دراسات في الشريعة والعقيدة
الدعوة إلى الله في الحج
فيصل بن علي البعداني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام المرسلين،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الدعوة إلى الله تعالى في موسم الحج سنة نبوية منذ فجر الإسلام؛ إذ كان
النبي صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على الناس في مواسم الحج، كما أرسل
العديد من أصحابه - رضي الله عنهم - لذلك. وفي حجة الوداع نصح الأمة غاية
النصح وبلغ البلاغ المبين، وقد استمر علماء الإسلام ودعاته الصادقون على مر
العصور في استغلال هذا الموسم العظيم دعويًا مستفيدين منه في إيقاظ القلوب
وإنارة البصائر وعرض الإسلام النقي والتحذير من مخاطر الشرك وشوائب البدع
والمنكرات.
وفي عصرنا نرى في الحج جهودًا دعوية مباركة، وأعمالاً مشكورة يقوم بها
العديد من الجهات والأفراد؛ ولكنها مع كثرتها لا تزال غير كافية وتحتاج إلى مزيد
لأسباب عديدة أهمها:
1 - توارد الأعداد الضخمة من الحجيج والتي تتزايد موسمًا بعد آخر، وهو
مما يهيئ لإحداث نقلة دعوية نوعية في العالم الإسلامي متى استغل ذلك.
2 - تفشي الأمية الشرعية وعموم الجهل بعقائد الإسلام وأحكامه، وانتشار
الشركيات والبدع والخرافات بشكل مذهل في أوساط كثير من الحجاج.
3 - نوعية الحجيج؛ إذ كثير ممن يأتي للحج من البلدان المتفرقة هم من
ذوي العواطف الدينية الجياشة الذين توفَّرَ لديهم نوع من اليسار النسبي والوجاهة في
أوساط أقوامهم، مما يرجى أن يكون لدعوتهم أثر على أقوامهم بعد عودتهم.
4 - استعداد الحجيج وتهيؤهم للاستماع والتلقي.
5 - نظرة كثير من المسلمين لأبناء الحرمين نظرة تقدير وإجلال، وتقليدهم
لهم فيما يرونهم يفعلونه ويدعون إليه، وهذا مما يضاعف المسؤولية ويزيد العبء
على عاتق الدعاة والمخلصين في بلاد الحرمين.
كل ذلك يحتم إعطاء الدعوة والإرشاد في موسم الحج أولوية تفوق أولوية
الاهتمام بشؤون تغذية الحجيج وإسكانهم وتوفير النقل لهم، كما يحتم تكثيف البرامج
الدعوية ومراجعة القائم منها ومحاولة إدخال التجديد عليها بما يتلاءم وأهمية الدعوة
في هذا المقام المبارك.
ورغم توفر العديد من الأمور المشجعة على الدعوة في أوساط الحجيج
كخصوصية المكان وإقبال الناس على الخير وتهيئهم لسماع كلام الله والعمل به إلا
أنه يكتنفها العديد من العوائق التي يجب التنبه لها وتلافيها، ومن أبرزها:
أ - جهود أهل البدع والخرافات في تحصين أتباعهم من التأثر بدعوة الحق
وتحذيرهم إياهم من الأخذ عن علماء أهل السنة.
ب - المشقة البدنية الناتجة عن السفر، والجهد المبذول في أداء المناسك،
مما يقلل من الفرص الملائمة للدعاة للالتقاء بالحجاج ما لم يكونوا مخالطين لهم
وعائشين في أوساطهم.
ج - خشونة بعض الدعاة وعدم تلطفهم مع المدعوين وقلة صبرهم عليهم،
مما يجعل الكثير من الحجيج يتهيبون من سؤالهم والأخذ عنهم، بل قد توجد لدى
كثير منهم ردود فعل تمنعهم من قبول توجيههم والاستماع إلى نصحهم وإرشادهم.
د - كثرة الكتيبات والمطويات والأشرطة التي في متناول الحجيج بما لا يتفق
مع منهج أهل السنة والجماعة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا النسك
العظيم.
وقبل أن أبدأ باقتراح بعض الوسائل الدعوية في الحج والتي يمكن للجهات أو
الأفراد تطبيق بعضها كلٌ حسب ما يناسبه ويتلاءم مع وضعه أُحِبُّ أن أذكِّر إخواني
العاملين في حقل الدعوة في الحج بالأمور الآتية:
* أهمية قيام الدعاة بمراجعة أحوالهم ومحاسبة أنفسهم من ناحية إخلاصهم في
دعوتهم لله تعالى ومتابعتهم فيها للرسول صلى الله عليه وسلم.
* أهمية حرص الداعية على فقه أحكام المناسك والتحلي بالأخلاق الفاضلة
من صبر وهدوء وحسن معاشرة ليكون داعية بسلوكه وأخلاقه قبل أن يكون داعية
بلسانه.
* أهمية إدراك العلماء والدعاة - جهات وأفراداً - عظم المسؤولية الملقاة على
عواتقهم والأمانة المنوطة بهم تجاه الحجيج وضرورة جدهم في استغلال هذا الموسم
العظيم ومثابرتهم في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والدعوة إليها، وكشف عوار
الباطل والتحذير منه.
* أهمية ترتيب أولويات الدعوة في أوساط الحجيج والبدء بالأهم قبل المهم
بحيث يتم التركيز على بيان العقيدة الصافية ومبادئ الإسلام الأساسية والتحذير من
الشرك والبدع والمعاصي، والعناية بإيضاح أحكام المناسك وصفة الصلاة والحجاب
الشرعي ونحو ذلك مما تمس الحاجة إليه.
* تنفيذ كثير من الوسائل فوق طاقات الأفراد وكثير من الجهات؛ ولذا فلا بد
من تضافر الجهود وقيام الجهات الدعوية بالتنسيق فيما بينها للوصول إلى أفضل
النتائج الممكنة.
* كثير من الوسائل الدعوية تحتاج إلى تخطيط وإعداد مسبق قبل موسم الحج
بوقت كافٍ وما لم يتم ذلك فإن تطبيقها لن يؤتي الثمار المنشودة منها.
* الانتباه إلى أن الدعوة ليست توزيع كتاب أو إقامة نشاط أو إلقاء كلمة، بل
محاولة تأثير على المدعو وسعي لتفهيمه الإسلام النقي ليعمل به، وتغيير لما يوجد
لديه من معتقدات وسلوكيات مخالفة للشرع.
* الدعوة في الحج جهد ضخم وعمل مضنٍ فوق طاقة كثير من الجهات
والأفراد؛ ولذا فلا بد من النظرة العالمية والعمل على أساسها بحيث يتم استيعاب
كل صاحب جهد سليم وجاد والاستفادة من علماء أهل السنة ودعاتهم في البلدان
المختلفة.
* أهمية تفهيم الحجيج بواجبهم تجاه دينهم، وضرورة قيامهم بحمل همِّ هذا
الدين والدعوة إلى الله ومناصرة علماء أهل السنة والجماعة ودعاتهم الصادقين في
مجتمعاتهم، وإفهامهم بأن الدعوة إلى الإسلام مسؤولية مشتركة بين كافة أبنائه كل
حسب وسعه وطاقته.
* لا بد من مراعاة أحوال الحجيج ونظرة بيئاتهم الثقافية والاجتماعية التي
نشؤوا فيها إلى بعض المنكرات والمواقف التي لا يرتضيها الداعية، وأن لا يقوم
الداعية باستصحاب خلفيته التربوية والاجتماعية عند دعوته لهم وقيامه بواجب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينهم.
* لا بد من الاهتمام بسلامة محتوى الكتيبات والمطويات والأشرطة الموزعة
على الحجيج والتأكد من سلامتها عقديًا وفقهيًا، كما لا بد من الاهتمام بحسن
العرض والإخراج حتى يكون ذلك أدعى لقبول الحاج لها واستفادته منها.
وأحب أن أشير إلى أن القصد من إيراد هذه الوسائل التمثيل لا الحصر، وأن
الأمر قابل للتنمية والزيادة خاصة متى توفرت الركائز الأساسية لذلك، والتي تتمثل
بحمل همِّ الدعوة إلى الله والممارسة الفعلية، والتنبيه على أن هدف ذلك تفتيح
أذهان الدعاة ولفت انتباههم إلى وجود جوانب دعوية كثيرة في الحج لم تطرق أو
أنها طرقت ولكنها تحتاج إلى المزيد، والتنويه إلى أن هذه الوسائل تحتاج إلى
تحسين ومراجعة وذلك بعد عرضها على محك التجربة والتطبيق. وقد يلحظ القارئ
الكريم تكرارًا في إيراد بعض الوسائل، وهذا مما يقتضيه مثل هذا الموضوع سعيًا
إلى جمع الوسائل التي يمكن استخدامها في مقام معين في مكان واحد.
وسائل دعوية في الحج:
الوسائل الدعوية المقترحة في الحج كثيرة، وللاستفادة منها سأوردها كما يلي:
أولاً: وسائل دعوية والحجاج في بلدانهم:
* السعي إلى التنسيق مع مسؤولي الحج في الجهات والمشيخات والمجالس
والمؤسسات والمراكز الإسلامية في الدول المختلفة لعقد دورات شرعية عن صفة
الحج وآدابه، ومتطلبات الحاج في السفر، والأمور التي يشرع فعلها قبل السفر،
وتهيئة الأجواء الملائمة لإنجاحها.
* تكليف الجهات الدعوية والمؤسسات والمراكز الإسلامية بعضَ دعاتهم في
البلدان المختلفة بمرافقة الحجاج القادمين من بلدانهم وتعليمهم والقيام بتوعيتهم.
* إيجاد حقيبة إرشادية للحاج بلغته تتكون من مصحف وبعض الكتيبات
والأشرطة والخرائط الخاصة بمكة والمشاعر، والتنسيق مع الجهات التي تتولى
سفر الحجيج في البلدان المختلفة لتوزيع هذه الحقائب.
* توفير الكتيبات والأشرطة والخرائط الخاصة بمكة والمدينة والمشاعر
بلغات مختلفة وعرضها للبيع في البلدان التي يقدم منها الحجاج قبل زمن الحج
بوقت كافٍ.
* الاستفادة من التقنيات الحديثة لشرح معالم الحج وأركانه وآدابه، كأشرطة
الفيديو والمجسمات والشرائح الفلمية؛ لأن كثيرًا من الأخطاء التي يقع فيها الحجيج
ناتجة عن الجهل بكيفية المشاعر ومواقعها.
ثانيًا: وسائل دعوية في وسائل التنقل المختلفة إلى بلاد الحرمين:
* عرض أفلام فيديو وتشغيل أشرطة كاسيت حول صفة الحج وآدابه عند
القدوم إلى المشاعر، وعند المغادرة وحول أهمية الاستمرار في العمل الصالح،
وأن يكون العبد بعد الحج خيرًا منه قبله، والحث على تجنب البدع والمنكرات التي
يقع فيها بعض الحجيج عند عودتهم إلى بلدانهم، وأن يكون للحاج عند عودته دور
في إصلاح أهله ومجتمعه وبث الوعي الشرعي ومجابهة الفساد.
* توزيع حقائب إرشادية على الحجاج تتضمن مصحفًا وسواكًا ومجموعة من
الكتيبات والأشرطة الإسلامية المعتمدة من جهات علمية موثوقة.
* توزيع حقائب توعية خاصة بالمرأة تتضمن بالإضافة إلى ما تتضمنه
الحقيبة الإرشادية كتيبات وأشرطة عن صفة الحجاب الشرعي وكيفية الالتزام به،
ودور المرأة المسلمة، كما يمكن أن يضاف إلى هذه الحقيبة حجاب شرعي.
* في الرحلات التي تستمر وقتًا طويلاً ويكون العدد مناسبًا يمكن التنسيق مع
المطوفين وأصحاب الحملات وشركات النقل لتعيين داعية أو أكثر من الذين
يجيدون لغة الركاب لشرح صفة الحج وآدابه والأخطاء التي يقع فيها الحجيج
لتجنبها، وطرح بعض الموضوعات العقدية والفقهية، والإجابة عن استفسارات
الحجاج ونحو ذلك مما يهمهم.
* الاقتراح على شركات النقل الجوي والبحري وضع مكتبة شرعية صغيرة
مقروءة ومسموعة وعرضها على الركاب للشراء أو الاستعارة أثناء الرحلة.
* التأكيد على شركات النقل الجوية والبحرية بأهمية تنبيه الحجيج عند محاذاة
الميقات؛ لأن كثيرًا منها لا يقوم بذلك، كذلك عدم عرض أو تقديم ما لا يحل شرعاً.
ثالثًا: وسائل دعوية في منافذ بلاد الحرمين الحدودية:
* توزيع المصاحف والكتيبات والأشرطة الإسلامية والخرائط الإرشادية عند
قدوم الحجاج ومغادرتهم.
* وضع لوحات توجيهية، وأخرى تحمل عبارات الترحيب والوداع باسم
الجهات والمؤسسات الدعوية.
* توزيع دليل بعدة لغات يتضمن أرقام هواتف الجهات الدعوية والخدمية
الهامة وأرقام هواتف طلبة العلم والدعاة، ولابد من تضمنه أرقام هواتف بعض
الدعاة الذين يتحدثون بلغات مختلفة والإشارة إلى اللغة التي يتحدث بها كل منهم.
رابعًا: وسائل دعوية في مدن الحجاج والمواقيت:
* تكثيف الدعاة في هذه المواقع وبلغات مختلفة؛ بحيث تكون مهمتهم تعليم
الحجاج ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، وتوجيههم إلى ما ينفعهم، ومساعدتهم في
تصحيح الأخطاء التي تُرَى عليهم، والإجابة عن استفساراتهم، ونحو ذلك.
* تكليف دعاة ميدانيين للرجال وداعيات ميدانيات للنساء يتخاطبون بلغات
مختلفة يتجولون في مدن الحجاج بالسيارات وعلى الأقدام بحيث تكون مهمتهم
التعليم المباشر للحجاج والدعوة لهم بحكمة ولين.
* الإكثار من مكاتب الإرشاد الشرعي الصغيرة في مدن الحجاج والمواقيت
بقدر المستطاع؛ مع أهمية تخصيص بعضٍ منها للرجال وأخرى للنساء.
* توزيع المصاحف وما يستطاع توزيعه من الكتيبات والنشرات والأشرطة
الإرشادية بحيث يُضمن وصولها إلى كل حاج بلغته.
* وضع لوحات إرشادية تتضمن صفة الحج وآدابه ونماذج من الأخطاء
العقدية والسلوكية التي يقع فيها الحجاج، ويمكن أن يكون بعضها لوحات إلكترونية
حتى يتمكن الدعاة القائمون عليها من تحديد التوجيهات الملائمة بلغات مختلفة.
* إقامة الدروس العلمية والدورات الشرعية في مدن الحجاج بعد انتهاء موسم
الحج في وقت انتظار الحجيج زمن المغادرة إلى بلدانهم.
* التنسيق مع المجلات الإسلامية لأخذ مسترجعاتها لتوزيعه على الحجاج في
مدن الحج بعد انتهاء موسم الحج.
* التنسيق مع مكاتب دعوة الجاليات والمكتبات والتسجيلات الإسلامية لإقامة
معارض للكتاب والشريط الإسلامي بلغات مختلفة في مدن الحجاج.
خامسًا: وسائل دعوية في النقل الداخلي بين المدن وفي المشاعر:
* إلزام الجهات المعنية جميع أصحاب السيارت بإصلاح مكبرات الصوت
وأجهزة العرض والتسجيل المرئي والمسموع.
* توجيه رسائل إلى السائقين تذكرهم بالله، وتحثهم على القيام بالدور المنوط
بهم في توجيه الحجاج وإرشادهم، والحرص على أداء الحجاج لنسكهم حسب
الوجهة الشرعية.
* إعداد قائمة بالمخالفات الشرعية التي تقع في وسائل النقل، وحث السائقين
وشركات النقل على تحاشي وقوعها.
* حث شركات النقل والسائقين على توفير الأشرطة النافعة مرئية ومسموعة، ووضع الكتيبات والمطويات داخل سياراتهم لتزويد الحجاج بها.
* وضع مكتبة شرعية صغيرة مقروءة ومسموعة في الطائرات والحافلات
يُمكَّن الركاب من الشراء منها أو الاستعارة أثناء الرحلة.
* وضع لوحات إرشادية تُجعَل خلف الكراسي بشكل أنيق ومناسب في
سيارات الأجرة والحافلات تتضمن بعض التوجيهات والإرشادات الشرعية.
* التنسيق مع شركات النقل وأصحاب الحافلات للاستفادة من حافلاتهم في
وضع بعض اللوحات والملصقات الإرشادية عليها بلغات مختلفة من الخارج.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بتعيين داعية في الحافلات الخاصة بهم
بلغة الركاب للتوجيه والإرشاد وإقامة البرامج الدعوية والإجابة على الاستفسارات.
سادسًا: وسائل دعوية في الحرمين الشريفين:
* تكثيف الدروس والمحاضرات المقامة في الحرمين بلغات مختلفة.
* تخصيص أمكنة معروفة في الحرمين لترجمة خطب الجمعة بعد أداء
الصلاة ودروس كبار العلماء إلى لغات المسلمين الحية عبر مكبرات الصوت
الداخلية.
* إلقاء كلمات لكبار علماء الأمة ودعاتها بعد الصلوات المفروضة.
* الاستفادة من ساحات الحرمين وأعمدتهما وجدرانهما وأسقفهما بوضع
لوحات إرشادية إلكترونية وعادية بلغات مختلفة.
* تعيين جملة من الدعاة الميدانيين والداعيات الميدانيات من ذوي اللغات
المختلفة في ساحات الحرمين الداخلية والخارجية لتعليم الحجاج وإرشادهم.
* تفعيل دور رجال الحسبة للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات
الشرعية التي يقع فيها بعض الحجيج.
* تخصيص مكاتب للدعوة والفتوى في جنبات الحرمين الداخلية وساحاتها
الخارجية.
* إقامة مكتبات مصغرة في جنبات الحرمين بلغات مختلفة وتخصيص عدد
من الخزانات (الدواليب) والأرفف لوضع جملة من ترجمة معاني القرآن الكريم
والكتيبات والمطويات الإسلامية بلغات مختلفة.
سابعًا: وسائل دعوية في مساجد منطقتي مكة والمدينة:
* قيام الأئمة والمؤذنين بدورهم في توجيه الحجاج الذين يصلون في مساجدهم
وتعليمهم، ومحاولة التأثير عليهم وإزالة ما قد يكون لديهم من أخطاء شرعية.
* تفعيل دور جماعة المسجد في الاختلاط بالحجاج وإكرامهم وزيارتهم في
مساكنهم، والقيام بتوعيتهم وإرشادهم.
* تفعيل دور نساء جماعة المسجد في الاختلاط بالنسوة القادمات من مناطق
مختلفة للحج، وحثهن على تعلم الدين والدعوة إليه والقيام بدورهم في تربية النشء
تربية صالحة، والتمسك بالحجاب، وعدم الانسياق وراء الدعوات المشبوهة التي
تهدف إلى إفساد المرأة المسلمة وإبعادها عن دينها.
* الاهتمام بإقامة المحاضرات والدروس والكلمات التوجيهية في المساجد
بلغات مرتاديها.
* التنسيق مع مكاتب دعوة الجاليات لترجمة خطب الجمعة والمحاضرات
والدروس العلمية كل مسجد بلغة مرتاديه من الحجيج.
* إقامة الحلقات القرآنية والدورات العلمية المناسبة باللغات المختلفة.
* اختيار بعض الكتب العقدية والفقهية الملائمة للحجيج للقراءة منها عليهم بعد
الصلوات.
* عرض بعض الدروس والمحاضرات المسجلة باللغات المختلفة عبر مكبر
صوت المسجد.
* الاعتناء بتوفير ترجمات معاني القرآن الكريم والكتيبات والأشرطة ووضع
ملصقات ولوحات إرشادية ومكتبة مصغرة للاطلاع بلغة مرتادي المسجد من
الحجيج.
ثامنًا: وسائل دعوية في مساكن الحجاج في مكة والمدينة:
* وضع مكتب للدعوة في كل عدد مناسب من المجمعات السكنية يعمل فيه
مجموعة من الدعاة الذين يجيدون لغة القاطنين فيها؛ بحيث تكون مهمتهم توعية
الحجيج وإقامة البرامج الدعوية والعلمية لهم، والإجابة عن استفساراتهم.
* وضع مقسم (سنترال) ضخم للدعوة والإرشاد يضم مجموعة من الدعاة
بلغات مختلفة بحيث يكون لكل لغة جملة من خطوط الهاتف برقم موحد من ثلاث
خانات، ويتم إلزام المجمعات السكنية بتشغيل المقاسم (السنترالات) الخاصة بها،
ووضع جهاز في كل غرفة أو جناح ووضع ملصق بجواره يتضمن جملة من
الإرشادات الشرعية وأرقام هواتف مقسم (سنترال) الدعوة والإرشاد بكل لغة، وإلى
أن يقام هذا المقسم (السنترال) يمكن التنسيق مع شركة الاتصالات السعودية
للاستفادة من مقاسم (سنترالات) الاستعلامات لديها في منطقتي مكة والمدينة في
موسم الحج في هذا الأمر.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بوضع مكتبة مقروءة وسمعية بلغة
القاطنين تتضمن جملة من المصاحف والكتيبات والأشرطة في كل مجمع سكني.
* وضع لوحات إرشادية في الأجنحة والأدوار والمجمعات السكنية تتضمن
بعض الملصقات والنشرات التوجيهية بلغة الحجيج القاطنين فيها.
* التنسيق مع طلبة العلم والدعاة الذين يتحدثون بلغات مختلفة للقيام بزيارة
الحجاج في مساكنهم للنصح والتوجيه وإلقاء دروس ومحاضرات وكلمات في
المصليات، إن وجدت.
* مشاركة بعض الدعاة لإخوانهم الحجيج في السكنى في أماكن إقامتهم
واستغلال ذلك في تعليمهم وتوجيههم الوجهة الراشدة.
* وضع ركن للدعوة والفتوى في مداخل المجمعات السكنية يتضمن رفًّا
توضع عليه الكتيبات والمطويات والأشرطة الخاصة بالتوزيع، ولوحة للفتوى
وصندوقًا لجمع الأسئلة والاقتراحات الدعوية على أن تكون الكتابة بلغة ساكني
المجمع.
تاسعًا: وسائل دعوية في المخيمات في المشاعر:
* الاقتراح على المطوفين وأصحاب الحملات بوضع مكتبتين تتضمنان عددًا
مناسبًا من المصاحف وترجمة معاني القرآن الكريم، والكتيبات والأشرطة بلغة
رواد المخيم في المخيمات التابعة لهم؛ بحيث تكون واحدة في جناح الرجال وأخرى
في جناح النساء.
* قيام المطوفين وأصحاب الحملات بتوفير عدد من الدعاة المعتمدين من قِبَلِ
الجهات المعتبرة بحيث يكون على الأقل نصيب كل مئتي حاج داعية يخالطهم معلمًا
إياهم ومبينًا لهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في أداء المناسك ومحذرًا
إياهم من البدع والمخالفات التي يقع فيها كثير من الحجيج.
* التنسيق مع المطوفين وأصحاب الحملات لإيجاد إدارة للإشراف الدعوي
والثقافي في مخيماتهم تتولى وضع سلسلة من البرامج الدعوية والعلمية التي تتعلق
بالحج وغيره مما يهم المسلم في دينه ويقربه إلى ربه بلغة الحجيج.
* قيام مكاتب دعوة الجاليات ببلاد الحرمين بتنظيم جولات لدعاتها الذين
يتحدثون بأكثر من لغة على مخيمات الحجيج الأعاجم الذين يجيدون التخاطب معهم
لتوعيتهم وإرشادهم والإجابة على استفساراتهم.
* تنظيم زيارة للعلماء وطلبة العلم إلى مخيمات المطوفين وأصحاب الحملات
لوعظهم وإرشادهم وإلقاء الدروس والمحاضرات عليهم.
* العمل على إيجاد قنوات تلفزيونية داخلية في منطقة المشاعر تبث بلغات
مختلفة وتكون تابعة للمؤسسات الدعوية في بلاد الحرمين ليقوم من خلالها العلماء
والدعاة بتوجيه الحجيج وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم.
ويساعد على نجاح هذه الفكرة بقاء الخيام في الفترة الأخيرة في منطقة منى
وجزء من منطقة مزدلفة على مدار العام.
* وضع لوحات إرشادية في المخيمات تتضمن بعض التوجيهات الشرعية
بلغات قاطنيها.
* وضع أرفف توضع عليها المصاحف والكتيبات والأشرطة الخاصة
بالتوزيع.
* تفعيل دور طلبة العلم الموجودين في المخيمات، ومطالبة من يستطيع منهم
بإلقاء دروس ومحاضرات وكلمات بعد الصلوات في مخيماتهم والمخيمات المجاورة.
* تفعيل درو طالبات العلم والداعيات الموجودات في المخيمات باعتبارهن
الأقدر على التأثير في أوساط النساء ودعوتهن.
* الاهتمام بالمرأة المسلمة وتوعيتها وتنبيهها إلى أهمية اهتمامها بتعلم دينها
واعتزازها بهويتها ومحافظتها على الحجاب وترك الاختلاط بالرجال والابتعاد عن
التشبه بالكافرات ومن سار في فلكهن.
* إيجاد مجسمات وخرائط للمشاعر للاستفادة منها في بيان الصورة الصحيحة
والطريقة السهلة لأداء المناسك.
* ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مخيمات الحجيج بحكمة
ولين.
* توفير الأجواء الملائمة والأدوات اللازمة لإنجاح عملية الدعوة والتوجيه
داخل المخيمات.
* وضع صناديق للاقتراحات الدعوية في المخيمات في أقسام الرجال والنساء
تكون تابعة لهيئة التوعية في الحج والجهات الدعوية في بلاد الحرمين لكي تستفيد
من اقتراحات الحجاج في خططها الدعوية للأعوام القادمة.
* زيارة العلماء والدعاة القادمين من مناطق مختلفة للاستفادة منهم والاستماع
إلى أخبارهم ومؤازرة أنشطتهم الدعوية معنويًا وماديًا بما يستطاع.
* تفريغ خطوط هاتفية في كل مخيم في قسمي الرجال والنساء تكون خاصة
بالاستفسار وطلب الفتوى من أهل العلم.
* وضع لوحة للفتوى، وصندوق لوضع الأسئلة في قسمي الرجال والنساء
على أن تكون الإجابة بلغة قاطني المخيم.
عاشرًا: وسائل دعوية في الطرقات والأماكن العامة في مكة والمدينة
ومنطقة المشاعر:
* وضع مواقع صغيرة في الطرقات والأماكن العامة وبجوار المخيمات للوعظ
والإرشاد عبر مكبرات الصوت والإجابة على الاستفسارات وتوزيع الكتيبات
والأشرطة في الطرقات وبجوار المخيمات.
* وضع لوحات إرشادية إلكترونية وعادية على الجسور وفي الطرق
والأماكن العامة بلغات مختلفة.
* التنسيق مع الجهات ذات الاختصاص في منطقتي مكة والمدينة للاستفادة
من اللوحات الإعلانية الموجودة بها في توعية الحجيج وإرشادهم بلغات مختلفة.
* تكثيف جهود طلبة العلم والدعاة الميدانيين الذين يجولون الطرقات والأماكن
العامة بالسيارات وعلى الأقدام للتوعية والإرشاد عبر مكبرات الصوت وبلغات
مختلفة.
* الاستفادة من أسوار المخيمات في المشاعر وواجهات وأسطح المجمعات
السكنية بوضع لوحات إرشادية يكتب عليها نصوص شرعية وعبارات توجيهية
بلغات مختلفة.
* وضع ملصقات للتوعية الشرعية على أجهزة الهواتف العمومية وأبواب
المستشفيات والجهات الخدمية المختلفة.
* وضع أجهزة عرض تلفزيوني وتسجيل في أماكن تجمعات الناس العامة
كالمطاعم والمستشفيات وجوار كبائن الهواتف العمومية ونحو ذلك لعرض برامج
دعوية وعلمية.
* إعداد خرائط بمواقع هيئة التوعية في الحج والجهات الإرشادية لتسهيل
عملية الوصول إليها والاستفادة منها.
* تفعيل دور جهات الحسبة للقيام بدورها في وسط هذه الأعداد الضخمة من
البشر لزيادة الخير وردع ضعاف النفوس من استغلال هذا التجمع الضخم بفعل ما
لا يحل.
* حث طلبة العلم والدعاة والعامة على إحياء السنن التي يُتساهل فيها كالتلبية
والتكبير ونحو ذلك.
وأخيرًا:
فالمسؤولية جسيمة، وعلى المطوفين وأصحاب الحملات ومن له تعامل مباشر
مع الحجيج خوف الله فيهم والمبادرة بالإحسان إليهم والحرص على صلاح أحوالهم
وصحة نسكهم وتعليمهم ما ينفعهم وتحاشي ظلمهم أو التقصير في حقهم خصوصًا في
هذا المقام العظيم - زمانًا أو مكانًا -.
نسأل الله تعالى للجميع قبول العمل والتوفيق لكل خير، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(148/20)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإنابة في الحج
د. محمد طاهر حكيم
أجمع العلماء على أن فريضة الحج مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً،
لقوله تعالى: [ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً] [آل عمران: 97] . ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله ... عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) [1] .
وأجمعوا على أن من كان عليه حج وهو قادر على أن يحج بنفسه لا يجزئ
أن يحج عنه غيره، وأن من لا مال له يستنيب به غيره فلا حج عليه [2] .
واختلفوا في المريض والمعضوب يكون كل واحد منهما قادراً على ما يستأجر
به من يحج عنه، هل يجب عليهما في ذلك؟ بعد إجماعهم على أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج، إنما فرضه الله على المستطيع. ولا استطاعة لهما [3] . وكذلك اختلفوا فيمن مات وعليه حج. هل يحج عنه أم لا؟
* أما المريض والمعضوب: فقد ذهب جمهور أهل العلم منهم: علي بن أبي
طالب، والحسن، والثوري، وابن المبارك، وداود، وابن المنذر، والأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، إلى أنهما إذا وجدا مالاً ورجلاً يحج عنهما، وجب الحج عليهما [4] .
واحتجوا على ذلك بأدلة، منها:
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت:
يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا
يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: (نعم. وذلك في حجة
الوداع) [5] .
2 - وحديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: (حج عن أبيك ... واعتمر) [6] .
* وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعضوب لا يجب عليه الحج أصلاً وإن
ملك المال رُوي ذلك عن الليث والحسن بن صالح، وبه قال الإمام مالك [7] وهو رواية عند الحنفية [8] .
واحتجوا بالآتي:
1 - قوله تعالى: [ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً]
[آل عمران: 97] فالآية وردت مقيدة لمن يستطيع السبيل إلى البيت. فمن لم يستطع السبيل إليه لم تتناوله الآية، والاستطاعة صفة موجودة بالمستطيع كالعلم والحياة، وإذا لم توجد به استطاعة فليس بمستطيع فلا يجب عليه حج [9] .
2 - وقوله تعالى: [وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى] [النجم: 39] فأخبر
أنه ليس له إلا ما سعى، فمن قال: إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية [10] . ...
3 - قالوا: وأما حديث (الخثعمية) فهو مخالف لظاهر القرآن؛ فيرجح
ظاهر القرآن [11] .
وقد أجيب عن هذه الأدلة مِن جانب الجمهور:
1 - الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس. قال ابن رشد: (وهي أي
الاستطاعة تتصور على نوعين: مباشرة ونيابة) [12] .
2 - وعن الآية: [وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى] [النجم: 39] فقالوا:
إننا نقول كذلك. ولكنه بذل ماله للنائب؛ فكأن الحج أصبح من سعيه.
وقد نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن هذه الآية منوطة
بقوله تعالى: [والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]
[الطور: 21]
وقال أكثر أهل العلم: هي محكمة.
وقال الربيع بن أنس: هذه الآية في الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما
سعى له غيره، وقال أبو بكر الوراق: [إلاَّ مَا سَعَى] إلا ما نوى [13] . وقيل غير ذلك. وعلى أيٍّ كان الأمر فليس في الآية دليل للمالكية ومن معهم فيما ذهبوا إليه.
3- وأما القول بأن ظاهر حديث (الخثعمية) مخالف لظاهر القرآن فجوابه كما قال الحافظ ابن حجر: (وتعقب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة) .
ويظهر من هذا أن قول الجمهور أقوى. والله أعلم.
* وأما من مات وعليه حِجة الإسلام أو قضاء أو نذر فإنه يجب أن يحج عنه
من جميع ماله أوصى أو لم يوص ويكون الحج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء. قال بهذا جماعة من أهل العلم منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وابن المبارك، وابن سيرين، وابن المسيب، وأبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الشافعي وأحمد [14] .
واحتج هؤلاء بالآتي:
1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي نذرتْ أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها! أرأيت لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله؛ أحق بالوفاء) [15] .
2- وعنه رضي الله عنه قال: قال رجل: (يا رسول الله) ! إن أبي ... مات ولم حج. فأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟
قال: نعم، قال: فدين الله أحق) [16] .
3 - ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كديْن
الآدمي، ويجب من رأس المال؛ لأنه ديْن واجب، فكان من رأس المال كديْن الآدمي [17] .
* وذهب آخرون إلى أن من مات وكان قد وجب عليه الحج ولم يحج فإن
أوصى حُج عنه من ثلث التركة وإلا فلا يجب على الورثة شيء إلا أن يَطَّوَّعوا. قال به النخعي والشعبي وحماد والليث في جماعة.
وبه قال أبو حنيفة [18] ومالك [19] ؛ لأن الميت ليس له حق إلا في ثلث
ماله، ودين العباد أقوى؛ لأنه مبني على المشاحَّة، ولأن له مطالِباً بخلاف دَيْن الله تعالى لأنه مبني على المسامحة فلا يعتبر إلا من الثلث لعدم المنازع فيه.
* وهناك قول ثالث روي عن ابن عمر والقاسم بن محمد وابن أبي ذئب؛
حيث قالوا: لا يحج أحد عن أحد مطلقاً [20] . والأحاديث المذكورة حجة عليهم.
شروط الحج عن الغير [21] :
اشترط الفقهاء شروطاً للحج عن الغير، نذكر أهمها:
1 - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لا
عن نفسه فلا بد من نيته، كأن يقول: أحرمت عن فلان أو لبيك عن فلان. وهذا الشرط متفق عليه.
2 - أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه وله مال، فإن كان قادراً
على الأداء بأن كان صحيح البدن وله مال فلا يجوز حج غيره عنه باتفاق الجمهور غير المالكية.
أما مالكية: فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقاً. وعليه: لا يجوز أن يستنيب في
الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً. وأجاز الجمهور الحج عن الميت، لكن إذا أوصى عند الحنفية والمالكية. وقال الشافعية والحنابلة: يجب الحج عنه إذا كان قادراً ومات مفرطاً.
3 - أن يستمر العجز كالمرض إلى الموت. وهذا باتفاق الحنفية والشافعية،
فلو زال العجز قبل الموت لم يجزئه حج النائب؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يُرجى برؤه، فيتقيد الجواز به.
وقال الحنابلة: يجزئه؛ لأنه أتى بما أمر به. فخرج عن العهدة كما لو لم
يزل عذره. وهذا أظهر.
4 - أن يُحْرِمَ على النحو الذي طالب به الأصيل. فلو اعتمر مثلاً وقد أمره
بالحج، ثم حج من مكة، لا يجوز عند الحنفية.
وكذا لو أوصى بالحج وحدد المال أو المكان؛ فالأمر على ما حدده وعينه؛
وإن لم يحدد شيئاً فالحج من بلد المنوب عنه؛ لأن الحج وجب على الأصيل ... من بلده فوجب أن ينوب عنه منه، وهذا عند الحنفية والحنابلة. وقال ... الشافعية: يجب على النائب الحج من ميقات الأصيل؛ لأن الحج يجب من الميقات. ...
5 - يجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل الحج عن الغير عند الشافعية
والحنابلة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ... سمع رجلاً يقول: (لبيك عن شبرمة) قال: مَنْ شبرمة؟ . قال: أخ لي، أو قريب. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: (حجَّ عن نفسك، ثم حج عن ... ...
شبرمة) [22] .
ويجوز عند الحنفية مع الكراهة التحريمية الحج عن الغير قبل أن يحج الرجل
عن نفسه عملاً بإطلاق حديث (الخثعمية) المتقدم من غير استفسار عن سبقها
الحج عن نفسها.
وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب،
أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج.
وكذلك قال المالكية: يكره الحج عن الغير أي في حالة الوصية بالحج قبل أن
يحج عن نفسه؛ بناءاً على أن الحج واجب على التراخي وإلا مُنع على القول بأنه على الفور وهو المعتمد عندهم.
والقول الأول أرجح لحديث (شبرمة) ويحمل ترك الاستفصال في حديث ...
(الخثعمية) على علمه صلى الله عليه وسلم بأنها حجت عن نفسها أولاً وإن لم يروِ لنا طريق علمه بذلك؛ جمعاً بين الأدلة كلها كما قال الكمال ابن الهمام [23] .
هذه أهم شروط الحج عن الغير؛ والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وسلم.
__________
(1) رواه مسلم، 9/101، وأحمد والنسائي وغيرهم.
(2) المغني لابن قدامة 3/178، 180.
(3) تفسير القرطبي 4/150.
(4) انظر سنن الترمذي 3/677، وشرح السنة، 7/26، والمبسوط 4/ 148، وفتح القدير 2/309، والمغني 3/177، وكشاف القناع 2/255، وزاد الشافعي: أنه إذا لم يجد مالاً يحج به غيره ولكن وجد من يطيعه من ولده ونحوه فإن الحج يجب عليه كذلك انظر المجموع 7/74 75، ومغني المحتاج 1/469 470، والمهذب 1/266، والغاية القصوى 1/431.
(5) رواه البخاري 4/67 (على الفتح) ومسلم 9/97 98 (بشرح النووي) ، ومالك 2/267، وأحمد 3/313، و4/98، و5/420، وأبو داود 2/401، والترمذي 3/675، والنسائي 5/117، و8/228.
(6) أخرجه الترمذي 3/678، وقال: حسن صحيح وأبو داود 2/402، والنسائي 5/117.
(7) انظر شرح السنة 7/26، والمنتقى 2/269، والشرح الصغير 2/ 115، والكافي 1/357.
(8) كما في المبسوط 4/153، وجعله المذهب وانظر البدائع 3/1085، وملتقى الأبحر 1/233.
(9) المنتقى 2/269، وانظر القرطبي 4/151.
(10) تفسير القرطبي 4/151.
(11) تفسير القرطبي 4/152، وراجع فتح الباري 4/70.
(12) بداية المجتهد 1/319 وانظر المجموع 7/75.
(13) تفسير القرطبي 17/114 115، وانظر: ملتقى الأبحر 1/234.
(14) انظر: سنن الترمذي 3/677، وشرح السنة 7/26، والتمهيد 9/ 136، والمجموع 7/87، 90، ومغني المحتاج 1/468، والمغني 3/195، والإنصاف 3/ 409، والإقناع 1/344.
(15) رواه البخاري 4/64، والنسائي بمعناه 5/117.
(16) رواه النسائي 5/118.
(17) المهذب 1/267، وراجع فتح الباري 4/66.
(18) انظر التمهيد 9/136، والمحلى 7/53، وعمدة القارئ 10/213 214، وعند الحنفية: لو مات رجل بعد وجوب الحج عليه ولم يوص به فيحج عنه رجل حجة الإسلام من غير وصية، قالوا: يجزيه إنْ شاء الله لأنه إيصال ثواب وهو لا يختص بأمر من قريب أو بعيد، ذكره ابن عابدين في حاشيته 2/600، وراجع مختصر الطحاوي ص 59.
(19) المنتقى 2/271، والشرح الصغير 2/15، والقرطبي 4/151، وعنده: إذا لم يوص فالصدقة أفضل من استئجار من يحج عنه، فإن حجّ أحد تطوعاً فله أجر الدعاء.
(20) المحلى 7/45، والمجموع 7/90، ومعالم السنن 2/401، وعمدة القارئ 9/213.
(21) منع قوم من النحاة إدخال (ال) على (غير وكل وبعض) لأن هذه لا تتعرف بالإضافة فلا تتعرف بالألف واللام، قال ابن عابدين: إنها تدخل عليها؛ لأنها هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة رد المحتار 2/323، (نقلاً عن الفقه الإسلامي وأدلته 3/37) .
(22) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني (نيل الأوطار 4/292) .
(23) انظر فتح القدير 2/317 321والشرح الصغير 2/15، ومغني المحتاج 1/470، وكشاف القناع 2/462، وانظر الفقه الإسلامي وأدلته 3/49 55.(148/30)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الأبعاد التربوية للحج
(2-2)
د. حمدي شعيب
استعرض الكاتب في الحلقة الأولى رحلة الحج مستنبطاً من مسيرتها الدروس
والعبر، وإشارات للساري في طريق الملة الحنيفية، وقد ختم الحلقة بدور المرأة
في المشروع الحضاري عندما توقف عند ركن السعي والرمل بين الصفا والمروة؛
حيث ذكرنا بهاجر عليها السلام. وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب نظراته التربوية في مسيرة الحج وما يستفاد منها في المشروع الحضاري لأمتنا الإسلامية.
- البيان -
أ - أما بالنسبة للقضايا الفرعية:
فأولها: عندما يتأمل الحاج أنه قد كُتب عليه السعي على النهج نفسه
وبالخطوات التي قامت بها أم إسماعيل عليهما السلام نرى أن الله عز وجل يريد أن يذكِّر كل مسلم، أن هذه الأمة واحدة؛ لأنها تملك كل مقومات هذه الوحدة: من جذور تاريخية، وأرض، وأفكار موحدة، وأنها تتجذر في التاريخ عمقاً يربطها بأبي البشر آدم وأبي الأنبياء إبراهيم عليهما السلام أوائل من بنوا البيت، وأنها كذلك تتجذر في التاريخ عرضاً لتضم كل الأمم وكل أجناس الأرض؛ فهي أمة واحدة ورسالتها واحدة.
ثانيها: كيف أن الماء الذي كان في سقاء هاجر عليها السلام قد نفد لتتعرض
والمتكرر، وهو الملمح الذي يبين أنه قد كتب على ابن آدم عامة حظه من الكد والنصب، تحقيقاً لسنته سبحانه أن حياة هذا المخلوق هي سلسلة من الكد والتعب: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ] [البلد: 4] ، وأن الإنسان مخلوق مبتلى: [إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً] [الإنسان: 2] .
وكتب كذلك على الدعاة وحاملي الأفكار النبيلة خاصة تحقيقاً لسنته سبحانه:
[الّم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ] [العنكبوت: 1، 2] .
إذن لا بد من الجهد والمحنة من أجل الاختبار والتمحيص، ومن أجل التمييز
والانتقاء: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] [آل عمران: 179] .
وهذا المبدأ مبدأ الابتلاء لم يُستثن منه أحد حتى هاجر الصابرة الممتحنة
ووليدها عليهما السلام بل كل الأنبياء عليهم السلام والصالحون والمصلحون على دربهم.
ثالثها: تدبر وصف الحديث الشريف لحال هاجر عليها السلام: (فانطلقت
كراهية أن تنظر إليه) أي كان هنالك شعور داخلي عارم يدفعها للعمل والبذل إحساساً بالمسؤولية والإيجابية لعمل شيءٍ مَّا لتدفع به تلك المحنة، ولم تقعد وتولول تواكلاً وكسلاً وأن هذا شيء مقدر؛ بل نستشعر من طريقة سعيها عليها السلام معنى التصميم والعزم، وهو الشعور الذي يغيب عن بعض الدعاة؛ الشعور الداخلي بالمسؤولية لعمل شيء مَّا من أجل الفكرة التي يحملونها.
رابعاً: كانت هاجر عليها السلام تسعى وتركض، ولا تريد أن تعود حتى
تحصل على بغيتها حتى إنها كررت سعيها سبع مرات! أي كان هنالك تصميم وثبات وعدم يأس من تحقيق بغيتها. ولقد كان بإمكانها أن تعذر إلى الله سبحانه بأن تسعى مرة أو مرتين.
وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بطرْق أبواب الخير مرات ومرات حتى تفتح،
وأحرى لمن داوم على قرع الباب أن يُفتح له.
فالداعية صاحب قضية، وهو دوماً يتطلع إلى المعالي، ولا تعوقه مغريات
الأرض، ولا ثقلة الطين حتى يتحقق هدفه العظيم، كما قال أحمد محمد الصديق:
يتعالى عن أراجيف الثرى نافضاً عنه غبارَ التهم
... ... من تكن عيناه للأرض فلن يتسامى أبداً للأنجم
خامسها: بعد هذا المجهود المتكرر، والسعي الشاق المضني، والأخذ بكل
الأسباب لا يسفر ذلك عن شيء، حتى كان الفرج بيده سبحانه المطَّلع على هذا الأمر، فأرسل جبريل عليه السلام ليضرب بعقبه أو بجناحه الأرض فتتفجر زمزم.
وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بالفقه الجيد لقضية التوكل على الله؛ وذلك بأن
يسعوا في الأسباب وبأفضل الأسباب مع القناعة الداخلية بعدم الركون إليها، ثم مع
اليقين فيما عنده سبحانه: [مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ومَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ] [النحل: 96]
والفرج بيده سبحانه وحده مالك الملك، ومقدِّر الأقدار؛ لذا فإن الجوارح تعمل بالأسباب، والقلب يناجي رب هذه الأسباب: [بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلّ ِشَيْءٍ قَدِيرٌ] . [آل عمران: 26] .
وثمرة هذه القضية هو الخلوص والتجرد للحق سبحانه [وظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ] . [التوبة: 118] .
ب - أما بالنسبة للقضية الكبرى والمغزى العظيم من ركن السعي؛ فإن هذا
العمل الذي يقوم به كل حاج ومعتمر يكاد يكون بكل دقائقه هو ما قامت به هاجر عليها السلام نفسه، وكأنها رسمت الخُطا للاَّحقين في كل عصر وفي كل جيل؛ فلا تتم لهم عمرة ولا حج إلا به، ثم ليتدبروا بعض الدروس التربوية منه. ولا يكاد يخلو هذا المكان من ساع ومهرول في أي لحظة، من اليوم والنهار، وكأننا بالحق سبحانه يريد أن تظل تلك القضية ودروسها حية دوماً في وجدان الأمة حتى يرث الأرض ومن عليها؛ عرفاناً بدور هاجر عليها السلام وتذكيراً للأمة، ورداً على أباطيل أعدائها وشبهاتهم.
وعندما نتدبر هذا الركن من خلال زاوية دراستنا نجد أنه رد عملي، وبرهان
جلي، حول قضية طالما أثار حولها المعارضون للمشروع الحضاري الإسلامي الكثير من الشبهات والاتهامات؛ بل العجب في الأمر أنه قد يُشارك بعض المسلمين في إثارة الغبار حولها بحسن نية، أو بجهل، أو بهما معاً! وهي قضية مكانة المرأة في الإسلام، ودورها في المشروع الحضاري.
ويكفينا في هذا المقام أن نقتطف بعض ما جاء في الرأي الشامل الجامع
والراقي للحركة الإسلامية المعاصرة حول هذه القضية؛ فالمرأة (هي الأم التي ورد في شأنها الأثر الكريم: أن الجنة تحت أقدامها، والتي قدمها الله تعالى على كل من عداها في حق صحبة الأبناء لها، وأنهن شقائق الرجال. والمرأة هي نصف المجتمع ونصف الأمة والقائمة على تنشئة الأجيال. ومسؤولية المرأة الإيمانية كالرجل سواءاً بسواء؛ فهي مأمورة كالرجل بالإيمان بالله، وبالعمل بالأركان، وعليها ما على الرجل من واجب التفقه في الدين.
والحدودُ في الشريعة واحدة بالنسبة للرجل والمرأة، ونفس المرأة في القصاص كنفس الرجل. وهي أول من آمن، وأول من استشهد في سبيل الله. ولقد شاركت في الجهاد والغزوات.
ولا يصح زواج في الشريعة إلا بموافقتها ورضاها وإجازتها، ولا يجوز شرعاً إجبارها على الزواج ممن لا ترضاه. وللمرأة ذمة مالية كاملة لا تنقص شيئاً عن ذمة الرجل المالية. ونقصها في الدين ليس نقصاً في الإيمان ولا لأنها مخلوق متدنٍّ غير أهل للرقي، بل لرفع العبادات عنها في أوقات معينة. ونقص الحظ هو في بعض أنصبة الميراث فقط. أما نقص العقل فهو محدد بالشهادة على أمور معينة أهمها الدَّيْن أي القرض، وعقود البيع والحدود. أما قوامة الرجل عليها فلا يجوز أن تُفهَم على أنها مطلقة في كل الأمور ولعامة الرجال، بل إن هذه القوامة خاصة بالأسرة فقط، وفيما يتعلق بالأمور المشتركة بين الزوج والزوجة.
ورياسة الرجل ليست رياسة قهر وتحكم واستبداد، ولكنها تراحم وتواد
ومعاشرة بالحسنى، وتقوم على التشاور؛ فالأصل هو المساواة، ولكن الاستثناءات ترد منه سبحانه. وقد وردت النصوص بأن جسد المرأة كله عورة، ولا يجوز أن يظهر منه لغير محارمها سوى الوجه والكفين، وأن خلوة المرأة بالرجل غير المحرم لها غير جائزة.
وللمرأة وظيفة أساسية هامة وسامية خصها سبحانه بها وهي وظيفة الحمل والأمومة، وهي ربة البيت وملكته. وللمرأة حق المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما ماثلها. ولها الحق في تولي مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها. والوظيفة المتفق على عدم جوازها لها هي الولاية العامة، أي رئاسة الدولة. ...
أما القضاء فقد اختلف الفقهاء بشأن توليها له، وهذا يحكمه فقه الموازنات والترجيح. أما ما عدا ذلك من الوظائف فمادام أن للمرأة شرعاً أن تعمل فيما هو حلال لم يرد فيه نص بتحريمه. وهذه الحقوق وكيفية استعمالها تحكمها ظروف وأخلاقيات كل مجتمع) [1] .
وهكذا فإن ركن السعي يفتح أفقاً رحيباً للمشاركين في المشروع الحضاري
حول قضية المشارِكات ودورهن، فلا يبخسن، ولا يُهملن. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهن: الشقائق.
مع المؤتمرين!
فضل الجماعية وأهميتها: ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج
من منى إلى عرفة، وهو يلبي ويكبر: (الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد) . ويرفع بها صوته. ويكره له الصيام في هذا اليوم. ومن السنَّة النزول في نمرة إلى الزوال إن أمكن. فإذا زالت الشمس سُنَّ للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة تناسب الحال، ويبين للحاج ما يشرع في هذا اليوم وبعده. وبعدها يصلي الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً؛ وذلك ليطول وقت الوقوف والدعاء بعد الصلاة؛ حيث يتفرغ للذكر والدعاء والتضرع إلى الله، ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس لعرفة دعاء مخصوص، ويستحب أن يرفع يديه حال الدعاء، ويستقبل القبلة. والأفضل أن يجعل الجبل بينه وبين القبلة، إن تيسر ذلك.
ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر من يوم العيد. وعليه أن يتثبت من كونه
داخل عرفة، ولا يخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس.
وبتأمل أعمال هذا اليوم العظيم نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من
منظور دوره ركيزةً من ركائز المشروع الحضاري:
أ - (الحج عرفة) [2] بهاتين الكلمتين وضح صلى الله عليه وسلم أهمية هذا
الركن من أعمال الحج، ولقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم؛ فهو اليوم الذي يجتمع فيه كل الحجيج في مكان واحد، وفي يوم واحد، وإن امتد وقت الوقوف.
وكأن المقصود هو اجتماع ممثلي الأمة من كل جنس ولون، ومن كل أرض
وصقع، وكأنه مؤتمر سنوي يناقش هموم الأمة، ويعطي الدليل على كيفية اجتماعها.
وعندما نتدبر مغزى حديثه صلى الله عليه وسلم أن الحج الصحيح هو من
أدرك الوقوف يوم عرفة فإننا نستشعر أن جمع الأمة على هذه الصيغة من الأهمية العظيمة بمكان، ويبرهن أيضاً على أن حضور هذا المؤتمر السنوي الكبير يجب ألاَّ يتخلف عنه أحد ممن حضر من ممثلي الأمة.
وكم هو منهج عظيم عندما يدعو في كل مناسبة إلى الوحدة، ويشيد بالجماعية
وبركتها، وينبذ أفكار التشتت والتشرذم!
ب - في توجه الحجيج إلى عرفات تحت راية التكبير والتوحيد والتهليل يفهم
منه أهمية الفكرة الربانية ودورها أن ركيزة التجميع لهذه الأمة هي كلمة التوحيد؛ فهي الفكرة الربانية التي رشحها الحق سبحانه لأن تجتمع عليها الأمة كل الأمة وهي الراية التي من الممكن أن يتجمع حولها كل الناس؛ فتنطلق بهم إلى سيادة الدنيا، وسعادة الآخرة.
ونحن في هذا المقام نضيف دليلاً آخر يؤكد ما قلناه؛ وهو ما أورده (ابن
خلدون) في مقدمته (أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخُلُق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى والسلامة) [3] .
ج - وفي قصر الصلاة وجمعها نستشعر منه وكأن المقصود أن يطول وقت
الوقوف والتضرع إلى الله عز وجل وذلك من شأنه أن يحقق الهدف الثاني من أهداف ركن الحج وهو قطف ثمرته الروحية من ذكر ودعاء واستغفار؛ فهو فرصة سانحة لا تتكرر إلا كل عام، ولمن سعدوا بحضورها؛ حيث تبدو سويعات الوقوف وكأنها دورة تربوية روحية مركَّزة قدَّرها سبحانه وتعالى لمعالجة بعض جوانب تلك الحالة الاعتلالية التي تحدثنا عنها في (ظاهرة التآكل الروحي) ؛ حيث تتسرب إلى بعض النفوس.
وتدبر كيف أن المربي العظيم صلى الله عليه وسلم قد عمم الترغيب في آثار
الحج الروحية عموماً، ثم خصص أهمية يوم عرفة، من ذلك: (من حج هذا البيت؛ فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [4] ، (العمرة إلى العمرة كفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [5] ، (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟) [6] .
د - في هذا اليوم، وفي أثناء فرحة الحجيج بموقفهم، وبمؤتمرهم الجليل،
وبينما هذا الجمع الطيب مشغول في دورته الروحية كان من الفقه العميق أن يُعرِّج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى التحذير من العدو المبين ذلك الذي يتأذَّى حسداً وحقداً من مجرد سجود المؤمن وطاعته لربه، فما بالك بهذا الموقف
العظيم؟ !
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رُئِيَ
الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر أي أذل وأهون ولا أغيظ منه في يوم عرفة،
وما ذاك إلا لما رأى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوُزِ الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري من يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يَزَع أي يقود الملائكة) [7] .
وهو العدو الذي لا ينام، ولا يغفل عن الدس والوسوسة. قال رجل للحسن:
يا أبا سعيد! أينام الشيطان؟ ! فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا [8] .
وهذه اللمحة النبوية العظيمة تذكرنا بباب عظيم من الفقه ألا وهو علم الشر،
وسبل الوقاية منه، وهو الباب الذي لا يغني عنه ولا ينفي أهميته أن نفقه علم الخير، وسبل الوصول إليه.
مع السائرين!
تنمية الجوانب الأخلاقية: بعد غروب شمس يوم عرفة تبدأ الإفاضة، فينطلق
الحاج إلى مزدلفة بهدوء وسكينة، مهللاً ومكبراً وملبياً، ثم يُصلي المغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان واحد وإقامتين. ثم يوتر ويبيت بمزدلفة. فإذا تبين الفجر صلى مبكراً، ثم قصد المشعر الحرام فوحَّد الله وكبَّر واستقبل القبلة، ثم دعا بما أحب حتى يُسفر جداً، أو يدعو في مكانه إن لم يتيسر له. ثم يلتقط حصيات من مزدلفة ليرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يتجه إلى منى. وإذا وصل إلى وادي محسر وهو بين مزدلفة ومنى استحب له الإسراع.
وعندما نتأمل هذه المسيرة من خلال بُعدها التربوي وما ترمز إليه نستشعر
بعض الوقفات واللمحات التربوية التي تدور حول بعض الأخلاقيات المنشودة للسائرين على درب المشروع الحضاري:
أ - كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصي بالسكينة والهدوء فيقول: (أيها
الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع أي بالإسراع) [9] وكان صلى الله عليه وسلم يسير العَنَق أي سيراً رفيقاً فإذا وجد فجوة أي مكاناً متسعاً غير مزدحم نَصَّ أي أسرع) [10] .
والأمر بالسكينة وصية يُستشعر منها معانٍ عظيمة منها: الهدوء، والنظام،
والطاعة، ومراعاة حقوق الآخر، ومراعاة جلال الموقف؛ وذلك من خلال سمات المنهج الذي يربي أتباعه على النظام والطاعة، وعدم التخلق بأخلاقيات الغوغائيين التي تبرز دوماً مع أي تجمعات كبيرة.
ب - كان من هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الإفاضة أن يستمر الذِّكر
والتهليل والتكبير والتلبية والاستغفار حتى تُرمى جمرة العقبة.
وكذلك كانت توجيهات الحق سبحانه: [فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ واذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] . [البقرة: 198 - 200] .
وهذا الهدي وتلك التوجيهات توحي بأهمية المتابعة والاستمرار على الحالة
الروحية الرفيعة المكتسبة من الدورة الروحية العظيمة أثناء الوقوف بعرفات، وكذلك نستشعر معها أهمية المحافظة على المكتسبات الربانية، والثمرة الروحية للحج؛ فلا تذهب مع مشقة المسير. كما نستشعر مدى عمق التحذير الإلهي من خطر العودة إلى الضلال السابق؛ فالموفق من تذكَّر ماضيه وقارنه بالحالة الربانية التي هو فيها، فشكر الله عز وجل ظاهراً بالمتابعة والاستمرارية، وباطناً بالخوف من خطر النكوص والارتكاس، والانتكاس.
ونسأل الله سبحانه العفو والعافية، لا نحصي ثناءاً عليه سبحانه، هو كما
أثنى على نفسه.
ج - في وصفه سبحانه لحالة الذِّكر المنشودة: [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] [البقرة: 200] نستشعر مدى أهمية تنقية النية وتصفيتها؛ فإذا كانت
الغاية هي
الله سبحانه فيجب ألاَّ تختلط بغايات أو رايات أخرى.
كذلك يتبين لنا أهمية وجود العقلية المسلمة المرتبة التي تفقه أولوياتها؛ فمن
كان همه رضا خالقه سبحانه فينبغي ألاَّ تعيقه أي اهتمامات أخرى حتى وإن كان الوالد أو الولد؛ ففي تلك المواقف يصبح الاهتمام بالموروثات القبلية مثل مجد الآباء والأجداد، والفخر بالأبناء والأموال من قبيل النزول من القمة إلى السفح، ومن الاهتمام والتمحور حول الأفكار والمبادئ إلى التفاخر بالوسائل المادية كالأرض والطين. والحق سبحانه يحب معالي الأمور.
د - ثم يبين الحق سبحانه خلقاً آخر يوصي به السائرين: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ] [البقرة: 199] . هذا وإن كانت هذه وصيته سبحانه بأن تلتزم
قريش بالوقوف مع الناس، وعدم التمايز المكاني؛ فقد كانت قريش ومن دان دينها
يقفون بالمزدلفة وكانوا يُسَمَّوْن: الحُمْس وسائر العرب يقفون بعرفات؛ فلما جاء
الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها؛ ثم يفيض
منها؛ فذلك قوله: [مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ] ) [11] .
ولكننا نستشعر هنا المعنى التربوي البعيد للنص؛ حيث يدعو السائرين في
كل درب وفي كل مجال إلى التخلق بخلق المساواة والعدل والتسوية بين الأفراد وعدم التمايز الذي من شأنه أن يمنع تولد الحقد والبغضاء والحسد داخل أي تجمع؛ فما بالك بالسائرين على درب المشروع الحضاري؟ !
ولقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يتتبع هذا الخلق في كل مجال.
وتدبَّرْ هذا السلوك النبوي التربوي الرفيع؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله
عنهما (أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا
غلاماً كان لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه) . وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم.
فرجع أبي فردَّ الصدقة) . وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (يا بشير! ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم. قال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جَوْر. ثم قال: أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى! قال: فلا إذاً) [12] .
وكذلك كان شعور كل فرد من الصحابة رضوان الله عليهم، وكأنه هو
المقرب والمفضل عنده صلى الله عليه وسلم.
ويستشعر الداعية أيضاً كيف أن بعضاً من داخل أي مؤسسة خاصة
المؤسسات الدعوية قد يصيبه حالة اعتلالية يرى فيها نفسه فوق الآخرين، فينظر إلى موقعه التنظيمي ويقيِّم الآخرين على أساس تقدمه عليهم، ولا يفيض في الحركة الدعوية من حيث أفاض الناس، وهي (ظاهرة الغرور التنظيمي) ، ولو تدبر قليلاً لوجد الرد الإلهي واضحاً في سورة عبس؛ وهي السورة التي وضعت أساسات وموازين تقييم الناس.
هـ - وفي قوله سبحانه: [فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ومَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. ومِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً
وقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ]
[البقرة: 200 - 202] .
(إن هناك فريقين: فريقاً همه الدنيا، فهو حريص عليها مشغول بها،
ويذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا إذا قدر العطاء ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق. وفريقاً أفسح أفقاً وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة؛ فهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة، بل يَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون. وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب) [13] .
ونحن ندور مع البعد التربوي البعيد للنص، وهو التركيز على علاج (ظاهرة
القصور الفكري) التي تصيب بعضاً من اللحظيين ذوي النظرة المحدودة التقدير
القاصرة القريبة من حواسهم ضيقي الأفق؛ فلا يدركون الأبعاد البعيدة للقضايا والأمور.
وعلاجها يتم بضرورة تشجيع ذوي النظرة المستقبلية للأمور البعيدة التقدير،
والاستشرافية للقضايا.
وكم من مكاسب عظيمة أضاعها المحدوديون! ولم يكن لهم نصيب في فقه
سراقه بن مالك رضي الله عنه عندما تناقش مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مطاردته له في الهجرة، ونظر إلى المكاسب العظيمة البعيدة التي تفوق جائزة قريش، فكسب نعمة الإسلام، والنجاة في الآخرة، وفوق هذا حصل على الوعد بسواري كسرى بعد سنوات أثناء حكم الفاروق رضوان الله عليه.
عوائق.. وتضحيات:
أهمية معرفة عوائق الطريق: ثم نأتي إلى اليوم العظيم، يوم النحر؛ يوم
العيد؛ حيث ينطلق الحاج قبل طلوع الشمس إلى منى ملبياً وعليه السكينة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية
عندها، ثم يذبح الهدي، ثم يحلق أو يقصر. وبذلك يتحلل التحلل الأول، فيلبس الثوب ويتطيب، ويحل له جميع محظورات الإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة بدون رَمَل. ثم يصلي ركعتي الطواف، ويسعى المتمتع والقارن أو المفرد الذي لم يسع. وبذلك يتحلل التحلل الكامل. ويشرب من زمزم، يصلي الظهر إن أمكن، ويكبر، ثم يذهب للمبيت في منى باقي الليالي.
وحول الأبعاد التربوية لأعمال يوم النحر نقتطف بعض هذه الملامح التي
ترمز إلى معرفة السائر لعوائق الطريق، وتصميمه على الانتصار عليها:
أ - عندما يبتدأ الحاج بالرمي فإنما هو من باب دخول البيوت من أبوابها؛
حيث إن الرمي هو تحية منى.
وكذلك هو من باب البداية بالأصل الكبير في كل قضية؛ فبعد سفر طويل
وتعبئة كبرى، وشحن داخلي يتجه الحاج إلى العدو الأول، ذلك الذي حذره منه الحبيب صلى الله عليه وسلم فعرَّفه عليه ليتجنبه؛ كيف لا وهو عينه ذلك العدو الذي لم يَرُقْهُ جلال سويعات الوقوف بعرفات، وكان في أغيظ مواقفه؟ !
وعندما يرمي الحاج سبعاً من الحصيات فإنه يبدو كأنه تصميم على جدية
المواجهة ضد شبهات الشيطان وشهواته.
وفي دعاء الحاج ربه عقيب الرمي يتبين أهمية سلاح الدعاء في كل موقف،
وكذلك يتبين معنى فقر العبد دوماً إليه سبحانه؛ فبعونه عز وجل تأتي القوة والمنعة والنصر في معركته ضد عدو الله وعدوه.
وبتدبر البعد التربوي الشامل للرمي نستشعر أن أصل كل معركة أن تعرف
من هو العدو الحقيقي، فتواجهه.
فمن العوائق الرئيسة عدم معرفة العدو، وعدم معرفة أسلحته، ونقط ضعفه،
ومعرفة كيفية التغلب عليه.
ب - وفي النحر دلالات عظيمة للسائر: فهو يرمز إلى أن السائر الذي
يعرف طريقه، ويعرف هدفه، ويعرف أيضاً عدوه، وأن عليه ألاَّ تعيقه أي تضحيات في سبيل تحقيق ما خطط له.
يتأمل الداعية ذلك وهو يتذكر رواده على الطريق، يتذكر الخليل عليه السلام
وكيف أنه ضحى بولده الوحيد الحبيب عليه السلام وذلك في سبيل رضاه سبحانه
وامتثال أمره.
والله عز وجل لا يريد العنت بعباده، وإنما يريد لهم تجربة واقعية تثبت
وتبرهن أن العبد قد رتب أولوياته جيداً، وعندما يثبت ذلك للعبد نفسه وليس للحق سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عند ذلك فقط يكون النجاح في الاختبار.
كيف لا والحق سبحانه قد أخبر أن إبراهيم وولده عليهما السلام قد نجحا
بالرغم من عدم ذبح إسماعيل عليه السلام؟ فالقضية لم تك هي الذبح، بل هو مجرد
اختبار واقعي لجدية الاستعداد للتضحية: [ونَادَيْنَاهُ أَن يَا إبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا
إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ] . [الصافات: 104، 105] .
والموفق هو من يعرف عوائق طريقه، فيتغلب عليها مضحياً في سبيل هدفه
الأسمى، وهذا هو الفيصل والفارق: [ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ] . [البقرة: 165] .
فرحم الله من أرى أعداء الله منه قوة، ورحم الله من أظهر لربه منه جدية
وبذلاً وحباً وتضحية، وترتيباً صحيحاً لأولوياته.
ج - وفي ذهاب الحاج إلى مكة لطواف الإفاضة أبعاد تربوية عظيمة منها أنه
تأكيد على أن السائر لم يزل على عهده، ولم تزل القضية المحورية التي يدور حولها وبها ومعها هي شغله الشاغل.
ومنها أيضاً أنه فوق كونه تجديداً للعهد، فهو تجديد للزاد الذي من شأنه أن
يقويه على أي عقبة في الطريق.
ومنها أهمية تذكير الأمة بضرورة توحيد الغاية والهدف والهموم لتكون أشبه
بمحور تطوف كل فئات الأمة حوله حتى تتجمع القوى حول الأهداف العظام، ولا
تتفرق.
فمن عوائق الطريق التشرذم تحت رايات متعددة، والتمحور حول أفكار غير
موحدة؛ لأن من أهم ركائز المشروع الحضاري الإسلامي هو الحركة الجماعية المنظمة والمتوافقة.
د - وعندما ينهي الحاج أعمال يوم النحر بالحلق أو التقصير، وهو من باب
استعداد الحاج لأعمال منى، التي ستكون أشبه باللجان المصغرة التي تعقد ورش
عمل لمتابعة أعمال المؤتمر السنوي الذي عقد في عرفة.
وعندما يقرر صلى الله عليه وسلم صحة كلٍ من الحلق والتقصير، ثم يرتب
الحلق ويفضله على التقصير فإنما هو من باب يسر المنهج ومرونته، وكذلك له مغزى تربوي آخر وهو من ركائز المشروع الحضاري ألا وهو قبول الآخر، أو بمعنى أشمل هو من باب التعددية الفكرية والمذهبية؛ وذلك كما بينا ذلك عند الحديث عن أهمية إعادة صياغة العقلية المسلمة على أصول منها: قضية تعدد الصواب.
فمن عوائق الطريق وجود بعض من ذوي الاعتلالات التربوية والحركية بل
والفكرية، فلا يرى إلا رأيه، ولا يستمع للآخر، بل يبلغ به الأمر إلى أن يسفه رأي الآخر، ويتمادى به الاعتلال حتى يسفه الآخر نفسه.
وقديماً من وراء السنين أنصفنا المربون عندما حملوا لنا نصيحة الشافعي
رحمه الله عندما وضع قاعدة ذهبية من قواعد حرية الفكر: (رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب) .
بل إن الحق سبحانه ذم رائد هؤلاء (الدكتاتوريين) عندما وضع قاعة بغيضة
من قواعد كبت الفكر: [قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] .
مع لجان منى! :
أهمية بث روح المؤسسية: بعد ذلك تبدأ أيام منى أو أيام التشريق. وأعمالها
تتلخص في رمي الجمرات الثلاث، والمبيت بمنى، وهي أيام قال عنها المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله) [14] .
وحول أيام منى والأعمال الخاصة بها نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك
من باب هذه الدراسة وقيمتها وما ترمز إليه:
أ - حول لزوم المبيت للحاج بمنى، وأن يبقى أكثر الليل في أوله أو آخره.
وكأن من فقه المتابعة أن يشارك الحاج في حضور اجتماعات منى المصغرة والتي هي أشبه بفرق العمل أو اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنوي الكبير، وذلك لمدارسة التوصيات.
وهذا يبين لنا أهمية المتابعة لكل أمر.
ب - ومن أعمال منى رمي الجمرات الثلاث، كل واحدة بسبع من
لحصيات، ووقت الرمي مسألة خلافية، ولكن المختار أن يبتدئ من الزوال إلى الغروب.
والبعد التربوي للرمي هو أنه يبدو كأنه تأكيد على أن المجتمعين عليهم ألا
يغفلوا عن العدو المتربص بهم، ومحاربته وصد ما يلقيه من شبهات وشهوات سواء للنفس أو الزوج أو الولد، وألا يغفلوا أيضاً عن العدو الخارجي.
ورمي كل جمرة بسبع من الحصيات هو أيضاً من باب التصميم والجدية في
المعركة.
وفي اختلاف وقت الرمي؛ حيث يبدو الحجيج بين ذاكر لله ورام ودارس
وطائف وآكل وشارب، وفي الوقت نفسه يبدو حالهم كأنه من باب تكامل الجهود وتنوع الأعمال وتوافق الوظائف، وكأنهم في حركة جماعية مؤسسية تقوم على لجان متوافقة متناسقة ومتكاملة ومتعاضدة. وهو من باب أهمية المؤسسية في الحركة الجماعية الهادفة إلى تحقيق المشاريع الحضارية. وهو أيضاً من باب الاعتراف والتقرير بل والتقدير لكل عمل سواء قل أو عظم، مادام يتوافق مع الحركة المؤسسية.
ج - كان القائد صلى الله عليه وسلم في هذه الحركة الجماعية أيام منى مثالاً
للقيادة الواعية؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل
له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: (لا حرج) [15] .
وأهم سمة قيادية في مثل هذه المواقف ينبغي أن تتمثل في المرونة واليسر.
وهاتان السمتان سواء المرونة القيادية، أو التخلق بخلق التيسير إنما تنبثقان
وتنبعان من القاعدة الربانية الكبرى للمنهج الإسلامي: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] .
وهذه السمة القيادية تبدو بارزة عند القادة الربانيين في كل المواقف.
ولعلنا نذكر ذلك القائد الرباني طالوت الذي كان يتمتع بهذه المرونة القيادية،
فكان رحيماً في تجربته الجهاديةالتغييرية؛ عندما قال لأتباعه: [إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ] [البقرة: 249] .
والموفق من يكون متوازناً بين الحزم والمرونة، وبين الشدة والتيسير بشرط
أن لا يخل ذلك بروح الانضباط؛ فيحافظ على شعرة معاوية.
د - ومن السنة الصلاة في مسجد الخيف أيام التشريق؛ حيث ورد أنه صلى
في هذا المسجد سبعون نبياً. وهو من باب استشعار عمق جذور الحركة الدعوية،
وأصالتها في عمق التاريخ؛ فالمشروع الحضاري ليس بدعاً؛ بل هو بعث لروح الأمة وتجديد لدينها، أو بالمعنى الأبسط: هو مجرد إزالة للركام المركب الذي طمس معالم المنهج سواء من جانب ضياع المفاهيم، أو من جانب سوء طريقة عرضه ومعاصرة طرحه.
أو بمعنى آخر: هو جولة حضارية تغييرية جديدة تقوم على مرتكز عظيم
وهو رصيد التجربة.
هـ - ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أيام منى أكل وشرب وذكر
لله.
وهذا يشعرنا بأهمية تنمية الجانب الروحي، ومتابعة ذلك عند السائرين على
درب المشروع الحضاري، حتى في سويعات الراحة المباحة من الأكل والشرب.
وداعٌ.. وأمل:
أهمية الحركة وبث روح الأمل: ثم نأتي إلى نهاية رحلة الحج المباركة التي
تنتهي بذهاب الحاج إلى مكة لطواف الوداع، وذلك قبل غروب شمس يوم الثاني
عشر للمتعجل، أو يوم الثالث عشر للمتأخر، ثم بعد ذلك يعود إلى بلده مباشرة.
وحول بعض الملامح التربوية للنهاية الجليلة لتلك الرحلة العظيمة نقتطف
بعض هذه القطوف التربوية.
لما كان الهدف هو حضور المؤتمر السنوي العام بعرفات، ومعرفة العدو
الواحد، ثم حضور لجان منى وفرق العمل المنبثقة عن المؤتمر العام، واستشعار روح المؤسسية، وفوق ذلك كله التزود بزاد التقوى: [وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] [البقرة: 197] ، وبلوغ درجات رفيعة من التربية الروحية كان الأصل أن يعود المؤتمرون إلى بلادهم للقاء من يمثلونهم من الأمة ومتابعتهم.
يعودون إلى حيث ينشرون فكرتهم في أرجاء المعمورة، وكأن الانتشار
بالفكرة هو الهدف المطلوب، أو أن الحركة بالفكرة هي قضية الساعة الآن.
وكذلك يدل على عالمية الرسالة؛ فهي مشروع لا يعرف حدوداً من جنس أو
أرض.
ولكن قبل العودة كان لا بد من مِسك الختام فيِ الطوافِ الأخير طوافِ الوداع.
وتدبر مغزى كلمة وداع وأثرها على النفس.
وتدبر كيف كان الختام وكأنه تأكيد عملي أخير يركز على ضرورة فقه الهدف
الواحد والهم الواحد الذي تطوف حوله جموع السائرين، والذي ستحمله القلوب إلى
بلادها، تلك القلوب التي هوت شوقاً إلى هذا المكان، فأتت من كل فج عميق.
ولكن هذه القلوب لم يمنعها هذا الرباط الروحي ولن يمنعها من أن تعود فتنشر
فكرتها، وتدعو إلى مشروعها الذي تحقق على أرض فأصبح له مرتكز ومركز إشعاع ثابت وقاعدة صلبة توضع عليها راية التجميع ليؤوبوا إليها كل حين، ثم يعودون للانتشار من جديد.
فحركة التاريخ وناموسية التغيير الحضاري من سماتها التبديل والحركة التي
لا تعرف السكون: بين مد وجزر، أو بين امتداد وانحسار.
وكذلك الأفكار؛ فالحركة تمنع نمو جراثيم التأسُّن الفكري في العقليات.
وأيضاً بالنسبة للأمم والجماعات والمؤسسات؛ فإن الحركة أيضاً تهاجم
حشرات التعفن الحضاري عند الأمم.
وإن الحركة في كل تلك المجالات مثلها مثل حركة الكون التي تجري مكوناتها
في ديمومة حركية، لا تهدأ حتى المستقر النهائي الذي يقرر منتهاه ومستقره العزيز العليم: [والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] [يس: 38] . ... والحركة الحضارية من شأنها التداول: [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]
[آل عمران: 140] .
وعندما يفقه الدعاة وكل من يشارك في مسيرة الدعوة إلى المشروع الحضاري
تلك الإشكالية، ويدركون مغزى السمة التداولية للحركة الحضارية، ويعون الناموسية التغييرية للتاريخ فإن ذلك من شأنه أن يمدهم بزاد آخر، زاد ضروري، ألا وهو زاد الأمل.
ذلك الزاد الذي يعطي الدفعة العظيمة للسائرين، ويُضاعف روح البذل.
وخير ما ورد عن ذلك الزاد تلك البشارات التي كان يطلقها الحبيب صلى الله
عليه وسلم أثناء أصعب المواقف؛ عندما حوصرت الدعوة وجففت منابعها، وحوصر الداعية، وذلك أثناء غزوة الأحزاب، وكان هناك من يسجل لنا هذا الموقف الاستشرافي العظيم للقيادة الربانية الواعية؛ كان هناك البراء رضي الله عنه فقال: (لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول، فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر أُعطِيتُ فارس، واللهِ إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله
إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) [16] .
ومرت الأحداث، وتعاقبت الأيام، وتداولت الحركة الحضارية، واسْتَعْلت
الدعوة على الحصار الشيطاني، ومكَّن الله لها في الأرض، وتحقق ما بشر به القائد العظيم صلى الله عليه وسلم.
وبعد: فهذه لمحات متواضعة حول الأبعاد التربوية لتلك الرحلة المباركة وما
تمثله من ركائز للمشروع الحضاري الإسلامي؛ وهي محاولة نرجو من الله بها القبول؛ فمنه وحده سبحانه التوفيق؛ وإن كان بها من الزلات فهي مني ومن الشيطان.
__________
(1) رسالة المرأة في المجتمع المسلم، 5/ 29 بتصرف.
(2) رواه أحمد، ح/ 58220.
(3) المقدمة: ابن خلدون بتصرف.
(4) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/ 107.
(5) رواه مسلم، 4/ 107.
(6) رواه مسلم، ح/ 2402.
(7) رواه مالك، ح/ 840.
(8) إحياء علوم الدين: الغزالي، 3/ 147.
(9) رواه البخاري، ح/ 1559.
(10) رواه البخاري، ح/ 1555.
(11) رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، ح/ 4158.
(12) رواه مسلم، ح/ 3509.
(13) في ظلال القرآن: سيد قطب، 2/ 201 بتصرف.
(14) رواه مسلم، ح/ 1926.
(15) رواه البخاري، ح/ 1619.
(16) رواه أحمد، ح/ 17946، والنسائي، ح/ 3125.(148/34)
فتاوى أعلام الموقعين
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن كتاب بعنوان:
الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في المملكة العربية السعودية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب بعنوان: (الحكم
بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) لكاتبه خالد العنبري، وبعد دراسة الكتاب اتضح
أنه يحتوي على إخلال بالأمانة العلمية فيما نقله عن علماء أهل السنة والجماعة،
وتحريف للأدلة عن دلالاتها التي تقتضيها اللغة العربية ومقاصد الشريعة، ومن ذلك
ما يلي:
1 - تحريفه لمعاني الأدلة الشرعية، والتصرف في بعض النصوص المنقولة
عن أهل العلم حذفاً أو تغييراً على وجه يفهم منها غير المراد أصلاً.
2 - تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.
3 - الكذب على أهل العلم وذلك في نسبته للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل
الشيخ رحمه الله ما لم يقله.
4 - دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في
التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر؛ وهذا محض
افتراء على أهل السنة منشؤه الجهل أو سوء القصد. نسأل الله السلامة والعافية.
وبناءاً على ما تقدم فإن اللجنة ترى تحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه، وتذكِّر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى، ومراجعة أهل العلم الموثوقين ليتعلم منهم
ويبينوا له زلاته، ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والثبات على الإسلام والسنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
... عضو الرئيس ... ... ... ... ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان. عبد العزيز بن عبد الله بن محمد ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... آل الشيخ.
... عضو عضو ... ... ... ... ... عضو
بكر بن عبد الله أبو زيد. ... ... صالح بن فوزان الفوزان.(148/46)
قضايا دعوية
العمل الإسلامي
في مواجهة خطرين
د.سامي بن محمد صالح الدلال
وددت في هذه الدراسة أن أعبر عما في نفسي من الاستشعار بالخطر لما
يحيط ويحيق بالتوجهات الإسلامية عموماً، وسأتحدث هنا عن خطرين:
الخطر الأول:
التراجع المستمر والمضطرد في الفكر والممارسة من قِبَلِ التيار الإسلامي
لصالح التيار القومي، وقد برز هذا تحت ما يسمى بمد الجسور بين التيارين. فعلى
مستوى المجال الفكري ألَّف بعض الإسلاميين كتباً تدعو إلى هذا الاتجاه وتغذيه،
إضافة إلى ما يكتب من مقالات وما يصدر من بيانات. كل ذلك لا يصدر عن
إسلاميين غير منتمين فقط، بل يصدر عن إسلاميين منتمين يمثلون فيما يكتبون
جماعاتهم. وأما على مستوى الممارسة فحدث ولا حرج. وما المواثيق الوطنية
والمنابر المشتركة والتحالفات المكتوبة بين التيارين إلا بعض الأدلة على ذلك. وفي
تقديري أن هناك عدة أسباب لذلك أبرزها سببان:
الأول: فقدان التأصيل المنهجي الشرعي الذي تُحاكَم إليه الأفكار والممارسات. ... لذا نرى أن كثيراً من المسوِّغات التي يقدمها الإسلاميون لا تتعدى عموميات تدل
على ضحالة في الرجوع المؤصل للأدلة الشرعية. وبعضهم يقول: إنها مصالح
تقتضيها المواقف السياسية ولا داعي للبحث لها عن أدلة، فإذا ما أحرجته بقولك:
إن معنى ذلك تجسيد عملي لفصل الدين عن الحياة بجوانبها السياسية والاقتصادية
وغيرها، قال: إنها مصالح مرسلة! ! هكذا بكل بساطة. ولا أعلم إن كان هذا
القائل يعلم أن المصالح المرسلة هي ما اندرج تحت دليل كلي ولم يأت له دليل
خاص بمسماه أو بحالته. أي لا يعلم أن المصالح المرسلة خاضعة للأدلة الكلية
وليست متحررة من أي دليل! ! وللأسف أن المصالح المرسلة قد أصبحت شماعة
تُعلَّق عليها كافة الأفكار والممارسات العارية عن الدليل الشرعي.
الثاني: عدم إدراك الواقع وتغيرات العصر؛ إذ إن العالم يموج بصراع
الأفكار وصراع المصالح. وفيما يخص العالم الإسلامي فهناك توجه دولي لإبقاء
هذه المنطقة الإسلامية غارقة في جميع أنواع التخبطات التي تعيق أي انبعاث
إسلامي صحيح فيها. ولأجل ذلك قام التيار القومي في المنطقة العربية بمراجعات
واسعة لتقويم المرحلة السابقة. وقد عُقِدَتْ لأجل ذلك ندوات كثيرة ومؤتمرات
متعددة. وقد حاضر فيها أساطين الفكر القومي، وقُدِّمتْ دراسات مستفيضة اتسمت
بالمصارحة، واستمرت تُعقد ولا تزال منذ عدة سنوات.
إن أهم ما أفرزته تلك الندوات والمؤتمرات والدراسات ما يلي:
1 - إن الطرح القومي السابق لمس العاطفة العربية، لكنه لم يلمس العقل
العربي؛ فهو طرح شعارات وليس مناهج.
2 - إن الهزائم الكبرى للعرب في هذا القرن جميعها تمت في ظل الانبعاث
القومي، بل تم بعضها في ظل الحكم القومي، وكل ذلك أفقد الجماهير العربية
حماسة الالتفاف حول هذا الطرح، ثم أفقدهم بعد ذلك الثقة به، وخاصة بعد الهجوم
الهمجي البعثي على الكويت واجتياحها وتشريد أهلها.
3 - إن أكثر البلاد العربية تضرراً على مستوى الحريات السياسية والرفاه
الاقتصادي والأمن الداخلي كانت البلاد التي حكمها التيار القومي.
4 - إن الجماهير العربية قد اكتشفت أن التيار القومي كان غارقاً حتى أذنيه
في التنسيق مع الرأسماليين (أمريكا وأوروبا) خلافاً للشعارات والخطب التي كانوا
يدجِّلون بها على شعوبهم. وبعضهم الآخر كان ضالعاً في التنسيق مع الشيوعيين
(الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية سابقاً والصين) مع اطلاعه الكامل على الدور
الذي تقوم به تلك الدول لصالح اليهود ودعم (إسرائيل) وكان هذا التيار يغطي على
هذا الدور خدمة لمصالحه المتمثلة بالتمكين لأعداء الإسلام. إن هذا الاكتشاف
أوضح الازدواجية الخطيرة التي يظهر بها التيار القومي أمام الشعوب. وقد أدى
ذلك إلى سحب البساط من تحت أقدامه لصالح جهات متعددة.
5 - إن التيار القومي قد تعامل مع الجماهير العربية ليس فقط بطريقة
تتجاهل التاريخ المجيد للإسلام والحضارة العامرة التي شيَّدها المسلمون في أرجاء
الأرض، بل بطريقة تشوِّه ذلك التاريخ وتسدد له الطعنات، وتقفز فوق تلك
الحضارة كأنها لم تكن! ! إن إهمال التيار القومي للجذور التاريخية لهذه الجماهير
العربية والمتأصلة في عمق الزمن منذ خمسة عشر قرناً كان غلطة تاريخية! !
6 - إن التيار القومي لم يقابل التيار الإسلامي مقابلة فكر لفكر، بل مقابلة
صاحب سلطة لمعارض! ! وإن الجماهير العربية التي طالما صخَّت آذانَها أصواتُ
أحمد سعيد [1] وأمثاله قد أصبحت متعطشة لسماع صوت القسم الآخر الذي زُجَّ به
في السجون وأُزهقت أرواح أتباعه في الليالي المظلمة.
7 - إن التعامل القاسي الذي أظهره التيار القومي للتيار الإسلامي قد كوَّن
عطفاً جماهيرياً على ذلك التيار المضطَّهَد بغير وجه حق. وقد تأكد هذا العطف
بالتفاف الجماهير حول الرموز الإسلامية، أفراداً وجماعات، بعد التراجع القومي.
8 - إن مواقف التيار القومي الرافض لكل طروحات التيار الإسلامي جملة
وتقصيلاً قد أفرز التيار الإسلامي إفرازاً مستقلاً، في حين كان القصد تحطيمه
وإلصاق جميع الرذائل التاريخية على صدره وظهره، فإذا بالجماهير العربية
تكتشف بعد أن بدأ الغبار بالزوال أن هذا التيار يستعصي على التحطيم؛ لأنه يولد
مع كل مولود، وأنه يريد إبراز جميع الفضائل التاريخية من انتصارات وأمجاد
ليخاطب الجماهير من خلالها لتنتفض بعد سُبات وتستيقظ بعد رقاد. وهكذا اكتشف
التيار القومي أن موقف المفاصلة الذي اتبعه مع التيار الإسلامي كان غلطة تاريخية
أخرى! !
إن هذه النقاط الثماني هي أبرز ما نتج من حوارات ومناقشات وندوات
ومؤتمرات للتيارات القومية في المنطقة العربية؛ ولذلك رأوا أن لا بد من إعادة
تأكيد إبراز الوجه القومي وفق نموذجين:
- نموذج على مستوى دولة.
- نموذج على مستوى أحزاب ورواد فكر.
ويأخذ هذا التوجه القومي على عاتقه تلافي كافة السلبيات التي وقع فيها سابقاً، وأن يدرس بعمق وتحليل: لماذا أخفق النموذج الأول على مستوى الدولة،
والنموذج الثاني على مستوى أحزاب ورواد فكر؟ وأن يكون تحليل تلك المرحلة
وتقويمها على ضوء النقاط الثماني التي ذكرتها.
إن مرحلة الثمانينيات كانت مرحلة إبراز النموذجين اللذين سيحاولان تلافي
أخطاء مرحلة السبعينيات والستينيات وما قبلها. فعلى مستوى نموذج الدولة أُبرز
(العراق) ، وعلى مستوى الأحزاب أُبرز حزب البعث، كما أُبرز حزب التجمع في
مصر. وهناك محاولات مستميتة لتعويم حزب حركة التحرير الجزائرية قبل أن
يدركه الغرق! ! وعلى مستوى رواد الفكر أُبرزت رموز كثيرة، كما أبرز عدد من
الشخصيات التي تحترف وترتزق من الكتابات الصحفية، والمتمعن في مجريات
الأمور يلاحظ أن خطوات عملية (بعضها قد آتى ثماره) قد تم ترتيبها بخصوص
النقاط الثماني، وأوجزها مرتبة حسب ترتيب تلك النقاط:
1 - طرحت كتب ودراسات لبلورة الفكر القومي بشكل مناهج فكرية وسياسية
واقتصادية واجتماعية وغيرها. وعضت نواجذهم على (الحداثة) . وفي تقديري
أن الفكر القومي مع كل الذي فعل لم يستطع أن يخرج من دائرة الشعارات إلى
دائرة المناهج. بل حتى دائرة الشعارات قد جرى اختراقها؛ فشعار (الاشتراكية)
مثلاً قد انخرق ثوبه بعد إخفاق القطاع العام في مواكبة ضروريات التنمية. وهكذا
طرح القطاع العام في العراق ومصر وغيرها من الدول التي كانت مستظلة
بالاشتراكية للبيع.
2 - في إطار الهزائم والانتصارات: فإن انتصار العراق على إيران قد محا
من الذاكرة العربية كثيراً من الهزائم السابقة (لكنه أفسده باحتلال الكويت) .
3 - على مستوى الحريات السياسية: ضخ التيار القومي الحاكم مبدأ التعددية
الحزبية (العراق، سوريا، الجزائر، اليمن، الأردن، مصر) . أما على مستوى
الرفاه الاقتصادي فلا يزال التيار القومي الحاكم يواصل عدم نجاحه ويتابع تدهوره،
وأما على مستوى الأمن الداخلي: فلا تزال حملات القمع مستمرة؛ ولكن اقتضى
تلميع الوجه إطلاق حرية بعض السجناء غير السياسيين، أما السياسيون الذين
أُطلق سراحهم فقد تم تدبير أماكن لكثير منهم في المقابر! !
4 - إن العزف على الوتر الاشتراكي على حساب الوتر الرأسمالي قد أصابه
الخلل بعد الانهيار الشيوعي المروِّع، وقد أوقع هذا الانهيار التيار القومي في
حيص بيص. إن التيار القومي الحاكم وغير الحاكم يمر الآن في مرحلة هي دون
مستوى الرثاء بسبب الهزيمة الكبرى للاشتراكية العلمية وهي القاعدة التي انطلقت
منها حقيقة الأفكار القومية.
5 - أعاد التيار القومي انفتاحاً جديداً على التاريخ الإسلامي؛ ولكنه لم
يستطع أن يخرج من تفسيره له تفسيراً قومياً! ! ولذلك فهو يقع في تناقضات لا
حصر لها هي أقرب ما تكون إلى الأكاذيب والدجل! ! وسبب ذلك أنه لا يريد أن
يقر بدور غير العرب في بناء صرح ذلك التاريخ المجيد.
6 - إن عدم تمكن مقابلة التيار القومي للتيار الإسلامي مقابلة الند للند في
الجوانب العقدية والفكرية، جعلته يحاول الالتفاف على المواجهة وذلك بطرح فكر
قومي في قالب إسلامي؛ فقوم العرب هم مادة الإسلام الأولى، ولغة العرب هي لغة
القرآن والسنة، والديمقراطية هي الشورى، والاشتراكية هي التكافل الاجتماعي،
والحرية هي عنوان ما جاء به الإسلام لتحرير الإنسان، والوحدة هي التي قاتل
العرب لأجلها في القادسية واليرموك وغيرها.. حق وباطل، خير وشر، صدق
وكذب.
إنها حملة هائلة من التشويه تخرج بشكل دراسات وتُعقَد لأجلها مؤتمرات
وندوات. وليس من الحق أن نقول: إن هذه الحملة الشرسة لم تحقق بعضاً من
أهدافها! !
7 - لقد قام التيار القومي الحاكم وغير الحاكم باحتضان بعض الرموز
الإسلامية ودعمها وإعطائها الفرصة للتكلم من خلال أجهزته الإعلامية؛ مما أعطى
انطباعاً لدى بعض الإسلاميين أن التيار القومي بدأ طريق العودة إلى الحق
والصواب؛ فلا بأس إذاً من دعمه، وليست إلا سنوات ويكون بعدها التيار قد
تأسلم! !
8 - استطاع التيار القومي أن يعيد جسور الاتصال مع بعض ممثلي التيار
الإسلامي، وأصبح التياران في بعض الدول يتحدثان من على المنابر نفسها
ويرفعان الشعارات نفسها ويناديان بالمطالب ذاتها! ! وهكذا استطاع التيار القومي
أن يُفقِد التيار الإسلامي تميُّزه على الساحة الحركية إضافة لإفقاده تميزه على الساحة
الفكرية.
بعد ذلك أقول: إننا الآن على أبواب المحاولات الشاملة لسحب البساط كلية
من تحت أقدام التيار الإسلامي لصالح التيار القومي. ثم أضيف نقطتين:
الأولى: إن هذه الصورة القاتمة لن تستطيع حجب الإشعاعات الإسلامية
المتدفقة من أرجاء شتى في المعمورة، والوضع الإسلامي الآن يختلف كلياً عن
الوضع الإسلامي في الستينيات. ويمتاز عنه بأمور:
1 - أن التيار الإسلامي أصبح يمتلك رصيداً من التجربة المعاصرة في
مقارعة المفسدين ومعرفة جيدة بأساليبهم.
2 - أن التيار الإسلامي قد تحرر نسبياً من عقدة الوصم بالتخلف والرجعية.
3 - أنه أصبح أكثر وضوحاً من حيث موقفه من الغرب سياسياً وحضارياً.
4 - أنه بدأ يمارس الجهاد عملياً وواقعياً بعد أن كان ذلك مجرد سطور في
الكتب.
5 - أنه أصبح له دور فاعل في الأرض المحتلة في فلسطين.
6 - أن بصيص التأصيل الشرعي بدأ ينشر شعاعه شيئاً فشيئاً بين الجماهير
الإسلامية.
7 - أن المفهوم الحقيقي لعقيدة أهل السنة والجماعة قد أصبح أكثر وضوحاً
لدى بعض القيادات الإسلامية ولدى كثير من الشباب المسلم.
8 - أنه بدأ إعادة امتداده في إفريقيا وآسيا إضافة لإثبات وجود فاعل في
أوروبا وأمريكا.
9 - أنه أصبح لديه رصيد كبير من مختلف الاختصاصات العلمية التي
ساعدت على تغلغله في جميع الشرائح والمرافق الوظيفية والعلمية والاقتصادية
والثقافية وغيرها.
10 - أنه أصبح أكثر نضوجاً وشجاعة لوضع منطلقاته السابقة تصورياً
وحركياً تحت منظار التقويم وإعادة النظر.
وأمور أخرى.
إنها مجموعة من الإيجابيات، ولكن ذلك لا يعني أننا لا نخاف على الوضع
الحالي من الانتكاس؛ لأننا وللأسف بدأنا نرصد خطاً تراجعياً في الفكر والممارسة
لهذا التيار. إن وظيفتنا تشخيص أسباب التراجع ثم الدفع لمواصلة التقدم إلى الأمام
كي لا تضيع منا تلك الإيجابيات الممتازة التي حصل عليها التيار الإسلامي.
الثانية: إن قضية الانبعاث الإسلامي الجديد أصبحت تقض مضاجع جميع
أعداء الإسلام. والذي أخشاه أن يُعطى الواقع الإسلامي حجماً أكبر من حجمه
الحقيقي، ثم تأتي المخططات والوقائع على مستوى ما أعطي من حجم، لا على
مستوى حجمه الحقيقي؛ مما يؤدي إلى خلل في تنفيذ المشاريع الإسلامية القادمة،
تصورياً وحركياً، أضف إلى ذلك: أننا سنكون مقبلين على أوضاع استثنائية
أخرى عندما تبدأ موجة هجرة اليهود الأمريكان بعد هجرة اليهود الروس. وكيف
سيكون تعامل الإسلاميين مع الأوضاع الجديدة؟ وما هي نظرتهم وتقويمهم لتلك
الأوضاع؟ هذا ما ينبغي أن يكون محل نظر ودراسة وتخطيط.
الخطر الثاني:
وسأذكره باختصار؛ وخلاصته: حال التشتت والفرقة بل أحياناً العداء الذي
يلف ساحة العمل الإسلامي؛ إذ إن حال الشتات في العمل الإسلامي هو وجه من
أوجه كثيرة من اختلال شخصية الفرد المسلم المعاصر واهتزازها.
وداء الفرقة والشتات هو أحد أوجه الاختلال والاهتزاز الفكري والتربوي.
وهذا معناه أن الصياغة الفكرية والتربوية التي يتعرض لها الفرد المسلم
تحتاج إلى إعادة نظر! ! وأقصر كلامي هنا على الفرد المسلم الملتزم بدينه:
إن هذا الفرد هو أحد اثنين: إما منتمٍ إلى جماعة إسلامية. وإما غير منتم.
فأما الفرد المسلم غير المنتمي لجماعة إسلامية فوضعه الفكري والتربوي
يتبلور في أغلبه بتأثير الوسائط الخارجية من إعلام ووسط اجتماعي ومحيط بيئي؛
وهو يغالب هذا التأثير بوسائله الخاصة من مطالعة للكتب الإسلامية أو التعايش مع
وسط محافظ من الأصدقاء والأقرباء، ومعظم هؤلاء الأفراد مشوشون من الناحية
الفكرية ومن ناحية النظرة التربوية الإسلامية.
وأما الفرد المسلم المنتمي لجماعة إسلامية فوضعه الفكري والتربوي بحسب
المدرسة التي تتبناها جماعته. وهناك عدة مدارس: كالإخوان، والسلفيين،
والتبليغ، والتحرير، وأنصار السنة.. إلخ. هذا الفرد كذلك يتعرض للوسائط
الخارجية التي يتعرض لها المسلم غير المنتمي إضافة لمدرسته، والبدهي أنه لا
يمكن أن نفكر بوجود عمل إسلامي موحد عندما يكون أفراده غير موحَّدي الفكر ولا
موحَّدي المنهاج التربوي.
ومن هنا تتحدد لنا البداية السليمة في جمع الشتات المبعثر للعمل الإسلامي؛
إذ إن تعصب القيادات الإسلامية، كل لجماعته، قد حال دون الاستخدام الفوقي (أي
القيادي) لقرار التوحيد الحركي للعمل الإسلامي، ولما كانت التربية المتبعة
باستمرار غالباً ما تكون تحت معادلة: ما عندنا حق وما عند غيرنا ليس كذلك! !
فإن قضية لمِّ الشتات الإسلامي أصبحت قضية معقدة! ! ولكن لا مندوحة من وضع
الحلول اللازمة لها.
