّ واحد
من هذه الأمور المذكورة فسيؤول إلى التكذيب بالقرآن، أو كان مراده أن التكذيب
بالقرآن يعني التكذيب بها؛ لأنه جامع لجميع هذه الأمور، فهذا صحيح لا شك فيه.
الأسباب التي توقع المفسر في مخالفة الإجماع:
أكثرُ من رأيتُهُ ينقل خلافَ المأثور عن سلف الأمة هم متأخرو المفسرين،
وخصوصاً أهلَ البدع في العقائد منهم كالمعتزلة وسائِر فرق المبتدعة؛ ولذلك
أسباب عدة أكتفي بالإشارة إلى أهمها:
الأول: ضعفُ عنايتهم بآثار السلف وإجماعِهم وخلافِهم، وعدمُ التمييز بين
صحيح الروايات الواردة عنهم وضعيفها، فإذا نقلوا فإنهم يروون الغرائب
والضعاف والمناكير التي لا توجد في الكتب المعتمدة من كتب التفسير بالمأثور،
والتي تُعْنَى بنقل أقوال السلف، وتحرير ألفاظهم وعباراتهم. قال ابن الحاجب:
» وكانوا يعني المعتزلة من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين « [11] ؛
ولذلك تراهم ينقلون الخلاف فيما أجمع عليه السلف، وينقلون الإجماع فيما اختلفوا
فيه، وقد يكون للسلف في تفسير الآية قولان، وهذا كما تقدم إجماع منهم على عدم
جواز الزيادة، فيأتي هؤلاء بأقوال أخرى، فيخرقون الإجماع.
ولشيخ الإسلام تحريرٌ بالغُ الأهمية لهذه القضية؛ حيث قرر أن معرفة أقوال
السلف وأعمالِهم، خيرٌ وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم، فقال:
» ومعرفةُ إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين، خيرٌ وأنفعُ من معرفة ما يذكر
من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا
تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلبُ الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم
بخطأ قولٍ من أقوالهم حتى يعرفَ دلالة الكتاب والسنة على خلافه « [12] .
» وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتَهم وسلوكَ سبيلهم، ولا لهم خبرة
بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون
طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف،
فهؤلاء تجد عُمدتَهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من
الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوالَ السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا
سائرها؛ فتارة يحلُّون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف
المتأخرين ... وتارة عرفوا بعض أقوال السلف يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون
ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم، وهم إذا
ذكروا إجماعَ المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع؛ فإنه لو أمكن العلم بإجماع
المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف؛ فكيف إذا كان
المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النزاع، بخلاف السلف؛ فإنه يمكن
العلم بإجماعهم كثيراً « [13] .
الثاني: كونُهم يعتقدون أشياءَ باطلة ثم يحملون القرآن عليها، ولو كان
مخالفاً لما أجمع عليه السلف، فيقعون في المخالفة اتباعاً لبدعتهم، وتحكيماً لهواهم.
يقول الشاطبي:» وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب
والسنة، يحمِّلونهما مذاهبهم، ويُغَبِّرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظنون أنهم على
شيء؛ فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأَقْوَمُ في العلم ...
والعمل « [14] .
الثالث: تفسير القرآن بمجرد اللغة، من غير نظر إلى المتكلِّم بالقرآن،
والمُنَزَّلِ عليه، والمخاطَب به.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذين السببين أعنى الثاني والثالث هما
أكثرُ ما يُوقع من يفسر بالرأي والنظر في الخطأ في تفسير كتاب الله؛ لأن الأوَّلِين
راعَوُا المعنى الذي رأوه، من غير نظرٍ إلى ما تستحق ألفاظ القرآن من الدلالة
والبيان، والآخرين راعَوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يُراد به في لسان العرب،
دون أن ينظروا إلى ما يصلح للمتكلم به، ولسياق الكلام [15] .
ثم بين رحمه الله أن الأوَّلين تارة يسلبون لفظَ القرآن ما دلَّ عليه وأُريد به،
وتارةً يَحْمِلونه على ما لم يدلَّ عليه ولم يُرَد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما
قصدوا نفيَه أو إثباته من المعنى باطلاً؛ فيكون خطؤُهم في الدليل والمدلول؛ وذلك
مثلُ كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، ممن يفسرون القرآن بمعان
صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها [16] .
قال رحمه الله:» فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل
البدع اعتقدوا مذهباً يخالف الحقَّ الذي عليه الأمةُ الوسَط الذين لا يجتمعون على
ضلالةٍ كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، تارة
يستدلون بآيات على مذهبهم، ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يُخالف مذهبهم بما
يحرفون به الكلمَ عن مواضعه. ومن هؤلاء فرقُ الخوارج والروافض والجهمية
والمعتزلة والقدرية والمُرجئة، وغيرهم. وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم
الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم « [17] .
ثم قال:» والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظَ القرآن عليه
وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا
في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر
من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين:
- تارة من العلم بفساد قولهم.
- وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن، إما دليلاً على قولهم، أو جواباً
على المعارض لهم.
ومن هؤلاء من يكون حَسَن العبارة فصيحاً، ويدسُّ البِدَعَ في كلامه، وأكثر
الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يَرُوج على خَلْق كثير ممن
لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وقد رأيت من العلماء المفسرين
من يذكر في كتابه من تفسيرهم ما يوافق أصولَهم التي يَعْلَم أو يعتقد فسادها، ولا
يهتدي لذلك، ثم إنه لسبب تطرُّف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم
الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغُ من ذلك، وتفاقَمَ الأمر في الفلاسفة
والقرامطة والرافضة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالِمُ منها عجَبَه « [18] .
والحاصل: أن من أعظم أسباب وقوع الاختلاف: البدع المضلة» التي
دَعَتْ أهلها إلى أن حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه، وفسَّروا كلام الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم بغير ما أُريد به، وتأوَّلُوه على غير تأويله؛ فمن أصول العلم بذلك: أن
يعلم الإنسان القول الذي خالفوه، وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف
تفسيرهم، وأن يعرفَ أن تفسيرهم محدَثٌ مبتدَع، ثم أن يعرف بالطرق المُفصَّلة
فسادَ تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق « [19] .
وإذا كان منشأُ الخلافِ هو البدعَ المضلَّة، واتباع الأهواء فإنه لا اعتداد
بمخالفة من خالف لهذه العلة، قال الخبَّازي:» ولا يعتبرُ (أي في الإجماع)
مخالفة أهل الأهواء فيما نسبوا به إلى الهوى « [20] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم
في تفسير الآية قولٌ، وجاء قوم فسَّرُوا الآية بقولٍ آخرَ لأجل مذهب اعتقدوه وذلك
المذهبُ ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة
وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة: من عدلَ عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما
يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له
خطؤه « [21] ، بل قال أيضاً:» من فسَّر القرآن أو الحديث أو تأوَّله على غير
التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مُفترٍ على الله، مُلْحدٌ في آيات الله،
محرفٌ للكلم عن مواضعه، وهذا فتحٌ لبابِ الزندقة والإلحاد، وهو معلوم
البطلان بالاضطرار من دين الإسلام « [22] .
وقد أحسن الشاطبي رحمه الله حين بيَّن سبب عدم الاعتداد بأقوال أهل
الأهواء، فقال:» إذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حِرصاً على الغلبة
والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدَّى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء
لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق. وإذا
صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم يُنْتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة
الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء؛ فاتباع الهوى من حيث يظن
أنه اتباع للشرع ضلالٌ في الشرع؛ ولذلك سميت البدعُ ضلالات، وجاء أن «كل
بدعة ضلالة» [23] ؛ لأن صاحبها مخطئٌ من حيث توهم أنه مصيبٌ. ودخولُ
الأهواء في الأعمال خفي؛ فأقوالُ أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر
في الشرع، فلا خلاف حينئذٍ في مسائل الشرع من هذه الجهة « [24] .
فإن قيل: إن العلماء قد اعتدُّوا بخلافهم ونقلوا أقوالهم؛ فكيف يقال: إنه لا
اعتداد بخلافهم؟
وقد أجابَ عن هذا السؤال الإمام الشاطبي من جهتين:
أولاً: أنَّا لا نسلِّم أنهم اعتدُّوا بها، بل أتوا بها ليردوها، ويبينوا فسادها، كما
أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها.
ثانياً: إذا سُلِّم اعتدادُهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما
المتبعُ للهوى بإطلاق من لم يصدِّق بالشريعة رأساً، أما من صدَّق بالشرع فإنه متبع
للشرع في الجملة، لكن إذا زاحم هواه الشرعَ قدم الهوى، فأصبح بذلك مشاركاً
لأهل الهوى في دخول الهوى نحلته، وشارك أهلَ الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه
دليل على الجملة؛ ولذلك حُكِيت أقوالهم، واعْتُدَّ بتسطيرها، والنظر فيها» [25] .
ثم قال: «وفي الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حَصَل التآلف، ومن
جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في
الحقيقة؛ لصحتها واتحاد حكمها، وجهةُ الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعاً،
فصارت أقوالُهم زلاتٍ، لا اعتبار بها في الخلاف» [26] .
ويضاف إلى هذه الأسباب جملة أخرى من الأسباب التي يقع بعض المفسرين
لأجلها في خرق الإجماع أذكرها متمماً لما سبق على سبيل الإيجاز.
الرابع: الاعتداد بالقول الشاذ: أو بما يُسَمَّى: «زلة العالم» ، حيث يذكر
بعض المفسرين الخلاف في مسألة قد وقع فيها إجماع سابق، بناءاً على اعتبار قول
لا يعتد به لشذوذه.
وقد قرر الإمام الشاطبي: «أن زلة العالم لا يصحُّ اعتمادها من جهة، ولا
الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع؛ ولذلك عُدَّت زَلّة،
وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزللُ فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبُها إلى التقصير، ولا يشنَّعَ عليه بها، ولا
يُنتقَص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا خلاف ما
تقتضي رتبته في الدين» [27] .
ثم بيَّن رحمه الله: «أنه لا يصح اعتمادُها خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها
لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من
صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال
غير المجتهد، وإنما يُعدُّ في الخلاف الأقوالُ الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة
كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم
مصادفته [28] فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتدَّ بها في الخلاف، كما لم يعتدَّ السلفُ
الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة ... ، وأشباهها من المسائل التي
خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها» [29] .
ونصَّ رحمه الله على أن من الخلاف الذي لا يعتد به في الخلاف «ما كان
من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة» [30] .
وقد تساءل رحمه الله عن كيفية معرفة ما هو من الأقوال كذلك مما ليس
كذلك؟ وأجاب: بأن هذا من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف؛ لأن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافاً لدليل قطعي، من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافاً لدليل
ظني، والأدلة الظنية متفاوتة.
أما غير المجتهدين من المتفقهين فإن لمعرفة ما كان من الأقوال كذلك ضابطاً
تقريبياً، وهو أن ما كان معدوداً من الأقوال غلطاً وزللاً قليلٌ جداً في الشريعة،
وغالبُ الأمر أن أصحابها منفردون بها، وقلَّما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا
انفرد صاحبُ قولٍ عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من
المجتهدين لا من المقلدين [31] .
ومن أمثلة الأقوال الشاذة:
1 - قولُ نوفٍ البكالي في أن موسى الذي جرت له القصة مع الخضر
والمذكورة في سورة الكهف ليس موسى بن عمران كليم الرحمن، بل هو موسى
آخر، وقد رد ذلك عليه ابن عباس رضي الله عنهما وأغلظ في الرد عليه، فقال:
«كذب عدو الله» ، ثم ساق الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل
قطعاً على أن المراد به موسى بن عمران عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
قال ابن الجوزي عن قول نوفٍ هذا: «وليس بشيء» . وقال الشوكاني:
«وهذا باطلٌ قد ردَّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم» .
2 - ما روي عن الحسن وعطاء الخراساني أنهما قالا في تفسير قوله تعالى
[اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ] (القمر: 1) : «إنه سينشق يوم القيامة»
والمفسرون قاطبة مجمعون على أن المراد بالآية: انشقاقه معجزةً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عندما طلب منه المشركون ذلك. قال ابن الجوزي عن المروي عن
الحسن وعطاء: «هذا القولُ الشاذُّ لا يقاوم الإجماع» .
الخامس: الاعتدادُ بقولٍ قد انعقد الإجماع قبل حدوثه: وهو قريب من الذي
قبله ومن أمثلة ذلك:
إجماعُ العلماء على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وقد حكى بعضُ
العلماء مخالفةَ بعض الظاهرية وبعض الرافضة. وهي مخالفة جاءت بعد انعقاد
الإجماع، فلا عبرة بها. قال الرازي: «إن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة
فلا عبرة بمخالفته» وقال الآلوسي: «وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحَصْر:
الإجماعُ، فإنه قد وقع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف» .
السادس: الاعتمادُ في نقل الخلاف على روايات ضعيفة لا تثبت عمن نسبت
إليه.
ومن أمثلة ذلك:
ما روي عن ابن عباس من أنه كان يرى: أن الأم لا يحجبها من الثلث إلى
السدس إلا ثلاثةٌ من الإخوة فأكثر؛ لأن الآية وردت بذكر «الإخوة» ، والاثنان
ليسا بإخوة. وهذا ضعيف عن ابن عباس، وقد حكى جمع من العلماء: الإجماع
على أن الاثنين من الإخوة يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. ولا تصح المخالفة
عن ابن عباس، والله أعلم.
السابع: عدم فهم الخلاف الوارد عن السلف: إذ كثير من خلافهم كما تقدم
شرحه من باب اختلاف التنوع، فيأتي من المتأخرين من يحمله على اختلاف
التضاد فينقض الإجماع بذلك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، 13/333.
(2) أي: يمكن التعبير عنها بعبارة واحدة كما هو شأن المعنى الواحد.
(3) الموافقات، 4/214، 215.
(4) ينطر في ذلك: مقدمة التفسير لشيخ الإسلام، 13/333 وما بعدها من مجموع الفتاوى، ومقدمة رسالة «اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف» رسالة دكتوراه للدكتور: عبد الله الأهدل، وكتاب «أصول في التفسير» للشيخ: محمد بن صالح العثيمين، ص 30، 31، وكتاب
«فصول في أصول التفسير» للشيخ: مساعد الطيار، ص 55 وما بعدها.
(5) مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى، 13/333.
(6) في قوله تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) .
(7) ينظر: مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى، 13/337.
(8) مقدمة التفسير، ضمن مجموع الفتاوى، 13/341.
(9) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جُزي، 1/6، 7.
(10) المحرر الوجيز، 14/15، 16.
(11) تيسير التحرير، 3/227.
(12) رسالة «الفرقان بين الحق والباطل» ضمن مجموع الفتاوى، 13/24.
(13) المصدر نفسه، 12/25، 26، وبقية الكلام مهم، فليرجع إليه من شاء الاستزادة.
(14) الموافقات، 3/77، وينظر أيضاً: الاعتصام للشاطبي، 1/231.
(15) رسالة مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى، 13/355، 356.
(16) المصدر السابق، 13/356، 362.
(17) المصدر السابق، 13/356، 357.
(18) المصدر السابق، 13/358، 359.
(19) المصدر السابق، 13/362.
(20) المغني في أصول الفقه للخبازي، ص 278، وقال محيي الدين القنوي المعلق على المغني: «كالمعتزلة والروافض والخوارج» .
(21) رسالة: مقدمة التفسير، ضمن مجموع الفتاوى، 13/361.
(22) رسالة في علم الباطن والظاهر، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى، 13/ 243.
(23) رواه مسلم، ح/ 867 في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، والنسائي، 3/188، 189 في العيدين، باب كيف الخطبة كلاهما عن جابر بن عبد الله.
(24) الموافقات في أصول الشريعة، 4/222، 223.
(25) المصدر السابق، 4/223، 224.
(26) المصدر السابق، 4/223، 224.
(27) الموافقات، 4/170.
(28) وبهذا يعرف الفرق بين القول الشاذ وهو القول الصادر عن مجتهد خفي عليه الدليل في مسألة، فأفتى بالخطأ، وتنكب الناس قوله، فهجر من بعده والقول الذي صدر من غير أهل الاجتهاد، أو القول الذي صدر عن اتباعِ الهوى؛ فإنه لا عبرة بهذين الأخيرين أصلاً.
(29) الموافقات، 4/ 172.
(30) الموافقات، 4/214.
(31) الموافقات، 4/173.(153/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
شبهات حول حجية السنة النبوية
ومكانتها التشريعية والرد عليها
د. عماد الشربيني
إننا لو فتشنا عن المحاربين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنهم
يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة.
فيقولون: علينا الاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من
التغيير والتبديل إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة
على ما في كتاب الله من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون مع ذلك أن يضبطوا
أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به من اتباع سنة
المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصطنعين لأنفسهم ما يشاؤون من آيات القرآن
الكريم يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها.
وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون
منهما تشكيكاً في حجية السنة المطهرة.
الشبهة الأولى: شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية.
الشبهة الثانية: شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفَّل الله بحفظها.
أما الشبهة الأولى: فاستدلوا لها من آيات القرآن الكريم بآيات عدة منها قوله
تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] (الأنعام: 38) ، وقوله تعالى:
[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) ، وقوله تعالى: [أَفَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً] (الأنعام: 114) .
واستدل بهذه الآيات وما في معناها عدد من أعداء السنة المطهرة المنكرين
لحجيتها قديماً وحديثاً، الزاعمين أن القرآن في غنى عن السنة؛ لأن فيه بيان كل
شيء وتفصيله.
فقديماً على سبيل المثال لا الحصر كانت الطائفة التي ناظر الإمام الشافعي
واحداً من أتباعها [1] .
وحديثاً: أمثال الدكتور توفيق صدقي [2] ، ومحمود أبو رية [3] ، ومحمد
نجيب [4] ، ومصطفى كمال المهدوي [5] ، وأحمد صبحي منصور [6] ، وقاسم
أحمد [7] ، وجمال البنا [8] ، ورشاد خليفة [9] ، وإسماعيل منصور [10] ،
وغيرهم.
وللجواب عن هذه الشبهة نقول: رغم أن بعض هذه الآيات المراد فيها
بالكتاب: اللوح المحفوظ الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال
المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على
التفصيل التام كما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «كتب
الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال:
وعرشه على الماء» [11] .
ومن هذه الآيات قوله تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ]
(الأنعام: 38) والتي وردت عقب قوله تعالى: [وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم] (الأنعام: 38) والمثلية في الآية ترشح
أن المراد بالكتاب (اللوح المحفوظ) لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها
للبشر، وإنما الذي حوى كل شيء للطير والبشر، هو اللوح المحفو [12] .
وبعض هذه الآيات المراد من الكتاب (القرآن) ، وهَبُوا أن المراد بالكتاب
في جميع هذه الآيات (القرآن الكريم) ولكننا نقول لكم: إن هذا العموم غير تام،
بل هو مخصص بقول الله تعالى: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (النحل: 64) .
ونقول لكم: نعم لم يفرط ربنا عز وجل في كتابه في شيء من أمور الدين
على سبيل الإجمال، ومن بين ما لم يفرط في بيانه وتفصيله إجمالاً بيان حجية
السنة، ووجوب اتباعها والرجوع والتحاكم إليها؛ فالقرآن جامع دون تفريط كل
القواعد الكبرى للشريعة التي تنظم للناس شؤون دينهم ودنياهم، والسنة النبوية هي
المبينة لجزئياتها وتفاصيلها، وهي المنيرة للناس طريق الحياة، وتنسجم هذه الآية
مع الآيات الأخرى التي تؤكد بالنص أهمية السنة تجاه ما في الكتاب من القواعد
التي تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو توضيح أو تبيين.. . إلخ.
ومن هنا فالقول بأن القرآن الكريم بيان لكل شيء قول صحيح في ذاته
بالمعنى الإجمالي السابق، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة
والاكتفاء بالقرآن ليؤوِّلوه حسب أهوائهم. وإلا فربُّ العزة هو القائل في سورة
النحل نفسها، وقبل الآية التي استدلوا بها على عدم الحجية: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ]
(النحل: 38- 39) .
وقال تعالى: [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (النحل: 44) . وقال تعالى: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ
لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (النحل: 64) .
فتلك ثلاث آيات كريمات في سورة النحل نفسها هي سابقة لآية: [وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) .
والثلاث آيات تسند صراحة مهمة البيان والتفصيل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم صاحب السنة المطهرة؛ فهل يُعقَل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة
البيان التي هي من مهام الرسل جميعاً كما قال عز وجل: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (إبراهيم: 4) ويُوقِع التناقض بآية: [الكِتَابَ تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) .
إن كل الرافضين لحجية السنة لا بد أن يلتزموا بهذه النتيجة التي تعود
بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله سواء أقروا بلسانهم
بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا! !
ومما هو جدير بالذكر أن بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم يتمسحون بإيمانهم
بالسنة البيانية، ثم يصفون قيمة تلك السنة بقولهم: «إنها للاستئناس لا للاستدلال، وللبيان لا للإثبات مما يجعل الآخذين بها والرافضين لها أمام الشرع على حد
سواء؛ فلا إلزام لأي طرف منهما على قبول رأي الآخر؛ فالآخذ بها فعله مقبول،
والرافض لها فعله مقبول كذلك» [13] .
أما الشبهة الثانية: «أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها» فاحتجوا
لذلك بقوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) وقالوا: لو كانت السنة حجة ووحياً مثل القرآن لتكفل الله عز وجل بحفظها، كما تكفل
بحفظ القرآن الكريم.
وممن قال بتلك الشبهة الدكتور توفيق صدقي [14] ، وإسماعيل منصور [15] ،
وأيدهما جمال البنا [16] وفرقة أهل القرآن بالهند وباكستان [17] ، والدكتور ...
مصطفى محمود قائلاً: «القرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه
بنفسه من أي تحريف، وقال في محكم كتابه: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ولم يقل لنا رب العالمين إنه حفظ لنا كتاب
البخاري» [18] .
ونقول رداً على ذلك: إن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله
صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك القرآن الكريم؛ فقد قال تعالى: [وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) ، وقال تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] (القيامة: 17-19) ، ففي الآيتين دليل على أن الله عز وجل قد تكفل أيضاً بحفظ السنة؛ لأن حفظ
المُبيَّن يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.
والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه
وسلم من قرآن أو سنة يبين بها القرآن، لقوله تعالى: [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]
(القيامة: 19) أي بيان القرآن. والبيان كما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم يكون
لأمته من بعده، وهو يكون للنبي صلى الله عليه وسلم بالإيحاء به ليبلغه للناس،
وهو المراد في الآية السابقة [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل
(بوحي غير متلو) .
وفي هذا رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن البيان للذِّكر لم ينزل
مع الذكر (القرآن) وإلا لكان النص على نحو: «وأنزلنا إليك الذكر
وبيانه» [19] .
ولو شغَّب مشاغب بأن هذا الخطاب: «علينا بيانه» متوجه إلى الله عز
وجل فقط دون الأمة وإلا قال عز وجل: «عليكم بيانه» لما أمكنه هذا الشغب في
قوله تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ] (القيامة: 17) . فمن الذي جمع القرآن
الكريم؟ الله عز وجل بذاته المقدسة، كما زعم الدكتور مصطفى محمود في مقالاته
السابقة، أم قيض رب العزة لذلك رجالاً من خلقه، وعلى رأسهم من أنزل عليه
صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟ !
وفي ذلك رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن حفظ الرجال للسنة
يجعلهم يتساوون مع الله عز وجل في القدرة بحفظه كتابه عز وجل فتستوي بذلك
قدرة الله وقدرة المخلوقين « [20] .
إن في القرآن مجملاً كثيراً في العبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج،
ومعاملات، وأخلاق.. إلخ وتولت السنة المطهرة بيان ذلك، فإذا كان بيانه عليه
الصلاة والسلام لذلك المجمل غير محفوظ، ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد
بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر شرائعه المفترضة علينا فيه، ولم ندرِ
صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ، أو تعمد فيه الكذب الكاذب،
ومعاذ الله من هذا.
فعلم من ذلك أن حفظ السنة المطهرة من أسباب حفظ القرآن، وصيانتها
صيانة له، ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها ولله الحمد شيء
على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة.
ثالثاً: شبهة عرض السنة النبوية على القرآن الكريم:
احتج خصوم السنة النبوية على عدم حجيتها بأحاديث من وضع الزنادقة،
تدور في نظرهم على وجوب عرض كل ما يروى من أحاديث على كتاب الله
ومقارنتها به، فإن كانت توافق الكتاب فهي حجة يجب التمسك بها، والعمل
بمقتضاها، وإن كانت تخالف الكتاب ولو مخالفة ظاهرية يمكن الجمع بينهما فهي
باطلة مردودة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من سنته، ومن هذه
الأحاديث التي يستشهدون بها:» إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن
فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني «.
وبهذه الشبه قال الزنادقة قديماً كما حكاه الحافظ السيوطي [21] . وقال به بعض
من سبق ذكرهم كالدكتور توفيق صدقي، وجمال البنا، ومحمد نجيب، وإسماعيل
منصور، ومحمود أبو رية، وقاسم أحمد، وأحمد صبحي منصور، في كتبهم
السابق ذكرها.
يقول جمال البنا:» هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم
عليها في ضوء القرآن، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد؛ فتحريم
الجمع بين المرأة مع عمتها أو خالتها، وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور لا نرى
مانعاً فيها، ونجد فيها قياساً سليماً « [22] .
الجواب:
أولاً: الحديث الذي استشهدوا به على شبهتهم لا وزن له عند نقاد الحديث
وصيارفته، وتكلم فيه العلماء كلاماً يستلزم أن يكون من أشد الموضوعات أو
الضعيف المردود، ونختار من أقوالهم ما بيَّنه الإمام ابن عبد البر بقوله:» وقد
أمر الله عز وجل بطاعته واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع
كتاب الله، ولم يقل ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن
بن مهدي: الزنادقة وضعوا ذلك الحديث، وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله
عليه وسلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم،
وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك،
قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأننا لم نجد في كتاب
الله ألاَّ يقبل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا
كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على
كل حال « [23] .
ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها عند أهل العلم،
إلا أن معناها صحيح، وعمل بها المحدِّثون في نقدهم للأحاديث متناً، فجعلوا من
علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم، والسنة النبوية والعقل، إلا
أنهم وضعوا لذلك قيداً وهو: استحالة إمكان الجمع. فإن أمكن الجمع بين ما ظاهره
التعارض مع الكتاب أو السنة أو العقل جمعاً لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول
بهما معاً ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفاً باتفاق النظار؛ فالجمع
عندهم أوْلى» [24] .
وإعمال الأدلة أوْلى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ
فنصير إلى الناسخ ونعمل به، ونترك المنسوخ ولا نعمل به، وإلا نرجح بأحد
وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول، وعلوم الحديث، والعمل بالأرجح
حينئذ واجب، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً، إما جهلاً به أو عناداً
منهم كما قال الإمام الشاطبي [25] .
ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع
القرآن الكريم مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم
الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم
التخيير أو الوقف، ومعلوم بأن التوقف أوْلى من التعبير بالتساقط؛ لأن خفاء
ترجيح أحد الدليلين على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع
احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، وفوق كل ذي علم عليم «.
مثال على ما سبق:
حديث:» لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين
في - ذات الله - الحديث « [26] . قالوا هذا الحديث لا يصح؛ لأنه يتعارض مع ... قوله تعالى: [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ] (مريم: 41) .
وتناسوا بقية الحديث وما جاء فيه مؤكداً لكتاب الله عز وجل وأنه لا تعارض ففي الحديث:» ثنتين «في الله: قوله: [فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ] (الصافات: 89)
وقوله تعالى: [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا] (الأنبياء: 63) وواحدة في شأن سارة
وقوله:» أختي «.
وجمع العلماء ووفقوا فقالوا: ليس المراد بالكذب هنا حقيقته، وإنما هو من
باب المعاريض، وكان ذلك من إبراهيم عليه السلام على طريق الاستفهام الذي
يقصد به التوبيخ. وعلى كل الأحوال فالحديث هنا لم يعارض القرآن بل جاء مؤكداً
لما جاء في القرآن، وإلا فليبينوا لنا هم حقيقة هذا التعارض؟ ! !
رابعاً: شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للحديث
أضعفت الثقة بالسنة الشريفة:
واستدل بتلك الشبهة من استدل بالشبهة السابقة، ونزيد عليهم هنا السيد صالح
أبو بكر [27] ، وحسين أحمد أمين [28] ، وأحمد أمين [29] وعبد الله النعيم [30] ،
وسعيد العشماوي [31] ، وصالح الورداني [32] ، والمستشار عبد الجواد ياسين [33] ، ونصر أبو زيد [34] ، وزكريا عباس داود [35] ، وحولة نهر [36] ، وموريس
بوكاي [37] ، ومرتضى العسكري [38] ، والدكتور مصطفى محمود في مقالاته عن
الشفاعة المشار إليها سابقاً.
والجواب:
نقول: صحيح أنه كان هناك وضاعون وكذابون لفَّقوا أقوالاً، ونسبوها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة التي تخيلها
أصحاب هذه الشبهة، وأثاروا بها الوساوس في النفوس، وقد جهلوا أو تجاهلوا
الحقائق التي سادت الحياة الإسلامية فيما يتعلق بالسنة النبوية، فقد كان إلى جانب
ذلك عدد وفير من الرواة الثقات المتقنين العدول، وعدد وفير من العلماء الذين
أحاطوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسياج قوي يعسر على الأفاكين
اختراقه، واستطاع هؤلاء المحدِّثون بسعة اطلاعهم، ونفاذ بصيرتهم أن يعرفوا
الوضاعين، وأن يقفوا على نواياهم ودوافعهم، وأن يضعوا أيديهم على كل ما نسب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوضع والكذب فهؤلاء الوضاعون
لم يترك لهم الحبل على الغارب يعبثون في الحديث النبوي كما يشاؤون، ولم يترك
لهم المجال لأن يندسوا بين رواة الأحاديث النبوية الثقات العدول دون أن يعرفوا.
وإلا فمَنْ إذن الذي كشف كذب الكفرة والزنادقة وغلاة المبتدعين؟
ومَنِ الذي عرَّف بالموضوع، وبأسبابه، وبأصنافه، وبعلاماته، وصنف فيه
المصنفات المتعددة؟
إنهم حراس الدين خلفاء الله وجنوده في أرضه، إنهم الجهابذة الذين قال فيهم
هارون الرشيد لما أخذ زنديقاً فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي؟ قال: لأريح العباد منك، فقال: يا أمير المؤمنين! أين أنت من ألف حديث وفي
رواية أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرِّم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام،
ما قال النبي منها حرفاً؟ فقال له هارون الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي
إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك؟ فإنهما ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً
حرفاً [39] .
يقول الأستاذ محمد أسد:» فوجود الأحاديث الموضوعة إذن لا يمكن أن
يكون دليلاً على ضعف نظام الحديث في مجموعه؛ لأن تلك الأحاديث الموضوعة
لم تَخْفَ قط على المحدثين كما يزعم بعض النقاد الأوروبيين عن سذاجة، وتابعهم
على ذلك بعض أدعياء من أبناء أمتنا الإسلامية « [40] .
ونختم هذه الشبهة بما ذكره الإمام ابن قيم الجوزية: قال الإمام أبو المظفر
السمعاني:» فإن قالوا: قد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم، قلنا:
ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة
الدراهمَ، والدنانيرَ، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها، ولئن دخل في أغمار
الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث،
ورواته العلماء حتى إنهم عدُّوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون، بل تراهم
يعدون على كل واحد منهم كم في حديث غلط، وفي كل حرف حرَّف، وماذا
صحَّف، فإن لم تَرُجْ عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون فكيف يروج عليهم
وضع الزنادقة، وتوليهم الأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيت على أهلها؟ وهو
قول بعض الملاحدة، وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجِّن بهذه
الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثاره الصادقة، فيغالط
جهال الناس بهذه الدعوى، وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله صلى الله عليه
وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة؛ فصاحب هذه الدعوى يستحق
أن يُسَفَّ في فِيهِ، ويُنفى من بلد الإسلام « [41] .
__________
(1) انظر: الأم، للإمام الشافعي، 7/250.
(2) مجلة المنار، 9/907.
(3) أضواء على السنة، ص 404.
(4) كتاب الصلاة في القرآن، ص 22.
(5) البيان بالقرآن، 1/29.
(6) كتاب الصلاة في القرآن، ص 32، 60، 61، وكتاب لماذا القرآن، ص 10.
(7) إعادة تقييم الحديث، ص 86.
(8) السنة ودورها في الفقه الجديد، ص 32.
(9) قرآن أم حديث، ص 6، والقرآن والحديث والإسلام، ص 32.
(10) تبصير الأمة بحقيقة السنة، ص 11.
(11) أخرجه مسلم، 8/452، رقم 2653.
(12) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/131، وفتح القدير، 3/61.
(13) إسماعيل منصور، تبصير الأمة بحقيقة السنة، ص 663.
(14) مجلة المنار، المجلد 9/911 3/9.
(15) تبصير الأمة بحقيقة السنة، ص 23.
(16) السنة ودورها في الفقه الجديد، ص 33.
(17) مقام الحديث، ص 6، 18.
(18) مقالاته عن الشفاعة المنشورة بجريدة الأهرام، 1/5/1999م، 15/5/1999م.
(19) تبصير الأمة بحقيقة السنة، ص 260.
(20) تبصير الأمة بحقيقة السنة، ص 258، 288، 289.
(21) مفتاح الجنة، ص 13، 14.
(22) السنة ودورها في الفقه الجديد، ص 254.
(23) ابن عبد البر، جامع بيان العلم، 2/190، 191.
(24) إرشاد الفحول للشوكاني، 2/369، والمحصول في أصول الفقه للرازي، 2/434.
(25) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال، 1/200.
(26) أخرجه الشيخان: البخاري، 6/447، رقم 3358، ومسلم، 8/134، رقم 2271.
(27) الأضواء القرآنية، 1/35.
(28) دليل المسلم الحزين، ص 45.
(29) فجر الإسلام، ص 210، 211.
(30) نحو تطوير التشريع الإسلامي، ص 44.
(31) حقيقة الحجاب، ص 84.
(32) الخدعة رحلتي من السنة إلى الشيعة، ص 97.
(33) السلطة في الإسلام، ص 236.
(34) الإمام الشافعي، ص 97.
(35) تأملات في الحديث، ص 131.
(36) دراسات محمدية، ص 489.
(37) دراسة الكتب المقدسة، ص 13.
(38) خمسون ومائة صحابي مختلق، 1/50.
(39) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي، 1/273، وتاريخ الخلفاء، للسيوطي، ص 174.
(40) الإسلام على مفترق الطرق، ص 96.
(41) مختصر الصواعق المرسلة، 2/561.(153/20)
تأملات دعوية
فيهِ خلافٌ بين الفقهاء!
محمد بن عبد الله الدويش
كثيراً ما تتردد هذه العبارة: «هذه مسألة خلافية، هذه مسألة اختلف فيها
الفقهاء» .. . إلخ.
ولا نزاع في أن هناك من المسائل ما هي مسائل خلاف واجتهاد بين أهل
العلم، وكلام أهل العلم حول مسائل الخلاف والاجتهاد معروف قديماً وحديثاً؛ لكنها
تثار اليوم بصورة تخرجها من إطار البحث في مسائل الاجتهاد والخلاف:
* فهي في الأغلب تثار حول قضايا لها بُعْدٌ اجتماعي أو فكري، وليس
المقصود الخلاف الفقهي البحت؛ فكثير من المستغربين على سبيل المثال يثيرون
مسائل تتعلق بالمرأة مما نقل فيها خلاف بين أهل العلم، والدافع لذلك أبعد من
مجرد الخلاف الفقهي، بل هو تكأة للتغريب سرعان ما يتجاوزون المسألة محل
الخلاف إلى ما لا خلاف في تحريمه ومنعه.
* أنها تثار من قِبَل فئام من الناس ليسوا من أهل العلم والفقه، ولا ممن
يفقهون البحث في المسائل الشرعية، إنما يتصيدون من أقوال الفقهاء ما يتسق مع
أهوائهم.
* أنها في الأغلب لا تقتصر على مناطها؛ فالخلاف الفقهي يتخذ ذريعة
لتنزيله على دائرة أوسع.
ومما ينبغي تقريره في هذه العجالة:
- أن هناك فرقاً بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فليست كل مسألة نُقِلَ
فيها خلاف بين أهل العلم تُعَدُّ من المسائل التي لا إنكار فيها؛ بل ذلك في مسائل
الاجتهاد. قال ابن القيم رحمه الله: «وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها
ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول:
فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً؛ وإنما دخل هذا
اللَّبْس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك
طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم؛ والصواب ما عليه الأئمة أن
مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح
لا معارض له من جنسه. والمسائلُ التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنَّا
صحة أحد القولين فيها كثيرةٌ» [1] .
- أن المرجع في ذلك كله إلى نصوص الكتاب والسنة؛ فمتى صح الدليل
وجب الرجوع إليه والأخذ به، ولم يَسُغ اتباع القول الآخر بحجة الخلاف في
المسألة. وحين ترد السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن
هناك من خالف في هذه المسألة فهذا يلزم منه أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم
وأوامره لا تكتسب شرعيتها إلا حين يتفق عليها الناس؛ فمخالفة أحد لها أياً كان
سبب ذلك ينزع عنها هذه الشرعية ويجعل الأمر واسعاً؛ وهذا مسلك خطير يحتاج
صاحبه إلى أن يراجع إيمانه.
- لا بد من الاعتناء بتربية الناس على التسليم لله تبارك وتعالى وتعظيم
نصوص الشرع، وأخذ الدين بقوة، والبعد عن تتبع الرخص وزلات العلماء.
- الحذر من الدخول في جدل فقهي مع أمثال هؤلاء حول هذه المسائل محل
النقاش؛ فهذا الذي يسعون إليه ويريدونه. فمن الممكن والمقبول أن يبحث المرء
المسألة ويناقشها مع طلبة للعلم يدركون اللغة العلمية الفقهية، ويريدون الحق
ويسعون إليه، أما أولئك الذين يثيرون هذه المسائل فليسوا يجيدون فهم اللغة العلمية، ولا يعون مقاصد الشريعة، إنما هم رعاع متطفِّلون، قادهم الهوى إلى الخوض
في دين الله عز وجل.
__________
(1) إعلام الموقعين، ج 3/ 288.(153/28)
قضايا دعوية
موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله عز وجل للعبد أن يوقظه من غفلته ويوفقه لتدارك
عمره القصير فيما ينفعه غداً في الدار الآخرة، ومن علامة الخذلان أن ينسى العبد
نفسه، ويفرِّط في ساعاته وأيامه ولياليه؛ فينصرم العمر القصير دون أن يقدم لنفسه
ما ينفعها عند الله عز وجل فضلاً عما يضره ويهلكه.
وعندما ينظر الواحد منا إلى حاله وحال كثير من الناس يجد التفريط وتضييع
الأوقات بما لا ينفع أو بما يضر عياذاً بالله تعالى ولو حاسب كل واحد منا نفسه
وحاول الرجوع إلى ما مضى من عمره الذي مر كلمح البصر، وما عمله في ذلك
العمر من القربات، أو ما ضيعه من الأوقات لوجد النتيجة جِدَّ محزنةٍ إلا من رحمه
الله تعالى لأن ما ضاع من الأوقات بما لا ينفع أو بما يضر أكثر من تلك التي عمل
فيها بالطاعات؛ فإذا أضيف إلى ذلك أن العبد لا يضمن أيضاً انتفاعه من طاعاته
وقرباته التي أداها؛ وذلك لتعرضها لبعض المفسدات والآفات كالرياء والسمعة
والعجب، أو عدم موافقتها لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا سيبقى
من الطاعات القليلة إذا مرت على مصفاة الإخلاص والمتابعة؟ إنه لا يبقى إلا أقل
القليل. إذن فالأمر جِدُّ خطيرٍ ولا يجوز للعبد أن يهمل نفسه ويتركها بلا محاسبة
وتدقيق وتفتيش حتى لا يأتي يوم القيامة فيبدو له من الله ما لم يحتسب.
وفي هذه المقالة القصيرة محاولة للتعرف على موانع الانتفاع بالعمل يوم
القيامة لعلنا نتجنبها فننتفع بأعمالنا الصالحة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم. والأصل في معرفة هذه الموانع قوله تعالى: [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ
وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء: 19) .
وهذه الآية وإن كانت قد انطوت على ذكر الشروط للانتفاع بالعمل الصالح فإن
مفهوم المخالفة فيها يشير إلى موانع الانتفاع؛ حيث ذكر الله عز وجل في هذه الآية
الكريمة أن من شروط قبول العمل عند الله عز وجل وكونه مشكوراً عنده سبحانه ما
يلي:
1 - إرادة الدار الآخرة بقوله وعمله.
2 - تصديق هذه الإرادة والسعي إلى الآخرة بعمل موافق لما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم.
3 - أن يكون صاحب العمل موحِّداً مؤمناً بالله عز وجل غير مشرك به.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: وقوله: [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ] (الإسراء: 19) أي: أراد الدار الآخرة، وما فيها من النعيم والسرور،
[وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا] (الإسراء: 19) ، أي طلب ذلك من طريقه، وهو متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم، [وَهُوَ مُؤْمِنٌ] (الإسراء: 19) ، أي: وقلبه
مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء [فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً]
(الإسراء: 19) [1] .
ومن خلال هذه الآية الكريمة تُستنبَط الموانع التي تحُول بين العبد وبين أن
ينتفع بعمله يوم القيامة وهي كما يلي:
1 - أن لا يكون صاحب العمل مؤمناً بالله عز وجل ولا بوعده ووعيده، أو
كان مشركاً به أو مرتداً عن دينه؛ فلو تقرب العبد إلى الله عز وجل بقربات كثيرة
من صلاة وصيام وغيرها وهو مشرك بالله عز وجل الشرك الأكبر وذلك بصرف
أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل فإنه بذلك لا ينتفع بأي عمل صالح عند
الله عز وجل لأن توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله يُعَدُّ الشرطَ الأعظم
في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال، وبدون ذلك تحبط جميع الأعمال كما في
قوله تعالى: [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] (الزمر: 65) ، وقوله تعالى: [وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 88) ، وقوله تعالى: [فَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ] (الأنبياء: 94) إلى غيرها من الآيات.
وخطورة هذا المانع أنه يحبط جميع الأعمال؛ بينما الموانع التالية تحبط
العمل الذي وُجِدَتْ فيه فقط، ولا ينبغي للعبد أن يستهين بهذا المانع ولا أن يأمنه؛
بل عليه أن يخافه وأن يفتش في عقيدته وأعماله كلها خشية الوقوع في هذه الآفة
العظيمة التي تحبط الأعمال ولا يغفرها الله عز وجل إلا بتوبة. ومن يأمن الشرك
بعد إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام حيث دعا ربه بقوله: [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن
نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] (إبراهيم: 35) ؟ ! .
2 - إرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة، وهذا مانع كبير يحول بين العبد
وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة؛ وهذا يكثر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم
شهرة أو منصباً أو مالاً أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية؛ فهؤلاء لا خلاق
لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة. قال الله تبارك وتعالى: [مَن كَانَ يُرِيدُ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ] (هود: 15) . وقد أدخل العلماء في ذلك من أدى العمل بإخلاص لله تعالى لكنه أراد من عمله
وتوبته وتركه للمعاصي آثارها الدنيوية فحسب؛ وذلك بأن يبارك الله له في المال
والولد، ويجنبه المصائب والجوائح في الدنيا فقط، فمن كان دافعه إلى العمل إرادة
ثواب عمله في الدنيا فقط فإن هذه الأعمال معلولة غير مقبولة وغير مشكورة عند
الله عز وجل يوم القيامة، أما من أراد بعمله الآخرة وأراد مع ذلك بركتها في الدنيا
فهذا مرغَّب فيه وسعيه مشكور عند الله عز وجل إذا كمل الشروط الأخرى لقبول
العمل.
3 - أن يكون سعيه وعمله مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛
لأن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقاً لما جاء به رسول الله صلى
الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير
رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء؛ حيث قال: [وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا]
(الإسراء: 19) ، أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه
وسلم. ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عن العمل يمنع من الانتفاع به عند
الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا
فهو رد» [2] ، ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن
به سبحانه أو يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن التفريط في ذلك يضيع على
العبد سعيه وعمله ولو كان صاحبه مخلصاً لله فيه مريداً منه الدار الآخرة؛ لأن
قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالشروط السالفة الذكر مجتمعة كلها في العمل؛
فلو تخلف واحد منها بطل العمل وحِيلَ بين صاحبه وبين الانتفاع منه.
وبذلك يتبين لنا خطورة إهمال النفس ومحاسبتها والحرص الشديد على إحسان
العمل وإتقانه وتجنيبه كل ما يفسده ويمنع من الانتفاع منه في يوم عصيب رهيب
الحسنة فيه لا تعدلها الدنيا بزينتها وزخرفها ثمناً. ولنا أن نتصور كم يصفو لنا من
العمل النظيف النافع عند الله عز وجل بعد أن يمر على هذه المصفيات السالفة الذكر؟ إن الناظر فيها اليوم إلى نفسه وما أسلف من الأعمال الصالحة ليذهل عندما يرى
قلَّتها وضياع العمر بما لا ينفع إلا من رحم الله تعالى. ثم ليت أن هذه الأعمال على
قلتها تكون مقبولة عند الله عز وجل إذن لهان الخطب؛ لكنها إذا عرضت على
المصفيات السالفة الذكر فإن المحصلة في النهاية ستكون أقل القليل؛ فمصفاة
الإخلاص تمنع كل عمل لم يُرَدْ به وجه الله عز وجل، ومصفاة المتابعة تمنع كل
عمل لم يؤدَّ على وجه الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إن هذه
المحصلة النظيفة من الأعمال والتي هي أقل القليل معرضة هي الأخرى لمانع
خطير يحول بين العبد وبين الانتفاع من أعماله التي تعب عليها وأتقنها على قلتها
حتى أصبحت مقبولة عند الله عز وجل وهذا لمانع خطير هو:
4 - حقوق العباد ومظالمهم: يقول الله عز وجل: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ
* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ] (الزمر: 30-31) والخصومة
تكون فيما بين العباد من مظالم؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما
أنزلت هذه الآية قال: أيْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم! أيكرر علينا ما كان
بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدَّى إلى كل
ذي حق حقه» [3] قال الزبير: والله إن الأمر شديد.
ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس الذي قال فيه الرسول صلى
الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا
متاع. قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وكان قد
شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فينقص هذا
من حسناته، وهذا من حسناته. قال: فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ
من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار» [4] .
وهذا المانع الخطير من موانع الانتفاع بالعمل الصالح يوم القيامة من أشد
الموانع خطراً وأصعبها تحرزاً؛ فلا يسلم من تبعات العباد إلا من رحم الله عز
وجل، وقليل ما هم. والغرماء يوم القيامة لا يقبلون من عمل خصومهم إلا النظيف
الذي تجاوز مصفاة الإيمان والإخلاص والمتابعة. أما العمل الملوَّث فلا يقبلونه لعدم
نفعه؛ فإذا كان العمل النظيف أقل القليل كما سبق بيانه لأنه ثمرة تصفيات كثيرة،
وكل مصفاة تُسقِط منه جزءاً إذا كان الأمر كذلك فإن المغبون الخاسر مَنْ ضيَّع هذا
القليل ووزعه يوم القيامة بين خصومه وغرمائه، وحال بين نفسه وبين الانتفاع
بأعماله المقبولة عند الله عز وجل وذلك بتفريطه في الدنيا في حقوق العباد، أو
الاعتداء عليهم في دين أو عقل أو نفس أو مال أو عرض.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن أكثر الخصوم يوم القيامة هم من أقرب الناس
للنفس كالأب والولد والزوجة والزوج؛ وذلك لما بينهم من الحقوق والواجبات،
ووجود الاحتكاك الدائم بهم والاجتماع معهم في كثير من الأوقات.
فالحذرَ الحذرَ من ظلم الأبناء في دينهم وإهمال تربيتهم والنفقه عليهم.. إلخ
والحذرَ الحذرَ من بخس الوالدين حقوقهم وعدم الإحسان إليهم، وكذلك الحال في
بقية الأقارب والأباعد [5] .
نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه موافقة لسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم صادرة عن إيمان وتوحيد خالصين. كما نسأله أن يجنبنا ظلم العباد
والاعتداء على حقوقهم، وأن يخرجنا من الدنيا كافِّين اللسانَ عن أعراضهم،
خُمْصَ البطون من أموالهم، خفيفي الظهور من دمائهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين.
__________
(1) تفسير ابن كثير، عند الآية (19) من سورة الإسراء.
(2) رواه مسلم، ح/3243.
(3) الترمذي، 9/11، وقال حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد، 1/167.
(4) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، ح/ 2581.
(5) يرجع إلى رسالة: (وقد خاب من حمل ظلماً) لمعرفة صور الظلم والمظالم.(153/30)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(1 - 2)
فاتحة الملف
قضية محسومة
بيّن الله عز وجل لنا نظرة أهل الكتاب من يهود ونصارى للمسلمين،
وأصبحت قضية محسومة مقررة في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه.
يقول عز وجل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
(البقرة: 120) ، وقال عز من قائل: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ، وقال تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ] (البقرة: 109) ، هذا الحسم القرآني لم
يعد اليوم محسوماً أو مقطوعاً به لدى فئات من المسلمين؛ فقد تحول لدى هؤلاء إلى
تمييع شديد في الفهم النظري والتطبيق السلوكي، وجاءت عولمة البشر لتضفي
على الطين طيناً، وتزيد في عمى القلوب والأبصار.
ولقد كان الهدف الأساس لأهل الكتاب كما حدده القرآن هو إخراج المسلمين
من دينهم، ولن يكون هناك رضى وقبول إلا بهذا التحول، ولذلك كان هدفاً أسمى
وغاية عظمى سعوا إليه بطرق شتى. وكان أبرز هذا السعي الخاسر ما سمي بـ
«التنصير» وهكذا بصراحة شديدة ودون مواربة، سعياً إلى التحويل إلى النصرانية.
ومن خلال هذا الملف سنرى كيف كانت طبيعة العلاقة بين الإسلام
والنصرانية منذ أن أشرق نور الرسالة الإسلامية، وسنرى الجهود الضخمة
والأموال الهائلة، والسعي الذي لا يتوقف ولا يمل من أجل تحقيق ذلك الهدف.. .
ثم نقارن كل ذلك بالجهود الإسلامية، إنْ في مكافحة هذا الغزو الدائم والمنظم لديار
المسلمين وعقولهم وقلوبهم، وإنْ في التحرك المضاد بتقديم هذا الدين لأهل
الكتاب!!(153/33)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(1 - 2)
قصة العلاقة بين الإسلام والنصرانية:
التنصير لم يكن غائباً
(1 - 2)
إبراهيم محمد الحقيل
أرسل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى المكلفين كافة: الجن
والإنس، العرب والعجم، القريب والبعيد؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور كما
قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (سبأ: 28) ، وقال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً]
(الأعراف: 158) ، وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ]
(الأنبياء: 107) . فوجب عليه البلاغ، ووجب على المسلمين من بعده تبليغ رسالته.
فإذا بُلِّغت الدعوة للناس فإن لهم منها موقفين:
الموقف الأول: قبولها والدخول في الإسلام، ومن اختار ذلك صار أخاً
للمسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم تحقيقاً لقوله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]
(الحجرات: 10) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم من أهل
الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا» [1] .
الموقف الثاني: رفض الإسلام، ومن رفض الإسلام خُيّر بين القتال وبين
الخضوع لسلطان الإسلام، وخضوعه لسلطان الإسلام يكون بدفع الجزية عن يد
وهو صاغر كما قال تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] (التوبة: 29) .
إن خضوع الناس للإسلام وأحكامه واجب على المسلمين تحقيقه عملاً بقول
الله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] (البقرة: 193) ،
قال جمع من السلف منهم ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وزيد
بن أسلم، وغيرهم: أي: حتى لا يكون شرك بالله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]
(البقرة: 193) أي: يخلص التوحيد لله عز وجل [2] .
وقال قتادة: [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] (البقرة: 193) حتى يقال: لا إله إلا
الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دعا، وذكر لنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا
إله إلا الله [فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] (البقرة: 193) قال: وإنَّ
الظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، يُقاتَل حتى يقول: لا إله إلا الله» [3] .
لماذا يجب إخضاع الناس لحكم الإسلام؟
الجواب عن هذا السؤال هو في قوله تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ]
(آل عمران: 19) فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده وأمرهم أن يحكموا بشريعته،
وعند التخاصم يرجعون ويتحاكمون إليها: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ] (المائدة: 48) ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أي:
فاحكم يا محمد بين الناس: عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيِّهم بما أنزل الله إليك في
هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في
شرعك» [4] .
وأمر الله تعالى أهل الكتاب بأن يقيموا كتبهم، وأن يعملوا بما فيها كما قال
تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ] (المائدة: 68) ، وإقامتهم لكتبهم وعملهم بما جاء فيها يقتضي
إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والتزام شرائع الإسلام؛ لأن
كتبهم بشرت به، ودعتهم إلى اتباعه.
ولقد قضت الحقيقة بأن أهل الكفر ما نعموا بالعدل والأمن إلا تحت حكم
المسلمين؛ بينما النصارى ظلموا المسلمين الذين وقعوا تحت حكمهم ولا زالوا بل
ظلموا نصارى مثلهم ممن لا يدينون بمذهبهم، وحاولوا اجتثاثهم من الأرض،
ومحوهم من الوجود.
وشواهد التاريخ كثيرة جداً على هذه الحقيقة القاضية بأن أهل الكفر ما نعموا
بالعدل والأمن إلا تحت حكم المسلمين بينما النصارى ظلموا المسلمين الذين وقعوا
تحت حكمهم ولا زالوا بل ظلموا نصارى مثلهم ممن لا يدينون بمذهبهم. وحاولوا
اجتثاثهم من الأرض، ومحوهم من الوجود.
وسأدعم ذلك ببعض الأمثلة من التاريخ؛ وبأقوال بعض الغربيين من باب:
(وشهد شاهد من أهلها) ومن شواهد ذلك:
أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما انسحب من حمص بعد أن فرض
عليها الجزية إلى اليرموك بكى النصارى في حمص وقالوا: يا معشر المسلمين!
أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف
عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا ولكنهم أي الروم غلبونا على أمرنا وعلى
منازلنا [5] .
وكتب الإمام الأوزاعي إلى صالح بن علي بن عبد الله بن العباس لما قتل
مقاتِلة لبنان، وأجلى بعضهم لما خرجوا على الخليفة: «وقد كان من إجلاء أهل
الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم
ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخَذ عامةٌ بذنوب خاصةٍ حتى
يخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى ألاَّ تزر وازرة وزر أخرى، وهو
أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تُحفَظ وترعى وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإنه قال:» من ظلم معاهداً وكلفه فوق طاقته فأنا
حجيجه « [6] .
وسيمر بك في هذا البحث المختصر بعض ممارسات النصارى الكثيرة ضد
المسلمين سواء في الأندلس لما انتزعوها من المسلمين وفرضوا عليهم الدين
النصراني وعذبوهم في سبيل محو الإسلام عذاباً أليماً، أو أيام الحروب الصليبية
التي يعترف الأوروبيون بوحشية أجدادهم فيها ضد المسلمين. أو أيام الاستعمار
الذي أعقب الحروب الصليبية؛ لتثبت هذه الحوادث التاريخية مع ما سبق ذكره أنه
لا عدل للبشرية إلا في ظل الإسلام فقط، وأن الفساد والظلم يعم أرجاء الأرض إذا
حكمت بغيره.
ومن شواهد ذلك مما كتبه نصارى غربيون: قول المؤرخ الغربي (أرنولد)
عن فتح مصر:» يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء
إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي لما عرف
به من الإرادة الظالمة، ولما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت « [7] .
ويقول أيضاً:» إن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك
عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين
جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح « [8] .
ويقول الفرنسي ليوتي:» وإذا كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية يزعم
أن الإسلام يبعث على التدمير والفوضى والتعصب فإني بصفتي رجلاً قضيت بين
المسلمين مدة من الزمان في الشرق والغرب ولم أكتفِ بما قرأته عن الإسلام في
الكتب أقول: إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة « [9] .
إن المسلمين في فتوحهم ما كانوا يجبرون الأمم الأخرى على اعتناق الإسلام
بل يتركون لهم حرية التعبد ما داموا خاضعين لحكم الإسلام باعتراف الغربيين:
يقول جوستاف لبون:» إن العرب كانوا أكثر حكمة من كثير من رجال السياسة
الحديثة، عرفوا حق المعرفة أن أوضاع شعب لا تتناسب مع أوضاع شعب آخر؛
فكان من قواعدهم أن يطلقوا للأمم المغلوبة حريتها، ويتركوا لها الاحتفاظ بقوانينها
وعاداتها ومعتقداتها « [10] . ونقول: ليس ذلك حكمة فحسب بل دين يدينون لله به
امتثالاً لقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256) .
ويقول أيضاً:» وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم
وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق
المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون
بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع
لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في
القرون اللاحقة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وأسبانيا يعاملون
الشعوب بمنتهى الرفق تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين
عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه هم إلا جزية ضئيلة كانت على الأغلب أقل من
الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل. وما عرفت الشعوب فاتحاً بلغ هذا القدر
من المسامحة ولا ديناً حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف « [11] .
بينما كان النصارى يُكرِهون الناس على التنصر كما فعل الأسبان بعد أن
خضع مسلمو الأندلس لسلطانهم؛ فإنهم لم يرضوا إلا تنصيرهم أو إجلاءهم عن
بلادهم، مع أن المسلمين أخذوا منهم عهداً قبل تسليم غرناطة أن لهم أن يدينوا
بدينهم ولهم البقاء في أملاكهم، فنكثوا عهدهم، وأوقعوا بالمسلمين أشد العذاب وقد
انتقدهم مؤرخوهم ومفكروهم قبل انتقاد المسلمين لهم؛ وفي هذا يقول فولتير: لما
فتح العرب أسبانيا لم يرغموا قطُّ النصارى الوطنيين على انتحال الإسلام، ولما
استولى الأسبان على غرناطة أراد الكردينال خمنيس أن ينصِّر كل العرب مدفوعاً
إلى ذلك بغيرة دينية أو طموح إلى إنشاء شعب جديد يخضع لصولته، وأرغم
خمسين ألف عربي على أن يحملوا رمز دين لا يؤمنون به.
وذكر فاريتي وهو من كبار مؤرخي أسبانيا أنه تم نفي ثلاثة ملايين من
العرب والعرب المتنصرين، وبلغ من هلك أثناء عملية النفي أو استرق زهاء مائة
ألف [12] .
موقف النصارى من الإسلام:
انقسم النصارى تجاه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين:
القسم الأول: آمنوا به، وصدقوه، وعرفوا أن ما جاءهم به هو الحق من
عند الله تعالى، قد بشرت به كتبهم كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام
إنه قال لقومه: [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: 6) ،
وعلى رأس هذا القسم النجاشي رحمه الله تعالى الذي آوى المسلمين المهاجرين
ونصرهم ومنعهم من ظلم قريش وبطشها وقهرها.
وفيه ومن معه وأمثاله ممن آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم
نزلت آيات كثيرة في مدحهم، والثناء عليهم وبيان عظيم ثوابهم قال الله تعالى:
[وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ]
(آل عمران: 199) .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» ثلاثة يؤتَوْن أجرهم
مرتين.. «وذكر منهم:» ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً، ثم آمن بالنبي
صلى الله عليه وسلم فله أجران « [13] .
القسم الثاني: لم يؤمنوا به وهم فريقان:
1 - فريق خضعوا لسلطان الإسلام قبل القتال، وصالحوا النبي صلى الله
عليه وسلم ودفعوا الجزية، فكانوا من أهل الذمة؛ ومن هذا الفريق: نصارى
نجران، ونصارى دومة الجندل.
2 - الفريق الثاني: لم يخضعوا لسلطان الإسلام، وقاتلوا المسلمين، وهؤلاء
خرج النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم، وأرسل السرايا إليهم؛ ومن هؤلاء:
نصارى مؤتة، ونصارى تبوك.
الحرب بين المسلمين والنصارى:
إن أول مواجهة قتالية بين المسلمين والنصارى كانت في مؤتة، ثم عزم النبي
صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم في تبوك لكن الله تعالى لم يقدِّر قتالاً، ثم بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارت الجيوش الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين
ثم في العهديْن الأموي والعباسي، فكانت المعارك الكبرى في الشام وغيرها:
أجنادين، واليرموك التي أزالت النفوذ البيزنطي النصراني عن كامل بلاد الشام،
وودَّع هرقل سوريا وداعاً لا لقاء بعده [14] ، ودخل المسلمون بيت المقدس عام 15
هـ، وتسلَّم مفاتيحها عمر رضي الله عنه وكتب كتاباً فرض عليهم فيه الجزية،
وحفظ لهم حقوقهم، وأوفى شروطهم؛ لأنها فتحت صلحاً على الصحيح [15] .
واستمرت الفتوح حتى توغل المسلمون في أوروبا ففتحوا الأندلس وأزالوا
حكم القوط النصارى عنها، ووصلت جيوشهم إلى وسط فرنسا، واستولى المسلمون
على معظم جزر البحر المتوسط من رودس إلى صقلية وجنوب شبه جزيرة إيطاليا،
وحاصروا رومية (روما) مركز البابوية الكاثوليكية، والقسطنطينية قاعدة
الأرثوذكسية، ولم يكن للمسلمين غاية سوى أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون
الدين كله لله، ولذا لم يقف أمامهم جيش ولم تستعص عليهم مدينة، وكأنهم يريدون
تحقيق البشارة النبوية بفتح روما والقسطنطينية. وكاد المسلمون أن يفتحوا أوروبا
كلها بما فيها روما لولا أن الله تعالى قدَّر هزيمتهم في معركة بلاط الشهداء التي
تسمى في كتب الغربيين (تور بواتييه) نسبة إلى موقعها وكانت عام 114هـ
الموافق 732م؛ حيث قاد المسلمين فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى وقاد
النصارى شارل مارتل الذي يعتبره النصارى أعظم قائد أنقذ أوروبا من سقوطها في
أيدي المسلمين، وكان سبب هزيمة المسلمين فيها الانشغال بالغنائم فيما ذكره
المؤرخون [16] .
تنصير الأندلس:
يذكر المؤرخون أن ابتداء أمر النصارى مع المسلمين كان من الأندلس، ثم
سيَّروا حملات للشرق الإسلامي؛ لتكون الهجمات على المسلمين في الأندلس وفي
الشرق. قال ابن الأثير: كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم
إلى بلاد المسلمين واستيلائهم على بعضها سنة 478هـ، فملكوا مدينة طليطلة
وغيرها من بلاد الأندلس، ثم قصدوا سنة 484هـ جزيرة صقلية وملكوها؛ فلما
كانت سنة 490 هـ خرجوا إلى بلاد الشام [17] .
فانطلاقة النصارى كانت من بلاد الأندلس لما رأوا انتصاراتهم فيها، وبقي
فيها منهم جيوش تقاتل مَنْ بقي من المسلمين، وجيوش أخرى انطلقت من أوروبا
إلى الشرق الإسلامي.
وقد سجل المؤرخون ما عمله النصارى من عظائم في حق مسلمي الأندلس؛
فقد أرادوا سحق الإسلام فيها، ونكثوا العهود التي عاهدوا المسلمين عليها حتى قال
مؤرخ أسباني في ذلك العصر:» إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة كان
الأحبار يطلبون إليه بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد من أسبانيا، وأن
يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى
المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم بل فيه إنقاذ لأرواحهم،
وحفظ لسلام المملكة؛ لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع
النصارى، أو يحافظوا على ولائهم للملوك ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على
مقت النصارى أعداء دينهم « [18] .
ومع تزايد الضغوط التي يقوم بها رجال الدين النصراني على الساسة بلزوم
الضغط على المسلمين وعدم الوفاء لهم فإن الساسة خضعوا لتلك الضغوط، وربما
وافقت هوى في نفوسهم فعمدوا إلى سياسة المراوغة في الوفاء وتحوير العهود
والنصوص التي تضمنتها معاهدة تسليم غرناطة بما يوافق هوى النصارى،
وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم ثم خرقها نصاً نصاً [19] ، واستلاب الحقوق
والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة
شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم [20] .
وفي عام 905 هـ عزم النصارى في الأندلس على تنصير المسلمين،
فجمعوا فقهاء غرناطة ودعوهم إلى التنصُّر، وأغدقوا عليهم التحف والهدايا،
فتنصَّر بعضهم والعياذ بالله وتبعهم جماعة من مقلديهم من عامة المسلمين، وقبلهم
تنصَّر جماعة من الأمراء والوزراء والأعيان خوفاً على أملاكهم، فباعوا دينهم
بدنياهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقد تمركزت حركة التنصير في غرناطة وبالأخص في حي البيّازين؛ إذ
حُوِّل مسجده في الحال إلى كنيسة سميت باسم (سان سلبادور) لينتشر التنصير بعد
ذلك في سائر بلاد الفردوس المفقود [21] .
لم يكتف النصارى بذلك بل أرادوا محو أثر الإسلام من الأندلس، فأقدم
الكردينال خمنيس على جمع ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة
وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة في ميدان الرملة وأضرمت فيها النيران، ولم
يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم. ثم أمر خمنيس بإبادة كتب
العرب من بلاد أسبانيا عامة، فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن حتى قال
المؤرخ لبون: ظن الكردينال لما أحرق في غرناطة كل ما طالته يده من
مخطوطات العرب وكانت ثمانين ألفاً، عدا ما أحرق في المدن الأخرى أنه يحذف
إلى الأبد من كتاب التاريخ ذكرى أعداء دينه، ولكن الأعمال التي قامت على أيديهم
في تلك الأرض تكفي لتخليد ذكرهم على الدهر وإن نفدت آثارهم المكتوبة» [22] .
وقد علق المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت على هذا الإجراء من النصارى
فقال: «إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل، وإنما حبر مثقف، وقد
وقع لا في ظلام العصور الوسطى، ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب
أمة مستنيرة تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها» [23] .
ولم يكن حرق الكتب العربية مجرد تعصب أعمى أدى إلى هذه الهمجية كما
قال، ولكنه خطة مدروسة تحت مشروع تنصير المسلمين في الأندلس؛ لأن بقاء
الكتب العربية يؤخر عملية التنصير من جهة، ومن جهة أخرى لا يأمن النصارى
مع وجود هذا التراث أن يرجع المتنصرون إلى دينهم مرة أخرى تأثراً بقراءته؛
فكان لا بد من اجتثاثه؛ وهذا الهدف صرح به المستشرق سيمونيت في معرض
دفاعه عن هذا الإجراء فكان من قوله في ذلك: إن ما قام به الكردينال من حرق
الكتب أمر لا غبار عليه؛ إذ هو إعدام للشيء الضار، وهو بالعكس أمر محمود
كما تعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكيْن الكاثوليكييْن قد أمرا عقب
تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين لكي تحرق في سائر مملكة
غرناطة، وألا يبقى لديهم سوى الكتب التي لا علاقة لها بالدين الذي نبذوه [24] .
ويمكن تلخيص الأساليب التي قام بها النصارى في الأندلس لمحو الإسلام منها
وتنصيرها في الآتي:
1 - كانت بداية التنصير في الأندلس في عام (905هـ) على شكل مواعظ
نصرانية تلقى على المسلمين يلقيها الأساقفة والقادة يدعونهم فيها إلى انتحال
النصرانية محاولين إقناعهم أن آباءهم كانوا نصارى [25] . وقد أثَّرت هذه المواعظ
في بعض وزراء المسلمين وأمرائهم سواء كان هذا التأثر عن قناعة أم كان عن غير
قناعة لحفظ الأموال والضياع والمزارع، وتبعهم جمع من عامة الناس تأثراً بهم
وبمراكزهم القيادية.
2 - الترغيب في النصرانية بالمتاع الدنيوي: فبعد عام تقريباً أي في عام
906 هـ صدر مرسوم كاثوليكي إلى المسلمين القاطنين في مدينة بسطة، بإقالة
الذين تنصروا منهم أو يتنصرون من جميع الفروض والمغارم التي فرضت على
الموريسكيين [*] ، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم وأموالهم الثابتة
والمنقولة من يوم التنصير، وألا يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب
بغرامة فادحة، وأن يُعفَوْا من سائر الذنوب التي ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن
تحترم جميع العقود والمحررات التي كتبت بالعربية، وصادق عليها فقهاؤهم
وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين في بسطة، ولهم
أن ينتقلوا وأن يعيشوا في أي مكان آخر من أراضي قشتالة دون قيد أو عائق، إلى
غير ذلك من المنح والامتيازات [26] .
3 - اعتبار أن أطفال المسلمين نصارى وإجراء أحكام النصرانية عليهم ولو
لم يتنصر والدوهم، فأخذوا يعمّدون أبناء المسلمين بالقوة مدعين أن العرب في
الأصل كانوا نصارى [27] .
4 - تخيير المسلمين بين الدخول في النصرانية أو الخروج من الأندلس؛
ففي عام 907هـ أصدر فرناندو وزوجته إيسابيلا أمراً ملكياً يتلخص في أنه لما
كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة فإنه يحظر وجود المسلمين
فيها؛ فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم خوفاً من أن يتأخر
تنصيرهم، كما يحظر اتصالهم بمن تنصروا لئلا يفسدوا دينهم، ويعاقب المخالفون
بالموت أو مصادرة الأموال. وأرسل المسلمون رسالة إلى سلطان مصر آنذاك
يصفون إكراههم على النصرانية، لكن ملك النصارى أرسل وفداً إليه يطمئنه بحسن
أحوال المسلمين في الأندلس مما كان من أسباب عدم نجدة المسلمين.
وقد واجه بعض المسلمين هذا الظلم والقهر بالتجمع في الجبال والإغارة على
النصارى، فأصدر النصارى قانوناً يحرم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص القانون على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة، ثم بالموت
بعد ذلك. وقد تكرر صدور هذا القانون عدة مرات وفي أرجاء مختلفة من بلاد
الأندلس، وكان يطبق بصرامة وحزم.
ولم يسلم من تنصر من المسلمين؛ فحظر عليهم حيازة السلاح أيضاً كما حرِّم
عليهم أن يبيعوا أملاكهم إلا بترخيص من السلطات النصرانية، ومن تجاوز هذه
القوانين عوقب بالموت ومصادرة أملاكه؛ لأنه ثبت لدى النصارى كما في نص
المرسوم أن كثيراً من المتنصرين يبيعون أملاكهم ويحصلون على أثمانها ثم يعبرون
إلى المغرب وهنالك يعودون إلى الإسلام [28] .
وكان المسلمون سراً المتنصرون علانية يرفعون الصلبان فوق منازلهم
وأكواخهم إيهاماً بأنهم نصارى وأملاً في أن لا يكشف أمرهم، لكن الحكومة
النصرانية كان عندها جداول بأسمائهم فلم تنفعهم هذه الحيل كلها، وكانت صفة
إجلائهم مؤلمة جداً فمنهم من دفعه اليأس إلى تخريب منزله أو إضرام النار فيه وفي
كل ما يملك، ومنهم من كان يصل به القنوط إلى قتل أولاده ثم الانتحار والعياذ بالله.
وكثير منهم ماتوا من الجوع والأمراض والجزع [29] .
5 - تنصير المسلمين بالقوة: كانت فترة التخيير بين الدخول في النصرانية
أو الخروج من الأندلس فترة عصيبة جداً على المسلمين، وتنصر كثير منهم،
وخرج من الأندلس كثيرون لكن القانون لم يطبق بحزم، وفي عام 930هـ صدر
مرسوم جديد يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية
من أسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة
بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.
لم يرتضِ المسلمون هذا الظلم فرفعوا مظلمتهم إلى إمبراطور النصارى؛
فشكَّل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق للنظر فيما ادعاه
المسلمون من أنهم يُنصَّرون بالقوة والإكراه. وقررت هذه المحكمة أن إكراههم على
النصرانية صحيح، وأنه ملزم لهم بدخول النصرانية على اعتبار أنهم يفرون
بالدخول في النصرانية من خطر الموت أو الطرد أو الرق ومصادرة الأملاك.
وقد علق على هذا الحكم الجائر غربي نصراني بقوله: «وهكذا اعتبر
التنصير الذي فرضه القوي على الضعيف، والظافر على المغلوب والسيد على
العبد، منشأ لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها.
وإثر هذا الحكم صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين نُصِّروا كرهاً
على البقاء في أسبانيا باعتبارهم نصارى، وأن ينصَّر أولادهم؛ فإن ارتدوا عن
النصرانية قضي عليهم بالموت والمصادرة. كما قضي بأن تحول جميع المساجد
الباقية في الحال إلى كنائس» [30] .
وقام ديوان التحقيق محاكم التفتيش بمهمة ملاحقة المتنصرين ومراقبة سلوكهم
بقصد حماية عقيدة الكاثوليك من ارتداد الناس عنها، وكذلك إجبار غير الكاثوليك
على التدين بها وهو ما يسمى في كتب الغربيين بالكثلكة.
وقد حاول المتنصرون من اليهود والمسلمين الهرب من بطش رجال ديوان
التحقيق وذلك بالتخفي في الجبال وفي ضياع الأشراف، فصدرت الأوامر الملكية
بتسليم الهاربين إلى ديوان التحقيق، وهُدد الأشراف بفقد وظائفهم والنفي من
الكنيسة إذا لم ينفذوا الأوامر مما كان سبباً في بث الرعب والذعر في صفوف
المتنصرين، فحاولوا الهرب من الأندلس كلها عبر شواطئ البحار والأنهار،
فأصدرت الحكومة النصرانية قراراً يحرِّم على ربان أية سفينة وأي تاجر أن ينقل
معه نصرانياً محدَثاً دون ترخيص خاص [31] .
6 - محو شعارات المسلمين وعاداتهم بعد محو شعائر الإسلام: قام مندوبو
ديوان التحقيق بمراقبة المتنصرين في شعائرهم لضمان انتمائهم للدين الكاثوليكي،
ثم أُصدر قانونٌ يحرم استعمال الشعارات الإسلامية مثل اللغة العربية، وارتداء
الثياب العربية على هؤلاء المتنصرين، ومنع نسائهم من الحجاب وإلزامهن بلبس
المعطف والقبعات كما يفعل نساء النصارى، وأن تكون احتفالاتهم مطابقة لعرف
الكنيسة، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال وأيام الجمعة والأعياد الإسلامية
ليستطيع القسيس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والرسوم، كما
حرموا على النساء الخضاب بالحناء، وحرَّموا استعمال الأسماء والألقاب العربية.
ويعتبرون المتنصِّر قد عاد إلى الإسلام إذا امتدح دين محمد أو قال: إن يسوع
المسيح ليس إلهاً وليس إلا رسولاً، ويجب على كل نصراني أن يبلِّغ عما يرى
ويسمع من ذلك، كما يجب عليه أن يبلِّغ إذا رأى أحد المتنصرين يباشر بعض
العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم يوم الجمعة، أو يحتفل بارتداء ثياب
أنظف من العادة، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله ولا يأكل ولا يشرب إلا عند
الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب
الخمر، أو يتوضأ ويصلي نحو الشرق ويركع ويسجد، أو يملِّس بيديه على رؤوس
أولاده، أو يغسل الموتى ويكفنهم أو يدفنهم في أرض بِكْر [32] .
كان هذا الاجتثاث والمحو لشعائر الإسلام أولاً، ثم للشعارات والعادات التي
تربط بين المسلمين كفيلاً بإنهاء مظاهر الإسلام في الأندلس إلى أن صدر الأمر
الأخير بطرد العرب عام 1604م أي عام 1010هـ تقريباً، فرحل في سنتين عن
أسبانيا نحو نصف مليون مسلم، وطويت صحيفة الإسلام في شبه جزيرة الأندلس؛
ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم [33] .
وقد تزامن مع تعذيب الأندلسيين على أيدي النصارى إرسال حملات صليبية
إلى الشرق الإسلامي للقضاء عليه، وقد استمرت هذه الحملات مائتي سنة تقريباً
من 489هـ إلى690هـ.
حروب الفرنجة أو الحملات الصليبية:
أطلق الغربيون على هذه الحروب في تواريخهم أسماءاً عدة منها: «الحج
إلى الديار المقدسة» ، «الحرب في خدمة المسيح» ، «أعمال المسيحيين وراء
البحار» ، «الحرب من أجل تحرير القبر المقدس» [34] .
وأما المؤرخون المسلمون كابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وغيرهم فكانوا
يسمونها: «حروب الفرنجة» أو الإفرنج [*] .
وقد ذكر المحللون لها أسباباً عدة وأهدافاً متنوعة كالانتقام من المسلمين
والاستيلاء على ثرواتهم وإنعاش اقتصاد النصارى وغير ذلك؛ ولكن المحرك
الحقيقي والدافع الأكبر هو الهدف الديني، وكانت الدوافع الأخرى سواء منها
الاقتصادي أو الانتقام من المسلمين فهي محرك لفئات من النصارى كان لا يهمهم
مقدساتهم في الشرق الإسلامي، فاستخدمها مدبرو هذه الحملات ومسيروها لدفعهم
إلى قتال المسلمين وحشد أكبر عدد ممكن لهذه الحملات. والعبرة في معرفة أسباب
الحروب هو نظرة قادتها ومحركيها ومسعِّريها؛ لأن الجيوش إنما تسير وتتوقف بهم، أما عامة الناس فليس لهم من الأمر شيء.
وقد استمرت الحملات الصليبية الكبرى قرنين من الزمان من حملة بطرس
الناسك عام (489هـ) إلى سقوط عكا وما بعدها في أيدي المسلمين عام (690
هـ) ؛ وبسقوطها انتهت دولة النصارى اللاتينية في الشرق الإسلامي، وبقي منهم
باقية عاشوا تحت حكم المسلمين.
بعد سقوط عكا وانتهاء الحكم الصليبي في الشرق الإسلامي حاول البابا
(نيقولا الرابع) تهييج النصارى في أوروبا بإلقاء المواعظ والخطب التي ذكرهم فيها
بسقوط ممالك الصليب في الشرق الإسلامي، وعقد المجامع الكنسية منادياً بإعادة
مملكة عكا وبيت المقدس؛ لكن الأوروبيين تعبوا من تسيير حملاتهم إلى الشرق
الإسلامي، وأحسوا بحجم الخسائر التي لحقتهم من جراء ذلك على مدى قرنين من
الزمن [35] .
ثم حاول النصارى الأرمن ومن بقي معهم من النصارى تحت الحكم الإسلامي
في مصر والشام التحالف مع المغول وحصل ذلك لكنهم كُسروا غير مرة.
وتواصلت نداءات الباباوات في أوروبا لتسيير حملات أخرى إلى الشرق
الإسلامي خاصة بعد أن تولى بنو عثمان الخلافة الإسلامية وقويت دولتهم وهددوا
اليونان ومن خلفهم من الأوروبيين، لكن هذه النداءات لم تجد سامعاً.
وشن القبارصة والأرمن وغيرهم من النصارى عدة غارات على المسلمين
لكنها أخفقت، وكانت آخر محاولاتهم عام 830هـ؛ وانتصر عليهم المسلمون
بقيادة الملك أبي النصر برسباي التركماني؛ إذ كسر القبارصة وأسر ملكهم
(جانوس) وخضعت قبرص للسلطنة المصرية الإسلامية ووضعت فيها حامية
مصرية.
آثار الحروب الصليبية على المسلمين:
تركت الحروب الصليبية كثيراً من الآثار السيئة على الأمة الإسلامية في
الشرق كان منها:
1 - المذابح العظيمة التي لحقت بالمسلمين من جراء تلك الحملات، وفي
الحملة الأولى أباد النصارى أهل أنطاكية، وذبحوا في القدس أكثر من سبعين
ألفاً [36] ، وكم أعطى النصارى الأمان لأهل البلاد التي يحاصرونها ثم يغدرون بهم بعد التسليم ويبيدونهم كما فعل ريتشارد (قلب الأسد) غير مرة.
2 - تخريب كثير من بلاد الشرق الإسلامي وتهجير أهلها منها، فقد خُربت
حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقنسرين وطبرية وغيرها، واضطر المسلمون
أن يخربوا مدنهم بأيديهم أثناء الحصار حتى لا يستفيد منها الصليبيون، ولعلهم بعد
التخريب لا يستوطنونها [37] .
3 - تشريد كثير من المسلمين من بيوتهم، لأن هدف الصليبيين كان هدفاً
استيطانياً، فهم يفرغون المدن التي يستولون عليها من أهلها، ومن ثمَّ لا مأوى
لأهلها المشردين.
4 - مهدت الحروب الصليبية لحركات الاستعمار الذي لا زال المسلمون
يعانون من آثاره ويرزحون تحت نيره؛ ذلك أن الصليبيين وخلال مائتي عام من
تسيير الحملات الكثيرة التي كان أكبرها ثماني حملات اقتنعوا أن الشرق الإسلامي
لا يمكن كسره عسكرياً؛ إذ إن روح الجهاد التي تُبعث مع كل اعتداء عليه كفيلة
بدحر أي قوة، وهزيمة أقوى جيش مما جعل النصارى يلجؤون إلى أساليب أخرى
من الغزو تمثلت في الغزو الفكري، والهيمنة الاقتصادية، وتفريق المسلمين
والتحريش فيما بينهم.
يقول (Kigk) : إن الحروب الصليبية فتحت أذهان الغربيين إلى مستوى
الحضارة في الشرق الأوسط، ذلك المستوى الذي كان يفوق بكثير حضارة الغرب،
ومع تفتيح أذهان الغربيين اتجه هؤلاء إلى غزو الشرق فكرياً بعد أن عجزوا عن
غزوه عسكرياً.
يقول (Oman) : إن هذه الحروب يعني الصليبية وضعت نواة الاستشراق إذ اتجه الرهبان لدراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي لمعرفة اتجاهات المسلمين
في مختلف الشؤون، وقد أُسست كلية للرهبان عام 1276م في (ميراما) لدراسة
اللغة العربية والعلوم الإسلامية، كما أنشئت الكراسي للُّغات الشرقية في باريس
ولوفان « [38] .
ولجأ النصارى إلى التنصير بين المسلمين عن طريق الإرساليات التنصيرية
بعد أن ثبت إخفاقهم في المعارك الحربية، ومن مؤسساتهم لنجاح التنصير مدارس
» الفرنسيسكان «المنسوبة إلى القديس فرنسيس، و» الدومنيكان «المنسوبة إلى
القديس دومنيك في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي في سوريا، وكان المنصِّر
يُعَدُّ لهذه المهمة قبل أن يرسَل لمباشرتها. ومن أهم وسائل إعداده تعلُّمه اللغة
العربية، وشيئاً من الدراسات الإسلامية؛ وذلك هو الدستور الذي لا يزال سائداً
حتى الآن [39] .