إن الحل الذي أطرحه هو التوجه المباشر نحو الفرد المسلم المنتمي وغير
المنتمي، ومخاطبته فكرياً وتربوياً بطريقة تتخطى التوجيهات الحزبية المسبقة.
ولكن من الذي يقوم بهذا الخطاب؟ ! وكيف يبلور الخطاب إلى واقع عملي يحقق
المفهوم التربوي؟ ! وما هي الأساليب التي يتحقق من خلالها الولوج في الطريق
الموصل للهدف مع مراعاة اختلاف البيئات والمستويات والانتماءات؟ ! وما هي
المراحل التي تقترح للوصول لتلك الغاية؟ وما هي التوقعات لنسب النجاح؟
وما.. وما.. وما.. أسئلة كثيرة.
في تقديري المتواضع أن مثل هذا الأمر لا بد أن تعقد لأجله ندوات كثيرة
لأجل لملمة حيثياته وصياغة وسائل تنفيذ مراحله، وأن يشارك في ذلك
المتخصصون وأصحاب التجارب من الإسلاميين.
إن السؤال الذي يُطرَح عنواناً لتلك الندوات والدراسات هو: كيف نستطيع
في عالمنا المعاصر إعادة صياغة الشخصية الإسلامية بحيث تكون معبرة عن
انتمائها لأهل السنة والجماعة عقيدةً وسلوكاً؟
إن مجموع هذه الشخصيات هي التي تشكل قاعدة الانطلاق في لَمِّ شتات فرقة
العاملين للإسلام. لا أحسب أنني وفَّيت ما أريد قوله في هذا الأمر الثاني، وأظن
أنني بحاجة إلى شرحه مسهباً في موضوع منفصل؛ لأن شرحه يطول ويتفرع،
ولكن أقصى ما أستطيع ذكره هنا أن هذا الطرح لهذه المسألة له حالياً رصيد من
الواقع وقد بدأ يؤتي ثماره وأُكُله، ولكن الطريق طويل وطويل، والاستعانة بالله
وحده.
__________
(1) مدير إذاعة صوت العرب في عهد جمال عبد الناصر.(148/48)
تأملات دعوية
حول التجديد والإبداع
محمد بن عبد الله الدويش
يكثر الحديث هذه الأيام في أدبيات الصحوة حول التجديد والإبداع والابتكار،
وتجد الكتب والدراسات التي تطرح حول الابتكار والإبداع رواجاً وانتشاراً بين
القراء وإن كان كثير منها ليس فيه جديد.
والتجديد والابتكار أمر لا ينبغي أن ينازَع في أهميته؛ فهو يفتح مجالات
جديدة للدعوة، ويسهم في توسيع دائرة انتشارها وتأثيرها، ويُذهِب السآمة والملل،
ويجدد الهمة والروح لدى العاملين والدعاة.
إلا أن هناك أموراً ينبغي مراعاتها في ذلك، ومنها:
1 - الاعتدال والاتزان في ذلك، وإعطاؤه ما يتناسب معه من اهتمام دون
إفراط أو تفريط، ومهما علا شأن التجديد والابتكار فليس فقدانه هو مشكلتنا الحقيقية، بل مشكلتنا الأكبر من ذلك أننا لا نعمل، فكم هي الفرص المتاحة اليوم أمام الناس
للمشاركة في الدعوة والتي لها أثر بالغ ونتائج ملموسة؛ ومع ذلك نرى إحجاماً
وتقاعساً عنها! أليست هناك مشروعات ناجحة ومؤثرة لا ينقصها إلا المال والدعم؛ الإعلام؟ وها هي المجلات الإسلامية، والمؤسسات الدعوية تبذل جهوداً مضنية
في البحث عمن يشارك في أعمالها الدعوية فتلجأ أخيراً إلى الاعتماد على من
يستجيب لها بغضِّ النظر عن تأهيله ... إنها ميادين كثيرة، وفرص متاحة تبحث
عن العاملين الجادين أيُظن أن هؤلاء سينشطون حين تظهر الأفكار الواعدة
والإبداعات المرتقبة؟
2 - أن التجديد والإبداع ينبغي أن يبقى في دائرة الوسائل والبرامج، ولا
يتجاوز ذلك إلى المناهج والغايات، وينبغي الحذر من حمل النصوص الشرعية في
التجديد والمجددين على ذلك كما يفعل بعض الناس؛ إذ نصوص التجديد تعني
تجديد أمر الدين للناس.
3 - حين يُبَالَغ في البحث عن التجديد والسعي إليه فكثيراً ما يكون ذلك على
حساب الغايات والأهداف، فيتحول التجديد من وسيلة إلى غاية، وتُفَرَّغ البرامج
الدعوية من مضمونها، أو يذوب الجانب الدعوي فيها فلا تؤدي ثمرتها.
4 - ينبغي ألا تؤدي المطالبة بالتجديد والإبداع إلى احتقار البرامج والوسائل
الدعوية التي ألفها الناس واعتادوها وتركت آثاراً كثيرة في المدعوين؛ فهناك من
يقلل من شأن توزيع الكتاب والشريط وبناء المساجد، ويدعو إلى تجاوزها
والانطلاق إلى وسائل تناسب تحديات العصر، فلا هو أعطى من يستمعون إليه
برامج ووسائل عملية، ولا هو ترك الناس يسهمون في هذه الوسائل التي ربما لا
يجيدون غيرها، فيُزهِّدهم فيها وقد رأوا ثمراتها من دخول طوائف في الإسلام،
واهتداء كثير من الفساق وصلاح أحوالهم، ونشر السنة والخير وتعليم العلم بين
الناس.
5 - ينبغي أن لا ننسى أن خطابنا الدعوي يوجه للعامة دون أن يقتصر على
النخب، والعامة يتفاعلون مع كثير من الوسائل المعتادة المألوفة وتترك أثرها فيهم.
6 - قد يؤدي الإفراط في ذلك إلى تخريج طائفة ممن يجيد القول وتنميق
الحديث ويفتقد العمل؛ فترتفع أسهم الذين يحترفون الجدل وطرح القضايا الكبار
دون أن يكون لهم رصيد في الواقع العملي؛ أو بمعيار أدق أولئك الذين يقولون ما
لا يفعلون، في حين أننا بحاجة ماسة إلى طائفة ممن يعملون ويضحون بأوقاتهم
وجهودهم في سبيل الله عز وجل؛ وما أقل هؤلاء!
ومع ذلك كله يبقى التجديد والإبداع مطلباً مهماً، ويبقى جيل الصحوة بحاجة
إلى أن يربى عليه، وتبقى الأفكار الجديدة تختصر خطوات، وتفتح مجالات الدعوة، ولكننا ندعو إلى الاعتدال، وإلى أن يأخذ كل جانب حجمه الطبيعي دون إفراط أو
تفريط.(148/54)
دراسات تربوية
توبة الأمة
محمد بن إبراهيم الحمد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فإن الحديث عن التوبة ذو شجون، والكلام عليها متشعب طويل؛ فللتوبة
فضائل وأسرار، ولها مسائل وأحكام، وهناك أخطاء تقع في مفهومها، وهناك أسباب تعين عليها، ثم إن الحديث عن التوبة يشمل كافة الناس، ويخاطب جميع الطبقات، ويُحتاج إليه في جميع مراحل العمر.
ومع عظم شأن التوبة، وشدة الضرورة إليها إلا أن هناك تقصيراً في شأنها،
وخللاً كبيراً في مفهومها، وغفلة مستحكمة عن المبادرة إليها، وإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي
مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتصْدقُ في التوبة والإنابة إلى رب
العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من رِباً، ومجون، وفسق، وشرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وتقصير في تبليغ دعوة الله وإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو مؤذِن بالعقوبة، وحلول مقت الله. نسأل الله السلامة.
فإذا تابت الأمة إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض، قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: 55] .
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى: ... [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ
الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ] [يونس: 98] ، وهؤلاء القوم الذين
ذُكِروا في هذه الآية هم قوم يونس عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.
ومعنى الآية كما يقول المفسرون: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم
العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس عليه السلام قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرَّقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: [مَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍُ] [يونس: 98] ، أي لم نعاجلهم بالعقوبة، استمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.
فما أحوج أمتنا اليوم إلى أن ترجع إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها،
ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.
وسنتوقف عند بعض المحطات التي يحسن بالأمة التأمل فيها والأخذ بها:
أ - التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذِن هلاك؛ فهو يفضي
إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المُقلِّين أو المعدمين. والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير. أمَّا أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرص على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس
في الترف يحرص على اكتساب المال؛ يشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق
الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى زينة أو
لذة، أو مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع
قلبه كان أعظم قصده من جمع المال إنفاقه فيما يَلَذُّ له من مأكول أو يتزين به من نحو ملبوس، أو مفروش.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده
إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة. ولهذا تجد من الموسِرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سُئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛
ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو
المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة
بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق على الأمة التي تريد النهوض من كبوتها
أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال
على غير حكمة وحسن تقدير.
قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: (إن أمة تنفق الملايين
في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها) [1] . وقال رحمه الله: (المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار. أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار) [2] .
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سُنَّة واحدة من
الإعراض عن الزينة والملاذِّ فقد قال تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] [الأعراف: 32] ، وإنما المقصود من ذلك: الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق
الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً فقال تعالى: [ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً] [الإسراء: 26] ، وقال تعالى: [لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ] [الإسراء: 29] .
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى: [إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ] [الإسراء: 27] ، وعدَّهم في زمرة من يستحقون بُغضه فقال عز وجل: [وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا] [الأعراف: 31] ، وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة
الاقتصاد فقال: [والَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً]
[الفرقان: 67] .
(وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة كان واجباً
على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة
في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة: كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها) [3] .
2 - التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ويندى له الجبين
ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تكاد ترى كثيراً منهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بسيئ أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا
في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.
ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم
شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم.
لا! ليس الأمر كذلك؛ وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى
الكون، والحياة، والإنسان.
يحملون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة، وبجهلون قيمه
الإسلام، ومُثُلَه، وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.
ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم، ويجهلون
القُوى التي حاربتهم، والمؤتمرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء
عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهوا الغرب، وحضارته،
وفنه، وأدبه لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة فاحصة مقوِّمة؛ وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة؛ فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار
والنافع، فنكسوا رؤوسهم حطة أمام الغرب.
ولهذا تراهم يهشون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس
إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب، على اختلاف توجهاتهم ... ومدارسهم الفكرية. وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
ومن هنا فإن مثقفينا في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند
الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب. وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية؛ ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين. والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمان بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.
أما الحياة بشمولها فإنها في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر
الزمان والمكان [4] .
يقول الدكتور محسن عبد الحميد: (من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً
التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:
* في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها من
أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.
فلما سئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا
متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.
ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب
كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.
* وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه
الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا
بعمق نظرية قانونية كان يعتقد أنها نظرية غربية صرفة.
* وكنا نتناقش يومياً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛
فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوّاماً عليها.
فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة؟ حتى نحدد موقفنا
منه تلعثم ولم يعرف معناها.
فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا
تعرف معنى القوامة) [5] .
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛
فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.
وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم،
ويسيرون على طريقهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.
وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب
ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته. ...
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت،
وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى،
وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء. فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم، وينس ما فعلوه به؟ وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود؟ وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟ وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على
الصليبيين؟ ألم يُنعم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه.
فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ الإسلام؛ مما كان لها أبلغ الأثر في
محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين،
وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوروبا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يُعَدُّ أولئك هم طلائع حضارة أوروبا؟
فمَنِ الهمجُ العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن
الذين لوَّثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وأن لا ينظروا إلى الغرب
بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟ هذه هي حال كثير من مثقفينا، ... ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم لهبطوا بكثير من
شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتة وفرحاً. والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.
فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه
على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو تحذر الأمة عاقبة هذا الذي يبدو
على أفواههم.
فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها
الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبيل رقيها وفلاحها.
وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من
مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.
أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك
محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف
مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي، ونوع ما تأخذ، وهي التي تُعِدُّ نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ، وما تدع، وما تعطي، وما تمنع.
هذا وإن من أولئك النفر من تكون له شهرة أدبية أو مكانة اجتماعية؛ فكلما
همَّ بالرجوع عن بعض آرائه المخالفة للشريعة أقصر عن ذلك؛ مخافة ذهاب الجاه والشهرة، وحرصاً على أن يبقى احترامه في أصحابه وموافقيه غير منقوص.
ولا ريب أن ذلك نقص في شجاعة الإنسان ومروءته، بل إن ذلك نقص في
عقله، وعلمه، وديانته، وأمانته.
وإلا فإن الكريم الشهم الشجاع العاقل هو ذاك الذي يرجع عن خطئه، ولا
يتمادى في غيه وباطله؛ فذلك مما يرفعه عند الله، وعند خلقه؛ فلماذا يستوحش من الرجوع إلى الحق؟
فمقتضى الدين، والأمانة، والمروءة أن يصدع بما استبان له من الحق، وألا
يمنعه من الجهر بذلك أن ينسب إلى سوء النظر فيما رآه سالفاً؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يُبَرِّئ نفسه من الخطأ، ويدعي أنه لم يقل ولن يقول في حياته إلا صواباً.
ثم إن الشهرة والجاه عَرَضٌ زائل ينتهي بنهاية الإنسان؛ فماذا ينفعه إذا هو
قدم على ربه إلا ما قدم من صالح عمله، ولقد أحسن من قال:
تسائلني: هل في صحابك شاعر ... إذا متَّ قال الشعر وهو حزين؟
فقلت لها: لا همَّ لي بعد موتتي ... سوى أن أرى أُخراي كيف تكون
وما الشعر بالمغني فتيلاً عن امرئٍ ... يلاقي جزاءاً والجزاء مهين
وإن أحظ بالرُّحمى فما لي من هوىً ... سواها وأهواء النفوس شجون
فخلِّ فعولن فاعلاتن تقال في ... أناس لهم فوق التراب شؤون
وإن شئت تأبيني فدعوة ساجد ... لها بين أحناء الضلوع حنين
__________
(1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، 3/345.
(2) المرجع السابق، 3/365 366.
(3) انظر محاضرات إسلامية للشيخ محمد الخضر حسين، ص 140 147.
(4) انظر أزمة المثقفين تجاه الإسلام د محسن عبد الحميد، ص 49، 51، 66، 67.
(5) أزمة المثقفين تجاه الإسلام ص 52، 53.(148/56)
قضايا دعوية
حمل الرسالة ومقاومة الاستضعاف
د. جلال الدين صالح
لم يكن الدين أبداً مجرد معرفة قلبية لا صلة لها بقول اللسان وعمل الجوارح؛
فذلك محض ابتداع لا يعرف له الإسلام مصدراً سوى قلوب الذين مرقوا عن فقه
الدين على أصوله الصحيحة.
ومن الضروري أن تكون هذه الحقيقة عند حامل الرسالة محل إقرار واعتبار، ينطلق منها في بسط رسالته وإيصالها إلى قلوب الناس، ويدفع بها ما لا بد منه من ابتلاءات حمل الرسالة؛ ذلك أن الإسلام اليوم يعاني غربة في مفاهيمه أشبه بالتي عاصرها في أول تجدده برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون انجلاؤها إلا على أيدي حاملي الرسالة الذين نعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغرباء في قوله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى ...
للغرباء) [1] .
وهم وحدهم الذين يقدمون الدين غضاً طرياً كما أُنزِل (ينفون عنه كما قال
الإمام أحمد رحمه الله: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين) [2] ، فيتداعى عليهم الجاهلون، ويمكرون بهم سوءاً. إلا أنه مهما اشتدت ضائقتهم فلا بد من يوم تنفرج فيه، ويمكَّن للدين كما مُكّن له من قبل، ووعد الله يتجدد كلما تجددت شروطه: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] .
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه: أنه
ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقرّ أعينهم ممن آذاهم. قال السدي: لم يبعث الله
عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا) [3] .
ولكن سنة الله في حمل الرسالات اقتضت أن يقرن بها ابتلاءات التمحيص
والتمييز حتى يميز الخبيث من الطيب.
قال ابن كثير رحمه الله موضحاً معنى قوله تعالى: [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] [آل عمران: 140] : (أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم
العاقبة، لما لنا في ذلك من الحكمة) [4] .
وما كان فضل الله على بني إسرائيل إلا بعد ابتلاء لحق بهم وأذاقهم مر
الحياة: [وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: 137] .
كذلك كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم تحيط بهم المحن من كل جانب،
إلا أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم بتغلب الدين على شانئيه، وظهوره على
الكافرين كان يملأ جوفهم إيماناً، ويُذهِب عنهم عناء الطريق، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (واللهِ ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [5] .
بل إنه صلى الله عليه وسلم ساعة خروجه من مكة مهاجراً إلى ربه ظل يرى
من وراء هذا الحدث تَمَكُّن الدين وعلوَّه، يثبت صاحبه الصدّيق رضي الله عنه
بقوله: [لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا] [التوبة: 40] ، ويعد سراقة بسواري كسرى.
وما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم مجرد وعد مبتور عن أسباب تحققه،
ولكنه كان وعداً موصولاً بدرء القنوط، وعقد العزيمة على النهوض، ومغالبة الباطل حسب مراعاة ظروف الحال والمآل؛ لذا قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: (الأمة المستضعفة ولو بلغت في الضعف ما بلغت لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور خصوصاً إذا كانت مظلومة، وأن الأمة مادامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها، ولا تتكلم به لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها، ولا يكون لها إمامة فيه) [6] ؛ ذلك أن ... نزع الاستضعاف عن الذات طريق من طرائق الارتقاء بهذا الدين نحو مقاصده، وسبب من أسباب مَنِّ الله على المستضعفين من عباده. وترويض الذات على نزع
الاستضعاف، ودفعه بجهدها وجهادها ضرورة من ضروريات حمل الرسالة؛
فما كان الاستضعاف أبداً حالة لازمة غير قابلة للانفكاك؛ ولكنه نوع من الابتلاء
تجب مغالبته ومجاهدته.
والابتلاء به ليس شراً خالصاً بل في طياته من الخير الكثير؛ فهو يُدني من
مقام الأخيار، ويوثِّق الصلة بالله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من أشدِّ الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) [7] .
وقال: (إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم؛
فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) [8] .
ولكنْ من الغلو في الدين تعقُّبُ مواطن الابتلاء، والسعي للوقوع فيه، لقوله
صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل
نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) [9] .
وحذَّر صلى الله عليه وسلم وهو المجاهد الأكبر أصحابه من التشوق إلى
ملاقاة العدو بقوله: (لا تمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا) [10] .
قال ابن بطال: (حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو
نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصدّيق: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أُبتلى فأصبر) [11] .
لهذا من الخطأ أن ينهج حاملو الرسالة وهم يقاومون الاستضعاف مسلكاً دعوياً
يجلب عليهم من الابتلاءات ما لا يطيقون، أو يقعد بهم مقاعد القاعدين، بل لا بد
من أن يحكم مسارهم الدعوي منهج أهل السنة والجماعة، وإلا جرفهم منهج
الجموح، أو الجمود، وهما منهجان لا يسلكهما إلا أولئك الذين يبغون الإسلام عوجاً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا تقوم تأصيلاتهم إلا على تجاوز النصوص بالتعطيل تارة، أو التأويل على هوى الذات واعتقاداتها المتأصلة سلفاً تارة أخرى، ويتسم السائرون عليهما بالانحراف في معالجة الانحراف؛ فمنهم من يرى لزوم إلغاء الجهاد ابتداءاً حتى ظهور الإمام الغائب كتيار الرفض، أو حمله على نوع من النسك يوهن البدن كنهج التصوف، ومنهم من يرى في حمل السيف فريضة شرعية محتومة يلجأ إليها في تصويب كل ما يبدو له نكوصاً عن الدين، كما هو فقه الخوارج خلافاً لمنهج أهل السنة والجماعة الذي يأخذ في الحسبان مراعاة الأحوال ومآلات الأمور، ويتقدم بالدين نحو غاياته بوسطية واعتدال.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان 1/130، رقم 232.
(2) الرد على الزنادقة والجهمية /1.
(3) تفسير القرآن العظيم 4/83 84.
(4) تفسير القرآن العظيم 1/408.
(5) البخاري مع الفتح، كتاب المناقب 6/619، حديث رقم 3612، وأيضاً في الإكراه 12/315، حديث رقم 6943.
(6) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/34.
(7) أحمد في مسنده 6/369، رقم 27124، وانظر أيضاً سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/66.
(8) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء رقم 2398، وابن ماجة في الفتن، باب الصبر على البلاء رقم 4023.
(9) ابن ماجة، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم 4016.
(10) البخاري مع الفتح 6/181، رقم 3025، باب لا تمنوا لقاء العدو.
(11) البخاري مع الفتح 6/181.(148/64)
قضايا دعوية
التدرج في الإصلاح والتغيير
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
روى لنا صاحب الحلية أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه
عمر بن عبد العزيز فقال:
(يا أمير المؤمنين! إن لي إليك حاجة، فأخْلِني وعنده مسلمة بن عبد الملك
فقال له عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فقال: نعم! فقام مسلمة وخرج، وجلس بين يديه
فقال له: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم
تُمِتْها، أو سنة لم تُحْيِها؟ فقال له: يا بني أشيء حَمَّلَتْكَهُ الرعية إليَّ، أم رأي
رأيته من قِبَل نفسك؟ قال: لا، واللهِ، ولكن رأي رأيته من قِبَل نفسي، وعرفت
أنك مسؤول؛ فما أنت قائل؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك الله من ولد خيراً؛
فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير. يا بني! إن قومك قد شدُّوا هذا
الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريدُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم
لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء، واللهِ لَزوالُ الدنيا أهون عليَّ من أن
يهراق في سببي محجمة من دم، أَوَ ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام
الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا
بالحق وهو خير الحاكمين؟) [1] .
وبعد هذا الحوار الجميل الحكيم بين خليفة المسلمين العادل وابنه الورع الزاهد
رحمهما الله تعالى يمكن لنا تسجيل الدروس الآتية:
1- دور البطانة الصالحة للحاكم المسلم وبخاصة إذا كانت من قرابته كما هو
ظاهر في نصح هذا الابن البار المشفق على أبيه الخليفة العادل، وهذا من علامة
توفيق الله عز وجل للحاكم المسلم. ولكن متى يظهر أثر البطانة الصالحة؟ إنها لا
تظهر إلا إذا وجد الاستعداد الصادق عند الحاكم؛ بحيث يظهر عليه حب أهل الخير
والسعي إلى تقريبهم، وبُغض أهل الشر والنفاق والنفور منهم، وأما إذا وجد العكس
من ذلك فإن الأثر سيكون ضعيفاً؛ بل وربما كان معدوماً.
2- التماس العذر لمن لم يتمكن من أهل الخير من الإصلاح السريع وتغيير
كل الفساد الذي يقوم به مَنْ تحت أيديهم، ويكفينا أن نرى السعي الجاد للتغيير من
قِبَلهم، وأن نرى الخير يزداد والشر يتناقص يوماً بعد يوم ولو كان ذلك قليلاً. وهذا
الكلام يسري من باب أوْلى على من تولى من أهل الخير الحكم في بلد من بلدان
المسلمين وأراد صادقاً أن يحكم بشريعة الله عز وجل وأن يحارب الفساد العظيم في
مرافق الحياة الذي ورثه ممن سبقه، فهنا يجب أن نطبق ما قال عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه لابنه حينما طالبه بالتغيير السريع الشامل، ونلتمس العذر
فيما يقوم به الحاكم الصادق من التغيير المتدرج، ويكفي أن نلمس الصدق والإرادة
الحازمة منه في التغيير، وأوضح القرائن على ذلك الصدق في العزيمة والبدء في
إبعاد البطانة الفاسدة عن مواقع التأثير، وتقريب البطانة الصالحة. أما أن يبقى
أهل السوء والفساد في مواقعهم ويظل أهل الصلاح مبعدين فإن هذا يدل على عدم
المصداقية وكذب ما يعلن؛ وإنما هو للاستهلاك وكسب عواطف المسلمين. وهذا
يذكرنا بما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن حاكم البلد الفلاني قد أعلن تطبيق
الشريعة وتحكيمها فيغتر بهذا الادعاء من يغتر من المسلمين مع أن القرائن تدل على
كذبه ونفاقه؛ وذلك لأنه لو كان صادقاً لبدأ أول خطوة في التغيير ألا وهي تغيير
البطانة الفاسدة، وإبدالها ببطانة صالحة تستلم مواقع التغيير، وهنا يُلتَمَسُ العذر له
في التدرج وعدم العجلة في التغيير. أما أن يبقى أهل الشر في تسلطهم، ويظل
أهل الخير مبعدين أو مغيبين في السجون، والشر والفساد في زيادة واستفحال؛
وهو أبعد ما يكون عن الإسلام فإن هذا لا يجدي شيئاً وإنما هو مجرد نفاق ولعب
على جهلة المسلمين ومغفليهم، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث
يقول: (لست بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يخدعني) .
3 - التدرج في دعوة الناس، وعدم مطالبتهم بالتغيير السريع في أنفسهم؛
وذلك لما ألفوه وتلبسوا به دهراً طويلاً من الزمان من المنكرات والمخالفات،
وضرورة أخذهم بالرفق والبدء بالأهم فالمهم.
ومما يدخل في ذلك ما ينبغي أن يقوم به المربون في تربيتهم لأولادهم
وطلابهم، وأن لا يطالبوهم في بداية تربيتهم بما يطالبون به أنفسهم أو من أمضى
سنوات في التربية والتزكية، ولذلك قيل: على الزاهد أن لا يجعل زهده عذاباً على
أهله وإخوانه.
ومما يلحق بذلك أيضاً: التدرج في دعوة الداخلين في الإسلام حديثاً، وأن
يبدأ معهم بالأهم وهو توحيد الله عز وجل وبيان ما يضرهم من الشرك بجميع
أنواعه، ثم إعلامهم بواجبات الإسلام العينية ومنهياته. ولا يعني هذا التسويف
واتخاذ التدرج وسيلة للإبطاء بالالتزام بأحكام الله تعالى؛ وتطبيق شرعه، بل
المقصود الرفق بالمدعو وأن يبدأ بالأهم الذي هو الأصل في النجاة من عذاب الله
تعالى؛ إذ ما قيمة أن يصلي الداخل في الإسلام أو يحج أو يصوم وهو لا يعرف
التوحيد، أو لا يزال متلبساً بما كان عليه في ديانته السابقة من شرك بالله تعالى؟
__________
(1) حلية الأولياء 5/382.(148/66)
نص شعري
صيحة في وادي السكون! !
إنها صيحة أطلقتها (القدس) منذ عشرات السنين في وادي السكون!! ! ذلك ...
الوادي الذي لا تسمع فيه حِساً، ولا همساً!! ولم تزل المدينة المقدسة تطلق صيحاتها ...
مراراً وتكراراً.. لكن بلا جدوى؛ لأنها «صيحات في وادي السكون» إلا أن تلك
الصيحات «إن ذهبت اليوم مع الريح.. فقد تذهب غداً بالأوتاد!»
علي بن جبريل بن أمين
وطنٌ يباع وأمةٌ تنساقُ ... ودمٌ يراق.. وأدمعٌ تهراقُ!
ومدينة الإسراء تندب حظها ... وتصيح: واذلاه حين أساق
واحسرتاه إذا تدنس باطني ... بخُطا اليهود، وضُيِّعَ الميثاق
واحسرتاه إذا تعرقلت الخُطا ... من بعد أن قد بانت الأوراق
واحسرتاه إذا تقهقر مسلم ... وكبا جوادُ الفارس السبّاق!
واحسرتاه إذا تمزق جهرةً ... ثوبُ العفاف، وضاعت الأخلاق
وازْورَّ وجه الصدق في قسماته ... والكاذبون وجوههم إشراق! !
يا مسلمون! أمات عهدكمو وقد ... كانت تهزكمو لي الأشواق؟
أوّاه يا عمر.. فكم من محنةٍ ... جُرِّعتُها والدمع بي رقراق!
أقبلْ إلينا وامحُ عني حقدهم ... وانفِ اليهود! فكم لزُورٍ ساقوا!
واضرب بِدُرَّتِكَ النيامَ بأرضهم ... من مسلمين؛ فإنهم ما فاقوا
يا مسلمون! أليس لي في قلبكم ... حُبّ ووِدٌ زانه إشفاق؟
مسرى نبيكم يدنَّس جهرةً ... كلبٌ يدنِّس أرضه وبصاق! !
قد كنت في عهد الأكابر كوكباً ... شمخت إليه الجيد والأعناق
كان الرجال يلون عني مجرماً ... بسيوفهم؛ كم طارت الأعناق!
كانت جموع الحق تغشى مسجدي ... من بين باكٍ هده إشفاقُ
وهناك من يتلو الكتاب مرتِّلاً ... وهنا ركوع كله إطراق
قد كنت قبلة أمةٍ مكيّةٍ ... قُدسيةٍ، ذلَّت بها الفساقُ
والآن.. فانظر من يهيم بساحتي ... هذا يهوديٌ.. وذاك نفاق!
كانت جوانب مسجدي معمورةً ... نورٌ يزين ساحَها ورُواق
والآن يا هذا تسيل مدامعي ... أبكي وأصرخ.. أشتكي.. أشتاق! !
لكن بلا جدوى، كأني لم أزلْ ... أبكي وأصرخ للألى ما فاقوا!
أُمسي.. أقول لعلكم تأتونني ... عند الصباح؛ فلا ترى الأحداق
إلا الصباح يجيبني في لوعتي! ... وهناك يأسى قلبي الخفّاق
كشف الستار؛ فبان كل مخبّأٍ ... خلف الستار، وفُكت الأطواق
كلٌّ يريد من الحياة بقيّةً ... يحيا بها! وتضمه الآفاق
واليوم لا أملٌ أراه محلّقٌ ... إلا المخازي لفَّها الإزهاق
الآن إخواني ألفت سكونكم! ... وعرفت ذلتكم.. لذاك أساقُ
إن كنتمُو لا ترغبون بنصرتي ... فالله ينصرني، هو الخلاق(148/68)
البيان الأدبي
أدبيات
دندن الوهم بقلبي
محمد عبد السلام الباشا
هل تَراني من عذابي لا أُعاني؟
أم تَرى أنّي فقدتُ الحسَّ
حتى في كَياني
أم تَرى في الجرحِ غِمداً من سِناني
لستُ أدري..
رُبَّما سطَّرتُ حَرفاً قد براني
هدَّني مِن داخلي
ثم احتواني
رُبَّما عانيتُ ظُلماً مِن حَناني
كم دعوتُ الصّبَر.. يأتي
علّهُ يُعطي أماني
زمجري يا ريحُ إلا في مكاني
إنّني من طولِ حُزني
دندنَ الوهمُ بقلبي
بلْ غزاني
سيطرَتْ أشباحُهُ
في كلِّ نَبْضٍ
في التعازي والتهاني
قد صبرْنا
بانتظارِ السعدِ يأتي
في الخوالي
واكتشفنا بعد حينٍ
أنَّنا بالوهمِ أبطالُ النزالِ
كم بذلنا جُهدَنا؟ !
سعياً حثيثاً
في نهارٍ أو ليالي
كم رسمنا السعدَ في أوهامِنا؟ !
يدنو رويداً بالخيالِ
واعتلى كلٌ حصانَ الشوقِ
لا يدري بتالي
آهِ من جهدٍ تمطّى
ضاعَ مِنّا
لم نصلْ فيه المعالي
قد رأيتُ الكونَ في دهري تجدَّرْ
بعضُكُمْ بالوهمِ في أفراحِهِ
غنّى تعطَّرْ
لو رأينا مَنْ يُعاني
ليتَنا ممنْ تأثَّرْ
إنَّ أخلاقاً بنا صارتْ يباباً
ساءني مَنْ قد تغيَّرْ
يستديرُ الوهمُ فيكُمْ
قد عَدا حتّى تكسَّرْ
زادني همًا إباءٌ قد توتَّرْ
صبرُنا من طولِ غمٍ قد تذمَّرْ
رُبَّما يأتيكَ جيلٌ
يحملُ الحلَّ المقدَّرْ
قد عرفتُ العيشَ
في دنياي يستدعيهِ وهْمُ
هذه الدنيا لمن عافَ التجني
كُرْبَةٌ تبدو وغَمٌ
نستقي منها رياءاً
قادَهُ في النورِ عَتْمُ
أيها الشاكي تجمَّلْ
لن يُعِيدَ الحَقَّ سِلْمُ
واستمعْ منّي لِقولي
لمحةٌ تكفي وفهمُ(148/70)
نص شعري
عنب السلام
علي بن صالح الغامدي
عزف السلام فأطرب النمرودا ... والقدس أصبح هيكلا وحدودا
والورد يُخنق سحْرُه بسذاجة ... من واله قتل الحياة وعودا
يا من يحاول غافلاً أن يجتني ... عنب السلام بإصبع عنقودا
عنب السلام مخمَّر يا صاحبي ... والنخل أضحى تائها عربيدا
والسيف يصدأ والبيان مكمَّمٌ ... واليوم أصبح بلبلا غريدا
والمجرم السكران أمسى حامياً ... والحق أمسى أعزلا وطريدا
والشرع يغرق في بحور ذوي الهوى ... والعدل يحمل نعشه موؤودا
والشوك يُفْرش في دروب ذوي النهى ... والصبر ينثر في الدروب ورودا
عبثاً أحاول أن أخط مشاعري ... فالغدر يكتب للسلام عهودا
والطفل يرضع بالتطبع منهجاً: ... القدس يجمع مسلما ويهودا
يا أيها العملاق في زمن الخنا ... الموت سطر بالجهاد خلودا
جاهد ميول النفس واكسر حظها ... وانحر ربيعك إن رأيت عنيدا
أطلق رصاص الليل وارقب فجره ... فجر بعزة مؤفي جلمودا
واثقب جدار الصمت واكشف زيفه ... حطم رؤوس الظلم والتلمودا
في جنة الفردوس في ريانها ... تجد الشهيد مكرما وسعيدا
إن مات في ذات الإله مجاهداً ... قد عاش في ظل الكتاب حميدا
فالحر يأبى ذلة ومهانةً ... والنذل يعبد شهوة ليسودا(148/71)
الإسلام لعصرنا
وسائل الاتصال.. وعلاقتنا بالثقافات الأخرى
أ. د.جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
قلت في مقال شهر شوال: إن وسائل الاتصال الحديثة كما أنها فرصة
كبيرة لتبليغ الرسالة المحمدية، فهي أيضاً وسيلة يتخذها غير المسلمين ولا سيما
الغربيين لنشر معتقداتهم وتصوراتهم المخالفة لتلك الرسالة. وهذه فتنة، لكن لا
حيلة لنا الآن في ردها، فماذا نفعل؟ وهل وصول هذه الثقافات شر كله على
المسلمين، أم أنه قد ينطوي على بعض الخير؟ لا شك أن في وصولها بعض
الخير. ومن هذا الخير:
أولاً: أن معرفة ثقافة غير المسلمين أمر ضروري لحسن إبلاغ الدعوة
إليهم ولمجادلتهم؛ لأن الدعوة تكون أوقع في نفس المدعو إذا كانت مرتبطة بمحيطه
الثقافي، ناقدة ومقوِّمة له.
نعم! إن في ما يقوله ويعتقده غير المسلم ما هو قبيح ومؤذٍ للمسلم، لكن
معرفته مع ذلك
مهمة. وهذا كتاب ربنا مليء بحكاية أقوالهم القبيحة، والرد عليها، وتسلية
الرسل والمسلمين الذين يتعرضون لسماعها.
[وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً. تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَداً. أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً. ومَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن
يَتَّخِذَ ولَداً. إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ
وعَدَّهُمْ عَداً. وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] [مريم: 88 - 95] .
[وقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ] [المائدة: 64] .
[وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 28] .
[قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ] [الأنعام: 33] .
[وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ ومِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ
هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ] . [هود: 78، 79] .
ثانياً: إن في العالم الآن مئات المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية، وكلها
تتلقى أسئلة عن الإسلام كما تتلقى نقداً له، أو شبهات تثار حوله، وكل هذا يعطي الدعاة فرصاً ثمينة لتبليغ الدعوة الإسلامية، وقد اهتدى بحمد الله تعالى عن هذا الطريق، وما تزال تهتدي أعداد كبيرة من الناس في شتى بقاع العالم.
ثالثاً: إن أخبار المهتدين هؤلاء سواء كانت هدايتهم عن طريق الشبكة أو عن
طريق آخر مما يسرُّ المسلم ويزيده إيماناً بدينه وثقة به، ولا سيما حين يستمع إلى الأسباب التي أخذت بأيديهم للدخول في الإسلام وتفضيله على ما كانوا ينتمون إليه من معتقدات وقيم وثقافات، والتحول الكبير الذي حدث في نفوسهم وسلوكهم بعد اعتناقهم الإسلام.
رابعاً: بل إن الاطلاع على الحضارة الغربية، ومعرفة حقيقتها كان سبباً في
عودة بعض المسلمين إلى دينهم، بعد أن كانوا مغترين ببريق تلك الحضارة، ومبتعدين عن الإسلام.
سألت أحدهم وكان سودانياً بمدينة لندن عن سبب عودته، فقال: إنه قال
لنفسه كلاماً فحواه: أنه إذا كان هذا الذي يراه هو نهاية مطاف الحضارة الغربية فإنه مصير لا يريده لنفسه ولا لبلده. وحدثني آخر وكان شاباً من بنغلاديش التقيت به في كاليفورنيا فقال: إنه اكتشف أنه كان مخدوعاً في هذه الحضارة وأنه كان يتصورها على غير حقيقتها التي اكتشفها في أمريكا، وأنه كان قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة يسخر من تقاليد بلده ولا سيما في الزي ويقلد الزي ويقلد كل ما هو أمريكي، لكنه الآن غيَّر رأيه.
والآن ما أكثر المسلمين الذين يريدون الفرار من أمريكا أو أوروبا إلى أي بلد
مسلم، خوفاً على أخلاق أبنائهم وعلى دينهم! هذا مع أن الذين لا يعرفون الغرب معرفة هؤلاء يكون أكبر همهم أن يهاجروا إليه، وأن يربوا أبناءهم في مدارسه.
خامساً: لكن الثقافات الأخرى مهما كانت لا تخلو من بعض الخير، فمعرفتها
على حقيقتها تصحح الصورة القاتمة التي يرسمها لها بعض المتدينين عندنا من
الذين لم يطلعوا عليها. وجوانب الخير هذه التي لا يكاد يخلو منها مجتمع بشري هي من بقايا الفطرة الخيِّرة التي فطر الله عليها العباد، وهي التي تمكنهم من رؤية الحق حين يعرض عليهم، وتساعدهم على قبوله حين يعرفونه، وإلا لو كان كل الناس من غير المسلمين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً لما اهتدى أحد منهم إلى الإسلام ولا عرف قيمته؛ فكما أن الصورة المثالية للحضارة الغربية تفتن بعض الناس فإن الصورة المشوهة لها قد تيئس بعض الناس من هدايتهم.
سادساً: لكن وجود هذا الخير في حضارة كالحضارة الغربية شيء، ...
وتصويرها على أنها المثال الذي ينبغي أن يحتذى في هذا العصر شيء آخر. أذكر أنني نقلت لمجموعة من الأمريكان في أحد المؤتمرات العلمية ما يقوله بعض المفكرين العرب عنهم، وكان مما قلت لهم: إنهم يقولون إنكم تختارون ناخبيكم على أسس علمية موضوعية، وعلى أساس البرامج التي يقدمونها لكم، فضحكوا حتى ضجت بهم القاعة، كأنني أسمعتهم نكتة من أظرف النكات. وذلك لأنه في الوقت الذي كان يقول فيه بعض المفكرين العرب ما ذكرت، كان هنالك معلق سياسي أمريكي مشهور يقول عن الانتخابات: إنها موسم ترويح أو تسلية. والمعروف أن من بين أسباب اختيار الرئيس: شكله، ونكاته، وجمال زوجه، ولذلك كان أنصار كلينتون يقولون للناخبين ما يقول أصحاب البضائع: اشترِ واحداً وخذ اثنين.
لكن مما لا شك فيه أن لدخول الثقافات الأخرى إلى بلادنا أضراراً كثيرة؛
وذلك أن ما ذكرنا من خيرات الاطلاع عليها ومعرفتها لا يشمل كل مطَّلع عليها من المسلمين، بل قد يكون تأثيرها ضاراً على أغلبهم، ولا سيما صغار السن وقليلي العلم منهم. ومما يساعد على تأثيرها الضار كونها هي الآن الحضارة القوية اقتصادياً وتقنياً، وعسكرياً، والناس كما قيل مولعون بتقليد الغالب. ومما يساعد على التأثير كون إعلامها القوي المتطور يعرضها بصورة جذابة تغري بها.
كيف العمل؟
هذا سؤال كبير، لكن نختصر الإجابة عنه فيما يلي:
يجب أولاًَ أن نعمل ما استطعنا للتقليل من فرص وصول جوانبها الضارة إلينا، وهي الجوانب المتمثلة في كثير من الأفلام والقصص، والجرائد والمجلات كما يجب أن نسعى للتقليل من شرها بنقد أباطيلها والرد عليها مقتدين في ذلك بكتاب ربنا كما رأينا في الآيات التي أوردناها. والرد يكون رداً مباشراً على أباطيل معينة، كما يكون وذلك هو المهم بتزويد الناس بقواعد وأصول وأدوات وسائل الإعلام العامة. وأما الرد المباشر فيجب أن يكون عملاً يومياً تقوم به المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية، كما تشارك فيه الصحف والمجلات التي تروي لنا أخبار الغرب وأقواله. وتكون الوقاية منها أيضاً بتقديم البديل الذي يغني عنها: [ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً] [الفرقان:33] . ...(148/72)
وقفات
من آفات القراء
(1-2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
اشتهر عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب الكتاب العظيم: (الجرح
والتعديل) بملازمته لوالده، وكثرة أخذه عنه، وكان يقول: (ربما كان يأكل وأقرأ
عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب
شيء وأقرأ عليه) [1] .
إنَّ القراءة هي إحدى الوسائل المهمة لاكتساب العلوم المختلفة، والاستفادة من
منجزات المتقدمين والمتأخرين وخبراتهم. وهي أمر حيوي يصعب الاستغناء عنه
لمن يريد التعلم، وحاجة ملحَّة لا تقل أهمية عن الحاجة إلى الطعام والشراب. ولا
تقدُّم للأفراد فضلاً عن الأمم والحضارات بدون القراءة؛ فبالقراءة تحيا العقول،
وتستنير الأفئدة، ويستقيم الفكر.
والقراء المنهجيون هم في الغالب النخبة المتميزة، والصفوة المؤثرة في
التكوين الفكري والبناء الثقافي والمعرفي للأمة، ولهذا كانت العناية بالقراء عناية
بروح الأمة وقلبها الحي النابض القادر على البناء والعطاء.
والقراءة ملكة وفنّ لا يجيده كلّ أحد؛ فكم من القراء الذين يبذلون أوقاتاً طويلة
في القراءة؛ ومع ذلك فإن حصيلتهم وإفادتهم منها قليلة جداً..!
وفي حلقتين اثنتين سأذكر مستعيناً بالله بعض الآفات التي قد تعرض لبعض
القراء خاصة في بداية سلوكهم لهذا السبيل.
الآفة الأولى: قلة الصبر على القراءة والمطالعة:
وهذه آفة قديمة ازدادت في عصرنا هذا خصوصاً مع كثرة الصوارف
والمشغلات الأخرى؛ حيث أصبح كثير من القراء لا يقوى على مداومة القراءة،
ويفتقد الأناة وطول النفس، ولا يملك الجَلَد على المطالعة والبحث والنظر في بطون
الكتب وكنوز العلم والمعرفة، وحينما يبدأ القارئ بالاطلاع على الكتاب سرعان ما
يضعه جانباً ويشتغل بأمر آخر.
إنَّ الساحة الفكرية اليوم تعاني من خلل ظاهر في بناء ملكة القراءة، وها أنت
ترى كثيراً ممن يدخلون في (زمرة المثقفين!) من أصحاب الشهادات الجامعية،
بل حتى أصحاب الشهادات العليا، ومع ذلك تفاجأ بأن كثيراً منهم ربما يعجز عن
إتمام قراءة كتاب واحد خارج تخصصه..!
إننا نعاني من أزمة حادة في عزوف كثير من المثقفين فضلاً عن العامة عن
القراءة والبحث، مما أدى إلى اضطراب في التفكير العام، وسطحية مفرطة في
كثير من الرؤى، وضحالة علمية حجبت منافذ البصيرة.
وترويض النفس وتربيتها وقسرها على القراءة من أنجح السبل لبناء تلك
الخَلَّة الكريمة، خاصة عند نعومة الأظفار وبداية الطلب. وقد يعجز المرء في
البداية، أو تصيبه السآمة والملل، ولكنه بطول النفس وسعة الصدر والعزيمة
الجادة سوف يكتسب بإذن الله تعالى هذه الملكة حتى تصبح ملازمة له لا يقوى على
فراقها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم) [2] ،
وتكوين هذه العادة وغرسها في النفس من أولى ما يجب الاعتناء به لدى القراء
والمربين.
ولست أدري كيف نروم معاشرَ الدعاة العزة والتمكين، ونتطلع إلى تغيير
مسار التاريخ، وهممنا تتقاصر عن الانكباب علي كتب العلم والمعرفة، ونرضى
بالقليل من المعلومات العائمة المفككة التي نحصل عليها من هنا أو هناك..؟ !
وانظر إلى تلك المزية الجليلة التي تسنمها أسلافنا في هذا الباب، فها هو ذا
مثلاً الحسن الؤلؤي يقول: (لقد غبرت لي أربعون عاماً ما قمتُ ولا نمت إلا
والكتاب في صدري) [3] ، وحدَّث ابن القيم فقال: (أعرف من أصابه مرض من
صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه
وضعه) [4] .
الآفة الثانية: ضعف التركيز:
كثير من القراء يقرأ بعينيه فقط، ولا يقرأ بفكره، ولا يستجمع قدراته العقلية
في التفهم والبحث. وربما جال القارئ بعقله يميناً ويساراً، وطافت بخاطره ألوان
من الهموم والمشاغل، ثم يفاجَأ بأنه قضى وقتاً طويلاً لم يخرج فيه بمادة علمية
تستحق الذكر.
وبعض القراء يبدأ بهمة ونشاط وتركيز، ولكنه بعد أن يقرأ قليلاً من
الصفحات يبدأ بالتململ التدريجي، حتى ينفلت الزمام من يديه، ويستيقظ فجأة بعد
أن سبح في عالم رحب من الخواطر الشخصية البعيدة عن مادة الكتاب، قال طه
حسين: (كثيراً ما نقرأ لنقطع الوقت لا لنغذو العقل والذوق والقلب. وكثيراً ما
نقرأ لندعو النوم لا لنذوده عن أنفسنا) [5] .
وقد يؤدي ضعف التركيز أحياناً إلى اكتساب معلومات مضطربة أو مغلوطة
أو ناقصة، مما يقود إلى نتيجة عكسية تضر القارئ ولا تنفعه، وقد يتعدى ضرره
إلى غيره..!
إن امتلاك القدرة على التركيز واستحضار الفكر امتلاك لزمام المادة العلمية،
وهي السبيل الرئيس للوصول إلى الفهم والإتقان. ويختلف مقدار التركيز المطلوب
في القراءة حسب طبيعة الكتاب المقروء؛ ومستواه، وحسب مستوى القارئ الثقافي
أيضاً، وحسب الهدف من القراءة؛ فمقدار التركيز الواجب لقراءة كتاب علمي
متخصص يختلف عن التركيز المطلوب لقراءة قصة أدبية أو كتاب في الثقافة العامة.
وهذا يقودني إلى تقسيم القراءة إلى نوعين:
النوع الأول: القراءة التصفحية:
وهي القراءة التي يريد منها القارئ الاطلاع على مادة الكتاب وموضوعاته الرئيسة، ويريد منها التعرف من حيث الجملة على أبوابه وفصوله، ومنهج المؤلف وطريقة عرضه. وهذه الطريقة تصلح أن تكون مقدمة للقراءة، وبعدها يقرر القارئ جدوى إعادة قراءة الكتاب بتركيز، أو الاكتفاء بالتصفح السريع. والاكتفاء بذلك يصلح لتكوين معلومات عامة، ولكنه لا يبني علماً راسخاً.
النوع الثاني: القراءة العلمية:
وهي القراءة المركزة التي يستجيب فيها القارئ لمادة الكتاب، ويتفاعل معها، ويرمي إلى تحليلها وبيان أفكارها وأهدافها، وقد يدخل في حوار إيجابي معها. وهذا النوع من القراءة هو الطريق الصحيح للبناء العلمي والمعرفي. ولأهميتها في تثبيت المعلومات، ولأهمية الكتاب المقروء قد يرى القارئ إعادة قراءته عدة مرات لترسيخ المكتسبات العلمية التي تحصَّل عليها، ولاكتساب معلومات أخرى ربما لم تتيسر له في القراءة الأولى، وها هو ذا المزني يقرأ كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي خمسمائة مرة [6] !
وآفة كثير من القراء أنَّ أحدهم قد يعمد إلى قراءة الكتاب العلمي العميق قراءة
تصفحية كما يقرأ الجريدة، ويكون همه الانتهاء من الكتاب، ولك أن تتخيل ماذا
يمكن أن تكون حصيلة القارئ حينما تكون هذه هي طريقته دائماً في القراءة..! !
وقد ذكر العلماء والتربويون أسباباً كثيرة تعين القارئ على التركيز، مثل:
اختيار الأوقات المناسبة، والأماكن الملائمة الخالية من الصوارف، وأن يكون
خالي الذهن، ولديه الاستعداد العقلي والنفسي الذي يعينه على استجماع قدراته
الفكرية.. ونحو ذلك مما يطول وصفه، ولكن يجمعها وصف واحد وهو: أن يكون
جاداً حريصاً ذا همة صادقة؛ فمن امتلك هذا الوصف حرص على تذليل كافة
العقبات التي قد تعرض له.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (13/251) .
(2) أخرجه: الخطيب في تاريخه (9/127) ، وانظر السلسلة الصحيحة (1 /605) .
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/1231) .
(4) روضة المحبين، ص 70.
(5) خصام ونقد، ص 6.
(6) مقدمة الرسالة، ص 4، وما أجمل قول الإمام البخاري: (لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر) هدي الساري، ص 488.(148/74)
مراجعات في السيرة والتاريخ
حصار الشِّعب
والدروس المستفادة منه
د. إبراهيم بن محمد عباس
إن الدين الإسلامي ليس مجرد تنظيم للحياة ولكنه دين واقعي يتعايش بأصوله ومبادئه وأحكامه مع الواقع بعيداً عن الافتراضات الخيالية والمثل العائمة التي لا تتوافق مع طبيعة النفس البشرية.
والسيرة النبوية العطرة هي المثال الحي للتطبيق العملي للمثل والأخلاق والمبادئ والأحكام الإسلامية، بل هي المنهج الإسلامي الكامل بكل مكوناته في واقع الحياة. وهي بهذا وبكل ما اشتملت عليه من أحداث وتوجيهات نور ساطع في سجل التاريخ البشري يقتبس منه من أراد في أي جيل دروساً تهدي الحيارى وترشد التائهين لأحسن السبل وأقومها.
إنها منهج ينبغي أن نتربى عليه ونربي أبناءنا على ما يشمله من مفاهيم وقيم نرى أن الناس في هذا الزمان أشد ما يكونون حاجة إليها.
وفي هذه المقالة نقلِّب النظر في حدث من أحداث السيرة النبوية المشرفة وهو (حصار الشِّعب) لنستنبط منه بعض الدروس والعبر التي نأمل أن ينفع الله بها..
أولاً: خبر الصحيفة:
قال ابن إسحاق: (لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن ... عمر قد أسلم؛ فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل: اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه فاجتمعوا إليه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً متخفياً به من أراد صلتهم من قريش. وقد كان أبو جهل بن هشام ـ فيما يذكرون ـ لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟
والله! لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه؛ أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل الرجل. قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحْيَ بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم
يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس) [1] .
قال السهيلي: (وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من الحصار لا يبايَعون ولا يناكَحون. وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة. وكان فيهم سعد بن أبي وقاص رُوي أنه قال: لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة أخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدُهم السوقَ ليشتري شيئاً لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً؛ فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي؛ فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يُطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً) [2] .
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1 ـ لقد فكر الأعداء ـ كما رأيت ـ تفكيراً جماعياً جاداً منظماً ومعتمداً على التخطيط الدقيق لضرب الحركة الإسلامية، وذلك حينما بدأت قاعدتها في الرسوخ، ونجحت في جذب العناصر القوية إليها، وبدأت تفكر في الحماية الأمنية اللازمة حتى تؤدي رسالتها للعالمين، عندئذ أدرك الأعداء أنه لا بد من القضاء على هذه الدعوة في مهدها، فكانت فكرة الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع أملاً يداعب حلمهم ويطفئ ثورة حقدهم. ولكن الله خذلهم فأعز دينه وأتم نوره وازدادت الدعوة صلابة وقوة وازداد
أصحابها يقيناً وتضحيات؛ فلا بد إذن من اليقين بأن الله متم نوره ولو كره ... الكافرون، وأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار مهما مكر الأعداء بأهله [ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] . ... ...
2 ـ لم تقتصر معاهدة قريش وأذاها على أصحاب الدعوة وحدهم بل شملت كل من يعطف عليهم أو يدافع عنهم أو يمدهم بصلة ولو سراً. ولهذا ينبغي لعموم المسلمين أن يكونوا يداً واحدة مع علمائهم ودعاتهم يؤازرونهم وينصرونهم، وعلى الدعاة إلى الله تقوية صِلاتهم بأكبر قدر ممكن مع جمهور المسلمين ومد الجسور إليهم بالطرق الشرعية الصحيحة حتى يكونوا صفاً واحداً لا تخترقه سهام الأعداء. قال الله ـ تعالى ـ: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] .
3 ـ لقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله. لقد كانوا يقدرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد من البشر، وفي حدود قدراتهم؛ فكان الصبر على مثل هذا البلاء نِعْمَ الزاد الذي يتناسب وطبيعة الطريق. لقد كانت التربية الجادة على منهج القرآن الكريم عاملاً مهماً من عوامل الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابة على الصبر مقصودة في حد ذاتها؛ لأنه يعلم ـ ويريد أن يعلمهم ـ أن النصر مع الصبر، وأن البلاء سُنَّة ماضية، وأن أهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً وإعداداً. قال الله ـ تعالى ـ: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ]
[العنكبوت: 2] .
4 ـ لقد تجلت التضحيات والمواقف النبيلة للثبات على المبدأ الحق عند الصحابة الكرام بما يبهر العقول وتعجز عن وصفه الألسن، ولذلك لم يكن مثل هذا المكر السيئ والكيد المسعور ليثنيهم عن واجب عظيم ورسالة قد آمنوا بها وأُشرِبوا حبها وعاهدوا الله على الجهاد في سبيل نشرها. إن الثبات والاستمرار في الدعوة علامة على صدق الداعية وإخلاصه وفهمه السليم لطبيعة الدعوة وحقيقتها، وإن التراجع أو الانتكاسة في منتصف الطريق وعند ... المنعطفات الحرجة التي تمر بها الدعوة يعد علامة على ضعف الإيمان وتزعزع اليقين وحب الدنيا والخلود إليها. يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ: (وفي أيام الشِّعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة وعرضها على كل وفد؛ فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات؛ بل يزيد جذورها عمقاً، وفروعها امتداداً، وقد كسب الإسلام أنصاراً كثراً في هذه المرحلة) [3] . فالثباتَ الثباتَ أيها الدعاة، وعليكم بمواصلة السير والاستفادة من كل باب مفتوح لتبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] . [آل عمران: 139] .
5 ـ لقد وقف الكفار من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً حسناً؛ إذ دخلوا معه ومع أصحابه في الشِّعب حمية منهم وتقديراً ـ ولا شك في ذلك ـ لما تميز به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وحسن المعاملة معهم. فما أجمل الإحسان إلى الناس! وما أحق الأقربين بالمعروف! وأفضلُ الإحسان إلى هؤلاء هو دعوتهم للخير والأخذ بأيديهم إلى رياض الإيمان. والداعية ـ بلا شك ـ معرض للأذى والخطر من أهل الشر الكارهين للدعوة ولمن يقوم بها؛ ولذلك لا بد له من حماية. وعشيرة الداعية وأقرباؤه هم أكثر الناس
استعداداً لمثل هذه الحماية؛ وخاصة إذا مَنَّ الله عليهم بنور هذه الدعوة وصبروا على ما يلاقون في سبيل نشرها من الأذى؛ فإنهم حينئذ في مقام كريم [ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] [فصلت: 35] .
6 ـ لا بد أن ندرك أن الأعداء يبذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن سبيل الله؛ فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد والبطون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرها؛ كل ذلك ليصدوا الناس عن الحق [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ َسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] [الأنفال: 36] .
وإذا كان أهل الباطل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم فما بال الموسرين من المسلمين يمسكون ـ إلا ما شاء الله ـ عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق، ودعوة الحق ومواساة المعوزين من المسلمين؟ فالبذلَ البذلَ ـ أيها المسلمون ـ وإلا حق فينا قول الحق ـ ...
جل ثناؤه ـ: [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [محمد: 38] .
ثانياً: حديث نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: (ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها ... قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يَبْلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو؛ وذلك أنه ابن أخ نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشِّعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك ... ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً، فذهب إلى المُطعِم بن عدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد ـ: كذبت، والله! لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت ـ والله ـ أكذب؛ ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب ـ والله ـ فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأَرضة قد أكلتها إلا: (باسمك اللهم) وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فَشُلَّت يده ـ فيما يَرَوْنَ.
قال ابن هشام: وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم! إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.
فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلمَّ صحيفتَكم، فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي؛ فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً؛ فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا) [4] .
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1ـ لقد استطاع نفر من الناس بعمل يسيرٍ مواجهة أزمة دامت ثلاث سنوات خطط لها أصحابها وأحكموا تنفيذها ودعموا استمراريتها بكامل قواهم السياسية والاجتماعية. نعم! لقد استطاعوا تخطي هذا المأزق الصعب وهم نفر قليل كانوا يعيشون وسط المجتمع نفسه، وذلك بالعزيمة القوية والتخطيط الدقيق؛ إذ لم يكن أحد من كبار القوم ومن أصحاب تلك المؤامرة الخبيثة يحلم بأنه سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه هذه المؤامرة بمثل هذه السرعة وبمثل هذه المفاجأة؛ فقد وضعوا في حسابهم أنه لا يمكن لأحد أن يقف في وجه هذه القوة التي تحمي هذا القرار، وإن استطاع أن يقف في وجوههم فإنه لا يستطيع أن ينتهك قداسة القرار الذي علق في جوف الكعبة، ولكنهم نسوا أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.
واليوم وبفعل الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين فإنه يقع مثل هذا الحصار من الدول الظالمة ولا يقوم أحد برد الظلم وتمزيق الصحيفة والانسحاب من القرار؛ بل لا يفكر الكثير من المسلمين حتى في مجرد المحاولة؛ لا أقول بالعنف ولكن بالحوار والحل السلمي وهو الأسلوب الذي ينادون به حينما تكون القضية في صالحهم؛ فأين الذين يفكرون في قضايا إخوانهم المسلمين ويتفاعلون مع همومهم ويدركون معنى قول الله ـ تعالى ـ: [إنما المؤمنون إخوة]
[الحجرات: 10] .
5 ـ إن الحكمة وحسن التخطيط من أساسيات الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وكم نحن في حاجة إليه؛ لأن العشوائية وارتجال المواقف والتكبر عن طلب النصح والمشورة قد جنت الدعوة من ويلاتها العلقم المر حتى أصبح التخطيط والتنظيم ضرورة دعوية على مختلف المستويات لا يكاد يختلف عليها اثنان ممن يعرفون طبيعة الدعوة ومخططات أعدائها خصوصاً في مثل هذا العصر المشحون بالفتن والمغريات، ومع ذلك فإن هناك ـ للأسف الشديد ـ من لا يكتفي بعدم القناعة بهذا؛ بل يشكك فيه ويحاربه، ولعل مثل هذا يستفيد من الحكمة والتخطيط عند هؤلاء النفر ولعله يستفيد من موقف زهير بن أبي أمية مع قومه وكيف اختار هيئة مناسبة وقدم للأمر بالطواف، وتكلم كلاماً موجزاً قوياً يفي بالغرض لهذا العمل الفدائي ـ إن صح التعبير ـ في ذلك الوسط المشحون بالعداوة والموبوء بحب
الانتقام والسيطرة.. ولينظر كيف تم التشاور الثنائي في كل مرحلة حتى أحكمت الأدوار وتم التنسيق للعرض والمواجهة، وأخذت العدة واختير الزمان والمكان المناسبين لعقد هذا الاتفاق، ثم مُثِّل هذا الدور على أحسن صورة فكانت كلمات القوم تنطلق من وسط الصفوف يؤيد بعضهم بعضاً بطريقة لم يجد أمامها الملأ إلا التسليم ... فهل في هذا العمل الإنساني النبيل من بأس، وهو يحقق مصلحة عامة؟ ألا فليتأمل هؤلاء ويقيسوا ـ إن كان للقياس
عندهم اعتبار ـ بدلاً من أن يجعلوا التخطيط والتنظيم في أمور الدعوة محل اتهام، ويرونه جائزاً للكفار ومحرماً على المسلمين. ألا فاستلهموا رشدكم واعرفوا قدر عدوكم [ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] [النساء: 104] .
2 ـ إن أصحاب النفوذ والقوة كلماتهم مسموعة وأمرهم مطاع في غالب الأحيان؛ ولكن الذي يؤسف له هو عدم الروية والتفكر فيما يأمرون به وينهون عنه؛ فهؤلاء النفر الذين سعوا في نقض الصحيفة كانوا ـ ولا شك ـ على علم بها منذ بداية أمرها فوافقوا عليها حينئذ مكرهين ـ إكراهاً ـ معنوياًـ حتى لا يشذوا عن الصف ويكونوا محل اتهام من أصحاب القرار؛ ولكنهم فيما بعد فعلوا الذي فعلوا، بل وبينوا أنهم لم يكونوا راضين عن هذه
الصحيفة عند كتابتها، ولم يستشرهم فيها أحد، بل تشاور فيها الملأ ولم يستأذنوا فيها العامة، ولهذا أدرك هؤلاء الرهط أن هذه السابقة تنبئ عن خطر عظيم تكنه نفوس القوم الذين سعوا في كتابة هذه الصحيفة؛ فلذلك قال هشام بن عمرو للمطعم بن عدي: (أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً) وأدركوا أيضاً أن هؤلاء الملأ لم ينفذوا هذا القرار إلا لرغبتهم الشخصية، وليس فيه أي مراعاة للمصلحة العامة؛ ولذلك قال ...
صاحب المبادرة هشام بن عمرو لزهير: (أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً) وهذه سياسة أصحاب المطامع؛ فهم في كل زمان يكيلون بمكيالين شأنهم شأن من قال الله فيهم: [الَذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ونَمْنَعْكُم مِّنَ المُؤْمِنِينَ] [النساء: 141] .
4 ـ لا شك أن موقف أهل الباطل من الدعوة ليس بدرجة واحدة؛ بل يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وكذلك ينبغي أن يكون موقف أهل الحق منهم؛ لأن منهم من يتعاطف مع الدعوة ويقف بجانبها حتى وإن كان مقيماً على فسقه وفجوره، ومنهم من يكرهها ويحقد على أهلها بكل حال ـ وإن كانوا مظلومين ـ استكباراً منه وعدواناً، ومنهم أناس بين ذلك ? [ولِكُلٍّ ... دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] [الأنعام: 132] وفي قصة الشِّعب نجد لعمِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب مواقف تستحق الذكر والإشادة وإن كان كافراً؛ ففي بداية الأمر كان هو الذي (جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه شعبهم، ويمنعوه ممن أراده، وذلك حينما أجمع المشركون من قريش على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فاجتمع بنو المطلب كافرهم ومسلمهم؛ منهم من فعله حمية وهم الكفار، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً وهم المسلمون؛ فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع المشركون من قريش وأجمعوا أمرهم على ما في الصحيفة) [5] كما كان في ليالي الشِّعب (يأخذ أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فيضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها حرصاً عليه ممن يريد به مكراً أو غائلة) [6] ثم إنه أيضاً كان صاحب المحاولة الأولى في نقض الصحيفة ـ كما أسلفنا ـ. وفي المقابل فإن عدو الله أبا جهل كان أول من سعى في كتابة الصحيفة وكان يمنع وصول أي مدد إلى المحاصرين وكان من أكبر المعارضين لنقض هذه الصحيفة.. ثم تأمل في أولئك النفر من قريش كيف كانوا كارهين لهذا الأمر؛ كلما ذهب ...
هشام إلى واحد منهم وافقه على رأيه بسهولة ويسر ودون تردد، بل بما لو أراد هؤلاء الخمسة أن يستزيدوا لوجدوا كثيراً من الجماهير ممن نشؤوا على كره الظلم تتابعهم على ذلك، ولكنهم خافوا أن يفتضح أمرهم فيدخل معهم من لا يؤمن جانبه. (والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا؛ تجد من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه) [7] .
5 ـ إن رد الجميل لأصحابه، ومكافأة المحسنين على ... إحسانهم خُلُق رفيع حث عليه الإسلام؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه) [8] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مقدراً لأصحاب المواقف مواقفهم الإيجابية في هذا الحدث الهام، وكان يكافئهم عليها. فأما عمه أبو طالب فقد قال العباس بن عبد المطلب ـ
رضي الله عنه ـ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمك؛ فوالله كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (هو في ضحضاح من نار؛ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) [9] .
وأما هشام بن عمرو فقد أسلم وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم معركة حنين دون المائة من الإبل [10] . وأما أبو البختري فقد كان في صف المشركين يوم بدر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، قال ابن هشام: (وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة) [11] وهذه مجرد
أمثلة للاعتبار. وعلى الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ أن يعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وأن يسجلوا لأصحاب المواقف الشريفة مواقفهم، وأن يجازوهم على الإحسان إحساناً؛ فإن من الأفاضل من يذب عن أعراض الدعاة بلسانه وقلمه ويتصدى لأعداء الدعوة ويسد طريقهم، ومنهم من يتفانى في نصح الدعاة وطلبة العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويدعمهم ويقف معهم؛ فهذه الجهود ينبغي أن تكون محل رضى وتقدير من جميع الدعاة [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
6 ـ يجب ألا يغفل الدعاة إلى الله عن الاهتمام برؤوس الناس وقادتهم الذين يؤثرون فيهم سلباً وإيجاباً وحسن العلاقة معهم؛ فقد يتحقق على أيديهم نفع عظيم للدعوة ولو لم يكونوا على قدر من الاستقامة.
7 ـ ينبغي ألا يعرض عن أهل الباطل بالكلية؛ فإن منهم أناساً مأسورين إما بشهواتهم وأهوائهم أو بتأثير من شياطين الجن والإنس، وبعض هؤلاء قد لا يحتاجون إلى كبير جهد ليميزوا بين الحق والباطل فيتبعون الحق ويعز الله بهم الدين.
8 ـ من الحكمة اتخاذ الأسلوب الحكيم والحجة البالغة في الحوار واهتبال الوقت المناسب له ليؤدي نتيجة مثمرة؛ فإن الرهط الذين سعى إليهم هشام ليتفق معهم على نقض الصحيفة لم يعترض منهم أحد؛ ولعله قد اختار الأشخاص المناسبين لهذا الحدث حسب معرفته بالرجال ومواقفهم السابقة من الدعوة وحسب تقديره لما يتطلبه الموقف.
9 ـ يراعى جانب من بدرت منه بادرة طيبة وموقف حسن من الدعوة؛ فإن مثل هذا غالباً مهيأ في مستقبل الأيام ليكون له شأن آخر ومواقف مباركة، فلا بد أن يشجع ويشكر على مواقفه تلك لعله يكون رصيداً لمستقبل الدعوة.
ثالثاً: الحصار الحديث: أخي القارئ الكريم: لعلك قد أدركت من خلال هذا العرض السريع لحدث تاريخي هام من أحداث السيرة النبويةالعطرة وما تخلل ذلك من الدروس والعبر أن الأمة الإسلامية في الوقت الراهن تعاني أربعة أنواع من الحصار:
النوع الأول: الحصار المادي لبعض الشعوب الإسلامية المنكوبة وهو أسلوب وإن استنكرته الجاهلية الأولى فإن من يفرضونه في جاهلية اليوم ممن يسمون بالدول الكبرى يفتقدون بعض الخصائص التي كان يتميز بها أسلافهم من المشركين مثل المروءة والشهامة والحياء، ويفتقد كبراؤهم بعض المبادئ الإنسانية الأولية التي يمكن أن ينبثق عنها العطف والرحمة لهذه الشعوب، ولقد بلغت بهم الكبرياء والغطرسة مثل الذي كان بفرعون من الطغيان وإن لم يقولوا بألسنتهم ما قاله الأول بلسانه: [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] [مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [غافر: 29] إلا أن لسان الحال شاهد على ذلك بما لا يقبل الشك، ومكرهم أصبح مكشوفاً، ونحن نؤمن بقول الله ـ تعالى ـ: [ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ] ... [فاطر: 43] .
النوع الثاني: الحصار المعنوي للشعوب المسلمة وذلك (بإغراق الناس في الشهوات بالإعلام الماجن الذي يشيع الفواحش وينشر الرذيلة على أمل أن ينجرف أكثر الشباب في تيار الإباحية والفجور فلا ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين) [12] .
النوع الثالث: الحصار المادي للدعاة والعلماء؛ وهذا وإن كان مما يؤلم القلوب المؤمنة إلا أن له فوائد عظيمة وآثاراً بعيدة المدى في صقل نفوس الدعاة المأسورين فإذا هي كالذهب الخالص. قال الله ـ تعالى ـ: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: 17] .
النوع الرابع: الحصار الفكري للدعاة وذلك بصد الجماهير عنهم من خلال وصفهم بالألقاب المنفرة كالتطرف والإرهاب وغيرها، وذلك بواسطة الإعلام الذي يخدر الشعوب ويقلب الحقائق ويفرق بين القلوب؛ فهو السحر الحديث الذي أفرزه الفكر الغربي، وهو المصيدة التي يمكن أن تؤدي الدور بالوجه المطلوب بعد أن ترفع راية الإرهاب وتلوِّح بها
وتنادي الجميع للمشاركة في زوبعتها ليجعلوها دعوى يطعنون من خلالها في الدعوة الإسلامية، ومعولاً يضربون به حصونها، وسيفاً مصلتاً على رقاب الدعاة والمخلصين، وتهمة جاهزة تطرح على المجاهدين الصادقين.
إن هذا المصطلح ـ أعني الإرهاب ـ مصطلح مناسب لمثل هذا الحصار الدعوي بغضِّ النظر عن مكان منشئه وسببه. إنه مصطلح مخيف يهز قلوب الجبناء ويسيطر على أفئدة ضعفاء العقول؛ لأنه لفظ يوحي بالنفرة والوحشية لسامعه ومن خلال وصم الدعاة بهذا اللقب يمكن الطعن في الجهاد الإسلامي والتشكيك في حكمته.
ويهتبل الإعلام الكاذب والمزور للحقائق فرصة كل حركة نشاز وكل حادث شاذ يقع من بعض الجهلة أو المتعجلين من المسلمين ـ أو من غير المسلمين أحياناً ـ فيضخمه ويستغل الحدث اليسير أبشع استغلال، من أجل الكيد للدعوة ودعاة الإسلام وشن الهجوم الكاسح عليهم والطعن في نياتهم؛ حيث يتهم دعاة المسلمين زوراً وبهتاناً وظلماً وعدواناً بأنهم وراء كل عمل إجرامي وكل حادث تخريبي يحدث في أي مكان من الأرض حتى تثبت براءتهم إن كان لذلك من سبيل.
لقد نجح الأعداء إلى حد بعيد ـ وعلى مدى العشرين سنة الأخيرة تقريباً ومنذ أن ظهر مصطلح الإرهاب والتطرف ـ في عزل الدعاة عن جماهير المسلمين عزلاً فكرياً يفوق في آثاره العزل الحسي.
لقد جعل الأعداء شبح هذا المصطلح يطارد كل مسلم مستقيم يحافظ على أصول دينه أو يفكر في الدعوة إليه، وجعلوا هذا المصطلح مرادفاً للتعصب المذموم والتشدد في الدين والغلو والتنطع والبعد عن حقيقة الإسلام وصفائه، واتهموا من وصموهم بهذا المصطلح بكره الشعوب وعامة الناس والانتقام من المصالح العامة وتدمير مقدرات الأمة والعبث بها، وبعد أن وسّعوا دائرة هذا المصطلح بما يوافق شهواتهم وأهواءهم جعلوه عنواناً على صنف من الناس بمواصفات خاصة تزيد في مكان وتقل في مكان آخر. ومع أن التأثير يتفاوت من بلد لآخر إلا أن العامل المشترك هو نظرة الجميع لهذه الفئة من الناس بأنهم شواذ أو على أقل تقدير يجب التحفظ عليهم والبعد عنهم والخوف من آرائهم المنحرفة وأفكارهم المسمومة وحمل كلامهم دائماً على المحامل الأخرى التي تتناسب مع التفسير الإعلامي الذي يطن في الآذان صباح مساء. ومن هنا نجح هذا الحصار الدعوي الفكري الإعلامي في عزل هذا الفئة المؤمنة المجاهدة عن التأثير المطلوب في الجماهير المتعطشة لدينها من خلال هذا التخطيط الماكر وهذه الفكرة المسمومة.
ومن أجل هذا كان لا بد من التفكير الجاد للخروج من مأزق هذا الحصار النفسي وتحدي هذه العقبات بتوثيق الصلة بين فئات المجتمعات المسلمة، والدعوة في صفوفهم بالأساليب المشروعة، وكشف خطط الأعداء بإجلاء الغشاوة التي وضعها الإعلام الخبيث على أعين الكثيرين من الغافلين؛ وذلك من أجل توضيح الحقائق وتصفية القلوب وتبليغ دين الله ـ عز وجل ـ حتى يعم الخير ويفشو الصلاح ويقطع دابر المجرمين.
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/371 ـ 376، طبعة دار الإفتاء، الرياض.
(2) الروض الأنف للسهيلي 2/127 ـ 128.
(3) فقه السيرة، للغزالي، ص 129.
(4) سيرة ابن هشام 1/397 ـ 400.
(5) مغازي عروة بن الزبير، الأعظمي، ص114.
(6) مغازي عروة بن الزبير، الأعظمي، ص114.
(7) صحيح البخاري، حديث 3496.
(8) حديث صحيح، صحيح الجامع الصغير للألباني، رقم 5813.
(9) صحيح البخاري، حديث 3883.
(10) سيرة ابن هشام4/140.
(11) سيرة ابن هشام 2/270.
(12) وقفات تربوية مع السيرة النبوية، لأحمد فريد، ص 85.(148/76)
من ثمرات المنتدى الإسلامي
في هذه الزاوية يسر المنتدى الإسلاميأن يتواصل مع قرائه الكرام بإيقافهم على آخر الأنشطة والمستجدات والفعالياتالتي تتم بفضل الله تعالى في مختلف مكاتبه المنتشرة في إفريقيا وآسيا، سائلينالله تعالى أن يخلص النيات، ومتمنين من أحبابنا الكرام أن يزودونابملحوظاتهم واقتراحاتهم، وأن يقفوا معنا بدعائهم وعونهم.
افتتاح كلية لندن المفتوحة
تم بحمد الله تعالى افتتاح كلية لندن المفتوحة التابعة للمنتدى الإسلامي يوم الجمعة الموافق 8 شوال 1420هـ في لندن، وقد حضر هذه المناسبة جمع من أهل العلم والدعوة الإسلامية في بريطانيا وبعض الضيوف من خارجها، ابتدأ الحفل بكلمة من (د. جلال الدين محمد صالح) المشرف العلمي للكلية تحدث فيها عن أهمية العلم الشرعي ووسائله قديماً وحديثاً.
ثم تحدث (د. عبد المحسن آل الشيخ) رئيس مجلس إدارة الكلية عن أهداف
الكلية وبرامجها. ثم تحدث الشيخ (د. جعفر شيخ إدريس) رئيس المجلس
التأسيسي للجامعة الأمريكية المفتوحة عن أهمية أمثال هذه المشاريع وطموحاتها
لتشمل نواحي العلم المختلفة. أما (د. بلال فيلبس) عضو هيئة الإشراف العلمي
للكلية فقد تحدث باللغة الإنجليزية عن أهمية العلم الشرعي بطريقة التعليم عن بعد
خاصة لغير الناطقين بالعربية. بعد ذلك تحدث (الشيخ د. صلاح الصاوي) نائب
رئيس المجلس التأسيسي للجامعة الأمريكية المفتوحة عن العولمة وكيف نستفيد منها
في هذا النوع من المشاريع لتحقيق عالمية هذا الدين. أما عميد الكلية (الأستاذ محمد
النجار) فقد تحدث بعد ذلك عن مراحل إنشاء الكلية. وأخيراً قدم (د. عمر النمري)
المشرف الأكاديمي للكلية والمهندس (هواري بن كريلة) منسق البرامج شرحاً
مفصلاً عن التسجيل في الكلية من خلال صفحة الكلية على الإنترنت. وعلى
هامش هذا الافتتاح عقدت هيئة الإشراف العلمي للكلية اجتماعها الأول بحضور
رئيس مجلس إدارة كلية لندن المفتوحة وعميد الكلية، والمشرف العلمي للكلية
وأعضاء هيئة الإشراف العلمي الآتية أسماؤهم:
- د. جعفر شيخ إدريس. ... ... ... ... ... - د. بلال فيلبس. ... ... ... ... ... ...
- د. حافظ الكرمي. ... ... ... ... ... - د. صهيب حسن. وتم
في الاجتماع مناقشة بعض القضايا العلمية المتعلقة بالكلية. وقد بدأت الدراسة مع بداية الفصل الدراسي في برنامجين: أحدهما باللغة العربية، والآخر باللغة الإنجليزية. ويسر المنتدى الإسلامي بهذه المناسبة أن يتوجه بالشكر الجزيل للحضور الكرام في حفل الافتتاح ولأعضاء هيئة الإشراف العلمي ولجميع من كان خلف هذا العمل المبارك في إدارة الكلية، سائلين الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح. إنه سميع مجيب.
موسم الخير
في شهر رمضان، وكما تتنزل الرحمات من رب الأرض والسماوات، ... يفتح الله تعالى بمنِّه وكرمه على الدعاة بأعمال خير كثيرة، وكان لدعاة المنتدى ... نصيب من هذه الأعمال.. ومنها:
- مشروع إفطار الصائم الذي أقيم هذا العام، حيث شمل (39) دولة في قارات إفريقيا، آسيا، أوروبا، الأمريكتين. وقد وزعت من خلال المشروع (1.066.000) وجبة كما صحب المشروع برنامج توجيهي دعوي حفل ... بالمحاضرات والكلمات والمواعظ التي بلغ مجموعها قرابة (13.250) برنامج دعوي، أفاد منها معظم الحاضرين في برنامج الإفطار وقد آتت هذه الجهود ثماراً حسنة مباركة فعلى سبيل المثال:
- في غانا: نُفذ المشروع في 139 موقعاً من أقاليم غانا، والذي استفاد منه (138.921) شخص، وصاحب هذا البرنامجَ برنامجٌ دعويٌ مكثف في العقيدة والفقه، وكان من ثمرات هذا الجهد المبارك أن اعتنق الإسلام 99 شخصاً.
- وفي نيجيريا: تم تنفيذ المشروع الذي استفاد منه (214.851) شخص وكان مصحوباً بأنشطة دعوية كثيرة، ومكثفة، وقد مَنَّ الله على 33 شخصاً ... بالإسلام من خلال هذا النشاط.
- وفي مالي: أسلم (50) شخصاً تأثراً بمشروع الإفطار، وما فيه من برامج دعوية.
- وفي مجال الأنشطة التربوية، والدعوية خلال شهر رمضان أقيمت المسابقة الكبرى لحفظ القرآن الكريم في (غانا) ، وقد شارك فيها 46 متسابقاً.
- وفي توجو: أقيم اعتكاف، ودورة رمضانية لطلاب حلقات تحفيظ القرآن الكريم، كما أقيمت الدورة التأهيلية للدعاة المتطوعين، والدورة الرمضانية لطلاب المعاهد الشرعية في مركز المنتدى بـ (لومي) ، وقد شارك في الدورتين أكثر من 100 طالب.
نشاط حافل في لندن
بفضل الله - تعالى - حفل مكتب لندن بأنشطة عديدة، وكان النشاط مكثفا ... للمسلمين في لندن؛ وذلك للانشغال الحاصل مع الاحتفال بالألفية، فكانت ... الجهود الموجهة؛ كي يعتكف المسلمون على التقرب إلى الله بالطاعات. كما ... أقيمت دورتان شرعيتان: كانت الأولى تحت عنوان: (فقه الأقليات المسلمة) ، حاضر فيها د. صلاح الصاوي، والأخرى بعنوان: (مسائل فقهية) . كما صاحب ذلك من المحاضرات، والدروس والمواعظ، والمسابقات والندوات وتوزيع الأشرطة السمعية، والنشرات التعليمية كما أقيم اعتكاف في العشر الأواخر، وبلغ عدد المعتكفين حوالي 200 شخص.
نشاط آخر في مالي
أقيم في مالي ملتقى دعوي شارك فيه 49 داعية، وقد ناقش الملتقى عدداً من القضايا الدعوية منها: ... ... ... ...
1 - خصائص أهل السنة والجماعة وصفاتهم.
2 - دور العلماء وطلبة العلم في إصلاح المجتمع.
3 - خطر القاديانية. كما نظم مكتب المنتدى هناك ثلاث دورات شرعية شارك فيها 175 شخص في كل من مدينة باماكو، وكاي، وموبتي.
الدين المعاملة
قصة عجيبة؛ لكنها من رحمة الله - تعالى - بعباده؛ فقد وقع حادث أليم على طريق جوس / كادونا (نيجيريا) ، وأُحضِرَ جميع المصابين إلى المستشفى ... التعليمي لجامعة جوس. وكان ضمن المصابين طبيب استمر يعالَج لمدة طويلة، وقد لفت نظره أحد الأطباء الذين يعملون بالمستشفى بسبب حسن معاملته وأخلاقه واهتمامه بالمرضى دون تفريق.
وللعلم فإن الطبيب المتفاني هذا لم يمض على إسلامه أكثر من سنتين وقد اهتم به دعاة المنتدى الإسلامي المدرسون بمدرسة (البيان) وخصصوا له ولزملائه بالمستشفى بعض الكتب والرسائل ومجلة (الجمعة) باللغة الإنجليزية. وكانوا يجلسون معهم كل ثلاثة شهور في برنامج ونقاش دعوي. وقد اندهش الطبيب المصاب لشفقة هذا الطبيب واهتمامه؛ فقال له: هل أنت نصراني؟ فرد قائلاً: لا؛ بل أنا مسلم. فقال له: لكنك في شفقتك واهتمامك تشبه المنصِّرين! فقال المسلم: إن الإسلام يأمر بكل ما رأيت وأكثر، وبدأ معه حواراً حول الإسلام وعندما رأى النصارى ذلك أرسلوا له منصِّرة أوروبية بالكتاب المقدس كما يزعمون وكُتُب نصرانية أخرى وأصبحت تناقشه وتتابعه عن كثب. ولكن الرب الرحيم العظيم قدَّر له الهداية؛ ففي يوم الخميس 16 رمضان 1420هـ دعا جمعاً من المسلمين بما فيهم الطبيب الذي كان محل إعجابه بتصرفاته وأخلاقه، وطلب منهم العفو والمسامحة، وطلب منهم أيضاً أن يتوضأ أحدهم أمامه حتى يرى كيفية الوضوء؛ فقال له المسلمون بأنه غير مسلم، فلن يستفيد من الوضوء؛ ولم يكن قد أعلن أنه اعتنق الإسلام، وعند ذلك أشهر إسلامه أمامهم ونطق بالشهادتين، وطرد الممرضة الأوروبية بكتبها من عنده، وطلب استبدالها بمصحف وكتب إسلامية ومجلة الجمعة، وفرح المسلمون بالمستشفى بهذا الحدث. والعجيب أنه توفي صبيحة الجمعة، اليوم التالي لإسلامه.
نسأل الله له الرحمة والمغفرة. وهكذا نتعلم درساً وننهل عبراً من هذه القصة،
ومن أهمها: سلوك طبيبنا المسلم، كأنه يقول للدعاة: يمكننا أن ندعو بمعاملتنا
وأخلاقنا قبل أن تصدر كلماتنا داعية إلى الله.
افتتاح جامع السالمية
افتتح بحمد الله تعالى جامع السالمية في مدينة باماكو مالي، وهو مسجد جامع يتسع لـ (360) مصلٍّ، ويحتوي على مكتبة علمية، وفصل لتحفيظ القرآن الكريم. نسأل الله تعالى أن يعين القائمين على تبليغ الرسالة.
مؤتمر حمَّى عام 2000م
أقام مكتب المنتدى الإسلامي في بريطانيا في آخر شهر رمضان مؤتمراً بعنوان (حمى عام 2000م) استمر لمدة ثلاثة أيام، وقد تميز هذا اللقاء بحضور جيد، ومما زاد من إقبال الناس خاصة من غير العرب استخدام الترجمة الفورية للمحاضرات العربية.
وكان من أبرز المحاضرات:
1 - أحداث حاسمة تركت أثرها على المسلمين في القرن الماضي.
2 - هل اقتربت النهاية؟ !
3 - حمَّى عام 2000م.
4 - ماذا يحدث حولنا؟
5 - التوقعات المحتملة في هذه الألفية.
6 - المستقبل للإسلام.
قرية تمنع الناس من الصلاة.. تدخل في دين الله أفواجاً
قرية بوييغو في جمهورية بنين قرية وثنية يقطنها شعب (الفلاني الدندي) وهم مشهورون بعدائهم الشديد للمسلمين حتى إنهم كانوا يمنعون المارة من الصلاة في قريتهم، وإن صلى أحد أحرقوا مكان مصلاه بالنار! وفي السادس والعشرين من شهر رمضان وأثناء تنفيذ برنامج إفطار الصائمين أسلمت القرية ... بكاملها، ويقدر عددهم بحوالي ستة آلاف نسمة، بعد جهود حثيثة من ... بعض دعاة المنتدى الإسلامي، فاللهم لك الحمد، والمنة على نعمة الإسلام. ... ...
ولجنة بنين في المنتدى الإسلامي: بصدد إعداد خطة متكاملة للدعوة في هذه ... القرية لتثبيت هؤلاء الناس وتعليمهم.
الخمر أمُّ الكبائر سبب إسلام أسرة كاملة
تم ابتعاث أحد الدعاة في نيجيريا إلى قرية فيها عدد كبير من المسلمين ليعلمهم دينهم خلال شهر رمضان 1420هـ، وبعد أن قضى الداعية مدته وقبل رحيله من القرية أرسل إليه رئيس القرية، وهو وثني يفيده بأنه يريد أن يسلم ... ولكن يود أن يكون ذلك أمام الحاكم التقليدي للمنطقة التي تتبع لها القرية ... وبوجود الدعاة الذين يقومون بتوعية المسلمين. وبالفعل تجمع أهل القرية وبحضور الحاكم التقليدي ودعاة المنتدى الإسلامي؛ حيث أشهر الرجل إسلامه ومعه أهل بيته (زوجاته وأولاده) . وقال: إن السبب الذي دعاه للإسلام هو أنه كان يسمع أن المسلمين يقولون: إن الخمر حرام، وهو في قرارة نفسه يقول لا ينبغي لعاقل أن يشربها ولكنه يتناولها، وشاءت أقدار الله أن يصاب بمرض فذهب إلى الطبيب ومنعه من الخمر، وحينها أيقن أن ما يقوله المسلمون حق وأن ديناً يدعو للحفاظ على حياة الناس؛ لهو دين حق؛ لذلك قرر اعتناق الإسلام والالتزام به، [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ ولِياً مُّرْشِداً] [الكهف: 17] .(148/86)
المسلمون والعالم
الجزائر بين الوئام والاستئصال
د.يوسف الصغير
يتناقل العراقيون طرفة عندما كان هناك نائب كردي للرئيس العراقي؛ حيث تقدم إليه أحد المرافقين بطلب منحة أرض فردَّ عليه نائب الرئيس بقوله: إن هذا الطلب يحتاج واسطة كبيرة! ! إن كون أحد المناصب الرفيعة وهمياً مجرداً من السلطة يدل على مشكلة يراد الالتفاف حولها، ولكن المصيبة أكبر عندما يكون البلد يدار من قِبَلِ فئة لا يمكنها الظهور على السطح لأمر مَّا، وتصر على التستر خلف مجموعة من الأحزاب ومجلس وطني نيابي ومجلس وزراء، بل ورئيس للدولة منتقى بعناية؛ بحيث يكون خارج هذه الفئة ويمارس مهام رئيس الدولة.
إن الذين يبشرون بأن قانون الوئام هو الحل للخروج من دوامة المستنقع
الدموي الذي وقعت فيه الجزائر ربما يكونون واهمين؛ لأن ما يسمى بقانون الوئام
هو مجرد نسخة معدة ومطورة ليس الهدف منها معالجة أسباب الأزمة والعودة إلى
مبدأ الحوار مع الآخر، والقبول بتداول السلطة السلمي وعدم استبعاد أو حظر أي
طرف، وأنه لا يوجد مواطنون من الدرجة الثانية كما يبشر رئيس الدولة، بل إن
معيار النجاح لهذا القانون هو كما أكد ممثل الفئة الحاكمة رئيس أركان الجيش
الفريق محمد العماري الذي ألقى كلمة بالفرنسية أثناء وجود الرئيس في زيارة
خارجية، وقد بث التلفزيون مقتطفات واسعة منها في نشرات متفرقة؛ حيث أكد
على نجاح قانون الوئام المدني في تفكيك الجماعات المسلحة، وأن الغالبية الساحقة
من هذه الجماعات وضعت السلاح، وأن من تبقى مجرد (عصابات تتشكل من
أوغاد سيتم استئصالهم عن آخرهم قريباً) . إن الذي أتوقعه أن هذا القانون هو آخر
وأخطر سهم يوجهه النظام للمعارضين، وستكون نتيجته إما تصفية العمل المسلح
ومن ثَمَّ القضاء على المعارضة السياسية. وأما الاحتمال الثاني وهو الأقرب فهو
عجز الجيش عن تصفية الرافضين لإلقاء السلاح، وسيعود الصراع إلى نقطة
الصفر مع فارق واحد هو أن الاستئصال سيكون شعار الجميع. نسأل الله اللطف
بهذه الأمة المبتلاة، وأن يبرم لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل
معصيته. لقد جاء الرئيس بوتفليقة لتسويق قانون الوئام وتطبيقه، ولكن السؤال
البدهي هو: من هم أصحاب قانون الوئام؟ وهل الرئيس يريد حقاً تطبيق القانون
المذكور كما يريد واضعوه، أم أن له تصوراً آخر للوئام المنشود؟
قانون الوئام:
إن أصل هذا القانون هو المفاوضات التي جرت بين المخابرات والجيش من جهة ومدني مرزاق أمير جيش الإنقاذ وهو ضابط سابق في الجيش الجزائري، وانتهت إلى اتفاق الثالث عشر من (تموز) يوليو 1997م. لقد واجهت هذه الاتفاقية مشكلة أساسية وهي انعدام الغطاء السياسي لها؛ فقد تبرأت الرئاسة منها، ورفض الرئيس السابق زروال الاعتراف بها. وبالمثل فإن محاولة إعطائها مصداقية بين الإسلاميين تمثلت في إطلاق سراح الشيخ عباسي مدني في الخامس عشر من الشهر نفسه، ولم يلبث طويلاً حتى أعيد للإقامة الجبرية؛ لأنه كما نسب لأحد قادة جيش الإنقاذ لم يلتزم بشروط إطلاق سراحه. لقد كان المخرج المؤقت هو إعلان مرزاق هدنة من جانب واحد وسوَّغ الهدنة برفع الغطاء عمن يقومون بالمجازر وتشويه الإسلام مع ملاحظة أنه في تلك الفترة بالذات بدأت تتكشف حقيقة قيام أطراف من السلطة بتنفيذ عدد من المجازر الكبرى. ومن المؤلم أن ظاهرة القتل الجماعي التي بدأتها السلطة ضد عوائل المجاهدين قد اتسعت لتشمل عوائل رجال الأمن والقرى والتجمعات غير الموالية للسلطة ووسيلة لتصفية الحسابات القديمة بالإضافة إلى القتل الجماعي بقصد السرقة. إذاً كانت المفاوضات محصورة بين الجيش لجزائري والجيش الإسلامي للإنقاذ، ولم يكن للحكومة الجزائرية أو لشيوخ الجبهة دور فيها.
سؤال مهم:
ويتبادر هنا السؤال الآتي: إذا كان من المعروف أن الجيش الجزائري هو
السلطة الحقيقية في الجزائر فما هي علاقة الجيش الإسلامي للإنقاذ بجبهة الإنقاذ؟
وهل هو كما يتردد الجناح العسكري للجبهة؟ إن الإجابة على هذا التساؤل يقتضي
معرفة ظروف نشأة المعارضة المسلحة للنظام والتي تتلخص فيما يلي:
1 - قبل إلغاء الانتخابات كان هناك مجموعات عمل مسلح، غير مرتبطة بالجبهة، وكان تأثيرها ضعيفاً وشعبيتها محصورة، وهم أتباع مصطفى بو يعلى. ... ... ...
2 - بعد تعطيل الانتخابات، وقيام السلطة بحملة واسعة من الاعتقالات والمضايقة، وحتى التصفية الجسدية للشباب الإسلامي العامل أو المتعاطف مع الجبهة أصبحت الخيارات أمام الشباب محصورة في مغادرة البلاد أو البقاء تحت طائلة الخطف من قِبَلِ الأمن أو التصفية أو الهرب إلى الجبال.
3 - إن خيار اللجوء للجبال وقرار مواجهة السلطة كان خياراً إجبارياً وفردياً ولم يكن صادراً عن قرار تنظيمي لقيادة (جبهة الإنقاذ) ، وهو ما يفسر تعدد ... الجماعات المسلحة وعدم تجانسها الفكري أو التنظيمي؛ لأن ظروف نشأتها كانت عفوية؛ ولهذا فلم يكن هناك استراتيجية واحدة للمواجهة.
4 - بعد مواجهات دموية استمرت عدة سنوات وخسائر بشرية تقدر بمئة ألف قتيل استقرت الأوضاع على توازن قوى بين قوات الجيش والأمن والميليشيا البلدية من جهة، وبين مجموعات مسلحة مختلفة تمكنت كل واحدة منها من تثبيت أقدامها في منطقة نفوذ خاصة بها تضعف أو تنعدم فيها سلطة الدولة.
5 - إن كون غالبية الشباب في كل المجموعات المسلحة تقريباً من أنصار جبهة الإنقاذ يعود إلى أن هناك قبولاً عامّاً للشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج، ولكن هذا لا يعني أن قيادة كل جماعة تدين بالولاء للشيخين أو أحدهما، أو أنها تسير وفق توجيهات الزعامات السياسية للجبهة.
6 - إن (الجيش الإسلامي للإنقاذ) لا يمثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الرغم من تشابه الأسماء، بل ولا يدل على أنه أقرب الجماعات لها. إن استقراء الأحداث يبين تشابك العلاقات وغموضها؛ فمثلاً يوضح أحمد بن عائشة أمير جيش الإنقاذ في الغرب أن رابح كبير فقط هو من يمثل التنظيم في الخارج؛ أما في الداخل فيقول: (نحن موجودون ونمثل أنفسنا) وفي المقابل علي جدي أحد قادة الجبهة يصرح أنهم لم يُفلِحوا في مقابلة مدني مرزاق، وأن عبد القادر حشاني قابل ربه قبل أن يتمكن من مقابلة مدني مرزاق؛ فلماذا يتهرب من مواجهتهما وهما من المؤيدين لإيقاف القتال مع التحفظ على قانون الوئام؟ كما استُعمل إطلاق سراح الشيخ عباسي مدني في محاولة تمرير اتفاق 1997 م؛ فإن الشيخ عباسي مدني الذي لا شك في سعيه لإيقاف نزيف الدماء وحل الأزمة حلاً سلمياً كتب رسالة يؤيد فيها قانون الوئام قبل صدوره وبما يتفق مع ما نقل له عن صيغة القانون، وقد استغلت السلطة ومجموعة مدني مرزاق هذه الرسالة؛ ولكن بعد صدور القانون صُدم الشيخ وسارع بإرسال رسالة إلى علي بن حجر (أمير الرابطة الإسلامية للدعوة والجهاد) يتبرأ فيها من قانون الوئام، وأنه لا يقدم الحل المنشود ويبطل ما ورد في رسالته الأولى. والغريب أن علي بن حجر يؤكد وصول الرسالة، وقناعته بمصداقيتها؛ بينما السلطة وجماعة مدني مرزاق يتمسكون بالرسالة الأولى، ويشككون بالرسالة الثانية.
والأمر بسيط: لماذا لا تسمح السلطة للشيخ بتوضيح رأيه مباشرة لوسائل الإعلام إذا كانت واثقة من تأييده القانون؟ وإذا كانت الرسالة صحيحة ... وهو الأقرب فلماذا يا ترى لم ترسل إلى مدني مرزاق وهو صاحب المشروع؟ ألا يدل هذا على أن الآخرين أقرب منه للجبهة؟ وكما تم الحجر على عباسي مدني، ومنعه من التعبير تم إسكات حشاني الذي لم يتردد في التحفظ على صلاحية قانون الوئام حلاً للأزمة، وأنه يجب أن يكون هناك حل شامل يسمح بالممارسة السياسية. نعم! لقد تم إسكاته، ولم تتردد عائلته في اتهام أطراف السلطة بهذه الجريمة. إن قانون الوئام اتفاق مع جبهة واحدة ممثلة في شخص واحد لا يصح إلزام الجميع به تحت طائلة التصفية الجسدية والإبادة الجماعية أو الاستئصال التام.
إن الجزائر بحاجة إلى حل حقيقي للأزمة، وليس حلاً التفافياً يزيد الفرقة ويعمق العداوات بين الجزائريين! إن أغرب ما في الاتفاق هو عدم الاتزان في الحقوق والواجبات؛ فمن جانب يتم حل التنظيم، وإخلاء المواقع ... وتسليم الأسلحة وتنظيف مناطقهم السابقة من الألغام؛ وزيادةً على ذلك فإن هناك حماسة شخصية لمدني مرزاق لا يشاركه فيها رجاله لقتال الجماعات المسلحة تحت ... راية الجيش.
وفي النهاية أصبحت مقاتلة الجماعات المسلحة منوطة برغبة الأفراد. هذا ما قدمه مرزاق للسلطة؛ فماذا قدمت السلطة لمرزاق ورجاله؟ إن القانون الأساس للوئام يعني عودة المسلحين إلى عوائلهم؛ مع احتمال تعرضهم للملاحقة القانونية. ولكن نتيجة لتمرد الأفراد على مدني مرزاق أصدر رئيس الجمهورية عفواً رئاسياً عن جميع من يشملهم قانون الوئام. باختصار: إن أقصى ما يؤمل به هو العفو، أو بأسلوب ساخر هو أن السلطة تنازلت وأصدرت العفو وبضغط من الرئيس عمن لم تستطع قتله وتصفيته. من الذي يضمن عدم الغدر بالعائدين واعتقالهم أو اغتيالهم؟ لقد بدأت عمليات التصفية من الآن فقد نشرت الصحف أخباراً عن اغتيال بعض
العائدين أو تهديدهم وهذا وضع لا يحسد عليه من وثق بمن لا يوثق به أو أجبر
على الإذعان لانكشاف ظهره. وحتى نعرف مصداقية الاتفاقيات أُورِد مقطعاً من
مقابلة علي بن حجر [1] (أمير الرابطة الإسلامية للدعوة والجهاد) وهو ممن أذعن
للقانون عن غير اقتناع.
س: قلتم: إن بعض الأوساط اقترحت وساطة بينكم وبين السلطة؛ فمن هي هذه الأوساط؟
ج: من أبرز الأوساط التي حاولت التقريب بيننا وبين المؤسسة العسكرية أذكر العميد المتقاعد محمد عطا يلية الذي جاء ناصحاً ومساهماً في هذه المصالحة.
س: هل قام بذلك بتكليف من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أم من تلقاء نفسه؟
ج: جاء معه مسؤول من السلطة. بمعنى أن مهمته كانت رسمية، وكانت هناك موافقة على مسعاه؛ إذ إنه أشار في اللقاء الذي جمعني به أن (هذا ممثل السلطة) وأشار إلى رجل حضر معه. إن مسارعة قوات الجيش إلى التمركز في مواقع الجماعات المنسحبة يوحي بحرص السلطة على قطع خط الرجعة على العائدين عندما تقلب لهم السلطة ظهر المجنّ كما هو متوقع.
أكبر المشكلات:
إن أكبرمشكلة للفئة الحاكمة في الجزائر كما مر سابقاً أنها لا يمكن أو لا تريد أن يتصدر أحد أفرادها لمنصب الرئاسة، وقد كانت مشكلة التعامل مع الرئيس الواجهة من الإشكاليات المهمة في التعاطي مع الأزمة؛ فبعد عزل الرئيس الشاذلي بن جديد وتغييبه عن الساحة حتى إنه لم ينسب إليه أي موقف أو تصريح طيلة السنين الماضية تم استدعاء محمد بوضياف ممثلاً لمرحلة الثورة ورمزاً لها، مع بعده عن البلاد لعشرات السنين بعد الاستقلال، ولكن بوضياف لم يستطع ... التأقلم مع القالب الذي أريد له، فعمل على تكوين حزب موالٍ له، ورفع شعار محاربة الفساد، وكان رجلاً حادّاً كبيراً في السن، يعادي مافيا الحكم بقدر عدائه للإسلاميين، ولم يكن انقياده ممكناً، فتم اغتياله، وأصبح رمزاً لمصير كل من يخرج على الخطوط الحمراء. وبعد فترة نُصِّب أيضاً رجل عسكري أحيل إلى التقاعد المبكر، وأُبعد بسبب صراع الأجنحة داخل الجيش، وكان أكثر ميكانيكية؛ فقد رفع للإسلاميين شعار الحوار، ورفع للأسياد شعار الاستئصال، وكان أكبر النجاحات في عهده تسويق الديمقراطية المزيفة من الدرجة الثانية والمطبقة في بلدان العالم الإسلامي والمكونة من حزب السلطة مع جوقة من الأحزاب الفلكلورية مع النص على استبعاد أي حزب إسلامي؛ وذلك حتى يمكن لحزب السلطة الفوز الساحق بدون المساس بنزاهة الانتخابات.
إن أصول اللعبة لم تسمح للرئيس زروال حتى اختيار رئيس حزب السلطة الجديد؛ فقد تم اغتيال مرشحه، وبعد سلسلة من المضايقات تم إبعاد مستشاره الجنرال بشتين؛ مما أوحى له بانتهاء دوره، ولا بد أن يفسح المجال لغيره بعد أن رفض قبول اتفاق الجيش مع جيش الإنقاذ، وعطل هذا المشروع الخطير إلى أجل. ولم يكن القادم الجديد سوى وزير بومدين الأثير عبد العزيز بوتفليقه الذي خرج ليعيش في منفاه الاختياري بعد وصول الشاذلي للحكم، ولم يكن له أي دور في الأحداث.
لقد استُدعي (الرئيس الحالي) وأقنع بتولي الرئاسة، ولكنه جاء وهو يحمل شعاره الخاص وأمنيته الخاصة بأن يمارس السلطة الحقيقية.
لقد اشترط الرئيس أن يعرض مشروع السلم والوئام على استفتاء شعبي؛ وهي خطوة بارعة سياسياً من أجل تكوين شعبية خاصة به تمكنه من المناورة وطرح تصوره الخاص للوئام الذي هو بكل تأكيد لا ينسجم مع خطط السلطة وطريقة تنفيذها لهذا المخطط؛ فهل ينجح الرئيس في صبغ القانون بصبغته الشخصية، أم يتجاوزه الجيش ويفرض أسلوبه؟
إن الحكم في الجزائر له رأسان؛ فالجيش يحاول إقناع أكبر عدد ممكن من الجماعات بالإذعان للقانون عن طريق توسيط المعارف والأقرباء وتقديم ضمانات شخصية للقيادات؛ ولكن لا شيء منشور، وليس كله مكتوباً، ومن يرفض فقد رفعوا في وجهه سيف الحجاج، وقد تسرعوا في استخدام هذا السيف بعد انتهاء المهلة مباشرة، ولكنهم اكتشفوا أنهم يحتاجون لمزيد من الوقت لتفكيك المزيد من الجماعات والاستعداد العسكري؛ فقد تم عقد صفقات مع الصين وجنوب إفريقيا وإيطاليا وأمريكا لتزويد الجيش بأسلحة خاصة لمواجهة حرب العصابات، وكان الجيش حريصاً على التضليل لاستعداداته العسكرية من أجل إقناع المزيد من الجماعات المسلحة بالإذعان الجبري.
لقد حرص قادة الجيش على التصريحات العنترية التي دأبوا على إطلاقها لسنوات عديدة، ولم يلاحظوا التناقض بين مدلولي الوئام والاستئصال، فجمعوا بينهما؛ ولكن ليتذكر هؤلاء الاستئصاليون ومن وراءهم أن النجاح في حل تنظيمات ونزع سلاحها والتمركز في مناطقها سلاح ذو حدين؛ حيث إن الإخفاق في الجزء الثاني من المخطط وهو تصفية الرافضين وهم كثر سيعيد الصراع بصورة أشد، وربما تواجه السلطة جماعات أقل عدداً ولكنها أكثر عداءاً مما سيعقِّد المشكلة. وإذا كان الحل الحالي يمكن أن يمر من خلال الشيخ عباسي فإن الحل القادم لا بد أن يكون من خلال الشيخ علي بلحاج.
وأخيراً: فإن موقف الرئيس صعب، وإذا كان يتوقع إخفاق الجيش في تنفيذ الجزء الثاني فإنه يسعى لاستثمار الآثار المترتبة على ذلك؛ ولهذا فقد أطلق تصريحات تحمل في طياتها: أنه جاد في السيطرة على مقاليد الأمور معتمداً ... حالياً على اعتقاده أن الجيش لا يملك الاستغناء عنه في الوقت الحاضر (اسألهم هم إن كان في إمكانهم التخلي عني إن استطاعوا) أما في حديثه عن مسوِّغ حمل السلاح فيقول: (أنا شخصياً لو مررت في الظروف نفسها لكان مصيري مثل هؤلاء) .
أما نظرته للجماعة الإسلامية المسلحة فأكد أن هذا التنظيم المسلح كان يستهدف بالدرجة الأولى المنشآت الحكومية، والعسكرية، ورجال الأمن ... وبدرجة أقل المدنيين، وهو تبرئة للجماعة من نسبة كل المجازر لها، وأشاد بحسن حطَّاب أمير الجماعة السلفية للدعوة والقتال) يتبين مما سبق أن الرئيس يراهن على هزيمة الجيش، وعلى ثقة أمراء الجماعات الرافضة بحسن نيته مما يفتح المجال لحل أكثر منطقية. وللمرء أن يخاف من يوم يلحق فيه بوتفيلقة سابقيه.
اللهم فرِّج بحرية إخواننا المسلمين في الجزائر المبتلاة، اللهم اجمعهم على الخير والهدى، اللهم افضح وانتقم ممن كان سبباً في هذا البلاء، ... واجعل دائرة السوء تدور عليه.
__________
(1) جريدة الحياة، العدد: 13479، 30/10/1420هـ.(148/90)
المسلمون والعالم
الجولان.. وتكاليف سلام الشجعان!
عبد العزيز كامل
أعدت إسرائيل قوائم من المطالب والشروط التي تشترط على العرب والعالم
أن يوافقوا على تلببيتها إذا ما أرادوا أن تعاد الجولان عندما دخل العرب الحرب
عام 1948م، كان هدفهم تحرير الشق الذي أعلن اليهود دولتهم عليه من أرض
فلسطين، ولكن العرب لم يفلحوا في ذلك، واحتل اليهود المزيد من الأراضي،
وعندما دخلت جيوش العرب الحرب سنة 1967م لتحرير ما سبق احتلاله لم يفلحوا
أيضاً بل خسروا المزيد والمزيد من الأراضي (القدس الشرقية سيناء الجولان الضفة
الغربية غزة) ثم كانت حرب 1973م، لا لتحرير فلسطين ولا القدس ولكن لتحريك
الأوضاع من أجل التفاوض لاستعادة مصر لسيناء التي احتُلت، ولاستعادة سوريا
للجولان التي ضاعت في تضاعيف قصة مثيرة وغامضة لا مجال للحديث عن
تفاصيلها الآن [1] ، ولا يجادل عربي مسلم في أن من حق سوريا أن تسترد ما
اقتطع منها، ولكن السؤال: ما هو الثمن؟ ! لقد أعاد الإسرائيليون سيناء إلى
مصر منزوعة السلاح لقاء ثمن باهظ دفعته الأمة كلها لا مصر وحدها ولا تزال
تدفعه وهو تعهد أكبر قوة عربية بالتخلي عن الدخول في أي عمل عسكري مستقبلاً
ضد (إسرائيل) من أجل فلسطين أو غيرها، لا مشاركة ولا انفراداً، ولم يكن هذا التعهد شفوياً، بل كان وفق اتفاقات دولية ملزِمة تشرف على تنفيذ بنودها القوى العظمى. وعبثاً حاول العرب أن يبعثوا الحياة في رفات مبدأ (قومية المعركة) الذي صاغه وأنعشه عبد الناصر وصنع نعشه أنور السادات، ولكن دون جدوى، ولم يعد أمام أصحاب الأراضي الأخرى التي ضاعت في الحرب إلا أن يسترجعوها عن طريق السلام بأثمان لا تقل فداحة عن الثمن الذي استُرجِعَت به سيناء.
الجولان.. وربع قرن من الضياع:
انكمشت آمال حزب البعث بعد خروج مصر من المعركة، وظل
تحرير الجولان طيلة ما يزيد على ربع قرن هو قصارى ما يحلم به بعثيو سوريا.
والجولان التي تبلغ مساحتها 1800 كيلو متر مربع تمثل أهمية كبرى للسوريين
والإسرائيليين على السواء، ولهذا يشتد النزاع في فصله الأخير حولها، وقد كانت
لها على مر التاريخ أهميتها بسبب ارتفاع هضبتها، وغناها بالماء، وموقعها ...
الجغرافي الذي شكل منها في العصور المختلفة محطة مهمة من النواحي العسكرية
والتجارية، وإطلالتها على بحيرة (طبرية) عذبة الماء جعلها محط التنافس منذ القِدَم، ولهذا كانت ساحة للمعارك في التاريخ القديم بين الفراعنة والكنعانيين، وبين
المصريين والآشوريين. ويزعم الإسرائيليون أن موسى عليه السلام استقر فيها بعد
خروجه من مصر كما يقول الحاخام (موئي حولان) [2] .
ولما جاء الإسلام وتوجه نظر المسلمين إلى فتح بيت المقدس، كانت منطقة (الجابية) على أرض الجولان هي مكان اللقاء الذي جمع بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما للتنسيق من أجل استمرار الجهاد على أرض الشام تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه. وقد سكنت الجولان في العهد التركي أعداد كبيرة من الشركس والتركمان، ولما حصلت النكبة عام 1948م نزح إلى الجولان عدد كبير من الفلسطينيين، أما عندما سقطت في يد اليهود في حرب 1967م، فقد ملؤوها بالمستوطنين اليهود بعد أن أخلوها من العرب المسلمين باستثناء الدروز الذين لا يُحسَبون لا على المسلمين ولا اليهود ولا النصارى! وإن كانوا لليهود أقرب ولاءاً وخلقاً. لقد وضع اليهود أعينهم على الجولان، حتى قبل أن يقيموا دولتهم؛ ففي عام 1918م وقبل أن يعلن (بن جوريون) الدولة بثلاثين عاماً أكد بأن الدولة اليهودية عندما تقوم لا بد أن تضم ما أسماه (سنجق سوريا) أي الجولان وما وراءها، وقد طالبت المنظمة اليهودية العالمية في رسالتها لمؤتمر السلام المنعقد في باريس في 3/2/1919م، بأن تضاف إلى الدولة اليهودية حين إقامتها منطقة جبل الشيخ على مرتفعات الجولان نظراً لأهميتها الحيوية أمنياً ومائياً، وبعد ذلك بعام ألحَّت الحركة الصهيونية على لسان زعيمها في ذلك الوقت (حاييم وايزمن) على بريطانيا لكي تجعل الجولان ضمن أجزاء الكيان اليهودي المزمع إقامته، وكان ذلك في رسالة بعثها وايزمن لوزير الخارجية البريطاني في (حاييم وايزمن) على بريطانيا لكي تجعل الجولان ضمن أجزاء الكيان اليهودي 15 /4/1920م. ولكن يبدو أن الأجواء الدولية لم تكن تسمح في ذلك الوقت ولا قريباً منه بتحقيق ذلك المطلب الصهيوني الملحّ، فلما قامت الدولة، وتأسس الجيش، واستعدت (إسرائيل) للتوسع، والانتشار، جعلت الجولان على قائمة أولوياتها عندما تحين الفرصة. وجاءت الفرصة: وذلك عندما حصل تسخين استفزازي في عام 1967م على الجبهة السورية من قِبَلِ بعض الفصائل الفسلطينية التي استعملها البعث السوري تحت شعار: (شعبية المعركة) ذلك الشعار الذي هددت به سوريا إسرائيل بأن تنقل الحرب إلى داخلها، وكان ذلك في وقت تألق فيه نجم عبد الناصر في مصر بعد أن نصَّبته الجماهير العربية المخدوعة زعيماً فرداً سيحرر فلسطين بل العرب جميعاً ويلقي بـ (إسرائيل) في البحر! ولم تكن الذريعة القادمة من سوريا كافية فقط لدخول اليهود إلى أراضيها واحتلالهم للجولان بل كانت فرصة لا تعوض لتحقيق هدف آخر كان أخطر وأكبر وأوْلى في نظر اليهود من الجولان، وهو جر عبد الناصر إلى معركة لم يكن راغباً فيها ولا قادراً عليها ضد (إسرائيل) وهذا ما حدث تماماً في حرب الأيام الستة التي حُطِّم فيها الجيش السوري والجيش المصري، وهما دعامة الجيوش العربية. وقد ظلت الجولان تحت سيطرة اليهود طيلة ثلاثة عقود، برهن الإسرائيليون خلالها على أن أمن سوريا مرهون بمرتفعات الجولان، التي تجعل دمشق في مرمى ... النيران الإسرائيلية، في الوقت الذي تعتبر الجولان نفسها ضماناً لأمن (إسرائيل) طالما ظلت تحت سيطرتها؛ فالدولة العبرية لا ترى أبداً أية إمكانية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بأن تُعاد الجولان كما كانت تحت سيادة سورية كاملة، وإن كان لا بد من إعادتها فلا بد من شروط كالشروط التي وضعت لإعادة سيناء، ومنها:
الشرط الأول: ألا تُعاد الجولان إلا منزوعة السلاح، وترتب فيها ضمانات أمنية تسوِّي تماماً إن لم تزد بين وضعها قبل الإعادة ووضعها بعدها بالنسبة لـ (إسرائيل) ، وقبل أن تجمَّد مفاوضات السلام بين سوريا ... و (إسرائيل) عام 1996م استغرقت الترتيبات الأمنية بشأن الانسحاب من الجولان أكثر الوقت، وكانت هذه القضية سبباً في تحطم جهود وزير الخارجية الأمريكي آنذاك (وارن كريستوفر) خلال نحو 20 جولة، كانت (إسرائيل) خلالها تصرُّ إلى جانب نزع السلاح على الاحتفاظ بمحطات إنذار مبكر على جبل الشيخ [3] . إن (إسرائيل) تريد أن تحول المطالب الأمنية إلى وضع استراتيجي يحقق لها مزيدا من التفوق، في الوقت الذي تتصلب فيه تجاه تنازلات جوهرية للعرب، هي في رأي باراك تتعارض مع شعار حزبه: (إسرائيل واحدة) فهو يخشى من تناقص التأييد لمشروعه في السلام، إذا لم يرَ فيها الشعب الإسرائيلي بقرة حلوباً تدر الثروة وتمنح الحراسة والأمن.
الشرط الثاني: أن تعترف الحكومة السورية بـ (إسرائيل) اعترافا كاملاً، وتتبادل معها السفارات وتطبِّع معها العلاقات؛ بل إن (إسرائيل) ربطت مدى الانسحاب بمدى الاستعداد للتطبيع، وأطلقت في الآونة الأخيرة شعاراً جديداً يقول: (عمق الانسحاب سيكون بعمق السلام) ! ومعنى هذا أنهم أي الإسرائيليين لن ينسحبوا انسحاباً كاملاً، كما تطلب سوريا إلا إذا حصلوا ... منها على تطبيع كامل! وهذا يعني ببساطة إلحاق حزب البعث العربي القومي السوري بالحظيرة التي سبق أن شنَّع عليها وعلى أصحابها وهي (كامب ديفيد) [4] ... وعند ذلك سيتتابع العرب في دخول بيت الطاعة وولوج عتبة دار السلام اليهودية الأمريكية، وعند ذلك أيضا تكون قد أُغلقت آخر حوانيت الكفاح ودكاكين النضال في سوق ما كان يعرف بـ (القومية العربية) !
الشرط الثالث: أن تتقاضى الحكومة الإسرائيلية مقابلاً مقنعاً ومشبعاً لجشع الشعب الإسرائيلي حتى يمكن أن يصوِّت بالموافقة على الاستفتاء الشعبي الذي سيُجرى لإبداء الرأي في إرجاع ما يعتبره اليهود جزءاً من (أرض إسرائيل) ! [5] .
ومن أجل هذا فقد أعدت الحكومة الإسرائيلية، ولا زالت تعد؛ قوائم من المطالب والشروط والاستحقاقات التي ترى أن على العرب والعالم، وعلى رأسه أمريكا أن يوافقوا على تلبيتها إذا ما أرادوا أن تُعاد الجولان، وبذلك ينتهي ... الصراع العربي الإسرائيلي في جانبه العسكري. وفواتير السلام التي أعدتها (إسرائيل) مقابل إعادة الجولان تتضمن الأثمان الآتية:
1 - الثمن الاقتصادي: مع بدء المفاوضات السورية الإسرائيلية، كان الطلب الإسرائيلي بالتعويضات المالية يتراوح بين ثلاثة مليارات من الدولارات أو أربعة مليارات؛ وذلك بحجة إقامة منشآت عسكرية بديلة لتلك التي سيجري ... تفكيكها في الجولان وجنوب لبنان، ومع تحسن المفاوضات ارتفع الرقم المطلوب إلى 17 مليار دولار مقابل الانسحاب، ثم أضيفت مطالب أخرى بـ 18 مليار دولار لتحديث القوات المسلحة الإسرائيلية، ومع إضافة أثمان المطالب الأخرى العينية من سلاح ومعدات صار مجموع ما تطالب به (إسرائيل) من (تعويضات) على ترك الجولان 70 مليار دولار! ! هذا عدا المدفوعات السنوية الجارية فعلاً، القديمة منها والجديدة. وبعد زيارة قام بها وفد من الكونجرس الأمريكي إلى (إسرائيل) أبلغته الحكومة الإسرائيلية أنها لن تنسحب من أي أرض إلا إذا جرى تفعيل برنامج المطالب الإسرائيلية؛ بحيث يتزامن مع عملية الانسحاب في حال البدء فيها بعد نجاح المفاوضات. ولكن بالنظر إلى أن الكونجرس الأمريكي لا يمكن أن يوافق باسم الشعب الأمريكي على هذا الابتزاز غير المسبوق لـ (البطة الخشبية) [6] في أيامها الأخيرة، فقد جاءت الإشارات بعدم الموافقة على دفع استحقاقات السلام نيابة عن سوريا! ! ولكن باراك الذي يعلم مدى حاجة كلينتون إلى فاصل من معزوفة السلام يختم بها عهده الملطخ ظل يرسل بإشارات تهدد بعرقلة العملية برمتها، فألمح كلينتون ثم صرح بأن هناك رغبة أمريكية في إقامة عملية (تمويل دولي) للسلام في الشرق الأوسط، وبالفعل وجه الكونجرس الأمريكي دعوة لأقطار الخليج العربي الستة، والدول الصناعية السبع بأن تشارك في دفع فاتورة (التعويضات) . ومن الكنيست الإسرائيلي صدرت تلك الدعوة فيما يشبه الأوامر، مما أثار سخط هذه الدول التي لم تُستشَر أصلاً قبل ذلك في هذا التوجه؛ فعلى الصعيد العربي انتقدت الكويت هذا الطلب نيابة عن دول مجلس التعاون الخليجي وطلبت من الجامعة العربية أن تتخذ موقفاً عربياً موحداً تجاه هذا الابتزاز في دورتها القادمة في مارس2000م. وسَخِرت مصر على لسان وزير خارجيتها مما أسماه: (التجارة بالسلام) ، أما الدول السبع الصناعية الغنية، فقد عارضت أيضاً هذا الإجراء الأمريكي الإسرائيلي المقترح، فاعتبرته كل من اليابان وألمانيا منافياً للشرعية القانونية، وكذلك امتنعت كل من إيطاليا وفرنسا وكندا عن الموافقة على هذا الطلب، ولم يبق من الدول السبع إلا أمريكا صاحبة القرار وحامية (إسرائيل) ، ثم بريطانيا الأم الشرعية لها؛ حيث التزم الإنجليز الصمت حتى لا يُحرَجوا مع ابنتهم اللقيطة! ولكن الطلب الإسرائيلي لا يزال مرفوعاً ولم يتم التنازل عنه، فقد يُعدَّل أو يُخفَّض، ولكنه لن يلغى، فهكذا عودها العالم (الحر) !
هذا.. ويدخل في الثمن الاقتصادي ما أعلنه رئيس طاقم التفاوض في مكتب باراك من أن (إسرائيل) لها مطلب قاطع في الإبقاء على السيطرة على مصادر المياه في الجولان، وهذا المطلب شبيه باشتراط (إسرائيل) احتكار شراء بترول سيناء بعد إرجاعها لمصر، ولكن مياه الجولان التي تمثل 35% من حاجات (إسرائيل) ربما تجد فرصة أسهل من بترول سيناء، خاصة وأن الصحافة الإسرائيلية سربت ما يفيد بأن الجانب السوري وافق في عهد نتنياهو على بقاء الوجود السوري بعيداً عن الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية بمقدار 500 متر على الأقل.
2 - الثمن العسكري: يريد إيهود باراك أن يستغل ثمرات المفاوضات مع سوريا إن نجحت لتحديث الترسانة الإسرائيلية، وإعطائها عناصر التفوق الإقليمي المطلق لمدة لا تقل عن خمسين عاماً كما قال، وهو باعتباره رجلاً عسكرياً [7] يرفع شعار: (جيش إسرائيل نواة الأمن القومي) ، والسلام بنظره ليس هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لتعزيز الأمن أو بالأحرى الهيمنة لا على الدول المحاذية لـ (إسرائيل) فحسب، بل على الشرق الأوسط كله. وهذا هدف أصيل ... في السياسة الإسرائيلية بوجه عام، كما صرح بذلك الأكاديمي الإسرائيلي (إسرائيل شاحاك) في كتابه: (الأسرار المفضوحة) فقد قال: (إن الهدف الرئيس للسياسة الإسرائيلية في الحرب والسلام هو السيطرة الإقليمية على الشرق الأوسط بأكمله) ! ولكن باراك يريد أن يعطي لهذه السياسة بُعداً آخر باستغلاله فرصة السلام السانحة الآن مع سوريا، ويهدف إلى استثمارها لتحصيل تفوق عسكري جديد تتمكن (إسرائيل) من خلاله أن تدافع أو تهاجم عن بُعد، دون الحاجة إلى السيطرة المباشرة على أرض بذاتها في الجولان أو جنوب لبنان، وقد أبدى إعجابه الشديد بسياسة الحرب عن بعد التي مارستها الولايات المتحدة في العراق وكوسوفا، وأطلق عليها وصف: (الحرب المعقمة) !
ولهذا نجد قائمة المطالب الإسرائيلية العسكرية تصب في هذا الاتجاه؛ فدولة اليهود تطالب أمريكا بقائمة طويلة من الأسلحة المتقدمة وعلى رأسها، تقنية طائرة ستيلث (الخفية) أو (الشبح) فقد طلبت (إسرائيل) خلال الجولة الثانية من المفاوضات أن تزودها أمريكا بتقنية هذه الطائرة التي لا تستطيع الرادارات اكتشافها.
وطلبت (إسرائيل) من أمريكا أيضاً أن تزودها بصواريخ كروز (توماهوك) التي لم تكشف المؤسسة العسكرية الأمريكية أسرارها حتى لشركائها في حلف الأطلسي باستثناء بريطانيا، وعدد الصواريخ المطلوبة في القوائم هو 350 ... صاروخ، ثم عُدِّل إلى 700، وتضمنت القوائم طلباً إسرائيلياً بالمساعدة على استكمال مشروع صاروخ (ناديتلوس) المضاد للصواريخ، وطلباً آخر بسربين من مروحيات (أباتشي) وسرب من طائرات (بلاك هوك) وسرب من طائرات النقل (هيركونيس) وآخر من طائرات الإنذار المبكر (إواكس) التي طلبتها (إسرائيل) قبل بدء المفاوضات مع سوريا أصلاً، وعلى القائمة طلب بالتزود بطائرات تزويد الوقود بالجو، ومحطة أرضية لالتقاط صور الرصد الجوي والأقمار الصناعية.
ويعلق المحلل الإسرائيلي (إلوف بن عالي) على هذه الطلبات بقوله: (إن باراك، ومنذ كان رئيساً للأركان يحلم باستبدال الجولان وجنوب لبنان بجيش جديد ... و (ذكي) !) [8] .
إنه من الواضح أن الصورة التي يريد الإسرائيليون أن يكون عليها جيشهم في (عصر السلام) هي أن يتحول من جيش للدفاع إلى جيش للإخضاع وسط عواصم عربية ترفرف في سمائها رايات نجمة داود المرفوعة فوق السفارات والقنصليات!! ولم ينس الإسرائيليون أن يُشركوا سوريا في غنائم ... السلام؛ فهي مدعوة بعد نزع سلاحها من الجولان أن تبعد جيشها عن المنطقة وأن تتعهد كالمنظمة بضمان أمن (إسرائيل) على الحدود السورية واللبنانية، مع هدية أخرى لرفع المعاناة عن كاهل الشعب السوري وهي: تخفيض عدد القوات المسلحة إلى عدد يليق بدولة (محبة للسلام) !
3 - الثمن السياسي: في حديث مع صحيفة معاريف الإسرائيلية في 19/12/ 1999 م قال إيهود باراك: (بالنسبة لتوقعاتي من المفاوضات، هناك إمكانية لإنهاء النزاع مع سوريا ولبنان،..، وذكر دولاً عربية أخرى ثم قال: ... أنا لست أعمى حتى أضيع هذه الفرصة) ! إن باراك يريد من الاتفاق مع سوريا ولبنان أن يفتح الباب أمام (إسرائيل) لعقد اتفاقيات صلح كامل مع البلدان العربية كلها؛ فدمشق برأيه، هي بوابة الدخول إلى العواصم العربية التي لم تعترف بعدُ بـ (إسرائيل) دولة مستقلة ذات سيادة على أرض بيت المقدس. وإعادة الجولان وجنوب لبنان يمكّن الإسرائيليين أن يقايضوا ذلك بالانفتاح على نحو عشرين دولة عربية، ستفتح أمامهم أسواقها وسفاراتها، وأرضها وعقول ... شعوبها وربما قلوبهم! والظاهر أن فراسة اليهود تصدق دائماً مع العرب؛ فحتى عصر (الشجب) يبدو أنه سيولِّي؛ بدليل أن عدداً من العواصم العربية قد بدأت تستبق الأحداث وتسرع في مضمار الهرولة حتى قبل أن تُبرم أي اتفاقيات مع سوريا أو لبنان، ويتم ذلك دون شجب أو تنديد أو حتى معاتبة رقيقة، وهذا أمر جديد على أبناء يعرب بن يشجب! [9] ولكن ماذا نفعل في ثمرات (القومية العربية) الخبيثة التي ولَّت بعد ما قضت على اللسان العربي ذاته؛ فلم يعد يُعرف الفرق بين المدلول اللغوي لكلمة السلام والاستسلام. فمن حق اليهود أن يهنَؤُوا إذن ويقروا أعيناً، عندما يدشنون بالتعاون مع العلمانية العربية صرحاً جديداً من القلاع اليهودية في ديار الإسلام يوازي في أهميته وربما يفوق تأسيس الدولة الإسرائيلية ذاتها، ويبدو أن (باراك) لم يكن مبالغاً عندما قال: (إن إنجاز مهمة السلام مع سوريا يوازي في أهميته مشروع إقامة (إسرائيل) عام 1948 م) [10] .
ومع فداحة تلك الأثمان المطلوبة للسلام مع سوريا، هناك ثمن أفدح، وهو ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي ما انبعث رموز البعث إلا بدعوى النضال من أجلها؛ ف (إسرائيل) فيما يظهر لن توقع معاهدة سلام مع سوريا بشأن إعادة الجولان إلا بعد حسم المسائل الكبرى في مفاوضات الحل النهائي على المسار الفلسطيني؛ فالسلام مع سورية لا معنى له بنظر (إسرائيل) إذا لم ينطوِ على اعتراف سوري بنتائج مفاوضات الوضع النهائي مع الفلسطيني [11] وهو الوضع الذي يُراد فيه أن تُطوى صفحة القدس بعد إعلانها عاصمة موحدة وأبدية لدولة اليهود، وأن يسدل الستار على قضية أربعة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين، وأن تظل المستوطنات الإسرائيلية على ما هي عليه دون تفكيك أو إلغاء، وأن تسوَّى مسائل الحدود بما يزيد من عزلة الشعب الفلسطيني داخل أرضه، ولكن هذا موضوع آخر نرجو أن يكون لنا فيه حديث آخر. الشاهد هنا أن الأمور إذا سارت مع سوريا على ما يهوى اليهود ويرتب الأمريكان فما الذي يمنع الإسرائيليين وهم يزدادون قوة والعرب يزدادون ضعفاً أن يكرروا التجربة في المستقبل ويحتلوا أجزاءاً أخرى مما يعتبرونه ضمن (أرض إسرائيل) ثم يقايضوا ويزايدوا عليه مرة أخرى، لكي يقبضوا ثمنه ثم ينتقلوا إلى غيره؟ ! ما الذي سيمنعهم؟ ! إن الحالمين الواهمين الذين يظنون أن الذئاب سترعى الغنم قريباً في الشرق الأوسط، ينبغي أن يقال لهم: كفوا عن الأوهام والأحلام؛ ... فالصراع متجدد والصدام أكيد، وما يقوم به يهود (إسرائيل) ويهود أمريكا سيجعل الأخرس يتكلم والأبكم يسمع، بل.... سيجعل الحجر ينطق! بلى والله! سينطق ... الحجر، وكذلك الشجر ليقول لكل من تحرر من الأوهام والأحلام: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله) [12] .
__________
(1) راجع في ذلك إذا أردت كتاب: (سقوط الجولان) تأليف: (خليل مصطفى) ، وكتاب: الأسد: (الصراع على الشرق الأوسط) ، تأليف: (باتريك سيل) ، وكتاب: (رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي) لـ (محمد عبد الغني النواوي) .
(2) وهذا زعم باطل؛ لأن موسى \ لم يتجاوز سيناء بل مات في التيه دون أن يدخل الأرض المقدسة فضلاً عما وراءها.
(3) منطقة جبل الشيخ احتلها الإسرائيليون في حرب 1967م، وجعلوها محطة مركزية للتجسس، وفي بداية حرب 1973م استعادها السوريون، ثم تركوها لما دبت الفوضى في صفوف الجيش السوري بإذاعة خبر سقوط القنيطرة الذي بثته إذاعة دمشق قبل سقوطها، فعاد الجيش الإسرائيلي لاحتلالها بعد يومين من وقف إطلاق النار.
(4) كان منتجع كامب ديفيد هو المكان المقترح أصلاً لتعقد فيه جولات التفاوض بين الإسرائيليين والسوريين، ولما كان المغزى المقصود من ذلك واضحاً فقد أصر السوريون على رفض هذا المكان المقترح، فكان البديل لكامب ديفيد، كامب شيفرد.
(5) عندما طلب الرئيس السوري حافظ الأسد من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران أن يتوسط لدى رئيس الوزراء الأسبق (مناحيم بيجن) في شأن الجولان قال له الرئيس الفرنسي: (إن بيجن يقول: إن أرض إسرائيل الكبرى خلقت لليهود، وهي ملك لإلههم، لذلك لا يحق لي أن أعيد شيئاً منها؛ لأنني لا أستطيع التنازل عما لا أملك) (الخليج العدد/7554) .
(6) هذا التعبير يطلقه الإعلام الأمريكي على كل رئيس يوشك على الخروج من البيت الأبيض في آخر مدته الرئاسية الثانية.
(7) لا يزال يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع إلى جانب منصب رئيس الوزراء.
(8) جريدة الحياة، 8/10/1420هـ 16/1/2000م.
(9) (يشجب) هو أحد الأجداد القدامى للعرب بعد (يعرب) .
(10) في حديث له إلى صحيفة هآرتس (21/12/1999م) .
(11) ظهرت بوادر ذلك في تجاهل وزير الخارجية السوري للإشارة في
كلمته أمام كلينتون وباراك بأي شيء عن فلسطين أو القضية الفلسطينية
(12) رواه البخاري، ح/ 6/75، ومسلم: 4/2239، ح/2922.(148/96)
المسلمون والعالم
المسلمون في فيتنام
وصف عن قرب
خالد علي حسن
لا توجد في فيتنام أي هيئة إسلامية من خارج البلاد على الرغم من وجود
مئات الجمعيات التنصيرية.
أعجبني ما كتبه الدكتور محمد ناصر العبودي الأمين العام المساعد لرابطة
العالم الإسلامي في مجلة الدعوة العدد 12581 بعنوان: (كيف ضاعت دولة
تشامبيا الإسلامية؟) [*] فأحببت أن ألقي الضوء على أوضاع المسلمين في فيتنام
عن قرب؛ حيث إنني مكثت فيها قرابة عام، وتجولت في العديد من ولاياتها
الجنوبية.
أولاً: تعداد المسلمين:
يبلغ عدد المسلمين حوالي 75 ألف نسمة أي ما يعادل 0.001% موزَّعين
على قرى ومحافظات المنطقة الجنوبية لفيتنام، والغالبية العظمى منهم في محافظة
(آن يان) التي تبعد حوالي 200 كم عن العاصمة القديمة (هوشِمَنَّه) وهذا العدد هو
من تعداد 57 مليون فيتنامي منهم البوذيون والنصارى.
والمسلمون في فيتنام غالبيتهم من أصل (تشامب) وهم السكان الأصليون
لفيتنام الجنوبية والباقي من أصول (عربية يمنية هندية فيتنامية) .
ثانياً: طرق الكسب:
يعمل غالبية المسلمين في القرى بالزراعة؛ حيث يمتلك بعضهم قطع أرض
صغيرة لا يكفي محصولها للإنفاق على الأسرة، وبعضهم يعمل أجيراً في الأرض،
وبعضهم يعمل بقطع المطاط لحساب شركات فيتنامية، وهؤلاء أسوأ حالاً من
المزارعين. أما الذين يسكنون المدن فغالبيتهم بدون عمل وقليل منهم يعمل في
بعض الحرف البسيطة مثل صناعة المفاتيح، ولا يوجد منهم موظفون ولا
مسؤولون في الحكومة إلا في القطاع الخاص.
ثالثاً: التعليم:
1 - التعليم الحكومي:
معظم أبناء المسلمين لا يكملون الدراسة في الجامعات لصعوبة النفقات،
ويكتفون بالثانوية أو المتوسطة، ويوجد الآن عدد لا بأس به من الطلاب المسلمين
في جامعات فيتنام خاصة في كلية التجارة (الإدارة الكمبيوتر) ولا توجد أي مؤسسة
أو هيئة تعتني بهم؛ فهم يعيشون مثل حياة الفيتناميين، وهناك 4 منح سنوياً من
البنك الإسلامي للدراسة في إندونيسيا تتحكم الجمعية الإسلامية فيهم وتبتز الأموال
من الذين وقع عليهم الاختيار حتى إن الطالب ينتظر سنتين ليحصل على هذه
المنحة، وأحياناً تضيع منح العام نتيجة التأخير؛ وقد يصل المبلغ الذي يدفعه ولي
أمر الطالب للجمعية نظير مصروفات المنحة إلى 800 دولار على الرغم من أنها
مجانية.
2 - التعليم الديني:
المساجد ليس لها أي نشاط في تعليم الكبار والشباب ودعوتهم، وجل ما تفعله
أن تحتفل بالأعياد والمولد وتدعو المسؤولين الفيتناميين للمشاركة، فيجلسون
ويدخنون جميعاً في المسجد دون تعظيم لحرمته!
أما تعليم الصغار فحسب المكان: فهناك بعض المحافظات تسمح بتعليم
الأطفال في المساجد، وأخرى لا تسمح. ويتعلم الأطفال: جزء عم، الحروف
العربية، مبادئ التوحيد، الطهارة، والصلاة. وعادة يستعملون مقرئ القرآن
للتعليم.
أما المدرسون فغالبهم غير مؤهلين حتى لتدريس الصغار؛ كذلك هم منشغلون
بتحصيل أرزاقهم، ويجعلون وقت التدريس فيما زاد عنهم؛ حيث إنهم لا يتلقون
أي مساعدات من أي هيئة، والحكومة لا تعترف بهم، عدا قرية واحدة تساعد
الحكومة المدرسين فيها.
الهيئات والمؤسسات الإسلامية في فيتنام:
لا توجد أي هيئة أو مؤسسة إسلامية من خارج البلاد، ويرجع ذلك لصعوبة
قوانين البلاد التي تحرم إقامة أي هيئة دينية لمساعدة طائفة بعينها؛ على الرغم من
وجود مئات الجمعيات النصرانية التي تتواجد في مناطق عديدة في فيتنام تعمل
وتدعو تحت ستار العمل الخيري للإنسانية. وعلى الرغم من ذلك فلم تقصر
الهيئات الإسلامية في السعي للحصول على ترخيص مثل: (جمعية أم القرى
الخيرية) ، (لجنة العالم الإسلامي) ، (جمعية إحياء التراث الإسلامي) ؛ ولكنهم لم
يتمكنوا من ذلك على الرغم من شهرة هذه الجمعيات في العالم الإسلامي بعملها
المنظم الإنساني الثقافي.
كما أن لهذه الجمعيات أعمالاً قائمة إلى يومنا هذا مثل: كفالة الأيتام، وكفالة
المدرسين، بناء المدارس، طباعة الكتب وخاصة القرآن الكريم المترجم إلى اللغة
الفيتنامية، بالإضافة إلى المشروعات الموسمية مثل: الأضاحي، الإفطارات
الرمضانية. ولكن الناظر إلى حال المسلمين في فيتنام يجدهم في حاجة إلى تواجد
قوي ومنظم من قِبَلِ هذه الهيئات عن طريق التمثيل وفتح مكتب أو فرع للهيئة هناك؛ وذلك للحفاظ على هويتهم الإسلامية؛ حيث توجد أماكن في العاصمة القديمة
الجنوبية (هوشمنه) لا تستطيع أن تميز فيها المسلمين من غيرهم. أما في داخل
فيتنام فتوجد جمعية واحدة أنشأتها الحكومة، اسمها: (الجمعية الإسلامية بهوشمنه)
ويقتصر عملها على مدينة هوشمنه فقط؛ ولكنها تحاول بسط نفوذها على المسلمين
في باقي الولايات الأخرى، وتحاول الحكومة الآن إنشاء جمعية أخرى في ولاية
(آن يان) ؛ حيث الأغلبية المسلمة؛ لأن ذلك من مصلحتها؛ حيث تقوم الجمعية
بمراقبة أعمال المسلمين من الألف إلى الياء ومن ثم إخبار الحكومة بها، وهذه
الجمعية ليس لها أي نشاط إيجابي مؤثر في المسلمين.
الحالة الأمنية للبلاد:
لدى الحكومة خوف شديد من الإسلام والمسلمين بخاصة الأجانب وعلى وجه
التحديد (العرب) ، وكثيراً ما يذيعون وينشرون الأخبار التي فيها قتل وإيذاء في بلاد
المسلمين لتخويف الناس من الدين، وقد شعرت بذلك أثناء وجودي هناك؛ وهذا
بالنسبة للإسلام أما غيره من الديانات والعقائد فلا.
كذلك فهم يعملون على تجنيد عيون لهم حيث يقطن المسلمون. والعجيب أن
هؤلاء العيون أكثرهم مسلمون وبعضهم يحمل بطاقة الحزب الشيوعي. والجدير
بالذكر أن المسلمين أنفسهم إذا رأوا ما لا يعجبهم من شخص أشعروا به الشرطة.
الحالة الدعوية للبلاد:
المسلمون في جهل وفقر شديدين، ولكن المهم أن لديهم قابلية للتغيير،
ونستطيع أن نقول: إنه لا توجد دعوة في فيتنام ولا أفراد يحملون همَّها إلا بعض
الأفراد القلائل، وهم مدرسون مكفولون من جمعية إحياء التراث الإسلامي، ومع
ذلك فهم ليسوا على المستوى المطلوب والوعي الكافي؛ فأحياناً يتسببون في
مشكلات كبيرة مع أهل القرى التي يزورونها، ومن ثَمَّ ترفع الشكاوى بحقهم إلى
الحكومة فتوقف الشرطة نشاطهم وتمنعهم من التحرك خارج القرية، وهؤلاء الأفراد
يسكنون محافظة (آن يان) في قرية (شودوك) .
من ناحية أخرى لا توجد دعوة لغير المسلمين البتة؛ وكيف يكون ذلك
والمسلمون منشغلون بالخلافات المذهبية ثم تحصيل لقمة العيش؟ ثم كيف يكون
ذلك والبلد لا يوجد فيها دعاة أكفاء؟ ! أما النصارى فعددهم الآن كثير جداً،
والكنائس في كل مكان، وهم محترمون من قِبَلِ الحكومة؛ لأنهم لا يعملون أعمالاً
من شأنها الإساءة إلى دينهم وذلك على اختلاف مذاهبهم.
جماعة الزاهدين:
والغريب أن هناك جماعة أصولهم إسلامية يسكنون في ولاية فارنج في
الجنوب الشرقي لفيتنام اسمهم (الزاهديون) [1] كانوا على الإسلام، ولكنهم حين
انتشر فيهم الجهل وخالطوا البوذيين وأصحاب الملل الكافرة انحرفوا عن الشريعة
الغراء، وأصبحوا يعملون أعمالاً غريبة منها قراءة كتاب مكتوب بخط اليد فيه
بعض آيات القرآن الكريم بالحروف العربية وفيه كلام آخر غير مفهوم، هذا الكتاب
يتوارثه أبناء أئمة المساجد، وبه يصير الابن إماماً بعد موت أبيه، كما أن الإمام
هو الذي يصلي ويصوم عن الناس! نظير بعض الطعام أو المال الذي يقدم إليه من
الشخص، وعندهم مساجد مهجورة لا يذهب إليها إلا الإمام، لا يعرفون عن الدين
شيئاً، وهم غير مشاركين في الحياة المدنية، وغالبهم في القرى يعمل بالزراعة،
ولهم تجمعات وأعياد خاصة.
هذه الجماعة لا تجد من يدعوها للعودة إلى الإسلام والسنة وهم قطاع كبير
(عدة آلاف) يرجع منهم إلى الإسلام القليل بنفسه؛ حيث يرى من المسلمين السنة
دعوة أو هدية أو تجديد مسجد كان قديماً أو غير ذلك من الأمور البسيطة.
المشروعات التي يمكن عملها في فيتنام:
المسلمون في فيتنام من المسلمين المنسيين، وهذا المقال تذكير بواجبنا ...
نحوهم، ومن المشروعات المقترحة لتجديد الإسلام في المنطقة: ...
1 - رعاية الأيتام سواء في منازلهم أو عن طريق إقامة دار لرعايتهم وكفالتهم فيها، مع العناية القصوى بتربيتهم وتعليمهم أصول الإسلام وآدابه.
2 - عمل دورات شرعية للمدرسين خارج فيتنام مثل تايلند أو كمبوديا.
3 - إرسال الطلاب المتميزين للتعلم خارج البلاد ليعودوا دعاة لقومهم.
4 - كفالة المدرسين والأئمة والدعاة للحفاظ على البقية الباقية من ثقافتهم الإسلامية، مع الحرص الشديد على تعليمهم أصول الإسلام وأركانه وحثهم على الالتزام بتعاليمه وآدابه.
5 - بناء العيادات الصغيرة للخدمات الصحية، والتوليد خاصة؛ حيث لا توجد طبيبة مسلمة واحدة. أما الأطباء المسلمون فهناك طبيب واحد فقط من محافظة (آن يان) .
6 - إنشاء مركز للغة العربية على غرار المراكز التي تدرس الإنجليزية ولو بالاشتراك مع مركز قديم لتعليم اللغات؛ لأن نشر العربية يساعد في نشر الإسلام.
7 - إنشاء جمعية للطلاب المسلمين في الجامعات لدعوتهم ورعايتهم والأخذ بأيديهم إلى أن يتخرجوا.
هذا ما يسَّره الله عز وجل من معلومات عن فيتنام حسب علمي.
فإلى الجمعيات الإسلامية التي تعمل في الدعوة إلى الله نقول: هلاَّ نال
إخواننا في فيتنام قسطاً من دعوتكم وإغاثتكم حتى لا ينقرضوا ويعودوا إلى جماعات
بدعية هي للبوذية أقرب!
__________
(*) للشيخ محمد العبودي كتاب وصف فيه رحلته إلى فيتنام بعنوان (أيام في فيتنام) من سلسلة رحلاته الدعوية فجزاه الله خيراً البيان.
(1) هذه الفرقة يوجد مثلها في كمبوديا وخاصة في قرية كمبومج شنان.(148/102)
المسلمون والعالم
نشاط مشبوه في شرق إفريقيا
محمد حسين معلم
منذ أن وصل الإسلام إلى شرق إفريقيا وانتشر فيها بواسطة الدعاة والتجار
العرب لم تشهد عقيدة التشيع حضوراً كبيراً في أرض شرق إفريقيا على الرغم من
قدوم هجرات متتالية عبر القرون من الجزيرة العربية والعراق والشام بدوافع دينية
وسياسية واقتصادية، ومن بينهم أناس يدَّعون أنهم من آل البيت، ومع ذلك فقد ساد
المنطقةَ عقيدةُ أهل السنة والجماعة، وعلى مذهب الإمام الشافعي رحمه الله في
الفروع، وإن كان بعضهم لا يخلو من تصوُّف، ولم تظهر كتلٌ وقطاعات كبيرة
تنتمي إلى الفكرة الشيعية تنشط في الميدان، وليس معنى ذلك عدم وجود أفراد
وأسر متشيعة؛ ولكن حينما انطلقت الثورة الإيرانية بقيادة الخميني عام 1979م من
أرض الفرس أصبحت تتزعم الشيعة في العالم، وألقت على عاتقها مسؤولية نشر
التشيع وحمايته؛ وعلى ذلك قدمت أدواراً مزدوجة في سبيل توسيع رقعة المذهب
وتصدير فلسفته إلى أنحاء المعمورة.
وقد استطاع الشيعة في إيران توصيل مذهبهم إلى أصقاع مختلفة من العالم
ومنها منطقة شرق إفريقيا التي شهدت نشاطاً شيعياً مكثفاً واسع النطاق وبقنوات
مختلفة بفضل الدعم الكبير الذي تقدمه السفارات والقنصليات الإيرانية في تحقيق
مآربهم في شرق إفريقيا ولا سيما في المناطق الساحلية المتأصلة جذور الإسلام في
أعماق أهلها.
ويتركز نشاطهم فيما يلي:
أولاً: فتح مراكز ثقافية في المنطقة: وهذه المراكز تتكون من مكاتب علمية
وقاعات للاجتماع وعقد الندوات وأماكن لتوزيع النشرات والكتب والأشرطة الدينية
على مذهب الاثني عشرية وغير ذلك. وأحد هذه المراكز في كينيا يقع وسط البلد
وفي مكان استراتيجي في العاصمة نيروبي، ويعتبر من أكبر المراكز في كينيا وهو
تحت إشراف القنصلية الإيرانية؛ حيث يتلقى منها التمويل والدعم المادي والروحي
علاوة على الحماية السياسية، وهذه المراكز يديرها مجموعات شيعية مدربة تتقن
عدة لغات مثل الإنجليزية والعربية إضافة إلى لغة السكان المحليين، وغالباً ما تضم
هذه المراكز مكتبات علمية ضخمة فريدة من نوعها تحتوي على كتب علمية في
مختلف صنوف العلم والمعرفة: من تفسير وعلومه، وحديث وعلومه، وفقه
وأصوله، ولغة وأدب، وتاريخ وسيرة، ومعارف أخرى، كما تحتوي على
مجلات وجرائد: أسبوعية أو شهرية، وأخرى فصلية، وهذه الجرائد يغلب عليها
الطابع الشيعي الجعفري؛ لأن جلها يأتون به من داخل إيران.
ومن هذه المجلات:
1 - مجلة (رسالة التقريب) وهي فصلية، ويعنون بالتقريب: التقريب بين
المذاهب الإسلامية: الشيعية، والسنية.
2 - مجلة التوحيد. ... ... ... 3 - مجلة الهدى.
4 - مجلة الوحدة. ... ... ... 5 - مجلة الراصد.
6 - مجلة الطاهرة، وغير ذلك، وأغلبها مكتوبة باللغة العربية والفارسية.
ثانياً: فتح مدارس علمية وأكثرها ثانوية: وقد أنشأ الشيعة في المنطقة
مدارس مختلفة المستويات التعليمية، وهذا النوع من المدارس كثير ومنتشر في
العواصم والمدن الكبيرة وهي في الغالب مدارس أهلية يديرها مدرسون وطنيون،
غير أن رئيسهم الروحي إيراني، ويُطلق عليه لقب الفقيه، وهناك مدارس ابتدائية
ومتوسطة. وعلى أية حال لا يشترط في الطلاب ديانة معينة ولكن أغلبهم من
المسلمين. أما لغة الثقافة في هذه المدارس فهي الإنجليزية والسواحلية.
ثالثاً: نشاط دعوي كبير بين الشباب المثقف: وقد وجد الشيعة في الآونة
الأخيرة آذاناً صاغية لبدعهم وذلك بعد أن جندوا نخبة من السكان الأصليين الذين
تعاطوا المذهب الشيعي واجتهدوا لنشره بين صفوف المجتمع، وهؤلاء الدعاة
يتقاضون الأجور من قِبَلِ السفارات والقنصليات الإيرانية في المنطقة، وفي بداية
الأمر لم يكن نشاطهم الدعوي يظهر في العلن؛ حيث الخوف والهلع من الدعاة
السنيين، وخوفاً من إثارة الفتنة والخلاف الذي لم يكن لصالحهم. والحقيقة أن
الشيعة تتبع أساليب وطرقاً مختلفة من إغراء بالأموال، وإعطاء منح دراسية لمن
تَروق له أفكارهم المنحرفة من الشباب ويستحسن طابعهم الشيعي، علماً بأن غالبية
السكان ليس لديهم مناعة قوية وحصانة شرعية تقيهم المحاولات البدعية المسمومة
الموجهة إليهم. ومهما كان الأمر فقد أخذت الشيعة توطِّئ قدمها على أرض شرق
إفريقيا، وبذلت وما زالت تبذل جهوداً في سبيل نشر التشيع والولاء لدولتهم،
ويتلقون من إيران دعماً سخياً لا حدود له.
لذلك يخالج كثيراً من أهل السنة مخاوف عديدة من خطر هذا السيل الجارف
الذي يتمثل فيما يلي:
1 - اهتمام الشيعة بالمسلمين الجدد، وزعزعة عقيدتهم وإدخالهم في التشيع.
2 - اهتمامهم باللاجئين الصوماليين وإغرائهم بالمنح الدراسية.
3 - فتح قنوات تلفزيونية، ولا سيما في تنزانيا.
4 - اهتمامهم بإعداد المناهج الدراسية وتوفيرها.
5 - تركيزهم على المسلمين في المناطق الساحلية.
6 - اتحاد الجهود بين الشيعة والطرق الصوفية، وخاصة في المناطق
الساحلية حتى تمكن الروافض من الاستيلاء على المراكز الصوفية وإحداث عداوة
بين الصوفية وغيرهم.
7 - نشرهم كتباً تسب تعاليم الإسلام وعقيدته الصحيحة وكذلك علماء أهل
السنة مثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وغيره.
8 - استغلالهم الظروف الاقتصادية السيئة لبعض المسلمين في السواحل،
وفي الملاجئ، حتى افتخر بعضهم أنهم استطاعوا التوغل في صفوف اللاجئين.
9 - محاولاتهم الاستفادة من الوسائل الإعلامية المختلفة وتسخيرها لخدمة
أهدافهم.
ومع هذه الجهود الكبيرة لأجل انتشار المذهب الشيعي إلا أن الله قيض بعض
الدعاة رغم قلة ما بأيديهم لوقف هذا الزحف الكبير؛ حيث استخدموا وسائل الدعوة
المختلفة من خطب ومحاضرات وندوات ودروس متتالية في أوساط الشباب وفي
المساجد وغيرها حتى استطاعوا ردع الشيعة ورد ضلالاتهم في بعض المحافل؛
بحيث أُبعدوا من بعض الأماكن الهامة التي كانوا يسيطرون عليها على حين غفلة
من أهل السنة.
ومن الأساليب والخطط التي استخدمها العلماء والدعاة السنيون: نشر كتب
وتوزيعها تبين العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتوضح الضلال والزيغ من المذاهب
المنحرفة وعلى رأسها المذهب الشيعي، غير أن المسلمين هناك يفتقرون إلى كتب
وبحوث مكتوبة باللغات المحلية التي يعرفها السكان، كالسواحلية والإنجليزية؛
بحيث تتناول هذه الكتب إبراز خطر الشيعة على العقيدة والدين.
ومن المؤسف أن بعض الحركات الإسلامية لا تناقش مثل هذه القضايا؛ بل
بعضهم يرون أن هذه الأمور خلافية قد تم دفنها مع الزمن، ولا يجوز نبش ما
واراه التاريخ؛ لأن مناقشة القضايا العقدية لا سيما فيما يتعلق بالشيعة وضلالاتهم
أمر لا ينبغي الخوض فيه لكي لا يتفرق المسلمون، في حين أن هناك نشاطاً مكثفاً
يهدف إلى تشييع أهل السنة فضلاً عن غيرهم في أماكن عدة من العالم، وتنفق
إيران في سبيل ذلك ثروة ضخمة، بل تتبنى وبكل جرأة رفع راية الشيعة في العالم
بأسره وتفتخر بهذا الدور؛ حيث ترى أنه دور بطولي في ظل تخاذل أهل السنة
وتقاعسهم دولاً وجماعات إلا من رحم الله.
ومن الغريب أن بعض المجلات والجرائد في العالم العربي ترفض نشر
مواضيع تمس عقيدة الشيعة وتفنيد مكامن خبثهم رغم أن أصحاب هذه المجلات من
جملة أهل السنة والجماعة، وهذا من غربة الإسلام التي أشار إليها نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، وأخطر من ذلك أن الشيعة بدؤوا بواسطة دولتهم ضغوطاً
دبلوماسية على بعض الناس حتى لا يسمحوا بنشر ما يمس عقائدهم من الكتب
والمقالات؛ حيث يعتبرون ذلك فتحاً لباب الدعاية عليهم والتدخل في شؤونهم
الداخلية، مما تسبب في فقدان كتب كانت موجودة في الأسواق، ولا يُعرف من
سحبها؛ لذلك فلا يستغرب أن يأتي يوم لا نجد في مكتباتنا كتباً ومصادر تكشف
أكاذيب الرافضة وتفضح تلك الكتب أراجيفهم التي زلزلت أركان دولتهم وأبانت
مكائدهم العقدية.
ورغم تبني إيران النشاط الشيعي، وتسخير كل ثرواتها وطاقاتها الهائلة في
سبيل نجاح عقيدة الرفض بالإضافة إلى الخُمُس الذي يأخذونه من كل شيعي في
أنحاء العالم تطوعاً رغم ذلك كله فإنه من السهل أن نقاوم هذا الضلال المنتشر في
صفوف المسلمين الجدد إذا استخدمنا خططاً محكمة وأساليب حكيمة مثل:
1 - نشر كتب وبحوث وتوزيعها تبين العقيدة الصحيحة على مذهب السلف
الصالح، لا سيما الكتب التي ألفت لأجل تبيان الزيغ والضلال، ومن الضروري
أن تكون بعض هذه الكتب مكتوبة بلغة يفهمها السكان الأصليون، ومن هذه الكتب:
- الشيعة والسنة، لإحسان إلهي ظهير.
- مسألة التقريب بين الشيعة وأهل السنة، د. ناصر القفاري.
- رسالة في الرد على الرافضة، للإمام محمد بن عبد الوهاب.
- حقيقة الشيعة، عبد الله الموصلي.
- أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، د. ناصر القفاري.
- الشيعة والقرآن، إحسان إلهي ظهير.
- النصوص الفاضحة، عبد الكريم محمد عبد الرؤوف، وغير ذلك من
الكتب.
2 - إقامة دورات دعوية بين الفينة والفينة لإعداد نخبة من الشباب وتربيتهم
على المذهب الصحيح.
3 - تنشيط بعض المراكز الثقافية التابعة لبعض الجمعيات والمؤسسات
الدولية العاملة في منطقة شرق إفريقيا؛ إضافة إلى المراكز والمنابر الثقافية المحلية
التي تعنى بالتعليم والدعوة.
4 - إعطاء منح دراسية في الجامعات الإسلامية لأبناء السواحل الشرقية
الإفريقية.
5 - إصدار بعض النشرات شهريةً أو فصلية تتضمن ردوداً على الفرق
المبتدعة.
6 - تفريغ دعاة يهتمون بأمر العقيدة والتوحيد في جميع أصقاع المنطقة
ليجوبوا الأقطار الساحلية بالدعوة الصحيحة.
نسأل الله أن ينصر من نصر دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يخذل من
يخذله.(148/106)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
درس شيشاني
من دون أي مساعدات من الخارج، أو أي تأييد يذكر، وفي مواجهة جيش
دولة عظمى تمكن مقاتلو الشيشان من إحراز انتصارات أربكت حسابات موسكو،
ودفعتها إلى الاعتراف بالأخطاء، والإعلان بعد تزييف مستمر عن أعداد أقرب إلى
الحقيقة للقتلى والجرحى في صفوف جيشها. قد يتغير الموقف في مرحلة مقبلة،
غير أن الحقيقة ستظل مع هذا قائمة ثابتة، وهي أن المقاتلين الشيشان تمكنوا من
تدويخ الجيش الروسي وإلحاق الهزائم المخزية، وتكبيده أفدح خسائر، لقد حققوا
لأنفسهم نصراً مدوياً في تاريخ جهاد ذلك الشعب الباسل من أجل نيل حريته
واستقلاله. وهو نصر كان كفيلاً لو أن في العرب بقية حياء أن يجلب إلى وجوههم
حُمرة الخجل. فأما الدرس المستقى فلا أرى من هو أوْلى بأن ينتفع به من شعوبنا
العربية والإسلامية التي غمرها الإحساس بوجود إرادة عليا لا تُقهر، ولا تملك
حيالها غير الإذعان والاستسلام، إحساس بأنها باتت مغلوبة على أمرها. غير أن
أغلب ظني أنهم وهم يرقبون ما يجري اليوم في جمهورية الشيشان يودون في قرارة
أنفسهم ومهما تظاهروا علناً بغير ذلك أن ينتهي الأمر سريعاً بسحق الروس لتمرد
مقاتلي الشيشان حتى ترسخ ثقتهم في عبث المقاومة. فمجرد استمرار هذا التمرد،
حتى من دون انتصارات باهرة كتلك التي حققها هؤلاء المقاتلون، يمثل إدانة دامغة
لخمول همتهم، وأصابع الاتهام تشير إلى تقصيرهم. واليوم إذ أتابع ساعة بعد
ساعة أخبار جهاد الشيشان ضد الاستعماريين الروس أرى ثقتي تتنامى في أن
الوقت قد يجيء حين يكون للمسلمين في تلك المنطقة دور القيادة للمسلمين في كل
مكان.
[حسين أحمد أمين، جريدة الحياة، العدد: (13471) ]
كلام واضح
لم تنشب حرب الخليج الثانية بعد احتلال العراق للكويت لأسباب تتعلق
بالديمقراطية أو حقوق الإنسان، وإنما بسبب النفط، ولو لم يكن النفط موجوداً في
تلك المنطقة فلربما ظل العراق مسيطراً على الكويت حتى وقتنا هذا، ولم يكن
الأمر ليأخذ الأهمية التي أخذها، فكما نرى في حالات أخرى لم يكترث أحد
باحتلال بلدان أخرى. إذن يمكن القول: إن الولايات المتحدة تزعم أنها تنطلق من
مسوغات إنسانية، ولكنها في معظم الحالات عوامل جيواستراتيجية، حتى في
قراراتها المتعلقة بعمليات حفظ السلام كما في البوسنة وكوسوفا؛ لأن هاتين
الدولتين تقعان في أوروبا، والوضع فيهما يؤثر على علاقات الولايات المتحدة مع
روسيا ويعد مهماً من الناحية الاستراتيجية، ولكن الولايات المتحدة لم تتحرك إزاء
رواندا، أو غيرها من الصراعات الإفريقية، وخرجت من الصومال بدون بذل
محاولة جادة لتسوية النزاع فيها؛ لأنها لم تفهم حقيقة الأمر هناك واعتبرته قليل
الأهمية بالنسبة لها، فانسحبت تاركة الصومال في حال يرثى لها كما كانت من قبل، إذن الولايات المتحدة تتخير حسبما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية.
[آن ليشى، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة فيلانوفا بالولايات المتحدة، مجلة المجتمع، العدد: (1384) ]
إنجاز ثوري! !
عندما تبدأ مطالعة موقع جمعية اللواطيين والسحاقيات العرب على الإنترنت
ربما يكون من الأفضل أن تفقد طوعياً قدرتك على الاندهاش؛ حيث إن ذلك الموقع
الأنيق يضم مجموعة متكاملة من المعلومات والأخبار ووسائل التعاون والخدمات،
وكذلك جرعة معرفية هامة حول ثقافة الشذوذ الجنسي، وهو ما يبدو في مجمله
مشروعاً لخلق مجتمع عربي جديد قائم على الحرية الجنسية! إن هدف الجمعية هو
تحقيق التواصل بين الشواذ العرب حول العالم، وتعتبر الجمعية أن إنجازها ثوري
وخارق للعادة، نظراً لما تسميه بالاضطهاد التقليدي العربي لثقافة الشذوذ، وهي
تشجع اللواطيين والسحاقيات على الاعتزاز بأنفسهم ومقاومة أولئك الذين يسعون
إلى قمعهم بواسطة الكراهية والتجاهل! !
[جريدة القدس العربي، العدد: (3326) ]
كل هذا المديح! !
أبى الرئيس بوريس يلتسن ألا ينصرم القرن العشرون قبل أن يتأكد من
تسجيل اسمه بين زعمائه الأفذاذ غير العاديين. وإذا أردنا وصفاً يلخص شخصية
يلتسن آخر المنسحبين من عالم الأضواء في ذلك القرن فهو أنه سياسي مغامر
بامتياز، وهذه الصفة تحديداً هي أكثر ما يميز الزعماء الأفذاذ عن غيرهم.
فالمغامرون هم الذين صنعوا التاريخ أو أعادوا صنعه، ولولاهم لسارت حياة الدول
والمجتمعات رتيبة لا حيوية فيها ولا إثارة. أما صفته الثانية التي لا تقل أهمية فهي
العناد إلى غير حد. وما لم يكن السياسي عنيداً، يصير صعباً عليه أن يخوض
مغامرات كبرى يركب خلالها الخطر في لحظات حاسمة. مع ذلك وعلى رغم هذا
الدور التاريخي لم يتعرض سياسي في العقد الأخير من القرن العشرين إلى ما نال
يلتسن من انتقادات لا بل لعنات، نسي كثيرون دوره هذا، ولم يذكروا غير سوء
أدائه عندما صار سيد الكرملين. وإذا كان ترك تقاليد فاسدة كثيرة فقد وضع تقليداً
إيجابياً في يوم استقالته حتى إذا لم يقصد ذلك، وهو أن يستقيل المسؤول عندما
يفشل. وهذا موقف قد يَجبُّ بعض أخطائه التي ستظل تلاحقه، ولكنها لن، ولا
ينبغي لها أن تسلبه حقه في الاعتراف به زعيماً فذاً ساهم بالدور الأهم في تحويل
مسار بلاده وإخراج شعبه من وراء الستار الحديدي الذي لا تقارن مظالمه الهائلة
بمعاناة الروس الآن. وهو في ذلك كله زعيم فذ يستحق مكانة متقدمة بين رجال
القرن العشرين أياً كان حجم الخلاف على دوره.
[وحيد عبد المجيد، رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي، جريدة الحياة، العدد: (13451) ]
دعاة على أبواب العولمة! !
فئة الشباب في مصر تؤيد العولمة؛ لأنهم يتعاملون مع البيتزا ودجاج
الكنتاكي ووجبات الماكدونالدز ويرتدون الجينز ويتعاملون مع الكمبيوتر وشبكة
معلومات الإنترنت، ويتطلعون للسفر إلى الخارج، وهذه الفئة في واد آخر ولا
تتأثر بمقولات أعداء العولمة. إن هناك اتجاهاً نحو السلام، والديمقراطية،
وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، وهذه ثلاثة أمور تحمل في طياتها بواعث الأمل! !
فالسلام يجنب المنطقة مزيداً من الاستنزاف الاقتصادي والبشري والروحي. أما
الديمقراطية فإنها تعوِّد العرب على حل خلافاتهم الداخلية الإقليمية بصورة سلمية
وتساعد على فرز الكوادر السياسية ووضْعٍ أفضل لهذه الأمة في القرن المقبل.
وبالنسبة إلى الانتعاش الاقتصادي: الملاحظ أن الدول العربية بدأت تتجه إلى
اقتصاديات السوق وذلك بعد نصف قرن من التجربة وثبوت أن هذا الاتجاه هو
الأفضل اقتصادياً في تنويع وتنمية مواردنا الذاتية.
[د. سعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون بالقاهرة، مجلة الوسط،
العدد: (416) ]
عليكم النصرة
كشف عائدون من مخيمات لاجئي الحرب الأهلية في منطقة شرق زائير
الكونغو الديمقراطية عن تعرض نصف مليون مسلم من أبناء البلاد لمحاولات
تنصيرية مستمرة تستغل الظروف القاسية التي يعيشها السكان المسلمون داخل
المخيمات. وقالت هذه المصادر: إن المعونات التي تأتي من الأمم المتحدة إلى
اللاجئين في المناطق الممتدة من شرق زائير إلى حدود بوروندي ورواندا تذهب في
الأغلب إلى الأقلية المسيحية التي تعيش في المخيمات، في حين تظل الأغلبية
المسلمة في انتظار معونات المنصرين، والفتات الذي ترسله لهم إيران التي تعد
الدولة المسلمة الوحيدة التي التفتت لمشكلة هؤلاء اللاجئين! ! بدأت مشكلة هؤلاء
اللاجئين منذ استولى رولان كابيلا على الحكم في زائير وحوَّل اسمها إلى الكونغو
الديمقراطية حيث نشبت حروب طاحنة ما زالت قائمة بين كابيلا ومعارضيه،
وكان من ضحايا هذه الحروب المسلمون الذين يعيشون في المحافظات الشرقية،
فتركوا مدنهم وقراهم، ومنهم عدة آلاف فروا إلى رواندا، وبورندي وأوغندا
المجاورة، وعاشوا منذ تلك الفترة داخل خيام أقامتها لهم لجنة لشؤون اللاجئين
التابعة للأمم المتحدة. إن المسلمين يتعرضون داخل هذه المخيمات التي أصابها
البلى لمهانة لا تليق بالكرامة الإنسانية؛ فالطعام لا يسد الرمق، وتنعدم الخدمات
الطبية مع تلوث مياه الشرب مما أدى إلى انتشار أمراض سوء التغذية بين الصغار
والكبار، إضافة إلى الملاريا المنتشرة هناك بصورة وبائية.
[مجلة الإصلاح، العدد: (421) ]
لماذا المخالفة؟ !
عندما اقتحم من يسمون أنفسهم جنود الله من رجال شامل باسايف وخطاب
أراضي داغستان، عارضت أنا ذلك، وأعلنت موقفي جهاراً. وقلت: ليس هذا
بجهاد.. هذا خداع.. وأعلنت ذلك من التلفزيون المركزي عندنا وآنذاك كان ما
يزال يعمل وكان بوسعي التحدث معه.. وقلت: إذا كانت داغستان تريد الجهاد
فلديهم علماء دين أفاضل يستطيعون إعلان الجهاد فيها، وإذا ما حدث وثاروا ضد
روسيا فيمكننا التوجه لمساعدتهم كإخوة لهم. كما فعلوا هم حين ساعدونا في الحرب
الماضية. لكن ما حدث تماماً غير ذلك، فهم لم يعلنوا الجهاد، ونحن اقتحمنا
أراضيهم، إنها أرض روسية.. ولهذا لم أؤيد العملية، إنه لشيء بعيد عن
الإنصاف. فماذا كانت أهداف الهجوم.. وعن أي (إسلام) يدورالحديث لقد كانت
هناك مدارس إسلامية ومساجد، ولم يفرض أحد الحظر على الدين، بينما نحن
جئنا لفرض الشريعة والإسلام على حد الزعم.. هذا في الوقت الذي لم يتوفر هذا
لدينا أنفسنا. فما هو المثال الذي كنا نريد تقديمه لهم؟ أنا لا استثني احتمال وجود
يد لموسكو في ذلك، وربما جرى الاتفاق مع موسكو بشأنه.
[مفتي الشيشان، أحمد قادروف، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7710) ]
الجهاد المقلق! !
طالب الوفدان البريطاني والأمريكي اللذان زارا باكستان الحكومة الباكستانية
بوقف أنشطة الجماعات الكشميرية المسلحة التي تعمل من الأراضي الباكستانية،
وكان هناك ضغط على القيادة العسكرية من أجل تنفيذ عدد من المطالب إذا ما
أرادت الحكومة الحالية أن تحظى بالقبول الدولي، وأكد مسؤولون في الوفدين أن
الخطوة الأولى والأهم هي حظر نشاط حركة المجاهدين الكشميريين التي أعلنتها
الولايات المتحدة حركة إرهابية.
[السبيل الأردنية، العدد: (318) ]
عزة يهودية! !
نقل عن الحاخام الأكبر الأسبق للدولة العبرية موردخاي إلياهو قوله: إن على
سورية أن تعيد لـ (إسرائيل) مدينة دمشق العاصمة التي أخذت منا في عهد الملك
داود، حسب زعم الحاخام المتشدد الذي يشكل مرجعاً دينياً أعلى للحزب القومي
الديني (المفدال) المتطرف. وأضاف الحاخام: إن على المؤمنين اليهود أن يخرجوا
ويمزقوا ثيابهم؛ لأن الحكومة الإسرائيلية تريد إعادة مناطق من أرض (إسرائيل)
بينما لا يعقل أن نتخلى عن أراضٍ في مرتفعات الجولان ونسلمها للعدو.
[جريدة القدس العربي، العدد: (3326) ]
وماذا أنتم فاعلون؟ !
قال السفير محمد صبيح مندوب فلسطين الدائم لدى جامعة الدول العربية: إن
هناك عشرة آلاف عالم نووي في (إسرائيل) منهم علماء نجح الكيان في تهجيرهم
من الدول السوفييتية السابقة وذلك ضمن موجة الهجرة التي شملت تهجير 92 ألف
عالم في مجالات مختلفة من الاتحاد السوفييتي السابق إلى (إسرائيل) . وأشار
مندوب فلسطين في تصريحات أدلى بها على هامش اجتماعات اللجنة العربية
المعنية برصد النشاط النووي (الإسرائيلي) إلى أن دول المنطقة تحتاج إلى أكثر
من 50 عاماً لإعداد جيش من العلماء النوويين على غرار الجيش الموجود في
(إسرائيل) حالياً، وأضاف صبيح أن (إسرائيل) تستثمر هذه المعرفة وتعطيها إلى
دول أخرى معروفة في المنطقة تحت غطاء التعاون العسكري.
[جريدة الخليج، العدد: (7554) ]
هل نعي المقصود؟ !
إن العالم العربي يفتقر إلى النظافة، وإن هذا الحال غير معقول بالنظر إلى
أن (إسرائيل) في هذا المحيط بقعة نظيفة، فضلاً عن أنها جزيرة ثرية وسط بحر
من الفقر، إن من الضروري الاتفاق على نظم التعليم وشؤون المياه والطاقة، وذلك
بتغيير مناهج التعليم في دول الشرق الأوسط، وبالاتفاق على تقسيم المياه في
المنطقة، إن هذه الموضوعات لا يصح أن تنتظر عملية السلام، ولكن يمكن أن
تسير معاً بالتوازي، وحتى إذا تعثر السلام تسير هذه الموضوعات دون انتظار،
حتى لا تبقى هذه المنطقة متخلفة وتلهث وراء قطار العولمة! !
[شمعون بيريس، جريدة الخليج، العدد: (7560) ]
تعادل غير.. عادل! !
ذكر تقرير عن الصحة والبيئة صادر عن معهد وورلد ووتش أنه للمرة الأولى
ينافس عدد الأشخاص في العالم المصابين بتخمة غذائية وزيادة في الوزن هؤلاء
المصابين بسوء تغذية وانخفاض في الوزن؛ إذ يبلغ عدد كل منهم 1.2 بليون
شخص. والتخمة الغذائية هي مشكلة ظهرت حديثاً في دول تسمح الدخول المرتفعة
فيها بشراء أغذية ذات سعرات حرارية عالية.
[جريدة الحياة، العدد: (13461) ](148/110)
دراسات إعلامية
العولمة في الإعلام
د. مالك بن إبراهيم الأحمد
الحمد لله رب العالمين القائل: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ]
[الحجر: 94] والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين القائل: (إن من
البيان لسحراً) [1] وبعد: فإن أمر الإعلام في عصرنا الحاضر ودوره المؤثر
والفعال على الأمم والمجتمعات، على الدول والمؤسسات، والكبار والصغار،
والنساء والرجال أمر لا يخفى على ذي بال. لكن الطور الذي دخله الإعلام في
سنيه الأخيرة ليس مجرد طور عادي، وليس مجرد وسيلة جديدة أو أسلوب متطور
فحسب؛ بل الأمر هو التوجه العالمي للإعلام؛ بمعنى أن الإعلام لم يعد محصوراً
في مكان أو حدود سياسية أو بقعة جغرافية.. بل أصبح يتخطى الحدود وربما
يجاوز كل وسائل الرقابة. كذلك فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد.. بل تعداه إلى
تكوين مجموعات أو شركات إعلامية أخطبوطية لها أذرع في كل مكان، ولها
وجود في كل صنف من الإعلام.. تشارك في القرار السياسي وتؤثر في النشاط
الاقتصادي.. توجه المجتمعات وتقود الأمم في الفكر والثقافة، في الفن والرياضة،
في الدين والأخلاق. نعم! هي مستقلة (مالياً) لكنها مرتبطة بصفةٍ مَّا بالدول التي
تنطلق منها. خلفية مالكيها ومؤسسيها تحكم توجهها الثقافي والاجتماعي. أما عمالها
وموظفوها فهم مشاركون في صياغة توجهها وما تبثه وما تنقله وما تنتجه من مواد
إعلامية فيغلب عليهم التوجه العلماني، ويؤثر حيث يغلب فيهم خلفيتهم الأيديولوجية.
أما التاريخ فهو ما يصوغ علاقتهم مع الآخرين، خصوصاً إذا كانت هناك تداخلات مسبقة (حروب صليبية استعمار..) . وحديثنا عن آثار العولمة في مجال الإعلام ليس من باب المبالغة، ولا من باب تقوية الخصوم لكنه من باب ... [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم] [الأنفال: 60] من باب أن (الكلمة أمانة) ومن باب (الواجب والمسؤولية) وباب [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] [آل عمران: 110] وباب ... (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى..) وسوف نسرد هنا نماذج فعلية تحكي صورة من الإعلام الدولي الذي ينحو نحو العولمة؛ فلقد سمعنا وقرأنا كثيراً عن العولمة في السياسة والعولمة في الاقتصاد.. لكن لم نسمع من قبل عن العولمة في الإعلام؛ فدعونا نقرأ قليلاً حول هذا الموضوع.
مفهوم العولمة:
العولمة مصطلح حادث مترجم عن الكلمة الإنجليزية Global ومعناها: عالمي أو دولي، وغالباً ما تذكر مرتبطة بمصطلح القرية (Global Village) بمعنى القرية الكونية أو العالمية. ويدور مفهوم العولمة حول الوجود العالمي أو الانتشار الكوني، وغالباً ما استخدم في السياسة والاقتصاد بمعنى النفوذ السياسي العالمي والمؤسسات الاقتصادية الدولية (الأخطبوطية) المتواجدة في أنحاء كثيرة من العالم ولها تأثير قوي ونافذ سواء في الشأن الاقتصادي أو السياسي المحلي (أي في البلدان المتواجدة فيها) . ثم تطور في جانب جديد وهو العولمة الإعلامية، عن طريق إنشاء مؤسسات إعلامية دولية ضخمة لها قاعدة أساسية في بلد وتنطلق منه إلى كثير من البلدان، ولها أثر فاعل في الإعلام المحلي لتلك البلدان..
وأخيراً نشأ مصطلح العولمة الثقافية (Global Culture) وتعني الانتشار الثقافي الفكري لجهات قومية، ومؤسسات دولية (أغلبها أمريكية) وأصبح لها أثر ملموس في الجانب الثقافي لدى الكثير من المجتمعات حول العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب [2] . ...
المجموعات الإعلامية الدولية الكبرى:
هناك ست مجموعات رئيسة كبرى، تعمل في الأنشطة الإعلامية على مستوى العالم ولها حضور دولي كبير متفاوت من مؤسسة لأخرى، ... أربعة منها أمريكية، وواحدة أوروبية، وواحدة أسترالية أمريكية، وهذا عرض لأبرز أنشطة هذه المجموعات:
1 - تايم ورنر Time Warner: [3]
أكبر مؤسسة إعلامية في العالم؛ إذ تفوق مبيعاتها 25 بليون دولار، ثلثها من أمريكا، والباقي من العالم.
ويتوقع ارتفاع دخلها من خارج أمريكا إلى 50%، وتملك العديد من الأنشطة الإعلامية المتنوعة ومنها:
* 24 مجلة (منها تايم) .
* ثاني أكبر دار للنشر في أمريكا.
* شبكة تلفزيون ضخمة واستديوهات برامج وأفلام، ودور عرض للسينما (أكثر من 1000 شاشة) ، وأكبر شبكة كيبل تلفزيوني مدفوع في العالم.
* شركات أفلام في أوروبا، والعديد من محلات البيع بالتجزئة.
* مكتبة ضخمة من الأفلام (6000 فلم) والبرامج التلفزيونية (25000 برنامج) .
* بعض القنوات الدولية التلفزيونية مثل HBO, TNT, CNhN.
* مساهمات رئيسة في قنوات وشبكات تلفزيونية أو مرئية. وللعلم، فإن عدد مشاهدي المحطة الإخبارية CNN يفوق 90 مليوناً في 200 دولة، ولدى HBO 1.2 مليون مشترك حول العالم.
2- مجموعة برتلزمان ertelsmann:
أكبر مجموعة إعلامية في أوروبا وثالث أكبر مجموعة في العالم. دخلها السنوي يجاوز 15 بليون دولار، وتتميز بأن لها تحالفات وتعاوناً مع العديد من المجموعات الإعلامية الدولية في أوروبا واليابان، ولها العديد من الأنشطة الإعلامية ومنها:
* قنوات تلفزيون في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا؛ إضافة إلى استوديوهات سينمائية متعددة.
* مجموعة من الإذاعات الأوروبية.
* 45 شركة نشر للكتب بلغات أوروبا المختلفة.
* أكثر من 100 مجلة في أوروبا وأمريكا.
3- مجموعة فياكم Viacom:
مجموعة إعلامية قوية في أمريكا؛ وربع دخلها السنوي (13 بليون دولار) من خارج أمريكا، ولها نشاط محموم للتوسع الدولي؛ حيث أنفقت بليون دولار في السنوات الأخيرة للتوسع في أوروبا، ولها تحالفات مع العديد من المجموعات الإعلامية ونشاطها متنوع ومنه:
* 13 محطة تلفزيون في أمريكا إضافة إلى شبكات بث فضائي دولي
(شوتايم [4] نكلدون ... ) .
* شركات إنتاج تلفزيوني وسينمائي وفيديوي وموسيقي.
* شركات نشر كتب.
4- ديزني Disney:
أكبر متحدٍّ لمجموعة تايم ورنر في العولمة الإعلامية. لها دخل يفوق 24 بليون دولار، ولها حضور قوي في مجال الأطفال بل تعتبر أكبر منتج لمواد الأطفال في العالم، ولها حضور من أقصى الشرق (الصين) إلى أوروبا ... والشرق الأوسط حتى أمريكا اللاتينية. ولها أنشطة متنوعة منها:
* استوديوهات أفلام وفيديو وبرامج تلفزيونية، وشبكة ABC ... التلفزيونية الضخمة في أمريكا، ومحطات تلفزيون وراديو متعددة.
* قنوات تلفزيونية دولية متعددة بالأقمار الصناعية والكيبل مثل ديزني Espn ,Disney الرياضية.
* محلات تجارية باسم ديزني، ومراكز ألعاب وترفيه حول العالم.
* دور نشر للكتب. * 7 صحف يومية، و3 شركات لإصدار المجلات. وللمجموعة تحالفات ومشاركات مع مؤسسات إعلامية في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وكذلك مع شركات بث واتصالات متعددة الجنسيات.
5 - نيوز كوربريشن News Corporation:
خامس أكبر مجموعة إعلامية من حيث الدخل (10 بليون دولار) لكنها أكبر لاعب دولي في مجال الإعلام حول العالم. أسس المجموعة روبرت مردوخ [5] ويملك حالياً ثلثها، ولها وجود في جميع أنحاء العالم من خلال أنشتطها الإعلامية والتي منها:
* 132 صحيفة و25 مجلة في أستراليا وبريطانيا وأمريكا (تعتبر واحدة من أكبر ثلاث مجموعات صحفية حول العالم) .
* شركة فوكس للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وشبكة فوكس للبث التلفزيوني؛ إضافة إلى 22 محطة تلفزيون.
* شبكة ستار للبث الفضائي حول العالم وشبكة سكاي (بريطانيا خصوصاً) .
* دور نشر للكتب. وللمجموعة تحالفات مع مجموعات إعلامية حول الإعلام، وقاعدتها 6 دول رئيسة تنطلق منها أنشطتها المتنوعة وبالأخص: أستراليا بريطانيا أمريكا. تعتبر هذه المجموعة من أعقد المجموعات الإعلامية وأوسعها، ولها نفوذ قوي في الصين والهند (فضلاً عن أوروبا وأمريكا) ، وأسلوبها الناجح هو الشراكة مع جهات نافذة محلية مع عدم مصادمة التوجهات السياسية المحلية لهذه البلدان [6] . ومن أهم خصائص هذه المجموعة: أنها تبث بلغات البلدان المختلفة؛ فمجموعة (Fox) نفسها مثلاً تبث بالأسبانية في أمريكا اللاتينية وأسبانيا إضافة إلى الإنجليزية بوصفها لغة دولية وتتميز هذه المجموعة أيضاً بقدرتها على اختراق الدول النامية وتوطيد أقدامها فيها، كما أن لها مصادرها الخاصة بالأخبار والبرامج ممثلة في شركات تابعة أو شريكة إضافة إلى قنوات
البث الخاصة بها.
6 مجموعة TCT:
وهي مجموعة إعلامية متخصصة بالبث التلفزيوني عبر الكابل وكذلك عبر الأقمار الصناعية من خلال نظام الاشتراكات، ولها وجود قوي دولي في هذا الميدان؛ حيث تمتلك قمرين صناعيين للبث حول العالم (قيمتهما 600 مليون دولار) والدخل السنوي للمجموعة يفوق 7 بليون دولار. ...
مجموعات إعلامية أخرى:
هناك مجموعات إعلامية دولية أخرى على صنفين:
الأول: يمثل النشاط الإعلامي جزءاً من نشاط أوسع للشركة الأم. والصنف ...
الثاني: مجموعات إعلامية أصغر (من حيث الدخل؛ وإلا فإنها إمبراطورية إعلامية لا يقل دخلها عن بليون دولار سنوياً) ، وسنذكر هنا أبرزها وأكثرها تواجداً على الساحة الدولية:
1 - يونيفرسال: تملكها مجموعة سيغرام الدولية، ويمثل دخل المجموعة الإعلامية (7 بليون دولار) نصف عائدات الشركة الأم. وأبرز أنشطتها: أعمال الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والموسيقي ونشر الكتب، ولها 27 مكتباً حول العالم، ولها وجود قوي في أوروبا وشرق آسيا (سوف تنفق 200 مليون دولار في الصين حتى العام القادم) .
2 - بولي جرام: تمتلكها شركة فيليبس المشهورة، وأعمالها الرئيسة: إنتاج سينمائي وموسيقي، ودخلها يجاوز 6 بليون دولار نصفها من مبيعاتها في أوروبا وربعها في أمريكا.
3 - سوني للترفيه: وهي جزء من سوني للإلكترونيات اليابانية الضخمة، وهي متخصصة في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والموسيقي ... والبث الفضائي، ولها دخل يجاوز 9 بليون دولار سنوياً، ولها شراكات ... وتحالفات متعددة في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
4 - جنرال إلكتريك: من أكبر الشركات في العالم خصوصاً في الكهربائيات، وتملك شبكة NBC للتلفزيون والراديو، ودخلها يجاوز 5 بليون دولار، ولها وجود دولي وتحالفات متعددة مع شركات برامج كمبيوتر (ميكروسوفت) حيث أنفقت 500 مليون دولار من أجل قناة دولية للأخبار عبر الإنترنت MSNBC.
5 - مجموعة هولنجر (كندا) : ولها نشاط صحفي واسع؛ حيث تمتلك 60 صحيفة يومية.
6 - التلفزيون المباشر (Direct TV) الأمريكي: [المملوك لشركة هيوز Huges للإلكترونيات والتي تمثل بدورها فرعاً من جنرال موتورز] وهي شركة بث عبر الأقمار الصناعية (14 قمراً حول العالم) وتصل إلى 100 دولة.
عموماً هناك العديد من المجموعات الإعلامية (أكثر من 20 مجموعة يفوق دخلها بليون دولار سنوياً في أمريكا ومثلها تقريباً في أوروبا) والطابع العام لها هو التحرك الأفقي ومحاولة كسب أوسع مساحة من الأرض إعلامياً؛ وإن كان الوجود الأمريكي هو الطاغي لهذا التحرك.
بقية العالم:
وبما أن بقية العالم (عدا اليابان) متخلف في كل شيء فإن العولمة الإعلامية جزء من هذا التخلف العام، لكن هناك 4 مؤسسات إعلامية في أمريكا اللاتينية من الحجم الثاني وهي ذات توجه دولي. وبالنسبة لآسيا والشرق الأوسط فلا توجد مؤسسات حتى من الحجم الثاني؛ على حين أن الأمر بالنسبة للمنطقة العربية أضعف بكثير. أما اليابان فإنها رغم قوتها الاقتصادية إلا أنها متخلفة إعلامياً عن الغرب، وفيما عدا شركة (سوني) لا يوجد مؤسسات إعلامية دولية يابانية رغم وجود العديد من المؤسسات الإعلامية في اليابان (227 شركة من أكبر 1000 شركة إعلامية في اليابان) إلا أنها تركز على السوق الياباني المحلي، إحداها NHK التي يفوق دخلها 6 بليون دولار سنوياً.
العولمة الإعلامية والتقنية:
ترتبط العولمة بالتقدم والتوسع الاقتصادي ارتباطاً وثيقاً؛ ولذلك كانت عملية الرقمية (Digital) في نقل الصوت والصورة والكلمة حاسمة في تسهيل وصول هذه المواد للمستهدف، كما أنها خفضت التكلفة مما ساعد على توسيع دائرة الانتشار عالمياً، كذلك ساعدت شبكات الاتصال الفائقة (Fibers) في تسهيل نقل كميات كبيرة من المعلومات وبدرجة نقاء عالية وبوقت قصير حول العالم، وأصبح هناك تحالف ظاهر بين شركات الاتصالات وشركات ... التقنية، والبرامج مع المؤسسات الإعلامية نظراً للمصالح المشتركة بين ... هذه الأطراف؛ فالأولى ترصف الطريق والثانية تسير عليه [7] .
أهداف العولمة الإعلامية:
من المعلوم أن الربحية غرض رئيس للرأسمالية الغربية، وأي نشاط اقتصادي يكون وسيلة لزيادة الدخل وللربحية فإنه مُحبّب ومرغوب.. هذا هو منطلق العولمة الإعلامية: ربح وربح وربح. لكن لا ننسى أن القائمين على هذه المؤسسات والعاملين فيها لهم خلفيات وعقائد ومبادئ ينقلونها إلى العالم من خلال أنشطة مؤسساتهم الإعلامية مثل ما تنقل السفينة البضائع، فلا يُستغرب أن نرى مضامين هذه العولمة الإعلامية متوافقة تماماً مع ما درج عليه أصحابها؛ فالعنف يستشري في دمائهم، والجنس قضية بيولوجية؛ أما العقيدة فهي مجموعة من الخزعبلات والخرافات والشعوذات تتوافق أحياناً مع تربيتهم الدينية (النصرانية) وتصادمها أخرى.
مَنِ المستهدَف؟
ليس هناك مجتمع محدد مستهدف بالعولمة ولا قطاع معين أو دولة محددة، لكن أينما وجدت التسهيلات الفنية والإمكانات المالية فتجدهم هناك، لذلك نجد توجهاً قوياً للمجموعات الإعلامية الدولية تجاه المراهقين والأطفال؛ نظراً للوقت الطويل الذي يقضونه أمام شاشات التلفاز، الإنترنت، الكمبيوتر.
والمجتمعات العربية والإسلامية مستهدفة بهذه العولمة ضمن هذا ... الميدان؛ فحيثما شُرعت الأبواب لهم فإنهم داخلون، لا يعتدُّون غالباً بالبيئات وثقافتها وتقاليدها فضلاً عن دينها ومبادئها.
من يقود العولمة الإعلامية؟
المتابع لوسائل الإعلام بكافة أنواعها والتلفاز والسينما والإنترنت على وجه الخصوص لا يخفى عليه الحضور الأمريكي الطاغي؛ لدرجه أن أصواتاً عدة ارتفعت في أوروبا (فرنسا على وجه الخصوص) لمقاومة المد الإعلامي الأمريكي الغازي. وفي الوقت نفسه بدأ السعي الحثيث لدى بعض المؤسسات الإعلامية الأوروبية نحو العولمة، بدءاً بالانتشار الواسع داخل أوروبا نفسها ثم الانطلاق، نحو الأسواق الخارجية خصوصاً ذات الثقافة، واللغة المتشابهة.
تطور العولمة الإعلامية:
بدأ التحول الضخم في اتجاه العولمة في مجال الاعلام بدءاً من
الثمانينيات، وكانت البداية أفرعاً لمؤسسات وموزعين لمنتجات إعلامية،
ثم تطورت الأمور مع التوسع الاقتصادي والنمو السكاني والانفتاح السياسي
والاقتصادي بين الدول. استطاعت مجموعة من المؤسسات الإعلامية أن تفهم
حاجات المجتمعات المختلفة للمواد الإعلامية مما ساعدها على تطوير أدوات إيصال
لهذه المواد مستفيدة من التطور التقني الواسع في ميدان الاتصالات. بدأت
المؤسسات الإعلامية الأمريكية القوية في موطنها في تكوين شركات متعددة
الجنسيات وشراء أنشطة ومؤسسات إعلامية في البلدان الخارجية المختلفة. واكب
ذلك تحالفات استراتيجية مع الجهات المحلية القوية مستفيدة بدرجة كبيرة من النفوذ
الأمريكي السياسي في العالم وتهاوي أدوات المنع أو الرقابة ووسائلهما في البلدان
المختلفة. وتطورت الأمور تجاه العولمة بسرعة بالتواكب مع العولمة الاقتصادية؛
حيث يمكن إدراج الإعلام جزءاً من الأنشطة الاقتصادية. وصل عدد المؤسسات
الإعلامية الدولية إلى 40 مؤسسة نصفها تقريباً أمريكي. ويتوقع الاستمرار نحو
هذا الاتجاه وزيادة التكتلات والمجموعات الإعلامية الدولية وذلك في المدى القريب
والمتوسط.
دراسات:
في دراسة تمت عام 1996 حول الإعلام في 41 دولة كانت
النتائج ما يلي:
* أكثر الأفلام مشاهدة أمريكية، و 9 أشرطة من كل 10 أشرطة فيديو أمريكية.
* 20.000 مستهلك حول العالم (19دولة) سئلوا عن الثقافة ...
الإعلامية الأمريكية أجاب ما يقارب النصف منهم بأنها جيدة جداً أو ممتازة.
* 90 % من الإعلام في إيطاليا يسيطر عليه الإعلام الأمريكي.
* 25 % من سوق الكتب (8 بليون دولار إجمالي دخل الكتب في العالم) تسيطر عليه 10 دور نشر وأكبرها بل أكثرها مملوكة لمؤسسات إعلامية دولية (تايم ورنر، بريكزمان، فياكم) نماذج لأنشطة إعلامية محددة ذات صيغة دولية: بالإضافة إلى برامج التلفاز والسينما الأمريكية ذات الحضور الدولي الكثيف من خلال الشركات الإعلامية المذكورة سابقاً فإن هناك أنشطة إعلامية صحفية ذات طبيعة دولية؛ فتجد صحيفة دورية تصدر في أمريكا مثلاً ولها العديد من الطبعات الدولية ذات المضمون نفسه أو بتغير طفيف مثل مجلتي (نيوزويك) و (التايم) الأمريكيتين. كذلك هناك مجلة (ريدرز دايجست) الأمريكية التي لها 17 طبعة، كل طبعة بلغة مختلفة وبنسخ تعد بالملايين. كذلك مجلة ناشيونال جيوغرافيك لها العديد من الطبعات بلغات مختلفة آخرها وأحدثها اليابانية - اللغة الميتة - وبنسخ تفوق المليون شهرياً (ليس لها طبعة عربية) .
مستقبل العولمة الإعلامية:
تعتبر أمريكا أكبر دولة في العالم اقتصادياً وسياسياً؛ وفي جانب الاتصالات هي الأولى وكذلك في جانب الكمبيوتر.
أما الإعلام فلا يوجد لها منافس حقيقي في الساحة. هذه الحقيقة تعطي تصوراً واضحاً للمستقبل الإعلامي العالمي؛ فقيادة أمريكا له ظاهرة. وتداخل الإعلام مع التقنية في الكمبيوتر والاتصالات تجعل القدرة الأمريكية في استمرار الهيمنة الإعلامية مؤكدة؛ خصوصاً إذا انتبهنا إلى الأسلوب المستخدم في الإعلام (المرئي على وجه الخصوص) والذي يعتمد على الإيحاء والخيال الواسع والصورة والحركة لإيصال الرسالة الإعلامية بعيداً عن الكلام الكثير والحشو المطول. ... ...
ومما هو مشاهد أن التوسع الإعلامي (الأمريكي على وجه الخصوص) أفقي وعمودي؛ وقد استفاد من التحالفات المحلية (في المناطق القوية) والسيطرة والاحتكار (في البلدان الضعيفة) .
كذلك فإن النظرة للعولمة من جهة الشركات الإعلامية الغربية
والأمريكية على وجه الخصوص يزداد مع الأيام، والقناعة به بدأت تسري حتى
في المؤسسات المتوسطة والصغيرة فضلاً عن الكبيرة. هذا الأمر (العولمة
الإعلامية) سيتجذر مع مرور الأيام، وسيصبح جزءاً مفهوماً من الواقع العالمي.
وبالطبع سيتأثر هذا الأمر بمدى المقاومة السياسية للبلدان المستهدفة وبمدى قدرتها
على المقاومة أصلاً أو حتى برغبتها في ذلك أو عدم الرغبة. كذلك سوف تتعرض
البلدان المتخلفة لضغوط سياسية واقتصادية للقبول بهذا الواقع الإعلامي الجديد من
باب: حرية الناس، وحقوق الإنسان، الإعلام الحر، تبادل الثقافات، وحوار
الحضارات. ولا ننسى أيضاً أن الشركات الإعلامية تتحرك بمساعدة حكومية من
بلدانها الأم وهي تنظر إلى الناس (في كل مكان) أنهم مستهلكون لسلع هم ينتجونها،
ولا ينظرون إليهم بصفتهم مواطنين في بلدانهم لهم ثقافاتهم الخاصة وعقائدهم
المتميزة.
وأخيراً ...