__________
مشاريع التنصير:
وطبقًا لإحدى الدراسات التنصيرية فإنه ينشط في أنحاء العالم الآن 387
مشروع تنصيري عالمي. و 254 مشروع منها تحرز التقدم والنتائج المرجوة
ويعتبر 254 مشروع من هذه المشاريع مشاريع واسعة النطاق وهي التي ينفق كل
واحد منها على العمل التنصيري عشرة آلاف ساعة عمل أو أكثر من عشرة ملايين
دولار سنويًا على مدى عشر سنوات.
و33 مشروعًا من هذه المشاريع هي ما توصف بـ (المشاريع الضخمة)
وهي التي ينفق كل واحد منها مائة ألف ساعة عمل أو مائة مليون دولار سنويًا أو
ألف مليون دولار عبر عمرها، وأكبر هذه المشاريع الضخمة ينفق الآن 550
مليون دولار سنويًا على أنشطتها التنصيرية في أنحاء العالم.
أموال التنصير:
من المعروف أن الكنيسة تمتعت دائمًا بمصادر ضخمة. ولكنها لم تحسن
استخدامها دائمًا. ومن ذلك أن مشروعًا تنصيريًا معينًا جمع له 336 مليون دولاؤ
سنة 1918م ولكنه انهار خلال أسبوع واحد من قيامه، كما أن مشروعًا ضخمًا آخر
للتنصير جًمِعَ له مبلغ 150 مليون دولار في الولايات المتحدة ثم أنهار فجأة سنة
1988م نتيجة فضيحة أخلاقية وإدارية تتعلق ببعض كبار المنصرين، والإشارة
هنا إلى القسين الأمريكيين (باكير) و (جيمي سواغارت) قائدي منظمة مجالس
الله.
- البيان -
__________
قوة المال:
استخدم المنصرون إلى جانب القهر والسلطة والسياسية، قوة المال ووسائل
الدعاية، فقد بلغت الأوضاع المالية للكنائس العالمية أن المسيحية العالمية المنظمة
أنفقت في الثمانينيات 145بليون دولار سنويًا ويعمل في أجهزتها 4. 1 ملايين
عالم متفرغ، وهي تدير 13000مكتبة عامة كبرى، وتنشر 22000 مجلة بمختلف
اللغات عبر العالم، كما تنشر 4 بلايين نسخة من الكتب في العام الواحد، وتدير
1800محطة إذاعية وتليفزيونية في أنحاء العالم، وتستخدم المنظمات الكنسية 3
ملايين جهاز كمبيوتر، ويُوصف أخصائيو الكمبيوتر المسيحيون بأنهم جيش
مسيحي من نوع جديد.
- البيان -
__________
الإخطبوط التنصيري:
إخطبوط التبشير المسيحي بلغ في سنة 1985م ربع مليون مبشر مسيحي
غربي في آسيا وإفريقيا، يمثلون 3. 500 منظمة وجمعة تبشيرية في الغرب،
يساعدهم 3. 5 مليون مبشر محلي.
وينفق الغرب أموالاً طائلة على هذا المجهود فحسب قول دافيد وارين الذي
يحرر دائرة المعارف المسيحية العالمية أنفقت الإرساليات المسيحية عبر العالم 70
بليون دولار سنة 1970 و 100. 3 بليون دولار سنة 1980م، وكان الرقم
المتوقع لسنة 1985م هو 127بليون دولار. وبهذه الزيادة المطردة، لا بد أن
يكون إنفاق الإرساليات الحالي عبر العالم قد جاوز مائتي بليون دولار في السنة.
- البيان -
__________
إحصائية التنصير لعام 1999م (*)
عدد أعضاء كل طائفة ... عام 1970 ... عام 1999 ... ... عام 2025
الكنيسة الإنجليزية ... 47.520.000 74.500.000 ... 110.000.000
الأرثوذكس ... ... 147.369.000 222.120.000 ... 271.755.000
البروتستانت ... 233.800.000 321.358.000 461.808.000
الكاثوليك ... ... 671.441.000 1.040.018.000 1.376.282.000
النصارى في إفريقيا 120.257.000 333.368.000 668.124.000
عدد المنصرين الأجانب 240.000 ... 415.000 ... 550.000
عدد المنصرين المحليين 2.350.000 ... 4.910.000 ... 6.500.000
التبرعات للكنيسة 70 بليون دولار 1.489بليون دولار 26 بليون دولار أمريكي
الجرائم المتعلقة بالكنيسة 5 مليار دولار 12.2 مليار دولار ... 65 مليار دولار ...
... ... ... ... ... ... أمريكي ... ... ... أمريكي
عناوين الكتب النصرانية 17100 ... 24800 ... ... 70.000 عنوان
التي تم طباعتها
المجلات الدورية النصرانية 23000 ... 33700 ... ... ... 100.000
عدد الأناجيل ... ... 251 مليون ... 2.149.341.000 4.430.000 نسخة
وأجزاء الأناجيل التي تم طباعتها
محطات الإذاعة والتلفزيون 1230 ... 3.770 ... ... 10.000 محطة
التنصيرية
عدد مخططات التنصير ... 510 ... 1340 ... ... 3000 خطة
في العالم
(*) نقلاً عن: كتاب لمحات عن التنصير في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن السميط
- البيان -
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد، 5/259، والطبراني في الكبير، 7/225، برقم (7786) وعزاه الألباني للروياني في مسنده، وحسنه انظر السلسلة الصحيحة برقم (304) .
(2) جامع البيان، 2/194، وتفسير ابن كثير، 1/371، والدر المنثور، 1/37، عند تفسير الآية (193) من سورة البقرة.
(3) جامع البيان، 2/194، والناسخ والمنسوخ للنحاس، 29 والدر المنثور، 1/371.
(4) تفسير ابن كثير، 2/ 105، عند تفسير الآية 48 من سورة المائدة.
(5) فتوح البلدان للبلاذري، 137، والخراج لأبي يوسف عن تاريخ الحضارة العربية، لمحمد كرد علي، 1/39.
(6) فتوح البلدان عن تاريخ الحضارة العربية، 1/40، والحديث أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3052) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2626) .
(7) الدعوة إلى الإسلام، لأرنولد، 132، عن تحرير الاستعمار، د شوقي أبو خليل، 19.
(8) الدعوة إلى الإسلام، 69 - 70، عن المصدر السابق، 8.
(9) مجلة لامارش دي فرانس، تعريب جريدة الأهرام عن الإسلام والحضارة العربية، لمحمد كرد
علي، 1/38.
(10) حياة الحقائق عن كتاب محمد كرد علي، الإسلام والحضارة العربية، 1/56.
(11) الإسلام والحضارة العربية، 1/144.
(12) المصدر السابق، 1/252، 253.
(13) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتاب (3011) ، ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (154) والترمذي في النكاح (1116) والنسائي في النكاح، 6/15.
(14) انظر: فتوح البلدان، للبلاذري، 142.
(15) انظر بنود الصلح في تاريخ الطبري، 2/449.
(16) انظر: تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 93، وما بعدها، وقصة الحضارة لديورانت، 13/281، وما بعدها.
(17) انظر: الكامل، 8/185.
(18) عن دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان، 6/313.
(19) ما أشبه الليلة بالبارحة! فاليهود اليوم ومن خلفهم قوى النصارى الظالمة يمارسون السياسة نفسها في فلسطين فيما يتعلق باتفاقيات السلام المزعوم؛ إذ إن لهذه الاتفاقيات والنصوص تفسيرات عند اليهود تختلف عما فهمه المفاوضون العرب، ولا تظهر هذه التفسيرات اليهودية إلا حينما يطالبهم العرب بتطبيقها وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ] (البقرة: 100) [الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ] (الأنفال: 56) .
(20) ذكر المقري أن المسلمين ما سلَّموا غرناطة للنصارى عام 897 هـ إلا بعد أن اشترطوا سبعة وستين شرطاً فيها حفظ دينهم وإقامة شعائره وحفظ أموالهم وأراضيهم، ولكن النصارى لم يفوا بتلك الشروط بل بدأ غدرهم فور تمكنهم انظر بعض شروط المسلمين في نفح الطيب، 6/280.
(21) انظر دولة الإسلام في الأندلس، 6/315 316.
(22) الإسلام والحضارة العربية، 1/255.
(23) دولة الإسلام في الأندلس، 6/318.
(24) دولة الإسلام في الأندلس، 6/318.
(25) الإسلام والحضارة العربية، 1/253، وانظر: نفح الطيب، 6/281، وقد ذكر أنهم يقولون للمسلم: إن جدك كان نصرانياً فأسلم فترجع نصرانياً.
(*) هذا المصطلح يطلق على العرب الذين تنصروا في الأندلس بعد انتزاع النصارى لها انظر الموسوعة العربية الميسرة، 2/1777، وأصل الكلمة تصغير لكلمة: (موروس) ومعناها: المسلمون الأصاغر رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال.
(26) دولة الإسلام في الأندلس، 6/320.
(27) انظر: الإسلام والحضارة العربية، 1/253.
(28) انظر: دولة الإسلام في الأندلس، 6/324 327، وانظر في طرد المسلمين من الأندلس أيضاً الحلل السندسية، 3/334 وذكر فيه عدداً من القوانين الجائرة التي صدرت في حق الأندلسيين وكذلك الإسلام والحضارة العربية، 1/53، وذكر فيه أن المسلمين كانوا في الجبال فيما يشبه بنصف استقلال أكثر من نصف قرن، ثم ذكر أن أكثرهم تنصروا في بداية القرن السادس عشر الميلادي.
(29) انظر: الحلل السندسية، 3/334 335.
(30) انظر: دولة الإسلام في الأندلس، 6/351.
(31) دولة الإسلام في الأندلس، 6/332.
(32) انظر: دولة الإسلام في الأندلس، 6/345، 346 وأيضاً 357 والمورسيكيون لأنطونيو
لورتي، 334، وتاريخ الاحتلال الأسباني، 13/131.
(33) انظر الإسلام والحضارة العربية، 1/253.
(34) مدخل إلى تاريخ حركة التنصير، د ممدوح حسين، 10، 11، وماهية الحروب الصليبية، قاسم عبده قاسم، 239.
(*) الفرنجة والإفرنجة تحولت من كلمة (الفرانك) (Francs) وهم من السلالة الجرمانية تغلبوا على فرنسا فنسبت إليهم وتسمت بهم، ثم إن العرب تلفظوا بها (الفرنج) أو (الإفرنج) وغلبت هذه اللفظة على كل الأوروبيين ويقال إن اشتقاق اسم فرنسا من الفرانك، انظر غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط، لشكيب أرسلان، 51 والحروب الصليبية في المشرق والمغرب، 186.
(35) الحروب الصليبية في المشرق، 642.
(36) انظر مثلاً: المنتظم، 17/47 ووفيات الأعيان، 1/179، ومرآة الجنان، 3/154، وتاريخ ابن خلدون، 5/25، وتاريخ ابن الوردي، 1/11، والكامل، 10/283، والبداية والنهاية، 12/138.
(37) انظر مثلاً: النوادر السلطانية، 235 والسلوك لمعرفة دول الملوك، 1/106، وقد ذكر الغربي جاك دي دنتيري: أن الصليبيين اعتادوا نهب حمص وبعلبك وحماة لكي يرغموا أهلها على دفع إتاوة لهم انظر: ماهية الحروب الصليبية، 233، وانظر أيضاً: رحلة ابن جبير، 228 232.
(38) الحروب الصليبية، لأحمد شلبي، 92.
(39) المصدر السابق، 98.(153/34)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(1 - 2)
التنصير يغزو العالم الإسلامي
أحمد عبد الله سيف الرفاعي
عندما نقارن بين المخاطر التي تشكلها الحروب التي يشنها الأعداء ضد
المسلمين، وبين المخاطر التي يشكلها الغزو الفكري الثقافي عليهم، فإننا نذهب إلى
أن النوع الثاني أشد تدميراً وأكثر ضراوة وأعمق تأثيراً من النوع الأول، أي أنه
يُخشى على المسلمين من التدمير الفكري الثقافي أكثر من أن يُسحقوا مادياً تحت
وطأة الجيوش والأسلحة، هذا فضلاً عن أن المسلمين يخرجون من حروبهم مع
أعدائهم أشد عزماً وأقرب رجوعاً لدينهم وتمسكاً به.
وفيما يلي نتعرض لأحد معاول الهدم الخبيثة التي تحاول دائماً النيل من
الإسلام ومن المسلمين، ألا وهو التنصير:
أولاً: لماذا هدفهم الإسلام؟ !
يستهدف المنصرون الإسلام قبل أي دين آخر لأنهم يعرفون من تاريخهم كله
أنه لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة، وأنهم غالَبوا أهله طالما لم يُحكِّمه
أهله في حياتهم.
ولقد عَدَلَ النصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام، أو الاصطدام
بالمسلمين لأن الغلبة في النهاية تكون من نصيب المسلمين؛ فالأمة الإسلامية قد
تمرض ولكنها لا تموت، وتغفو ولكنها لا تنام، والمسلمون قد يهزمون ولكنهم لا
يبادون أو يسحقون، ومهما كانت الحروب معهم أعني المسلمين سجالاً فالغلبة لهم
في النهاية متى جعلوا نصرة الله نصب أعينهم وهدفهم المنشود، وما أن يُخلِص
المسلمون في عودتهم إلى دينهم حتى يصبحوا قوة لا تقهر، ولقد عرف النصارى
الصليبيون هذه الحقيقة، وأكدها لهم لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن هزمه المسلمون
شر هزيمة، وأسروه في موقعة المنصورة بمصر، ثم خرج صاغراً من أسره،
وكتب وصيته الشهيرة والتي عُرفت بوصية القديس لويس ليؤكد فيها أن
المسلمين لا تهزمهم الجيوش مهما كانت، وعلى الغرب الصليبي أن يتخلى
عن استخدام أسلوب الحروب المادية، وأن يستبدلها بالحروب الثقافية الفكرية،
وكانت وصيته تلك بمثابة إعلان عن أن الصراع بين المسلمين والنصارى بدأ
يأخذ شكلاً جديداً، فاستُبدلت الحروب المادية بأخرى فكرية ثقافية، وإن لم يخلُ
الأمر من صِدام مادي وقتال دموي على طول محطات التاريخ.
ثانياً: أهداف التنصير:
يسعى المخطط التنصيري إلى تحقيق مجموعة من الأهداف في البلاد
الإسلامية؛ فالمنصِّرون يعتبرون الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم؛ فهم لا
يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية؛ إذ إنها جميعاً ديانات قومية لا تريد
الامتداد خارج أقوامها وأهلها، وهي في الوقت نفسه أقل من النصرانية رقيّاً. أما
الإسلام فهو كما يسمونه دين متحرك زاحف يمتد بنفسه وبلا أية قوة تساعده، وهذا
هو الخطر فيه كما يقولون ومن هنا نجد أن للتنصير أهدافاً متنوعة، منها ما هو
تقليدي، ومنها ما هو غير تقليدي، ومن هذه الأهداف ما هو ظاهر جليّ، ومنها ما
هو باطني خفيّ، بل إن للتنصير أهدافاً بالغة الخطورة على الإسلام وعلى المسلمين،
ورغم ذلك يكاد أن لا يشعر بها أحدٌ من المسلمين.
ويمكن تركيز أهداف التنصير في ثلاثة أهداف متدرجة كما يلي:
1 - إخراج المسلمين من الإسلام، والتشكيك فيه، وفي سيرة رسوله صلى
الله عليه وسلم، وتزييف مفاهيمه، وهدم عقيدته: يقول زويمر أحد أقطاب
التنصير: «إن مهمة التنصير ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية
(النصرانية) ؛ فإن هذه هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من
الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله» وصدق الله إذ يقول: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ] (البقرة: 109) .
2 - الحيلولة دون انتشار الإسلام: فالمنصرون يشنون هجومهم على الإسلام
خوفاً على قومهم من معرفته أكثر من رغبتهم في تنصير المسلمين؛ فهم يخافون
الإسلام ويرددون دائماً أنه الدين الوحيد الخطر عليهم، ويفضل الغرب أن يظل
يُنعت بالنصرانية على الرغم من علمانيته وإلحاده، وعلى الرغم من تهميشه
للكنيسة هناك. ويأتي تبشير الغرب بالنصرانية أو ما نسميه نحن بالتنصير مسوغاً
اصطنعه ليواجه التوسع الإسلامي، وليضفي الشرعية على هذه المواجهة، ويتقاسم
مع التوسع الإسلامي أسس الهداية والإيمان. وكثيراً ما يتَّهم الغربُ الإسلام كذباً
وزوراً بأنه انتشر بالسيف ليجعل من ذلك مسوغاً لاستخدام السيف هو الآخر، فهو
في الحقيقة لا يصف التوسع الإسلامي بقدر ما يبحث عن شرعية ضرب الشعوب
بالسيف تحت ستار التبشير أو التنصير، والواقع كما يرى الغرب أن حالات دخول
الإسلام أكثر عدداً من حالات التنصر من غير مراكز تنصيرية ومن غير ضرب
الشعوب بالسيف.
ويجدر بنا أن ننبه على أن هدف التنصير يختلف من منطقة إلى أخرى؛ ففي
البلاد العربية يكتفي بزعزعة عقيدة المسلم وإخراجه من الإسلام، وليس مهماً أن
يدخل النصرانية، أما خارج البلاد العربية فيتم تنصير المسلمين فعلاً، وليس معنى
هذا أن البلاد العربية ذات حصانة ضد التنصير؛ فقد وقع فيها أعمال للتنصير آتت
أكلها الخبيثة في أحيان كثيرة، وتنصَّر بعضٌ من الناس بالفعل في تلك البلدان،
ولكن كان التنصير أكثر وقعاً في البلدان الإسلامية الأخرى.
3 - التمهيد لإخضاع العالم الإسلامي سياسياً واقتصادياً وثقافياً لسيطرة النفوذ
الغربي: وتهيئة الأجواء لقبول ما يسمى بـ «العولمة» أو «الكوكبة» وما يتبع
هذا النظام من توحيد الأيديولوجية السياسية العالمية، وإقامة هيكل اقتصادي جديد،
وبث قيم اجتماعية عصرية، وإزالة الحواجز الثقافية، وتذويب الفروق بين
المجتمعات الإنسانية المختلفة انتهاءاً برعاية الحوارات الدينية والثقافية، بل
والدعوة إلى ما يشبه الدين العالمي ... إلى غير ذلك من شعارات وأهداف براقة
ينخدع بها الكثيرون؛ فإن ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه الخسران؛ إذ هي في
حقيقتها تسعى لحصار المسلمين وفرض التبعية الغربية عليهم، وإقامة آليات
السيطرة حولهم، واختراق الحضارة والهوية الإسلامية خاصة بعد أن غَيّر الغرب
من أساليب السيطرة العسكرية التقليدية واستبدالها بأساليب حديثة تعطي النتائج
نفسها [1] .
أترون أن التنصير والقائمين عليه سيقفون مكتوفي الأيدي أمام هذه المتغيرات
الدولية؟ لا؛ فإنهم سيكدُّون لتحقيق أهدافهم تحت مظلة تلك المتغيرات التي
يعتبرونها فرصة ثمينة وسانحة لبلوغ مآربهم.
إن الزمان قد دار دورته، وما اليوم من الأمس ببعيد؛ فهاهم أولاء
المنصرون يجدون تحت مظلة العولمة فرصة لدعم التنصير ونشر النصرانية كما
فعلوا قديماً تحت رعاية الاستعمار العسكري الأوروبي، ومن قبله الحروب الصليبية،
ثم يخرج علينا من يقول: إن الحروب الصليبية قد انتهت. لا، وألف لا، ما
انتهت. راقبوا أعمال التنصير الدؤوبة في ديار الإسلام فسترونها جهاراً نهاراً بدون
بندقية ولا مدفع إلا نادراً.
ثالثاً: وسائل التنصير.. بين القديم والجديد:
لقد أخذت أعمال التنصير في السنوات الأخيرة أشكالاً جديدة، واخترع
المنصرون وسائل حديثة لتنصير المسلمين أكثر خفاءاً وأعمق تأثيراً وأشد مكراً
وخداعاً من الوسائل «التقليدية» المعهودة، وبذلوا لذلك جهودهم لاستحداث وسائل
جديدة للتنصير، مما لا يجعل من المبالغة أن أقول: إن المنصرين استفتحوا على
المسلمين كل باب، وأتوهم من طرق شتى تكاد لا تخطر على المسلمين ببال سواء
كانت طرقاً ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي ... أو غير ذلك.
وأصبح التنصير اليوم يتكئ على هذه الوسائل الحديثة فضلاً عن القديمة.
وفيما يلي نسلط الأضواء على وسائل التنصير بنوعيها مع ذكر بعض النماذج
والأمثلة:
1 - استغلال الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية: وما ينتج عنها من دمار
وخراب وأوضاع مأساوية في أغراض التنصير، فضلاً عن أوضاع المسلمين
المأساوية من أيتام وأرامل، وما يحتاجون إليه من طعام وكسوة ومسكن بالإضافة
إلى التعليم والعلاج مما يجعلهم فريسة سائغة لاستغلال المنصرين الذين يتظاهرون
بمواساتهم مادياً ومعنوياً، ويدّعون الاهتمام بهم صحياً وتعليمياً، وصولاً إلى
اكتساب قلوب هؤلاء المسلمين البسطاء، ومن ثم السيطرة على عقولهم وإقناعهم
بأن في النصرانية خلاصهم من عذاب الآخرة وفقر الدنيا، ويشترط هؤلاء
المنصرون على أولئك المسلمين الذهاب إلى الكنيسة لأداء قداس الأحد مثلاً، أو
يشترطون عليهم عدم المشاركة في الأنشطة الإسلامية نظير خدماتهم تلك.
لقد بلغت تقديرات نسبة اللاجئين المسلمين 80% من مجموع اللاجئين في
العالم كله لجؤوا إلى بلدان أخرى لأسباب عديدة منها: الحروب، والكوارث،
وبطش الحكومات والأنظمة المعادية للإسلام، أو خوفاً من الاضطهاد الديني
والسياسي العرقي، ويعاني هؤلاء اللاجئون من تشتت الأسر وفقدان مقومات الحياة
الأساسية؛ ولذلك فإنهم يمثلون مجالاً واسعاً وتربة خصبة لعمل الجمعيات
والمنظمات التنصيرية. وفيما يلي بعض هذه الأمثلة:
* بعد الحرب الأهلية في سيراليون عام 1996م والتي قُتل فيها أكثر من
عشرة آلاف شخص، وتسببت في نزوح مليون ونصف مليون شخص من منازلهم،
قال «كرسبين كول» أحد قادة منظمة الإغاثة World Releif
Corporation: «إن الأبواب مفتوحة أمامنا لتنصير هؤلاء المسلمين» .
* منظمة «الرؤيا العالمية» التي لها نشاط في أكثر من 80 دولة وتشرف
على 86 ألف لاجئ مسلم صومالي توفر لهم الدواء والكساء والتعليم، وتدعوهم إلى
النصرانية؛ علماً بأن نسبة المسلمين في الصومال 100%، وفي الصومال أيضاً
كان الهدف الحقيقي للمشروع الألماني الوطني لمحاربة أمراض العمى هو نشر
النصرانية والدعوة لها، وهذا ما اعترف به مسؤول المشروع د. جي ميشيل بعد
إسلامه.
* كما أن هناك حركة تنصيرية قوية يشارك فيها البروتستانت والكاثوليك
وسط قبائل الطوارق في شمالي نيجيريا ومالي في وقت قتل الجفاف ماشيتهم،
وضربت المجاعة مناطقهم، ومات منهم المئات بسبب الفقر والجوع والمرض.
* في البوسنة وزعت الإرساليات التنصيرية 700 ألف كتاب تنصيري، كما
وزعت عدة آلاف من قصص الإنجيل على أطفال العراق مع مجموعة من الأشرطة
السمعية مستغلة الحصار الدولي عليه.
2 - استخدام التكنولوجيا الحديثة في التنصير والدعاية له: كاستخدام البريد
الإلكتروني وشبكة الإنترنت، وبلغ عدد أجهزة الكمبيوتر المستخدمة لخدمة التنصير
(206961000) جهاز عام 1996م.
ولقد قامت شركة مايكروسوفت لبرامج الكمبيوتر العالمية بتزويد المؤسسات
التنصيرية ببرامج مجانية بقيمة خمسة ملايين دولار خلال عام 1993م.
وقام القس الأمريكي المشهور «بيلي جراهام» صاحب معهد خاص بتنصير
المسلمين بحملة صليبية تهدف للوصول إلى 400 مليون شخص في 500 مدينة،
عن طريق الأقمار الصناعية عبر 16 قرصاً للأقمار الصناعية إلى 170 دولة.
وهذه هي أكبر عملية لنشر النصرانية تستخدم فيها التكنولوجيا الحديثة بهذا الزخم.
دعت الكنيسة في إنجلترا أتباعها إلى أداء الصلاة على الإنترنت، وفتحت
الكنيسة موقعاً على الشبكة تبين من خلاله كيفية أداء الصلاة بشكل بسيط، وربطت
الكنيسة في الموقع نفسه بين الالتزام بالصلاة وبين التمسك بالريجيم الغذائي أو
المواظبة على العناية بحديقة المنزل.
3 - بناء الكنائس والمراكز التنصيرية بشراهة زائدة مفرطة:
* كانت هناك كنيسة وحيدة في العاصمة «باماكو» بمالي؛ حيث لا يوجد إلا
2% من السكان من النصارى؛ إلا أنه الآن وبسبب النمو الكبير في حركة التنصير
تم بناء 32 كنيسة في العاصمة وحدها.
* وفي غانا شُيدت 600 كنيسة جديدة خلال عام واحد 1993م (صدق أو لا
تصدق) .
4 - التنصير بالبريد: انتشرت هذه الظاهرة في بعض البلدان
العربية ك (مصر) فكثيراً ما يصل إلى أحد المسلمين رسالة من مصدر مجهول
داخل مصر أو خارجها تتضمن رسالة تنصيرية وقحة، ويمكن الربط بين هذه
الظاهرة المريبة وبين نعي الوفاة الذي ينشر في الجرائد مشفوعاً بالعنوان البريدي
لإرسال برقيات العزاء. وعلى أي حال يبقى سؤال لا بد من طرحه وهو: إذا كان
بعض الناس يتحدث الآن عن مراقبة البريد لمعرفة «الإرهابيين»
المزعومين، فلماذا لا يراقبون بريد هؤلاء التنصيريين ... ؟ !
5 - التخصصية الفائقة الدقة في التنصير: تُشَكَّل الجمعيات التنصيرية
لتتخصص في تنصير قبيلة في أدغال إفريقية، أو أخرى في أواسط آسيا، أو
لتنصير عرقية محددة في أقصى سيبيريا، ولذلك تراهم يترجمون الإنجيل خصيصاً
بلغة تلك القبيلة أو العرقية، ويطبعون الكتب التنصيرية لنشرها بينها، وتقام
دورات للمنصِّرين لتعلُّم لغات تلك القبائل وعاداتها وأيديولوجياتها وفيما يلي بعض
الأمثلة:
* ترجمت إرسالية طائفة المينونايت ومقرها الولايات المتحدة الإنجيل
خصيصاً لتنصير أبناء قبيلة «الولوف» السنغالية المسلمة.
* تبث الإذاعات التنصيرية أو حتى برامج في إذاعات أخرى بلغة قبائل
معينة، وهذا ما فعلته محطة إذاعة «حول العالم» التنصيرية التي تبث برامج
خاصة بلغتي قبائل «لوموا» و «ماكوا» الإفريقيتين.
* أرسلت منظمة Great Cammossion Center (إحدى المنظمات
التنصيرية بالولايات المتحدة) عشرين منصراً إلى مسلمي إقليم «تونغ غان» في
غرغيزستان في الصين؛ حيث يبلغ تعداد المسلمين هناك نحو (300) ألف مسلم؛
فكم جمعية عند المسلمين تخصصت لنشر الإسلام الصحيح بين المسلمين في
الصين؟ !
* تم ترجمة الإنجيل باللغة الألبانية لأول مرة بجهود الإرسالية المسيحية
الأوروبية (E. C. M) وتم إهداء النسخة الأولى منها للرئيس الألباني.
* تمت ترجمة الإنجيل كاملاً إلى لغة «المانيكا» وهي قبيلة مسلمة 100%
في غامبيا.
* تأسست جمعية متخصصة للمهتمين بتنصير العرب سنة 1995م شارك في
تأسيسها منصرون من (إسرائيل) والضفة الغربية ومصر والأردن وعدة دول
عربية أخرى، كما شاركت فيها إرسالية (تنصير العالم العربي) وجمعية «بيلي
جراهام» للتنصير، ولجنة مؤتمر لوزان بسويسرا وغيرها.
* كما توجد «إرسالية أوروبا الكبرى» في إيلينوي بالولايات المتحدة
Greater Europe متخصصة لتنصير المهاجرين المسلمين في دول الغرب.
6 - استغلال المناصب السياسية والإعلامية لخدمة التنصير: فرغم أن
الكنيسة ما تزال ترفع شعار الابتعاد تماماً عن السياسة إلا أنها تدفع بالرهبان
والقسس لتقلد المناصب السياسية ليتسنى لهم من خلالها خدمة التنصير؛ ففي خمس
دول إفريقية هي: توغو، بنين، الكونغو، الغابون، زائير يترأس المجالس
النيابية في هذه البلاد قسس ورهبان.
* حَكَم (جاليوس نيريري) وهو قس سابق متعصب تنزانيا (75%
مسلمين) لمدة 26 سنة حشد خلالها كل أجهزة الدولة ضد الإسلام، وحرم المسلمين
من حق التعليم والمناصب الإدارية وممارسة شعائر دينهم، بل من حق المواطنة،
في حين قدم التسهيلات والتشجيعات للكنيسة ورجالها، ولم تخلُ خطاباته
خلال حكمه من التذكير بأنه نصراني يفتخر بذلك (حتى في خطابه في جامعة
القاهرة في إبريل 1976م) ، ومثله الرئيس النصراني المتشدد (دانيل آراب
مويْ) رئيس كينيا السابق.
* ولا يفوتنا هنا أن نذكر الدور البارز الذي قام به مجلس الكنائس العالمي في
إدارة حرب الجنوب في السودان علماً بأن عدد النصارى هناك لا يتجاوز 7% من
تعداد السكان في الجنوب كما أن العميل جون جارانج قائد التمرد هناك كان يتخذ
الكنائس مقراً وقاعدة للانطلاق.
7 - منح الجوائز التشجعية العالمية أو شبه العالمية لمن كان لهم دور بارز
في خدمة قضايا التنصير أو حتى في قضايا ضد الإسلام.
فلقد منحت لجنة جائزة «أوناسيس» (الجائزة الكبرى) وقدرها 250 ألف
دولار أمريكي للأرثوذكسي بطرس غالي سكرتير عام الأمم المتحدة سابقاً نتيجة
جهوده في التفاهم الدولي والتمييز الجماعي، ويقصدون دوره الكبير في مشكلة
البوسنة والهرسك، وقد أعلن عن تلك الجائزة مباشرة بعد سقوط الجيب الآمن الذي
أعلنته الأمم المتحدة في سربنيتشا في البوسنة وقد قتل عدة آلاف من المسلمين
العزل هناك.
* اختارت جمعية كنائس (ماترا) في فلندا الأسقف «باريد نابان» أسقف
مدينة (توريت) في جنوب السودان لجائزة (السلام) التي تمنحها عادة لأولئك
الذين يبذلون جهوداً كبيرة في هذا الميدان.
8 - الزيارات المتكررة والمكثفة التي يقوم بها كبار دعاة النصرانية وكبار
المنصرين على المستوى الدولي لكثير من الدول خاصة المستهدفة بالتنصير.
* لقد قام البابا يوحنا بولس الثاني في الفترة من 5/2/1980م وحتى 20/9/
1995م بست وأربعين زيارة لأربعين دولة إفريقية، وبالمقارنة لا نجد أحداً من
الباباوات زاروا إفريقيا بهذا القدر الهائل من الزيارات كما فعل البابا يوحنا هذا،
وتعكس هذه الزيارات ذات الطابع الرسمي مجالات أوسع للتنصير وتفتح كذلك
مجالات أرحب للمنصرين لترويج دعاياتهم المضللة والمزيفة، كما ستضفي على
العملية التنصيرية الصفة الرسمية بسبب ما يصاحبها من مشاركة حكومية، وهذا
يكسبها بعض المواقع الهامة والجولات التنافسية، ولكن يبقى لنا أن نسأل: لماذا
يهتم البابا بإفريقيا بالذات كل هذا الاهتمام؟ !
إنه الإفلاس العقائدي للنصرانية في أوروبا، وروح الصليبية التي لم تمت في
نفوسهم، وكراهية الإسلام فضلاً عن مراقبة أعمال المنصرين ودعمها في إفريقيا
كما قدمنا كل هذا كان السبب في هذا الاهتمام.
ولا يخفى علينا زيارة البابا يوحنا بولس للبنان سنة 1997م وما كان لها من
أثر ومغزى عميقين، وما تلاها من زيارات أخرى للمنطقة.
أضف إلى ذلك زيارات سفراء الدول العظمى المتكررة لمواقع عمل ومكاتب
المؤسسات (الخيرية) التنصيرية.
افتتحت الأم تريزا أربع مدارس تنصيرية أثناء زيارتها لمصر فضلاً عن
رعايتها لكثير من الاجتماعات والاحتفالات «المقدسة» .
9 - ادعاء حدوث كثير من المعجزات والخوارق على أيدي كثير من
المنصرين وإيهام البلهاء بأنها حقيقة: ومثال ذلك:
* في فبراير 1992م زار أحد المنصرين الأمريكيين عدة دول إفريقية،
ودعمته الكنائس هناك، وكان يزعم أنه يحيي معجزات المسيح، ولبث مدة شهر
كامل أسفرت عن تنصير قرابة 200 مسلم، ولقد شاء الله أن يفتضح أمره؛ إذ كان
يستأجر بعض الأشخاص نظير مبلغ من المال لتمثيل دور المريض المقعد أو
الكفيف الذي يُشفى بعد إيمانه المزعوم بالمسيح.
10 - التنصير والسينما:
بدأ عرض الأفلام التنصيرية في القرى الإفريقية في كينيا، ووصل عدد
المسلمين الذين حضروا بعض هذه العروض 2000 مسلم، أبدى 65 مسلماً منهم
استعدادهم للتحول إلى النصرانية، وما أسرع ما كانت متابعة المنصرين لهم وتقديم
العون والمساعدات لهم.
* وفي إحدى السنوات بمعرض القاهرة الدولي للكتاب بيعت أفلام تنصيرية
كثيرة كفيلم يسوع Jesus الذي صور حياة المسيح ومعجزاته، وغيره من أفلام
على شاكلته بيعت بأرخص الأثمان.
* وافق بابا الفاتيكان على الظهور لأول مرة في فيلم غنائي أطلق عليه:
«الرجل الذي جاء من بعيد» .
* أنتجت الكنيسة البروتستانتية في أمريكا فيلماً عن حياة المسيح من وجهة
نظر الكنيسة بتكلفة عدة ملايين من الدولارات، ولقد شاهد الفيلم 503 مليون
شخص منهم 33 مليون قرروا الالتزام بالمبادئ العامة للنصرانية، وتم عرض
الفيلم في 197 دولة واستفادت منه 380 منظمة تنصيرية عرضته ضمن برامج
دعوتها، والفيلم موجود بـ 241 لغة مختلفة، ويتم ترجمته حالياً إلى أكثر من
100 لغة أخرى، ويقوم بالإشراف على عرضه 320 فريق عرض.
11 - توطين النصارى في مناطق الأقلية المسلمة، وتشجيعهم على ذلك
لتغيير الصبغة الإسلامية لتلك المناطق، والأمثلة في ذلك كثيرة:
* تم توطين النصارى القادمين من روسيا في تراقيا الغربية ذات الأغلبية
المسلمة في اليونان.
* أُجبِر المسلمون البوسنيون على الهجرة من أراضيهم ليحل محلهم الصرب
الأرثوذكس أو الكروات الكاثوليك، وبلغ عدد هؤلاء المسلمين المهجّرين مليوناً
و730 ألف مسلم حتى منتصف عام 1995م، وتكرر الأمر مرة أخرى مع مسلمي
كوسوفا.
* ويحدث مثل ذلك أيضاً في أقاليم غرب الصين؛ حيث الأغلبية المسلمة؛ إذ
بلغ عدد المسلمين في الصين 93 مليون مسلم يمثلون 10% من مجموع السكان،
ويُعتبرون أكبر أقلية مسلمة في العالم، وقامت الحكومة الصينية بتهجير المسلمين
من إقليم «نيتفشيا» ذي الأغلبية المسلمة وتوطين قرابة مليون شخص من غير
المسلمين هناك، كما قامت بنقل 1. 3 مليون شخص من غير المسلمين إلى
تركستان الشرقية؛ وهذا كله سيخل بالتركيبة السكانية، وسيجعل الأقلية المسلمة
تذوب وتندثر في أوساط غير المسلمين.
* نقل رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الصربية مقر إقامته من بلجراد إلى
كوسوفا إبان حملات الناتو ليقنع الصرب بالبقاء والمقاومة.
12 - طباعة الشيكات وإعلانات الدعاية وأوراق المعاملات الرسمية
وغيرها من قِبَل كثير من الشركات والمؤسسات المالية، وعليها صور نصرانية في
خلفيتها، كما أنها قد تحتوي في جوانبها على كلمات من الإنجيل، وانتشرت
ظاهرة: «الشركات المتدينة» ، و «شيكات يحترمها الرب» في بعض دول
العالم بل وفي بعض الدول الإسلامية بهدف جذب أموال المستثمرين المتعصبين
للنصرانية، إلى جانب دعاوى إحلال البركة على الأموال على حد زعمهم فضلاً عن
نشر النصرانية بين الموظفين والعملاء الذين تمر عليهم تلك الأوراق. والجدير
بالذكر أن هذه الأعمال وتلك الشركات تؤيدها الكنائس وتُشجَّع من قبل الاتجاهات
السياسية اليمينية.
13 - الابتعاد عن استخدام العبارات المثيرة ضد المسلمين: وذلك بإلغاء
الكلمات التي ارتبطت بأذهانهم بالاستعمار أو نحوه، فمن تلك العبارات الشهيرة
التي عادة ما كان يستخدمها المنصرون: «مليار مسلم سيذهبون إلى الجحيم ما لم
يتم تنصيرهم» ومن الكلمات الملغاة كلمة «المنصرون» ، وليس الأمر عند هذا
الحد، بل إن القائمين على التنصير كثيراً ما يستخدمون أسماء وعبارات تروق
للمسلمين خداعاً وتضليلاً؛ فأحد البرامج بإحدى الإذاعات التنصيرية اسمه «نور
على نور» والقائم عليه اسمه «الشيخ عبد الله» وإحدى المستشفيات في نيروبي
تسمى بـ «اسم الله» وتسمية الكناس «بيوت الله» وأنها تقام ليذكر فيها «اسم
الله» .
14 - إحداث لبس لدى فكر المسلمين وعقائدهم وإثارة الشبهات لديهم:
في سبيل ذلك يقدم المنصرون بعض التنازلات إن صح التعبير ويتظاهرون
بالتودد والتشبه والتزلف للإسلام والمسلمين، فلقد وجد المنصرون أنه من الصعب
على إنسان ظل يعتنق ديناً يعتقد أن فيه خلاصه وصلاحه في الدنيا والآخرة أن
يتركه إلى دين آخر يختلف عن دينه الأول، ويكون الأمر أكثر صعوبة لو كان هذا
الإنسان هو المسلم ويراد له أن ينتقل عن إسلامه إلى النصرانية، والفرق بين
الإسلام والنصرانية شاسع البعد؛ ولذا فإنهم يأخذون بأيدي المسلمين بهدوء خطوة
خطوة إلى النصرانية، فيخلخلون ثبات المسلم وتمسكه بدينه شيئاً شيئاً حتى ينتهى
به المآل إلى الشك واللبس في الإسلام، أو الإعجاب والحب بالنصرانية إن لم
يعتنقها المسلم ولو لم يكن لهذه السياسة الماكرة الخبيثة من خطر إلا إثارة الشبهات
لدى المسلمين لكفى، وهذه السياسة لا تنطلي إلا على السُذَّج والبسطاء من المسلمين،
بل إن إثارة الشكوك لدى المسلم وإبعاده عن دينه يعتبر في حد ذاته هدفاً يسعى
إليه المنصرون، ويقفون عنده، ويكتفون به دون أن يسعوا إلى تنصير المسلم أو
حتى ترغيبه في النصرانية؛ فهم يرون في أحيان كثيرة أن اعتناق المسلم
للنصرانية شرف عظيم لا يستحقه المسلم.
ولعل الأمثلة الآتية توضح بعض ما قلناه آنفاً:
* نشرت بعض المنظمات التنصيرية الإنجيل باللغة العربية في عدد من
الدول الإفريقية وقد كتب بطريقة «تشبه» القرآن الكريم، وفيه بعض الزخارف،
ويبدأ كل فصل منه بكلمة «بسم الله الرحمن الرحيم» وتشكل الكلمات بحركات
التشكيل، كما حرصوا على اختيار كلمات قرآنية كثيرة في داخل الترجمة مثل (قل
ياعبادي الذين هم لربهم ينتظرون. اعملوا في سبيله واحذروه كما يحذر الخدم
ساعة يرجع مولاهم فما هم بنائمين. قال الحواريين أيريدنا مولانا بهذا أم يريد
الناس أجمعين؟ فضرب لهم عيسى مثلاً ... ) «لاحظ الأخطاء النحوية فيما
سبق» .
إن قيام المنصرين بكتابة الإنجيل بطريقة تحاكي القرآن كما يزعمون لَهُوَ
اعتراف منهم بالإخفاق الذريع، وبأن الإنجيل بعد تحريفه وتبديله لم يعد قادراً على
هداية أتباعه فضلاً عن أعدائه.
* وكذلك قراءة الإنجيل بطريقة «تشبه» تلاوة القرآن الكريم.
* إقامة القداس الأسبوعي يوم الجمعة بدلاً من يوم الأحد، وهذا فعلوه في
الكويت، بل إقامته بطريقة «تشبه» صلاة المسلمين في حركاتها.
* تزيي المنصرين بأزياء الدعاة والمشايخ كما حدث في بلدان إفريقية كثيرة.
* بناء الكنائس الجديدة بتصاميم تشبه المساجد فتقام لها قبة وما يشبه المئذنة.
* الموافقة على بعض المبادئ والشعائر الإسلامية التي من العسير جداً أن
يتركها من يدعونهم إلى النصرانية، مثل مبدأ تعدد الزوجات، فقد وجدوا أن بعض
القبائل الإفريقية قد يجمع الرجل فيها بين أكثر من زوجة وزوجتين، ويصعب على
مثل هذا الرجل أن يتخلى عنهن ويقتصر على واحدة إن هو تنصر، ويفضل
المنصرون أن يدخل هذا الرجل في النصرانية ويظل متزوجاً بأكثر من واحدة من
أن يبقى على إسلامه، وربما في مرحلة لاحقة يقنعونه بالتنازل عنهن ويختار من
بينهن واحدة، ومثل ذلك أيضاً موافقتهم على الختان.
* هذا وقد مرّ بنا من قبل أن المنصرين يقلعون عن العبارات المثيرة لسخط
المسلمين ويستبدلونها بغيرها مما تروق للمسلمين وتنال استحسانهم.
15 - وعلى خطٍّ موازٍ لإثارة الشبهات لدى المسلمين وتحبيب النصرانية إليهم
فإننا نرى المنصرين دأبوا على تشويه صورة الإسلام ورموزه بطريقة مباشرة أو
غير مباشرة؛ فكثيراً ما يلصقون بالإسلام تهماً كالهمجية والرجعية والإرهاب.
وهاكم الأمثلة:
* ذكرت الكنيسة الهولندية في تقرير مشهور لها تم توزيعه على نطاق واسع
«أن الإسلام دين كاذب False Religion وأنه خطر على العالم» .
* نشرت إحدى المنظمات التنصيرية صوراً لمسجد يصلي فيه المسلمون كتب
تحتها: «من أوكار الإرهاب» .
* قيام الحملات الإعلامية والدعايات التلفزيونية لحرب المراكز الإسلامية
العاملة في تلك الدول واتهامها بالعمالة لدول معادية، أو بالتخطيط للقيام بحرب
دينية أو نحو ذلك، وهذا ما حدث ضد مركز الدعوة الإسلامي العالمي الذي كان
يترأسه فضيلة الشيخ أحمد ديدات رحمه الله.
16 - استغلال الأدب في التنصير وهذا ما يسمى بالأدب التنصيري:
استغل التنصير ودعاته مجال الثقافة والأدب وسيلة لنشر أفكارهم الضالة وبث
سمومهم بين المسلمين، فلم ينته الأمر بهذا المخطط الآثم إلى الاعتماد على التعليم
والخدمات الاجتماعية والطبية والوسائل التقليدية لتنصير المسلمين وزعزعة العقيدة
في نفوسهم؛ بل سعى لاستغلال الأدب والثقافة حتى تتسع دائرة نشاطه ويصل إلى
أكبر عدد ممكن من المسلمين؛ فقد قام المنصِّرون بتأليف الكتب والقصص
والروايات التي تدعم نشاطهم حتى اشتهر في عالم الأدب ما عرف بـ (الأدب
التنصيري) وهو يتمثل في ألوان الأدب المختلفة من قصة ومسرحية وقصيدة
ومقالة وخاطرة ونصوص سينمائية، وكلها تحمل في طياتها الدعوة إلى اعتناق
النصرانية والتنفير من الإسلام.
ولم يكن الأدب التنصيري يسير وحده؛ فقد نسق مع جهات أخرى كثيرة
تشارك معه في المصلحة والهدف وركز على منهج التربية والتعليم في البلدان التي
وقعت مستسلمة تحت سيطرة الغزاة سياسياً وعسكرياً وفكرياً.
ولم يقع الأدب التنصيري في السذاجة والسطحية، بل استخدم الإمكانات الفنية
المتاحة له والمجربة في بلاده بدهاء وحنكة بالغين، فمزج السم بالدسم، ولجأ إلى
التلميح بدلاً من التصريح، واستخدم الرمز وألوان الإثارة والتشويق، ونأى بجانبه
عن السرد الأجوف والتعبير المباشر الممل، ووظف الإيحاءات توظيفاً ماكراً،
ورسم حركة الحياة والأفراد وأنماط السلوك رسماً يتفق ومعتقداته ويبعد بها عن
النماذج الإسلامية.
والواقع أن القصة كانت المجال الخصب للدعوات التنصيرية في كل مكان،
وهذه الروايات التنصيرية في عمومها تتخذ منهجاً خاصاً، يمكن إيجازه فيما يلي:
1 - تصوير القساوسة والرهبان بصورة ملائكية فريدة، يخوضون الأخطار
دون خوف، ويتَّسِمون بجمال الملامح وجلال المظهر وتألق الثياب وحُسن السَّمْت.
2 - يتصف (رجل الله) كما يسمونه بالصبر والحلم وتقديم التضحيات دون
مقابل.
3 - يعمد الكُتَّاب التنصيريون أساساً إلى البساطة في الأسلوب مهما كان
المعنى عميقاً وتجنب التعقيد والغموض.
4 - تشويه صورة الإسلام بطريقة غير مباشرة وإظهاره بمظهر الانحراف.
5 - الحرص على الحفاظ على القيم الجمالية للشكل الفني؛ لأنه بدون ذلك لا
يمكن أن يتحقق الهدف وينجح المخطط الموضوع.
والحركة التنصيرية حركة معادية للإسلام تضع الأدب وفنونه في المكان
الصحيح تخطط له وترصد له الإمكانات المادية الكافية، وتهتم بترجمته إلى عديد
من اللغات حتى يؤتي أكله في كثير من مناطق العالم الإسلامي، وتتكفل بحملات
إعلان عنه، وتوعز إلى النقاد بتناوله بالتقييم والتقديم، وترصد له الجوائز العالمية
الكبيرة، وتجعل منه مصدراً لأعمال سينمائية وتلفزيونية ومسرحية، وتستنهض
همم كبار الكتاب للمشاركة فيه وتنعم عليهم بأرفع الأوسمة وتعرض أعمالهم بأسعار
رمزية وبشتى الوسائل.
والأدب التنصيري الغربي ليس في الحقيقة مجرد تبيان لمحاسن أخلاق
المنصرين والقساوسة والرهبان فحسب، ولكن هناك ما هو أخظر من هذا التصور؛
إذ يهدف هذا الأدب إلى أمرين خطيرين هما:
1 - تشويه صورة الإسلام والنيل منه، وتوهين عرى الالتقاء بين المسلم
وتراثه العقدي والسلوكي.
2 - التمهيد لمفاهيم غربية أشد التصاقاً بالاتجاه الديني النصراني، ولعل هذا
يفسر السلوك الغربي المنافي لعقيدتنا في السهرات والاختلاط، وتجاهل القيام
بالفرائض، والتخلي عن السنن والآداب الإسلامية.
وقديماً كتب كل من (إسكندر دوين) و (بريدو) و (روسّو) و (فولتير)
قصصاً تنصيرية أوسعوا الإسلام وأشبعوه فيها سباً وقذفاً، ولنسمع ما قاله توفيق
الحكيم عن مسرحية (محمد) [*] التي كتبها (فولتير) حيث قال: «قرأت قصة
فولتير التمثيلية (محمد) [*] فخجلت أن يكون كاتبها معدوداً من أصحاب الفكر الحرّ؛
فقد سَبّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم سباً قبيحاً عجبت له، وما أدركت له علة؛
لكن عجبي لم يطل؛ فقد رأيته يهديها إلى البابا (بنوا الرابع عشر) » .
ويضيف توفيق الحكيم: «لقد قرأت فيما بعد رَدّ البابا على فولتير فألفيته ردّاً
رقيقاً كيِّساً لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث في الأدب» .
نشرت المجلة الدولية للبحوث الآثارية الأمريكية Internatianal Bullettin
of Missionary Research بعض الأرقام عن النشاط التنصيري لعام 1990م:
- عدد المنظمات العاملة: 21000 منظمة.
- عدد المعاهد التي تبعث بمنصرين: 3970 منظمة.
- عدد المعاهد التنصيرية: 99200 معهد.
- عدد المنصرين العاملين داخل أوطانهم: 3923000 منصر.
- عدد المنصرين العاملين خارج أوطانهم: 285250 منصر.
- عدد المجلات والدوريات التنصيرية: 23800 مجلة دورية.
- عدد نسخ الإنجيل والعهد الجديد: 129 مليون نسخة.
- التبرع للكنيسة: 157 بليون دولار.
- أنواع الكتيبات الجديدة: 65600 كتيب.
- عدد محطات الإذاعة والتلفزيون: 2160 محطة.
- عدد المستمعين والمشاهدين شهرياً: 1369620600 شخص.
ونشرت المجلة نفسها إحصائية أخرى لأعمال التنصير لعام 1996م جاء فيها:
- عدد المنظمات العاملة: 4500 منظمة.
- عدد المنظمات التي تبعث بمنصرين: 23200 منظمة.
- عدد المنصرين العاملين داخل أوطانهم: 4635500 منصر.
- عدد المنصرين العاملين خارج أوطانهم: 398000 منصر.
- التبرع للكنيسة: 193 بليون دولار.
- عدد أجهزة الكمبيوتر في خدمة التنصير: 206961000 جهاز.
- أنواع المجلات والدوريات التنصيرية: 30100 مجلة دورية.
- عدد نسخ الأناجيل والعهد الجديد: 178317000 نسخة.
- عدد محطات الإذاعة والتلفزيون: 3200 محطة.
المراجع:
1- التبشير والاستعمار في البلاد العربية، الدكتور: وليد الخالدي، والدكتور:
عمر فرُّوخ؟ .
2 - القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، د. سفر الحوالي.
3 - الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد.
4 - إصدارات لجنة مسلمي إفريقيا (تصدر في الكويت الأمين العام د. عبد
الرحمن السميط) .
- مجلة «الكوثر» الأعداد، 2، 3، 4، 6.
- مجلة «أخبار اللجنة» الأعداد: 1، 18، 19، 20.
- مجلة «الدراسات» العدد الأول.
5 - مجلة الوعي الإسلامي (الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
بالكويت) الأعداد: 350، 341، 378.
6 - مجلة الرابطة: (الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي بجدة) العدد: 368.
7 - مجلة التوحيد: (الصادرة عن جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر) العدد:
4 السنة 27.
8 - مجلة المختار الإسلامي: الأعداد: 130، 133، 171.
9 - جريدة المسلمون: 574، 659.
10 - جريدة أخبار اليوم بتاريخ 23/8/1997م.
11 - جريدة الأهرام بتاريخ: 1، 11، 28/5/1997م، 11، 14/9/1997م،
13/12/1997م، 13/2/1998م، 3/3/1998م، 13/12/1998م، 30/3/
1999م، 10، 9/5/1999م.
12 - جريدة وطني (لسان حال الأقباط بمصر) ، الأعداد: 1837 - 1860.
13 - يوميات ألماني مسلم، د. مراد فريد هوفمان: (ترجمة عباس رشدي
العماري) .
__________
نماذج من الخدمات التي تقدم للمنصرين في أمريكا:
هناك أكثر من 600 مدرسة متخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية
بتدريس أبناء المنصرين الذين يعيشون في إفريقيا وآسيا وغيرها kids schools
missonary.
هناك شركات كثيرة متخصصة في نقل احتياجات القسس والمنصرين إلى أي
مكان في العالم بسعر زهيد.
هناك شركات متخصصة في توفير السكن للقسس والمنصرين خلال الإجازة
التي يقضونها في الولايات المتحدة كل 7 سنوات.
هناك شركات متخصصة في التأمين على السيارات للقسس والمنصرين الذين
يقضون هذه الإجازات بسعر زهيد مقارنة بالشركات التي تطلب مبالغ كبيرة عندما
لا يكون الشخص ذا خبرة في قيادة السيارة في أمريكا خلال السنوات التي قضاها
في إفريقيا وآسيا أو تفرض شركات التأمين عليهم؛ لأنهم يشكلون خطرًا كبيرًا في
القيادة.
هناك شركات لتزويد القسس والمنصرين بالمعدات التي لا تحتاج إلى كهرباء
مثل الثلاجات وغيرها التي تعمل بطاقة بديلة مثل الكيروسين، أو حركة السي دي
للمسجلات ... إلخ.
هناك مستشفيات نفسية خاصة لعلاج القسس والمنصرين الذين يحتاجون
للعلاج النفسي سواء في الميدان أو في شمال أمريكا.
هناك شركات متخصصة في عمل برنامج توفير مالي للمنصرين، يشارك فيه
المنصر والمؤسسة التي أرسلته حتى تضمن له حياة كريمة بعد التقاعد، وشركات
أخرى تهتم بتوفير مبالغ لتعليم أولاد المنصرين.
هناك شركات لتدريب المنصرين على كيفية التصرف في الأزمات مثل
الانقلابات العسكرية، الاضطربات الأمنية، هجوم إرهابي ... إلخ.
- البيان -
__________
إحصائية بالمنصرين الكاثوليك السنة عدد المنصرين الأمريكان الكاثوليك
من الولايات المتحدة إلى 1960 6782
الخارج 1964 7146
1968 9655
... ... 1972 7656
1976 7010
1980 6601
1984 6393
1988 6246
(*) نقلاً عن: كتاب لمحات عن ... 1992 6037
التنصير في إفريقيا الدكتور 1996 6063
عبد الرحمن السميط
- البيان -
__________
توزيع الأناجيل في العالم
ازدادت كمية الأناجيل الموزعة على المستوى العالمي إلى رقم جديد لم يسبق
الوصول إليه في الماضي؛ حيث بلغت النسبة 140? مما كانت عليه في العام
الماضي وهذه الإحصائيات تشمل ما تم توزيعه عن طريق جمعيات الإنجيل المتحدة
فقط كما هو مبين أدناه:
إفريقيا: 4. 208. 568 إنجيل.
آسيا: 25. 6977. 611 إنجيل.
الأمريكتان: 15. 763. 62 إنجيل.
وقد سمحت الصين لمطبعة أميتي في نيانجنج بطباعة 15 مليون نسخة نقلاً
عن التقرير العالمي لجمعيات الإنجيل المتحدة 1977م.
__________
4000 وكالة تنصيرية:
والعمل التنصيري الخارجي هو أهم ما يشغل الكنائس المنظمة هذه الأيام،
ففي الوقت الحاضر هناك 4000 وكالة تنصيرية (أي منظمات تعمل خصيصًا في
حقل التنصير) يعمل بها 262. 300 منصر متفرغ، وهم يكلفون الكنائس 8
بلايين دولار سنويًا، وكل سنة يصدر 10000 كتاب وبحث جديد حول التنصير
الخارجي.
- البيان -
__________
(1) راجع مقالة «العولمة: حلقة في تطور آليات السيطرة» خالد أبو الفتوح، مجلة البيان، العدد 136.
(*) ونقول: صلى الله عليه وسلم.(153/46)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(1 - 2)
التنصير في إفريقيا
الأهداف والوسائل وسبل المواجهة
د. مانع بن حماد الجهني [*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر أمر لا بد منه، بل هو من
سنن الله الكونية حتى يعلم الله تعالى الذين جاهدوا في سبيله وصدقوا في الدفاع عن
دينه.
وقد تعدد أعداء الإسلام واجتمعوا على حربه وإن اختلفوا فيما بينهم، ومن
أبرز هؤلاء الأعداء النصارى الذين تنوعت خططهم وأساليبهم القذرة في محاربة
دين الله وأوليائه، ولم يتورعوا في استخدام أبشع ما يمكن من الأساليب، ولم
يسجل التاريخ في جميع أدواره أحلك من الصفحات التي تضمنت سرداً لأحداث
الحروب الصليبية القذرة، ولم تصب الإنسانية في صميمها بمثل ما أصيبت به في
تلك الحروب. ويكفي أن نعلم أن الحروب الصليبية أسقطت في بغداد وحدها
(000, 800 , 1) قتيل من المسلمين، وفي سوريا نصف هذا العدد. ومع كل
هذا فقد خابت الحروب الصليبية فيما كانت تسعى إليه من تدمير الإسلام، وكانت
عاملاً محركاً للمسلمين؛ إذ أيقظتهم من مرقدهم وغفوتهم، وأعادت لهم عزم
المؤمنين على الدفاع عن دين الله.
وبعد إخفاق دول أوروبا في الحروب الصليبية التي استخدمت فيها الحديد
والنار أثارت حرباً صليبية عن طريق التنصير الذي نرى آثاره في العالم اليوم.
ولذلك بات من الضروري كشف مخططات المنصرين وأساليبهم والعمل على
نشر الإسلام في ربوع الدنيا كلها.
ولما كانت قارة إفريقيا لها نصيب الأسد من جهود المنصرين جاء هذا البحث
للمشاركة في التصدي لرد كيد القوم الضالين في نحورهم والسعي في إعلاء كلمة
الله تعالى.
قارة إفريقيا والتنصير:
اهتم المنصرون اهتماماً بالغاً بالقارة الإفريقية، وبذلوا جهوداً مضنية في
سبيل تنصيرها؛ بل إنهم رفعوا شعار: (إفريقيا نصرانية عام 2000م) كما
زعموا، ومن أجل ذلك فقد عقدوا المؤتمرات وقدموا الأموال الطائلة، ووظفوا
المنصرين وهيؤوا السبل وأجلبوا بخيلهم ورجلهم لتحقيق مآربهم، ولكن مثلهم كما
قال تعالى: [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) . فإن
دين الله باقٍ، والنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض لأوليائه الصادقين مهما
تطاول الباطل ومهما نما زرعه [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55) .
ولما كان الحكم على الشيء فرعاً من تصوره فإننا نبدأ بالتعرف على:
1 - أسباب اهتمام المنصرين بإفريقيا:
يرجع اهتمام المنصرين بقارة إفريقيا إلى عدة أسباب هي:
أ - الفقر:
39% من سكان إفريقيا يعانون من سوء التغذية [1] ، وهي أكبر نسبة في
العالم.
وقد أدرك أعداء الله من المنصرين هذا الأمر، وأدركوا الحاجة الماسة التي
يعانيها كثير من أهالي قارة إفريقيا، فعملوا على تنصير الناس من خلال تقديم
المعونات لهم، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها والقبول منه.
ب - الجهل:
التعليم أمره خطير، وبسببه قد ترتفع الأمم إلى القمم، وهو من أعظم وسائل
التقدم.
يقول محمد إقبال: «إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي
ثم يكوِّنها كما يشاء، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيماوية،
وهو الذي يستطيع أن يحول جيلاً شامخاً إلى كومة تراب» [2] .
وقد أدرك المنصرون خطورة التعليم خاصة في القارة التي ينتشر فيها الجهل
فعملوا على إيجاد المدارس والجامعات التنصيرية، كما سيأتي في وسائلهم.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى قول المسيو شاتلين: «ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في
الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية» [3] ، كما يقول: «يوم لا
يبقى اللسان العربي هو لغة التجارة في إفريقيا، لا يبقى خطر من جهة الإسلام؛
لأن مدارسه تصير قفرة» [4] .
ج - المرض:
إن الثالوث الخطير الذي يوجد في إفريقيا: الفقر، والجهل، والمرض يجعل
منها مرتعاً خصباً للمنصرين، فقد استغلوا علاج الأمراض المنتشرة في العالم
الإسلامي وبالأخص إفريقيا لتحقيق أطماعهم، وحولوا المهنة الإنسانية إلى وسيلة
قذرة لاستغلال مآسي الناس.
ولذلك تجدهم يقولون: «حيث تجد بشراً تجد آلاماً، وحيث تكون الآلام
تكون الحاجة إلى الطبيب، وحيث تكون الحاجة إلى الطبيب؛ فهناك فرصة مناسبة
للتنصير» [5] .
وإذا أردت أن تعرف مبلغ اهتمام المنصرين بالطب لأجل التنصير فاعلم أن
المعالجة في الحبشة كانت لا تبدأ قبل أن يركع المرضى ويسألوا المسيح أن
يشفيهم [6] .
د - الوجود الإسلامي:
قال المستر «بلس» : «إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم
التبشير بالنصرانية في إفريقيا، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا؛ لأن انتشار
الإنجيل لا يجد معارضاً لا من جهل السكان، ولا من وثنيتهم، ولا من مناضلة
الأمم المسيحية وغير المسيحية» [7] .
ويقول فيليب فونداسي: «الإسلام يؤلف حاجزاً أمام مدنيتنا المبنية كلها على
مؤثرات مسيحية ومن مادية ديكارتية؛ فإن الإسلام يهدد ثقافتنا الفرنسية في إفريقيا
السوداء بالقضاء عليها [8] .
هـ - نصرة العقيدة النصرانية وإنقاذ غير النصارى من الضالين:
لا عجب إذا كان صاحب المبدأ الحق يدافع عن مبدئه، ويدعو إليه، ويبذل
كل ما بوسعه من أجله، ولكن العجب في ثبات صاحب المبدأ الضال على مبدئه
والدعوة إليه والتضحية من أجله واعتباره خلاصاً للبشرية جمعاء، واعتبار المبادئ
المخالفة له وإن كانت هي الحق ضلالاً يجب إنقاذ أهلها وإرجاعهم إلى النصرانية،
وهذا ما يراه المنصرون ويسعون إليه من خلال تدليسهم وتلبيسهم وتغييرهم للحقائق.
ومن ذلك ما رواه لنا مصري ذهب في بعثة علمية إلى إحدى المدن الأمريكية
ونزل ضيفاً بالأجر على امرأة مسيحية (ورعة) تملك منزلاً صغيراً وتديره،
عندما سألت المرأة نزيلها عن بلده أجابها: مصر، وسألته عن دينه فأجاب: مسلم،
فما كان من المرأة إلا أن أظهرت مشاعر الرثاء والشفقة وهي تقول له: يا لكم
من مساكين! ألم يأت إلى بلادكم أحد المنصِّرين؟ [9] .
و خدمة الأهداف السياسية والاقتصادية:
لا يخفى على أحد اهتمام رجال السياسة من اليهود والنصارى بتسخير كل ما
يستطيعون لأجل خدمة أغراضهم وأهدافهم الخبيثة حتى وإن كان ذلك عن طريق
الدين.
لذلك فقد جعل هؤلاء الساسة من التنصير أداة لخدمة أغراضهم، ولذا تراهم
يتولون الإشراف على مؤتمرات التنصير أمثال لورد بلفور الذي أعلن أهمية
مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة [10] .
2 - لمحة تاريخية عن دخول النصرانية إلى إفريقيا
وبداية العمل التنصيري وارتباطه بالاستعمار:
من الوقائع المسلَّم بها أن عمليات التنصير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاستعمار
ومواكبة له، بل إنها قد استمدت منه كل عون وتأييد، وسعت لتثبيت نفوذها
وانتشارها من خلاله.
وقد دخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقيا منذ القرن الخامس عشر، أي في
أثناء الاكتشافات البرتغالية [11] .
وفي أواخر القرن السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر أخذت الجمعيات
البروتستانتية تظهر للوجود [12] .
وبعد وفاة الرحالة لنتجستون عام 1873م، الذي قام برحلته التي رفعت
الستار عن إفريقيا الوسطى، بعد وفاته كانت منافذ إفريقيا الرئيسة مفتوحة على
مصاريعها أمام البعثات التنصيرية الأوروبية [13] .
3 - أرقام وحقائق عن حجم النشاط التنصيري وقوته:
في حين أننا نرى ونشاهد نشاط المنصرين وقوة إمكانياتهم ودعم الفاتيكان
ودول الكفر لهم، نرى في المقابل ضعف إمكانيات الدعاة إلى الله وتخاذل كثير من
الدول الإسلامية عن نصرتهم، وحينما نعرض لبعض الحقائق عن المنصرين وقوة
نشاطهم فإننا نرمي من وراء ذلك إلى كشف مخططاتهم وبيان حجم المشكلة، وندعو
المسلمين إلى الدفاع عن دينهم ونصرته بكل ما يستطيعون ونبشرهم أن الله عز
وجل يبارك في جهودهم ويرد كيد أعدائهم، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
وإليك بعض الأرقام والحقائق عن النشاط التنصيري:
- تشير إحصائية عام 1976م إلى أن الكنيسة الكاثوليكية تملك في إفريقيا
الجنوبية وحدها حوالي مليون ونصف مليون كنيسة.
ومجموع الإرساليات الموجودة في (38) بلداً إفريقياً يبلغ (111000)
إرسالية، وبعضها يملك طائرات تنقل الأطباء والأدوية والممرضات لعلاج
المرضى في الأحراش.
- وفي عام 1416هـ كان المنصرون في إفريقيا يملكون أكثر من 52 إذاعة
وللمسلمين إذاعة واحدة فقط.
- وقد بلغ عدد المنصرين في إفريقيا عام 1985م / 1406هـ أكثر من
113 ألف منصر يشرفون على تعليم أكثر من خمسة ملايين طالب.
كما بلغت المستشفيات والمستوصفات التي أقامتها الإرساليات 1600
مستوصف ومستشفى كنسي.
وارتفعت قيمة الدعم المالي للمنصرين فبلغت 3. 5 ألف مليون دولار سنوياً
ووصل عدد المدارس اللاهوتية لتخريج المنصرين والقسس في إفريقيا إلى 500
مدرسة لاهوتية بالإضافة إلى عشرين ألف معهد كنسي في أنحاء القارة. وكلها تعد
المنصرين إعداداً خاصاً.
- وفي عام 1985م زار البابا إفريقيا وتحدث فيها إلى 80 ألف شاب مسلم
بملعب الدار البيضاء بالمغرب، ودشن كتدرائية القديس بولس بأبيدجان التي تتسع
لثمانية آلاف شخص وهي أوسع معبد نصراني في إفريقيا ولا يتجاوزها في العالم
إلا الفاتيكان.
- وفي عام 1980م كانت (14) دولة في إفريقيا تمنع دخول المنصرين
إليها، ولكنها في عام 1999م لم يبق منها إلا (3) دول فقط تمنع دخول
المنصرين إليها.
- وفي عام 1900م كانت نسبة النصارى في إفريقيا 10%، أما في عام
1990م فقد ارتفعت نسبة النصارى إلى 57%.
- كما كان عدد النصارى في إفريقيا عام 1970م» 000 , 257 , 120 «
وفي عام 1999م فقد بلغ عدد النصارى» 000 , 368, 333) [14] .
أهداف التنصير في إفريقيا:
إن للتنصير أهدافاً عامة في إفريقيا كغيرها من القارات، إلا أن إفريقيا تتميز
بهدف خاص عن بقية القارات إلى جانب أهداف عامة:
1 - الهدف الخاص:
وهو أن يتم تحويل إفريقيا إلى قارة نصرانية عام 2000م نظراً لما يتمتعون
به من سيطرة على الحياة السياسية والتعليمية والاقتصادية، وهذا ما صرح به البابا
بولس الثاني في كلمته التي ألقاها بمناسبة ذكرى ميلاد المسيح في روما عام 1993م
لدى استقباله وفد أساقفة إفريقيا؛ حيث قال: «ستكون لكم كنيسة إفريقية منكم
وإليكم، وآن لإفريقيا أن تنهض وتقوم بمهمتها الربانية، وعليكم أيها الأساقفة تقع
مسؤولية عظيمة، ألا وهي تنصير إفريقيا كلها في عام 2000» [15] .
وقد جند النصارى كل طاقاتهم التنصيرية والمادية والعلمية بالتنسيق الكامل
بين الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي وغيرها من الهيئات التنصيرية من أجل
تحقيق مطامعهم في تنصير القارة مع نهاية هذا القرن [16] ، وقام البابا بثلاث
زيارات خلال خمس سنوات طاف فيها إفريقيا شرقاً وغرباً [17] .
2 - الأهداف العامة [18] :
يظن بعض الناس أن المنصرين يأتون لنشر الدين على أنه هدفهم الأسمى.
والحق أن نشر الدين أمر ثانوي جداً في جميع الحركات التنصيرية، بل إن الكثرة
المطلقة من الذين يمولون حركات التنصير ومن الذين يأتون فيها لا صلة بين
أهدافهم الحقيقية وبين الذين يزعمون أنهم قد جاؤوا لنشره.
بل إن المنصرين هم في الحقيقة سماسرة وجواسيس من ذوي الأطماع
الشخصية والمصالح الخاصة وهم لا يتحلون بالأخلاق الحميدة.
ويمكن تلخيص أهدافهم العامة في:
أ - الحيلولة دون دخول النصارى في الإسلام، والحيلولة دون دخول الأمم
الأخرى غير النصرانية في الإسلام والوقوف أمام انتشاره.
ب - القضاء على الإسلام في نفوس المسلمين، وتحويلهم إلى مسخ آدمية لا
تحمل من الإسلام إلا اسمه، ولذلك كانت المهمة الأولى التي قامت من أجلها حركة
التنصير هي القضاء على مصدر القوة الأساسية التي يعتمد عليها المسلمون ألا وهي
العقيدة الإسلامية. وهذا ما صرح به المنصر الأمريكي زويمر؛ حيث قال: «أنا
لا أهتم بالمسلم كإنسان. إنه لا يستحق شرف الانتساب إلى المسيح.. فلنغرقه
بالشهوات، ولنطلق لغرائزه العنان حتى يصبح مسخاً لا يصلح لأي شيء» .
ج - القضاء على وحدة العالم الإسلامي: إن وحدة المسلمين في جميع دول
العالم الإسلامي كانت وراء انتصارهم على الغرب، ولذلك فقد قال القس سيمون:
«إن التنصير عامل مهم في كسر شوكة الوحدة الإسلامية، ويجب أن نحول
بالتنصير مجاري التفكير في هذه الوحدة حتى تستطيع النصرانية أن تتغلغل بين
المسلمين. وعلى سبيل المثال فقد قام المنصر زويمر بالاندساس بين أبناء الأزهر
في زي طلبة العلم، ثم راح يوزع منشورات توقع الفتنة الطائفية بين المسلمين
والأقباط.
د - معاونة الاستعمار الغربي والتجسس على العالم الإسلامي: ولا أدل على
ذلك من قول نابليون:» إن في نيتي إنشاء مؤسسة الإرساليات الأجنبية؛ فهؤلاء
الرجال المتدينون سيكونون عوناً كبيراً في آسيا وإفريقيا، وسأرسلهم لجمع
المعلومات عن الأقطار. إن ملابسهم تحميهم وتخفي أية نوايا اقتصادية أو
سياسية «.
هـ - الربح المادي والكسب التجاري: فقد اكتشف في إفريقيا أن الكنيسة ما
هي إلا مشروع تجاري، وأن الأطفال الإفريقيين يؤخذون إلى مدارس التنصير لا
من أجل التعليم بل للعمل في مزارع الإرساليات.
وسائل التنصير في إفريقيا:
1 - وسائل مباشرة:
كان المجال الأول الذي بدأ به المبشرون هو مجال التحدي المباشر للإسلام
عن طريق المناظرة لعلماء المسلمين [19] . ثم عدل المبشرون عن مثل هذه
المواجهة الصريحة، وانطلقوا في المجالات الأخرى غير المباشرة [20] . كما لا
يخفى أن من وسائلهم المباشرة بناء الكنائس الشاهقة، وتوزيع الإنجيل بأكبر كمية.
2 - وسائل غير مباشرة:
إن وسائل المنصرين غير المباشرة كثيرة، والحديث عنها يطول، ولكننا
نأخذ على عجالة أهمها مع الإلماح إلى شيء يسير من الحقائق عنها:
أ - التطبيب: (استغلال آلام البشر) :
إن المريض المتألم يضحي بأشياء كثيرة في ملكه حتى يتخلص من آلامه،
وإذا رأى أحد قريباً له أو ابناً على الأصح مريضاً زاد رضاه بالتضحية، وقلَّت
قيمة كل شيء في عينيه في سبيل شفاء ابنه أو أمه أو أبيه أو زوجه، ولقد أدرك
المنصرون هذا الميل في البشر، فخرجوا عن كل نبل في الطبيعة الإنسانية،
وسخروا الطب في سبيل غايات حسبك دليلاً على نوعها قولهم هم:» حيث تجد
بشراً تجد آلاماً، وحيث تكون الآلام تكون الحاجة إلى الطبيب، وحيث تكون
الحاجة إلى الطبيب فهنالك فرصة مناسبة للتنصير « [21] . وقد أنشأ المنصرون
الأطباء مستوصفاً في بلدة الناصرة في السودان، وكانوا لا يعالجون المريض أبداً
إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح [22] ، ومن الحيل
التي استعملها المبشرون في وادي النيل أنهم استخدموا ثلاثة مراكب وجعلوها
مستوصفات نقالة على النيل وكانوا يعلنون عن مجيء الطبيب قبل أن يصل بوقت
طويل، فيأتي الناس من كل صوب يحملون مرضاهم وينتظر الجميع قدوم الطبيب؛
وفي هذه الأثناء يقوم فيهم من ينصِّر فرحاً بالجموع من غير أن يتحرك ضميره
لهذه الآلام التي يتحملها المرضى في وضح الشمس ومضض الانتظار عمداً
وخداعاً [23] .
وفي غينيا تقوم سفينة (أناستالدي) بزيارة الجمهورية، وهي سفينة ضخمة
تحمل على متنها أجهزة طبية متطورة وأطباء متخصصين في جميع الأمراض،
وإذا دخل الشخص المريض فإنهم يجرون عليه فحوصات عدة ويقدمون له جميع
الأدوية مجاناً.
وطريقتهم أن يجمعوا المرضى في مكان واحد، ويأمروهم بالوقوف في صف
واحد؛ وقبل البدء في تقديم الدواء يأتي رجل من داخل السفينة يحمل آلة موسيقية
ويبدأ العزف، ثم تأتي مجموعة من الشباب يغنون أغاني دينية ويرقصون، وبعد
دقائق تُعرض بعض أفلام الفيديو التي تخدم أغراضهم الخبيثة [24] .
ب - التعليم:
لقد أدرك المنصرون أهمية العلم ودوره في توجيه حياة الناس، فأساؤوا إليه
أيما إساءة، واتخذوه وسيلة لخدمة أغراضهم وأطماعهم، ووظفوا لذلك المعلمين من
المنصرين الذين نفرت من قلوبهم الأمانة والاستقامة والصدق.
وفي هذا يقول اللورد كرومر:» إن المصري الذي خضع للتأثير الغربي،
فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد ارتيابي « [25] .
ومن أجل ذلك فقد اهتموا بإنشاء المدارس والجامعات في إفريقيا، وكما ذكرنا
أنه في إحصائية عام 1985م كانوا يشرفون في إفريقيا على تعليم أكثر من خمسة
ملايين طالب. وغير خافٍ أن المنصرين أنشؤوا الجامعة الأمريكية في مصر
لتزاحم الأزهر.
كما اهتموا بتعليم الصغار أيما اهتمام. يقول المنصر المشهور جون موط:
» يجب أن نؤكد في جميع ميادين (التنصير) جانب العمل بين الصغار
وللصغار.. ترانا مقتنعين بأن نجعله عمدة عملنا في البلاد الإسلامية، إن الأثر
المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً، من أجل ذلك يجب أن يُحمَل الأطفال الصغار
إلى المسيح قبل بلوغهم الرشد وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية. إن اختبار
الإرساليات في الجزائر فيما يتعلق بهذا الأمر وكما ظهر من بحوث مؤتمر شمالي
إفريقيا اختبار جديد ومقنع « [26] .
ونذكر على سبيل المثال بعض الكليات والمدارس التنصيرية الخطيرة
المنتشرة في مصر:
- كلية التجارة بالعطارين بالإسكندرية.
- مدارس الأمريكان بالقاهرة.
- مدارس الأسقفية الإنجليزية بسراي القبة.
- الجامعة الأمريكية.
- كلية البنات الأمريكية بشارع رمسيس.
- مدرسة الأزبكية للبنات بالقاهرة.
- كلية أسيوط الأمريكية بأسيوط.
- كلية البنات الأمريكية بأسيوط.
- كلية البنات الأمريكية بالأقصر.
ج - الخدمات الاجتماعية وأعمال الخير:
كتب المر دوغلاس مقالاً عنوانه:» كيف نضم إلينا أطفال المسلمين في
الجزائر؟ «ذكر فيه أن ملاجئ قد أنشئت في عدد من أقطار الجزائر في شمال
إفريقيا لإطعام الأطفال الفقراء وكسائهم وإيوائهم أحياناً، ثم قال: إن هذه السبل لا
تجعل الأطفال نصارى لكنها لا تبقيهم مسلمين كآبائهم. ومثل هذه الجهود يبذلها
المنصرون في شمالي إفريقيا ومصر [27] .
وكانت البعثات التنصيرية في السنغال توقع عقوداً مع الأسر الفقيرة تقدم
البعثات بموجبها إلى هذه الأسر مساعدات عينية ضئيلة من أرز وخبز في كل شهر
على أن يكون لها حق اختيار أحد أطفال الأسرة دون الخامسة من عمره، ثم يربى
تربية مسيحية، ويرسل إلى فرنسا لاستكمال التعليم العالي، ثم يستخدَم بعد ذلك هو
الآخر في أعمال التنصير، أو يستخدَم في تحقيق مصالح الغرب النصراني،
وللأسف الشديد أن (سنجور) رئيس جمهورية السنغال السابق كان أحد هؤلاء
الأطفال الذين وقعوا فريسة للتنصير مع أن أبويه وإخوانه مسلمون [28] .
د - السيطرة على الوسائل الإعلامية:
حيث إنهم يقومون بالتنصير عن طريق الأقمار الصناعية، وهم يمتلكون في
إفريقيا أكثر من 52 إذاعة، وفي هذا يقول الأسقف شالي عميد كلية الدين في
ياوندي:» أخيراً سبقنا المسلمين بهذه الوسيلة. كان من الممكن الوصول إلى
الأماكن التي نحن نصل إليها وأبلغنا فيها البشارة بعد سنتين أو ثلاث بوسائلهم
المتواضعة؛ ولكن الآن لا مجال للوصول إلى حيث وصل صوت البشارة، وصلوا
شكراً للرب المسيح ابن الله المحبوب والمحب « [29] .
كما يستخدمون عدداً من الصحف اليومية والأسبوعية بالإضافة إلى النشرات
والدوريات والكتب، ويعلن المنصرون أنهم استغلوا الصحافة المصرية على
الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي
آخر [30] .
هـ - استغلال الأزمات والكوارث الفردية والاجتماعية:
ويتجلى ذلك بتصيد اللقطاء والمشردين والمشردات وأصحاب الأزمات
المختلفة من أبناء المسلمين وبناتهم، وكذلك الذين فقدوا أهليهم في الحروب والفتن
والمجاعات والكوارث الطبيعية والأزمات الأخرى وإيوائهم لتنصيرهم.
ومن أمثلة ذلك الحملات المكثفة التنصيرية لتنصير أطفال المسلمين اللاجئين
في الصومال التي نشرت الصحف عنها في عام 1402هـ[31] .
و إبعاد المسلمين الحقيقيين عن القيادة السياسية: حتى يخلو لهم الجو
ليفعلوا ما يشاؤون.
ومثال ذلك في سيراليون؛ إذ إن 80% من السكان مسلمون، ويشكل
النصارى 5% ومع ذلك يسيطرون على 17 مقعداً، من أصل 22 مقعداً وزارياً،
ومن مقاعد النصارى منصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزراء الخارجية
والمالية والإعلام، ويتكرر المثال في السنغال؛ حيث يبلغ المسلمون 90%، وفي
إفريقيا الوسطى 70% قبل إسلام بوكاسا، وغامبيا 90% قبل إسلام جاورارا.
وتنزانيا 45%، والحبشة 60%، وتشاد وفولتا العليا وليبيريا، كلها أغلبيات
إسلامية تحكمها أقلية نصرانية [32] .
ز - تأسيس منظمات سرية تعمل في الخفاء:
ومن أمثلة هذه المنظمات السرية ما أعلنته الصحف السودانية في أواخر
السبعينيات من أن سلطات الأمن السودانية اكتشفت خلية سرية تعمل في الخفاء لبث
الدسائس والأفكار المعادية للإسلام والداعية إلى النصرانية، وزعيم الخلية طبيب
سويسري يعمل في الخرطوم، وهي تابعة لمنطمة دولية مركزها» بازل «
بسويسرا، وقد عثر في مركز الخلية على (200) ألف كتاب من الكتب المعادية
للدين الإسلامي والمحرفة له والمشوهة لحقيقته والداعية إلى الردة عنه، كما وجدت
فيه كميات كبيرة من الأشرطة التي سجلت فيها موضوعات معادية للإسلام ومنها
تلاوات شبيهة بالقرآن وهي ليست قرآناً بغية تضليل عوام المنتمين إلى الإسلام في
إفريقيا وغيرها [33] .
ح - عقد المؤتمرات: التي تجمع من أنحاء العالم لتبادل الآراء المناسبة
والطرق المثلى لحرب الإسلام والمسلمين ونشر عقائدهم ومذاهبهم الهدامة، ومن
هذه المؤتمرات على سبيل المثال المؤتمر التنصيري الذي انعقد في القاهرة سنة
1906م، وكذلك مؤتمر كولورادو الذي عقد عام 1978م.
هذه هي أهم وسائل القوم في الدعوة إلى دينهم الباطل وعقائدهم الفاسدة؛ وإن
كانت هناك وسائل كثيرة غيرها يضيق المجال عن ذكرها مثل النوادي، ومثل
استخدام المرأة عن طريق الصداقات المحرمة مع الشباب، ومثل الفنادق العالمية
الكبرى والأسواق وإغراق المجتمع بالشهوات، وأسلوب المراسلات، والعمل في
مجالات التنمية وغيرها.