فإن واقع الإعلام العالمي يدعو للذعر مع الأخبار التي ما فتئت تذكِّرنا بل تذهلنا بالتطورات المتسارعة؛ حيث ذكرت إحدى الشركات الأمريكية أنها في صدد إطلاق قمر صناعي جديد ذي إمكانات تقنية مذهلة وبتكلفة أقل من الحالية.. تقول الشركة: إنها في غضون سنة 2002م سوف تطلق قمراً قادراً على بث ألف وخمسمائة قناة تلفازية في وقت واحد يعادل أداؤه مجموعة من الأقمار الصناعية الحالية.. هذا في جانب البث الفضائي.. أما الإنترنت فالشبكة القادمة والتي بدأ تطبيقها في بعض الجامعات الأمريكية ستصل سرعتها إلى 1000 ميجا بيت (2000 ضعف الشبكة الحالية) و000، 10 ميجا بيت في غضون بضع سنوات.. هذا يعني بثاً حياً عالي النقاوة للصورة المتحركة أو الصوت (تلفاز رقمي) أو الصوت، أما المواد المقروءة فيمكن نقلها في غضون بضع ثوان بدلاً من
الدقائق حالياً.. بمعنى آخر: أن الإنسان سيمكنه مشاهدة مئات القنوات التلفزيونية
بنقاوة معقولة وهو قابع في مكتبه أمام الكمبيوتر. مع العلم أن هناك تجارب لبث
تلفزيوني خاص بالإنترنت (ما زالت بصيغة متخلفة عن التلفاز العادي) علماً أن
الإنترنت هي مولود أمريكي ويرعاه الأمريكان، والسيطرة فيه للشركات الأمريكية
(خصوصاً الكبيرة منها والتي أصلاً لها وجود إعلامي نافذ دولياً) . وبعد: فهذه
مقتطفات استقيتها من هنا وهناك أردت بها أن أحذر وأحذر وأحذر من خطورة
الإعلام على عالمنا العربي والإسلامي الضعيف في كل المناحي (ومنها الإعلام) ،
وهو أصلاً هزيل في تقنياته ومواده البعيدة عن جذور الأمة وعقيدتها. كذلك أحمِّل
قادة الفكر والتوجيه المسؤولية في هذا الميدان، وأدعوهم للمسارعة في تحمل
المسؤولية خصوصاً أننا دائماً متخلفون عن الركب عالة على الغير في كثير من
أمورنا. والعبء الكبير لا يستطيعه فرد أو أفراد بل لا بد من مساهمة الجميع:
مؤسسات، ورجال أعمال، مربين ومفكرين؛ كل بحسبه وكل بقدرته. والأمر
يسيرٌ لو كان الإعلام خالياً من الرسالة والهدف، بل المضمون الثقافي المُصدَّر إلينا
لا يحتاج إلى كثير بصيرة لمعرفة خطورته على مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة. وأتذكر
قول الشاعر:
ويح قومي بصيفهم ... حَسْرَةً ضيّعوا اللّبنْ
قولهم عند دعوتي ... هوِّن الأمر لا تُجَنْ
كل هذا لأنني ... قلت: ما الدهر مؤتمنْ
قلت: يا قومي احذروا ... أن تميلوا إلى الفتنْ
اللهم هل بلغت..؟ اللهم فاشهد!
المراجع والمصادر: تم الاستفادة من المصادر التالية بدرجات مختلفة ومن مواقع متعددة:
أولاً: الكتب:
- The Media in Western Europe Euromedia Research Croupe 7791. - The Global Media E. Herman and R. Mchesey 7991. - Media Today J. Turow, 9991. - The Media B. Dulton, 7991. ثانياً: الصحف: - New york Times, 7/7/9991. - Washington post, 7/21/7991.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 4749.
(2) عدد أغسطس من مجلة ناشيونال جوغرافيك الأمريكية كان محور العدد الرئيس هو العولمة الثقافية Global Culture وغطت المجلة التأثير الأمريكي الثقافي حول العالم.
(3) في أضخم حدث إعلامي اقتصادي من نوعه في بداية عام 2000م التهمت الضفدعة (شركة خدمات الأنترنت AOL) الجمل (شركة تايم ورنر) في صفقة تجاوزت قيمتها 350 بليون دولار أمريكي مما يُنبئ بقفزة إعلامية نوعية؛ حيث ستتداخل خدمات الإنترنت مع مخزن إعلامي ضخم في مكان واحد ومن مصدر واحد.
(4) قنوات شوتايم Showtime من أخطر القنوات التلفزيونية لها حضور قوي في المنطقة العربية (من خلال البث الفضائي) ولها ما يقارب 001 000 مشترك عربي، وتتميز بأن الانحلال والتعري جزء رئيس من سياستها لاقتحام البيوت.
(5) م'ردوخ (أسترالي الأصل أمريكي الجنسية) بنى إمبراطورية إعلامية عالمية بدأ من أستراليا، وكانت البداية عام 1953م بشركة صغيرة تصدر جريدة واحدة في مدينة صغيرة في جنوب أستراليا، ثم توسع في شراء صحف التابلويد ذات الانتشار الواسع، واستخدم أسلوب الإثارة والصور لجذب القراء انتقل إلى بريطانيا في بداية الستينيات، واقتحم أيضاً سوق الصحف الشعبية، وتبع ذلك في بداية السبعينيات الانتقال إلى أمريكا وأيضاً في مجال الصحافة وكانت النقلة الكبرى له عام 1985م عندما اشترى استوديوهات فوكس الأمريكية، ثم توسع بعد ذلك بشراء عدة محطات تلفاز أمريكية، ثم انتقل إلى البث الفضائي في بداية التسعينيات من خلال شبكة Bsky B البريطانية ثم شبكة Star الآسيوية تغطي نشاطاته الإعلامية 75% من سكان العالم و52 دولة في كافة القارات (عدا أفريقيا الفقيرة) يملك مردوخ 30% فقط من المؤسسة الإعلامية التي أنشأها (news Corp) .
(6) أوقفت شبكة ستار في الصين بث تلفزيون BBC عن الأراضي الصينية عندما رأى ساسة الصين أن القناة تبث أخباراً مزعجة لهم ولا يوافقون على أسلوبها في تغطية الأحداث الصينية (7) يعتبر التحالف بين أكبر شركة للبرامج حول العالم (ميكروسوفت) وشبكة NBC التلفزيونية مثالاً حياً على هذا التعاون؛ حيث أثمر عن قناة إخبارية رئيسة تبث عبر الإنترنت تنافس قناة CNN الدولية المشهورة.(148/114)
قراءة في كتاب
كتاب الدبلوماسية
رؤية كيسنجر للنظام العالمي الجديد
حسن الرشيدي
ما هو كنه النظام العالمي الجديد؟ وما هي مكوناته وبنياته وطبيعة التفاعلات
بين هذه البنيات؟ ثم ما هي غايات هذه البنيات وأهدافها؟
كل هذه لا تزال أسئلة محيرة اختلف كثير من المراقبين والمحللين حولها.
فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط نظام القطبين عالمياً الذي ظل معتمَداً
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الثمانينيات انقسم المحللون
الاستراتيجيون إلى فريقين:
1 - فريق يؤكد أن النظام العالمي ما زال في طور التشكيل ولم تتبلور
ملامحه بعد.
2 - فريق آخر يقول: إن هناك نظاماً جديداً قد تبلور في الساحة العالمية وإن
كان يحتاج إلى تعديلات معينة لوضعه في صورته النهائية.
وهنري كيسنجر هو وزير خارجية أمريكا الأسبق وصاحب سياسة (الخطوة
خطوة) ويشتهر بالسياسة المكوكية أسلوباً سياسياً متبعاً ونهجاً دبلوماسياً للوصول إلى
الأهداف المرسومة التي ذاع صيتها خاصة في الشرق الأوسط في أعقاب حرب
أكتوبر ونجح من خلالها في التمهيد للتسوية السلمية بين مصر و (إسرائيل) .
عمل كيسنجر محاضراً في الشؤون الاستراتيجية والسياسية في جامعات
متعددة، ومن المعروف أنه يهودي الديانة، ولا تزال آراؤه وطروحاته تجد طريقها
لدى صانعي القرار في البيت الأبيض.
ومؤلَّفه الأخير: (الدبلوماسية) كتاب ضخم يقع في واحد وثلاثين فصلاً يطل
منها الكاتب على النظام العالمي الجديد، ويحاول تقديم مشورته واقتراحاته لصانعي
القرار الأمريكي، وسوف نقوم بالتركيز على الفصلين الأول والأخير؛ لأنهما
بمثابة التمهيد والخلاصة لنظريته التي يطرحها، وتبقى في النهاية رؤيته نظرة
أمريكية ترى في أمريكا حقيقة الماضي والحاضر وحلم المستقبل.
يبدأ كيسنجر رؤيته قائلاً: (إن الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب
الباردة هي القوة العظمى الوحيدة المتبقية ذات القدرة على التدخل في أي جزء من
العالم، إلا أن القوة غدت أكثر انتشاراً، وقلَّت القضايا التي تعتبر القوة العسكرية
مناسبة لها، ودفع الانتصار في الحرب الباردة بأمريكا إلى ممارسات كانت دائماً
موضع شك من جانب الساسة والمفكرين الأمريكيين، وغياب خطر أيديولوجي أو
استراتيجي كاسح يطلق يد الدول في انتهاج سياسات خارجية ترتكز بشكل متزايد
على مصالحها القومية المباشرة، وفي نظام دولي يتسم باحتمال وجود خمس أو ست
قوى كبرى وكثرة من الدول الأصغر، ولا بد أن ينبثق النظام في معظمه كما حدث
في القرون الماضية من التوفيق والموازنة بين المصالح القومية المتنافسة) .
وقد تحدث كل من بوش وكلينتون عن النظام العالمي الجديد كما لو كان قريب
المنال؛ والحقيقة أنه لا يزال في فترة جنينية ولن يكون شكله النهائي واضحاً إلا
في القرن الجديد، وسيظهر النظام العالمي الجديد الذي يُعَدُّ في جانب منه امتداداً
للماضي، وفي جانب منه سيكون غير مسبوق، شأنه شأن تلك النظم التي سيخلفها.
وتعيش النظم الدولية بشكل غير مستقر، ويعبر كل نظام عالمي عن تطلعه
إلى الدوام، ويحمل المصطلح ذاته ادِّعاء الخلود؛ بيد أن العناصر التي يتكون منها
في حالة تغير دائم. وحقيقة الأمر أن مدة بقاء النظم الدولية تتناقص مع كل قرن
من الزمان، ولم يحدث أبداً من قبل أن تغيرت كل الوحدات المكونة للنظام الدولي
وقدرتها على التفاعل وأهدافها بمثل هذه السرعة أو العمق أو العالمية.
وكلما غيرت الكيانات المكونة للنظام العالمي شخصيتها فإنه يعقب ذلك حتماً
فترة من الاضطراب.
ثم قام الكاتب بعرض سياق تاريخي للمبادئ التي كان يسير عليها النظام
العالمي في السابق مركزاً على مبدأ توازن القوى وهو النظام الذي سارت عليه دول
أوروبا في القرنين الماضيين.
ويعتقد كيسنجر أن الدول الأوروبية لم تختر توازن القوى وسيلةً لتنظيم
علاقاتها انطلاقاً من نزوع فطري للمخاصمة أو من حب العالم القديم للتآمر، وإنما
ألقي بها في هذه الساحة حينما انهار خيارها الأول وهو حلم الإمبراطورية العالمية
في العصور الوسطى وظهور العديد من الدول المتساوية بدرجة أو بأخرى في القوى
من بين ذلك الأمل القديم، وحينما تضطر مجموعة من الدول تشكلت على هذا
النحو إلى التعامل فيما بينها فإن المحصلة المحتملة لن تتعدى أمرين: إما أن تصير
دولة واحدة تكون من القوة بحيث تهيمن على كل الدول وتقيم إمبراطورية، أو لا
تكون أي دولة أبداً على درجة من القوة تسمح لها بتحقيق هذا الهدف، وفي الحالة
الأخيرة يتم كبح جماح العضو الأكثر عدوانية في المجتمع الدولي بتجمع من
الآخرين، أو بتعبير آخر: بإعمال مبدأ توازن القوى.
ولم يكن الهدف من نظام توازن القوى تجنب الأزمات أو حتى الحروب وإنما
أريد به حينما يعمل على الوجه الصحيح الحد من قدرة دول معينة على الهيمنة على
دول أخرى، وكذلك الحد من مدى الصراعات، ولم يكن هدفه هو السلام بقدر ما
كان الاستقرار والاعتدال، ولا يستطيع ترتيب توازن القوى بحكم تعريفه أن
يرضي تماماً كل عضو في النظام الدولي، وإنما يعمل على أحسن وجه حينما يبقى
على عدم الرضا دون المستوى الذي يسعى عنده الطرف المتضرر إلى الإطاحة
بالنظام الدولي. ويعطي منظور توازن القوى عادة بأنه هو الشكل الطبيعي للعلاقات
الدولية.
والحقيقة أن أنظمة توازن القوى لم توجد في التاريخ البشري إلا نادراً؛ فلم
يعرف النصف الغربي من المعمورة أبداً نظاماً من هذا النوع، وكانت الإمبراطورية
هي الشكل النمطي للحكم بالنسبة للسواد الأعظم من البشرية ولأطول فترات في
التاريخ وليس للإمبراطوريات مصلحة في العمل داخل نظام دولي وإنما تتطلع لأن
تكون هي النظام الدولي.
ومن الناحية الفكرية كان مفهوم توازن القوى يعكس قناعات كل كبار مفكري
النهضة السياسيين؛ فالكون في نظرهم بما فيه المجال السياسي يعمل وفق مبادئ
عقلانية يوازن كل منها الآخر، والأعمال التي تبدو عشوائية ويقوم بها ناس عقلاء
تجنح في كليتها صوب الصالح العام رغم أن الدليل على هذه الفرضية كان محيراً؛
فبسعي كل دولة إلى تحقيق مصالحها الخاصة الأنانية كان من المفروض أن تساهم
كل منها في تحقيق التقدم كما لو كانت هناك يدٌ مَّا خفية تضمن أن حرية الاختيار
لكل دولة ستحقق الصالح العام للجميع. وعلى مدى ما يزيد على قرن كان يبدو أن
هذا التوقع قد تحقق. وبعد الاضطرابات الناجمة عن الثورة الفرنسية والحروب
النابليونية استعاد قادة أوروبا توازن القوى في مؤتمر فيينا عام 1815م؛ إلا أن
نظام توازن القوى الأوروبي عاد مع نهاية القرن التاسع عشر إلى مبادئ سياسة
القوة في بيئة أشد إمعاناً في عدم التسامح مما أدى إلى حدوث اختبار للقوة الواحد تلو
الآخر، وأخيراً نشبت أزمة في عام 1914م ولم تسترد أوروبا أبداً زعامة العالم
تماماً بعد كارثة الحرب العالمية الأولى، وظهرت الولايات المتحدة لاعباً مهيمناً؛
ولكنْ في ذلك الزمن كان لأمريكا رأي آخر؛ فقد كان داخل أمريكا يتنازع تياران:
الأول: هو إعطاء العالم قيم أمريكا وجعلها منارة يقتدى بها عن طريق
الاهتمام بالداخل فقط.
الثاني: هو أن قيم أمريكا تفرض عليها الالتزام بالنضال من أجل نشر هذه
القيم وتطبيقها في أنحاء العالم، وتتفق هاتان المدرستان سواء تلك التي ترى أمريكا
منارة أو مناضلة أو ما يسمى الاتجاه التبشيري والاتجاه الانعزالي أن من الطبيعي
أن يوجد نظام عالمي يقوم على الديمقراطية والتجارة الحرة والقانون الدولي، وكان
على رأس الفريق الأول الذي يؤمن بالانعزالية الرئيس ويلسون الذي حاول صياغة
نظرية للأمن الجماعي بعد الحرب العالمية الأولى من خلال نقاطه الأربع عشرة
مركِّزاً على أن النظام العالمي ينبغي من الآن فصاعداً أن يركز ليس على توازن
القوى وإنما على تقرير المصير العرقي، وأن الدبلوماسية يجب أن لا تدار بشكل
سري بواسطة الخبراء وإنما على أساس اتفاقيات صريحة يتم التوصل إليها بشكل
علني؛ ولكن الأوروبيين كانوا ينظرون شذراً إلى هذه السياسة معللين ميل أمريكا
لهذا الطرح نظراً للظروف الخاصة لأمريكا التي تعد قارة شبه خالية، وحيث إن
أهلها لم يواجهوا قوة تحتاج إلى موازنتها؛ بينما أوروبا كانت تزخر بعدة قوى
تحتاج إلى التوازن فيما بينها.
ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ الاتجاه الثاني الذي يرى أهمية نشر
المبادئ الأمريكية بالنضال في التغلب، وانخرطت الولايات المتحدة إبان الحرب
الباردة في صراع أيديولوجي وسياسي واستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي في عالم
ثنائي القوة يعمل وفق مبادئ مختلفة تماماً عن تلك الخاصة بنظام توازن القوى؛
ففي عالم ثنائي القوة لا يمكن الزعم بأن الصراع يقود إلى الصالح العام فأي كسب
لأحد الطرفين خسارة للطرف الآخر، وقد كان النهج الأمريكي الفريد في السياسة
الخارجية إبان الحرب الباردة ملائماً بشكل كبير للتحدي الذي كان قائماً؛ فقد كان
هناك صراع أيديولوجي عميق ودولة واحدة فقط هي الولايات المتحدة تمتلك العدة
الكاملة من الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية اللازمة لتنظيم الدفاع عن العالم
غير الشيوعي. وتستطيع دولة في مثل هذا الوضع أن تصر على آرائها وأن
تتجنب عادةً المشكلة التي تواجه ساسة المجتمعات الأقل ثراء.
وقد تحطمت المفاهيم التقليدية للقوة بدرجة كبيرة في عالم الحرب الباردة؛
فلقد عرف التاريخ في معظمه توليفة من القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية
أثبتت بوجه عام أنها متماثلة، وأصبحت العناصر المختلفة للقوة في فترة الحرب
الباردة واضحة تماماً؛ فكان الاتحاد السوفييتي السابق قوة عسكرية عظمى وقزماً
اقتصادياً في الوقت نفسه بعكس اليابان.
وبانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة يرى كيسنجر أن النظام
الدولي سيتسم بتناقض ظاهري؛ حيث التفكك من جانب والعالمية المتزايدة من
جانب آخر، وسيشبه النظام الجديد على مستوى العلاقات بين الدول نظام الدول
الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أكثر من تشابهه مع الأنماط الجامدة
للحرب الباردة، وسيحتوي على ست قوى كبرى على الأقل هي: الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، واليابان، وروسيا، والهند؛ بالإضافة إلى عدد كبير من
البلدان متوسطة الحجم والأصغر حجماً. وفي الوقت نفسه أصبحت العلاقات الدولية
عالمية بحق للمرة الأولى؛ فالاتصالات فورية والاقتصاد العالمي يعمل في كل
القارات في آن واحد، وطفت على السطح مجموعة من القضايا التي لا يمكن
معالجتها إلا على أساس عالمي مثل: الانتشار النووي، والبيئة، والانفجار
السكاني، والاعتماد الاقتصادي المتبادل.
ثم يشرع الكاتب في بيان خصائص كل بنية من بنيات النظام العالمي في
تصوره.
أمريكا: يصف بعض المراقبين النظام العالمي بأنه عالم أحادي القطب،
ولكن الولايات المتحدة ليست في الواقع في وضع يؤهلها لإملاء جدول الأعمال
العالمي من طرف واحد أفضل مما كان عليه وضعها في بداية الحرب الباردة.
حقيقة أن أمريكا أكثر تفوقاً مما كانت عليه منذ عشر سنوات غير أن القوة أصبحت
أكثر انتشاراً، ومن ثم فإن قدرة أمريكا على توظيفها في تشكيل بقية العالم قد
تناقصت بالفعل، أي أن رغبتها في إظهار هذه القوة في العديد من الصراعات
الصغيرة النطاق التي من المحتمل أن يشهدها العالم مثل: البوسنة، والصومال،
وغيرها تمثل تحدياً فكرياً رئيساً بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية. وبالرغم أن
أمريكا هي الدولة الأعظم والأقوى، ولكنها دولة لها نظراء والأولى بين أكفاء ولا
ينبغي على الأمريكيين أن ينظروا إلى ذلك على أنه إنقاص من قدر أمريكا أو على
أنه من أعراض الانحطاط القومي؛ فالحقيقة أن أمريكا كانت على مدى معظم
تاريخها دولة ضمن دول أخرى وليست قوة عظمى متفوقة؛ وظهور مراكز قوى
أخرى ينبغي أن لا يزعج الأمريكيين.
ولكن ما هي المبادئ التي ينبغي أن تقيم أمريكا سياستها الخارجية عليها في
القرن القادم؟
سيتعين على القادة الأمريكيين في القرن القادم أن يصوغوا لجمهورهم
بوضوح مفهوماً للمصلحة القومية ويبينوا كيف تخدم تلك المصلحة في أوروبا وآسيا
بالعثور على شركاء أساسيين لحفظ توازن القوى، ليس على أساس الاعتبارات
الأخلاقية وحدها ولكن لمصلحة القومية الأمريكية.
إن الأمريكيين برغم أنهم استخدموا في كثير من الحالات منطق أن مصلحة
الدولة تسوِّغ الوسائل لكنهم لم يستريحوا كثيراً إلى الاعتراف بمصالحهم الأنانية
الخاصة، وظل القادة الأمريكيون يدَّعون على الدوام سواء وهم يخوضون حروباً
عالمية أو صراعات محلية أنهم يناضلون من أجل المبدأ وليس المصلحة؛ ولكن من
الحكمة الاعتراف بأن هناك حاجة لتحقيق توازن؛ فمهما كانت أمريكا قوية فإنه لا
توجد دولة لديها القدرة على فرض كل أفضليتها على بقية العالم.
روسيا: لقد ظلت روسيا طوال تاريخها حالة خاصة، ولم تكن أبداً دولة
قومية بالمفهوم الأوروبي؛ نظراً لمجاورتها لثلاثة مجالات ثقافية مختلفة هي:
أوروبا، وآسيا، والعالم الإسلامي، ويفسر المحللون النزعة التوسعية الروسية عادة
بأنها نابعة من إحساس بعدم الأمن؛ إلا أن الكتَّاب الروس سوَّغوا الاندفاع الروسي
للخارج في الأغلب بأنه بمثابة القيام برسالة، ونادراً ما أبدت روسيا في تلك
المسيرة إحساساً بالحدود وعندما كان يعوقها عائق فإنها كانت تنسحب باستياء بالغ.
وعلى مدى معظم تاريخها كانت روسيا دائماً تترقب الفرصة المواتية. ولكن
الأسئلة الأهم: هل ستسعى روسيا إلى العودة إلى إيقاعها التاريخي وإلى استعادة
الإمبراطورية الضائعة؟ وبأي مبادئ ووسائل سيكون رد فعلها على الاضطرابات
القائمة حول حدودها خاصة في الشرق الأوسط المتقلب؟
إن الإمبراطوريات المنهارة تولد سببين للتوتر هما: محاولات الدول المجاورة
الاستفادة من ضعف المركز الإمبراطوري، ثم جهود الإمبراطورية المتداعية
لاستعادة سلطتها في محيطها. وتدور هاتان العمليتان في آن واحد في الدول الوارثة
للاتحاد السوفييتي السابق؛ فإيران وتركيا تسعيان إلى دعم أدوارهما في جمهوريات
آسيا الوسطى التي تقطنها أغلبية مسلمة؛ بينما تندفع روسيا لاستعادة سيادتها على
كل الأراضي التي كانت ُتحكَم من قِبَل موسكو، وتسعى باسم حفظ السلام إلى إعادة
شكل من أشكال الوصاية الروسية، وتذعن أمريكا حتى الآن لتلك السياسة الروسية، وربما تتوازى المصلحة القومية الأمريكية مع نظيرتها الروسية في مناطق معينة،
منها على سبيل المثال: جمهوريات آسيا الوسطى المهددة بالأصولية الإسلامية،
وسيكون التعاون في تلك الساحة وارداً تماماً طالما أنه لا يكتب صكاً بعودة
الإمبراطورية الروسية القديمة.
ولدمج روسيا في النظام العالمي لا بد من مقومين متوازنين: التأثير على
المواقف الروسية، والتأثير على الحسابات الروسية. وتعتبر المعونة الاقتصادية
السخية والمشورة الفنية ضرورية لتخفيف مشاق التحول، وفي الوقت نفسه ينبغي
مراقبة النزعة الإمبريالية الروسية في الظهور.
أوروبا: استمدت حركة الاندماج الأوروبي جذورها من فرضيتين:
أولاهما: أنه ما لم تتعلم أوروبا أن تتحدث بصوت واحد فإنها ستنحدر
تدريجياً إلى وضع هامشي.
ثانيهما: أنه كان ينبغي عدم وضع ألمانيا المجزأة في وضع قد يغريها
بالسباحة بين الكتلتين والتلاعب بالجانبين في الحرب الباردة بتحريض كل منهما
ضد الآخر، وقد نما الاتحاد الأوروبي الذي كان يضم في الأصل ست دول ليشمل
اثنتي عشرة دولة؛ وهو في سبيله إلى التوسع ليشمل إسكندينافيا والنمسا وبعض
الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي.
في نهاية المطاف لقد قبلت ألمانيا القيادة السياسية الفرنسية في الجماعة
الأوروبية في مقابل صوت أقوى لها في الأمور الاقتصادية، وفي السنوات القادمة
لن تشعر أوروبا بحاجتها السابقة إلى الحماية الأمريكية، وستسعى وراء مصالحها
الاقتصادية الذاتية بشكل أكثر إقداماً، ولن تكون أمريكا مستعدة للتضحية بالكثير من
أجل الأمن الأوروبي، وستصر ألمانيا في الوقت المناسب على تحقيق النفوذ
السياسي الذي تؤهلها قدرتها العسكرية والاقتصادية له، ولن تعتمد عاطفياً على
المؤازرة العسكرية الأمريكية والمؤازرة السياسية الفرنسية.
إن الأجيال القادمة في ألمانيا وخاصة بعد كول ليس لديها أية ذكريات شخصية
عن الحرب أو عن دور أمريكا في إعادة تعمير ألمانيا المدمرة بعد الحرب، وليس
لدى هذا الجيل سبب عاطفي للإذعان لمؤسسات فوق قومية أو جعل آرائه تابعة
لأمريكا أو فرنسا؛ لقد أصبحت ألمانيا اليوم قوية إلى درجة لا تستطيع معها
المؤسسات الأوروبية القادمة أن تحقق بنفسها توازناً بين ألمانيا وشريكاتها
الأوروبيات، وليس من مصلحة أية دولة أن تركز كل من ألمانيا وروسيا على
الأخرى شريكاً أساسياً؛ ذلك أنهما إن توثقت العلاقة بينهما فإنهما تثيران مخاوف
السيادة المشتركة، وإذا تعاركتا فإنهما تورطان أوروبا في أزمات متصاعدة.
ولأمريكا وأوروبا مصلحة مشتركة في تحاشي السياسات الروسية والألمانية
الجامحة المتنافسة على مركز القارة، ولا تستطيع بريطانيا وفرنسا بدون أمريكا
الحفاظ على التوازن السياسي في أوروبا الغربية، وستقع ألمانيا في غواية النزعة
القومية. وأما روسيا فستفتقر إلى محاور عالمية، ومن الممكن أن تتحول أمريكا
بدون أوروبا نفسياً وجغرافياً إلى مجرد جزيرة بعيدة عن الشواطئ الأوروبية
الآسيوية.
لقد قام حلف شمال الأطلسي ليمثل رباطاً مؤسسياً رئيساً بين أمريكا وأوروبا؛
وبالرغم من الخلاف الدائم بين وجهتي النظر الأمريكية والفرنسية فقد سيطرت
أمريكا على حلف شمال الأطلسي تحت راية التكامل وشكلت فرنسا بتمجيد
الاستقلال الأوروبي الاتحاد الأوروبي، وتتمثل نتيجة الاختلاف بينهما في أن الدور
الأمريكي مسيطر في المجال العسكري إلى حد لا يتيسر معه إقامة كيان سياسي
أوروبي؛ بينما يتسم الدور الفرنسي بالإصرار على الاستقلال الذاتي السياسي
الأوروبي إلى حد لا يمكن معه تعزيز تماسك حلف شمال الأطلنطي.
آسيا (اليابان والصين) :
ففي حين تتجمع بلدان أوروبا في مؤسسات مشتركة فإن دول آسيا تنظر إلى
نفسها على أنها متمايزة ومتنافسة. وتحمل العلاقات بين الدول الآسيوية الأساسية
معظم خصائص نظام توازن القوى الأوروبي في القرن التاسع عشر، ويكاد يكون
في حكم المؤكد أن تؤدي أية زيادة يعتد بها في قوة إحدى تلك الدول إلى قيام الدول
الأخرى بمحاولة إعادة التوازن، وتتمثل الورقة القوية في موقف الولايات المتحدة
التي لديها القدرة وإن لم يكن لديها الفلسفة على العمل إلى حد بعيد بالطريقة التي
تصرفت بها بريطانيا في الحفاظ على توازن القوى الأوروبي حتى الحربين
العالميتين في القرن العشرين.
وقد نعمت اليابان إبان الحرب الباردة بتخليها عن اعتمادها التاريخي على
النفس بحماية الولايات المتحدة. ولكونها منافساً اقتصادياً قوي العزم فقد دفعت
مقابل حرية المناورة في المجال الاقتصادي ثمناً تمثَّل في جعل سياساتها الخارجية
والأجنبية تابعة لسياسات واشنطن، وطالما كان بالإمكان النظر إلى الاتحاد
السوفييتي على أنه التهديد الأمني الأساس لكلتا الدولتين فلعله كان من المعقول
معاملة المصالح القومية الأمريكية واليابانية على أنها متطابقة؛ إلا أنه ليس من
المحتمل أن يستمر هذا النمط؛ فمع ما تحرزه كوريا والصين من قوة عسكرية،
ومع مرابطة الجزء الأقل ضعفاً من القوة السوفييتية في سيبيريا فلن يأخذ
المخططون اليابانيون للأمد الطويل التطابق المطلق بين المصالح الأمريكية
واليابانية على أنه من المسلَّمات.
إن المنظور الياباني تجاه الجزء الرئيس من اليابسة الآسيوية يختلف عن
المنظور الأمريكي تجاهه بسبب عاملي القرب المكاني والخبرة التاريخية؛ ولذا فإن
ميزانية الدفاع اليابانية أخذت في الارتفاع إلى أن أصبحت ثالث أكبر ميزانية دفاع
في العالم، وربما تعد ثانية ميزانية دفاع فعالة في العالم إذا ما وضعنا في الحسبان
المشكلات الداخلية في روسيا. وحينما سئل كيشي ميازاوا عام 1992م وكان رئيس
اليابان آنذاك عما إذا كانت اليابان ستقبل وجود قدرة نووية كورية شمالية أجاب
بصراحة بأسلوب غير ياباني بالمرة بكلمة واحدة: (لا) . فهل يعني ذلك أن اليابان
ستطور قدرة نووية خاصة بها، أم ستسعى إلى قمع القدرة النووية الكورية الشمالية؟ إن مجرد إثارة مثل هذه الأسئلة يوحي بإمكانية أن تتحلل اليابان إلى حد ما من
الارتباط بالسياسة الأمنية والخارجية الأمريكية.
ومن الملفت للنظر أن متانة العلاقات اليابانية الأمريكية ستكون هي الوجه
المقابل للعلاقة الصينية الأمريكية؛ فعلى الرغم من وجود درجة كبيرة من الألفة مع
الثقافة الصينية فإن اليابان ينتابها أمران: الإعجاب من جانب مع الخوف من جانب
آخر، والرغبة في الصداقة من جهة مع الدفع إلى السيطرة من جهة أخرى.
ويغري التوتر الصيني الأمريكي اليابان بالابتعاد عن أمريكا؛ وذلك في محاولة إن
لم تكن لتعزيز نفوذها في الصين؛ فعلى الأقل لعدم تقليله بالسير على الدرب
الأمريكي بكل دقة، وفي الوقت نفسه فإن اتباع نهج ياباني محض يحمل في طياته
خطر إمكانية تفسيره في بكين على أنه تعبير عن الرغبة اليابانية في الهيمنة، ومن
ثم فإن العلاقات الطيبة بين أمريكا والصين هي الشرط المسبق للعلاقات الطيبة
الطويلة الأجل بين اليابان وأمريكا. إنه مثلث لا يستطيع أي من الأطراف الثلاثة
فيه أن يتخلى عنه إلا بتحمل مخاطر كبيرة.
والصين هي الدولة الأكثر صعوداً من بين كل القوى الكبرى؛ فإنها بمعدل
النمو الاقتصادي الذي يقترب من 10% سنوياً وبالإحساس القوي بالتماسك القومي
وبقوة عسكرية دائمة النمو ستشهد أكبر زيادة نسبية في المكانة بين القوى الكبرى.
ويختتم كيسنجر كلامه قائلاً: هناك بون شاسع بين منظور رجل الدولة
ومنظور المحلل؛ فبوسع المحلل أن يختار المشكلة التي يرغب في دراستها؛ بينما
تفرض المشكلات نفسها على رجل الدولة. وبمقدور المحلل أن يخصص ما يلزم
من الوقت للوصول إلى استنتاج واضح؛ بينما يمثل ضغط عامل الوقت التحدي
الأكبر بالنسبة لرجل الدولة، ولا يخاطر المحلل بشيء، فإذا ثبت أن استنتاجاته
خاطئة فإن بمقدوره أن يكتب بحثاً جديداً؛ وكل الحقائق متاحة للمحلل؛ وسيكون
الحكم عليه بمدى قدرته الفكرية. أما رجل الدولة فإنه يتعين عليه العمل استناداً إلى
تقديرات لا سبيل إلى البرهنة على صحتها في الوقت الذي يصنعها فيه، وسيحكم
عليه التاريخ على أساس مدى حكمته في إدارة التغيير الحتمي؛ وهذا هو السبب في
أن فحص الكيفية التي يعالج بها الساسة مشكلة النظام الدولي ليس هو نهاية المطاف
في فهم الدبلوماسية المعاصرة؛ مع أنه قد يكون نقطة البداية.(148/124)
اقتصاديات
التثقيف الاقتصادي المعاصر
د. زيد بن محمد الرماني
مضى القرن العشرون وما زال يُطرح الملف الثقافي، وقضية العقل
العربي؛ إلى جانب أدبيات هائلة حول هذين الموضوعين مثل: الهوية الثقافية،
مسائل الثقافة، وإشكاليات الفكر، أزمات الثقافة، الغزو الثقافي، والتثاقف..
وتطول قائمة القضايا والمفاهيم. إنّ ثقافة الصورة في قوة أثرها وانتشارها تمثل
فرصة غير مسبوقة في تاريخ البشرية للإعلام والتوعية والتثقيف؛ إنها فرصة
للتوعية والتربية والتنشئة. فقد دخلت التكتلات الصناعية الكبرى [1] إلى مجال
الإعلام وثقافة الصورة، وفرضت سيطرتها عليه من خلال مداخل متعددة القنوات:
محطات التلفزيون الرئيسة ذات السياسة الإعلامية الموجهة نحو ثقافة الاستهلاك،
وشركات المعلوماتية ذات الطابع التجاري الربحي، وشركات التلفزيون التي تمول
إنتاج مسلسلات تلفزيونية خاصة، والشركات الكبرى المهتمة بنشرات الأخبار،
وشركات البث المعنية بالتغطية الإعلامية للأحداث التي تتصف بالإثارة والإبهار
وشد انتباه المشاهدين. يقول مصطفى حجازي في كتابه: (حصار الثقافة) : (إن
المقارنة البحثية لبرامج القنوات الدولية التي تتخصص في الأخبار، وتلك التي
تتخصص في التسلية والترويح تبين أن هناك مكونات أساسية أصبحت تشكل
ملامح البرامج ومحتوياتها) [2] . نشرة الأخبار على سبيل المثال أصبحت مقننة
في عناصرها في العديد من المحطات: أخبار الأحداث، الإعلانات، سوق المال،
الطقس، والرياضة. إننا بصدد تكثيف المعلومة، وإحاطتها بأكبر قدر من الزخم
في المحتوى وضغط الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، سواء في الأخبار أو
الإعلانات. لقد أصبحت أخبار الأسهم [3] وأسواق المال مكوناً أساساً من مكونات
نشرات الأخبار عالمياً ومحلياً. وتحمل الشاشات في بنية أخبارها مشاهد أسواق
المال وأسعار العملات والمؤشرات صعوداً وهبوطاً، كما تحمل حركة وكلاء
البورصة ومشاهد آلات عدّ النقود. والسؤال الملحّ: لماذا هذا التركيز على أخبار
أسواق المال؟ ! مع العلم أن الخبراء والمتعاملين في هذه الأسواق لهم شاشاتهم
الدائمة التي توافيهم بتحركات السوق المالية الكونية؛ فهل المقصود التثقيف المالي، أم أن المقصود هو جعل المال والسوق المالية مرجعية أساسية عند المشاهد سواء
أكان يملك أم لا يملك؟ ! ثم: ألا يفتح هذا الأمر الباب لتحويل الناس إلى قناصين
للفرص: هوس الأسهم والاستثمارات المالية؟ أوَ لا يفتح شهية تجربة الحظ الذاتي
في الدخول إلى حيلة رأس المال الطيار، وإحلال الحس المالي محل العلم والجهد
والعمل والإنتاج؟ الغائب الأكبر في كل ذلك هو ثقافة الجهد والإعداد والتدريب
والإنتاج أمام إغراءات الربح السريع. ففي بحثها عن الإثارة وجذب المشاهدين
تركز الشاشات التجارية على النجومية على اختلاف ألوانها. وتعطي لأخبار النجوم
من المساحة ووقت البث ما لا يقارن مع الأوقات المتخصصة للموضوعات الأخرى. على أن الرياضة على الشاشات أصبحت أبرز مجال للنجومية. والإعلام المرئي
يسّر سبل المتعة والمشاركة الرياضية لمئات الملايين من المشاهدين على سطح
الكوكب في مختلف المباريات. وتحولت الرياضة إلى لحظات الحماس للإنجازات
الخارقة والتنافس على تجاوز الذات كما وجدت نوعاً جديداً من الشراكة العالمية
وفرصها بفضل الشاشات المتلفزة [4] . على أن للمسألة جانباً آخر خفياً لا بد من
الوقوف عنده؛ إذ حُوِّلت الشاشات بقدرتها على البث، وانطلاقاً من أخلاقيات
اقتصاد السوق الرياضية إلى سلعة يتم التعامل معها؛ حيث تتحول الرياضة إلى
سلعة، وأصبح ذلك ظاهرة شبه كونية من خلال الشاشات التلفزيونية. فالنجومية لم
تعد تقاس بأدائها المبدع فقط، بل كذلك بأثمانها: كم كسب النجم الفلاني؟ وبكم
يساوي بالمقايضات بين الأندية؟ والكسب ليس بالقليل على أية حال؛ فما يكسبه
نجم عادي خلال موسم رياضي يزيد عن رواتب أساتذة كلية بأكملها من ذوي الرتب
والرواتب العالية والمناصب الأكاديمية. ومع النجومية وتحويل الرياضة إلى سلعة
بدأت تنحرف الأخلاقيات الرياضية النبيلة، وبدأت تظهر أخبار الصفقات والفضائح
على مستوى الأندية واللاعبين والمستثمرين والمديرين! وكذلك فإن التحالف
التجاري بين الشاشات المتلفزة وشركات الإعلان وإنتاج المواد الرياضية أصبح
يشكل سوقاً مالية ذات شأن عظيم. إن نجومية الرياضة كما هي نجومية الفن لم تعد
غريبة عن ثقافة الربح.. أما نجومية الجهد والإنتاج والعلم فتقبع في مكانها
المتواضع. وبعض المفكرين يأخذون على القنوات التجارية تحولها إلى قنوات
للتسلية والترفيه؛ وهو ما يبقيها على سطح الأحداث، ويجعل منها أدوات للتمويه
وتغيير صورة الواقع المرح. والتسلية تعليق للفكر واستسلام واستئناس بالأحاسيس
السارة ومتع اللحظة الراهنة إذا كانت هي أساس البرامج ومادتها الرئيسة.
كبريات الشركات التلفزيونية تتسابق في صناعة المتعة والتسلية:
فحسب تقديرات الخبراء [5] أن الإنفاق الإعلاني العالمي بلغ حوالي ... 620 مليار دولار سنوياً، أي ما يقرب من ضعف الدخل العالمي من النفط. وهو مرشح للتزايد كي يصل تبعاً لبعض التقديرات إلى حوالي 1000 مليار دولار عام 2000م. لقد أصبح الإعلان صناعة تقوم على أسس فنية وعلمية، وتعمل لعنان لخيال أعضائها كي تولد الأفكار الأكثر طرافة وجدة، وإمكانية تأثير ونفاذ، أو خروج عن المألوف؛ كي تصاغ في إعلانات مبتكرة عن مختلف ... السلع.
ومن ثم تكتسب السلعة (موضوع الإعلان) قيمة استهلاكية وخيالية ووجدانية ليست لها بالأصل؛ فالبيبسي تركز على مرح الشباب وجمال الصورة واللون وإرواء العطش، حتى صارت تعتبر مشروب الشباب.
والعطورات ومساحيق الجمال أصبحت تربط بالحسناوات وملكات الجمال. وأما أغذية الأطفال فإنها تربط بالطفل المدهش جمالاً وصحة وسعادة. وهكذا تقوم سياسة الإعلان على بيع الأحلام، ودغدغة المشاعر وإثارة الرغبات من خلال مختلف أشكال الربط ما بين السلعة والصحة أو الجمال أو الجاه أو الشباب.
الإعلان ابن لاقتصاد السوق، فهو إعلان استهلاكي [6] ، ويندر أن نجد إعلانات عن الأداء أو الإنتاج. وإذا أغرق المشاهد بالإعلانات الاستهلاكية فإننا سنكون أمام صناعة ثقافة الاستهلاك ليس إلاَّ؛ وبذلك يصبح الاستهلاك هو القيمة وهو المرجع والموجّه.
* ولكن، ماذا بخصوص من لا يملكون القدرة على الاستهلاك: كيف
سيمارسون حقهم في الاختيار إذاً؟ إنها أسئلة تظل مطروحة على الساحة في حاجة
ملحة لإجابات مقنعة. والحقيقة أنه ليس هناك من حالة تعبِّر عن ثقافة السوق [7]
بقدر الإعلانات التي تدعو إلى متعة الاستهلاك الآني. إننا بصدد الإثارة والمتعة
على الأقل إذا استعرضنا واقع الإعلان التجاري الذي يغمر الثقافة المرئية. لقد
سيطر الإعلام المرئي على الثقافة، وسيطر الإعلان على الإعلام. إن المشكلة
ليست في الإعلان بحد ذاته؛ بل في توجهاته والقيم الاستهلاكية التي يروِّجها.
والمشكلة أن العالم العربي كالعالم الثالث يستهلك هذه الثقافة الجديدة عن طريق
الاستيراد أساساً؛ نظراً لفقر إمكاناته في مجال الإنتاج. إننا لا ندعو إلى حظر
التسلية والترويح والمتعة وبهجة الحياة، بل ندعو إلى بذل الجهد للاستفادة من
الفرص التي توفرها تقنية الإعلام للارتقاء بنوعية الحياة في العمل والجهد
والتدريب والتأهيل، كما هو متوفر في مجالات الانتماء والتسلية والترفيه والتثقيف.
__________
(1) وليد نويهض موقع الاقتصاد العربي في عصر التكتلات الإقليمية، دار ابن حزم، بيروت 1415 هـ، ص 8 10.
(2) مصطفى حجازي حصار الثقافة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998م، ص 49.
(3) مختار بلول دليل المستثمر في الأوراق المالية، 1408 هـ، ص 40.
(4) أمين الخولي الرياضة والمجتمع، عالم المعرفة، الكويت، 1417 هـ، ص 68 84.
(5) مصطفى حجازي حصار الثقافة مرجع سابق 63.
(6) جيرار لانيو سوسيولوجيا الإعلان، منشورات عويدات، بيروت، 1996م، ص 5 - 9.
(7) مصطفى حجازي حصار الثقافة مرجع سابق، ص 49 51.(148/132)
متابعات
رؤية
حول مشروع خطة العمل الوطنية
لإدماج المرأة في التنمية بالمغرب
د. أحمد الريسوني [*]
أعدَّت كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة بتمويل من
البنك الدولي ما أسمته مشروع (خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية) ،
وبدراسة هذا المشروع يتبين أنه مصادم لأحكام شرعية ثابتة بالكتاب والسنة، وأن
تطبيقه سيؤدي إلى زرع أسباب الشقاق بين أفراد الأسرة ويقضي على أسس المودة
والرحمة والتضامن والتكافل بين أعضائها، فضلاً عن كونه يتضمن بنوداً لا علاقة
لها بتنمية المرأة والمجتمع، ومن ذلك:
1 - السماح للفتيات بالزواج بدون إذن آبائهن وأوليائهن خلافاً لما جاء في
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) [1] ،
مع أن الواقع يثبت أن إرغام الفتيات على الزواج بمن لا يرضين أو منعهن من
الزواج بمن اخترن أمر نادر، وأن إلغاء الولاية في الزواج يصطدم أيضاً بأعرافنا
الاجتماعية التي لا تزال تشترط حضور الأقارب حتى بالنسبة للزوج، وترى في
ذلك ضماناً لنجاح الزواج.
2 - إخراج الطلاق من صيغه الشرعية المختلفة، وجعله قضية في المحاكم
فقط؛ مما سيدخل ارتباكاً كبيراً في الأسرة وغموضاً في وضع الزوجية خلال
مرحلة الدعوى، وتضييع حقوق الأطفال بسبب تعقيد الإجراءات القضائية وطول
مدة البت، فضلاً عما سيؤدي إليه ذلك من إذكاء العداوة بين الزوجين وقطع طريق
الرجعة، وما سينتج عنه من عزوف عن الزواج، وتشجيع العلاقات المحرَّمة لا
حماية الأسرة من الطلاق كما يدعي ذلك واضعو المشروع.
3 - اقتسام الثروة التي امتلكها الزوج أثناء الحياة الزوجية عند وقوع الطلاق، وفيه ما فيه من إباحة أكل أموال الناس بالباطل، وهدم أحكام المتعة والنفقة في
العدة، والنفقة على الأولاد، ونظام الإرث والإضرار بأعضاء الأسرة الآخرين
الذين ساهموا في تكوين الثروة بالإضافة إلى ما يؤدي إليه ذلك نظراً لضعف الوازع
الديني والأخلاقي من فسح مجال واسع لاختلاق الأسباب للمطالبة بالتطليق كلما
نمت ثروة الزوج أو الزوجة، ولتحايل أرباب الأسر على أنفسهم وأولادهم لمحاولة
إخفاء ثرواتهم أو اقتنائها تحت اسم أشخاص آخرين، مع ما في ذلك من إنشاء
أوضاع شاذة ونشر ثقافة غريبة عن المجتمع المغربي المسلم.
4 - رفع سن زواج البنات إلى الثامنة عشرة، وفي ذلك تعسف على حق
شرعي وطبيعي للمرأة قد تُلجئ إليه بعض الأوضاع الخاصة والظروف الاجتماعية، مع العلم أن الزواج المبكر ظاهرة محدودة جداً كما تثبت ذلك الإحصائيات، ولا
يعرقل شيئاً من إدماج المرأة في التنمية، مما يبرز أن المستهدف هو الأحكام
الشرعية التي لا تتماشى مع المواثيق الدولية.
5 - منع تعدد الزوجات الذي أباحه الله للحاجة إليه في بعض الأحيان ولم
يفرضه، وإنما اشترط فيه العدل كما ورد في قوله تعالى: [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم
مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]
[النساء: 3] هذا مع الإشارة إلى أن التعدد محدود جداً ولا أثر له على استقرار
الأسرة المغربية أو عرقلة إدماج المرأة في التنمية، وأن ما يهددها حقاً هو انتشار
الفساد وتعدد الخليلات والخيانة الزوجية وتزايد العنوسة، وهو مما لم يهتم به
مشروع الخطة أو يلق له بالاً.
لقد أضافت الخطة المذكورة إلى مناقضة أحكام الشريعة ومقاصدها مجموعة
سلبيات منها:
كونها خطة غير وطنية انطلقت من الرغبة في مسايرة مقررات المؤتمرات
الدولية مثل مؤتمر بكين وغيره، وهي المؤتمرات التي دعت إلى الاعتراف
بالفاحشة وتطبيع ممارستها، وتوسيع مفهوم الأسرة كي يشمل (الأسرة) القائمة
على علاقات جنسية محرمة وشاذة، وإشاعة الزنى والفساد من خلال تسهيل
الحصول على العازل المطاطي بدعوى توفير الصحة الإنجابية والوقاية من
الأمراض الجنسية، واعتبار تقسيم الأدوار داخل الأسرة، ومفاهيم الأبوة والأمومة، من التقاليد البالية والتحكمات الاجتماعية المتجاوزة.
كونها تطرح إشكالات غير حقيقية لا علاقة لها بالتنمية، وإنما تستجيب ...
لاعتبارات أيديولوجية.
كونها أيضاً خطة إقصائية قامت على رؤية أحادية تمثل رأي فئة محدودة
من الجمعيات ذات التوجهات اللادينية.
لهذه الاعتبارات ولغيرها من المفاسد التي تضمنتها الخطة، ودفاعاً عن الدين
وحفاظاً على الأسرة فإنه ينبغي رفض هذه الخطة، والمطالبة بخطة بديلة تستجيب
لحاجات المجتمع المغربي في التنمية في إطار الإسلام وأحكامه ومقاصده، وذلك
بكل الوسائل المشروعة ومن بينها التوقيع على العريضة الشعبية المتداولة في هذا
الشأن.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
__________
(*) رئيس حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب، وكاتب إسلامي مغربي معروف.
(1) رواه أحمد، ح/ 2148.(148/136)
المنتدى
الدعاة المستنسخون
محمد بن عوض صالح
بعد أن صليت العشاء في أحد المساجد أمسك امام المسجد بكتاب رياض
الصالحين وبدأ يقرأ منه بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب
التوبة. ومع بداية قراءة الإمام بدأ عدد المصلين يتناقص تدريجيا، حتى بلغ عند
نهاية القراءة قرابة عشرة مصلين! !
لقد كان يقرأ بطريقة سردية مملة، يتجاوز كثيرا من الألفاظ غير المفهومة
دون أدنى شرح أو تعليق. وبعد أن انتهى الإمام من القراءة توجهت إليه واقترحت
عليه أن يغير طريقته في القراءة أو يغير الكتاب الذي يقرأ منه لكتاب يشرح على
الأقل معاني الألفاظ ومراميها، فأجابني بأنه يقرأ بهذه الطريقة منذ زمن، ولكن
الناس قد شغلتهم الملهيات عن سماع الذكر والعلم.. قلت في نفسي: سبحان الله
العظيم! ! أي علم يقصده ذلك الرجل؟ اإني لا أنكر أن أحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم من أعظم وأنفع العلم، لكن ذلك يكون حين يعيها سامعها، وقارئها
قبله. حين تفهم وترسخ في النفوس والأذهان، أما أن تتلى هكذا سرداً - دون
شرح أو تعليق - على أسماع جماعة من الناس يغلب عليهم عدم التفقه في العلم
والشرع؛ فإنه يستدعي إعادة النظرة! إن التجديد والتنويع بل والتغيير في وسائل
الدعوة إلى الله - عز وجل - ونشر العلم بين الناس - وأخص قضية العلم بالذكر- أمر قد غاب عن أذهان كثير من الدعاة وطلبة العلم. وليس ما ذكر سوى مثال
بسيط على هذه القضية. وأظن - والعلم عند الله - أن من أهم أسباب غياب هذا
الأمر اختلاط معنى التجديد لدى بعض الدعاة أو طلبة العلم، فتجده لا يفرق بين
التجديد في الوسائل، والتجديد في المناهج والدعوات، بل يظن أي تجديد أو تغيير
في طريقة تبليغه دعوته للناس هو تغيير في صميم هذه الدعوة ومنهجها! وكأن هذه
الوسائل قد تم تأسيسها وإنشاؤها مع هذه الدعوة، فلا يمكن بحال من الأحوال أن
تتغير أو تتبدل! !
ومن الأسباب كذلك: الكسل والفتور وضعف الهمة الملازم لبعض الدعاة، فلا
يكلف ذهنه عناء التفكير في وسائل جديدة وطرق مبدعة تناسب من يتعامل معه من
الناس.
إن كوننا نطالب بالتجديد أو التنويع في وسائل الدعوة لا يعني أبداً أن ننبذ كل
ما هو قديم أو مجرب؛ ولكنه يعني أن نطور هذه الوسائل ونحسنها، بل ونبدع
وسائل جديدة حتى نستطيع أن نصل بهذه الدعوة إلى عقول الناس - الذين تعبدنا
الله بدعوتهم - ثم إلى قلوبهم. وما ذاك إلا لأن وسائل الدعوة غير توقيفية، بل هي
مفتوحة متجددة، كل زمان له ما يناسبه، كل هذا وذاك محدد بحدود الشرح.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوافرة ولكني أكتفي بالتعليق على المثال السابق، فاقول: ما ضر ذلك الإمام لو أقام مسابقة شهرية لجماعة المسجد في الأحاديث والعلم الذي
يقرؤه عليهم؟ أو أنه علق على الأحاديث التي سيقرؤها في اليوم التالي لها فتشتاق
النفوس إلى سماعها؟ وهكذا، فالأمر ميسر بحمد الله، وما دام أن أي وسيلة توصل
إلى تبليغ دين الله ونشره بير الناس ولا تخالف شريعته، أو تتعارض مع مصلحة
أعلى منها، فلا غبار عليها، بل الغبار على تلك العقول التي صدئت والقلوب التي
شغفت بتقليد ما أخذته عن أشياخها فلا تكاد تتزحزح عنه حتى لكأنها عقول
مستنسخة عن عقل ذلك الشيخ.
إن طرح مثل هذا الموضوع يحتاج إلى تأصيل وبحث ومتابعة، وما هذه
الأسطر إلا إشارة وخاطرة لقضية شغلت جزءاً من الذهن والهم، فأحببت إثارتها
عسى الله أن يسخر لها كفؤا كريما يؤصلها ويجسدها مقالا يرى النور على،
صفحات مجلتنا الغراء.(148/138)
المنتدى
لنحذر طريق الهلاك
إبراهيم آل عبد الكريم
قد نجد من الذين يجاهرون بالمعاصي من يعلل عصيانه باعترافه بالخطأ وبأن
كل إنسان يخطئ. نعم لا نختلف في ذلك ولكن الإصرار على المعصية الصغيرة
تؤدي إلى مقام الكبيرة، وقد تؤدي إلى الشرك والضلال وترك الإسلام. وهذا
التدرج من تحقير إبليس للصغيرة حتى يقع الشخص بالكبيرة وهكذا دواليك. والله- سبحانه وتعالى - نهانا في محكم التنزيل عن اتباع خطوات الشيطان فقال -
سبحانه -: [ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168]
ومنطلق خطواته بداية من التحقير لأهمية بعض العبادات، فيدخل من باب حكم
العبادة: أهي جائزة أم سنة؟ أو من باب الرياء فيدخل قلب المؤمن ويوسوس بنفسه، ويقول له: أنت تعمل كذا لأجل كذا، أو يصور له أن من حوله يشاهدونه وهو
يقوم بها فإذا أحسن عبادته أوقع إبليس بنفس العبد الخوف من الرياء، ثم يخطو به
خطوة إلى ترك العبادة، ومن ثم يستدرجه في ترك عبادات كثيرة حتى يصل إلى
مرحلة الوقوع في المحرمات.
فلتحذر أخي المسلم من اتباع خطوات الشيطان ولنستعذ منه دائما كما أمرنا
سبحانه: [وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]
[الأعراف: 200] .
وللوقاية من الشيطان أمور عدة منها:
أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
قال الله - تعالى: [وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيم] [الأعراف: 200] . وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان
بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان.
فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي: (إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب
عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد) . [رواه
البخاري: ح / 5588]
ثانياً: قراءة آية الكرسي:
[اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ... ] [البقرة: 255] ، وفي الصحيح من
حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (وكلني رسول
الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام.
فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) فذكر الحديث إلى أن
قال - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله
حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك
وهو كذوب. ذاك الشيطان) . [رواه البخاري، ح / 3033]
ثالثا: خاتمة سورة البقرة:
[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ ... ] [البقرة: 285] وقد
ثبت من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) [رواه البخاري، ح / 37071] ، وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله
كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه ايتين ختم بهما سورة البقرة،
فلا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربهما شيطان) . [رواه الترمذي، ح / 12807]
رابعا: الوضوء والصلاة:
وهذا أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة،
فإنهما نار في قلب بني آدم، وفي الحديث: (إن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ
النار بالماء) [رواه أبو داود، ح / 4152] .
خامسا: قراءة المعوذتين:
[قل أعوذ برب الفلق] [الفلق: 1] و [قل أعوذ برب الناس] [الناس:
1] فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصين منه. ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعوذ المتعوذون بمثلهما) .
سادسا: قراءة سورة البقرة:
ففي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا
يدخله الشيطان) . [رواه الترمذي، ح/ 12802]
سابعا: التهليل مائة مرة:
ففي الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة،
ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم
يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك) [رواه البخاري، ح/
3050] .
ثامنا: كثرة ذكر الله - عز وجل -:
ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات.....) الحديث. وفيه: ... (وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في إثره سراعا، حتى أتى على حصن فأحرز نفسه منهم؛ كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) [رواه الترمذي، ح/ هـ 1279] فيجب علينا جميعا أن لا نخدع وراء الأمواج العاتية التي يحركها إبليس وأعوانه ليصطاد من بني آدم ويقذف بهم معه في نار جهنم - والعياذ بالله - وندعو الله أن يصلحنا وذرياتنا فإنه الهادي إلى سواء السبيل.(148/139)
المنتدى
ماذا يجري للمدنيين داخل الشيشان
عبد الرحمن السنيدي
هناك تعتيم إعلاميٌّ على ما يجري لإخواننا مسلمي الشيشان في محنتهم فلا
خبر ولا إعلام عن مآسيهم، وما يفعله بهم الروس الحاقدون من وحشية وظلم
وطغيان وإهانات وتمثيل؛ محاصرين في قراهم ومدنهم محرومين من أبسط
مقومات الحياة يُمطرون ليل نهار بحمم القذائف والنار من الطائرات والصواريخ
والدبابات والمدافع في أبشع صور الوحشية والطغيان مع تأييد غربي وموافقة ما
داموا مسلمين؛ فليس هناك مجلس أمن ولا أمم متحدة ولا حقوق إنسان؛ فالمكيال
يختلف عما جرى في تيمور الشرقية وغيرها لأبناء ملتهم النصارى من تدابير
عاجلة وإعلام هائل وتحرك الأمم المتحدة ودولهم بإرسال القوات بأسرع وقت ممكن. ومن يعرف خفايا الغرب وموقفه من الإسلام وأهله لا يستغرب ذلك؛ بل الذي
يدمي القلب أن (52) دولة إسلامية مجتمعة أو منفردة لا تفعل شيئاً تجاه إخوان لهم
يفعل بهم هذه الأفعال ولا يحركون ساكنا؛ لأن هناك خللاً كبيراً في إسلامهم
وصلتهم بربهم وهذا والله منتهى الذل والهوان. فأين جيوش أسلافنا رحمهم الله
ونخوتهم المعتصمية؟ بل ليت الإسلام والمسلمين يسْلَمون من مكر بعض دولهم
ومحاربتها الشنيعة لكل ما هو إسلامي حتى فاقت في ذلك دول الكفر واليهود.
نعود إلى أحوال إخواننا المدنيين في الشيشان فنقول: إن الروس كإخوانهم في
القومية يكررون التوقيت لشن عدوان الإبادة الوحشية مثلهم مثل الصرب الحاقدين؛
ففي العام الماضي شن الصرب عدوانهم علي مسلمي كوسوفا في شهر رمضان
المبارك في توقيت مقصود ومبيت على ذبح المسلمين في مناسباتهم الدينية، وفي
هذا العام في وقت لم يغب عن مخططي عسكر روسيا لعملياتهم العدوانية ضد
إخواننا في الشيشان قبل حلول رمضان المبارك بأيام قلائل، وذلك بعد افتعال
التفجيرات لإثارة الرأي العام الروسي ضدهم وليحققوا بذلك مكاسب انتخابية والذي
تولى كبره منهم مجرمهم الكبير (بوتين) الرئيس الحالي بالوكالة.
بدؤوا قاتلهم الله عدوانهم بتدمير محطات الكهرباء، ثم ركزوا القصف على
الأسواق والمراكز الإسلامية في المدن والقرى الشيشانية لتختل مقومات الحياة
وتدمر؛ لإبادة الشعب كله وليواجهوا هجمات شتاء برد قارس وهم عزل من كل
شيء سوى القذائف والصواريخ التي تمطر عليهم. ولنورد هنا مثلاً وإشارة لما
يجري لإخواننا هناك من ممارسات تكشف مدى الوحشية والحقد الدفين؛ ولكن
ليتصور المرء كيف يرجع مهاجر إلى بلدته رغم أنها تحت القصف المتواصل
وتمطر بالقذائف حتى المحرمة دولياً إلا أن تكون على المسلمين ليل نهار فذلك شأن
آخر. هذا هو ما حصل لإخواننا في الشيشان: لقد فروا فلم يجدوا ملجأً إلا العراء
في برد قارس يكسو الأرض بالثلوج، أو بعض خيام بلا فراش ولا طعام ولا أي
شيء من مقومات الحياة؛ فلذلك آثروا العودة لديارهم المدمرة تحت القصف المذكور
لعله أرجا لهم بعد أن مات منهم من مات وتقطعت أشلاء بعضهم من القصف، لعل
الله أن يجعل لهم فرجاً ومخرجاً. توقيت مقصود وتواطؤ دولي مريب.
ثم ما هي ممارسات العسكر الروس وتصرفاتهم تجاههم؟ هذا ما سنذكره مثالاً
وإشارات لما يجري ضد إخواننا هناك ولعل من أبلغ القول ما شهدت به الأعداء؛
فقد نشرت جريدة سبعة أيام الجورجيه في عددها الصادر برقم 47 في 25/11/
1999م تقريراً كتبته عن الشيشان من الميدان على لسان صحفية جورجية ومعها
صحفي ألماني يقول التقرير باختصار: علماً أن جورجيا تخالف دين الشيشان ...
وتعاديهم: تعتبر قرية (قالمي) أقرب إلى جورجيا وأول لقاء مع الحرب، وتبدو
حولها السيارات المحترقة من جميع الجهات وحول السيارات صمت رهيب باستثناء
طائرة روسية تبحث عن هدف آخر. القرية كلها دمرت بالكامل نحن نخطو بحذر
شديد تجاه القرية المدمرة وبعد هذه القرية تليها قرية نصف مدمرة والباقون من
سكانها على قيد الحياة هم الذين لم يستطيعوا الخروج وقادونا أولاً إلى منزل سُوِّي
مع الأرض، ثم روضة أطفال لم يبق منها سوى المدخل الذي كُتب عليه تحية من
الأطفال: (نحن نرحب بكم وننتظركم بقلوبنا وأرواحنا) حيث ذهب بقية الأطفال
حرقاً داخل الروضة التي دمرتها طائرات روسية، وفي اليوم الثاني عندما كان
أقرباؤهم يوارونهم التراب قامت المروحيات الروسية بالتحليق فوقهم وكل ذلك
يجري بجوار القرية وبجانبها حافلة مليئة باللاجئين. تبدو لنا وجوه الأطفال خائفين
مرعوبين وفجأة بدأ القصف على الحافلة بالصواريخ الحارقة، والمحرك وخزان
الوقود هما الهدف الأول بالنسبة لهم؛ ثم شعرنا بقوة الانفجار والارتجاج والحافلة
تحترق، ولم يستطع أحد من الركاب الخروج فاحترق كل من فيها من الأطفال
والنساء. وفي إحدى القرى قرب جروزني عذب أحد السكان حتى الموت حين قام
جنود فيلق روسي كامل بإطفاء سجائرهم على جسمه العاري وأجبروه على المشي
على الثلج حافي القدمين، وأمام عينيه قام الجنود الروس باغتصاب زوجته. ودون
رحمة قام هؤلاء بتعذيب ثلاثة أفراد من عائلة شيشانية، وتحمَّل الثلاثة جميع أنواع
التعذيب الروسي الإجرامي وفنونه فأحدهم قتلوه رمياً بالرصاص بعد تعذيبه،
والآخر قطعوا قدميه، والثالث نزعوا كبده وهو حي وقطعوا يديه حتي المرفق.
إنها حرب إبادة شاملة ضد هذا الشعب المسلم الذي يعتبر عملة نادرة بين شعوب
المسلمين اليوم. هذه مقتبسات من التقرير وهي غيض من فيض وإشارات لما
يجري في عرض البلاد وطولها من تصرفات إجرامية روسية، وهكذا هو الإنسان
في عقلية الحاكم الروسي وجيشه والغرب في مباركاته لذلك ودعمه. والحق ما
شهدت به الأعداء. أما أخبار المجاهدين فإنها تصل بفضل الله عن طريق الإنترنت
ويتبين منها ارتفاع معنوياتهم وكثرة إيقاعهم بجند الشيطان الجبناء الذين لا يواجهون
مواجهة مباشرة، وأحوال أخرى تسر المسلم، ويطلبون فيها الدعاء من إخوانهم.
وإني أحث كل مسلم على الاطلاع عليها ليرى فيها كيفية الاختلاف بين الإعلام
الروسي والعالمي الكاذب المرجف وبين الحقائق على الواقع. نسأل الله لهم عاجل
الفرج والنصر والعز والتمكين ...(148/140)
المنتدى
يا راية التوحيد
محمد بن عبد العظيم عيد
يا راية التوحيد قد أبكاني ... والدمع هيجني وهز كياني
أن كان تاج العز فوق رؤوسنا ... ورفعت عالية بكل مكان
أن قد قهرنا كل عابد باطل ... من عابد الأقمار والأوثان
من ملحد أو مشرك بإلهه ... أو عابد الأبقار والنيران
من آل صهيون ومن إخوانهم ... أو عابد لهواه والشيطان
ذلوا جميعاً مذعنين لديننا ... والعز كل العز في الإيمان
سدنا الجميع بديننا وبسيفنا ... فالسيف والقرآن مقترنان(148/141)
المنتدى
إنَّهم النَّابهون
محمد سعد دياب
هذا حَصَادُ النَّابهينَ.. ويومُهمْ ... يا سَعْدَهُم.. إنَّ الحَصَادَ كبيرُ
يا ألفَ مَرْحَى بالذينَ نراهمُ ... وعلى ذُرَى الهاماتِ ضاءَ سرورُ
الساهرينَ الليلَ في طلبِ العُلا ... والصَّائدينَ العُمْرَ.. وهو قصيرُ
هِمَمٌ يَضِجُّ الوَقْدُ في شريانِها ... وتَطَلُّعٌ ما شَابَهُ التقصيرُ
شَدُّوا إلى قِمَمِ النجاحِ رواحلاً ... لا تستريحُ.. ولا يخورُ مَسِيرُ
أحداقُهُم قد سُمِّرت نحو السُّها ... وجباهُهُم فيها السَّنَا محفورُ
ما جرَّهم طَيْشٌ.. ولا أَلهَاهمُ ... عَبَثٌ.. ولا ملأَ الفؤَادَ قشورُ
تَعِبوا.. وها قد كُللتْ قاماتُهمْ ... نصراً نضيراً كالسَّحابِ يدورُ
ما ضاعَ وقتهمو هَبَاءًا ماحِقاً ... إنَّ الجهادَ عطاؤه لوفيرُ
أبداً إلى الغايات يرنو رَكْبُهم ... أبداً إذا حُمَّ النِّداءُ.. حُضورُ
عُشَّاقُ حرصٍ.. يا لنِعْمَ مُرامُهم ... نِعْمَ المُرادُ.. فليس فيه قُصُورُ
هم زَهْوُ أوطانٍ.. يزيلون الدُّجى ... فيزول عن أرجائه الدَّيْجُورُ
هم وَعْدُنا نحو الصَّباح.. وفألُنا ... أَملٌ يُرَجَّى.. بَرْقُنا المنصورُ
هم هذه الأُمُّ المضيءُ بقلبِها ... ابنٌ لها.. وأبٌ هناكَ فخورُ(148/142)
الصفحة الأخيرة
نعم أسلمنا.. ولكن هل حسن إسلامنا؟
رضا محمد فهمي
كثيراً ما نقرأ في سير الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً مثل هذا التعبير:
( ... ثم أسلم وحسن إسلامه) .
وقد استوقفتني هذه العبارة وتذوقت لها طعماً في قلبي؛ مما دفعني إلى أن
أسائل نفسي: نعم أنا أسلمت؛ ولكن هل حسن إسلامي؟
ثم تاه هذا المعنى كغيره من المعاني في خضم هذه الحياة وأحداثها.
حتى جاء الموقف الأول وكنت أشرب الماء متوجساً من نقائه، فتمنيت بيني
وبين نفسي أن لو كان المشرف على تنقية هذا الماء وتعقيمه ممن حسن إسلامهم،
فحينها لن أشعر بأدنى توجس لثقتي بإتقان عمله، فهو من حُسن إسلامه.
ثم جاء الموقف الثاني: وكنت في مدرسة المرور لاستخراج رخصة قيادة،
وقد أُحلتُ إلى المشرف لتحديد المستوى، وقُبيل حلول دوري أُذِّن لصلاة الظهر؛
فتوقف العمل من أجل الصلاة لا حرمنا الله من ذلك في بلادنا الإسلامية جميعها
وبعد الصلاة تأخر المشرف قليلاً ولا تخفى حرقة الشمس في فصل الصيف في ذلك
الوقت فتمنيت أن يكون هذا المشرف ممن حسن إسلامهم فيرعى مصالح المسلمين
التي كُلِّفَ بأدائها، فحينها لن أشعر أنا ولا غيري بقلق من ضياع الوقت بعد الصلاة. ...
أما الثالث: فقد جاءني صديق وأخذ يسألني عن أشياء خاصة، ويلح في
السؤال، وكان ينتقل بأسئلته من حيث تنتهي إجابتي. فقلت في نفسي: ليته كان
ممن حسن إسلامهم واشتغل فيما ينفع! وتذكرت لحظتها حديث المصطفى صلى الله
عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [1] .
تحدثت بهذا المعنى مع أخ كريم فوجدت المعنى نفسه يشغله؛ لكنه كان أفطن
مني؛ حيث تحسس مواقفه هو وتمنى أن لو كان فيها ممن حسن إسلامهم.
وكم من أناس مثلي قد اطمأنوا لإسلامهم؛ فلم ينشغلوا بحسنه ولا تحسينه؛
بل راحوا يزنون الآخرين ويقيِّمون أفعالهم!
نعم! إن لحسن الإسلام واقعه الملموس في شتى مجالات الحياة، وليس كما
يحصره بعضنا داخل مسجد، أو في ناحية تهواها نفسه دون أخرى تشق عليه؛ بل
له آثاره في وظيفتنا وبيتنا، في لساننا وجهادنا، بل في مشيتنا وسلامنا، وقبل ذلك
في أهدافنا وغاياتنا وحبنا وبغضنا.
وحبذا لو تحسسنا ذلك عندنا قبل أن نتحسسه عند الآخرين. قال تعالى: ... [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ومَن تَابَ مَعَكَ ولا تَطْغَوْا] [هود: 112] وقال صلى الله عليه
وسلم: (عرفت فالزم) [2] .
ولعله يختلج في نفس من قصُر فهمه: كيف يحسن إسلامنا في شتى المجالات
والصحابة أنفسهم صدرت منهم بعض الأخطاء في مجالات شتى؛ والأمثلة على
الخطأ معروفة؛ فلنبحث عن مجال نتقنه ونحسن فيه إسلامنا.
ويذكرني مثل هذا بمن أراد أن يتاجر مع الله جملة؛ فبنى لله مسجداً ضخماً
على نفقته الخاصة، ثم لم يصلِّ هو فيه؛ بل لزم بيته في الصلاة معتقداً أن له من
الأجر مثل أجور من يصلون في مسجده. ولا عجب؛ فالجنون فنون!
أخي الحبيب: يجب أن نعتقد والعمل وليد الفكر والاعتقاد أن إحسان الإسلام
يكون شاملاً، وينطلق من حسن تفاعل القلب مع أمر الله تعالى ونهيه ومع سنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جهد المرء بجوارحه لتطبيق ما يؤمن به ويعتقده،
ولا بأس بعد ذلك من الخطأ أو النسيان ولو تكرر طالما يفرق هذا التكرار توبةٌ
نصوح.
ومن هذا الباب كانت الهفوات بل والزلات من بعض الصحابة الذين حسن
إسلامهم وشُهد لهم بالجنان؛ فقد أتبعوا الخطأ بتوبة نصوح فاستمر لهم حسن
إسلامهم. [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
[العنكبوت: 69] .
أما أن يكون للمرء منا خبيئة يمعن في إخفائها ويحسن التوجه لله تعالى بها،
لتكون له ذخراً عند الله يتشفع بها عند الشدائد، ويحتسب أجرها في الآخرة فذلك
فضل من الله وتوفيقه.
ولكن هذا لا يغني عن تمثُّل الإسلام واقعاً حياً يشمل مناحي الحياة جميعاً،
ولنحذر واقع هذه المرأة التي حُكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثير
صلاتها وصيامها لكنها تؤذي جيرانها فقال: (هي في النار) [3] . اللهم! إنا
نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
__________
(1) رواه الترمذي، ح/ 2239.
(2) المعجم الكبير، ح/ 3367.
(3) رواه أحمد، ح/ 9298.(148/143)
المحرم - 1421هـ
مايو - 2000م
(السنة: 15)(149/)
كلمة صغيرة
تحسبهم جميعا
لقد تحول البابا من حاكم مطلق يمنح أو يبيع صكوك الغفران، ويسير
الحملات الصليبية إلى مجرد منصب ديني يمثل الكنيسة الكاثوليكية بعد تحول
المجتمع الأوروبي عن الدين وتبنيه العلمانية أو الادينية.
لقد تحول دور الكنيسة من القيادة إلى المشاركة الفعالة في تنفيذ المشاريع
الاستعمارية، فعلى مدى قرون كانت الكنيسة فيها طليعة الاستعمار وأداته في تثبيت
النفوذ الغربي وتكوين جاليات نصرانية محلية تكون أداة للغرب في تنفيذ أغراضه.
إن الكنائس الغربية هي المسؤولة عن أحداث نيجيريا، وجنوب السودان
وتيمور الشرقية وجزر الملوك، وكلما نجحت الكنيسة في تكوين تجمع نصراني فإن
الدول الغربية تتولى مهمة الرعاية والحماية. ومن اللافت للنظر حرص البابا على
الظهور بمظهر زعيم العالم المسيحي وتعدد زياراته لبلدان فيها جاليات نصرانية
غير كاثوليكية في محاولة لدمجها في المشروع الغربي، ولهذا كانت زياراته
لجورجيا والصين والهند والسودان وأخيرا لمصر.
لقد قوبل البابا في الهند رسميا بحفاوة، لأنه يمثل الغرب؛ لكن الهندوس
قابلوه بالمظاهرات التي تندد بالنشاط التنصيري في الهند. أما في مصر فقد كانت
الزيارة مناسبة لإبراز عمق الخلافات بين النصارى، وعدم ترحيب الكنيسة القبطية
بهذه الزيارة؛ لأنها تهدد سلطة الكنيسة على رعاياها، ولهذا فإن الحكومة التي
أفلحت في جعل شيخ الأزهر على رأس المستقبلين لم تنجح في إقناع البابا شنودة
بالمشاركة في الاستقبال، بل وتم منع البابا يوحنا من دخول أحد الأديرة في سيناء،
مما أكد عمق الخلاف الديني، والسياسي أيضا؛ حيث إن الكنيسة القبطية تحس أن
هناك نشاطا كنسيا غربيا بين الأقباط في مصر ومحاولة إثارة القلاقل مع المسلمين
ليكون ذلك ذريعة للتدخل الغربي في مصر عند الحاجة، بدعوى حماية الأقلية
النصرانية المضطهدة! !(149/1)
الافتتاحية
العربية وواجبنا نحوها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإننا بهذا العدد الذي ندخل به العام الخامس عشر من
عمر البيان المديد - بإذن الله - لنؤكد على استمرارنا في النهج العقدي والدعوي
والتربوي في طريقنا المرسوم والمعهود مذكرين في الوقت نفسه بأن لكل أمة
شعارا، (واللسان العربي شعار الإسلام وأهله) [1] ، وما ذاك إلا لارتباطه بأهم ... مقدسات المسلمين، وهما الوحيان: الكتاب، والسنة بالإضافة إلى أن أغلب ما كتب في العلوم الإسلامية كان باللغة العربية. ومن أجل هذا اكتسبت اللغة العربية خاصية تميزها عن بقية اللغات الحية، وهي ثبات أصولها، وتمنعها من التغير، وهذا لا يضاد النمو والتمدد عن طريق الاشتقاق والنحت وغير ذلك من وسائل نموها.
ولهذا كان من واجبات المسلمين - ولاة وأفرادا - العمل على نشر اللسان العربي، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، وهذا ما فعله الأسلاف حين نشروا اللغة العربية مع نشرهم للإسلام، وكان لذلك أثر كبير - بفضل الله - في توطين الإسلام في تلك الشعوب التي تعلمت اللسان العربي، وتشبثت به، وكان من أخطاء المسلمين في الأندلس عدم نشر اللغة العربية بين أهل البلاد والتسامح في بقاء لغات أخرى على مستوى اجتماعي عال وكبير مما جعل اقتلاع الإسلام من الأندلس وطمس أغلب آثاره في نفوس أهله من غير العرب سهلا وسريعا، وإن بقيت آثار العربية في اللغة الأسبانية واضحة حتى الآن. وفي هذا العصر توجه إلى اللغة العربية سهام كثيرة من جهات عدة، لا مجال الآن للكلام عنها، وإنما سنوجه كلامنا إلى حال الدعاة مع اللغة العربية وموقفهم من الدعوات المناوئة لها؛ لأنهم أهم الأفراد الذين يجب عليهم نشر اللسان العربي السليم والمحافظة عليه؛ حفاظا على صفاء الدين وتعميقه في النفوس، لتتعامل مع الوحيين بنقاء وفهم أكثر.
وهذه وقفات مع هذا الموضوع:
الوقفة الأولى:
انتشر في الآونة الأخيرة عدة إصدارات صوتية بلهجات عامية مختلفة،
ولقيت رواجا في السوق، مما دعا تسجيلات أخرى إلى احتذاء هذه الطريق، ونشر
مزيد من هذه التسجيلات العامية، وهذه نكسة في طريق تقدم لغة المجتمع واقترابها
من الفصحى. وبيان ذلك: أن المجتمع كان على لهجات عدة، حتى يكاد بعضه لا
يفهم لهجة بعض، وبعدما انتشرت وسائل الإعلام - وبخاصة المسموعة - وكانت
العربية الفصحى لغتها بوجه عام أدى ذلك إلى زوال كثير من المفردات والأساليب
والصوتيات العامية من المجتمع، وقرب الجميع إلى اللغة الفصحى، واقتصرت
العامية على لغة المشافهة الخاصة في الشارع والمجالس، دون تقييد أو تسجيل،
كل ذلك أدى إلى انتشار المفردات الفصيحة، والأساليب السليمة. والموازن بين
كلام الناس الآن وكلامهم قبل مائة سنة أو أقل يرى البون الشاسع بينهما، ويرى أن
كلام الناس اليوم أقرب إلى الفصحى مفرداتٍ وأساليبَ وأصواتاً.
ولكن - وللأسف الشديد - نشط دعاة العامية، ودعوا الى تقييدها في الكتب،
وتسجيلها في الأشرطة المسموعة، مما أعطاها دفعة قوية، وبث الروح في كثير
من كلماتها وأساليبها وأصواتها التي كادت تموت، وهذا لا يستنكر من دعاة
القوميات الأرضية، أو الوطنيات الضيقة، غير المتعلمين للسان العربي الفصيح،
ولكنه يستغرب - بكل أسى - ممن يعلم أن كل دعم للعامية ونشر لها يعني إقصاء
الفصحى وإضعافاً لها، كما يستغرب من دعاة كان المطلوب منهم إعزاز
اللسان العربي والاعتزاز به، لارتباطه بما يدعون إليه، ف (إن نفس اللغة من الدين) [2] ، وإن (اعتياد التكلم به - أي اللسان العربي) أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين ... الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم) ، [3] . ولا يعني ما تقدم أن يطالب عامة الناس بالالتزام باللغة الفصحى؛ فإن هذا في هذا الوقت مطلب كبير، ولكن المطلوب أن تحاصر العامية في أضيق الحدود التي لا تتجاوز المشافهة بين عامة الناس في الشوارع والمجالس، مع تحسينها وتقريبها إلى الفصحى، وبخاصة في مفرداتها وأساليبها؛ فإن هذا ممكن وسهل، وفي المقابل ينبغي أن يبقى الخطاب في المحافل والمجامع والدعوة العامة مكتوبا بالفصحى ومسجلا بها؛ وبهذا نجعل الناشئة تحرص على العربية الفصحى وتعلمها وتقريب الكلام منها، لأنها لغة من ترقى لقيادة الناس ومخاطبة الجموع، ونجعل الناشئة تبتعد عن العامية وتستحي من الخطاب بها؛ لأنها لغة الشارع، ومع الوقت يقترب كلام الناس إلى الفصحى أكثر فأكثر.
الوقفة الثانية:
نجد بعض الدعاة لا يرى حرجا في استعماله الألفاظ الأعجمية في كلامه بلا
حاجة موجبة أو داعية، فتجده يردد في كلامه - على سبيل المثال - مثل هذه
الكلمات: (تلفون - بيجر - ليموزين - كنسل - ترم..) مع اشتهار ترجماتها،
ولو ناقشته في ذلك لذكر لك كراهيته لهذه الألفاظ، ولكن لكونها منتشرة بين الناس
سهل عليه استعمالها واعتيادها، ونسي أن من مهمات الدعاة توجيه الناس نحو
الصواب، لا مسايرتهم في أخطائهم، وربما قال قائل: إن المسألة سهلة، وليست
من مهمات الدعوة، وليس لها أثر كبير في انحراف الناس عن منهج الإسلام
فيقال: نعم! إن هناك ما هو أهم منها، ولكنها أيضا مهمة؛ لما لها من أثر كبير ... في هداية الناس وإعادتهم إلى سيرة السلف الصالح الذين كرهوا الكلام بغير العربية بغير حاجة (فقد كره الإمام الشافعي لمن يعرف العربية أن يتحدث بغيرها، أو أن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكره الشافعي - رحمه الله - قاله الأئمة مأثورا عن الصحابة والتابعين) [4] . (وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه) [5] . وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورا على اللسان، بل يتعمق حتى (يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق) [6] .
الوقفة الثالثة:
انتشر في كثير من البلدان ومنذ سنوات عديدة الاهتمام بالدراسة المتخصصة
بما يسمى بـ (الفلكلور الشعبي) وهو الاهتمام بالموروث الشعبي ودراسته والتنقيب
عنه؛ والأدهى والأمر حينما يدخل فيه ما ورث من عصور الوثنية والتخلف من
المسائل المصادمة للشرع من الاهتمام بالتماثيل وبالمقامات والأضرحة والموالد
وخلافها؛ وانتشر دعاة الفينيقية والفرعونية والبربرية ونحوها من الحضارات
البائدة، وقد حذر من ذلك باحث عربي مشهور هو الدكتور محمد محمد حسين
وكتب عنها موضحا آثارها السلبية تحت عنوان: (حصوننا مهددة من داخلها) .
الوقفة الرابعة:
الاهتمام المنقطع النظير بما يعرف بالآداب الشعبية، وبخاصة ما يعرف بـ ... (الشعر الشعبي: النبطي، والزجل ... وما ينضوي تحت مدلوله من مسميات في
مختلف البلدان العربية) ، نعم فهذا الشعر هو مصدر من مصادر تاريخ أمتنا في
عصور تخلفها يلزم العناية به في حدود هذا الجانب فقط، لا أن يؤصل وتفتح له
المراكز العلمية وتؤخذ بواسطته الشهادات العلمية عن طريق (المستشرقين) الأجانب
الذين لا يعرفون العربية فضلا أن يعرفوا اللهجات الشعبية. وما صدر مؤخرا من
مجلات شعبية إنما يصب في هذا الباب، لا سيما أن جل ما ينشر فيها هو من تافه
القول وبارد الأساليب؛ وإن تساقطت تلك المجلات واحدة بعد الأخرى إلا أنها -
وبلا شك - مظهر انحطاط للأمة لا مظهر قوة أو تطور، فهل نعي ذلك؟
إنها دعوة لإعطاء كل ذي حق حقه، من دون غلو ولا تقصير، لكي تسير
الدعوة لنهضة أمتنا في توازن، ولا تفقد جانبا مها من عوامل أصالتها.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 207.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 162.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 204.
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 22/255.
(6) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 207.(149/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
يوم عاشوراء.. أحكام وفوائد
عبد اللطيف بن محمد الحسن
ما المناسبات الإسلامية إلا اصطفاء من الله تعالى لبعض الأزمان وتخصيص
لها بعبادات ووظائف.
تأتي تلك المناسبات الكريمة فتحرك الشعور الإسلامي في أهله ليُقبلوا على الله
عز وجل فيزدادوا طهراً وصفاءاً ونقاءاً.
يُقبل شهر الله المحرم فيدعو المسلمين للصيام؛ حيث يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) [1] .
وفي الوقت الذي يذكِّرنا فيه هذا الشهر بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
بداية ظهور الدعوة وقيام دولة الإسلام نجد فيه يوماً يذكِّرنا بانتصار نبي آخر هو
موسى عليه الصلاة والسلام. ذلكم هو يوم عاشوراء العاشر من المحرم.
ولقد حبا الله هذا اليوم فضلاً، فضاعف فيه أجر الصيام. ثم كان للناس فيه
طرائق فأدخلوا فيه وأحدثوا وزادوا.. إما رغبة في الخير، أو مجاراة للناس، وإما
اتباعاً للهوى وزهداً في السنة.
من هنا نشأت الحاجة لبيان فضل هذا اليوم، وما يشرع فيه، وبيان أحوال
الناس في تعظيمه، مع وقفات تبرز من خلال المطالعة والبحث في هذا الموضوع،
أسأل الله تعالى الهدى والسداد، وأن ينفع بهذه السطور.
أولاً: خصوصية عاشوراء وفضل صومه:
جاء في فضل عاشوراء أنه يوم نجَّى الله فيه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام
والمؤمنين معه، وأغرق فيه فرعون وحزبه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟) فقالوا:
هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى
شكراً، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنحن أحق وأوْلى
بموسى منكم) فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه [2] ، وهذا
يحتمل أن الله تعالى: (أوحى إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك) [3] .
وقد جاء بيان فضل صيام يوم عاشوراء في حديث أبي قتادة أن النبي صلى
الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء، فقال: (يكفِّر السنة الماضية) ، وفي
رواية: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) [4] ،
وفي حديث آخر: (ومن صام عاشوراء غفر الله له سنة) [5] .
قال البيهقي: (وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفِّرها؛
فإن صادف صومه وقد كُفِّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته، وبالله
التوفيق) [6] .
بل إن صيامه يعدل صيام سنة، كما في رواية: (ذاك صوم سنة) [7] .
ويصور ابن عباس حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صيامه فيقول:
(ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم
يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني: شهر رمضان) [8] .
ولِمَا عُرف من فضله فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه، حتى كان
بعضهم يصومه في السفر؛ خشية فواته، كما نقله ابن رجب عن طائفة منهم ابن
عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وقال: (رمضان له عدة من أيام أخر،
وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر) [9] .
ثانياً: حالات صوم عاشوراء:
مرّ صوم يوم عاشوراء بأحوال عدة [10] :
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء بمكة، ولا يأمر
الناس بصومه.
الثانية: لما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه، فصامه وأمر الناس بصيامه،
حتى أمر من أكل في ذلك اليوم أن يمسك بقية ذلك اليوم. وكان ذلك في السنة
الثانية من الهجرة؛ لأنه قدم المدينة في ربيع الأول.
الثالثة: لما فرض رمضان في السنة الثانية نُسِخَ وجوب صوم عاشوراء،
وصار مستحباً، فلم يقع الأمر بصيامه إلا سنة واحدة [11] .
ويشهد لهذه الحالات أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصومه، فلما هاجر إلى المدينة، صامه وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان
قال: (من شاء صامه، ومن شاء تركه) [12] .
وعن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة
عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان منكم صائماً فليتمَّ
صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه) ، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، إن شاء الله، ونذهب بهم إلى المسجد، ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم) [13] .
ومن العلماء من قال: إنه لم يكن واجباً أصلاً [14] ؛ احتجاجاً بقول معاوية
رضي الله عنه لما خطب يوم عاشوراء فقال: (ولم يكتب الله عليكم
صيامه) [15] ، قال الحافظ ابن حجر: (ولا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته: أنه عامٌّ خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدُّم وجوبه، أو المراد: أنه لم يدخل في قوله تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ] [البقرة: 183] ، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك: أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني. ويؤخذ من مجموع الروايات أنه كان واجباً؛ لثبوت الأمر بصيامه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات ألاَّ يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في
مسلم: (لما فُرِضَ رمضان ترك عاشوراء) ، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه) [16] .
فكما كان واجباً أولاً فهو الآن مستحب غير واجب، كما نقل ابن عبد البر
الإجماع على هذا [17] .
واستحبابه متأكد يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم ...
عاشوراء، وهذا الشهر، يعني: شهر رمضان) [18] .
قال ابن حجر: (وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق
استحبابه.. فلا يخفى ضعفه، بل تأكُّد استحبابه باقٍ، ولا سيما مع استمرار
الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: (لئن عشت
لأصومن التاسع والعاشر) ، ولترغيبه في صومه وأنه يكفِّر سنة، وأي تأكيد أبلغ
من هذا؟ !) [19] .
ولا يشوِّش على هذا ما روي من أن ابن عمر كان لا يصومه إلا أن يوافق
صيامه [20] ، وأنه كان يكره إفراده بالصوم، فهو اجتهاد منه لا تُعارَض به
الأحاديث الصحيحة، وقد انقرض القول بذلك [21] .
الحالة الرابعة: الأمر بمخالفة اليهود في صيام عاشوراء:
(كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه
بشيء) [22] ، حتى أُمر بمخالفتهم، ونُهي عن موافقتهم، فعزم على أن لا يصوم
عاشوراء مفرداً، فكانت مخالفته لهم في ترك إفراد عاشوراء بالصوم.
ويشهد لذلك أحاديث منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: إنه يوم
تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان العام
المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع) . قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم [23] ، والمراد: أنه عزم على صوم التاسع مع
العاشر. يشهد لذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر) [24] ، وقوله: (خالفوا اليهود، وصوموا
التاسع والعاشر) [25] ، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بصيام عاشوراء يوم العاشر [26] .
أما جواب ابن عباس لمن سأله عن صيام عاشوراء، فقال: (إذا رأيت هلال
المحرم فاعدد، وأصبِحْ يوم التاسع صائماً) [27] ، فلا إشكال فيه، قال ابن
القيم: (فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال، وسعة علم ابن عباس؛ فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع، بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه) [28] .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا يوم
عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً) [29] . وعلى
صحة هذا الحديث فإن من لم يصم التاسع فإنه يصوم الحادي عشر؛ لتتحقق له
مخالفة اليهود في عدم إفراد عاشوراء بالصوم.
أما رواية: (صوموا يوماً قبله، ويوماً بعده) فهي ضعيفة [30] .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود،
وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصوموه أنتم) [31] .
قال ابن رجب: (وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب
صيام أعياد المشركين؛ فإن الصوم ينافي اتخاذه عيداً، فيوافقون في صيامه مع
صيام يوم آخر معه ... فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضاً، فلا يبقى
فيه موافقة لهم في شيء بالكلية) [32] .
ثالثاً: كيفية مخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء:
يظهر مما تقدم من الأحاديث والله أعلم أن الأكمل هو صوم التاسع والعاشر؛
لأنه هو الذي عزم على فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن صحح حديث: (وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا) فإنه قال بمشروعية
صيام الحادي عشر لمن لم يصم التاسع، لتحصل له مخالفة اليهود التي قصد إليها
النبي صلى الله عليه وسلم؛ خاصة أن من أهل العلم من يرى كراهية إفراد العاشر
بالصوم؛ لما فيه من موافقة اليهود ومخالفة الأمر بمخالفتهم، وأيضًا خشية فوات
العاشر [33] .
ومن أهل العلم من قال بأفضلية صوم الثلاثة أيام: التاسع والحادي عشر مع
العاشر، وحجتهم الرواية المتقدمة: (صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده) ، وأيضًا:
الاحتياط لإدراك العاشر، ولأنه أبلغ في مخالفة اليهود [34] .
رابعاً: أعمال الناس في عاشوراء في ميزان الشرع:
الناظر في حال الناس اليوم يرى أنهم يخصصون عاشوراء بأمور عديدة.
ومن خلال سؤال عدد من الناس من بلدان عدة تبين أن من الأعمال المنتشرة التي
يحرص عليها الناس في عاشوراء: الصيام وقد عرفنا مشروعيته.
ومنها: إحياء ليلة عاشوراء، والحرص على التكلف في الطعام، والذبح
عموماً لأجل اللحم، وإظهار البهجة والسرور، ومنها: ما يقع في بلدان كثيرة من
المآتم المشتملة على طقوس معينة مما يفعله الروافض وغيرهم.
وحتى نعرف مدى شرعية تلك الأعمال فتكون مقربة إلى الله، أو عدم
مشروعيتها لتصير بدعاً ومحدثات تُبعِد العبد عن الله؛ فإنه لا بد أن نعلم جيداً أن
للعمل المقبول عند الله تعالى شروطاً منها: أن يكون العامل متابعاً في عمله رسول
الله صلى الله عليه وسلم [35] .
وإذا نظرنا في أفعال الناس في عاشوراء سواء ما كان منها في الحاضر أو
الماضي أو الماضي القريب [36] رأينا أنها على صور عدة:
أ - ما كان منها في باب العبادات؛ حيث خصوا هذا اليوم ببعض العبادات كقيام ليلة عاشوراء، وزيارة القبور فيه، والصدقة، وتقديم الزكاة أو تأخيرها عن وقتها لتقع في يوم عاشوراء، وقراءة سورة فيها ذكر موسى فجر يوم عاشوراء ... فهذه ونحوها وقعت المخالفة فيها في سبب العمل وهو تخصيصه بوقت لم يخصه الشارع بهذه الأعمال، ولو أراده لحثَّ عليه، كما حث على الصيام فيه، فيُمنع من فعلها بهذا التقييد الزمني، وإن كانت مشروعة في أصلها.
ولأن باب البدع لا يقف عند حدّ فإن البدع في العبادات قد تنال كيفية العبادة،
كما اختلقوا حديثاً موضوعاً مكذوباً في صلاة أربع ركعات ليلة عاشوراء ويومها،
يقرأ فيها [قل هو الله أحد] [الإخلاص: 1] إحدى وخمسين مرة [37] ، وخرافة
رقية عاشوراء، ونعي الحسين رضي الله عنه على المنابر يوم الجمعة [38] ،
وكالمنكرات المصاحبة لزيارة القبور.
ب - ما كان من باب العادات التي تمارس في عاشوراء تشبيهاً له بالعيد، ومن ذلك:
الاغتسال، والاكتحال، واستعمال البخور، والتوسع في المآكل والمشارب،
وطحن الحبوب، وطبخ الطعام المخصوص، والذبح لأجل اللحم، وإظهار البهجة
والسرور. ومنها عادات لا تخلو من منكرات قبيحة.
وهذه في أصلها نشأت وظهرت رد فعل لمآتم الرافضة التي يقيمونها حزناً
على مقتل الحسين رضي الله عنه فكان من الناصبة [39] أن أظهروا الشماتة
والفرح، وابتدعوا فيه أشياء ليست من الدين، فوقعوا في التشبه باليهود الذين
يتخذونه عيداً كما تقدم [40] .
وأما ما روي من الأحاديث في فضل التوسعة على العيال في عاشوراء فإن
طرقها ضعيفة، وهي وإن رأى بعض العلماء أنها قوية فإن ضعفها لا ينجبر، ولا
ينهض لدرجة الحسن.
أما الاغتسال والاكتحال والاختضاب فلم يثبت فيه شيء البتة [41] ، ولمَّا
أشار ابن تيمية إلى ما روي من الأحاديث في فضل عاشوراء قال: (وكل هذا كذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصح في عاشوراء إلا فضل
صيامه) [42] .
وبذلك تعرف أن الشرع لم يخص عاشوراء بعمل غير الصيام، وهذا منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم، [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 12] . وكم فات على أولئك
المنشغلين بتلك البدع من اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته!
ج - مآتم الشيعة (الرافضة والباطنية) :
أما بالنسبة لمآتم الشيعة فإنه لا نزاع في فضل الحسين رضي الله عنه
ومناقبه؛ فهو من علماء الصحابة، ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء ... ، وابن بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، والتي هي أفضل بناته، وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع محزن لكل
مسلم، وقد انتقم الله عز وجل من قتلته فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة، أصابتهم العاهات والفتن، وقلَّ من نجا منهم.
والذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضى بقضاء الله
وقدره، وأنه تعالى يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله تعالى.
ولكن لا يحسن أبداً ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي يُلحَظُ
التصنع والتكلف في أكثره، وقد كان أبوه عليٌّ أفضل منه وقُتل، ولم يتخذوا موته
مأتماً، وقتل عثمان وعمر ومات أبو بكر رضي الله عنهم، وكلهم أفضل منه..
ومات سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في يوم موته ما هو حاصل في
مقتل الحسين. وليس اتخاذ المآتم من دين المسلمين أصلاً، بل هو أشبه بفعل أهل
الجاهلية [43] .
قال ابن رجب عن يوم عاشوراء: (وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة؛
لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه.. فهو من عمل من ضل سعيه في
الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام
مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم؟) [44] .
ولقد كانت بعض تصرفات الرافضة في مآتمهم موضع انتقاد من بعض
علمائهم، مع إصرار الجميع على المآتم والحزن.
ففي مقابلة مع أحد مراجعهم [45] سئل: (هناك أيضاً قضية عاشوراء التي
لا تحبذها؟) فأجاب: (عاشوراء لا بد أن تتحرك مع الخط العاطفي، ولكن لا
أوافق على الاحتفال بعاشوراء بطريقة ضرب الرؤوس بالسيوف، وجلد الأجساد
بالسلاسل الحديدية، وأنا قد حرمت هذا) . ثم طالب بأساليب للتعبير عن العاطفة
أكثر (عصرية) ، وذكر منها استخدام المسرح، حتى يكون لعاشوراء امتداد في
العالم! [46] .