فينبغي علينا معشر المسلمين الحذر من كيد الأعداء؛ وذلك من خلال فضح
خططهم ومخططاتهم، والعمل على محاربتها وبيان بطلانها؛ فقد تعبدنا باستبانة
سبل المجرمين، بل جاءت آيات الكتاب العزيز مفصلة لنتبين خطط أعداء الله.
قال جل شأنه: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
(الأنعام: 55) .
خاتمة:
وفي ختام هذا البحث نتوجه إلى كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
بهذه الكلمة:
إن التنصير يجتاح قارة إفريقيا المسلمة، ويعمل ما يحلو له؛ وها أنتم ترون
خططه ومخططاته واضحة وجلية للعيان، وهاهم جنده يواصلون الليل بالنهار
ويعملون بكل جد من أجل القضاء على الدين الإسلامي وإخراج المسلمين من دينهم.
فيا أمة الإسلام! اللهَ اللهَ بالدفاع عن عقيدتكم ودينكم الحق، ولْنَسْعَ جميعاً لرد
كيد أعداء الله، ولْنُرِ الله عز وجل من تضحياتنا وصدقنا ما يكون سبباً في نصرة
الله عز وجل لنا، ولنحثَّ الخطا في طريق استعادة هويتنا الإسلامية، ولنتوجه إلى
الله عز وجل قبل ذلك وبعده أن يبرم لأمتنا المباركة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة
ويذل فيه أهل المعصية والكفر، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا
يعلمون.
وصلى الله على نبينا محمد.
__________
(*) الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وعضو مجلس الشورى السعودي.
(1) مجلة البيان، العدد (141) .
(2) احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام د سعد الدين السيد الصالح.
(3) الغارة على العالم الإسلامي أل شاتليه، ترجمة محب الدين الخطيب، ص 15.
(4) مجلة هذه سبيلي، العدد: 2، ص 284.
(5) التبشير والاستعمار، للخالدي وفروخ، ص 59.
(6) المصدر السابق، ص 62.
(7) الغارة على العالم الإسلامي، ص 25.
(8) مجلة هذه سبيلي العدد: 2، ص 283.
(9) نهضة إفريقيا، ص 103.
(10) مجلة هذه سبيلي العدد: 2، ص 287.
(11) الغارة على العالم الإسلامي، ص 26.
(12) حاضر العالم الإسلامي، ج 2، ص 671.
(13) نهضة إفريقيا، ص 110.
(14) انظر: معاول الهدم والتدمير، إبراهيم سليمان الجبهان، ص 19، مجلة الرابطة العدد: 368، حاضر العالم الإسلامي، ج2، 672، مجلة الكوثر، العدد: 2، ديسمبر 1999م، أحد المواقع التنصيرية على الإنترنت بعنوان: morrisevangelism prayer watch.
(15) مجلة الرابطة، العدد: 368.
(16) حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص 672.
(17) المصدر السابق، ج2، ص 672 بتصرف.
(18) باختصار من: احذروا الأساليب الحديثة، ص 56، وما بعدها، التنصير في الأدبيات العربية، د علي إبراهيم النملة، ص 34 وما بعدها، التبشير والاستعمار، ص 34.
(19) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ص 102.
(20) المصدر السابق، ص 103.
(21) التبشير والاستعمار، ص 59.
(22) المصدر السابق، ص 62.
(23) المصدر السابق، ص 62.
(24) تقرير عن النشاط الكنسي صادر عن لجنة مسلمي إفريقيا.
(25) احذروا الأساليب الحديثة، ص 83.
(26) التبشير والاستعمار، ص 68.
(27) التبشير والاستعمار، ص 194.
(28) احذروا الأساليب الحديثة، ص 70.
(29) مجلة الرابطة، العدد: 368.
(30) التبشير والاستعمار، ص 213.
(31) أجنحة المكر الثلاثة، ص 104.
(32) مجلة هذه سبيلي، العدد: 2، ص 219.
(33) أجنحة المكر الثلاثة، ص 107.(153/58)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(1 - 2)
النشاط التنصيري في كردستان العراق
د. فرست مرعي الدهوكي
يوجد في كردستان إلى جانب الكرد المسلمين طوائف نصرانية مختلفة مثل
الكلدان والنسطوريين (الآثوريين) والسريان والأرمن، وكانوا يعيشون بسلام
ووئام بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء التي تؤكد على احترام أهل الكتاب
عملاً بوصية الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم: «من آذى ذمياً فأنا
خصمه» [1] . وكان الجميع يعيشون في ظل الخلافة الإسلامية بدءاً من الخلافة
الراشدة ومروراً بالحقبة الأموية فالعباسية وانتهاءاً بالدولة العثمانية. ولكن الضعف
الذي انتاب الدولة العثمانية في أواخر أيامها ومخططات الدول الأوروبية النصرانية
لتقسيمها بعد تسميتها من قِبَل القيصر الروسي (نيقولا) بالرجل المريض هذه
الآمال انتعشت بوجود أقليات نصرانية داخل جسم الدولة العثمانية مما حدا بالقناصل
والرحالة والمبشرين الأوروبيين إلى الاتصال بهذه الطوائف إضافة إلى هذه
الامتيازات التي منحها السلطان سليمان القانوني للإمبراطور الفرنسي فرنسوا الأول
وما تبعها من منحها للإنكليز والروس، كل هذا أدى إلى تدخل الدول الأوروبية في
الشؤون الداخلية للدولة العثمانية. فكانت بريطانيا تحرص على رعاياها
البروتستانت والدروز، وفرنسا تحرص على حماية الكاثوليك من كلدان ومارون؛
بينما حرصت روسيا على حماية الطوائف الأرثوذكسية. وفعلاً بدأت هذه
المخططات تأتي أُكُلَها بتعاون رؤساء هذه الطوائف مع واضعي هذه المخططات من
إنكليز وروس. ففي أثناء الحرب العثمانية الروسية عام 1878م انحاز الآثوريون
إلى جانب الروس ضد دولتهم التي تحميهم. كما انحازوا سابقاً إبان حرب القرم
(1853 1856م) حيث صرح البطريرك الآشوري مار شمعون «عن رغبته
بالوقوف إلى جانب روسيا؛ فقد اقترح البدء بمحادثات موجهة بشكل رئيس نحو
مسألة اتحاد الآشوريين (الآثوريين) بالأرثوذكسية الروسية، ولذا حارب
الآشوريون المقيمون في روسيا في هذه الحرب بشجاعة في صفوف الجيش
الروسي» [2] .
لمحة تاريخية عن ظهور النسطورية:
في هذه الآونة بدأت الإرساليات التبشيرية بالدخول شيئاً فشيئاً إلى مناطق
تمركز الآثوريين والأرمن بقصد إدخالهم في حظيرة الكنيسة الكاثوليكية؛ حيث
اتهموا بالهرطقة والخروج عن دين المسيح عليه السلام إثر مجمع إيفيسس [3]
431 م؛ حيث أعلن نسطوريوس بطريرك القسطنطينية الذي نصبه
الإمبراطور الروماني ثيئو دوسيوس الثاني (408 450م) بطريركاً سنة 428
م أن للسيد المسيح شخصيتين منفصلتين (أقنومين) : أقنوم الإنسان يسوع،
وأقنوم الله، ولا يجوز أن تسمى مريم العذراء أم الله بل هي بشر ولدت المسيح
بالشخصية البشرية، وأن المسيح مات على الصليب كإنسان، وكانت النتيجة أن
أُدين نسطوريوس واعتُبر خارجاً على تعاليم الكنيسة، وبعد أن قضى خمس
سنوات معتكفاً في ديره القديم قرب أنطاكية نفاه الإمبراطور ثيئو دوسيورس الثاني
سنة 436م إلى أعالي مصر؛ حيث توفي سنة 451م [4] . وما أن علم الإمبراطور
الفارسي بما يحدث لنسطوريوس حتى قام باحتواء معارضي الدولة الرومانية
بقيادة بارصوما زعيم الحركة النسطورية؛ حيث توجهوا إلى الدولة الفارسية
الساسانية، ولاقوا ترحيباً من الملك فيروز الأول (459 484م) الذي رأى فيهم
خير أداة لمحاربة الدولة الرومية البيزنطية. وحسب طلب برصوما فقد اعتبر الملك
فيروز النسطورية ديناً لجميع مسيحيي الإمبراطورية الفارسية [5] . وفي عام 496م
اجتمع في العاصمة الفارسية سلوقية (سلمان باك الحالية) جنوب شرق بغداد المجمع
الديني النسطوري، وأعلنت النسطورية ديناً رسمياً للمسيحيين، وانتخب أول
بطريرك نسطوري وهو (باري) . ومنذ ذلك الحين سميت الكنيسة النسطورية
بكنيسة الشرق، وسُمي بطريركها بطريركاً للكنيسة الشرقية [6] .
ولقد تعرضت الكنيسة النسطورية بمرور الزمن إلى أحداث لغير صالحها أدت
إلى توقف نموها وازدهارها؛ بل تقلصها واضمحلالها بعد أن بلغت أوسع انتشار
لها في منطقة الشرق؛ حيث كانت الفرقة النصرانية الوحيدة التي تبشر بأفكارها
وسيادتها في منطقة الشرق الأدنى. وكانت أول صدمة شهدتها هي اكتساح المغول
لها والفتك بها. ثم كان الانقسام في كنيستها بفعل الإرساليات التبشيرية الكاثوليكية
التي أرسلها باباوات روما في القرن السادس عشر صدمة كبيرة لها، فانضم أكثر
النساطرة القاطنين في الموصل وفي القرى الواقعة في السهول المجاورة المحيطة
بها كتكليف - كارامليس - باقوفة - قرقوش - القوش إلى الكنيسة الكاثوليكية
مندفعين بمغريات مشجعة من أسقفية أخوية الكرمليين الفرنسية فيما بين النهرين
برئاسة جان ردفال الذي أسس دعائم لنفسه منذ عام 1622م، وهكذا تكونت طائفة
جديدة باسم الكلدان المتحدين لهم كنيستهم الخاصة بهم، فنصَّب البابا أنوسنت
الحادي عشر عليها بطريركاً سنة 1681م هو المار يوسف الأسقف النسطوري
لديار بكر الذي كان قد اختلف مع بطريرك النساطرة. وبعد حوالي مئة عام انشق
المار إيليا الأسقف النسطوري في منطقة الموصل على الكنيسة النسطورية، وصبأ
إلى المذهب الكاثوليكي، وانضم إلى طائفة الكلدان المتحدين.
أما النساطرة في منطقة جبال هكارى في كردستان تركيا فبقوا صامدين
متمسكين بالكنيسة النسطورية وبطقوسها؛ وهم الذين حافظوا عليها وكانت لغتهم
السريانية، فانفصلوا عن الموصل التي صبأت إلى الكثلكة، وأسسوا كرسياً
بطريركياً مستقلاً وراثياً بزعامة البطريرك المار شمعون الثالث عشر (1660
1700م) ، فاتخذ هذا البطريرك قرية قوجانس في سنجق هكارى مركزاً
لبطريركيته بزعامته الدينية والدنيوية بعد أن كان مقرهم الأصلي في قصبة القوش
القريبة من مدينة الموصل. وصار هذا اللقب (المار شمعون) يطلق على كل من
يتولى البطريركية على النساطرة [7] ، ولم يقتصر التحوُّل عن النسطورية على
نساطرة منطقة الموصل والقرى المجاورة من السهول، بل شمل أيضاً النساطرة في
شمال إيران (أجزاء من كردستان إيران) . ففي سنة 1898م انضم عدد من
النساطرة في شمال إيران إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على يد المطران (مار
يونان) من سوبورغان وأورمية. وتأسس مركز روسي للتبشير بين النساطرة في
أورمية.
قيام الحرب العالمية الأولى وخيانة النسطوريين للدولة العثمانية:
قامت الحرب العالمية الأولى إثر قيام أحد الطلبة الصربيين بقتل ولي عهد
إمبراطورية النمسا والمجر في مدينة سراييفو، وعقب ذلك أعلنت ألمانيا والنمسا
والمجر الحرب على صربيا وتبعتها إنكلترا وفرنسا وروسيا في الحرب على دول
المحور. وبعد ثلاثة أيام من هجوم الأسطول التركي الألماني على الموانئ الروسية
أي في 2 تشرين الثاني 1914م شنت القوات البرية العثمانية هجوماً على مدينة
قارص العثمانية المحتلة، بتاريخ 10 تشرين الثاني 1914 م أرسل القنصل الروسي
في مدينة «وان» ثلاثة رجال استطلاع محملين برسالة إلى بنيامين مار شمعون
في مقره بقرية قوجانس. وقد عاد هؤلاء الثلاثة محملين برسالة من البطريرك يؤكد
فيها جاهزيته لإعلان التمرد ضد الدولة العثمانية. ولكن بشرط تعرض روسي على
منطقة باشقلعة وديز لكي يلتحم الآثوريون مع القوات الروسية الغازية. وفي اليوم
نفسه توجهت تشكيلات آثورية من إيران إلى منطقة «ميركا وار» لتعزيز
الدفاعات الروسية بوجه الهجمات العثمانية [8] وهكذا خان الآثوريون العهد هذه
المرة مثل المرات السابقة في حروب الدولة العثمانية المتتالية مع عدوها اللدود
روسيا. وقد شارك المرتزقة الأرمن والآثوريون بقيادة بطرس آغا مع القوات
الروسية في حرق مئات القرى الكردية وتدميرها في منطقة هكارى وأورمية،
وأدت هذه الأعمال الوحشية إلى قتل وتشريد لحوالي مليون كردي. وحين انسحبت
القوات الروسية من كردستان تحت ضغط القوات العثمانية وظهور ثورة أكتوبر
الاشتراكية عام 1917م سلمت أسلحتها للمرتزقة الآثوريين، كما قامت القنصلية
الفرنسية في إستانبول بدعم القوات الآثورية وتمويلها، ووصلت قوة القوات
الآثورية بقيادة المار شمعون إلى حد مكنهم من السيطرة على مدينة أورمية وما
حولها في كردستان إيران، واغتصب المسلحون الآثوريون المئات من النساء
الكرديات داخل أورمية. وحين تكاملت استعدادات القوات الآثورية بدأت الأوساط
الآثورية في لندن وباريس تدعو إلى إنشاء كيان قومي لهم في كردستان [9] .
إسكان النسطوريين في كردستان العراق ومحاولات إنشاء كيان خاص
بهم:
وفي أعقاب مؤتمر القاهرة الاستعماري الذي عقد في آذار 1921م برئاسة
ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني شكلت من كتائب الآثوريين قوة
خاصة سميت: «الليفي» مهمتها مساندة القوات البريطانية في إخماد انتفاضة
الشعب العراقي بعربه وكرده إثر انتفاضة الكرد في سنة 1919م وثورة العشرين
العراقية عام 1920م. كما قام الإنكليز في الوقت نفسه بإسكان الآثوريين في
المناطق الكردية في منطقة العمادية وعقرة ودهوك وديانا، وقاموا بترحيل الكرد
إلى مناطق أخرى. كما كان الآثوريون يتحينون الفرص للانتقام من المسلمين في
العراق حيث قاموا بارتكاب مذبحة بشرية في مدينة كركوك بتاريخ 4 أيار 1924م.
وقد سبق هذه المذبحة قيام الآثوريين بارتكاب مذبحة أخرى في مدينة الموصل
بتاريخ 15 آب 1923م، كل هذه الأمور أدت إلى خلق حالة نفور بين الشعب
العراقي وبين هؤلاء الدخلاء الذين كانوا يتحينون الفرص لإقامة وطن قومي لهم
على أرض كردستان حيث قاموا بتمردهم الشهير في شهر آب 1933م في منطقة
سميل، ولكن القوات العراقية بقيادة اللواء بكر صدقي ومساندتها من العشائر
العربية والكردية في المنطقة أدت إلى إخفاق مخططاتهم. وهم الآن يعيدون إحياء
هذه المناسبة سنوياً في 8 آب حيث يعتبرونها «يوم الشهيد الآثوري» [10] .
وقد ظل حلم إنشاء دولة مسيحية في كردستان (شمال العراق) يراود الأجيال
الجديدة. ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير هي مجيء حزب البعث عام 1968م
إلى السلطة في بغداد تحت زعامة ميشيل عفلق الذي اتبع سياسة شوفينية تجاه
الشعب الكردي المسلم وأعطى النصارى مجالاً واسعاً للقيام ببناء مراكزهم الثقافية
والاجتماعية ثم السياسية؛ حيث ولد في خضم هذه الظروف الحرجة حزب بيت
النهرين عام 1976م أعقبه ظهور الحركة الديمقراطية الآشورية وقاموا بتوزيع
الأدوار، حيث يتشدد حزب بيت النهرين، فيما يناور ويعتدل حزب الحركة
الديمقراطية الآشورية في طرح مطالب النصارى، وبهذا التكتيك تمكنوا من خلق
ظروف مناسبة لهم في منطقة كردستان حيث دخلت الحركة الديمقراطية الآشورية
في الجبهة الكردستانية، ولدينا وثيقة ناطقة باسمهم تثبت أنهم لا زالوا يتمسكون
بحملهم القديم، فيقول المدعو ق. ب. ماتفييف (بارمتي) في كتابه:
(الآشوريون والمسألة الآشورية) في الصفحة 177 ما نصه: «بالرغم من أنه
لا يوجد بهذا الصدد لدى قادة المؤتمرات وجهة نظر محددة واحدة فيطلب
المكسيماليون المغالون (المتطرفون) تأسيس دولة آشور المستقلة على الأراضي
الواقعة في شمال العراق، بينما يريد المعتدلون دولة آشورية ذات حكم ذاتي (على
مثال الحكم الذاتي الكردي) ضمن إطار الحكومة العراقية. ويعتبر كلاهما مهمة
تأسيس الدولة الآشورية أمراً واقعياً، ويأمل الطرفان تحقيق ذلك في غضون القرن
الجاري [11] .
ومما يجدر ذكره أن الطائفة النسطورية حاولت الحصول على الحكم الذاتي
من الحكومة العراقية وتخصيص مدينة دهوك عاصمة إقليمية لهم أسوة باتفاق الحكم
الذاتي الذي عقد بين الحكومة العراقية وقيادة الحركة الكردية بزعامة البارزاني عام
1970م، والوثيقة المتعلقة بهذا الأمر بقيت طي الكتمان من الجانبين الحكومي
والنسطوري خوفاً من إثارة الرأي العام الكردي.
نشاط الإرساليات الأوروبية التنصيرية بُعيد
حرب الخليج الثانية 1991م:
وهكذا جرت الأمور إلى أن حدثت انتفاضة آذار عام 1991م وما أعقبها من
الهجرة المليونية للشعب الكردي وعودته إلى أرضه؛ حيث بدأ الإعلام العالمي
(الغربي) يركز على القضية الكردية، وبدأت المنظمات (الإنسانية) بالدخول شيئاً
فشيئاً إلى منطقة كردستان الآمنة، وهكذا دخلت عشرات المنظمات إلى كردستان
أمثال: منظمة شلترناو انترناشنال وهي منظمة أمريكية، ومنظمة كاريتاس
الكاثوليكية، ومنظمة الكنائس العالمية، ومنظمة مساعدة الشعوب المضطهدة،
ومنظمة العالم بحاجة، ومنظمة رعاية الكرد، ومنظمة الفريق الطبي الأمريكي،
ومنظمة الهجرة الدولية، ومنظمة الصليب الأحمر السويدي، ومنظمة الكنيسة
الأسقفية الإنجيلية، ومنظمة كير الأسترالية، ومنظمة الشركاء العالميين
وغيرها [12] . وأخذت هذه المنظمات توزع الطحين والأرز والزيوت على الكرد
مع كتب تنصيرية كالأناجيل وكتب تخص حياة السيد المسيح عليه السلام من
وجهة نظر الكنيسة، وبعض الكتب التي تلقي ظلالاً من الشك والريبة حول
صحة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. كما بدأت هذه المنظمات تتوغل
شيئاً فشيئاً داخل النسيج الاجتماعي للمجتمع الكردي المسلم، وأخذت تحث الشباب
المراهق على الهجرة وترك كردستان فارغة تعبث بها المنظمات كيفما تشاء، وهكذا
تسابق مئات الشباب نحو الالتحاق بمنطقة سلوبي التركية تمهيداً لنقلهم إلى الولايات
المتحدة وكندا وأستراليا ودول أوروبية أخرى.
كما قامت المنظمات الأجنبية بتهريب السجاير الأجنبية والسموم البيضاء إلى
داخل كردستان قادمة من تركيا وقبرص، وأخذ الخبراء والفنيون والباحثون
المرتبطون بمراكز الدراسات والجامعات بالدخول إلى كردستان حيث أصبحت حقلاً
لتجاربهم. ومما زاد الطين بلة أن بعض هذه المنظمات تقوم بمنح مئتي دولار
شهرياً لكل سيدة تقوم بفتح صالون حلاقة. أضف إلى هذا أن عدد البارات
والحانات قد زاد زيادة ملحوظة عما كانت عليه قبل الانتفاضة. كما قام نصارى
دهوك بفتح مكتبة ينبوع الحياة قرب دير مريم العذراء وتم تزويدها بكتب تنصيرية
قادمة من دول أوروبا كألمانيا وسويسرا ولوكسمبورغ وتركيا بقصد إدخال
الشبهات والشك في عقليات الشباب الكردي، كما تم تزويد هذه المكتبة بأشرطة
الكاسيت والفيديو، كالكاسيت الخاص بالسيد المسيح وآباء الكنيسة. ويقوم هناك
تنسيق تام بين منظمة WIN (العالم بحاجة) والمكتبة بواسطة المدعو يوسف متى
وهو مسيحي من أهالي الموصل يشرف على مكتبة ينبوع الحياة ويقوم بتزويدها
بالتوجيهات اللازمة بخصوص العمل التنصيري. فعند ارتياد بعض الشباب لهذه
المكتبة يقوم طاقم المكتبة المؤلف من أربعة أشخاص وهم: المدعو ألبرت عوديشو
المسؤول عن المكتبة يساعده ثلاثة أشخاص آخرون: هم كل من المدعو غالب وهو
مسيحي كلداني من أهالي دهوك، وكريم وأنويا وهما مسيحيان آثوريان بمنحه
بعض الكتب الصغيرة مع بعض الهدايا التي تصور السيد المسيح إلهاً أو ابن إله،
وهذه الهدايا عبارة عن بوست كارت ملون ومزركش بحيث يؤثر في القارئ
ومكتوب عليه بلغة عربية جميلة مع ترجمة باللغة الإنكليزية إضافة إلى إهدائه
نسخة من كتاب العهد الجديد أو إحدى الأناجيل مثل لوقا المطبوع باللغات العربية
والكردية باللهجتين الكرمانجية الشمالية والجنوبية وبالحرفين العربي واللاتيني.
وإذا رأى طاقم المكتبة من هؤلاء الشباب ميلاً إلى دراسة المطبوعات النصرانية
فإنهم يقومون بإسداء عبارات الترحيب والمجاملة الزائدة تمهيداً لإدخاله في مشيئة
الرب حسب مصطلحهم. بعد هذه الفترة يقومون بزرع بذور الشك في عقله
وتقريب بعض المفاهيم النصرانية إلى ذهنه كالقربان وهو عبارة عن صلب السيد
المسيح لغفران ذنوب البشر؛ وهذا ما يعاكس المصطلح الإسلامي وينافيه بصورة
تامة. بعد هذا يزود ببعض المطبوعات الأخرى مثل كتاب (عصمة التوراة
والإنجيل) حيث يؤكدون على صحة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
ويشيرون من طرف خفي إلى تناقض بعض آيات القرآن الكريم من الناحية
الإعرابية أو اللغوية، ومدى صحة جمعه في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان
رضي الله عنه ويستأنسون في هذا المجال ببعض الدراسات الشاذة حول القراءات
القرآنية، أو ما كتبه بعض المنحرفين عن الإسلام كأمثال محيي الدين بن عربي في
كتابه:» فصوص الحكم «بخصوص الروح والسيد المسيح، وبعض مؤلفات
الشيعة الخاصة بتحريف القرآن. بعدها يسلم هذا الشاب إلى المدعو يوسف متى
لكي يزوده ببعض الكتب الأخرى الأشد خطراً وبعض أشرطة التسجيل والفيديو
كاسيت، وهذا الشخص يتلقى الدعم من الكنيسة الأسقفية الإنجيلية التي مقرها في
نيويورك، ومن منظمة WIN (العالم بحاجة) المكونة من أربعة أشخاص هم
المدعو أندريه وهو فرنسي تعلم اللغة العربية أثناء وجوده في أقطار المغرب العربي،
والثاني ناجي وهو مصري قبطي يجيد الإنكليزية بطلاقة وكان قد عاش في
السعودية لفترة طويلة وهو ملمٌّ ببعض ما في الكتب الإسلامية كالتفاسير وما كتب
في علوم القرآن كالإتقان للسيوطي، والثالث هو المدعو توفيق وهو مسيحي لبناني،
والرابع سيدة كبيرة السن وهي معلمة، وهؤلاء الأربعة يترددون على المدعو
يوسف متى وعلى مكتبة ينبوع الحياة يومياً. إن أغلب مطبوعات هذه المكتبة تأتي
من سويسرا وألمانيا ولوكسمبرغ ومن مكتبة إستانبول في تركيا، ولهذه المكتبة
تنسيق مع المركز الثقافي الآشوري ومع نادي نوهدرا إضافة إلى الحركة
الديمقراطية الآشورية وحزب بيت النهرين [13] .
مشروع تنصير كردستان:
وندرج أدناه بعض المعلومات بخصوص تنصير الكرد من قِبَل وحدة التبشير
العالمي (Gbba I Mission Unit) والكنيسة البروتستانتية، وهي عبارة عن
مذكرة لفهم شهادات أقليات الشعوب المسلمة. تبدأ هذه الدراسة بمقدمة حول تغلغل
الإرساليات التبشيرية في منطقة كردستان، حيث يحددها التقرير سنة 1851م
عندما أبحر صاموئيل أودلي ري (Samuel Audley Rhra) إلى كردستان.
ويذكر بأن هدف هذه الكنيسة في النهاية: هو الوصول إلى جميع البشر، ونحن
نضع أنفسنا جنوداً لهذا الهدف. ثم يذكر التقرير الأهداف الأولية للتبشير بعنوان:
(خواطر لفهم أعمال المبشرين بين الأقليات القومية الإسلامية) . ويتطرق إلى
الأهداف الأولية: حول تشكيل فريق عمل من المبشرين للوصول إلى أهداف
التنصير بحلول سنة 2000م. وتدعم أعمال هؤلاء من قِبَل الكنائس والمؤسسات
التبشيرية العالمية.
ويسرد التقرير أسماء أعضاء الفريق وهم كل من:
1 - بوب بلين كوي Bob Blinco.
2 - بيل كوبس Bill Koops.
3 - تيري بوس Teri Busse.
4 - تيريزا ستلينكر Teresa Sullenger.
5 - روث تيسدالRuth Teasdale.
ومن ثم أضيف إليهم أشخاص آخرون للوصول إلى هدف مؤسسة (دعم
متطوعي التبشير للكنيسة البروتسانتية) Presby Terian Frontier Mission
Fand.
أما المدخل الاستراتيجي لفريق العمل فيتضمن الواجبات الآتية:
1 - تعلم اللغة (من قِبَل أعضاء الفريق) ويقصد بها اللغتين العربية
والكردية.
2 - بيع المواد لهم وإقامة أعمال تجارية معهم.
3 - تدريس اللغة الإنجليزية لغة ثانية.
4 - إيجاد أعمال صغيرة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الكتب التي وضعت للتدريس هي:
Kenneth Cragg (نداء المئذنة) ، The Call of the Minaret.
Montgomery Watt (محمد: النبي ورجل الدولة) Muhannad: Prophet and Statment.
Phil Parshall (الجسور إلى الإسلام) ، Bridges to Islam.
C. Marsten Speight (الإسلام من الداخل) Islam from Within.
Phil Parshall (طرق جديدة لتنصير المسلمين) ، New Pathin Muslim Evangclism.
Parvinder (عيسى والقرآن) Jesus and the Quran.
وهذه المطبوعات يمكن الحصول عليها عن طريق الاتصال بمعهد زويمر الواقع في ولاية Aladend في الولايات المتحدة الأمريكية [14] .
الميزانية المخصصة اسم المنظمة بالمليون دولار أمريكي للإرساليات مؤتمر المعمدانية الجنوبيين 169.3
الخارجية الرؤيا العالمية 131.7
اجتماعات الإله Assemblies of God 84.3
السبتيون 70.2
جمعية ويكلف لترجمة الإنجيل الدولية 59.1
كنيسة الإله 52
مجلس الكنائس الوطني 47.3
منظمة ماب الدولية 36.3
(*) نقلاً عن: كتاب لمحات عن التنصير في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن السميط
- البيان -
__________
إحصائية عن المنظمات اسم المنظمة ... ... ... ... ... عدد ... ... ... ... ...
التنصيرية ... ... مؤتمر المعمدانيين الجنوبيين ... ... 3839
البروتستانتية ... ... الإرساليات الخارجية
الأمريكية ... ... شباب ذوي رسالة ... ... ... ... 2506
جمعية ويكلف الدولية لترجمة الإنجيل ... 2269
... ... ... إرسالية القبائل الجديدة ... ... ... 1807
كنيسة المسيح ... ... ... ... ... 1717
اجتماعات الإله A ssenbies of God ... 1530
كنائس المسيح ... ... ... ... ... 982
اتحاد النصارى والإرساليات ... ... 917
منظمة تيم ... ... ... ... ... 872
السبتيين ... ... ... ... ... ... 842
زمالة الإنجيل المعمدانية الدولية ... ... 734
(*) نقلاً عن: كتاب لمحات عن التنصير في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن السميط
- البيان -
__________
أكبر 10 منظمات تنصيرية بريطانية
(الدخل والأوقاف)
اسم المنظمة ... ... ... ... ... الدخل ... ... الأوقاف
مجلس كنيسة إنجلترا
Church commisson of England ... 257 مليون جنيه 2381 مليون جنيه إسترليني
جمعية برناردو للأطفال Bernardo ... 77.2 مليون جنيه ... 174 مليون جنيه إسترليني
العون المسيحيChirstian Aid ... ... 7,43 مليون جنيه 3,17 مليون جنيه إسترليني
جيش الخلاص (العمل الاجتماعي) ... 3,43 مليون جنيه ... 80.3 مليون جنيه إسترليني
salivation army (social work)
جيش الخلاص (صندوق الوقف) ... 33.1 مليون جنيه ... 165 مليون جنيه إسترليني
S. Army (Trust fund) ... ...
فريق الكنيسة للإسكان ... ... ... 40.7 مليون جنيه 283 مليون جنيه إسترليني
Church Housing Group ... ...
جمعية الإنجيل Bible Socitey ... ... 34.4 مليون جنيه ... 7.85 مليون جنيه إسترليني
جمعية الشبان المسيحيين ... ... ... 30.6 مليون جنيه 4.97 مليون جنيه إسترليني
Young christian Men Assoc ...
كنيسة المسيح وقديسي اليوم الآخر ... 25.9 مليون جنيه ... 9.57 مليون جنيه إسترليني
Church of christ and later day saint tear ...
صندوق منظمة تير ... ... ... ... 24.7 مليون جنيه ... 9.45 مليون جنيه إسترليني
(*) نقلاً عن: كتاب لمحات عن التنصير في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن السميط
- البيان -
__________
(1) رواه الخطيب البغدادي، في التاريخ وهو ضعيف، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع
برقم 5314.
(2) الآشوريون والمسألة الآشورية ق ب ماتفييف (بارمتي) ترجمة: ح د أ.
(3) إيفيسس: مدينة يونانية قديمة تقع بقاياها بالقرب من قرية سلجوق في مقاطعة أزمير التركية.
(4) دائرة المعارف البريطانية، 1965، 15، 74، ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق، ص 95، 96.
(5) ملامح من التاريخ القديم، أحمد سوسه.
(6) تاريخ الآثوريين، تأليف ك ماتفييف ومار يوحنا، ترجمة أسامة نعمان عن الروسية،
ص 11 12.
(7) ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق، ص 126 127، الآشوريون والمسألة الآشورية، ص 65 66.
(8) الآشوريون والمسألة الآشورية، ق ب ماتفييف (بارمتي) ترجمة ح د أ، ص 84.
(9) إسماعيل آغا سمكو، ثعلب السياسة الكردية ورائدها في البراغماتية، الدكتور عثمان علي، مجلة نالاي ئيسلام، العدد: 3، ص 16، 17.
(10) ينظر بهذا الصدد المنشورات الصادرة عن الحركة الديمقراطية الآشورية والمركز الثقافي الآشوري.
(11) الآشوريون والمسألة الآشورية، ص 177.
(12) ملف المنظمات الأجنبية في محافظة دهوك في كردستان العراق.
(13) بحث ميداني قام به الباحث من خلال تجواله على الأحزاب والهيئات والمنظمات والكنائس النصرانية في محافظة دهوك في كردستان العراق.
(14) مختصر وثيقة سرية باللغة الإنجليزية حصل عليها الباحث من أحد العاملين الكرد في إحدى هذه المنظمات.(153/68)
البيان الأدبي
الأديب الإسلامي
الدكتور حلمي محمد القاعود
في حوار مع البيان
حاوره: محمد شلال الحناحنة
تعريف بضيف اللقاء:
* من مواليد البحيرة في مصر سنة 1366هـ، وهو أستاذ ورئيس قسم اللغة
العربية بجامعة طنطا، وعضو اتحاد الكتاب في مصر، وعضو رابطة الأدب
الإسلامي العالمية.
* عمل في عدة جامعات، وشارك في عدة مؤتمرات أدبية داخل مصر
وخارجها.
* يشارك باستمرار في الكتابة لعدد من الصحف والدوريات العربية
والإسلامية، وله أكثر من ثلاثين مؤلفاً في الإسلاميات والأدبيات والإعلام،
وحصل على عدة جوائز، كجائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عام 1388هـ،
وجائزة المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 1394هـ.
أنْ نحملَ شجونَ الأدب الإسلاميّ، لنمضيَ إلى ذاكرة غزيرة تطمح
لاستشراف أدب وفكر إسلامي يلامس شفافية الروح ليس أمراً هيناً لا سيما ونحنُ
نحاورُ الأديب الإسلامي الدكتور حلمي محمد القاعود؛ فهو كتابٌ مُزْهرٌ مفتوح.
وقد رأت البيان أنَّ هذه الطاقة المبدعة من الفكر والإبداع مَكْسَبٌ كبيرٌ لقرّائها
ومتابعيها، فجاء هذا الحوار وارفاً بكثيرٍ من القطوف الدانية، فإلى الحوار.
* مهمة الناقد الإسلامي مهمة عظيمة، ولكن الأغلبية من نقادنا أسرفوا في
التنظير بعيداً عن ملامسة الإبداع لدى أدبائنا؛ فما رأيك في هذا القول؟ !
- لا ريب أن النقد الأدبي الإسلامي أسرف في عملية التنظير على حساب
التطبيق، ولعل ذلك يرجع إلى ما قوبلتْ به فكرة الأدب الإسلامي من علامات
استفهام أو تساؤلات عديدة جعلت النقاد الإسلاميين يسعون لشرح الفكرة وتفسيرها
والردّ على الرافضين لها. ولعلّي كنتُ من أوائل مَنْ تنبَّه إلى ذلك، فطالبتُ في
أكثر من مناسبة بضرورة الاهتمام بالجانب التطبيقي في الأدب الإسلامي، فيتعرّف
الناس على نماذجه الجيدة، ويثبت للمعارضين أن الأدب الإسلامي أدبٌ جادٌّ وجيّد.
* قال أحد النقاد: (إن الشعر الإسلامي رغم غزارته ما زال يكرر نفسه منذ
أكثر من عقدين من الزمان) فما ردُّك على ذلك؟ !
- هذا حكمٌ عام، والأحكام العامة في الآداب والفنون والإنسانيات ضدّ
الموضوعية. قد يكون هناك تكرارٌ بالفعل في الشعر العربي عامة، والإسلامي
خاصة، طوال العقود الماضية، ولكن الشعر العربي الإسلامي ما زال يقدم أصواتاً
متميزة، ونماذج رفيعة تحقق الملاءمة بين المضمون الجيّد والمعالجة الراقية،
والمتابع الدؤوب يدرك هذه الأصوات وتلك النماذج، وأرْجو أنْ تعفيني من ذكر
الأسماء حتى لا أنسى بعضها.
* أنت عضو برابطة الأدب الإسلامي العالمية؛ فما الذي قدمته الرابطة في
سبيل النهوض بأدبنا؟ !
- رابطة الأدب الإسلامي حلمٌ جميلٌ، تحقق بعد طول انتظار على يد رجل
مخلصٍ في الهند هو سماحة الشيخ «أبو الحسن الندوي» رحمه الله وعندما
صارت حقيقة واقعة انضمَّ إليها كثيرون، وخطت خطوات عديدة في إقامة الندوات
والمؤتمرات والمسابقات والنشر، وإن كان محبو الرابطة يطمحون إلى المزيد من
الخطوات، وتحقيق ما يمكن أن نسميه بالشفافية والمكاشفة لمعالجة الأخطاء
والسلبيات.
* ما العوائق الحقيقية التي تمنع تدريس الأدب الإسلامي في جامعاتنا؟
- التعليم في معظم بلادنا العربية الإسلامية كما تعلم يا أخي يناقض الهوية
الإسلامية، ومن دُعي بالنخب فئة متغربة بينها وبين لفظ: «الإسلام» خصومة
غير مفهومة، أو قلْ هي مفهومة إذا تأملنا تكوينها الفكري والثقافي، وهذه الفئة
للأسف تتحكم في مقدرات العديد من الجامعات، ثم هناك العداء السافر والمستتر من
جانب حكومات عربية إسلامية عديدة لكل ما هو إسلامي، مما يجعل المسؤولين في
الجامعات يتحسسون رؤوسهم وجيوبهم! ! وهنا عوائق أخرى ثانوية، ولكنها لا
تمثل مشكلة حقيقية أمام تدريس الأدب الإسلامي في الجامعات، ومع ذلك فإن بعض
الجامعات والكليات قد اعتمدت مقرّر الأدب الإسلامي منذ سنوات، وأتاحت الفرصة
لبحوث (ماجستير ودكتوراه) حول بعض القضايا والموضوعات في الأدب
الإسلامي.
* ما أوجه الخلاف بين الواقعية الأوروبية في دراسة الأدب والواقعية
الإسلامية؟ !
- الخلاف بين الواقعية الأوروبية والواقعية الإسلامية، أوضحتُه في مقدمة
كتابي حول روايات نجيب الكيلاني رحمه الله وهو خلاف في المضمون واللغة.
وباختصار شديد: فالواقعية الأوروبية على تنوعها ما بين واقعية نقدية وأخرى
طبيعية وثالثة اشتراكية ... إلخ تنطلق من الواقع الذي تعيش فيه وتنحاز إلى طبقات
بعينها، وتحارب طبقاتٍ غيرها، وتعتمد في كل الأحوال تصوراً مادياً لا دينياً،
وتنزل أحياناً إلى لغة العامة أو اللهجات العاميّة.
أما الواقعية الإسلامية فتنطلق من الواقع، ولكن من خلال تصور إسلامي
يرى النفس البشرية عموماً تحمل الخير إلى جانب الشرّ، وتؤمن بأنها أُلْهِمَتْ
فجورها وتقواها، فأفلح من زكاها، ومن ثَمَّ فلا مجال للصراع الطبقي، ولا
لتجريم طبقة وتبرئة أخرى بالمعايير المادية، ولكن المسؤولية في الإسلام كما تعلم
مسؤولية فردية في الأصل: [وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ] (الإسراء:
13) وغالباً ما تكون الشخصية أو النموذج في النص الأدبي الإسلامي متحولاً، أي
ينتقل بعد التجربة إلى المجال الخير.. وفي الواقعية الإسلامية تكون الفصحى أداة
التعبير الأساسية، والمعجم الإسلامي يظهر بوضوح عبر النص ظهوراً عفوياً
تلقائياً بعيداً عن الافتعال، الواقعية الإسلامية إذاً تعبير عن التصور الإسلامي
والهوية الإسلامية.
* لكن ما موقفك من الحداثة في بلادنا التي أضحتْ تتقنع بأسماء كثيرة؟ !
- لقد أعلنتُ رأيي في الحداثة عندنا من خلال العديد من المقالات، ونشرتُ
كتاباً حولها، ولكي أكون دقيقاً فإن الحداثة التي أعنيها هي الحداثة الأوروبية التي
يتبناها بعض الأدباء والكتاب في عالمنا العربي؛ لأن بعضهم يستخدمها بالمفهوم
اللفظي القريب وهو التجديد، أمّا الحداثة الأولى فهي الانقطاع بالمفهوم الأوروبي،
ومعناها أن تنقطع عن تاريخك ولغتك وتراثك وعقيدتك وعاداتك وتقاليدك، بل
ووطنك وأمتك أيضاً! إذاً فهي رؤية فكرية وليست مذهباً أدبياً كما يزعم بعضهم،
والمفارقة أن من اخترعوها ونقلناها عنهم تخلوا عنها، وانتقلوا منذ ثلاثين عاماً أو
يزيد إلى ما يعرف عندهم بما بعد الحداثة، ولكنّ قومنا ما زالوا يصرّون على
العيش هناك! ! وللأسف فقد هاتفني بعض الأصدقاء قبل أيام بأن مسألة الحداثة
كانت خدعة كبيرة انطلت على بعض مثقفينا المتيَّمين بالعالم الصليبي في أوروبا
وأمريكا، وظهر ذلك مؤخراً في كتاب جديد بعنوان: من يدفع التكاليف؟ (who
pays the pipers) ومؤلفته فرانسيس ستونر سوندر، وأعتقد أن مضمون
الكتاب سيكشف الكثير!
* أثار كتابك: (لويس عوض الأسطورة والحقيقة) ردود فعل واسعة، ولقي
تعتيماً واضحاً في الأوساط العلمانية! فلِمَ أثار تلك الردود؟
- لَمْ أكنْ أقصد «لويس عوض» وحده، ولكن كنتُ أقصد ما يمثله «لويس
عوض» من تيارات غَرِقَت في مستنقع الولاء للغرب الاستعماري، وتشبَّعتْ
بتصوراته: المفيد منها والضار، الملائم وغير الملائم، وراحتْ بفعل ظروف
معيّنة تفرض نفسها ومنهجها على الأمة؛ فكانت امتداداً للاستعمار وتجلياته الشرّيرة،
ومن ثمَّ كان عليّ أنْ أواجه هذا التيار من خلال لويس عوض الذي تحوّل في
بعض الفترات إلى صنم يعبده كثيرون، ولا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منه،
وبفضل الله استطعتُ أن أواجه مزاعمه الأدبية والفكرية بالمنطق والحجّة،
والبرهان، والدليل الذي كنتُ أستقيه غالباً مأخوذ من كتاباته ونصوصه في بعض
مؤلفاته.
إنَّ بعض الصحف رفضت نشر خبر صغير حول كتابي، مجرّد خبر،
وبعضها حجب ما وصل إليها من مقالات أو عروض تتناوله، وصنعتْ حوله ستاراً
كثيفاً من التعتيم، ولكنَّ القرّاء كانوا يسعون للحصول عليه بمجرّد سماعهم عنه.
* دعنا نتحدث عن الرواية: يقال: إن كثيراً من الروايات الإسلامية تتكئ
على أمجاد التاريخ! فما مدى صحة ذلك؟ وما أثره في النواحي الفنية؟
- اللجوء إلى التاريخ في كتابة الرواية يكون له أسبابه التي تتعلق بالظروف
التي يعيش فيها الكاتب، والرواية التاريخية الإسلامية من وجهة نظري تبدو
أصعب فنياً من الرواية الواقعية الإسلامية؛ لأن الكاتب في الأولى يجد نفسه موزعاً
بين الالتزام بحقائق التاريخ من ناحية، ومتطلبات الفن من ناحية أخرى. وقد
عَرفَت الرواية التاريخية الإسلامية مجموعة من الكتاب الذين حققوا المعادلة،
وكانتْ لرواياتهم قيمة فنية كبيرة، أشرتُ إلى بعضهم في كتابي: «الرواية
التاريخية» .
* قلت في نقدك لبعض روايات نجيب الكيلاني: «إن البيئة في روايات
الكيلاني تحقق مجالاً خصباً للواقعية الإسلامية» ، هل توضح لنا هذه المسألة؟
- البيئة تؤثر في الإنسان سلباً وإيجاباً، ويقال: (الإنسان ابن بيئته) وفي
الرواية كما في الحياة تؤثر البيئة في أفرادها تأثيراً يختلف من فردٍ إلى آخر وفقاً
لثقافته وتصوّراته، وروايات نجيب الكيلاني الواقعية أظهرت هذا التأثير أو
التفاعل؛ فإنسان القرية مثلاً يختلف عن إنسان المدينة، وابن البيت المتديّن
يختلف عن خرِّيج المنزل غير المتدين.. وهكذا.. فالبيئة لها دور، والكاتب
الموهوب هو الذي يبرز تأثيرها والتفاعل معها، ولو راجعت الفصل الخاص
بالبيئة في كتابي عن رواية نجيب الكيلاني فسترى تفصيلاً تطبيقياً لهذه المسألة.
* كان لك اهتمام واضحٌ بالانتفاضة الإسلامية في فلسطين المحتلة؛ فما
التحدي الذي طرحته الانتفاضة على الفكر والإنسان في عالمنا الإسلامي؟ !
- الانتفاضة كانت تعبيراً جميلاً ودامياً عن قدرة الإنسان الفلسطيني المسلم
على مواجهة العدو اليهودي وداعمه الصليبي. كانت الانتفاضة إرهاصاً بالمستقبل،
وما يمكن أن يحدث فيه لمن سرقوا الأرض ولمنْ سُرقتْ منهم الأرض وكان الطفل
الفلسطيني بطلاً على غير توقّع، وللأسف فقد سرقوا الانتفاضة أنتَ تعرفهم!
وذهبوا إلى مفاوضات ووقَّعوا اتقاقيات انتهت باستسلام ذليل ومهين، واعتراف
باغتصاب الأرض والعرض تظهر تجلياته على الساحة يومياً، وعبر نشرات
الأخبار، وتصريحات الساسة! وكما فاجأت الانتفاضة العالم فإن من المتوقع أن
تعود الانتفاضة أو يعود معادلٌ لها ويفاجئ الدنيا مرة أخرى، ولا يسمح لأحد أن
يسرقه أو يبيعه مجاناً لأعداء الله، وأعداء الإسلام والمسلمين.
* (الصلح الأسود والطريق إلى فلسطين) كتاب صدر لك قبل سنوات،
كيف ترى الآن هذا الصلح في ظلّ المعطيات الجديدة التي حدّثتنا عنها قبل قليل؟ !
- لا شك أن الصراع بيننا وبين يهود هو صراع عقيدة ووجود لا صراع
حدود، ولا بد أنْ ينتصر أحد الطرفين، أي الطرف الذي على الحق، وطالما
يحمل الفلسطينيون مفاتيح دُورهم التي أُخرِجوا منها، ويحتفظ اليهود بعناوين ذويهم
في أوروبا وأمريكا وجنوب إفريقيا فإنّ النصر سيأتي من عند الله، وسيظهر
صلاح الدين من جديد ليفرض صلحاً على الطريقة الإسلاميّة الظافرة! !
محطات في الحوار:
بعد قراءتنا حوار اليوم نجد أنفسنا أمام محطات ينبغي الوقوف عندها
وفهمها:
1 - الشعر العربي الإسلامي ما زال يقدم أصواتاً متميزة ونماذج رفيعة راقية.
2 - رابطة الأدب الإسلامي حلمٌ جميلٌ تحقق على يد رجل مخلص هو
سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله.
3 - التعليم في معظم بلادنا العربية الإسلامية يناقض الهوية الإسلامية.
4 - الحداثة هي رؤية فكرية أوروبية ومعناها أن تنقطع عن تاريخك ولغتك
وتراثك وعقيدتك، بل ووطنك وأمّتك!
5 - «لويس عوض» يمثل تياراً علمانياً غرق في مُستنقع الولاء للغرب
الاستعماري! !
6 - الانتفاضة كانت تعبيراً جميلاً ودامياً عن قدرة الإنسان الفلسطيني المسلم
على مواجهة العدو اليهودي وداعمه الصليبي!
7 - الصراع بيننا وبين يهود صراع عقيدة ووجود لا صراع حدود! !(153/76)
البيان الأدبي
هزيع العمر
ممدوح القديري
أمام شاشة التلفاز تكوَّر على نفسه وهو يشاهد أحد البرامج في ليلة من ليالي
الشتاء الباردة ... يسحب بطانية قريبة منه ويغطي جسده المنعطف على نفسه بعد
أن شعر بالبرودة تدخل إلى عظامه الواهنة وهو يقترب من الستين عاماً، رغم أن
مظهره لا يدل على ذلك؛ فوجهه قليل التجاعيد، ويتمتع ببعض النشاط في عمله،
اضطرته ظروفه أن يعيش بعيداً عن أسرته بعد أن حصل على عقد عمل ملاحظ
عمال لإحدى شركات المعمار في دولة من الدول الغنية تراوده أحلامه الشائخة إلى
تحسين وضعه المادي لكي يحقق لابنته سُكينة رغبتها في دخول الجامعة كما أسرَّت
إليه في عصر أحد الأيام وهي ترقد بجانبه عاقصة شعرها، وهي ترفل في ربيعها
السادس عشر مسترسلة في حديثها معه بأنها تحلم أن تصبح مدرسة علوم وتساعده
في حياته وتعوضه عن حرمانه حين اضطر أن يكتفي بشهادة الثانوية العامة.
وكان يحدثها بدوره عن همومه وآماله، عن ضعفه وقوته، عن الحياة
وتقلباتها؛ فهي ترفع الوضيع وتُسقط الرفيع. وكان يفلسف موقفه من الحياة بشيء
من الأمل الذي يساعده على الاستمرار في كفاحه من أجل الأفضل رغم شعوره
أحياناً بالهزيمة، ولكن ليس إلى حد اليأس.
لم تكن زوجته راضية عن سفره وهو في هذه السن المتقدمة، ولم تُخفِ
حزنها عليه وهو يودعهم في يوم سفره. أما سكينة فقد خالجتها مشاعر مختلطة من
الحزن والفرح ... الحزن على فراق أبيها والفرح بما سيأتي به من هناك كما كانت
تسمع من زميلاتها اللائي كن يتباهين أمامها بما يجلبه أقاربهن الذين يعملون في تلك
الدول، ولم تكن تعي أن راتب والدها ليس بمستوى طموحاتها.
يتابع الشاشة الصغيرة والمشاهد تتراقص عليها مع تغير التيار الكهربائي
يخرج بعض النقود من جيبه حين يتحسسها وتدخل إلى نفسه فرحة بسيطة حين
يتذكر أنه سيرسلها إلى أهله بعد أن استطاع توفيرها من راتبه الضئيل رغم تكاليف
الحياة الباهظة.
يضع المبلغ في جيبه مرة أخرى ويربِّت عليه ... يتابع مشاهدة التلفاز تسليته
الوحيدة في غربته ... يشده تقرير إخباري عن وطنه فيعتدل في جلسته ... يتناول
برتقالة من طبق بجانبه فيه بعض التمر وبرتقالتان يبدأ بتقشيرها وعينه على
الشاشة ... تظهر صورة لبعض جنود الاحتلال يطاردون جمهوراً من الأهالي
معظمهم من الشباب الذين يرشقونهم بالحجارة ... تتعثر فتاة وتقع على الأرض.
يلحق بها الجنود يمسكونها ... تحاول المقاومة يلكزها أحدهم ببندقيته ... يطل وجهها
الجميل من بينهم وهي تحاول أن تتخلص من أيديهم ... تتضح الصورة أكثر والفتاة
تصرخ وهم يضربونها بقسوة ... يمسح نظارته ويتابع بقلق ... تنتزعه الصورة من
مجلسه وتكسر هدوءه ... يدقق النظر ... ويردد بصوت مرتجف: إنها هي سكينة
ابنتي يقترب من جهاز التلفاز يجثو على ركبتيه ويتابع ويداه ترتجفان ودماء قلبه
تغلي بالهمِّ النفسي الذي اعتراه يزداد صراخ ابنته: «يا با، يا با. تلتفت حولها
والذعر في عينها بعد أن نزعوا خمارها وألقوه بعيداً ... سحبوها على الأرض
وحملوها بعنف إلى سيارتهم العسكرية الضخمة وهي ما تزال تستصرخ:» وينك
يا با، الحقني «ينتهي التقرير الإخباري وهو ما زال يحملق في الشاشة ويده تعصر
بقايا البرتقالة في اللحظة التي عصرت عيناه دموعها.. تملَّكه إحساس بالحيرة
والفزع ... عذبته صورة ابنته ... خطر بباله أن يوقظ العمال في العنبر المجاور؛
لكنه لم يفعل، وبدأ يدور داخل غرفته يهرش جبهته عدة مرات وصورة ابنته لم
تفارق عينيه. شعر بالحسرة والألم ... دموعه بدأت تسترسل على وجنتيه وتتخلل
لحيته الرمادية يفتح باب الغرفة ... البرد قارس خارجها ... يتجه إلى أكوام الخشب
أمامه ويتناول قطعة كبيرة يضرب بها أكوام الإسمنت والتراب بشدة، ثم يلقيها
وينظر إلى السماء ... عيناه محمرتان ... يتضرع إلى الله أن يلهمه الصبر
ويهديه إلى الصواب وهو يفكر فيما سيفعل حتى يصل عمره المعذب إلى
نهايته ... تراكمت أمامه ستائر من سُحب الأوهام العسيرة فزادت من اضطراب
أحاسيسه، وتاه في بحر من المخاوف على أسرته وبالذات سُكينة ... ابتلع
آلامه وترامت حوله الوساوس وهو يتذوق ملوحة عبراته التي لم تتوقف على
ابنته ووجهها الجميل المعفر بتراب الأرض ... أحس أنها تراه وهي معصوبة
العينيين داخل السيارة العسكرية، رغم المسافة البعيدة بينهما؛ وصوتها يحفر أذنيه
وهي تستصرخه حين اشتد بها الألم ودخلت مأساتها.
هواتف قلبه تعمل بلا نظام، ترسل أمنياته الحسيرة من أعماقه عبر أنفاسه
المتلاحقة ... نظراته حزينة ترنو إلى الفراغ داخل الليل، وتتلاشى الحدود الفاصلة
بين واقعه وأحلامه ... نار الغيظ تتقد بين ضلوعه إشفاقاً على ابنته في سواد ليلها
الطويل ... يتخيلها داخل زنزانة رطبة كريهة الرائحة يذبحها قلقها وفي مهجتها
فزع البعاد عن الأهل ودفء حضن الأم الذي افتقدته في زمهرير عذابها الممتد إلى
غدها الرهيب.
كان يعرف زنازين العدو؛ لقد خبرها في أيام عمره السابقة، وها هي الآن
تخنق أعز ما يملك سكينة بأحلامها وورود آمالها بجمالها البريء ... تنهشه مخالب
وحوش البشر وهم يمتصون دماء حياتها بعد أن جرحوها.
أمضى ليلته محملقاً في شاشة التلفاز الصماء ... تنثال عليه مآسيه في لحظة
واحدة تختزنها سكينة وهي ترقد معصوبة العينين، مكتوفة اليدين على أرضية
السيارة ... تمنى لو يصبح طيراً من طيور الأبابيل ليخلصها من عذابها.
يتقلب على جمر فراشه البارد يضع يده تحت رأسه والقلق يشويه، وقلة
حيلته تدمي ما تبقى له من قلب خفيق ... تأخذه سِنَة من النوم يحلم خلالها بسُكينة
تهديه بندقية. يفتح عينيه ويقرر أن يستقيل من عمله ليكون قرب أسرته في هذه
الظروف الصعبة. انتظر أول خيوط الفجر ... انتزع نفسه من مرقده؛ صلى ثم
استعد للذهاب إلى مقر الشركة ليقابل رئيسها. يقف رشيد أمام مكتب الشركة ...
الشارع خالٍ، والوقت مبكر، وعقارب الساعة تدور ببطء ... ينظر إليها من حين
لآخر يستعجلها تلوذ بالصمت ... يخلعها من يده ويضعها في جيبه يمر الوقت،
وتبدأ الحياة تدب في الشارع وسط المدينة الكبيرة ... يأتي مدير الشركة، وبعد أن
يجلس إلى مكتبه يتقدم منه ويخبره بمصيبته. يتفهم المدير موقفه، ويطلب من
معقب الشركة أن يقوم بعمل الإجراءات والحجز له.
في اليوم التالي يصل رشيد إلى منزله البسيط بعد ساعات سفر مضنية ...
يقابله الحزن في كل مكان من البيت وعلى وجوه أسرته؛ بدت زوجته أكبر من
عمرها ... أبناؤه حوله يقبلهم وعينه على مكان سُكينة الذي اعتادت أن تجلس
فيه ... يمنع دمعة حاولت التعبير عن ألمه وحزنه ... لم يتحمل جو البيت
الكئيب وسراجه غائب عنه.. يخرج منه وسط دهشة أسرته يغذُّ الخُطا ... يلتفت
حوله ليتأكد من أن أحداً لا يتابعه، يصل منزل صديقه جابر يطرق الباب
بحذر ... لحظات تمر ويفتح الباب ... يدلف إلى المنزل بسرعة ويغلق جابر
الباب، ثم يرحب برشيد ويواسيه لما حدث لسُكينة ... يجلس رشيد لاحقاً ويسأل
جابر عن» الجماعة «وعملياتهم ... يهمس في أذنه ... تتسع عيناه ... يومئ
برأسه عدة مرات ... يذهب بعدها دون أن يتناول فنجان قهوته الذي أحضرته
ابنة جابر الصغيرة.
تمضي بضعة أيام ... يأتي أحدهم إلى منزل رشيد مع بداية الليل، ويذهب
معه بعد أن مسحت عيناه أهل بيته. يتقدم الليل وتبدو النجوم خلف ستار الظلام ...
السكون يلف المكان قرب بناية كبيرة يقترب رشيد من سورها وأنفاسه تتلاحق
بصمت ويطمئن أن الحزام حول وسطه ينظر حوله بترقب وحذر ... يتسلق السور
بعد أن تأكد أن حراس البناية غير موجودين؛ لكنه يسمع أصواتهم من بعيد وهم
يترنمون بأغنياتهم وكأنهم يدرؤون الخوف عنهم ... ينسحب قرب الجدار وعند ركن
البناية يتوقف ويسترق النظر يكتشف أن الجنود يدخنون ويتسامرون بعيداً عن
مدخل المبنى الكبير ... ينبطح، ويبدأ زحفه قرب المدخل ويده على الصاعق ...
يدلف إلى الداخل وينزعه ينفجر الحزام ... تتوزع أشلاء رشيد تزين المكان ودوي
انفجارات متتابعة تتوالى داخل البناية التي تحولت إلى ركام ... أصوات استغاثة
وأنين تختلط بأصوات سيارات الإطفاء والإسعاف التي هرعت إلى المكان ...
راديو العدو يبث بياناته.. يعدد قتلاه وإصاباته ... ويعلن أن البحث جار لمعرفة
حقيقة ما جرى ... في هذه الأثناء فتحت زوجة رشيد نافذتها وهي تحوقل وتستعيذ
بالله ... هواء الليل يحمل إليها رائحة البارود وغبار الموت أطلت من النافذة، لم
تر شيئاً.. لكنها بقيت واقفة تنتظر عودة رشيد.(153/82)
نص شعري
أنا الفقير
عبد الله بن عطية بن عبد الله الزهراني
أتيتُ أحملُ في الأعماقِ أحزاني أشكو إلى الرّبْعِ أم أشكو لخِلاَّني
كمْ كُربةٍ قَدْ أصابتْني فَفَرَّجها مُفَرّجُ الكرْبِ في سِرٍّ وإعلانِ
لجأتُ لله فانْجَابتْ غياهِبُهَا فاللهُ عن خَلْقِهِ بالجودِ أغنَاني
آمنتُ بالله ربي لا شريك له لهُ خُضُوعي، وما الكفرانُ مِنْ شاني
رَفَعْتُ كّفِّيَ أَبْغي منه مكرُمةً فأجزل الفضلَ سَحّاً دونَ نقصانِ
حَصَّنْتُ نَفْسِيَ بالأذكارِ أقْذِفُهَا في وجه باغٍ وَمَأْفونٍ وشيطانِ
في سورة (الناس) في (الإخلاص) نبصرها مَشَاعلَ النورِ تهدي كلَّ حيرانِ
في سيرةِ المصطفى حَقَّقْتُ أُمْنِيتي وفي رحابِ كتابِ اللهِ عنواني
وقِبْلتي نحو بيتِ الله وِجْهَتُهَا لِنُصْرَةِ الدِّينِ قد سَطَّرْتُ ديواني
أنا الفقيرُ إلى ربي أُردِّدُها لأنَّهُ مِنْ همومِ العيشِ نجَّاني
أنا الفقيرُ إلى مولاي أُعْلِنُهَا ما لي سوى اللهِ من واقٍ ومِعْوَانِ
يا ربِّ بين ضُلُوعي خافِقٌ أَسِفٌ قد سَاءَهُ حَالُ إخوانٍ وجيرانِ
جرحانِ في الصَّدرِ: جرحٌ غَارَ في قِدَمٍ وجرحي اليوم في الشيشان أبكاني
العيدُ ما عادَ يشْفينَا بطَلْعَتِهِ والأنسُ قد غابَ عنَّا منذُ أزمانِ
يا عيدُ عذراً فهذا حالُ أمتنا يعثو بها الذُّلُّ من آنٍ إلى آنِ
الملحدون على إخواننا اتَّحدوا ونحنُ نشكو لخنزيرٍ ونصراني
يا ويحنا قد أُصِبْنَا في بصائرنا فَلَمْ نَعُدْ نَنْصُرُ القاصي ولا الداني
في كُلِّ عامٍ قضايانا لها مَدَدٌ نُبْلى بظلْمٍ كما نُبْلى بعدوانِ
يا ربِّ قيِّضْ لنا نَصْراً تُشَيّدُه سواعدُ القومِ في عزٍّ وسلطانِ(153/86)
نص شعري
نعيم المعالي
عبد الله بن شبيب الدوسري
نعيم المعالي في جحيم المعارك ... وذل المخازي في أثير الأرائكِ
وعمر الفتى لا زائدٌ فيه رعبه ... ولا ناقصٌ منه اقتحام المهالكِ
فما فاز إلا عالمٌ أو مجاهدٌ ... جَسورٌ وإلا كل داعٍ وناسكِ
وكل سراةٍ لا تبوِّئ أمتي ... ذرى المجد إخلاد لعطن المباركِ
فدىً للأسود الصامدين الألى انتهت ... إليهم زعامات الجهاد المباركِ
رجال على الشيشان غاية همِّهم ... شراء الجنانِ بالدماء السوافكِ
فلم تلههم عنها من العيش زهرة ... ولم يلههم عنها بريق السبائكِ
ثلاثة آلاف يذلّون دولةً ... تُعِزُّ مراميها الصعابُ المداركِ
وقالوا لها: يا جارة السوء أقصري، ... وأومأ أقصاهم لها: أنْ مكانكِ
يسمونها العظمى، أجلْ بات عظمها ... كسيراً فما يرجى لها من تداركِ
وباءت بخذلانٍ وهونٍ تخبطت ... قيادتها في مظلمات الحوالكِ
وباءت جموع المسلمين رصينةً ... كبنيان صدقٍ ثابت متماسكِ
أشاحوا بوجه الفخر عنها استهانةً ... فيا خيبة الأعداء هذا أوانكِ
فليسوا على الأعقاب تدمى كلومهم ... ولكن على البيض الحداد الفواتكِ
تضيق على أعدائهم كل رحبةٍ ... وتحنو عليهم ضيقات المسالكِ(153/87)
وقفات
بداية النهاية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
الإحباط داء من الأدواء المهلكة التي قد تعرض لبعض السالكين في طريقهم؛
فهو يرى انتفاش الباطل، وعلوَّ سلطانه، وامتداد تأثيره. يلتفت يمنة ويسرة فيجد
أعداء الله تعالى يمكرون الليل والنهار بإمكانات مادية وتقنية بشرية هائلة، ثم يشعر
جازماً بأنَّ الأحداث والوقائع إنما تجري بتخطيط محكم، ودراسة متقنة، وأنَّ الناس
ما هم إلا دمى يعبث بها صنَّاع القرار من أهل الباطل، أو مجرد أحجار على رقعة
الشطرنج يتداول تحريكها وإسقاطها المتنافسون على القصعة المستضعفة
المهينة..! !
يرى ذلك كله، ثم يرى في الجهة الأخرى أنَّ الحق مهيض الجناح، ضعيف
السلطان، لا شوكة له ولا ظهور، كما يرى أن السنوات الطويلة التي قضاها في
الدعوة أو التعليم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله لم
تُؤتِ ثمارها كما يجب، بل قد تتوالى عليه الفتن، وتضيق عليه الدائرة، وربما
رأى من أمراض الصحوة الإسلامية ما يزيد من الفتِّ في عضده، والتقليل من
همته وعزيمته..!
والنتيجة الحتمية لهذه الحالة المتقدمة من الإحباط هي اليأس والاستسلام، ثم
القعود والركون إلى الدنيا، أو في أحسن الأحوال الانكفاء على الذات والاعتزال.
والإحباط هو بداية السقوط والنهاية، وهو آية من آيات ضعف الإيمان،
وضعف الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه. وأمَّا أهل الإيمان الراسخ فإن ثقتهم بالله
تعالى عظيمة، وتوكلهم عليه كبير، لا يزالون معتصمين بحبل الله المتين، لا
يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
إنَّ الإيمان بمعية الله تعالى للمؤمنين من أعظم عناصر القوة، والمؤمن الحق
لا يعرف اليأس، ولا يستسلم لأحابيل الشيطان وتخذيله. وقوة الباطل وانتفاشه قوة
دافعة لأهل الإيمان تدفعهم لمواجهته، والصبر في مدافعته. قال الله تعالى:
[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] (آل عمران: 173) . وقال الله تعالى: [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ
قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 146) .
وانظر إلى سِيَر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تراهم أعظم الناس ثقة بالله
تعالى على الرغم من الإعراض الذي يواجَهون به، بل والأذى والاستهزاء
والحرب؛ فها هو ذا نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين بكل
ثبات وصبر، ولم يفُتَّ في عضده أنَّ من آمن به قلة قليلة جداً من الناس، ولم
يحبطه أن يكون أعز الناس إليه ممَّن كفروا بالله تعالى. قال الله تعالى: [قَالَ رَبِّ
إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً *
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً] (نوح: 5-10) .
ومن عجائب الثقة بالله تعالى ما نراه في سيرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه
وسلم؛ ففي المدينة لمَّا تألب عليه الأحزاب في غزوة الخندق، ورمته العرب عن
قوس واحدة، وأصاب الناس بأس وشدة، وزلزلوا زلزالاً شديداً كان النبي صلى
الله عليه وسلم يربي أصحابه على الثقة بالله، والاطمئنان بالنصر العاجل والآجل،
والتصديق بموعود الله الذي وعدهم؛ فعندما عرضت صخرة للصحابة وهم يحفرون
الخندق أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول وقال: «باسم الله» ، فضرب
ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني
لأُبصر قصورها الحمر من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» ، وضرب أخرى،
فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر
المدائن، وأُبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» ،
وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح
اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» [1] .
والعجيب أنَّ الناس انقسموا إزاء هذا الوعد فريقين: فقد حكى الله عن
المنافقين قولهم: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: 12) . وأما المؤمنون فقد جاء وصف حالهم
بقوله تعالى: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً] (الأحزاب: 22) . موقفان
متقابلان: موقف المريض الهزيل، وموقف المطمئن الراسخ في تصديقه، الثابت
على دينه، الذي لا تهزُّه الأعاصير، ولا تضعفه المحن.. وشتان ما بين الموقفين.
نعم.. تربى الصحابة رضي الله عنهم على الشموخ والأنفة! ففي غزوة أُحُد
لمَّا انكسر المسلمون، وقُتِلَ من أَجِلَّة الصحابة من قُتل تنزَّل القرآن الكريم ليؤكد
حقيقة في غاية الأهمية وهي أن الإنسان المؤمن يشعر بالعزة والرفعة والعلو دائماً،
ولا يتطرق الوهن أو اليأس إلى قلبه، حتى في حال الانكسار. قال الله تعالى:
[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) .
إنَّ الإحباط لا يعرف طريقه إلى القلوب المطمئنة بذكر الله تعالى بل هي
شامخة بإيمانها، معتزة بدينها، قادرة على مواجهة الأمم كلها مهما بلغ سلطانها
وبلغت قوتها. أمَّا أصحاب النفوس الضعيفة التي عبث بها اليأس، وعمرها القنوط
فإنها تخاف من ظلها، ويحوطها الفشل والإحباط من كل جانب.. نسأل الله السلامة.
[رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] (الأعراف: 126) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (30/626) رقم (18694) ، وضعف إسناده المحقق، ولكن حسنه ابن حجر في الفتح (7/397) .(153/88)
المسلمون والعالم
في ظل تجفيف المنابع
جامعة الزيتونة تستغيث؛ فهل من منقذ؟
محمود خليل
جامع الزيتونة الذي لعب الدور الأكبر في حفظ الإسلام واللغة العربية في
المغرب العربي، وهو إحدى أقدم الجامعات الإسلامية الثلاث في العالم. بناه الوالي
الأموي «عبد الله بن الحجاب» بتونس سنة (114 هـ = 732م) ثم أعيد بناؤه
في عهد محمد بن الأغلب؛ حيث اهتم الأغالبة بتعميره وتجديده وجعله دارة للعلم
ومنارة للإسلام، ليس في تونس وحدها، بل في الشمال الإفريقي والمغرب العربي
بأسره.
وهذا الجامع الجامعة الذي حفظ الله به تراث الإسلام وحضارته في هذه البقاع
يمر الآن بأزمة خطيرة أقرب إلى لحظات الاحتضار؛ ذلك لأن موجة الحنث العظيم
التي تجتاح المنطقة فيما يسمى بـ «تجفيف المنابع» قد ضربت هذا الصرح
العظيم بالسهام المسمومة.
جامع الزيتونة الذي خرجت منه الحركات الجهادية ابتداءاً من التي قامت بها
البلاد الإفريقية على حكم «العبيديين» في أيام المعز بن باديس الصنهاجي،
والمستنصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري، وانتهاءاً بالثورات المتعاقبة على
الاحتلال الفرنسي الأثيم.
هذا الجامع العتيد الذي كان قبلة الدارسين بالشمال الإفريقي لأكثر من ألف
وثلاثمائة عام، وتخرج فيه أكابر العلماء وأئمة المجاهدين، صدر مرسوم عام
1933م اعتُبِر فيه جامع الزيتونة جامعة، وسمي شيخه «مديراً» وأصبحت
الدراسة فيه على ثلاث مراحل:
1 - الإعدادية: وتنتهي بشهاة «الأهلية» .
2 - المتوسطة: وتنتهي بشهادة «التأهيل» .
3 - العالية: وتنتهي بشهادة «العالمية» مع التخصص في القراءات وعلوم
الشريعة والآداب، ... وبعد استقلال تونس أُلحق بالتعليم الثانوي وأضيف إلى
مناهجه اللغات الأجنبية وبعض المواد العلمية العصرية.
وأخيراً.. صدر قرار وزير التعليم العالي المؤرخ في 30 /12/1995م
والمتعلق بضبط برامج «الأستاذية» في العلوم الشرعية والتفكير الإسلامي، وذلك
بتنظيم الدراسة وبرامج التعليم بجامعة الزيتونة لتصبح على النحو الآتي:
1 - المعهد الأعلى للشريعة، وقد خرج من جامعة الزيتونة تماماً وألحق
بالشؤون الدينية بداية من 1997م.
2 - المعهد الأعلى للحضارة: وقد خصص للأجانب (من مسلمي إفريقيا
وشرق آسيا) .
3 - المعهد الأعلى لأصول الدين: للتونسيين وتوجه له وزارة التعليم العالي
في بداية كل سنة 50 طالباً وطالبة فقط، جلهم من الأناث اللواتي تقارب نسبتهن
85%.
وليست هذه هي قضيتنا إنما القضية أن «الزيتونة» قد أطبق عليها الخناق
العلماني مما جعل زيتها يكاد لا يضيء، وهذه بعض فصول المؤامرة:
تهميش السُّنَّة:
من النظرة الأولى لمناهج الدراسة في المرحلة الأولى «السنة الأولى السنة
الثانية» نجد أن مجموع ساعات الدراسة بهما (1079) ساعة منها (520)
للسنة الأولى، (559) للسنة الثانية، ونصيب السُّنَّة النبوية منها (39 ساعة)
أي بنسبة 61 , 3 % من ساعات الدراسة.
أما البرنامج الدراسي للسُّنَّة فهو: «إشكالية التدوين والتشريع» فهل ضاقت
رحاب السنة في وجه علمانيِّي الزيتونة فلم يجدوا من السُّنة إلا إشكالية التدوين؟
وهل لديهم شك في أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي؟ وهل لديهم
شبهة في حجية السنة؟ وهل يجوز أصلاً علمياً حصر السنة في هذه الإشكالية؟ !
وهل هذا هو نصيب السنة في أصول الدين؟
عدوان على الرسول صلى الله عليه وسلم والسيرة:
أما نصيب السيرة من ساعات الدراسة فهو (39 ساعة) أي بنسبة
(61 , 3 %) والبرنامج هو: «كتابة السيرة النبوية» والهدف منها كما وضحه
التخطيط الدراسي للمعهد الأعلى لأصول الدين هو الوقوف على:
أ - التاريخي والأسطوري في رواية السيرة.
ب - الأغراض التمجيدية والتعبدية فيها.
ج - تصور الرُّواة لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهل يجوز أن يقال عن السيرة أسطورة؟ وأن لها أغراضاً تمجيدية؟ وأنها
مجرد تصورات وتخيلات من الرواة لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ولكن يبدو أن هذه البرامج لم توضع لتجلية حقائق الإسلام وإنما لنشر الشُّبه حول
السيرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهناك ملحوظة جديرة بالإشارة إليها هي أن نسبة ساعات تدريس اللغات
(96,24%) . ومن الجميل أن يجيد طالب العلوم الشرعية لغة أجنبية وأن يصبح
داعية للإسلام بها في أرض الله الواسعة! ! ولكن ما فائدة هذه اللغة له وهو يجهل
القرآن والسنة والعلوم الشرعية عامة؛ إذ يدرس منها ما يشككه فيها ويزعزع
عقيدته من أساسها؟
علوم الإسلام.. تشكيك في تشكيك:
وجاء في بيان الهدف من دراسة المدخل إلى تاريخ الأديان الكتابية عبارة:
«يُهتم ببيان عقائد اليهودية والمسيحية.. مع التعبير عن احترام مقولات
أصحابها» .
والسؤال هنا: ما العمل في ما هو باطل من هذه الاعتقادات؟ وما هو مكذوب
ومختلق وغير أخلاقي مما أنكره القرآن عليهم وخطَّأهم فيه؟ وهل الاحترام لهذه
الملل والنحل فقط، والعدوان والتشكيك في الإسلام وحده؟
ثم جاء في الهدف من تدريس اتجاهات التفسير في العصر الحديث: «يرمي
الدرس إلى تعليل انشغال علماء المسلمين على الوجه الذي تأولوا به نص القرآن» .
والسؤال هو: هل هذا التفسير هو تطويع النصوص لاهتمامات العلماء
ورغباتهم وحاجات المجتمع، أم أن التفسير والتأويل له قواعده وضوابطه التي
يحتكم إليها حتى لا يكون التأويل غرضاً للذين امتلأت قلوبهم بالزيع ابتغاء الفتنة،
والاعتساف المرذول؟ !
ثم أبان «المجففون» الأهداف من دراسة «نشأة علم أصول الفقه» بقولهم
«يُعنى بأصول الفقه من حيث هو علم منظم للعلاقة بين العقيدة وسيرة المجتمع»
فما معنى هذا الكلام؟ !
نحن نعلم أن علم أصول الفقه «هو العلم الذي يُتَعَرَّف منه استنباط الأحكام
الشرعية الفرعية من أدلتها الإجمالية» فما صلة هذا بتنظيمه للعلاقة بين العقيدة
وسيرة المجتمع؟ اللهم إلا إذا أريد بهذا «الخطل» تنزيل الأحكام الشرعية على
واقع الناس وليس مجال هذه الدراسة «أصول الفقه» إنما مجالها دراسة الشريعة
الإسلامية!
وهل أُغلق باب الاجتهاد؟
ثم جاء في بيان أهداف تدريس وحدة «تاريخ الإسلام» : «يهتم بدراسة
مشاغل مفكري الإسلام في أربع فترات هي كذا وكذا ... فترة نهاية الاجتهاد» !
والمعلوم أن جمهور علماء الأمة يذهبون إلى أن باب الاجتهاد لم يغلق، ولا
يجوز إغلاقه ولا وضع نهاية له؛ لِمَا يَجِدُّ للناس من أقضية وأحداث تستوجب أن
يكون باب الاجتهاد مفتوحاً أمامها لكن بشروطه فلماذا نفرض على الأمة شيئاً لم يقل
به علماؤها؟
والأنكى من ذلك أن منهج علم «الاجتماع الديني» قد جاء في بيان أهدافه:
«يهتم بتجديد علماء الاجتماع للظاهرة الدينية! وتأثر المقالات الدينية في الألوهية
والنبوة والوحي والمعاد وكمال الخلق بشؤون المجتمع ومقتضيات الاجتماع» .
وهل الدين الإسلامي هو نتاج بشري ناشئ عن حاجات المجتمع، أم هو:
«وحي يوحى» من عند الله تعالى؟
وهل تتأثر الألوهية والنبوة والوحي في ديننا بشؤون المجتمع ومقتضيات
الاجتماع، أم أن المجتمع والاجتماع هو الذي يتأثر بهما؟
والواضح جداً من هذا البرنامج أن واضعيه قد اتخذوا من كل عدو للإسلام
ومشكك فيه إماماً لهم، ليضلوهم بغير علم، وقد اتخذوا على سبيل المثال من
«دوركايم» اليهودي الذي جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية «العقل
الجمعي» المصدر الوحيد لدراسة وحدة علم الاجتماع الديني!
من دوركايم إلى علي عبد الرازق:
أما منهج «المؤسسات ونظم الحكم في الفكر الإسلامي» فلم يجد هؤلاء
العلمانيون أمامهم لتدريس هذا المنهج سوى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي
عبد الرازق، رغم أنه كتاب غير علمي بالمرة وأنه مليء بالمغالطات، وهناك شك
كبير في أن مؤلفه هو الشيخ علي عبد الرازق [1] ؛ فطه حسين شريك في تأليف
هذا الكتاب «بالوثائق» ! كما أن صاحبه قد تنصل منه في مقال كتبه بخط يده
ونشرته مجلة «رسالة الإسلام» الصادرة بالقاهرة في مايو سنة 1951م قال فيه
بالحرف الواحد: «إن فكرة روحانية الإسلام لم تكن رأياً لي يوم نشرت البحث
المشار إليه [كتاب الإسلام وأصول الحكم] ولقد رفضت يومئذ رفضاً باتاً أن يكون
ذلك رأيي. إنني لم أقل ذلك مطلقاً لا في هذا الكتاب، ولا في غيره، ولا قلت شيئاً
يشبه ذلك الرأي أو يدانيه» .
ثم قال عن كلمة «روحانية الإسلام» : «لعله الشيطان ألقى في حديثي تلك
الكلمة، وللشيطان أحياناً كلمات يلقيها على ألسنة بعض الناس» ثم اعترف للعالم
الأزهري الشيخ أحمد حسن مسلم واعظ الأزهر حينئذ بصعيد مصر فقال: «وهل
أنا الذي ألفت هذا الكتاب؟ ! إنما ألفه طه حسين» [2] .
وقال طه حسين بالحرف الواحد: «على أني قرأت أصول كتاب الشيخ علي
» الإسلام وأصول الحكم «قبل طبعه ثلاث مرات، وعدّلت فيه كثيراً» .
فإذا كان هؤلاء يريدون تكريس فكرة علمانية الدولة لدى طلاب أصول الدين
بحيث يصبح الإسلام ديناً لا دولة، ودولة لا دين لها فقد خانهم التوفيق في منهج
علمي مكذوب ومزيف، ويحمل في طياته كل شُبَهِ التاريخ المعاصر في خيانة هذه
الأمة دينياً وحضارياً وثقافياً!
وختامها.. رجس! !
أما الأساتذة في ظل هذا المشروع العلماني فإن معظمهم لا صلة لهم
بالاختصاصات الشرعية، بل إنهم يُختارون ممن يجهلون الإسلام، وكثير منهم معبأ
بالشُّبه والانحرافات الفكرية حتى إن إحدى الأستاذات التي انتدبت لتدريس القرآن
أعلنت بكل وقاحة لطلابها قائلة: «إن القرآن نزل مقدساً وكتب مدنساً» !
أما النشاطات الثقافية فتتمثل في النوادي الموسيقية والغنائية، والحفلات الماجنة،
كما أن بالمعهد إذاعة داخلية تذيع الغناء في رحابه، إضافة إلى أن النوادي
الرياضية تشتمل على السباحة «للفتيات» إلى جانب ألعاب الشطرنج والدامة
والموسيقى، ومسابقات العَدْوِ «للبنات» أمام الذكور! ! بل واستضافة المطربين
والمطربات لإحياء الحفلات الغنائية حتى في شهر رمضان المبارك، وتتم الدعوة
لهذه الحفلات من مدير المعهد شخصياً.
والعطلة الأحد:
وهل يتصور أحد أن تنتقل العطلة الأسبوعية «للزيتونة» من يوم
«الجمعة» إلى يوم «الأحد» ، ويصبح يوم الجمعة يوم عمل وتدريس؟ !
وهل يتصور أحد أن «الزيتونة» كان لها مسجد تم إغلاقه بأمر الرجل
الأول في التعليم العالي لتجفيف المنابع؟ !
وهل يتصور أحد أن الرجل الأول في التعليم العالي الوزير هو كاتب شيوعي
سجنه «بورقيبة» لمجاهرته بالإلحاد؟ وهو يرى أن قوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم
مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال:
60) يراها آية تعلِّم التطرف والإرهاب والغلو؟ !
حوار مبتور مع المدير المذعور:
ذكّرني هذا الإرهاب العلماني الأخرق بأغرب حوار صحفي أجريته في حياتي
عام 1992م مع الأستاذ «حمودة السحطي» مدير المعهد الأعلى للشريعة بجامعة
الزيتونة، وكان ذلك بمدينة الزقازيق بمصر أثناء انعقاد مؤتمر «الإسلام وتحديات
الحاضر والمستقبل» الذي أقامته رابطة الجامعات الإسلامية، وأصر الرجل على
أن تكون الأسئلة مكتوبة والإجابة يكتبها هو بخط يده ولا زالت عندي وكانت على
هذا النحو:
س: ما رأيكم بالواجهة العلمانية التي تبدو على تونس الشقيق في الآونة
الأخيرة؟
ج: الحزب الحاكم وريث حركة إصلاحية لجمع كافة القيم الروحية والوطنية.
س: أين يقع العمل الإسلامي على الخارطة الديمقراطية التونسية؟
ج: كل عمل فيه إصلاح هو عمل إسلامي.
س: نريد أن نتعرف على مدى مساهمة المرأة التونسية في العمل الإسلامي
المعاصر؟
ج: فيما يتمثل في العمل الإسلامي المعاصر هي تساهم في عملية التنمية.
س: ما هي روافد التعاون الإسلامي «بالاتحاد المغربي» وكان قائماً حينئذ،
وما هي الثمار الإسلامية التي تحققت من هذا الاتحاد؟
ج: التحابب والتعاون.
س: جامعة الزيتونة ما أحدث أخبارها، وما مدى صحة ما نسمعه من
«علمنة المناهج الدراسية بها تماماً» ؟
ج: لا إجابة.
س: ما رأيكم في الإعلام التونسي والدور الذي يلعبه في «تمييع» قضية
الإسلام؟ واستهلاك وتفريغ طاقات المجتمع التونسي المسلم؟
ج: أحكام مسبقة.
س: كيف يؤدي المسجد التونسي دوره الآن؟
ج: هو يتبع قيم الإسلام السمحة والقيم الحضارية. (انتهى الحوار) .
ومن كان يصدق أن «الزيتونة» التي كان عدد طلابها في عهد الاحتلال
الفرنسي أكثر من ثلاثين ألفاً يصبح الآن نحو ستمائة وخمسين، منهم 85% من
الإناث اللائي يُفرض عليهن السفور والنزول إلى حمامات السباحة «بالمايوه»
داخل جامعة الزيتونة؟ !
وأخيراً:
الزيتونة «الجامعة الإسلامية العريقة» قلعة العلماء والمجاهدين.. تستغيث
فهل من منقذ أيها المسلمون؟ !
__________
(1) انظر الإسلام بين التنوير والتزوير للدكتور محمد عمارة، ص 38 96.
(2) انظر جريدة الجمهورية القاهرية، عدد 28/5/1993م.(153/90)
المسلمون والعالم
سورية بين الحقيقة والخيال
عماد حيدر الصالحي
من المؤشرات المريبة اليوم على الساحة العربية بل العالمية ما جرى في
سورية بعد انتقال الرئيس حافظ الأسد من الفانية إلى الباقية؛ فقد أفاق العالم شرقاً
وغرباً على ولادة أول جمهورية وراثية على وجه الأرض بعد توريث كيم إيل
سونغ الحكم لابنه في كوريا الشمالية.
إلا أنه لا بد لنا أن ننوه بماهية التركيبة الطائفية لحكمٍ كل ما فيه ينطق
بالطائفية المذهبية؛ فطبيعة الحكم في سورية وعلى مدى نيِّف وثلاثين عاماً كان
حكماً طائفياً صرفاً على الرغم من تقمُّص شعارات حزب البعث وتنظيماته واتحاذها
ستاراً يتوارى خلفها.
وقد راق للمعلق السوري الدكتور عماد فوزي شعيبي أن يدفع عن الحكم
الأسدي صفة الطائفية فكتب في صحيفة الحياة يوم 24/6/ 2000م مقالاً لا نقول
إنه يحاول به رفع تهمة بل يريد به طمس حقيقة ماثلة للعيان لا تحتمل الخوض فيها
ولا ينتطح فيها عنزان؛ إلا أن الدكتور الشعيبي نفسه يعلم بطلان دعواه؛ فإن كان
علويا نصيرياً فإني أقسم أنه يعلم أن الحكم نصيري طائفي، وإن كان مسلماً سنياً
فإني أقسم أيضاً أنه يذوق طعم الطائفية يومياً، وإن كان نصرانياً فليس في نصارى
سوريا على مختلف طوائفهم وكنائسهم من يجهل حقيقة الحكم السوري. وحتى
العرب خارج سورية يعلمون ذلك ولا يجهلونه، والمسلمون في شتى أقطار الأرض
قد عرفوا النصيرية ولم تعد مجهولة حتى عند عامتهم، والعالم الغربي من خلال
دوائره المعنية أكثر معرفة بدقائق ذلك الحكم الطائفي وتفصيلاته.
لقد أراد (الشعيبي) أن يقدم أمثلة تخيَّلها مما يساعد على إهدار الحقيقة،
فقاس قياساً فاسداً حين نفى طائفية الحاكم للخلاف الذي حصل بينه وبين كل من
اللواء محمد عمران، واللواء صلاح جديد وكلاهما نصيري. أما محمد عمران فقد
تم تصفيته جسدياً في مزرعته الخاصة قرب طرابلس اللبنانية، وأما صلاح جديد
فلم يرَ النور بعد دخوله السجن الذي قضى فيه نحبه عليلاً مريضاً. والقاصي
والداني يعرف أن فعلة الحاكم هذه بفرد أو أفراد من بني ملته لا تعني أنه غير
طائفي، كما أن الخلاف بين باراك ونتنياهو لا تجعل الآخر منهما نصرانياً أو
مسلماً؛ كما أن قتل رابين لم يجعله يهودياً ولا جعل قاتله غير يهودي؛ وحتى
القتال بين المسلمين لا يُخْرِج طائفةً من المقتتلتين من الإسلام؛ فكل منهما مسلمة
ولو انتصبت لأختها بالسيف، ولولا ذلك ما دعا الله المؤمنين لرأب الصدع بين
إخوانهم بقوله - تعالى -: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] (الحجرات: 9) .
لقد كان الخلاف الدائر بين رؤوس النصيرية في الجيش السوري ينطلق من
أن بعضهم يعتقد أنه أقدر على تحقيق أحلام الطائفة في إعادة بناء الدولة النصيرية
التي أقامتها لهم فرنسا في محافظة اللاذقية وأعطتهم مسمى (العلويين) بدلاً من
(النصيرين) وهو الاسم الذي يحرص النصيريون على التخلص منه لما يحمله من
معاني يعرفونها منذ قام النصيريون أيام صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -
باغتيال عدد من علماء المسلمين؛ حتى إن صلاح الدين نفسه لم يسلم من محاولات
عديدة للاغتيال على أيديهم، ولكن الله سلمه منهم فكان شوكة في حلوقهم وسيفاً بتاراً
لمن خلفهم من الصليبيين.
إن الصورة التي أعقبت موت الأسد أكثر تجلية للأهداف التي حملها طيلة ثلث
قرن؛ فكل حركة ونأمة وإجراء تشرح بما لا يقبل شكاً أو جدلاً أنه كان طائفياً حتى
نخاعه، ولم يكن إعلانه في خطاب عامٍّ أمام التلفزيون في أعقاب الإضراب العام
في سورية أوائل عام 1980م أنه يصلي منذ ثلاثين عاماً إلاَّ زيادة في النكاية
وضرباً من التقية والخداع.
وما دام الأسد الأكبر قد هلك، وأفضى إلى ما قدم من عمل فإن ظُلامات
كالجبال ما تزال ماثلة فوق كل حبة من تراب سورية، ولن تتاح للرجل إعادة هذه
الظلامات إلى أهلها؛ فهو رهين ما قدم ولن تنفعه هتافات الهاتفين ولا الإسراف في
الألقاب ولا الغوص في بحار المديح التي تكال له كيلاً وتُغرف غرفاً مما زعموا له
من صفات ونعوت كان بعيداً منها وكانت بريئة منه؛ فقد قيل إنه صاحب القلب
الكبير وقد ضاق عطنه عن سماع همس الهامسين، ولقد سمَّاه الغوغاء الأبَ القائدَ
في الوقت الذي حرمَ فيه عشرات الآلاف من الأطفال من آبائهم الذين قتل منهم من
قتل، وسجن منهم من سجن، وشرد الآلاف منهم حتى لم تعد منطقة في الأرض
تخلو من سوريين يقرأ العالم في عيونهم مرارة التشريد على حين تُفتَح سورية على
مصراعيها لليهود العائدين إلى دمشق للمساهمة في بناء سورية الأسد! ولم يكن
لهؤلاء المواطنين من ذنب سوى أنهم لا يؤيدون طغيانه وجبروته، وما زال حتى
الآن الآلاف من أهل السنة قيد سجونه، ولا يُدرى عن كثير منهم أأحياء هم أم
أموات؟ وجل السجناء الذين ادعى أنهم من (الإخوان المسلمين) هم ممن لم يحمل
سلاحاً ولم يهتف بسقوط الأسد بل كان صابراً صبر شعبه منتظراً فرج الله، ومع
ذلك لم يسلم من الظلم لسبب لا يقع تحته عقوبة ولا تأنيب؛ لأن الذين قاوموا الأسد
بالسلاح وهم فئة قليلة قتل منهم من قتل في الاشتباكات التي وقعت بينهم وبين
رجال الأمن، والباقون منهم وهم قلة توجهوا إلى خارج البلاد.
أما بطل الصمود والتصدي في حرب الأيام الستة حرب حزيران التي جرت
بين العرب واليهود يوم 5/6/1967م فقد كان يومها وزيراً للدفاع في الحكومة
السورية، وكان هو صاحب البلاغ العسكري بسقوط القنيطرة في أيدي اليهود ولم
تكن قد سقطت حتى ساعة إصدار ذلك البيان المشؤوم أو اقترب منها جندي
إسرائيلي واحد، وكيف يتقدم اليهود منها والجنود السوريون متشبثون بها تشبث
الأبطال الميامين المدافعين عن كرامة أمتهم وشعبهم؛ ولكن البلاغ العسكري
المباغت الذي أصدره حافظ الأسد بوصفه وزيراً للدفاع أصاب الجنود المتقدمين في
الجبهة في مقابلة العدو الصهيوني بالذهول؛ فالقنيطرة خلفهم وهذا يعني في العرف
العسكري أن اليهود قد قاموا بحركة التفافية عليهم ولم يبق أمامهم إلا الاستسلام للعدو
أو الفرار من المعركة غير المتكافئة، وزاد الوضع العسكري للجنود السوريين
إرباكاً حين أُتبع بلاغ سقوط القنيطرة بأمر عسكري آخر من حافظ الأسد يقضي
بالانسحاب الكيفي للجيش؛ وما أدراك ما الانسحاب الكيفي لأفراد الجيش الذي يزيد
النفوس هلعاً ويصبح حال الجميع: نفسي نفسي.. (انجُ سعدُ فقد هلك سعيد) .
فما الذي دعاه لإعلان غير صحيح عن سقوط مدينة القنيطرة ومعها الجولان
كله؟ وإذا كان حافظ الأسد يومئذ قد وقع ضحية لمعلومة كاذبة أبلغته بسقوط
القنيطرة ولم تكن قد سقطت فلِمَ لم يفصح عن ذلك؟ إن إخفاءه للحقيقة التي تقف
خلف ذلك البلاغ المشين جعل أبناء الجيل المعاصر لتلك الفعلة الشنعاء يدعونه باسم:
(بائع الجولان) !
إن كل السوريين والعرب الذين تبلغ أعمارهم ثلاثاً وثلاثين عاماً لم يشهدوا
تلك الواقعة ولم تسمع آذانهم ذلك البلاغ، وكل الذين يبلغون الأربعين لم يعوا تلك
الأيام السود، وقد فات الأسدَ شرفُ تسجيل الكتب المدرسية ضياع الجولان على
يديه، وإن لن يحظَ أبناؤنا بدراسة ذلك فلا شك في أن أحفادنا سوف يكون لديهم
الأدلة المقنعة بأن الخيانة عار لا يغفره التاريخ.
وإذا تركنا ذكر تلك الأيام السوداء من عمر سورية وتوجهنا للتعرف إلى
ملامح السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية فلسوف نرى العجب
العجاب.
أما السلطة التشريعية في عهد الأسد الأول فقد كانت معطلة وإن كان لها
مجلس ولوائح وأعضاء يقبضون مرتباتهم الشهرية وعلاوات التصفيق للرفيق
القائد؛ فليس على المجلس الموقر إلا صياغة الرغبة الرئاسية التي كانت
تضمِّخ كل تشريع أو قرار بعبارة: «بناءاً على كذا.. وبناءاً على كذا..
وبناءاً على توجيهات السيد رئيس الجمهورية الرفيق المناضل نقرر ما يلي..» .
وليس لتلك البناءات من شأن إلا للبناء الأخير وهو توجيهات الرئيس؛ فأي حاجة
لهذا المجلس سوى التصفيق والموافقة؟
وأما السلطة التنفيذية فقد كانت طيلة عهد الأسد مطلقة الأيدي والألسن
والفروج، لا يردعها رادع، ولا تخضع لقانون أو نظام؛ فالكل (إيدو إلو) ولا
يقف في وجهها واقف إلا الحاكم نفسه على الرغم من الفترات المتباعدة التي يعلن
فيها عن محاربة الفساد وتطهير الأرض من المفسدين والتي لم تكن في حقيقتها إلا
صراعاً بين المفسدين وعملاء النظام على مكامن استثمار الفساد واستنباته، وقد
أثبتت الأحداث التي سبقت موت الأسد والتي تلته أن العينات المدروسة المستهدَفة
لو طبق عليها الأسلوب العشوائي لما أخطأت من أصابت؛ لأنك أينما ألقيت حصاة
وقعت على رأس فاسد أو مرتش أو ظالم؛ فقد زُرِعَت الأرض منهم على مدى ثلث
قرن فساداً وإفساداً نَعِم بكافة الشروط التي جعلته يستشري ويستفحل ويصبح له
مليارديرات؛ وتتكون له عصابات وعشائر.
وفي مقال لكاتب يساري هو الدكتور (طيب تيزيني) يصور من خلاله بعض
ملامح ثلث القرن الأسدي؛ وذلك على مدى ثلاث حلقات في صحيفة تشرين
السورية الناطقة باسم السلطة بعنوان: (ثلاثية الفساد في أسبابه وآلياته ونتائجه)
كان ثالثها يوم 24/5/ 2000م - أي قبل موت الأسد بأيام - تكلم فيه عن «فاسد
تحت الطلب» وكان مما قاله في المقالة الثالثة: «في مقالتنا الأولى حاولنا وضع
يدنا على واحد من المفاصل الكبرى التي جعلت من تكريس الفساد وتعميمه وتأييده
مهمتها الحاسمة وسمَّينا هذا المفصل باسمه وهو» الدولة الأمنية العربية «بشعارها
الاستراتيجي التدميري: يجب أن يُفسَدَ مَنْ لم يُفسَد بعدُ؛ بحيث يصبح الجميع مُداناً
تحت الطلب!» .
وهذا أمر يعرفه السوريون جميعاً القائم منهم على حدود الله أو الواقع فيها؛
فللرفاق الحزبيين جميعاً ملفات خاصة؛ فمنها الوثائق المؤرخة، ومنها المقترنة
بالشهادة المسبقة من شهود صادقين أو كاذبين، ومنها حقائق يشهد عليها الجمُّ الغفير،
ومنها ما هو بالصوت والصورة التي تظل مُسْلَطة عليه تمنعه من مبارحة طريق
الفساد، ويظل مهدداً بها كل حين ولا فكاك له منها، ولا سبيل إلى النجاء منها
والإفلات من أشراكها إلا بالإمعان في الطاعة والاستمرار في إضافة وثائق جديدة
إلى ملفه الأسود، وفي حادثة انتحار رئيس السلطة التنفيذية محمود الزعبي
مؤشرات ذات دلالات تعبِّر عن طبيعة النظام الكلية في الفساد والإفساد وتربية
ضحاياه وإعدادهم ليوم يغسل بدمائهم ما علق بصورته من معالم الجريمة ولو كانت
الضحية ممن عاش ربع قرن خادماً أميناً وطائعاً لا يتسرب إليه الملل في خدمة
النظام الذي أباح له كل شيء، ولم يعصمه من أن يصبح في أية لحظة كبشاً يفتدي
به نظامه الجبروتي الذي ليس في قاموسه السلوكي معنى للود أو الرحمة أو الحياء؛
فهو في مركب قرصان لا يتورع عن إلقائه في عباب البحر تخفُّفاً من الثقل الذي
يهدد مركبه الآثم بالغرق.
وقد يعجب المرء: كيف أتيح لـ «تيزيني» أن يقول هذا؛ والرؤوس من
حوله تتطاير؟ فنقول له: إن مقتضيات اللعبة قد تسمح بأكثر من هذا وحتى نفاد
البضاعة المعروضة على الجمهور؛ فلْيتكلم ما شاء مما يشاء النظام السماح به لفترة
معقولة جداً تفي بالغرض المقصود وبعدها يا ويل من يتنفس.
وأما السلطة القضائية فقد طُورِدَ فيها القضاة الأكفياء، ومن بقي منهم فلسان
حاله يقول: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم اختم أعمالنا بالصالحات. وصال في المحاكم على
مختلف درجاتها قضاة أكثرهم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
أما حزب البعث فحسبك معرفة بحقيقته أنه لم يُدْعَ لاجتماع طيلة خمسة عشر
عاماً وهو كما يقال حزب حاكم وليس حزباً ممنوعاً مطارداً لا يتاح له التجمع تحت
سقف آمن!
أما الشعب السوري الذي قيل عنه يوم كان تعداده خمسة ملايين نسمة بأنهم
خمسة ملايين رئيس جمهورية فقد تحول خلال ثلث قرن من الطغيان المتعمد المنظم
إلى ألاَّ تجد فيه فرداً واحداً بلغ الأربعين ربيعاً من عمره في الأول من كانون الثاني
(يناير) من عام 2000 م يصلح أن يكون رئيساً للجمهورية؛ فبُحِث في أبناء الـ
39 صيفاً فلم يُعثَر فيهم على من يصلح للمنصب، فتداعى العدد نزولاً حتى استقر
المؤشر عند أبناء الاربعة والثلاثين خريفاً، فدُووِل بينهم وكانت المفاجأة التي
أعادت الثقة إلى النفوس أن واحداً من هذا الجيل - واحداً فقط - تبين أنه يتوفر
على الصفات المؤهلة له ليحمل أمانة إنقاذ الأمة من الانقراض ويجنبها وصاية
الأمين العام للأمم المتحدة؛ لينادى باسمه «وبس» !
لن نتحدث عن متاعب المبعدين عن الوطن المشردين بين أقطار الدنيا الأربع
ولن نتحدث عن مآسيهم ولو من خلال جوازات السفر المحجوبة عنهم وعن
أولادهم الذين ولدوا في الشتات، ولن نتحدث عن الذين طلبوا العودة إلى سورية
بلدهم وأرضهم فرُفضت طلباتهم في أبشع إجراء ودون أي تعليل للرفض سوى
عبارة: (مع عدم الموافقة!) فلا تلوموا (إسرائيل) إذا رفضت عودة
الفلسطينيين إلى ديارهم؛ فحكومة قلعة الصمود والتصدي الطائفية تقف الموقف
نفسه من المشردين السوريين في أقطار الدنيا! وقد لا تعتلي وجهَ أحد من رجال
السلطة ممن قد يقرأ هذه الحقيقة حُمرةُ الخجل؛ فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم
حقيقة الذين جف ماء الحياء فيهم حين قال: «إنما أدرك الناس من النبوة الأولى
إذا لم تستح فاصنع ما شئت» [1] .
ولن نتحدث عن تجويع الشعب السوري وحرمانه من الغذاء والدواء وإفقاره
وإذلاله، ولن نتحدث عن الراشين والمرتشين والرائشين بينهم، ولن نتحدث عن
مجازر مدينة حماة التي بلغ عدد الضحايا من سكانها على أقل التقديرات 20 ألف
مواطن من العزل الذين لم يساهموا في أي نشاط ضد الحكومة الطائفية، ولن
نتحدث عن الدور المعدّ الذي توجهت فيه قوات النظام إلى لبنان للقضاء على
الحركة الوطنية اللبنانية التي كان يقودها أحمد الخطيب، وللغاية الأهم وهي إخراج
آخر فدائي فلسطيني يعكر مزاج الصهاينة من أرض لبنان! ولن نتحدث عن دك
مخيم تل الزعتر على رؤوس سكانه من الفلسطينيين نساءاً وأطفالاً وشيوخاً ... كل
ذلك وغيره كثير كثير لن يغفره أحد لنهج (الرئيس) الذي فاجأه الموت ولم تُتح له
الفرصة للنطق بالتوبة أمام الأيتام والثكالى والمقعدين.
أما مسألة الموقف الصلب والصمود في وجه العدو الذي كان يمثله فأعتقد أنه
كلام لا يساوي قيمة مداد حروفه وهو من نوع تسميته بـ «محرر القنيطرة» .
وقبل أن نختم كلامنا نضع أمام بصر القارئ وبصيرته صورة إدارة المفوَّض
السامي الفرنسي للبلاد السورية في فترة الاستعمار الفرنسي لسورية ليقارن بين حكم
يعلن صراحة أنه استعماري، وحكم يتوارى خلف مسمى حكم وطني [2] ؛ فقد أورد
الدكتور شمس الدين الرفاعي وصفاً لما آلت إليه سورية بعد أن تم لفرنسا احتلال
البلاد في 24 تموز (يوليو) عام 1920م فقال:
«أنشأ الجنرال غورو أربع حكومات، ونظم إدارتها كلاً على حدة بعد تقسيم
البلاد إلى أربع دول هي: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، وحُكْم جبل
الدروز. وكان حكام الدول الثلاث الأولى فرنسيين. أما المفوَّض السامي فقد كان
بمثابة (الحاكم) بما كان يحيط به نفسه من مظاهر الأبهة والسلطان، وأصبح
مصدر السلطات ورئيسها جميعاً، يسير في نظام دكتاتوري لا يبالي بما يصنع،
ولا يرى أنه مسؤول أمام أحد، ويمنح نفسه ما يشاء من صلاحيات تشريعية
وإجرائية وقضائية، ويصدر ما يشاء من قوانين ولوائح، ويلغي بجرة قلم ما لا
يروقه من أنظمة وقوانين. وأسس شبكات الجاسوسية والاستخبارات في مختلف
المدن السورية لتأليب أنصار الفرنسيين ومواليهم على الحركات الوطنية والأهداف
الوطنية والعهود الوطنية ورجالاتها وكذلك إلى استغلال الصفة الطائفية في الدروز
والنصيرية..» .
ألا ترى قارئي الكريم أن الفروق بين المفوَّض السامي الفرنسي والمفوَّض
السامي العلوي تضيق جداً حتى تكاد تكون مفقودة؟ !
ومهما تقمص الطائفيون من أشكال، ومهما لبسوا من أقنعة، وبأي لغة تحدثوا
فهم عراة إلا من حقيقتهم ولولا سيطرتهم على مقدرات البلد وخاصة طيرانها
ومدفعيتها وبنادقها وأسطولها لما تجرؤوا على النيل من شعب ودَّع الفرنسيين
بالبيض والبندورة. ومهما امتد بهم من زمن فإنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا
الجبال طولاً [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227) .
سلام عليك يا سورية يا صانعة الأمجاد ويا من مات على ثراك سيف الإسلام
خالد بن الوليد رضي الله عنه.
سلام عليك يا سورية التي أنجبت الغر الميامين من أمثال ابن تيمية قاهر
التتار، ومحمد الأشمر وإخوانه من هازمي فرنسا ومخرجيها من بلادنا.
سلام عليك يا شام الإسلام والعروبة يا أرض المحشر ويا روضة المؤمنين ويا
دار الصالحين؛ فعلى أرضك عقدت ألوية النصر التي جعلت لسان العرب لسان
الحق، ودين العرب دين الدنيا، ولم يحملها ذلك على شيء إلا أن تثبت على إيمانِ
أنه «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» .
سلام عليك يا شآم العز وأنت اليوم تُتَّهمين بالعقم؛ ولطالما كنت النجيبة المنجبة
على مر الدهور والعصور، وإذا كان الباطل قد رماك عن قوس واحدة فاعلمي يا
بارَّةُ أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً، ولا يهولنْك هذا الباطل السفيف؛
فإن كيده ضعيف كما قال رب العزة: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ
الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] (الطارق: 15-17) و [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً]
(النساء: 76) .
ولسوف تنتصرين بقوة الله ثم بإرادة أبنائك المخلصين وسواعدهم القوية،
وستهزمين الأعداء كما هزمت من قبل جحافل الصليبيين والتتار، ولسوف تعلو
فيك من جديد كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله بكل معانيها الشرعية واللغوية،
ومهما استنسر فيك البغاث فلسوف يسلِّطك الله عليه وستغلبينه وسيردد المسلمون
معك في أقطار الأرض ما قاله الفاروق من قبل: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله» .
وفي الختام نتمنى لسورية في عهدها الجديد أن تستقر أمورها، وتشيع فيها
روح العدل، وأن ينعكس ذلك إيجابياً على شعبها الصابر بما يضمن له التقدم
والازدهار بإذن الله.
__________
(1) رواه البخاري، ح/3225.
(2) انظر: تاريخ الصحافة السورية، ج2، ص 28، طبعة دار المعارف، مصر عام 1967م.(153/96)
المسلمون والعالم
الاعتداءات الإثيوبية المستمرة على الصومال
أهداف وأطماع
محمد حاج يوسف أحمد [*]
اجتاحت القوات الإثيوبية مدينة لوق الصومالية للمرة الثالثة خلال ثلاثة أعوام
وكان آخرها في 21/2/1420هـ الموافق 5/6/1999م، كما اجتاحت تلك القوات
مدينة بيدوه في اليوم التالي لغزو لوق، واحتلت القوات الغازية كلتا المدينتين وكل
المناطق الشاسعة التي تقع بينهما. فلوق تبعد عن بيدوه حوالي 180 كيلو متراً نحو
مقديشو العاصمة، ومعنى ذلك أن محافظات جدو وباي وبكول الصومالية قد
وقعت تحت الاحتلال الحبشي في الوقت الحاضر، ولا يغير من هذه الحقيقة شيئاً
ادعاء جبهة الرحنوين بأنها هي التي استولت على مدينة بيدوه وطردت من المدينة
مليشيات حسين عيديد، كما أنه لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً ادعاء أحمد شيخ علي
برالي بأن جبهته هي التي استولت على مدينة لوق وطردت منها أيضاً أنصار
حسين عيديد وأورومو، كل هذه مزاعم لا أساس لها من الصحة، وأصحاب هذه
المزاعم ما هم إلا أداة طيعة في أيدي الأحباش وتحت إشارتهم يتكلمون بأمرهم،
ويسكتون حين يشاء الأحباش ذلك.
ولعل الجميع يتذكر ادعاء عمر حاج مسلى بأن جبهته هي التي استولت على
«منطقة جدو» بالصومال في يونيو عام 1997م، وليست إثيوبيا هي التي
استولت على تلك المنطقة آنذاك، ثم لما ساءت علاقته بإثيوبيا وانشقت جبهته إلى
فريق متحالف مع حسين عيديد يقوده هو، وفريق آخر عميل للحبشة يقوده أحمد
برالي بدأ عمر حاج مسلى يرسل الصيحات تلو الصيحات مطالباً بإخراج القوات
الحبشية من منطقة جدو بأنها قوات احتلال غير مرغوب فيها، ويعلم كثير من
المتتبعين للشؤون الصومالية أن عمر حاج مسلى كان كاذباً في مزاعمه عام 1997م
أيام أن كان عميلاً لإثيوبيا، وأنه صادق في مطالبه الأخيرة لكونه قد ابتعد عن
عمالته لإثيوبيا، ويتكلم الآن بإرادته الحرة وهو بعيد عن تهديدهم، وليس ببعيد أن
يأتي عما قريب دور هؤلاء العملاء الجدد لتكذيب أنفسهم بأنفسهم عندما يتخلى عنهم
الأحباش.
ويبدو أن كثيراً من الصوماليين قد أصيبوا بفقدان الذاكرة ونسيان الماضي
القريب؛ فقد روى التاريخ الصومالي الحديث: أن إحدى الجبهات الصومالية كانت
متحالفة مع الأحباش ضد حكم محمد سياد بري أوائل الثمانينيات من هذا القرن
الميلادي، فاحتل الحلفاء مدينة غلدغب الصومالية، فرفع أحد أفراد الجبهة علمها
على المدينة إيذاناً بوقوعها في يد الجبهة، ولكن الأحباش قتلوا ذلك الرجل وأنزلوا
علم الجبهة، ورفعوا بدله علم الحبشة إيذاناً بوقوع المدينة في أيدي الأحباش؛
ومعنى ذلك أن الصوماليين المتحالفين مع الأحباش ما هم إلا قنطرة تعبر عليها
إثيوبيا لاحتلال وطنهم وإذلال شعبهم.
لسنا نؤيد جبهة ضد جبهة أخرى، ولم يكن ذلك من دأبنا منذ اندلاع الحرب
الأهلية في الصومال، بل كنا نعادي عيديد عندما كان يحتل محافظتي باي وبكول
أواخر عام 1995م، ولكننا ضد الغزاة الأحباش وضد من يدور في فلكهم من
العملاء والخونة الذين باعوا دينهم ووطنهم وأمتهم للشيطان وللأعداء أياً كان
انتماؤهم وولاؤهم، كما أننا ضد الحروب الأهلية القذرة في الصومال، وضد
التدخلات الأجنبية المشبوهة في الشؤون الداخلية للصومال، ومهما يكن من أمر فإن
ذلك العدوان الحبشي الغاشم على تلك المحافظات قد سبب خسائر فادحة في الأرواح
والممتلكات؛ حيث قام الغزاة بأعمال وحشية من القتل والنهب وانتهاك الأعراض
وغير ذلك من المفاسد والمظالم.
تصعيد خطير للتدخل الإثيوبي في الصومال:
إن هذا الغزو الإثيوبي الأخير للصومال هو تصعيد خطير للتدخل الإثيوبي في
الشؤون الصومالية مما يدل على أن هذا التدخل قد وصل إلى مرحلة متقدمة لتحقيق
أغراض إثيوبيا من ذلك التدخل، فلم يكن هذا الغزو الأول من نوعه؛ لأن العدوان
الحبشي المسلح على الصومال كان مستمراً منذ وقت بعيد؛ فكثير من الناس على
علم تام بالغزو الحبشي على منطقة جدو بالصومال في تاريخ 15/3/1417هـ
الموافق 9/8/1996م ثم الاجتياح الحبشي لتلك المنطقة مرة أخرى في 6/2/1418
هـ الموافق 12/6/1997م واحتلال إثيوبيا مدن لوق ودولو وحواء من المنطقة
نفسها، وقد كتبت صحف عديدة عن ذلك الغزو في حينه وخاصة «الحياة»
و «المستقلة» و «المسلمون» وكلها تصدر في لندن، ونشرته أيضاً صحف
عديدة تصدر في البلاد العربية وبخاصة في اليمن وبعض دول الخليج، كما
أذاعته إذاعات كثيرة وخاصة إذاعة لندن باللغتين العربية والصومالية، وما زالت
الحبشة تحتل أجزاءاً من منطقة جدو الصومالية حتى يومنا هذا؛ حيث تذيق
أهالي تلك المنطقة مرارة الذل والإهانة والاستعباد والتهجير وضرب بعضهم
ببعض.
كل ذلك كان ولا يزال يحدث على مرأى ومسمع من العالم الذي يدعي
التحضر ورعاية حقوق الإنسان، ولم يحرك أحد ساكناً لصد العدوان الحبشي على
الصومال؛ حيث لم يصدر مجرد الإدانة والشجب لا من الأمم المتحدة، ولا من
المنظمات الإقليمية إلا أصوات باهتة متناثرة لا تغيِّر من واقع الأمر شيئاً، وكذلك
لم يصدر شيء من الإدانة والشجب من الذين يتشدقون بأنهم حُمَاةُ حقوق الإنسان في
كل مكان؛ فهنا في الصومال حقوق شعب تنتهك بأيدي الأحباش لما يقرب من ثلاث
سنوات دون أن يلتفت إليها أحد، بينما نسمع صيحات الاستنكار والإدانة من أجل
شخص واحد أو أشخاص معدودين بزعم انتهاك حقوقهم، كمجموعة اليهود الذين
اعتقلتهم حكومة إيران بتهمة التجسس لحساب (إسرائيل) فقامت الدنيا من أجلهم
ولم تقعد بعد، وذلك دليل قاطع على أن ما يحدث في الصومال من قِبَل الأحباش
هو تآمر عالمي تشارك فيه بطريقة أو بأخرى أيادٍ خفية دولية يحسب لها حسابها
تضمن لإثيوبيا التمويل وإسكات أصوات الشجب والإدانة، وتضمن لها عدم التدخل
لإيقاف إثيوبيا عن اعتداءاتها المتكررة على الصومال منذ وقت بعيد.
وعلى أي حال فإن الغزو الإثيوبي الأخير على محافظات جدو وباي وبكول
لدليل صارخ على خطورة الوضع، وأن الخطة الإثيوبية التي وضعتها لاحتلال
الصومال قد وصلت إلى مراحلها النهائية؛ فمدينة بيدوه تبعد عن الحدود الصومالية
الإثيوبية حوالي 250 كيلو متراً نحو عمق الصومال، بينما تبعد بيدوه عن مقديشو
العاصمة المطلة على المحيط الهندي حوالي 247 كيلو متراً؛ فتجرُّؤ إثيوبيا على
الوصول إلى هذا العمق في داخل الأراضي الصومالية شيء في منتهى الخطورة،
ونظراً للتدهور الذي تردت إليه الحالة الصومالية، فإن الوضع يحتاج إلى تدارك
وتدخل سريع ممن يهمهم أمر الصومال قبل فوات الأوان، وإن المقاومة المحلية
التي لا تلقى دعماً من أي جهة لا تجدي في منع الأحباش من احتلال الصومال،
والدليل على ذلك أن أهالي منطقة جدو الصومالية كانوا يقاومون القوات الحبشية منذ
9/8/1996م حتى يومنا هذا، وأوقعوا خسائر فادحة في صفوف القوات الغازية في
مواقع كثيرة جرت فيها معارك رهيبة، واستشهد أعداد كبيرة من المدافعين عن
وطنهم، وجرح منهم أعداد كثيرة ومع كل ذلك لم يستطع أهالي تلك المنطقة
إخراج المعتدين من بلدهم؛ لأنهم لم يجدوا من يقدم لهم الدعم اللازم لدحر المعتدين؛
حتى الجرحى لم يجدوا من يقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة، وهناك كثير منهم
ينتظرون إجراء عمليات جراحية متطورة لهم بعدما عجز الطب المحلي عن القيام
بمثل هذه العمليات؛ ومعنى ذلك أن ما يجري في الصومال مأساة حقيقية بكل
المقاييس.
أهداف التدخل الإثيوبي السافر في الشؤون الصومالية:
قد يتساءل المرء: لماذا تبذل إثيوبيا كل هذه الجهود من الغزو المسلح الذي
يكلفها الكثير من المال والمعدات والرجال مع العلم بأنها في حروب مستمرة منذ
سنوات ضد جبهات أوغادين وأورومو وعفر وغيرها من جبهات التحرير
بالإضافة إلى القلاقل الداخلية والاقتصاد المنهار والحرب الضروس بينها وبين
إريتريا؟ والجواب هو أنَّ كثيراً من خبراء منطقة القرن الإفريقي على علم تام
بالعداوة المستحكمة بين الشعبين الصومالي والإثيوبي، تلك العداوة التي سببت
حروباً طاحنة كثيرة استمرت بين الجانبين أكثر من ستة قرون، وأدت في بعض
مراحلها إلى احتلال إثيوبيا أجزاءاً كبيرة من الوطن الصومالي مما ترك جرحاً لا
يندمل في جسد الوطن الصومالي، وأجبر ذلك الحكومات الصومالية المتعاقبة منذ
الاستقلال أن تحاول استرداد تلك الأجزاء بكل وسيلة ممكنة ولو كان الاسترداد عن
طريق الحرب وقوة السلاح. وليس عنا ببعيد اندلاع الحرب التي اشتهرت بحرب
أوغادين بين الصومال وإثيوبيا عام 1977م؛ حيث كادت الصومال أن تسترد فيها
كل أراضيها لولا تدخل قوات حلف وارسو في الحرب لصالح إثيوبيا وطرد
الصومال من الأراضي التي استولت عليها.
ومنذ ذلك التاريخ استخدمت حكومتا البلدين ضد الأخرى كل الوسائل المتاحة
لديها لتدمير البلد الآخر، ولسوء الحظ لم يجد الصومال من يهتم بها ويقف بجانبها
لإيقاف الحرب والنزيف قبل استفحاله، فتم تدميرها بسبب الحروب الأهلية التي
تفاقمت بعد سقوط (محمد سياد بري) ووجدت إثيوبيا من اهتم بشأنها، ووقف
بجانبها وأوقف النزيف، وحال دون تطور الأوضاع إلى حرب أهلية شاملة، وتم
إخراج (منجستو هيلا مريم) بطريقة سلمية مع توحيد الجبهات المعارضة
المتنافسة لاستلامها السلطة بعد تمهيد دقيق وجيد من قِبَل القوى الكبرى في العالم
وخاصة القوى الغربية وبذلك سلمت إثيوبيا من التدمير.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن للصومال ساحلاً بحرياً يبلغ طوله حوالي
3330 كيلو متراً ابتداءاً من باب المندب ومروراً بخليج عدن حتى حدود كينيا على
المحيط الهندي، وقد يكون هذا الساحل الأطول في شرق إفريقيا إن لم يكن أطول
ساحل لدولة إفريقية على مستوى القارة، بينما لا يوجد شبر واحد من المنفذ البحري
لدولة إثيوبيا التي ترشحها القوى الكبرى لتكون القوة الإقليمية المهيمنة في منطقة
القرن الإفريقي، هذه العوامل الثلاثة أعني. العداوة المستحكمة بين الشعبين
الجارين، واستعمار إثيوبيا لأراضي صومالية شاسعة، والموقع الاستراتيجي
للصومال الذي يتمتع بتلك السواحل الطويلة؛ هذه العوامل جعلت إثيوبيا تفكر
وتخطط لتدمير الصومال وتمزيقه لتحقيق أحد الهدفين الآتيين:
1 - احتلال جميع الأراضي الصومالية، ووضعها تحت الحكم الإثيوبي
المباشر: لتكون السواحل الصومالية عوضاً عن فقدها لميناءَيْ عصب ومصوَّع
الإرتيريين اللذين فقدتهما إثيوبيا بعد استقلال إريتريا من استعمارها، وقد قُدِّمت
بالتأكيد إلى إثيوبيا دراسة من هذا القبيل من قِبَل بعض الخبراء الأوروبيين ضمن
مشروع لرسم خريطة إفريقيا من جديد، وجعلها أربع دول كبيرة فقط وتوزيع الباقي
بين هذه الدول الأربع؛ والدولة المرشحة عند تطبيق هذا المشروع لا قدر الله لقيادة
شرق إفريقيا هي إثيوبيا بينما الصومال قد رشحت طبق هذا المخطط لتكون من
نصيب إثيوبيا، وتزول بذلك من خريطة العالم؛ لا قدر الله ذلك وتحقيق هذا الهدف
هو الأمثل والمفضل لدى الحبشة التي اشتهرت بالأطماع التوسعية وابتلاع الشعوب
الأخرى، كما توسعت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على حساب
شعوب أورومو وعفر وبني شنغول والصومال وغيرها من الشعوب المنضوية
تحت اسم ما يسمى إثيوبيا حالياً، وقد بذل هيلاسلاسي إمبراطور إثيوبيا السابق
جهوداً كبيرة لضم الصومال قبل استقلالها إلى إثيوبيا كما فعل سلفه منيلك بالشعوب
الأخرى المذكورة آنفاً، ولتحقيق ذلك الهدف أسس هيلاسلاسي في الصومال حزباً
عميلاً أواخر الخمسينيات من هذا القرن الميلادي يسانده في تحقيق أطماعه التوسعية
وينادي بضم الصومال إلى إثيوبيا. وبفضل الله تعالى ثم بيقظة الشعب الصومالي
آنذاك أُحبط ذلك المشروع الخبيث.
2 - الهدف الآخر لإثيوبيا عند تعذر تحقيق الهدف الأول هو تجزئة الصومال
إلى خمس دويلات ضعيفة تتشكل على أساس قبلي تعيش تحت هيمنة إثيوبيا،
وتأتمر بأوامرها، وتتخلى عن محاولة استرداد الأراضي الصومالية لتستريح بذلك
إثيوبيا نهائياً من الإزعاج الصومالي، وهذا الاقتراح مقدم أيضاً من خبراء إنجليز
لديهم خبرة واسعة بطبيعة الأرض الصومالية وتركيبتها السكانية وتوازنها القبلي؛
حيث كانت إنجلترا تحكم معظم الأراضي الصومالية بعد الحرب العالمية الثانية،
وقد بُدئ فعلاً بتنفيذ هذا الاقتراح؛ حيث أنشئت في بعض المناطق الصومالية
حكومات إقليمية بعضها أعلن الانفصال عن بقية الصومال كلية، وبعضها الآخر ما
زال يعلن أنه جزء من الصومال، وقد وضعت إثيوبيا كل ثقلها وراء هذه
الحكومات الإقليمية بالدعم والتسليح، وتستخدم موانئها بعد أن تعذر عليها استخدام
الموانئ الإرتيرية، وقد تقتنع إثيوبيا وتفضل مرحلياً تحقيق هذا الهدف لسهولة
إقناع كثير من الصوماليين به، ولقلة تكلفته بالنسبة لإثيوبيا مثل ما فعلت بإرتيريا
حين اقتنعت أول الأمر بالحكم الفيدرالي فيما بين البلدين ثم ابتلعتها كلية؛ فالقضية
مسألة وقت وتهيئة ظروف، ولكن الهدف النهائي لإثيوبيا فيما يتعلق بالصومال هو
الابتلاع والسيطرة الكاملة عليها.
الخطوات العملية لتحقيق أهدافها:
1 - إيجاد جبهات صومالية عميلة لإثيوبيا: ما من جبهة صومالية قامت ضد
آخر حكومة في الصومال إلا وقد أنشئت في داخل إثيوبيا بإشراف وتوجيه وتمويل
وتسليح ودعم كامل من الحكومة الإثيوبية التي كانت قائمة آنذاك، فاختارت
الحكومة الإثيوبية الحالية من بين تلك الجبهات الصومالية مجموعة قد اشتهرت
بمجموعة (سودرا) ، وقد سميت المجموعة باسم المدينة الإثيوبية التي أنشئ فيها
هذا التجمع العميل للأحباش العدو اللدود للشعب الصومالي منذ عصور سحيقة،
ومما يبرهن على عمالة هذه المجموعة وأنها لا تخدم المصالح الصومالية أن إثيوبيا
قد غزت منطقة جدو بالصومال عام 1996م عندما كانت المجموعة تعقد اجتماعاتها
في مدينة سودرا، ولم يصدر منها ما يدل على أنها ضد هذا العدوان الغاشم، ولم
تنسحب المجموعة من إثيوبيا احتجاجاً على هذا العدوان، ولم تصدر بيانات الشجب
والاستنكار نحو هذا الغزو، بل تبارك كل الخطوات التي تنفذها إثيوبيا لتدمير
الصومال وتعرقل كل الخطوات الاصلاحية التي لا تخدم مصالح إثيوبيا.
فبذلك كسبت هذه المجموعة ثقة إثيوبيا، فتدفقت الأسلحة الإثيوبية بغزارة إلى
هذه المجموعة عن طريق المحافظات الحدودية الصومالية من أقصى الشمال إلى
أقصى الجنوب. فالمعابر البرية الرئيسة لدخول هذه الأسلحة إلى الصومال هي:
محافظة جدو، ومحافظة بكول، ومحافظة هيران، ومحافظة مدق، ومحافظة
الشمال الغربي؛ فمعظم الأسلحة المستخدمة في الصومال حالياً جاءت من الحكومة
الإثيوبية التي جعلت مدينة جدى المحتلة مركزاً رئيساً لتصدير الأسلحة إلى
الصومال، ويوجد في تلك المدينة مكاتب تموين لتلك الجبهات الصومالية العميلة
لإثيوبيا، وتنقل الأسلحة الإثيوبية عن طريق الجو إلى المناطق الصومالية النائية
التي تتبع تلك الجبهات؛ مثل مدينة كسمايو في أقصى جنوب الصومال؛ فقد
وصلت إليها الأسلحة الإثيوبية بغزارة عن طريق الجو.
وزيادةً على ذلك تدرب القوات الإثيوبية أعداداً كبيرة من ميليشيات تلك
الجبهات العميلة، وأهم المراكز لتدريب هذه المليشيات هي هيزان ودولو وباري
التي تقع في داخل المناطق الصومالية المحتلة لإثيوبيا.
من هنا نعلم أن القلق الذي أبداه مجلس الأمن الدولي حول تدفق الأسلحة على
الصومال ما هو إلا ذرٌّ للرماد على العيون؛ فالأسلحة الإثيوبية المتدفقة على
الصومال منذ خروج (يونصوم) منها معروفة للجميع، والاعتداءات الإثيوبية
المستمرة على الصومال تقع في وضح النهار على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة
ومجلس أمنها ومن جميع دول العالم، والتعتيم الإعلامي المفروض على تلك
الاعتداءات مقصود ومخطط.
2 - محاولة تحطيم جدار الكراهية والبغضاء بين الشعبين الصومالي
والإثيوبي: فتحت إثيوبيا أبوابها للصوماليين النازحين من نيران الحرب الأهلية في
الصومال، وسهلت لهم الحصول على الوثائق الإثيوبية بما فيها جوازات السفر
بإشعارهم أنهم جزء من الشعب الإثيوبي، وأن حكومة إثيوبيا هي الحكومة
المسؤولة عن كلا الشعبين وعن رعايتهم والاعتناء بشؤونهم، واغتر بهذا الخداع
بعض الجهلة ضعاف النفوس والمنحرفون أخلاقياً الذين ليس لهم همٌّ إلا ملء
بطونهم وقضاء شهواتهم؛ فظن هؤلاء المخدوعون أن العداء المستحكم بين الشعبين
شيء مصطنع لا وجود له، فبذلك كسبت إثيوبيا لصالحها مجموعة لا يستهان بها
من الصوماليين من تلك الأصناف المذكورة تستخدمهم لأغراضها الدنيئة من
الجاسوسية والدعاية والدفاع عن مصالحها، وقد جندت مرتزقة من هذه الأصناف
للقتال في صفوف قواتها ضد إرتيريا، والأخطر من ذلك أن كثيراً منهم يحاربون
في صفوف قواتها المستخدمة لتدمير بلدهم واحتلاله من قِبَل إثيوبيا.
3 - السيطرة على ملف القضية الصومالية: بذلت إثيوبيا كل ما وسعها من
حيل خبيثة وأساليب ملتوية للسيطرة على ملف القضية الصومالية لا للوصول إلى
حل مُرْضٍ لهذه القضية، وإنما لتعقيد القضية والحيلولة دون قيام كيان صومالي
متماسك، وللتخريب وتدمير البقية الباقية من مقومات المجتمع الصومالي، والسؤال
هو: هل هذه العملية تمت مصادفة أو بحسن نية؟ أم أنها حلقة من حلقات التآمر
لبعض القوى المتنفذة في عالم اليوم على الشعب الصومالي المنكوب؟ وهل يمكن
لإثيوبيا أو يُتَصوَّر منها وهي العدو اللدود للصومال أن تكون حَكَماً مخلصاً ناصحاً
للقضية الصومالية قضية عدوها الأول؟ إن هذا لمنطق في منتهى العجب والغرابة
إن لم يكن منطقاً معكوساً والقصدُ منه التخريب!
وعلى أي حال فإن إثيوبيا قد بدأت تعقد في أراضيها ما يسمى بمؤتمرات
المصالحة الصومالية التي كان يشارك فيها كثير من رؤساء الجبهات المتحاربة في
الصومال منذ مارس عام 1993م، وحتى شهر مايو الماضي 1999م، ومع طول
هذه الفترة التي تزيد عن ست سنوات فإن القضية الصومالية كانت تزداد سوءاً
وتتعقد يوماً بعد يوم؛ لأن إثيوبيا كانت تجمع الصوماليين للتفريق والتشتيت
وضرب بعضهم بالبعض الآخر، وليس ذلك مستغرباً صدوره من إثيوبيا بل العكس
هو المستغرب، وكما قيل قديماً: «حاميها حراميها» ولأن الحَكَم هو الخصم،
والأخطر من ذلك أن إثيوبيا قد أحبطت كل المحاولات الجادة التي بذلت لحل
المشكلة الصومالية مستعينة بعملائها الصوماليين، وآخر تلك المحاولات مؤتمر
المصالحة الصومالية الذي عقد في القاهرة أواخر عام 1997م، واجتمع فيه ممثلو
الفئات الصومالية كلها لأول مرة منذ عام 1993م، ولم ينجح المؤتمر؛ لأن إثيوبيا
تعتبر نفسها الوصي والقيم على القضية الصومالية ولا يجوز للآخرين أن يلتفتوا
إليها أو يقتربوا منها كما يفهم من تصريحات مسؤوليها الذين كانوا يوجهون النقد
والإدانة إلى مصر لجرأتها على عقد مؤتمر المصالحة في القاهرة دون الاستئذان من
إثيوبيا.
وعلى أي حال فإن سيطرة إثيوبيا على ملف القضية الصومالية أعطاها فرصة
ذهبية لم تحلم بها يوماً من الأيام كي تجمع المعلومات الدقيقة المتعلقة بالشؤون
الصومالية في جميع المجالات، ولكي تتصرف بعد ذلك بمصير الشعب الصومالي
حسب رغباتها الدنيئة.
4 - إرسال الجواسيس إلى المناطق الصومالية: فقد جندت إثيوبيا الآلاف من
الجواسيس لدراسة الأوضاع الصومالية من جميع جوانبها وخاصة تصنيف طوائف
الشعب الصومالي من حيث التأييد لإثيوبيا ومن حيث معارضتها، وكذلك جمع
المعلومات عن الفئات المعادية للتدخلات الإثيوبية والمتوقعة مستقبلاً، وكذلك تحديد
الأماكن الاستراتيجية في الصومال لاستخدامها من قِبَل الجيش الإثيوبي في المراحل
اللاحقة عند الاحتياج إليها، ومن المهام التي كانت منوطة بهؤلاء الجواسيس تنفيذ
عمليات الاغتيال والاختطاف ضد الأشخاص الذين ترى إثيوبيا أنهم خطر على
مصالحها في داخل الصومال، وقد نفذوا فعلاً عمليات من هذا القبيل في مقديشو
وبورما وغيرهما، وجرت محاولات عديدة لتنفيذ مثل هذه العمليات في مناطق عديدة
في الصومال ولكنها أُحبِطت قبل وقوعها. وقد جندت إثيوبيا هؤلاء العملاء من
القوميات العديدة التي تعيش تحت كنفها من التجراي والأورومو والصومال وغيرهم،
كما أنها جندت كثيراً من الرجال والنساء، واخترعت أساليب عديدة: من تجارة،
ودخول في الإسلام، وادعاء للفرار من الاضطهاد الإثيوبي، وغير ذلك من
الأساليب لتغطية أعمالهم الإجرامية، وما زال هؤلاء الجواسيس منتشرين في طول
البلاد الصومالية وعرضها لجمع معلومات في غاية الأهمية ولتقديمها إلى الحكومة
الإثيوبية لاتخاذ القرارات الإجرامية لتفتيت الشعب الصومالي وتدميره، وللسيطرة
على مقدراته على ضوء تلك المعلومات المخابراتية.
5 - الغزو الإثيوبي المسلح على الصومال: كانت هذه الخطوة آخر
الخطوات التي وضعتها إثيوبيا لتدمير الصومال أولاً، ثم للتحكم في مصيرها حسب
مصلحتها ثانياً من حيث التنفيذ والتطبيق للخطوات الأخرى المذكورة؛ فكانت بداية
هذه الخطوة في 15/3/1417هـ الموافق 9/8/1996م حينما اكتسحت القوات
الإثيوبية منطقة جدو بالصومال واحتلت مدن لوق ودولو وحواء في تلك المنطقة؛
فمنذ ذلك التاريخ كانت إثيوبيا تغير مرة بعد أخرى على أجزاء مختلفة من الوطن
الصومالي تعيث في الأرض فساداً وتخريباً، وكانت تغطي أهداف هجومها بحجج
واهية لا تقنع أحداً؛ فمرة تدعي أنها تحارب الأصولية الإسلامية في منطقة
اعتداءاتها مما يدل دلالة قاطعة على أن الغزو الإثيوبي على الصومال ما هو إلا
حرب صليبية مكشوفة، وأنه جزء من تصفية الحسابات القديمة بينها وبين
الصومال منذ القرن الخامس عشر الميلادي.
والسؤال هو: من هي الجهة التي خوَّلت إثيوبيا للتدخل في الشؤون
الصومالية ولتصنيف المسلمين فيها إلى أصوليين ومعتدلين؟ إنه لشيء محزن
وخطير يشير إلى الحالة المخجلة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية في هذا العصر،
ومرة أخرى تنكر إثيوبيا غزوها للصومال مع أنه يقع في وضح النهار ومعلوم
للمتتبعين للشؤون الصومالية، ومرة ثالثة تسنده إلى الجبهات القبلية الصومالية
العميلة لها مع أنه غزو إثيوبي قد استخدمت فيه الأسلحة الثقيلة من الطائرات
والدبابات والمدافع الفتاكة، وليس لدى الجبهات الصومالية في الوقت الحاضر مثل
هذه الأسلحة المتطورة، ومرة رابعة تذكر إثيوبيا بأنها غزت الصومال لتصفية
قواعد الأورومو والاتحاد الإسلامي في منطقة الصومال الغربي التي تحتلها إثيوبيا
تلك القواعد الموجودة في داخل الصومال حسب مزاعم إثيوبيا؛ فقد نقلت جريدة
الخليج الإماراتية في عددها 7332 بتاريخ 2/3/1420هـ الموافق 16/6/1999م
عن صحيفة الريبورتر الإثيوبية ما يلي: «إن معسكر جبهة تحرير أورومو
والاتحاد الإسلامي في بيدوه الواقعة جنوب الصومال تم تدميره تماماً، وإن جميع
قوات المعارضة التابعين للجبهتين المذكورتين البالغ عددهم 750 فرداً لقوا حتفهم
في العملية التي تمت بصورة خاطفة؛ حيث إن الاتحاد الإسلامي وجبهة تحرير
أورومو أكملا استعداداتهما بمساعدة الحكومة الإرتيرية لضرب العمق الإثيوبي
وإثارة الفوضى والاضطراب فيه، وإن قوات الإرهاب المدعومة من الحكومة
الإرتيرية تم استئصالهم والقضاء عليهم نهائياً» هذا ما أوردته الصحيفة الإثيوبية
ولم تذكر الجهة التي دمرت تلك القواعد المزعومة؛ إلا أن الصحيفة الإثيوبية وإن
تجاهلت ذكر الجهة التي قامت بالهجوم الخاطف على بيدَوَه تتحدث بشكل لا لبس
فيه عن الغزو الإثيوبي الأخير الذي وقع على مدينة بيدَوَه في 6/6/1999م تلك
المدينة التي تقع في عمق الصومال، وتبعد عن الحدود الصومالية الإثيوبية حوالي
250 كيلو متراً، وذلك دليل قاطع على صدق ما قلناه من أن إثيوبيا تغزو الصومال
لأهداف أعمق بكثير مما تدعيه، وتغطي أهدافها بحجج لا أساس لها من الصحة مما
يجعلنا نتساءل: هل كان في بيدوه قواعد حقيقية لهاتين الجبهتين؟ والجواب لا، لم
تكن في المدينة قواعد لجبهات معارضة لإثيوبيا ولكن الحقيقة هي: أن بيدوه كانت
ميداناً لمعارك جرت بين ميليشيات حسين عيديد التي احتلت المدينة أواخر عام
1995م وبين جبهة الرحنوين التي كانت تريد استرداد المدينة من جبهة عيديد
والتي تتلقى الدعم والتسليح والتمويل من إثيوبيا منذ ذلك التاريخ لا حباً في هذه
الجبهة ولا خدمة لها وإنما كانت إثيوبيا تريد من دعمها لهذه الجبهة أن تحقق أهدافها
من خلالها، وأهم تلك الأهداف هي تدمير قوات حسين عيديد الذي تعتبره إثيوبيا
أكبر عقبة تقف أمامها في تحقيق أهدافها في الصومال، فلما شعرت إثيوبيا أن هذه
الجبهة أضعف من أن تحقق أهدافها تلك خاضت الحرب ضد قوات حسين عيديد
كما سبق ذكره عن الصحيفة الإثيوبية.
ومن المعلوم أن جبهة تحرير أورومو كانت تخوض معارك دامية ضد قوات
إثيوبيا التي يسيطر عليها العنصر الحبشي منذ الستينيات من هذا القرن، ولها
قواعد على طول الأراضي الإثيوبية وعرضها، كما أن لها وجوداً فعالاً في
العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا» . وتذكر الأنباء أن التوترات تحدث بين الفينة
والأخرى بين إثيوبيا وكينيا بسبب هذه الجبهة التي تنتقل أثناء هجومها على القوات
الإثيوبية عبر الحدود بين البلدين.
أما الاتحاد الإسلامي في منطقة الصومال الغربي فكان ولا يزال يخوض حرباً
شرسة في المناطق الصومالية المحتلة ضد إثيوبيا منذ ما يقرب من سبع سنوات،
وله قواعد عديدة داخل تلك المنطقة، وإثيوبيا نفسها اعترفت مرات عديدة بأن هذا
الاتحاد قد قام بتنفيذ عمليات عسكرية ناجحة في عمق إثيوبيا بما فيه العاصمة:
أديس أبابا، فليست هاتان الجبهتان إذاً في حاجة إلى قواعد في الصومال الممزقة.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا فإن إثيوبيا تحشد قواتها باستمرار وبكثافة أمام المدن
الصومالية القريبة من الحدود بين البلدين مهددة بالغزو والدمار إن لم تخضع
لرغباتها المشبوهة، وقد حدث ذلمك أمام مدن بلدويني وبلامبل وغلدغب
ولاسعانود ويرووي وبورما. وقد أغلقت المدارس العربية والإسلامية في بعض
تلك المدن خوفاً من الغزو الإثيوبي عليها؛ ومعنى ذلك أنه ما من منطقة صومالية
إلا وهي مهددة بالغزو الحبشي بشكل أو بآخر.
يتبين لنا من عرض هذه الخطوات العملية الإثيوبية لاحتلال الصومال أن
خيوط المؤامرة الإثيوبية ومن يقف وراءها على الصومال قد كادت تستكمل حلقاتها،
واستفحلت خطورتها ووصلت إلى مرحلة متقدمة، ويبدو والله أعلم أنه لم يبق لها
إلا التنفيذ النهائي لاستئصال الصومال وقطف ثمار الجريمة من قِبَل إثيوبيا بعد
التخلص نهائياً مما كان يسمى الصومال حسب التخطيط الإثيوبي إن لم تتدارك
الصومال عناية الله ورحمته وحفظه، ثم إن لم تقف الأمة العربية مع الصومال وقفة
جادة ترقى إلى مستوى الأحداث، وإن لم يستيقظ الصوماليون من غفلتهم ومن
تكالبهم على الاقتتال فيما بينهم وانشغالهم بسفاسف الأمور وتصفية بعضهم بالبعض
الآخر، وليس ذلك على الله بعزيز.
الحل لإنقاذ الوطن الصومالي:
وقبل أن نورد ما نرى أنه الحل الأنسب والأسرع للقضية الصومالية نعرض
أمام الجميع الحقائق الآتية:
1 - إن الأماني الطيبة التي يبديها بعضهم لحسم هذه المشكلة لم تكلل بالنجاح
حتى الآن، ولا يمكن أن تأتي بنتائج مرضية، وقد فات أوانها.
2 - إن تقديم النصائح والكلمات المعسولة إلى العدو الإثيوبي ليتخلى عن
تدخلاته في الشؤون الصومالية وليكف عن الاعتداءات المستمرة على الوطن
الصومالي لا يجدي شيئاً، وإنما يحتاج الأمر إلى اتخاذ خطوات فعالة لصد هذا
العدوان بشكل سريع وحاسم.
3 - إن عقد ما يسمى بمؤتمرات المصالحة الصومالية وملف القضية في يد
العدو الإثيوبي قد عفى عليه الزمن، وأثبت عدم جدواه فلا بد من أسلوب آخر أكثر
جدية من هذا الأسلوب العقيم الذي استمر ما يقرب من تسع سنوات، فرؤساء
الجبهات القبلية الذين أوصلت زعامتهم البلد إلى هذا الحد من التدهور قد أخفقت
ممارساتهم وجاوزت أنانياتهم كل الحدود وبذلك انتهى دورهم بالاندحار الذريع.
4 - إن إبقاء القضية الصومالية في أيدي جهات عديدة لها مصالح وأهداف
متضاربة في الصومال قد أضر بالقضية أكثر مما نفعها وزادها تعقيداً وسوءاً،
وأوصلها إلى حافة الهاوية التي تنحدر إليها حالياً.
5 - إن الأساليب التي اتبعت لحل القضية الصومالية من التدخل العسكري
والمؤتمرات ومقترحات الخبراء كلها أساليب مستوردة من الخارج ولا تمت بصلة
إلى الواقع الصومالي، وقد أثبتت أنها كانت عقيمة لا جدوى منها.
6 - إن الحروب القبلية في الصومال بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة قد انتهت
منذ زمن بعيد، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنها انتهت منذ عام 1993م، والحروب
التي كانت تندلع من وقت لآخر سببها من التدخلات الأجنبية، أو من تشجيع من
أعداء الحل السلمي وتمويلهم، أو من تحالفات سياسية بين بعض الجبهات وبين
بعضها الآخر؛ فمثلاً عندما كان عيديد يحتل محافظتي باي وبكول أواخر عام
1995م كان يستخدم ميليشيات من قبائل صومالية شتى من بينها بعض أفخاد
الرحنوين، ومعنى ذلك أن الصوماليين العاديين باستطاعتهم أن يتنقلوا عبر الوطن
الصومالي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بدون الخوف من القتل لانتمائهم
إلى القبيلة الفلانية أو تلك، والتجارة مزدهرة بين الأقاليم الصومالية المختلفة بدون
عوائق إلا في مناطق التدخلات الحبشية.
7 - أثبتت التجارب الماضية أن الوطن الصومالي مع ما فيه من قلاقل وعدم
وجود حكومة مركزية لما يقرب من تسع سنوات لم يكن أكثر سوءاً من كثير من
البلاد الإفريقية، والسبب في ذلك يرجع بعد فضل الله تعالى إلى طبيعة الشعب
الصومالي المبنية على التكافل والتراحم، وأنه كان هناك في داخل الوطن وخارجه
صوماليون كثيرون حريصون على إنقاذ وطنهم وشعبهم، وكانوا جنوداً مجهولين
لخدمة بلدهم في ميادين التعليم والصحة وإصلاح ذات البين وتهذيب الأخلاق
ومحاولة إصلاح ما أفسده الآخرون، ولكن مشكلتهم كانت تكمن في فقدان الدعم
اللازم لتأدية واجبهم، بل لم تؤخذ آراؤهم لحل مشكلة وطنهم بينما كان المفسدون
يتمتعون بدعم بلا حدود بشكل مباشر أو غير مباشر.
8 - كانت هناك في السنوات الماضية تجارب قد أثبتت نجاحها في تهدئة
الأوضاع في أكثر المناطق الصومالية قلاقلَ واضطراباً، وأهم تلك التجارب الحالة
التي كانت عليها منطقة جدو الصومالية قبل الغزو الحبشي لها عام 1996م التي
كان يُضرَب بها المثل من ناحية الأمن والاستقرار والتعايش السلمي بين القبائل
المختلفة، واعترف بذلك الصديق والعدو، والتجربة الثانية هي (تجربة المحاكم
الشرعية) التي أنشئت في شمال مقديشو وجلبت للمنطقة أمناً واستقراراً لم تحلم به
قبل إنشاء تلك المحاكم، وقد أظهرت إحصاءات أجريت في شمال مقديشو أن جرائم
القتل التي حدثت في تلك المنطقة خلال سنتين من أيام عمل المحاكم لم تتجاوز
خمسة أشخاص في طول هذه الفترة، بينما كانت جرائم القتل بواقع خمس أشخاص
يومياً خلال عام 1998م في تلك المنطقة، وقد أحبط هاتين التجربتين أعداء حل
القضية الصومالية، أما التجربة الثالثة فهي المحاكم الشرعية العاملة حالياً في
جنوب مقديشو والتي جلبت للمنطقة هدوءاً واستقراراً لم تنعم بمثلهما منذ بداية عام
1991م، ولم يفلح الأعداء حتى الآن بإلغائها [**] ، ومعنى ذلك أن حل القضية
الصومالية ليس ميئوساً منه، بل هو ممكن عند الدخول من الأبواب المناسبة للحل
الصحيح، ونبذ الحلول المغرضة التي تفرض على الشعب الصومالي بدون
استشارة منه.
وأخيراً:
بعد عرض هذه الحقائق نرى أن حل مشكلة الصومال سهل وميسر بإذن الله،
وأن الجو العام في الصومال مهيأ حالياً لحل سلمي بشكل جذري، ولكن مثل هذا
الحل لا يمكن تحقيقه إلا إذا وُجِدَتْ جهة محايدة ليس لها أهداف ولا أطماع خاصة
في الصومال غير التوصل إلى حل مُرْضٍ لمعظم الصوماليين، جهة تتمتع
بإمكانيات كبيرة؛ وذلك من خلال الآتي:
1 - على الأمة العربية حكومات وشعوباً، أن تضع خطة شاملة لإنقاذ
الصومال تشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والدفاعية والاجتماعية، وأن تنفذ
هذه الخطة بمرحلة زمنية كافية بعد توفير كل الامكانيات التي تتطلبها الخطة؛ وذلك
بإجراء انتخابات نزيهة بإشرافها في الصومال لتشكيل حكومة صومالية بعد تمهيد
جيد من استتباب الأمن وبناء المرافق العامة للوطن، وتأهيل أفراد الميليشيات
المسلحة للحياة المستقرة بعد تجريدها من الأسلحة، وإنشاء بوليس قوي للأمن
الداخلي من الشباب ذوي الأخلاق الفاضلة، وأهم من ذلك تأمين الحدود الصومالية
البرية منها والبحرية من الانتهاكات والاعتداءات الحبشية وغيرها؛ وذلك بنشر
قوات عربية على تلك الحدود تطبيقاً للدفاع العربي المشترك مع الصومال؛ وبذلك
بتم إغلاق الملف الصومالي نهائياً من المحافل الدولية ومن دول الجوار التي لها
أطماع خطيرة في الصومال، وينحصر الحل في أيدي الدول العربية فقط. ووضع
مثل هذه الخطة وتنفيذها سهل وميسر للأمة العربية بمشيئة الله لما تتمتع به من ثقة
الشعب الصومالي، وبما لديها من إمكانيات كبيرة ومن خبرات واسعة في جميع
المجالات تفوق كثيراً ما كان لدى دول غرب إفريقيا التي بذلت مجهوداً كبيراً لتهدئة
الأوضاع في ليبيريا ونجحت في مهمتها إلى حد كبير، ولكن لا بد للأمة العربية من
عزيمة صادقة وهمة عالية وتصميم أكيد لحل القضايا العربية التي من أخطرها
قضية الصومال في الوقت الحاضر، والقضية تتطلب التحرر من السلبية والتفرج
على الأحداث بدون الاقتراب من حل جذورها.
2 - إذا كانت هناك ظروف دولية لا تسمح بالحل العربي المباشر ونرجو ألا
توجد مثل هذه الظروف فمن الممكن أن ينفذ الصوماليون المخلصون هذه الخطة
التي تضعها الأمة العربية لإنقاذ الصومال، وقد يكون مثل هذا التنفيذ سهلاً من قِبَل
الصوماليين إذا توقف تدخل الدول ذات الأطماع في الشؤون الصومالية ووقفت الأمة
العربية وقفة جادة بجانب الصومال، ووفرت لها الإمكانيات المطلوبة لحل القضية،
والمخلصون فيما أحسب على استعداد لتحمل هذه المسؤولية وتأديتها على الوجه
المطلوب مع القيام بعملية تنسيق بين الصوماليين الذين يقومون بتنفيذ الخطة وبين
بقية الجانب العربي الذي يقدم الدعم والمشورة لعملية الحل الجذري لهذه القضية
العويصة.
وأخيراً: نناشد المسؤولين في العالم العربي ملوكاً وأمراء ورؤساء في أن
يؤدوا مسؤوليتهم التاريخية نحو الصومال، وأن يتداركوا القضية قبل فوات الأوان،
كما نناشد الصوماليين بأن ينتبهوا لخطورة أوضاعهم، وأن يهبوا لإنقاذ وطنهم من
التمزق والاحتلال؛ فقد دقت ساعة الخطر؛ وطفَّ الكيل، وبلغ السيل الزُّبَى.
نسأل الله تعالى أن يعيد لهذه الأمة عزها ومجدها وريادتها للعالم، إنه قريب
مجيب.
__________
(*) نائب رئيس المحكمة العليا في الصومال سابقاً، وممثل رابطة العالم الإسلامي في الصومال وفي بنين سابقاً.
(**) جاء في الأخبار مؤخراً أن إحدى الميليشيات الصومالية القبلية قتلت زعيم المحاكم الشرعية العاملة هناك بعد ما وجد هؤلاء أن سلطات المحاكم ستبسط نفوذها وستحرمهم من الأغراض الشخصية والحزبية الممقوتة.
- البيان -(153/102)
المسلمون والعالم
الأقليات المسلمة.. بين آليات الإغاثة
وفقه العمل الخيري
مسلمو أوكرانيا أنموذجاً
ناصر سنادة
يعيش اليوم كثير من المسلمين في أقليات حول العالم مسحوقين يعانون الفاقة
والفقر، ويذوقون الاضطهاد المر من أبناء جلدتهم، يعذبون ويشردون داخل
مجتمعاتهم التي لا ترحم والتي تنكر رابطة الرحم والدم إذا ما فكر أحدهم مجرد
تفكير في اعتناق الإسلام.
تلك حال معظم مجتمعات الغرب، مجتمعات العقوق والانحلال والتفكك
الأسري، هذه نظرة عامة، ولكن يبقى لكل مجتمع مميزاته وسماته، وحتى
ظروفه الخاصة، وأوكرانيا دولة لها ظروفها الخاصة والقاسية؛ إذ حكمها نظام
شيوعي بالحديد والنار لفترة تربو على سبعين عاماً، وعانى فيها المسلمون ويلات
ومظالم عجيبة، ولعل من أكبر المظالم التي عاشها المسلمون في أوكرانيا بشكل عام
ومسلمو شبه جزيرة القرم على البحر الأسود بشكل خاص في عهد الشيوعية الحاقدة
وأزمنتها البالية هو ذلك التشريد والتهجير الذي مورس عليهم قسراً، خاصة تلك
الحقبة التي حكم فيها (ستالين) على المسلمين بالفناء والتشريد، حيث ما تزال
آثار حملته الإبادية الجائرة ممتدة الأثر وواضحة المعالم في الشعب التتري وعموم
سكان شبه جزيرة القرم المسلمين حتى يومنا هذا؛ إذ لا يوجد في الحياة شيء أشد
مضاضة وألماً من ترك الإنسان لموطنه، تلك حقيقة يدركها كثير من الناس؛ فعندما
ترتد بنا الذاكرة إلى الوراء نستعيد تفاصيل صورة مفعمة بالحزن والأسى تزيدها
الأيام شفافية وشوقاً: رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقلب ناظريه أسفاً
ويخرج مودعاً مهد طفولته الطاهرة ومرتع صباه وخير بقاع الأرض قائلاً: «واللهِ!
إنكِ لأحبُّ أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» [1] وأي
شيء أشد قسوة من ظلم الإنسان وترك الأوطان؛ إذ عمد ستالين وزبانيته
الشيوعيون إلى افتعال المجاعات في شبه جزيرة القرم لإجبار الناس على الهجرة
بحثاً عن لقمة العيش في مكان آخر، وقد أخليت المنطقة بدهاء وخبث من سكانها
المسلمين أولاً، وليس ذلك فحسب، بل عمد ستالين إلى كسر شوكتهم وتذويبهم
وطمس هويتهم في بحر (أعراق وقوميات ومذاهب) دول الاتحاد السوفييتي
(السابق) فقتل علماء الدين، ومثَّل بهم شر تمثيل، وهدم مساجدهم، واعتقل
شيوخهم، واستباح كل حرام يخطر بالبال، وليت الأمر انتهى عند هذا الحد فحسب،
بل أثار حولهم الضغائن والضغوط والفتن ليقطع صلتهم بالدين الإسلامي بالكلية.
تلك صورة سريعة نستشف فيها أحداث المجازر والمآسي التي عاشها مسلمو
شبه جزيرة القرم وما آل إليه حالهم؛ إذ ليس من الحكمة الآن غض الطرف عن
الآثار والأضرار الجسيمة التي أصابتهم؛ فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)
هرع كثير من أبناء القرم أولئك الذين هُجِّروا متسابقين للعودة لموطنهم الأصلي؛
وهذه سُنَّةُ الله في أرضه، والله متم نوره ولو كره المشركون، فكثير منهم عادوا
ولا يزال بعضهم يكابد للحاق بالركب حتى الآن، فما زالوا يأتون زرافات ووحداناً
بعد أن باع معظمهم منازلهم بأبخس الأثمان، وتركوا وظائفهم وجنسياتهم
وارتباطاتهم في تلك الدول التي عاشوا فيها ردحاً من الزمن ونشأ بعضهم فيها، كل
ذلك من أجل الجذور والوطن، وأي وطن؟ ! وطن كان ذات يوم ثغر من ثغور
الإسلام! ولعل أكثر ما يعانيه المسلمون في شبه جزيرة القرم اليوم هو تهدم البنية
التحتية والتردي الواضح في الخدمات، وإهمال الحكومة الأوكرانية للمنطقة بدعوى
قلة الإمكانيات، إضافة إلى حاجتهم لأبسط مقومات العيش الكريم، فلا مأوى ولا
سكن ولا ماء ولا حتى تدفئة ومؤنة في الشتاء، وما أدراكم ما الشتاء في أوكرانيا؟ !
فحينما يطأ شتاء القطب الشمالي ببرده الثقيل السهوب والقرى المتناثرة في
البقاع، فيجعلها تئن وتعاني تحت وطأة ثلجه الكثيف وزمهريره القاسي حتى يأتي
موسم الربيع، وعندها فقط ندرك بأن الذي مضى كان اسمه الشتاء، تلك حال
مسلمي شبه جزيرة القرم بعد حقبة الشيوعية البغيضة؛ فمن يزور القرم اليوم يجد
آثار مساجدها المهدمة التي تغرق بصمت في واقع كثيب، ركام يشبع الأيام أبهة
وجلالاً، أما الناظر إلى البيوت فسيدرك أنها لن تقوى على تحمل عوامل التعرية
ونكبات الزمن، بيوت بنيت بطرق عشوائية تقشفية، وكيفما اتفق، ويظن من
يراها أن سكانها نُسَّاك زُهَّاد ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ إنه ضيق ذات اليد،
فمسلمو أوكرانيا عموماً ومسلمو شبه جزيرة القرم خاصة يحتاجون إلى دعم كبير
ينتشلهم من بحار الفقر؛ إذ إنهم أوْلى الأقليات التي تحتاج إلى الدعم الخيري
بالمقارنة مع دول القارة الأوروبية؛ وهذا الأمر يرجع إلى عدة أوجه وأسباب:
1- لأن أوكرانيا خرجت من وطأة العهد الشيوعي، وعانى المسلمون فيها
التنكيل والاضطهاد والتشريد، خاصة أيام حكم ستالين؛ إذ هاجر معظم المسلمين
خوفاً من حملات الاعتقالات والتنكيل؛ وفي هجرتهم القهرية خلفوا وراءهم
ممتلكات وحقوقاً ضيعت فيما بعد، بينما كانت الجمعيات والمنظمات في أوروبا تنعم
بالدعم الخيري أو بالأحرى اعتمدت على نفسها طول الوقت في تأسيس أرضية
ثابتة لانطلاق الدعوة فيها.
2 - لأن تعداد المسلمين في أوكرانيا يبلغ حوالي 2 مليون نسمة، وهم أساساً
مسلمون لكنهم يحتاجون إلى التثبيت والتفقه في أمور دينهم، ولا ينبغي إهمالهم
حتى لا يقعوا فريسة للجمعيات النصرانية واليهودية المنتشرة والنشطة داخل
أوكرانيا؛ فإن مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى جهد دعوي كشخص كافر لا يعرف شيئاً
عن ربه ودينه؛ فهؤلاء في حظيرة الإسلام وبقي أمر تفقههم في الدين ومعرفتهم
لأحكامه.
3- لأن الجانب الاقتصادي يلعب دوراً رئيساً ومميزاً في الحياة العامة؛ إذ إن
قلة الإمكانيات أولاً وفقر مسلمي أوكرانيا وانشغالهم الكلي بهموم المعيشة كثيراً ما
يعيق هذا العمل الدعوي.
وأخيراً فإن النظام الاقتصادي الأوكراني المتضخم والفقير لا يشجع على إقامة
مصادر دخل ذاتي مقارنة بجمعيات ومنظمات تعمل في أوروبا وأمريكا وتنفق على
نفسها من خلال مواردها الذاتية.
4- لأن المسلمين الأوكرانيين وخاصة أولئك الذين يعيشون في شبه جزيرة
القرم يعانون من اهتراء البنية التحتية؛ فمعظم القرى التي يعيشون بها لا بنية
تحتية فيها ولا خدمات، ومن الصعب بمكان وصف كيف يمكن أن يقضي هؤلاء
الشتاء أو تخيل ذلك دون مؤنة ولا تدفئة؛ فمعظم هؤلاء دفعهم ارتباطهم بجذورهم
في القرم مخلفين وراءهم منازل ومتاعاً واستحقاقات، بل إن أكثرهم كانوا قد
تنازلوا عن جنسياتهم وجوازات سفرهم عند خروجهم من الدول التي عاشوا فيها.
5- لأن موضوع الأقليات (دينية أو عرقية أو مذهبية) أصبح هاجس الدول
الغربية وسبباً لتدخلها في شؤون دول أخرى (راجع موضوع الأقلية الألبانية
المسلمة في يوغسلافيا قضية كوسوفا) ، وعليه فحري بنا نحن المسلمين أن نهتم
بموضوع الأقلية المسلمة أكثر من غيرنا، كيف لا وهم إخوتنا في العقيدة والدين؟
ومن هنا ينبغي اعتماد موضوع هذه الأقلية المسلمة وإدراجه في أعلى جدول العمل
الإسلامي.
- لأن كثيراً من مسلمي أوكرانيا ضيعوا معاني الإسلام وغاياته، والآن وبعد
رجوعهم إلى موطنهم الأصلي واستقرارهم فإن الأمر يتطلب جهداً إضافياً؛ إذ لم
يستطع ستالين أن يمحو حبهم العظيم للإسلام وشرف الانتساب إليه.
6- لأن النظام الدكتاتوري الشيوعي كان يجرِّم العمل الإسلامي ويحظر
مشاريعه، وبالمقارنة مع دول غربية نجد اليوم مساحات لا بأس بها من القوانين
والحريات التي استفاد منها العمل الإسلامي لإقامة مشاريعه مثل (فرنسا وإنجلترا) ،
والحمد لله على أن القانون الأوكراني اليوم يكفل حرية العمل الإسلامي، ولا
ينبغي التفريط بذلك في الساحة العالمية؛ فمساعدة إخواننا المسلمين الذين يعيشون
في أقليات حول العالم هو هدف بحد ذاته يسعى إليه، وأستطيع تخيل تكلفة بناء
مسجد في أمريكا أو أوروبا بملايين الدولارات، وكييف عاصمة أوكرانيا يقطنها
100 ألف مسلم، وليس بها مسجد واحد! !
الشق الثاني من المسألة ولب الموضوع:
يبدأ من اتساع أفق فقه دعم العمل الخيري والإغاثي ليشمل الأجر والثواب
للداعمين والعاملين في هذا الحقل وإمكانية ربط الأقليات المسلمة بالمجتمع الإسلامي
بوثاق قوي رحيم، وهنالك ثلاثة أحاديث لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم تكاد
تكون هي الأطر التي يمكن الاستنباط منها؛ والأجر يتحقق فقط عند الإنفاق أو
التبرع لهؤلاء المذكورين وحسب، وهذا ما يفهمه ويعتقده كثير من عامة الناس،
وهذه الأحاديث هي:
1 - «من فطر صائماً كان له مثل أجره» [2] .
2 - «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» [3] .
3 - «من بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة مثله» [4] .
ونضرب مثلاً لتقريب المعنى: شخص يريد أن يتبرع ويدعم بناء كلية أو
جامعة إسلامية أو مركز إسلامي أو دعم صحيفة إسلامية وحيدة في ظل وجود مئات
البرامج والصحف والكتب التي تملأ شاشات التلفاز والمكتبات لأصحاب ديانات
أخرى، في دول مثل أوكرانيا، أو بناء مشروع تنموي ودعمه مما فيه فائدة لعدد
كبير من فقراء المسلمين وفيه منفعة للأقلية الإسلامية كلها؛ فهل لهذا من الأجر مثل
ما يوازي أجر أحد هؤلاء الثلاثة المذكورين أعلاه في الحديث؟ ! وما هو العمل
الأوْلى الذي يقدم على غيره؟ هذه المسألة تؤرق كثيراً الرجال القائمين بأمر الدعوة
والعمل الخيري في الخارج؛ إذ إن كثيراً جداً من المتبرعين يتبرع ويشترط ويحدد
أن ينفق ماله في أحد هذه الأعمال الثلاثة الجليلة وحسب، كما أن كثيراً من هذه
الأموال والدعم يأتي بواسطة منظمات أو أفراد، وقد لا يتسنى للجهة المتبرع لها
تقديم فكرة أو مشروع له أحقية في التنفيذ قبل غيره من حيث الفائدة المرجوة (وقد
لا يكون هنالك اتصال ولقاء مباشر مع المتبرع) حيث إن كثيراً من هذه المشاريع
يقترحها أبناء الأقليات المسلمة، أو تعد نتيجة لقراءة الواقع والمجتمع وفهماً
لاحتياجات المسلمين فيه؛ فأهل مكة أدرى بشعابها؛ ولعل هذا الأمر بحد ذاته
يشكل أكبر هذه الهواجس التي تشغل فكر العاملين في تلك المنظمات الخيرية
والإغاثية؛ حيث تضيع جهود كثيرة في (إعداد مشروع وتأجل مشروع آخر)
بينما تحدده وتشترطه الجهة الداعمة أو الشخص المتبرع، والكل مأجور بإذن الله
تعالى. إذن فنحن نحتاج لاستنباطات واجتهادات خاصة تلائم واقع الأقليات المسلمة
وإمكانية تعاطي العمل الخيري دون إخلال بالعمل وتضييع للأمانة؛ إذ أصبح عمل
كثير من المنظمات الإغاثية عبارة عن عمل ترقيعي (إن جاز التعبير) ، وليس
عملاً وقائياً؛ فعندما تحل كارثة مَّا، فإننا نجد منظمات الإغاثة تنشط حينئذ لتهرع
مع الهارعين إلى مكان الكارثة، وحري بنا أن نقف لنسأل سؤالاً: لماذا لا يتسع
الأفق بنا لنقف مع إخواننا المسلمين ولو للحظات لنفكر في همومهم وألمهم،
وبالطريقة التي يفكرون بها هم أنفسهم، عندها نستطيع أن نجنب إخواننا المسلمين
في كل مكان، وخاصة الأقليات فيهم والمستضعفين منهم الفاقة والفقر، والفتن
وويلات الحروب، والكوارث الطبيعية. نعم إن مثل هذا العمل يحتاج إلى جهود
جبارة وجيوش من المنظمات والعاملين والأموال وأهل الخير، وحسبنا أنه بالإمكان
الاستفادة في ظل الإمكانيات والظروف المتاحة الآن لنشر الثقافة الإسلامية وبناء
مؤسسات تنموية، ومدارس إسلامية.. إلخ، دون أن يكون هناك أي تعارض أو
تفضيل اللهم إلا بحسب ما تقتضيه الحاجة، والأمر برمته يحتاج أيضاً وقبل كل
شيء لمحاولة جادة وعميقة لفهم واقع الأقليات المسلمة ومسلمي أوكرانيا بشكل
خاص وربط ذلك بآليات فقه الدعم والإغاثة والعمل الخيري، ومدى إمكانية اتساع
أفق الدعوة والرؤى المستقبلية للأقليات المسلمة حول العالم.