والملاحظ أن مآتم الرافضة في عاشوراء لم ترتبط بأصل إسلامي من قريب
أو بعيد؛ إذ لا علاقة لها بنجاة موسى \، ولا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم،
بل الواقع أنهم حولوا المناسبة إلى اتجاه آخر، وهذا من جنس تبديل دين الله عز
وجل.
خامسًا: وقفات وفوائد:
1- حين يعظم الكفار بعض الشعائر:
تقدم في حديث عائشة الصحيح أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية،
وعنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تُسْتَرُ
فيه الكعبة ... ) [47] ، وقد قيل في سبب صيامهم أنهم أذنبوا ذنباً فعظم في
صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء [48] ، وقيل: أصابهم قحط، ثم رفع
عنهم، فصاموه شكراً [49] ، و (لعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا
يعظمونه بكسوة الكعبة، وغير ذلك) [50] .
وأياً كان الحامل لهم على ذلك فإنه ليس غريباً بقاء أثارة من تدين عند الكفرة
والمشركين، وهذا غالباً هو حال المبدلين شرع الله. ولكن وجود شيء من ذلك لا
يعني استحسان حالهم العامة بإطلاق مع بقائهم على الشرك والكفر؛ لأن ميزان
التفضيل هو التزام الدين قلباً وقالباً عن رضىً وقبول كما أراده الله، لا تجزئة الدين
والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، ولا التعلق بمجرد شعائر خالية من اليقين
والإيمان الخالص الذي هو دليل الشكر الصادق، وسبب التكفير والمغفرة لمن سعى
لذلك.
يقول الله عز وجل: [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى
أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ فَعَسَى
أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] [التوبة: 17، 18] .
وهكذا الحال بالنسبة لبعض المنتسبين لهذه الأمة في التزامهم بعض شعائر
الإسلام وتركهم كثيراً منها؛ فذلك شبه باليهود الذين أنكر الله عليهم بقوله: ... [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي ...
الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [البقرة: 85] . كحال من يكتفي من الإسلام بصيام رمضان، أو الإحسان إلى الناس مثلاً، مع فساد المعتقد، أو إهمال الصلوات، أو الركون إلى الكفرة وتوليهم.
2 - مخالفة أهل الكتاب من أعظم مقاصد الشريعة [51] :
مخالفة الكفار من أبرز مظاهر تحقيق البراء من الكافرين الذي لا يتم الإيمان
إلا به، وقد شدد الشارع على المتشبهين بهم، حتى قال النبي صلى الله عليه
وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) [52] ، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا أقل أحواله التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم [53] .
وفي ترك إفراد عاشوراء بالصوم درس عظيم، فإنه مع فضل صوم ذلك
اليوم، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على صومه، وكونه كفارة سنة ماضية..
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود فيه، وعزم على ضم التاسع
إليه، فوقعت المخالفة في صفة ذلك العمل، مع أن صوم عاشوراء مشروع في
الشريعتين، أو أنه مشروع لنا وهم يفعلونه، فكيف بما كان دون ذلك من المباح أو
المحرم وما كان من شعائر دينهم؟ ! لا شك أن في ذلك من المفاسد ما لا يظهر
أكثره لأكثر الخلق [54] .
أما اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على صوم عاشوراء أولاً فقد كان قبل
أن يؤمر بمخالفة أهل الكتاب، وقد كان قبل ذلك يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه
بشيء [55] ، واحتمل أن يكون صومه (استئلافاً لليهود كما استألفهم باستقبال
قبلتهم، وعلى كل حال فلم يصمه اقتداءاً بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك) [56] .
والإسلام منهج وسط في الاتباع، حاديه دائماً الحق المجرد؛ ففعل المشركين
لِحَقٍّ لا يسوِّغ ترك هذا الحق بدعوى مخالفتهم، كما أن فعلهم لباطل لا يسوِّغ
متابعتهم فيه بدعوى موافقتهم لتأليف قلوبهم، وعليه: تنتفي الدوافع المتوهمة
للإعجاب بحال أي مبطل أو متابعته في باطله أو ترك حق لأنه فعله؛ إذ مقياس
قبول الأحوال توافقها مع الشرع، وميزان المخالفة ما كان من خصائص مِلَّتهم
وشعائر دينهم، وبين هذا وهذا درجات لا مجال لتفصيلها.
3 - حقيقة الانتماء:
علَّل اليهود صيامهم عاشوراء بمتابعتهم موسى \ حين صامه شكراً لله على
إنجائه له من فرعون. وهاهنا أمران:
أولهما: هل يكفي صيامهم عاشوراء برهاناً للمتابعة وسبباً للأولوية
بموسى؟
وثانيهما: هل وقع لهم ما أرادوا من موافقة عاشر المحرم (عاشوراء) فعلاً؟
أما الأول: فلا يكفي صومهم عاشوراء أن يقوم دليلاً لكونهم أوْلى بموسى؟
أبداً؛ إذ الحكم في ذلك بحسب تمام المتابعة والتزام المنهج، قال الله عز وجل:
[إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ ولِيُّ
المُؤْمِنِينَ] [آل عمران: 68] .
ولذا كان نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم وأتباعه أوْلى بنبي الله موسى
عليه الصلاة والسلام من الأمة الغضبية، فقال: (نحن أحق وأوْلى بموسى
منكم) [57] .
وهكذا تتوحد المشاعر، وترتبط القلوب مع طول العهد الزماني، والتباعد
المكاني، فيكون المؤمنون حزباً واحداً هو حزب الله عز وجل؛ فهم أمة واحدة،
من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان.. لا يحول دون الانتماء
إليها أصل الإنسان أو لونه أو لغته أو طبقته.. إنما هو شرط واحد لا يتبدل، وهو
تحقيق الإيمان، فإذا ما وجد كان صاحبه هو الأوْلى والأحق بالولاية دون القريب
ممن افتقد الشرط؛ ولذا استحقت هذه الأمة ولاية موسى دون اليهود المغضوب
عليهم. [إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 29] .
وأما الثاني: وهو: هل وافقوا صيام عاشوراء فعلاً؟ فقد ذكر بعض أهل
العلم [58] أن حساب اليهود كان بالسنة الشمسية، والمحرم شهر هلالي لا شمسي،
وهذا يوقع الشك في إصابة اليهود يوم عاشوراء، أما المسلمون فحسابهم بالأشهر
الهلالية فأصابوا تعيين عاشوراء، وإذا ظهر خطأ اليهود تبينت أولوية المسلمين من
هذا الوجه أيضاً.
ويشبه هذا ضلال أهل الكتاب عن يوم الجمعة، فاختار اليهود السبت،
واختار النصارى الأحد، وهُدي المسلمون ليوم الجمعة.
4 - عبادة الله أبلغ الشكر:
كانت نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وقومه من فرعون.. منَّة كبرى أعقبها
موسى بصيام ذلك اليوم، فكان بذلك وغيره من العبادات شاكرًا لله تعالى؛ إذ
العمل الصالح شكر لله كبير، قال ربنا عز وجل: [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ
مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] [سبأ: 31] ، وأساس الشكر مبني على خمس قواعد:
الخضوع للمنعم، وحبه، والاعتراف بنعمته، والثناء عليه بها، وألا تصرف
النعمة فيما يكرهه المنعم [59] . (والبشر مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن
الوفاء، فكيف إذا قصّروا وغفلوا عن الشكر من الأساس) ؟ ! [60] .
ويجب التنبه إلى أن أمر العبادة قائم على الاتباع، فلا يجوز إحداث عبادات
لم تشرع، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات
لم ينص عليها الشارع في ذلك الزمن. أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فعباداتهم
شرع معصوم مبني على وحي الله عز وجل إليهم.
ثم اقتفاء آثار الأنبياء وتحقيق الاهتداء بهديهم والاجتهاد في تطبيق سنتهم هو
الشكر بعينه.
5 - في التعويد على الخير تثبيت عليه:
بلغ بالصحابة الحرص على تعويد صغارهم الصيام أن احتالوا عليهم في
تمرينهم عليه حتى يُتِمُّوه، فصنعوا لهم اللعب يتلهون بها عن طلب الطعام، كما
تقدم في حديث الربيِّع؛ وذلك لكون تعويد الصغير على فعل الخير مكمن قوة في
استقامته عليه في الكبر؛ لأنه يصير هيئة راسخة في نفسه تعسر زعزعتها..
واليوم لدينا من وسائل التلهية المباحة بقدر ما لدينا من أصناف الطعام وأشكاله،
وإذا اقتنع المربي بواجبه التربوي لم تُعْيِه الحيلة؛ فإن الحاجة تفتق الحيلة [61] .
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 1163.
(2) البخاري، ح/2004، ومسلم، ح/11330، واللفظ له.
(3) فتح الباري: 4/291.
(4) رواه مسلم، ح: 1162.
(5) رواه البزار، انظر: مختصر زوائد البزار 1/407، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/422.
(6) فضائل الأوقات، للبيهقي: 439.
(7) رواه ابن حبان: 8/394، ح/3631 قال شعيب الأرناؤوط: إسناده على شرط مسلم.
(8) رواه البخاري، ح/2006، ولا يعني هذا تفضيله على يوم عرفة، فإنه يكفر سنتين، ويتميز بمزيد فضل لما يقع فيه من العبادات والمغفرة والعتق، ثم إنه محفوف بالأشهر الحرم قبله وبعده، وصومه من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم (انظر: بدائع الفوائد: 4/211، والفتح: 4/292، ومواهب الجليل 2/403) .
(9) لطائف المعارف، لابن رجب: 110، وأخرج أثر الزهري البيهقي في الشعب: 3/367.
(10) انظر: اللطائف: 102 109.
(11) انظر: الفتح: 4/289.
(12) رواه مسلم، ح: 1125، واللفظ له، والبخاري، ح: 2002.
(13) رواه مسلم: ح 1136، 2/798.
(14) كالبيهقي، في فضائل الأوقات: 444، 445.
(15) رواه البخاري: ح/2003، الفتح: 4/287.
(16) الفتح: 4/290 وانظر: زاد المعاد: 2/71، 72.
(17) انظر: التمهيد: 7/203، 22/148.
(18) رواه البخاري: ح: 2006، الفتح: 4/287.
(19) الفتح: 4/290.
(20) البخاري: ح/1892، الفتح4/123، ومسلم: ح/1126.
(21) انظر: الفتح: 4/289.
(22) كما صح عن ابن عباس في البخاري: ح 5917 وانظر مبحثاً مفيداً في المسألة في اقتضاء الصراط المستقيم: 1/466 472.
(23) رواه مسلم، ح/1134.
(24) أخرجه الترمذي3/128،، ح/755، وقال: حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ح/603، وانظر: صحيح الجامع، ح/ 3968.
(25) أخرجه عبد الرزاق (7839) ، والبيهقي (4/287) ، من طريق ابن جريج عن عطاء وهذا إسناد صحيح.
(26) أخرجه البزار، انظر: مختصر زوائد البزار، لابن حجر: 1/ 406، ح 672، وقال الحافظ: إسناده صحيح.
(27) رواه مسلم: 1133.
(28) زاد المعاد: 2/ 75 76.
(29) المسند: 1/241 وقال شاكر: إسناده صحيح واحتج به من أهل العلم: الحافظ في الفتح (4/289) ، وابن القيم في الزاد (2/76) ، وغيرهما وضعف إسناده محققا المسند، وقالا: (إسناده ضعيف ابن أبي ليلى واسمه محمد بن عبد الرحمن: سيئ الحفظ، وداود ابن علي وهو ابن عبد الله بن عباس الهاشمي روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، وقال الإمام الذهبي: وليس حديثه بحجة) ، ثم خرجاه من مصادره، وبينا أن الثابت عن ابن عباس موقوفًا هو بلفظ: (صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود) انظر المسند ح/ 2154، 3213 (4/52، 5/280) .
(30) ذكر هذا اللفظ: الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/188، وقال: (رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام) وذكره المجد ابن تيمية في المنتقى، وعزاه لأحمد، قال الشوكاني في نيل الأوطار: 4/330: (رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة، من طريق داود بن علي، عن أبيه، عن جده، رواها عنه: ابن أبي ليلى) وذكره ابن رجب في لطائف المعارف: 108 والذي وقفت عليه في المسند هو اللفظ المتقدم، وهو بـ (أو) وليس بالواو، وقد ضعف الرواية التي بالواو الألباني في ضعيف الجامع، ح/ 3506، وذكرها محتجًا بها الشيخ ابن باز، انظر: فتاوى إسلامية: 2/169.
(31) رواه مسلم، ح: 1131، 1/796.
(32) لطائف المعارف: 112.
(33) وهو المشهور عن ابن عباس ومقتضى كلام أحمد، ومذهب الحنفية انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، 1/470 471، ورد المحتار، لابن عابدين 3/ 336 337.
(34) بل إن الحافظ ابن حجر (الفتح4/289) وابن القيم (الزاد2/72) جعلا المراتب ثلاثة، أفضلها صيام الثلاثة الأيام، يليها صوم التاسع والعاشر، والثالثة صوم العاشر وحده وانظر: المغني، لابن قدامة 4/441، ولطائف المعارف، ص 109.
(35) ويتحقق الاتباع بموافقة العمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ستة أمور: أ - كون سبب العمل مشروعاً، فالتهجد في ليالي معينة كليلة عاشوراء دون غيرها سببه غير مشروع؛ لأنه لم يرد في تخصيصها به نص شرعي ب - الجنس؛ فالتضحية بفرس غير مقبولة؛ لأنها لم تشرع ج - القدر أو العدد، فإذا صلى المغرب أربعاً لم تصح؛ لمخالفة الشرع في العدد د - الكيفية، فإذا توضأ وضوءاً منكساً لم يُقبل هـ - الزمان، فلو ضحى في شعبان لما صحت منه و - المكان، فلو اعتكف في بيته لما صح منه ذلك؛ لمخالفة الشرع في المكان (انظر: الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع، لابن عثيمين: 21- 22) .
(36) انظر في بدع عاشوراء: المدخل، لابن الحاج: 1/208، 209، وتنبيه الغافلين، لابن النحاس: 303، والإبداع في مضار الابتداع، لعلي محفوظ: 268-272، والسنن والمبتدعات، للشقيري: 118-121، وردع الأنام من محدثات عاشر المحرم الحرام، لأبي الطيب عطاء الله ضيف وانظر: معجم البدع، لرائد بن أبي علفة: 391 395.
(37) انظر: الإبداع، لعلي محفوظ: 270.
(38) انظر: السنن والمبتدعات، للشقيري: 120.
(39) هم الذين يناصبون آل البيت العداء، في مقابل الرافضة الذين غلوا فيهم.
(40) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 2/129 134، وانظر: اللطائف: 112، وشعب الإيمان: 3/367، وضعيف الجامع، ح/5873.
(41) انظر: السابق.
(42) منهاج السنة النبوية 7/39، وانظر: مواهب الجليل 2/403 444.
(43) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير: 8/201 203، والفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية: 25/307 314، واقتضاء الصراط المستقيم: 2/129- 131.
(44) لطائف المعارف: 113.
(45) وهو محمد حسين فضل الله.
(46) صحيفة: الخليج، العدد 7224، الأحد 12/11/1419هـ.
(47) رواه البخاري، ح: 1592، الفتح: 3/531.
(48) انظر: الفتح: 4/289.
(49) انظر: الفتح: 7/184.
(50) الفتح: 4/289.
(51) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 1/199 وما بعدها.
(52) رواه أبو داود: ح/ 4031، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح: 341.
(53) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 1/270.
(54) انظر: السابق: 1/284، 474، 92 94.
(55) صحيح البخاري، ح/ 5917، موقوفًا على ابن عباس وتقدم.
(56) الفتح: 4/291، وانظر: 288.
(57) هذا لفظ مسلم: ح/1130.
(58) انظر: اللطائف: 109، والزاد: 2/69، 70، والفتح: 4/291.
(59) انظر مدارج السالكين: 2/254.
(60) في ظلال القرآن، لسيد قطب: 5/2899.
(61) كما تقول العرب ومعنى المثل: أن شعور الإنسان بحاجته لشيء يولد له الحيلة والطريقة التي توصله إلى حاجته.(149/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
المزاح بين المشروع والممنوع
حامد بن مشاري الحامد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه. وبعد:
فإن للأعمال ضوابط تُضبَط بها حتى تكون موافقة للمشروع؛ ومتى فُقِدَت
هذه الضوابط كان ذلك العمل ممنوعاً. وكم من إنسان غفل عن تلك الضوابط فوقع
في الممنوع من حيث يشعر أو لا يشعر! وقد قال عليه السلام: (من عمل عملاً
ليس عليه أمرنا فهو رد) [1] .
ومن تلك الأعمال التي لا بد أن تضبط بضوابط الشرع المزاح الذي يكثر في
هذه الأزمنة المتأخرة؛ ويقل من يضبطه بضوابط الشرع.
معنى المزاح:
المزاح بضم الميم: وسيلة يراد بها المباسطة؛ بحيث لا يفضي إلى أذى،
فإذا بلغ الإيذاء فإنه يفضي إلى السخرية. والمزاح بكسر الميم: مصدر.
من فوائد المزاح:
أولاً: أن يكون على سبيل الملاينة والمباسطة وتتطييب خاطر صاحبك
وإدخال السرور على قلبه.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وتبسمك في وجه أخيك
صدقة) [2] .
وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من
رسول الله صلى الله عليه وسلم) [3] .
ثانياً: أنه أنس للمصاحبين وطرد للوحشة وتأليف للقلوب ومظهر من مظاهر
الأخوة والوفاء.
ثالثاً: التخلص من الخوف والغضب والقلق وغيره؛ فإن الإنسان إذا مزح
أدخل على نفسه شيئاً من السرور والتسلية، وأزال ما يخاف منه أو خفف من
ذلك.
رابعاً: التخلص من السأم والملل، كأن يعطي الشيخ طلابه سؤالاً أو لغزاً كي
يُذهِب الملل عنهم.
مشكاة النبوة:
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرفق في كل أمر من أمور
الحياة، وما الاستجمام للنفس إلا من الرفق بها ليكون الرفق من مظاهر كل أعمال
الإنسان في الحياة؛ حتى ليُربَط الرفق بصفات الخالق الرحيم الرفيق بخلقه.
روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله
رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على
ما سواه) [4] .
والرفق: (هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد
العنف) [5] .
وما الانبساط والمزاح وما يتبع ذلك من لين القول والتبسم وانشراح الصدر إلا
مظهر من مظاهر الرفق.
ولعل أشهر ما ورد في المزاح ما أورده البخاري في باب (الانبساط إلى
الناس) حديث: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) [6] .
وكذلك أبو داود في سننه من حديث أنس: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا
حاملوك على ولد ناقة) قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق) [7] .
وربما مازح صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد طلوع الشمس، ودليله ما رواه
سِمَاك بن حرب قال: (قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو
الغداة حتى تطلع الشمس؛ فإذا طلعت الشمس قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في
أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم) [8] .
وفي رواية النسائي وأحمد زيادة: (وينشدون الشعر) [9] .
ومن الأوقات بعد صلاة العشاء، أي: السمر فيه، والسمر: الحديث قبل
النوم.
وأورد البخاري حديثين ذكرهما في باب (السمر في العلم) واستنبط منهما
جواز السمر في العلم والقياس على ذلك في المؤانسة مع الأهل، وكذلك لتحصيل
فائدة مع الإخوان والخلاَّن. ويزداد استحبابها إذا كانت لمصلحة دعوية في بذل
نصح وتقريب قلوب وزيادة محبة ومودة وإزالة الكدر وإيجاد أجواء الحب
والتعارف.
دروس من أبي الدرداء:
ولا بأس أن يأخذ الداعية من الراحة فيما لا يكون حراماً ليستعين به على
العمل والأداء حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه
يقول: (إني أستجم ببعض الباطل؛ ليكون أنشط لي في الحق) [10] .
ويقول ابن تيمية معلقاً على هذا القول: (فأما من استعان بالمباح الجميل على
الحق فهذا من الأعمال الصالحة) [11] .
الصحابة والمزاح:
أورد أبو داود في سننه: (عن أسيد بن حضير قال: بينما رجل من الأنصار
يحدِّث القوم وكان فيه مزاح بَيْنَا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في
خاصرته بعود، فقال: أصبرني! فقال: اصطبر. قال: إن عليك قميصاً وليس
عليَّ قميص. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل
كَشْحَه. قال: إنما أردت هذا يا رسول الله) [12] .
وكان من أشهر الصحابة نُعيمان بن عمرو بن رفاعة المشهور بقصصه
ودعاباته، وهو صحابي جليل: (شهد بدراً، وكان من قدماء الصحابة وكبرائهم،
وكانت فيه دعابة زائدة، وله أخبار طريفة في دعاباته.. وكان نعيمان مضحكاً
مزاحاً) [13] .
ولقد كان المزاح نوعاً من طرد السَّأَم والهم والابتعاد عن مشاغل الدنيا
وترويح للنفس؛ إذ لا بد للدنيا من مواقف تتجدد فيها الطاقة وتبعث فيها الهمة؛ لأن
القلوب إذا كلَّت عميت؛ بل إن ذلك قد يكون مظهراً من مظاهر الرجولة في البيت
ومع الزوجة والأولاد، إذا كان دون إسراف أو جنوح، لا كما يظن بعضٌ أن
الرجولة بالتكلف والتصنع.
واسمع قول بعض الصحابة:
(قال ابن عمر: إنه ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، ثم إذا
بُغي منه وُجِدَ رجلاً.
وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج كان رجلاً من
الرجال) [14] .
لذلك ينبغي ألاَّ يكون من خُلُق الشاب الملتزم أو الداعية التبسم خارج البيت
وتصنُّع الغلظة والجفوة في بيته، ولا يخفى أن عكس الأمر من التكلف المذموم
أيضاً.
التوازن مطلب أساس:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش بين الصحابة وفيهم الحازم من
أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان رجلاً مهيباً. وفيهم صاحب الدعابة
الذي يستلقي على قفاه، ولم ينكر على أحد منهم.
والأصل هو في إنكار الضحك المتكلَّف في القهقهة، أو الضحك في مواطن
الجد، أو الإفراط فيه.
(ولقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبل.
وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأعراض ويضحك بعضهم إلى
بعض، فإذا كان الليل كانوا رهباناً) [15] .
وهكذا ظل الصحابة أوفياء للمنهج النبوي دون أن يؤثر المزاح على جدية
العمل، أو على تطبيق السنن، أو على تفويت المصالح.
ولا شك أن الإفراط يقود إلى أمور تنافي مقاصد الشريعة ومراتب المروءة،
وتتعارض مع المقامات السامية، كما أنها قد تكون حسنة بذاتها ولكنها تقود إلى
مفسدة، ولقد قال علي رضي الله عنه في توضيح هذا الميزان وتثبيته: (خير هذه
الأمة النمط الأوسط: يرجع إليهم الفاني، ويلحق بهم التالي) [16] .
سلف الأمة:
وعلى منهج الصحابة سار السلف في جعل المزاح استراحة؛ فتكاد ألاَّ تجد
كتاباً يخلو من مُلَح وطرائف لشيخ التابعين الإمام الشعبي رحمه الله.
قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟
قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه.
وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح وفق ضوابطه وفي أوقاته من المروءة،
والتقصير فيه من خوارم المروءة، وشددوا على ذلك في السفر؛ وفي هذا يقول
ربيعة الرأي: (إن المروءة من خصال: ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السفر،
والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح من غير
معصية) [17] .
وإيراد ما ورد عن التابعين وسلف الأمة يطول، وجميعهم على هذا المذهب
في جواز المزاح وفق الضوابط الشرعية.
يقول النووي رحمه الله: (المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم
عليه؛ فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في
كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما من
سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يفعله) [18] .
الضوابط الشرعية في المزاح:
1 - ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:
فيعد هذا من نواقض الإسلام؛ لقوله تعالى: [ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ
بَعْدَ إيمَانِكُمْ] [التوبة: 65، 66] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر
يكفر به صاحبه بعد إيمانه) [19] ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام.
وهذه كالاستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية
كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار
وهو يبكي) [20] .
2 - ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب:
ولا سيما أولئك المعتادين لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس. روى
الإمام أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للذي يحدِّث
فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له) [21] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه
يهوي بها في النار أبعد من الثريا) [22] .
ولا شك أنهم وقعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله
تعالى، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.
3 - السخرية والاستهزاء بالآخرين:
فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ
قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ
ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [الحجرات: 11] .
يقول ابن كثير: (المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم،
وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين) [23] .
ويقول الطبري: (اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا
باللسان) [24] .
وقد روى البيهقي في (شعب الإيمان) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ... (إن المستهزئين بالناس لَيُفْتَحُ لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم، فيجيء بكربه وغمه،
فإذا جاء أُغلق دونه) [25] .
ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها
فيتصف بها ويبتلى بفعلها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُظهر الشماتة بأخيك
فيرحمه الله ويبتليك) [26] .
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالمسلمين فقال: (المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث
مرات بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام:
دمه، وماله، وعرضه) [27] .
4 - ألا يروِّع أخاه:
فقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: (حدثنا أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل
منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً) [28] .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا
جاداً) [29] .
5 - عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة:
ينبغي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سمات المؤمنين، وما المزاح إلا
رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت
الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي رحمه الله بقوله: (من الغلط العظيم أن يتخذ
المزاح حرفة) [30] .
6 - أن يُنْزِل الناس منازلهم:
إن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد
يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال
بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: (إن من إجلال الله إكرام ذي
الشيبة المسلم) [31] .
ونقل طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (من السنة أن يوقَّر
العالِم) .
وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس
المازح؛ فهذا يؤدي إلى استحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا عمر بن عبد العزيز
يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: (اتقوا المزاح؛ فإنه يُذْهِبُ المروءة) .
7 - ألا يكون مع السفهاء:
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: (اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب
البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء) .
8 - ألا يكون فيه غيبة:
الغيبة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ
مزاحه من هذه الآفة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه
وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه في زعمه إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك. ولم
يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: (ذكرك أخاك بما
يكره) [32] .
وقد أورد الترمذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا
أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك:
فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا) [33] .
والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.
هذا ونسأل الله أن يؤدبنا بآداب الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 3242.
(2) رواه الترمذي، ح/ 1879.
(3) رواه أحمد، ح/ 17043 (4، 5) ابن حجر، فتح الباري، 10/449.
(6) رواه البخاري، ح/5664.
(7) رواه الترمذي، ح/ 1914.
(8) رواه مسلم، ح/ 1074.
(9) رواه النسائي، ح/ 1341.
(10) الباطل الذي يقصده أبو الدرداء رضي الله عنه ليس الذي هو نقيض الحق إنما هو المزاح والهزل؛ فقد أورد صاحب (لسان العرب) في معجمه في مادة.
(بطل) قوله: (بطِل في حديثه بطالة، وأبطل: هَزَل، والاسم: البطل) والله أعلم البيان.
(11) مجموع الفتاوى، 82/369.
(12) رواه أبو داود، ح/ 4547.
(13) الاستيعاب، لابن عبد البر، 4/ 1526.
(14) شرح السنة، للبغوي، 13/183.
(15) عيون الأخبار، ابن قتيبة، 1/326.
(16) شرح السنة، 13/318.
(17) شرح السنة، 13/184.
(18) الأذكار، للنووي، 468.
(19) مجموع الفتاوى، 7/273.
(20) الحلية لأبي نعيم، 4/96، والفردوس، للدليمي، 3/578.
(21) رواه أبو داود، ح/ 4338.
(22) رواه أحمد، ح/ 8852.
(23) تفسير ابن كثير، 7/376.
(24) انظر جامع البيان، 24/597.
(25) شعب الإيمان للبيهقي، 5/310، رقم: 6757 عن الحسن مرسلاً.
(26) رواه الترمذي، ح/ 2430 وقال: حديث حسن.
(27) رواه مسلم، ح/ 4650.
(28) رواه أبو داود، ح/ 1534.
(29) رواه أبو داود، ح/ 4350.
(30) إحياء علوم الدين، للغزالي 3/129.
(31) رواه أبو داود، ح/ 4203.
(32) رواه مسلم، ح/ 4690.
(33) رواه الترمذي، ح/ 2331.(149/18)
تأملات دعوية
إنا نراك من المحسنين
محمد بن عبد الله الدويش
حين عاش يوسف عليه السلام في السجن كان شامة بين الناس في إحسانه
إليهم وسمو أخلاقه معهم؛ لذا جاءه الرجلان يستفتيانه في رؤياهما مستشهديْن بما
عرفاه من حاله وإحسانه للناس. واستثمر يوسف عليه السلام هذا الموقف في
دعوتهما إلى توحيد الله عز وجل وبيان حال ما هم عليه من الأرباب المتفرقين بعد
أن وعدهما بتأويل رؤياهما ناسباً الفضل في ذلك إلى ربه عز وجل.
إن هذا الموقف تتجلى فيه أثر نظرة الناس إلى الداعية وإحسانه إليهم في
قبولهم لدعوته وسماعهم لكلمته.
ولذا فقد كان سيد الدعاة وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم متمثلاً لهذا
الجانب، ومتصفاً بتلك الصفة. تقول خديجة رضي الله عنها في وصفه: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ؛ وتُكسِبُ المعدومَ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب ... الحق) [1] والسيرة حافلة بأخبار من أسلموا متأثرين بما رأوا من حاله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
وأخبر تبارك وتعالى أن العفو ودفع السيئة بالتي هي أحسن مدعاة لأن تنقلب
حال العدو إلى صداقة: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
ولِيٌّ حَمِيمٌ] [فصلت: 34] .
لذا فالدعاة الذين يتأسون بمنهجه صلى الله عليه وسلم حري بهم أن يُعنوا بهذا
الجانب ويهتموا به، ومن ذلك:
1- الاهتمام بالناس، والاعتناء بهم، وقضاء حوائجهم، والحذر من اعتبار
ذلك وقتاً ضائعاً أو على حساب الدعوة إلى الله عز وجل؛ وها هو النبي صلى الله
عليه وسلم يجد سعة لأن يهتم بحاجة رجل رقيق يريد العودة إلى زوجته؛ فعن ابن
عباس رضي الله عنهما أن مغيثاً كان عبداً فقال: يا رسول الله! اشفع لي إليها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بريرة! اتقي الله؛ فإنه زوجك وأبو
ولدك) فقالت: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ قال: (لا، إنما أنا شافع) فكان
دموعه تسيل على خده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: (ألا تعجب
من حب مغيث بريرة وبغضها إياه؟) [2] .
2 - الاعتناء بالمحتاجين والفقراء وبذل المال لهم، وإيصال زكوات المسلمين
وصدقاتهم إليهم، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم طائفة من الناس
وكانوا أهل حاجة نهى أصحابه عن ادِّخار لحوم الأضاحي من أجل أن يعينوا
هؤلاء، وحين قدم قوم من مضر رقَّ لما رآه من سوء حالهم، فخطب أصحابه حاثاً على الصدقة والإحسان والبذل في سبيل الله [3] .
3 - أن يعتني الدعاة إلى الله بالمشروعات العامة التي تعين الناس وتيسر لهم
أمورهم، من خلال إنفاقهم وبذلهم، أو الشفاعة لدى المحسنين، أو رفع مطالبات
الناس ومتابعتها في ذلك.
4 - السعي لإيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية التي يعاني منها الناس،
والتي زادت حدتها في هذا العصر، وعانى منها كثير من المسلمين، كالمشكلات
التربوية، والمشكلات الزوجية، والخلافات بين الناس؛ وبخاصة أن كثيراً ممن
يتصدون لهذه المشكلات ويطرحون آراءهم للناس فيها من خلال الصحف ووسائل
الإعلام ليسوا من أهل الصلاح.
5 - المبادرة لإعانة الناس في الحوادث العامة والأزمات، كالأعاصير
والزلازل ونحوها؛ وما رأيناه في أكثر من موقف من سعي الأعداء للحيلولة بين
قيام الدعاة إلى الله بالأعمال الإغاثية في الأزمات لخير دليل على أهميتها وأثرها.
__________
(1) رواه البخاري (4) ، ومسلم (160) .
(2) متفق عليه، واللفظ لأبي داود (2231) .
(3) رواه مسلم (1017) .(149/24)
دراسات تربوية
توحيد المشاعر.. علاقة ممتدة
خالد أبو الفتوح
ليس المقصود هنا توحيد مشاعر المسلمين وإن كان ذلك مطلوباً، ولكن
المقصود توحيد مشاعر المسلم ذاته، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، بل وتجاه الأشياء
المحيطة به؛ فالمسلم الحقيقي يتفرد بأن مشاعره تعيش في حالة انسجام تام بعضها
مع بعض؛ لأنها تنبع من حقيقة العبودية لله عز وجل وتقوم أساساً على الحب وما
يقتضيه من المتابعة والنصرة. ويتفرع عن ذلك الحب: البغض لما ينافي
المحبوبات وما يقتضيه من نفرة وعداوة، وذلك ضمن إطار حكمة الابتلاء العام في
الحياة.
ومشاعر المسلم منسجمة موحدة - أو هكذا ينبغي أن تكون - من خلال علاقة
ممتدة طولياً عبر زمان يرتبط به قبل أن يولد ولا ينتهي بموته، وعرضياً عبر
شبكة من العلاقات والتفاعل مع الكون كله تزيل عنه النفرة مع عناصر هذا الكون.
يدرك المسلم أن نسبه يبدأ بأبيه آدم - عليه السلام -، ليس فقط باعتباره أباً
لكل البشر، بل أيضاً باعتباره أول المصطفين من البشر، وأول من عبد الله منهم،
ويدرك أيضاً أن أول أعدائه وأشدهم عداوة له هو عدو أبيه آدم وأمه حواء: ... [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن ورَقِ
الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُّبِينٌ] [الأعراف: 22] . [إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُواً مُّبيِناً] [الإسراء: 53] . علاقة قديمة وثأر مبيّت يُستدعى حتى قبل أن تغرس بذرة المسلم الأولى، بدعاء والديه (بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) [1] . فإذا ما خرج هذا المسلم الجديد إلى الدنيا استهل الشيطان معركة العداوة والإيذاء: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلاَّ ابن مريم وأمه) [2] ، وعلى الفور يُهمس في أذن الوليد أذان الصلاة معلناً انتماء هذا الإنسان إلى معسكر التوحيد، وهكذا ترتسم منذ أول وهلة خارطة مشاعر المسلم: محبة ونصرة لـ (لا إله إلا الله) وأهلها، وبغض وعداوة للشيطان وأوليائه.
المسلم والكون.. جزء من كل:
فإذا ما مَارَسَ المسلم حياته وجد نفسه جزءاً من عالم كبير يرتبط به ولا يشذ
عنه، يتوجه معه نحو ربه، ويخاصم من أبى عبوديته وعصاه.. شعور ممتد
وتفاعل مستمر مع عناصر الكون كله.
فهو يؤمن بأنه يعيش في كون يسبِّح الله - عز وجل -، سماواته وأرضه،
بره وبحره، جباله وسهوله، جماده وحيواناته، إنسه وجنه [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ
السَّبْعُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] [الإسراء: 44] .
بل إن هذا الكون يذعن بالعبودية لله - تعالى - كما يذعن هو: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ] [الحج: 18] ،
والمسلم يؤمن بأنه ليس وحده في هذا الكون الذي يؤمن أن محمداً صلى الله عليه
وسلم رسول الله: (إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا
عاصي الجن والإنس) [3] .
كون يغار مثله على توحيد الله -جل وعلا -: [وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً
(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ
الجِبَالُ هَداً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً] [مريم: 88 - 91] جباله مهيأة للتأثر
مثله بالقرآن [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ... اللَّهِ] [الحشر: 21] ، ومن حجارتها ما يُرى عليها أثر خشية الله خلافاً لكثير من قساة القلوب من البشر [وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... ] [البقرة: 74] ، بل صاحبت بعض الجبال والطير نبياً من أنبياء الله في عبادته: [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر] [سبأ: 10] ، [إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ] [ص: 18] . ويحدث هذا التفاعل يحدث مع كل مسلم موحد: (ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) [4] .
ولا غرو بعد ذلك أن تتشابه حركة المسلم في عبادة كالحج مع حركة الكون
من أصغره إلى أكبره، فدورانه حول الكعبة في الطواف يشبه في الشكل والاتجاه
دوران الإلكترون حول النواة في الذرة، كما يشبه دوران الكوكب حول النجم في
المجرة، وعدد مرات طوافه وعدد مرات سعيه هو نفسه عدد السموات وعدد
الأرضين: (سبعة) .
ويحس المسلم أن في الكون من الحيوانات والجمادات ما يتودد إليه؛ فعن أبي
ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من
فرس عربي إلا يُؤْذَن له مع كل فجر، يدعو بدعوتين، يقول: اللهم خولتني من
خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه) [5] ، وفيه ما يعينه على
تحسس الخير والابتعاد عن الشر؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛
فإنها رأت مَلَكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوُّذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى
شيطاناً) [6] ، وفيه ما يستغفر له؛ فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... وإن العالِمَ ليستغفر له من في
السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء) [7] .
وفي حس المسلم أنه ليس وحده الذي يؤمن بقيام الساعة، ولكن الكون كله
يترقب معه قيامها، ويشفق منها إشفاق العبد الوجل: عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (.. وما من دابة إلا وهي مُسِيخَة
[منصتة] يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا
الجن والإنس ... ) [8] ، ( ... وفيه [أي: يوم الجمعة] تقوم الساعة، ما من ملك
مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم
الجمعة) [9] ، والمسلم يتيقن أن رد الحقوق إلى أهلها يوم القيامة لن يستثنى منه
أحد، حتى البهائم العجماء؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: (لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة
الجلحاء من الشاة القرناء) [10] .
وهو يعتقد أن شهود النجاة أو الهلاك في هذا اليوم ستشمل عناصر كثيرة في
عالم المحسوسات وعالم المعنويات والغيبيات؛ فعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
صعصعة الأنصاري عن أبيه: ( ... أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال
له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة
فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا
شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم) [11] ، وفي وراية: (لا يسمعه جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهد له) [12] .
وأعضاء الإنسان تشهد عليه إن أذنب: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ
وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [النور: 24] ، [حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وأَبْصَارُهُمْ وجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا
قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ]
[فصلت: 20، 21] ، وذلك أدعى إلى مراقبة العبد نفسه في السر والعلن.
والمسلم يعتقد أن أثر الطاعة والمعصية لا ينحصران في اليوم الآخر فقط،
بل يعيشه في الدنيا أيضاً: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ... ] [الأعراف: 96] ، [ويَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]
[هود: 25] ، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره، فليصل رحمه) [13] ، وعن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء) [14] ، وهذا ما وُجد صداه لدى سلف هذه الأمة؛ يقول ابن القيم - رحمه
الله -: (قال بعض السلف: إني لأعصي الله -عز وجل - فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي) [15] .
مشاعر متبادلة مع الكون كله:
ومن هذه العلاقات تنبثق مشاعر الحب والبغض والموالاة والمعاداة عند
المسلم، علاقات ومشاعر متبادلة بينه وبين الكون كله.
فالسماء والأرض لا تبكيان على موت الكافرين والطغاة [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 92] بخلاف المؤمن الذي يبكي
عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء كما ورد عن علي وابن عباس
رضي الله عنهم -[16] .
والمسلم قد يتبادل مشاعر المحبة مع جبل أصم، عن أنس - رضي الله
عنه - قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد، فقال: (إن أُحُداً جبل يحبنا ونحبه) [17] ، ومن ثَمَّ: فمن مقتضيات هذه المحبة عدم إزعاج المحب لمحبوبه؛ عن قتادة أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُداً، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: (اثبتْ أُحُدُ! فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان) [18] .
والحجر والشجر يناصران أهل التوحيد، ويتعاونان معهم: عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى
يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر
والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي،
فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) [19] ، فحتى الشجر والحجر
يوالي ويعادي على أساس الدين.
والمسلم ينظر إلى الهلال فيرى العلاقة المشتركة معه أن (ربي وربك
الله ... ) [20] ، وهو منهي عن لعن الريح؛ فعن ابن عباس - رضي الله
عنهما - أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تلعن الريح؛ فإنها مأمورة ... ) [21] .
والمسلم لا ينسى للوزغ عداءه القديم لخليل الرحمن، فيبادله العداوة بمثلها.
عن عائشة رضي الله عنها (.... . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين أُلقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا
تطفئ النار عنه، غير الوزغ كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقتله) [22] ، بينما دواب أخرى يلتقي المسلم معها في تسبيح ربها ودعوتها
إلى التوحيد ونفعها، نُهِيَ المسلم عن قتلها: فعن ابن عباس رضي الله عنهما،
قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة،
النحلة، والهدهد، والصُّرَد) [23] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن نملة قرصت نبيّاً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم
تسبِّح؟) [24] ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: (نهى النبي ... صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: إن نقيقها تسبيح) [25] ، وإذا
احتاج المسلم إلى الانتفاع بحيوان بإزهاق روحه، فإنه لا يفعل ذلك إلا تحت إذن واهب هذه الروح وبالطريقة التي حددها - سبحانه -: [ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ ... أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام: 121] والصيام والقرآن يدافعان عن المسلم التقي يوم القيامة؛ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه) ، قال: (فيشفعان) [26] .
والمسلم يراعي في تصرفاته مشاعر مسلمي الجن ومصالحهم؛ ففي الحديث:
( ... وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: كل عظم يُذكَر اسم الله عليه ... ...
يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم الجن) [27] .
والمسلم الذي يناصب الشياطين العداء ويستعيذ منهم في معظم أحواله، يقف
موقفاً مختلفاً من الملائكة، عباد الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون؛ فعلاقته بهم حددت منذ خَلْق أبي البشر آدم -عليه السلام -، عندما
أطاعوا الله -عز وجل -: [وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى]
[طه: 116] ، وعلاقته بهم مستمرة ممتدة؛ فهم يشهدون مثله شهادة الحق: [شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ] [آل عمران: 18] ، وهم
حريصون مشفقون على من في الأرض: [والْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ] [الشورى: 5] ، وخاصتهم يستغفرون للمؤمنين
خاصة: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ
ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ] [غافر: 7] ، ويلعنون من يستحق: [كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ واللَّهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ]
[آل عمران: 86، 87] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال أبو
القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى
يَدَعَهُ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) [28] ، ويبدون رضاهم لطاعة المسلم ربه: (إن
الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب) [29] ، بل يحضرون مواطن
الطاعات: (لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل - إلا حفتهم الملائكة) [30] ،
ويقتربون لسماع القرآن ( ... تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت
ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم) [31] .
ويشاركون المسلمين مواجهتهم لحزب الشيطان؛ مشاركة قتالية: [بَلَى إن
تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ] [آل عمران: 125] ، ومشاركة إعلامية ودعائية: عن البراء رضي الله
عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: (اهجهم أو هاجهم وجبريل
معك) [32] .
وكما توالي الملائكة المسلمين، يواليها كل مسلم، فهو يؤمن بها:
[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ
وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ ... ] [البقرة: 285] ، وهو بالطبع يعادي من يعاديها: [من كان
عدو لله وملائكته ورسله جبريل وميكال فإن الله عدوِ للكافرين] [البقرة: 98] ،
وهو يراعيها في تصرفاته: فلا يؤذيها: عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا؛
فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس) [33] ، ويصفُّ كصفوفها: عن حذيفة -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فُضِّلنا على الناس
بثلاث: جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة..) [34] .
أولئك حزب الله:
وفي عالم الإنس فالعلاقة الشعورية بين المسلم وغيره قائمة على رابطة
الإيمان، وهي رابطة راسخة في حس المسلم كما هي واضحة في دينه: [إنَّمَا
ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وهُمْ رَاكِعُونَ]
[المائدة: 55] ، [والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي
الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ] [الأنفال: 73] ، وقد لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه العلاقة في حديث جامع؛ حيث عرَّف أوثق عرى الإيمان بأنها: (الموالاة في
الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله) [35] ، وهذه العلاقة تصهر
المسلم مع بني دينه في بوتقة واحدة [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] ،
ومن الأخوة تنبثق المشاعر والعلاقات:
فرابطة الإيمان مقدمة في حس المسلم على غيرها: فعن عمرو بن العاص
رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: ... (إن آل أبي ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين) [36] .
والمسلم ينتقي صحبته على أساس الإيمان: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل
طعامك إلا تقي) [37] ، ويشتاق إلى أخيه المسلم: عن الحسن أن عمر [ابن
الخطاب رضي الله عنه] ، كان يذكر الأخ من إخوانه الليل، فيقول: ما أطولَها من
ليلة، فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه) [38] ، ويدعو له
بظهر الغيب: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك ... بمثل) [39] ، ويحب له ما يحب لنفسه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [40] ، ويؤازره: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وشبك بين أصابعه [41] ، ويرد عن عرضه: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) [42] ، وينصره ولا يخذله: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: (تأخذ فوق يديه) [43] ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) [44] .
علاقة ممتدة حتى الخلود:
ولا يمنع المسلمَ عجزُهُ عن نصرة دينه وإخوانه، بل لا تنقطع هذه العلاقة
حتى بالموت؛ فالمسلم يهتم لنصرة دينه حتى إنه يكترث لذلك بعد موته، هل رأيتم
من يجاهد بجثته؟ ! : غزا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الروم فمرض،
فلما حُضِر قال: (أنا إذا مت فاحملوني، فإذا صافعتم العدو فادفنوني تحت
أقدامكم، وسأحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذا ما حدثتكموه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) [45] ، فأبو أيوب - رضي الله عنه - يذكِّر نفسه بما ينبغي أن يموت عليه، ويذكِّر أصحابه بالرسالة التي لأجلها خرجوا (التوحيد ونبذ الشرك) ، ويضرب أروع مثال للفداء والتضحية من أجل هذه الرسالة، وهو الحرص على إبلاغ الرسالة وعلى امتداد جهاده بعد موته، وذلك بتكريس إسلامية أرض فتحها المسلمون، بدفنه فيها، وإضافة سبب يحفز أصحابه على التقدم وعدم التقهقر عن أبعد نقطة وصلوا إليها، وذلك حفظاً لحرمة الميت.
وتمتد علاقة المسلم بدينه وإخوانه: عند الموت: يودع الدنيا بإعلان التوحيد
كما دخلها: (لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله) [46] ، ويُبرز المسلمون الخير عند
أخيهم المحتضَر،، وتشاركهم الملائكة: عن أم سلمة - رضي الله عنها -؛
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم المريض، أو الميت، فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون) [47] .
وتمتد العلاقة بعد الموت: فالمسلمون يصلون عليه ولو كان بعيداً غائباً ولو لم
يروه؛ فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه) يعني النجاشي [48] .
ورغم أن دفن الميت يكفي في القيام به نفر قليل، إلا أن إخوانه المسلمين لا
يتركونه بعد موته يذهب وحيداً إلى أول منازل الآخرة، بل يشيعونه إلى قبره كما
يشيع الضيف العزيز الراحل: (حق المسلم على المسلم ست: ... وإذا مات
فاتبعه..) [49] .
والمسلم لا يُدفن للتخلص من جثته، بل هو يعود مرحلياً إلى الأصل الذي
خرج منه: [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [طه: 55] ،
وهو في هذا العَوْد مرتبط أيضاً بدينه وإخوانه؛ فهو ينزل إلى القبر تحت شعار ...
(بسم الله وبالله وعلى سنة - وفي رواية: ملة - رسول الله) [50] ، ويدفن متوجهاً
إلى القبلة؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البيت
الحرام: (قبلتكم أحياءاً وأمواتاً) [51] ، كما أنه ينحاز إلى إخوانه المسلمين الأموات، فلا يدفن في مقابر غيرهم، وفي المقابل: لا يُدفن غير مسلم في مقابر ... المسلمين [52] . وبعد الدفن يقف المسلمون عند قبر أخيهم يسألون له التثبيت: ... (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل) [53] ، والمسلم إذا مر ... على مقابر إخوانه المسلمين سلَّم عليهم ودعا لهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) [54] ، ... أما إذا مر بقبر كافر فالأمر يختلف؛ ففي حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) [55] .
ولا تقف العلاقة عند هذا الحد، بل تمتد حتى لما بعد البعث؛ فيوم القيامة
يحشر الناس بحسب متابعتهم ومشابهتهم الإيمانية في الدنيا: [يوم ندعو كل أناس
بإماهم] [الإسراء: 71] ، [\احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وأَزْوَاجَهُمْ ومَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
(22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ (23) وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ]
[الصافات: 22 - 24] ، وهنا يبرز مآل المشاعر، والعلاقات بين الناس: ... [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] [الزخرف: 76] ، ولا شك أن ذلك
أثر لما كان في الدنيا: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت) [56] .
وعند الجزاء يكون كل فرد مع مجموعته أيضاً: [وسيق الذين كفروا إلى
جهنم زٍمرا] [الزمر: 71] ، [وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زٍمرا]
[الزمر: 73] .
وتستمر مشاعر الأخوة وعلاقاتها حتى بعد المستقر في الجنة: [ونزعنا ما
في صدورهم من غل إخوانا على سرٍر متقابلين] [الحجر: 74] ، بينما في النار:
[كلما دخلت أمة لعنت أختها] [الأعراف: 83] .
مشاعر موحدة تجاه كل شيء، وعلاقات ممتدة من قبل الميلاد حتى بعد
الوفاة. فمن غير المؤمن التقي له تلك المنظومة؟ ! [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ] [الأنعام: 125] .
__________
(1) أخرجه البخاري، ك/الوضوء، ب/6، ومسلم، ك/النكاح، ب/18.
(2) أخرجه مسلم، ك/ الفضائل، ب/41، والبخاري، ك/أحاديث الأنبياء، ب/44.
(3) أخرجه أحمد، 3/310، وقال محققو المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط (ح/14333) : صحيح لغيره.
(4) أخرجه ابن ماجة، ك/ المناسك، ح/2921، والترمذي، ك/الحج، ح/828، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، ح/2550.
(5) أخرجه أحمد، 5/ 170، 162، والنسائي، ك/الخيل، ح/3577، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/2414.
(6) أخرجه البخاري، ك/ بدء الخلق، ب/15، ومسلم، ك/الذكر والدعاء، ب/20.
(7) أخرجه الترمذي، ك/ أبواب العلم، ح/ 2682، وابن ماجة في المقدمة، ح/ 223، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي، ح/2159.
(8) أخرجه أحمد، 2/486، والنسائي، ك/ الجمعة، ح/1428، وقال محققو المسند بإشراف الأرناؤوط (ح/10303) : إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني أيضاً في إرواء الغليل (ح/773) .
(9) أخرجه ابن ماجة، ك/إقامة الصلاة، ح/1084، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (ح/1363) .
(10) أخرجه مسلم، ك/البر والصلة، ب/15.
(11) أخرجه البخاري، ك/ بدء الخلق، ب/12، والنسائي، ك/الأذان، ح/644.
(12) أخرجه ابن ماجة، ك/الأذان والسنة فيه، ح/723، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، ح/591.
(13) أخرجه البخاري، ك/الأدب، ب/12، ومسلم، وأحمد بن حنبل.
(14) أخرجه ابن ماجة، ك/الفتن، ح/4022، والترمذي، وأحمد، والطبراني، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/154.
(15) الجواب الكافي، بتحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص 143.
(16) انظر: تفسير الآية عند ابن جرير الطبري (رحمه الله) .
(17) أخرجه مسلم، ك/الحج، ب/93، والبخاري، ك/المغازي، ب/28.
(18) أخرجه البخاري، ك/ فضائل الصحابة، ب/5.
(19) أخرجه مسلم، ك/الفتن، ب/18، والبخاري مختصراً، ك/الجهاد والسير، ب/94.
(20) أخرجه الترمذي، ك/الدعوات، ح/3451، وأحمد، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/1816.
(21) أخرجه الترمذي، ك/البر والصلة، ح/1978، وأبو داود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/528.
(22) أخرجه أحمد، 6/83، 109، 217، وابن ماجة، ك/الصيد، ح/ 3231، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/1581.
(23) أخرجه أبو داود، ك/الأدب، ح/2567، وابن ماجة، ك/الصيد، ح/3224، وأحمد، 1/332، 347، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، ح/3067.
(24) أخرجه مسلم، ك/ السلام، ب/39، وابن ماجة.
(25) رواه الطبراني في الأوسط، ح/ 3728، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/42) : (وفيه المسيب بن واضح، وفيه كلام، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح) ، وأصله في سنن النسائي، وقد صححه الألباني دون التعليل المذكور، انظر: صحيح الجامع، ح/7390، وضعيفه، ح/6252، وحسنه الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي في تعليقه على جامع المسانيد والسنن، 26/48، وقال الذهبي في الميزان (6/432) : (صوابه موقوف) ، وله شاهد موقوف من طريق آخر في مصنف عبد الرزاق (ح/8418) ، ولمثل هذا الموقوف حكم الرفع.
(26) أخرجه أحمد، 2/174، وصححه أحمد شاكر، ح/6626، والألباني في صحيح الجامع (ح/3882) ، بينما ضعفه محققو المسند بإشراف الأرناؤوط (ح/ 6625) .
(27) أخرجه الترمذي، ك/تفسير القرآن، ح/3258، ومسلم، ك/الصلاة، ب/33.
(28) أخرجه مسلم، ك/البر والصلة، ب/35.
(29) أخرجه أحمد 4/239، عن صفوان بن عسال المرادي مرفوعاً، والترمذي، ك/العلم، ح/2682، وابن ماجة، المقدمة، ح/223، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن ابن ماجة، ح/182.
(30) أخرجه مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعاً، ك/ الذكر، ب/11، وأبو داود وابن ماجة وأحمد بن حنبل.
(31) أخرجه البخاري عن أسيد بن حضير مرفوعاً، ك/فضائل القرآن، ب/15، ومسلم، ك/صلاة المسافرين، ب/37.
(32) أخرجه البخاري، ك/بدء الخلق، ب/6، ومسلم، ك/فضائل الصحابة، ب/34.
(33) أخرجه مسلم، ك/ المساجد، ب/17، والنسائي وابن ماجة وأحمد بن حنبل.
(34) أخرجه مسلم، ك/المساجد، ب/1، وأحمد، 5/383، والنسائي.
(35) أخرجه الطبراني في الكبير، ح/11537، وأحمد، 4/286، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 45) ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/ 1728.
(36) أخرجه البخاري، ك/الأدب، ب/14، ومسلم (32) أخرجه أبو داود، ك/ الأدب، ح/ 4832، والترمذي ك/ الزهد، ح/ 2399، والحاكم، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، ح/5018.
(38) ذكره الإمام أحمد في الزهد، ص/152، وانظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، ص111.
(39) أخرجه مسلم، ك/الذكر، ب/23.
(40) أخرجه البخاري، ك/ الإيمان، ب/7، ومسلم، عن أنس بن مالك.
(41) أخرجه البخاري، ك/ المظالم، ب/5، ومسلم.
(42) أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة، ح/ 1931، وأحمد بن حنبل، 6/449، عن أبي الدرداء، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي، ح/1575.
(43) أخرجه البخاري، ك/ المظالم، ب/4، ومسلم، عن أنس بن مالك.
(44) أخرجه البخاري، ك/ المظالم، ب/3، ومسلم.
(45) أخرجه الإمام أحمد، 5/419، 416، وصححه حمزة أحمد الزين، ح/23450.
(46) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، ك/ الجنائز، ب/1.
(47) أخرجه مسلم، ك/الجنائز، ب/3.
(48) أخرجه مسلم، ك/الجنائز، ب/22، والبخاري، ك/مناقب الأنصار، ب/38.
(49) أخرجه مسلم، ك/ السلام، ب/3، والبخاري، ك/الجنائز، ب/2.
(50) أخرجه الترمذي عن ابن عمر، ك/ الجنائز، ح/1046، وابن ماجة، ك/ الجنائز، ح/ 1550، وأحمد، وصححه الألباني في إرواء الغليل، ح/ 747.
(51) أخرجه أبو داود، ك/الوصايا، ح/5782، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، ح/690.
(52) للاستدلال على ذلك انظر: أحكام الجنائز للألباني، ص/172، م/88.
(53) أخرجه أبو داود، ك/ الجنائز، ح/ 3221، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ 2758.
(54) أخرجه مسلم، ك/ الجنائز، ب/35، وفي رواية زهير بن حرب، ح/ 975.
(55) أخرجه الطبراني في الكبير، ح/326، وابن ماجة، ك/ الجنائز، ح/ 1573، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/18.
(56) أخرجه الترمذي، أبواب الزهد، ح/2386، وأبو داود، ك/ الأدب، ح/5127، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي، ح/ 1944.(149/26)
البيان الأدبي
العناية بالموهوبين
هدى سلطان
سهلٌ جداً أن نرى جيلاً جديداً من محبي الأدب والكتابة يتنافسون من أجل
الظهور بشكل مميز ومختلف، ولكن القلة هم الذين يستمرون ويبدعون، وهؤلاء
هم الذين نسميهم بالصفوة أو المبدعين. الحقيقة أن المبدع يستطيع أن يكتب، لكن
ليس كأي أحد، وهذا ما يجعله مختلفاً عن غيره. والإبداع هو أن يصل المبدع إلى
شيءٍ لم يصل إليه غيره، ويحقق شيئاً لم يحققه الآخرون، ويبدع أسلوباً آخر يحبه
الناس المتابعون. هبة من الله هذا المبدع وإبداعه؛ لكن هل كل مبدع يستطيع
إبراز فنونه وإبداعاته؟
قلة قليلة هم الذين كتب الله لهم الحياة والظهور على السطح ليراهم الناس،
والكثير من المبدعين من الجنسين دفنت الظروف إبداعهم، وحجبت المصالح
فنونهم، والإبداع يُحارَب على مر السنين، وهو يُحارب إما من طبقة المتخلفين
الجاهلين الذين لا يعرفون قيمة العلم والإبداع، ولا يؤمنون بأهمية التطور والتقدم،
ما يهمهم هو الحفاظ على العادات والتقاليد القبلية البالية التي بسببها تم اغتيال العديد
من المواهب المبدعة في مهدها، مما كان من الممكن أن تضيف شيئاً للبشرية.
وسلطة العادات لدى بعض البشر أقوى وأعظم من سلطة الدين.
إن الإسلام حارب الجهل والعصبية والتخلف، ومع ذلك نرى الكثير يعيش
في عالم آخر، عالم حجري كأنه لا يحس ولا يشعر! كما هو في حسد الحاسدين
الذين يغيظهم نبوغ أحد، أو ما يفعله آخرون من استغلال الفقر وضيق الحال أن
يلجئوا مبدعاً أو عالماً أن يبيع كتاباته وفنون أدبه وأشعاره الحزينة لِغنيٍّ خال من
الموهبة، لينال شهرة عظيمة في المجتمع؛ إذ جَمَعَ النار والماء، جمع المال
والإبداع حين استولى على إبداع وموهبةٍ كان نصيبها من الحياة أن صاحبها فقير،
وذلك يكفي لأن يكون الموت نصيبها أو نصيب هذا الجسد الذي تحيا فيه.. فهل
ثمة عقاب لمثل هؤلاء المعتدين؟ ! للأسف هذا حال كثير من المبدعين في هذا
الوطن العربي الكبير، بينما لا نرى اضطهاداً كهذا للمبدعين في بلاد الغرب وهم
الكافرون الضالون الذين يعملون المستحيل من أجل اكتشاف المبدعين الصغار من
المراهقين والشباب، وتتنافس المؤسسات من أجل كسبهم والنهوض بهم، بينما
المبدعون العرب لم نسمع بهم إلا بعد هجرتهم إلى بلاد الغرب؛ حيث وجدوا هناك
ما ساعدهم على العيش والحياة والاستمرار في الإبداع بشكل متميز. وأكبر دليل
على ذلك عالم الفضاء الدكتور فاروق الباز، وغيره من الأطباء والأدباء والمفكرين
الذين دفعتهم ظروفهم الاجتماعية وعسرها في بلادهم للهجرة؛ لأن السواد الأعظم
من مبدعي العرب في الغرب دافعهم الأول للهجرة التقليل من شأن إبداعهم في
وطنهم، والتضييق عليهم في رزقهم، وعدم توفير الفرص والتشجيع للاستمرار
الإبداعي لديهم، وهذا هو الظلم للنفس المبدعة التي أكرمها الله من دون النفوس
البشرية الأخرى بالنبوغ والتحليق فوق البشر بشيء فريد لا يصل إليه غيرها؛ لأنه
في داخل هذه النفس البشرية المبدعة الخيرة التي تسخِّر إبداعها من أجل خير
البشرية والإنسانية.
ومن هنا أطالب بتقديم العون لكل مبدع في الوطن العربي الكبير بتهيئة
الإمكانات وتقديم المنح والجوائز والفرص لمزيد من الإبداع ليس في مجال دون
مجال، ويجب فتح مؤسسات متخصصة لرعاية الموهوبين والمبدعين، ويجب
معاقبة كل من يحاول قتل موهبة أي مبدع، أو التقليل من شأنه، أو استغلال فقره
وشراء إبداعه، أو محاولة كتم صوته سواء في الإعلام أو غيره، وهذه المؤسسات
مطلب مهم للعناية بهذه البذرة الإبداعية؛ لأن الموهبة لا تستطيع أن تعيش بدون
اهتمام وبدون صقل لها، سواء بالدراسة العالية أو تحقيق الأمن المعيشي لها وتوفير
الجو الاجتماعي المثالي الذي يعين هذا الموهوب على الحياة الجديدة، فيحيا بحياته
في مجتمع يسعد بمثل هؤلاء المبدعين الذين يثرونه ويزيدون في موارده ويرفعون
اسمه ويساهمون في نهضته ورفعته.
وقد نرى خلال السنين القادمة مبدعين يتكررون من جديد، وربما يبدعون
أفضل من سابقيهم؛ فمن الممكن أن يظهر لدينا علماء يضاهون ابن تيمية وابن
خلدون، وقادة وساسة ربما يضاهون عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، والسلطان قطز وغيرهم كثير؛ وهذا ليس بمستحيل، والأمل بالله تعالى كبير وما
ذلك على الله بعزيز.(149/34)
نص شعري
شكوى الجهاد
عبد العزيز التميمي
ردد حديثاً بشجو النفس يضطرم ... يشكو لظاه عبادُ الله والحرمُ
بشر صحابك والأيام قادمة ... أن الجهاد على الأبواب يحتدمُ
نم يا حبيب! قرير العين مبتهجاً ... إن الضياغم للأخطار تقتحمُ
أما فهمت من التاريخ موعظة ... وفي العقيدة نهج ليس ينخرمُ:
إن الشعوب وإن هيضت كرامتها ... يوماً على جحفل الأعداء تلتئمُ؟
هلاَّ سمعت نداءاً للجهاد على ال ... آفاق ردد: إن الله منتقمُ؟
الله أكبر في ساح الوغى رفعت ... راياتنا وإلى الرحمن نحتكمُ
سِرْ واثق الخطو مسروراً بيقظتنا ... هناك أُسْدٌ بحبل الله تعتصمُ
هذي الخيول استشاطت في مرابطها ... وذي الجنود بأرض الشام تلتحمُ
ها قد تنادوا لحرب الدين قاطبة ... حتام يحجم جند الله؟ ويحهمُ!
جند الصليبية الرعناء يدعمهم ... مكر الشيوعية الحمراء ينحطمُ
فارفع لواءاً لحرب الكفر نعهده ... واحمل لواءاً لأهل الدين كلهمُ
فإن قُتِلتَ فذاك المجد من طرف ... وإن نُصِرتَ ففضل الله والكرمُ(149/36)
نص شعري
اخفض جناحك
تحية وتقدير لصقور الشيشان
إبراهيم بن فهد المشيقح
اخفض جناحك؛ إنهم أحرارُ ... لا يحرق الإلحادَ إلا النارُ
النار.. لا السلم الجبان، فطفلهم ... منذ المهاد وعشقه البتّارُ
اخفض جناحك؛ إنهم لم يصرخوا ... يا مجلس الأمن! اعتدى الفجّارُ
لكنهم رفعوا (أعدّوا) فانطوى ... تحت اللواء أشاوسٌ أبرارُ
اخفض جناحك؛ شوكة الشيشان لم ... تُكسر، وإن حفّت بها الأخطارُ
عجباً.. لساني كيف يكْذِب مسمعي ... بل كيف تخدع قومنا الأخبارُ؟
قالوا: تهاوت قلعة الشيشان، إن ال ... قول زورٌ، صاغه مكّارُ
هبّت رياح العزّ فوق جبالها ... وسهولها شمخت بها الأشجارُ
هبّ الشباب (الملتحون) فديتهم ... ما فيهمُ متقاعسٌ خوّارُ
يا فتية الشيشان! كل قصائدي ... خجلى، وكل مشاعري إكبارُ
من عين (دوداييف) صُغْتُ قصائدي ... جمراً.. ومن (أصلان) طار شرارُ
اخفض جناح الكبر؛ ليل جباههم ... يبكي وتشهد دمعَه الأسحارُ
اخفض جناح الكبر؛ ليل جهادهم ... يزهو وتشهد زهوه الأقمارُ
تلك الجبال الشمُّ تعرف أهلها ... لا ينثنون؛ فعزمهم جبّارُ
تترقب الأبواق رقصة موتهم ... ليزفها في أذننا المزمارُ
الروس فوق رؤوسهم، ووراءهم ... حقد الصليب، وجهدنا الإنكارُ
هذي دماء الأبرياء على الثرى ... تحكي بشاعة ما جنى الجزارُ
الأرض ثكلى والجراح عميقةٌ ... والدمع ذابت تحته الأحجارُ
والصمتُ يجتاح البيان على الذرى ... والمدفع الرشاش فيه سُعارُ
والروس تحفر قبرها بشمالها ... وغداً.. سيكسرُ كأسَه الخمّارُ(149/37)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
مستقبل الصحوة الإسلامية
مرت عدة عقود من عمر الصحوة الإسلامية، وبعد هذه المسيرة، تحتاج
الصحوة أثناء سيرها في طريق الحق إلى وقفات معها لنحدد حجم الإنجازات
وأسبابها، والإخفاقات وعللها، ولكي تجدد النظر في الأساليب والطرق التي
سلكتها، وإيماناً من (البيان) بواجبها تجاه هذه الصحوة تأتي هذه الندوة إضاءة على الطريق.
المشاركون:
د. مانع بن حماد الجهني، أمين عام الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
د. محمد بن لطفي الصباغ، أستاذ في كلية الآداب، جامعة الملك سعود
الرياض.
د. جلال الدين محمد صالح، المشرف العلمي في كلية لندن المفتوحة
بريطانيا.
المحور الأول: حول مدلول كلمة الصحوة:
البيان: برز هذا المصطلح (الصحوة) في بداية التسعينيات الهجرية من القرن
الماضي الذي يتوافق مع السبعينيات الميلادية للقرن العشرين، ومعروف أن أحوال
المسلمين وقتها على المستوى الخاص والعام كانت أشبه بـ (غفوة) ، إن لم نقل:
في سبات أو غيبوبة على المستوى العام.
وقد كان مناسباً أن يطلق على حالة الانتباه والانتعاش من ذلك النوم وصف
(الصحوة) ، أما الآن وقد جاوزت (الصحوة) عدة عقود من التجارب المتواصلة التي
أوصلت في بعض صورها إلى (دولة) ، فهل لا يزال ذلك المصطلح مناسباً، أم
نحن في حاجة إلى تعبير يترجم عن الحالة الراهنة لوضع المسلمين في العالم؟
د. مانع بن حماد الجهني: أمهد للموضوع بنبذة موجزة لا بد منها: الصحوة
كما جاء في مجمل أقوال أهل اللغة: ذهاب الغيم وارتفاع النهار وترك الباطل،
وتطلق بوصفها مصطلحاً على العَوْدِ الحميد إلى الإسلام الصحيح، والسعي الحثيث
من قِبَل المسلمين لاكتشاف هويتهم من مَصْدَرَيْ هدايتهم وهما: القرآن الكريم،
والسنة النبوية المشرفة.
والصحوة الإسلامية بمفاهيمها اللغوية والاصطلاحية حدث تكرر في تاريخنا
الإسلامي: بعد هجوم التتار على العالم الإسلامي، وبعد الحروب الصليبية التي
استمرت عدة قرون، وبعد الهجمة الاستعمارية الحديثة. وكانت الصحوة في كل
مرة في السابق تظهر على شكل زخم جهادي يؤدي دوره في إخراج الأمة من
محنتها ثم لا يلبث المسلمون بعدها أن يفتروا ويبتعدوا عن دينهم إلى أن تحل بهم
محنة توقظهم من سباتهم وغفلتهم مرة أخرى.
والصحوة المباركة التي نشهدها هي أهم وأعظم حركة فكرية للمسلمين خلال
القرن العشرين الميلادي بأكمله؛ لما اتسمت به من سمات مميزة عن سائر الحركات
الأخرى التي شهدها القرن المذكور؛ إذ امتزجت فيها الأصالة مع التجديد،
والإحياء والنهوض والشمول مع الانتشار الجماهيري الواسع المنقطع النظير.
وجميع تلك الخطا المباركة الحثيثة حدثت مع شدة النكير عليها وعلى روادها
وحاملي رايتها والسائرين في دروبها من اضطهاد وضغوط.
وقد جاءت الصحوة التي نشهدها بعد فترة طويلة من التخلف والانحطاط
حفلت بالافتنان بالأنموذج الغربي في الفكر والسلوك إثر تقدم الغرب في المجالات
العلمية والتقنية وهيمنته بسبب ذلك على المسلمين وأشباههم من الأمم المتخلفة علمياً
وصناعياً. جاءت الصحوة لتقول بوضوح: إن سبب تخلف المسلمين وضعفهم
وهوانهم ليس بسبب الإسلام كما يقول ذوو العقول الفارغة والأفكار السفيهة، إنما
هو بسبب البعد عن الإسلام عقيدة وفكراً ومنهجاً وسلوكاً، وإن السبيل للنهوض
والتقدم واستعادة مكانتنا بين الأمم هو العودة للإسلام.
وقد حققت الصحوة المباركة على رغم عمرها الزمني القصير بمقياس التاريخ
إنجازات مشهودة ملأت الرحب بما أثمرت من: تضامن وتواصل وجهاد، ومساجد
ومدارس إسلامية ودعاة، ولقاءات وبحوث، وحجاب والتزام، ووعي فكري
وانتشار علمي فقهي. وجميع ما ذكرت وما لم أذكر من مظاهر وإنجازات الصحوة
الحالية يسعى ويتعاضد في منظومة متناسقة ليؤدي دوره في تحقيق غاية رئيسة
هي: النهوض بالأمة الإسلامية واستعادتها مكانتها؛ فتكون أمة معتبرة بين سائر
الأمم.
وإنني أتساءل: هل حققت صحوتنا تلك الغاية أو اقتربت بنا منها؟ أم لا
يزال أمامنا مراحل بعضها صعب بيِّن وبعضها خفي؟ نسأل الله تعالى السلامة.
الحقيقة أنني لا أجحد أبداً إنجازات صحوتنا التي شرفتُ مع المعاصرين
بشهود مولدها وتناميها، ولديَّ قناعة تامة بأن صحوتنا في خطاها الواثقة تنتقل من
نصر إلى نصر، وتعالج ذاتياً، وتصحح الأخطاء التي تقع فيها؛ فالصحوة بفضل
الله تعالى ومَنِّه رشيدة وخطاها سديدة وناجحة وموفقة. إلا أن ذلك لا يغني عن
تساؤلنا الذي أوردناه: هل هذه المرحلة التي نشهدها اليوم هي آخر مراحل الكمال
المبتغاة؟ وبصيغة أخرى: هل حققت لنا صحوتنا الغايات المرجوة منها كاملة؟
بصراحة أقول: لا؛ فالطريق لا يزال طويلاً، والغايات لم تكتمل بعد، والتحديات
والعقبات التي نستطيع استقراءها ليست بالأمر اليسير الذي يجعلنا نجزم بالنجاح.
لذا فأنا مع تفاؤلي الكامل بالنجاح وبأن الله تعالى الذي وفقنا لهدايته وأعاننا
على مواصلة المسير ثلاثين عاماً سوف يوفقنا للاستمرار والنجاح لتحقيق الغاية
المنشودة، مع ذلك فإنني مقتنع تماماً بأن الصحوة لا يزال أمامها مراحل من العمل
الجاد لإحياء موات القلوب الذي هيمن على الأمة مع الغفلة والجهل أحقاباً طويلة.
فالمسلمون الذين يتعدى تعدادهم المليار وربع المليار نسمة لا يزالون يُمتحنون
بشتى صروف الابتلاء التي لا تخفى على أحد، بدءاً بالتضييق والاضطهاد
والتهميش، وانتهاءاً بالتصفية الكاملة والإبادة الجماعية، كما أنهم لا يزالون يعانون
من وطأة الفقر والتخلف والمرض والجهل، وعلى رغم التقدم والرخاء النسبيين
اللذين تعيشهما بعض الدول إلا أن الغالبية الإسلامية لا تزال تعيش تحت خط
الفقر.
كذلك فإن الكثير من المجتمعات الإسلامية خاصة في الغرب تعاني من أمية
إسلامية متفاوتة الدرجات، على رغم العناية الكبرى والمطردة بتوظيف الدعاة
وعلى رغم البرامج الدعوية المتعددة والمتنوعة، أضف إلى ذلك ما نواجهه اليوم
من تحديات صعبة وخطيرة يأتي في مقدمتها فكر العولمة الذي يدعمه ويسهر على
نشره النظام العالمي الجديد. أكرر وأؤكد أن ما أقوله ليس جحوداً بما حققته
الصحوة من إنجازات طيبة مباركة تفوق في حجمها ومداها الحيز الزمني الذي
استغرقته إلى الآن، ولكن هذا الواقع يجعلنا نحبذ أن يظل هذا المسمى المبارك الذي
أرجو أن يحقق لنا فائدة مقدرة؛ فالواضح جيداً أن الغرب يرقب بجدية وحرص
وحذر خطا الصحوة ومجالاتها، وأعداء الإسلام دأبوا منذ فترة على تصويره كشبح
مخيف يهدد كيان الغرب والتصريح باعتبار الإسلام العدو الحالي بعد سقوط
الشيوعية.
ولا شك أن اتخاذ شعار يصور الوضع المتنامي للصحوة وآثارها يعني فتح
باب لمزيد من الهجوم على الإسلام، وإتاحة الفرصة لخصومه لترديد المنغومة التي
يضربون على أوتارها ليل نهار والتي تحذر من ظهور الإسلام وتزايد قوته. لذا
أرى أن الكسب المعنوي الذي قد يتحقق من تعديل مسمى الصحوة إلى مسمى آخر
مثل النهضة أو القوة أو المد، قد يكون أقل بكثير من الخطر الذي سوف يثار من
قِبَل أعداء الإسلام والجاهلين بتعاليمه إذا ما أعرب المسلمون وصرحوا عن تعديهم
مرحلة الانتباه من الغفلة إلى مرحلة إمساك زمام الأمور والتصدي للأعداء وفرض
السيادة واستعادة المكانة، وأرجو أن يكون ذلك من الفطنة التي حثنا الإسلام على
التحلي بها. هذا بالإضافة إلى أن مفهوم الصحوة يبقى سائغ الدلالة على من لم
تكتمل صحوته ويكتشف جمال الإسلام وكماله ويعود إلى النبع الصافي والتوجيه
القويم الذي يقدمه هذا الدين لأبنائه في كل مكان. وبهذا فسوف يستمر مفهوم
الصحوة يتكرر في كل زمان ومكان في أولئلك الذين ناموا عن ركب الالتزام ثم
اكتشفوا قيمة ما فاتهم من الخير، فأخذوا يغذُّون السير للِّحاق بركب المستقيمين
والسائرين على درب الصلاح.
البيان: لا شك أن الصحوة مرت بمراحل وتقلبات فكرية ومنهجية، فهل
أخذت (الصحوة العلمية) دورها؟ وما السبيل لترسيخ ذلك؟
د. جلال الدين صالح: (الصحوة) اصطلاح تعارف الناس على إطلاقه
وصفاً لحالات الإفاقة والتوبة التي عمت جموعاً كبيرة من المغتربين عن وعي
الإسلام، ودفعت بهم إلى الإقبال على تجديد الدين في الأنفس والمجتمعات.
وبدت مظاهرها في كثير من المناشط الحياتية في السياسة، والاقتصاد،
والثقافة ... وهلم جرّاً، وكاد لها الأعداء من كل منعطف، وترصَّدوها من كل
مرصد فزعاً، وهلعاً مما سيؤول إليه أمرها من تمكين الدين، وبسط سلطانه
فاستفزوها في مواطن كثيرة، واستثاروها في أزمنة عديدة ابتغاء شرٍّ بها، فقابلتهم
بالإعراض والصفح تارة، والمواجهة والمجابهة تارة أخرى، ولكن دون الاعتبار
بمآلات الأمور، وتحديد الأولويات ثم ترتيبها وفقاً لمقتضيات المحيط المكاني
والزماني وقدرات الذات؛ فأصابها من ذلك أذى كثير، وفقدت مواقع كانت لها دِفْئاً
ورِفْداً، ولا أعرف لهذا من سبب رئيس سوى ضمورٍ في فقه علوم الشريعة،
وقصور في فقه الواقع وتحدياته؛ فالدين وإن كان من حيث عموم رسالته حقيقة
عالمية لا تحده الحدود، ولا تحول دونه الفواصل إلا أنه من حيث تحقيقه في موقع
مَّا محكوم بمؤثرات سياسية وقدرات ذاتية؛ ومن ثم كان في تشريعاته رفع الحرج،
وإرادة اليسر والإتيان منه بالمستطاع. غير أن غياب الصحوة العلمية في ترشيد
الصحوة الإسلامية غيَّب الكثير من مثل هذه المفاهيم، وخلط ثوابت الأمور
بمتغيراتها بسننها وفرائضها، ومكّن الرويبضة من أن يتحدث في أمور العامة دون
أثارة من علم، وصارت الصدارة أحياناً للمتفيهقين والمتشدقين من الذين يحملون
الناس على فتاوى شاذة وغريبة، غاية ما تؤدي إليه الإدبار عن الدين، والنفور
عن المسلمين، من نحو إباحة سرقة أموال غير المسلمين في ديار الكفر، أو قتل
صبيان من يقاتلونهم من عسكر حكومات ديار الإسلام، مع تنطع وغلو في التكفير
أو التفسيق أو التبديع.
وبروز هذه الاتجاهات الفوضوية في ساحة العمل الإسلامي ما كان قاصراً
على فترة دون أخرى، ولكنه ظاهرة متعاقبة يلحظها كل من يتعقبها في مسيرة
الصحوة الإسلامية، وقُصَارَى ما تدل عليه خلل في التكوين العلمي عند عدد لا
يستهان به من السائرين على درب الصحوة ممن تدفع بهم الظروف إلى تصدُّر
الصفوف، وليس من سبيل إلا المسارعة بالمعالجة العلمية، حتى يتبوأ مقاعد القادة
في ميدان العمل الدعوي أناس ينفون عن هذا الدين، كما يقول الإمام أحمد: ...
(تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) ، وإلا اتخذ الناس رؤساء
جهالاً كما ورد في الحديث فأفتوهم بغير علم فضلوا، وأضلوا.
والصحوة الإسلامية في تركيبتها تضم حشداً غير قليل ممن قلَّ كسبهم وضَؤُل
حظهم من العلم الشرعي من خريجي العلوم المعملية؛ مما يؤكد أهمية ترسيخ العلم
الشرعي في أوساطها، وأحسب أن ذلك يتحقق من خلال الأخذ بما يلي:
الأول: الإيمان بضرورة تنامي الصحوة وتعاظمها باعتباره شرطاً مهماً في
النهوض بالمجتمعات الإسلامية واستعادة مجدها التليد، والاعتقاد بأن ذلك لا يكون
إلا بما صلح به الأولون من تقديس النص المعصوم وإدراك مقاصده على ضوء
أصول العلم الشرعي.
الثاني: تحليل عوامل الضعف والقوة في الصحوة الإسلامية، ودراسة مآثرها
ومواقفها الدعوية في شتى ميادين عطاءاتها دراسة فاحصة، وناقدة ليتبين ما إذا
كانت تلك المواقف على وفاق مع دلالة النص أم على شقاق؛ وذلك من خلال
ندوات تأصيلية، ولجان علمية، وأطروحات جامعية تطبع في خاتمة المطاف
وتعمم توزيعاً على قيادات مراكز العمل الإسلامي وجماعاته، وتسجل ملخصاتها في
أشرطة سمعية يحوزها من لا وقت له للقراءة من الشباب.
الثالث: تبني العلماء العاملين لهموم الصحوة وتصدُّر قافلتها في بيان الموقف
الشرعي من كل غاشية تغشى المجتمعات الإسلامية، ونازلة تنزل بمنازلهم، لا
يمنعهم في بيان قول الحق فيها جهراً الخوفُ من مقامع سلطان جائر، ولا الطمع
في مغانمه؛ فإن هذا كما أحسب ينفي لا محالة العملة الزائفة، وبه يميز الشباب
الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويجعل أفئدتهم تلين لقيادة العلماء، وتوثق
صلاتها بهم، وتتعمق فيها مكانة العلم وتوقير أهله، وبهذا الترابط تكون الصحوة
الإسلامية جمعت بين البصيرة في الدين والقوة في الدعوة.
وما أحسن ما قاله ابن القيم في ذلك: (ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من
الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين
جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة؛ فبالبصائر يُدرَك الحق
ويُعرف، وبالقوة يُتمكَّن من تبليغه، وتنفيذه، والدعوة إليه) [1] .
الرابع: إنشاء مؤسسات علمية ذات مناهج تقوم على ربط خطاب الشارع
بحقيقة خطاب الواقع، وتجعل من التأصيل الشرعي هدفها الأول في تغذية الداعية
وتكوينه حتى يتمكن من تقييم وتقويم المسيرة الدعوية على بصيرة من الله مستصحباً
خصائص بيئته بكل ما يكتنفها من مظاهر الخير، وعوارض الشر.
الخامس: بعث رسالة المسجد من مرقدها بتدريس العلوم الشرعية في
ساحته، ووضع محفزات تجعل من الورود إلى مناهل العلم فيه عملاً مرغوباً، ولعل من المناسب هنا أن أشير إلى أهمية إعطاء مناهج هذه الحلقات حقها من الاعتناء والاختيار حسب البيئات ومستوى أفهام الناس، وأولويات الاحتياج الدعوي حتى تأتي مُصاغة على نحو يفي بالمطلوب، ولا يؤدي إلى السآمة والملل والعزوف؛ فما أنجح الداعية حين يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويصطفي لهم من العلم على قدر حاجتهم! كما لا بد من التنويه هنا بأهمية منبر الجمعة بوصفه أحد وسائل ترسيخ العلم في معالجة كافة القضايا معالجة تأصيلية بعيدة عن
التعقيد، وليس معالجة حماسية لا تكاد تجيد غير إثارة العاطفة، وتهيجها.
المحور الثاني: تقويم الصحوة خلال ثلاثة عقود:
البيان: لا شك أن وجهات النظر اختلفت جداً في تقويم أداء الصحوة من
خلال الفترة الماضية؛ فبين رأي متفائل مبالغ في جعل الآمال عليها، إلى رأي
متشائم يهوّن من شأن النتائج والثمرات الفعلية لها، فأين الرأي الوسيط في تقويم
هذه الصحوة؟ ولعلنا نسوق السؤال لفضيلة الدكتورمحمد الصباغ بصيغة أخرى:
ما أبرز إيجابيات الصحوة وأبرز سلبياتها؟
د. محمد لطفي الصباغ: إني من المتفائلين بمستقبل هذه الصحوة التي يعود
الفضل في قيامها إلى الله سبحانه الذي هيّأ الأسباب العديدة لقيامها: من اشتداد كيد
الكفار للمسلمين، ومن التنكيل بهم وبرجالاتهم، ومن الاستيلاء على بلادهم
واستغلال خيراتهم وسحق أبنائهم، وتسميم أفكارهم، ومحاولة سلخهم عن دينهم،
وتسليم الحكم في كل البلاد التي استعمروها إلى حفنة من عملائهم الذين يتابعون
عملهم في محاربة الإسلام، ويسيرون وفق مخططاتهم الرهيبة. إن هذه الأسباب
وغيرها كانت من أسباب قيام هذه الصحوة التي عمت كل بقعة فيها مسلمون.
ومما يؤيد تفاؤلي هذا الوقائع الآتية:
- إنّ سبعين سنة من الحكم الشيوعي الملحد في البلاد الإسلامية التي
استعمرها الروس فيما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي لم تستطع أن تمحو الإسلام من
تلك البلاد كما كان يظن أولئك الطواغيت الذين قتّلوا الملايين، وسجنوا الملايين،
ونفوا وشرّدوا؛ وها نحن أولاء نسمع أبناء اليقظة الإسلامية في تلك البلاد.. وهي
تتطلع إلى أن ترى الإسلام مطبقاً في ديارها، ولا ترى منقذاً لها سواه.
- وكذلك فإن سبعين سنة من الحكم الديكتاتوري الذي قام على الحديد والنار
في تركيا بعد إلغاء الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة، وإعلان الحكم
اللاديني، ومنع الحجاب، وتغيير الحرف العربي واعتماد الحرف اللاتيني، وجعل
الأذان بالتركية، وجعل العطلة يوم الأحد، ومنع التعليم الديني، وقتل المعارضين
وإبادتهم دون رحمة.. بعد سبعين سنة من هذا الظلم والعدوان وسفك الدماء نجد
الشعب التركي المسلم يعلن ولاءه للإسلام ولكل من يتبنّى الإسلام.. ونجد الأذان
يعود بالعربية ويعود الحجاب.. ويقوم التعليم الديني.
ولم يُلْقِ العلمانيون أعداء الإسلام من المتسلطين هناك السلاح، بل هم
ماضون في متابعة حرب الإسلام، ومضايقة المتدينين، ولكنهم يشعرون الآن أن
حجم المعارضة لهم في نمو وازدياد.. والعاقبة للمتقين.
- منذ حوالي ستين سنة ذهب بعض الطلاب من الشام للدراسة في بلد عربي
كبير، ولما رجعوا إلى بلادهم قال قائل منهم: إن موضوع حجاب المرأة في ذاك
البلد قد انتهى، ولا أمل في أن يعود، ولا يتوقع أحد من الناس أن تعود المرأة إلى
الحجاب في ذاك البلد.. وقام في ذلك البلد حكم معاد للتدين، ولاحق حكامه كل من
يتبنى الإسلام ويدعو له، ونادى حكامه بالاشتراكية وعملوا على تطبيقها ... ثم ماذا
كان بعد هذا؟
لقد دارت الأيام.. وإذا بالحجاب يعود بقدرة الله.. لقد عاد هذه المرة عن
اقتناع بوجوبه، ودخلت الجامعاتِ المحجباتُ معتزاتٍ بهذا الزي، وقد تكون بعض
أمهاتهن سافرات حاسرات.
- وتُحدثنا الأنباء أنّه عندما يتاح للشعوب في بلاد المسلمين أن تعبّر عن
رأيها فإنها لا تختار إلا الإسلام والمسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة في الجزائر
والأردن ومصر وغيرها؛ سواء في ذلك المجالس النيابية أو البلدية أو نقابات
الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين.
هذه وقائع وغيرها كثير لا يمكن أن ينكرها أحد، وقد تحققت هذه الوقائع في
أوساط محكومة باتجاهات غير ملتزمة بالإسلام، وبعضها معادٍ للإسلام كما بينّا.
إن مناهج التعليم في تلك البلاد ووسائل الإعلام كلها كانت تعمل خلال تلك السنين
الطويلة لإبعاد الناس عن الدين، ومع كل ذلك كان وكان.
أفليس هذا كافياً ليجعل تفاؤل المتفائل في محله؟
وهناك أمر آخر يجعلني أرجو أن يحقق الله التمكين لتلك الصحوة؛ ذلك أن
الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ هذا الدين متمثلاً بالكتاب الكريم، ولم يكل حفظه إلى
الناس. وحفظه يقتضي وجود بشر كرام يُحيونه ويُحكِّمونه ويجعلونه مرجعهم قال
تعالى: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] .
أجل.. تولى الله سبحانه حفظه، ولم يكله إلى الناس يحفظونه كما فعل
سبحانه بالكتب السابقة. قال جلّ وعز: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ
اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] [المائدة: 44] .
ويتبيّن مما سبق أن إيجابيات هذه الصحوة:
أنها رسّخت فكرة ضرورة العودة إلى الإسلام، وأن أمراضنا ومآسينا لا علاج
لها إلا بالعودة إلى الدين وتطبيقه والدعوة إليه.
ومن إيجابياتها انصراف طائفة من الشباب والشابات إلى دراسة هذا الدين
دراسة جادة وتعليمه للآخرين؛ فقد بلغني أن عدداً كبيراً من الشباب والشابات
حفظوا كتاب الله عن ظهر قلب، وأن عدداً منهم جمع القراءات العشر برواتها
العشرين.
وقد بلغني أن عدداً من الفتيات حفظن صحيح البخاري، وصحيح مسلم
بأسانيدهما ومتونهما، وهن ماضيات في حفظ الكتب الأخرى.
ولا شك عندي أن العلم بالدين ينتهي بأصحابه وبمن حولهم إلى العمل به لا
سيما أن هؤلاء الذين حفظوا وتعلموا إنما فعلوا ذلك رغبة في العمل الصالح وابتغاء
الثواب، ولا يرشحهم هذا في بلادهم إلى كسب ماديّ.
ومن إيجابيات هذه الصحوة الإقبال على العبادة، وارتياد المساجد؛ إذ
أصبحنا نرى نسبة الشباب هي الغالبة على مرتادي المساجد.
ومن إيجابيات هذه الصحوة أنك صرت تلمس أثرها في أخلاق الجيل الناشئ
من الاستقامة والصدق والأمانة والوفاء بالوعد وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن
المعاملة والكلمة الطيبة وما إلى ذلك.
ومن إيجابياتها ازدياد الوعي لواقع المسلمين وإدراك خطر خطط الأعداء التي
تستهدف وجودنا وديننا.
السلبيات:
أما السلبيات التي نلمسها في الصحوة فسأذكر أبرزها، وإني لأحسب أن
الإخلاص والوعي والزمن.. أن ذلك كله كفيل بأن يتلافى نصيباً كبيراً منها إن شاء
الله تعالى.
وأبرز هذه السلبيات:
أننا نجد عند بعض الشباب والشابات اندفاعاً عاطفياً لسلوك سبيل الإسلام
بعيداً عن التعقل والتخطيط والمعرفة ومراعاة مصلحة الدعوة. والعاطفة وحدها لا
تكفي؛ إذ هي مُعرَّضة للفتور.
وتجد بعض هؤلاء الشباب لا يعرفون إلا القدر اليسير من أمور دينهم؛
والحق أن المسؤولية في هذه السلبية تعود إلى هؤلاء الشباب وإلى العلماء الذين
قصروا في استغلال تلك الاندفاعة العاطفية، ولم يعملوا على استمالة هؤلاء الشباب
إلى المعرفة والازدياد من طلب العلم.
ومن تلك السلبيات: قيام خلاف مستحكم بين طوائف من شباب الصحوة،
وقد شغل هذا الخلاف الشباب عن التصدّي للمنحرفين، فانطلقوا غفر الله لهم ينال
بعضهم من بعض.
ومن تلك السلبيات: وجود غلوّ عند طائفة من شباب الصحوة وشاباتها. وقد
حملهم هذا الغلو على تحريم كثير مما أحلّه الله، وسبب ذلك قلة علمهم بأحكام
الشرع، وهناك سبب نفسي يرجع إلى ردة الفعل التي تكونت عندهم لِمَا شاهدوا من
محادّة الله ورسوله في مجتمعاتهم والانحراف عن جادة الحق والصواب؛ فحملهم
هذا وذاك على التشدد والغلوّ والتحريم.
ومن تلك السلبيات: تعجُّل فريق من هؤلاء الشباب.. تعجل النصر،
ومحاولة سلوك سبيل آخر غير الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فكان عاقبة أمر
هذه السلبية ضرراً على الدعوة والدعاة.
ومن تلك السلبيات: أن فريقاً من هؤلاء الشباب الصالحين الفضلاء يحسبون
أن أفراد المجتمع كلهم يرون سبيل الإسلام، وينسون أن هناك شريحة من أبناء
أمتهم عمل فيها كيد الكفار فأزاغ قلوبها عن الحق وجعلها تنادي بما ينادي به الكفار
من محاربة الإسلام. إن هذه الفضيلة أوقعت أصحابها في تصرفات خاطئة ما كان
لهم أن يقعوا فيها لو أنهم عرفوا واقعهم على حقيقته.
البيان: كان للأحزاب القومية واليسارية والعلمانية المختلفة في أنحاء البلاد
العربية والإسلامية أدوار سياسية متعددة، وأطروحات فكرية متنوعة، للنهوض
بالأمة من كبوتها، فكيف تقيّمون تلك الأطروحات؟ ! وأين تضعون إنجازات
الصحوة مقارنة بإنجازات تلك الأحزاب؟
د. مانع الجهني: أمهد للإجابة عن هذا السؤال بتوضيح موجز للسمة
الرئيسة والقاسم المشترك الأعظم بين تلك المذاهب والأفكار التي يحاول بعضٌ
وضعها بديلاً للإسلام؛ فالملاحظ على منشأ تلك الأيديولوجيات أنه كان بسبب حالة
الانحطاط العلمي والفراغ الفكري والروحي التي سادت في الغرب البعيد عن الإيمان
قلباً وقالباً؛ وبما أن هدى الله تعالى هو الهدى والحق؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
هذا الفراغ أوجد بيئة مناسبة لمولد تلك الأفكار.
ثم صدّر المنظرون لتلك المناهج أفكارهم في وقت غفل المسلمون عن دينهم،
فاستقبلها رسل الشؤم المنتسبون للإسلام والمتسمون بأسمائه، وبذلوا جهدهم
لترويجها بين المسلمين الذين كان أغلبهم من الغفلة إلى حد عجزوا فيه عن التمييز
بين الصحيح والفاسد، حتى لقد وصل الأمر ببعض المنظرين والمروجين لتلك
المناهج أن يقولوا علانية بأن تخلف المسلمين وفقرهم كان بسبب انتمائهم للإسلام،
ووصل الأمر بالغافلين والجهلة إلى تصديق تلك المقولة وترديدها. وتلك كانت من
أعظم انتكاساتنا: أن يقال عن ديننا الذي هو عصمة أمرنا: إنه سبب تخلفنا
وهواننا.
والنتيجة المنطقية لما سبق هي انحطاط جميع ما تفرع عن هذه المناهج من
مفاهيم وأفكار ووسائل وغايات؛ لأن كل ما نما في الباطل وتأسس عليه وتشرب
مفاهيمه وسار على نهجه لا يمكن أن يثمر إلا باطلاً؛ ولا يجتمع الحق والباطل
مطلقاً، وهذا ما أثبتته التجربة التي هي خير برهان.
وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه فقد قدَّم هؤلاء الضُّلاَّل
المضلون أفكاراً غثة عوجاء عرجاء لا تصلح أن تقيم نظاماً أو تعالج تخلفاً أو
تصحح مساراً. لقد قدس اليمينيون الحرية والملكية الفردية، وفتحوا الطريق لأن
يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها، وأجازوا
المنافسة وابتزاز الأيدي العاملة والبطالة والسعار المحموم وراء ملذات الحياة الذي
أفرز بدوره الاستعمار والحروب والتدمير والربا والمجاعات.
وأنكر اليساريون وجود الله تعالى وجميع الغيبيات، وجعلوا المادة أساس كل
شيء، وحاربوا الأديان، وألغوا الملكية الفردية، وحاربوا الأخلاق، وأزالوا كل
معنى من معاني الحرية من وجودهم، وحاربت جميع أفكارهم جميع أحكام الإسلام
وتعاليمه ومناهج الفطر السوية وطبائع الأشياء، وكانت النتيجة أن الشيوعية كما
رأينا لم تثمر في أي بلد زُرِعَت فيه سوى العار والدمار إلى أن سقطت بأيدي
صانعيها وعلى الأرض التي ولدت فيها بعد ما يقارب سبعين عاماً فقط.
وطالب العلمانيون بعزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع، وإبقاء الدين في
ضمير الفرد دون أن يسمح له أن يتجاوز هذه العلاقة الخاصة، أو يسمح للتعبير
عنه في أضيق حدود الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما،
ودعا العلمانيون في البلاد التي هيمنوا عليها إلى نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية،
وفتحوا الباب على مصراعيه لكل طاعن ومطعن في الإسلام وعقيدته وشريعته؛
فماذا أثمرت العلمانية؟
حاكم مسلم يود أن تصير بلاده قطعة من أوروبا، وآخر يلغي الشريعة
الإسلامية ويستبدل بها قوانين وضعية، وآخر يلغي الخلافة، وظهرت الأحزاب
التي عانى منها المسلمون ولا يزالون إلى اليوم مثل حزب البعث وغيره من
الأحزاب القومية والوطنية.
أما الصحوة الإسلامية مقارنة بالأيديولوجيات الأخرى ما ذكرت منها وما لم
أذكر فقد كان لها شأن آخر. لقد أوجدت الصحوة حركة فكرية ثقافية جهادية علمية
في شتى ديار الإسلام تمثلت أبرز مظاهرها في العودة إلى المساجد والإقبال على
صلاة الجماعة من قِبَلِ الشباب، والإقبال الشديد على المعارف الإسلامية والاطلاع
على الكتب خاصة كتب التراث، وكذلك الإقبال الشديد على الشريط الإسلامي
السمعي والمرئي. كما ازداد عدد المحجبات والمنقبات وظهر هذا جلياً بين طالبات
الجامعة بصفة خاصة. كما انتشر بين الشباب إعفاء اللحية وكثر اعتزال الفنانات
والفنانين للفن والتوبة إلى الله والتبرؤ من أعمالهم. كما علا صوت المطالبين
بتطبيق الشريعة الإسلامية وبدأت الحكومات تستجيب على درجات متفاوتة. وبدأت
بالفعل خطوات جادة وجيدة في مجال أسلمة العلوم والمعارف، وكثر إنشاء
المؤسسات الإسلامية لتحل محل المؤسسات الأخرى، فظهرت المصارف الإسلامية
والمدارس الإسلامية، كما أنشئت المراكز والمنظمات الإسلامية في المناطق التي
يضطهد أو يقل فيها المسلمون، وكثرت الملتقيات والندوات التي تقدم فيها البحوث
والدراسات في شتى جوانب الحياة الإسلامية المعاصرة والمستقبلية، وظهرت
الدعوة الجادة للوحدة الإسلامية كما ظهرت الأحزاب السياسية الإسلامية.