والله من وراء القصد،
__________
(1) رواه أحمد، ح/17968.
(2) رواه الترمذي، ح/ 735.
(3) رواه البخاري، ح/ 4892.
(4) رواه مسلم، ح/ 829.(153/114)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
صورة من الغرب
1 - أقر وزير الزراعة الإيطالي ألفونسو بيكورارو سكانيو علناً بأنه يقيم
علاقات مع الجنسين في سابقة أولى من نوعها في إيطاليا.
وبات سكانيو الذي أصر على «حريته الجنسية المطلقة» أول وزير يدلي بتصريح
من هذا النوع، وقال لعدد من الصحف الإيطالية: «لست أعترف بذنبٍ مَّا، ولا
أشعر بأدنى خجل، وأنا أطالب بأن يتمتع الجميع بحرية أن يحبوا من يريدون
بغض النظر عن جنسهم. وهذه الحرية، أنا أمارسها» .
وفي الإطار نفسه، دعا نائب حزب «إعادة التأسيس» الشيوعي نيشي
فيندولا الوحيد الذي صرح عن مثليته الجنسية في البرلمان زملاءه إلى التصريح
بذلك، قائلاً: «لتكن لديكم شجاعة كشف هوياتكم وتوقفوا عن العيش في القلق
والخوف. في بلادنا أخلاقيات مزدوجة تسمح بالقيام بأمرٍ مَّا، ولكن من دون إعلانه.
لكننا في العام 2000وآن الأوان لنواجه الحقيقة» .
2 - أثارت إذاعة «كيس إف إم» الفنلندية جدلاً واسعاً بعدما سمحت في
برنامج لها لشاب وفتاتين بممارسة الجنس على الهواء مباشرة مدة ربع ساعة،
وأوضح منتج البرنامج هنكا هيبونن أن «مجموعة كبيرة من المستمعين اتصلوا في
الفترة الأخيرة وطلبوا بثاً حياً لممارسة جنسية على الهواء مباشرة، مما دفع الإذاعة
إلى الإعلان عن قبولها طلبات المتبرعين الذين يريدون المشاركة عبر إرسال
تسجيلات صوتية لهم وهم يمارسون الجنس، أو الحضور إلى الأستديو لبث
أصواتهم مباشرة.
واتصل بالإذاعة خطيبان أبديا استعدادهما للمشاركة في البرنامج، ولكنهما
غيرا رأيهما فور دخولهما إلى غرفة مهندس الصوت؛ حيث طلبا أن تكون معهما
فتاة ثانية تشاركهما، فما كان على المذيع إلا المطالبة على الهواء بمتطوعات على
استعداد لتلبية رغبة الخطيبين؛ ووافقت إحدى المستمعات على هذا الطلب،
واستقلت سيارة أجرة مباشرة إلى الأستديو؛ حيث شاركت الخطيبين في حفلتهما
الجنسية التي لاقت إعجاباً واسعاً من مستمعي الإذاعة، وأصبحت حديث الساعة في
العاصمة الفنلندية هلسنكي.
3 - شارك عشرات الآلاف من أنصار مثليي الجنس في باريس في تظاهرة
» غاري برايد 2000 «التي باتت حدثاً سنوياً تقليدياً.
وتوقع المنظمون وهم حوالي 55 جمعية، مشاركة 150 ألف إلى 200 ألف
شخص في هذه التظاهرة التي تدور هذه السنة حول موضوع مكافحة الخوف من
مثليي الجنس.
وتصدَّر الصفوف الأمامية بعض الشخصيات السياسية من بينها وزير الثقافة
جاك لانغ الذي حضر شخصياً لتحية المتظاهرين؛ وخلف السياسيين سار أعضاء
جمعيات اللواطيين والسحاقيات ومنظمات مدافعة عن حقوق الإنسان (رابطة حقوق
الإنسان ومنظمة العفو الدولية) ، إضافة إلى 60 عربة تشارك في هذه المسيرة التي
لم تعد شركات السيارات الكبرى تتردد في رعايتها.
[جريدة الحياة، الأعداد: (13598، 13604، 13619) ]
لو كانوا أولادكم؟ !
كشف السيد بدر الدين بينو، السفير الشيشاني المتجول، خفايا جريمة إنسانية
بشعة ارتكبها المسؤولون الروس» وما زالوا «ضد أطفال المسلمين الشيشان على
مرأى ومسمع العالم الأوروبي والأمريكي المتمدن والمتترس خلف مزاعم الدفاع عن
حقوق الإنسان؛ وقال السفير بينو في حديث خص به» السبيل «: إن الآلاف من
أطفال المسلمين الشيشان هم اليوم يباعون رقيقاً في أسواق أوروبا وأمريكا، وسط
صمت دولي مؤسف على هذه الجريمة البشعة؛ وأوضح السفير بينو أن هذه
الجريمة بدأت عندما قام الروس بملء حافلة» باص «من أطفال» أنغوشيا «
وأدخلوهم إلى موسكو بأوراق رسمية، ثم اختفت آثارهم بعد ذلك؛ حيث تبعت هذه
الحافلة شحنات أخرى عديدة تم جمعها تحت مسميات شتى، ونجحت جهود الحكومة
الشيشانية مؤخراً في تتبع آثار 240 طفلاً من هؤلاء الأطفال؛ وإن الأطفال يتم
جلبهم تحت غطاء برنامج يدعى برنامج التبادل الثقافي لطلبة البوسنة والشيشان،
مركزه في العاصمة الأمريكية واشنطن، والمسؤول عن هذا البرنامج يدعى الدكتور
واصف دور كيوفتيش، ولهذا المركز أو المشروع فرع في جنوب إفريقيا، تديره
سيدة تدعى» ميسيز سو «.
وبالاتصال مع هذا المركز أكد المسؤولون فيه أنهم مؤسسة رسمية تعمل وفق
القانون، وأنهم يحضرون الأطفال عن طريق برنامج التبادل الثقافي، وأن عمليات
التبني» البيع «تتم بموافقة ومعرفة السفارة الروسية ذاتها والتي تقدّم الوثائق
المزورة لهؤلاء الأطفال أنهم من الأطفال الروس اليتامى! !
ونتيجة لهذه التحركات، ونجاح السيد بينو في العثور على بعض هؤلاء
الأطفال وعمل زيارات لهم، قامت حملة مضادة محمومة لإخفاء الأطفال وإرهابهم
وإرغامهم على طلب إبعاد السفير الشيشاني عنهم، وقامت مسؤولة البرنامج برفع
قضية قادها ثلاثة محامين من أمريكا ضد ممثل الحكومة الشيشانية زعموا فيها أن
الأطفال يرفضون إعادتهم إلى أهلهم وذويهم في الشيشان.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (338) ]
رسائل من الشيشان
1 - كأن إيقاف قتل المدنيين العزل وتدمير بيوتهم في الشيشان قد بات
مرتبطاً بتقرير وفد منظمة حقوق الإنسان؛ فبعد المرة الأولى والتصريح الأول
خرجت قوات العدو الروسي الملحد بريئة من أي تعدّ ما عدا بعض التدمير؛ فقد
كان الزائر الأول لا يرى شيئاً إلا ما أعده الروس له من مناظر خلابة وجميلة،
فكان التقرير الأول جميلاً مثل الزيارة المنظمة والمخطط لها، ثم جاءت الزيارة
الثانية التي كانت مثار الجدل بسبب الصراحة والوضوح ولكن ما هي نتائجها في
واقع الشيشان وفي الواقع العالمي؟ لا شيء! !
فلم يتغير شيء ولم يتوقف سيل الدماء من أجساد المدنيين الأبرياء، بل لم
يتوقف القصف والتدمير العلني! !
أتدرون لماذا؟ لأنه لم يتم إصدار أي أمر لإيقاف هذا العدوان ولم تكن الدماء
ذات أهمية في نظرهم، إذ إنها دماء المسلمين! نعم دماء المسلمين التي ليس لها أي
حركة أو مكانة في نفوسهم! وها نحن ننتظر هذه الأيام نتائج الزيارة الثالثة عن أي
شيء تتمخض.
2 - بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان وتعرض النساء المسلمات
للاغتصاب من جنود القوات الروسية وتأخر المسلمين حكاماً وشعوباً عن حماية
أعراض المسلمات في الشيشان فقد وجه المجاهدون قيادةً وجنداً تحذيراً وإنذاراً
للحكومة الروسية وشعبها وجنودها في الشيشان من أن الانتقام سيكون شديداً، وأن
الثأر للمسلمين وأعراضهم في الشيشان سيكون تدميراً للقوات الروسية وجنودها في
داخل الشيشان وفي روسيا، وأن العمليات الهجومية لن تقف عند حدود الشيشان بل
سوف يكون لها في روسيا صولات وجولات، فإلى الحكومة الروسية وإلى
الكرملين نوجه هذا الإنذار والتحذير.
موقع صوت القوقاز
http://www.qoqaz.com
ألا يوجد نواقض للإيمان؟
التكفير ليس من حق أحد، ليس من حقك أو من حقي أن أكفر إنساناً، وأذكر
أنه في قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد أن الرجل قال على الملأ ونشر أنه مؤمن
وموحد لله، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إنه يقول: أنا مسلم
وموحد ومؤمن بالله، ماذا بعد ذلك لنشهد له بالإيمان؟ إذن ليس من حق أحد أن
يقول له: أنت كاذب، هذا ظلم للرجل وافتئات على الدين، عملية التكفير ليست
هينة، إنها خطيرة وليس من حق أحد أن يطلق حكماً على آخر ويقول له: أنت
كافر. ليس من حقك أن تدخل قلب الإنسان، لست مسؤولاً أن تحفر في نيات هذا
الإنسان، أنت لست مكلفاً بذلك، ولست مسؤولاً عما بداخل الناس، وليس منوطاً
بك أن تتبين الإيمان داخل النفس البشرية. الإسلام سماحته في العبارة التي تقول:
» لو كان الرأي يحتمل الكفر في مئة وجه ويحتمل الإيمان في وجه واحد، حمل
على الإيمان وليس على الكفر «تلك هي السماحة، أي أن من واجب المسلم تغليب
الإيمان ولا بد أن تسود هذه الروح في عالمنا الإسلامي. لا رقابة قبلية ولا بعدية،
روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وقصص يوسف إدريس تعيش بيننا،
ناس محترمون لا تجد منهم طعناً في الدين أو في أي من ثوابته.
[وزير الأوقاف المصري، د. محمد حمدي زقزوق، مجلة الوسط، العدد:
(436) ]
لن يعدموا مثلك! !
قاوم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ضغوط نظيره الأمريكي بيل كلينتون
خلال آخر لقاء بينهما في واشنطن بالتهديد بالاستقالة من منصبه والعودة للإقامة في
تونس أو القاهرة.
إن هذا التهديد جاء عندما كان الحديث بين عرفات وكلينتون يدور حول إيجاد
مخرج للأزمة الحادة التي وصلت إليها المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وطلب
الرئيس الأمريكي من عرفات تفهم ظروف رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك
والتنازل عن استعادة السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية وحق العودة للاجئين
الفلسطينيين. وأوضحت المصادر نفسها أن عرفات قاوم هذه الضغوط وقال
لكلينتون إنه سيقدم له المخرج، ولما سأله عن هذا المخرج أجابه بأنه سيغادر
الأراضي الفلسطينية إلى القاهرة أو تونس بصفة نهائية، وعلى باراك أن يتدبر
أمره مع الشعب الفلسطيني. وكان عرفات هدد في نابلس بالضفة الغربية أمام
الآلاف من أنصار حركة فتح بإشعال الانتفاضة والكفاح المسلح من جديد داخل
الأراضي الفلسطينية وذلك في إطار رده على التهديدات الإسرائيلية باستخدام
الدبابات والطائرات ضد المناطق الفلسطينية في حال تجدد المواجهات بين
المواطنين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7312) ] .
أحلامكم أوامر! !
أكدت منظمة العفو الدولية (أمنستي) في تقريرها السنوي للعام 2000م أن
السلطة الفلسطينية لا تزال تعتقل أكثر من 230 شخص منذ سنوات ومن دون تهمة
أو محاكمة للاشتباه بأنهم ينتمون إلى جماعات إسلامية معارضة. وأكد تقرير منظمة
العفو الدولية أن الأنباء الواردة من سجون السلطة تؤكد استمرار سياسة التعذيب
وسوء المعاملة، وأن الاعتقال المطول بمعزل عن العالم الخارجي في الفترة التي
تلي عملية الاعتقال مباشرة تؤدي إلى تسهيل وقوع التعذيب، ورغم ذلك لم تقم
السلطات بالتحقيق في شكاوى التعذيب أو بتقديم المسؤولين عن ممارسته إلى العدالة.
وإن اعتقال أنصار حماس المشتبه فيهم مرتبط بصورة مباشرة بالضغط الذي
مارسته (إسرائيل) والولايات المتحدة على السلطة الفلسطينية للقبض على
الأشخاص المشتبه في ارتكابهم أعمالاً» إرهابية «.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (339) ]
شاهد من أهلها
من النادر أن تلتقي مثقفاً عربياً يعرف أصول الثقافة الغربية معرفة جيدة؛
فعندما تلتقي أحد هؤلاء يشرع في الحديث عن الأوضاع السياسية في بلاده ولا
يخرج عن ذلك أبداً. وهذا يدل على أنه غير قادر على ابتكار الأفكار، لذا فهو
يلجأ إلى الثرثرة حتى يغطي جهله، كما أضيف أن المثقفين العرب لا يهتمون
بالمعرفة بمعناها الحقيقي والعميق. فهم لا يعرفون لا السينما ولا الموسيقى ولا
المسرح ولا أي شيء آخر، إنهم خامدون متبلدو الذهن، يعيشون حياة خاوية بعيدة
كل البعد عن الخلق والابتكار والإبداع، حتى تاريخهم يجهلونه.
ما ينتج يدعو إلى الفكر، لكن أصحابه لا يفكرون، وهذه هي معضلة الفكر
العربي في الفترة الراهنة. وأضيف بأن العرب يعطون قيمة كبيرة لأركون وأمثاله،
لأن هؤلاء يعيشون في الغرب لا أكثر ولا أقل، ولو قرؤوهم جيداً، لما وجدوا
في كتاباتهم ما يمكن أن يغني العقل والمعرفة.
[المثقف التونسي! ! هشام جعيط، مجلة الوسط، العدد: (439) ]
كلام» كافي «
إن الأزمة القائمة سياسية أساساً، وهي مطروحة مع طرف معين هو ما
يعرف في لغة الحكم بـ» الحزب المحظور «وكان رأيي وما يزال أن البحث عن
حل لهذه المشكلة السياسية يكون بالدرجة الأولى مع قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ،
فهذا هو أقصر طريق لإخراج البلاد من الوضعية الراهنة. ولا ينبغي ذلك طبعاً
مشاركة القوى السياسية الأخرى بطريقة أو بأخرى في الحل السياسي الشامل.
ثم ما هو البديل لهذا الطرح الذي يقال تجاوزته الأحداث؟ هل هي» سياسة
الرحمة «التي طبقت في عهد زروال؟ أم» سياسة الوئام المدني «المطبقة حالياً؟
إن هذه البدائل ليست سوى ضرب من ذر رماد في العيون، ونوع من سياسة
الهروب إلى الإمام التي لا يمكن أن تقفز فوق حقيقة الأزمة المآسي اليومية المتولدة
عنها.
[الرئيس الجزائري السابق، علي كافي، مجلة الوسط، العدد: (439) ]
خلافهم نعمة.. للحقيقة
قللت وزارة الداخلية البريطانية من شأن الادعاءات التي روجها برنامج
تلفزيوني أمريكي مفادها: أن بريطانيا فيها من العنف والجريمة ما هو أسوأ مما في
الولايات المتحدة نفسها، ووصفت الوزارة هذه الادعاءات بأنها تنم عن تبسيط كبير
للواقع، وكان التقرير التلفزيوني المذكور الذي تتبع أخبار حادث اغتصاب
تعرضت له مدرِّسة أمريكية في لندن قد وصف شوارع وأسواق لندن بأنها كساحات
الحرب ومرتع للمجرمين. ووصفت شبكة سي بي إس الأمريكية التي بثت التقرير
المجتمع البريطاني بأنه واحد من أعنف المجتمعات الحضرية في العالم الغربي،
وقالت إن احتمالات التعرض للاعتداء والسرقة في لندن أكبر مما هي في الولايات
المتحدة.
لكن وزارة الداخلية ردت بغضب على ما جاء في البرنامج الأمريكي،
وادعت بأن احتمال التعرض لجريمة القتل في الولايات المتحدة أكبر سبع مرات
منها في بريطانيا، كما أن احتمالات التعرض لإطلاق النار أكبر بستين مرة. لكن
تقريراً أصدرته وزارة العدل الأمريكية يشير إلى أن معدلات جرائم الاعتداء
والسرقة وسرقة السيارات أعلى في بريطانيا مما هي في الولايات المتحدة. ولم
ترحب السلطات السياحية البريطانية بالتقرير التلفزيوني الأمريكي، وتصر على أن
بريطانيا لا تزال بلداً آمناً وممتعاً للزائرين.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
http://www.bbcarbic.com
ذباب وذباب
عانى المغرب هذه السنة أزمة احتباس المطر وانتشار الجفاف في كثير من
مناطقه كما عانى في الوقت نفسه جائحة الطماطم وخَمَجَها (فسادها) أما المصيبة
الأولى فأسبابها الطبيعية يختلف حولها علماء الأجواء والمراصد ولكلٍّ تفسيراته
وتعليلاته المقبولة وغير المقبولة، ولكن المؤمن يعلم أن المصيبة تلك هي نتيجة
شيوع الفواحش والمنكرات والظلم والجهر بالمعاصي والسكوت عن ذلك والرضى
به، بل ربما جرى تقنين بعض تلك المنكرات والمعاصي كالخمور والزنا والربا
المقنن وإشاعة أخبار الفاحشة خلال المجتمع بحجة حرية الرأي وحقوق الإنسان.
أما الطامة الاقتصادية الثانية فهي فساد الطماطم وخمجها وما أصابها من
جائحة لم يشهد المغرب لها مثيلاً في تاريخه القديم والحديث، وقد اتفقت جميع
الصحف ومصادر الإعلام على أن السبب في ذلك» البذور «المستجلبة من الدول
الصديقة» إسرائيل «وكان من بركة هذه (البذور) ظهور الذبابة البيضاء التي
أفسدت محصول الطماطم، وهذا أيضاً عقاب من الله لمن يتولى هؤلاء القوم الذين
لا يقصرون في المساعي الحثيثة لتخريب اقتصاد المغرب وغيره وكذلك أخلاقه
ودينه. ولكن الأخطر من هذه الذبابة البيضاء هي الذبابات المتلونة: الحمراء
والسوداء والصفراء التي تجتاح المغرب في نواحي كثيرة من حياته: فتفسد في
الإعلام، وفي التربية، وفي التعليم، وفي الثقافة والفكر، وفي الاقتصاد والتجارة،
وفي المدرسة، وفي الشارع، وفي الأسرة. وقد امتلأت أجواء المغرب بأسراب
من هذا النوع من الذباب المسموم الذي [صنع] خصيصاً لإفساد الحياة الإسلامية
الطاهرة النظيفة ببلاد المسلمين.
[د. عبد السلام الهراس جريدة الحجة المغربية، العدد: (130) ]
كشفها العقرب! !
قال لاري جونسون المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية عن
مكافحة الإرهاب إن» عدد الأمريكيين الذين ماتوا من لدغات العقارب أكبر بكثير
من الذين قتلوا في هجمات إرهابية أجنبية في السنوات الخمس الماضية. إلا أن
ذلك لم يمنع الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب من المبالغة في وصف التهديدات
الإرهابية «. وأضاف لاري وهو محلل سابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية
ويعمل حالياً مديراً عاماً في شركة استشارية متخصصة في قضايا غسيل الأموال:
» نحن في حاجة إلى مفهوم أكثر اتزاناً في هذا المجال. هل هناك احتمالات لسقوط
أعداد ضخمة من الضحايا؟ الإجابة: نعم! ولكن لسنا في حاجة لإعادة اختراع
سياسات مكافحة الإرهاب «.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7881) ]
تعليق على الأحداث
وكم من» سوهارتو «في ديار المسلمين؟
في لفتة كريمة وتفضل كبير ألمحت عائلة الرئيس الإندونيسي السابق
سوهارتو إلى إمكانية تقديمها» تبرعاً «بنصف ما تملكه للشعب الإندونيسي،
ويأتي هذا الكرم» السوهارتاوي «بعد الملاحقات القضائية للعائلة الكريمة التي
استولت خلال حكمها في إندونيسيا والذي استمر 32 عاماً على ثروة تقدر بـ 45
مليار دولار حسب المصادر الرسمية، وفي تصريح لسوهارتو نفسه صرح أنه على
استعداد للتنازل عن 25 مليار دولار في مقابل التوقف عن ملاحقته قضائياً، وقد
علق الرئيس الحالي عبد الرحمن واحد أن هذا المبلغ» التبرع «كفيل بسداد ديون
إندونيسيا كلها.
وإن كان هذا المبلغ البسيط الذي طابت نفس العائلة بالتبرع به أو افتداء نفسها
به هو بهذا الحجم، فكم تخفي الأرقام من حقيقة غير ظاهرة، ونسأل: كم من
سوهارتو في ديار المسلمين؟ وكم سيسعد الناس إذا عادت إليهم أموالهم؟
الاختلاط.. نظرة مقلوبة
مُني التيار الليبرالي في الكويت بصدمة كبيرة لإقرار مجلس الأمة الكويتي
منع الاختلاط في الجامعات الخاصة، وراحت الأقلام ترمي بسهامها المسمومة
وألفاظها الجارحة هنا وهناك في إشارة واضحة إلى الحسرة والشعور بمرارة
الهزيمة التي أحس بها» بنو علمان «ونأخذ من» القبس «قبساً من كلامهم فيقول
أحدهم وهو د. أحمد الربعي:» أخطر ما يواجه الدين هو أن يصعد على منابره
متاجرون يلعبون بالمبادئ، ويتلونون حيثما تحلو لهم سفن التلون بهدف الوصول
إلى كرسي في برلمان أو زعامة في قبيلة، أو موقع متقدم في وظيفة، يصلون إليه
من خلال منصب حزبي! !
هناك تحالفات سياسية جديدة في الساحة أظهرتها «معركة» الجامعات
الخاصة، وهي تحالفات بين أطراف لا جامع بينها، ولا يربطها رابط، وهي
تحالفات سياسية ترفع شعار الدين والأخلاق بهدف الوصول إلى مصالح لا علاقة
لها في النهاية بالشريعة ولا بالأخلاق «. ويضيف آخر، وهو سعود السمكة:» لا
أدري لماذا يربط رافعو شعار منع الاختلاط في الجامعات الأهلية من الذين يتسترون
بستار الدين بين الاختلاط والرذيلة؟ !
إنها نظرة دونية وتوصيف تحقيري للمجتمع عامة، نساءاً ورجالاً، باعتبار
أننا كمجتمع ليس لدينا ما نفكر به سوى الجنس! ! «. ونختم بكلام حسن العيسى
حيث يقول:» لا يفترض أن نخجل مما يحدث لدينا من معارك فكرية كان من
المتصور أن تحدث قبل خمسمائة عام في عصور المرأة الجارية وحكايات شهرزاد
عن العفاريت والبساط الطائر، لا في زمن المساواة في الحريات وثورة الاتصالات
والمكوك «كولومبيا» ؟ نخجل لأنهم هناك غارقون في معرفة واستنباط الجزء
الأعلى من الإنسان في عقله وخلايا فكره، ونحن غارقون في هموم الجزء الأسفل
من الإنسان، وكيف تلجمه عصا الوعاظ؟ ألا يستحي فقهاء السلفية العلمية في
حملتهم الكبرى مع قانون منع الاختلاط أن ينعتوا حركتهم بـ «العلمية» وكأنهم
على قدم المساواة مع علماء مختبر «هيوارد هيوز» ومعامل «كوليتر» ومن
سيكون له الفضل في إطالة عمر الإنسان وتوفير سبل السعادة له، بينما رفاق
«السلفية العلمية» لا همَّ لهم غير التنكيد على الإنسان وإشغاله بمعارك طواحين
الهواء وطواحين الاختلاط؟
أنا أشعر بالخجل الحضاري من علماء «الجينوم» عندهم عندما أطالع
أدبيات علماء الجن لدينا «.
ونحن لا ندافع أو نهاجم توجهاً بعينه ولذاته، وإنما لما يحمله ويقدمه هذا أو
ذاك من خير أو شر، وكم نخشى أن يأتي الوقت على بني علمان ليقولوها صراحة:
[أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: 82) .
جس نبض إعلامي للتطبيع
في مسرحية ساذجة أثيرت ضجة كبيرة حول زيارة وفد إعلامي جزائري إلى
» إسرائيل «وفي تصريح ناري أعلن الرئيس الجزائري أنهم» ليسوا منا ولا نحن
منهم «في الوقت نفسه الذي كان الرئيس في زيارة لفرنسا وكان في استقباله هناك
السفير الإسرائيلي» إلياهو بن إليسار «كما قام الرئيس أثناء الزيارة بالتعريج على
رؤساء الجالية اليهودية في فرنسا.
وسبق هذه الزيارة المقابلة التي تمت مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود
باراك في مراسم وداع العاهل المغربي الحسن، وقبل ذلك وبعده وأثناءه الأنباء التي
تأتي عن التعاون في المجال الزراعي والدوائي وغير ذلك بين البلدين، لقد بلغت
هذه المسرحية حداً كبيراً من الاستخفاف بعقول الناس، حيث إنهم يريدون زيادة
أواصر الثقة مع اليهود في ذلك الثوب الجديد من أثواب التضليل الإعلامي، وقد
كشف رئيس الوفد الإعلامي الجزائري عن مهتهم بعدما أحس» بزيادة العيار «عن
حده الطبيعي وعن الدور المتفق عليه فقال: لسنا خونة وزيارتنا تقدم خدمة وطنية
لأمتنا! !(153/118)
في دائرة الضوء
الجميع تحت المجهر
أبحاث لها طعم الدم واللحم
الهيثم زعفان
انتشرت في الآونة الأخيرة في بعض الدول العربية مراكز وشركات تعمل في
حقل الأبحاث التسويقية لبعض المنتجات الاستهلاكية، واتضح فيما بعد أنها جزء
من برنامج بحوث الشرق الأوسط الممول بواسطة مؤسسة فورد الأمريكية التي
تقول عنها الكاتبة السورية (حميدة نعنع) : «مجرد ذكر اسم (فورد فونديشن)
يجرنا إلى نقاش مستفيض حول تاريخ هذه المؤسسة والأدوار التي لعبتها في بعض
دول أمريكا اللاتينية والهند وزيمبابوي، وهي أدوار كان ظاهرها المساعدة
الإنسانية بينما استخدمت هذه المساعدة لإجراء بحوث ودراسات انتهت كلها إلى
مكاتب المخابرات الأمريكية» [1] .
وما سوف نتحدث عنه في هذه المقالة يُعدُّ عرضاً مختصراً للدور الفعلي الذي
تقوم به إحدى هذه الشركات في عاصمة دولة عربية كبرى؛ حيث يُخيَّل لغير
المطَّلع أن المسألة في ظاهرها إجراء بحوث ذات طابع تسويقي تجاري؛ إلاَّ أن
حقيقتها هي جمع معلومات تعطي تفصيلات دقيقة عن المرأة داخل محيط المنزل مع
دراسة الحياة الخاصة لفئة محددة من فئات المجتمع عملاً بقاعدة: الوصول إلى
الخصوصية من خلال العمومية.
فريق عمل الشركة يتكون من إداريين وطنيين:
والباحثون (ذكوراً وإناثاً) الذين يقومون بجمع البيانات هم إما جامعيون أو
من خريجي المعاهد المتوسطة أو ممن لا يزالون طلاباً، ومعظمهم لم يسبق له
إجراء مثل هذه البحوث، وهم يتقاضون أجوراً تبدو بالنسبة لهم عالية، كما أنهم
يحصلون على مكافآت ترتبط بدرجة إتقانهم في جمع البيانات، أما المشرفون فهم
ينتقون من الباحثين والذين اكتسبوا خبرات بحثية متعددة داخل الشركة.
وبعد أن تنتهي عملية ملء استمارات البحث يتوقف دور الجهاز الوطني
السابق، ثم تدخل العملية مرحلة جديدة يقوم فيها جهاز آخر من العاملين الذين
يحملون جنسيات شرق آسيا بمهمة تفريغ البيانات المطلوبة والتي ليست لها علاقة
بالمنتج الذي يقومون بتسويقه، ثم تفرغ البيانات وتنقل مباشرة عبر أجهزة
الكمبيوتر إلى الخارج.
ويرأس الجهاز بكامله مدير أمريكي الجنسية يقيم في الطابق الثاني عشر إقامة
كاملة؛ في حين أن كل أعضاء الجهاز يعملون في الطابق الثاني في مبنى ضخم في
أرقى أحياء تلك العاصمة العربية وفي موقع حيوي داخله.
الاستمارة التي تجمع من خلالها البيانات يتراوح عدد صفحاتها بين 10
صفحات و15 صفحة من الورق ذي الحجم الكبير، وهي مكتوبة بالعربية
والإنجليزية، والجزء العربي مكتوب بالعامية الدارجة، وفي ذلك ضمان عدم
اختلاط المعاني عند المبحوث (المجيب) وبذلك لا يحدث خلل في الإجابات.
95% من الأبحاث التي تقوم بها الشركة تحمل نموذجاً داخل الاستمارة يطلق
عليه: (LSM) وهذا النموذج يمثل 80% من استمارة البحث وهو عبارة عن
مجموعة من الأسئلة الشخصية التي ليست لها علاقة بالمنتج المراد تسويقه. الـ 5
% الباقية عبارة عن أبحاث تسويقية لا تضم النموذج السابق، وفي الغالب لا تتعدى
ثلاث صفحات.
بعد نزول الباحثين إلى ميدان جمع البيانات يقوم المشرف بتقسيم المنطقة
تقسيماً دقيقاً تبعاً لتخطيط جغرافي تضعه الشركة.
بعد ذلك يقوم الباحث بطرق أبواب البيوت التي تم تحديدها، ثم يقوم بتقديم
نفسه بالصورة الآتية:
(صباح / مساء الخير. أنا اسمي.... .... من شركة أبحاث تسويق
اسمها.... .... واحنا بنعمل «نحن نعمل» بحث عن عادات الناس والحاجات
اللي بيحبوها «التي يحبونها» واللي مش بيحبوها «والتي لا يحبونها» واحنا
«ونحن» حالياً بنعمل بحث في «هذه» المنطقة دي، ونحب أن حضرتك
تشتركي معانا «معنا» في البحث ده. ممكن تديني «تعطيني» دقائق من وقتك
للإجابة على شوية «بعض» الأسئلة؟ شكراً) [2] .
وبملاحظة استمارة البحث نجد أنها غير مدون عليها اسم الشركة، ولكن على
الباحث أن يذكر الاسم شفهياً؛ وبذلك تخرج الشركة من خلال ثغرة قانونية تعفيها
من مسؤولية الاستمارة.
بعد أن يقدم الباحث نفسه يطلب التحدث إلى أنثى تبلغ من العمر 18 - 45
سنة ثم يقوم بجمع البيانات الأولية الخاصة بها وذلك على النحو الآتي:
«اسم عائلة المجيبة الاسم الأول للمجيبة العنوان» المنزل، المنطقة، مفتاح
المنطقة، الشارع، علامة مميزة، رقم تليفون المنزل، رقم تليفون العمل «.
وتنهى المقابلة إذا كانت المبحوثة أو أي أحد من أفراد أسرتها أو أصدقائها
المقربين يعمل في أحد المجالات الآتية: (أبحاث تسويق صحافة - دعاية -
إعلانات - علاقات عامة - شركات توزيع وبيع سلع استهلاكية بعض الشركات
(مسماة) وهي عبارة عن توكيلات لشركات عالمية تعمل في المجالات نفسها التي
تدَّعي الشركة أنها تسعى لتسويق منتجاتها) .
إنهاء المقابلة على هذا النحو يحقق الإيحاء لدى نساء المنطقة عند مناقشة هذا
الحدث بأن هذه الشركة تتمتع بأخلاق حميدة وبذلك تبدد أي شكوك في أمر هذا
البحث، ولكن الأهم من ذلك أن السيطرة غير المباشرة من قِبَل بعض الجهات
الأجنبية على معظم المجالات السالفة الذكر يجعل من اليسير الحصول على
معلومات محددة عن فئة معينة من خلال الأقارب والأصدقاء العاملين في تلك
المجالات بحسن نية وهنا يتضح تعبير الكاتبة» سناء المصري «: (الجميع تحت
المجهر ولا أحد خارجه) [3] . وفي ذلك توضيح لأهمية عدم التحدث داخل العمل
أو خارجه عن خصوصيات أي قريب أو صديق مقرب يشغل منصباً رفيعاً، أو
يعمل في مجال حيوي.
ومن الأساليب التي يحاولون من خلالها إقناع الأشخاص أن الهدف تسويقي
هو ذلك النموذج الذي يضم الأسئلة الشخصية؛ فهناك سؤال يقول:» هل تم
مقابلتك في أي بحث تسويقي عن أي منتج من (هذه) المنتجات دي خلال الـ 18
شهر اللي فاتوا؟ (الماضية) «مسحوق غسيل - معجون أسنان - شامبو شعر
زيت شعر - كريم بشرة - صابون غسيل - سائل لغسيل الأطباق - صابون حمّام
- مبيّض - منظف متعدد الأغراض - ولا واحد من دول) ؟
إذا كانت هناك مقابلة سابقة فإن المقابلة الحالية تلغى، وهذا قد يشير إلى أن
جميع شركات التسويق تصبُّ في منبع واحد مما يسهل استرجاع البيانات المطلوبة.
في حالة عدم إنهاء المقابلة فإن الباحث يطلب من المجيبة اختيار العبارة التي
تصف وظيفة المجيبة ووظيفة عائل الأسرة الرئيس وكل عبارة تضم تحديد الوظيفة
بالضبط. وهذا مثال لبعض الوظائف التي وردت بالعبارات:
(ضباط جيش درجة ثانية - مديرون - موظفون إداريون رئيسيون -
أصحاب شركات كبرى - موظفون حكوميون على مستوى عالٍ - ضباط جيش) .
يستأنف الباحث أسئلته مطالباً وصف الحالة التعليمية الحقيقية للمجيبة ولعائل
الأسرة. ثم يسأل عن وجود عضوية في أي نادٍ رياضيٍّ، ودرجة هذا النادي،
وهل المجيبة أو أحد من أفراد الأسرة سافر إلى الخارج، وماذا كان غرض السفر:
(عمرة - حج - عمل - تعليم - سياحة) ؟
يأتي بعد ذلك دور الأسئلة المتعلقة بالحالة الاقتصادية فيسأل الباحث المجيبة
عن (الدخل الإجمالي للأسرة - الأجهزة الكهربائية الموجودة بالمنزل بالتحديد -
السيارة (العدد الموجود) . ثم يقوم الباحث دون توجيه أسئلة بملاحظة درجة رقي
المنطقة السكنية ونوع السكن وتدوين ذلك. ثم يطلب الباحث من المجيبة الإجابة
عن السؤال الآتي: (دلوقتي أنا عايز حضرتك» الآن ممكن تذكرين «تقولي لي
كل» كم أفراد «أسرتك من الإناث اللي عمرهم يتراوح بين 18 - 45 سنة،
ممكن أعرف أعمارهم؟) .
ومما يجعل السيدة لا تبالي وهي تعطي للباحث كل هذه المعلومات الخاصة هو
خوفها إن أغلقت الباب ورفضت الإجابة أن يقال عنها إنها متخلفة ومتزمتة، علاوة
على عدم إدراكها لقيمة المعلومة التي تعطيها نظراً لحجمها الصغير؛ وذلك لأنها لا
تنظر إلا لنفسها فقط، ولا تعلم أن» ورشة العمل «يتم فيها تجميع المعلومات
الصغيرة لتكون نسيجاً كبيراً يعطي مؤشرات أوضح لأهداف خفية.
ولعل الخبر الذي أوردته بعض الصحف عن فستان للأميرة ديانا يوضح كيف
أن الشيء الدقيق إذا تم تجميع متشابهاته يكون شيئاً ثميناً يعبر عن معانٍ كثيرة.
هذا الخبر مفاده:» مايكل لام رجل الأعمال الأمريكي يعتزم قص ثوب سهرة
للأميرة ديانا إلى نحو أربعة ملايين قطعة وعرضها للبيع كتذكارات لجمع 100
مليون دولار تخصص لمساعدة أطفال العالم الثالث، ومن المقرر أن تبلغ مساحة
القطعة الواحدة 2 ملليمتر مربع وتباع بـ 25 دولاراً « [4] . فالمعلومة التي تعطيها
المجيبة يمثل حجمها في بعض الأحيان حجم قطعة واحدة من فستان الأميرة الراحلة.
ننتقل الآن إلى الأسئلة التسويقية الخاصة بالمنتج؛ فهناك سؤال يتكرر مع
اختلاف المنتج وفي الموقع نفسه من الاستمارة.. يقول السؤال: (أي ماركة
صابون الحمام اللي حضرتك بتستعمليها الأيام دي للاستحمام» الذي تستعملينه عند
الاستحمام «) إذا كانت المجيبة تستخدم المنتج الذي يتم تسويقه تنهى المقابلة! !
الذي يعني مالك أي مؤسسة هو إحراز المكسب وتجنب الخسارة، وعلم
التسويق يقدم له من الأساليب ما يحقق ذلك الهدف دون التطرق إلى خصوصيات
المستهلك؛ فلماذا لا ينطبق ذلك على مثل هذه الشركات؟
هذه الشركة تنتهج أسلوب التدرج والاستدراج؛ ويتضح ذلك عند الانتقال من
مشروع بحثي إلى آخر؛ فهناك بعض الأسئلة التي توضح هذا الأسلوب والتي
جاءت جميعها في استمارة واحدة، وهذه الأسئلة تحتاج إلى نظرة موضوعية حتى
يمكن الكشف عن مكنونها:
س: يا ترى! كم مرة في اليوم بتستحمي بصابون حمام؟
[مرة في اليوم - مرتين في اليوم - 3 مرات في اليوم - مرة كل يومين - أقل من
كده] تنهى المقابلة إذا كانت الإجابة» أقل من كده «.
س: وامتى» متى «بتستحمي بصابون الحمام؟
[الصبح لما باصحى» عند القيام «من النوم - الصبح بعد الإفطار - بعد
الغذاء بعد الظهر (العصر) - بعد العشاء - بالليل قبل ما أنام - أخرى حدد] .
س: وما درجة حرارة الماء اللي بتستخدميها للاستحمام الأيام دي بصابونة
حمّام؟
[بارد جداً - بارد - دافي يكاد يكون بارد - دافي يكاد يكون ساخن - ساخن
- ساخن جدا ً] .
س: حضرتك عادة بتستعملي صابوم الحمام لأي أغراض؟
[غسل الأيدين - غسل الوجه فقط - غسل الوجه والجسم - غسل الرأس
(الشعر) غسل الجسم فقط» بدون الوجه «- غسل الملابس] .
كلمة» الاستحمام «هنا في» البيان «تحمل معاني كثيرة. لكن بالتدقيق في
إجابات هذه الأسئلة نجد أنها تشير إلى بعض الأشياء الهامة؛ فمن خلال درجة
حرارة الماء وعدد مرات الاستحمام يتم معرفة درجة الاستقرار النفسي والفسيولوجي
للمرأة، ومن ثم تتضح طبيعة العلاقة الزوجية.
هناك نوع آخر من الأبحاث التي يطلق عليها (تسويقية) والتي تقوم بها هذه
الشركة هدفها مساعدة وسائل الإعلام على معرفة عادات المستهلكين لما يقدمه التلفاز
والمواعيد والبرامج التي تناسبهم؛ وهذه أبحاث خاصة في الغالب الأعم بالأسر التي
لديها أطباق استقبال القنوات الفضائية (الدش) والبحث فيها طويل المدى، وتقوم
فيه الأسر بتدوين البرامج والقنوات التي يحرصون على مشاهدتها بصورة منتظمة
وتدوين ذلك في أجندات خاصة تسلم للباحث كل فترة من الزمن. وبهذه الصورة
يسهل تقسيم المجتمع إلى شرائح، وبث الجرعات المركزة بما يناسب كل شريحة؛
ولعل ذلك يتفق مع ما قاله (وليام كار) الذي كان رئيساً لاتحاد الجمهور المسيحي
Federation of christ. Layman حيث يقول:» يقوم عملاء المؤامرة
بالتسلل إلى كل طبقات الشعب ومستويات المجتمع والحكومة بهدف خداع عقول
الشباب وإفسادها عن طريق تلقينهم النظريات الخاطئة « [5] وذلك عند تناوله
للمخطط الذي وضعه ماير روتشيلد عام 1773م في فرانكفورت وهو مخطط يبين
طبيعة المؤامرة التي رسمها هؤلاء للسيطرة على الثروات والموارد الطبيعية واليد
العاملة في العالم.
استقبال المرأة لشخص أجنبي في منزلها قد ينجم عنه عواقب وخيمة؛
وعلاوة على ذلك فإن البحوث الميدانية لها أخلاقيات متعارف عليها دولياً، ولكنها لم
توضع في الاعتبار عند إجراء الشركة لبحوثها ومنها:
1 - عدم التطرق لخصوصيات المبحوث، كما أن البيانات تدوَّن كما يراها
المبحوث لا كما يراها الباحث.
2 - الجهات البحثية (الرسمية) عندما تعتزم إجراء بحث معين فإنها تعلن
عن ذلك في الوسائل الإعلامية مع تحديد أغراض البحث.
3 - وجود خطاب موجه من الجهة البحثية إلى المبحوث يتضمن تعهداً
قانونياً بسرية البيانات، مع الالتزام بعدم كتابة أية علامات تميز هوية المبحوث.
معرفة المعلومات الخاصة بالمرأة خاصة إذا كانت زوجة شخص ذي وضع
معين بالطرق التقليدية للجاسوسية يتكلف مبالغ طائلة قد تتعدى المليار دولار،
وربما لا تأتي بالنتائج الإيجابية، ولعل ما يوضح هذه النقطة الفضيحة التي ذكرها
وليام كارو والتي مفادها:» بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م بفترة وجيزة
أُسِّسَ في بريطانيا نادٍ سرِّيٌّ تكلف مبالغ طائلة، وقد قام هذا النادي بتوفير كل
وسائل الترفيه والتسلية وتسهيلات المتعة وسُمِّي هذا النادي بـ «النادي الزجاجي»
«وقد أُسس ناد يماثل هذا النادي تماماً في ضواحي مدينة مونتريال بكندا خلال
الحرب العالمية الثانية» .
ولقد استُخدم نظام الجاسوسية في النادي؛ فكل عضو رجلاً كان أم امرأة كان
جاسوساً على الآخرين ينقل أخبارهم إلى رؤسائه، فتتكون من الإخباريات معلومات
كانت تطبع وتسجل فيما يسمَّى «الكتاب الأسود» فيُذكر في هذا الكتاب عيوب
الأفراد ورذائلهم ونواقصهم الخاصة ونقاط ضعفهم، كما تُذكر أوضاعهم المالية
وأحوالهم العائلية ومدى تعلقهم بأقربائهم وأصدقائهم، كما تدون صلاتهم وتأثيراتهم
على كل من رجال السياسة المرموقين ورجال الصناعة ورجال الدين. والمحاولة
الوحيدة قبل الفضيحة لكشف حقيقة هذا النادي آلت إلى الكتمان في حين أن ذكر
«الكتاب الأسود» كان قد تم وصوله إلى البرلمان وإلى الصحافة، فكانت سياسة
الحكومة تميل إلى الاعتقاد بأن فضيحة بهذا الحجم قد تسبب كارثة وطنية في وقت
يواجه فيه الجيش ضربات بحرية وبرية وجوية قاسية، عندئذ بدأت الصحافة
(التحررية) تهاجم رئيس الوزراء مما أدى إلى استقالة الحكومة برئاسة السيد
إسكويت 1916م « [6] .
هذه الفضيحة مثال للجاسوسية التقليدية وما تتكبده من ضرائب عالية الثمن،
ومن ثمَّ فإن طريق الأبحاث التسويقية يكون أيسر وأفيد ولا يتكلف إلا عدة ملايين
من الدولارات. وبصورة شبه رسمية (الجاسوسية المقننة) تقول سناء المصري
عنها:» وبدلاً من التقارير المقتضبة المأخوذة من أجهزة الدولة والأعوان غير
الخبيرين بشؤون البلاد تأتيها التقارير الآن من أبعد النقاط المغلقة في صورة أبحاث
لها طعم الدم واللحم « [7] .
__________
(1) حميدة نعنع: زمن الطعنات في الظهر، الأهالي، 17 سبتمبر، 1986م.
(2) العبارات المنقولة عن الاستبيان جرى معالجتها نقلاً من العامية إلى الفصحى.
(3) سناء المصري: تمويل وتطبيع (قصة الجمعيات غير الحكومية) ، سينا للنشر، القاهرة، 1998، ص 37.
(4) الأهرام: فستان ديانا الممزق، 22 فبراير 2000، السنة 124، العدد: 41350، الصفحة الأولى.
(5) وليام غاي كار: أحجار على رقعة الشطرنج [ترجمة سعيد جزائري] ، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة عشر، 1991م، ص 77 86.
(6) وليام غاي كار: المرجع السابق، ص 184 187.
(7) سناء المصري: مرجع سبق ذكره، ص 37.(153/124)
اقتصاديات
البعد الاقتصادي للشراء
د. زيد بن محمد الرماني
«ذات يوم أوقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله
(وقيل جابر بن عبد الله) رضي الله عنهم وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال
عبد الله: للسوق. فقال له الفاروق: لماذا؟ ! فأجاب: لأشتري لحماً، وسوَّغ
ذلك الشراء بأنه اشتهى لحماً فخرج للسوق ليشتري بعضاً منه، فقال له الفاروق:
أكلما اشتهيتَ شيئاً اشتريتَه؟» [1] .
إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة، خاصة ونحن نشهد في
أيامنا هذه سباقاً محموماً يترافق معه أساليب تسويقية جديدة، وأساليب إعلانية مثيرة،
ووسائل إعلامية جذابة، ودعايات كثيفة من أجل الشراء والمزيد منه.
وقد تبيّن من خلال تحقيقات عديدة أن شريحة واسعة من الناس تشتري ما لا
تحتاج، وتستهلك من المنتجات والسلع أكثر من اللازم.
يقول وليام بنّ: «إن ما ننفقه على أغراض الزينة الزائفة يكفي لكساء جميع
العراة في العالم» [2] .
وهكذا أصبحت حياتنا المترفة تملأ البطون بما لذّ وطاب، وتغذي الأرواح
بأشياء فارغة وفاسدة؛ فكم هو سخف الإنسان الذي يتظاهر دوماً بالذكاء والمعرفة!
يقول سمايل: «إن الحياة السهلة المترفة لا تدرّب الرجال على بذل الجهد أو
مواجهة الصعاب، ولا توقظ فيهم تلك المقدرة اللازمة للجهد الفعال في الحياة» [3] .
بعض الرجال يعتبر اهتمام النساء الزائد بالموضات وبضرورة التجاوب معها
انعكاساً لعدم تحلّيهن بقدر كاف من المعقولية في التفكير.
يقول علي غلوم: «الشائع بيننا أن المرأة أكثر إسرافاً من الرجل، سواء في
ملبسها أو إنفاقها، ولكن هناك من الرجال مَنْ هم أكثر إسرافاً في أموالهم وسلوكهم
ومقتنياتهم؛ فالأمر نسبي ويرتبط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو
الإسراف» [4] .
وتقول صباح المالكي في معرض حديثها عن الإسراف: «من أسباب
الإسراف حاجة المرأة لتملك بعض الأشياء التي ترى أنها في حاجة إليها لتجميل
منزلها، أو لإضفاء البهجة على الأسرة والأبناء بوجه خاص من ألعاب وملابس
واحتياجات» [5] .
وتؤدي الأنانية والنفعية الشخصية في كثير من الأسر والمجتمعات إلى
الإسراف في استغلال مصادر الدخل.
ومن ثم ظهر على الساحة هوس تسوقي غريب وإدمان شرائي كبير، وحمى
استهلاكية عجيبة، يؤجّج ذلك كله إعلانات مثيرة ودعايات جذابة ومسابقات مغرية
وحوافز مشجّعة.
وأكثر الإعلانات أثراً هي تلك التي يمكن إعادتها بصيغات متعددة، وفي
أماكن يمكن رؤيتها من قِبَل أعداد كبيرة من الناس كبرامج التلفزيون المحبّبة
للمشاهدين والصحف والأسواق المركزية.
تقول فوزية خليل في معرض مشاركتها في تحقيق حول «هوس التسويق
عن المرأة» : إن هوس التسوق عادة ما يكون انفعالياً، ويمثِّل عند المرأة طريقة
تعويض عن معاناة عاطفية، أو نتيجة حرمان أو قلق أو تعاسة زوجية أو قلة حنان،
وقد يكون هذا الهوس التسوقي عند النساء أكثر شيوعاً [6] .
وفي التحقيق نفسه تقول بدرية هطيري: هناك من النساء من يشترين
أغراضاً ليست ضرورية ولا في حدود إمكانياتهن، ويدفعن بالرجال إلى دفع الكثير
من أجل إرضاء رغباتهن الجنونية.
ومن أهم نتائج تحقيق أجري حول «الإعلانات التجارية والإسراف» :
الإعلانات تدفع المرأة للشراء والمزيد منه، كما أن المرأة تشتري السلعة عادة على
سبيل التجريب نتيجة الإعلان عنها [7] .
والمسابقات العديدة تغري الأطفال بالشراء بكثافة، ووصل التحقق إلى نتيجة
مهمة: الإعلانات التجارية مسؤولة إلى حد كبير عن دفع الناس إلى الإسراف
وخاصة المرأة، جرياً وراء التفاخر والمباهاة أو حباً للاستطلاع أو رغبة في التقليد.
إن عادة التقليد بين الناس لا تقتصر على قطر من الأقطار أو جنس من
الأجناس، بل إنها عادة عالمية يصعب تغييرها.
إن النفس البشرية نفس لا تشبع، وفي الوقت نفسه لا تقنع؛ فهي طُلَعة لكل
نوع، متشوِّفة لكل شكل، فضولية لكل لون.
نعوذ بالله من عين لا تدمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تقنع، ومن
بطن لا يشبع، ومن دعاء لا يستجاب له.
التخمة، والسمانة، والسرف، والتبذير، والترف، والتبديد، والاستنزاف،
وتلال النفايات والقمامة، والترهل، واللامبالاة، وكفر النعمة ... ما هذه إلا بعض
آثار لا شك أنها تتولد من السلوك الشرائي غير المنضبط، ومن الإدمان الاستهلاكي
غير المتزن، ومن الإنفاق البذخي غير الرشيد.
إن صناديق القمامة تشهد أكياساً من الزبالة وألواناً من النفايات المنزلية أشبه
بالتلال نتيجة الاستهلاك المنزلي الشره، وصدق من قال: إن الاستهلاك هو طوفان
التلوث القادم [8] .
فإذا أضفنا إلى ما سبق شيوع أخلاقيات الأنا والحسد والجشع والمباهاة والتقليد
وكسر قلوب الفقراء والمساكين والمحتاجين واختلال الميزانيات الأسرية والاستدانة،
فإن هذا كله يستلزم أن نقف في وجه الوحش الاستهلاكي والغول الشرائي
والإدمان الإنفاقي والهوس التسويقي من أجل أن يغلق وبشكل نهائي الملف الأسود
للاستهلاك في كل بيت، وعند كل أسرة وداخل كل مجتمع وفي أي دولة.
إننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم أُنفق هذا
على إزالة أسباب المأساة من حياة الكثيرين لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.
وإذا تمثلت أعمالنا بالتدبير وحسن التصرف فإننا نستطيع التخلص من
النقيضين وهما: الإفراط في الإنفاق والاستهلاك، وحالات العوز والفقر؛ إذ يمكن
للأول سدّ حاجات الثاني بحيث يقترب النقيضان إلى معدل معقول.
إننا نرحب بالمعلومات الجيدة التي يجري تفسيرها بتعقل، ولكننا لا نريد من
أطبائنا الاقتصاديين إخفاء الحقائق عن المريض.
أيها المستهلك! اسعَ لأن تكون سعيداً لا ثرياً؛ ففي السعادة قناعة لا يوفرها
الثراء، وإن أردت السعادة فوجّه اهتمامك إلى قضاء حاجاتك الأساسية، ولا تكترث
بما هو زائد عنها، ولتكن حاجاتك قليلة، واقضها بنفسك.
وفي الختام أقول: هل ما زلنا مصرِّين على أن نشتري كل ما نشتهي؟ إذا
كانت الإجابة بـ (نعم) فإن علينا أن نواجه مستقبلاً مخيفاً وغولاً خطيراً، ونهاية
سيئة، وإن كانت الإجابة بـ (لا) فعلينا أن نصحح أوضاعنا، ونقوّم استهلاكنا،
ونرشِّد إنفاقنا لنكون أفراداً صالحين، ولنبني مجتمعاً متماسكاً، ولنحافظ على هوية
أمتنا الإسلامية [9] .
__________
(1) أثر الفاروق: أورده ابن أبي الدنيا، إصلاح المال، دار الوفاء، المنصورة، 1410هـ، ص 312.
(2) قول وليام بنّ: وضع العالم 1991م، ليستر براون، الجمعية المصرية لنشر الثقافة، القاهرة، 1992م، ص 244.
(3) قول سمايل: وضع العالم 1991م، ليستر براون، مرجع سابق، ص 251.
(4) علي غلوم: تحقيق «هوس التسوق عند المرأة» ، جريدة المدينة، عدد 9، 1410هـ، ص 22.
(5) صباح المالكي: تحقيق «هوس التسوق عند المرأة» ، مرجع سابق، ص 23.
(6) فوزية خليل: تحقيق «هوس التسوق عند المرأة» ، مرجع سابق، ص 22.
(7) تحقيق: «الإعلانات التجارية والإسراف» ، جريدة اليوم، عدد 6832، 1412هـ، ص 11.
(8) صناديق القمامة: للكاتب، مقالة بعنوان: مَن المسؤول عن أكوام القمامة، مجلة المستقبل الإسلامي، الرياض، عدد 85، 1419هـ، ص4.
(9) الملف الأسود للاستهلاك: للكاتب، مقالة بعنوان: فيروس الاستهلاك متى يموت؟ مجلة الدعوة، الرياض، عدد 1603، 1418هـ، ص 52.(153/130)
قضايا ثقافية
الحضارة والتحضر
السقوط في التبعية الاصطلاحية
محمود سلطان
عندما انتقد (جاكوبز وستيرن) مصطلح (حضارة) ووصفه بأنه (مصطلح
فضفاض مشكوك في قيمته) [1] كان يعني أن ثمة طعنًا على صدقية الاجتهادات
التي تصدت لتعريف المصطلح، ولأنها أي تلك الاجتهادات - يشوبها شكوك في
حيدتها العلمية، على الأقل، وربما يكون اتساع شقة الخلافات بين علماء
السوسيولوجيا (علماء الاجتماع) حول المضمون المعرفي للمصطلح - والذي لا
يزال قائمًا حتى الآن - هو الذي حمل (جاكوبز) على انتقاد النزعة نحو الإسراف
في الاحتكام إلى مصطلح (حضارة) ومشتقاته في قياس مستويات تحضر
المجتمعات. بيد أن ثمة ملاحظات أخرى أكثر أهمية، هي - في اعتقادتنا - في
طليعة الأسباب التي تدعونا إلى عدم الارتياح (للوظيفة المعيارية) للمصطلح،
ولعل أبرزها: أن الصياغات المختلفة التي تناولته يُشْتَمُّ منها رائحة التحيزات
الأيديولوجية والسياسية والعرقية (السلالية) بشكل واضح، وإذا علمنا أن جل هذه
الصياغات قد خرجت من تحت عباءة علم الاجتماع الرأسمالي (أو الاشتراكي)
الغربي، فإن استخدام المصطلح، لم يكن بريئًا (للأغراض العلمية) ، وإنما دخل
حلبة (التنظير الأيدلوجي) للحضارة الغربية، على النحو الذي يحفظ (للأخيرة)
استعلاءها (وازدارءها) لثقافة الآخرين وحضارتهم.
فعندما استخدم kant كلمة حضارة بمعنى (السلوك) قوبل بنقد شديد، خاصة
من علماء الاجتماع الغربيين في الوقت الحديث من الذين عاصروا صعود
الرأسمالية الغربية في الفترة من القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين،
وكانوا - في غالبيتهم - شديدي الحرص على استبعاد الاتجاهات التي ثبت في
يقينها أن الحضارة تعبر عن الإنجاز (الروحي والأخلاقي) للأمة! إذ إن التسليم
بهذا التعبير الأخير يعني تراجع الحضارة الغربية من مركزيتها الاستعلائية لتتبوأ
منزلة أدنى، وهي المكانة التي يأبى الغربيون أن يروا حضارتهم فيها، ومن ثم
درجوا على استخدام (فائض المادي) معيارًا للحضارة؛ إذ إن هذا الاستخدام -
وبحكم تقدمهم التكنولوجي - يُدخِل لهم إحساسًا زائفًا بالتفوق الحضاري.
نذكر هنا - على سبيل المثال لا الحصر - أن ألمانيا في عهد النازية الهتلرية
والولايات المتحدة الأمريكية حتى عشية الحرب العالمية الثانية كانتا تفتقران إلى
أي مشروع أخلاقي (أو إنساني) يمكن أن يحملاه إلى العالم؛ فالأولى ارتكزت إلى
(التفوق العرقي) الذي أباح للألمان اجتياح العالم وتدميره بوحشية، أما الثانية
فكان يطاردها شؤم الإبادة الجماعية للهنود الحمر، بالإضافة إلى افتقارها إلى
التراكم الحضاري الممتد عبر التاريخ، أي أنهما كانا يعانيان - بوعي أو بغير
وعي - من عقدة العجز عن القيام بدورهما الرسالي، ولم يجدا عوضًا عن هذا
العجز إلا أن يشهرا في وجه العالم (تقدمهما المادي) لإيهامه بأنهم الأكثر
(تحضرًا) ولقد شارك واحد من أبرز علماء الاجتماع الألمان، وهو
(ألفريد فيبر) - والذي عاصر صعود الهتلرية - في تزييف الوعي بمفهوم
(الحضارة) للتستر على السقوط الأخلاقي للنازية؛ حيث حمل على كل من
رأي في الحضارة تعبيرًا عن الإنجازات الروحية للشعوب، واعبرها دلالة على
(العلم والتكنولوجيا فحسب) وبالمثل نحا علماء الاجتماع الأمريكيون المنحى نفسه،
حتى إن (ميرتون) استبدل في مؤلفاته - عشية إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي
(هيروشيما) و (ناكازاكي) اليابانيتين - كلمة (حضارة) بمصطلح (المستوى
التكنولوجي) ، تمهيدًا لتسويق النموذج الأمريكي في التكنولوجيا والاقتصاد
والأنساق السياسية، والذي كان يقفز قفزات واسعة نحو (العولمة) في ذلك
الوقت.
وكان أبرز تجليات (خروج المصطلح) وانفلات صياغاته عن (الحياة
العلمية) ودخوله ساحة (التحيزات الأيديولوجية) هو ظهور مصطلح (حضارة
الأطلسي) الذي زعم أن الأوربيين استوطنوا أمريكا وأن حضارة الأخيرة كانت
بالنتيجة وثيقة الصلة بأوربا بالمعنى الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي. ولا شك
في أن الدعاية لهذا المصطلح كان يهدف إلى إثبات أن أمريكا دولة قديمة وأنها
ليست (مقطوعة) حضاريًا، وأنها سليلة الحضارة الأوربية من جهة، والتأكيد
على وجود (جذور) تاريخية بين الحلف العسكري - السياسي الراهن بين المنظمة
المعروفة باسم (حلف شمال الأطلسي - الناتو) من جهة أخرى [2] .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعريف الذي وضعه (تاليور) E. B. Tylor
لمفهوم الحضارة في كتابه (الثقافة البدائية) لا يزال يحظى برضى قطاع ليس
بالقليل من علماء الاجتماع والأنثروبولجيا الأكثر رشدًا واستنارة في العالم وقبولهم
له، ويصفه (جي روشية) بأنه أكثر التعريفات جدة [3] . وقد استخدم (تايلور)
مفهومي: (ثقافة، وحضارة) بمعنى واحد، ويمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر؛
إذ يقول في مطلع كتابه: (إن الثقافة أو الحضارة، بالمعنى الأثنوغرافي الواسع
للكلمة هو هذا المجموع المتشعب الذي يضم المعارف والمعتقدات والفن والقانون
والأخلاق والتقاليد وجميع الإمكانات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه
عضوًا في مجتمع معين) [4] .
لقد اقترب هذا التعريف من المضمون الأكثر قبولاً لمفهوم الحضارة، وأعاد
للبعد الروحي والأخلاقي مكانته المركزية في تقييم درجات (التحضر) والتخلف
لدى الشعوب، وفي هذا الإطار يقول د. حسين مؤنس: (فقد يكون الأمي البسيط
أقرب إلى مفهوم الحضارة من المتعلم، بل المتبحر إذا كان الأول محتفظًا مستواه
المعنوي وكرامته الإنسانية متمسكًا بالفضائل خاليًا - ما أمكن - من الأحقاد
والمطامع، وإذا كان الثاني قد انتقل من يده ميزان القيم واضطرب مقياسه الخلقي
والمعنوي) [5] ، أي أنه ليس من الضرورة أن يفرز مجتمع متقدم ماديًا (حضارة)
تفي بحاجات بنية، فربما تمنحهم الإحساس (باللذة الحسية) ولكنها تفتقر إلى
منظمة القيم التي تشعرهم بالأمان؛ فالمجتمع العربي المسلم ربما يعتبر (متخلفًا)
إذا ما تم النظر إليه بمعايير (التقدم المادي) ، ولكن التزام أبنائه بالزكاة مثلاً أو
بالهدي النبوي الشريف: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد،
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [6] ، يعد أكثر
تحضرًا من نظيره الغربي المتقدم عنه ماديًا والذي يستقي قيمه وتقاليده من (تمجيد
الفردية) التي جعلت الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان كما وضح ذلك (هوبز) .
ولقد أدت سيادة التعريفات الغربية المتحيزة لمفهوم الحضارة (الذي بيناه في
مستهل هذه الدراسة) في أوساط النخبة العربية المتأوربة إلى الانزلاق في مأزق
(التبعية الفكرية والثقافية) للدول الصناعية الكبرى، ويظهر ذلك بجلاء
عندما تستشار - هذه النخبة - حول الإشكالية التي لم ينفضَّ الجدل بشأنها، منذ
بدايات القرن الحالي وإلى الآن وهي: ماذا يؤخذ من الغرب المتقدم، وما يُرَدُّ؟
إذ يكاد هؤلاء يُجمِعون على أن يؤخذ كل ما تنتجه أوربا ولا يراد منه شيء، أي
نقل (الآلة) بجانب (الحضارة) أو الثقافة أو مجموعة القيم السائدة التي تطورت
الآلة في كنفها، وقسر الواقع العربي أو جلده إلى أن ينصاع لها أملاً في إحداث
ثورة صناعية توازي تلك التي ينعم الأوربيون بها. ولعنا نتذكر دعوة (طه
حسين) الشهيرة، في بداية هذا القرن في كتابه المثير للجدل (مستقبل الثقافة في
مصر) [7] حين دعا صراحة إلى أن نحذو حذو أوربا في حلوها ومرها، خيرها
وشرها ... ! بل إن الأمر تطور إلى ما هو أخطر من ذلك؛ إذ حلت (قيم) الغرب
محل المعيار الرباني الخالد (القرآن والسنة) في قياس القيم السائدة في المجتمع،
وما ينفع المسلم وما يضره، حيث قاس (قاسم أمين) قيمًا حضارية إسلامية
كـ (الحجاب) مثلاً بمعايير (حضارة الغرب) ؛ لأنه الطرف (الأكثر تفوقًا ماديًا)
إذ يقول (هل يظن المصريون أن أولئك القوم (بقصد الأوروبيين) بعد أن بلغوا
من كمال العقل والشعور مبلغًا مكنهم من اكتشاف قوة البخار، والكهرباء،
يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا فيه خيرًا؟ كلاً!) [8] .
وقاسم أمين ليس استثناءًا، إذ إن رواد ما يسمى بـ (حركة النهضة العربية
الحديثة) اعتقدوا جميعًا أن (الحضارة) هي وليدة عبادة (العلم) ، أو أن يحل
(العقل) محل (الله) ! ! ولعلنا نذكر دعوة (شبلي شميِّل) إلى الاستعاضة
عن الدين بالعلم وبالأخص العلم الطبيعي (الإلحادي) [9] ، وإلى هذا النحو ذهب
أقرانه من دعاة (الظلامية) والمتخذين من (التنوير) واجهة للتخريب الفكري
والعقلي الذي مارسوه باسم الاستنارة والتحديث.
وصفوة القول هنا: أن الحضارة هي مرادف آخر لتشكيلة من القيم الأخلاقية
المنبثقة من أسس دينية (إما من نبوة أو من دعوة حق) كما يقول ابن خلدون [10] ،
وتأسيسًا على ذلك التحضر يعني (التدين) لأن المتدين يضبط علاقاته بالمجتمع
والكون والعالم (مبدأ) أخلاقي معين، بينما من يتحرر من سلطة القيم والمثل
والأخلاق يعطي نفسه الحق في الحصول على ما يبغي، ولو كان على حساب
الآخرين. ولنا أن نتوقع ما يمكن أن يحدث لو أن المجتمع يشكِّله مثل هذا الأنموذج
الوحشي من البشر؛ إن النتيجة التي لا يمكن تحاشيها هي (حرب الجميع ضد
الجميع) .
فالحضارة أو التحضر - إذن - هي منهج هداية بضبط علاقة الإنسان
بمحيطة الاجتماعي (والمادي أيضًا) ، وإن غياب هذا المنهج يعني: الاستباحة
والتحلل الأخلاقي، والتفسخ الاجتماعي، يعني: (التخلف) بمعناه الشامل.
__________
(1) راجع أيكه هولتكرانس، قاموس مصطلحات الأثلولوجيا والفلكور، ترجمة د محمد الجوهري -
د/ حسن الشامي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط 2 1999، ص 178- 184.
(2) راجع ج ب فراتسوف، نقد علم الاجتماع البرجوازي، ترجمة: رجاء أحمد، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي نيقوسيا براغ، 1988، ص 125، 126.
(3) راجع جي روشيه، مدخل إلى علم الاجتماع العام (الفعل الاجتماعي) ترجمة، مصطفى شلبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، طبعة 1983م، ص 131.
(4) صدر كتاب (تايلور) بإنجلترا عام 1871م.
(5) راجع د حسين مؤنس، الحضارة طبعة الكويت 1978م، ص 53- 57.
(6) رواه البخاري، ح/ 5552.
(7) صدر هذا الكتاب عام 1938م.
(8) نقلاً عن جمال سلطان، جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث، مركز الدراسات الإسلامية، برمنجهام - بريطانيا، الطبعة الأولى 1991م، ص 58، 59.
(9) انظر: السيد ولد أباه، أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي المعاصر، إشكالية نقد العقل نموذجًا، مجلة الكاتب العربي، السنة 9 العدد 28، تصدر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، طرابلس، ليبيا، ص 41.
(10) مقدمة ابن خلدون، طبعة دار الدعوة، بيروت، 1981م، ص 124.(153/134)
المنتدى
الغيبة
بدر السحيل
يتورع الكثير من المسلمين عن اللحوم المستوردة لا سيما المعلبة منها
ويتوقَّوْن في ذلك أشد التوقِّي مخافة أن تكون من اللحوم المحرمة، أو أن تكون قد
ذبحت على خلاف الطريقة الشرعية. وهذا سعي مشكور. ولكنْ هناك لحوم لطُفت
حتى خفيت على المتورعين، ولم تدركها رقابة المتوقِّين؛ والسر في هذا أن اللحوم
التي رغب عنها المتورعون لحومٌ حسيَّة مشاهَدة، فلا تخفى على الرقابة؛ لأن
الذي يتناولها يعالج أكلها. بينما الأخرى لا يحتاج إلى ذلك آكلها. وكلاهما يُسمى
أكلاً، قال تعالى: [أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً] (الحجرات: 12) .
إنها «لحوم البشر.. الغيبة» نعم قد سماها الله سبحانه بذلك [أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ] (الحجرات: 12) وتكاثرت الأدلة على تحريمها وبيان خطرها
وقبح التلبس بها.
فعن ابن مسعود قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل فوقع
فيه رجل من بعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تخلَّلْ. قال: مِمَّ أتخلل؟
ما أكلتُ لحماً! قال: إنك أكلت لحم أخيك» [صححه الألباني] .
تنبيه:
لقد انغمر الناس في هذه المعصية؛ ولا أدل على ذلك من واقع الناس، فترى
أن الغيور على محارم الله أن تُنتهك عندما ينكر عليهم هذه الموبقة يُقابَل بإجابةٍ
تواترت عليها الألسنة وألفتها: «ألا تريدنا أن نتكلم» فسبحان الله كأنّ الكلام كلّه
منحصر فيما حرّم الله على عباده. فمن تأمل هذه المقولة تبين له مدى تمزيق الجسد
الواحد نفسه بدلاً من أن يشدّ بعضه بعضاً. وكأننا لم نسمع قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»
[رواه البخاري، ح/6135] .
هذا هو جواب تلك المقولة؛ إذ ليس من الخير أن تقارف تلك الكبيرة؛ فالزم
الصمت إن لم تقل خيراً فإن «من صمت نجا» .
تساؤل:
لعلك تتساءل معي كيف يقع الصالحون على وجه أخص في هذه الموبقة على
الرغم من أنهم أوْلى الناس بالبعد عنها؟ أقول: هناك أسباب أوقعتهم في ذلك
يشترك معهم بقية الناس فيها. ومنها:
1 - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء؛ حيث يرى أنه لو أنكر عليهم استثقلوه
فيما بينهم في ذلك.
2 - التشفي، فكلما غضب من أحدٍ شفى قلبه بغيبته.
3 - إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره والحط من قدره.
4 - اللعب والهزل؛ فربما أراد أن يُضحك الناس بمحاكاة فلان وفلان في
قوله وفعله.
5 - الحسد؛ فإذا تكلم الناس بمدح لرجل قال: إن فيه وفيه، وأنا أخبر به
منكم. فلا سبيل لديه للنيل من المحسود إلا القدح فيه.
6 - كثرة الفراغ والشعور بالملل؛ فلا يجد شغلاً إلا بذكر عيوب الناس؛
وذلك لأنه لم يستغل وقته بطاعة الله؛ فالواجبات أكثر من الأوقات، والسلف كانوا
يقولون: «النفس إن لم تشغلها شغلتك» .
7 - طلب موافقة الرئيس والمدير ومجاراته في تنقُّص من لا يحب من
مرؤوسيه لنيل الحظوة لديه.
تأمل:
إنك تعاشر أقواماً لا يُحْصَوْن كثرةً: منهم القريب، ومنهم الصديق الحبيب،
ومنهم الأستاذ، ومنهم الجار؛ فاحذر غداً أن تراهم ماثلين أمامك بين يدي الله،
ترى أحبابك وخلاَّنك يطلبون رد مظلمة أعراضهم منك!(153/138)
المنتدى
تطاوعا ولا تختلفا
أكرم عصبان الحضرمي
إن المتأمل لشجرة الدعوة المباركة ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة
يرى امتداد ظلالها الوارفة يوماً بعد يوم، وإتيان ثمارها اليانعة كل حين، إلا أن
العواصف تتتابع لاجتثاثها، والأمراض تهدد نموها وانتشارها، ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون، ومن هذه الأمراض والعواصف عاصفة الاختلاف
العاتية بين أبنائها.
ذلك الاختلاف الهائل الذي أدى إلى أمرين خطيرين:
1 - الشماتة بالدعاة ودعوتهم، فيكون التنافر والتنابز مجلبة لازدرائهم؛
حيث يجد المتربصون بالدعوة فرصة عظيمة للنيل من أصحابها والشماتة بهم، كما
قال هارون لموسى عليه السلام حين أخذ برأسه: [فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ]
(الأعراف: 150) .
2 - انجفال المدعوين عن الدعوة، والنفرة من أصحابها لعدم اتفاقهم في
الدعوة أو عدم مراعاة آداب الخلاف؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي
موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن داعيين: «تطاوعا
ولا تختلفا» [1] ، وقد قيل لابن مسعود: عبتَ على عثمان ثم صليتَ أربعاً! قال:
الخلاف شر [2] .
وللاختلاف والفرقة بين الدعاة أسباب عديدة، من أهمها:
أ - الدعوة إلى النفس أو الجماعة: إن الدعوة يجب أن تتمخض خالصة
للكتاب والسنة، فيكون استتباع الناس بعلم: [يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ] (مريم: 43) ، وهدفه الهداية إلى الحق: [فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياًّ]
(مريم: 43) ، [اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 38) ، وليحذر
الداعي أن يقع في المحذور فيدعو إلى شخصه أو نهجه أو جماعته، وإلى هذا الأمر
أشار القاسمي رحمه الله بقوله: «ولم تجد سبيلاً الطوائف المختلفة لاستتباع الناس
لها إلا بالغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها والإيقاع بسواها حسب ما تسنح لها
الفرص وتساعدها الأقدار وإن كان بالسنان واللسان» [3] .
ب - الغبن والبغي: الغبن في حق الدعوات المخالفة من أعظم أسباب
الاختلاف والفرقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: «لأنَّ إحدى الطائفتين لا
تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من
الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدر الاختلاف
البغي» [4] .
فعلى الداعية أن ينظر إلى سبق إخوانه في الخير والفضل، ويجعل من ذلك
شفيعاً لهم في التأدب معهم في زلاتهم وَهَنَاتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في
موسى عليه السلام حين ألقى الألواح، وجر بلحية أخيه، وفقأ عين ملك الموت:
«لم يعتب عليه ربه؛ إنه وقف تلك المقامات العظيمة، وقاوم أكبر أعداء الله،
وعالج بني إسرائيل. وذو النون لما لم يكن في هذا المقام سجنه في بطن الحوت
من غضبة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً» [5] .
ج - الانتساب المفرق: لا يكمن خطر الخلاف في تنوع العمل وتعدد
الجماعات غالباً ولكنه في التعصب لهذا العمل أو ذاك، بحيث يصير معقد ولاء
وبراء، ومحبة وبغض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا تفقه الرجل بطريقة
قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم
العِيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم» [6] ، وقال أيضاً: «ولا يحتاج
الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاده إفادة دينية هو شيخه فيها،
وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن
يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ
وغيرهم» [7] .
د - الحسد: إن داء الحسد جر كثيراً من هذه المشاحنات بين الجماعات أو
الدعاة، وهذه قصة تبين ذلك. قال الإمام الذهبي: كثر أصحاب الإمام البربهاري
فاجتاز الجانب الغربي، فعطس فشمّته أصحابه، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها
الخليفة فأُخْبِر بالحال، فاستهولها، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلبه حتى نودي في
بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري، فاختفى [8] .
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ الألباني، 3/142.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ الألباني، 1/394.
(3) كتاب الجرح والتعديل، لجمال الدين القاسمي.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، 40.
(5) انظر مدارج السالكين، لابن القيم، 2/456.
(6) الفتاوى، 20/8، وانظر: 20/164، 3/347.
(7) الفتاوى، 12/512، وانظر: 12/514.
(8) انظر: السير: 15/92.(153/139)
المنتدى
البداية صعبة ولكن!
سكينة الفرحان
جاء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته الخاتمة الإسلام إلى البشرية وبها تمام
الحياة السعيدة للفرد والمجتمع وركَّزتْ الشريعة على فهم أصول الدين وحثت على
السير الجاد والأخذ بها لعبور هذه الحياة إلى جنة ورضوان ونعيم مقيم. وجعلت
العقل مناط التكليف في الواجبات الدينية والأخلاقية.
فالعقل مهتدياً بالوحي يرقى بالإنسان في حياته فكرياً واجتماعياً ومنهجياً.
يمكن للمرء أن يكتسب في حياته علوماً وخبرات تجعله منافساً لغيره في
مختلف الميادين والصُّعُد.. شأنه في ذلك شأن من تعلم الرماية فما يزال يمارسها
حتى فاق معلمه، أو ذلك الذي تعلم نظم الشعر؛ فما زال يعالجه حتى هجا معلمه
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
أعلِّمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وآخذه على نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
قد تكون الممارسة في بدايتها صعبة وطرقها وعرة لكنها بعد حين من التصبر
والتمرُّس تسهل معاناتها وتستطاب ثمراتها.
وإذا نظرناه من وجهه السلبي الآخر وجدنا أن بعض الناس يُستدرَجون إلى
سلوك طرق الشهوات وامتطاء صهوات الملذات إما قصداً من أنفسهم أو خضوعاً
لإغواءات آخرين من شياطين الإنس والجن!(153/140)
المنتدى
تعقيب
عبد الله بن علي الحمدان
أود التنبيه إلى ما ورد في قصيدة: مشبب القحطاني «من البلقان إلى
الشيشان» في العدد: (151) ، حيث قال في البيت العاشر في الشطر الأول:
«يا رحمة الله» «وهذا من باب دعاء الصفة، والدعاء إنما يصرف لمن اتصف
بها سبحانه لهذا فلا يجوز هذا الدعاء، وقد غلَّظ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى النهي عن الدعاء بالصفة، وقال: إنه كفر.
ولا يسوغ الدعاءَ بالصفة جوازُ الحلف بها؛ فإن الحلف بها من باب التعظيم،
أما الدعاء فهو عبادة، والعبادة لا تصرف إلا لله تعالى، فكيف تعبد صفته سبحانه
فتدعى؟
فدعاء الصفة لا يجوز، وأما التوسل إلى الله بصفاته فمشروع كما وردت به
السنة وأدعية السلف، وكذلك الحلف بها جائز، لأنه من باب التعظيم» نقلاً من
معجم المناهج اللفظية للعلامة بكر أبو زيد حفظه الله ونفعنا بعلومه ص 579
باختصار.(153/140)
المنتدى
يا دعاة الإسلام بشروا وأبشروا
عبد العزيز بن عبد الله الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، نبينا
محمد عليه وعلى آله وصحابته أفضل الصلاة وأتم التسليم ... وبعد:
فإن الناظر بعين البصيرة إلى واقع الأمة الإسلامية وما تمر به من فتن
ومضلات يعلم مدى حاجة الأمة إلى الدعاة المخلصين والأئمة المهديين؛ ومن يرى
أو يسمع عن الهزائم المتتالية والمصائب المتتابعة التي تمر بها الأمة يعلم علماً يقينياً
أن هناك خللاً وتقصيراً، وثمة ثقب ينفذ منه الأعداء، ويلج منه أهل الفساد؛ ذلك
أن المصائب والفتن المتتابعة تولد لدى بعض الدعاة خمولاً وهزيمة نفسية، كما أن
تناقُلَ مثل هذه الأخبار والحديث عنها يورث يأساً وقنوطاً عند بعضهم؛ وها هنا
مكمن الخلل وعين التقصير والنقص؛ ولست أدعو إلى التغافل عن هذه الفتن أو
تركها، بل الواجب معرفتها ومعرفة كيفية محاربتها وصدها، ويجب مع هذا كله
بث روح الأمل بنصرة الدين وإحياء هذا المفهوم وشحن النفس به [1] ، خصوصاً
أنه قد سرى في بعض النفوس يأس قاتل من نصرة الإسلام، فتقاعسوا عن العمل
وأصابهم قنوط من هذا كله حتى أصبح أحدهم يعد الحديث عن نصرة الدين ضرباً
من المستحيل أو حديثاً عن الخيال البعيد، وربما علل ذلك وبرهن له بمنطق من
غاب عن وعيهم روح الإيمان، فصاروا يحاكمون الأمور إلى الأصول المادية
البحتة؛ وإن المتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى حرصه الشديد
على غرس هذا المفهوم في نفوس الصحابة؛ ويتأكد ذلك عندما تشتد الفتن عليهم،
ويتكالب عليهم أعداء الله من كل مكان؛ روى البخاري في صحيحه عن خباب بن
الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل
الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ
الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه،
فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه،
والله ليتمنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف
إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون» [2] ؛ ويتكرر مثل هذا الموقف؛
ففي غزوة الأحزاب وعندما تكالب الأعداء على المسلمين من كل جانب يُحْيي صلى
الله عليه وسلم هذا المفهوم ويغرسه في نفوس أصحابه، وذلك عندما اعترضت
صخرة للصحابة وهم يحفرون الخندق فضربها صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات
فتفتتت، فقال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر أُعطِيت مفاتيح الشام واللهِ إني
لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر أُعطِيت مفاتيح
فارس؛ واللهِ إني لأبصر قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله
أكبر أعطيت مفاتيح اليمن؛ والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة» [3] .
وكان موقف المؤمنين من هذه البشارة ما حكاه القرآن الكريم: [هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً]
(الأحزاب: 22) [4] .
إن نفوس الصحابة كانت مشحونة بكثير من الآلام والمخاوف، ويأتي مثل
هذا الكلام ليكون برداً وسلاماً عليها.
قال ابن القيم معلقاً على قصة كعب بن مالك: «وفي استباق صاحب الفرس
والراقي على سَلْعٍ ليبشِّر كعباً دليلٌ على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه،
وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضاً» [5] .
وأي مسرة أعظم من المسرة بنصرة الدين! ؟
إنك لتعجب أشد العجب عندما ترى بعض الدعاة يغفل عن مثل هذا المفهوم،
فتسري في قلبه روح الهزيمة؛ فتجده واضعاً كفه على جبينه عندما يسمع خبر
حدوث فتنة هنا أو هناك معلناً انهزاميته وتراجعه الكامل، وقد غفل عن سنة الله في
كونه: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) والله غالب على أمره.
__________
(1) ليس المقصود من الحديث ذكر الأحاديث الواردة في نصرة الدين؛ ولكن المراد إحياء مثل هذا المفهوم وغرسه في النفوس.
(2) البخاري 7/126، كتاب الأنبياء باب علامات النبوة.
(3) رواه أحمد والنسائي بسند حسن.
(4) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (448) بتصرف يسير.
(5) زاد المعاد (2/585) .(153/141)
المنتدى
ردود
* الإخوة: الذين أرسلوا يستفسرون عن شروط النشر في المجلة فنفيدهم
بالآتي:
1 - أن يخدم الموضوع قضايا الأمة الإسلامية بتنوعها من خلال تصور أهل
السنة والجماعة.
2 - ألا يكون قد سبق نشره في مطبوعة أخرى.
3 - أن تكون النصوص موثقة ومعزوة إلى مصادرها بذكر رقم الجزء
والصفحة.
4 - أن تخرَّج الآيات والأحاديث الواردة ضمن المشاركة.
5 - أن تكون مكتوبة بخط مقروء وعلى وجه واحد من الورقة.
6 - أن يرفق مع المشاركة وسيلة تواصل مع صاحبها «عنوان بريدي -
بريد إلكتروني - فاكس - هاتف» . وفقنا الله وإياكم لكل خير ومرحباً بمشاركتكم.
* الإخوة: طارق بن راشد الغفيلي، عبد الله سالم الغامدي، نبيل بن أحمد
الزير: نعتذر عن نشر المشاركات التي وردت من قبلكما وذلك لتوجيهها إلى
مطبوعات أخرى.
* الإخوة والأخوات: محمد عبد الرحمن «سلطنة عمان» ، سارة بنت عبد
الله: نرجو التكرم بإفادتنا بعنوان بريدي لمراسلتكم والرد على رسائلكم.
* الأخ: الذي أرسل ملاحظته حول الإعلان المنشور في المجلة عن
المهرجان الإنشادي، نشكر لك هذه النصيحة؛ فالمؤمن مرآة أخيه، آملين أن يدوم
التواصل والتناصح.
* الأخ: عبد الواحد العبد اللطيف: أرسل ملاحظات على مقال: «الأبعاد
التربوية للحج» العدد 148، نشكر للأخ تواصله وملاحظاته وجزاه الله خيراً.
* الأخ: أحمد عبد الغني طه: نشكر لك تواصلك الكريم مع مجلتك، ونشكر
لك ملاحظاتك. وفيما يتعلق بقضية الصحوة الإسلامية فنحسب أن افتتاحية العدد
152 قد تناولت ما أشرت إليه، وفقنا الله وإياك للخير والحق.
* الأخ: سعود الصاعدي: أرسل يقول: لقد أرسلت مقالات عدة، ثم أعود
بالخيبة والخسران، فأجد أن مقالي ضرب به عرض الحائط ولم ينشر، والأمر
الذي اتضح لي بالنسبة لاختياركم الموضوعات ليس هو بحسب جودتها ورصانتها
وفائدتها، وإنما هو بحسب صاحب المقال، فإذا كان اسم صاحب المقال براقاً
نشرتم مقاله، وأما إن كان غير ذلك ضربتم بمقاله عرض الحائط والله المستعان! !
ونقول للأخ الفاضل إن هذا المفهوم غير صحيح؛ حيث إنه ترفض مقالات لكتاب
من هيئة تحرير المجلة نفسها لعدم مناسبتها للنشر، والأصل أن المقال يقوَّم حسب
مادته وما يقدمه من خدمة لدين الله، وكما لا يخفى عليك أن هناك من الناس من
يرى عمله دائماً جديراً بالصدارة ولا يقبل وجهة نظر الآخرين في الحكم على عمله،
وقد أرسلتَ إلى المجلة عشر مشاركات في الفترة من 22/6/1419هـ 4/3/
1421هـ، أجيز منها سبعة مشاركات في المنتدى وأُخبرتم بذلك في هذا المكان
واعتُذر عن ثلاثة منها، وقد نشر أحدها. والمنتدى مليء بمئات المشاركات، ولا
بد أن نفسح مجالاً لإخوانك. وفقنا الله وإياك لكل خير.
* الأخ: عمر الرماش: أرسل عاتباً كذلك على عدم نشر مشاركاته، ونفيد
الأخ الكريم بأنه قد أرسل في فترة قصيرة من «22/2/1420هـ
3/3/1421هـ» 27 مشاركة، والمجاز منها للنشر سيعدُّ لذلك بإذن الله في
موعده. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
* الإخوة: سالم أحمد البطاطي، رأفت الحامد، حسن عبد العزيز الشقرماني
إبراهيم بن سليمان السدرة، إبراهيم داود، بدر ناصر العواد، صالح علي
العمري: نشكر لكم تواصلكم الكريم ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر.
* الإخوة والأخوات: محمد أبو الكلام آزاد، محمد سعد البرديسي، خالد عبد
الرحمن الموسى، عمار البذيخي، محمد العشري، محمد عبد العاطي، أكرم
عصبان الحضرمي، إبراهيم سعد الدنيني، سامي بن خالد الحمود، أحمد العجلان،
وليد صالح الغرير، محمد الباشا، محمد بن أحمد الشنقيطي، سليمان بن عبد
العزيز الرديني، مد الله عبد الكريم المديد، رفعت المرصفي، محمد عمر بكر،
بدرية محمد «قد لا نصل» ، أم الحارث السهلي: جزاكم الله خيراً على تواصلكم
الطيب مع المجلة، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر في المنتدى.
* الإخوة والأخوات: مهنا الصاعدي، صالح بن سليمان العامر، ضيف الله
العتيبي، ياسر علي الشمري، محمد علي أحراش، فيصل سعد الغامدي، عبد
العزيز المغربي، فارس الشريف، محمد الروبي عبد الوهاب، سفر ناجي العلوي،
جعفر عارف العطار، عبد الرحيم عبد الواحد، عبد الله سيد شعبان، صالح عبد
الله الضرمان، علي بن سليمان الدبيخي، وليد سمكري، محمد سعد دياب، محمد
سليمان حسن، محمود خليل، سالم فرج سعد، حامد مسفر العبدلي، نايف عقاب
المطيري، أسعد التهامي، بدرية محمد، سوسن إبراهيم خليل، زينب عبد الله
السعود: سعدنا بتواصلكم الكريم مع مجلتكم ونتمنى لكم التوفيق في مشاركات أخرى،
وأبواب المجلة مفتوحة لمشاركات الجميع.(153/142)
الورقة الأخيرة
واقعنا بين الـ (كم) والـ (كيف)
د. شاكر السروي
نخطئ كثيراً عندما ننساق في زحمة الهموم وفي خضم السعي لتكثير سواد
المسلمين وراء الكم والحرص على تحصيله دون التأكد من الكيف والعمل على
تحقيقه.
كما أن الصواب لا يحالفنا عندما نعتمد وسيلة تأليف القلوب بالماديات فقط مع
المدعوين مهما امتد مكثهم بيننا.
بل إن الخطأ يكون أشنع عندما نعتمد هذه الطريقة أداة رئيسة في استبقائهم
معنا، وربما وفي أحيان كثيرة تكون هي الأداة الوحيدة.
إن الأمر قد لا يكون بهذا الوضوح في واقع الدعوة، كما هو من الناحية
النظرية؛ فقد يكون من المدعوين من يستمر في الطريق؛ لأنه يحصل على ميزات
هي في مضمونها للدعوة، ولكنها تكون وسيلة لاجتذابه، لكونه المباشر لها،
والقائم عليها، وتكون في ذلك قد وافقت منه حباً للظهور أو التصدر والرياسة،
ويصحب ذلك من المربي بقصد أو بدون قصد عدم الحرص على تزكيته وربطه
بالدار الآخرة؛ فيكون والحالة هذه في نظر من ضعفت فراسته شعلة من النشاط،
وطاقة لا تنضب، وفارس ميدانه ووحيد عصره، إلى غير ذلك من الألقاب
والنعوت، ثم يُمكَّن له أكثر فأكثر، ويتصدر ثم يتصدر، حتى إذا صلب عوده،
واشتد ساعده لم يمكن بعد ذلك كبح جماحه فضلاً عن تزكيته.
ومثل هؤلاء قد لا يظهر عُوارهم في المألوف من الأحوال والأزمان، وإنما
عندما تأتي سنن الابتلاء بالخير أو الشر، وعندها تكون ضرباتهم في مقاتل.
إن غرس مبدأ التطلُّع للآخرة والسعي لطلب مرضاة رب العالمين هو الأساس
الذي قامت عليه الجماعة الأولى، والركيزة التي انطلق منها الرسول الكريم عليه
أفضل الصلاة وأزكى التسليم لبناء القاعدة الصلبة التي ثبتت وضحَّت وآثرت
الآخرة على الأولى، فكانت ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
جاء الأنصار في بيعة العقبة يُشارطون الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما
عرفوا شرطَهُ، تساءلوا: ما لنا؟ فكان الجواب: «لكم الجنة» .
فتربى على هذا الأمر الجميع والتزموه منهجاً، فلم تُغْرِهِمُ المغريات، ولم
تفتنهم المفاتن، بل ضحُّوا في سبيل ذلك بكل غالٍ ونفيس، وضربوا في سبيل
الثبات على المبدأ أروع الأمثلة في البذل والعطاء والتضحية.
فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه أنعم فتى في مكة يهجر كل لذة دنيوية،
ويبذل كل البذل حتى يتوِّج ذلك بالشهادة في سبيل الله، ثم لا يُوجد له ما يُكفَّنُ به،
فيُغَطَّى أسفله بورق الإذخر.
وهذا صهيب رضي الله عنه يترك كل تجارته في سبيل اللحاق بركب
المصطفى صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وهؤلاء الصحابة يحفرون الخندق وقد
ربطوا على بطونهم الحجارة، وإذا ما شبع أحدهم يوماً وقف مع نفسه وقفة
المحاسبة والعتب والخوف أن تكون حسناته قد عُجِّلتْ له! !
بل العجب لا ينقضي وأنت تقرأ حديث جابر رضي الله عنه الذي عند مسلم
قال: «سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا في كل
يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرُّها في ثوبه، وكنا نختبط بقِسِيِّنا ونأكل، حتى
قرحت أشداقُنا، فأُقسم أُخْطِئَها رجلٌ منا يوماً فانطلقنا به ننعشه، فشهدنا أنه لم
يُعطَها فأُعطيها فقام فأخذها» [1] .
فعجباً لأولئك القوم يجاهد أحدهم بنفسه، ويسعى ليبذل روحه رخيصة في
سبيل الله، حتى إذا أخطأته تمرة هي كل قوته في يوم كامل لم يكن له أن يأخذ
عوضاً عنها وقد حُمِلَ حملاً من شدة الجوع حتى يقيم البينة على ذلك! !
فما أحوجنا في زمن المغرِيات، والملهِيات، ومع تكاثر من يبيع دينه بعَرَضٍ
من الدنيا قليل، أن نكون أكثر حرصاً وأدق تمحيصاً للصف، وأن نعين إخواننا
على تصحيح النوايا وتصويب المقاصد، ولا ننسى مع ذلك أن الأمر يقضى في
السماء؛ فلنجتهد في الدعاء، ولنتزود بالتقوى. قال تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) .
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 3011.(153/143)
جمادى الآخرة - 1421هـ
سبتمبر - 2000م
(السنة: 15)(154/)
كلمة صغيرة
مهزلة تصدير الأتاتوركية!
من مهازل هذا الزمان أن يدعو من يسمى وزير (الشؤون الدينية) التركي
إلى إعادة النظر في التجربة الأتاتوركية والاستفادة منها باعتبارها هي الإسلام
الصحيح؛ مع دعوته في الوقت نفسه إلى إعادة النظر في تفسيرات القرآن والسنة
بما يتفق ومعطيات العصر الحضارية، ومناشداً علماء الإسلام والمفكرين المسلمين
إلى التداعي لطرح الإسلام من خلال تفسير واقعي ومنطقي؛ لأن جميع الدول
الإسلامية تطبق الإسلام بشكل خاطئ! ! وإن في ذلك ما سيعيد الاحترام والتقدير
للإسلام الذي شوهه المتطرفون!
وبادئ ذي بدء فإنه من المتحقق أن فاقد الشيء لا يعطيه، ثم ما حقيقة
الإسلام القائم في دولة تركيا سوى (أطلال باقية) على يد العلمانيين المتطرفين
الذين تدخلوا في شؤون الأفراد وحرياتهم الخاصة حتى قننوا منع الإسلام واعتباره
اتجاهاً مرفوضاً، وقننوا منع الحجاب للمرأة المسلمة، وعملوا على إضعاف
المدارس القرآنية، ورفضوا رغبة الشعب التركي يوم اختار (الاتجاه الإسلامي)
الذي حكم لفترة، فضايقوه حتى نُحِّي وزُجَّ برموزه في محاكم همجية تذكِّر بمحاكم
التفتيش. فماذا سيرغِّب الناس في الأتاتوركية؟
إن الهراء الذي يطرحه الوزير المذكور (شنشنة معروفة) يطرحها
المنحرفون حينما تبور سلعهم؛ وهيهات أن يغتر بها إلا الضالون.
ثم ماذا استفادت تركيا من (التجربة الأتاتوركية) سوى أن أصبحت ذيلاً بين
الدول واضطرت بـ (ذلة) إلى طلب ود الغرب والانضمام إليه مع ما قدمته من
تنازلات ثم تُرفَض مع كل ذلك. وتحكَّم (الدونمة) في أزمَّة الأمور بتركيا حتى
أصبحت بُعداً استراتيجياً للعدو الصهيوني؛ أما ديمقراطيتهم فهي صورة لا حقيقة
لها والواقع خير شاهد. وحينما يصل الإسلاميون للحكم فإنهم يُنَحَّوْن بخطط معدة
سلفاً أو بانقلابات عسكرية يؤيدها الغرب، ونذكِّر الوزير أن دعوته النشاز تلك ما
هي إلا محاولة لإعادة الروح للجثة الأتاتوركية، وهيهات أن تحيا بعد إخفاقها
وموتها. وعزة تركيا بل عزة المسلمين جميعاً في التمسك بالإسلام الحق؛ وأوله:
تنحية القوانين الأتاتوركية ذاتها التي تبعد الإسلام عن الواقع وتفصله عن الحياة؛
فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام وهو طريقنا القويم للحياة الكريمة: [وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ]
(الأنعام: 153) .(154/1)
الافتتاحية
علم النفس والسياسة
وفن الخداع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فمن العلامات المميزة في التخطيط عند الغربيين: دخول دراسات علم النفس
في جميع المجالات العملية التي تمس حياة الكائن البشري؛ فهناك علم النفس العام
بجانب علم النفس التربوي، وعلم نفس النمو، وعلم النفس الصناعي، وعلم
النفس الاجتماعي، وعلم النفس الديني ... إلخ، وكلها دراسات تنصبُّ على معرفة
الميول والانفعالات والاتجاهات والحاجات ... لدى الأفراد والجماعات، مما يمهد
الطريق لمعالجة (الانحرافات) الموجودة، أو توليد توجهات جديدة، أو التأثير
على المشاعر للوصول للهدف المنشود؛ أياً كان هذا الهدف.
ولا شك أن هذه الدراسات يمكن الاستفادة منها إسلامياً في الدعوة والتغيير،
ولكن أيضاً يجب التنبه إليها وإلى آثارها عند تطبيقها علينا بصورة غير معلنة ولا
ظاهرة؛ بحيث تبدو الأحداث وكأنها بريئة أو (ساذجة) ليتم بلع الطعم المراد
بصورة عفوية.. والحقيقة أن الأمور تجري تحت الدراسة والسيطرة!
ولأن التأثير على المجتمعات لا يتم بالتعامل مع كل فرد على حدة؛ فإن
الإعلام بأجهزته المختلفة يلعب دوراً كبيراً في توجيه هذه المجتمعات (بالجملة)
من خلال إلقاء معلومات معينة، أو إبراز بعضها وإخفاء آخر، أو بطريقة عرض
المعلومة ... ليتقمص هذا الإعلام بمن يملكونه ويحركونه دور الطبيب والمعالج
النفسي.
ونستطيع ضرب أكثر من مثل لإيضاح هذا الدور في التأثير (الخفي) على
المستهدفين.
فبعد انتشار صور المذابح الوحشية التي ارتكبها الصرب بحق المسلمين في
البوسنة والهرسك مما أثار مشاعر المسلمين في أنحاء العالم وأنذر بإيقاظ روح
الأخوة الإسلامية وإلهاب مشاعر الغيرة والحماس خَفَتَ الحديث عن هذه المذابح
وصَغُر حجم النشر عن هذه الحرب؛ مما يومئ بتراجع أهميتها في الأحداث، ومن
ثَمَّ في حس القارئ أو المشاهد (المسلم طبعاً) ، وصاحَبَ ذلك نَشْرُ بعض الصور
التي يظهر فيها بعض (البوسنويين) وهم يشترون حاجياتهم أو يعبرون الطرقات
بمرافقة أحد جنود القوات الدولية، مما يومئ بأن هؤلاء البوسنويين (تكيفوا) مع
هذه الأوضاع ولا تنس أن منهم من كان يمارس الرقص واللهو في أقبية المخابئ
مما يعني أن لا داعي للقلق عليهم، ويومئ أيضاً بأن قوات الأمم المتحدة تقوم
بواجبها في حماية هؤلاء الضعفاء المساكين؛ فليطمئن المسلمون أصحاب العاطفة
الدينية الجياشة في العالم ولينسوا هذه القضية التي تشعل هذه العاطفة، بينما كانت
الحقيقة أن المذابح متواصلة، وأن مسلمي البوسنة ينهشهم الصرب والكروات الذين
تسلحوا في الحرب بأكثر مما تسلحوا قبلها من كل جانب، والحقيقة أيضاً أن قوات
الأمم المتحدة (والناتو) ما تدخلت تدخلاً جدياً (بصورة مظهرية) إلا عندما كان
المسلمون على وشك إحراز انتصار حاسم في كل مرة.
مثال آخر: ما شاهدناه ونشاهده منذ فترة من فصول مسرحية مملة عنوانها:
(عملية السلام في الشرق الأوسط) ، ويمكننا أن نشير إلى بعض الإلماحات التي
توضح المقصود، ويستطيع القارئ إكمال الصورة من خلال تفحصه هو لما يبث
كل يوم وكل ساعة.
فمن ذلك: الإلحاح على إظهار أن المفاوضات (ومن ثم: الصراع!) قائم
على مسائل ومطامع جزئية (وثانوية) ، فالمفاوضات الشاقة تدور حول قضية
لاجئين، أو اقتسام المياه، أو السماح بممر آمن، أو افتتاح مطار، أو إقامة
مجموعة مبانٍ، أو السيادة على شارع، أو إغلاق نفق، أو حرية الوصول إلى
مسجد (ولو كان المسجد الأقصى أو مسجد الخليل) ،.. ومع الوقت يصدِّق رجل
الشارع (العربي) أن هذه النزاعات هي بالفعل جوهر الصراع؛ لأنها دائماً مسائل
المفاوضات، وينسى كما هي عادته التي يعرفها الغربيون أن أساس الصراع هو
بين فكرتين وحضارتين إسلامية وغربية صهيوينة، وينسى أن هناك وطناً كاملاً
اغتصب من أمة قطعت أوصالها.
ومن ذلك: إظهار علاقات المفاوضين من الطرفين (لاحظ أنه تم تمرير أن
المفاوضين عن العرب ممثلون حقيقيون لأمتهم وباسم شعوبهم) تارة بمظهر الود
والوئام والصداقة والاحترام (وهي بالفعل كذلك) حتى إنهم ليبيتون سوياً ويأكلون
سوياً ويتنزهون سويا ويلعبون سوياً! .. ويحترمون عطلة السبت سوياً، وفي ذلك
إعطاء القدوة لرجل الشارع (العربي) بكسر حاجز البغض والعداوة بهدف ترسيخ
أن اليهود ليسوا أعداءاً بل بشر كغيرهم، فيهم اللطيف الظريف كبيريز وباراك،
كما فيهم الفج العنيف كشارون ونتنياهو، فلِمَ لا نقبلهم ولا نثق بهم؟ ! وبالطبع تبلع
الشعوب (العاطفية) المتقلبة الطعم.
وتارة أخرى يظهر المفاوض العربي بمظهر المفاوض الصعب والمتعنت حتى
إنه لينسحب من المفاوضات، أو على الأقل يحزم حقائبه ويهدد، وهي رسالة
واضحة (بالطبع لرجل الشارع العربي) بأن اطمئن؛ فالقضية في أيد أمينة، لا
تتنازل ولا تتهاون، وإنما هي واقعية! ترضى بما هو متاح ومستطاع ممن بيدهم
99% من أوراق (اللعبة) ! .
ويتعلق بذلك: إظهار تعنُّت المفاوض (الإسرائيلي) وتعاطف الراعي
الأمريكي معه، وإظهار صعوبة المفاوضات حتى إنها لتؤجل وتلغى وتتحول من
مكان لآخر، ومن راعٍ إلى آخر، وتخفق أكثر من مرة مما يستلزم رحلات مكوكية
واستدعاء أطراف أخرى للضغط على المفاوضين، وطرح مبادرات جديدة، ولأن
رجل الشارع (العربي) اعتاد أن (لا يوجد حلاوة من غير نار) فإنه طبقاً لنظرية
الاشتراط الجزائي يتوقع أن كل نار يتبعها حلاوة! وعلى ذلك فإنه يتهيأ نفسياً لقبول
أي (اتفاق) يخرج؛ لأن أي (مكتسبات) تعطى فإنما هي إنجازات انتزعت بشق
الأنفس من بين مخالب الأسد! ويصبح أصحاب هذا الاتفاق أبطالاً يستحقون الشكر
والثناء ثم الإشادة والإطراء.
إننا قد لا نستطيع حصر هذه النماذج في مثل هذا المقام؛ فهي تحتاج لدراسة
أعمق وأشمل، ولكننا نؤكد على أننا مستهدَفون منذ زمن، ولذلك وُضِعنا تحت
مجهر الدراسات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، تقوم بذلك مؤسسات
عريقة ومراكز أبحاث ذات إمكانات عالية، لم يكن ذلك بالأمس القريب، بل منذ
أن أخفق الغرب في حروبه الصليبية، فأرسل جنوده من الرحَّالة والرهبان والتجار
والسفراء والمستشرقين.. يسجلون ويحصون ويكتبون ويرسمون، حتى باتت
أعراقنا وخصائصنا وثقافتنا وتاريخنا وتقاليدنا ومجتمعاتنا وإمكاناتنا جميعها تحت
المجهر، فأخذوا يدرسون ويخططون، ثم ينفذون ويُجهزون!
[إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً]
(الطارق: 15-17) .(154/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تخريج الأحاديث النبوية
فريضة شرعية وأمانة علمية
جلال راغون
مما لا شك فيه أن السنة النبوية تعد المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن؛
والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] (النساء: 59) وعدّ القرآن طاعة الرسول صلى الله عليه
وسلم طاعة لله عز وجل: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] (النساء: 80) ،
وحذرنا من مخالفة أمره: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور: 63) ، وأقسم الله على نفي الإيمان عمن أعرض
عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل حكمها راضياً مسلِّماً [فَلاَ وَرَبِّكَ
لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) .
فالسنة النبوية في مرتبة القرآن الكريم من حيث وجوب الاحتجاج؛ فهما معاً
المصدران الأساسيان للإسلام، ولكن السنة ليست كالقرآن من حيث الثبوت؛
فالقرآن قطعي الثبوت بخلاف السنة فبعضها ظني الثبوت.
1 - تقسيم السنة من حيث الثبوت:
من المسلَّمات العلمية عند المحدِّثين أن السنة النبوية تنقسم من حيث الثبوت
إلى قسمين:
- سنة مقبولة، وسنة مردودة.
أ - السنة المقبولة:
هي التي تتوفر على الشروط الآتية [1] :
1 - اتصال السند.
2 - عدالة الرواة.
3 - ضبطهم وإن خف.
4 - عدم الشذوذ.
5 - عدم العلة القادحة.
6 - التقوية والاعتضاد عند الحاجة.
والحديث المقبول يتنوع إلى أربعة أنواع [2] :
1 - الصحيح لذاته.
2 - الصحيح لغيره.
3 - الحسن لذاته.
4 - الحسن لغيره.
ب - السنة المردودة:
وهي التي فقدت شرطاً من شروط القبول المتقدمة. وتعرف السنة المردودة
عند المحدثين بالحديث الضعيف.
والحديث الضعيف أنواع كثيرة يمكن تصنيفها إلى صنفين:
1 - ما ضعفه خفيف.
2 - ما ضعفه شديد.
وشر أنواع الضعيف الحديث الموضوع.
وقد أحببت أن أذكِّر ولو على وجه الإجمال بهذه المعطيات العلمية المقررة في
مصطلح الحديث لأبين أنه: ليس كل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهو ثابت مقبول، بل هناك أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة. وهذا الأمر يحتم
على من يريد الاستدلال بالحديث النبوي تخريجه ليعرف مرتبته من حيث القبول أو
الرد.
2 - حكم تخريج الأحاديث:
في ضوء ما تقدم يمكن أن نستنتج أن أول واجب على المستدل بالحديث
النبوي الشريف تخريجه ليعرف مرتبته. وبعدم تخريج الحديث؛ فقد يساهم في
نشر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحديث موضوعاً.
ومن الأدلة الشرعية التي نستفيد منها وجوبَ التخريجِ السنةُ النبوية؛ فهناك
حديثان صحيحان يدلان على ذلك:
الحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: «من حدَّث عني بحديث يُرى أنه
كذب فهو أحد الكاذبين» [3] .
والحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل
ما سمع» [4] .
والحديثان أخرجهما أيضاً ابن حبان في صحيحه وترجم لهما بقوله: «فصل
ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو
غير عالم بصحته» [5] . فمن نسب الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو لا يعلم مرتبته فإنه يستحق دخول النار. ومعلوم أن من يستحق دخول النار
هو تارك الواجب أو مرتكب الحرام. وهذا الذي استفاده الإمام ابن حبان من
الحديثين يدل على بعد نظره وحسن فقهه. وقد قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في هذا
المجال: «ومما زاد في إغراء العلماء بالنظر في صحيح ابن حبان والأخذ عنه ما
حفل به هذا الصحيح من استنباطات فقهية دقيقة عنون بها المؤلف كل حديث أورده؛
فكتابه من هذه الناحية يعد كتاباً في الفقه ذا أهمية خاصة؛ لأن استنباطاته مبنية
على أدلتها مستندة إلى نصوصها» [6] .
ويمكن أن نستدل على وجوب التخريج بالقرآن نفسه وذلك في قوله تعالى:
[وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء: 36) ، فمن نسب الحديث إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم دون تخريج ومعرفة بمرتبته فقد قفا ما ليس له به علم،
ومن ثَمَّ وقع في المحذور.
ويمكن أيضاً أن نستدل على الوجوب بالقاعدة الشرعية المشهورة: «ما لا
يتم الواجب إلا به فهو واجب» فعدم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
واجب ولا يتم ذلك إلا بتخريج الحديث لمعرفة مرتبته؛ وعليه فتخريج الحديث
واجب.
فاتضح لنا أن تخريج الأحاديث فريضة شرعية. ومعلوم أن ممتثل الفرض
يثاب، وتاركه يستحق العقاب.
وتخريج الأحاديث يعدّ أمانة علمية أيضاً؛ إذ إنه كما هو مقرر في المنهجية
العلمية يتعين على الباحث نسبة الأقوال إلى أصحابها وذكر المصادر والمراجع
المعتمدة في نقل تلك الأقوال. إذا كان هذا في حق أقوال عامة الناس فما بالك
بالنسبة لمن أقواله تعتبر من التشريع؟ فمن الأمانة العلمية أن نخرج الحديث ونبين
مرتبته ونذكر المصادر والمراجع المعتمدة في ذلك. وإذا كان في عصور الرواية لا
ينسب الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بذكر إسناده، واشتهرت في
تلك العصور المقولة الآتية: «الإسناد من الدين؛ ولولا الإسناد لقال من شاء ما
شاء» ففي عصرنا يعتبر تخريج الحديث هو إسنادنا، ولذا فما أحوجنا في هذا
العصر إلى المقولة الآتية: «تخريج الحديث من الدين، ولولا التخريج لقال من
شاء ما شاء» ! ولكن مما يؤسف له في عصرنا قلة العناية بهذه الفريضة الشرعية،
والإخلال بالأمانة العلمية، فتجد المستدل على أمر هام في الدين يستدل بالأحاديث
دون تخريج وقد تكون ضعيفة وموضوعة، بَلْهَ الخطيب في خطبته والواعظ في
موعظته والمدرس في درسه والكاتب في مقاله.
3 - نموذج لقلة العناية بهذا الواجب:
النموذج الذي سأذكره ينتمي إلى مجال يعتبر في عصرنا من أهم وسائل
الدعوة ونشر التعاليم الإسلامية. ذلك المجال هو الصحافة الإسلامية؛ فمما لا شك
فيه أنها تقوم بدور متميز في توعية المسلمين بأمور الحياة المختلفة انطلاقاً من
تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وهي تستحق على ذلك كل تقدير واحترام. ولكن
الملاحظ قلة عنايتها بواجب التخريج إلا من بعضها. فالمفروض أن تساهم الصحافة
الإسلامية في نشر الإسلام الصحيح من منبعه الصافي القرآن وما ثبت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وسأقتصر على مقال واحد تضمن ثمانية أحاديث بدون تخريج، عنوانه
(اختيار الزوج) نشر بصحيفة إسلامية مغربية؛ وبعد تخريج تلك الأحاديث وجدت
معظمها شديد الضعف، ومنها ما هو موضوع كما سيتضح مما يلي:
1 - تنكح المرأة لأربع: «لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر
بذات الدين تربت يداك» أخرجه البخاري [7] ، ومسلم [8] عن أبي هريرة.
2 - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يستأمره في النكاح فقال:
«نعم انكح، وعليك بذات الدين تربت يداك» .
لم أقف على من أخرجه، وفي الحديث السابق غنى عنه؛ لأنه يتضمن
معناه.
3 - «لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن
لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين» .
أخرجه ابن ماجه [9] عن أبي هريرة، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن
أنعم الإفريقي وهو ضعيف في حفظه [10] .
4 - «لا يختار حسن وجه المرأة على حسن دينها» .
ذكر المتقي الهندي في كنز العمال [11] أن الديلمي رواه عن عبادة بن الصامت،
وفي إسناده الوازع بن نافع [12] .
قلت: قال في حقه الإمام البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك
[13] .
5 - «إياكم وخضراء الدِّمَن، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة
الحسناء في المنبت السوء» رواه القضاعي في مسند الشهاب عن أبي سعيد
الخدري، ومداره على الواقدي وهو متروك [14] . ومن ثَمَّ فهذا حديث ضعيف جداً.
6 - «تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم» . أخرجه ابن ماجة وغيره عن عائشة، وقد صححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه [15] .
7 - «تزوجوا في الحِجْر الصالح؛ فإن العرق دساس» . أخرجه ابن عدي
في الكامل عن أنس بن مالك، وهو موضوع [16] .
8 - «لا تتزوجوا الحمقاء؛ فإن صحبتها بلاء، وفي ولدها ضياع» . في
إسناده كذاب كما ذكر الإمام الشوكاني [17] ومن ثَمَّ فهو موضوع.
4 - توجيهات للقيام بهذا الواجب:
أختم هذه الدراسة المتواضعة بتوجيهات تنير السبيل للقيام بواجب التخريج.
وقبل ذلك يحسن بي أن أعرِّف التخريج ولو على وجه الإجمال [18] :
المقصود بتخريح الحديث عزوه إلى مصدره أي الكتاب الذي يذكر صاحبه
الأحاديث بأسانيده كصحيح البخاري مثلاً. أما الكتب التي لا تُذكر فيها الأحاديث
بالأسانيد فهي مراجع للسنة كرياض الصالحين للنووي، والترغيب والترهيب
للمنذري على سبيل المثال.
والأصل في التخريج عزو الحديث إلى مصدره، وإذا تعذر ذلك فلا أقل من
عزوه إلى المرجع الذي يلتزم صاحبه بعزو الأحاديث إلى مصادرها.
والغاية من التخريج معرفة مرتبة الحديث ليحتج بالمقبول ويترك المردود.
ومصادر السنة كثيرة ومتنوعة يمكن تصنيفها إلى صنفين:
الصنف الأول: التزم أصحابه الصحة. ومن أشهر المصادر المندرجة في
هذا الصنف الصحيحان: صحيح البخاري، وصحيح مسلم اللذان يعتبران أصح
مصادر السنة النبوية، وهما جامعان، والجامع في الاصطلاح هو المصدر المرتب
على الأبواب والذي يوجد فيه جميع موضوعات الدين وأبوابه [19] ؛ وعليه فمن
يريد الاستدلال بالحديث في أي مجال فسيجد مبتغاه في الصحيحين. وهما
مطبوعان والرجوع إليهما ميسر، ولله الحمد.
الصنف الثاني: لم يلتزم أصحابه الصحة، ولذلك تجد فيه الأحاديث المقبولة
والمردودة. ومن أشهر المصادر المندرجة في هذا الصنف السنن الأربعة: سنن
أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [20] ، وهذه المصادر الأربعة لها
مكانة خاصة عند المحدثين؛ فهي مع الصحيحين تتمم الأصول الستة المشهورة عند
العلماء بالكتب الستة. وبما أن السنن الأربعة توجد فيها أحاديث مردودة فعلى
المستدل بحديث من أحاديثها أن يبحث في أقوال المحدِّثين ليعرف مرتبته. وقد قام
الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بعمل جليل نحو السنن الأربعة؛ حيث ميز
صحيحها من ضعيفها في سلسلة خاصة طبعت، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين
خير الجزاء؛ فالاستدلال بأحاديث الكتب الستة ميسر ولله الحمد.
ومن مصادر السنة المندرجة في هذا الصنف أيضاً المسانيد والمعاجم ومن
أشهرها مسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومعاجم
الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، وقد قام إمام من أئمة الحديث بتيسير
الاستفادة من هذه المصادر وذلك بإفراد زوائدها على الكتب الستة مع بيان مرتبتها،
ذلك الإمام الهمام هو الحافظ نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) في كتابه الحافل:
(مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) [21] وقد طبع؛ وعلى ذلك فإن في استطاعة من
يريد الاستدلال بحديث من الأحاديث الواردة في المصادر السابقة أن يرجع إلى هذا
المرجع الهام.
ومن أهم المراجع المعاصرة التي تضم آلاف الأحاديث المقبولة مع عزوها
إلى مصادرها كتاب (صحيح الجامع الصغير وزياداته) للشيخ ناصر الدين الألباني
رحمه الله.
وبهذا يتضح لنا أن علماء الأمة قديماً وحديثاً قدموا خدمات جليلة للسنة النبوية،
ويسروا للباحثين السبل لتخريج الأحاديث ومعرفة مرتبتها.
وفقنا الله جميعاً للقيام بواجب التخريج؛ ففي ذلك خير عظيم والحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، طبعة دار الفكر بدمشق، الطبعة الثالثة، 1400هـ، ص 286.
(2) محمود الطحان، تيسير مصطلح الحديث، طبعة المعارف بالرياض، الطبعة التاسعة، 1417 هـ، ص 33.
(3) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة: طبعة دار الفكر بلبنان 1403هـ بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، ج 1، ص 9، وقد خرجت هذا الحديث وبينت ما يستفاد منه في مقال بعنوان: (وجوب التثبت في نقل السنة) نشر بمجلة البيان، العدد 125.
(4) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، وأبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم 225، المجلد 5، ص 38، 39 طبعة مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ.
(5) ابن بلبان الفارسي: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1988م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ج 1، ص 212.
(6) مجلة البصائر، العدد 11، سنة 1987م، ص 61: ابن حبان وكتابه الصحيح لشعيب الأرناؤوط، وهي مقدمته لتحقيق الإحسان.
(7) ابن حجر: فتح الباري، طبعة دار الفكر، (د ت) ، ج 9، ص 132، ح/ 5090.
(8) مسلم: الصحيح، ج 2، ص 1086، ح/ 1466.
(9) ابن ماجه: السنن، طبعة دار الفكر، (د ت) بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، ج 1، ص 597، ح/ 1859.
(10) ابن حجر: تقريب التهذيب، طبعة دار المعرفة، ببيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ (ت) عبد الوهاب عبد اللطيف، ج 1، ص 480.
(11) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، طبعة مؤسسة الرسالة، 1409هـ، ج 12، ص 301.
(12) في المطبوع: الوازع بن قانع بالقاف، وهو خطأ.
(13) الحافظ الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، طبعة دار المعرفة ببيروت، الطبعة الأولى، 1382هـ (ت) البجاوي، ج 4، ص 327.
(14) الألباني: السلسلة الضعيفة، طبعة المعارف بالرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ رقم الحديث 14.
(15) الألباني: السلسلة الصحيحة رقم 1067.
(16) الألباني: ضعيف الجامع الصغير، طبعة المكتب الإسلامي ببيروت، الطبعة الثالثة، 1410 هـ، ص 358.
(17) الشوكاني: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت (د ت) (ت) المعلمي، ص 130.
(18) يراجع للتوسع في الموضوع: أصول التخريج ودراسة الأسانيد لمحمود الطحان، طبعة دار المعارف بالرياض، الطبعة الثانية، 1412هـ.
(19) نور الدين عتر، منهج النقد، ص 198.
(20) لأخذ نظرة عن مكانة السنن الأربعة عند المحدثين يراجع على سبيل المثال منهج النقد لعتر، ص 275 278.
(21) لأخذ نظرة عن هذا الكتاب يراجع: (علم زوائد الحديث: دراسة ومنهجاً ومصنفات) لعبد السلام محمد علوش، طبعة دار ابن حزم ببيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص 226.(154/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
إشكالية التعامل مع المصادر الأصلية
والثانوية للفرق الإسلامية
ضوابط منهجية
د. أحمد جمال بادي
مدخل إلى الموضوع:
تعج المكتبة الإسلامية بكم هائل من الدراسات والمصنفات القديمة والمعاصرة
فيما يتعلق بالفرق الإسلامية عموماً، وفيما يتعلق بمسائل الإيمان والتوحيد، أو ما
اصطلح عليه بعض المتأخرين بـ «علم الكلام» على الخصوص.
لكن الباحث يلاحظ ويواجه إشكاليات عديدة في تعامله مع تلك الدراسات
والكتب والمصنفات قد تقوده إلى نتائج سلبية وخيمة، ومنها أن التصورات الخاطئة
عن فرقةٍ مَّا من الفرق قد تؤدي إلى التجني في الحكم عليها والإجحاف في حقها؛ لا
سيما إذا ما انضاف إلى ذلك العامل النفسي وما جُبِلَ عليه الناس من بغض المخالف
مما يؤدي بدوره إلى التحامل والتحيز ضد تلك الفرقة. يقول الله تعالى:
[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) ،
[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] (الأعراف: 85) .
ومن النتائج المباشرة لوجود تلك الإشكاليات ما نلمسه عن قرب ونجده من
تضارب في الأقوال ووجهات النظر بين تلك الدراسات والمصادر سواء في نسبة
الأقوال إلى قائليها من كل فرقة، أو في حقيقة أقوال فرقة مَّا في المسألة الواحدة من
مسائل الاعتقاد، أو في الحكم على تلك الفرقة ومدى قربها أو بعدها من الحق.
ومن تلك النتائج وهو إشكالية قديمة متجددة موضوع تفريعات وتقسيمات
الفرق إلى فرق صغيرة والذي يبدو عليه في بعض الأحيان التمحل الواضح، وكأن
الهم الوحيد للمؤلف أو صاحب الدراسة هو إيصال عدد الفرق إلى اثنتين وسبعين
فرقة ليطابق العدد المذكور في حديث «الافتراق» المشهور [1] .
ويدخل في النتائج المترتبة على الإشكالية السابقة إهمال عامل التطور الفكري
والعقدي لفرقةٍ مَّا أو لأحد رجالاتها مما أوقع الكثيرين في التناقض أو الحيرة
والتخبط.
هذه الإشكاليات وما ترتب عليها من نتائج يُبرِز مدى الحاجة إلى الضوابط
المنهجية التي تعين كل باحث وطالب علم في موضوع الفرق الإسلامية على
التعامل الصحيح مع ذلكم الكم الهائل من المصادر والمراجع العامة والخاصة،
القديمة والمعاصرة.
ويحسن بي قبل البدء بالكلام على هذه الضوابط والقواعد أن أتلمس بعض
الأسباب والعوامل التي أدت إلى وجود هذه الظاهرة.
الأسباب العامة للإشكالية:
إن المتتبع للدراسات العامة والخاصة عن الفرق الإسلامية من المتخصصين
في هذا الفن ينتبه إلى جملة عوامل تشكل في مجموعها أهم الأسباب الكامنة وراء
الإشكالية المتحدث عنها:
أولها: صعوبة الوصول إلى المصادر الأصلية «الأولية» لبعض الفرق
الإسلامية إما لضياعها أو لعدم انتشارها؛ أو لقلة التأليف عند أصحابها، وبذلك
أصبحت المصادر العامة التي ألفت عن تلك الفرقة هي المعتمد لدى كثير من
الباحثين وطلبة العلم.
ثانيها: ظاهرة النقل الحرفي المتكرر لبعض المؤلفات العامة في الفرق لاحقاً
عن سابق دون تمحيص أو تحليل أو نقد أو تفكير وروية؛ فقد يخيل لبعض
الدارسين إجماع أصحاب تلك المؤلفات والمصنفات على المسائل المنقولة
والمدروسة، وما هي عند التدقيق والتحقيق إلا منقولات مكررة وعبارات مقتبسة
غير محررة.
يقول ابن تيمية: «ما ينقله الشهرستاني وأمثاله [2] من المصنفين في الملل
والنحل عامته ما ينقله بعضهم عن بعض، كثير من ذلك لم يحرر أقوال المنقول
عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله، بل هو ينقل من كتب من صنف
قبله» [3] .
بل كثيراً ما ينقل الشهرستاني الأقوال دون عزو إلى مصادرها، وقد يترجم
بعض الكلام فينقله من الأعجمية إلى العربية [4] .
كما يذكر الرازي [5] بأن الشهرستاني ينقل عن كتاب: «الفَرْق بين الفِرَق»
للبغدادي، وأن الثاني لا يكاد ينقل مذهب المخالفين على وجهه، ولذلك وقع الخلل
في نقل المذاهب؛ وهي مسألة لها تعلق بقضية التعصب والتحيز المذهبي [6] .
ثالثها: أن معظم المؤلفات العامة في الفرق أُلِّفت من قِبَل أصحاب توجه أو
مذهب عقدي معين مما أدى إلى التحامل في النظرة إلى الخصوم والمخالفين عند
الحديث عنهم، وسوء تفسير كلامهم وتأويل مقصودهم.
رابعها: ومن الأسباب الجلية أيضاً وراء الموضوع اعتماد كثير من المؤلفين
والدارسين على المصادر التاريخية العامة فيما يتعلق بالأحداث التاريخية الخاصة
بالفرق، وما يتعلق بتلك الأحداث من أقوال ذكرت عنها أو نسبت إلى تلك الفرق.
من بين تلك المصادر التاريخية العامة: تاريخ الطبري (ت 224هـ) و «مروج
الذهب» للمسعودي (ت 346هـ) و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي
(ت 463هـ) ، و «المنتظم» لابن الجوزي (ت 597هـ) ، و «البداية
والنهاية» لابن كثير (ت 770هـ؟) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير
(ت 780 هـ) .
والحق أن تلك الأحداث والوقائع والأقوال في حاجة إلى أمرين اثنين:
الأول: التأكد من مدى ثبوتها عن أصحابها.
الثاني: معرفة حال رواتها؛ لأنهم في غالب الأحيان قد يكونون من أتباع
مذهب عقدي معين يروون الخبر ضد خصومهم ومخالفيهم.
ويكفي في التدليل على ذلك أن نعلم مثلاً أن أبا مخنف لوط بن يحيى (ت 157هـ)
قد روى له الإمام الطبري في تاريخه ما يقارب ستمائة رواية [7] . علماً بأن أبا
مخنف هذا معروف بتشيعه أولاً، وأجمع علماء الحديث على تركه وتوهينه لتشيعه
وكذبه ثانياً.
خامسها: ومن الأسباب التي يمكن اعتبارها في الموضوع فيما يتعلق
بالدراسات المعاصرة الخاصة بالفرق أن بعضها كتب بأيدي المستشرقين؛ حيث
طبقوا عليها مناهجهم في البحث والاستدلال، ووظفوا فيها سيل المعلومات غير
الموثقة توظيفاً خاطئاً، ورتبوها ترتيباً انتقائياً ليصلوا إلى النتائج المعدة سلفاً أو ما
يوافق أهواءهم وتغرصاتهم. ثم تابعهم على آرائهم ونتائجهم بعض الكتاب
والباحثين من المسلمين؛ وهو ما أوقع أصحاب تلك الدراسات في التناقض
العجيب [8] .
سادسها: ومن أسباب الإشكالية أيضاً اختلاف وجهات النظر حول تصحيح
حديث الافتراق والأخذ به.
فرغم ورود الحديث في معظم كتب السنة [9] ، ورواية عدد كبير من
الصحابة [10] رضي الله عنهم له، ورغم تصحيح أقطاب الفن والتخصص له [11] ،
إلا أن عدداً من العلماء المتقدمين والمفكرين المتأخرين ضعفوه، وطعنوا في
ثبوته وصحته.
والحقيقة الدامغة التي غابت عن هؤلاء أو ذهلوا عنها أن الواقع التاريخي
والواقع المعاش اليوم خير دليل عملي مشاهد وأقوى حجة وبرهان على صحة هذا
الحديث. فهل ينكر منكر ويكابر مكابر في وجود الاختلاف والتفرق والتشرذم على
مر التاريخ وإلى يومنا هذا؟
فهذه المكتبة التي تعج بالكتب والمؤلفات والردود، والردود على الردود في
مختلف مسائل الاعتقاد شاهد نظري على ذلك الأمر. وهذه الفرق بمسمياتها
المختلفة والموجودة في كل أقطار العالم الإسلامي، وكثير منها لها حضور سياسي
ملموس، شاهد عملي على ذلك.
بل إن أكثر الذين شككوا في حديث الافتراق وصحته إنما بثوا كلامهم هذا
أثناء حديثهم عن الفرق التي يخالفونها ويردون عليها، فهل بعد هذا من عجب؟
سابع الأسباب: ومن أسباب الإشكالية أيضاً اختلاف وجهات نظر العلماء
والباحثين والدارسين حول أسباب الاختلاف والتفرق هل هي: أسباب داخلية ذاتية؟
أم أنها أسباب خارجية ومن كيد أعداء الإسلام كاليهود والنصارى والمجوس؟ أم
أنها عوامل مشتركة؟ وإذا كانت مشتركة فهل هي منفصلة عن بعضها ولا ارتباط
بينها؟ أم أنها أسباب داخلية ثم استثمرت واستغلت من قبل الآخرين (الأعداء)
لتصل إلى ما وصلت إليه؟ لكل رأي من هذه الآراء قائل ومدافع، وعلى كل واحد
منها أدلة تاريخية أو جدلية برهانية.
أما التاريخ فيقول أهل الاختصاص فيه: أعطني أي فكرة أو رأي فأثبته لك،
وأثبت لك عكسه من التاريخ. وأما الجدل وقضاياه فله قواعده التي يمكن بها اختبار
مدى صدقه من كذبه.
ولا زال الأمر في حاجة إلى تمحيص ودراسة.
أهمية تحرير الضوابط المنهجية:
ولعلنا مما ذكر آنفا نعلم مدى الحاجة بل والضرورة إلى تحرير الضوابط
المنهجية التي تعين طلبة العلم بل وعموم المطلعين والباحثين الذين يبحثون في
موضوع الفرق الإسلامية وأقوالها وأفكارها وآثارها والحكم عليها، فتيسر لهم سبل
الإفادة من مختلف المصادر والمراجع على الوجه العلمي الصحيح المبني على
قواعد التحقيق والتدقيق لتحصل بذلك الفائدة ويتم المقصود.
ونحن في حاجة اليوم لمثل هذا الأمر أكثر من أي وقت مضى للأسباب الآتية:
1 - توفر الكتب والمصادر بغثها وسمينها بتيسر الطباعة وانتشار دور النشر
في كل بقاع الدنيا.
2 - ازدياد عدد الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي الذي تبعه ازدياد عدد
طلبة العلم والباحثين حول الموضوع.
3 - وجود عامل الاستقطاب المذهبي والإحياء الطائفي.
4 - نشأة بعض الجماعات الإسلامية في الساحة الدعوية والتي بنت فكرها
وأصولها ومنهجها بتتبع خطا من سبقها من الفرق والمذاهب العقدية.
5 - ما ترتب من سلبيات على الأمر السابق، انعكست آثاره على المجتمعات
الإسلامية فعانت من تلك الآثار ولا زالت تعاني حتى الآن.
6 - ما ترتب على الأمرين السابقين من دخول حلبة ميدان الكتابة في
الموضوع من ليسوا من أهل الاختصاص كبعض الصحفيين الذين سالت أقلامهم
بمشاعرهم وما نشأ عن مشاعرهم من تصورات قد يكون فيها المبالغة والحيدة عن
جادة الصواب.
7 - ازدياد عدد المثقفين في العالم وهو أمر محمود الذين يكوِّن الكثير منهم
تصوراته ومفاهيمه الإسلامية عبر ما يتلقفه وتقع عليه يداه من كتب ومقالات
وأشرطة دون منهجية علمية سليمة. ويمثل هؤلاء في عمومهم ومجملهم الأرض
الخصبة للاستقطاب المذهبي والطائفي المذكور.
بيان الضوابط وكيفية التعامل معها:
كل هذه العوامل والأسباب تجعل من آكد فروض الكفاية اليوم بيان الضوابط
المنهجية للتعامل مع المصادر الأولية والثانوية للفرق الإسلامية.
وفيما يلي محاولة متواضعة في الموضوع [12] ، وقد قسمت الضوابط إلى
قسمين بحسب تقسيم المصادر إلى أولية وثانوية.
أولاً: الضوابط المنهجية للتعامل مع المصادر الأولية:
الأول: ينبغي لطالب العلم المبتدئ والباحث المستجد الذين لم تتأصل لديهم
العلوم الشرعية، وليس لديهم المنهجيات الكافية الحذر من البدء بكتب الفرق، أو
بالكتب التي ألفت عنها؛ لأنها مفازة لا يستطيع اجتيازها إلا الخبير الذي أخذ للأمر
أهبته واستعداده، وإلا وقع في المهالك واحتوشته شبهات المنحرفين إلا أن يشاء الله
تعالى.
ومن أسباب هذا التحذير أن معظم الكتب العامة التي ألفت عن الفرق زرعت
الشبهات ولم تردَّ عليها، وبذرت الشكوك ولم تكترث لعواقبها.
فالنصيحة للمبتدئ في الموضوع أن يبدأ بالكتب الآتية:
1 - الكتب التي تحذر من البدعة والابتداع، نحو: «البدع والنهي عنها»
لابن وضاح، وكتاب الإمام الطرطوشي، وكتاب أبي شامة.
2 - الكتب التي أصَّلت الأصول والقواعد والضوابط في موضوع الفرق
والفرقة والاختلاف، ويأتي في مقدمتها كتاب: «الاعتصام» للإمام الشاطبي.
3 - البدء بالكتب التي كتبت عن الفرق ولم تكتف بإيراد الشبهات، بل ردت
عليها وفندتها ودحضتها. ويأتي في مقدمة هذه الكتب المفيدة: كتاب: «التنبيه
والرد على أهل الأهواء والبدع» لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي
(ت 377 هـ) فبالإضافة إلى ما يورده من آراء أهل البدع والرد عليها، قدم
له مؤلفه بمقدمات منهجية في الموضوع.
الثاني: ضرورة معرفة مصطلحات كل فرقة والإلمام بها قبل الشروع في
التعامل مع مصادرها أو غيرها من المصادر التي كتبت عنها، وذلك لمعرفة حقيقة
أقوالها، وتبين مقصدهم بكلامهم.
فالتوحيد مثلاً مصطلح أو مفهوم له دلالاته الخاصة عند كل فرقة من الفرق؛
فهو عند السلف غيره عند المعتزلة، وكذا الحال بالنسبة للأشاعرة والمتصوفة
وغيرهم.
وقُلِ الأمرَ نفسه بالنسبة لما يتعلق بهذا المفهوم من مفاهيم أخرى لها ارتباط به.
وقلّما يوجد مفهوم واحد في الفكر الإسلامي عموماً وفي الدراسات العقدية على
وجه الخصوص إلا ويوجد حوله اختلاف في معناه ودلالته بين الفرق الإسلامية
المختلفة [13] .
فلا بد من الوقوف على المصطلحات الداخلية الخاصة بكل فرقة، والحذر من
اعتماد الباحث وطالب العلم على فهمه الذاتي وتحليله الشخصي للمصطلح أو
المفهوم.
وإذا وجد بيان لمثل تلك المفاهيم والمصطلحات في كتب الفرقة نفسها فهو
الأوْلى والمعوَّل عليه.
ويكفي في بناء عنصر الحذر والانتباه في هذا الباب علمنا أن مصطلحات مثل:
«الفرق الناجية» ، «أهل الحقيقة» ، «أهل الشريعة» ، بل حتى «أهل
الجنة» لها دلالتها الخاصة وظلالها الخفية عند كل فرقة من الفرق الإسلامية.
الثالث: أهمية التفريق بين المصادر الأولية والثانوية في موضوع الدراسة أو
البحث، والتفريق بين المصادر والمراجع؛ وأن يكون الاعتماد على المصادر
الأساسية الأولية لكل فرقة، فهي مصدر معرفة رأي الفرقة، ومنها يستنبط
ويستشهد ويستدل.
أما المراجع والمصادر الثانوية فوظيفتها ثانوية كتقديم رأي للنقاش أو إغناء
الحوار أو المساعدة في تحليل نص. ولا يتم اللجوء إلى أي منها كمصدر بديل إلا
عند تعذر الوصول إلى المصادر الأولية تعذراً حقيقياً مطلقاً لا تعذراً نسبياً أو مؤقتاً،
وهذا الأمر خاص ببعض الفرق التي لا تعلم أقوالها إلا من خلال المصادر الثانوية
لقدم الفرقة وقلة أو انعدام مؤلفات رجالاتها. وحتى في هذه الحالة الاضطرارية لا
بد من مراعاة الضوابط العلمية والمنهحية في التعامل مع تلك المصادر والتي سأذكر
ما تيسر لي منها لاحقاً.
وأضرب بعض الأمثلة للضابط السابق:
1 - فمن المصادر الأولية للمعتزلة «المغني» للقاضي عبد الجبار.
2 - ومن المصادر الأولية للأشاعرة «المواقف» للإيجي، وشروحه.
3 - ومن المصادر الأولية للماتريدية «النسفية» للتفتازاني، وشروحها.
4 - ومن المصادر الأولية للشيعة الاثني عشرية «الكافي» للكليني.
ومع ما مر ذكره لا بد من مراعاة الضوابط الأخرى التالية.
الرابع: الوقوف على المنظومة العقدية للفرقة، والأقوال المتفق عليها لديهم
ومعرفة رجالاتها، فلكل فرقة أقوال اتفقت عليها كلمتهم، وأمور وتفصيلات اختلفت
فيها؛ حيث كانت سبباً في تفريقها إلى فرق أخرى صغيرة. وقد حاول عبد القاهر
البغدادي وغيره جاهداً تتبع المتفق عليه والمختلف فيه بين رجالات كل فرقة في
كتابه «الفِرَق» [14] ، ولعل هذا يفسر لنا منهج البغدادي في تسمية الفرق الفرعية
لكل فرقة رئيسية حيث ينسبها إلى صاحب المقولة بغض النظر عن وجود أتباع له
أم لا.
ومن الأمثلة التطبيقية لهذا الضابط: أن النظّام مثلاً رفض اعتزاله كثير من
المعتزلة. فلا يصح بذلك نسبة ما قاله وتفرد به عنهم إلى كامل الطائفة.
الخامس: التحري من نسبة القول إلى قائله والتأكد من مدى صحة تلك النسبة؛
فقد ينسب قول لفرقةٍ مَّا ثم لا يتوافر دليل واحد على صحة هذه النسبة، ولعل
الأمر يكون تخميناً أو ظناً أو رجماً بالغيب من قِبَل المخالفين.
فلا يفوت الباحث الناقد البصير عدم الجزم أو القطع بأمر يصعب إثباته على
وجه اليقين؛ حيث إن قضية اليقين في مسائل كهذه أمر نسبي.
وكمثال يوضح لنا أهمية هذا الضابط ما ذكره ابن تيمية في شأن ما ينقله
بعض المصنفين في بعض المسائل الاعتقادية عن طوائف «المرجئة» بقوله:
«وبعض الناس يحكي هذا عنهم وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض
ولم يرد منهم أن يعملوها ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين
يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيَّناً أحكي عنه هذا
القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يعيِّنون قائله» [15] .
السادس: أهمية الرجوع إلى المصادر المعترف بها من قِبَل الفرقة نفسها،
والتي تعتمد عليها في نشر آرائها ومعتقداتها. فلا يعتمد الباحث على مصادر
مشكوك فيها أو غير معترف بها من أصحاب الفرقة. فمحاولة إلزام «الشيعة
الاثني عشرية» بكتابات «موسى الموسوي» ، مثلاً، وهو في نظر بعض أهل
السنة شيعي معتدل، ولكنه بالمقابل يعتبره الشيعة شيعياً معارضاً، فأي استدلال
بكتاباته لن تلزمهم وإن كانت قد تقنع الآخرين.
السابع: يجب أن يكون الباحث عالماً بالمسار التاريخي للفرقة منذ النشأة
وانتهاءاً بالعصر الحديث إن كانت الفرقة لا تزال موجودة، وأن يكون عالماً بأهم
المحطات والأحداث التاريخية التي عاشتها، وبمواقف علمائها وأعلامها، وبطبقاتهم
ومصادر التأثير فيهم وعليهم. وأن يحاول الباحث ما أمكنه جهده وطاقته أن يربط
بين أفكار وأطروحات الفرقة والظروف الزمانية والمكانية التي تقلبت وعاشت فيها،
وكذا الواقع التاريخي والفكري والسياسي الذي عاصرته؛ فإن ذلك يعين على فهم
كثير من القضايا والإشكاليات وتفسيرها.
وهذا الأمر ينطبق على الفرقة باعتبارها فرقة وعلى رجالاتها بوصفهم أفراداً؛
فبعض مفكري الفرق من يكون قد مر بمراحل فكرية معينة وانعكس ذلك على
كتاباته ومؤلفاته وأفكاره ومواقفه.
ومن أمثلة ذلك: أبو الحسن الأشعري، وأبو حامد الغزالي [16] ؛ لأن فهم
هذا الأمر وإدراكه مما يعين بإذن الله على استيعاب الاختلاف الذي قد يقع بين
مصنفاتهم.
ومن هذا الباب أهمية معرفة طبيعة الكتاب التي أُلِّف من أجلها والظرف الذي
أحوج إليه. فمن المؤلفات ما كان السبب المحوج إليه المناظرات والخصومات بين
الفرقة وغيرها.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في هذا الشأن: «شغل المعتزلة
بمجادلة الزنادقة والروافض والثنوية وغيرهم، وكل مجادلة نوع من النزال،
والمحارب مأخوذ بطريقة محاربه في القتال مقيد بأسلحته، متعرف لخططه، دارس
لمراميه. وكل ذلك من شأنه أن يجعل الخصم متأثراً بخصمه، آخذاً عنه بعض
مناهجه؛ فالمعتزلة قد سرى إليهم بعض من تفكير مخالفيهم» ثم ذكر قولاً مشابهاً
للمستشرق (نيبرج) وقد يكون استنبط من قوله قاعدته السابقة في مقدمة إخراجه
لكتاب «الانتصار» للخياط المعتزلي: «مَنْ نازل عدواً عظيماً في معركة فهو
مربوط به مقيد بشروط القتال وتقلب أحواله، ويلزمه أن يلاحق عدوه في حركاته
وسكناته وقيامه وقعوده، وربما تؤثر فيه روح العدو وحيله، كذلك في معركة
الأفكار، وفي الجملة فللعدو تأثير في تكوين الأفكار ليس بأقل من تأثير الحليف
فيه» [17] .
الثامن: وقد يكون من أهم الضوابط التي ينبغي اعتمادها في دراسة الفرق
ومناقشة آرائها: الأمانة والنزاهة العلمية التي تنأى بالباحث عن الخروج عن حد
الموضوعية أو التحيز والتعصب لرأي معين دون أي دليل أو برهان. فلا بد
للباحث من الحياد الموضوعي في التعامل مع اضطراب المصادر، وأن يتحرى
الدقة والأمانة العلمية في النقل عن تلك المصادر، فلا يتلاعب بالأقوال أو يؤولها
ويحملها ما لا تحتمل.
وفي التعامل مع تلك المصادر لا بد من الاقتباس الكامل للنصوص وعدم قطع
تلك النصوص أو بترها لتتناسب مع فكرة الباحث ورأيه المسبق.
كما أنه لا بد من الرجوع إلى أكبر عدد ممكن من المصادر عن كل فرقة، ثم
المقارنة بين تلك المصادر للتعرف على آراء الفرقة وخلفياتها الفكرية بموضوعية،
وعدم تجزئة أقوال الفرقة أو أقوال أئمتها، فلا يكون البحث علمياً إذا جمعت
الأقوال الشاذة لفرقة مَّا لتعتبر هذه الأقوال هي آراء الفرقة. وإنما المعتبر هو ما
عليه جمهور الفرقة وزعماؤها أو ما اتفقت عليه كلمتهم كما مر سابقاً. وأما تفرد
فرد من الفرقة بقول لم يوافقه عليه غيره فلا يمكن أن ينسب للفرقة أو أن تتحمل
الفرقة تبعة هذا القول أو ذاك.
ومن ذلك عدم تقويل شخصٍ مَّا شيئاً لم يقله، أو إلزامه بلازم القول أو
المذهب، وهو أمر يقع أحياناً من بعض الباحثين والدارسين في تحليل أقوال
الأشخاص والإشارة إلى أنه يقصد بالقول كذا وكذا.
ومن ذلك عدم قبول أقوال الفرق المتخاصمة في طعن بعضها بعضاً؛ لأن كل
فرقة تشنع على مخالفيها وتحاول تصيد أخطائهم إلى حد المبالغة بل والتزوير أحياناً
والزيادة على الأقوال. ومنها أن يكون الغرض من البحث أو الدراسة هو معرفة
الحق في المسألة، وليس لأغراض أخرى حتى يتجنب الباحث مشكلة التعصب
لفرقة أو ظلم أخرى.
ومنها البعد عن التعميم في إصدار الأحكام المتعلقة بالفرق؛ فلا بد من التحديد
الذي يخرج بالباحث عن دائرة التكهنات والافتراضات.
ومنها الإنصاف مع المخالف والاعتدال في النظرة إليه.
ومنها عرض أي رأي يختاره الباحث أو ينتقده على الكتاب والسنة؛ فهما
المعيار الصحيح والوحيد لضبط الأقوال وقبولها أو ردها؛ فما وافقهما قُبِلَ، وما
خالفهما رُدَّ.
التاسع: فهم طبيعة الاختلاف بين الفرق، ومعرفة كيفية التعامل معه. ويمكن
فهم طبيعة الاختلاف بين الفرق في ضوء ما ذكره العلامة ابن القيم عند حديثه عن
تقسيم الاختلاف إلى محمود ومذموم وبيان حال كل منهما بقوله: «الاختلاف ينقسم
أهله إلى محمود ومذموم؛ فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده
في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه،
وإن أخطأ مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم» [18] .
ثم يبين رحمه الله طبيعة الاختلاف المذموم ليكون مدخلاً لكيفية التعامل معه
فيقول: «والاختلاف المذموم كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق؛
فلا يقر له خصمه به بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل
الباطل على النصوص التي مع خصمه؛ وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل
الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون
باطلهم» ثم أوضح المنهج الحق في التعامل مع الاختلاف الذي بين الفرق فقال:
«فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق؛ حيث كان ومع من كان، ولو كان مع
من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان، ولو كان مع من يحبه ويواليه؛
فهو ممن هدي لما اختُلف فيه من الحق» [19] .
وقفة مهمة:
ويجب التنبيه إلى أمر مهم هنا وهو ضرورة فهم كلام الإمام ابن القيم في
سياقه الصحيح. فالواحد منا لا يكوِّن عقيدته وتصوراته ومفاهيمه بالتقاطها من هنا
وهناك من كتب الفرق ليصلَ إلى الحق.
بل الأصل والأمر المتوجب هو بناء العقيدة الصحيحة من مصادرها الأصلية
أولاً، وبناء المنهجية العلمية الرصينة من القواعد والضوابط والأصول، وقواعد
الترجيح من مظانها قبل التعامل مع أقوال الفرق وآرائها، وذلك حرصاً على سلامة
المعتقد وبعداً عن لوثات المبطلين وشبهاتهم التي توقع صاحبها في الحيرة والشك
والتخبط الذي قد لا يفارق صاحبه إلا بالموت، نعوذ بالله من ذلك.
العاشر: ويتفرع عن الضوابط السابقة معرفة المنهج الصحيح في الحكم على
الفرق المخالفة؛ وقد قعّد الإمام الشاطبي لهذه المسألة في كتابه: «الاعتصام» ،
ويمكن تلخيص أهم القواعد التي استخلصها من كلام العلماء وأئمة السنة في المسألة
وذكرها في كتابه كما يلي:
1 - أن الفرقة لا تصير فرقة إلا بمخالفة الحق في أصل كلي، أو في
جزئيات كثيرة لها حكم الأصل الكلي.
2 - أن الثنتين والسبعين فرقة المخالفة الوارد ذكرها في الحديث هي جزء
من أمة الإجابة، وأنهم مسلمون لا يحكم عليهم بكفر بدليل نص الحديث نفسه:
«وستفترق أمتي» .
3 - أن هذه الفرق وإن حادت عن الجادة والصواب في قليل أو كثير ووقعت
في البدعة، إلا أن هذه البدع ليست مكفرة. والبدع وإن كانت أشد حالاً من
المعاصي إلا أن حكمها حكم المعاصي في الآخرة؛ حيث يكون صاحبها تحت
المشيئة، فإن شاء الله عذبه على قدر بدعته ثم مآله إلى الجنة والنعيم، وإن شاء
غفر له ابتداءاً وأدخله الجنة. وهذه المغفرة قد تكون بسبب: كزيادة الحسنات على
السيئات أو بشفاعة أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لدفع العذاب [20] ، وقد تكون
بمحض عفو الله ورحمته.
4 - قد يكون من تلبس برأي فرقة من الفرق معذوراً بسبب من أسباب العذر
الشرعي، والذي من شأنه أن يرفع عنه الوزر والإثم.
ثانياً: الضوابط المنهجية للتعامل مع المصادر الثانوية
(المراجع) في الفِرَق:
تشمل هذه المصادر الثانوية ما يلي:
1 - المصادر العامة التي سبقت الإشارة إليها في أول المقال.
2 - المصادر الخاصة التي كتبت عن «الفرق» ولكن من غير أصحابها.
3 - الدراسات المعاصرة والمراجع المتأخرة سواء أكانت رسائل علمية لنيل
درجة علميةٍ مَّا، أو كانت كتباً علمية ألفها أهل الاختصاص في الفن من المتأخرين،
أو ألفها كاتب من عموم المثقفين والمفكرين المعاصرين.
4 - الدراسات التي ألفها المستشرقون عن الفرق الإسلامية وآرائها، ويدخل
في ذلك كتب الفرق التي قاموا بتحقيقها والتقديم لها.
وفيما يلي أهم هذه الضوابط حيال تلك المصادر:
الأول: ضرورة فهم الآراء والأقوال في المصادر الثانوية بعد فهمها في
مصادرها الأولية.
الثاني: التثبت من صحة الأقوال ونسبتها، والمقارنة بين ما ورد في المصدر
الثانوي والمصادر الأولية لتوثيق الأقوال وتمحيصها ومعرفة أوجه الاتفاق
والاختلاف.
الثالث: عند النظر في المعلومات المأخوذة عن المصادر الثانوية لا بد من
التفريق بين: ما يمكن اعتباره حقائق مسلَّمة وأموراً ثابتة لا تقبل الجدل، وبين ما
يمكن اعتباره افتراضات وتخميناً تحتاج إلى برهنة ودراسة واختبار للتأكد من
صحتها أو خطئها؛ وبين ما هو رأي أو وجهة نظر قد تكون راجحة أو مرجوحة.
الرابع: عدم الاكتفاء بمصدر ثانوي واحد في أخذ المعلومة حتى لا تتكرر
الأخطاء، بل يتوجب على الباحث وطالب العلم والمثقف الرجوع إلى أكبر عدد
ممكن من المصادر الثانوية لا سيما في حالة قلة المراجع الأولية أو عدمها؛ ثم
المقارنة بين المصادر الثانوية فيما بينها ليظهر الحق في المسألة.
الخامس: على الباحث وطالب العلم أن يكون على علم بموقف صاحب
المصدر من الفرقة التي هي موضوع الدراسة، فلا يعتمد على مناصر ولا معارض.
وهذا الأمر يستوجب بذلك الجهد ومضاعفته في تخير المصادر الموضوعية.
أما الدراسات التي تنطلق من منطلق عدائي أو تقديسي فلا تعتمد باعتبارها
أساساً ولكن قد يتم الرجوع إليها بوصفها دراسات استثنائية تعين الباحث على معرفة
عمق توجهات الفرقة إذا كان الكاتب مناصراً لها، كما تعينه على معرفة جوانبها
المتعددة.
وأما إذا كانت الدراسة عدائية فهي تعينه أي الباحث على تفهم موقف الآخرين
«المخالفين» من هذه الفرقة وأهم النقاط التي انتقدت لأجلها.
والأصل أن تكون الأولوية للكاتب الذي عاصر تلك الفرقة ولا تربطه بها أي
علاقة انتماء أو عداوة.
كما ينبغي أن يكون الباحث مدركاً ومستبصراً بما يطلق عليه «مرحلة
الاستقطاب المذهبي» [21] كما يجب الانتباه إلى معرفة حقيقة الظروف والملابسات
التي أحاطت بكتابة تلك المصادر.
السادس: لا بد من أن يضع الباحث في اعتباره عند التعامل مع هذه المراجع
أنها نتاج جهد بشري يعتريه ما يعتري كل الأعمال البشرية من الخطأ والنسيان
والقصور.
وبناءاً على ذلك الأمر لا بد أن تخضع تلك الدراسات لميزان الحقيقة والنقد
والتمحيص.
السابع: الحذر من تقليد بعض الدراسات المعاصرة التي وقعت في شراك
المستشرقين وحبائلهم، وتأثرت بآرائهم وأقوالهم واستنتاجاتهم؛ حيث نقلتها
واعتمدتها وأخذت بها مأخذ التسليم.
وكذا الحذر من الإسقاطات المعاصرة لدى بعض الدراسات؛ حيث حاولت
تفسير الأحداث التاريخية السابقة في ضوء ما هو واقع اليوم [22] .
الثامن: هناك بعض الأسئلة التي ينبغي للباحث أن يطرحها على نفسه عند
قراءة المصادر الثانوية ومراجعتها لعلها تنير له الطريق وتحدد له مدى جدوى
الدراسة التي يتعامل معها ومصداقيتها. فمن هذه الأسئلة:
- ما هو الدافع والمحرض على كتابة المقال أو الكتاب؟
وأضرب مثالاً على ذلك بكاتبين من بلدين مختلفين ألف كل منهما كتاباً يناصر
فيه فكر المعتزلة ومنهجهم، وكان سبب مناصرتهما لهذه الفرقة وفكرها واضحاً من
خلال عباراتهما ومقدماتهما وتعليقاتهما أنها ردة فعل، مع اختلاف في نوعية ردة
الفعل تلك. وقد نسي هذان المسكينان أن منهج المعتزلة يعتمد القوة وفرض الرأي
على الآخرين، كما يعتمد مصادرة أفكار الآخرين مهما كان حالها وصحتها، والحكم
على المخالف بالكفر. لقد فر هذان الكاتبان من شيء ليقعا في أسوأ منه.
ومن الأسئلة أيضاً:
- هل كان الكاتب عضواً من أعضاء الفرقة، أو هو ينظر إلى الفرقة من
خارجها؟
- إلى أي حد حلل النصوص المنقولة عن الفرقة من زاوية نظر تخصصه؟
- ما هي المنهجية التي استعملها لتحديد الفرقة وتصنيفها؟
- هل صنفها حسب أفكارها وآرائها، أم حسب مفكريها وأعلامها؟
- ما هي الضوابط والمعايير التي استعملها في تصنيف الفرق الصغيرة
الفرعية داخل تلك الفرقة؟
- ما هي المصادر والمراجع التي رجع إليها في دراسته لتلك الفرقة: هل
هي مصادر أصلية أم ثانوية؟ هل هي مصادر الفرقة نفسها أم مصادر كتبها عنها
مخالفوها؟
- وفي حالة كونها مصادر ثانوية: هل تحدث الكُتَّاب بوصفهم أشخاصاً
معاصرين للفرقة وشاهدي عيان، أم هم مجرد نقلة؟ وكم بينهم وبين الحدث من
سنوات ونَقَلَةٍ؟
- هل هؤلاء النقلة ثقات وموثقون؟
- هل حاول هؤلاء الذين كتبوا عن الفرقة كمصدر ثانوي التأكد من الحقائق
والمعلومات التي يذكرونها؟
- هل أصحاب الفرقة المتحدث عنها يوافقونه فيما توصل إليه، أم أن
مصادرهم تقول خلاف ذلك؟ وإذا كان لديهم خلاف ذلك فهل حرره وبينه؟
- إلى أي حد كان الكاتب موضوعياً أو متجنياً منحازاً ضد الفرقة؟
- إذا كان النقل عن مصادر أولية كتبها أصحاب الفرقة أنفسهم: هل ما نقل
عن الفرقة هو كلام كل من ينتسب إليها؟ أم أنه كلام فرقة من فرقها؟ أم اجتهاد
علم من أعلامها قد لا يوافقه عليه غيره منهم؟ أم أنه على الأقل كلام جمهورهم
ومعظمهم؟
- في أي فترة تاريخية كتب الكتاب: في مرحلة تكون الفرقة وبداياتها، أم
أنه في الفترة الوسطى (التطور) ، أم في فترة لاحقة ومتأخرة؟
إن إثارة مثل هذه الأسئلة وغيرها له دور جيد في التعامل مع المصادر
الثانوية، لتحصل الفائدة المرجوة للباحث، ويخرج من بحثه بنتائج علمية مثمرة.
ولا يفوتني تذكير القارئ الكريم بالحرص على الدعاء النبوي الجامع في هذا
الباب رغم بذل جهده في تحقق الأسباب بالأخذ بالضوابط المذكورة وغيرها والذي
خرَّجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، فيما روته عائشة رضي الله عنها
وعن أبيها في شأن دعاء استفتاحه صلى الله عليه وسلم، الصلاة عند قيامه لصلاة
الليل، ونصه: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات
والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم» [23] .
كما أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا المقال بداية ومفتاحاً لمجهود علمي
أكبر في هذا المجال المهم، وأن يتحول إلى دراسة علمية أوسع وأشمل وأكثر فائدة
لطلبة العلم؛ سواء حصل ذلك الأمر مني أو من غيري. كما أسأله سبحانه أن
يوفقنا جميعاً إلى ما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يثبتنا على الحق
والصراط المستقيم، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً
آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده
ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سيأتي الحديث عنه وتخريجه لاحقاً.
(2) لاحظ العبارة؛ فالظاهرة عامة والحديث عن جمع من المصنفين الذين يسلكون المسلك نفسه، وليس عن الشهرستاني فحسب، فليتأمل.
(3) ابن تيمية: «منهاج السنة النبوية» ، 6/300 من منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، 1406هـ 1986م.
(4) عبد العزيز بن محمد علي العبد اللطيف: «مقالات في المذاهب والفرق» ، ص 51، دار الوطن، الرياض، 1413هـ.
(5) انظر: جمال الدين القاسمي: «تاريخ الجهمية والمعتزلة» ، ص 23، 24، ونقل كلام الرازي المذكور الدكتور عرفان عبد الحميد في كتابه «الفرق والعقائد الإسلامية» ، ص 128 الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ 1977م.
(6) أول الكتب تأليفاً عن الفرق «مقالات الإسلاميين» لأبي القاسم البلخي عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي المعتزلي (ت 317 هـ) .
(7) انظر: يحيى بن إبراهيم بن علي اليحيى «مرويات أبي مخنف لوط في تاريخ الطبري» ، دار العاصمة، الرياض، 1410هـ.
(8) انظر: «ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي» ، 1/252 257، 267 281، مكتبة الطيب، القاهرة، 1417هـ.
(9) منها: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وسنن الدارمي، والطبراني في «الكبير» و «الصغير» ، وصحيح ابن حبان، ومصنف ابن أبي شيبة ومسند أبي يعلى.
(10) منهم: أبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان: وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك، وأنس بن مالك، وأبو معاوية، وأبو الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.
(11) صحح الحديث الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في تخريج الكشاف، وجوَّد إسناده الحافظ العراقي.
(12) أفدت من كثير مما ذكر من هذه الضوابط من خلال تدريسي لمادة «الفرق» لطلبة كلية معارف الوحي بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا على المستوى الجامعي ومرحلة «الماجستير» .
(13) ولذلك يحسن في مثل هذه الحال للباحث وطالب العلم الرجوع إما لكتب الفرقة نفسها للتعرف على المصطلح المراد، أو الرجوع إلى معاجم المصطلحات وأهمها: أ - كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي ب - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة ج - مفاتيح العلوم للخوارزمي د - اصطلاحات الصوفية للكاشاني.
(14) مع ما ذكره من المؤاخذات العلمية التي عليه.
(15) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 7/181، طبعة الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين.
(16) ينصح بمراجعة كتاب «الحقيقة في نظر الغزالي» للدكتور سليمان دنيا.
(17) تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، ص 127، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة.
(18) الصواعق المرسلة، ص 515، النسخة المحققة.
(19) المصدر السابق.
(20) أوصلها بعض العلماء إلى عشرة أسباب كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقله ابن أبي العز في شرح الطحاوية.
(21) كما أشار إليه الأستاذ الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح في كتابه: «دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية» .
(22) انظر: د سفر الحوالي: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، 1/252 257، 267 281، 302 305.
(23) رواه مسلم في صحيحه، 1/534.(154/12)
قضايا دعوية
ما كل ما يعلم يقال.. وفي الدعوة أيضاً
سليمان الخضير
يصادف القارئ أثناء اطلاعه على بعض الكتابات التي تصف واقع المسلمين
أو تقومه مقاطع وفقرات قد صيغت بأسلوب يجمع بينها أنها تحمل في صريح
عباراتها آهات وزفرات أفرزتها غَيْرةٌ وحرقة فيما نظن لكنها تحكي من وراء
مجموعها نفسية قاتمة وتصوراً كالحاً للحال الذي يعيشه المسلمون، وربما تزيد
الظلامية النفسية في بعضها فيعطي المتحدث أو الواعظ أو الكاتب وصفاً باستحالة
التغيير، وأنه ضرب من إضاعة الوقت، وخير له أن يُقْبِلَ على خاصة نفسه.
والحديث لا يدور في صحة فحوى تلك العبارات، ولا على الباعث عليها،
ولا هل كان أصحابها ذوي نفسيات تشاؤمية؟ وإنما الكلام من خلال قاعدة مشهورة
هي أن (ما كل ما يعلم يقال) ؛ فلقد جربنا تحذير الناس عن طريق التألم على
الواقع، وتعداد حالات الانحراف المرير، وسردنا لهم أمثلة على تفاهة اهتمامات
الشباب، وإسفنجية المرأة.. وأخطاء الصحوة.
ولكن هل الناس مع اختلاف نفسياتهم وتباين طباعهم يؤثر فيهم هذا الأسلوب
المفرد؟ وهل مجموع الناس على الصفة المذكورة؟
فهل يسعنا أن نجرب بالإضافة إلى طريقة التحذير أسلوب إبراز الجانب
المشرق في واقع الناس من خلال إعلان النماذج الرائعة في التسابق للخيرات من
غير المتدينين والتصريح بإكبار الشباب لعلماء الشريعة وإجلالهم في نفوسهم، وذكر
الأفكار التربوية التي تفتقت عنها تجارب ربات البيوت، ومدى إقبال الفتيات
والأمهات على مدارس تحفيظ القرآن الكريم النسائية، ونتائج الدراسات الميدانية
الإيجابية لواقع الناشئة والفتيان؟
قد يكون الوصف المشين لواقعٍ مَّا صحيحاً، ولكن التصريح به دائماً وربما
تعميمه يلقي في النفوس شعوراً بالإحباط، ولعل هذا مما يشمله مفهوم حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم»
على رواية فتح الكاف، أي تسبب في هلاكهم بإشعارهم بالهلاك من خلال وصفهم
به [1] ، على نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه: «إنك إن
اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم» [2] . قال في فتح الودود: أي إذا
بحثت عن معايبهم وجاهرتهم بذلك فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم منك، فيجترئون على
ارتكاب أمثالها مجاهرة [3] ، ربما كان سبباً في إعطاء بعض من لديه ميل للشر
جرأة على المنكر؛ ولذا حرم الله سبحانه الحديث في من وقع في الزنا، إلا من
قامت عنده البينة (أربعة شهود بشروط) ؛ لما في الخوض في ذلك من إشاعة
الفاحشة [4] قال الله تعالى: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ
عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن
نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]
(النور: 15-19) ، وهذا عند ذكر الحالات الفردية؛ فكيف إذا كان وصفاً
عاماً؟ إنه حينئذ يتيح فرصة لمن كان يقلقه فعله المعصية أن يهدِّئ روعه؛ فهو كما
يتصور من التعميم يرى المجتمع على مثل حاله! ! وقد قال عثمان رضي الله عنه:
ودَّت الفاجرة (أي الزانية) لو أن أهل المدينة كلهم زنوا.
وفي المقابل فإن بعض النفوس لا تتحمل الوقوف أمام الخطر وحدها؛ وتشعر
في الوقت نفسه أنها المكلفة بإزالته أو تغييره ولا يمكنها ذلك، فتصادق اليأس وتلوذ
بالسلبية.
لقد كان أحد أسباب وقوع الناس في المعصية وغلبة الغفلة عليهم عدم
الإحساس بالمسؤولية، وضعف الشعور بالانتماء للإسلام من خلال الفهم المخطئ
للانتماء للإسلام: أنه لا يكون إلا بالاتباع المحض، والتدين الصادق، فصاروا
ينظرون لأنفسهم نظرة تقويم سلبية تدفعهم لـ (اللامبالاة) بالأحكام الشرعية؛
باعتبار وقوعهم في المعصية وخروجهم عن الإسلام الصحيح مع احتفاظهم بالاسم
وحين تذكر لبعضهم الجوانب المشرقة في نفسه، والمواقف الإسلامية التي تُحفَظ له،
ومشاعره الصادقة تجاه الدين وأهله: حينذاك تشرق نفسه وينفتح لها أفق جديد قد
لا يتغير في ظاهره شيء ولكن حسبنا أن وثَّقنا الإسلام في قلبه؛ فهو خير لنا من
أن ننخذع بظاهرٍ باطنه خواء، أو نخسر مسلماً فهم الانتماء للإسلام خطأ!
إنه مع وجود مظاهر الخلل والانحراف الواقعة في مجتمعات المسلمين اليوم فإن
جوهر الإسلام ولله الحمد باق ما يزال نابضاً في الحياة الاجتماعية الإسلامية إلى حد
كبير؛ فجذوة العقيدة حية في النفوس علاها الرماد بتأثير المعاصي والمنكرات
والبدع والخلط في بعض المفاهيم ك (العبادة، والإسلام) ، والانصراف عن القوة
في أخذ الدين والجدية في التربية، ولكنها حية تنتظر من ينفخ عنها الرماد لتشتعل
من جديد، وبخاصة عندما تهدد الإسلام قوى خارجية أو داخلية، وبتعبير أدق:
عندما ينجح الدعاة في إشعار جماهير المسلمين بوجود الخطر على الإسلام [5] ،
وأن كل فرد منهم عليه أن يساهم في رد هذا الخطر؛ فجوهر الإسلام باق ما يزال
نابضاً في نفوسهم وكثير من أنماط حياتهم.