هذا بعض ما قدمته الصحوة وأسفرت عنه في الظاهر، أما في الباطن وهو
أمر لا يقل أهمية عما سبق فلقد أثبتت الصحوة للمسلمين عامة وشبابنا على وجه
الخصوص أن الإسلام هو الحل، وأن الإسلام هو الدين، وأن الإسلام هو أقوم
وأفضل وأقصر سبيل للنهوض والتقدم، بل الأكثر من ذلك هو نجاح الصحوة في
إحياء الاعتزاز بالإسلام والاستعلاء به على كافة المعتقدات والأديان الأخرى، حتى
إنك ترى المسلم يُمتحَن بسبب إسلامه ويقبل التضحية بكل شيء: عرضه وماله
وأرضه ولا يترك إسلامه، هذه هي الثمرة. أما الفرق فيصوره قول الحق تبارك
وتعالى: [والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً]
[الأعراف: 58] .
البيان: بعد هذا العرض لإيجابيات الصحوة، نرجو من الدكتور جلال الدين
أن يذكر لنا تقويمه لدور العلماء تجاه الصحوة في الفترة الماضية؟ وما الدور
المطلوب منهم في المرحلة الراهنة والمستقبلة؟
د. جلال الدين صالح: لا يماري أحد أن العلماء صِمَام الأمان، وكل عمل
دعوي ليس للعلماء فيه شأن فهو قحط وجفاف لا يورد الناس إلا موارد الهلاك، ولا
يذيقهم إلا مُرَّ الحنظل، ولكن ليس ذلك لكل عالم، وإنما للعلماء الربَّانيين الذين لا
يشرون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا يكتمون ما أوتوا من البينات، وهم بشكل عام
ليسوا سواءاً في موقفهم من الصحوة، ودورهم فيها يدور بين مواقف ثلاثة هي:
الأول: موقف المؤازر الغيور، والناصح الأمين، والمنافح الصادق، وكثير
من هؤلاء تعهَّد الصحوة الإسلامية بالدعم المالي، والذبّ السياسي، والتوجيه
العلمي؛ فصدرت لهم فتاوى تناصر مختلف قضاياها الدعوية، وكتابات تعالج
قوادح العمل الإسلامي.
الثاني: موقف اللامبالاة، وهو موقف لصنف من العلماء نظروا إلى الصحوة
نظرة من لا يعنيه الأمر؛ فما حملوها، وما حملتهم، وغالب هؤلاء ممن حبس همه
في ملذاته؛ شأنه في ذلك شأن حملة الرسالات الأرضية الذين نعت الإمام ابن القيم
رحمه الله همَّ الواحد منهم بأنه لا يتجاوز (بطنه وفرجه؛ فإن ترقَّت همته فوق ذلك
كان همه مع ذلك في لباسه وزينته؛ فإن ترقت همته فوق ذلك كان في داره،
وبستانه، ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلكم كان همه في الرياسة) [2] .
الثالث: موقف المعاند والمعارض المعادي؛ ومن هؤلاء نالت الصحوة ما
نالت من التأليب، والتحريض، والانحياز إلى الباطل زلفة إلى أهله، وإيثاراً
لإغراءاتهم، وإغواءاتهم.
وفي هذا الصنف من العلماء قال ابن القيم رحمه الله: (كل من آثر الدنيا من
أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن
أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل
الرياسة، والذين يتبعون الشبهات.. فإذا كان العالِم والحاكم مُحِبَّيْنِ للرياسة،
متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق.. وأما الذين يتقون
فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا فلا يحملهم حب الرياسة، والشهوة على أن
يؤثروا الدنيا على الآخرة) [3] .
والدور المطلوب من العلماء في المرحلة الراهنة والمستقبلة أن يُكوِّنُوا مرجعية
ذات مؤسسات مستقلة تعالج قضايا الصحوة الشائكة بعمق بعيداً عن المؤثرات
السياسية، والدوائر القطرية، أو الإقليمية وتمسك بِحُجَزِ الشباب من التدين المنفلت
عن ضوابط وروابط الشرع.
المحور الثالث: أسباب القوة وأسباب الضعف:
البيان: لعل الحديث عن إيجابيات الصحوة وسلبياتها؛ يقودنا إلى حديث آخر
مهم، وهو الكلام عن أسباب القوة وأسباب الضعف التي أفرزت ويمكن أن تفرز
المزيد من الإيجابيات أو السلبيات؛ فهل يمكن أن نستعرض هذه الأسباب، ولو
بطريقة إجمالية؟
د. محمد لطفي الصباغ: من أسباب الضعف التي نستطيع أن نذكرها وهي
موجودة في بعض شباب هذه الصحوة المباركة:
اتصاف بعض الشباب الصالحين من شباب الصحوة بالتشنج في الدعوة إلى
فكرة يراها، والرد على المخالفين بشدة، والتعصب لرأي من الآراء وقد يكون هذا
الرأي خطأً، وقد يكون صواباً لكنه ليس من الأهمية بهذه الدرجة التي تظهر من
حديثهم.
اغترار بعض الشباب الأفاضل بكلمات من التأييد يسمعها من بعض الناس،
وتفسيرهم لبعض الظروف على نحو مغاير للواقع، ويكون ذلك التفسير مبنياً على
وَهْمٍ لا نصيب له من الحقيقة؛ فيظن هؤلاء أن موقفهم موقف قوي، وقد يصرحون
بتصريحات أو يتصرفون تصرفات تحمل أعداءهم على توجيه ضربة لهم تتناسب
مع حجم التصريحات أو التصرفات.
التفرق الذي أشرنا إليه قبل قليل، وهذا يسرُّ العدو أيَّما سرور!
التهور الذي نجده عند بعض الشباب، وإقدامهم على بعض الخطوات ...
الضارة. إنَّ سلوك سبيل العنف يضر صاحبه ودعوته أكثر مما يضر العدو.
عدم الاستفادة من التجربة التي مر بها فريق من شباب الصحوة الصالحين،
وعدم دراسة الأخطاء التي وقعت في مراحل دعوتهم وعملهم.
الانفراد بالرأي وعدم الاستشارة عند بعضهم، والاستغناء عن حكمة الشيوخ
المجرِّبين، وقد يكون عند بعضهم سيطرة حظ النفس عليهم والتقصير في التوعية
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما أسباب القوة التي يجب أن يأخذ بها رجال الصحوة، ونساؤها فهي:
أن يتسع صدر هؤلاء الرجال والنساء لمن يخالفهم في الأمور الاجتهادية،
وأن يلجؤوا إلى الحوار مع مخالفيهم، وأن يرجعوا إلى من يثقون به من العلماء
الورعين.
أن يراقبوا أنفسهم ويحرصوا على أن يكون عملهم خالصاً لله، لا حظَّ فيه
للدنيا ولا للنفس.
أن يحرصوا على أداء الواجبات الدينية على أكمل وجه، وأن يأتوا بالنوافل
ولا سيما صلاة الليل، وأن يكثروا من الالتجاء إلى الله سبحانه وأن يدعوه أن
يمنحهم الثبات على الحق ويقويهم على مواجهة العقبات التي تعترض مسيرتهم،
وأن يداوموا على قراءة القرآن ومحاولة حفظ شيء منه.
أن يتعاونوا مع الصالحين من الشباب، وأن يتناصحوا فيما بينهم بالأسلوب
اللطيف.
أن تكون خطواتهم في الدعوة مبنية على تخطيط يلحظ الواقع الذي يعيشون
فيه وطبائع المخاطبين واهتماماتهم.
أن يُعْنَوْا بالتعلم والقراءة المستمرة في الكتب الدينية والتاريخية والسياسية
والتربوية والنفسية، وأن يتعرفوا إلى الأفكار القائمة في عصرهم وينقدوها بميزان
الإسلام.
أن يقدموا خدمات للناس ابتغاء وجه الله؛ فذلك خير عظيم ف (لأن يهدي الله
بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) [4] .
ومن أسباب القوة والمضي في طريق الصحوة أن يبتعد رجالها عن إثارة
العقبات التي توقف العمل، ومن أهم هذه العقبات الاصطدام بالحكام.. هذا ليس من
مصلحة الدعوة.. إن عليهم أن يعملوا في الدعوة إلى الله بالأسلوب الحكيم الذي
يجعل العمل مستمراً.
البيان: من جوانب القصور الذي يشير إليه بعض الناس: التفريط في
توظيف الطاقات البشرية التي تملكها الصحوة الإسلامية، مما أدى إلى انتشار ما
يسمى بالبطالة الدعوية؛ فهل هذا صحيح؟ وما السبيل إلى علاجه؟
د. مانع الجهني: هذا الكلام غير دقيق؛ فالدعوة إلى الله تعالى كما هو معلوم
فرض عين على كل مسلم؛ إذ لا يتصور أن تتم إلا من خلال فريق عمل جماعي
متعاون: هذا يقدم علماً وفكراً، وهذا يقدم دعماً من مال أو جهد أو رأي ومشورة،
وهذا يشفع، وهذا يبلغ، وهكذا. لذا فإن القول بوضع مسؤولية الدعوة على كاهل
الدعاة والعلماء وحدهم إجحاف ومجانبة للصواب، والمتتبع للحركة الإسلامية يرى
أنها بكل ثمارها التي نعايشها اليوم هي ثمرة عمل دعوي جماعي شارك فيه جميع
المسلمين في شتى بقاع الأرض بتفاوت في العطاء؛ فأين هذا من القول بانتشار
البطالة الدعوية؟ !
كما أننا نلحظ خلافاً لما ذكر تنامياً في العمل الدعوي سواء في تطوير مجالاته
كمّاً وكيفاً أو في استحداث مجالات أخرى جديدة؛ فالدعاة اليوم ولله الحمد والمنة قد
وصلوا إلى عامة الناس حتى في القفار والأصقاع والأدغال فضلاً عن المدن
والريف؛ حتى إنك لا تجد مكاناً يعيش فيه مسلمون دون واعظ أو معلم. كما
اتسعت وتنامت حركة التأليف والترجمة والنشر والتوزيع، ولا يمر يوم وإلا
وتطالعنا عناوين جديدة ومطبوعات حديثة. كما أن هناك حرصاً حميداً مشكوراً
لتوظيف كل وسيلة مستجدة لخدمة الدعوة، وشبكة الإنترنت العالمية والمواقع
الدعوية المنشأة عليها التي هي في تزايد مستمر شاهد على ذلك، إضافة لتزايد
المراكز والجمعيات الإسلامية والكليات والمعاهد المتخصصة والمؤسسات
الإسلامية، واتساع قنوات الدعم والعطاء الميمون من قِبَلِ أولي الفضل والإحسان والنهى لدعم خطا الدعوة ونشرها.
الشاهد أن العمل الدعوي بخير وجهوده وإنجازاته مقدرة وتدعو للتفاؤل وتبشر
بالخير. نعم! توجد مآخذ محدودة على بعض شباب الصحوة في الجانب الفكري أو
السلوكي يغلب أن يكون سببها نقص علم أو فهم أو توعية أو تربية، أو استعجال
للنتائج والحماس الزائد، أو التحديات المتزايدة وما تفرزه من ردود فعل قد لا تكون
مناسبة، أقول: هذه الآثار وما شابهها ليست دليلاً على بطالة دعوية أو إخفاق في
العمل إنما هي في رأيي أخطاء واردة؛ إذ إن تخلف السنين لا يفترض أن يُعدَّل في
أيام إنما يحتاج إلى وقت مناسب؛ ولا شك أن مثل هذا العمل الكبير لا يخلو من
أخطاء.
لذا فأنا أقول: إن العمل الدعوي الذي يتسع معناه ليشمل جميع أبعاد العمل
الإسلامي يسير إلى الأفضل. وإن كان من كلمة أقولها للدعاة وعامة المسلمين
وشباب الصحوة على وجه الخصوص فأذكِّر نفسي وإخواني وأبنائي بأن علينا
جميعاً أن نبذل المزيد من الجهد في العلم والالتزام والعمل؛ ليس لأن عملنا الحالي
قاصر؛ فالجهد الذي يقدم يستحق الإشادة والتقدير، ولكن علينا أن نزيد من العمل
والعطاء بما يناسب غاياتنا العظيمة السامية، والنجاح في العمل يعني سُنة حسنة
لكل من عمل فيها أجره وأجر من عمل بها، والأجر الذي نبتغيه ونسأل الله تعالى
أن يهبنا إياه هو سلعة الله الغالية وهي الجنة.
البيان: الخلافات العملية الحاصلة في صفوف فصائل العمل الإسلامي ناشئة
بلا شك عن اختلافات علمية وقلبية؛ فهل من سبيل لتضييق هوة هذا الخلاف؟
د. جلال الدين صالح: لعل من الأنسب أن أورد هنا قول شيخ الإسلام ابن
تيمية في بيان خطورة ما يؤدي إليه التفرق من الهوان وغلبة الأعداء؛ حيث قال
رحمه الله: (وهذا التفرق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها،
وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ فمتى ترك الناس بعض ما أمر الله
به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا
صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) [5] .
أما أهم سبل تضييق الخلاف فأحسب أن منها ما يلي:
الأول: الإخلاص لله، وتربية القاعدة الإسلامية على خشية الله وحده باعتبار
أن ذلك على رأس كل عمل تعبدي.
الثاني: التحرر من النزعة الحزبية التي لا ترضى بغير إفناء الآخرين أو
نفيهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس للمعلمين أن يحزِّبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر، والتقوى) [6] .
الثالث: قبول الحق والميل إليه مهما كان مصدره؛ يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله: (والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وأن لا نقول عليه إلا
بعلم، وأمدنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي، أو نصراني فضلاً عن
رافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون
ما فيه من الحق) [7] .
الرابع: التوالي مع الاختلاف ومجانبة أهل الابتداع في ذلك. يقول ابن
المرتضى اليماني: (الاختلاف مع التعادي والتفرق كما هو عادة أهل الكلام، دون
الاختلاف مع التوالي والتصويب كما هو عادة الفقهاء وسائر أهل العلم) [8] .
الخامس: اعتماد مبدأ النقد وعدم التضجر إذا ما انتقد من نُجلُّ من قادتنا؛
فكما يقول ابن قتيبة: (لا نعلم أن الله عز وجل أعطى أحداً من البشر موثقاً من
الغلط، وأماناً من الخطأ فنستنكف له) [9] .
السادس: مجاهدة الهوى والتخلص من سلطانه؛ فإنه كما يقول شيخنا الشيخ
عبد الله الغنيمان حفظه الله: (اتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف:
(شر إله عُبِدَ في الأرض الهوى) فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه
شيعاً يتعصب كل واحدٍ لرأيه، ويعادي من خالفه ولو كان الحق معه واضحاً؛ لأن
الحق ليس مطلوبه) [10] .
السابع: البحث عن الأعذار، ومكافحة سوء الظن، والإعراض عن
الشائعات. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يحل لامرئ مسلم يسمع
من أخيه كلمة يظن بها سوءاً وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجاً) [11] .
ولكن لا بأس كما يقول ابن مفلح من إساءة الظن (بمن ظاهره قبيح) [12] .
الثامن: اللجوء إلى التحاور بدل التهاجر؛ فالتحاور يذيب كثيراً من
المشكلات، ويدرأ كثيراً من الموبقات، وهو منهج دعوي يدور بين المؤمنين
والكافرين فضلاً من أن يكون وسيلة تباحث بين المسلمين، ولكن لا بد أن يكون
حواراً بنَّاءاً يؤدي إلى نتيجة عملية، وإلاَّ يُكُنِ الأمرُ كما قال الإمام الأوزاعي رحمه
الله: (إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدال ومنعهم العمل) [13] .
المحور الرابع: استشراف المستقبل:
البيان: في ضوء هذه المعطيات: عن الإيجابيات والسلبيات، وأسباب القوة
وأسباب الضعف، هل لنا أن نستشرف آفاق المستقبل الميمون بإذن الله لهذه
الصحوة، وهل لنا في ضوء ذلك أن نحدد أهم الأهداف التي ينبغي أن تجتمع عليها
قلوب العاملين للإسلام؟
د. محمد لطفي الصباغ: إني أتوقع كما سبق أن ذكرت أن المستقبل
للإسلام، وأن هذه الصحوة ستؤتي أكلها بإذن الله.. ويكون ذلك بالأخذ بأسباب القوة التي ذكرنا أهمها، وبالبعد عن أسباب الضعف التي أشرنا إلى أبرزها. ويكون أيضاً بتعاون العاملين للإسلام.. بتعاونهم على أن يكون الإسلام هو الذي يحكم حياتهم.
الخلاف أمر غير محمود، ولكنه لا يمكن أن يستبعد؛ فعلينا أن نوطِّن أنفسنا
على وجوده وعلينا أن نتعايش معه.
وإني أخالف بعض أهل العلم الذين يقولون: إن الخلاف رحمة.. لا.. ليس
رحمة أبداً، ولو صحّ هذا لكان الاتفاق والاجتماع عذاباً وشراً.. إنه ليس رحمة
ولكنه أمر لا بُدّ منه، فلا ينبغي أن يُصعَّدَ الخلاف حتى يتحول إلى شقاق وعداوة
ويكون سبباً في تفريق صفوف الأمة الواحدة؛ فالله عز وجل نهانا عن التفرق
فقال: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] . وقال: ... [ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
والناس متفاوتون في الفهم والعلم والإدراك وتقدير الأمور، فلا بد من
الاختلاف ولكن لنحذر من التفرق.
إن علينا ما استطعنا أن نضيّق من دائرة الاختلاف.. أقول هذا؛ لأن من أهم
أسباب القوة التي نرجو أن تكون للصحوة أن يكون المسلمون صفاً واحداً.
لماذا لا نستوعب الخلاف ما دام في دائرة الشرع.. إنّ أصحاب الأفكار
والمبادئ الأخرى عندهم خلافات، ولكن خطوطاً عريضة ومبادئ أساسية تجمعهم.
إن أئمة المذاهب اختلفوا.. بل إن أصحاب المذهب الواحد اختلفوا؛ فكم ترى
من آراء لأبي حنيفة لم يوافقه عليها تلميذاه أبو يوسف ومحمد! وكذلك الأمر في
المذهب الشافعي؛ فللنووي اختيارات خالف فيها المذهب؛ إنها طبيعة ثابتة في
البشر قال تعالى: [ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
(118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] [هود: 118، 119] .
فإذا استطعنا أن نتعايش مع الخلاف ونستوعبه ما دام في حدود الشريعة
وتعاونَّا على العمل للإسلام، وحررنا أنفسنا من سيطرة الهوى، وآثرنا الآخرة على
الدنيا بقدر ما نستطيع، وكنا على مستوى العصر الذي نعيش فيه؛ من حيث
المعرفة، والاستعداد فإن الأمل عظيم بانتصار هذه الصحوة، وسيادتها. ...
ومما يؤيد هذا عندي أن التجربة أثبتت فساد الحضارة المادية المعاصرة..
وها هي دولة الشيوعية الكبرى قد سقطت، وتكشفت حقائق رهيبة عن الشقاء
الأسود الذي كان يعاني منه الإنسان في ظلّها.
وكثير من عقلاء الأوروبيين والأمريكيين يتوقعون سقوط النظام الغربي الذي
يسود الدنيا اليوم.
وبهذا لم يبق إلا الإسلام.
إن عوامل الفساد تنخر في كيان تلك الحضارة المادية الملحدة.. وههنا
ملاحظة مهمة وهي:
أن تقرير هذه الحقيقة الموضوعية لا يُجيز لنا أن نقعد مسترخين ننتظر تحقق
النصر لنا وانهيار الحضارة الغازية.. فهذا أمر لا يقره الإسلام.. بل لا بد من
العمل والصبر، والتضحية والتصويب، والتعليم والتقويم قال تعالى: [إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] . وقال
سبحانه: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: 55] .
البيان: ختاماً هل لنا أيضاً أن نعيّن أهم العقبات التي كانت ولا تزال عائقاً
أمام التطور الطبيعي لحركة المد الإسلامي؟ وكيف يمكن التغلب على تلك
العقبات؟
د. جلال الدين صالح: هنالك أكثر من تحدٍّ يعيق حركة المد الإسلامي، منه
ما هو ذاتي، ومنه ما هو موضوعي، ولن يكون للموضوعي كبير أثر ما لم يكن
قد وطَّأ له الذاتي ومهَّد، وفي التحليل القرآني لكل ما أصاب المسلمين من جرح
وقرح نجد الخطاب الرباني يلفت أنظار المؤمنين إلى ذاتهم: [قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ
مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] للدلالة على أن العامل الخارجي لا يعمل
مفصولاً عن العامل الذاتي، تماماً كالغصن المنخور من الشجرة لا تسقطه الرياح إلا
لقابليته للسقوط.
ومن أهم هذه العلل الذاتية المعيقة لتطور المد الإسلامي ما يلي:
الأول: قابلية الاستفزاز وإحراق المراحل واختزالها كلها في مرحلة واحدة
خلافاً لسُنَّة التدرج والنمو الطبيعي.
الثاني: نقل التجارب من موقع إلى آخر دون فحصها ودراسة الفوارق
الزمانية والمكانية، ومعرفة المآلات.
الثالث: عدم ترتيب الأولويات، وعدم الموازنة بين المصالح والمفاسد،
والجهل بثغرات المنافع القانونية للاستفادة منها في المجتمعات التي نشط فيها المد
الإسلامي.
الرابع: عدم تصنيف الناس والتعامل مع كل صنف بما يناسبه تحييداً، أو
كسباً أو تألُّفاً.
وأهم ما يمكن أن يعين في التغلب على تلك العقبات أن نتعامل مع الواقع وفق
طاقتنا البشرية، ونتدرج في برنامجنا الإصلاحي، ولا نطوي المراحل كطي
السجل؛ فالمنبَتُّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى. ولا بد أن نعرف أولوياتنا على
ضوء دراسة محيطنا.
__________
(1) الوابل الصيب، ص 129.
(2) الوابل الصيب، ص 129.
(3) الفوائد، ص 101.
(4) رواه البخاري، ح/2724.
(5) مجموع الفتاوى، 3/423.
(6) مجموع الفتاوى، 28/9 25.
(7) منهاج السنة النبوية، 2/342.
(8) إيثار الحق على الخلق، 160 161.
(9) عبد الله بن ضيف الدين: دعوة إلى السنة منهجاً وأسلوباً، 79 80.
(10) الهوى وأثره في الخلاف، ص 23.
(11) ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية، 1/47.
(12) ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية، 1/45.
(13) ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية، 1/202.(149/38)
الإسلام لعصرنا
حقائق العلوم التجريبية.. حقائق شرعية!
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
شاع على ألسنة كثير من إخواننا المتدينين القول بأن الحقائق العلمية (ويعنون
بذلك حقائق العلوم الطبيعية) حقائق متغيرة، فما يثبته العلم اليوم ينفيه غداً، وما
ينفيه اليوم يثبته غداً. لذلك يجب أن لا يكون لها اعتبار في فهم الحقائق الدينية
الواردة في الكتاب والسنة، وأن لا تستخدم دليلاً على الإعجاز العلمي.
لكن إطلاق القول بتغير الحقائق العلمية إطلاق غير صحيح، بل هو خطأ
محض؛ وذلك لأن العلوم الطبيعية كما هو معروف منها ما هو حقائق جزئية تقوم
عليها أدلة حسية أو عقلية قاطعة، ومنها ما هو حقائق جزئية، أو قوانين عامة تقوم
عليها أدلة راجحة لا قاطعة، ومنها ما هو نظريات هي المعرَّضة للتغير، ولا سيما
ما كان ذا دليل غير قوي.
فحقائق العلوم التجريبية كلها الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية التي شهد لها
الحس أو العقل شهادة قاطعة هي حقائق شرعية. بل إن ما قام عليه منها دليل
راجح وإن كان غير قاطع، هي مما يعد بميزان شرعنا علماً يعمل به. فما دليلنا
على ذلك؟
دليلنا أولاً أن الشرع قضى بأن كل الحقائق دينية كانت أم دنيوية إنما يكتسبها
الإنسان بحسه وعقله. قال تعالى: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: 78] .
فإذا كانت الحقائق إنما تكتسب بالحس والعقل، فمن البديهي أن يقال: إن كل
ما شهد له الحس والعقل فهو حقيقة، وما لم يشهد له فليس بحقيقة. ولذلك فإن ربنا
سبحانه وتعالى ذم الكفار المنكرين للحقائق المحسوسة ووبخهم. قال تعالى: [ولَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ ... مُّبِينٌ] [الأنعام: 7] .
ونحن نعلم أن أحاديث الآحاد تعتبر علماً مع أن ثبوتها ليس قطعياً كثبوت
الأحاديث المتواترة. ومما استُدِلَّ به على أن الظن الراجح يعد علماً قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ ... فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّار] [الممتحنة: 10] . ...
وذلك لأن علم البشر علماً مباشراً بإيمان شخص لا يكون إلا ظنياً. لكن
الامتحان يرجح هذا الظن نفياً أو إثباتاً، ولذلك يبنى عليه هذا الحكم المهم المذكور
في الآية الكريمة.
ومعنى ذلك أننا نأخذ كما يأخذ غيرنا حتى بالنظريات العلمية إذا كان ثبوتها
راجحاً ولم يكن قطعياً ما دامت لا تتعارض مع نصوص شرعية قطعية.
قد يستغرب بعض القراء قولي بأن ما لم يشهد له الحس والعقل، أو قل: ما
لم يأت عن طريق الحس والعقل فلا يعد علماً، ويقولون: أين الوحي إذن؟
وأقول: إن سبب هذا الاعتراض هو خلط يقع فيه كثير من الناس، وقد نبَّهت عليه في كثير من كتاباتي وأحاديثي. الخلط هو عدم التفرقة بين وسائل اكتساب
العلم، وهي الحس والعقل، ومصادر العلم، وهي الوحي والخلق؛ فالوحي مصدر ... للعلم؛ لكننا إنما نعرف أنه وحي بالحس والعقل، وإلا لم يكن لنا معيار نميز به بين النبي الصادق ومدعي النبوة، ولا بين ما هو كلام الله حقاً، وما هو من القول على الله تعالى بغير علم.
أعود إذن إلى قولي بأن حقائق العلوم التجريبية التي تقوم عليها أدلة قطعية
حسية كانت أم عقلية هي حقائق ثابتة لا تتغير. تُرى: هل سيأتي يوم يقول فيه
العلماء إنهم كانوا مخطئين في زعمهم بأن الأرض كروية، بعدما استطاعوا أن
يروها كرة، وأن يصوروها لمن لم يرها؟ هل سيأتي عليهم زمان يكتشفون فيه أن
الماء لا يتكون من الهايدروجين والأوكسجين كما يزعمون الآن؟ وهل يجوز
لإنسان عاقل أن يكابر في وجود شيء بعدما رأى دليله الحسي؟ إن مثل هذه
المكابرة أمر مذموم شرعاً كما أنه مذموم عقلاً، بل إن كل ما هو مذموم عقلاً فهو
مذموم شرعاً.
إن إنكار الحقائق الحسية سواء منها ما يشاهده الشخص العادي، أو تثبته
العلوم التجريبية طبيعية كانت أم اجتماعية أم نفسية أم غير ذلك هو هدم للشرع؛
لأنه هدم للبراهين الدالة على صحته، واللازمة للعمل به، والفارقة بينه وبين
الدعاوى الباطلة.
إن كتاب الله تعالى مليء بتوجيه الناس إلى التفكر في خلقه، والاستدلال به
على كثير من أصول الدين، كوجود الخالق سبحانه، ومعرفة صفاته، وبعثه
لعباده، ومصير المكذبين لرسله.
[إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
[آل عمران: 190، 191] .
ففي هاتين الآيتين الكريمتين ربط بين مظاهر طبيعية وبين الإيمان، وهو
ربط لا يتسنى إلا لمن يشاهد هذه الظواهر ويوقن بوجودها، ثم يكون إنسانأ ذا
عقل، وتفكُّر؛ فأولو الألباب هم الذين ينتقلون من المشاهدة إلى التفكر إلى الإيمان.
وانظر إلى قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً والشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (96) وهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وهُوَ الَذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [الأنعام: 95- 99] .
في الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة ربط بين حقائق طبيعية وبين الإيمان
لا ينكره إلا المأفوكون. وفي الآية الثانية ربط بين حقائق طبيعية وبين صفتين من
صفات الله تعالى. وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة ربط بين حقائق طبيعية
وبين العلم والفقه والإيمان؛ فلا يكون عالماً ولا فقيهاً ولا مؤمناً من ينكر هذه
الحقائق بعد رؤيتها.
لا يقولن لي معترض بأننا إنما آمنا بهذه الحقائق الطبيعية؛ لأن الله تعالى
قررها. كلاَّ! فإن العلم بها سابق للإيمان بالقرآن الكريم ومستقل عنه؛ فهو أمر
مشترك بين المسلمين وغير المسلمين. والقرآن الكريم جعل علمنا هذا بها دليلاً
على قدرته وحسن صفاته. فلو كان علمنا بها مبنياً على تصديقنا بالقرآن لما
صلحت دليلاً، ولكان في الكلام دور.
وأنت تجد في الآيات التالية مثل هذا الربط الذي ذكرناه بين الحقائق المشاهدة
والبعث، وبينها وبين تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم: [وهُوَ الَذِي يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ
المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]
[الأعراف: 57] .
والحقائق الحسية لها تعلق آخر مهم بأصول الدين؛ وذلك من حيث كونها
معياراً للتفريق بين الصدق والكذب؛ لأن القول الصادق إنما هو الذي يوافق الواقع
ولا يخالفه، فإذا كان الواقع المتحدَّث عنه واقعاً محسوساً، وكان القول مخالفاً له
علمنا أن القول كذب. هذه قاعدة بدهية يعرفها كل عاقل. ولذلك فعندما ألَّف
الطبيب الفرنسي موريس بوكاي كتابه المشهور عن العلوم الطبيعية والتوراة
والإنجيل والقرآن ذكر في مقدمته كلاماً فحواه أنه قال لنفسه: مادام الله تعالى هو
خالق الكون فلا يمكن أن يوحي إلى بشر بكلام يخالف الواقع الذي خلقه ويعلمه،
ولذلك فإنني سأحاكم هذه الكتب الثلاثة بمعيار الحقائق القطعية التي أثبتتها العلوم
الطبيعية، فما وجدته منها مخالفاً لشيء منها علمت أنه ليس من عند الله تعالى.
وكانت النتيجة أنه وجد في كتابَي اليهود والنصارى مثل هذه المخالفات، ولم يجد
منها شيئاً في القرآن الكريم، بل وجد أن القرآن الكريم سبق العلوم المعاصرة
بتقرير بعض الحقائق، ثم جاءت هي مؤيدة لها. فهل نقول لمثل هذا العالم: إن
منهجك غير صحيح؛ لأن حقائق العلوم الطبيعية حقائق متغيرة؟
وبمثل هذا المنهج انتقد النصارى الليبراليون إخوانهم الأصوليين.
فالليبراليون يقولون: إن كتابهم المقدس لا يمكن أن يكون كله كلام الله كما يزعم
الأصوليون، ويستدلون على ذلك بمواضع فيه جاءت مخالفة لحقائق محسوسة
أثبتتها العلوم التجريبية.
ومن غريب ما سمعت في عدم اعتبار الحقائق المحسوسة استدلال بعضهم
على هذا الزعم بحديث: (وكذب بطن أخيك) . والحديث كما رواه البخاري في
كتاب الطب من صحيحه عن قتادة عن أبي سعيد: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسْقِهِ
عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فقال: صَدَقَ
اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلاً، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) [1] .
استدل الزاعم بأن الحقائق المحسوسة لا اعتبار لها في النصوص الإلهية،
بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: (صدق الله وكذب بطن أخيك)
فكأنه يريد أن يقول: إنه مهما كانت الوقائع مخالفة للوحي فلا اعتبار لها، بل يجب
على المؤمن الصادق أن يؤمن بكلام الله تعالى مهما رآه مخالفاً للواقع المحسوس؛
لأن كلام الله تعالى هو الصدق، والواقع كبطن أخ السائل هو الكذب. فكأن هذا
القائل يفترض إمكانية مخالفة الوحي للحس أو العقل، وهو افتراض باطل، بل هو
طعن في الشرع؛ لأن صدق الكلام إنما يعرف كما ذكرنا بموافقته للواقع. فالمخالف
للواقع كذب لا محالة. والرجل إنما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم طالباً شفاء
أخيه من الإسهال، والشفاء أمر محسوس. فلما رأى أن أخاه لم يُشْفَ عاد فسأل.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن كلام الله حق أي إن العسل لا بد
أن يشفيه، وإن بدا الأمر أولاً على غير ذلك. وصدَّق الله كتابَه ورسولَه فشُفي الرجل، أي إن الحقيقة الحسية جاءت في النهاية موافقة للآية القرآنية. لكن مقتضى كلام أخينا المشكك في الحقائق المحسوسة، أن الرجل لو سقي عسلاً مائة مرة فلم يزده شربه إلا إسهالاً، ولو أن كل مريض شرب عسلاً لم يزده شربه إلا مرضاً فلا بد أن يؤمن الناس بأن في العسل شفاءاً؛ بل الحقيقة أنه لو حدث هذا لكان فيه أكبر دليل على أن القول بأن في العسل شفاءاً لا يمكن أن يكون قولاً للخالق سبحانه.
فانظر كيف تؤدي الحجج الباطلة بصاحبها إلى الطعن في الدين من حيث يريد هو الانتصار له.
هنالك حديث طريف يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل
بالحقائق الواقعية في تقرير المسائل الشرعية. روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ
جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الأسَدِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلا يَضُرُّ
أَوْلادَهُمْ) [2] .
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد
بِالْغِيلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيث وَهِيَ الْغَيْل, فَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ وَالأَصْمَعِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل
اللُّغَة: أَنْ يُجَامِع اِمْرَأَته وَهِيَ مُرْضِع. يُقَال مِنْهُ: أَغَالَ الرَّجُل وَأَغْيَلَ, إِذَا فَعَلَ
ذَلِكَ وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: هُوَ أَنْ تُرْضِع الْمَرْأَة وَهِيَ حَامِل يُقَال مِنْهُ: غَالَتْ
وَأَغْيَلَت. قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب هَمّه صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهُ يَخَاف مِنْهُ ضَرَر الْوَلَد الرَّضِيع. قَالُوا: وَالأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَن دَاء وَالْعَرَب تَكْرَههُ وَتَتَّقِيه.
وَفِي الْحَدِيث جَوَاز الْغِيلَة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَبَيَّنَ سَبَب تَرْك النَّهْي وَفِيهِ جَوَاز الاجْتِهَاد لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبه قَالَ جُمْهُور أَهْل الأُصُول. وَقِيلَ: لا يَجُوز لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوَحْي وَالصَّوَاب الأَوَّل) .
فالحديث يدل على أن سبب ترك النهي هو التجربة، تجربة امم غير ...
العرب، كانوا يفعلون شيئاً لا تفعله العرب، ولم يضرهم فعله؛ فتجربتهم هذه دليل على أن هذا الفعل لا ضرر فيه، فلا ينهى عنه.
بقي أن نقول: إن الحقائق التجريبية التي يقرها الشرع نوعان: نوع يقره
إقراراً عاماً ولا يبني عليه أمراً من أمور العبادات، ونوع يقره ويبني عليه بعض
العبادات، فهو شرعي بمعنى خاص. مثال ذلك: أننا نعلم الآن أن ضوء الشمس لا
يصلنا إلا بعد ثماني دقائق من مشاهدتنا لها، ونعلم أننا لا نرى الشيء إلا وصلنا
ضوؤه. ومعنى ذلك أننا عندما نرى الشمس تشرق أو تغرب تكون قد فعلت ذلك
قبل ثماني دقائق. هذه حقيقة لا يكذبها الشرع. لكن الشرع بنى مواقيت الصلاة
على الشروق والغروب كما يظهران للناس، لا على حقيقتهما الفلكية المستقلة عن
الرؤية البشرية. لكن ما بُني الشرع عليه هو أيضاً حقيقة علمية، بل هي حقيقة
يحسها كل إنسان مبصر.
ومثال آخر: هو ميلاد الهلال ورؤيته. فالميلاد حقيقة علمية تجريبية قطعية
كما عرف الناس منذ مئات السنين، وكما أقر بذلك كثير من علمائنا السابقين. لكن
الشرع رتب الصيام على الرؤية لا على ميلاد الهلال، ولا على إمكان الرؤية، مع
أنها حقائق علمية. ماذا نفعل إذا كنا نعلم أن الهلال لم يولد، ثم زعم أناس أنهم
رأوه؟ القاعدة العقلية والشرعية هي أن القطعي مقدم على الظني؛ فما دمنا نعلم
يقيناً أن الهلال لم يولد، فإننا نعلم يقيناً أنه لا يمكن أن يُرى، ولذلك نرد شهادة من
زعم أنه رآه؛ لأنها ظنية. فالذين يرون الأخذ بالحساب في النفي هم المحقون
بحسب هذه القاعدة وإلا وقعنا في ورطة الاعتقاد بأن الحقائق القطعية تتعارض؛ أو
أن ما يقرره الشرع قد يخالف ما يقطع به الحس او العقل.
__________
(1) رواه البخاري، ح/2525.
(2) رواه مسلم، ح/ 2162.(149/52)
فاتحة الملف
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
المسلسل العلماني في تغريب المرأة ومسخ هويتها الفكرية والأخلاقية مستمر؛
فبعد مؤتمرات المرأة والسكان في: القاهرة، وبكين، وغيرهما اختتمت قريباً في
مقر الأمم المتحدة أعمال الدورة الثانية والعشرين للجنة المكلفة بالقضاء على
(التمييز ضد المرأة!) ، وطالبت الجمعية العامة الدول الموقعة على اتفاقية حقوق
المرأة بتطبيق قواعد المساواة بين المرأة والرجل، كما فرضت على هذه الدول عدم
الاكتفاء بإقرار المساواة على مستوى النصوص التشريعية فحسب، بل العمل على
تجسيد هذه النصوص في الحياة العامة من أجل تحسين الواقع اليومي الذي تعيشه
المرأة.
وقبل أيام كتبت نفيس صادق (المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة
للسكان) : (إنَّ إدماج النساء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تعتبر من أهم التطورات التي حدثت في المائة سنة الماضية، ولكن هذه الثورة لم تكتمل بعد؛ فالمساواة النوعية ما تزال هدفاً لم يتحقق. إن ما يواجهنا من تحد ومسؤولية بوصفنا رابطة من الأمم هو أن نبني على ما أنجزناه في العقود الماضية، وأن نضمن أن القرن الحادي والعشرين سيوفر للنساء الفرصة للمشاركة الكاملة في صنع التاريخ! !) .
وانظر إلى بعض انعكاسات تلك التوصيات الأممية في بعض الدول
الإسلامية؛ فبعد الحمَّى البرلمانية لحقوق المرأة السياسية في الكويت، وبعد الحشود الصاخبة لمؤتمر مئوية قاسم أمين، ثم مشروع قانون الأحوال الشخصية في مصر، يستمر الجدل العريض في المغرب حول مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي أعد بتمويل أجنبي مشبوه من البنك الدولي! !
ولكن ألا يحق لنا أن نسأل: ماذا يريدون من المرأة..؟ !
إنهم يريدونها أن تتخلى عن أنوثتها الطاهرة، وتصبح ألعوبة لشهواتهم ودمية
لأهوائهم.
يريدونها أن تتمرد على حجابها، وتنتكس في حمأة الجاهلية ومستنقعاتها ...
الآسنة.
يريدون إلغاء دور الأسرة، ومسخ الهوية الاجتماعية للأمة، وإشاعة روح
الانحلال والفساد.
يريدون استنساخ المرأة الغربية في بلادنا لتنتشر ثقافة الإيدز والعري والشذوذ
الجنسي..! !
لقد كرَّم الله المرأة وشرفها، ووالله الذي لا إله إلا هو! إنها لن تجد من
يرعاها ويحفظ لها حقوقها كما تجد ذلك في الإسلام.. فيا بغاة الشر أقصروا..!
وها نحن في مجلة (نفتح ملف (ماذا يريدون من المرأة؟ !) ينشر بعون الله
في عددين، ونحسب أن هذه القضية أوسع من أن يستوعبها ملف واحد، ولهذا
يسعدنا أن نستقبل مشاركاتكم التي تثري الموضوع، وتكمل بقية فروعه) .
- البيان -(149/57)
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
مشاريع هدم الأسرة المسلمة
من التخطيط إلى التنفيذ
كمال حبيب
كانت الأسرة المسلمة ولا تزال تمثل قاعدة الاجتماع الإسلامي، وكانت ولا
تزال أيضاً تمثل حصن هذا الاجتماع وقلعته، ومنذ أن اكتشف الغرب بحضارته
(النصرانية اليهودية) أنه لا يمكنه أن يخترق الأمة الإسلامية، أو يُجهِز عليها
بالوسائل العسكرية عقب محاولاته ومخططاته العسكرية التي كان آخرها الحروب
الصليبية؛ فإن الغرب سعى إلى تغيير وسائله، فتحول عن المواجهة العسكرية إلى
المواجهة الفكرية والسلوكية وهو ما يعبر عنه عادة في الأدبيات الإسلامية بـ ...
(الغزو الفكري) وكانت أهم أدواته في ذلك إنشاء جيش من المنصِّرين
والمستشرقين، وتأسيس كراسٍ للدراسات الاستشراقية، التي تستهدف اكتشاف ... العالم الإسلامي واختراقه لمعرفة عاداته وتقاليده ونفسية أبنائه.
وبلغ شأو هذه الجيوش الاستشراقية والتنصيرية حداً سجن العالم الإسلامي
سجناً كبيراً، فلم تدع شيئاً إلا دسَّت أنفها فيه حتى دخلت مخادع النساء بتعبير
(محمود شاكر) في رسالته القيمة: (الطريق إلى ثقافتنا) وكانت جيوش المنصرين
والمستشرقين هم طليعة الاستعمار (الاستخراب) الغربي للعالم الإسلامي كما كانت
هذه الجيوش الاستشراقية هي الأساس الذي قامت عليه مراكز الأبحاث وأجهزة
الجاسوسية والمخابرات المتصلة بالنفاذ إلى أعمق أعماق عالمنا الإسلامي.
وبعد انتهاء الاستعمار (الاستخراب) العسكري ظل العالم الإسلامي بحكم
موقعه الاستراتيجي وبحكم موارده، وبحكم ما يمثله من امتلاك الثروة الحضارية
والروحية الهائلة، والمتثملة في الإسلام ظل موضع اهتمام لما يمكن أن نطلق ...
عليه: (الاستشراق الجديد) . والاستشراق الجديد لا يعتمد في دراسته عن العالم الإسلامي على جنوده وأبنائه من الغرب، بل سعى إلى وجود مستشرقين من أبناء العالم الإسلامي نفسه؛ بحيث تقوم علاقة ترابط قوية بين المراكز الاستشراقية في الخارج وبين أطرافها وذيولها في الداخل.
وتمثل ظاهرة (الأبحاث المشتركة) عن الاجتماع الإسلامي فيما يتصل
بمظاهر قوته الخاصة بالصحوة الإسلامية، واللغة العربية، والأزهر، والأسرة
المسلمة، والحجاب، وانتشار السلوك الإسلامي تمثل موضوعات هامة للاستشراق
المحلي المرتبط بالاستشراق الجديد في الخارج؛ فلم يعد الذين يرصدون الظواهر
التي تمثل مظاهر قوة في المجتمع الإسلامي من الغربيين وإنما هم من جلدتنا
وأبنائنا ويتحدثون بألسنتنا. ووُجِدت نخبة متغربة تتبنى قيم الغرب نمطاً للحياة
بديلاً عن نمط الحياة الإسلامي، وقد استطاعت هذه النخبة السيطرة على مراكز
صناعة القرار وخاصة الإعلام والفكر والكتابة، وصارت الذراع الفكرية التي
تحمي النظم الحاكمة وتسوِّغ لها الاندفاع في التبعية للأفكار والقيم الغربية: تارة
باسم التقدم، وتارة باسم (الوراثة) . وبلغت الرغبة في الاختراق حداً مريعاً؛ إذ
وصل الأمر بالإصرار على اختراق المؤسسة الدينية ذاتها؛ وكأن الغرب يريد أن
يقول: إنه لا توجد مؤسسة مهما كان شأنها عصية على الاختراق. وبالطبع فإن
دراسة الوقائع الميدانية للعالم الإسلامي تمثل مدخلاً هاماً لصناع القرار السياسي في
الغرب وخاصة في أمريكا؛ حيث تعتبر أمريكا ما تطلق عليه: (فهم الطابع القومي
للشعوب) أحد أهم مداخل سياستها الخارجية تجاه العالم الإسلامي بالذات.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي غير مأسوفٍ عليه فإن أمريكا صارت القوة
الوحيدة المهيمنة على العالم، وطرحت ما أطلقت عليه: (النظام العالمي الجديد) ثم
نظام (العولمة) ورغم أن المصطلح الأول اتخذ طابعاً تبشيرياً يشير إلى وجود نظام
عالمي مرجعي واحد للعالم؛ بحيث تتلاشى الخصوصيات والصراعات، وتتوحد
المعايير في التعامل مع المواقف المتشابهة؛ إلا أن الوقائع أثبتت فشل المصطلح.
أما المصطلح الثاني فرغم أنه حاول المراوغة بالحديث عن نظام اقتصادي تبادلي
تيسره الثورة التقَنيَّة إلا أنه استبطن فرض منظومة قيمية فيما يتصل بالسياسة
والثقافة والاجتماع.
ويبدو أن الغرب بدأ يشعر بأنه حقق ما أراده بالنسبة إلى العالم الإسلامي فيما
يتصل بالسياسة بسيطرته على النظم الحاكمة وفرض ما يريده عليها، وأن شهيته
الآن بدأت تتجه إلى نظم الاجتماع والثقافة بفرض نظام موحد في الاجتماع والثقافة
وهو ما يمكن أن نطلق عليه: (عولمة الاجتماع والثقافة) فالاجتماع أساسه
الأسرة، والثقافة أساسها القيم الدينية، وفي حالة العالم الإسلامي فإن القيم الإسلامية هي التي تصوغ الاجتماع والثقافة وحياة البشر والناس.
إن الغرب شعر أن النظم الحاكمة قدمت عبوديتها وولاءها؛ لكن الناس
والبشر في العالم الإسلامي لا تزال تأبى إلا أن تجعل عبوديتها وولاءها لله؛ ومن
هنا كان اقتحام عالم الأسرة التي تمثل أساس الاجتماع الإسلامي.
وبشكل عام فإن الغرب وأمريكا خاصة تتبنى (سياسة تفكيك المجتمعات) أي
جعل أهلها شيعاً وأحزاباً وهي السياسة الفرعونية التي تعبر عن الطاغوتية
والاستعلاء، ولكي تفكك هذه المجتمعات فإنها تسعى إلى ضرب مواطن القوة التي
تحول دون اختراق المجتمعات الإسلامية. وأحد أهم مواطن القوة في العالم
الإسلامي نظام الأسرة الذي يحفظ للمجتمع قوته وتماسكه. وتبدو الهجمة الغربية
(الأمريكية) الآن عبر تسيدها وهيمنتها وشرائها للنخب العنكبوتية، واحتفائها
بجمعيات ضغط نسائية منتفعة، وعبر جمعيات حقوقية نسائية وحقوقية عامة،
وعبر تمويل هذه الجمعيات وكأنها فيها تفرض ولو بالقوة أجندة خاصة، وتأتي
الأسرة والمرأة وقضاياها ذات الأولوية من الهجمة الغربية الأمريكية الجديدة، وهذه
الهجمة تؤكد أن الغرب ووكلاءه في المنطقة ينتقلون من التخطيط والإعداد للغزو
الفكري والقيمي للعالم الإسلامي إلى التنفيذ منتهزين لحظة تاريخية إنما هي القوة
المتسيدة للغرب وضعف العالم الإسلامي.
تعميم الحالة المصرية:
في مصر حيث يعتبر الأزهر المؤسسة الإسلامية الأولى وأحد المرجعيات
السنِّية الأعلى في العالم الإسلامي في مصر هذه تم (إقرار قانون الأحوال الشخصية
الجديد) وهو قانون أعدته بالأساس وزارة العدل المصرية. ووفق معلوماتنا فإن
مشروع القانون جاء استجابة لتلبية مطالب (اللوبي النسائي المصري) الذي يرتبط
بالتيار النسوي الغربي وهو التيار الذي صاغ أجندة مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد
في القاهرة عام 199م، ثم أجندة (وثيقة مؤتمر بكين) الذي عقد ببكين في الصين
عام 1995 م، وهي سلسلة مؤتمرات بدأت في السبعينيات تبنتها الأمم المتحدة،
وتستهدف بشكل أساس (إعادة الهندسة الاجتماعية للأسرة وللاجتماع الإنساني
والبشري) . وهذه المؤتمرات وأفكارها تستمد قوتها من أمريكا والأمم المتحدة
والعالم الغربي الذي يريد أن يفرض عولمة الاجتماع الإنساني وفق منظومة القيم
الغربية مستظهراً دعاوي حقوق الإنسان وحماية المرأة؛ حيث إن العالم الغربي لم
يعد يرى أن ترتيب قواعد الاجتماع البشري مسألة داخلية تخص أبناء دين أو
مجتمع بعينه؛ وإنما هي مسألة كونية عالمية تفرض القيم الغربية، وتستدعي
حمايتها ولو بالتدخل الذي يحمل صفة إنسانية.
ووفق معلوماتنا فإن الغرب وأمريكا لم تكن بعيدة عن مطالبة وزارة العدل
المصرية بطرح مشروع القانون الخاص بالأحوال الشخصية، وفرض مواد
موضوعية فيها وهي المواد الخاصة (بالخُلع) (وسفر الزوجة) و (قبول طلاق
المتزوجة عرفياً) ؛ فقد كان مشروع القانون الذي عرض على مجلس الشورى
المصري عام 1998م إجرائياً بحتاً؛ لكن إضافة هذه المواد عليه نقلته من كونه
قانوناً للإجراءات إلى قانون موضوعي؛ والهدف من ذلك كسر قوامة الرجل
بالسماح لزوجته بالسفر دون إذنه، وتفكيك الأسرة المسلمة عن طريق إعطاء المرأة
(حق الخلع) أي الحرية بالمفهوم النسوي لإنهاء العلاقة الزوجية متى شاءت دون
أن يكون هناك أي عوائق يتطلب إثباتها مثل (الضرر) .
ولأن القانون يدخل في نسيج العلاقات الخاصة أولاً، ويتدخل في منطقةٍ
فَصَل الإسلامُ فيها باعتبار أن التشريع لها حق لله وحده ثانياً، ولأن هذه المنطقة من
التشريع لا تزال البقية الباقية من القوانين القائمة الآن ومرجعيته الإسلام، لكل هذه
الاعتبارات أراد واضعو المشروع أن يحصلوا على موافقة الأزهر، فعرض على
مجمع البحوث الإسلامية الذي رده مرتين اثنتين بعد مناقشات وتمحيص، ثم عرض
على مجلس الشعب؛ حيث تمت الموافقة عليه بعد حذف مادة حق الزوجة في السفر
بدون إذن زوجها، وبقيت مادة الخلع.
والذي لم يجرِ الالتفات إليه في قانون الأحوال الشخصية الجديد بمصر؛ أنه
ألغى لائحة ترتيب المحاكم الشرعية وهي آخر ما كان باقياً للإسلام من أثر حاكم
ومرجعي في القوانين؛ ومن ثم فإن القانون الجديد رغم المعارضة الإسلامية
والشرعية له فإنها معارضة في الفروع وليس في الدفاع عن المرجعية الإسلامية
ذاتها أي أنه قانون مرجعيته مدنية علمانية، والقصد من ورائه هو تعميم هذه
التجربة في قوانين البلدان العربية الأخرى؛ بحيث يكون هناك قانون موحد للبلدان
العربية للأحوال الشخصية وتكون مرجعية هذا القانون الموحد مدنية علمانية، وهو
جزء من المشروع الغربي لعولمة الاجتماع الإسلامي وعلمنته، وتواكب الحديث مع
إخراج قانون الأحوال الشخصية الجديد في مصر عن تعديل المادة 240 في قانون
العقوبات التي تساوي بين المرأة والرجل إذا وجد أي منهما الآخر متلبساً بالزنا؛
فالمادة الحالية تجعل الرجل الذي يقتل زوجته إذا رآها متلبسة بالزنا مع آخر في
فراشه تجعله متهماً بجنحة باعتباره دفاعاً عن شرفه؛ بينما إذا حدث ذلك بالنسبة
للمرأة فإنها تكون جريمة خيانة وهي مادة مأخوذة من القانون البلجيكي لكن الفكرة
المهيمنة على النائبة التي طالبت بتعديل المادة هي فكرة المساواة بين المرأة والرجل
رغم أن المناط مختلف؛ فقد تكون المرأة التي رأتها الزوجة مع زوجها زوجته
الثانية وليست خدينة له، بينما في حالة المرأة لا يمكن أن يكون من معها زوج
لها؛ لأنها لا تجمع بين زوجين في آنٍ واحد.
لكن المطالبة بتعديل المادة هو جزء من حملة نسوية تطرق على الحديد وهو
ساخن؛ وبالمنهج نفسه والاستراتيجية ذاتها بدأ تحرك الجمعيات النسوية المصرية
المشبوهة لتأسيس اتحاد فيما بينها على طريق تنظيم صفوفها لطرح مطالبها النسوية
ذات الطابع الشاذ والعنصري. وعلمنا أن المحرِّكة لفكرة تأسيس اتحاد نسوي هي ... (نوال السعداوي) التي قامت بعقد مؤتمر صحفي دعت إليه الوكالات الغربية العاملة
في مصر وحدها مطلع هذا الشهر؛ حيث طالبت بتشريعات نسوية علمانية لا يكون
لله فيها أي سلطان أو حق على حد تعبيرها، ومعلوم أن الجمعيات النسوية المصرية
والعربية قد تفككت عُراها بسبب اتهامات بسرقات تمويل هذه الجمعيات من الجهات
الأجنبية. وآخر ما أمكننا رصده مما يمكن أن نطلق عليه: (توابع قانون الأحوال
الشخصية المصري) ما تقدم به النائب (محمد خليل قويطة) من اقتراح مشروع
قانون لتعديل قانون العقوبات، بحيث يتناول التعديل في مادته 290 جواز قيام
النيابة بالإذن بإجهاض الفتاة التي تحمل سفاحاً بناءاً على تقرير الطبيب الشرعي.
وقال النائب: إن الاقتراح يخفف من متاعب الجنين عليها، ويزيل مخاوفها من
رعاية طفل فرضته جريمة الاغتصاب.
ولا بد من ذكر المظاهرة النسوية التي سبقت إخراج (مشروع) قانون الأحوال
الشخصية والتي تمثلت في المؤتمر الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر في
الذكرى المئوية الأولى لصدور كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة) الذي صدر عام
1998م وذلك في الفترة من23 - 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1999م؛ وفي تجمع
لنساء أخفقن في حياتهن الزوجية أو العجائز والمقعدات ليعبرن بصراحة عن محادة
الله ورسوله والدعوة إلى تبني القيم النسوية الغربية والتخلص مما أسموه: (القيود
الدينية) في ذلك المؤتمر طالب هؤلاء النسوة بالمساواة بين الرجل والمرأة في
الميراث وبحق المرأة المطلَق في الحرية بجسدها، وبحقها في كسر أي قيود للرجل
عليها. وبلغ التطرف النسوي العربي حداً دفع بعض المشاركات إلى رفض هذا
التطرف للمرأة العربية، وانسحبت المحجبات من الجلسات التي بالغت في الهجوم
على الإسلام والدعوة الصريحة للعري وإلى التبذل المحرم، كما امتنع ممثلو التيار
الإسلامي (ممن دعي) من الحضور لاقتناعهم أن النسوة الذين تم مشاركتهن لا
يعبرن عن تيار حقيقي في العالم العربي والإسلامي وأنهن فئات مهمشة ومهووسة
بتقليد الغرب ومنسحقة أمام قيمه؛ فالحالة المصرية تستجمع قوتها النسوية للتنفيذ
والإعلان عما كان مخبوءاً.
وبينما كان الصخب حول مشروع قانون الأحوال الشخصية على أشده في
القاهرة إذا بالرباط تتجاوب معها؛ حيث انتقل الصخب إلى هناك حول ما أطلق
عليه المغاربة: (خطة الحكومة لتفعيل مشاركة المرأة في التنمية) وحكاية التفعيل
هذه هي أحد بنود الأجندة النسوية القومية لجعل المرأة أكثر فعالية. ومعنى فعاليتها
عندهم هو تأخير سن زواجها، وانخراطها في العمل بعيداً عن أسرتها باعتباره وفق
قيم الغرب يدر دخلاً، ومن ثَمَّ فهو العمل المحترم حتى لو كان من البغاء بينما يُنظر
للمرأة التي تعمل في البيت بأنها خارج الإطار ولا تعمل عملاً منتجاً. وفي الواقع
فإن مسألة الاندماج في التنمية بالمغرب ليست سوى ستار لإقرار قانون أحوال
شخصية جديد هناك شبيه بقانون الأحوال الشخصية الذي تم صكه في مصر ووافق
عليه شيخ الأزهر ورئيس جامعته. ومن قبل في لبنان ثار موضوع (الزواج
المدني) ؛ حيث تكون مؤسسة الزواج لا تقيم أي اعتبار للدين أو العقيدة؛ بحيث
يمكن للمسلمة أن تتزوج كافراً أو مشركاً، وتصبح العلاقة الأسرية علاقة مدنية
يحكمها عقد ينظمها بعيداً عن المودة والرحمة التي يفرضها الالتزام بالإسلام. وفي
الكويت شهدت مسألة حقوق المرأة السياسية صراعاً بين العلمانيين والإسلاميين،
وتم التصويت ضدها في مجلس الأمة الكويتي. ويهدف الذين يتبنون قانون الحقوق
السياسية للمرأة في الكويت إلى كسر الحجاب بين المرأة والرجل وفرض الاختلاط
بشكل مطلق؛ وهو ما يعد تهديداً لتقاليد المجتمع الكويتي. وفي الإمارات دعوة إلى
اقتحام المرأة للوزارة.
إن ما يحدث الآن هو التلاعب بقواعد الاجتماع الإسلامي وطرح قواعد جديدة
مستلهَمة من الرؤية الغربية إلى حد محاولة فرض أيديولوجية نسوية جديدة لها
انتشارها وذيوعها كما كان الحال بالنسبة للاشتراكية والشيوعية والليبرالية وتكون
هذه الأيديولوجية عابرة للقارات؛ بحيث تكون المساواة بين الذكر والأنثى هي
محورها! إنها الحرب الجديدة ولا شيء سوى كونها حرباً حقيقية تحتاج إلى وعي
وجهاد لمدافعتها ورد خطرها عن مجتمعنا الإسلامي؛ فهو آخر خطوط دفاعنا عن
حصوننا.(149/58)
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
أساليب تغريب المرأة وآثارها
محمود كرم سليمان
الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله. وبعد:
فإن فساد المرأة فساد للأسرة كلها وللمجتمع بأسره لما له من أثر عميق على
الناشئة والشباب، ولعل أبرز ما نراه اليوم هو هذا التخطيط المرسوم بدقة والذي
أخذ طريقه إلى المدارس والجامعات فأدى إلى تغريب المرأة وعلمنتها وابتعادها عن
دينها.
كما أصبح الإعلام الحديث بجميع ألوانه سلاحاً يفتك بالمرأة ويغريها على
الفساد خاصة أنه قد بلغ من الإبداع والتأثير قدراً كبيراً جعل من المستحيل مقاومة
إغرائه، وقد اعتمد هذا الإعلام في معظم برامجه ومصنفاته الفنية والإعلانية
اعتماداً محورياً على مظهر المرأة ومفاتنها سواء أكان في التلفاز أو الإذاعة أو
الصحف والمجلات أو الإنترنت مؤخراً.
ولا شك أن الانحراف الخطير الذي تردت فيه المرأة قد أصبح ظاهرة واضحة
في المجتمع تشهد عليه تلك الآثار المستشرية في كافة مناحي الحياة الاجتماعية
والثقافية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن خروجه عن مبادئ الدين الصحيح
وتعاليمه الأخلاقية والإيمانية.
ولا يخفى على الناظر البصير أن هذه الظاهرة في معظمها هي ثمرة
لمخططات الاستعماريين والعلمانيين التي وضعت بهدف إفساد المجتمع وتفريغه من
المقومات المستمدة من دينه القويم وتراثه الخالد، وبذلك فَقَدَ قدرته على التماسك أمام
ضربات الاستعمار الغربي وأصبح لقمة سائغة له.
وقد توسلت هذه المخططات بعديد من الشعارات الزائفة البراقة التي تتخفى
تحت مبدأ مساواة المرأة بالرجل وتحرير المرأة من قيود الدين والعرف.
وإمعاناً في إتمام هذه الخطة الخبيثة تم وضع عملاء من أمثال (مرقص فهمي)
الذي أصدر كتاب (المرأة في الشرق) ، ونادى فيه المرأة إلى رفع الحجاب ...
والاختلاط بمحافل الرجال، وهاجم فيه أحكام الشريعة الإسلامية التي تحرِّم زواج
المسلمة بغير المسلم ودعا إلى التمرد على هذه الأحكام.
وفي عام 1911م تأسس في مصر (حزب بنت النيل) الذي طالب بتحرير
المرأة من الحجاب وتقييد الطلاق وكان من قياداته القديمة درية شفيق، وأمينة
السعيد وغيرهما.
وفي عام 1913م دعيت هدى شعراوي لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي
الدولي بروما، وكان من توصياته: العمل على تعديل قوانين الطلاق لوقفه، ومنع
تعدد الزوجات، وتقرير حرية المرأة في السفور والاختلاط.
وأصدر قاسم أمين كتابه: (المرأة الجديدة) الذي نادى فيه بالاتجاه الأعمى
إلى تقليد الغرب فكرياً واجتماعياً، وعلى دربه سار سعيد عقل ولويس عوض
ولطفي السيد ونجيب محفوظ، وعديد من أعضاء المحفل الماسوني، ومن الشعراء
صادق الزهاوي، ونزار قباني وغيرهم.
ومما زاد الطين بلة قيام زعيم وطني بتمزيق النقاب من فوق وجه فتاة مسلمة
في أكبر ميدان في مصر، كما أمر زوجته بحرق الحجاب أمام الجمهور.
ومن فضل الله تعالى أن قيَّض للأمة الإسلامية في هذا الوقت علماء مجاهدين
وقفوا بكل قواهم لصد هذه المخططات ولتفنيد هذه الدعوات المشبوهة مما كان له
أثره في التخفيف من مساوئها.
الآثار التي ترتبت على إفساد المرأة:
أولاً: مؤشرات عامة تظهر عمق ما أصيبت به المرأة والمجتمع:
1- البعد عن الدين: وذلك بعدم معرفتها لعقيدته السمحة وفروضه وسنته
وشريعته العادلة وأخلاقه الرشيدة، وكذلك عدم الالتزام بأداء العبادات من صلاة
وصيام وزكاة وحج وعمرة وذكر وتلاوة وحفظ للقرآن الكريم واستغفار وحمد لله
تعالى ودعاء وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ...
وقد تمرد بعضهن على تعاليم الدين وتنكرن لعقائده وعباداته وأحكامه مخالفات
لقول الله تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا
الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] [البينة: 5] .
2- اتباع الشيطان وهوى النفس: وبذلك تمرغت في أوحال الفسوق
والانحلال، وسارت خلف نوازع النفس الأمارة بالسوء، وانطبق عليها قول الله
تعالى: [ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ] [القصص: 50] ،
وأنكرت قوله تعالى: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً
مَّعْروفاً (32) وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] [الأحزاب:
32، 33] وقد ورد عديد من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا
الصنف من النساء نذكر منها:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (إياكم وخضراءَ الدمن! قالوا: وما
خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) [1] .
روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت
فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) [2] .
وروى كذلك: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال
بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) [3] .
3- التنكر للآداب الدينية: مثل الحجاب وغض البصر وعدم الاختلاط
بالرجال إلا بضوابطها الشرعية؛ فهي لا تقيم وزناً لتعاليم الدين التي تنهى المرأة
عن الخروج كاشفة لملابسها الفاضحة، أو متزينة بالجواهر والحلي البراقة، أو
متعطرة، أو متحلية بالأصباغ في وجهها خارج بيتها حتى لا تفتن الرجال، وقد
روى أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار: أحدهما
نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا
يجدن ريحها) [4] .
4 - تضييع الوقت فيما يضر: فالوقت هو الحياة؛ وهذا الصنف من النساء
يقتلن وقتهن في السهر في الملاهي التي تغضب الله تعالى كمشاهدة الأفلام الخليعة،
وفي قراءة الكتب والصحف والروايات التي لا تراعي الآداب والأخلاق القويمة فيما
تنشر، وفي مجالس الغيبة والنميمة والتآمر على الفضيلة وإفساد ذات البين، وغير
ذلك من الآثام.
5 - مصاحبة أقران السوء: فالصحبة الفاسدة لها أثر كبير في نشر الفساد؛
فهي كعدوى الأمراض ينتشر خطرها بالاختلاط خاصة بين النساء والرجال كما
سبق ذكره.
6 - انشغال المرأة بالعمل والاشتراك في النشاط الاجتماعي والاقتصادي
والسياسي على حساب بيتها وأبنائها؛ والإسلام أباح للمرأة أن تعمل إذا الجأتها
الضرورات الاجتماعية إلى العمل لا أن يكون هذا نظاماً عاماً، وعليها حينئذ أن
تراعي الشروط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن
المرأة.
وقد أثبتت التجربة الغربية الآثار السلبية لعمل المرأة، ونذكر منها:
في الولايات المتحدة دخل المستشفى أكثر من 5600 طفل في عام واحد
متأثرين بضرب أمهاتهم العاملات لهم، ومنهم نسبة كبيرة أصيبوا بعاهات.
في مؤتمر للأطباء عقد في ألمانيا قال الدكتور كلين رئيس أطباء مستشفى
النساء: إن الإحصاءات تبين أن من كل ثمانية نساء عاملات تعاني واحدة منهن
مرضاً في القلب وفي الجهاز الدموي، ويرجع ذلك في اعتقاده إلى الإرهاق غير
الطبيعي الذي تعاني منه المرأة العاملة كما تبين أن الأمراض النسائية التي تتسبب
في موت الجنين أو الولادة قبل الأوان قد تعود إلى الوقوف لمدة طويلة أو الجلوس
المنحني أمام منضدة العمل أو حمل الأشياء الثقيلة، بالإضافة إلى تضخم البطن
والرجلين وأمراض التشوه) .
توصلت نتائج دراسات أذاعتها وكالات أنباء غربية في 17/7/1991م إلى
أنه خلال العامين السابقين هجرت مئات من النساء العاملات في ولاية واشنطن
أعمالهن وعدن للبيت.
نشرت مؤسسة الأم التي تأسست عام 1938 م في الولايات المتحدة الأمريكية
أن أكثر من 15 ألف امرأة انضممن إلى المؤسسة لرعايتهن بعد أن تركن العمل
باختيارهن.
في استفتاء نشرته مؤسسة أبحاث السوق عام 1990م، في فرنسا أجري
على 2.5 مليون فتاة في مجلة ماري كير كانت هناك نسبة 90% منهن ترغبن العودة إلى البيت لتتجنب التوتر الدائم في العمل ولعدم استطاعتهن رؤية أزواجهن وأطفالهن إلا عند تناول طعام العشاء.
وفي الولايات المتحدة 40% من النساء العاملات، وفي السويد 60 %
منهن، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً) 28 % يعانين من التوتر والقلق وأن نسبة 76% من المهدئات تصرف للنساء العاملات.
أما في الاتحاد السوفييتي فقد ذكر الرئيس السابق (جورباتشوف) في كتابه
عن البروستريكا أن المرأة بعد أن اشتغلت في مجالات الإنتاج والخدمات والبناء
وشاركت في النشاط الإبداعي لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية من أعمال
المنزل وتربية الأطفال.
وأضاف قوله: (لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب
وفي معنوياتنا وثقافتنا وإنتاجنا تعود جميعاً إلى تدهور العلاقات الأسرية، وهذه
نتيجة طبيعية لرغبتنا الملحة والمسوَّغة سياسياً بضرورة مساواة المرأة بالرجل) .
وفي دول الخليج ظهرت مشكلة من لون آخر فقد زاد عدد المربيات
الأجنبيات بسبب عدم تفرغ الأم لرعاية أطفالها، ولو وضعنا في الاعتبار أن نسبة
كبيرة من هؤلاء المربيات غير مسلمات، وأن معظمهن يمارسن عباداتهن الخاصة
أمام أطفال المسلمين، وأسوأ من ذلك أنهن يزاولن علاقات جنسية مع أصدقاء في
منازل مخدوميهن بالإضافة إلى احتسائهن للخمر وتدخين السجائر بمصاحبة الأطفال ... ... ومن ذلك ندرك حجم الخطر الذي يهدد الأسرة المسلمة بسبب تحرر المرأة من
تعاليم دينها وإهمالها لواجباتها نحو أولادها وبيتها.
ثانياً: مشكلات أصابت الأبناء من الجنسين:
وهذه مشكلات تشاهد في الجيل الجديد منذ الطفولة حتى من الشباب وتشمل
مشكلات تربوية ومشكلات تعليمية وثقافية.
فالمرأة الصالحة ذات الدين إذا كانت زوجة ولها أبناء تؤدي واجبها في تربية
الأبناء ورعايتهم بما توفره للأسرة من سعادة، فينشأ الأبناء في رعايتها نشأة سليمة
بدنياً ونفسياً وثقافياً بحيث يلتزمون بالعقيدة الصحيحة ويمارسون العبادة لله الخالق
العظيم على أكمل وجه، ويتمسكون بالأخلاق الحميدة والسلوك السوي والصراط
المستقيم والبر والتقوى.
أما النساء المنحرفات فهن محضن لكل فساد، وقدوة سيئة لأبنائهن في كل
نواحي الحياة وفي كل أعمارهم منذ طفولتهم؛ فهم لا يكتسبون منهن إلا القيم الفاسدة
والعادات السيئة والصفات الذميمة، وهن يتركنهم بدون الرقابة الواجبة ولا التوجيه
الرشيد؛ حيث تربيهم الخادمات الجاهلات أو المربيات الأجنبيات فيغرسن فيهم
أسوأ الخصال وأرذل القيم؛ ولذلك آثار لا تمحى في أعماق نفوس الأبناء تلازمهم
في مستقبل حياتهم مما يكون له نتائج لا شعورية في كل سلوكهم، وقد يؤدي إلى
إخفاقهم في الدراسة والعمل بل في تكيفهم مع المجتمع.
أما دور الأم في تعليم أولادها وبناتها خاصة قبل سن التعليم فهو في غاية
الأهمية؛ فإن الطفل يخرج إلى الحياة مجرداً عن العلم بأي شيء؛ تأمل قول الله
تعالى: [واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: 78] ، والأم هي التي تقوم بتعليم
أطفالها استخدام هذه الأجهزة الربانية في الحركة والكلام والأكل والإمساك بالأشياء
واللعب، كما يتعلمون من الأم والأب وغيرهم من المصاحبين لهم اللغة، ويعرفون
بالسماع أسماءهم التي ينادون بها، ثم يلي ذلك تعلم القراءة والكتابة البسيطة والنطق
الصحيح للألفاظ ويحفظون اسم الله تعالى ومبادئ الدين.
وهذا الدور الهام لا يمكن أن تؤديه الأم المنشغلة عن أولادها التي تقضي وقتها
خارج بيتها، كما لا تصلح له الأم الجاهلة بأمور دينها ودنياها وبواجباتها نحو
أطفالها.
وعندما يجتاز الأطفال هذه المرحلة يكون دور الأم في تحصيل أبنائها العلمي
مساعداً لدور المدرسة؛ فهي تعاونهم على أداء واجباتهم الدراسية في المنزل كما
تهيئ لهم الأجواء المناسبة في البيت للشعور بالراحة والأمان والحنان والحب مما
يكسبهم الثقة في النفس والتفاؤل والثقة في المستقبل، كما تتولى الأم الإجابة على
تساؤلات أبنائها في هذه المرحلة التي يكونون فيها دائمي السؤال عن كل ما يخطر
على بالهم؛ ويتوقف على مدى صواب إجابات الأم امتلاء عقولهم وقلوبهم بحقائق
الحياة وتعرفهم على الفرق بين الحق والباطل والخير والشر والخطأ والصواب.
وأهمية دور الأم في هذه المرحلة في تعليم أبنائها دينهم ومراقبة ممارستهم
للعبادات والتزامهم بالسلوك والأخلاق التي يحض عليها الإسلام وتعريفهم تعاليم
الدين المتعلقة بالمجتمع وآدابه في كل شيء؛ وذلك استكمالاً لمقررات الدين في
المدرسة ومراقبة تطبيقهم لهذه المعارف والآداب. وهناك أمور تحتاجها الفتاة من
الأم تختص بها دون الولد تعتمد على علم الأم بها واهتمامها بها بتبليغ بناتها بها في
الوقت المناسب وتدريبهن عليها، نذكر منها ما تحتاجه البنت من معلومات عند
البلوغ وواجباتها الخاصة في تدبير المنزل وخدمة الأسرة لتعرف حقوق الزوج
والأبناء والبيت عندما تتزوج.
وهذه الواجبات السابق ذكرها لا يمكن أن تؤديها الأم الفاسدة، أضف إلى ذلك
أن فساد عقيدة الأم يؤدي إلى دفع أولادها نحو الالتحاق بالمدارس الأجنبية ومن ثَمَّ
بالثقافة الغربية مما يكون له أثر بالغ في نشأة شخصيتهم غريبة عن مجتمعهم
ودينهم.
ثالثاً: مشكلات أصابت الرجال من أزواج وأقارب كما أصابت المجتمع كله:
1- تأثيرها على الزوج:
حيث قد يدفعه فسادها إلى ارتكاب المعاصي وإلى طريق الشيطان والبعد عن
الصراط المستقيم، كما أن عدم التزامها بالحجاب وتبرجها أمام الرجال يثير سخط
زوجها وغيرته عليها مما يكون له أثره في ارتكاب الزوج لردود أفعال لجنون
الغيرة غير محمودة العواقب.
والمرأة التي لا تحترم الحياة الزوجية تضر بالأسرة وتهدد بتحطيمها بالطلاق
أو بإهمال الرجل لبيته أو بالاتجاه إلى زوجة أخرى، أو الهروب إلى المقاهي ودور
اللهو؛ وكثيراً ما تكون سبباً في إدمانه للتدخين والمخدرات والمسكرات.
ومشكلة الطلاق في الغرب تعبر عن هذه الظاهرة في بلاد تعيب على الإسلام
إباحته للطلاق؛ فقد بلغت نسبة الطلاق إلى عدد الزيجات في السويد 60%، وفي
الولايات المتحدة الأمريكية 40%، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد
السوفييتي 28 %، وفي فنلندا 14%. ونذكر هذه الدراسة التي نشرتها مجلة شتيرن من ألمانيا أن ثلثي الراغبات في الطلاق في فرنسا يمارسن عملاً خارج البيت
وأن 22% من حالات الطلاق في ألمانيا نتيجة الخيانة الزوجية، و10% منها ... لأسباب جنسية، و 10% منها بسبب الإدمان.
أما في العالم العربي فقد وصلت مشكلة الطلاق إلى حجم غير مألوف مما
يحتاج إلى دراسة مستقلة.
ومن المشكلات الاجتماعية عزوف المرأة عن الإنجاب؛ حيث لا ترغب في
تحمل متاعب الحمل والوضع؛ وقد يدفعها ذلك إلى الإجهاض، وقد تقصر المرأة
العاصية في تلبية حاجات زوجها الجنسية مما يؤدي به إلى الزنا أو الشذوذ.
وقد يؤثر ذلك على صحة الزوج بدنياً ونفسياً، ويجعله عرضة للأمراض
الجنسية والنفسية وغيرها.
قد تدفع المرأة إلى انحراف زوجها مالياً لكي يحقق الثراء والكسب الحرام
تلبية لمطالبها من الملابس الفاخرة والمجوهرات والسهرات الماجنة والحفلات
الصاخبة.
2 - تأثيرها على الرجال من الأقارب والآخرين:
المرأة التي لا تلتزم بتعاليم دينها في الحجاب وعدم الاختلاط بالرجال لها
خطر عظيم على مجتمع الرجال، لذلك فقد حرص الإسلام على أن يباعد بين
الجنسين إلا بالزواج لما يتبع هذا الاختلاط والتبرج من ضياع للأعراض وخبث
للطوايا وفساد للنفوس وتهدم للبيوت وشقاء للأسر.
وقد لوحظ في المجتمعات المختلطة بين الجنسين طراوة في أخلاق الشباب
ولين في الرجولة إلى حد الخنوثة والرخاوة.
والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء زينتها ولا يرضيها إلا أن تثير في
نفوسهم الإعجاب بها؛ ولذلك أثره في الإسراف في تكاليف التبرج والزينة المؤدي
إلى الخراب والفقر.
ويترتب على ذلك انتشار الفحشاء والزنا والأمراض المصاحبة لها في الدنيا،
وفي الآخرة عذاب عظيم لمخالفة تعليم رب العالمين نذكرمنها قول الله تعالى: [قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي
الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ولا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] [النور: 30، 31] .
وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ] [الأحزاب: 59] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ربه عز وجل: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافتي
أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) [5] .
وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إياك والخلوة بالنساء! والذي نفسي بيده! ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما، ولأن يزحم رجل خنزيراً ملطَّخاً بالطين خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة لا تحل له) [6] .
أخرج النسائي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت
فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) [7] .
وإثم مخالفة تعاليم الله تعالى لا تقف على النساء فقط بل على المخالفين من
الرجال؛ ولا يعذرون عند الحساب لا في الدنيا ولا في الآخرة بأنهم كانوا فريسة
لفساد النساء ولغواية الشيطان بعد أن حذرهم الله تعالى.
3 - تأثيرها على المجتمع كله:
هذه المشكلات التي تهز اليوم أركان الأسرة والمجتمع بشدة كمشكلة
الاغتصاب وخطف الفتيات والأطفال غير الشرعيين وأولاد الشوارع كلها من آثار
فساد المرأة. وقد ظهر حديثاً ظاهرة انتشار ما يسمى بالزواج العرفي الذي وضع
الأسرة أمام مشكلات جديدة تضع غطاءاً يخفي الفساد الاجتماعي الناتج عن انحراف
الفتيات ويؤثر على مستقبل الأجيال القادمة.
كما زادت نسبة جرائم الأحداث والتشرد والتسول والأطفال المعاقين وهي
نتيجة لتحطم الأسرة الفاسدة وانحراف الزوجين وإهمال الأبناء.
وأخيراً:
هناك مشكلات اقتصادية تؤثر على المجتمع ترتبت على انحراف المرأة
العاملة فضلاً عن انخفاض إنتاجيتها؛ فإنها تؤثر على إنتاجية زوجها وأولادها
العاملين وتعوق تفوقهم في العمل وتفرغهم للإنتاج؛ ولذلك أثره المدمر على
الاقتصاد الوطني.
وختاماً فإن الحمد والفضل لله تعالى الذي أنزل للإنسانية كتابه الكريم الذي فيه
شفاء لكل أمراضها وعلاج لكل مشكلاتها وهداية لها من الضلال. وقال عز وجل:
[يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو
عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]
[المائدة: 15، 16] ، كما تكفل عز وجل بحفظه إلى يوم الدين؛ حيث قال: [إنا
نحن نزّلنا الذَكر وإنا له لحافظون] [الحجر: 9] .
وذلك يبعث الأمل في الإصلاح بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم والتمسك بهما والعودة إلى المجتمع الإسلامي الفاضل.
ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإيمان ويوفقنا إلى طاعته ذكوراً وإناثاً وبذلك
يتحقق صلاح الأمة بأسرها في الدنيا وتنال رضوان الله تعالى في الآخرة.
__________
(1) المسند لشهاب، 2/69، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير، 2/ 971 (رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري وهو معدود من أفراده، وقد علم ضعفه) .
(2) رواه النسائي، ح/6305.
(3) رواه ابن ماجة، ح/ 4981.
(4) رواه مسلم، ح/ 1793.
(5) المعجم الكبير للطبراني، 51/371، والمستدرك للحاكم، 4/943، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره العراقي وضعفه المنذري كما في كشف الخفاء للعجلوني، 2/734.
(6) مسند أحمد، 1/62، والتومذي، 4/564 وصححه الحاكم في المستدرك، 1/411 وابن حبان في صحيحه، 01/634.
(7) رواه الترمذي، ح/ 0172.(149/62)
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
حركة تحرير المرأة بمصر وحصاد
مائة وثلاثين عاماً
محمود بن محمد المختار الشنقيطي
لم يكن عفواً ولا من قبيل المصادفة أن يبدأ أعداء الإسلام من صليبيين ويهود
وعلمانيين ومتفرنجين وعبّاد الشهوة والجنس أن يبدؤوا حربهم ضد المرأة بمصر؛
ذلك أن أرض الكنانة هي قبة الإسلام، وقلعته ومركز ثقله، ولتبوُّؤ أزهرها
الصدارة والريادة العلمية والفكرية لأمة الإسلام منذ أن تسلمت مصر زعامة العالم
الإسلامي في القرن السادس الهجري على يد الفاتح صلاح الدين الأيوبي رحمه
الله.
فلا غرو إذاً أن يلمس الحاقدون على الإسلام حتى عهد الاستعمار نزوع
المصريين الفطري إلى التديُّن وتمسكهم بعرى الدين؛ لا غرو من اعتبار هذه
الظاهرة مصدر قلق لهم جعلتهم يبدؤون بها، حتى إذا ما انتصروا في معركتهم ضد
المرأة بمصر سهل بعدئذٍ سقوط حصونها وقلاعها في سائر بلاد المسلمين.
احفظوها؛ إنَّ مصر إنْ تَضِعْ ضاع في الدنيا تراث المسلمين
وبين يديك أخي القارئ بعض نتائج حركة تحرير المرأة وحصادها [1]
بمصر باعتبارها أول حركة تحرير في العالم الإسلامي قامت على إثْر حركات
التحرير في الغرب، وإنما وقع الاختيار على هذه الحركة لأسباب أهمها:
1- عامل السبق الزماني وطول الفترة الزمنية لفصول حركة التحرير
بمصر؛ حيث استغرقت مائة وواحداً وثلاثين عاماً من حين عودة رفاعة الطهطاوي من باريس عام 1831م وهو الذي بذر البذرة الأولى إلى صدور الميثاق الوطني عام 1962 في عهد جمال عبد الناصر، وقد احتوى هذا الميثاق على أكبر ما يعدونه تتويجاً للمرأة، ونص على أنه لا بد أن تتساوى بالرجل، ولا بد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة [2] .
2- اكتمال تجربة حركة التحرير بمصر ونضجها؛ حيث كانت الوسائل فعّالة
والتركيز عنيفاً.
3- توافر أسباب التدوين وكثرة المراجع والمصادر التي تحدثت عن هذه
الحركة من النشأة إلى النهاية.
وفي هذا المقال أسلط الضوء على أهم ما حصدوه من المكاسب وما حققوه من
المطامع، وفق الأهداف التي رسموها مقتصراً على تعدادها، دون العناية بتحليلها
ونقدها من منظور شرعي؛ فعندما يكون الخير صرفاً، أو يكون الشر واضحاً لا
يكاد يختلف الناس في تحديد مواقفهم، وأحسب أن القارئ الكريم لن يجد عناءاً في
التحليل والربط بين حصاد حركة تحرير المرأة بمصر الذي سنذكره إن شاء الله
وبين نتائج ما تبعها من الحركات وحذا حذوها في مختلف أصقاع عالمنا الإسلامي.
وما ألصقَ مقولةَ الفاروق عمر بما نحن فيه لمَّا كتب لأبي موسى الأشعري رضي
الله عنهما: (اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور) .
هل حصاد الحركة نتائج متقدمة أم متأخرة في طريق إصلاح المرأة المسلمة؟
ليس ثمة شك في أن حركة تحرير المرأة بمصر قد نجحت نجاحاً باهراً في
ضوء الأهداف المتوخاة منها، بل حققت هذه الدعوة المضللة أعظم ما كانت تهدف
إليه في مدة وجيزة، وبسهولة غير متوقعة؛ نظراً لسياسة تكسير الموجة، واتباع
سياسة (بطيء ولكنه أكيد المفعول) وتفادي التصادم المباشر مع الإسلاميين الذين
يمثلون الغالبية العظمى في المجتمع المصري، واستدراج بعض المشايخ المعمَّمين
والعلماء ليكونوا في بداية الزحف ... إلخ وسائلهم وخططهم [3] .
وليس غريباً أن ننظر نحن الإسلاميين إلى هذه النتائج على أنها حقوق سُلِبَتْها
المرأة، ووسائل شقاءٍ جُرّت إليها [4] .
بينما يراها السفوريون التحرريون نتائج متقدمة في طريق الإصلاح،
وتعزيزاً للدفاع عن حقوق المرأة، بل إن اتساع امتياز النساء من أهم الأبعاد
الحضارية التي يمكن أن تقاس وتصنَّف المجتمعات والشعوب من خلاله، كما ذكر
ذلك الكاتب الفرنسي روجيه جارودي في كتابه: (تتم التطورات الاجتماعية
وتبدلات الزمن وفقاً لتقدم النساء نحو الحرية. إن اتساع امتيازات النساء يشكل
الأساس العام لجميع التطورات الاجتماعية) [5] .
ويمكن أن نلخص نتائج هذه الحركة في النقاط الآتية:
أولاً: إيجاد القابلية وتهيئة الجو أمام الغزو الثقافي الغربي. ونقصد بالغزو
الفكري والثقافي: (الاستلاب الحضاري، وأشكال التفسخ الأخلاقي، مع التهاون
بالواجبات والرقة في الدين، فأوجدت جهود دعوة تحرير المرأة عبر منابرها
الإعلامية ووسائلها الفعالة التي طالت الريف المصري وهو يشكل معظم
مصر [6] ، أوجدت لدى الناس شروط الهزيمة والانكسار، مع تغيب دور الإسلام الفاعل وتجريد تيار دعاة الفضيلة والحجاب من الإمكانات فاخترق الفكر الأجنبي والعدوّ الحاقد الصفوف، ليفتك كيف شاء، دون وجود مقاومة وحصانة قوية تذكر، وفعلت جهود أكثر من مائة عام فعلها في الناس (فالمسألة لم تكن قاصرة على تحرير المرأة كما يتوهم المتوهمون، وإنما كانت إرادة التغيير الجذري والشمولي باقتلاع المجتمع من جذوره) [7] .
ثانياً: قبول المجتمع وإذعانه للتعليم المختلط، وقد كان السَّبْقُ في ذلك على
يد مَن يسمُّونه: أستاذ الجيل! ! (لطفي السيد) ، فهو أول من أدخل الطالبات في
قسم الطلاب سافرات الوجوه ولأول مرة في تاريخ الجامعة المصرية يسانده في ذلك
طه حسين وكامل مرسي، وتحت الضغط الخارجي رضيت وزارة المعارف بالأمر
الواقع واعتبار هذا من حقوق الفتيات [8] .
قالت التحررية درية شفيق [9] : (في سنة 1932م ظهرت صورة للدكتور
طه حسين بك في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوساً
يتساءلون ويتناولون الشاي، وقامت القيامة لهذه الصورة البريئة التي تضرب المثل
للأبوة في وجود العميد والإخوة في جلسة الطلبة والطالبات، واتُّخذت الصورة تكأةً
يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و (لطفي السيد) ، ووقف الرجعيون في
مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها وفكرة تعليم البنات فيها، ويرون ذلك
فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة) [10] [11] .
ثالثاً: إخضاع الثوابت من الدين والمسلَّمات من الأحكام الشرعية لاجتهاد
العلماء وتناول الباحثين ومناقشة الجاهلين والمبطلين، فاستغلها السفوريون
وميَّعوها، ولبّسوا على العامة والدهماء وجه الحق فيها.
فالأمر الرباني بغضّ البصر عن العورات، وهو أمر من الواجبات الشرعية
والعدالة والنزاهة، هذا الأمر صوَّروه بأنه عدم ثقة في النفس، ومن مخلّفات
القرون الوسطى المظلمة التي كانت تنظر إلى المرأة على أنها دون الرجل فتخفي
بصرها! ! [12] .
وقوامة الأب والزوج التي اشترطها الشرع لصحة بعض عقود المرأة
وتصرفاتها اعتبروها ممارسات تعكس اضطهاد المرأة وظلمها، وتجسِّدُ ارتهانها
لأبيها وأخيها أو زوجها، وهي ظاهرة استغلال الجهات الأقوى اقتصادياً لامتلاك
يمين المرأة، وإخضاعها لعملية القهر التاريخية [13] [14] .
وقاعدة قرار المرأة في بيتها وأنها الأصل نوزعت، وجُعِل الأصل هو العمل
دون شروط أو قيود أو ضوابط [15] .
وسفرها دون محرم لبلاد الكفر ألبسوه لباس الابتعاث وطلب العلم والدراسة،
وصار من المفاخر الاجتماعية وسمات الأسر المتحضرة والطبقات الراقية.
وإبداء الزينة للرجال الأجانب الذي هو كسابقه محرّم ومعصية صار عند دعاة
التحرر من تمام الرشاقة والجاذبية لفتى الأحلام وشريك المستقبل! ! [16] .
ووجوب نسبة الابن لأبيه وحرمة انتسابه لغيره لم تعد موافقة لروح التقدم
والفرنجة، فغيَّرن أسماءهن وانتسبن لأزواجهن فصرن: هدى شعراوي بدلاً من
هدى بنت محمد سلطان باشا، وصفية زغلول بدلاً من صفية محمد فهمي ... إلخ.
أما البيت فهو السجن ودكتاتورية الرجل، وشل للمجتمع عن الحركة، وأما
الحجاب فهو كفن من اختراع المتشددات المتطرفات وعادات القرون البدائية، ثم
تأتي (سيزا نبراوي) سكرتيرة هدى شعراوي، فتتزوج من الفنان مصطفى نجيب،
بشرط نقل العصمة إليها، وكتب لها المأذون بذلك في العقد، ونُشِرَ للناس [17] .
رابعاً: تسخرُ بعض العلماء (المعممين أدعياء العلم) واستخدامهم لصالح
حركتهم الضالة، واصطياد الأدلة لباطلهم، وليُّ أعناق النصوص لإضفاء الصبغة
الشرعية والتأصيل الفقهي على أفكارهم.
فالشيخ محمد عبده الذي ثبت أنه كتب فصولاً من كتاب قاسم أمين (تحرير
المرأة) ، هو الذي خذل أهل الإسلام يوم أن قاموا بموجة عارمة من المعارضة ضد
القضايا التي أثارها كتاب قاسم أمين، وطلبوا منه فتوى في الكتابين (تحرير المرأة)
و (المرأة الجديدة) ، ولكن الأستاذ ظل ملازماً للصمت إزاء هذه القضية التي
كانت شغل الناس والعامة آنذاك فضلاً عن العلماء والخطباء والفقهاء والدعاة، فكان
لامتناعه أعظم الأثر في تمرير أفكار قاسم أمين، مما جعل بعض علماء عصره
يرميه بالاتهامات لتواطئه مع دعاة الإباحية والفجور، وما أوضح مواقف أستاذه
جمال الدين الأفغاني الذي كان له أعظم الأثر والدور في إخراج الدين من المعركة
تحت دعوى أن الحجاب تقاليد قديمة ضد تقاليد حديثة عصرية تقدمية! حتى قال:
(وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يُتخذ مطيةً للفجور) [18] .
ومن مكاسبهم استخدامهم لشيخ الأزهر حسن العطار الذي شجع رفاعة وبارك
فكرته، وكذلك كسبهم للشيخ علي عبد الرازق، والشيخ سليم البشري شيخ الأزهر
الذي أيّد قانون الأحوال الشخصية الوضعي عام 1319هـ، حتى إن رفاعة
الطهطاوي مفتي البعثة المصرية إلى فرنسا كان يقول: (إن مراقصة النساء للرجال
نظير المصارعة في موازنة الأعضاء، وإنه نوع من الأناقة والفتوة لا
الفسق) [19] ! !
خامساً: الحصول على بعض القرارات الرسمية الوضعية التي أصدرتها
الحكومة المصرية وعممتها إرضاءاً للتحرريين ومنها:
1- تقييد عدد الطلاق ومنع وقوعه إلا بعد موافقة الحكومة.
2- منع تعدد الزوجات إلا في ظروف توافق عليها الحكومة.
3- تأخير سن زواج الفتاة إلى السادسة عشرة فما فوق.
4- المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
5- منح حق الطلاق للمرأة كالرجل.
6- إعطاء ما يسمونه الحق السياسي [20] للمرأة بدءاً بحق الانتخابات
ومروراً بعضوية المجالس البلدية والنيابية وكافة الأعمال والحرف كالرجل سواءاً
بسواء، وانتهاءاً بحق التمثيل النيابي [21] .
سادساً: حصول التحرريين على الاعتراف الدولي العالمي بالحركة؛ فأول
امرأة مصرية تحررية تعترف بها الحكومة لتمثيلها في المؤتمرات الدولية هي مَلَك
حفْني ناصف في حكومة رياض باشا عام 1911م.
ثم مثلت هدى شعراوي، ونبوية موسى، وسيزا نبراوي المرأة المصرية في
مؤتمر روما الدولي للمرأة عام 1932م والتقت سيزا نبراوي بالزعيم الهندي غاندي
عام 1931م في مصر [22] .
والتقت هدى شعراوي على هامش مؤتمر روما بالقائد الاستعماري موسوليني
ثلاث مرات وتبادلا العواطف والمشاعر الحارة، وكان مما صرح لها به قوله:
(إنني أراقب باهتمام حركات التحرير بمصر) [23] .
وفي عام 1935م التقت هدى شعراوي أيضاً بالزعيم الروحي للتحرريين
أتاتورك، كما استضافت الحركة الدكتورة (ريد) رئيسة الاتحاد النسائي العالمي التي
مهدت للمؤتمر العربي الدولي للمرأة عام 1944م، وأقيم على شرفها وسط
استنكارات الشعوب العربية واحتجاج العلماء، وأرسلت زوجة الرئيس الأمريكي
روزفلت رسالة تبارك فيها المؤتمر [24] .
سابعاً: حصول بعض أعضاء الحركة على مناصب حسّاسة في المجتمع
المصري رغم مهاجمة المجتمع لهم.
فقاسم أمين ترقى في مناصب المحاكم حتى صار مستشاراً في محكمة
الاستئناف وظل بمنصبه حتى مات بالسكتة القلبية في ليلة 23 إبريل عام 1908م.
سعد زغلول 1273-1346هـ ظل بعد تخرجه من الأزهر في المحاماة، وبعد اتصاله بحزب تركيا الفتاة لمع نجمه في صالون الأميرة نازلي فاضل، واشتهر حتى تعرف على اللورد كرومر، فأسند إليه نظارة وزارة المعارف في الحكومة المصرية في ظل الاحتلال.
هدى شعراوي أصبحت وكيلة الاتحاد النسائي الدولي بجهود حركات التحرير
الأوروبية والمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية [25] .
ومنذ نشأة الحركة وحتى اليوم ورئاسة الاتحاد النسائي المصري لا تخرج عن
تلميذات هذه الحركة [26] والزعيمة الحالية للاتحاد هي د. نوال سعداوي من
أنشط المنظرات للتحلل والسفور.
ثامناً: صبغ القضية بالصبغة القومية لكسب جميع العرب من مختلف الأديان
والملل، واستنفار طاقاتهم من الصليبيين الحاقدين أمثال: فهمي مرقص، وجرجي
زيدان، وسلامة موسى.
وبعدُ أخي القارئ فما أشبه الليلة بالبارحة! ففي كل عصر ومصر تطل من
جديد حركة تحرير المرأة مكرِّرة فصولها، وأدوارها، مع تغيير للافتات والأسماء
والوسائل، أما الأهداف والغايات والنتائج والمنطلقات فهي هي، ومن هنا كان لا
بد أن نقصد البحر وندع السواقي، ونعيد فتح ملف الحركة الأولى التي آتت أكلها
بعد مائة وثلاثين عاماً من العمل الدؤوب والتخطيط المدروس ... نعيد فتح ملفها
لنقرأه قراءة ناقدة باصرة تساعدنا في إبطال المؤامرة على المرأة المسلمة وحجابها،
ووأد الفكرة في مهدها، والذب عن الحدود والمحارم، ونفي تحريف الغالين،
وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين السفوريين [واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .
__________
(1) عقد الأستاذ محمد قطب فصلاً بعنوان: (هل للمرأة قضية أصلاً؟) في كتابه: (قضية تحرير المرأة) ، ص3، وانظر أبعاد الحركة النسوية للدكتور محمد يحيى، في مجلة البيان عدد 83، ص 102.
(2) المؤامرة على المرأة المسلمة تاريخ ووثائق، للدكتور السيد أحمد فرج، دار الوفاء مصر، الطبعة الثانية، 1407هـ، ص 116.
(3) عودة الحجاب، ج 2، ص 160، وسبل العفة وخطورة الانحراف وأسبابه، مريم خميس، الطبعة الأولى، دار الوفاء مصر، 1416هـ، ص 46، والمرأة وكيد الأعداء، د عبد الله وكيل الشيخ، دار الوطن، السعودية، الطبعة الأولى عام 1412هـ، ص 17.
(4) من المراجع وهي كثيرة والحمد لله التي حللت ونقدت هذه النتائج: - عودة الحجاب، محمد أحمد إسماعيل - قضية تحرير المرأة، للأستاذ محمد قطب - ماذا يريدون من المرأة، عبد السلام بسيوني - المرأة وكيد الأعداء، عبد الله بن وكيل الشيخ.
(5) في سبيل ارتقاء المرأة، ص 41.
(6) ذكرت (روز اليوسف) أم الكاتب إحسان عبد القدوس في مذكراتها خبر إرسالها من قِبَلِ المندوب البريطاني السامي للريف المصري واشترط في مدّها بمساعدات أن تعرض مسرحيتها في الريف من (قضية تحرير المرأة، ص 84) .
(7) المؤامرة على المرأة المسلمة، د السيد أحمد فرج، ص 72.
(8) عودة الحجاب، ج 2، ص 75.
(9) لمعرفة تزاحم رجال ونساء حركة التحرير، راجع موسوعة الندوة العالمية الميسرة، وحجاب المرأة بين انتحال المبطلين، د محمد البرازي.
(10) المصدر السابق، ص 187.
(11) انظر حول فكرة توحيد المناهج بين الجنسين، كتاب المرأة وكيد الأعداء، ص 32.
(12) قضة تحرير المرأة، ص 77.
(13) المرأة والحياة الاجتماعية، تغاريد ييضون، دار النهضة العربية، بيروت، 1405هـ، ص 27، 40.
(14) تقول أمينة السعيد: (القوامة لا مبرر لها، لأنها مبنية على المزايا التي كان الرجل يتمتع بها في الماضي، في مجال الثقافة والمال، وما دامت المرأة استطاعت اليوم أن تتساوى مع الرجل في كل المجالات فلا مبرر للقوامة) من عودة الحجاب، ص 142.
(15) حول عمل المرأة كتب إبراهيم النعمة بحثاً مفيداً في مجلة الحكمة، عدد 8 شوال 1416هـ، بعنوان (عمل المرأة بين الإسلام والغرب) .