ولعلي لا أعد عدم التفات من لم يلتفت من الدعاة إلى هذا الملحظ
(إبراز الجانب المشرق) أو عدم توفيته ما يناسبه من اهتمام لا أعده مشكلة حينما
تكون القناعة به راسخة في الأذهان؛ فهو على غرار جملة من المبادئ
والمسائل والاهتمامات في طريقها للتنفيذ، تختفي لبعض الوقت لتخلف القدرة
عليها تارة، وتقدير عدم ملاءمة الزمان والمكان تارة أخرى!
إنما غاية الإشكال والحرج في عدم قناعة بعض الدعاة بوجود جانب مشرق
فضلاً عن جوانب في المجتمع، وإنما الواقع في نظره أكوام من المنكرات تتكدس
شيئاً فشيئاً؛ فتستحيل براكين يترقب ثوراتها في أي لحظة، ومثل صاحب هذا
الرأي بحاجة إلى أن يقف على نتائج دراسات صادقة، وبشائر لا تخلو منها
المجتمعات الإسلامية بحمد الله وتقديم الدلائل على أن بعض الأمور قد تكون في
ظاهرها شراً أو يغلب عليها الشر لكن فيها مصلحة خفية لا تلبث أن تربو وتنمو،
فتزهر خيراً كثيراً، وتثمر فجراً جديداً.
وحينما يؤكد على ضرورة إظهار الجانب المشرق للمجتمع ينبغي لنا مراعاة
أمور منها:
1 - أن ما تقدم لا يفهم منه المناداة بترك جانب التحذير بالكلية، وإغفال
إيضاح أبعاد الشر، وتقدير تبعاته لو استمر الحال؛ فهذا الفهم انتقال من طرف إلى
طرف، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
2 - إن إظهار الجانب الإيجابي ينبغي ألاَّ يكون مديحاً صرفاً يكال بالمكيال،
وإنما يوظف لنفض ما قد علق ببعض النفوس من اليأس والانهزامية، وأن يكون
منضبطاً متزن الطرح؛ فإنه قد يترتب على التوسع فيه ركون الناس إلى هذا
المديح والإخلاد إليه، فيعمل فيهم عمل المسكر: نشوة ولا عمل!
3 - أن حاجة الناس إلى البرامج العملية التي تصحح واقعهم في أنفسهم
ومجتمعهم لا تقل عن حاجتهم لتقويم الواقع وتصحيحه، وإبراز مواطن الشر فيه،
وتحديد نقاط الضعف التي تتخلله، ومداخل العدو إليه، كما لا تقل عن حاجتهم إلى
زرع الثقة فيهم، وإقناعهم بطاقاتهم ومواهبهم وتوظيفها توظيفاً شرعياً.
وهم بحاجة كذلك إلى قيادات تقدم لهم تلك البرامج العملية، وتتقدمهم فيها،
وتشاركهم تنفيذها.
4 - تتعرض المفاهيم لأكثر من سبب إلى عوامل تعرية (أو تغطية) مما
يستوجب مداومة مراجعتها مع الناس، وعقد المقارنات مع معان أخر مظنة وقوع
الخلط بينها، وتأصيلها تأصيلاً شرعياً، وتنبيه الناس إلى دقائق من شأنها لفت
انتباههم إلى ما هو أبعد منها وأعمق؛ فإن من الخطر لبس الحق بالباطل، وتصور
الأشياء على غير وجهها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «المرء ما لم
يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة» [6] .
5 - وحين لا نرغب في ذكر جوانب كلية مشرقة في حياة عامة الناس أو
نجهلها فهل نملك أن نقدم لهم نماذج مفردة من واقعهم في التغيير؟ ! نحو:
- أخبار التائبين من المسلمين والكفار، على أن تكون تلك الأخبار والقصص
جامعة بين تنوعها في طبقات الناس وتخصصاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، وبين
بعدها عن المثالية في السرد والصياغة!
- أخبار من تفوَّق بعد إخفاق، أو شارك في الإصلاح بعد انطواء وعزلة، أو
كان ثمرة تربية عالم أو مربٍّ، أو نشأ في بيئة غير ملائمة واستدرك زمانه واغتنم
ما بقي من عمره؛ فقد أعاقتنا جُمَل مثل: «كان نابغاً في صغره» «ظهرت
علامات النجابة فيه منذ نعومة أظفاره» «حفظ القرآن ولم يناهز الحلم» «مات
ولم يخلف بعده مثله» «نشأ في بيت علم وصلاح» .
- أخبار المشاركين في مسيرة الإصلاح ولو بالقليل فكان له أثر ملموس.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) انظر تفصيل معنى (قول الرجل: هلك الناس) في شرح النووي على مسلم: (16/175) فهو مهم، على أن النووي رحمه الله نقل عن الحميدي أن رواية الرفع أشهر والله أعلم.
(2) رواه أبو داود، ح/4244.
(3) عون المعبود: (13/233) ، (أو كدت إلخ) شك من الراوي.
(4) انظر مجموع الفتاوى: (15/333 335) ، (14/209، 210) .
(5) انظر: الغارة على التراث الإسلامي: (10، 108) وواقعنا المعاصر (138) .
(6) مجموع الفتاوى: (10/368) .(154/24)
تأملات دعوية
الاعتدال في الحماس للفكرة
محمد بن عبد الله الدويش
من جوانب القصور لدى البشر الغلوُّ والإفراط، وفقدان التوازن في التعامل
مع الأفكار. ومن مظاهر فقدان التوازن: الغلو في الحماس للفكرة.
فقد يتكوَّن لدى المرء اقتناع بفكرةٍ مَّا، أو حماسة لمشروع دعوي أو علمي،
أو رؤية في تفسير ظاهرة من الظواهر؛ فيغلو في الحماس لهذه الفكرة. ومن
مظاهر هذا الغلو:
- تضخيم الفكرة وإعطاؤها أهمية أكبر من حجمها، سواء في الحكم على
مدى انتشار ظاهرة من الظواهر في المجتمع، أو في التفاؤل بنجاح مشروع من
المشروعات، أو في أهمية الإقدام عليه وخطورة إهماله، أو في صلة هذه الفكرة
بتفسير ظاهرة من الظواهر.
- توسيع دائرة الفكرة، والتكلف في ربط أمور كثيرة ربطاً متكلَّفاً بها، مع
أنه لا علاقة لذلك كله بهذه الفكرة من قريب ولا من بعيد.
- الاستهانة بغيرها، ويصل الأمر في أحيان كثيرة إلى احتقار ما يقوم به
الآخرون وينشغلون به عن هذه الفكرة الرائدة! ولو كانوا قد قاموا بوظائف شرعية،
أو سدوا ثغوراً مهمة مما تحتاجه الأمة؛ فهناك من يحتقر جهد من يدعون غير
المسلمين رغم دخول كثير من الناس في الدين على أيديهم بحجة سوء واقع
المسلمين وأنه أوْلى بالدعوة والاهتمام، وهناك من يحتقر من يعتني بالعلم الشرعي
ونشره وتعليمه بحجة أن غيره من الميادين الدعوية أوْلى منه، وهناك من يعكس
الصورة، وهناك من يحقر جهود البناء بحجة أن الأولوية في الاحتساب على
المنكرات ... وهكذا.
- الغفلة عن سلبيات هذه الفكرة ومشكلاتها؛ فكثير من الأفكار والمشروعات
قد لا تخلو من جوانب سلبية ومن مشكلات وعقبات، إلا أن الغلو في الحماس لها
يؤدي بصاحبها إلى أن يغفل عن سلبياتها ومشكلاتها، وكما قيل: حبُّك الشيءَ يعمي
ويصم.
- إشغال طائفة ممن لا يعنيهم الأمر بهذه الفكرة؛ فالناس طاقات ومواهب،
وقدرات وإمكانات، وما يعني الخاصة قد لا يعني العامة، وما يفقهه الدعاة وطلبة
العلم قد لا يفقهه غيرهم، فليس من المقبول أن نسعى إلى حشد طاقات الناس على
اختلاف مشاربهم وقدراتهم للحماس لفكرة معينة والتفاعل معها.
إن الغلوَّ صفة مرذولة مذمومة، تأباها الطباع المستقيمة، وتمجها العقول
السليمة؛ فكيف والشرع قد ذمَّ الغلو وعاب أهله بغضِّ النظر عن موضوع الغلو
ومجاله؛ فالغلو في تعظيم من يستحق التعظيم والتوقير قد يوصل إلى الشرك، بل
كثير من صور الشرك هي نتيجة للغلو في هذا الباب.
والغلو في التعبد ولو كان فيما هو مشروع بأصله يقود إلى رهبانية تخالف
منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فكيف بالأفكار والآراء التي تحتمل الخطأ
والصواب؟
وكما أن غلو الشخص في العبادة يشغله عن الواجبات الشرعية الأخرى كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان! أرغبت عن سنتي؟ ! فإني أنام وأصلي
وأصوم وأفطر وأنكح النساء؛ فاتق الله يا عثمان! فإن لأهلك عليك حقاً، وإن
لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً؛ فصم وأفطر، وصلِّ ونم» [1] .
فكما أن هذا الغلو يشغل صاحبه عن حقوق أخرى، فغلو المرء في الحماس
لفكرة يشغله عن غيرها.
وفي المقابل فحين لا تروق لنا فكرة فينبغي أن نعتدل في ردها ورفضها؛
فالغلو يولد الغلو.
__________
(1) رواه أبو داود، ح/ 1162.(154/28)
مراجعات في السيرة والتاريخ
قراءة سياسية لنصوص بيعة العقبة
عبد الحكيم الصادق
لا ريب أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الجولة السياسية لمدينة
الطائف، ورحلته الربانية إلى بيت المقدس وسدرة المنتهى، ولقائه مع ممثلي
الأمم من النبيين والمرسلين عليهم السلام قام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعديل
منهج التغيير؛ حيث اعتمد العمل من خلال مؤسسات المجتمع الجاهلي وأعمدته
المتمثلة في القبيلة وأركانها؛ فقد قام صلى الله عليه وسلم باتصالات مكثفة بتلك
المؤسسات، كقبيلة عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان،
ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبني نصر، وبني البكاء، وكندة،
وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة [1] .
كل ذلك محاولة منه صلى الله عليه وسلم أن يقبلوا الإسلام، أو يؤووه
ويمنعوه حتى يُبلِّغ دعوة الإسلام، ويُقيم دولة القرآن على أنقاض دول الكفر
والعصيان، وفي تلك التحركات السياسية قَدِم بعض قيادات الأوس والخزرج إلى
مكة سعياً لعقد تحالفات سياسية مع قريش رجاء أن تؤمن عليهم حياتهم الداخلية التي
كانت تهددها النزاعات الشديدة بين الأوس والخزرج، وتدفع عنهم المخاطر
الخارجية المتمثلة في تهديدات قبائل يهود، وذلك ما كان من زيارة سويد بن
الصامت الذي ارتاد مكة يبحث عن تحالف، وكذلك أبو الحيسر أنس بن رافع،
وإياس بن معاذ كانا في وفد لذلك الغرض، وأسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد
قيس الزرقي ذهبا إلى مكة للغرض نفسه كذلك!
وقد تم بالفعل اللقاء بشخص الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه
اللقاءات الاستراتيجية تدور في فلك إمكانيات قيام دولة الإسلام، والتمكين لها على
أرض يثرب حسب ما هو متاح من الحيز المكاني، والقطاع البشري المؤمن،
وحجم العناصر التأمينية الأساسية، كعنصر القوة العسكرية، والاقتصادية،
والأمنية.
الأبعاد السياسية لنصوص بيعة العقبة:
لا يخفى أن الإنسان مدني بالطبع؛ فهو مفطور على الاجتماع ببني جلدته،
تَحْدُوه بذلك دوافع الحصول على الكساء والغذاء والدفاع عن نفسه ضد الحيوان [2]
والإنسان خاضع لضرورة ثانية هي إقامة الجماعة السياسية لضبط جدلية النظام
والحركة؛ فالسلطة السياسية ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولا يمكن تصور
وجودها خارج الجماعة، كما أنه لا قيام للجماعة دون نظام سياسي. ذلك أن هنالك
قطبين يتقاسمان الوجود الإنساني، هما: قطب التعاون [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى] (المائدة: 2) ، ثم قطب الصراع [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، ومن ثم فإذا ما تصورنا هذا الوجود
كائناً حياً، كان لا بد له من ناظم يضبط ويكبح الغرائز الفردية الجامحة، وينمي
بالمقابل الإحساس بالتضامن الاجتماعي!
وهذا ما عبر عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله:
«لا بد للناس من إمارة بارَّة كانت أم فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين! هذه البارَّة
قد عرفناها؛ فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد
بها العدو، ويقسم بها الفيء» [3] .
فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الرائد كان يرى ضرورة السلطة
والتنظيم كضرورة الماء للكائن الحي، بل كان يرى ذلك حتى في أبسط شكل من
أشكال الاجتماع السياسي، كخروج ثلاثة نفر في سفر، كما صح عنه صلى الله
عليه وسلم ذلك، وذلك حين قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» [4]
وفي رواية أحمد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة
الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم» [5] .
يقول ابن تيمية رحمه الله في فهم هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قد:
«أوجب تأمير الواحد في الاجتماع العارض في السفر منبهاً في ذلك على سائر
أنواع الاجتماع» [6] .
ويقول في موضع آخر: «وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في
الآخرة إلا بالاجتماع، والتعاون، والتناصر، فالتعاون على جذب منافعهم،
والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد
لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة،
ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم
لا بد لهم من طاعة آمر وناه ... » [7] .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مدركاً تمام الإدراك للدور الذي تلعبه
السلطة في عملية النهوض التاريخي، والتغيير الحضاري الضخم، ولكنه لم يدرك
ذلك مقولة ذهنية فحسب، بل مارس تلك الحقيقة ممارسة الواعي بخطه
الاستراتيجي، المدرك لتقلبات النظم السياسية، الراصد للتحولات العرفية
والإنسانية، العارف بالضرورة الإنسانية والحاجة الفطرية لذلك؛ حيث إنه كان
حريصاً على إقامة السلطة السياسية، وبناء الدولة الإسلامية قبل هجرته للمدينة،
وذلك أثناء بيعات العقبة الثلاث التي ركزت على تأسيس مقومات الدولة، وقيام
أركان الاجتماع السياسي بصورة لم يسبق لها مثيل ولا نظير في تاريخ التحول
البشري، والاجتماع السياسي.
أولاً: البعد الديني في بيعة العقبة:
يتضح مما مضى أن الدولة الإسلامية قائمة على عقيدة، وفكر، وتصور،
وأنه بقدر وضوح هذه القضايا في أذهان أفراد المجندين لصفوف الدولة،
وانتشارهم أفقياً ورأسياً مشكلين بذلك قاعدة عريضة تحمل هذه العقيدة والفكر
والتصور الصحيح، أقول: بقدر هذا الوضوح والانتشار يكون التمكين للدولة،
وبسط التأمين الشامل لأفكارها، وقياداتها، وبرامجها الآتية والبعيدة، كما يفهم ذلك
من قوله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55) .
ولأهمية هذا البعد الديني جاء ذكره في صدارة بنود مشروع قيام الدولة
الإسلامية؛ حيث قال الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: «أما الذي أسألكم لربي:
أن تؤمنوا به، ولا تشركوا به شيئا» [8] . وذلك ضرورة لتحقيق الإيمان بالله
ومقتضيات ذلك الإيمان، واجتناب نواقضه الاعتقادية، والقولية، والعلمية، لكون
ذلك شرط صحة في المشروع الإسلامي على مستوى الفرد والجماعة في مرحلتي
الدعوة والتأسيس، والدولة والتمكين ... يعبدونني لا يشركون بي شيئا.
ثانياً: البعد السياسي:
لا يخفى أن البيعة الأولى كانت تدور في فلك ضرورة الإيمان بهذه الدعوة
الجديدة وحمايتها ونشرها بين أوساط قبائل الأوس والخزرج تمحيصاً لتحقيق أبعاد
المشروع السياسي، وذلك بإقامة دولة الإسلام بأركانها الاعتبارية (دار وأنصار
وسلطان) .
وهذا البعد السياسي فيما يبدو كان واضحاً في أذهان الرهط الخزرجي،
وبرهان ذلك حين أشار الرهط الخزرجي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
أن يتريث في القدوم عليهم إلى أن يتمكنوا من ترتيب الأوضاع في بلادهم من
الناحية السياسية والأمنية وغير ذلك مما هو لازم لذلك التحول التاريخي.
ثم أرسل الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بعد هذه البيعة مصعب بن عمير
رضي الله عنه لتحقيق هذه المقدمات الضرورية لقيام الدولة الإسلامية، فانطلق
مصعب بن عمير ومن أحاط به من رجال الأنصار رضوان الله عليهم يقصدون
كسب سادة المدينة إلى الإسلام، فأسلم حينئذ عدد من زعماء المدينة، منهم أسيد بن
الحضير، وسعد بن معاذ.
وحين أصبح عدد الزعماء الذين أسلموا من أهل المدينة كافياً لتقديم النصرة
إلى الدعوة بمعنى تسليم السلطة السياسية إلى الرسول القائد صلى الله عليه وسلم
هنالك عقد الأنصار في المدينة مقر الدولة الإسلامية الجديد مؤتمراً فيما بينهم قرروا
فيه إعطاء النصرة للرسول صلى الله عليه وسلم لكي يتسلم مقاليد الحكم والسلطان
في المدينة، وعلى إثر هذا المؤتمر قدم وفد من هؤلاء الأنصار والزعماء يتألف من
ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتين وذلك في موسم الحج وتم عقد بيعة العقبة الثانية
التي أعطي فيها زمام الحكم والدعوة لصاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
وذلك في الموعد نفسه الذي ضربه رسول الله للاجتماع بهم.
فقد ورد نص هذا المؤتمر الذي انعقد في المدينة على لسان جابر بن عبد الله
رضي الله عنه حين قال: «فائتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلاً منا، فقلنا: حتى
متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف؟ فرحلنا حتى
قدمنا عليه، قال: تبايعوني قلنا: نبايعك.. الحديث» [9] .
وهذا يعني: أن هذا الاجتماع مع الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في هذا
الوقت إنما كان فقط من أجل البيعة والتواثق على شيء قد تقررت الموافقة عليه من
قبل هذا اللقاء؛ وذلك بإعطاء النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمفهوم السياسي.
يدل على ذلك عدة أمور تفهم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه بشأن
هذه البيعة وهي: أن العباس بن عبد المطلب وكان أول من تكلم في الاجتماع بادر
الأنصار قائلاً: «إن محمداً قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم» [10] .
إذن، فالأمر مبتوت فيه، وليس هذا الاجتماع من أجل الدخول في مباحثات
حوله من أجل تقريره أو لا، وإنما كان الاجتماع من جهة الرسول القائد صلى الله
عليه وسلم للتثبت من تسلم زمام السلطة وأن يسمعوا له ويطيعوا على كل أحوالهم
«أبايعكم على السمع والطاعة في النشاط والكسل» [11] ! ! «وأما الذي أسألكم
لنفسي أن تطيعوني أهدكم سبيل الرشاد» [12] .
هذا من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، أما من جهة الأنصار فقد كان
التأكيد على قبولهم للدعوة والدولة الإسلامية، وأنهم على أتم الاستعداد للتضحية من
أجل سلامة هذا المشروع، وتحقيقه على أرض الواقع، وتأمين أهدافه في مختلف
مراحل التمكين والتأمين، «لن نقيل ولا نستقيل» ! !
ثالثاً: البعد العسكري:
لا ريب أنه لا يستقيم أمر عقيدة، وفكر سياسي، وكيان دولة تتجلى على
أرض الواقع؛ إلا بقوة عسكرية تحميها في مراحل تأسيسها وتمكينها؛ فكم من حق
ديس بالأقدام لعدم وجود قوة تحميه! وكم من باطل قام وانتفخ ليس بأفكاره وعدالة
مبادئه، وإنما للقوة المدججة التي تحميه وتنافح عنه! والواقع خير شاهد على
ذلك قال تعالى لنبيه: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]
(النساء: 84) [13] .
جاء في رواية الزهري فيما قاله أسعد بن زرارة رضي الله عنه أحد رجالات
الأنصار في هذا الاجتماع، قال: «يا رسول الله! إن لكل دعوة سبيلاً إنْ لينٌ وإنْ
شدةٌ! !
وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس، متوعرة عليهم! !
دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك إلى دينك، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك!
ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار، والأرحام، والقريب
والبعيد، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك!
ودعوتنا ونحن جماعة في عز ومنعة، ولا يطمع فينا أحد أن يرأس علينا
رجل من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى
ذلك! وكل تلك الرتب مكروهة عند الناس إلا من عزم الله على رشده، والتمس
الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا، وصدورنا، نبايعك على ذلك،
ونبايع الله ربك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك» [14] .
ثم قام العباس بن نضلة رضي الله عنه أحد فاعليات الأنصار الذين حضروا
البيعة، فألقى كلمة توضيحية قال فيها: «هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس» [15] .
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه أحد فاعليات الأنصار الذين
حضروا البيعة، فألقى كلمة أكد فيها على أهمية البعد العسكري لهذه البيعة المباركة،
فقال لهم: «يا قوم! هذا رسول الله، أشهد أنه لصادق، وأنه اليوم في حرم الله
وأمنه، وبين ظهري قومه وعشيرته، فاعلموا أنه إن تخرجوه رمتكم العرب عن
قوس واحدة! فإن طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله، وذهاب الأموال، والأولاد
فادعوه إلى أرضكم؛ فإنه رسول الله حقاً، وإن خفتم خذلاناً فمن الآن. فقالوا عند
ذلك: قبلنا عن الله، وعن رسوله ما أعطيانا، وقد أعطينا من رسول الله الذي
سألتنا يا رسول الله» [16] .
رابعاً: البعد الأمني:
لا بد للحركة التي تريد إحداث انقلاب استراتيجي سواء أكانت في مرحلة
الدعوة والتأسيس، أو طور الدولة والتمكين أن تعتني أيما اعتناء بفن الأمن
والتأمين لتحقيق التغيير الجاد الذي يهدف إلى استرداد حاكمية الله على العباد والبلاد،
ولا يكون ذلك التغيير الجاد إلا في وسط من ردود فعل حادة أو متوسطة من قِبَل
الجاهلية الكنود، فإن لم تكن استراتيجية الحركة قد أعدت العدة لتأمين قياداتها
وبرامجها في حالات الانتقال، والاصطلام، والاستلام، يكون الأمر جد خطير.
يقول ابن حجر رحمه الله وهو بصدد حديثه عن بيعة الحرب، بيعة قيام
الدولة الإسلامية، مؤكداً فيها على أهمية البنود الواردة بخصوص الأمن والتأمين
للدعوة والدولة في مراحل تأسيسها والتمكين لها: إنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن
إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من
الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم، فبايعوه
على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم، هو وأصحابه» [17] .
وفي رواية أحمد: «وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم
علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا» [18] .
وينبغي ألا يعزب عن بالنا أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار
في هذه البيعة بيعة الدولة الإسلامية التأمين الشامل والكامل بشقيه الوقائي والإيجابي
في إطار (الأنفس، والأزواج، والأولاد، والأصحاب) ما هي إلا سنة من سنن
قيام الدولة الإسلامية التي تساعد على انطلاق استراتيجية الدولة نحو الأفق الواسع
تأسيساً وتجنيداً، استيعاباً وتمكيناً.
وفي المقابل فإن عدم الإقرار بهذا المبدأ، وعدم الاهتمام به، من وجهة نظر
حركية تغييرية، وسياسية انقلابية يعتبر اختزالاً لسنة الرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم، وغايات اعتذارية يلجأ إليها على الغالب الذين جعلوا القرآن عضين:
[فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الحجر: 92-93) .
خامساً: البعد الاقتصادي:
لا ريب أن الجانب الاقتصادي له أهمية كبرى في مراحل التأسيس وأطوار
التكوين وذلك على مستوى الأفراد والجماعات والدولة، لذلك رأى الرسول القائد
صلى الله عليه وسلم تأمين هذا الجانب وضرورة التنويه عليه ضمن ديباجة البيعة
التأسيسية، فقال لهم: «وأما الذي أسألكم لي ولأصحابي: أن تواسونا في ذات
أيديكم، وأن تبايعوني على النفقة في العسر واليسر فمددنا أيدينا فبايعناه» [19] .
ويمكن لنا أن نفهم أن بنود البيعة كانت بمثابة لبنات تأسيسية لمؤسسات
وزارية في إطار الدولة فيما بعد؛ وذلك لتلبي حاجات الدولة الداخلية والخارجية،
وتأمين حياة الفرد في إطار ذلك، وذلك على كافة المستويات، فمثلاً قوله صلى الله
عليه وسلم: «تبايعوني: على السمع والطاعة، في النشاط والكسل» [20] يعتبر
ذلك بمثابة جهاز أمن يلبي حاجات الدولة والفرد ضمن منظومة أمنية بعنصريها
الوقائي والإيجابي، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وعلى النفقة في العسر واليسر»
بمثابة وزارة الاقتصاد التي تحقق التكافل الاجتماعي، والتضامن والتعاون
الاقتصادي في إطار استراتيجية الدولة الداخلية والخارجية، وقوله صلى الله عليه
وسلم: «وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بمثابة وزارة الحسبة؛ حيث
إنها تحقق المحافظة على مبادئ المشروع الرباني من أن تشوبه الشوائب، وقوله
صلى الله عليه وسلم: «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم» بمثابة وزارة
الدفاع؛ حيث تحقيق الأمن والاستقرار للدولة ولمبادئها وقيادتها من أي اعتداء
خارجي، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم،
وأزواجكم، وأبناءكم» بمثابة وزارة الداخلية؛ حيث تحقيق الأمن الشامل لقيادات
المشروع الرباني، ولأهلهم «وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذنكم لومة لائم»
بمثابة وزارة الخارجية؛ حيث نشر الدعوة خارج الحدود، وطرح قضاياها
المصيرية في التجمعات السياسية والاجتماعية بدون خوف ولا وجل وأن تقولوا في
الله، لا تأخذكم لومة لائم «.
ومن هنا يمكن لنا القول بأن التكافل الاجتماعي، والتضامن الاقتصادي الذي
طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله واستقراره في مقر دولته الجديدة
(المدينة المنورة) يعتبر تطبيقاً لهذا البعد الاقتصادي الذي تم الاتفاق عليه بين
الرسول القائد صلى الله عليه وسلم والأنصار رضوان الله عليهم الذين آثروا
إخوانهم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله
ورضواناً. آثروهم بالأموال والأنفس في صورة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل،
فقد صوَّر لنا المولى عز وجل ذلك بقوله: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
(الحشر: 9) .
ولا يخفى أن هذا البعد الاقتصادي كان يدور في فلك تحقيق معالم التكافل
الاجتماعي، والتضامن الاقتصادي، والاستقرار السياسي، وذلك من خلال الحفاظ
على ثوابت المشروع الرباني، وقيمه العليا، والوقاية من مذلة حاجة المأكل
والملبس والمسكن بالنسبة لعناصر الدولة وقياداتها، والتمكين للمهاجرين الذين
تركوا أموالهم وديارهم من تحسين وضعهم الاقتصادي، واعتبارهم السياسي،
ومكانتهم الاجتماعية في إطار المجتمع الإسلامي الجديد.
دواعي ودوافع ضمن الاجتماع المنعقد في العقبة الثانية:
لقد لوحظ في سرد الروايات التي تناولت وقائع البيعة لتأسيس الدولة
الإسلامية عدة نقاط تحدد دوافع قبول أهل المدينة توصيات تلك القمة الكبرى،
وتوقيعهم على بنودها بكامل السعادة والاطمئنان» لن نقيل، ولن نستقيل «وهذه
الدوافع، وتلك الدواعي جديرة بالتأمل، والتحليل، والاعتناء بها في مراحل الدعوة
والتأسيس، والدولة والتمكين في حالتي الاستضعاف والاستخلاف، وهي كما يلي:
الدافع الأول: ديني:
لا يخفى أن أهل يثرب كانوا على وعي ديني متقدم عن بقية القبائل الأخرى،
لذلك رأوا أن الإسلام يشبع رغبتهم الدينية، وفطرتهم البشرية، فأسعد بن زرارة،
وأبو الهيثم بن التيهان كانا ممن يتكلم بالتوحيد بيثرب، حتى إن ذكوان بن عبد قيس
الزرقي عندما استمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يوم ذهب ومعه أسعد
بن زرارة إلى هناك، فقال لأسعد:» دونك! هذا دينك «.
الدافع الثاني: سياسي:
لا شك أن هناك دافعاً سياسياً كان وراء تلك البيعة، وقد عبر هذا الدافع عن
نفسه بأشكال متعددة، بعضها منطلق من حالة القلق التي سادت الأوس والخزرج
بعد يوم بعاث وسعيهم إلى عقد تحالفات سياسية تؤمن لهم المستقبل.
وبعضها منطلق من الملل من الأوضاع السياسية في يثرب التي اتسمت
بحروب قبلية متصلة بين الأوس والخزرج جعلت العلاقات الاجتماعية قلقة
مضطربة والخوف من المستقبل حالة قائمة، ومن ثم دفعت أهل يثرب إلى البحث
عن حل يوحدهم حتى وإن كان هذا الحل خارجياً؛ فقد عبروا عن ذلك بقولهم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم:» عسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم
عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك «.
الدافع الثالث: عسكري:
وذلك كان منطلقاً من الخوف من استعادة اليهود سيطرتهم على يثرب لا سيما
أنهم كانوا يهددون أهلها من العرب بأن نبياً سيظهر وأن اليهود سيتبعونه ويقتلون به
العرب، كما جاء ذلك على لسان الأنصار يوم البيعة؛ حيث قالوا:» يا رسول الله!
بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبال، وإنَّا قاطعوها؛ فهل عسيت إن نحن فعلنا
ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ «.
الدافع الرابع: اجتماعي:
مما لا شك فيه أن هناك دافعاً اجتماعياً كان ضمن الدوافع التي عجلت بالتوقيع
على بنود البيعة؛ إذ يوحي هذا الدافع بوجود خلل اجتماعي يعاني منه أهل يثرب؛
ففي حديث ابن إسحاق عن بيعة العقبة الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم
بايعهم بيعة النساء:» على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا
نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في
معروف «.
وفي تقديرنا أن الوعي الديني المتقدم، والقلق السياسي، والخوف من
السيطرة اليهودية، والضجر من الحياة الاجتماعية، والمستوى الثقافي المتقدم، كل
ذلك عمَّق الاتجاه نحو الإسلام، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإسلام قدم لأهل
يثرب الوحدة؛ لأنه قدم لهم العقيدة، وخلق لديهم روح التعاون والتكافل والتضامن
التي جعلت الأوسي والخزرجي يتجاوز نفسه، ويتجاوز قبيلته إلى سعة الإيمان
وأخوة الدين، فكان طبيعياً إذن أن يلتقيا في وحدة أصبحت أسسها أقوى من تحزيب
اليهود الذين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى: [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي
الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ] (الأنفال: 26) .
ولا ريب أن الإسلام قد قدم لهم بعد ذلك السيادة سيادة العقيدة والفكر، وسيادة
السلطة، وسيادة الذات؛ حيث وحَّدهم وحررهم من السيطرة اليهودية التي كانوا
أسيري خوف منها سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً]
(آل عمران: 103) .
ثم بعد ذلك قدم لهم أيضاً حلاً أخلاقياً للعلاقات الاجتماعية، والروابط الأسرية:
[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .
نتائج وتوصيات بيعة العقبة الكبرى:
لقد أسفرت البيعة الأولى عن عدة نتائج وتوصيات استراتيجية في إطار
تأسيس الدولة الإسلامية، والانتقال من مرحلة الدعوة والتأسيس إلى مرحلة الدولة
والتمكين، وفحوى هذه التوصيات ما يلي:
أولاً: ضرورة تشكيل الجماعة الدينية الاجتماعية الأعوان، والأنصار وذلك
على هيئة منظومة موحدة لتنفيذ مشروع الدولة الإسلامية:» قد جعل الله لكم
إخواناً « [21] .
ثانياً: ترسيم الأرض وتحديد حدود الدار الإسلامية التي تقوم عليها الرعية
وهي آمنة على نفسها، وفي مالها، وعلى عرضها:» قد جعل الله لكم داراً تأمنون
بها « [22] .
ثالثاً: تعين السلطة الدستورية، والقوامة الشرعية:» ولا يطمع فينا أحد أن
يرأس علينا رجل من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة
فأجبناك إلى ذلك « [23] .
رابعاً: تقرير قاعدة السمع والطاعة لهذه السلطة الدستورية، والقوامة
الشرعية، والقوانين الربانية في المنشط والمكره، في العسر واليسر:» تبايعوني
على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر « [24] .
خامساً: تحديد الشوكة الشرعية: وتقرير أهدافها الاستراتيجية وفق دستورية
الدولة الإسلامية الجديدة:» أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم
وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم! والذي بعثك بالحق!
لنمنعنَّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعْنا يا رسول الله؛ فنحن والله، أهل الحروب،
وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر نبايعك على ذلك « [25] .
وبهذه التوصيات، وتلك الأهداف تم تكوين الرعية المؤمنة، وترسيم
الأرضية، وتحديد معالم الدار سياسياً، وتعيين السلطة الدستورية والقوامة الشرعية،
وتقرير قاعدة السمع والطاعة لهذه السلطة الدستورية، وتحديد الشوكة الشرعية.
وبتلك التوصيات الانتقالية تكون الدولة الإسلامية قد خرجت من طور الدعوة
والتأسيس إلى مرحلة الدولة والتمكين، ومن مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة
الاستخلاف.
وفي مقال تالٍ بإذن الله سوف نتناول تفاصيل تلك المرحلة الاستراتيجية الهامة
في الفكر السياسي الإسلامي، مرحلة وضع الدستور، وكيفية التعامل مع الأقلية
والأكثرية من خلال بنود الصحيفة الدستورية.
__________
(1) راجع طبقات ابن سعد، 1/1/145.
(2) انظر: المقدمة، لعبد الرحمن بن خلدون، الطبعة السادسة، دار القلم، بيروت، عام 1406 هـ، 41.
(3) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، دار الآفاق الجديدة، ببيروت، عام 1983م، 35.
(4) موسوعة السنة، سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب (في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم) ، المجلد التاسع: 3/81.
(5) موسوعة السنة، مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/186، 214، وكذلك الترمذي، في كتاب الجهاد، ح/ 1674.
(6) انظر: الحسبة في الإسلام، لابن تيمية، المطبعة السلفية، القاهرة، عام 1400هـ: 5.
(7) المرجع السابق، 2 3.
(8) رواه أحمد، ح/ 16461.
(9) المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي: 2/625.
(10) الروض الأنف، للسهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي، مطبعة الجمالية، بمصر 1332 هـ - 1914م: 2/89.
(11) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/66.
(12) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/326.
(13) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/326.
(14) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/326.
(15) الروض الأنف، 2/191.
(16) السيرة النبوية، للإمام الذهبي، 205.
(17) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/66.
(18) انظر موسوعة السنة، مسند أحمد بن حنبل: 5/325.
(19) أحمد، ح/16461.
(20) أحمد، ح/ 13934.
(21) الروض الأنف، للسهيلي، 2/211.
(22) المرجع السابق، 2/211.
(23) كنز العمال، 1/326.
(24) سنن البيهقي، للإمام البيهقي، 9/9.
(25) الروض الأنف، 2/189، ومجمع الزوائد، 6/42، 44.(154/30)
نص شعري
ذريني
عبد السلام كامل عبد السلام
ذريني يا بنات الشعر هجرا ... ولا تُبقي لودّي اليوم ذخرا
ذريني؛ فالليالي صرن يأساً ... ولم نلمح مدى الآفاق فجرا
ولا شهماً نناديه فيأتي ... ولا قلباً فتيّ النبض حُرّا
إلامَ الأمر يبقى دون بثٍ ... ولا من بارق ينهلّ قطرا
أما ذي الصرب جاست في ثرانا ... وصبَّت حقدها الموّار موْرا
أما هذي نساءٌ مسلمات ... مؤرّقة وما لاقين يُسرا
أما سيقت شيوخ للمنايا ... وما رُحمت دموع القهر تترى
أما الأطفال قد سلبوا كراها ... وقد فقدوا ابتسام العمر قسرا
أما الصرخات تجتاز القواصي ... ولكن إنّ في الآذان وقرا
أما الآهات شقت كل فجّ ... ولكن عاد رجع الصوت صفرا
أما جرّوا إلى التقتيل قوماً ... جريرتهم نداء الله جهْرا
متى يا قوم نستلّ المنايا ... متى نعطي دم الشهداء مَهرا
متى كالسيل يعلو كل هامٍ ... ظلوم لا يرى في الدين خيرا
أكوسوفاه! أين خيول ربي ... تجدّد فيك كوسوفاهُ بدرا
وأين شبابنا المقدام يمضي ... ليُجري من دم الأعداء نهْرا
وأين صوارمٌ لله غضبى ... تذيق الصربَ في الغَمَرات بكرا
وأين بنو صلاح الدين ذابوا ... وهم قبلاً أحالوا القفر قطرا
بني ديني! تركنا العزّ لمّا ... تركنا من جهاد الكفر سِفرا
وقلنا: ذاك إرهاب ذميم ... وأصبحنا لقول الغرب أسرى
أعدّوا قد نسيناها كأنا ... نسخنا من كتاب الله سطرا
وقلنا إننا للسلم ندعو ... فيا عجباً لفأرٍ وَدّ هِرّا
بني الإسلام! مهما يدج ليل ... سينشر بعده الإصباح تِبرا(154/38)
البيان الأدبي
الموائد!
تركي المالكي
(1)
صاحبٌ. . كان لي
في زمان الصخبْ!
حينها والجميعُ شجاعٌ
ورأس الغواية في المحتطبْ!
كان يركض خلف العواصفِ
يقذفها باللهبْ!
محتمٍ بالدروع الأسامي!
ومن تحتها لمعانُ الذهبْ!
(أتراه ذهبْ) ؟ !
(2)
كان روحاً لروحي!
كان ينهشُ قيدَ الطغاة الذي
نهشتْ نابُهُ معصمي!
كان إيقاعُ نبضي على نبضه نغماً طاهرا
للصديِّ الظمي!
حبرُه من دمي!
والدواةُ جروحي!
يهدِرُ البغيُ من فوقنا. .
برعود الغضبْ!
مطراً أسود
ويُسوِّرُ من حولنا هضبات الرمادِ. . .
وينبحُنا بكلاب الخطبْ!
وترى دمَنا الجمرَ ما بينها يلتهبْ!
برقُهُ. . ركضُ مهرٍ جموحِ!
(3)
صاحبٌ. . آه! كانَ. .
وفي غفلة من جروحي
بهتت نجمةٌ في السويداء وانسحبتْ. .
نحوهمْ
رَمَّدتْ جمرَها تحت أقدامهم!
ثم باعت لهم نفسَها. . ودمي!
والهوى. . وضريحي!
وتعرّتْ على بابهم. .
فتكسّرَ ما كان من نغم طاهرٍ
رقصتْ فوقهُ. .
كالغزالة للفهدِ. .
فابتسمي. . يا جروحي!
(4)
أسد كان لكنْ. .
هوى لاثماً. .
رِجْلَ كلبٍ قبيحِ!
نابُهُ نهشتْ قبلُ شِقَّ (الأمينِ)
فكان الشهيدَ
وكان الأمينُ السجين الأمينَ!
فماذا أسمِّي الذي. .
خلتُه أسدي. . وفمي. . ونصيحي!
ثم ها هو بين يدي قاتلي
لاعقاً قدمَ البغيِ. .
داس على وهجه و (المعالم) منتفشا
بعقود المديحِ!
واللعابُ يسيلُ على عظمةٍ نالها
فوقها من دمائي السليبةِ. .
لحمي. . وقومي. . وروحي!
(5)
كان رؤيا تفوح بأطيابها. .
ثم ها هو كابوسُ حلم قبيحٍ. . قبيحِ!
فادفني جثةً سمّمتها حياضُ الذُّبابِ ادفنيها
واغسلي ما بقي من رؤاها
ثُمّتَ التئمي يا جروحي!(154/39)
نص شعري
يا من غادر السفينة!
صالح علي العمري
كان بالأمس على الشط ينتشل الغرقى فكيف أصبح اليوم بينهم يصارع الأمواج؟!
رضيتَ بالدونِ؟! أم أسلمتَ للنكدِ؟! أمْ السراب ابتلى عينيك بالرَّمدِ؟!
أم هل بلغتَ المُنى.. والشمسُ ما وقفت والعمرُ متصلٌ والدرب في مددِ؟!
أم هزّك البغيُ، والأيامُ دائرةٌ والحق يعلو على الأعداد والعُددِ؟ !
لا تحسبنَّ الهوى ينجيك من كبدٍ فإنما خلق الإنسان في كبدِ! !
وجنة الخلد تُنسي كلَّ مسغبةٍ أنعم بذاك النعيم الناضر الأبدي
هل بات يُلْهيك ما يُلْهيك من مُتعٍ؟! فاذكر بربك ما تلقاه بعد غد
أم هل تغشاك قطاع الطريق ضحىً وحبلهم يا أخي في الله من مسد
أم هل غُررتَ بكُثْر الساقطين هنا فالحق لا يُبتغى من كَثْرة العدد
دنيا تربَّتْ على التنغيص فالتصقت بطبها.. كالتصاق الروح بالجسد
محبوبة قُوتُها وجدان عاشقها أعوذ بالله من نفَّاثة العقد
تزينتْ لاصطياد القوم وابتسمتْ والسمُّ في ثغرها فوق اللهاة ندي
يا أنت: أين المنى اللاتي شمختَ بها فأعظم الغبن إزهاق المنى بيدي
غشاوة الدرب في عينيك شاهدةٌ أن السقام اجتوى جنبيك من أمد
والنفس كالموج تستهوي الرياح به والذئب يغريه قاصي البهم بالرصد
والفقر بعد الغنى ذلٌ ومسكنةٌ والغيُّ بعد الهُدى عارٌ إلى الأبد
وكلُّ نفسٍ أُهينت بعد عزَّتِها فليتها قبلُ لم تُعْزَزْ ولم تَسُدِ
قد كان لي فيك آياتٌ وموعظةٌ تزفُّ وبل الرضا بَرْداً على كبدي
قد كنت عند حدود الله ذا وجلٍ فما لك اليوم لا تلوي على أحد؟!
أين التلاوةُ والعبْرات مسبلةٌ؟! أين الأحاديث ذات المتن والسند؟!
أين العلومُ التي أسدتك رونقها؟! وذقت ما ذقتهُ من عيشها الرَّغِدِ؟!
ما لي أراك حسير الطرف منهزماً وكنت بالأمس ترياقاً لكل صدي!!
ماذا أسّطِّرُ والآياتُ بيِّنةٌ وأنت تعلمُ ما يلتاع في خلدي
لكن تناجيك أشجاني، ومعذرتي أني محبٌ رماه الحُزْن بالفَنَدِ
إن لم يكن في الفؤاد الحرّ من قبسٍ فليس يجديك ما أعددتُ من عُدد..
فخشية الله أطواق النجاة، وما يُغْني النفوسَ بهاءُ المال والولد
لمَّا سقطت أمامي.. وانجلى بصري عزّيت نفسي وثار الخوف في أودي
واحلولكت كلمات البشر في شفتي وأظلم الكون في عيني على عَمَدِ
ومهجتي وترت.. فالنفس بائسةٌ كأنها قبل لم تَبْسم ولم تزِدِ..
أأنت من يشتري الدنيا بباقيةٍ ويصطفي الزيف والبهتان بالرشد
قد كنتَ بالأمس في درب التقى علماً فلا تك اليوم تمثالاً لكل ردي..
عُرى العقيدة جلّت عن مساومةٍ ما قيمتي في الملا من غير معتقدي؟!
قد كنت أبقيك للخطب الجليل فمن لغيهب الغمِّ والبأساء والكمد؟!
إبليس يغرينِ والأهواء عارمةٌ إني أعوذ بوجه الواحد الصمد
يا مالك الملك! يا من عزّ عابده كما رفعت زواياها بلا عمد..
ثبت فؤادي وكفّر كل معصيةٍ ما لي سوى ملجئي بالواحد الأحد
يا صفو نفسٍ: دروب الشك شائكةٌ بلا رَكوبٍ ولا زادٍ ولا مددِ
إن اللآلئ تبقى وهي غاليةٌ وإنما تعصف الأمواج بالزبد!!(154/40)
وقفات
الطريق إلى القدس
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
قبل عشرين عاماً تقريباً وقف ياسر عرفات خطيباً محمرَّ الوجه، منتفخ
الأوداج، يستصرخ بأعلى صوته، ويستنجد بالعرب لإنقاذ فلسطين، وينعى
الخيانة العظمى للرئيس المصري أنور السادات في (كامب ديفيد) ، ويعجب أشد
العجب من جرأته في الاستهانة بالشعوب، وكيف أنه وضع يده بأيدي المجرمين
الذين عاثوا في الأرض فساداً، وتلوثوا بدماء الأبرياء!
وما هي إلا سنوات قلائل حتى تمخضت تلك الانتفاخة البطولية! عن الحقيقة
الكامنة وراء تلك الشعارات الزائفة؛ فها هو ذا الرئيس الفذُّ يدخل إلى منتجعات
كامب ديفيد فاتحاً، ويقف جنباً إلى جنب مع أسياد اليهود، ضارباً بقدمه تاريخاً
حافلاً لهذه الأمة من الصراع والعداء مع بني صهيون، وناسفاً ثوابت الأمة
ومقدساتها، وملقياً وراء ظهره ما تشبثت به الأمة من الحق والعدل، بل وساخراً
بعقول الناس الذين صفقوا في يوم من الأيام لشعاراته الوطنية، وتصريحاته
الثورية..!
إنَّ المرء حينما يتجرد من وازع الخوف من الله تعالى، والالتجاء إليه،
والاعتماد عليه، ويمتلئ قلبه تعظيماً لأعداء الله تعالى وثقة بهم تراه يتخبط في
دياجير الهوى، ومستنقعات الخيانة، ويعمى أو يتعامى عن إدراك الوقائع والأحداث،
وينظر إليها بعين الذليل الحقير الذي لا يملك صرفاً ولا عدلاً.
إن ثمة حقيقة ناصعة الوضوح؛ وهي أن القدس ليست ملكاً لمنظمة من
المنظمات، بل ولا لشعب من الشعوب، حتى يحق لهم أن يساوموا أو يفاوضوا
عليها؛ بل هي للمسلمين جميعاً من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، منذ أن
تعطرت أرضها الطيبة بمسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وروَّاها الصحابة
رضي الله عنهم بدمائهم الطاهرة فاتحين. لا يحق لكائن من كان أن يضع هذه
الأرض المباركة أداة لكسب سياسي مزعوم، أو ورقة دعائية يقف بها تحت
الأضواء، وأمام عدسات الإعلاميين..! !
إنَّ غدر اليهود وتلاعبهم في الاتفاقات المختلفة حقيقة حدثنا عنها التاريخ
الماضي، وها نحن نشهد في تاريخنا المعاصر طرفاً من ألاعيبهم الباردة،
وخياناتهم الجلية الواضحة حتى مع من حالفوهم ووضعوا أيديهم معهم، وقد دلنا
على ذلك كتاب ربنا في قوله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (البقرة: 100) .
والصراع مع اليهود عقيدة قائمة مهما وُقِّع من عهود ومواثيق، ولن ينتهي
هذا الصراع إلا حينما: «يقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا
يهودي خلفي، فتعال فاقتله» [1] ، وما هذا الارتماء المهين على أعتاب اليهود إلا
علامة من علامات الخزي والخذلان، وها هو ذا طريق النصر واضح بيِّن في
كتاب الله تعالى لا يغفل عنه إلا من أعمى الله بصيرته، وطمس على قلبه: [أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى
وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (الملك: 20-22) .
وما ضاعت القدس إلا حينما ضيعنا الدين، وهجرنا القرآن العظيم، وسقطنا
في مستنقعات الفساد، وقد حدّثني أحد أشياخنا الفضلاء عن القدس حديثاً تهتز له
النفس ألماً، ويتفطر له القلب أسىً؛ فقد ذهب في صيف عام (1381هـ) لصلاة
الجمعة في المسجد الأقصى، فلما دخل ساحة المسجد وجدها مليئة بالأعشاب الجافة
والنباتات الصحراوية مما يدل على غاية الهجر والإهمال، وقد خطَّ فيها الناس جادة
ضيقة يسيرون فيها للوصول إلى مكان الصلاة؛ فبينما هو كذلك؛ إذا به يرى في
ساحة المسجد فتاتين عربيتين متبرجتين تبرجاً مخجلاً، وتسيران في هذه الجادَّة
بتمايل وتكسُّر، فقابلهما شيخ كبير السن، فأشارتا إليه باستهزاء وسخرية، وراحت
إحداهما تشير إلى لحيته بتقذر، والأخرى تكاد تسقط من الضحك به والعبث بلحيته،
فما كان من الشيخ المغلوب على أمره إلا أن طأطأ رأسه، ولم يقوَ على ردهما،
وترك لهما الجادة.
قال صاحبي: فلمَّا دخلت المسجد إذا بي أرى ذلك الشيخ يعتلي المنبر لخطبة
الجمعة! وما كنت أظن أن ذلك الشيخ هو الإمام، فأصابني ضيق شديد؛ فهل هذا
هو قَدْر أهل العلم؟ ! وهل تصل مهانتهم إلى هذا الحد؟ ! وكنت أظن أن إمامنا
سيتحدث عن حال تلك الفتاتين، أو عن واقع الأمة المتردي، وعزوف الناس عن
الصلاة وطاعة الله تعالى، ولكنه تحدث عن أمر آخر بعيد عن ذلك كله. فخرجت
من المسجد وأنا أحوقل وأسترجع وأسأل الله تعالى اللطف بحالنا..! !
فإذا كنا قد ضيعنا القدس بهجرنا لكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم،
فلن نستردها إلا إذا عدنا إلى مصادر العزة والتمكين؛ فنحن قوم أعزنا الله بالقرآن،
ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2922) .(154/42)
قضايا دعوية
احذروني.. أنا من الرؤوس الجهال!
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
عندما تضع شمعة مشتعلة في ضوء ساطع فإنك بمشقة تلحظ أنها مضيئة،
ولكنك كلما ابتعدت عن مركز النور واقتربت بها إلى الظل ازداد ضوؤها لمعاناً،
فإذا تخطيت إلى منطقة ظلمة ازداد سطوعها، ويتصاعد ضوء الشمعة سطوعاً كلما
دخلت بها إلى منطقة أكثر إظلاماً.. ضوء الشمعة هو هو لم يتغير، ولكن تغيرت
البيئة المحيطة بها.. أليس كذلك؟
هكذا هُدَى الرسالة، وهكذا المقتبسون من هُدَاها؛ فالرسالة نور ساطع
(مبين) : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً]
(النساء: 174) ، والمؤمنون بها مقتبسون من هذا النور كل بقدره: [وَمَن لَّمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: 40) ، وهكذا (لمعان) النقاط
الضوئية الضئيلة الضعيفة (المقتبسون من الرسالة) عندما يخفت ضوء مركز
الإشعاع الساطع (الرسالة نفسها) ، فكلما بَعُدَ الإنسان عن مركز النور (علم
الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه) زماناً ومكاناً ازداد ضعف إبصاره لذلك
النور، وازداد تبعاً لذلك ظهور الضوء الخافت.
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «يَدْرُسُ الإسلامُ كما يدرس وَشْيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة
ولا نسك ولا صدقة، ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في
الأرض منه آية..» [1] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً
ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبِق عالماً اتخذ
الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا..» [2] .
وما دام الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا الحديث فهو واقع لا
محالة، ولكن بعض الطيبين يظنون أن ذلك الاندراس واتخاذ الرؤوس الجهال يكون
قبيل قيام الساعة فقط، ولا شك أن هذا الظن صحيح في حالة الاندراس التام
والجهل المطبق، أما في غير هذه الحالة فالاندراس يحدث واتخاذ الرؤوس الجهال
يتم، ولكن بتدرج ونسبية [3] ، فاندراس وشي الثوب وهو بِلَى نقش الثوب الذي
ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لاندراس الإسلام لا يتم فجأة وبدون
مقدمات وإن تسارع في ظروف معينة كما أن قبض العلماء لا يتم في لحظة واحدة؛
وهذا ما تؤكده رواية أخرى: «ولكن يذهب بالعلماء، كلما ذهب بعالم ذهب بما
معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم فيَضِلوا ويُضِلوا» [4] .
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما واضح في أن هؤلاء
الرؤوس الجهال ليسوا مجرد أدعياء علم، بل إنهم يتصدون لمسائل حيوية ووقائع
نازلة في حياة الناس، وإنهم يعملون على تشكيل حركة الناس من منظور الدين،
فهم متَّخذون ومسؤولون ومفتون ... ثم هم: ضالون مضلون!
وهنا تظهر النسبية؛ فقد يكون هذا (الرأس) عالماً ببعض النصوص
الشرعية ولكنه غير محيط بها كلها، وقد يكون حافظاً لها ولكنه غير فقيه في فهم
معانيها، وقد يفقه معانيها الجزئية ولكنه غير عالم بمقاصد الشريعة الكلية، وقد
يكون عالماً بمقاصدها ولكنه جاهل بأحوال الناس [5] ، وقد يكون عالماً بأحوال
الناس ولكنه لا يملك الأهلية لتنزيل الحكم على مناطه الصحيح، وقد يكون ماهراً
في باب من أبواب العلم خاملاً في أبواب أخرى، وقد تُعكس هذه الأحوال، أو
يكون فيه بعض هذا أو ذاك ... وهكذا نرى أنه يمكن أن يكون عالماً من ناحية
وجاهلاً بل رأساً في الجهل من نواحٍ أخرى، وبعبارة أخرى يمكن القول: إنه قد
يوجد نصف رأس جهل أو ربع رأس جهل.. وهكذا.
والتدرج والنسبية واضحان أيضاً في تناقص عدد العلماء نسبة إلى عدد
المستفتين، ولحاجة الناس إلى من يفتيهم فإنهم يكملون النقص بسؤال من هو أقل
علماً، فيصبح هؤلاء رؤوساً، وهؤلاء (الرؤوس) لا بد أنهم مميزون عن عامة
الناس بنوع من علم وإلا ما اتخذوهم رؤوساً، ثم تكثر حاجة الناس أكثر ويتناقص
عدد العلماء أكثر بالوفاة أو بالانصراف عن التعلم فينزل الناس (بمعيار العالم) في
اتجاه الجهل، فتصبح (الرؤوس الجاهلة الأولى) درجة رفيعة في العلم! ...
وهكذا حتى يكون العالم عند الناس رأساً في الجهل إذا نسبناه إلى العلم الحقيقي، أو
بمعنى آخر: يكون ضوء الشمعة الصغيرة عند الناس بمثابة نور الشمس الساطع.
ومن هنا ندرك أنه ينبغي على كل ملقٍ (كاتب أو متحدث) ألا يتيه ويُعجب
بما يأتيه من ثناء ومدح على ما كتب أو ألقى؛ بل عليه أن يعرف قدره وقدر
إخوانه وقدر ما ينبغي أن تكون عليه إمكانات وقدرات من يتصدى لمثل هذه المهمة؛
فرواج ما كتبه أو ألقاه يعني أن ضوء الشمعة يسطع ليس إلا، وهو قد يعني من
جهة أخرى أنه ما سطع إلا لأن حلكة الظلمة شديدة ومساحتها واسعة.. أقول هذا
وأنا أول المتهمين لنفسي، لا تواضعاً ولكن ذكراً للحقيقة ليعلمها من يجهلها،
ويتذكرها من غفل عنها.
فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فما الذي أقحمني في هذا المنزلق فأركبني هذا
المرتقى؟
أقحمني أني رأيت مَنْ هو أجهل مني يتصدى ويتصدر ويغوص ويلوص في
كل مسألة، غير عابئ بأثر الكلمة، وغير مقدر لما ينبغي أن يكون عليه من يتبوأ
هذا المقام؛ فقناعتي الشخصية كانت وما زالت أن كثيراً مما يلقى ملفوظاً أو مكتوباً
خاصة في صفحات الجرائد والمجلات لا يستحق ثمن المداد الذي طبع به، ولا
الوقت الذي بذل في إخراجه ثم في سماعه أو قراءته، وأنه لم يأخذ قوته وقابليته إلا
من كونه مادة مسجلة أو حروفاً مطبوعة، بل إني على قناعة بأن بعض المستمعين
والقراء يستطيع إلقاء أو كتابة بعض المواد التي لا تقل (حسناً) عما تلقيه أسماء
لامعة، إذا صقل هؤلاء المتلقون مواهبهم وامتلكوا الجرأة على التعالم والتفيهق!
ووجدوا الفرصة والتشجيع من أولي الأمر الفكري والثقافي!
إذن: فما المطلوب من الملقي (أو العالم) والمتلقي (أو المريد) ؟
المطلوب في رأيي من الملقي:
أن يتخلى عن غروره وثقته المفرطة بنفسه، ويعرف قدره، وأن يتخلق بأدب
القرآن: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء: 36) ، فهكذا عرفنا
(العلماء) من سلفنا الصالح، لا يتورعون عن قول: (لا أعلم) ولا يجدون فيها
منقصة البتة، أما في أزمان الظلمات فلا توجد هذه العبارة في قاموس المسطِّرين
والمتحدثين، وانظر إلى قول ابن عبد البر رحمه الله: «صح عن أبي الدرداء أن
(لا أدري) نصف العلم» ، وسلوك الإمام مالك بن أنس رحمه الله: «قال الهيثم
بن جميل: سمعت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين
منها بـ (لا أدري) » [6] ، ثم انظر إلى حال واقعنا العلمي والثقافي لتعلم الحقيقة،
وهي أنه كلما ازداد علم العالم اتسعت دائرة (لا أعلم) ، وكلما نقص علمه تآكلت
دائرة (لا أعلم) ؛ لأن الأول يعلم عمق بحر العلم وامتداده، والآخر يظنها البقعة
التي يرى لا غير!
ومطلوب من الملقي أيضاً أن يعمل على رفع الوصاية الفكرية وإنهاء
الحضانة الثقافية عن قرائه وتلامذته، إن لم يكن حرصاً منه على إيصالهم إلى
البلوغ الفكري والعلمي وانتفاع الدعوة بهم، فإبراءاً لذمته وتخفيفاً للمسؤولية الملقاة
على عاتقه بتحمل تبعات انسياقهم الأعمى خلفه.
أما المتلقي والمتعلم فمطلوب منه عدة أمور:
مطلوب منه أن يستخدم ما ميز الله به الإنسان عن غيره، أن يستخدم عقله
في التفكير والتمييز والتمحيص والسؤال، والسعي الدؤوب نحو تنمية ملكاته
وتنشيطها واستثمارها.
ومطلوب منه التوازن بين الإقبال على السلوك المستنبط من قوله تعالى:
[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) ، وقوله تعالى: [وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء:
83) من جهة، والفرار من سلوك أهل الضلال المذكور في قوله تعالى: [اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة: 31) من جهة أخرى، فمقتضى
العبودية لرب العالمين أن تقف محايداً من كلام البشر وأفهام البشر، وألا تقبل منهم
أو ترفض إلا ببرهان أو بينة تصلهم بالنور النازل من السماء، أو بحجة العقل
ورصيد الخبرة ... هكذا تربى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنهم
كانوا يناقشونه صلى الله عليه وسلم (نقاش استفسار لا اعتراض) عندما يرون في
كلامه أو أفعاله ما لا يتفق مع الأصول التي تعلموها منه؛ فعن أنس رضي الله عنه
قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً!
قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق
يديه» [7] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صلى بنا النبي صلى الله
عليه وسلم الظهر ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده
عليها، وفي القوم يومئذ أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وخرج سَرَعَانُ الناس،
فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا
اليدين، فقال: يا نبي الله! أنسيت أم قَصُرَتْ؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر،
قالوا: بل نسيت يا رسول الله! قال: صدق ذو اليدين، فقام فصلى ركعتين..» [8]
وقصة تأبير النخل معروفة مشهورة.
والحياد تجاه كلام البشر وأفهامهم ليس فقط مقتضى العبودية لله عز وجل بل
مقتضى العقل الراجح؛ فالعاقل لا يعرف الحق بالرجال، بل يعرف الحق فيعرف
أهله، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أوْلى بها.
وعليه: فمطلوب ثالثاً من المتلقي أن يكون كالنحلة تدور على الأزهار
لترتشف من كل زهرة رحيقها، وفي الوقت نفسه: تتجنب شوكها؛ ثم تخرج عسلاً
فيه شفاء للناس، فينبغي أن يقف هذا المتلقي غير مسبق النظرة في نقطة الصفر
الحيادية: لا يقبل من أحد بالكلية غير المعصوم صلى الله عليه وسلم ولا يرفض
من أحد بالكلية، إلا ما دل على قبوله أو رفضه برهان أو بيِّنة؛ فليس في عالم
البشر خير محض ولا شر محض.
أخي القارئ.. تذكر دائمًا: أنك إذا كنت عاقلاً فأنت مكلف، وإذا كنت مكلفاً
فأنت مسؤول.
الآن انتهيتُ، فهل اقتنعتَ؟ أعد القراءة في ضوء أن كاتب المقال من
الرؤوس الجهال! ! .. فكِّر، ميِّز، قارن، ناقش.. لقد أبرأت ذمتي ... الشكوى
لله!
__________
(1) أخرجه ابن ماجة، ك/ الفتن، ب/ 26، والحاكم في مستدركه، 4/473، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/ 87.
(2) أخرج البخاري، ك/ العلم، ب/ 34، ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد بن حنبل.
(3) انظر كلاماً نفيساً للحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: 13/300.
(4) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، ك/ العلم، ب/ 42، وعبد الرزاق في مصنفه 11/ 254، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (1/201) أن الحديث أخرجه البزار عن عائشة رضي الله عنها، وقال: «فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن سعيد بن الليث» .
(5) قال الإمام أحمد رحمه الله: «ولا ينبغي أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: الخامسة: معرفة الناس» ، انظر: إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله، 4/ 152.
(6) سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/77.
(7) متفق عليه.
(8) متفق عليه.(154/44)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
رسالة إلى أغنياء المسلمين
يقول (ثوم موناهان) البليونير الأمريكي الشهير صاحب إمبراطورية دومينو
بيتزا: إنَّه كان يقرأ كتاباً للمؤلف الشهير (لويس) عن معنى الدين وسيئات
الكبرياء وحب الذات، وأدرك آنذاك أنَّه مهتم أكثر مما يجب بحاجاته المادية
وبقشور الحياة، وأنَّ الكبرياء والسلبية خيَّمتا على حياته، فكان اهتمامه الأول يدور
حول ممتلكاته ويخوته وسياراته وشققه وابنتيه.. وفجأة اتصل بمهندس معماري
كان قد كلفه ببناء قصر له، وطلب منه التوقف عن العمل فوراً؛ لأنه قرر أن
يصبح فقيراً، واختار خدمة الفقراء! ثم أوعز إلى مساعديه ببيع يخوته وطائراته
الخاصة وجزيرة يملكها.
ووضع البليونير (موناهان) الأموال التي جمعها من بيع ثروته في مشاريع
مختلفة تديرها الكنيسة الكاثوليكية، وسمَّى مؤسسته الجديدة: (آفي ماريا فاونديشن)
وحتى الآن أسس أربع مدارس في (آن ربور) (ولاية ميتشجان الأمريكية) ،
تشرف عليها الراهبات، وإذاعة تبث برامج دينية، وخدمة إنترنت لتسهيل
التعارف بين الكاثوليكيين الذكور والإناث، ومهجعاً للفتيات على مقربة من جامعة
ميتشجان.. كما أسس جمعيات مهنية لرجال الأعمال الكاثوليك، وقدَّم الدعم المالي
لمشروع إنشاء كلية في نيكاراجوا..! ! [1] .
هذا البليونير مثال واحد من أمثلة كثيرة تدعم التنصير والإرساليات الكنسية،
وصدق المولى جلَّ وعلا إذ قال: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
ولكن! أين أغنياء المسلمين الذين يملؤون السهل والبحر؟ ! أتُراهم يجهلون
حاجات الدعوة الإسلامية في المشرق والمغرب، أم أن سيئات التجاهل وحب الذات
قد غلبت عليهم؟ !
إننا لا نطالبهم بالتخلي عن أموالهم وإيقافها كلها للدعوة الإسلامية، ولكننا
نطالبهم بإخراج الحق الشرعي الواجب في دين الإسلام، ونذكِّرهم بقول الحق
تبارك وتعالى: [المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ
رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً] (الكهف: 46) .
وها هي ذي الجهود التنصيرية بين أيديكم رأيتم بعضها في العدد الماضي،
وترون بقيتها في هذا الملف، ونؤكد على أن الهدف ليس هو تضخيم العدو، ولكنها
دعوة صادقة لجميع المسلمين رجالاً ونساءاً، أغنياء وفقراء، نقول لهم: قد ولَّى
عهد النوم والكسل، وجاء وقت العمل والتضحية. قال الله تعالى: [انفِرُوا خِفَافاً
وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]
(التوبة: 41) .
__________
(1) انظر: مجلة المجلة، العدد: (1067) .(154/47)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
الإسلام والنصرانية نظرة استراتيجية
د. محمد يحيى
عندما جاء الإسلام فإنه لم يهدم المسيحية ويناقضها وينقض كل ما جاءت به؛
لكنه لم يأت ليكملها أو ليؤكد على أوضاعها العقائدية الموجودة عندئذ، بل أتى
ليصحح تلك العقائد تصحيحاً جوهرياً حاسماً، ويلفت النظر إلى تحريف كتابها
المقدس في عمل لم يقتنع به أصحابها إلا في العصر الحديث وفي السنوات الأخيرة
على يد فصيل من دارسيهم شككوا في تلك العقائد وفي ذلك الكتاب. ومن هنا كانت
علاقة الإسلام بالنصرانية علاقة مركبة لا تنكر وجود عيسى عليه السلام ولا عذرية
والدته ولا معجزاته أو المعجزات التي أجراها الله له، ولا تعاليم ولا قيماً، ولكنها
تنكر تأليهه والغلو في تقديسه، وتنكر ما تسرب إلى ذلك الدين من عقائد وثنية
مشركة واضحة ومعها مذاهب فلسفية غامضة.
فالعلاقة المركبة هذه تحتمل اللقاء والصراع وأحدهما أو كلاهما، وتاريخ
العلاقة معروف، وإن كتب في معظمه في العصر الحديث من جانب من يتعاطفون
مع النصرانية أو يكرهون الإسلام.
كان الصدام أو الالتقاء الأول في الجزيرة العربية نفسها وإن لم يكن صداماً
بالمعنى المعروف، ثم تطور إلى الفتوحات الإسلامية في مواجهة الدولة البيزنطية
المسيحية في الشرق، وبعدها في مواجهة دويلات غربية نصرانية الطابع في
الأندلس وسائر أسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا. ومن الجانب الآخر أتت الحروب
الصليبية التي ما زال بعض الناس وحتى ممن يحملون أسماءاً إسلامية يجتهدون في
نفي طابعها الديني الواضح عداءاً للإسلام وكراهية له. وبعد زوال الهجمة التي
كادت أن تمس قلب العالم الإسلامي نفسه جاءت الفتوح الإسلامية لشرق أوروبا
وجنوبها وحتى وسطها على يد الدولة العثمانية؛ ولكنها سرعان ما أخلت الطريق
منذ القرن السابع عشر الميلادي وحتى الآن للهجمة الصليبية الكبرى والثانية التي
تسمَّت باسم الحركة الاستعمارية استيطانية وإمبريالية، ثم بالاستعمار الجديد، ثم
بهيمنة العصر الأوروبي الأمريكي وسيطرة الغرب والنظام العالمي الجديد (والقديم)
وأخيراً العولمة.
وفي هذه الهجمة العاتية لم يكن السلاح العسكري وحده هو المستخدم، بل
اكتملت بأسلحة الفكر والمذاهب والعقائد والفلسفات المختلفة، وبعضها يعلن أنه
علماني لا ديني، وإن وجدت له جذور قوية في الفكر اليهودي النصراني مع جذور
في الأفكار والفلسفات الوثنية، وما زال العالم الإسلامي يجاهد ضد تلك الهجمة
الكبرى التي تتراوح أجنحتها من حركات التبشير الصارخ والجارف إلى اجتياح
شامل من جانب الأفكار العلمانية وبينهما السيطرة السياسية والاقتصادية وغسيل
المخ الإعلامي والطوفان اللاأخلاقي الإباحي.
وبصرف النظر عن تجربة التاريخ والعِبَر التي يمكن أن تستخلص منها؛ فإن
الصورة الراهنة تعكس في النظرة الأولى مزيجاً غريباً من التطورات قد يتصوره
بعضٌ تطوراً حاداً وتصعيداً لذلك المحتوى من اللقاء والصراع الذي قد يكون كامناً
في العلاقة الجوهرية بين الإسلام والمسيحية؛ فمن ناحية تعلو أصوات معظمها من
الجانب الكنسي النصراني وتجد استجابة من الجانب الإسلامي الرسمي الموجه
علمانياً تدعو للحوار والتعاون والتقارب في صيغ وأشكال وكيفيات غامضة مبهمة
المعالم. ومن الناحية الأخرى تعلو أصوات الصراع وأيضاً في جله من الجانب
النصراني كما تُشهَد أحداث متتالية من العنف الموسوم بالطائفي في قطاع جغرافي
عريض يمتد في إندونيسيا وحتى مصر، ومن الوسط الآسيوي والشرق الأوروبي
حتى الوسط والشرق والغرب الإفريقي ماراً بالشرق الأوسط. بل ومن البلد الغربي
الواحد نجد الاتجاهين نفسيهما متوافقين؛ فالسلطة ومعها الكنيسة تحذر من الإرهاب
والتطرف الإسلامي المزعوم وتدعو إلى محاربته، والكنيسة ومعها السلطة ترفع
لواء الحوار والتقارب والتعاون. لكن هذا المزيج السطحي من الكلام الإعلامي
المعسول والاشتباك الطائفي أو الديني الدامي المثقل يخفي وراءه تطورات
واتجاهات كبرى في علاقة وأوضاع الإسلام والنصرانية قلما يلتفت إليها الانتباه لا
سيما وهي على المستوى الاستراتيجي.
إن النصرانية في مجملها من شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية بروتستانتية
وعلى تنوع المذاهب والكنائس داخل هذين الجناحين الكبيرين تمر الآن بتطورات
وتحركات كبرى تغيب غالباً بل تأكيداً عن أذهان من يفتنون بدعوات الحوار البراقة
أو من يصبون جل اهتمامهم على الحوادث الطائفية. ومجمل هذه التطورات هو
نهضة كبرى أو بالأصح قوة متنامية للكنائس بأنواعها لا تصاحبها نهضة دينية
بمعنى تنامي الإيمان والعقيدة والالتزام لدى شعوب تلك البلدان، وهذه مفارقة كبرى
أخرى؛ فالكنائس الغربية مثلاً تكسب الاتباع المسجلين في البلاد التي تمارس
التنصير فيها لكنها تخسر شعوب بلادها نفسها، وهي تزداد قوة ونفوذاً أو تأثيراً أو
حضوراً في تلك البلاد المعرضة للتنصير لكنها تفقد قوتها لدى دوائر الفكر في
بلادها نفسها وإن أخذ هذا الاتجاه يضعف تدريجياً مع الضعف العام الذي اعترى
الفكر العلماني ولا سيما في روافده الفلسفية ومبادئه العامة، وبالمثل نجد أن الكنائس
الأرثوذكسية الكبرى في روسيا وشرق أوروبا تصعد بعد سقوط الشيوعية ودولها
إلى مرتبة القوة والسلطة وتحرك الأحداث والسياسات في تلك البلاد باتجاه التعصب
الديني القومي (وقد توحد الدين مع القومية في تلك البلاد في هدم واضح وصارخ
لأهم مبادئ الفكر العلماني ولكن تلك قصة أخرى) ضد الإسلام والمسلمين من
مواطنيهم في وسط آسيا وشرق وجنوب أوروبا، وليست أحداث البوسنة وكوسوفا
وبلغاريا واليونان والقوقاز والأبخاز وأذربيجان والشيشان ببعيدة، وهي
موصولة بالقمع العلماني الممارس ضد الإسلام بجوارها في تركيا وحتى تركمانستان
وغرب الصين مروراً بالطاجيكستان والأوزبكستان، ومعها تنهض الكنائس
الأرثوذكسية في مصر وإثيوبيا وإرتيريا، وتناهض الحكومات، وتفتعل
الصدامات، وتصل إلى مستوى من القوة والنفوذ لم يعهد من قبل. ولكن تبقى تلك
القوة غير مصحوبة بنهضة روحية إيمانية مماثلة على المستوى العقيدي، بل
تشعلها روح من التعصب الديني قومي وسياسي الطابع أكثر من كونه وليد الإيمان
الديني الروحي.
ويبدو هذا التطور الاستراتيجي معكوساً على الجانب الإسلامي؛ حيث
الصحوة الإيمانية الإسلامية العارمة في وجه عقود من الكبت والقمع العلماني
والتغريبي لا تصل أو لا يسمح لها أن تصل إلى مستوى الفعل الاجتماعي السياسي،
ولا نقول النفوذ والتأثير على توجه المجتمعات والدول. والحركات الإسلامية
وهي لا ترقى في تنظيمها وقواعدها المادية والبشرية إلى مستوى الكنائس بأي حال
تتعرض للضرب والقمع والاضطهاد بينما تلاحق مصادر الصحوة الفكرية
وشخصياتها ونشاطاتها في إطار مجموعة السياسات التي أصبحت تعرف باسم
استراتيجية تجفيف المنابع.
وهذا الانعكاس في التطور العام لدى كل من المسيحية والإسلام يولد وضعاً
غريباً؛ فالإسلام القوي الناهض بإيمانه وروحه والتزام جماهيره يبدو ضعيفاً إزاء
تحكم نخب وأقليات علمانية سياسية وفكرية في مقاليد الأمور في معظم أو أهم بلاد
الإسلام؛ بينما المسيحية بأجنحتها وهي ضعيفة في جانب الالتزام الجماهيري
والإيمان الشعبي في بلادها تبدو قوية للغاية، بل وجارفة من ناحية وصولها
والتصاقها بالقوى والقوة السياسية والإعلامية بل والاقتصادية داخل بلادها وخارجها
وفي إطار هذا الوضع المعكوس أو المتناقض تجري عملية التنصير الكبرى، بل
إننا نستطيع أن نفهم عملية التنصير الكبرى التي تقوم بها الكنائس الغربية بالأساس
(ويقابلها عند الجانب الأرثوذكسي النصراني الشرقي عملية الحرب المعلنة ضد
الإسلام والمسلمين بالسلاح) في ذلك الإطار بالتحديد. فهذه العملية الموجهة بشكل
متزايد إلى المسلمين هي تعبير وانعكاس عن القوة المتزايدة للكنائس ومعها تزايد
العدوانية والشراسة والرغبات التوسعية وهي كذلك محاولة واسعة للتعويض
والتغطية في وجه الضعف والخواء العقيدي الداخلي. وهي بالطبع كذلك طليعة
وأداة حركة التوسع والهيمنة الغربية الأوروبية الجامحة في ظل النظام العالمي
الجديد والعولمة بعد أن أخذت هذه الحركة أو ذلك النظام طابع الهوية المسيحية
اليهودية عنواناً وشعاراً لها في ظل عودة جارفة إلى الأصول والجذور الفكرية ولَّدها
إخفاق الفكر العلماني وأفوله في ينابيعه الفلسفية، وإن لم يكن ذلك في مظاهره
وتجلياته الثقافية المختلفة.
وحركة التنصير الكبرى في هذا التصور أو لنسمِّها حركة التوسع العدواني
والهجوم الذي يتخذ شكل التبشير عند بعض منهم، وشكل الصدام والعدوان
العسكري عند بعض آخر، وما بينهما من أشكال الغزو والتغلغل والتشكيل الثقافي
والإعلامي تعد المظهر الرئيس إن لم يكن الوحيد لتوجه المسيحية نحو الإسلام في
هذه الفترة وفي المستقبل المنظور. وهي توجه استراتيجي كما يعلنون بصراحة،
وهي كذلك حتى ولو لم يعلنوا؛ لأنها كما قلنا أو تصورنا تعبير وانعكاس بين
توجهات وتطورات عامة في قلب النصرانية العامة فوق أنها ترجمة دقيقة لاحتياج
مجتمعاتهم إلى هوية وقومية ورؤية جديدة تعوض إخفاق العلمانية بمذاهبها، وفوق
أنها صدى أو تعبير عن موقف العداء والرفض ثم الصراع مع الإسلام الذي تبنته
النصرانية تاريخياً.
وفي إطار هذا التوجه الاستراتيجي أو الهيكلي إن جاز استخدام ذلك المصطلح
الشائع من لغة الاقتصاد للنصرانية ينبغي النظر لمسألتي الحوار المزعوم
والاشتباكات الحادة وهما الملمحان الأظهر حقيقةً الآن على سطح العلاقة باعتبارهما
مندرجين في ذلك التوجه ونابعين منه؛ فالاشتباكات المتكررة هنا وهناك تعبير عن
حدة العداء وتحرك دوافع الكراهة واستباق للغزو الفعلي في حالات كما حدث في
تيمور الشرقية مثلاً مؤخراً. وهذه الاشتباكات هي مظاهر خارجية ساخنة وقد تكون
منفلتة للحركة التوسعية النصرانية التي نرمز لها عادة باسم التنصير. أما دعوات
الحوار المتكررة والتي تفرض بالقوة على بعض المؤسسات الإسلامية والشخصيات
ذات الطابع الرسمي والواقعة تحت سيطرة النخب العلمانية في بلادها فهي مفهومة
على أساس أنها خداع استراتيجي كما يقال في لغة العسكرية، أو استكشاف لأبعاد
وأعماق ونوايا وحجم ونوع «العدو» الإسلامي، أو محاولة للفت الأنظار بعيداً
عن التطورات الحقيقية والنوايا المضمرة، أو شل لأيدي المسلمين عن التحرك
الفعلي باتجاه مواجهة الحركة التنصيرية والهجمة الغربية العامة وشغلهم بأمور تافهة
وغامضة المعنى، وبالطبع فإن لعبة شعارات الحوار والتقارب وما أشبهها تروج لها
النخب العلمانية صاحبة النفوذ؛ لأنها في نهاية المطاف عميلة للغرب أو متواطئة
معه، ويهمها أن تقدم الإسلام على هيئة «قربان» لهذه العلاقة حتى تزداد حظوتها
لدى الأسياد الغربيين بقدر خدماتهم بتطويع الإسلام وتدجينه ثم ضربه ليتسع المجال
أمام الزحف الغربي.
وهكذا فإن الظواهر التي تطفو الآن على سطح العلاقة العامة بين الإسلام
والنصرانية والتي يظن أنها عابرة أو شاذة (في حالة الاشتباكات الطائفية الدامية
داخل بلاد المسلمين أو على خطوط التماس) أو يظن أنها تعبير عن عصر جديد
من السلام الأبدي والتعاون والتقارب الأزلي (كما في حالة دعوات الحوار) هي
في جوهرها وحقيقتها مجرد تعبير وترجمة لتوجه استراتيجي عام أصبح مسيطراً
في هذه الفترة على المسيحية عموماً بشكل أصيل، ويقابله كما قلنا توجه مضاد أو
انعكاس في الإسلام نحو الانكماش والتراجع والمواقع الدفاعية، وعدم نشر الدعوة
تحت وطأة الهجمات والدعاوى العلمانية المختلفة، ويتزعمه مسلمون ينتسب بعضهم
لمؤسسات إسلامية (للأسف) تدخل في عملية الحوار مع النصرانية الغربية بالذات
التي تستخدم الحوار ستاراً تمويهياً لحركة التوسع التنصيري؛ فهل لهذا التعقد
المتشابك والتوجهات الاستراتيجية المتضاربة والمختلفة جذرياً من يفهمه ويفكر
ويعمل على ضبطه لصالح الإسلام؟ هذا هو السؤال الذي يحكم المرحلة، وهو
سؤال أبعد بعض الناس على الجانب الإسلامي نفسه من الإجابة عليه بوقوعهم في
دائرة تكتيكات الحوار والتراجع التي فرضها الغرب أو النصرانية على الإسلام.
__________
التنصير في باكستان:
سنة 1992م كان خصبة جدًا للمنصرين في كراتشي؛ فقد تضاعف عدد
المتنصرين خلال هذه السنة، ففي شهر ديسمبر 1992م وحده اعتنق أكثر من 50
مسلمًا النصرانية في مدينة كراتشي، بينما عدد المتنصرين في المدينة خلال سنة
1992نحو 600 شخص، ومن أسباب هذه الزيادة أن الجهود التبشيرية بدأت تؤتي
الآن ثمارها بعد جهد طويل. إلا أن غالبية المتنصرين كانوا من الشيعة
والإسماعيلية، ولكن هناك نسبة لا بأس بها من أهل السنة الذين تنصروا
لأسباب مختلفة.
يقول أحد الأساقفة: حينما أذهب إلى باكستان لأدعو إلى المسيحية في
إرجائها بكل حرية لا يصيبني أذى من الحكومة أو الشعب.
[عن مجلة الإصلاح: العدد 373]
- البيان -
__________
- قد ازداد عدد سكان بنجلاديش (120) مليون من (70) مليون منذ
استقلال البلاد، بينما ازداد عدد المسيحيين ليصل إلى 3 ملايين من أصل
(250) ألف مسيحي في الوقت نفسه. هذا يعني أنه ازداد عدد السكان أقل من
ضعفين بينما ازداد عد المسيحيين أكثر من عشرة أضعاف في ثلاثين عامًا مضت في
بنجلاديش.
[مجلة مدينة الشهرية، السنة: 36، العدد: 2، محرم، وصفر 1421هـ
الموافق مايو 2000م]
- ذكرت نشرة صوت الشهداء التنصيرية The voice of the martyrs
أنهم يسعود لجمع الأموال لتوزيع كتاب (معاناة فانتصار) باللغة العربية على
النصارى الذين يعانون تحت النظم الإسلامية، الهدف من توزيع الكتاب هو رفع
وتقوية معنويات النصارى المضطهدين في المنطقة.
[مجلة الصراط المستقيم، العدد 66]
- البيان -(154/48)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
التنصير لم يكن غائباً
(2 - 2)
قصة العلاقة بين الإسلام والنصرانية
إبراهيم بن محمد الحقيل
«من لم يعرف الماضي فلن يفهم الحاضر، ومن ثم يعجز عن التخطيط
للمستقبل»
انطلاقاً من هذا المفهوم سرد لنا الكاتب في الحلقة الماضية طبيعة العلاقة بين
الإسلام والنصرانية وما نجم عنها من أحداث منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم،
تنم عن مدى ما يبذلونه من مكر ومال، وما تخفي صدورهم أكبر. وفي هذه الحلقة
يتابع الكاتب قصة هذه العلاقة بتسلسلها التاريخي حتى عصرنا (عصر العولمة)
لنرى بحق: هل أصاب التنصير الهدف؟
- البيان -
الاستعمار:
بدأ الاستعمار الأوروبي عام 1450م تقريباً، ووصل قمته عام 1900م؛ إذ
قسمت الأقاليم المستقلة غير الأوروبية بين المستعمرين، وبعد الحرب العالمية
الأولى (1914م 1918م) بدأت مرحلة المعاكسة، وتقلص الاستعمار بسبب
ثورات الشعوب المستعمَرة التي رفضت الاستعمار البغيض.
مراحل الاستعمار:
يمكن القول: إن الاستعمار مرّ بمرحلتين:
المرحلة الأولى: الاستعمار الأوروبي القديم: وهي المرحلة التي تسمى
بحركة الكشوف الجغرافية التي تم شطر منها في القرن الخامس عشر الميلادي،
وكان لهذه الكشوف الجغرافية هدفان:
الأول: تطويق العالم الإسلامي لإضعافه تمهيداً لضربه في الداخل؛ فقد أيقن
النصارى أن ضرب العالم الإسلامي بجيوش جرارة غير مُجْدٍ، وأخذوا من
الحروب الصليبية التي دامت مائتي سنة دروساً في ذلك.
الثاني: البحث عن طريق تجاري مع الهند لا يمر بديار المسلمين.
وقد استفاد النصارى من علوم المسلمين الجغرافية والملاحية عن طريق
جواسيس الكشوف الجغرافية من اليهود الذين كانوا يتقنون اللغة العربية، وكثير
منهم حل بين المسلمين متظاهراً بالإسلام، مما مكن لهم الحصول على خرائط
عربية عن المحيط الهندي، ومعلومات عن التيارات البحرية والمواقع الجغرافية
والرياح الموسمية فضلاً عن معلومات عن التجارة الشرقية. وكان من أشهر هذه
الرحلات الاستكشافية رحلة (فاسكو دي جاما) التي كانت صليبية المقصد تتخفى
وراء العلم والاستكشاف؛ فقد قال عقب رحلته التي أعانه فيها من المسلمين
الجغرافي أحمد بن ماجد: «الآن طوَّقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل
فيختنق» [1] .
لقد حملت الكشوف الجغرافية الروح الصليبية متمثلة في آراء البابا (نيقولا
الخامس) الذي وضع خطة تنفذ مع الكشوف الجغرافية لضرب المسلمين الضربة
الأخيرة؛ فقد أرسل عام 859 هـ إلى ملك البرتغال مرسوماً بابوياً تضمن ما
يعرف باسم: (خطة الهند) التي تقوم على إعداد حملة صليبية نهائية تشنها أوروبا
للقضاء على الإسلام بعد أن تحقق كشوف البرتغاليين أهدافها ويتصلوا بالملوك
النصارى سواء في إفريقيا أو آسيا ليسهموا في تمويل الحملة الصليبية بالأموال
والرجال والعتاد، ويتم تطويق العالم الإسلامي [2] .
وتمثلت هذه الروح الصليبية في (هنري الملاح) أمير البرتغال، وفي القائد
البرتغالي (البوكرك) الذي كتب في يومياته: «كان هدفنا الوصول إلى الأراضي
المقدسة للمسلمين، واقتحام المسجد النبوي، وأخذ رفاة النبي محمد [صلى الله عليه
وسلم] رهينة لنساوم عليه العرب من أجل استرداد القدس، وكان هدفنا الثاني:
احتلال جنوب مصر، من أجل تغيير مجرى نهر النيل كي يصب في البحر الأحمر،
بدلاً من مروره على القاهرة في طريقه إلى البحر المتوسط مما يضمن لنا خنق
القلب الذي يقود الحرب ضدنا» [3] .
المرحلة الثانية: الاستعمار الأوروبي الحديث (الإمبريالزم) : كانت الثورة
الصناعية وما تلاها من نشوء الرأسمالية ورسوخها في المجتمعات الغربية من أهم
أسباب هذا الاستعمار؛ إذ احتاج الغربيون إلى المواد الخام لتشغيل مصانعهم، وإلى
الأسواق التي يصرفون فيها منتجاتهم، فكان العالم الإسلامي هدفاً من أهداف هذا
الاستعمار الذي ليس إلا فصلاً من فصول الحملات الصليبية على العالم الإسلامي
كما هو قول القائد الإنجليزي (اللورد اللبني) بعد أن دخلت قواته المستعمرة
فلسطين عام 1337هـ؛ إذ قال كلمته المشهورة: «الآن انتهت الحروب
الصليبية» .
وهذا الاستعمار الحديث الذي مهد له المنصِّرون والمستشرقون بدراساتهم
وأبحاثهم يقوم على استغلال البلاد التي استعمروها وتطويعها لإرادته أكثر من
استيطانها وحكمها. وكان الاحتلال والاستيطان فيه مرحلة أولى لتحقيق التطويع
وزرع العملاء، ومن ثم إعطاء الاستقلال والرحيل بعد ضمان ما يلي:
1 - حكمها من الخارج عن طريق عملاء الاستعمار، أو اتفاقيات الحماية
والوصاية ونحو ذلك.
2 - الاستحواذ على ثرواتها ومقدراتها عن طريق تشغيل شركات المستعمر
في أراضيها وربط عملتها بعملة الدولة التي استعمرتها، فضلاً عن القروض
والمساعدات وإقامة المشاريع وتوقيع المعاهدات التي هي في صالح المستعمرين.
3 - التبعية السياسية والثقافية للمستعمر.
آثار الاستعمار:
نتج عن الاستعمار بمرحلتيه آثار عظيمة لا زالت الأمة الإسلامية تعاني منها
إلى اليوم، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: آثار دينية من ضعف الدعوة إلى الإسلام ونشره، وانتشار
البدع والمنكرات، والجهل بأصول الإسلام، وضعف الالتزام بأحكام الشريعة لدى
كثير من المسلمين حتى صار الإسلام اسماً فقط عند كثير من أبناء الشعوب
المستعمرة، وقد سلك المستعمرون في سبيل تحقيق ذلك طرقاً عدة منها:
1 - تقطيع العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة عقب إسقاط الخلافة العثمانية،
وقد سعى النصارى بكل ما أوتوا من قوة ومكر للقضاء على الدولة العثمانية؛
لأنها مع ما فيها من فساد وضعف كانت الرباط الذي يربط أقصى العالم الإسلامي
بأدناه؛ ولذا فإنها لما سقطت سقطت معها هيبة المسلمين، واستبيحت حرماتهم
وامتهنت كرامتهم.
وكان مكر النصارى ومخططاتهم ضد الدولة العثمانية قديماً؛ ففي عام 792
هـ تكوَّن حلف صليبي مقدس من الصرب والبوشناق والمجر وبلغاريا ونصارى
ألبانيا لقتال العثمانيين وإزالة دولتهم [4] ، وتكررت هذه التحالفات التي كانت تُخفِق
مرة إثر مرة؛ لكنها أضعفت الدولة العثمانية.
2 - تجفيف منابع العلم بأحكام الإسلام وشريعته، وإضعاف دور العلماء
والدعاة باحتوائهم، وتصفية من تأبَّى على سياسة الاحتواء، حتى صار من حاشية
جنود الاستعمار وجلساء قادته أناس ينتسبون لأهل العلم.
3 - ممارسة التنصير، وتبديل ثقافة الأمة بثقافة أخرى ليست لها، وهذا
يتضح من خلال خطاب الوزير الفرنسي (صالغندي) الذي ألقاه عام 1846م أمام
جمع من الأطباء العسكريين في الجزائر؛ ومن قوله: «مما لا شك فيه أن
الحكومة الفرنسية تعترف لكم بجميل إخلاصكم في معاملتكم للجنود؛ غير أن لكم
مهمة أخرى أكثر أهمية؛ أنتم مدعوون إلى القيام بها وهي مؤازرتكم بقسط كبير في
العمل على إدخال حضارتنا في بيئة القبائل العربية والبربرية. إن تبشيركم سيكون
ولا شك القادر على النجاح خلال السنوات المقبلة؛ ومن جهتنا سنقوم بكل
مجهوداتنا لنوفر لكم كل الظروف وسط المواطنين للعمل على نشر التعليم الطبي
الذي سيصبح نافعاً في الوقت نفسه للإنسانية ولتثبيت قوتنا في هذا البلد» [5] .
وبقراءة هذا الخطاب يظهر أمامنا ثلاثة أمور أساسية:
أ - الارتباط الوثيق بين التنصير والاستعمار، وأن للتنصير دوراً ثقافياً
إمبريالياً.
ب - أشار الوزير إلى دور هؤلاء الأطباء في إدخال الحضارة الغربية في
البنية العربية ولكن بإدخال الثقافة الاستعمارية وليس إيجابيات الحضارة الغربية؛
بدليل أن الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي زاد على ثلاثة قرون وثلث القرن لم تجنِ
منه الجزائر إلا تخلف أبنائها ونهب خيراتها واستيطان أراضيها وإذلال شعبها.
ج - أن السلطات الاستعمارية كانت تدعم كل الجهود التي تساعد في التأثير
الثقافي [6] .
وحتى بعد رحيل المستعمرين عن ديار الإسلام ظل التأثير الثقافي مسلطاً على
الديار التي استعمروها عن طريق الجامعات الغربية كالجامعات الأمريكية في كثير
من الدول العربية، والمدارس الغربية كذلك، وفي مصر وحدها أكثر من تسع
مؤسسات تعليمية بين جامعة وكلية ومدرسة أمريكية وإنجليزية تمارس التنصير.
وكذلك عن طريق الأبناء العاقين لأمتهم المخلصين للغرب النصراني الذين
درسوا في الغرب وتشربوا ثقافته، ثم سُلِّموا وزارات التربية والثقافة في البلاد
الإسلامية، وأُعطوا المنابر الإعلامية ليقوموا بتشويه الثقافة الإسلامية، والدعاية
لثقافة المستعمرين، والدعوة إلى الأخذ بها بخيرها وشرها، وحلوها ومرها ... كما
قال طه حسين، وكما قال تركي الحمد: لا يمكن أن تأخذ السيارة ولا تأخذ ثقافتها
أي: ثقافة صانعها.
وعن طريق النوادي الماسونية أيضاً والجمعيات الغربية من نسائية وغيرها
التي أنشئت في العالم الإسلامي ويصلها كل الدعم المادي والمعنوي من المستعمرين.
4 - تغيير اللسان العربي الذي في بقائه وحفظه حفظ الإسلام؛ إذ هو شعاره
وبيانه [7] .
وقد رأينا فيما مضى كيف أن النصارى في الأندلس إبَّان تنصيرها منعوا
التخاطب باللغة العربية، وألزموا المسلمين بهجرها والتخاطب بلغة المستعمر.
وهكذا حصل في الاستعمار الحديث؛ فالاستعمار الفرنسي في الجزائر ركَّز
على تعليم الفرنسية ومنع الجزائريين من تعلم العربية، وكان على الطفل الجزائري
أن يتعلم الفرنسية بوصفها لغة قومية؛ لأن الاستعمار كان يعتبر اللغة العربية لغة
أجنبية في الجزائر العربية المسلمة [8] .
5 - نشر الفاحشة في المسلمين وذلك بإخراج المرأة من بيتها، وإلقاء حجابها،
وخلطها بالرجال في ميادين الدراسة والعمل، بل وإنشاء دور التمثيل والرقص
والأزياء الفاضحة، والمجلات الهابطة، ومراكز إنتاج الأفلام والأغاني الخليعة،
والإشادة بالماجنين والفسقة والسوقة من أولاد المسلمين ورفع شأنهم في وسائل
الإعلام المختلفة.
وفي مقابل ذلك تضييق سبل المحافظة على العفة والطهارة بانتقاد وربما منع
الزواج المبكر ومنع تعدد الزوجات، وإباحة الزنا قانونياً كما في تونس وتركيا، أو
تضييق سبل الحلال وتوسيع سبل الحرام كما في كثير من الدول الإسلامية.
وقد قال قائد من قادة الصليبيين: «لن تهزموا المسلمين بكثرة الجيوش ولا
بقوتها ولكن ستهزمهم جيوش النساء، وستهزمهم قوارير الخمر» [9] .
6 - إحياء النعرات القومية (العربية، الطورانية، البربرية ... ) بقصد
إضعاف الانتماء إلى الإسلام، واستبداله بالانتماء إلى القطر أو الوطن أو القبيلة أو
نحو ذلك.
يقول أحد المستشرقين: «إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض
لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم
سيترك دينه، ولكن يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات» [10] .
القسم الثاني: آثار دنيوية: وهي كثيرة ومنها:
1 - تفريق الأمة الواحدة وضرب الحدود الاستعمارية بينها، ومن ثم
التحريش بين الجار وجاره خدمة لمصالح المستعمرين، في إرغام الدول المستعمَرة
على توقيع اتفاقات الأمن والحماية التي بموجبها تمتص الدول الكبرى دول
الاستعمار خيرات هذه الدول الضعيفة التي تخاف جيرانها.
2 - اغتصاب الأراضي الإسلامية؛ فقد اغتصب الاستعمار الأندلس كاملة،
وأجزاءاً كبيرة من البلقان وروسيا البيضاء وأرض الجمهوريات الإسلامية وجبل
طارق والجولان وفلسطين وغيرها، وأخيراً تيمور الشرقية.
3 - التخلف الاقتصادي في البلاد المستعمَرة، والاعتماد على وسائل الإنتاج
البدائي كـ (الزراعة) والتدخل في العلاقات الاقتصادية، وإقامة الحواجز
الاقتصادية كالاحتكارات والمضاربات ونحوها.
4 - تكريس تبعية نظم البلدان المستعمرة الاقتصادية والسياسية والثقافية
والاجتماعية للدول الاستعمارية العظمى ونظمها.
5 - تغريب المواطن عن مشاكل شعبه، وإيجاد نموذج من المثقفين العاجزين
عن فهم هذه المشاكل فضلاً عن حلها وتسليمهم زمام القيادة، كما أسهم الاستعمار
ولا زال يسهم في حدوث القلاقل والثورات في المجتمعات الآمنة المستقرة خاصة
عند رفضها لما تقرره السلطات الاستعمارية، إضافة إلى شغل المثقفين والمفكرين
عن هموم أمتهم بالدعوة إلى الذوبان في الأنظمة الاستعمارية.
6 - تكريس ما دُعي بالنخبوية الطبقية مع الحرص على اختيار نماذج من
أبناء الطبقات الشعبية إخفاءاً للدور الحقيقي لمؤسسات الاستعمار الثقافي والإعلامي
الموجودة في العالم الإسلامي.
7 - وجود مجتمعات خاصة (فصائل ثقافية أجنبية) ضمن المجتمع
الإسلامي تهدد وحدة المجتمع ووجوده؛ فالإرساليات التنصيرية، والشبكات
الماسونية، والمؤسسات والجمعيات الغربية تعمل في كثير من بلاد المسلمين دون
رقيب أو حسيب عليها، بل تدعمها الأنظمة العلمانية في الوقت الذي تقمع فيه أي
توجه إسلامي.
8 - إقناع الشعوب الإسلامية بأن الخير في الاستعمار الثقافي؛ وذلك عن
طريق الوقوف ضد تطوير التعليم العام والتعليم العالي، وتشجيع التعليم اللاوطني
والمؤسسات التعليمية الأجنبية وإثبات كفاءتها وقدرتها بدءاً من ضخامة منشآتها،
وتطور وسائلها التعليمية والتربوية، وانتهاءاً بإيجاد الفرص الوظيفية لخريجيها
دون الجامعات المحلية، ولا يمكن مقارنة الجامعة الأمريكية في مصر أو بيروت
بالجامعات المحلية.
9 - الشعور بالدونية والإحباط، والاقتناع بتميز الرجل الأبيض عن سائر
الشعوب الملونة، وهذا كرَّسه الاستعمار العسكري بما مارسه من إرهاب جسدي
وتصفية لأبناء الشعوب المستعمرة، بل وممارسة أبشع صور القهر والإذلال النفسي
والجسدي؛ ومثال ذلك ما فعله الاستعمار الهولندي في إندونيسيا حتى إن الجندي
الهولندي إذا أراد أن يعلو ظهر جواده أشار إلى الأندونيسي فيركع أمامه فيدوس
الهولندي بحذائه على ظهر الأندونيسي ليعلو جواده.
وقبل ذلك أُلْزِمَ المتنصِّرون في الأندلس أن يسجدوا في الشوارع والطرقات إذا
مر بهم الرهبان والقساوسة احتراماً لهم.
النظم العالمية والعولمة:
خرج الغربيون النصارى من بلاد المسلمين عقب استعمارهم لها بعد أن
زرعوا عملاءهم، ومكنوا لأبنائهم، وضمنوا هيمنتهم في شتى المجالات، ولم يعد
الشرق الإسلامي مصدر قلق لهم، وقضوا على خلافته، وفتتوا دولته وجزَّؤوه إلى
دويلات صغيرة. كما نتج عن ذلك انتشار البغي والظلم؛ لأن القيادة والسيادة
انتقلت من المسلمين الذين يدينون بدين الحق والعدل مع الناس كلهم إلى غيرهم
سواء أكان هذا الغير أهل الكتاب اليهود والنصارى أم الملاحدة العلمانيين الماديين
الليبراليين والماركسيين وغيرهم من أصحاب النظريات المادية. ومن أجل إضفاء
الشرعية على ممارسات الظلم التي قام بها النصارى المتدينون منهم والعلمانيون في
عصر سيادتهم وقوتهم فإنهم اخترعوا المجمعات الأممية، وأسسوا المؤسسات الدولية
التي يمررون قراراتهم وتوصياتهم الجائرة عبر مجالسها واجتماعاتها. وجاءت فكرة
هذه المؤسسات الدولية في نهاية الحرب العالمية الأولى حينما بات من الواضح
انتصار الحلفاء على ألمانيا والدولة العثمانية؛ إذ كان النظام الدولي قبل الحرب
قائماً على توازن القوى بين الدول الأوروبية الكبرى وكانت بريطانيا هي الطرف
الأقوى في هذا النظام لحفظ التوازن، وبعد الحرب تبنى أصحاب الرأي وقادة الفكر
في المجتمعات الأوروبية الدعوة إلى بناء نظام دولي جديد على أساس تكريس
الهيمنة والسيادة الأوروبية على العالم، وتسخير عصبة الأمم لرعاية هذه السيادة
وتنظيمها [11] .
وبعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور (ألمانيا وإيطاليا
واليابان) على يد قوات التحالف اجتمع قادة الحلفاء (أمريكا والاتحاد
السوفييتي وبريطانيا) في قمة يالطا عام 1945م لإعادة رسم الخريطة العالمية
وتوزيع مناطق النفوذ بين المنتصرين في الحرب، ثم تحول شكل النظام الدولي إلى
القطبية الثانية بعد تكوين حلف الأطلسي عام 1949م وامتلاك الاتحاد السوفييتي
القنبلة الذرية وتكوين حلف وارسو عام 1955م [12] .
وتحيزت دول العالم الثالث إلى أحد المعسكرين الاشتراكي الشرقي، أو
الليبرالي الغربي واندفعت إلى صراع محموم وتنافس رهيب على امتلاك الأسلحة
الفتاكة والدخول في حروب شعواء لمصلحة أحد المعسكرين مما أدى إلى فساد
العمران واستنزاف الأموال، وإفقار الدول التي سموها دول العالم الثالث.
وبعد أزمة الخليج وترنح الدب الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفييتي تحولت
السيادة ومن دون منافس إلى أمريكا الرأسمالية البروتستانتية المحكومة باللوبيات
الصهيونية، وهذه الزعامة القطبية لأمريكا جعلت رئيسها بوش عقب أزمة الخليج
يفصح عن الغرور الأمريكي والابتهاج بحكم العالم حينما رسم خطوط النظام العالمي
الجديد الذي تديره بلاده أمام الكونجرس فكان من قوله: كانت الولايات المتحدة على
مدى قرنين من الزمان هي مثل العالم الأعلى في الحرية والديمقراطية، وقد حملت
أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية وتعظيم المكاسب التي حققتها،
واليوم وفي عالم يتحول بسرعة شديدة فإن زعامة الولايات المتحدة لا غنى
عنها [13] . وفي مناسبة أخرى قال في زهو وغرور: لقد أنقذنا أوروبا، وتغلبنا
على الشلل، ووصلنا إلى القمر، وأضأنا العالم بثقافتنا، والآن ونحن على مشارف
قرن جديد نسأل: لمن ينسب هذا العصر؟ ! إنني أؤكد أنه سيكون عصراً أمريكياً
آخر [14] .
ما الذي يريدونه في عصر النظام العالمي الجديد (العولمة) ؟ !
لقد تكفَّل أهل الكفر بتفتيت العالم الإسلامي وفرض سيادتهم عليه، ونهب
ثرواته، وتصدير نظمهم إليه، لكن القصعة المستباحة كانت مقسمة بين الشرق
والغرب وبعد سقوط الشيوعية ضمن الغرب الاستئثار بها وحده، ولم يبق ما يزعج
الغرب النصراني العلماني إلا تفوق العالم الإسلامي في النواحي الاجتماعية،
ومحافظته على نظام الأسرة، مما جعل قوى الشر تتواصى بالاختراق الثقافي
وتجتمع على إفساد الأسرة المسلمة عبر مقررات المؤتمرات الدولية: مؤتمرات
السكان والإيواء البشري والطفل والمرأة، وفرض المقررات الإلحادية على البلاد
الإسلامية وربطها بالسياسة والاقتصاد والحصار لتأخذ صفة الإلزام بعد إخفاق
التوصيات والنصائح، ولم تفلح المنظمات المشبوهة التي تسوِّق لهذا الإلحاد
والفساد، وفُضح القائمون عليها من عملاء خونة خانوا دينهم وأوطانهم.
هل يريدون تنصير العالم الإسلامي أم علمنته؟ !
يبدو أنه لا فرق بين الأمرين؛ لأن الكنيسة تعلمنت، والعلمانية أحست
بضرورة وجود الكنيسة؛ فالصراع زال، وحل محله الوفاق ليقوم كل بدوره تجاه
أبناء النصرانية العلمانيين وتجاه غيرهم.
لقد ثار الغرب ثورة الحرية على الكنيسة وقيودها، وأعلن العلمانية فانتهى
بذلك دور الكنيسة، وتحول الغربي إلى مادي حيواني يعب من شهواته ويشبع
غرائزه ويعيش يومه ولا يفكر في غده ولا يؤمن بالحساب، ومنذ تلك الثورة ظلت
الكنيسة تغازل العلمانية، وتخطب ودها بما يقدمه رجال الدين النصراني من
تنازلات لإرضاء الماديين حتى خرقوا أنظمة الكهنوت، وخالفوا تعليمات أناجيلهم
المحرفة، وأباحوا للناس ما أجمعت الشرائع والعقول والفطر السليمة على تحريمه
من زواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء وسائر أنواع الشذوذات، كما قالت
مجموعة أبناء الرب [*] : إن الخوف من الزنا لم يعد له مكان، وإن عمليتي اللواط
والسحاق مباحتان ما دامتا تتمان في جو من الحب، وقال ديفيد جاكس المتحدث
باسم هذه المجموعة: «إن تقديم العون الجنسي واجب على كل فرد، وإن أفراد
المجموعة من النساء مطالبات بتقديم كل ما يمكن أن يغري أعضاءاً جدداً» [15] ،
وأنه لا بد من تغطية نفقات المجموعة من بيع الجنس إذا اقتضى الأمر! ! [16] .
ولا أدل على علمنة الكنيسة من إعلان عدد من جماعات التنصير في أمريكا
وهولندا وإيطاليا والسويد وألمانيا والدانمارك وأسبانيا وإنجلترا رفضهم للوصايا
العشر التي جاءت في شريعة موسى، والتي تعد أهم دعائم النصرانية، واعتبر
بعضهم أن هذه الوصايا انتهت وانتهى زمانها [17] .
وفي المقابل ثبت لدى العلمانيين الغربيين حاجة الفرد إلى الكنيسة؛ لأنه
مفطور على التعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لا سيما بعد فُشُوِّ أمراض القلق والجنون
والفصام وغيرها من الأمراض النفسية في الغرب، وقد أدى كثير منها إلى الانتحار،
فباركت العلمانية تنازلات الكنيسة، ولم تمانع من وجودها بعد فقد سلطانها لإشباعٍ
روحيٍ زائف.
عولمة التنصير:
مما سبق نفهم تآزر القوى العلمانية مع العصابات الكنسية في عملية التنصير
الضخمة التي قد شحن الغرب إمكانياته لإنجاحها. وبات من الواضح تحول الغرب
من التنصير الفردي إلى التنصير الجماعي لسببين رئيسين:
1 - أن التنصير الفردي بطيء جداً لا يتناسب وعصر السرعة، ولا يتناسب
مع اتساع رقعة العمل الفسيحة أمام المنصرين الذين يمكنهم الدخول إلى أي مكان ما
دامت قوى الغرب السياسية تنفرد بالقرارات وتدير المنظمات الدولية.
2 - أن التنصير الفردي يؤدي إلى اقتلاع الفرد من بيئته ومجتمعه مما يجعله
مشلول الإرادة، منبوذاً من قومه مما يكون سبباً في رجوعه، وإن بقي على
نصرانيته يصبح عبئاً على الكنيسة التي نصّرته، ولن يستطيع التأثير فيمن حوله.
والتنصير الجماعي يعني نقل أمة من الناس قبيلة أو قرية أو مدينة كاملة من
الإسلام إلى النصرانية لكيلا يحس أحد منهم بالغربة، والوسيلة لتحقيق ذلك هو
استغلال الأزمات والكوارث، وربما افتعالها من قِبَل مَنْ بأيديهم القرار السياسي
والعسكري والاقتصادي للتدخل في بلد ما وإيجاد أزمة تخنق شعبه، ومن ثم تقوم
الهيئات والمنظمات التنصيرية بإكمال باقي المهمة بتنصير هذا الشعب الذي يعيش
الأزمة، وهذا ما نص عليه مؤتمر كولورادو التنصيري؛ إذ جاء في إحدى فقراته:
(لا بد من وجود أزمات معينة ومشكلات وعوامل إعداد وتهيئة تدفع الناس أفراداً
وجماعات خارج حالة التوازن، وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة فلن تكون
هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية) [18] .
وليس هذا يعني بالضرورة التنسيق الكامل بين الدوائر العلمانية صاحبة القرار
في الغرب وبين المنظمات التنصيرية حتى لا يقال: إن هذا من إفرازات فكر
المؤامرة ولكنه تقاطع المصالح؛ فالقوى السياسية والعسكرية والاقتصادية في الغرب
تخنق شعوب العالم الثالث لإثبات القوة والغطرسة أو لنهب ثرواتها أو لتأديب من
يرفض قوانينها الجائرة، والهيئات التنصيرية تستغل فرص التجويع والإفقار
والحصار لتقوم بأنشطتها التنصيرية، ومن سيمنعها من ذلك إذا كانت الدولة
المحاصَرة نفسها لم تستطع فك الحصار عن نفسها أو اختراقه فضلاً عن منع
المنصرين من مد يد العون والمساعدة لشعبها المجوَّع المحاصر؟ !
ولن يتوقف النصارى عند هذا الحد؛ إذ صرحوا بلزوم التدخل في شؤون
الدول التي فيها أقليات نصرانية بزعم حمايتها من اضطهاد المسلمين مع أن هذه
الأقليات تحظى في بلاد المسلمين بما لا يحظى به المسلمون من الرعاية والتكريم
بل والذلة لهم وتنفيذ مطالبهم وإظهار شعائر شركهم تحت قيادة الحكومات العلمانية،
ومع ذلك لم يرتض الغرب المنتصر هذه السيرة ولن ترضيه حتى يجعل الأقليات
النصرانية حاكمة على المسلمين أو تنفصل عن الدولة لتشكل دولة نصرانية كما
حصل في تيمور الشرقية وكما يريدون حصوله في جنوب السودان.
وفي زمن العولمة لن يستطيع أحد منعهم من التدخل في شؤون الدول الداخلية؛
لأن القوة بأيديهم والمنظمات الدولية تأتمر بأمرهم، وتصدر قراراتها على ضوء
توجهاتهم، ثم إذا منعتهم وصار قرارهم وتدخلهم فردياً فمن سيعاقبهم ويحاصرهم؟ !
وقد ضربت السودان وأفغانستان بقرار فردي لصرف الأنظار عن فضيحة جنسية؛
فهل عوقب الضارب؟ وهل حوصرت دولته؟ !
حوارات الأديان خطوة تنصيرية:
كان غلاة الصوفية الأقدمون دعاة وحدة الوجود والاتحاد والحلول يرون صحة
كل طريق يوصل إلى الله تعالى سواء أكان حقاً (الإسلام) أم باطلاً كاليهودية
والنصرانية والوثنية وغيرها. وأجاز بعضهم التهود والتنصر ورجحه بعضهم على
دين الإسلام وقد كشفهم شيخ الإسلام ابن تيمية ونقض باطلهم [19] .
وفي النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري بعثت هذه الدعوة وتبنتها
الماسونية، وأقنعت بها الأفغاني ومحمد عبده الذي أسهم في تأليف جمعية في
بيروت باسم (جمعية التأليف والتقريب) هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة [20] .
وفي السنوات الأخيرة تبنى الفرنسي روجيه جارودي إحياء دعوة (لويس
ماسينون) [21] المتمثلة في ربط الأديان التوحيدية الثلاثة بنفس الشبكة، وذلك من
خلال وصلها بالإيمان الإبراهيمي على اعتبار أن إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء،
وقد أفصح جارودي عن هذه الحقيقة بقوله: «لقد عرفت الإيمان الإبراهيمي عن
طريق Kierkegaard واليوم أقوم بهذه المبادرة الحوار الإبراهيمي بالاشتراك مع
أصدقائي اليهود والكاثوليك والبروتستانت؛ فإني أتابع المسير بقصد تجميع الإيمان
الإبراهيمي، وما أجده اليوم في القرآن من أن إبراهيم هو أبو الأنبياء قد وجدته منذ
عشرين عاماً» [22] وقد عقد جارودي العديد من المؤتمرات وأنشأ معهداً لهذا
الغرض في قرطبة الأندلسية وبيَّن أن لهذا المعهد توجهات عالمية لنشر نتاج
الثقافات الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلامية وتعاليمها من خلال علاقة الإنسان
بالإله والطبيعة والفرد وهو مركز دراسات لوحدة هذه الأديان [23] .
وللأسف فإن جارودي خدع بعض السذج من المسلمين وجمع منهم التبرعات
لإنشاء هذا المعهد المشبوه، وحصر إدارته في اليهود والنصارى زاعماً السعي لنشر
ثقافة الأديان الثلاثة! !
وقبل عدة أشهر نشرت بعض الصحف الغربية أن مؤتمراً للتقريب بين
الأديان سوف يعقد تحت مظلة الأمم المتحدة وسيدعى إليه بابا الفاتيكان وممثلو
مختلف الكنائس النصرانية وحاخامات اليهود إضافة إلى رؤساء كبار العلماء
والمجامع الفقهية والبحوث الإسلامية ورئيس الأزهر وأئمة المساجد الثلاثة المكي
والنبوي والأقصى.
والقصد معروف من هذه الدعوات التي تريد إذابة الإسلام في مناهج الذين
كفروا، وليست حواراً حقيقياً كما يظن المخدوعون يقوم على المناظرة وقرع الحجة
بالحجة وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وذلك واضح في تقرير البروفيسور
النصراني (ديون كراوفورد) الذي كتب تقريراً مطولاً عن حوارات الأديان التي
يتبناها النصارى وكان من ضمن ما كتب: «ينبغي أن تتحول العلاقة بين المسلمين
والنصارى من علاقة المواجهة السابقة إلى علاقة حوار، على ألا يؤدي هذا الحوار
إلى المساومة على النصوص الإنجيلية من أجل تنمية الحوار، وهذا ما لا يجوز؛
فالحوار لا ينبغي أن يكون بديلاً عن التبشير بالإنجيل، وعلى المسلمين أن يفهموا
أن الحوار يستهدف كسبهم إلى صف النصارى، وينبغي على النصارى أن يخالطوا
المسلمين ويصادقوهم، وأن يستغلوا ذلك في إزالة سوء الفهم الراسخ في أذهانهم
تجاه الإنجيل والمسيح» [24] .
تنهبيات مهمة:
في ختام هذا العرض المختصر أنبه إلى أمور ثلاثة مهمة هي:
1 - أن الحرب بين المسلمين والنصارى ستستمر إلى نزول عيسى عليه
السلام وقتله للدجال والخنزير، وكسر الصليب، والحكم بشريعة أخيه محمد صلى
الله عليه وسلم كما تواترت بذلك الأخبار في السُّنَّة النبوية [25] . وهيمنة النصارى
العسكرية والسياسية والاقتصادية بل والثقافية لن تكون مطفئة لأحقاد النصارى على
المسلمين حتى يردوهم عن دينهم كما هو قول الله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ
اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، وقوله تعالى: [وَدَّ
كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ] (البقرة: 109) وفي الأحاديث الواردة في شأن الدجال قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذٍ ... » [26] وذكر فيه
انتصار المسلمين وخروج الدجال وهم يقتسمون الغنائم مما يعني أن حوارات الأديان
والسلام ونشر ثقافة المحبة، وانتهاء عصر الحروب ... وغير ذلك من الادعاءات
مجرد أمانٍ ينخدع بها من لا يحسنون التلقي عن الكتاب والسنة.
2 - أن واجب المسلمين هو مدافعة الشر ومقاومة أهل البغي والظلم والكفر
بكل ما أوتوا من قوة عملاً بقوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ]
(الأنفال: 60) فالسلاح وبناء الجيوش قوة، والكلمة الطيبة التي تفضح بها
مخططات الأعداء والمنافقين قوة، والإلحاح على الله تعالى بالدعاء على الأعداء
قوة، والتمسك بالإسلام والدعوة إليه قوة. والضعف هو في التخلي عن أحكام
الإسلام أو تمييعها لإرضاء الأعداء، أو تفصيل شريعة الإسلام على أهواء الناس
ومطالبهم. ونحمد الله تعالى على أنه لم يكلفنا بالنتائج وإنما طلب منا العمل فحسب:
[فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا] (يونس: 108) ،
وقوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ] (يونس: 99-100) ، وقوله تعالى: [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ]
(الشورى: 48) .
3 - أن الغلبة في النهاية لأهل الحق على أهل الباطل ولو زخرفوا باطلهم
وزينوه وكانت وسيلته الفضائيات والإنترنت، ولو كان مدعوماً بالترسانات النووية
والذرية والبيلوجية وغيرها؛ فإن جند الله تعالى أقوى؛ ومن جنده سبحانه الزلازل،
والأمراض والكوارث والرعب: [وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) ، وقوله تعالى: [وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] (المدثر: 31) .
بيد أن الذي يستحق نصر الله تعالى وتأييده هم عباده الذين استجلبوا نصره
بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، والدعوة إلى الإسلام
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح النفس والبيت والسعي في نشر
الصلاح في الأمة كلها.
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه وأن يدحر الكفر وأهله؛ إنه سميع مجيب.
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي، د جميل المصري، 1/79 82، وانظر: واقعنا المعاصر، ص 189.
(2) أوروبا في مطلع العصر الحديث، 61، عن المصدر السابق، 1/84.
(3) انظر: حاضر العالم الإسلامي، 1/84 85.
(4) الحروب الصليبية، لأحمد شلبي، 122.
(5) المجلة التاريخية المغربية، 1 كانون، 1974م، وانظر الإسلام والحضارة العربية، 1/ 348، 350 فقد ذكر محمد كرد علي أن أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى كانوا من الفرنسيين المستعربين، حتى قال أحد الإنجليز: إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية فرنسية صرفة وذكر أن أعداداً كبيرة من المنصرين كانوا يمارسون التنصير خاصة في الشام ومنهم الإيطالي والفرنسي والأمريكي والروسي والأسباني والأسكتلندي وغيرهم.
(6) الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي، 99، 100.
(7) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/252 255، واقتضاء الصراط المستقيم، 1/461 464.
(8) انظر: في الثورة والتعريب، د محمد مضايف، 50 - 51.
(9) الهزيمة النفسية عند المسلمين، د عبد الله الخاطر، 45.
(10) الولاء والبراء في الإسلام، د محمد سعيد القحطاني، 420.
(11) انظر: النظام الدولي الجديد، ياسر أبو شبانة، 17، والإسلام والنظام العالمي الجديد لمولاي محمد علي، ترجمة أحمد جودة السحار، 12 - 13، والنظام العالمي الجديد ملامح ومخاطر، د شفيق المصري، 34.
(12) انظر: تغيير العالم، سلسلة دارالمعرفة، رقم11، ص 24 - 29، والنظام الدولي الجديد لأبي شبانة، 17.
(13) أزمة الخليج والنظام العالمي الجديد، د حسن نافعة، 127، والنظام الدولي الجديد، ياسر أبو شبانة، 31.
(14) النظام الدولي الجديد، 31، عن: ما الجديد في النظام الدولي، مجلة مستقبل العالم الإسلامي، عدد 8، ص 3.
(*) هي حركة تنصيرية نشأت عام 1969م في أمريكا واسمها الرسمي (أبناء الرب وأسرة الحب) وتقوم على أساس التنصير عن طريق الجنس وتختار المنصرات الجميلات للقيام بهذه المهمة القذرة، وللأسف فإن لهذه الجمعية فروعاً في كثير من الدول الإسلامية.
(15) قارن هذه التنازلات في سبيل جذب الناس للكنيسة بما افتراه عدد من التنويريين على الإسلام من أنه يجيز الاختلاط والموسيقى والفن والتمثيل والرقص إذا كان ذلك في مصلحة الدعوة وسبباً لالتزام الشباب والشابات بالإسلام بدل أن يتجهوا للموسيقى والرقص والغناء الغربي الذي لا يجوز عندهم، وتنازلات أخرى فيما يتعلق بالولاء والبراء وإلغاء جهاد الطلب وأحكام أهل الذمة وغير ذلك كثير وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» .
(16) فضائح الكنائس، مصطفى فوزي غزال، 92.
(17) فضائح الكنائس، مصطفى فوزي غزال، 92.
(18) انظر: تنصير المسلمين لعبد الرزاق ديار بكر لي، 24 26.
(19) انظر: مجموع الفتاوى، 4/203 208، 14/164 167و 28/523، والصفدية، 1/98 100، 268، والرد على المنطقيين، 282، 283، عن الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان للعلامة، د بكر أبو زيد، 17 18.
(20) انظر: المصدر السابق، 20.
(21) يعمل أستاذاً للعلوم التاريخية والسلالات في جامعة باريس ودعوته تلك في كتابه المعنون بـ.
(العرب) انظر: سلسلة تقارير المعلومات الصادر عن وزارة الأوقاف الكويتية، 1/97، رقم التقرير، 14/87.
(22) مجلة (Cambio) في 9/2/1987م، ص 19، عن سلسلة تقارير المعلومات، 1/98.
(23) انظر: سلسلة تقارير المعلومات، 1/15، تقرير رقم، 3/87.
(24) مجلة البحوث الإفريقية، ديسمبر 1986م، عن الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى المسلمين العرب، د كرم شلبي، 32.
(25) انظر في ذلك مثلاً: صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
(26) أخرجه مسلم في الفتن، باب فتح القسطنطينية، ونزول عيسى بن مريم (2897) .(154/52)
ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
تاريخ الوجود التنصيري في إفريقيا
أبو إسلام أحمد عبد الله [*]
لم تتعرف إفريقيا على عقيدة النصارى قبل السنوات الأخيرة التي شهدت
نهاية الإمبراطورية الرومانية في شمال إفريقيا على يد المسلمين.
ومع أول عهد انتشار الإسلام في هذه المنطقة، لم يكن للنصارى غير مملكة
قبطية في بلاد النوبة (شمال أم درمان بالسودان) كانت تسمى مملكة ميروي
(Meroe) رفضت دعوة التوحيد، وظلت على شركها في ظل الدولة الإسلامية،
حتى عام 1405م نصرانية، عندما هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها،
لتعود إفريقيا مرة أخرى بين وثنية تجذرت بجهالاتها وبين عقيدة إسلامية تنتشر
كنسمات الربيع التي يفوح عبقها مع موجات الهواء البارد لترطب من حرارة خط
الاستواء في قلوب الأفارقة المهتدين، بدون إرساليات طبية أو بعثات تعليمية أو
خطط تنصيرية أو احتلال أرض أو عبودية بشر، أو جيوش لا تعرف غير الظلم
وسفك الدماء.
كانت إفريقيا بالنسبة للنصارى عندما هجموا عليها كقطعة لحم جافة تسابقت
إليها الكلاب لتنهش منها ما يسد نهمها، لم تكن الغاية هي المسيح، ولا رب المسيح،
ولا المسيح الرب (عندهم) ، إنما كانت توسيع رقعة النفوذ في مواجهة
الصراعات السياسية والعقدية التي سيطرت على كل أنحاء أوروبا، وممارسة حياة
البلطجة وقطع الطرق والسرقة التي كانت تجتاح كل بلاد الغرب، إلى أن بدأت
سياسة احتلال البلاد في إفريقيا وآسيا، ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، فيما
يعرف بالحملات الاستكشافية أولاً، ثم الحملات الصليبية بعد ذلك.
وتحت ظل هذه الحملات تحركت الكنيسة الكاثوليكية من فرنسا ثم من بلجيكا
والبرتغال وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، كما تحركت الكنيسة البروتستانتية
الإصلاحية من إنجلترا ثم فرنسا وسويسرا وألمانيا وإسكندناوا وأمريكا، جاعلة
لنفسها مقراً دولياً في منطقة جنوب إفريقيا.
ومن أشهر طوائف البروتستانتية الذين نشطوا في قارة إفريقيا عموماً هم
الإنجيليكان، والميثودست، والبرزبيتاريان ثم اللوثرية وجمعيات الباتست
Baptistes والأدفنتست Adventistes وبرج المراقبة Watch Tower
المعروفة بجماعة شهود يَهْوَه وهي الجماعة الوحيدة التي حالت الكنائس البلجيكية
وحكوماتها دون السماح لها بالدعوة في منطقة الكونغو حتى اليوم.
وقد أدت هذه التعددية اللامحدودة في مذاهب وملل واعتقادات النصارى التي
هرعت إلى الأرض الجديدة، إلى إثارة الفتن والعصبية وإشعال الحروب الضارية
بين القبائل الإفريقية على مستويين:
- ففي الداخل بين من ترك الوثنية إلى النصرانية أو اعتنق مذهباً نصرانياً
يخالف مذهب الآخر، لا داخل القبيلة فحسب، إنما داخل الأسرة الواحدة وداخل
العشيرة الواحدة، بين الأب وأبنائه، وبين الأشقاء، وبين الزوج وأصهاره.
- وفي الخارج: بين القبائل بعضها مع بعض لارتداد بعضها عن الوثنية،
أو لاختلاف المذاهب والملل التي اعتنقوها مجدداً من النصرانية.
وهكذا سالت دماء المئات والألوف من أبناء إفريقيا بأيديهم ثمن هذه الفتنة،
إلى أن لجأت كل الإرساليات النصرانية إلى أسلوب جديد، يحافظ على الطقوس
والعبادات الوثنية التي تربط بين القبائل بعضها ببعض، والإبقاء عليها إلى جانب
طقوس النصرانية وعباداتها، وإن اختلف ذلك عن أصولهم العقدية، وهو ما
وصفوه بالنسبة للنصراني الزنجي الجديد بكلمتي «الموت الذاتي» أو «الاحتضار
المعنوي» للدلالة على خطورة ذلك الانقلاب في حياة الرجل الإفريقي.
ولكن برغم الجهود الجبارة التي بُذِلَت، والأموال الطائلة التي أنفقت،
وعشرات الأرواح التي أُزهقت بين المنصرين بسبب الأمراض التي كانت تنتشر
في البلاد الإفريقية، فإن حصاد النصرانية كان شيئاً لا يذكر ولا يتناسب مع الجهود
والأموال والتضحيات التي خسرتها الكنائس وإرسالياتها، حتى نهاية القرن التاسع
عشر وبداية القرن العشرين.
إذ مع الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص، ولأسباب سياسية
وعسكرية واقتصادية متعددة، يمكن القول إن النصرانية بدأت تجني ثمار كل
السنوات السابقة، وأن تعيد الحيوية إلى البذور التي تناثرت هنا وهناك وحافظت
على بقايا طقوس تنتمي إلى عقيدة النصارى بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع بداية القرن العشرين تنبهت الكنائس الغربية إلى أخطائها في أساليب
الدعوة على سواحل إفريقيا، ففرضت على أعضاء البعثات والإرساليات اتباع
خطط مرسومة تقضي بدراسة تلك البيئات دراسة شاملة، وتَفَهُّم نظمها الاجتماعية
وعاداتها وتقاليدها ولغاتها.
كما فرضت على الأعضاء ضرورة الاختلاط بالسكان وقبول بعض طقوسهم
الدينية الوثنية وتقديرها بما يرضي الوثنيين، بل ومحاولة إيجاد مساحة لذلك القبول
في العقيدة النصرانية، وعدم العمل على محوها، إنما التغلغل فيها والاستفادة من
أي بذور صالحة بها، وقبول بعض العادات الوثنية واعتبارها عادات نصرانية
تحتفل بها الكنيسة.
كما تنبهت الكنيسة الغربية إلى ضرورة إعداد وتدريب وتعيين قسس من
الإفريقيين، وإنشاء مدارس ومعاهد لهذا الهدف بدعم مباشر من بابا روما بيوس
الحادي عشر، ثم بيوس الثاني عشر.
لكن كلمات هوبير ديشان [1] ما زالت تحفر حروفها في عقل الكنيسة الغربية
يوم أن قال: «لكن كسب الإسلام لأقوام جديدة ما زال يندفع كالسيل يكتسح ما
أمامه، وامتداده في المناطق العريضة نحو الشمال وإلى الشرق رائع حقاً، أما
مطاياه إليها فكانت اللغات الواسعة الانتشار في التفاهم، وهي لغات قبائل أولوف
وبيل وماندانج وهوزا والسواحلية.
ثم يقرر ديشان قائلاً:» وسوف تظل المواجهة بين الإسلام والنصرانية في
إفريقيا، وسوف تظل أيضاً مصائر هذه القارة متوقفة على إجابة السؤال: ترى
أيهما ينتصر؟ الإسلام الشرقي أو المسيحية الغربية « [2] .
الإرساليات الأولى على سواحل إفريقيا:
في العام 1491م أعلن أول ملك من ملوك إفريقيا اعتناقه للعقيدة النصرانية
وهو ملك الكونغو، الذي مات بعد تنصُّره مباشرة، وخلفه على العرش ابنه،
فعمّدته إحدى الإرساليات التنصيرية باسم» ألفونسو «وزَّوجته واحدة من بناتها،
فلما أنجب» ألفونسو «ولداً منحه منصب أسقف عام الكونغو، وأصدر قراراً
بتغيير اسم العاصمة من بانزا كونغوا Mbanza Congo إلى اسم ساو سلفادور
إحدى المناطق الشمالية بأنجولا الآن، وأعد مجموعة من أهالي البلاد للدعوة إلى
دين النصرانية ومنحهم رتبة القساوسة.
في العام 1610م أسس البرتغاليون أسقفية نصرانية في مدينة لواندا
Loanda على ساحل أنجولا الشمالي، لكنها لم تحرز أدنى نجاح في أداء مهمتها
فأغلقت أبوابها على من فيها لعدة سنوات، ثم بيعت بعد ذلك.
في العام 1630م اعتنق زعيم مومباسا Mombaz (ممبسة) على الساحل
الشرقي لكينيا عقيدة النصرانية، لكنه سرعان ما رجع عنها واعتنق دين الإسلام.
في العام 1651م أعلن مونوموتابا Monomotapa ملك موزمبيق تركه
للوثنية واعتناقه للنصرانية، استجابة لدعوة إرساليتين إنجيليتين كانتا قد استقرتا في
حوض نهر زامبيزي، إحداهما يسوعية والأخرى دومينيكانية، أغدقا عليه الأموال،
وسارا معه في استخدام الأرواح التي كان يعتقد بها في وثنيته.
وفي العام 1665م أتت هجمة تنصيرية بروتستانتية من هولندا إلى سواحل
جنوب إفريقيا، فقامت بتدمير جميع المؤسسات والكنائس والإرساليات التي كان قد
أسسها البرتغاليون من قبل، ثم وضعوا أيديهم على منطقة رأس الرجاء الصالح؛
حيث نزل على أرضها أول قسيس بروتستانتي، لا ينافسه قسيس آخر من أي ملّة
نصرانية أخرى.
وهكذا، منذ بداية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن السابع عشر
النصراني وبداية القرن الثامن عشر، بقيت الدعوة السائدة بين وثنيات إفريقيا
الجنوبية، هي دعوة الإسلام، لإخراج الناس من ظلمات الجهل والجاهلية وعبادة
الأمطار والأنهار والجن والأحجار إلى عبادة الواحد القهار، وبقي الوجود النصراني
محصوراً ومحاصراً في بقع محدودة للغاية.
ويعلن هوبير ديشان مؤلف كتاب الديانات في إفريقيا السوداء [3] قائلاً:
» لكن تلك الجهود كلها، قضى عليها اضطراب الأحوال السياسية، والثورات،
والجيوش التي كان يستعين بها تجار الرقيق، وارتداد الكثيرين إلى عقائدهم الوثنية
القديمة، ولم يبق من كل ذلك إلا علامة الصليب التي اندمجت في المراسيم
الوثنية «.
مائة عام بلا حصاد:
مع بداية القرن الثامن عشر دخل الأسبان ميدان التنصير، بعد ما سمي بثورة
الإصلاح في فرنسا عام 1769م ثم في أوروبا كلها، ورحلت عدة بعثات تنصيرية
كقوافل طبية وتجارية إلى عدة مناطق، ولاقت إقبالاً كبيراً من بعض الملوك
الوثنيين، وبقايا من النصارى والمتنصرين.
فقد وجه الملك ألادا Allada ملك داهومي (بنين) الدعوة إلى إحدى هذه
البعثات، لتنشيط حركة التجارة في بلاده؛ فلما استوضح غرض البعثة وهي
التنصير طردها من بلاده وأوقف كل نشاط مع الهيئات الأوروبية.
فلجأت بعثة تنصيرية فرنسية إلى أسلوب آخر، وهو دعوة الملوك أو أبنائهم
لزيارة فرنسا، فدعت أنيابا Aniaba ابن أمير ساحل العاج، لزيارة الكنيسة
الفرنسية الكبرى، بمدينة سايل، حيث أعلن الابن نصرانيته وخضع للتعميد الذي
قام به القس الشهير بوسيويه Bossuet، فكان لذلك الحدث رد فعل كبير لدى
السلطة الكنسية الفرنسية، التي استضافته في قصر الملك لويس الرابع عشر،
حيث أعلن الابن اتخاذ الملك أباً روحياً له، فلما عاد أنيابا إلى بلاده ساحل العاج،
أعلن ارتداده عن النصرانية والعودة إلى الوثنية دين آبائه.
ومثلما فعل نصارى البرتغال وهولندا وفرنسا، حاولت الكنيسة الألمانية أن تحقق
شيئاً في مواجهة المد الإسلامي بإفريقيا، فاختارت العمل بين قبائل تعرف
بالهوتنتوت ولكنها لم تحقق أي نجاح.
ويقول هوبير ديشان:» حتى نهاية القرن الثامن عشر كان تعداد النصارى
في كل أرجاء إفريقيا عشرين ألفاً من البيض، وبضع مئات من العبيد، ومع بداية
القرن التاسع عشر لم يكن للنصرانية قدم ثابتة في مكان ما في إفريقيا السوداء، إذا
استثنينا نقطاً ضئيلة على الساحل « [4] .
ثم يستشهد ديشان على صدق استنتاجه هذا بما كتبه المنصر الإنجليزي وليم
شو W. show عام 1823م من مكتب إرساليته بمستعمرة رأس الرجاء الصالح
قائلاً:» إنه لا يوجد أي بعثة تنصيرية فيما بين المكان الذي أعيش فيه وبين أبعد
نقطة في شمال البحر الأحمر « [5] .
التركيز الصليبي على الجنوب الإفريقي:
مع بداية القرن التاسع عشر توغلت حركة الكشف الأوروبية في قلب إفريقيا،
وكثرت البعوث والإرساليات الدينية التنصيرية، ثم تبعتهما حركات الاحتلال
الأجنبي الذي فتح الطرق المسدودة أمام التنصير، فكان هذا القرن حقاً هو العصر
الذهبي للتنصير في إفريقيا، ولم يبدأ القرن العشرون إلا وكان للنصرانية تواجدها
المحسوس والملموس والمرئي بشتى مذاهبها ومللها وكنائسها.
كان النشاط أكثر تركيزاً في إفريقيا الجنوبية؛ إذ بدأ برحلات الهجرة التي قام
بها مئات من الهولنديين البروتستانت البيض، فاستوطنوا الأرض وتوغلوا فيها،
لكن دون أن تتوفر أي دلائل على أن فكرة تنصير الزنوج مطروحة في عقولهم؛ إذ
كان الهدف في هذه الفترة هو الهروب من أوروبا المتصارعة الفقيرة المتخلفة إلى
حيث السيطرة على قبائل الزنوج واحتلال أراضيهم وثرواتها.
ولم تتوفر أي إشارة في الوثائق المتوفرة لدينا تدل على أن هناك إرسالية
تنصيرية بالمفهوم الديني قد مارست الدعوة بين الأفارقة الجنوبيين قبل عام 1841م،
عندما بدأ ذلك في مستعمرة الرأس المنصران الإسكوتلانديان روبرت موفات R.
Moffat ودافيد ليفنجستون D. Livingstone وهما طبيبان اهتما برحلات
الاستكشاف داخل مجاهل إفريقيا، لخدمة عملهما بالتنصير.
أسس الطبيبان مركزاً للتنصير بين قبائل بتشوانا، ومارسا مهنة الطب البدائي
بين الناس، فاستخفوا بهذا المركز ولم يعيروا وجوده ودعوته اهتماماً أكثر من
اهتمامهم بالذهاب إليه لمعالجة جروحهم وأمراض العيون المنتشرة بين أطفالهم، إلى
أن أغارت إحدى القبائل المجاورة على سكان بتشوانا، فشارك موفات وصديقه في
صد هذه الغارة وتنظيم صفوف المدافعين وتوجيههم مما كان سبباً في انتصارهم،
خاصة أن الطبيبين كانا يؤكدان في كل أمر يصدرانه، بأنه آت باسم» المسيح
الرب «الذي حمى قبيلتهم وهزم بقوته الروحية أعداءهم.
واستطاع موفات أن يستغل هذا الحدث الضخم في تاريخ القبيلة، من خلال
التحامه المباشر بكبارها، حتى أعلنوا اعتناق النصرانية.
في بتشوانا، تزوج دافيد من ابنة موفات، واستطاع عن طريق زوجته
العروس، أن يغزو قلب سيشيله Sechele أحد ملوك بتشوانا، ويملك هو زمام
أمره، فعرض عليه النصرانية، ووعده بتزويجه واحدة مثل زوجته، فطلق سيشيله
كل زوجاته وحظاياه، أملاً في الزوجة التي لم تأت؛ إذ طلب منه دافيد أن يتنازل
أولاً عن دعوى قدرته الإلهية في إسقاط الأمطار؛ لأن هذا يتعارض مع قدرة
» المسيح الرب «فاستجاب الرجل، لكن الله يشاء أن تشهد هذه القبيلة أربع سنوات
عجاف لم ينزل خلالها مطر حتى أصابها الجفاف التام، مما اضطر دافيد إلى ترك
هذا الموقع والذهاب شمالاً حيث استكشف الحياة في حوض نهر زامبيزي الذي يبدأ
من الساحل الشرقي لإفريقيا وموزمبيق ويمتد إلى قلب زامبيا، وبدأ هناك دعوته
مرة أخرى، ثم اعتاد التنقل والترحال في أدغال إفريقية الجنوبية على ضفاف
حوض النهر، على مدى ثلاثين عاماً متواصلة، ترك خلالها آثاراً واضحة في
نفوس المئات من أبناء القبائل الإفريقية، رافضاً أن يعود إلى أوروبا ثانية، حتى
جاءه الموت فجر أول مايو سنة 1873 قرب منطقة بنجويلو Banguelo على
الساحل الغربي لإفريقيا وأنجولا فدخل عليه أتباعه الزنوج الذين نجح في تنصيرهم،
وتعبيراً عن حبهم له شقوا بطنه بسكين، ثم نزعوا قلبه من صدره، ودفنوه في
أرضهم، ثم نقلوا جثته إلى مكان دفن الموتى.
وفي خط متوازٍ تدفقت عدة بعثات أخرى في مناطق الكاب والنالتال
والترنسفال حتى مستعمرة روديسيا، فنزلت طائفة النصارى المنهجيين (الميثودست)
Methodistes، وأسسوا كلية لوفديل Lovedale لتخريج المنصرين
والمعلمين، كما أسس فرانسوا كولار F. Coillard مركزاً للدعوة في روديسيا
الشمالية بين قبائل باروتسي.
أما الإنجيليكان Angeliccans فقد ركزوا جهودهم في المدن وفي الغابات،
واتخذوا أساساً في استراتيجيتهم للدعوة ألا يخالفوا أو ينفوا أي نظام قائم لدى القبائل
في سلوكياتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى حد أن أعلن واحد منهم يدعى كولينسو
Colenso إباحة تعدد الزوجات في قبيلة كافريه Cafres فعنّفته كنيسته وحرمته
من العمل بالتنصير لفترة زمنية.
وفي حين اتجهت البعثات الأمريكية إلى قبائل الزولو، اتجه الألمان
الإصلاحيون إلى الجنوب الغربي لإفريقيا، وذهبت البعثات البرتغالية لممارسة
نشاطها التنصيري في أنجولا وموزمبيق في الشمال الغربي.
وفي إحصاء غير موثق نشرته إحدى الإرساليات الأمريكية عن انتشار
الكرازة (الدعوة) النصرانية في اتحاد جنوب إفريقيا عام 1953م جاء على الوجه
الآتي:
- الميثودست 000,100,2 نسمة.
- الإنجيليكان 000,800 نسمة.
- الكاثوليك 000,650 نسمة يتركز أغلبهم في ردويسيا الشمالية.
- البروتستانت الهولنديون 000,600 نسمة تميزوا بالنعرة العنصرية،
وجعلوا من الكنائس التي أنشؤوها ما هو خاص بالبيض وما هو خاص بالزنوج
والملونين.
التنصير في شرق إفريقيا:
يضم شرق إفريقيا عدة ممالك شهيرة، استأثر الجهد التنصيري من بينها
بمنطقة تنجانيقا (تنزانيا حالياً) وكينيا وأوغندا ورواندا وشطراً من جنوب
السودان.
وقد استطاع المسلمون أن يحققوا مكاسب ضخمة في هذه الممالك كلها خاصة
بعد أن كانت الهجمات البرتغالية الأولى قد طردت المسلمين منها، ثم استردها
المسلمون ثانية ونشطت دعوتهم وتثبتت أصولهم في السنوات الأولى من بداية
القرن التاسع عشر.
واستطاعت إنجلترا أن تحط بقواتها في زنجبار عام 1840م بعد أن أخضعت
مصر للنفوذ الأوروبي، وكان نفوذ مصر يمتد جنوباً حتى أوغندا، ثم توسع
المحتلون في احتلال الأراضي وقهر ملوك القبائل وسرقة أراضيهم وحيواناتهم مما
أفسح الطريق أمام بعض البعثات للعبور إلى كينيا، واستطاع أحد المبشرين الألمان
يدعى كرابف Krapf بأن يؤسس أول مركز للتنصير في مدينة ممبسة، وقام هذا
المركز بترجمة كتابهم المقدس إلى اللغة السواحلية، مما فتح أمامهم آفاقاً رحبة
ومستحدثة للدعوة النصرانية، فأسس مركزاً آخر بمدينة بوجامايو Bogamayo
على الساحل المواجه لجزيرة زنجبار، بالتعاون مع منصر آخر يدعى ربمان
Rebmann.
فلما اكتشف أحد القبطان المسلمين ويدعى سليم في العام 1842م منطقة
البحيرات العظمى، وتمكن لأول مرة من اختراق عقبة السودان النباتية مما جعل
النيل منفذاً مفتوحاً إلى سكان البحيرات الاستوائية، هرعت قوات الاحتلال إلى
المنطقة وبسطوا سلطانهم عليها، وما لبث أن أرسل جريجوري السادس بابا روما
في العام 1846م بعثة تنصيرية ضخمة، أنشأت ما أطلق عليه: نيابة إفريقيا
الوسطى الرسولية، يبدأ نشاطها من قلب القاهرة ويمتد إلى جنوب أوغندا، ثم
أرسلت أول بعثة كاثوليكية معتمدة إلى جنوب السودان لاختراق قلب إفريقيا بقيادة
الأب ريلو Rullo. فكان ذلك بمثابة الاختراق الأول لجدار الدعوة الإسلامية في
منطقتي شرق إفريقيا، وإفريقيا الاستوائية.
وبرغم هذا الجهد النشط في حماية السلطات المحتلة، فإن دعوة النصرانية
ظلت محصورة في المناطق الساحلية دون القدرة على اختراق المناطق الداخلية التي
كانت تنتشر فيها دعوة الإسلام.
بل ويؤكد ز. هيل وتونوالو في كتاب لهما صدر عام 1974م، أن طوائف
تنصيرية متعددة قد توقف نشاطها تماماً مثل الفرنسيسكان، وأُغلِقَت مراكز تنصيرية
مثل مركز تنصير (كاكا) عام 1862م [6] .
وفي العام 1880م تقريباً استطاعت مجموعة من قوافل التنصير النفاذ إلى
داخل القارة مرة أخرى، فتمكن المنصرون الألمان على وجه التحديد من بناء عدة
مراكز وكنائس في تنجانيقا (تنزانيا) وتمكن المنصرون الإنجليز من بناء عدة
مراكز وكنائس في كينيا.
أما في أوغندا فكان النجاح حليفاً للكنيسة البروتستنتية التي نجحت في استمالة
متيسا Mtesa ملك البلاد الذي كان متردداً في اعتناق الإسلام، لكنه لما رأى توافد
البعثات الكاثوليكية إلى بلاده أيضاً، واقترب من الصراع الحاد الذي تبودل بين
الكنيستين لكسبه، واستشعر تخلف دعاة المسلمين عن مساندته في ظل السلطات
المحتلة، فآثر ألا يعتنق ديناً، مفضلاً الموت على وثنيته، وخلفه على الملك ابنه
موانجا Mouanga الذي وقع تحت تهديد البعثات التنصرية لإعلان نصرانيته،
فأعلن تحديه لهذه التهديدات وأمر بقتل كل نصراني في ديوان مملكته، وأصدر
قراراته بقتل كل من يعتنق ديناً غير الوثنية التي مات عليها والده، فالتزمت
البعثات النصرانية الصمت وأوقفت كل نشاط لها داخل البلاد، في حين أعلن بعض
من المسلمين تمردهم على قرارات: القتل أو الوثنية التي أصدرها موانجا،
فاضطر إلى الهروب خارج البلاد، لكن أحداً من المسلمين لم يتقدم للإمساك بزمام
حكام المملكة، فتآمر النصارى مع موانجا ووقفوا معه في مواجهة المسلمين وأعادوه
إلى عرشه الذي لم يسع إليه أحد من المسلمين، وسمح للبعثات النصرانية أن
تمارس نشاطها في البلاد بحرية، فانضم شطر منها إلى الكاثوليكية وشطر آخر
للبروتستانتية، تولد بينهما صراع مذهبي بين القبائل، خاصة في قبائل باجاندا التي
اختارت مذهب البروتستانتية.
غرب إفريقيا:
تضم منطقة غرب إفريقيا خاصة الساحلية منها والتي أصابتها الدعوة
النصرانية: الكونغو، والجابون، والكاميرون، ونيجيريا، ومنطقة المينا التابعة
لجمهورية داهومي (بنين حالياً) وساحل العاج وليبيريا، وسيراليون وكل
قطاعات غينيا والسنغال.
وقد بدأت البعثات التنصيرية دورها الفعال في هذه المناطق مع بداية القرن
التاسع عشر، حيث نزلت أول البعثات البروتستانتية إلى منطقة ليبريا وكانت تبشر
بالمذهب الميثودستي، وتكونت هذه البعثة من خليط من المنصرين البيض وعدد
من القساوسة الزنوج الذين يجيدون الإنجليزية.
أما البعثة الثانية فقد نزلت في سيراليون، وكانت تابعة لجمعية التنصير
الكنسي، وبلغت من النشاط مستوى كبيراً جعل من سيراليون مركزاً لكل البعثات
التنصيرية التي تعمل في غرب إفريقيا.
وأتت البعثة الثالثة من مدينة بال السويسرية، ونزلت في ساحل الذهب؛
حيث ركزت دعوتها بين قبائل فانتي Fanti وحققت نجاحاً كبيراً بينها، عوضها
الخسائر الكبيرة التي تكبدها أندريا رايس Andreas Riis رئيس البعثة، في
محاولاته المخفقة المتكررة بين قبائل أشانتي التابعة لساحل العاج، والتي وصلت
في عنادها ورفضها لأي وجود نصراني، إلى حد أن احتجزت قِسَّين رهينة حتى
جلاء البعثة عن أراضي الأشانتي وتحقق لها ما أرادت.
فلما أتت قوات الاحتلال الفرنسي وسيطرت على أملاك الأشانتي وأراضيهم
حوالي عام 1815م، كانت بعثة الميثودست هي أسبق البعثات التنصيرية إلى هذه
البلاد، حيث تم إعداد عدد من القسس الزنوج من أبناء القبيلة لممارسة الدعوة بينهم،
كما أسست كنيسة محلية مستقلة خاصة بالمتنصرين الزنوج تابعة لطائفة
البريسبيتريان النصرانية.
في العام 1844م استطاع اثنان من المنصرين، أحدهما أبيض ويدعى تونزند
Townsend والآخر زنجي ويدعى كروثر Growlther استطاعا أن ينشئا فرعاً
لجمعية التنصير الكنسي في أبيوكوتا Abeo Kouta بنيجيريا بين أفراد قبيلة
اليوروبا التي ينتمي إليها المنصر الزنجي.
ونجح كروثر كثيراً في نشر الدعوة النصرانية في نيجيريا لمعرفته بلغة
القبائل في المنطقة ولهجاتها، حتى منحته المنظمة عام 1854م منصب مطران
نيجيريا، إلى أن مات عام 1891م.
ومن خلال إعداد منصرين من أبناء القبائل، ومنحهم الأموال والمناصب
والوظائف والوجاهة الاجتماعية، حقق النصارى مكاسب ضخمة في شتى أرجاء
نيجيريا، مهدت لكل البعثات الأخرى أن تمارس دعوتها في أرض جيدة الحرث
وخصبة التربة ومهيأة لكل بذرة يمكن أن تؤتي حصاداً بأقل جهد ومال؛ إذ عملت
إلى جانب البعثات البروتستانتية بكل مذاهبها ثلاث هيئات كاثوليكية هي: آباء
روح القدس، وليون، والآباء البيض.
وكان للهيئة الأولى نشاطها السابق ومراكزها النشطة في السنغال منذ القرن
الثاني عشر، وهي ذاتها التي بذلت جهوداً ضخمة في غينيا السفلى.
أما جمعية ليون التي أسسها القس الثري بريزيلك Bresillac عام 1856م،
فكان أول نشاط تنصيري لها في غرب إفريقيا عام 1859م بمدينة فريتون على
ساحل سيراليون، لكنه لم يبق على أرض هذه المدينة أكثر من ثلاثة أشهر، حيث
أصابته الحمى الصفراء ومات ليخلفه القس بلانك Planque الذي حدد هدفه على
مدى نصف قرن من الزمان على ساحل غينيا، فأغدق عليها باستدعاء البعثات
التنصيرية من كل المذاهب والملل النصرانية، ولم يغادر هذه المنطقة يوماً بإطلاق.
فلما تمكنت البعثات والمراكز التنصيرية وتثبتت قواعدها في المنطقة
الساحلية، بدأت تنطلق نحو العمق الإفريقي حيث كانت السيطرة كاملة للوجود
الإسلامي الذي لم يكن له وجود ملموس في السواحل الإفريقية.
تأسست عام 1868م جمعية الآباء البيض للسيدة العذراء على يد القس
الفرنسي لافيجري Lavigerie الذي ابتعثته الكنيسة الجزائرية؛ حيث كان يشغل
منصب أسقف عام الكنيسة الجزائرية، فأرسل عام 1875م ثلاثة منصرين إلى
تمبكتو في قلب مالي جنوب الجزائر، غير أن قبائل الطوارق تصدوا لهم وقتلوهم.
وإلى رواندا بوروندي Rouanda Puroundi وشرقي الكونغو البلجيكية
(حينذاك) امتدت جهود البعثات الفرنسية للآباء البيض، أما بقية الكونغو البلجيكية
فكانت من نصيب البعثات البروتستانتية الآتية من إنجلترا وأمريكا.
وفي المنطقة التي سميت بالكونغو الفرنسية، كان لجماعة آباء الروح القدس
النصيب الأكبر فيها، حيث عمل هناك القس أوجوار Augouard الذي اشتهر
باسم مطران أكلة لحوم البشر.
وفي هذه المنطقة تشير بعض الصفحات القديمة في تاريخ الكنيسة الغربية في
إفريقيا أن الحماس الذي كان لدى البعثات والأفراد الآتية من طاحونة الحرب
المشتعلة في أوروبا وارتدت ثوب الكنيسة وتعلقت بالصليب، بلغ ذلك الحماس
بأحدهم أن لجأ في محاربة الإيمان الذي ينتشر في هذه البلاد بأحقية الرجل في
الزواج بأكثر من امرأة، أنه كان يتزوج هو الفتيات زواجاً صورياً، حتى لا
يتزوجن من رجال سبق زواجهم، ثم يعيد تزويج هؤلاء الفتيات مرة ثانية إلى
أتباعه الكاثوليك الذين يؤمنون مثله بحرمة تعدد الأزواج.
ولعل أشهر المنصرين الفرنسيين الإنجيليين في منطقة الجابون كان الدكتور
شفايتزر Schweitzer الذي كرمته ملكة إنجلترا ونال جائزة نوبل للسلام عام
1954م لقاء جهوده التنصيرية في شرق إفريقيا ووقف المد الإسلامي هناك.
أما في الكاميرون فقد تسابقت البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية القادمة من
ألمانيا، فسيطرت الأولى على جنوب البلاد وتركت للأخرى مناطق صراع مذهبي
وقبلي، بينما تمكنت بعض البعثات البروتستانتية الإنجليزية والكاثوليكية الإيطالية
أن تصل بنشاطها إلى سكان أعالي النيل في السودان.
بعثات التنصير النسوية:
أدت البعثات النسوية دوراً كبيراً في خدمة الكنائس والمنظمات والجمعيات
التنصيرية في إفريقيا منذ وقت مبكر للغاية، وتذكر الوثائق المتاحة أن من أشهر
الإرساليات النسوية التي نشطت في هذه المنطقة كانت إرسالية الراهبات
البيضاوات، وكلمة البيض أو البيضاوات تشير مباشرة إلى أن هذه البعثات
بروتستانتية عنصرية.
ثم إرسالية سيدة الرسل، وإرسالية الراهبات الزرقاوات (كاثوليك في مواجهة
البروتستانت البيض) ، وإرسالية راهبات الروح القدس.
أما القوة المحركة التي أثارت كل همم الكنائس النصرانية الغربية للعمل
النسوي في إفريقيا، فكانت لفتاة فرنسية ريفية تدعى جافوهي Javouhey لم
تكمل عامها الثامن والعشرين عندما أسست عام 1806م جمعية سان جوزيف
الكلوثي للدعوة النصرانية بين أبناء قريتها والقرى المجاورة.
وفي العام 1819م أبحرت بدعم من الكنيسة الأم على رأس أول إرسالية
نسائية إلى منطقة السنغال، فأنشأت عدة مشاريع يدوية، ومستوصفات علاجية،
وفصولاً تعليمية كنسية، استطاعت من خلالها أن تخترق جدار السلطات الإقليمية
الحاكمة التي مهدت لها السبل لممارسة نشاطها، وكانت هي بدورها لا تألو جهداً
لتمهيد كل السبل أمام الإرساليات النسائية التي تدفقت إلى إفريقيا، خاصة في منطقة
السنغال وغينيا وساحل العاج، حتى أطلق عليها لويس فيليب ملك فرنسا حينذاك،
لقب الرجل العظيم.
كلمة أخيرة:
وبعد هذه الإطلالة السريعة على تاريخ التنصير في إفريقيا نجد أن من
موضوعية الطرح أن نستعيد السؤال الذي طرحه منذ نصف قرن من الزمان هوبير
ديشان أحد حكام المستعمرات (المستعمرات مصطلح خاطئ وصوابه قوات
الاحتلال) وهو: ترى أيهما ينتصر: الإسلام الشرقي، أو المسيحية الغربية؟
فالقضية بحق يشهد عليها الواقع، ويثير هذا الواقع عشرات المسائل والخطط
التي يمكن أن يستدعيها خاطر المسلم الغيور على دينه، خاصة إذا ما تأكدنا أن ما
كتبه أ. ل. شاتليه، ما زال متجسداً أمام عيوننا، حينما كتب يقول على لسان أحد
القسس العاملين في إفريقيا:» إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم
التبشير بالنصرانية في إفريقيا، لأن انتشار الإنجيل لا يجد معارضاً، لا من جهل
السكان، ولا من وثنيتهم، ولا من مناضلة أمة من الأمم، غير أمة العرب، فليس
خصمنا غير الشيخ الذي يملك نفوذاً أكثر مما هو للفرسان المحاربين « [7] .
وهذا هو ما كرره بصياغة أكثر يأساً القس جاير ديز أحد كبار قساوسة أوروبا،
أمام مؤتمر أدنبره الشهير، حينما قال عن دعاة الإسلام معبراً عن سخطه:
» كيف يمكن التعامل مع هذه الأشياء؟ لقد وجدنا في رحلتنا الأخيرة عبر إفريقيا
القبائل على نهر شاري، وجداول الكونغو وما بين الدرجات العاشرة والخامسة من
خط العرض الشمالي، كلها تدين بالإسلام أما تلك الزوايا التي تنتشر في القرى
والسهول والأدغال بشكلها غير الحضاري والمضاد للعصرية تماماً، فإنها رأس
النبع للمد الإسلامي في أنحاء إفريقيا، الذي يحتاج من الكنائس أن تتوحد في
مواجهتها وتوجيه ضربة قاسية لها [8] .
ثم يستطرد قائلاً: «إن شمال نيجيريا يجب أن يكون النقطة الأكثر أهمية،
مع إنشاء مركز كبير لمختلف الكنائس في أقصى الغرب، ومحاولة الدخول إلى
مناطق المسلمين، أما أوغندا فإن كانت توجد بها كنائس فهي أشبه بجزر في بحر
الإسلام، لا تستفيد من الوجود القوي لحكوماتنا الأوروبية في المنطقة، خاصة في
شرق إفريقيا؛ حيث يجب أن نحتل كل قوة وكل مركز استراتيجي للمسلمين
لنخضعه للمراقبة، وهذا يتطلب التعاون الوثيق في الساحل الشرقي الذي طالما
اشتقنا إليه في بلادنا [9] .
الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى إفريقيا [10] :
- إن حجم الوسائل والتقنيات الحديثة المستخدمة في التنصير أصبح من
الضخامة إلى حد ضرورة عمل دراسات متخصصة لمعرفة هذه الوسائل والتقنيات،
ونوع الرسالة التي تقدمها، ومضمون هذه الرسالة والمساحة الجغرافية التي تغطيها
ومدى تأثيرها، وهنا نشير فقط إلى أحد الوسائل المعاصرة وهو البث الإذاعي، من
خلال عشرات المحطات المنتشرة في إفريقيا وخارجها، نذكر منها:
- إذاعة حول العالم Transworld Radio - Twr (تأسست عام 1954م)
تملك محطات للبث واستديوهات لإنتاج وإعداد البرامج الدينية في أكثر من
خمسين دولة في العالم، أما إرسالها فيوجه على الموجات المتوسطة والقصيرة بأكثر
من خمس وثلاثين لغة من بينها العربية.
- إذاعة راديو الفاتيكان Radio Vatcan (تأسست عام 1931م) تملك
أكبر وأقوى أجهزة بث أرضية على مستوى العالم، وتقدم خدماتها بأكثر من سبع
وأربعين لغة ولهجة من بينها العربية.
- محطة KGEL التنصيرية:
توجه بثها من كاليفورنيا بأمريكا، بأكثر من ثلاثين لغة.
- راديو صوت الإنجيل Radio Vooice of the Gospel - RVOG:
يبث إرساله من أديس أبابا بثلاث عشرة لغة على الموجتين المتوسطة
والقصيرة إلى غرب وجنوب إفريقيا.
- المحطة الدينية النصرانية: ELWA:
تبث برامجها من ليبيريا على مدى 40 ساعة يومياً.
- المحطة الكنسية بأنجولا:
تبث برامجها بست لهجات محلية.
- محطة الكنيسة البرتغالية في موزمبيق:
تبث برامج بكل اللهجات المحلية إلى جانب اللغة البرتغالية.
__________
ميزانيات وأوقاف:
- دخل الكنيسة في شمال أمريكا وأوربا في عام 1997م بلغ (200) بليون
دولار.
- مجلس كنيسة إنجلترا يبلغ دخله السنوي (257) مليون جنيه إسترليني،
أما الأوقاف المخصصة له فتبلغ (2381) مليون جنيه إسترليني.
- خصصت المنظمات البروتستانية في الولايات المتحدة الأمريكية
(1728) مليون دولار سنويًا للتنصير في الخارج وذلك لنشر عقائدهم المحرفة في
(122) دولة من بينها عشرات الدول الإسلامية.
- البيان -
__________
الإيراد الدوري:
- من المنظمات التنصيرية المشهورة: منظمة (sos) (أنقذوا حياتنا) ،
وهي متخصصة في إنشاء قرى الأطفال حول العالم تأسست منذ (41) سنة،
وأنشأت حتى الآن (371) قرية.
- متوسط مساحة القرية الواحدة: مليون متر مربع (1كم × 1 كم) ،
تحتوي على كافة الخدمات التعليمية والصحية والتربوية والاجتماعية.
- قُسِّم الأطفال في القرية إلى أسر، كل أسرة مكونة من عشرة أطفال،
ترعاهم منذ نعومة أظفارهم أمّ منصرة اختيرت لتربيتهم وتنشئتهم تنشئة نصرانية.
ميزانية هذه المنظمة سنويًا (خمسة مليارات دولار) !! .
قل لي بربك لو أن موازنات المؤسسات الخيرية الإسلامية في أنحاء المعمورة
جمعت لسنوات عدة أتظنها تصل إلى ما وصلت إليه موازنة هذه المؤسسة؟! ولكن
هل تعلم كيف يتم تحصيل هذا المبلغ؟ ! .
يدفع هذا المبلغ ستة ملايين موظف على شكل استقطاع شهري ثابت من
الراتب، أربعة ملايين موظف منهم في ألمانيا.
ومن العجائب أن امرأة نمساوية تدفع لهذه المنظمة (100) دولار شهريًا منذ
(41) سنة بلا انقطاع!!
وامرأة أخرى ألمانية تسكن في أمريكا دفعت للمنظمة على شكل استقطاع
شهري مبلغًا قدره ثلاثة ملايين دولار!
- البيان -
__________
* يقول جوسكين نفار والز (أحد المتحدثين باسم الفاتيكان) :
إن إفريقيا - شأنها شأن أمريكا اللاتينية - هي خزان للكاثوليكية في المستقبل
.. إن كل ما نستطيع أن نفعله أن تنظر إلى الأرقام، ففي 1901م - في بداية هذا
القرن - كان في كل إفريقيا 1. 1 مليون كاثوليكي فقط، أي بمعدل 1? من سكان
القارة أما اليوم فإننا نزيد عدد الكاثوليك في كل سنة مليوني نسمة. وهناك 65مليون
كاثوليكي في القارة، أو 16? من مجموع عدد سكانها، ونحن نتوقع أن يزيد
عددهم قبل نهاية هذا القرن إلى 100مليون.
[حقائق ووثائق دراسة ميدانية عن الحركات التنصيرية -
د. عبد الودود شلبي. ص 15]
- البيان -
__________
- شهداء التنصير يصل عدد المنصرين الذين يتم التعرض لهم بصورة أو
بأخرى نحو 230000 شخص عبر العالم سنويًا.
- أحلام التنصير: يعتقد الكُتاب النصارى أن 8. 57? من سكان الأرض
سيكونون قد دخلوا حظيرة المسيح بمجيء سنة 2100م أم في السنة 4 بليون
ميلادية فسيكون 99. 90? من سكان الأرض مسيحيين.
- نتائج التنصير: طبقًا للمصادر التنصيرية فقد انضم إلى حظيرة النصرانية
خلال العقود السبعة الأولى من هذا القرن وحده 115. 9 مليون شخص عبر العالم.
- تخطيط التنصير: ولأجل تسهيل العمل التنصيري فقد قسمت الإرساليات
المسيحية مسلمي العالم كله بدقة إلى 3000 مجموعة عرقية وتتقاسم مختلف
المنظمات التنصيرية العمل داخل هذه المجموعات؛ بحيث لا يوجد تضارب أو
تناطح لاقتسام مناطق النفوذ: على عكس ما كان عليه الأمر في أوائل العهد
الاستعماري.
[عن مجلة الإصلاح الأعداد 369 -381]
- تم تدريب أكثر من 1000 سوداني على تنمية قدراتهم اللغوية في مجال
التنصير، والهدف من المشروع تسهيل الوصول إلى جميع طبقات وطوائف
الشعب، حيث إن هناك 117 لغة في السودان.
[نشرة pulse التنصيرية سنة 1996م]
- البيان -
__________
(*) رئيس مركز التنوير الإسلامي القاهرة.
(1) هوبير ديشان: حاكم المستعمرات الفرنسية في إفريقيا (سابقاً) وأستاذ بمعهد الأجناس البشرية ومعهد الدراسات السياسية بجامعة باريس.
(2) هوبير ديشان: ترجمة أحمد صادق حمدي، راجعه الدكتور محمد عبد الله دراز: الديانات في إفريقيا السوداء، إشراف إدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم بمصر، سلسلة 1000 كتاب، دار الكتاب المصري، القاهرة 18957، ص 156.
(3) هوبير ديشان: مصدر سابق، ص 190.
(4) هوبير ديشان: مصدر سابق، ص 157.
(5) Groves, C P , The Planting of christianity in Africa, London, 1952 P 196.
(6) أل شاتلين، ترجمة محب الدين الخطيب وآخر: الغارة على العالم الإسلامي، القاهرة، 1931م، ص 15 17.
(7) R Hill & Toniolo, The opening of the Nile Basin, 1842 - 1881, London 1974, V 1.
(8) وت هـ جاير دنر، ترجمة محمود الشاذلي: الوثيقة الإسلام الخطر، المختار الإسلامي، القاهرة، 1985، ص 30 36.
(9) وت هـ جاير دنر، ترجمة محمود الشاذلي: الوثيقة الإسلام الخطر، المختار الإسلامي، القاهرة، 1985، ص 30 36.
(10) كرم شلبي: الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى المسلمين العرب، مكتبة التراث الإسلامي، 1991م (المقدمة) .(154/62)