(16) قضية تحرير المرأة، محمد قطب، ص 78 - 79.
(17) سبل العفَّة، ص 45.
(18) دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، مصطفى فوزي آل غزال، دار طيبة الرياض، الطبعة الأولى، 1403هـ، ص 270، وحجاب المرأة المسلمة للبرازي، ص450، وقد أسهب في مناقشة قضية اشتراك الشيخ محمد عبده في كتاب قاسم أمين.
(19) سبل العفة، ص 42، عودة الحجاب، ص 77، المؤامرة على المرأة المسلمة، ص 52.
(20) هذا المصطلح غربي له مقاصد تصادم شرع الله جملةً وتفصيلاً، راجع كتاب (المرأة والحقوق السياسية في الإسلام) ، مجيد محمود أبو حجير، مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ، فقد أجاد في كشف أبعاد حقيقة هذا المصطلح ومفاهيمه.
(21) المؤامرة على المرأة المسلمة، ص 99، 107، احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، د سعد الدين السيد صالح، دار الأرقم بمصر، الطبعة الثالثة، 1413هـ، ص 239، 252، قضية تحرير المرأة، ص 37، والمرأة والحياة الاجتماعية، ص 130.
(22) عودة الحجاب، ص 112، 117.
(23) المؤامرة على المرأة المسلمة، ص 84.
(24) الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار، محمد فهمي عبد الوهاب، دار الاعتصام، مصر، ص 23، 27.
(25) مدى علاقة الحركة بالمحافل الماسونية، انظر كتاب (تحديات أمام المرأة المسلمة) للأستاذ أحمد الحصين، ص 272، 290.
(26) عودة الحجاب، ص 38، الطبعة الخامسة، دار البخاري، السعودية.(149/70)
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
الإعلام وقضية المرأة
فاطمة بنت عبد الله البطاح
دأب الإعلام بوسائله المختلفة على تصوير المفاهيم الإسلامية الخاصة بالمرأة
تصويراً يحط من قدرها، وينتقص من صلاحيتها، ويشكك في قدرتها على
الاستجابة لمتطلبات الحياة العصرية، ويحقر من شأنها حتى في نظر أبنائها
المنتسبين إليها.. فضلاً عن أعدائها! !
وبداية فإن هذا الدأب المستمر يُفترض ألا يبدو أمراً مستغرباً في نظر المسلم
الذي يدرك ما تنطوي عليه صدور الأعداء من ضغائن وأحقاد [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] . [الصف: 8] .
كما يُفترض أمام هذه المحاولة أو الحملة الإعلامية المحمومة.. ألا يكون
موقع المسلم المعاصر منها هو موقع المشتكي المغلوب على أمره! بل لا بد أن
ينتقل بنفسه ورغم تحديات الواقع الرديء إلى موقع المشخِّص للداء، الباحث عن
رؤى عملية واقعية تواجه هذه الحملة وتتصدى لها.
ولأن تاريخ الإعلام في هذا المجال ممتد ومتشعب ولا يسعنا استعراضه كله
أو الإفاضة فيه، فسنكتفي بالتذكير بأن الإعلام قد سلك مسالك كثيرة ومتنوعة تصب
كلها في النهاية في قالب واحد وهو أن المرأة المسلمة مهضومة الحقوق مهيضة
الجناح!
ليتظاهر الإعلام بكل قنواته بالدفاع عنها والبحث عن حقوقها.. وإثارة قضايا
مفتعلة كضرورة تحريرها من القيود ومساواتها بالرجال! ! بالإضافة إلى إلقاء
شبهات حول أحكام إسلامية معينة تُزرع في حس المرأة لتراها عبئاً ثقيلاً تتمنى
الخلاص منه!
ففي تعليم المرأة وعملها:
اضطلع الإعلام بدوره في بناء مفهوم خاطئ عن قرار المرأة في بيتها؛ إذ
جُعِلَ هذا القرار مُبعِداً لها عن دائرة القوى العاملة أو الكوادر المنتجة! !
فالمرأة المتفرغة لشؤون بيتها والحدب على أطفالها رعايةً وتعليماً بكل ما
يمثله هذا الدور المنزلي من حضور ديناميكي فاعل ومؤثر.. لا يُعترف به
إعلامياً!
وهذا يضع اليد على إشكالية الأولويات التي يفترض أن تحدد:
ما هو دور المرأة الأهم؟ وهل هناك مجال مقارنة للعائد الاجتماعي الذي
يحصده المجتمع من تأدية المرأة دوراً رئيساً في بيتها، والعائد الاجتماعي من أدوار
أخرى ثانوية وهامشية تمارسها المرأة خارج بيتها: مضيفة طيران، أو سكرتيرة؟
وثمة إشكالية أخرى:
تتمثل هذه الإشكالية في النظرة السائدة لعمل المرأة على أنه يكون خارج
منزلها لا داخله!
وهذا الاعتقاد قد يكون منشؤه (تضخم النموذج الغربي) في العقلية العربية في
ظل تقليد الضعيف للقوي والتبعية المطلقة له.
ومثلما صوَّر الإعلام قرار المرأة في بيتها بأنه أداة تعطيل لطاقات المرأة
وعزل لها عن المجتمع والفعل الاجتماعي كله.. دعا أيضاً إلى ضرورة التعليم
المطلق للمرأة ومنحها فرص التعليم حتى في مجالات لا تتناسب مع طبيعتها
الأنثوية! ومن ثَمَّ إيجاد سيل هائل من الخريجات اللاتي يطالبن بفرص عمل! !
وأُظهرت هذه الدعوة من خلال الإعلام على أنها الحل الأمثل للقضاء على
الأمية النسوية التي تحرم المرأة من فرص الالتقاء بالسياق الاجتماعي الطبيعي
المناسب لها، والذي لن تصل إليه إلا بما يمنحه لها (التعليم بكل ألوانه وتخصصاته
وفنونه) من كفاءة وثقة وأهلية لتكوين رأيها الذاتي المستقل عن الرجل وعن قيود
قوامته!
ولا يخفى أن روح الاستقلال قد حرص الإسلام على إنمائها في شخصية
المرأة دونما حاجة لإلغاء حكم القرار في بيتها أو دعوة المرأة للانسحاب من أدوارها
المنزلية الرئيسة، ودونما حاجة أيضاً لتعليمها علوماً لا تتناسب مع طبيعتها
الأنثوية!
فالخطاب القرآني نادى المرأة على أنها كائن له حريته واستقلاله؛ إذ منحها
مثلاً حرية الدخول في الإسلام دون اشتراط رضا ذويها!
بل وقَبِلَ النبيُّ بأمر من ربه مبايعة المرأة له على اعتبار أنها كائن مستقل ...
عن الرجل وليست ملحقاً له: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الممتحنة: 12] .
ولو تأملت في حقيقة مطالبة الإعلام بمنح المرأة فرص التعليم بأنواعه أو ما
يسمى بحركة التنوير فستجد أن النساء الرائدات اللاتي أبرزهنّ الإعلام ورفع راية
المطالبة بحقهنّ في التعليم.. يعانين من تخلُّف وجهل شديدين حتى بعموميات
الإسلام ومجمل أحكامه!
وكأن دائرة التعليم تضيق عن أحكام الدين في الوقت الذي تتسع عند نزعة
العُري والرغبة في الاسترجال والتخلص من معالم الأنوثة والفطرة! والانسياق
الغبي وراء قيم ومفاهيم المرأة الغربية بكل ما فيها من انحرافات ومفاسد وأوبئة! !
مما حرم هؤلاء النسوة من العلم الشامل والتحرر الحقيقي، وأوقعهنّ وبشكل أسوأ
في جهل ورِقٍّ مختلفين! !
فالحجاب مثلاً أغفل الإعلامُ الجانبَ النصيَّ (الشرعي) منه، وصوَّره على أنه
عادة شعبية يتوارثها الأجيال فيؤكدون بذلك دونيتها، ورغبة المجتمع الذي تعيش
فيه في عزلها عنه نفسياً وجسدياً! وهو بذلك معضلة حقيقية تقف عائقاً في طريق
هذه المرأة نحو النهوض والتعلُّم والارتقاء، ونحوه!
ولم يقف دور الإعلام عند تصوير الحجاب بهذه الصورة الخلفية الرجعية!
وإنما تعدى ذلك إلى إيذاء المحجبات تصريحاً أو تلميحاً!
ففي الوقت الذي يدندن الإعلام حول إعطاء المرأة حريتها المسلوبة تتلون هذه
الدندنة وتصبح هجمة شرسة يمارسها الإعلام ضد كثير من المحجبات؛ كما هو
الحال مع فئة التائبات اللاتي أعطى الإعلام نفسه حق التحدث حتى عن نواياهن
وما تنطوي عليه قلوبهنّ! كما تولى كبر الهجوم على الحجاب بتأييده ومناصرته
لبعض الحكومات التي منعت المحجبات من دخول الجامعات ودور العلم ليمارسن
حقهنّ المشروع في الحياة!
أما التعدد: فليس بوسعنا تجاهل طرح الإعلام له بصورة متشنجة وعدائية
تزرع في حس المرأة شعوراً بأن التعدد حكمٌ شُرع عليها لا لها؛ وذلك بعرضه
المستمر للمشاكل والآثار الاجتماعية السيئة للتعدد بدءاً بكمٍّ هائل من قصص النزاع
بين الزوجات وضرائرهنّ وأزواجهنّ، وانتهاءاً بحالات التيه والضياع التي
يتعرض لها أبناء الأزواج المعدِّدين والذين ينشؤون بين عواصف مهيبة من الشقاء
العائلي!
وهذا كله لم يكن الهدف الإعلامي منه هو احتواء المشكلة وإيجاد حلول لها
وإنما الهدف كما يظهر إقصاء الحكم الشرعي كله وإظهار عدم تناسبه وتواؤمه مع
روح العصر ومعطياته! !
وإلا فإن الإيمان بما للتعدد من آثار اجتماعية سيئة قد تنتج عنه في حالات
وظروف معينة لا يجعلنا نلقي بلائمة على الحكم ذاته، وإنما ثمة أسباب حقيقية منها: فساد أخلاق المرء، وضعف دينه، وتجاوزه وعدم انضباطه بالآداب الإسلامية
المشروعة التي تُلزِم الشخص المعدِّد بضوابط وحدود معينة تتواءم مع الحركة
الطبيعية لبنية المجتمع الذي يعيش فيه. وهذا الشخص المعدِّد لم يكن الإعلام منصفاً
في تشكيل ملامح صورته؛ إذ أظهره على أنه شخص مغرِق بنزوات ورغبات
جنسية ملحة.
بينما يمارس الإعلام تجميل حالة أولئك الذين يتبعون رغباتهم بطرق حيوانية
وتحسينها؛ على الرغم من أن نتيجتها غالباً ما تكون جملة من انحرافات ورذائل
وجمهوراً من أطفال غير شرعيين!
الآثار الملموسة لإفساد المرأة ظاهراً وباطناً بفعل الإعلام الموجَّه: ... ...
لا شك أن وسائل الإعلام المختلفة بكل ما تمثله من هيمنة وسيطرة وانتشار قد
تركت آثاراً سيئة وبالغة الخطورة على شخصية المرأة المسلمة المعاصرة!
وهذه الآثار تبدو بدرجات متفاوتة كمّاً ونوعاً؛ إذ تختلف من مجتمع لآخر
ومن امرأة لأخرى. كما أن أساليب الإعلام في التأثير والتوجيه مختلفة ومتنوعة؛
إذ قد يكون قصير المدى يظهر نتاجه مباشرة. وقد يحدث التأثير في ظل عملية
تراكمية تحتاج فترة زمنية ممتدة وطويلة ليتم التغيير الكامل في المواقف والمعتقدات
والقناعات.
ولذلك فقد يطول بنا المقام لو أردنا عرض كل نماذج آثار الإعلام في إفساد
المرأة المسلمة؛ لكننا سنكتفي بذكر بعضها اختصاراً:
أولاً: ولعله أبرزها وضوحاً وأشدها خطراً وهو فقدان المرأة المسلمة لهويتها
الإسلامية وتميز شخصيتها وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها وتراثها! وهذا
نتيجة حتمية للظاهرة المرضية المتمثلة في التقليد والتبعية (للآخر) !
فالصحافة النسائية أو البرامج المرئية الموجهة للمرأة المسلمة في أهدافها
وطبيعة مضامينها لا تعكس قيم المجتمع المسلم الذي تظهر فيه وتروَّج؛ بل تكرس
نموذج المرأة الغربية وتظهره بصورة ترسخ في الأذهان على أنه هو النموذج
القدوة! !
وهذا التكريس كان سبباً طبيعياً ومباشراً لضمور الفارق في الاهتمامات
والممارسات بين المرأة المسلمة المعاصرة في بعض البلدان الإسلامية وواقع المرأة
الغربية!
ثانياً: الفراغ الفكري والإغراق في الهامشية الذي تعاني منه المرأة المسلمة
المعاصرة:
ومع أنه يُفترض أن يكون للإعلام النسائي مهمة بنائية وتربوية تهدف إلى
الارتقاء بفكر المرأة نحو آفاق أشمل وأبعد؛ بحيث يكون دوره معها حلقة مستمرة
من التعليم والتربية والتثقيف.
إلا أن واقع الإعلام الموجَّه للمرأة يؤكد أنه قد مارس تهميش فكرها وتعامل
معها على أنها جسد وحسب!
فطغيان البرامج الترفيهية التافهة وإشغال جزء من ساعات البث، وصفحات
الصحف بالغث من الموضوعات التي تحصر اهتمامات المرأة بدائرة ضيقة تنطلق
بالاهتمام بالشكل وتنتهي إليه! بدءاً بالموضة والأزياء، الإكسسوار، وبرامج
التخسيس وعمليات التجميل! وانتهاءاً بكيفية استغلال المرأة إمكاناتها الشكلية
(المظهرية) للفت انتباه (الآخر) !
وحقيقة فإن طغيان مثل هذه المواد واحتلالها مساحة كبيرة من البث الإعلامي
يعكس نظرة الإعلام للمرأة؛ إذ يراها وجهاً وجسداً جميلين مع إلغاءٍ وإماتةٍ مستهدفة
لروح العقل والفكر والفهم!
وهذا كله جعل المرأة نفسها تعيش خواءاً فكرياً وفراغاً روحياً وخلطاً عجيباً
بين الغايات والوسائل! واختلالاً ظاهراً وعدم توازن في النظرة لكثير من الأمور؛
ففي الوقت الذي يتبلور المفهوم الإسلامي المعتدل للجمال على أنه وسيلة تأخذ منه
المرأة قدراً معيناً تُحقق به أنوثتها يزرع الإعلام في حس المرأة أن (الجمال
المظهري) غاية تستحق أن تبدد المرأة جهدها ووقتها ومالها بل وربما تعيش
لأجله! !
وبهذه الهمة الدنيوية والاهتمامات السطحية التي أصبحت تشغل المرأة
وتسيطر على تفكيرها أخرج الإعلام المرأة وحرمها المشاركة الفعلية التي ينادي
بها.
دور الإعلام الإسلامي في التصدي للهجمة:
لعل ما ذكر سلفاً يوقفنا وجهاً لوجه أمام القضية الأهم التي اقتضت هذا التناول
المتواضع وهي دور الإعلام الإسلامي للتصدي للهجمة الإعلامية تجاه المرأة
المسلمة.
وبداية فإن ثمة حقيقة يُفترض أن نعترف بها ونعتني بجوانبها وهي افتقار
الصحوة الإسلامية ذات الرصيد الجماهيري الكبير إلى الإعلام الشامل والفاعل.
وهذه الحقيقة (المرة) ستظل معضلة حقيقية نعاني منها حتى إيجاد الإعلام الإسلامي
القادر على المنافسة!
ونحسب أن هذا الإيجاد لن يكون إلا إذا تنامى الوعي الجماعي بأهمية الإعلام
في حياتنا وبمسيس حاجتنا إليه، وإذا تخلص أبناء الصحوة من سيطرة العقلية
النكوصية المتشوقة للماضي والتي تحفز لدى أصحابها أحاسيس العزلة والانسحاب
والخوف من الجديد سواء كان رأياً أو ثقافة أو مشروعاً حضارياً!
فالواقع أن المسلم المعاصر ليس راضياً عن الأوضاع القائمة في الإعلام
المعاصر ويرفض كل الاتجاهات والقيم والأسس السائدة المنبثقة منه.
وتنحصر رؤيته تجاه الإعلام بأنه عدو آخر يجب بغضه والحذر منه وإدارة
الظهر له وحسب! ! دون محاولة إيجاد بدائل «مسموعة، مرئية، مقروءة»
واتخاذها خطوة أولى في طريق الحل الطويل!
فالخطوة وإن كانت متأخرة عن مسيرة الإعلام (الآخر) وضئيلة مقارنة بحجم
قدراته وآلياته إلا أنها ستزرع الأمل بنقلة نوعية تتجاوز فيها ردة الفعل إلى الفعل
نفسه، وتتخطى الندب والتشاكي إلى العمل الجاد.
فقد مضى على الصحوة زمن طويل مارست فيه التحذير من جملة المجلات
والصحف والبرامج المرئية الموجهة للمرأة وذكر قائمة طويلة من مضارها
ومخاطرها، وتقديم حل إسلامي جاهز للعرض وهو مقاطعتها وإغلاق الأبواب
دونها وحسب!
بمعنى أن موقفها الإعلامي بدأ بالرفض وانتهى إليه.. وهو الموقف الأسهل
دائماً!
وكان يفترض أن يثمر هذا الموقف على الأقل عن أوراق عمل ودراسات
ومشاريع إعلامية مستقبلية مقترحة تساهم في إزالة الرهبة من خوض التجربة
الإعلامية لدى الإسلاميين وتشعرهم بأن هذا الكم الهائل والاهتمام الكبير بالمرأة
المعاصرة من قِبَل الإعلام (الآخر) والذي يغمرنا بقوالب متنوعة ما بين برامج
مرئية وصحف ومجلات متخصصة إنما هو تحكُّم في مستقبل هذه المرأة، وتشكيل
لفكرها وعقليتها، وصياغة جديدة لممارساتها واهتماماتها على غير ما نريد! !
ومن ثَمَّ فإن المقاطعة ستبقى حلاً مؤقتاً لو ناسب مرحلة زمنية معنية افتراضاً
فلن يُناسب المراحل التي ستليها يقيناً.
فالاختراق الثقافي الذي تتسع دائرته يوماً بعد آخر سيتيح للجيل إلغاء الحدود
والسدود وعنصري الزمان والمكان ثم امتلاك القدرة للوصول إلى جميع أنحاء
العالم؛ وربما يكون ذلك بطريقة أقل تكلفة وأسهل استعمالاً من الضغط على
الريموت! ! لذا فليس من الواقع المنطقي والعملي ونحن أمام ثورة تقنية ضخمة لوسائل الاتصال أن نربي الجماهير على المقاطعة والانعزال ونحرمها من التكيف الإيجابي بإيجاد البديل الهادف الذي يحفظ خصوصيتنا العقائدية والثقافية، وفي الوقت ذاته يكون عوضاً لنا عن مرارة الشكوى وسلبية الانعزال.
وثمة ملامح أولية لهذا التكيف أوجزها فيما يلي:
1- ضرورة توعية الأمة بأهمية الإعلام، والتذكير بأننا أمة قام تاريخها
المجيد من خلال وسائل إعلام إما مقروءة مثلها الكتاب، أو مسموعة من محاريب
يرتفع صوتها بالقرآن ثلاث مرات يومياً، ومن منابر ارتفع منها صوت الخير
والنصر والإرشاد منذ مرحلة التأسيس وإلى قيام الساعة.
2- أهمية الاحتفاء بالبحوث والدراسات والممارسات الإعلامية على
اختلاف هويتها وتوجهاتها ومحاولة استيعابها والإفادة منها، مع تحريض النخب من
الإسلاميين من ذوي الخبرة المهنية والميدانية لتقديم رؤاهم ومعالجاتهم للاتكاء عليها
في بداية التجربة؛ فقد تلفت النظر لمسارات واتجاهات إعلامية غائبة نحن بحاجة
إليها.
3 - صناعة البدائل الإسلامية في مجال الإعلام بمختلف فنونه وضروبه
وألوانه؛ على أن تكون هذه البدائل ملتزمة بالرؤية الإسلامية ومؤطَّرة بالمرجعية
الشرعية، مع تذكير المتلقي المعاصر إلى أن صياغة هذه البدائل صياغة إسلامية
إنما هو صورة من صور التحدي الحضاري الذي يواجه الأمة في الحاضر
والمستقبل، ويتطلب من أبنائها مزيداً من سعة الأفق والمرونة والإنصاف والتخلص
من الأحكام الجاهزة (ومبدأ: إما صفر أو مائة بالمائة) ! ! إذ إن وجود خلل أو خطأ
أو تجاوز هو من طبيعة العملية الإعلامية ولا شك.
4 - الرؤية الشاملة للإعلام الإسلامي المنتظر وعدم حصره بالإعلام الديني
البحت؛ حيث لا يُنتظر منه التركيز على إيضاح الجانب العبادي، كما هو الحال
مع نتاج الصحافة الإسلامية الذي يغلب عليها ما يتعلق بالعبادات، وكما هو الحال
أيضاً مع البرامج المرئية الدينية التي لا يعدو نتاجها عن فتاوى وأحكام وتوجيهات
وعظية مباشرة وتلاوات قرآنية مكررة.
5 - الإلمام بالواقع الذي ينبثق منه الخطاب الإعلامي الإسلامي ويوجه إليه؛
بحيث يستند في مضامينه إلى تصور موضوعي لواقع متلقيه والمستفيدين منه
واحتياجاتهم الحقيقية؛ ففي قضية المرأة مثلاً: لا بد أن نحدد أولاً من هي المرأة
التي نتحدث إليها؟ واستيعاب كامل مراحلها العمرية واهتماماتها وقابليتها، ومن
ثَمَّ: ماذا نُريد منها؟ وماذا نُريد لها؟
بمعنى أن يكون لإعلامنا مع المرأة المسلمة هدف رئيس ينشد تحقيقه؛ بحيث
لا يكون جل نتاجه ردود أفعال لأطروحات الآخر أو تفنيداً لآرائه وهجماته
وحسب؛ فالأصل تقديم مادة ذات مهمة وقائية بنائية معاً؛ بحيث تبني شخصية المرأة المتلقية المتزنة والمستقلة القادرة فيما بعد على تفنيد ما تسمعه أو تراه أو تقرؤه!
وبعد: فهذه الكتابة لا تعدو عن كونها ومضات أمل بأن ترفع الأمة راية
جهادها الإعلامي فتخوض معركة الكلمة والمعتقد في زمن تجوبه الأقمار
الصناعية، وتسود فيه الذبذبات الإذاعية ليل نهار.(149/76)
ماذا يريدون من المرأة..؟
الحجاب الإسلامي بين المد والجزر
أحمد فهمي
كانت عودة الحجاب ملمحاً أساساً من ملامح الصحوة الإسلامية في مرحلتها
المعاصرة التي تبدأ من سبعينيات القرن العشرين، وأصبح الحجاب رمزاً من رموز
الصحوة وشعاراً من شعاراتها.
والآن وبعد ما يقرب من ثلاثين عاماً، تنوعت وتعددت فيها أشكال المواجهة
وميادينها بين الصحوة وأعدائها لا تزال راية الحجاب ترفرف في ساحة المعركة،
ولكن على نحوٍ يختلف كثيراً عما كانت عليه في السبعينيات في أكثر المجتمعات
الإسلامية؛ وهذا الاختلاف في مسألة الحجاب هو ما نحن بصدد توصيفه وتقويمه
في هذه الصفحات.
ولأن الواقع لا يعطي معانيه ولا يكشف أسراره إلا بإضافته إلى ما قبله من
الزمن، فلا بد من إضافة بُعدٍ تاريخي يسير بقدر ما يكشف لنا الدورة الكاملة لنشوء
الحجاب وتراجعه.
الأبعاد التاريخية لمعركة الحجاب والسفور في المجتمعات الإسلامية:
يروق للمحللين والعلمانيين المحليين كلما طرحت قضية الحجاب أن يُغرِقوا
في التساؤل عن الدوافع والأسباب وراء انتشار هذه الفريضة المتزايدة منذ
السبعينيات، وهذا تساؤل معكوس حقيقة، لا بد معه من إضافة البعد التاريخي حتى
نرى الأشياء في سياقها الحقيقي، فيصبح التساؤل الصحيح عن الدوافع والأسباب
الكامنة وراء تخلي المرأة المسلمة عن حجابها؛ فانحرافٌ فرعيٌّ في التاريخ لا
يتجاوز سبعين أو ثمانين عاماً (متوسط عمر رجل واحد) ، لا يمكن بحال أن يقضي
على أصلٍ متجذِّر منذ ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان كشجرة ضخمة
فرعها ثابت، وأصلها في السماء.
ومن الشواهد العجيبة على هذا الانتقال التعسفي التاريخي من الحجاب إلى
السفور أن بعض رواده الكبار (الأصاغر) يشعر المتأمل في سيرة أحدهم كأنه يقرأ
عن شخصين، الأول: يرفع راية الحجاب ويدافع عنه، والثاني: يعادي الحجاب
ويرفع راية السفور، ونذكر مثالين على ذلك: الأول من مصر، والثاني من
تونس.
ففي مصر: كان أول كُتُبِ قاسمِ أمين: " المصريون " دفاعاً حماسياً عن
فضائل الإسلام على المرأة المصرية، ورفعاً من شأن الحجاب، ثم لما تمت إعادة
برمجته على أيدي رواد صالون نازلي، أصدر كتابيه: " تحرير المرأة "، " المرأة
الجديدة "، وجعل من نفسه الداعي الأول لفتنة التبرج بين المسلمين.
وفي تونس: سنة 1929م وقف شاب عمره يومذاك 26 سنة في إحدى
الندوات يرد على امرأة سافرة تدعو إلى تحرير المرأة، فقال: " الحجاب يصنع
شخصيتنا، وبالنسبة لخلعه: جوابي هو الرفض، وارتفع الضجيج في القاعة،
وانتقل الجدال إلى الصحف، وتابع الشاب الدفاع عن الحجاب بنشر مقالات في
صحيفة تونسية فرنسية، ولم يكن هذا الشاب سوى المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة
نفسه الذي قام في اليوم التالي للاستقلال بسحب غطاء الرأس عن النساء
التونسيات " [1] .
وسار كثيرون في أنحاء العالم الإسلامي على نهج قاسم أمين فأصدروا كتبهم
المسمومة، مثل كتاب: " امرأتان في الشريعة والمجتمع " للطاهر الحداد في تونس
سنة 0391م، و " السفور والحجاب " لنظيرة زين الدين في سوريا في
العشرينيات.
واستمرت جهود المثقفين والمفكرين المتبنين للمنهج التغريبي طيلة الحقبة
الاستعمارية في الترويج للتبرج حتى أصبح واقعاً مفروضاً إلى جوار الحجاب،
ولما أن أتى عهد الاستقلال وتولى القوميون زمام الأمور عملوا ما عجز عنه
الاستعمار، وعمدوا إلى القضاء على البقية الباقية من الحجاب في بلادهم.
يقول صحفي ألماني واصفاً فترة إقامته في مصر من 1956 1961م: "
ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عاماً فقط كانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب،
أما اليوم فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب " [2] .
وفي سوريا مزق رجال " البعث " الحجاب في شوارع دمشق، ومنعوا
المحجبات من دخول المدارس بحجابهن [3] .
وفي الجزائر دعا " بن بيلا " الجزائريات إلى خلع حجابهن، وقال: إنني
أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر! [4] ، فخرجت العذارى
المحاربات من بيوتهن، ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن
الإسلام [5] .
وحقق العهد الاستقلالي في المغرب ما لم يستطعه الاستعمار في عشرات
السنين [6] .
أما المجاهد بورقيبة فبزَّ أقرانه في حرب الحجاب، وأصدر مرسومه الشهير
(108) بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية للدولة، ودعا التونسيات ألا يُشْعِرْنَ
السياح الأجانب بالغربة في بلادهن [7] ، ولا يزال الحجاب محارباً بشدة حتى الآن
في تونس، ولكن ما أن بدأ تهافت الفكر القومي مع هزيمة يونيو 1967م، حتى
عاد الحجاب يتربع على عرشه المسلوب من جديد، وما أصدق القائل: " إن
الحجاب لم يكن ثمرة النكسة بقدر ما كانت النكسة ثمرة التخلي عن الحجاب كمظهر
من مظاهر التخلي عن الإسلام " [8] .
ولو شئنا دراسة تطورات الحجاب منذ بدء عودته في السبعينيات وحتى
الآن، فلا بد من انتقاء بلد يصبح نموذجاً معبراً عن أحداث هذه الفترة، ولا نجد أفضل من النموذج المصري في التعبير عنها؛ فهو نموذج ثري بتطوراته وأحداثه ومتغيراته، كما أنه نموذج رائد يراد تسويقه للدول التي لم تبلغ مرحلته بعد.
ولكي تكتمل الرؤية بأن تحتوي على الأبعاد الزمنية الثلاثة: الماضي،
الحاضر، احتمالات المستقبل، نتناول قضية الحجاب في تركيا، باعتبارها تحتل
المرتبة الأولى في التطرف العلماني الرافض للإسلام، ومن ثَمَّ فهي هدف تُدفع
معظم الدول الإسلامية دفعاً مع اعتبار تفاوت مواقعها الحالية لبلوغه في السنوات
القادمة؛ فدراستها وإن كانت تعتبر واقعية بالنسبة لتركيا، إلا أنها مستقبلية بالنسبة
لغيرها من الدول الإسلامية.
الحجاب في مصر:
إن ثراء النموذج المصري كما سبق يجعل من الصعب تغطيته في صفحات
معدودة بتفصيل وشمول، ولذا سننتقي منه أهم المعالم التي تخدم موضوعنا.
أولاً: توزيع الأدوار في معركة الحجاب والسفور بين السبعينيات
والتسعينيات:
لمعركة الحجاب سَمْتٌ متميز؛ فهناك أطراف متعددة، وأدوار متداخلة،
وهناك أيضاً صور مختلفة للهزيمة والفوز، كما أنها معركة مفتوحة نحسب أنها
باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي الساحة المصرية يظهر ذلك بوضوح، وتنحصر الأدوار المؤثرة في
الأطراف الآتية:
1 - المؤسسات التعليمية: ويبرز دورها في ثلاثة اتجاهات:
الأول: أخطرها، وهو السعي للعلمنة الكاملة لمناهج التعليم مع حصار
وتحديد لدور المؤسسات التعليمية الدينية، وهذا الاتجاه يظهر أثره في المستقبل
بتخريج أجيال تنتمي إلى العلمانية قبل الإسلام.
الثاني: العمل على إضعاف ظاهرة الحجاب في تلك المؤسسات حتى لا تعوق
بوجودها جهود العلمنة. وهذا الإضعاف يأخذ شكل مضايقات وحصار ولوائح
وقرارات تمنع دخول المحجبات خاصة المنقبات إلى تلك المؤسسات عاملات أو
طالبات ومن أشهر القرارات قرار رقم 113 سنة 1994م الذي يمنع ارتداء غطاء
الرأس إلا بطلب من ولي الأمر [9] .
الثالث: وهو اتجاه غير مباشر؛ وذلك بتشجيع تحول المؤسسات التعليمية
إلى ساحات لهدم الأخلاق والقيم، وتحطيم القيود على تطور العلاقة بين الشاب
والفتاة، ويكفي النظر إلى ظاهرة الزواج الزنا العرفي وتزايدها المستمر وأسلوب
معالجتها الذي اقتصر على عقد ندوات دينية في تلك المؤسسات ذراً للرماد في
العيون أحدثت في بعض الأحيان أثراً عكسياً، فأخرجت الظاهرة إلى نطاق النقاش
العلني واختزلتها إلى مجرد خلاف فقهي.
2- وسائل الإعلام: تقول إحدى الدراسات: إن أغلبية المجتمع المصري يقع
تحت سطوة وسائط الإعلام الرسمية [10] ، وأن النساء خاصة يقبلن عل مشاهدة
برامج التلفاز أكثر من الرجال [11] ، وفي أحد استطلاعات الرأي الهامة، كان
هناك عامل مشترك بين الموافقات على أن دعوة قاسم أمين تقدمية، هو مشاهدة
برامج التلفاز والراديو [12] .
لا شك أن الإعلام أصبح يلعب دوراً خطيراً في محاربة الحجاب عبر منابره
المتعددة، وله في ذلك أساليب متنوعة مباشرة وغير مباشرة فهناك الهجوم المباشر
الفج الذي يسخر من الحجاب، أو يُرجِع دوافعه إلى مشاكل اجتماعية ونفسية
ومادية.. إلخ.
ومنها تخصيص الهجوم بفئات معينة من المحجبات مثل: الفنانات التائبات،
ومهاجمة كل من له دور في حجابهن من العلماء والدعاة [13] ، ومنها التركيز على
عدم ارتباط الحجاب بمستوى معين من الأخلاق، وارتباط صور معينة من الحجاب
النقاب بارتكاب جرائم متنوعة [14] ، ومن الأساليب غير المباشرة مهاجمة
التيارات الإسلامية ورموزها، واتهامها بالتطرف، وربط انتشار الحجاب بفكر هذه
التيارات المتطرفة ومنها اختزال المواد الدينية ما أمكن؛ خاصة أن الدراسات تثبت
أن زيادة الإعلام الديني تؤدي إلى إشاعة مناخ ديني عام في المجتمع وسرعة انتشار
الأفكار الدينية، ومن تلك الأساليب القذرة إشاعة الفاحشة بين المسلمين وتجريئهم
عليها؛ فمع تدني الأخلاق وغلبة الشهوات لا يكون هناك مجال للحديث عن
الحجاب.
3 - الأسرة: تفكك الأسرة وضعف دورها الرقابي من سمات المجتمعات
العلمانية الغربية التي يريد العلمانيون في بلادنا محاكاتها حذو القذة بالقذة، وبينما
تُظهِر الأبحاث عن فترة السبعينيات أن حوالي 60% من المحجبات أقررن بموافقة
كل الأسرة على ارتداء الحجاب [15] ، فإن الأمر يختلف حالياً مع تعدد الهجمات
الموجهة للأسرة ولدور الرجل فيها، وإذا قلنا: إن موقف الأسرة تجاه الحجاب
ينحصر في ثلاثة أمور: التشجيع السلبية الرفض؛ فالواقع الحالي يشهد بأن الزيادة
الكبيرة كانت من نصيب الموقف الثاني (السلبية) [16] ، والموقف الثالث حظي
بزيادة قليلة خاصة بالنسبة لصور معينة من الحجاب (تغطية الوجه والكفين) ، وكان
النقص من نصيب الموقف الأول.
وهناك أطراف أخرى يفترض أنها تمثل الإسلام في معركة الحجاب والتبرج وهي:
4 - المؤسسات الدينية الرسمية: وتنحصر في مشيخة الأزهر ودار الإفتاء
والهيئات التابعة مثل: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجمع البحوث،
ووصفها بالرسمية ينبع من أمرين، أحدهما: أن تعيين رجالها يتم بقرارات حكومية
، والثاني: تحولها عرفاً وإلزاماً أحياناً إلى تبني الموقف الرسمي من القضايا المعدَّة
سلفاً وتكلف تطويع أحكام الشريعة لها. وبالنسبة لقضية الحجاب، فإن أغلب النقد
الموجه لهذه المؤسسات حتى فترة قريبة كان ينحصر في الموقف السلبي من تدعيمه
، والدعوة إليه والتعرض لمهاجميه، وهذا لا يمنع من بعض مواقف قوية، كما
حدث في الرد على القرار السابق لوزير التعليم؛ حيث صدرت فتوى بمخالفته
للشرع [17] إلا أنه في السنوات الأخيرة تطور الوضع إلى مزيد من السلبية، بل
إلى مهاجمة الحجاب أحياناً، متمثلاً في بعض صوره واتهامها بالتطرف (النقاب)
[18] ، كما اقترن ذلك بالتهاون في إلزام الطالبات في مدارس الأزهر وكلياته
بالحجاب الشرعي الصحيح.
5 - العلماء والدعاة المستقلون: وأغلبهم في الأساس من خريجي كليات
الأزهر والعاملين فيه، ويزداد تميزهم مع تزايد تبني المؤسسات الدينية للمواقف
الرسمية في مختلف القضايا، ورغم التضييق عليهم إلا أن تأثيرهم واضح من
الرأي العام، وموقفهم من قرار وزير التعليم بمنع الحجاب كان قوياًَ، حتى طالب
بعضهم بمحاكمته، ومنهم د. محمود مزروعة، د. محمود حماية، د. محمد
المسير، د. عبد الحي الفرماوي، د. عبد الغفار عزيز، د. يحيى إسماعيل ...
وغيرهم [19] .
6- الحركة الإسلامية: كان لها الدور الفعال في نشر الحجاب في المجتمع
المصري، وانتشارُه في الجامعات المصرية أحد مظاهر النشاط الإسلامي فيها،
والدراسة السابقة عن ظاهرة الحجاب في السبعينيات أظهرت أن 05% من
المحجبات وغير المحجبات يُرْجِعن انتشاره إلى تزايد نشاط الجماعات الإسلامية بل
هو السبب الرئيس [20] ، وتظهر هذه العلاقة كذلك في فترة التسعينيات، ولكن في
الاتجاه المعاكس؛ إذ من الملاحظ ارتباط تراجع معدلات الحجاب عامة، والحجاب
الشرعي الصحيح خاصة مع تزايد التضييق على النشاط الإسلامي في مختلف
الميادين وعلى الأخص في المدارس والجامعات.
7 - " إن المحجبة تظهر في سمت عفريت " هذه العبارة لن نتعجب إذا قالها
علماني حقود، ولكن عندما نعلم أنها صدرت من عالم داعية في وزن الشيخ محمد
الغزالي [21] رحمه الله نقداً لبعض صور الحجاب فإننا نصاب بدهشة عظيمة لهذا
الخلط الواضح في الأوراق، والأدوار. أين كان يقف الشيخ؟ وكيف يجعل نفسه
مشابهاً لعلمانية فجة مثل أمينة السعيد، تصف المحجبات اللاتي يرتدين الزي نفسه
الذي ينقده الشيخ بأنهن يرتدين " ملابس تغطيهن تماماً، وتجعلهن كالعفاريت "
[22] .
إن هذا الخلط الذي أصاب عدداً من المفكرين والدعاة ممن أصبحوا يمثلون
تياراً قوياً هذا الخلط أحدث بدوره خلطاً في مفاهيم الناس حول الحجاب وهو ما
سنبينه بعد قليل وجعل من هفواتهم وسقطاتهم تكأة لكل من أراد الطعن في أحكام
الشريعة بأسلوب باطني استغلالاً لتلك الهفوات والسقطات.
ثانياً: الحجاب والتدين:
هناك ُبعدان لدراسة العلاقة بين الحجاب والتدين:
الأول: الارتباط بين الالتزام بالحجاب، والالتزام العام بأوامر الشرع.
الثاني: الارتباط بين معدل ارتداء الحجاب ومستوى الحالة الدينية للمجتمع.
فبالنسبة للبعد الأول: يتمثل في دوافع ارتداء الحجاب، والحالة الدينية للمرأة
بعد إضعافها.
أما عن الدوافع: فلا خلاف في أن ارتداء الحجاب في السبعينيات كانت
دوافعه دينية مباشرة، ووفقاً لأحد البحوث الاجتماعية كان 90% من الأسباب
الدافعة للحجاب كما أقرت المحجبات تدور حول الخوف من الله من عذاب الآخرة
الرغبة في الجنة يقظة الضمير الديني [23] .. إلخ، ولكن مع مرور الوقت
وانتشار الحجاب بين فئات المجتمع تحول عند بعض الناس إلى ما يشبه العرف
العام، والتقليد المتبع، ونشأت أجيال كان ارتداؤهن للحجاب ينبع من كونه تقليداً
أو عرفاً أو ضغطاً اجتماعياً قبل أن يكون أمراً شرعياً، ويقوِّي هذا الرأي تزايد
نسبة المحجبات اللاتي يرتبط حجابهن بأمور مثل: الزواج [24] ، تقدم السن، ولا
يشمل ذلك بالطبع كل المحجبات، وخاصة اللاتي ينتمين إلى التيارات الإسلامية
بمعناها العام. وهذا التحول بالحجاب إلى تقليد لدى الكثيرات لم يكن حتمياً، وإنما
كان مدعماً بأمرين: عدم إتاحة الفرصة لتعميق هذه الظاهرة وتقوية ارتباطها
بأصلها الديني المباشر من قِبَل العلماء والدعاة، والحرب المعلنة على الحجاب التي
يؤرخ بعضهم بَدْأها من عام 1981م [25] .
أما بالنسبة للحالة الدينية للمرأة بعد ارتداء الحجاب، فهنا نجد أنفسنا وفقاً لما
سبق أمام ثلاث حالات:
الأولى: من ارتدت الحجاب عرفاً أو طاعة لوليٍّ (زوج أب) أو لأسباب
أخرى، لكن ليس لوازع ديني.
الثانية: من ارتدت الحجاب التزاماً انتقائياً وليس عاماً بأحكام الشرع.
الثالثة: وهي التي يشكل ارتداؤها للحجاب أحد مظاهر التزامها العام
بالشرع.
فالمحجبة في الحالة الأولى لا يترتب على حجابها في معظم الأحيان تغير
واضح في السلوك أو الطاعات، وهي تنتمي غالباً إلى الفئة السلبية دينياً في
المجتمع، والتي ليس لها موقف واضح من عوامل الإفساد، ويصل التعارض بين
السلوك عند بعضهن لدرجة التناقض، مما يساهم في تشويه الصورة العامة
للمحجبات، ويدفع كثيراً من الجهال لاتهام الحجاب نفسه؛ ولا يفوت الأقلام
العلمانية أن تستغل هذه الفئة في حربها على الحجاب.
أما في الحالة الثانية فالمرأة دفعها وازع ديني للحجاب، ومن ثَمَّ فهي تحرص
على عدم التناقض بين زيِّها وسلوكها، ولكن في إطار عرفي، بمعنى البعد عن كل
ما ينتقد المجتمع صدوره عن المحجبة، أو ما يعيبها خارج بيتها، وهذا بالطبع
غير منضبط؛ فالمجتمع يتعارف في كثير من الأحيان على ما يخالف الشرع،
ولذلك فالمحجبة في هذه الحالة لا ترى بأساً في المصافحة أو النظر أو الحديث مع
الرجال أو الاختلاط المسموح به عرفاً لا شرعاً، ولا شك في ميوعة هذا الوضع،
وإن كان أقل من الحالة الأولى، وأنه يجعل للمحجبة قابلية قوية للوقوع في بعض
صور الانحراف المناقضة لحجابها، خاصة مع توفر عوامل مثل: صغر السن،
الوسط الملائم (الجامعة مثلاً) انتشار الفساد، ضعف رقابة الأسرة.
وتنتمي المحجبة في هذه الحالة إلى الفئة المحافظة دينياً التي تقف موقفاً
واضحاً من مظاهر الفساد، وإن كانت تتعاطى وسائله في الوقت نفسه (التلفاز
الاختلاط ... إلخ) .
أما الثانية: فحجابها منذ البداية كان مقترناً بالتزام عام بالشرع؛ لذا تتوفر في
حالتها الضوابط اللازمة لتوافق السلوك مع الزي، مع انتماء أكثرهن للتيارات
الإسلامية ولو شعورياً.
وعند المقارنة بين نسبة توزع المحجبات على هذه الفئات الثلاث في
السبعينيات بمثيلتها حالياً نجد تغيراً واضحاً؛ حيث زادت نسبة محجبات الحالة
الأولى زيادة ملحوظة، فأصبحت تقارب الحالة الثانية، بينما حدث تراجع في نسبة
محجبات الحالة الثالثة.
البعد الثاني للعلاقة بين الحجاب والتدين: وهو ارتباط معدل ارتداء الحجاب
بالحالة الدينية السائدة في المجتمع.
من المسلم به أن المجتمع الصغير هو الأسرة أو العائلة، وتأثر المرأة بأسرتها
في ارتدائها للحجاب أو عدمه حقيقة أثبتتها الدراسات؛ فكلما زادت نسبة المحجبات
في الأسرة كان ميل الفتاة نحو التحجب أقوى [26] .
وفيما يتعلق بالمجتمع الكبير نلاحظ هنا اتجاهين مختلفين: فبينما نجد من
الثابت أن انتشار الحجاب في السبعينيات كان أحد مظاهر إقبال الناس على الدين
وعودتهم إليه، وأن التراجع في مستويات الحجاب يقترن أيضاً بانتشار موجات من
الانحلال الخلقي في المجتمع، خاصة مع سهولة استقبال الإعلام الإباحي عبر
القنوات الفضائية، مع ذلك، فهناك اتجاه آخر لتأثير المجتمع في الحجاب، وهو
أن استمرار الانحلال الخلقي وانهيار القيم يكون سبباً معاكساً لإفاقة الناس ورجوعهم
إلى الدين [27] ، ولكن بعد حين.
ثالثاً: الحجاب والفئات الاجتماعية:
إعطاء معدلات عامة عن الحجاب في المجتمع المصري لا يعبر بدقة عن
حقيقة الوضع؛ فهناك فئات اجتماعية متعددة ومتداخلة يتفاوت تأثرها وتفاعلها مع
هذه القضية تفاوتاً ملحوظاً.
وفيما يتعلق بالحجاب يمكننا أن نقسم المجتمع في مصر وفق هذه
الاعتبارات: الطبقة الاجتماعية الريف والحضر الفئة العمرية والحالة الاجتماعية.
باعتبار الطبقة الاجتماعية: فإن الطبقة المتوسطة تمثل الصدارة؛ من حيث
ارتفاع معدل ارتداء الحجاب بين نسائها، ويقل الالتزام بالحجاب مع ارتفاع المؤشر
الاجتماعي الطبقي أو انخفاضه [28] ، وإن كان هذا لا يمنع من وجود الحجاب في
جميع الطبقات، ويكفي أنه نجح في غزو طائفة من أهل الفن.
ولو نظرنا إلى الريف والحضر فإننا نجد أن الريف بطبيعة تكوينه الاجتماعي
والثقافي يكون أقل تأثُّراً بالتغيرات السياسية والثقافية والأخلاقية العامة من المجتمع
الحضري، ولذلك لم يختفِ الحجاب من الريف إبَّان الستينيات كما حدث في
المدينة، بل استمر تقليداً يُحرَص عليه، حتى توافق مرة أخرى مع مجتمع المدينة في السبعينيات. ولكن نتيجة لارتفاع معدلات التعليم ذي التوجه
العلماني، واتساع تأثير الإعلام، وكذا ارتفاع معدلات الهجرة من الريف إلى المدن، لم يعد تمسك المجتمع الريفي حالياً بالحجاب كما كان أولاً.
ووفقاً للاعتبار الثالث، وعلى عكس الغرض الشرعي من الحجاب وهو منع
الفتنة، وأن المرأة كلما صغر سنها زاد الافتتان بها، على العكس من ذلك نجد أن
نسبة ارتداء الحجاب في مصر تزداد مع تقدم السن، حتى إنه قلما تجد امرأة
تجاوزت الستين سنة من العمر متبرجة من نساء الطبقة الوسطى وفي المقابل يقل
إلى درجة كبيرة اقتران الحجاب بوقت البلوغ، ثم يرتفع تدريجياً مع ارتفاع الفئة
العمرية، وتتزايد معدلات الحجاب مع الزواج عنها قبله.
رابعاً: الحجاب في مصر، أنماط وأشكال متعددة:
" فلانة المحجبة " وصف نسمعه كثيراً عند التعريف بامرأةٍ مَّا، ولكن هل
يتخيل السامع صورة معينة لزي هذه المرأة؟ أم أن هناك عدة صور وأشكال
للحجاب تتداعى في مخيلته، أحدها فقط هو الزي الحقيقي لها؟
لقد أصبح الحجاب مصطلحاً فضفاضاً، وأُهمِلت ضوابطه، وعند أول مقارنة
بين مدلول كلمة الحجاب في الواقع ومدلولها الأصلي في الشرع نجد بوناً شاسعاً،
وقياساً على ما اشتهرت به اللغة العربية من دقة متناهية في وصف الأشياء ومراحل
تغيرها، فإننا نجد أنفسنا بحاجة إلى مصطلحات كثيرة لتغطية الفارق الكبير بين
الحجاب الشرعي والحجاب الواقعي.
ولمعرفة حجم التنافر بين المفهومين الشرعي والواقعي للحجاب يمكن أن نقلب
مفردات المفهوم الشرعي كلها، ورغم ذلك يحتمل الواقع أن يطلق عليها: محجبة،
لمجرد غطاء رأسها، واستعراض الأشكال المنتشرة للحجاب في المجتمع يثبت
ذلك؛ فهناك غطاء الرأس مع كشف بعض الشعر والرقبة وجزء من الصدر والساقين، وقد تكون الملابس ضيقة أو متشبهة بالرجال، ثم غطاء للرأس والرقبة والصدر مع ملابس طويلة ولكنها زينة في نفسها، وقد تكون ضيقة تصف الجسم، أو معطرة، ثم الخمار الطويل الذي يستر البدن مع كشف الوجه والكفين، ثم الحجاب الكامل الذي يحقق الشروط كلها.
ومن أهم أسباب هذا التذبذب الخطير في مستوى الحجاب الحرب المتصاعدة
ضده من بداية الثمانينيات، واستخدام مكيدة التطرف والاعتدال في هذه الحرب،
وأيضاً وجود طائفة من المتبرجات اللاتي هرولن نحو " الحل الوسط " تخلصاً من
الحرج الاجتماعي الضاغط الذي سبب انتشار الحجاب.. ومنها غلبة البعد الرمزي
للحجاب لدرجة تفرغه من مضمونه الشرعي في أحيان كثيرة.
ومن الأسباب الهامة: استدراج فئة كبيرة من الكُتَّاب والمفكرين الإسلاميين
المتبنين للاتجاه التنويري في هذه المعركة والاكتفاء منهم بالهجوم على أشكال معينة
من الحجاب يتهمونها بالغلو والتطرف، استناداً على قاعدتهم الذهبية في تطويع
الشرع للواقع، لا العكس، وأن وسطية الشرع تكون بجعل الظرف الواقعي هو
الأساس في استصدار الأحكام ووضع التصورات، وهذا لا شك في خطئه؛ فمع
تغير الواقع تكون الإرادة المطَّردة للتوسط بينه وبين ثوابت الشرع تعني أن ننادي
غداً بما نستنكره اليوم، حتى يأتي علينا وقت لا يبقى من الدين إلا أن ننوي أحكامه
ونفعل ضدها.
ومن الشواهد القوية على صحة هذا الرأي، موقف أحد التنويريين [29]
المقيم في بريطانيا من القضايا الإسلامية المثارة في ذلك الواقع العلماني والذي هو
المثل الأعلى لعلمانيي الشرق والذي تطور فكره وفق القاعدة السابقة ليتوافق مع هذا
الواقع فيما يتعلق بقضية الحجاب، أصدر فتوى بأنه لا يجب على المرأة أن ترتدي
الحجاب لتعرضها للأذى بارتدائه في تلك البلاد، واستدل بآية: [ذلك أدنى أن
يعرفن فلا يؤذين] [الأحزاب: 59] ، فلا يسع المسلمة والحال هكذا إلا أن تنوي
الحجاب وتتبرج!
وبناءاً على النظرة الواقعية المتفحصة، نستطيع القول: إن هناك تناسباً
وتوافقاً بين مستوى الحجاب وأنماط الحالة الدينية للمحجبة والمذكورة آنفاً فكلما
تضاءل تأثير الدين في حياة المحجبة عند حجابها وبعده كلما تدنى مستوى الحجاب،
والعكس صحيح، فتصبح أكثر المحجبات تديناً هي التي تتمسك بكافة شروط
الحجاب، بما فيها تغطية الوجه والكفين، ولذلك نجد أنه انطلاقاً من تحول محاربة
التدين الشامل إلى سياسة عامة، أصبح النقاب محارباً بشدة أكثر من أي شكل آخر
للحجاب، واستهدفته جميع الجهات العلمانية بهجوم مكثف متواصل، ولعل ذلك
يرجع إلى ضعف قابليته للتميع والتطويع بخلاف الصور الأخرى للحجاب، وكذا
اعتماداً لأسلوب ضرب القمة، وقبول ما بعدها، تدرجاً في القضاء على الحجاب.
الحجاب في تركيا:
للحجاب في تركيا قصة طويلة حزينة، تبدأ من قوانين أتاتورك، ولا تنتهي
عند مروة قاوقجي، ولو اكتفينا بالاطلاع على الفصول الأخيرة من هذه القصة،
فستبدو لنا سمات بارزة لحرب الحجاب في تركيا:
1 - لا يمكن استيعاب أبعاد قضية الحجاب في تركيا حالياً، بدون الاطلاع
على الجهود التاريخية الحثيثة للقضاء عليه منذ أتاتورك، هذه الجهود التي ليس لها
مثيل في دولة إسلامية أخرى، في شدتها واستمراريتها إلى الآن، فمنذ ما يزيد عن
سبعين عاماً كان البوليس التركي يقوم بنزع الحجاب عن النساء بالقوة وعقابهن
أحياناً امتثالاً لقانون أتاتورك [30] ، ورغم اختفاء هذا القانون إلا أن الحرب لا
تزال قائمة.
2 - أحدثت علمانية أتاتورك شرخاً كبيراً في الانتماء الإسلامي للمجتمع
التركي، فأوجدت قطاعات من الجماهير تفضل العلمانية على الإسلام، وأظهر أحد
استطلاعات الرأي الهامة أن نسبة 18% من الأتراك يثقون بالجيش التركي (حارس
العلمانية) [31] ، مما أوجد موقفاً جماهيرياً لا يستهان به رافضاً للحجاب، وإن
كانت الأغلبية تقبل به، وقد أحدث فوز الرفاه في انتخابات 1994م حالة من القلق
المتولد لدى العلمانيين وقطاعات من الشعب من إقدام الرفاه في حاله تولي السلطة
على إجبار النساء على ارتداء الحجاب، واضطر أربكان لنفي ذلك تهدئة للأوضاع
[32] ، وعندما أعلن عن احتمال حدوث ائتلاف بين الرفاه والوطن الأم، قامت
النساء المؤيدات للثاني بإرسال حجاب إلى زوجة يلماظ احتجاجاً على ذلك [33] .
3 - لا يتضمن الدستور التركي أي إشارة إلى الإسلام أو الشريعة؛ لذا
ينطلق الإسلاميون من دفاعهم عن الحجاب ضد الدولة لا من أصله الشرعي
الإسلامي، بل انطلاقاً من مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما
يزيد الأمر صعوبة عليهم بخلاف الحال في معظم الدول الإسلامية الأخرى التي
يعطي النص على الإسلام ولو باعتباره ديناً رسمياً في دساتيرها منطلقاً قوياً
للإسلاميين في الدفاع عن الحجاب.
4 - يتمثل جهد الدولة في محاربة الحجاب في وسائل عدة، نذكر منها:
- إصدار قانون 1987 يمنع دخول المحجبات إلى الجامعات، وينفذ القانون
في 82 جامعة تركية، وقد تم التراجع عن هذا القانون سنة 1991م [34] من قِبَل
البرلمان والمحكمة الدستورية، ولكن لم يمنع هذا من استمرار الحظر في جامعات
كثيرة، ومن المعتاد أن نجد في كل عام دارسي القوات المدججة بالسلاح تحيط
بالجامعة لمنع المحجبات، وتقوم الشرطة النسائية بإخراجهن بالقوة.
- منع المحجبات من العمل في المؤسسات الحكومية، وقد تعرضت مئات
الموظفات للفصل أو الإجبار على الاستقالة بسبب الحجاب [35] .
- اتخاذ بعض الإجراءات المحاصرة للحجاب مثل حظر ارتداء نساء
العسكريين له، وعرقلة حصول المحجبة على جواز للسفر [36] ، وتعرضت
الكثيرات للسجن أكثر من مرة بسبب تبنيهن لهذه القضية [37] .
- حاولت الحكومة التركية في أواخر الثمانينيات مطاردة المحجبات خارج
تركيا، فأرسلت طلباً للحكومة الألمانية بمنع الطالبات التركيات من ارتداء
الحجاب، إلا أن ألمانيا رفضت للسبب ذاته الذي من أجله تطارد تركيا الحجاب وهو العلمانية! [38] .
5 - تتمثل المواجهة الإسلامية بدورها في وسائل عدة، نذكر
منها:
- رفض الامتثال لقوانين منع الحجاب في الجامعات ومحاولة فرضه بالقوة،
والأمثلة عديدة وتتكرر بصفة دورية، ومنها: قيام مدير المعهد العلمي للتمريض في
أحد المدن برفض قيام الطالبة الأولى بإلقاء خطبة الوداع في حفل التخرج؛ لأنها
ترتدي الحجاب تحت قلنسوة التمريض، وحدثت مشادات كلامية رافقها استخدام
الأيدي [39] .
وفي المقابل تُؤْثِرُ طائفة من المحجبات ترك الدراسة على خلع
الحجاب [40] ، ومن المعروف أن مروة قاوقجي أثناء الدراسة الجامعية تركت الدراسة في الجامعة التركية وذهبت إلى أمريكا لرفضها أن تخلع حجابها.
- استخدام أسلوب التظاهرات المؤيدة للحجاب والمناهضة لرفض الحكومة
له، ومن أمثلتها ما يسمى بسلسلة الحرية، والتي شارك فيها مائة ألف مواطن أمسكوا يداً بيد احتجاجاً على منع الحجاب ليشكلوا سلسلة تمتد من أنقرة إلى اسطنبول، إلا أنها قُطِعَت لتدخُّل البوليس في بعض المناطق، ولكنها وصلت في أماكن أخرى مثل مدينة " قيصري " إلى عشرين كيلو متراً [41] .
- يستفيد حزب الرفاه من البلديات التي فاز بها في الانتخابات في تعيين عدد
كبير من المحجبات في إداراتها إقراراً لوجودهن في المؤسسات الحكومية، كما
يحاول مواجهة الدعارة والإباحية بوصف هذه المواجهة وسيلة غير مباشرة لنشر
الحجاب من خلال غلق بيوت الفساد، وقام عمدة أنقرة بإزالة التماثيل العارية من
الشوارع وقال بغضب: " إذا كان هذا هو الفن فأنا أبصق عليه " [42] .
- يعمد الإسلاميون أيضاً إلى إثارة قضية الحجاب إعلامياً وسياسياً بصفة
مستمرة، والمثال القريب إصرار مروة قاوقجي على حضور جلسات البرلمان
بالحجاب رغم المواجهة الشرسة والصياح الهستيري الذي كانت تتعرض له داخل
البرلمان، ورغم تراجع نائبتين لحزبين آخرين عن حجابهما إذعاناً للضغوط، فقد
تحولت مروة قاوقجي إلى رمز لقضية الحجاب والاضطهاد الديني، وحظيت
بتعاطف الكثيرين معها محلياً ودولياً.
6 - للحجاب في تركيا أشكال متعددة ومستويات مختلفة؛ ففي الريف
والأحياء الشعبية تغطي أغلب النساء شعورهن ولكن من قبيل العادة والتقليد، ومن
أكثر أنواع الحجاب انتشاراً حجاب يتكون من غطاء للرأس والرقبة، ومعطف
(بالطو) طويل، ويُرتدى من تحته سروال، وقد يُرتدى معه قفازات للكفين،
وتتخير المرأة ما تشاء من الألوان، وهذا الزي هو أكثر ما يميز ذوات التوجه
الإسلامي. ويوجد النقاب أيضاً في أماكن كثيرة، إلا أن التركيات يُظهرِن من خلف
النقاب العينين وجزءاً من الوجه إلى أسفل الأنف، ويقلن: إن ذلك أبعد من الفتنة!
وإذا كان وضع الحجاب في مصر يتجه إلى مشابهة وضعه في تركيا فهناك
دول إسلامية تسير ببطء نحو مشابهة الوضع المصري، ومن فاته بعض فصول
حرب الحجاب في مصر يمكنه أن يشاهدها الآن في تلك الدول؛ حيث يعيدها
التاريخ للحاضر مرة أخرى، مع تعديلات يسيرة في المصطلحات والشعارات،
التي تعتبر من لوازم عصر حقوق الإنسان والألفية الثالثة!
ولكن إلى أي مدى سيظل التاريخ يعيد نفسه هناك؟ سؤال للحكماء.
__________
(1) النهوض الإسلامي، عبد الجبار البو بكري، ص 13.
(2) عودة الحجاب،، ج 1، ص 288.
(3) المصدر السابق، ص 216.
(4) المصدر السابق، ص 216 كان هذا يوم كان (بن بيلا) على رأس السلطة وقبل الانقلاب عليه وسجنه، ليعود وقد تغيرت كثير من آرائه.
(5) الإسلام في الغرب، جان بول، ص 188.
(6) ومن حصاد هذه السياسة الميمونة ظاهرة محزنة فيما يتعلق بالمرأة بدأت من منتصف الثمانينيات وهي: تزايد أعداد المهاجرات المغربيات بمفردهن إلى أسبانيا، حتى فقن عدد الرجال، ويعمل أغلبهن خادمات في منازل النصارى، مجلة الرائد، عدد 139 سنة 1991م، ص 56.
(7) أشواق الحرية، قضية الحركة الإسلامية في تونس، محمد الحامدي، ص 193.
(8) عودة الحجاب، ج1، ص 253.
(9) لم يكن هناك موقف رسمي واضح من الحجاب منذ السبعينيات، وإنما كان هناك مواقف فردية، حتى بادرت وزارة التربية والتعليم باتخاذ الموقف الموضح.
(10) في دراسة على عينة تمثل الطبقة الوسطى كان التلفزيون هو المصدر الرئيس للمعرفة، أحوال مصرية، عدد 1، ص 113.
(11) المصريون والسياسة استطلاع رأي مشترك بين الأهرام ومالكي مركز المشكاة، ص 30 31.
(12) ظاهرة الحجاب دراسة عن فترة السبعينيات المركز القومي للبحوث الاجتماعية، ص 263.
(13) كما حدث مع د عمر عبد الكافي، على صفحات مجلة روز اليوسف رائدة مهاجمة الحجاب.
(14) في حادث تفجير مقهى ميدان التحرير بالقاهرة، نشرت إحدى الصحف أخيراً أن إحدى المنقبات دخلت المقهى ووضعت حقيبة المتفجرات ثم خرجت ثم خفيت القصة بعدها، إحقاق الحق هويدي، ص 63.
(15) ظاهرة الحجاب، ص 123.
(16) في الدراسة السابقة لدورية أحوال مصرية عبر أغلب المبحوثين عن رفضهم لفكرة فرض الحجاب على نسائهم معلنين أن الأفضل أن ينبع القرار منهن، ص 113.
(17) نشرت الفتوى في مجلة الأزهر عدد ربيع أول 1415هـ.
(18) في حوار مع مفتي الجمهورية من مجلة أكتوبر بعنوان (غسيل مخ) قال عن النقاب: إنه ليس من الإسلام، وتحدى أن يأتيه أحد بنص يفيد ذلك يعلق محمد إسماعيل المقدم على ذلك بقوله: إن المفتي نفسه قبل تولي المنصب فسر آية الإدناء في سورة الأحزاب بأنها تشمل تغطية الوجه من المرأة، " بل النقاب واجب " محمد إسماعيل، ص 37.
(19) انظر الحرية الشخصية، د عبد الله خير الله، ص 361 362.
(20) ظاهرة الحجاب، ص 202 204.
(21) أضواء على تفكيرنا الديني، محمد الغزالي، ص 22.
(22) عودة الحجاب، ج 1، ص 126.
(23) ظاهرة الحجاب، ص 130.
(24) المصدر السابق، ص 130.
(25) عودة الحجاب، ج 1، ص 228.
(26) ظاهرة الحجاب، ص 122.
(27) المصدر السابق، ص 204.
(28) المصدر السابق، ص 60.
(29) د زكي بدوي رئيس مجلس المساجد في بريطانيا.
(30) عودة الحجاب، ج 1، ص 205.
(31) رؤى مغايرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مايو 1997م، ص 11 (32، 33) المصدر السابق، ص 33.
(34) مجلة البيان عدد 36، ص 63.
(35) عودة الحجاب، ج1، ص 214.
(36) حزب الرفاه، يوسف الجهماني، ص 18.
(37) عودة الحجاب، ج1، ص 215.
(38) مجلة المختار الإسلامي نوفمبر، 1987م.
(39) رؤى مغايرة مرجع سابق، ص 30.
(40) انظر البيان عدد 5، ص 90.
(41) جريدة الشفق الجديد التركية.
(42) رؤى مغايرة، ص 20.(149/82)
وقفات
من آفات القراء
(2-2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
في المقالة السابقة تحدثت عن أهمية القراءة ومكانة القرَّاء، وذكرت آفتين من
آفات القراء هما: (قلة الصبر على القراءة والمطالعة) ، و (ضعف التركيز) .
وفي هذه المقالة أذكر الآفة الثالثة بإذن الله تعالى.
الآفة الثالثة: ضعف المنهجية في القراءة:
المكتبة الإسلامية مليئة بحمد الله تعالى بالإصدارات العلمية في مختلف فنون
العلم والمعرفة، وتحتوي على حصيلة كبيرة من الكتب والدراسات والأبحاث التي
جاءت نتيجة جهود تراكمية متتابعة ومستفيضة تنمو عبر السنين.
ويختلف هذا الإنتاج قوة وضعفاً، وأصالة وتقليداً، ولا يستطيع المرء مهما
أوتي من ملكات وقدرات أن يغطي جزءاً يسيراً من ذلك النتاج الضخم.
وقد يحار القارئ المبتدئ خاصة من أين يبدأ؟ ! وكيف يبدأ؟ ! ولذا كان
الواجب على القارئ أن يرسم لنفسه منهجية واضحة للقراءة يدرك من خلالها إلى
أين يسير.. وما أهدافه؟ ! ولعلِّي أذكر ها هنا الملحوظتين الآتيتين:
الأولى: بناء القاعدة العلمية:
إن ترتيب الأولويات من أهم المسائل التي تعين المرء على النجاح بشكل
عام، ويتأكد ذلك في أولويات القراءة، وقديماً قال أبو عبيدة: (من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم) [1] . وكم أحزن على ذلك الشاب الذي لم يستقم عوده، ... ولم يشتد ساعده، ثم أراه يلقي بنفسه في بحر متلاطم الأمواج كيف يبحر فيه؟ ! وقد رأينا شباباً لم يقرؤوا بعدُ (كتاب الأربعين النووية) ، ثم تراهم يعزمون على قراءة (فتح الباري!) وأشباهه من كتب العلم. وجميل أن توجد هذه الهمة، لكن أحسب أن مآل هؤلاء في النهاية إذا لم يتداركهم الله بفضله: الشعور بالإحباط والعجز، ثم الملل والسآمة؛ لأنهم لم ينموا نمواً طبعياً يتدرجون فيه في درجات العلم بتدرج فهومهم وبصائرهم.
ونظير ذلك من يبدأ بقراءة ما يسمى بـ (الكتب الفكرية) المتقدمة، دون أن
تكون له حصيلة شرعية يميز فيها بين الغث والسمين، ودون أن يبدأ بالكتب
الفكرية الميسرة التي تكمل بناءه العلمي والثقافي.
والواجب أن يحرص القارئ في بداية الطلب على بناء القاعدة العلمية التي
يبني فيها مداركه العقلية وملكاته العلمية بناءاً راسخاً متيناً.
وبناء القاعدة العلمية يتطلب من القارئ جهداً كبيراً؛ فهو يأخذ من كل فرع
من فروع العلم الرئيسة كتاباً أصيلاً يدرسه دراسة تفصيلية، ولا ينتقل منه إلى
كتاب آخر إلا بعد أن يتقن أبوابه، ويعرف قواعده وفنونه، ثم إذا قرأ كتاباً آخر في
الفرع نفسه كان كالبناء على تلك القاعدة والأساس.
والقدرة على اختيار الكتاب المناسب لها دور بارز في اختصار المسافات في
طريق القارئ الطويل. وكم من قارئ قد ضلَّ الطريق وحرم الوصول؛ لأنه أراد
أن يصعد السطح بلا سلم، أو أراد أن يبني داره على أرض هشة غير مستقرة،
ومن المفيد هنا التأكيد على أهمية استشارة أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة
لمعاونة القارئ المبتدئ في ترشيح الكتب المناسبة له، وقديماً سئل (فولتير) عمن
سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: (الذين يعرفون كيف يقرؤون) [2] .
ومن اللطائف العجيبة أن ابن الجوزي كان يتكلم عن ضرورة ترتيب
الأولويات لطالب العلم، ثم يقول: (قد علم قصر العمر وكثرة العلم، فيبتدئ
بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صحَّ له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول
الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث
كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك) [3] ثم ساق ابن الجوزي
علوماً يبدأ بها طالب العلم في عصره، قد يعجز عنها بعض المنتسبين إلى العلماء
في عصرنا..!
الثانية: بناء القاعدة الفكرية:
ها هنا معضلة يقع فيها كثير من القراء، وهي أنه في أثناء القراءة لا
يحرص على بناء فكره، وإحياء قدراته العقلية ولا يستحثها للنظر والتأمل، وإنما
يقع أسيراً ينتظر التلقين من المؤلف، ويقف دائماً موقف المتلقي، ومثل هذا وإن
حصل كمّاً من المعلومات فإنه ليس قارئاً جيداً؛ لأنه لا يملك البصيرة ولا القدرة
على التمييز والموازنة بين اجتهادات العلماء والمفكرين. (فالتفكير هو الذي يجعل
ما نقرؤه ملكاً لنا) [4] .
ونظير ذلك من يعتني بالحفظ وحده، ولا يلتفت إلى الفهم. والحفظ على
الرغم من أهميته وضرورته؛ فإنه لا ينبغي الاكتفاء به، بل يجب تسخيره لخدمة
الفقه والفهم، وقديماً عتب الإمام أحمد على بعض المحدثين بقوله: (ما أقل الفقه في
أصحاب الحديث) [5] ، ومن لطائف الأخبار في هذا الباب ما ذكره إسحاق بن
راهويه حيث قال: (كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين
وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل) [6] .
إن بناء القاعدة الفكرية للقارئ من أشق المهمات التي تواجه القارئ الجاد؛
فليس كل كتاب يمكن أن يبني فكر الإنسان، حتى بعض الكتب المفيدة التي قد
يستفيد منها القارئ مادة علمية قد لا يخدم ذلك البناء؛ وما أحسن قول الإمام ابن
القيم: (الفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة) [7] ، وهنا يأتي دور
المعلمين والمربين في توجيه طلابهم والأخذ بأيديهم في الطريق القويم. وقديماً كان
بعض العلماء يربي فكر الطالب ببعض مسائل الحساب والفرائض، ويحاوره
بعويص المسائل، وهذا منهج نبوي أصيل في التربية والتعليم؛ فها هو ذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها،
وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟) [8] .
وبهذا يتبين أن القراءة الجادة هي قراءة التفهم والبصيرة والإدراك، ونعمة
الفهم من أجلِّ النعم التي ينعم الله تعالى بها على العبد، و (رُبَّ شخص يفهم من
النص حكماً أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مئتين) [9] . وكم جرَّ سوء الفهم
على صاحبه من الخلل والاضطراب؛ وما أحسن قول الإمام ابن القيم: (ما أكثر
ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة) [10] .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/160) .
(2) القراءة أولاً، ص 38.
(3) صيد الخاطر، ص169.
(4) التفكير علم وفن، ص 133.
(5) طبقات الحنابلة (1/329) .
(6) تاريخ بغداد (4/ 419) .
(7) مفتاح دار السعادة (1/181) .
(8) أخرجه البخاري في العلم (1/145) رقم (61) ، ومسلم في صفات المنافقين (4/2146) رقم (2811) .
(9) مفتاح دار السعادة (1/60) .
(10) مدارج السالكين (2/431) .(149/92)
المسلمون والعالم
نهاية الجغرافية
(سيادة) الدولة.. أم (سيادة) العولمة؟ !
حسن قطامش
بعدما حصل (فوكوياما) الياباني على الجنسية الأمريكية كتب لهم (نهاية
التاريخ) وقال: إن التاريخ سينتهي عند النموذج الأمريكي، وعندما أوصلت
الولايات المتحدة (كوفي عنان) إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، كتب لهم عن
(نهاية الجغرافية) .
كتب كوفي عنان مقالاً طرح فيه أفكار أولياء نعمته الذين أتوا به إلى مكانه
هذا، وهو فيما كتب لم يعدُ كونه ناقلاً للأفكار التي تريد الولايات المتحدة إيصالها
إلى العالم الذي مازال فيه من يصدق ويعترف بفوقية الشرعية الدولية! ! ...
يقول عنان: إننا في حاجة لملاءمة نظامنا الدولي بتصورة أفضل مع عالم فيه
فاعلون جدد ومسؤوليات جديدة، إن سيادة الدولة بمعناها الأساس يتم إعادة تعريفها الآن على الأقل بوساطة قوى العولمة والتعاون الدولي، إن الحكومات تفهم الآن بشكل واسع بأنها أدوات في خدمة شعوبها، والعكس ليس صحيحاً. وفي الوقت ذاته فإن السيادة الفردية وأعني بها الحرية الأساسية لكل فرد التي تحظى بمرتبة القداسة ويحفظها ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية اللاحقة قد دعمها وعي منتشر ومتجدد بحقوق الفرد. وعندما نقرأ ميثاق الأمم المتحدة اليوم نعي أكثر من أي وقت مضى أن هدفه هو حماية الأفراد من بني الإنسان، وليس حماية من يظلمونهم ويسيئون معاملتهم.
إن شعارات السيادة التقليدية وحدها ليست العقبة الوحيدة تجاه عمل فعال في
الأزمات الدولية. كما أن الطرق التي تحدد بها الدول مصالحها القومية ليست بأقل
أهمية؛ فقد تغير العالم بشكل عميق منذ نهاية الحرب الباردة، بيد أنني أخشى من
أن مفاهيمنا عن المصلحة القومية لم تحذُ حذو هذا التغير؛ فهناك حاجة لوجود
تعريف جديد أشمل للمصلحة القومية في القرن الجديد، مما يستحث الدول على
إيجاد وحدة أكبر في السعي للأهداف والقيم العامة والمشتركة. وفي محتوى كثير
من التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم نجد أن المصلحة الجماعية الشاملة هي
المصلحة القومية.
وإذا ما علمت الدول المصممة على انتهاج السلوك الإجرامي أن الحدود ليست
رادعاً مطلقاً وأن المجلس سيقوم بعملٍ مَّا لمنع أكثر الجرائم خطورة ضد الإنسانية
عندئذ لن تنخرط هذه الدول في مثل هذا المسار مفترضة أنها ستفلت بفعلتها دون
عقاب.
إنه لا توجد مادة في ميثاق الأمم المتحدة تقف حائلاً دون الاعتراف بوجود
حقوق فيما وراء الحدود! ! [1] .
فالإرادة الدولية ترسم خريطة جديدة للعالم تتوافق مع التطورات العالمية،
وهذه الخريطة الجديدة لن يكون بها حدود خاصة لكل دولة، بل سيصبح العالم كتلة
واحدة متعاونة متكافئة متوازنة متراضية مسالمة آمنة! !
وبالرغم من تلك الصورة المشرقة لهذه الخريطة إلا أن رئيس منظمة الوحدة
الإفريقية، الرئيس الجزائري، (بوتفليقة) ، أعرب عن عدم ارتياحه لما تخطط له
القوى الجديدة لتحقيق أهدافها السامية! ! ففي مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
(أونكتاد) الذي عقد في بانكوك قال بوتفليقة مؤمِّناً على كلام عنان: إنه يجري حاليا
رسم خريطة جديدة للعالم.. يتم استبعاد قارة هي (إفريقيا) منها بوضوح
وببساطة
وقد يبدو العجب حين يتذكر المرء أن هذه القوى الجديدة التي تريد أن تزيل
جميع الحدود هي نفسها القوى التي رسمت الحدود ذاتها في بدايات القرن العشرين
الميلادي، والتي ما زالت آثار هذا الرسم قائمة حتى الآن بإشكالاته وخصوماته.
فما قصة هذه القوى مع الحدود؟
تزييف التاريخ:
التاريخ يصنعه الأقوياء، وهذا مسلَّم به، سواء كانت القوة حسية أم معنوية،
أما الضعف فليس له ثمر إلا التبعية والإذعان، والاستسلام والذلة، ومن هذا ...
المنطلق، وبمقتضى السنن الإلهية، فإن الأقوى يفرض ما تطغيه به قوته، وما تدفعه إليه مصلحته، دون النظر إلى اعتبارات أخرى، خاصة إذا كانت القوة مادية بحتة. وتقود الولايات المتحدة العالم الآن، ومع استفرادها بالسيطرة بعد انتهاء الحرب الباردة، أطغاها هذا الاستفراد، فراحت تبالغ في التطاول على العالم، وأطلقت عليه كلب الرأسمالية المسعور (العولمة) . بيد أن الولايات المتحدة في هذا السعي الجديد لم تقف عند حد تعديل الجغرافيا، بل سبقت ذلك بتزييف التاريخ، بدعوى أنها صاحبة رسالة إلهية مفوضة بها في هذا التغيير.
فهذا جورج واشنطن أول رئيس أمريكي في خطابه الرئاسي عام 1789م
يقول: (إنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي) ، وهذا ما قاله توماس
جيفرسون في خطابه الرئاسي عام 1801م: (الأمريكيون شعب الله المختار) وهو
ما يعني بلغة التوراة المحرفة صفوة العالم، لهم الحكم والهيمنة اختياراً أو قوة
وقسراً.
أما الرئيس (دوايت أيزنهاور) فقد خاطب أمته عام 1953م قائلاً: (لمواجهة
تحديات عصرنا حَمَّل القدر بلدنا مسؤولية قيادة العالم الحر) .
الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل (1819-1981م) قال: (نحن رواد العالم
وطلائعه، اختارنا الرب، والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير. لقد بات لزاماً على
أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة. نحن الطليعة تنطلق إلى البرية لتقدم ما لم يقدمه
الأوائل) .
(ألبرت بيفريدج) عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي ألقى خطاباً في مجلس
ولايته قال فيه: (إن الله لم يهيِّئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها
بكسل ودون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! ! كي نتمكن من نشر النظام
حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية
الهَرِمَة، وبدون هذه القوة ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله
الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس فهو شعب مختار يقود العالم أخيراً إلى تجديد
ذاته) !
أما المفكر والقاضي الأمريكي أوليفر وندل هولمز (1841 1935م) فيقول:
(الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى) . وفي هذا السياق العولمي
نفسه قال هنري كابوت لودج: (الدول الصغيرة شيء من تراث الماضي الذي عفا
عليه الزمن ولا مستقبل لها) .
كما اعتبر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية أنفسهم شعباً مختاراً
منذ قرون بقراءة كتابهم المقدس، إنهم بذلك النور والإرشاد للشعوب الأخرى؛
لأنهم الشعب المختار من الله؟ الفكرة الرئيسة: هي أن الله يساعد المختار، أما
نجاحُه فلا يبدو لنا مسوَّغاً في عيون الرب فحسب، بل والطرق المستخدمة لتحقيق
هذا النجاح يجب أيضاً أن تكون مسوَّغة! ! [2] .
وبهذا الادعاء للحق الإلهي في التصرف في شؤون العالم، وبأي طريقة كانت
راح الأمريكان يشوِّهون وجه التاريخ ويزيفون حقائقه.
العولمة.. ثور الرأسمالية الهائج:
الرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على أساس إطلاق
الحرية الشخصية للفرد فيما يعمل وفيما يكسب، وفيما ينفق دون حدود أو قيود،
ومن دون مراعاة لدين أو خلق، وتقوم على أساس تقديس الملكية الفردية، والبحث
عن الربح بشتى الطرق والأساليب، والمنافسة والمزاحمة في الإنتاج وفي
الأسواق.
وقد مرت الرأسمالية بثلاث مراحل مختلفة:
الأولى: تبدأ من نهاية القرون الوسطى وحتى عام 1917م، وكانت تتسم تلك
المرحلة باعتمادها على استنزاف موارد الدول الأخرى من خلال احتلالها
العسكري.
الثانية: ما بعد قيام الثورة الشيوعية عام 1917م وحتى انهيار المعسكر
الشرقي عام 1990م، وفيه حاولت الرأسمالية استخدام الأدوات التجميلية لوجهها
القبيح حتى تستطيع الاستمرار في مواجهة المعسكر الاشتراكي.
الثالثة: وهي التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي. وهنا ومع هذا الانفراد
عادت إلى طبيعتها الأولى من نهب موارد الدول وخاصة العالم الثالث، ولكن
بطرق أكثر إجراماً وخداعاً من خلال المؤسسات والمنظمات والاتفاقيات الدولية.
وكان هذا الطور الأخير هو طور (العولمة) ، والعولمة كما يريدونها هي
اتجاه العالم الآن ليصبح كياناً واحداً في كل المجالات، بدءاً من الاقتصادي وانتهاء
بالثقافي، ومروراً بالسياسي والاجتماعي.
هذه الإرادة الدولية الجديدة التي تحاول فرضها على الدول الضعيفة وأكثرها
إسلامية تقبلتها هذه الدول بالخوف، وعدم القدرة على المواجهة وذلك لعدة أسباب:
الأول: أن القوى الموجهة للعولمة هي قوى غربية (نصرانية ويهودية)
ولهذه القوى تاريخ عداء مع المسلمين ضارب في القِدَم، ولا ينتظر لمستقبله إلا
الزيادة في العداء [ «ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
[البقرة: 120] . ويقول تعالى: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] .
ولم يكن الغرب أظهر منه، وأقوى على المسلمين من اليوم؛ فمع هذا الظهور لن يكون العداء إلا إلى زيادة الرغبة في الكفر، كما نصت آية الممتحنة.
الثاني: أن هذه الدول التي تقود هذه العولمة هي نفسها التي أتت بنارها
وحديدها لقتل المسلمين ونهب ثرواتهم والتنكيل بهم على مر عصور طويلة.
الثالث: أن العولمة لم تتحول بعدُ إلى نظرية مستقرة؛ فهي ما زالت في طور
التشكيل، والريبة من مراميها ما زالت كثيرة.
الرابع: حجم القوة المادية التي تمتلكها، بل وتحتكرها وتتحكم فيها،
فالتدفقات العالمية العالية، والتقنية الحديثة، والسيطرة على الموارد الطبيعية دون
ملكيتها بالضرورة والسيطرة على وسائل الإعلام، واحتكار أسلحة الدمار الشامل،
كل هذه جعلت حجم الخوف يتزايد لدى الدول الضعيفة.
الخامس: انفراد المعسكر الرأسمالي بالعالم، فلم يعد هناك شرق وغرب، بل
(غرب وغرب) .
لا عزاء للدولة:
إذا كانت الدولة عبارة عن مجموعة من الأجهزة، فيها ما يتكلف بالردع
والعنف والمراقبة مثل الجيش والشرطة والقضاء والسجون.. إلخ وفيها ما يختص
بالدعاية والتعبئة والتوجيه كالتعليم والإعلام والمؤسسات والأحزاب.. إلخ، فإن
الدولة تضطلع بالقيام بواجبها في الحكم والتحكم في الأفراد، والمكان الذي يحدها،
وهي التي تحتكر وسائل (العنف) إن جازت هذه التسمية التي تضمن من خلال
هذه الملكية التحكم في (العنف) وهي المسؤولة عن (الفرد) في القيام باحتياجاته
المادية والأدبية، كما هي مسؤولة عن حمايته، وحماية حقوقه المكفولة له.
كما أنها القائمة على مراقبة الأنظمة والمعايير التي تكفل ضبط المعاملات
المختلفة داخل الدولة، وبين الدولة وغيرها من الدول.
هذه الخصائص وغيرها يندرج تحت مسمى: (سيادة الدولة) ومع الدعوة
الجديدة المطروحة على لسان الأمين العام للأمم المتحدة من أن سيادة الدولة بهذا
المعنى يتم إعادة تعريفها بواسطة قوى العولمة الجديدة، فإن الدولة سوف تتحول
أمام هذه القوى إلى أداة لتيسير تحقيق تلك الأهداف.
لقد كان لما تملكه هذه العولمة أو تتحكم فيه كالمنظمات الدولية، المؤتمرات
الدولية، والشركات العملاقة، (العابرة للقارات) أو (متعددة الجنسيات) أو ...
التكتلات الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي، وحتى مشاريع السلام، كان لكل ذلك
الأثر البالغ في تغيير شكل الدولة بصورة كبيرة، وأصحبت (الدولة) دولة
كوميدية، أو دولة رخوة، لها المظاهر الخارجية لدولة ذات سيادة، ولها صورياً كل المهام التي كانت تقوم بها في السابق، لكنها في الحقيقة تقوم بعملية تكاد تنحصر في بيع مرافق الدولة، أو ما يسمى بـ (الخصخصة) .
فلم تعد الدولة قادرة على أن تشكل ملجأً أو حاجزاً آمناً ضد الاقتصاد المسيطر
على العالم، وأكثر من ذلك؛ فإن الدولة ذاتها تسعى للحصول على مكاسب مادية
من ظاهرة العولمة، بيد أن هذه الدولة التي تحاول التلاؤم باستمرار مع هذه
الظاهرة تجد نفسها ليست سوى وكيل في هذه العملية؛ فهي محاطة بقوى عالمية
تخرج عن نطاق سيطرتها، مما يضعف من قدرة الساسة والقادة على صناعة
القرار السياسي والاقتصادي؛ إذ يواجَهون بقوة الإنتاج العالمي والتمويل الدولي
وأعباء المديونية الخارجية مما يحد من فرص القادة المحليين في التركيز على
تحسين الظروف الوطنية في مواجهة الأشكال والممارسات التنافسية من الرأسمالية
المعولمة. وهذا ما يعبر عن أبرز مظاهر ضعف السيادة الوطنية للدول واختراقها
لعصر ما بعد الحرب الباردة [3] .
ولكن سيبقى الأمر الأهم في ذلك كله هو معرفة الهدف والمغزى من هذه
المحاولة لرسم خريطة جديدة للعالم، والقضاء على سيادة الدولة، وكيف تحقق لهذه
القوى إلى الآن إنجاز كثير من أهداف هذه الخطة؟
دين العولمة.. والدين:
تنطوي العولمة في أساسها على إلغاء كل السلطات وأعلى هذه السلطات هي
سلطة الدين؛ فكان سعي الرأسمالية الأهم متوجه إلى تنحية الدين، واستبداله بدين
العولمة، أو كما أطلق عليها البعض: (وحدانية السوق) [4] ، أو (عقيدة
العولمة) [5] .
ولقد كانت النقطة الأساسية التي استندت إليها العولمة في انطلاقها، هي حسم
الصراع مع الدين. تقول إحدى داعيات العولمة: (إن حسم الصراع بين الدين
والدولة كان يعني البعد بالدين عن استقلاله الذي يحقق من خلاله أهدافاً وأغراضاً
سياسية، كما أفاد هذا الحسم في استبعاد عوامل القهر والتعصب والجمود، ودحض
دعاوي الحكم بالحق الإلهي الذي روَّج له بعض رجال الدين لإحكام سيطرتهم على
الأفراد والمجتمع والدولة ومصادرة كل أنواع الحريات، وهكذا فإن حسم هذا
الصراع والنأي بالدين عن النزاعات السياسية، كان نقطة فاصلة في تطور
الديمقراطية منذ عصر النهضة، والذي كان له أكبر الأثر في تحرير العقل وترسيخ
حرية الفكر.
فعلى أنقاض فكرة الحكم بالحق الإلهي تعمقت الفكرة التي تؤكد أن الأمة هي
مصدر السلطات، ومن هنا تطورت مفاهيم الديمقراطية الليبرالية، فالفلسفة
الليبرالية تقوم على المذهب الفردي وتعظم قيمة الإنسان بصفته الفردية) [6] .
فالعولمة في سعيها لهدفها وبمقتضى العداوة الطويلة بين سادتها وبين الإسلام،
أرادت القضاء على ما تبقى من الإسلام في نفوس الناس.
ولقد كانت العولمة الثقافية من أخطر وجوه العولمة، والتي تُعنى بإذابة
الفوارق العقدية والفكرية والسلوكية وطمس الهوية الإسلامية، والدعوة إلى الإباحية
والانحلال.
وكما يشير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أن العولمة تشير عادة إلى تدفق
التجارة ورأس المال على الصعيد الدولي. ولكن انتشار الثقافات على الصعيد
الدولي كانت له على الأقل أهمية انتشار العمليات الاقتصادية نفسها. واليوم، هناك
ثقافة عالمية آخذة في الظهور، ومن خلال العديد من وسائط الإعلام من الموسيقى
والسينما إلى الكتاب فإن الآراء والقيم الدولية تختلط بالهويات الوطنية وتلونها
بطابعها. وقد شهد انتشار الأفكار عبر التلفزيون والفيديو تطورات ثورية، وهناك
الآن أكثر من 1. 2 بليون جهاز تلفزيون في جميع أنحاء العالم، وتصدر الولايات
المتحدة أكثر من 120. 000 ساعة من البرامج التلفزيونية سنوياً إلى أوروبا
وحدها، وتنمو التجارة العالمية في البرامج بأكثر من 15% سنوياً.
وتفرض الثقافة الشعبية الآن ضغوطاً أقوى من أي وقت مضى. ومن مانيلا
إلى ماناغوا، ومن بيروت إلى بكين، وفي الشرق والغرب، وفي الشمال
والجنوب، أصبحت أشكال الزي (الجينز، وتصفيفات الشعر الخاصة، والـ (تي شيرت) ، والألعاب الرياضية، والموسيقى، والعادات المتعلقة بتناول الطعام، والمواقف الاجتماعية والثقافية، أصبحت كلها تشكل اتجاهات عالمية. وحتى الجرائم سواءاً أكانت تتصل بالمخدرات، أو بإساءات معاملة المرأة، أو
الاختلاس، أو الفساد أصبحت تتجاوز الحدود، ومتشابهة في كل مكان. لقد انكمش العالم في أوجه عديدة [7] .
إن الدعوة لإنهاء الجغرافيا تهدف في أساسها إلى حرية الوصول إلى كل
الأرض دون عوائق أو معارضة، أو حتى إلى تأشيرة دخول أو زيارة سياحية؛
إنها استباحة مطلقة، ولن تعدم قوى العولمة حجة أو تكأة للوصول إلى أغراضها في
أراضي المسلمين وحرب الإسلام في أرضه.
إله المصلحة:
(لا تحدثني عن التاريخ أو عن الحق أو عن الكرامة، أوعن الحرية، وإنما
حدثني عن المنفعة وعن القوة) هذا أحد المبادئ المترسخة لدى قوى العولمة، وبما
أن الجشع وحب التملك والقضاء على الغير من أجل المصلحة الفردية، هي أبرز
سمات الرأسمالية، وحيث إن العولمة ثورها الهائج فقد ارتفعت قيمة هذه السمات،
وزادت حدتها مع زيادة قدرات الوسيلة الجديدة للرأسمالية. بيد أن العولمة في
ظاهرها خبيثة خائبة، خبيثة في أنها تحمل شعارات براقة ووعوداً وأمانِيَ بالرخاء
والسعادة لكل البشر، فانخدع بها الضعفاء والمقهورون، فزادتهم غماً إلى غمهم.
وخيبة العولمة في خسارتها السريعة جداً لتلك الشعارات البراقة التي رفعتها،
وما ذلك إلا لارتفاع وتيرة الجشع فيها حين نادى (العالميون) بإنهاء الجغرافيا
وإزالة سيادة الدولة على حدودها، كان ظاهرها الرحمة والشفقة على حقوق الإنسان
(فمجرد طفل جائع يبكي في أدغال إفريقيا مثلاً يستثير العطف وحركات المشاركة
الوجدانية وغير الوجدانية لدى بعضٍ على ضفاف نهر الدانوب أو الرور أو
المسيسيبي، وعلى ذلك قس. ليست القضية تدخُّل هذه الدولة في الشأن الداخلي
لتلك الدولة بقدر ما هو الشعور المتنامي بالمصير المشترك لبني الإنسان! ! إن
العولمة المعاصرة سوف تؤدي في النهاية إلى حرمان الدول من حق السيادة المطلقة
وصولاً إلى مفهوم جديد للسيادة يركز على العالم أجمع بصفته الوحدة السياسية التي
تحل محل الدولة التقليدية المعتادة) [8] .
ولا ندري هل نذكِّر أولئك الدعاة بما قاله بوتفليقة أم نحيله على مآسي إفريقيا
التي لا تنقطع في مدنها وقراها وليس في أدغالها؟
حق الإنسان.. أم التدخل والاحتلال:
تصدر وثيقة إعلان حقوق الإنسان عن أربعة مبادئ أساسية:
1- يولد الناس ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق.
2- يمكن للناس أن يفعلوا كل ما لا يضر بالغير؛ وبناء على ذلك يمكنهم أن
يفكروا ويتكلموا ويكتبوا ويطبعوا في حرية.
3- للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها.
4- يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب أعينها دائماً حقوق
الأفراد من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى [9] .
بالنظر إلى هذه المبادئ نجدها في ظاهرها تحافظ على حقوق الإنسان، ولكن
بالنظر إلى الواقع نجد أن الدساتير والمواثيق الوضعية لم تتناول تحديد الحقوق
بشكل قانوني واضح، وإنما عمدت إلى الحرية والمساواة بأسلوب عاطفي أدبي مما
يزيد من مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، أو عدم إقرارها في
المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة التي تمارسها الدول الديمقراطية التي
تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة التي يمارسها
العديد من الدول الكبرى في العالم.
علاوة على أن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، والعهد الدولي بشأن
الحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966م، لم تنص صراحة
على الوسائل الكفيلة بضمان حقوق الإنسان، واكتفت بالنص على ضرورة صيانتها
فقط. فعلى الرغم من إقرار الإعلان العالمي، والعهد الدولي لحقوق الإنسان
المتعلقة بشخصه وبدنه، وحرية تفكيره، وعدم اعتقاله اعتقالاً تعسفياً، وعدم
تعذيبه أو حبسه بدون نص قانوني، إلا أن الإعلان الدولي لم يحدد الوسائل الدولية
لكفالة تمتع الإنسان بحقوقه وحرياته المقررة فيه، وهذا ما يجعل حقوق الإنسان
خاضعة لاعتبارات ذاتية، ترتبط بمصلحة الدولة، أو مصلحة الحكام، دون النظر
إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات [10] .
إن آثار العولمة على الإنسان، وحقوقه التي تم تجاوز الحدود الجغرافية
للمطالبة بها كانت لها آثار سيئة للغاية؛ فقد كان إهمال البعد الاجتماعي سمة
جوهرية من سمات العولمة؛ ففي الوقت الذي تتصاعد فيه أرباح هذه الشركات
والفئات المرتبطة بها على نحو فلكي، تتدهور الأحوال المعيشية للعمال وللطبقة
الوسطى بشكل صارخ بعد إلغاء الدعم وزيادة الضرائب غير المباشرة وخفض
النفقات الحكومية ذات الطابع الاجتماعي (على التعليم والرعاية الصحية
ومشروعات الضمان الاجتماعي) وبعد تخصيص كثير من مشروعات الحكومة
وأنشطتها، فقد أصبح ينظر الآن إلى مشاركة العمال ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء
في ثمار التقدم التكنولوجي ونمو الإنتاجية في عالم ما بعد الحرب وإبان دولة الرفاه
ونظم الاشتراكية الديمقراطية وأثناء الحرب الباردة على أنه كان تنازلاً من جانب
رأس المال لم يعد له الآن ما يسوِّغه، وأن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات
الفقراء أصبحت أعباءاً لا تطاق. لا عجب، والحال هذه، أن تتزامن العولمة مع
عمليات إثراء لم تشهد لها الرأسمالية مثيلاً من قبل إلى جانب عمليات إفقار شديد
للعمال وللطبقة الوسطى تذكرنا بالمراحل الأولى لنشأة الرأسمالية. ويبدو أن هذا
التناقض الذي يستفحل سنة بعد أخرى سوف يخلق احتمالات قوية لإحياء كثير من
أشكال الصراع الطبقي وإعادة تكوين القوى المناهضة لهذا الوجه اللاإنساني
للرأسمالية المعولمة، خاصة بعد أن كثر الحديث في الآونة الراهنة عمَّا يسمى بـ
(ديكتاتورية العولمة والسوق) من جانب عدد كبير من المفكرين والسياسيين والكتاب
الذين أزعجتهم هذه الأوضاع الاجتماعية.
ومع اتساع حرية الحركة لرأس المال عبر الحدود دون أية عوائق عمدت
كثير من الشركات دولية النشاط ومتعددة الجنسية إلى نقل مصانعها من بلادها
الأصلية؛ حيث ترتفع أجور العمال وينخفض متوسط معدل الربح، إلى البلاد
النامية حيث انخفاض الأجور وتوفر المزايا العديدة التي ترفع من معدل الربح.
وكان لذلك بلا شك علاقة واضحة بزيادة بطالة عمال هذه المصانع. أضف إلى ذلك
أن الثورة التقنية الهائلة المرافقة للعولمة قد أدت إلى خلق اتجاه لا رجعة فيه
للاستغناء المتواصل عن العمالة وإلغاء كثير من المهن والوظائف بعد إحلال الآلة
مكان الإنسان [11] .
وهكذا رفع عديد من الساسة والكتاب في الغرب دعوات تقول: إن زيادة
معدلات البطالة، والفقر في الدول الصناعية تقتضي (عدم تبديد الموارد في ...
الخارج) أي: عدم توجيه معونات للدول المهمشة التي كانت تعرف بالدول النامية. ... وهكذا فإن (المجتمعات العاجزة عن إنتاج غذائها، أو شرائه بعائد صادراتها ...
الصناعية مثلاً لا تستحق البقاء، وهي حالياً عبء على البشرية يمكن أن يعرقل تقدمها الذي حكمه دائماً قانون: البقاء للأصلح، ومن ثَمَّ يجب إسقاط البلاد التي تعيش رغم كل المساعدات في حال فقر الأغلبية من سكانها يجب إسقاطها، من حساب هذه الشركات (الكوكبية) ، وأن تترك وشأنها، ولا تُمنح أية معونات تنمية اكتفاءاً بالمنح الإنسانية في الظروف الاستثنائية) [12] .
هذا وقد اعترف الرئيس الأمريكي بأثر العولمة السيِّئ على الإنسان وحقه،
فيقول كلينتون: إنه لا بد من مراعاة ظروف الإنسان الذي يدفع منذ أعوام ثمناً
باهظاً للعولمة، هذا الإنسان غير مستفيد منها حتى الآن، وفي الغالب لن يستفيد
منها قبل مرور وقت طويل، إنما يدفع أكثر مما دفعه الفلاحون في بدايات عصر
الثورة الصناعية من قمع وفقر وانتزاع من المكان والهوية والتاريخ، ويدفع أكثر
مما دفعه العامل الصناعي في جميع تجارب التصنيع من ظلم وأمراض
واغتراب [13] .
هذا الاعتراف من رئيس القوى الموجهة للعولمة يصادق على ما ذكر من
شراسة العولمة وأنها أخطر وأقبح مراحل الرأسمالية، ويصادق كذلك على أن هذه
القوى كاذبة في دعواها أن هدفها الأساس من إلغاء سيادة الدول إنما هو لحماية
حقوق الإنسان، وأن المواثيق التي تكلم عنها عنان والتي تحظى بمرتبة القداسة لم
ترفع بعد من أكوام (الكناسة) . إن الدعوة إلى التدخل في سيادة الدولة بحجة حماية
الحقوق الإنسانية ليست إلا حجة واهية لاستعمار جديد بصلف ووقاحة.
الشركات (ناهبة) القارات! !
في صورة بالغة للجشع والطمع عاد الإقطاع بوجه آخر، ورغم نعومته وبهاء
رونقه إلا أن هذه المساحيق لا تخفي ما وراءها من قبح.
فمن خلال الاستناد إلى نظرية (نهاية الجغرافية) وجعل العالم سوقاً واحدة
وكتلة واحدة يتحرك فيه كل شيء دون قيود ظهر ما يسمى بالشركات (متعددة
الجنسيات) أو (العابرة للقارات) ، لقد انتهزت الرأسمالية سقوط الشيوعية وأطلقت
وحوشها الكاسرة على البشر تنهبهم، وتسلبهم حقوقهم؛ فقد شهد الاقتصاد العالمي
منذ منتصف السبعينيات العديد من التغييرات السريعة والمتلاحقة، وقد تسارعت
وتيرة هذه التغييرات ومنحاها بشدة منذ نشأة منظمة التجارة العالمية في يناير 1995
م، وعلى رأس هذه التغييرات ازدياد النزعة إلى الاندماجات الكبرى والتي بدأت
في البروز خلال حقبة التسعينيات. ففي عام 1998م تم عقد 89 صفقة اندماج
تزيد قيمة كل منها على المليار دولار، وذلك مقابل 58 صفقة مماثلة في
عام 1997م، 45 صفقة في عام 1996م، 35 صفقة في عام 1995م، وقد تركزت هذه الصفقات في قطاعات الخدمات المالية والتأمين والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية. وبلغت قيمتها الإجمالية في عام 1998م 544 مليار دولار، بزيادة 60% عن عام 1997م الذي قدرت قيمة الصفقات التي تمت خلاله بنحو 342 مليار، مقابل 275 مليار عام 1996م و237 مليار عام 1995م.
وقد أدى ذلك إلى ازدياد سيطرة الشركات متعددة الجنسية على مقاليد الأمور
بالأسواق الدولية، وهناك الآن 350 شركة كبرى تستأثر بما نسبته 40% من
التجارة العالمية، بل إن ثلث التجارة العالمية تتم بين هذه الشركات وفروعها في
البلدان الأخرى. وبلغت الحصة المئوية لأكبر عشر شركات في قطاع الاتصالات
السلكية واللاسلكية 86% من السوق العالمي، وبلغت هذه النسبة 85% في قطاع
المبيدات، وما يقرب من 70% في قطاع الحاسبات الآلية، و60% في قطاع
الأدوية البيطرية، و35% في قطاع المواد الصيدلانية، 32% في قطاع البذور
التجارية [14] .
فلم يكتف العالم المتقدم بإقامة تكتلات اقتصادية بين الدول كالاتحاد الأوروبي،
والنافتا [15] في أمريكا فقام بتطوير أشكال التكتل كي يضمن الهيمنة المطلقة على
السوق الدولية.
ومن هنا فإن اندماج الشركات دولية النشاط من شأنه أن يحكم السيطرة
السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح قطب واحد.
هذه الشركات تسعى للاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير والانتشار
الجغرافي في توسيع أسواقها وتخفيض تكلفة الإنتاج والنقل وإعادة تقسيم العالم على
المستوى الدولي بما يدعم كفاءتها الاقتصادية وفرض سيطرتها على الأسواق. هذه
الشركات أصبحت تتضخم بشكل مفزع من خلال الاندماجات السريعة والمتلاحقة؛
حيث أصبح العالم أمامها سوقاً واحداً.
على سبيل المثال: سوق السيارات سوف تسيطر عليه أقل من عشر شركات
في العالم في ثلاث دول متقدمة.
لقد أصبحت هذه الشركات هي التي تتحكم في تدفقات كتل الأموال والأسهم
والسندات وتحركاتها، وفي أسواق الأوراق النقدية المصرفية بعيداً عن العملات
الوطنية حتى للدول الكبرى، ومخترقة بذلك حدود البنوك المركزية وقدراتها، حتى
في الدول الكبرى أيضاً.
لقد كانت هذه الشركات هي اللاعب الرئيس وراء اتفاقيات الجات عام 1994
م وانتشار منظمة التجارة العالمية من أجل الدفع بقوة بما يعرف بتحرير الأسواق
والتجارة العالمية وتدفقات السلع والمنتجات والأموال السائلة والأوراق المصرفية
والمواد الإعلامية والإعلانية.
إن هذه الشركات تعتبر الأرض كلها سوقاً كبيراً لها بما فيها وبما عليها،
وتتنافس هذه الشركات في اقتسام هذه (الأراضي) دون أي اعتبار لقيم أو أخلاق.
هذه الشركات أصبحت رأس الحربة للسياسات الاستعمارية الجديدة التي
ترسمها القوى الدولية الرأسمالية فلم تعد في حاجة إلى قوات مسلحة ضخمة وقوية
لتأمين مصالحها الخارجية؛ إذ أصبحت قوتها الاقتصادية تمكنها من دخول أية
دولة، وتتيح لها أن تمد نشاطها إلى مختلف أنحاء المعمورة مستخدمة في ذلك رشوة كبار المسؤولين وذوي النفوذ السياسي وسلاح الإعلام على نطاق واسع، وربما يفسر هذا عمليات خفض نفقات التسليح والإلغاء التدريجي للجيوش المعتمدة على ... (الخدمة الوطنية العسكرية) ، والتحول إلى جيوش محترفة قليلة العدد نسبياً وذات تكنولوجيا بالغة التعقيد.
ورأسمالية اليوم لم تعد في حاجة إلى الدولة في مجال خدمات الأمن الداخلي،
وفض المنازعات المدنية، وخدمات البريد والاتصالات. والأكثر من هذا أنه في
ضوء التطور المذهل الذي حدث في نظام النقد الدولي وتعويم أسعارالصرف
وتحرير القطاع المالي، والاستخدام الواسع لبطاقات الائتمان Credit Cards لم
تعد الدولة مسيطرة على الكتلة النقدية داخل حدودها، حيث انتزعت قوى السوق
من إطار سيادة الدولة حق إيجاد النقود وضبط عرضها. بل إن تآكل قوة الدولة
وسلطتها تبدو الآن بشكل جلي فيما تمخض عن العولمة من إضعاف شديد لفاعلية
أي سياسة اقتصادية كلية تراها الدولة صالحة لاقتصادها المحلي ما لم تشاركها في
ذلك الشركات متعددة الجنسية.
هذه الشركات نادراً ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة (أي طويلة الأجل) ،
وإنما تدخل بما يعرف (بالأموال الطائرة) في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة
العائد، والتي تحقق لها عوائد هائلة دون أن يكون لذلك مردود على التنمية
المحلية، بل ربما يحدث مثلما حدث في دول النمور.
وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة، فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من ...
التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال
المحلية، مما يعرقل الاقتصاد المحلي.
أضف إلى هذا أن جل أنشطتها يقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد
الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد. إن هذه الشركات تقوم بامتصاص الفوائض
المالية لدى المستهلكين عن طريق الإغواء والإغراء الاستهلاكي [16] .
إن الاتفاقيات والمنظمات الدولية التي سعت هذه الشركات إلى قيامها وإقرارها
تعطي لها الحرية المطلقة في فعل ما تشاء داخل الدولة المستقبلة لها، وشد يد
الحكومات في إقرار أية إجراءات أو سياسات تتعارض مع توجهات هذه
الاستثمارات عن طريق إزالة كافة الحواجز والعوائق التي تحول دون الحصول
على أقصى منفعة من هذه الدول.
وقد سعت هذه الشركات (الناهبة) للقارات ومن ورائها قوى العولمة الجديدة
إلى عدم حل أزمة الديون الخارجية للبلاد النامية، وإنما الاكتفاء بإدارة الأزمة على
النحو الذي يجعل هناك؛ ضماناً لاستمرار هذه الدول في دفع الفوائد المرتفعة
والأقساط المستحقة باعتبار أن منفذ (الإقراض) بأسعار الفائدة المعومة والمرتفعة ما
يزال مربحاً لرؤوس الأموال الفائضة.
كيف يواجه الضعفاء؟
في ظل هذا الواقع الضاغط بشدة على الدول لتغيير خرائطها وقيمها: ماذا
تفعل الدول الضعيفة، والدول الإسلامية والعربية داخلة كلها تحت هذا المسمى؟
إن دولاً كثيرة من هذه الفئة لم تبلغ بعد إلى أن يعترف بأنها (دولة) بصورة
كاملة، فقد عجزت عن إنجاز مهمات الدولة، وأخفقت فيها أيما إخفاق وضاعف من
هذا الإخفاق مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والإداري والاستبداد. لقد أهدرت
الثروات النفطية والأرصدة الدولارية في مظاهر الاستهلاك والترف وصفقات
السلاح الضخمة التي تستخدم غالبا للقمع للداخلي وإرهاب الشعوب.
إن دولاً أو كيانات بهذا الوصف لن تستطيع الصمود أمام هذه الوحوش
الكاسرة، وإن كان هناك بعض الدول التي تميزت بقدرات عالية في التصنيع
والتطور التقني والتصدير مثل كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، وقد حدث لها ما
لا يخفى في مواجهة هذه القوى، فكيف بمن هي دونها؟
إن هذه الدول في حاجة إلى الاعتصام بالله عز وجل ودينه وتطبيقه في الحياة
قولاً وعملاً، حكماً وتحاكماً، إن هذا الاعتصام بحبل الله كفيل مع السعي للأخذ
بوسائل الإصلاح والتغير بمواجهة هذه القوى.
نهاية الجغرافية أم نهاية العولمة؟
أفاق العالم أخيراً من سكرة (العولمة) فقد ظل العالم في حال غيبوبة، وافتقاد
للتوازن، خلال التسعينيات؛ إذ كانت أدوات العولمة (النشطة) تتمثل في دس ... ... (السم في العسل) ، وتقدم للعالم صورة وردية لمستقبل العالم في ظل العولمة؛ وذلك
تحت شعار (العولمة السعيدة) على حد ما جاء في بعض الكتابات التبشيرية هنا
وهناك.
وهكذا كان العالم خلال التسعينيات في حال تخدير، ولكن عند نهاية
التسعينيات تخمرت تناقضات العولمة في الشمال والجنوب، وأفاق العالم من
غفوته، وأطلق صيحته المدوية في سياتل ضد ترتيبات واتفاقات (منظمة التجارة الدولية) ، والاعتراض على إطلاق جولة جديدة للتفاوض بشروط بلدان العالم الأول، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً.
وجاءت الشعارات والهتافات التي ملأت شوارع سياتل لتعكس معاني عدة في
مقدمتها:
العالم لن يتحول إلى سلعة يتداولها الأقوياء.
الناس والشعوب قبل الأرباح.
والكل يعلم أن هذه التظاهرات الكبرى لم تكن تظاهرات للرعاع أو الطلبة
المتحمسين، أو (المراهقين السياسيين) ، بل كان قوامها جمهرة عريضة محترمة
من النقابيين والمهنيين، وقيادات المجتمع.
وليس هناك من شك في أن الاجتماع الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية
في سياتل أخفق إخفاقاً ذريعاً ومدوياً؛ إذ عجز المؤتمر عن إصدار (بيان ختامي)
يحدد أسلوب عمل المنظمة وأدواتها مع بداية الألفية الثالثة، كذلك لم يُفلح في
إطلاق جولة جديدة من مفاوضات تحرير التجارة كما كان مقرراً! ولعل أهم نتائج ... (معركة سياتل) كما أطلق عليها أن أية جولة جديدة من جولات التفاوض حول مزيد
من تحرير التجارة الدولية لن يتم بالسهولة التي كانت تتصورها الولايات المتحدة.
إن حركة الاعتراض التي ظهرت في سياتل ضد منظمة التجارة العالمية ...
(سوف تنتشر من الآن فصاعداً في أنحاء الأرض كافة) .
كما أن عدم نجاح مؤتمر سياتل يعكس بداية تفجر تناقضات العولمة،
وبخاصة عدم التوازن بين مصالح البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وإعادة
توزيع عناصر القوة فيما بين بلدان العالم الأول.
وفي طوكيو قالت الصحف اليابانية: إن تعذُّر نجاح المؤتمر ألقى مياهاً باردة
على الثقة المفرطة التي أبدتها الولايات المتحدة، وأثبت أنه لا يمكن التوصل إلى
إطار عمل لتحرير التجارة على الصعيد العالمي من دون الأخذ في الاعتبار مصالح
الدول النامية والقوى الاقتصادية الأخرى في العالم، إن المؤتمر كان فرصة للدول
المتقدمة والنامية لكي تقول: (لا) للولايات المتحدة التي اتصفت تصرفاتها بالأنانية
والصلف والغرور، لكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم.
ولعل أهم منجزات هزيمة (مؤتمر سياتل) هو إبطاء الهرولة نحو الاندماج
في مسيرة العولمة من دون تأمل ورَوِيَّة. ولعل من المفارقة أن نقد ممارسات
العولمة بدأ في العالم الأول، وعلى المقيمين خارجها أن يراعوا فروق التوقيت! !
ولعل الشعار الذي رفعه المعادون والمتظاهرون: (لا نريد تجارة حرة بل
نريد تجارة عادلة) ولعل التأمل في مغزى الفرق بين تجارة حرة، وتجارة عادلة
هو فرق كبير؛ لأنه قد تكون الحرية بلا عدالة؛ ولأن الحرية التي لا تقود إلى
العدل والإنصاف ليست إلا شعاراً براقاً أجوف لا يحقق الاستقرار والتوازن على
الصعيد العالمي [17] .
وأخيراً: فإن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية؛ إذ إن مجاله كل
الأرض، بيد أن الإسلام دين الرحمة ودين العدل، ونحن على وعد من الله تعالى إن استقمنا بالتمكين والسيطرة على كل الأرض: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ......] الآية [النور: 55] . وكما بشر النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) [18] ، لكن ليس بأنياب العولمة ولا بوسائل الشركات عابرة القارات عفواً (ناهبة القارات) .
__________
(1) مجلة الإيكونوميست البريطانية، 18 25/9/1999م.
(2) لاهوت الهيمنة الأمريكية، يوهان جالتونج ضمن كتاب: أمريكا طليعة الانحطاط، لجارودي، ص 241 243.
(3) انظر: العولمة والعرب، خيارات اقتصادية مرة بين التهميش والإقصاء، أحمد ثابت، مجلة الاجتهاد، العدد/38/ شتاء/ 1418هـ 1998م.
(4) روجيه جارودي، أمريكا طليعة الانحطاط، الفصل الثاني، ص 39.
(5) جميل مطر: إنسان دافوس في مواجهة قوى ما فوق الدولة، جريدة الحياة، العدد: / 13497/18/11/1420هـ.
(6) العولمة دور جديد للدولة، د هالة مصطفى، مجلة السياسة الدولية، العدد/134/ أكتوبر/ 1998م.
(7) تقرير التنمية البشرية لعام 1997م، مجلة الاجتهاد، العدد 38/ شتاء 1418هـ 1998م.
(8) د تركي الحمد، السيادة في عصر العولمة، جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7439/25/12/1419هـ.
(9) التاريخ الفكري والسياسي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ألبير باييه، ترجمة: د محمد مندور، ص 25.
(10) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية، دراسة مقارنة، د محمد أحمد مفتي، د سامي صالح الوكيل، كتاب الأمة، شوال 1410هـ.
(11) انظر: تناقضات حاكمة لمستقبل العولمة، رمزي زكي، مجلة الاجتهاد، العدد/38، شتاء، 1418هـ 1998م.
(12) إسماعيل صبري عبد الله، (الكوكبة) الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية، المستقبل العربي، العدد: 222، أغسطس/1997م.
(13) إنسان دافوس في انتظار روبن هود، جميل مطر، جريدة الحياة، العدد: 13498/19/11/1420هـ.
(14) عبد الفتاح الجبالي، مؤتمر سياتل وتحديات العولمة الاقتصادية، ملف الأهرام الاستراتيجي، العدد/61/يناير/2000م.
(15) اتحاد يضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
(16) يراجع: العولمة والعرب، أحمد ثابت، تناقضات حاكمة لمستقبل العولمة، رمزي زكي، مجلة الاجتهاد، مصدر سابق، والكوكبة، إسماعيل صبري عبد الله، المستقبل العربي، مصدر سابق.
(17) منتدى دافوس والعولمة وعالم ما بعد سياتل، محمود عبد الفضيل، جريدة الحياة، العدد: 13473، 24/10/1420هـ.
(18) رواه أحمد، ح/ 16344.(149/94)
المسلمون والعالم
الأوضاع السياسية في سيراليون
عثمان محمد بيسي
تقع سيراليون على الساحل الغربي من إفريقيا وعاصمتها فريتاون،
وأراضيها قليلة الموارد، والمناخ عموماً رطب. تحازي الساحل على المحيط
الأطلسي أحراش ومستنقعات. عدد سكانها عام 1996م حوالي خمسة ملايين
نسمة، نسبة المسلمين فيهم 30%، ونسبة النصارى 10% والبقية 60% من ديانات ومعتقدات أخرى.
وفيما يلي نتحدث عن «كارثة الصراع على السلطة وأثرها على الإسلام
والمسلمين» :
1 - تاريخ الانقلاب وأسبابه:
قام صغار العسكريين من الجيش بالتعاون مع السجناء بانقلاب عسكري على
(تيجاني كابا) أول رئيس مسلم يحكم سيراليون منذ الاستقلال في 52/5/ 1997 م،
ففرّ الرئيس المدني المنتخب إلى جمهورية غينيا المجاورة.
ذكر المتمردون أسباباً لقيامهم بالانقلاب تتلخص في خمس نقاط كلها مزاعم
في عدم اهتمام الحكومة المدنية بالجيش، واتفاقية السلام مع المتمردين،
والصحافة، وتباطؤ الحكومة في دفع الزيادات على رواتب العمال والموظفين، ونحو ذلك.
أصدرت الحكومة المدنية بياناً ردت به على جميع مزاعم الحكومة الانقلابية
بما اقتنع به الشعب والجمهور.
انقسم المحللون لدوافع الانقلاب إلى ثلاثة أقسام: فمنهم من يرى أن الدافع
قَبَلي إقليمي لكون الرئيس المدني من حزب إقليمَيْ شرق البلاد وجنوبها،
والمتمردون شماليون، ومنهم من يراه سياسياً لخوف رؤساء الأحزاب غير الفائزة
على استقرار الحكومة للرئيس الحالي؛ فلا ضمان لمستقبل أحزابهم، ومنهم من
يراه دينياً لكون الرئيس أول حاكم مسلم للبلاد، وَوُفِّقَ في تخليص البلاد من كثير
من مشاكلها في وقت قصير، والمتمردون وحكومتهم كلهم نصارى.
2 - الانقلاب والرأي العام:
كان الرأي العام الداخلي والخارجي مضاداً للانقلاب العسكري هذا؛ مما أدى
إلى قيام الشعب عامة بالإضراب عن العمل في الدوائر الحكومية وغيرها، وإلى
قيام مظاهرات جماعية من فئات متعددة في البلاد أكثرهم طلاب الجامعات، فقابلتهم
الحكومة الانقلابية بالقمع والمذابح الرهيبة للسيطرة على البلاد.
كذلك يوجد انقسام داخل الجيش، وحدوث اصطدامات بين الانقلابيين
وميليشيات الحكومة المدنية في الأقاليم.
كان الغرض من إنشاء الميليشيات هو الدفاع المدني أمام خطر المتمردين في
البلاد، فأفراد هذه الميليشيات كانوا صيادين يتدربون على حمل السلاح لمقاومة
المتمردين، وهم متطوعون ملتزمون بالصدق والأمانة والإخلاص، ولذلك أحبهم
الشعب وأبغضتهم قوات الجيش التي دأب أفرادها على النهب والسلب عقب أي
مصادمات بينهم وبين المتمردين.
استعان الرئيس المدني المسلم بهذه الميليشيات في إخماد نار فتنة المتمردين،
فكان ذلك من أسباب تحالف بعض قوات الجيش مع المتمردين محتجين بأن الحكومة
المدنية آثرت المليشيات عليهم.
تَكَوَّنَ بعد الانقلاب «قوات الدفاع المدني» من الميليشيات خارج سيراليون
بغية إعادة الحكومة المدنية إلى الحكم.
هذا ولا يخفى على من كان يتابع أخبار سيراليون أيام الانقلاب أن جميع
الأسرة الدولية أدانوا الحكومة الانقلابية، وأنكروا عليها، ولم يعترفوا بها.
3 - الجهود الدولية والمحلية لحل الأزمة:
كان أول مسعى لحل الأزمة بعد الانقلاب مباشرة ما قام به سفراء دول
نيجيريا، وبريطانيا، والقائم بأعمال السفارة الأمريكية، والمبعوث الخاص للأمم
المتحدة، وبعض السياسيين البارزين الذين عقدوا لقاءات مع قادة الانقلاب إلا أن
جميع مساعيهم باءت بالإخفاق.
واستجابة لنداء الرئيس (تيجاني كابا) أصدر زعماء دول غرب إفريقيا أمرهم
بزيادة عدد وحدات قوات حفظ السلام الإفريقية في المنطقة، فاستولوا على مناطق
استراتيجية في البلاد.
وبناءاً على قرار القمة الثالثة والثلاثين لمنظمة الوحدة الإفريقية، وانعقاد
مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء في كوناكري تم إصدار قرار يقضي بإعادة
الحكومة المدنية الشرعية لسيراليون ولو اقتضى الأمر استعمال التدخل العسكري.
واستناداً إلى القرار السابق تم تشكيل لجنة وزارية رباعية من وزراء خارجية
نيجيريا، وساحل العاج، وغانا، وغينيا، كما تمت المصادقة عليه من قِبَلِ مجلس
الأمن الدولي بالأمم المتحدة.
بدأت اللجنة الوزارية الرباعية تنفيذ القرارات بالحوار مع الحكومة
الانقلابية، وانتهى بالخداع والانهيار من قِبَلِ الانقلابيين مما يستدعي التدخل العسكري؛ إلا أن الشعب يأمل في التفاوض السلمي خوفاً من إزهاق المزيد من الأرواح وتدمير مقومات البلد.
المساعي الدبلوماسية بعد إخفاق المحادثات في أبيدجان:
دعا رئيس مجلس المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إلى قمة حول
أزمة سيراليون، وقررت القمة فرض الحصار والعقوبة الاقتصادية على الحكومة
الانقلابية، وأصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يؤيد قرار قمة إفريقيا، ويعمم تطبيقه
على جميع دول العالم تأييداً لقرار قمة إفريقيا.
أما بريطانيا فأظهرت رغبتها في إقصاء النظام الانقلابي عن السلطة بكل
الوسائل الممكنة قبل استعمال القوة.
اجتمعت اللجنة الوزارية الإفريقية الموكلة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن في
كوناكري مع النظام الانقلابي، وشارك في الاجتماع رئيس المتمردين (سانكو)
وامتاز هذا اللقاء الثالث بإحراز تقدم ملموس أدى إلى التوصل لحل الأزمة سلمياً
تحت اتفاق مبرم بين الجانبين.
نص الاتفاق على بقاء النظام الانقلابي في الحكم لمدة ستة أشهر من تاريخ
إبرام الاتفاق يسلم الحكم بعدها للحكومة المدنية الشرعية، ويتم تطبيق برنامج
السلام في سيراليون خلال تلك الأشهر الستة.
يحتوي برنامج السلام الذي يطبقه مجلس المجموعة الاقتصادية لدول غرب
إفريقيا على ثمانية بنود هي:
1- الوقف الفوري لإطلاق النار بين جميع الأطراف تحت مراقبة قوات حفظ
السلام الإفريقي وقوات الأمم المتحدة من تاريخ توقيع الاتفاق.
2- البدء بأعمال نزع السلاح وتجريد أفراد الجيش والمقاتلين من الأسلحة،
وتسريحهم على مدى شهر كامل على يد (الأكوموغ) قوات حفظ السلام الإفريقية.
3- السماح بدخول المساعدات الإنسانية تحت مراقبة (الأكوموغ) مع بقاء
الحصار إلى حين عودة الحكومة الشرعية.
4- العمل على عودة اللاجئين السيراليونيين إلى وطنهم.
5- أن عودة الحكومة المدنية الشرعية إلى الحكم هو لب مساعي الدولة لحل
الأزمة، ويتوقع تعاون رئيس المتمردين (سانكو) في الحكومة وإصلاح البلاد.
6 - احتواء المقاتلين الذين نزعت منهم الأسلحة، وذلك بتسجيل أسمائهم
لتأمين وظائف وحرف لهم، أو بإعطائهم منحاً دراسية لمواصلة دراساتهم داخل
البلاد أو خارجها، وسيساعد المجتمع الدولي بإيجاد ميزانية لتحقيق ذلك.
7 - طلب تبرعات لمساعدات إنسانية عاجلة لإعادة التأهيل والبناء في
البلاد.
8 - ضمان العفو العام عن جميع المتورطين في أحداث الانقلاب بدون قيد
ولا شرط.
لقي هذا الاتفاق نوعاً من ارتياح النفس لدى السيراليونيين وإن كانوا يتخوفون
من إعطاء مهلة ستة أشهر للنظام الانقلابي الذي يريدون التخلص منه.
4 - آثار الانقلاب:
لهذا الانقلاب آثار غير جيدة من النواحي المختلفة الآتي ذكرها:
أ - الناحية الاقتصادية:
تحطيم لبنات التنمية الاقتصادية للبلاد سواء التي وضعت بعد الاستقلال
مباشرة أو التي وضعت خلال حكم الحكومة المدنية التي قام المتمردون بالانقلاب
عليها، وذلك من طرق متعددة منها: هبوط قيمة عملة سيراليون بعد الانقلاب،
وتوقف كافة المعاملات التجارية، ونهب الأموال والممتلكات للدولة والمواطنين،
وتجميد الإنتاج المحلي، وغلاء المواد المعيشية، وتجميد المساعدات والقروض،
وفرض الفقر على الشعب، وإغلاق جميع المكاتب الدبلوماسية؛ إضافة إلى فرض
العقوبة والحصار على الدولة من الأسرة الدولية.
ب - الناحية الأمنية:
كان دخول حرب المتمردين سنة 1991م بداية لفقدان سيراليون أمنها
واستقرارها، إلا أن ذلك اقتصر على القرى والأرياف، ولكن قيام الانقلاب عام
7991م قوّض كل أسباب الأمن في سيراليون، وهدم بنيانه من أساسه بتعميم أنواع
الإجرام التي لا تتصور في جميع أنحاء البلاد في المدن وغيرها، وصار كل فرد
غير آمن على نفسه ولا على أهله وماله، ووقعت مصادمات عنيفة متنوعة في
أرجاء البلاد كلها بين قوات حفظ السلام الإفريقية وقوات نظام الانقلاب راح
ضحيتها آلاف من المواطنين وبعض الجيش، ومارست قوات نظام الانقلاب أنواعاً
من التعذيب المروع ضد المواطنين من ضرب وقتل، وقطع للأطراف من الأحياء
واغتصاب النساء والبنات، واعتقال الأبرياء، وغير ذلك مما لا يصدقه إلاَّ
من يشاهده؛ بل ارتكب الانقلابيون مذابح مفزعة في عدد من المناطق ضد
المواطنين.
ج - من الناحية الاجتماعية:
تدهورت الحالات الاجتماعية في سيراليون بعد الانقلاب بشكل تام من حيث
انتشار المجاعة، وتفشي الأمراض والأوبئة، وازدياد نسبة الوفيات، وتشريد
السكان، وهجرتهم إلى الدول المجاورة، وانتشار البطالة فيمن بقي، وشيوع
الفوضى التي يقودها نظام الحكومة الانقلابية، واختلال التوازن الاجتماعي
باستمرار أعمال السرقة والنهب، وإتلاف ممتلكات المواطنين مما قاد إلى استمرار
المظاهرات والاضطرابات الاحتجاجية الشعبية ضد النظام الانقلابي.
د - من الناحية التربوية:
سبَّب هذا الانقلاب المشؤوم ضياع مستقبل الطلاب في جميع المستويات
التعليمية في سيراليون لوقوع الانقلاب في وسط أيام امتحانات المدارس والجامعات
في سيراليون سواء امتحانات النقل أو امتحانات الشهادة.
فمن جراء هذا الانقلاب توقفت جميع النشاطات التربوية والتعليمية في البلاد
بجميع مراحل التعليم، إضافة إلى قتل عشرات من الطلاب، واعتقال مئات منهم
أثناء المظاهرات، وتسليح الأطفال دون السابعة من أعمارهم بعد اختطافهم عنوة
من مدارس حكومية لها أقسام داخلية، ونمو البطالة، وانتشار الفواحش بين
الطالبات، واعتقال كثير من أعضاء الاتحاد الوطني للمعلمين، وهجرة معظم
أساتذة الجامعات، ونهب الأدوات التعليمية الحديثة في معظم المدارس والمؤسسات
التعليمية وتدمير بعضها، وتحويل معظم المؤسسات التربوية إلى معسكرات لإيواء
المتمردين، وغير ذلك من الأمور التي أفقدت شباب سيراليون مقومات الحياة
التربوية في البلاد.
5 - أوضاع المسلمين ومعاناتهم من الأزمة:
لَمَّا كان المسلمون في سيراليون يشكلون 30 % من السكان جعل معظم
الكوارث في هذا الانقلاب تحل بهم، إضافة إلى أن الإسلام والمسلمين هما الهدف
الأساس في القيام بهذا الانقلاب؛ لأدلة واضحة منها: كون جميع أفراد الانقلابيين
نصارى معروفين بحقدهم على الإسلام، وكون رئيس الحكومة المدنية الذي قاموا
ضده أول رئيس مسلم لسيراليون منذ الاستقلال، وكون المليشيات الذين يساندون
الحكومة المدنية معظمهم مسلمون، ثم إن ما قام به رئيس الحكومة المدنية من مد
جسور العلاقات مع بعض الدول العربية والإسلامية، وإصدار أحكام منع تعاطي
المخدرات وترويجها، وغيرها من أحكام تتمشى مع مبادئ الإسلام كل ذلك مما
أغضب أعداء الإسلام، وأدى بهم إلى القيام بالانقلاب وارتكاب ما يأتي:
أ - نهب ممتلكات المساجد من سجادات، ومصاحف، ومولدات الكهرباء،
وساعات، ومراوح وغيرها وخاصة في العاصمة.
ب - ملاحقة الأئمة، والدعاة، والمشايخ، وشن غارات على المساجد أثناء
أداء الصلوات إرهاباً وبحثاً عن الدعاة.
ج - تدمير بعض المساجد بالقنابل، وتدنيس بعضها.
د - تضييق النشاطات الدعوية والثقافية على الدعاة.
هـ - تدمير بعض المدارس الإسلامية، وتحويلها إلى معسكرات للجيش
والمتمردين. وغير ذلك من أضرار لحقت بالمسلمين مباشرة من جراء هذا
الانقلاب.
ختاماً:
استخلاصاً من العرض السابق فإن مأساة الانقلاب لم تكن إلا امتداداً لحروب
صليبية دُبِّر لها بالتحالف بين رئيس الحكومة الانقلابية النصراني، ونائبه الملحد
اللاديني ضد أول رئيس مسلم للبلاد، وضد الإسلام والمسلمين.
وكان لأيدٍ خبيثة من أعضاء الأحزاب المعارضة في البلد دور في تدبير
الانقلاب؛ إذ رأوا أن الرئيس المسلم وفقه الله في مدة وجيزة من توليه حكم البلاد
إلى تحقيق إصلاحات يعجز غيره عن القيام بها؛ فرأوا أنهم لو تركوا الحكم بيده
إلى أن تأتي فترة الانتخابات القادمة فإن الحزب الحاكم سيفوز لتمكنه من تحقيق
طموحات الشعب، فلا يستطيعون الفوز أيضاً، فدبروا بالتحالف مع الجيش
وبالتعاون مع المتمردين ليقوم هذا الانقلاب المدمر، ومن هنا يتضح لنا أن الإسلام
والمسلمين هما الهدف الأساس لقيام الانقلاب.(149/106)
المسلمون والعالم
المسلمون في الإكوادور
خوان إسكيليو
واقع المسلمين في الإكوادور:
كان أوائل المسلمين في الإكوادور من الشام ومصر؛ حيث هاجروا بين
الحربين العالميتين إلى هذه البلاد للبدء بحياة جديدة، ووصلوا بجوازات سفر تركية
(وهو ما يذكِّر بالإمبراطورية العثمانية) ولذلك فهم يُعرفون بالأتراك.
استوطن بعضهم العاصمة (كويتو) والمينا الرئيسة (غوايا كويل) وبعضهم
استوطن (منابي) و (لوس رايوس) و (اسمار الداس) .
وكان بعضهم يعمل بالتجارة؛ حيث كانت تعتمد في ذلك الوقت على التبادل،
وعاشوا حياة قاسية. ونظراً لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقصدون الدنيا؛ ولضحالة
ثقافتهم الدينية لم يستطيعوا مواجهة الديانة الكاثوليكية الرومانية المسيطرة بقوة
وسائلها. وكثير منهم استقدم زوجته من بلده، ولم ينجب أحد منهم تقريباً ذرية..
ومنهم عائلات معروفة، وبعد سنوات طويلة تزوج كثير منهم من شابات من نصارى البلاد، وسافرن إلى بلاد أزواجهن، وتعرفن على الإسلام هناك، وعرفن أنهن شرعاً لا يمكن أن يرثن فلساً من أزواجهن؛ لأنه (لا يرث المؤمن الكافر) [1] إذ كُنَّ مسلمات اسماً فقط، وعاد بعضهن إلى (الإكوادور) ... وتنصّر بعضهن من جديد واستولين على ثروات أزواجهن، ونشَّأن أولادهن على النصرانية وتتذرع هؤلاء النسوة المتنصرات بأن أزواجهن لم يعلموهن الإسلام بطريقة صحيحة، وكان عليهن البحث بوسائلهن الخاصة. ولكن بعض ذرية المسلمين ارتدُّوا، إلا أنهم يدّعون أنهم مسلمون ليرثوا آباءهم في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية في مجال الإرث؛ في حين أن كثيراً من البنات متزوجات من نصارى. وجميع من ذكرنا اعتنقوا النصرانية ما عدا ثلاثة فروع من عائلة سالم وسّوم الذي أرسل أبناءه لتعلُّم اللغة العربية والإسلام لمدة عشر سنوات.
التنظيم والتجمعات:
في نهاية الأربعينيات تكوَّن ما يعرف باسم مجموعة: (لكلا) ولا علاقة للدين
بهذا التنظيم؛ فقد ضم المسلمين والنصارى على أساس عرقي؛ ولكن خلافاتهم
المستمرة ظلت تقودهم إلى المجهول. كما تكونت مجموعة أخرى تحت اسم: ... (النادي العربي) وذلك في منتصف الثمانينيات.
ولا تزال الهجرة مستمرة إلى الإكوادور من قِبَلِ بعض المسلمين من أرض
الولايات المتحدة الأمريكية ولكن بأعداد قليلة، وأكثرهم لا يعكس صورة طيبة عن
الإسلام.
في بداية التسعينيات حدثت هجرات بسيطة هندية وباكستانية وكثير منهم
استطاع الوصول إلى هدفه (الولايات المتحدة وكندا) أما فيما يتعلق بالدين فلم
يتركوا أثراً مهماً، وتتعلق ذكرياتهم بالأكل الحار الذي كانوا يأكلونه، والتوابل التي
كانوا يطهون بها. وفي أواخر التسعينيات بدأت هجرات من غرب إفريقيا بسبب
عدم الاستقرار في بلادهم.
في الثمانينيات أسلم اثنان من مواطني الإكوادور كان أحدهما يقيم في إيطاليا
والآخر في الولايات المتحدة؛ حيث التقيا هناك بمسلمين مخلصين أثناء الدراسة في
الجامعة، ولم يكونا قد سمعا حتى بكلمة إسلام في موطنهم الإكوادور، وهما
يمارسان الدعوة بجد وإخلاص، ولكنهما لا يجدان الحماس لدى إخوانهم من
المسلمين. وفي منتصف التسعينيات كان عدد المسلمين الجدد حوالي 21 شخصاً
واليوم بلغ العدد حوالي 60 مواطناً إكوادورياً.
وللتوضيح فإن هذا مجرد البداية في عمل المواطنين الإكوادوريين الذين
أسلموا في الدعوة إلى الإسلام، ولم يكن هذا العمل سهلاً فقد وُوجِهُوا بالانتقادات
والمحاربة حتى من أهلهم وذويهم الذين كانوا يعبدون الشمس إلى عهد قريب جداً؛
وربما لا يزال الوالدان والأقربون نصارى.
وكان أول زواج بين هؤلاء المسلمين تم في أول أكتوبر 1991م.
وتقول دراسة أجريت هنا أن نسبة المسلمين 2.6% من عدد السكان في
الإكوادور.
وأول محاولة لقيام مسجد كانت من بعض المسلمين الذين كانوا يُعَدُّون على
أصابع اليد؛ حيث قرروا استئجار شقة لاتخاذها مصلًّى خصوصاً لصلاة الجمعة،
ثم وفرت السفارة المصرية شقة لهذا الغرض، ولم يستمر هذا الحال طويلاً.
وكانت المحاولة الثانية في أكتوبر 1988 م من خلال تأسيس منظمة اجتماعية تهدف إلى إقامة المسجد، ووافقت الوزارة المعنية ولكن شريطة ألا تقام خطب دينية في هذا المنزل، وكان اسمها: (جمعية خالد بن الوليد الثقافية) ، ويمثلها سليمان الأعسر، ولا تزال تعمل، ويحضر صلاة الجمعة حوالي (25 -30) شخصاً، وأرسلت وزارة الأوقاف المصرية (الشيخ محمود الأزهري) ولكن انتهى عقده بنهاية السنة المالية 1988 م، وهناك صعوبة شديدة في العمل الدعوي، ويبدو أن الله سبحانه وتعالى يمتحن هؤلاء المسلمين الجدد في قوة إيمانهم.
الوضع الحالي:
تعد جمعية (خالد بن الوليد الثقافية) أول منظمة إسلامية تعترف بها الحكومة.
تأسست الجمعية في 5 أكتوبر 1994 م، ويمارس فيها التعليم الديني والاجتماعي
والثقافي على طريقة أهل السنة والجماعة. وقد تبرعت المسلمة الملتزمة السيدة
(ليلى وسّوم) بمنزل مناسب لتمارس فيه المنظمة عملها، ولا تتلقى المنظمة أي دعم
من أية دولة أجنبية.
99% من نساء المسلمين هناك يلبسن اللباس الإسلامي مع الحجاب في
حياتهن اليومية، ويعقدن دروساً أسبوعية يوم الجمعة، وفي الإجازة الأسبوعية يوم
الأحد مرة كل أسبوعين.
نشاطات المركز:
- يقوم المركز بنشر بعض الموضوعات بعد ترجمتها إلى اللغة الأسبانية.
- تعريف غير المسلمين بالإسلام.
- دراسات دينية مقارنة.
وهناك خمسة كتب تم ترجمتها هي:
-ماذا يقول الإنجيل عن محمد؟ للشيخ أحمد ديدات.
-فهم المسلمين والإسلام: السفارة السعودية في واشنطن.
-الحوار بين الإسلام والمسيحية: د. هـ. بارقل.
-حقيقة المسيح: الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض.
الكتاب الأول: (ماذا يقول الإنجيل عن محمد؟) ، كلَّف حوالي 1600 دولار
لعدد 5000 نسخة، أما بقية الكتب فلم تطبع بعدُ بسبب عدم وجود التمويل.
ويقوم المركز ولله الحمد بالآتي:
-خطبة الجمعة ويحضرها حوالي 25 رجلاً، و12 امرأة.
-عقد المركز 6 حالات زواج خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية.
-لا يوجد طلاق.
-كل المسلمين تقريباً يحضرون إفطار رمضان في المسجد.
-الصلاة على الجنازة.
وبحمد الله فإنه لم يحدث أي شجار أو ارتفاع للأصوات داخل المسجد منذ 4
سنوات.
الاتصالات الخارجية:
لم يكن هناك غير جماعة التبليغ التي يحضر بعض أفرادها من بنما، وكانت
أول زيارة لهم في عام 1990م، وفي خلال هذه الفترة حتى 1998م قاموا بأربع
زيارات.
حضرت مجموعات أخرى من جماعة التبليغ من المدينة المنورة ونيويورك
والإمارات العربية المتحدة وبنما.
الندوة العالمية للشباب الإسلامي تثبت حضوراً بتبرعها ببعض الكتب
الإسلامية. والمركز الإسلامي يقدر هذا الموقف النبيل.
أرسل المركز مندوباً عنه لأول تجمُّع للقياديين اللاتينيين الذي عقد في
الأرجنتين في يوليو 1997م.
الاتصالات الداخلية:
- زيارة المرضى عند الضرورة.
- مساعدة المحتاجين عند الضرورة.
- زيارة السجون: حوالي 12 أجنبي.
ألقيت محاضرة حول الإسلام يوم 18/11/1997م على الطلاب القساوسة في
كلية اللاهوت بالجامعة الكاثوليكية بالعاصمة كوتيو.
- التعارن مع المراكز الثقافية الإسلامية الأخرى بإرسال الكتب إليهم.
- كتابة تقارير حول الحضور الإسلامي في الإكوادور على صفحات الصحف
وفي المجلات والتلفاز والقنوات 10، 4، 2.
المنشورات:
كتب للترجمة:
- كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
- مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- علامات الساعة، لابن كثير.
- دروس مهمة لعامة الأمة، للشيخ عبد العزيز ابن باز.
- فهم شرور البدعة، البو منتصر مهاجر علي.
كتيبات باللغة الأسبانية:
- مفاهيم خاطئة حول الإسلام.
- الأصولية الإسلامية.
- الجهاد.
- كتاب: أمور لا صلة للإسلام بها.
التعريف بالإسلام لدى غير المسلمين:
- ما هو الإسلام؟
- ينبغي أن تعرف هذا الرجل.
- حول الإسلام.
- خطبة الوداع على جبل عرفات.
- النساء في الإسلام.
- الاعتقاد بوجود الله في نظر الإسلام.
- المسيح نبي الإسلام.
- حقوق النساء.
- من مخترع الثالوث؟ ...
- هل عيسى إله؟
- السلوك عند صيام رمضان.
ويكلف طباعة هذه الكتب (3000 نسخة من كل منها) حوالي 2000 دولار
أمريكي لكل كتاب.
سياسة الإكوادور حيال الطوائف الدينية:
- توجد حرية دينية في الإكوادور طبقاً لدستور الإكوادور على الرغم من أن
الديانة الرسمية هي الكاثوليكية.
- ليس هناك ما يمنع من العمل الدعوي المفتوح.
- لا يوجد اضطهاد أو تحيز ديني سواء للفرد أو الجماعة.
- يمكن للعمل الدعوي أن يتم باستراتيجية من خلال التلفاز
والراديو ... إلخ.
تأشيرات الدخول: يمكن الحصول عليها بسهولة في مطار كويتو، تقريباً
لجميع الجنسيات.
المشروعات:
بدأ المركز في توفير وظائف لتقوية الروابط بين أفراد المجتمع ولتحقيق
الاكتفاء الذاتي وذلك في ميادين بدأت بالفعل.
ويمكن منح قطعة أرض سكنية للمهاجرين الحديثين، وإذا استطعنا تحقيق ما
يصبو إليه المشروع فإن الإكوادور يمكن أن تكون مكاناً ينتشر منه الإسلام إلى
أمريكا الجنوبية إن شاء الله.
المدرسة الإسلامية:
لقد بدأ المشروع في تشييد هذه المدرسة، وهي تبعد حوالي 20 كيلو متر عن
العاصمة كويتو وذلك لرخص سعرها، والمساحة المبنية عبارة عن 120 متر
مربع.
المخيمات الصيفية تتواصل، ويقوم الإخوة بتشييد المباني والمرافق للفصول
والسكن. ويفصل بين الأولاد والبنات حوالي 8 كيلو مترات، ويمكن للمدرسين
تشييد سكنهم وتكوين أول تجمع مسلم في البلاد.
توجد دروس مجانية لتعليم الأسبانية للأجانب.
مشروع لحوم الأغنام والدواجن:
يهدف هذا المشروع إلى توفير اللحوم الحلال لأعضاء المجتمع، ونتوقع أن
نبدأ قريباً في التسويق، ويقوم بالعمل طبيب بيطري مسلم. وفي القريب يمكن
للمسلخ أن يعمل بطاقة 1000 دجاجة و200 رأس من الغنم يومياً.
مشروعات أخرى:
منها توسعة المسجد، وبناء القبة، والمنارة، وأماكن الوضوء.
التكلفة لأماكن الوضوء 9000 دولار أمريكي.
أما توسعة المسجد فتحتاج إلى 10000 أو 11000 دولار للمنارة والقبة.
ويعلم الله وحده أن المركز لا يتلقى أي دعم ولكنه الآن بحاجة ماسة.
الاحتياجات:
1 - مقبرة خاصة بالمسلمين: توجد أرض بالقرب من العاصمة هي عبارة
عن ثلاثة مواقع، وقيمة الموقع الواحد 1992 دولار أمريكي.
2 - ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الأسبانية يوجد الكثير منها في السوق
ولكن ليس من بينها جهة من أهل السنة أو أيِّ جهة معروفة هنا.
3 - مطبوعات للتعريف بالإسلام.
4 - تبرعات من هيئات إسلامية من أهل السنة أو من الأفراد أهل الخير أو
الزكاة وذلك لدعم الكتاب الإسلامي باللغة الأسبانية.
5 - استيطان مسلمين هنا لعرض صورة طيبة عن الإسلام.
6 - مِنَح لدراسة اللغة الأسبانية للمسلمين الكبار في جامعات مفتوحة.
كما أن من أعظم الاحتياجات تنشيط الدعوة إلى الإسلام الصحيح الخالي من
شوائب البدعة، ونشر العلوم الإسلامية التي تعين المسلمين على عبادة الله تعالى
على بصيرة من أمرهم.
استراتيجيات للعمل الدعوي:
- إعداد دعاة يتحدثون الأسبانية.
- إرسال طلاب وطالبات للدراسة في الخارج لإعدادهم في جامعات إسلامية.
- تشجيع الإخوة والأخوات على الدراسة في الجامعات المفتوحة.
- ترجمة شرائط الكاسيت والفيديو لأحاديث مثل أحمد ديدات وجمال بدوي
وغيرهما.
- التعريف بثقافة الإكوادور لدى المنظمات الإسلامية العالمية وأسلوب التعامل
معها.
- العمل مع المنظمات الإسلامية العالمية المعروفة لإدخال القرآن بصفة
رسمية إلى الإكوادور.
- إعداد المخيمات، ودعوة إخواننا في أمريكا الجنوبية للمشاركة فيها. ...
- الاستعانة بالبرامج الإسلامية لتعليم الأطفال والكبار القرآن والحديث واللغة
العربية ... إلخ.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 5841 \.(149/110)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
وهل من مجيب؟
إلى كل إمام وإلى كل مصلٍّ ... إلى الشيخ المسن في مصلاه ... إلى المرأة
في خدرها ... إليكم جميعاً هذا النداء.
قال تعالى: [حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا] [يوسف: 110] .
لقد حمي الوطيس وبلغت القلوب الحناجر واشتد الأمر وتكالب العدو وتواطأ الكفار علينا من كل جانب، الطائرات تقصف بأنواع القذائف المدمرة، والراجمات تقذف بأنواع الصواريخ، والجليد يطاول الجبال حتى ذكرنا إخواننا يوم الأحزاب [إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ ومِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُون ... وزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] [الأحزاب: 10، 11] .
أيتها الأمة: ألا يوجد فينا من لو أقسم على الله لأبره؟ ألا يوجد فينا من يرفع أكف الضراعة إلى ربه فيستجيب له؟ هل بخلتم علينا حتى با لدعاء؟ أين القنوت ولماذا شرع إذاً؟ لقد قنت النبي صلى الله عليه وسلم يوم قُتِلَ سبعون صحابياً في بئر معونة؛ واليوم يقتل منا الآلاف فأين نصرتكم لنا؟ رحمك الله أيها العالم الرباني ابن باز كلما بلغك نازلة في أرض الإسلام بادرت بالقنوت للمسلمين في الصلوات، إنا لنتذكر دعواتك لنا في حربنا الأولى مع الروس، فرحمك الله رحمة واسعة؛ أيتها الأمة المسلمة: لا تنسونا بدعائكم ودعمكم؛ فإنما يأتي الفرج بعد الشدة.
[قادة المجاهدين في الشيشان: موقع: صوت القوقاز]
بين (مورو) وتيمور
ومن المؤسف كل الأسف أن المسلمين وخاصة خارج بلاد مورو يلومون المسلمين هنا، وبعضهم يقولون: كيف لا تنتصرون وأنتم قد مضى على كفاحكم ثلاثون عاماً وتيمور الشرقية حصلت على الاستقلال خلال ثلاثة أو أربعة أشهر فقط من الانتفاضة؟ ولعل هؤلاء الناس الذين يلوموننا نسوا أو تناسوا أن العالم الإسلامي لم يهتم بقضيتنا والذين تدخلوا في شؤوننا أجبروا بعضنا لقبول عروض الحكومة الفلبينية الصليبية التي كان ظاهرها الكرامة والشرف ولكن لبها وحقيقتها الاستسلام والخضوع لسلطان الكفار الظالمين المخادعين الذين كانوا وما زالوا يحاولون القضاء على الإسلام والمسلمين في المنطقة.
أما تيمور الشرقية فقد استقلت رغم عدم استحقاقها للاستقلال؛ لأن جميع دول
الكفر في العالم تكالبت وتعاونت على دعمها؛ لأن شعبها نصراني وقد قام بثورة
ضد دولة مسلمة.
إن هؤلاء النصارى يتعاونون ضد الإسلام والمسلمين رغم اختلاف جنسياتهم
ومذاهبهم واتجاهاتهم ولهم الحق في ذلك؛ لأن راية الكفر تجمعهم، وأما المسلمون
مع الأسف الشديد فلا تجمعهم راية دينهم وهي كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعضهم تنازلوا عنها، وصدق الرسول صلى الله عليه
وسلم إذ قال فيما معناه: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) .
[جبهة تحرير مورو الإسلامية مكتب الإعلام الخارجي]
يريدون كسوفها وخسوفها
يقول برنار كوشنير الذي عين حاكماً لكوسوفا: إن قضية كوسوفا لم تعد ... (على الموضة) سياسياً وإعلامياً وبدأت الدول الغربية تتخلى عني، وتركتني وحيداً
ومعزولاً. وصرت الآن عاجزاً عن تحقيق أي شيء من البرنامج الذي من أجله
عينت مفوضاً للأمم المتحدة في كوسوفا. إنه خلافاً للتعهدات المالية التي التزمت بها
الدول الغربية بتقديم ميزانية تقدر بـ 20 مليون مارك ألماني، لم نتلق فلساً واحداً
حتى الآن! حيث وصلت ميزانية كوسوفا للعام 2000 إلى الصفر. متسائلاً كيف
يمكنه تحقيق برنامج تم تسطيره على أساس ميزانية متوقعة بعشرين ميلون مارك
بينما ما هو موجود بالفعل في الرصيد البنكي للإدارة الدولية في كوسوفا يقدر ... بصفر؟ ! وهذا الأمر الواقع لا يخدم في النهاية سوى مصالح الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش.
[مجلة المجلة، العدد: (1046) ]
أين جيش المسلمين؟
قوات مسلحة قوامها خمسة عشر لواءاً ويبلغ تعدادها (50 - 60) ألف رجل
على استعداد للتدخل لدى تلقيها لإنذار مبكر بحوالي شهرين: إنها القوة العسكرية
(والويل كل الويل لتسميتها بجيش أوروبي حتى لا تثور ثائرة البلاد المحايدة) التي
تستعد الدول الخمس عشرة الأعضاء بالاتحاد الأوروبي لإنزالها إلى الميدان خلال
عام 2003م لمواجهة الأزمات الإقليمية المماثلة التي تحدث الآن في البلقان. إن
الفكرة قد تمخضت بالفعل ويتم توثيقها من قِبَل رؤساء وزراء دول الاتحاد الأوروبي
في اجتماع قمتهم في هلسنكي؛ حيث يتم تعميد الكيان الأوروبي الوليد للدفاع، والأمن.
ومن المفروض أن يكون هناك ما لا يقل عن 120 ألف رجل في حالة التعبئة
العامة اللازمة للتدخل العسكري ومن أجل أن يحلوا محل قوة التدخل وعلى الرغم
من استقلالية القرار، إلا أن الاتحاد الأوروبي يُطمئن الأمريكيين قائلاً: (إن حلف
شمال الأطلنطي سيظل أساس الدفاع الجماعي المشترك لأعضائه، وسيواصل دوره
الهام في إدارة الأزمات) .
[صحيفة الميساجيرو الإيطالية مترجم]
عفواً.. يا منظمة العفو! !
دعت منظمة العفو الدولية التي يوجد مقرها الرئيس في لندن سلطات الهجرة
الأمريكية إلى قبول طلب (آنسة) أردنية بمنحها حق اللجوء السياسي في الولايات
المتحدة الأمريكية لضمان حمايتها من خطر الموت الذي يتهددها بسبب ملاحقة أفراد
عائلتها لها بتهمة ارتكاب جريمة شرف.
وأوضحت المنظمة في (بيان عاجل) أصدرته في هذا الشأن أن سلطات
الهجرة الأمريكية رفضت طلب (الآنسة أ) التي استأنفت القرار لدى إحدى المحاكم
المحلية.
وأوضح بيان المنظمة أنه في عام 1991م بدأت (الآنسة أ) وصديقها (هـ) بتمضية أوقات معاً بالسر عن عائلتها، ثم تعاشرا في أغسطس من ذلك العام وفي الحال طلب (هـ) يدها من عائلتها للزواج بها، إلا أن والد الفتاة رفض ذلك لكون (هـ) فلسطينياً، ومن ذوي الدخل المتدني، وبسبب المخاوف من إمكانية إقدام عائلة الفتاة على قتل (هـ) إذا ما انكشفت معاشرت (هـ) لابنتهم فر الاثنان كلٌ منهما على حدة من الأردن في ذلك العام.
وأضاف بيان منظمة العفو الدولية أن مخاوف (الآنسة أ) تأكدت لاحقاً أيضاً
عندما تسلمت عدة رسائل من إحدى أخواتها تخبرها فيها بأن والدهما أمر الذكور من
أفراد العائلة بقتل شقيقتهم (غسلاً للعار) في أي زمان ومكان. وكانت آخر رسالة
في هذا الخصوص قد تسلمتها (الآنسة أ) في سبتمبر 1997م، حيث أخبرت
الشقيقة شقيقتها بأن والدهما أعلن أنه يريد قتل ابنته قبل وفاته وأن (روحه سترقد
بسلام إذا ما قام الذكور بهذا العمل) .
[جريدة الشرق الأوسط: العدد 7749]
الرقيق الأبيض
1 - يسافر العبيد في عصرنا الحالي بالطائرة، ومعظمهم من الإناث صغار
السن ويأتين من أوروبا الشرقية أو الدول النامية. ويتم تشغيلهن في دول الغرب
الغنية في بلجيكا وفرنسا وألمانيا؛ حيث يعملن من 16 إلى 18 ساعة يومياً
كخادمات وخياطات وغانيات. والفرق الوحيد بينهن وبين العبيد أن أسيادهن لا
يضعون في أيديهن ورقابهن الأغلال والقيود، ولكنهم ينتزعون منهن جوازات
سفرهن؛ وهذا أمر له التأثير نفسه.
ويقول انتوني سيمبسون المكلف برعاية شؤون ضحايا العنف وتجارة الرقيق
في اللجنة الأوروبية: إن انفتاح الكتلة الشرقية السابقة جعل تجارة الرقيق في
أوروبا تنتشر بالمقدار نفسه لتجارة المخدرات. ويضيف سيمبسون أنه منذ إلغاء
الرقابة على الحدود داخل الاتحاد الأوروبي أصبحت دول الاتحاد سوقاً رائجاً يفضله
تجار الرقيق والقوادون.
وقد جاء في بيانات البوليس الدولي أنه قد تم نقل نصف مليون سيدة من
أوروبا الشرقية إلى دول الاتحاد الأوروبي منذ عام 1989م.
[صحيفة دي فيلت الألمانية مترجم]
2 - يخشى مسؤولو الأمن في الولايات المتحدة أن تحل تجارة الجنس محل
الاتجار في تهريب المخدرات.
ففي جلسة استماع في مجلس الشيوخ قال هارولدكوه أحد مسؤولي الخارجية
الأمريكية: إن المجرمين الدوليين يتركون الآن تجارة الأسلحة والمخدرات إلى
تجارة الرقيق الأبيض؛ فهناك حوالي 2 مليون امرأة على مستوى العالم تجبر على
العمل في سوق الدعارة. ويقول المسؤولون: إن حوالي 50 ألف امرأة تجلب إلى
الولايات المتحدة سنوياً للعمل في سوق الرقيق ومعظمهن يأتين من أوكرانيا وألبانيا
والفلبين وتايلاند والمكسيك ونيجيريا.
وتقول إنيز فيراكروز وهي من المكسيك وفي العشرين من عمرها: إن
رغبتها في حياة أفضل حولتها إلى عاهرة وتضيف إنيز: إنهن كن يعملن ستة أيام
في الأسبوع لمدة 12 ساعة يومياً، وكان على المرأة الواحدة أن تمارس الجنس مع
حوالي 35 شخصاً في اليوم، والموقف يصبح أسوأ في أيام العطلات.
[موقع هيئة الإذاعة البريطانية على الإنترنت، بي. بي. سي أولاين]
هذا هو جارودي! !
تعارض الإسلام مع الماركسية وهْمٌ زائف؛ لأنه ليس هناك تعارض بين
الدين والوسيلة، إننا لم نفهم العالم إلا من خلال ماركس، من هنا تأتي أهمية
الماركسية كوسيلة للفهم، وهذا هو السبب الذي جعلني لا أهجر الماركسية، ولا
المسيحية. لقد حافظت على الدين والوسيلة، دور الدين أن يضع للإنسان الغاية..
يمكن أن يكون الإنسان جراحاً أو مهندساً جيداً لكنه مسلم سيِّئ أو يكون مسلماً جيداً
لكنه جراح سيِّئ لا داعي للخلط بين الآليات أو النواحي الفنية وبين الدين (وتابع: أنا لم انتقل من اعتقاد إلى آخر، فأنا بقيت مسيحياً وماركسياً وقمت بدور كبير
في الحوار بين المسيحية والماركسية (. وتابع:) لا يهمني أن يقول شخص: أنا
مسيحي أو أنا مسلم؛ ولكنني أسأله: ماذا فعل الإيمان بك؟ لأن الاعتقاد هو فكر
أما الإيمان فهو فعل ويتجلى هذا الإيمان في العمل) .
وقال: (إنني أريد أن أحكم على الإنسان بما يعمله؛ فقد يكون هناك مسلمون
سيئون ومسلمون طيبون ومسيحيون سيئون وآخرون طيبون. إننا نريد أن يكون
هناك مسلمون طيبون ومسيحيون طيبون.. لا يمكن أن نستبعد الأديان الأخرى باسم
أي دين؛ بل على العكس يجب أن نبحث عن الذي يجمعنا مع الأديان الأخرى) .
إننا نعيش في عالم متلاحم، تتصادم في الوقت نفسه ثقافاته فيه، ونحن لذلك
نحتاج إلى إيمان البوذيين بقدر احتياجاتنا إلى غيرهم من البشر، وأنا مع الاستفادة
من هذه الأفكار جميعها، لا أنتقل من ديانة إلى أخرى، ولكن أحاول الإلمام بكل
الأفكار بحثاً عن معنى الإنسانية) .
[روجيه جارودي، جريدة: الرأي العام، العدد: (11918) ]
نهاية القوة
جاء في تقرير عنوانه (الثقافة العسكرية الأمريكية في القرن الـ 21) وكان
ثمرة لتحقيقات استمرت عامين وشملت 12 ألف عسكري أمريكي في العالم، إضافة
إلى نتائج 125 اجتماع عقدها خبراء تابعون للمركز.
إن الوتيرة المنهكة للعمليات والقروض المحدودة والمهام المتبدلة والتغييرات
الديموغرافية في صفوف العسكر، والتطورات السريعة في التكنولوجيا وإغراءات
المجتمع المدني خلفت انعكاسات كبيرة على البنية النظامية للجيش.
إن الجيش الذي يعتبر عدده الأدنى منذ أربعين عاماً حوالي 1.4 مليون
عنصر، بات منهك القوى ورواتب أفراده متدنية وتجهيزاته ناقصة إلى أقصى حد.
كما يوجد بين عناصره 56% من المتزوجين الذين تقترب أعمارهم من الكهولة،
وهي نسب أكبر مما هي عليه في جيش يكون عماده التجنيد الإجباري.
وأكد التقرير أن جاهزية الجيش ومعنوياته تشهدان تراجعاً، وبات التوظيف
والاحتفاظ بالعناصر المؤهلة يشكل مأزقاً، وصارت الحياة المهنية أقل من مُرْضية.
[جريدة الحياة، العدد: (13454) ]
صفحة جديدة
بعثت القيادة العسكرية الجديدة في باكستان بعدة إشارات لـ (إسرائيل) ،
بواسطة رجال أعمال باكستانيين، تطلب تقديم اقتراحات لها حول صفقات بيع
أسلحة وخبرات عسكرية.
وقال أحد رجال الأعمال الباكستانيين لصحيفة (معاريف) الإسرائيلية: (إن
القيادة الجديدة في بلاده معنية بتغيير طابع العلاقات القائمة بين البلدين وتصفية
أجواء العداء التي فرضتها قيادة الحكومة السابقة) .
وأضاف أن بلاده اتخذت موقفاً عدائياً من (إسرائيل) بسبب قيامها ببيع
الأسلحة وتحديث الأسلحة القديمة في الهند. ولكن القيادة الجديدة مستعدة لفتح صفحة
جديدة مع (إسرائيل) ، إذا أبدت هذه استعداداً لممارسة سياسة متوازنة بين الهند
وباكستان.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7749) ]
عربون محبة
أعلنت لجنة الأبحاث الاقتصادية الصربية أن كلاً من ليبيا والصين ستقدمان
لصربيا مساعدة مالية قدرها 600 مليون دولار أمريكي رغم العقوبات الاقتصادية
الدولية المفروضة عليها. وأضافت أن هذه المساعدات هي لدعم الاقتصاد الصربي
المنهار وإعادة بناء وتشغيل المصانع التي دمرها قصف طائرات حلف شمال
الأطلسي (ناتو) .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7705) ]
زمن السلم! !
أكد الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (نايف حواتمة) أن نضاله
ضد (إسرائيل) يرتكز على النضال (السياسي والدبلوماسي) !
وقال حواتمة: في هذه المرحلة نضالنا جماهيري سياسي ودبلوماسي كنضال
الفصائل الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية؛ لأننا قررنا منذ 1987م عدم
اللجوء إلى السلاح والاعتماد على الانتفاضة الجماهيرية.
[جريدة الخليج، العدد (7469) ](149/114)
متابعات
الرد على الرفاعي
فضيلة الشيخ الدكتور
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان [*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على ورقات كتبها الأستاذ يوسف بن السيد هاشم الرفاعي بعنوان:
(نصيحة لإخواننا علماء نجد) وقدم لها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
ومضمون هذه النصيحة هو الحث على التخلي عن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، والأخذ بأقوال الفرق الضالة التي حذرنا الله سبحانه وتعالى
منها، بقوله تعالى: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران:
103] . وقوله: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ
وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [آل عمران: 105] ، وقوله تعالى: [وأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153] ، وحذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ... (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
بعدي تمكسوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل
محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) .
وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا:
كتاب الله، وسنتي) .
إن الرفاعي والبوطي يدعوان إلى ترك ذلك كله، والأخذ بما عليه الفرق
الضالة المنحرفة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة
على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وهي الفرقة المتمسكة بما كان
عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلاف غيرها من قبورية وصوفية
وجهمية ومعتزلة وغيرها. وهذا الافتراق هو الذي سبب التناحر والشقاق بين
الأمة. والبوطي والرفاعي يريدان للأمة البقاء على هذا الافتراق تحت مظلة اسم الإسلام. إنني تذكرت بتآمرهما هذا على من تمسك بالسنة وترك البدعة قول الشاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل فعل منكر
وبقيت في خلف يزكِّي بعضهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور
وأقول: لماذا خصَّا علماء نجد بنصيحتهما هذه مع أن المتمسكين بالسنة
والحمد لله كثير في أقطار الأرض وفي مختلف البلاد؟ ما ذاك إلا ليوهما الأغرار
أن أهل نجد أهل شذوذ وخروج عن الحق، على قاعدة من يرى أن كل متمسك
بالحق فهو متطرف، ولكن هذا لا يضير؛ فالحق واضح يراه كل بصير، وأما
الأعمى فلا حيلة فيه كما قال الشاعر:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها ... بأهوائها فلا تفيق ولا تعي
وإذا كانا يغاران على الأمة الإسلامية كما زعما؛ فلماذا لا يحذرانها من البدع
والانحرافات التي تفرقها وتصدها عن سبيل الله وتقضي على وحدتها وقوتها؟ وخذ
مثلاً من عجرفة البوطي في مقدمته لتلك النصيحة؛ لتستدل به على مبلغ ما عنده
من العلم؛ حيث قال في صفحة 19- 20 يخاطب علماء نجد: (وإذاً لأقلعتم عن
ترديد تلك الكلمة التي تظنونها نصيحة وهي باطل من القول، وتحسبونها أمراً هيناً
وهي عند الله عظيم، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات: إياكم والغلو
في محبة رسول الله، ولو قلتم كما قال رسول الله: (لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم) لكان كلاماً مقبولاً، ولكان نصيحة غالية) . هذا كلامه بنصه،
وقد بخل فيه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وعاب على أهل
السنة إنكارهم للغلو الذي أنكره الله بقوله تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ] [المائدة: 77] . وأنكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإياكم
والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) . ثم ما الفرق بين الغلو؛ والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه؟ إن معناهما واحد إلا عند البوطي اختراعاً من عنده، حمله عليه الحقد والبغضاء لأهل الحق. والحمد لله أنه لم يجد على أهل الحق ما يعابون به سوى هذه الكلمة التي زعمها باطلاً وهي
حق. هذا وإن ما ذكره الأستاذ يوسف الرفاعي في أوراقه التي سماها نصيحة ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حق ونحن وغيرنا من أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً قائلون
به. لكنه رآه باطلاً لعمى بصيرته. ومن أعمى الله بصيرته فإنه يرى الباطل حقاً
والحق باطلاً: [مَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] [المائدة: 41] .
وهذه الأمور التي انتقدها علينا، منها قولنا: (كل بدعة ضلالة) كما قال ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا علينا في ذلك إذا أنكرنا البدع وأمرنا بالسنن
عملاً بهذه الأحاديث؟
وإليك نماذج مما قاله: سلطتم من المرتزقة الذين تحتضنونهم من رمى
بالضلال والغواية الجماعات والهيئات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والناشطة
لإعلاء كلمة الله تعالى والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، كالتبليغ والإخوان
المسلمين والجماعات (الديوبندية) التي تمثل أبرز علماء الهند وباكستان وبنجلاديش، والجماعة البريلوية التي تمثل السواد الأعظم من عامة المسلمين في تلك البلاد،
مستخدمين في ذلك الكتب والأشرطة ونحوهما. وقمتم بترجمة هذه الكتب إلى
مختلف اللغات وتوزيعها بوسائلكم الكثيرة مجاناً، كما نشرتم كتاباً فيه تكفير (أهل
أبو ظبي ودبي) الذين معكم في مجلس التعاون. أما هجومكم على الأزهر الشريف
وعلمائه فقد تواتر عنكم كثيراً.. وقال: إذا اختلف معكم أحد في موضوع أو أمر
فقهي أو عقدي أصدرتم كتاباً في ذمه وتبديعه أو تشريكه (كذا قال) . وقال: سمحتم
للصغار وسفهاء الأحلام بمهاجمة السلف الصالح الأعلام لهذه الأمة، ومنهم حجة
الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله بعد التهجم بشتى وسائل مطبوعاتكم على الإمام أبي
الحسن الأشعري وأتباعه من السواد الأعظم من المسلمين منذ مئات السنين؛ حيث
وصفتموهم بالضالين المضلين.
هذه نماذج من كلامه وأنا أبيّن أهم ما عابه الرفاعي علينا مع الرد عليه:
1- مما عابه علينا: منع النساء من زيارة القبور، وهذا أمر قد منعه النبي
صلى الله عليه وسلم بقتوله: (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج) وإذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن هذا يدل على تحريمه
والمنع منه، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب. فماذا علينا إذا أنكرناه ومنعناه؟
2- ومما عابه علينا: منع الناس من الغلو عند الحجرة النبوية، والاقتصار
على السلام على النبي صلى الله عليه وسلم السلام المشروع الذي كان يفعله
الصحابة رضي الله عنهم عند قدومهم من سفر كما كان يفعله ابن عمر رضي الله
عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
3 - ومما عابه علينا: منع الغلو في الأموات عند زيارة قبورهم، والاقتصار
على السلام عليهم والدعاء لهم كما هي الزيارة المشروعة وتذكر الآخرة بزيارتهم
والاستعداد لها.
4 - ومما عابه علينا: منع البناء على القبور عملاً بقول النبي صلى الله
عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك) وذلك لأن
هذا من وسائل الشرك.
5 - ومما عابه علينا: منع كتاب دلائل الخيرات وأمثاله من الكتب الضالة
من دخول المملكة لما فيه من الشركيات والغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك لحماية عقيدة المسلمين من الغلو الذي حذر منه صلى الله عليه وسلم، وقد
علَّمنا صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليه فقال: (قولوا اللهم صل على محمد
وعلى آل محمد) إلى آخر الحديث، فلسنا بحاجة إلى صلاة مبتدَعة في كتاب دلائل
الخيرات أو غيره.
6 - ومما عابه علينا: منع الاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بدعة محدثة لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه والتابعين لهم
بإحسان. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) . ويدخل في ذلك بدعة الاحتفال
بمناسبة المولد، فمن فعله فهو مبتدع.
7 - ومما عابه علينا: تركنا للقنوت في صلاة الفجر إلا في حالة النوازل؛
لأنه لا دليل عليه في غير هذه الحالة. ولا يقول به جمهور علماء الأمة، والواجب
اتباع الدليل، ولما سئل عنه بعض الصحابة قال: إنه محدَث.
8 - ومما عابه علينا: منعنا من إحياء الآثار المنسوبة للنبي صلى الله عليه
وسلم، أو لأحد من أصحابه، من أجل سد الطرق المفضية إلى الشرك، من التبرك
بها، والاعتقاد فيها، وهذا هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم
يكونوا يهتمون بهذه الآثار ولا يذهبون إليها، فلم يكن صلى الله عليه وسلم بعد
البعثة يذهب إلى غار حراء، ولا إلى غار ثور، ولا إلى موضع غزوة بدر، ولا
إلى المكان الذي ولد فيه من مكة، ولا كان يفعل ذلك أحد من أصحابه، بل إن عمر
رضي الله عنه قطع الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية لما رأى
بعض الناس يذهبون إليها خشية الغلو بها، ولما قال بعض الصحابة حديثي العهد
بالإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) أي
شجرة يتبركون بها ويعلقون بها أسلحتهم كما يفعله المشركون، قال صلى الله عليه
وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم
آلهة) ؛ فالتبرك بالآثار وإحياؤها وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، كما حصل لقوم نوح لما غلوا بآثار الصالحين حتى آل بهم الأمر إلى عبادتها من
دون الله عز وجل.
9 - ومما عابه علينا: منع كتابة بردة البوصيري على الجدران لما فيها وفي
أمثالها من الغلو والشركيات التي لا تخفى على ذي بصيرة، مثل قوله في حق النبي
صلى الله عليه وسلم:
ما لي سواك من ألوذ به ... عند حلول الحادث العمم
وقوله: إن الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما كتبه
القلم في اللوح المحفوظ هو بعض علم النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك
من الكفريات والشركيات التي جره إليها الغلو.
10 - ومما عابه علينا: فصل النساء عن الرجال في المسجد الحرام والمسجد
النبوي وفي غيرهما من المساجد، عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث
كانت النساء تقف في عهده في الصلاة خلف صفوف الرجال، ولأجل صيانتهن
وصيانة الرجال من الفتنة والافتتان بهن.
11- زعم الرفاعي أننا نترك المذهب الحنبلي كما قال في نصيحته، وننكر
اتباع المذاهب الأربعة ادعاءاً للسلفية، ونحن إنما نعمل بما قام عليه الدليل منها
ومن غيرها، وهذا ما أوصى به الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله كما هو معلوم
من كلامهم، واتباع المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب الأربعة لا يتعارض مع
السلفية كما نسب إلينا أننا نراه مخالفاً للسلفية، بل هو السلفية عينها.
12- وكذلك من العجائب ما استنكره الرفاعي من تعليقات الشيخ ابن باز
رحمه الله على كتاب (فتح الباري) وهذا لا نكارة فيه، فما زال العلماء يعلقون
على الكتب ويبينون الحق للناس من الخطأ.
وأما القسم الثاني: مما يتضمنه ما يسمى بالنصيحة فهو كذب وبهتان في حقنا. وجوابنا عنه أن نقول كما قال سبحانه وتعالى: [سٍبًحّانّكّ هّذّا بٍهًتّانِ عّظٌيمِ]
[النور: 16] .. وذلك مثل قوله:
1 - إننا نكفر المسلمين ونتهمهم بالشرك؛ لأننا نوزع الكتب التي فيها
التحذير من الشرك والكفر ونرسل الدعاة. ونحن لا نكفِّر إلا من دل الكتاب والسنة
على تكفيره كمن يدعو غير الله أو يستغيث به من الأموات والغائبين، وهذا مما لا
خلاف فيه. وأما توزيعنا للكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر والبدع فهذا من
النصيحة للمسلمين وتبصيرهم بدين الله، ولا يعني هذا أننا نكفر من لم يقم الدليل
الصحيح على كفره، وإنما هو من باب التنبيه والتحذير والمحافظة على العقيدة.
ومن أجل هذه المهمة نرسل الدعاة إلى الله لتعليم الناس أمور دينهم والدعوة إلى
الإسلام والعمل بالسنة وترك البدع والمحدثات؛ ولم نرسلهم لإثارة الفتنة كما زعم
الرفاعي والبوطي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الدعاة إلى الله كما
أرسل معاذاً إلى اليمن وغيره من الدعاة إلى الأقطار، وكان صلى الله عليه وسلم
يكاتب الملوك والرؤساء.
2 - ومن الكذب الصريح: قول الرفاعي: إننا نمنع التدريس في الحرمين
إلا من يوافق مذهبنا، وهذا من الكذب؛ فالتدريس في الحرمين ولله الحمد وفي
غيرهما لا يزال قائماً على خير ما يرام، ولم يمنع من التدريس إلا من كان مبتدعاً
معروفاً بذلك، أو مخرفاً، فمثل هذا منعه حق وواجبٌ حمايةً لعقيدة المسلمين وتلافياً
لنشر البدع والخرافات.
3 - ولم نمنع من زيارة القبور الزيارة الشرعية كما قال عنا ولكننا نمنع
الزيارة البدعية والشركية التي فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم؛ كما منعها النبي
صلى الله عليه وسلم ومنع غيرها من الشرك ووسائله. وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم
ما نقول إذا زرنا القبور من السلام على الأموات والدعاء لهم. هذا ونسأل الله لنا
وللأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي وسائر المسلمين الهداية للحق وقبوله، وأن
يجعلنا جميعاً من العاملين بقوله تعالى: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]
[النساء: 59] .
4- وأما قول الرفاعي: إننا غيّرنا اسم المدينة، من المدينة المنورة إلى
المدينة النبوية، فالجواب عنه:
أولاً: أن اسم المدينة جاء في الكتاب والسنة مجرداً من أي وصف لا بالمنورة
ولا بالنبوية.
ثانياً: أن وصفها بالنبوية أشرف وأوْلى من وصفها بالمنورة؛ لأن تنويرها
إنما هو بالنبوة وسكنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها وهجرته إليها.
وأخيراً: يعيب الرفاعي على حكام المملكة قتل المفسدين في الأرض بترويج
المخدرات، عملاً بقوله تعالى: [إنَّمَا جَزَاءُ الَذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ
فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] [المائدة: 33] . ويتأسف على قتل هؤلاء المفسدين المجرمين الذي يدمرون الشعوب ويخربون
البلاد.. بل لم يقتصر الحكم بقتلهم على المملكة العربية السعودية، بل كثير من
دول العالم تقتلهم دفعاً لشرهم وإفسادهم؛ فالرفاعي يشفق على هؤلاء المجرمين
المفسدين ولا يشفق على الشعوب التي يفتك بها هؤلاء فساداً ودماراً، ويستدل
الرفاعي لقوله هذا بحديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود) ، فيعتبر
المفسدين في الأرض من ذوي الهيئات، وأن ترويج المخدرات من العثرات اليسيرة
التي يقال أصحابها، ونسي أو تناسى أنهم ينطبق عليهم حد الحرابة والإفساد في
الأرض المذكور في الآية الكريمة، وأن الحديث المذكور خاص بالتعزير بدليل قوله
صلى الله عليه وسلم: (إلا في الحدود) . على أن التعزير قد يصل إلى القتل إذا لم
يرتدع المخالف عن مخالفته إلا به؛ لأنه أصبح من المفسدين في الأرض كما ذكر
ذلك المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره مع العلم بأن هذا
الحديث الذي استدل به وإن جاء من عدة طرق فإنها كلها لا تخلو من مقال، كما
قال ذلك الصنعاني رحمه الله في كتاب: (سبل السلام شرح بلوغ المرام) .
وليت الرفاعي صرف عطفه وشفقته إلى ضحايا هؤلاء المفسدين الذين فسدت
عقولهم وأبدانهم حتى أفضوا إلى الموت أو أصبحوا عالة على مجتمعاتهم بسبب
هؤلاء المفسدين المروجين للمخدرات في المجتمعات البشرية.
وختاماً: هذا ما أحببنا التنبيه عليه مما احتوت عليه نصيحة الأستاذ الرفاعي
وهو تنبيه على سبيل الاختصار وندعو الأستاذ الرفاعي هداه الله إلى الرجوع إلى
الحق فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والله يتوب على من تاب،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
__________
(*) عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية لسعودية.(149/118)
مصطلحات ومفاهيم
الثيوقراطية
د. محمد يحيى
من المصطلحات والمفاهيم التي جرى تداولها في الفترة الأخيرة ولا سيما في
معرض الهجوم على طروحات الحركات الإسلامية مصطلح (الثيوقراطية) ولولا
هذا الاستخدام ضد الإسلام ومبادئه لما كتب لهذا المصطلح أي بقاء أو أثر؛ فهو من
المصطلحات السياسية ذات القيمة غير الدائمة التي أطلقت في الغرب لتشير إلى
حكم أقلية من الأقليات تتسلط على أغلبية فئات المجتمع؛ فقد أطلق في بعض
الكتابات مصطلح اليلوتوقراطية للدلالة على سيطرة طبقة كبار الأغنياء على
الحكومة والسلطة في بلد من البلاد، أو مصطلح الأديجاركية للدلالة على حكم أقلية
من أصحاب النفوذ والحول.
والثيوقراطية تشير في هذا الإطار إلى حكم أقلية ممن يسمون برجال الدين أو
الكهنوت التابعين لدين من الأديان لا سيما تلك المذاهب التي تنشئ كهنوتاً كالمسيحية
في المقام الأول. والكلمة مشتقة كما هي العادة في الكثير من المصطلحات الغربية
من الأصول اللغوية اليونانية من لفظي: ثيوس (الدين) وكراس (الحكم أو السلطة
أو الطبقة.. إلخ) . أقول: إن هذا المصطلح بالذات وجد شيوعه واستخدامه الأكثر
والأغلب في الغرب في إطار الكتابات الصحفية الدارجة، وليس في إطار الدراسات
الأكاديمية الرصينة أو المتعمقة، وما كان له أن يصل إلى الذيوع والانتشار والأثر
الخطير الذي وصله عندنا في الكتابات في العالم العربي الإسلامي لولا أن استخدامه
فُرِضَ في إطار الهجوم على دعوات الإسلاميين لتطبيق الشريعة الإسلامية أو إقامة
الدولة الإسلامية أو إضفاء الطابع الإسلامي على المجتمع.
والحق أن استخدام هذا المصطلح بالذات لتوصف به طروحات دعاة الإسلام
في ميدان السياسة والحكم والمجتمع ينطوي على تشويه خطير وغير موضوعي،
فلا يفكر أي من هؤلاء الدعاة مهما بلغ من الغلو أن يقيم سلطة أو حكومة أو نظاماً
سياسياً يشكله ويهيمن عليه المشايخ أو علماء الدين في تصوُّر أنهم طائفة أو طبقة؛
ذلك أنه لا توجد في الإسلام وفي تجاربه التاريخية مثل هذه الطبقة كما هي الحال
بالنسبة للكنيسة أو الكنائس المتعددة في المسيحية، أو أنواع الكهنوت المماثل إلى
حدٍّ مَّا في البوذية والهندوسية.
إن دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية أو حكم الإسلام أو الدولة والنظام
الإسلامي تقصد في مجملها وحتى الاختلاف في التفاصيل إلى إرساء نظام للحكم
وفلسفة للمجتمع تقوم على مبادئ الإسلام وتعاليمه وتنطبع بطابعه؛ بحيث يكون هذا
الدين هو بلغة السياسة المعاصرة: النسق الفكري والأخلاقي للدولة والمؤسسات في
المجتمع الإسلامي. ولا يعني هذا بأي حال أن يكون المسيطرون على مجريات
الأمور في مثل ذلك النظام هم علماء الدين؛ دون أن يعني كذلك أن يستبعد هؤلاء
من دنيا الحكم والسياسة لمجرد ترضية بعض الذين يصفونهم خطأً برجال الدين
ويريدون إقصاءهم من الحياة العامة من منظور علماني. وإذا قيل وقد قيل إن إقامة
دولة أو نظام إسلامي يكون الحكم والسلطة فيه للمبادئ، والتعاليم والتوجيهات
والأحكام والشرائع والرؤى والتصورات والقيم الإسلامية يعني في الحقيقة إقامة
نظام يحكم فيه علماء الدين المسلمون أو المشائخ؛ لأن هؤلاء هم الذين يشرحون
ويفسرون الإسلام ومراميه وشريعته ونظامه. إن قيل ذلك فإن الرد ببساطة يقول:
إن هؤلاء يؤلفون فئة من الدارسين والباحثين والعلماء يشرحون الإسلام ويعلِّمونه؛
لكن ليست فئة مغلقة ولا احتكارية؛ ففهم الإسلام وشرحه وتعليمه مفتوح للجميع
شريطة الاتساق مع المنهجية العلمية كما هي الحال في كل المراكز والجامعات
العلمية في كافة أنحاء العالم وكل الثقافات، ومع ذلك فلا يوجد مانع فكري أن يحكم
العلماء أو يشكلون ناحية من نواحي مؤسسة الحكم وجوانبها؛ لأن العادة كانت ولا
زالت في الغرب أن يضم الحكام بعض رجال الكهنوت المسيحي إلى صفوفهم، كما
يضمون معهم فئات كالعلماء في الدراسات الطبيعية والإنسانية ورجال الأعمال
والثروة والعسكريين وأصحاب النفوذ والأوضاع الارستقراطية.. إلخ، فليس ثمة
عيب أو حرج إلا من وجهة النظر العلمانية الشرسة في تصورها الإقصائي للإسلام
في أن يتولى الحكم أو جانباً منه أفراد من فئة علماء الدين الإسلامي إذا كانوا
يصلحون لهذه المهمة من ناحية الاستعداد والكفاءة وثقة الجماهير والقدرة على إدارة
دفة الحكم؛ مع الاستعانة بالمتخصصين كل في مكانه، والقدرة على تطبيق
المشروع الإسلامي داخل بلادهم مع فهم كل الظروف والأوضاع التي يمر بها العالم.
وفي الوقت نفسه فلا يوجد أيضاً ما يفرض أو يحتم أن تتألف الطبقة أو الفئة
الحاكمة في البلد المسلم الملتزم بالمشروع الإسلامي من طائفة علماء الدين أو
المشايخ طالما كان الحكام مسلمين ملتزمين يطبقون الشريعة والمنهج الإسلامي الذي
يتفق الجميع عليه، وينفذون السياسات المنبثقة عن الإسلام وهو دين الجميع
ومفتوح لأن يدرسه الكل ويتخصص فيه كل قدر استطاعته.
إن استخدام مصطلح الثيوقراطية بهذا الخطأ المتعمد والتشويه مع التضحية في
أهميته وإيهام الناس بأنه مصطلح (علمي) أو (أكاديمي) منضبط المعنى يهدف في
النهاية إلى إدخال البلبلة وتشويه صورة الحركات الإسلامية بتصويرهم مجموعة
قليلة من الأشخاص يريدون الوثوب على السلطة والحكم خدمة لطائفة محدودة تبغي
التسلط على مقدرات الأغلبية وثرواتها؛ بينما تقول الحقيقة: إن المشروع الإسلامي
هو نابع من الأغلبية المسلمة خدمة لمصالح عقيدتها وأهدافها الدينية والدنيوية، وإنه
يرمي إلى تحكيم مبادئ الدين لا إلى إتاحة الفرصة لعدد محدود من الأشخاص
الطامحين إلى خدمة مصالحهم الشخصية.
ومبادئ الدين ليست حكراً في فهمها أو العمل بها أو الإيمان بمراميها على فئة
محدودة حتى يكون إعمالها بمثابة تكريس لسلطة هذه الفئة؛ بل هي محل إجماع
الجميع؛ بحيث يجزئ عنهم من يحكم بها من أي فئة اجتماعية جاء طالما هو يحكم
بها في انفتاح وعدالة دون أن يدعي احتكار الحكم له.
إن الثيوقراطية تجوز فقط لوصف فترات من التاريخ الغربي طويلة حكم فيها
فعلاً أو من وراء ستار الكهنوت المسيحي، كما أنها تجوز الآن لوصف حقب
معاصرة من التاريخ الغربي يحكم أو حكم فيها الكهنوت العلماني باعتبار العلمانية
عقيدة تؤمن بها وتقوم عليتها نخبة صغيرة من الأشخاص لا نبالغ إذا قلنا: إن
جذورهم ترجع إلي المذهب الماسوني الصهيوني.(149/122)
في دائرة الضوء
الآثار المدمرة لسياسات الإفقار
ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
صراع الحق والباطل:
من سنن الله الاجتماعية أن يتواصل صراع الحق والباطل، ويستمر عداء
أهل الكفر والنفاق لذوي الإيمان حتى قيام الساعة. ومظاهر الصراع والعداء
لفسطاط الإيمان تتباين صوراً وأوضاعاً ومظاهر وشدة وقوة وحجماً؛ لكنها تتفق
جميعها على الهدف النهائي والغاية المقصودة ألا وهي النيل من الدين؛ فالمؤامرات
السياسية والمخابراتية، والكيد العسكري والأمني، والمكر الاقتصادي والمعيشي،
والمخططات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية كلها جميعاً تبتغي القضاء
على الإسلام وتدمير مقوماته وإبادة أهله، وذاك ما حدثنا عنه القرآن.
قال تعالى: [ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ
اسْتَطَاعُوا ... ] [البقرة: 217] .
وقوله تعالى: [ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... ] [البقرة: 120] .
وقوله تعالى: [ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ
كُفَّاراً ... ] [البقرة: 109] .
وواضح من الآيات الواردة في السورة ذاتها في أول القرآن أن الله تعالى يبين
لنا سبيل المجرمين ويوضح لنا مبتغاهم حتى نأخذ حذرنا ونعد عُدتنا ونحذِّر قومنا.
الدين بُغيتهم: الأعداء على مر الزمان وفي كل مكان يريدون القضاء على
إيماننا وعقيدتنا وديننا، وأن نترك دين الله الذي ارتضاه لنا إلى ملتهم المعوجة
المحرَّفة، ويستخدمون لذلك كل ما يمكنهم من أدوات يرونها قوية وسريعة التأثير
وتحدث دماراً أوسع وخراباً أعم.
يتولى كبر ذلك العداء: اليهود والنصارى كما أشار القرآن، بل إنهم لينسون
عداواتهم الدينية القديمة ويؤلِّفون حلفاً شيطانياً ضد ديننا وأمتنا: [ ... بعضهم
أولياء بعض ... ] [المائدة: 51] ، [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ... ]
[الأنفال: 73] .
الإفقار وسيلتهم: إنهم يستخدمون كل ورقة يرونها رابحة وكل سلعة يظنونها
رائجة من أجل استئصال هذا الدين منهجاً ودعاة وأمة؛ ومن بين الوسائل ذات
الأثر الفاعل ضد أمتنا وذات العائد الثري عليهم: وسيلة حرب البطون وما يتبعها
من سياسات الإفقار المدمِّرة ومحاربة الاقتصاد ومصادر المعيشة في حياة الأمم
والشعوب عملاً بالمثل القائل: (جوِّعْ كلبَك يتبعْك) . لقد فكّر دهاة اليهود لعنهم الله
طويلاً وقدَّروا ثم نظروا ثم عبسوا وبسروا قُتلوا كيف فعلوا ثم تمخض ذلك عن
العمل على احتكار رؤوس الأموال وتجنيد أصحابها ليكون ذلك مقدمة للاستيلاء
على العالم بعد إخضاعه لحكمهم وقراراتهم وتوصياتهم ومخططاتهم؛ فهم الذين
يقبضون على عنقه ويتحكمون في مصيره ويملكون قوته.
ما يُسمى بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يُعَدُّ كلٌّ منهما حكومة صهيونية
تختبئ وراء ورقة الدولار الخضراء، وتضع فخاخها المخيفة خلف القروض
والإصلاحات الاقتصادية والسعرية، وتزرع الموت الزؤام تحت أرضية الاتفاقات
المالية، ولكن أكثر الحكام لا يعلمون أو لعلهم وهو الأقرب يعلمون.
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
والأعداء يدركون أن حربهم الاقتصادية وسياستهم التجويعية توصلهم سريعاً
إلى خط النهاية في صراعهم مع أمتنا الذي يعني لديهم تدمير الإسلام، وهم بلا شك
يحققون نجاحات في هذا المِشوار الجهنمي الخبيث لأمرٍ قدَّره الله، وبسبب ما
كسبت أيدينا نحن المسلمين. إلا أننا على يقين أنهم لن يصلوا إلى النهاية المرجوة
في هدم الإسلام وإطفاء نوره؛ لأن الله قد وعد بغير ذلك، فقال تعالى: [يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] [الصف: 8] ، غير
أنهم سينجحون في تحقيق الأهداف المرحلية التي ستكون وطأتها علينا شديدة وأثرها
في حياتنا مؤلماً؛ إن لم نتيقظ وندفع عن أنفسنا ما استطعنا بعون الله وذلك
بالاستمساك بحبله المتين والسير في صراطه المستقيم، ومن خلال استبانة سبيل
المجرمين، وإعطاء الخطر ما يستحقه من الإعداد، وأخذ الأهبة، وإطلاق
صيحات النذير وإشارات التحذير، ورص الصفوف، والتنادي لدفع الدمار القادم.
ولعل هذه الكلمات والسطور تكون لبنة في صرح الدفاع والتحذير؛ فتجعل
جاهلاً يدري وغافلاً ينتبه وسادراً يرعوي ونائماً يستيقظ ومدافعاً يتحفَّز وحجَّة تقال
وتُقام. وهدف هذا المقال مجرد الإيماء والإشارة إلى الخطر الداهم والدمار القادم؛
وليس الإحاطة والتوسع؛ فذاك مجاله البحوث العلمية الموسعة. والفقر المقصود في
حديثنا ذاك الفقر المفتعل في ظل وجود الخيرات الوفيرة والذي يترافق مع الثراء
الفاحش والتخمة المفرطة والتبذير الواضح والفساد الجلي.
آثار الفقر المدمرة:
تتحقق الآثار المدمرة لسياسات الإفقار حين يغيب الإيمان في قلوب الناس أو
يضعف أثره، ولذا يحرص أعداء المسلمين أن تترافق سياساتهم التجويعية مع تنفيذ
مخططات الإلهاء واللهو الحرام وإبعاد الناس عن دينهم وإضعاف اتصالهم بالله من
خلال البرامج الإعلامية والثقافية التي تنشر ثقافة المجون والغناء والرقص وإثارة
الشهوات وبعث الغرائز والدعوة لكل محرّم.
1 - في مجال العقيدة والدين:
وهو المجال الذي توجه إليه الأسهم المسمومة والضربات القاتلة ويراد به
الشر أولاً وأخيراً.
والفقر مدعاة للشك؛ إذ إنه يكون مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي
للكون، والارتياب في عدالة التوزيع الرباني للرزق، فيصبح لسان حال صاحب هذا التصور:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصيّر العالِم النِّحرير زنديقاً
الفقر والعقيدة الجبرية:
وقد يرضى بعضٌ باعتناق النظرة الجبرية إلى الأمور وهي نظرة تتعارض
مع عقيدة القرآن والسنة؛ فهو يُقنع نفسه بأن الفقر وإن كان شراً وبلاءاً فهو أمرٌ قد
قضاه الله في السماء ولا يجدي معه الطب والدواء؛ فقد أراد الله أن يفضل بعض
الناس على بعض في الرزق ليبلوهم، وأنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ولا رادَّ
لقضائه ولا معقب لحكمه، وغير ذلك من كلام حق يُراد به باطل، ويروَّج مترافقاً
مع سياسات الإفقار ومخططات التجويع ليقنع الناس بالرضا والصبر ولا ينبسوا
ببنت شفة ولا تنفرج أفواههم عن لفظة اعتراض، ولسان حالهم يقول:
الرزق كالغيث بين الناس منقسم ... هذا غريق وهذا يشتهي المطرا
أو كما قال آخر:
يسعى القوي فلا ينال بسعيه ... حظاً ويحظى عاجز ومهين
ونظرة الجبرية هذه ينكرها الإسلام؛ لأنها تمثل عائقاً منيعاً أمام أي محاولة
لإصلاح الأوضاع الفاسدة وتعديل الموازين الجائرة وإقامة العدالة المرجوة والتكافل
الاجتماعي باعتبارها مبادئ إسلامية رئيسة.
الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ولما
احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال
المبين، قال تعالى: [وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [يس: 47] ،
إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم
من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن
توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.
سؤال وجواب: قد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بحثِّ النصوص القرآنية
والحديثية على الرضا والقناعة بما قسم الله؟
والجواب: إن المقصود ليس هو ما يُراد ترويجه وإشاعته بين الناس من فهم
خاطئ حول الرضا والقناعة من خلال ترضية الفقراء بالعيش الدون والحياة الهون
ولا القعود عن السعي إلى الكسب الحلال والغنى والحياة الطيبة والعيش الرغيد،
ولا المقصود كذلك ترك الأغنياء في غيهم سادرين يلهون، ويعبثون ويترفون
ويسرفون، ولا ذم المال إطلاقاً؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل
الله الغنى تماماً كما كان يسأله التقى: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف
والغنى) [1] .
وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس قائلاً: (اللهم
أكثر ماله) [2] .
وأثنى على مال أبي بكر فقال في الحديث الذي حسنه السيوطي: (ما نفعني
مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر) [3] .
وقال: (ونعم صاحب المسلم هو) [4] ، (.... فنعم المعونة هو ... ) [5] ،
وقال كذلك في الصحيح نفسه من حديث يسار بن عبيد: (لا بأس بالغنى لمن
اتقى) [6] ، بل وكان يستعيذ بالله من الجوع: (اللهم إني أعوذ بك من
الجوع) [7] .
فالقناعة التي حث عليها الإسلام تعني أن لا يُفرِط الإنسان المسلم في سعيه
للغنى وأن يُجمِل في طلب الرزق ليتمكن من إقامة التوازن في حياته ويتجنب
الإفراط والغلو، ويتوجه طموحه إلى القيم الأرفع والرزق الأبقى: [ورِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وأَبْقَى] [طه: 131] ، [والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى] [الأعلى: 17] .
كما أن القناعة المطلوبة في الإسلام تعني الرضى بتفاضل الناس في أعطيات
الأرزاق تماماً مثل بقية المواهب والملكات، فلا ينبغي أن يكون أكبر همِّ المسلم
النظر إلى ما أوتيه الآخرون نظرة حسد وبغضاء وطمع، وعليه في حدود ما قدّر له
أن يكون نشاطه وطموحه: [ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ]
[النساء: 32] .
كما تعني الرضا بما رزق الله في حالات العسر وضيق الرزق والأزمات
الطارئة التي تحل بالأمم وتعم الناس بسبب الكوارث وقلة الموارد الطبيعية وعدم
القدرة على الهجرة أو تغيير الواقع.
الفقر واتهام الله: إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أنه: [إذَا مَا
ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ] [الفجر: 16] .
الفقر والكفر متلازمان:
قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال: (اللهم
إني أعوذ بك من الكفر والفقر) [8] .
وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب
والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده: (كاد الفقر أن يكون كفراً) .
وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع
المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (يبيع أحدهم
دينه بعرضٍ من الدنيا قليل) [9] .
وواضح اقتران بيع الدين بالكفر والعياذ بالله وابتغاء العرض القليل من الدنيا
بالحاجة إليها والطمع فيها. ومن أقوال السلف:
- إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك.
- أكفر الناس ذو فاقة لا صبر له، وقلَّ في الناس الصابر.
الاختلالات الحادثة في كل مجالات الحياة هي في الأصل اختلال في الإيمان
والدين:
ففي مجال الأخلاق والسلوك مثلاً: فعل ما يخالف أخلاق الإسلام يضعف
الإيمان بل ويرفعه؛ ففي الحديث المتفق عليه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق
وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيه أبصارهم حين ينتهبها
وهو مؤمن) [10] . وفي رواية للبخاري: (ولا يَقتُل وهو مؤمن) [11] .
وفي رواية لمسلم: (ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم
وإياكم) [12] .
ومن نافلة القول أن الأخلاق السيئة الوارد ذكرها في الأحاديث السابقة من
زنى، وسرقة، وقتل، وغلول، وشرب خمر يكون الفقر والحاجة من أشد
دوافعهما وأكثرها، وهي ذات تأثير في رفع الإيمان وانعدامه.
خلاصة: الفقر سبب للشك في الله، واتهامه، واعتناق العقيدة الجبرية
المنحرفة، ويتلازم معه الكفر، وكل آثاره الأخرى توهن الدين وتضعف الإيمان.
2 - في مجال الأخلاق والسلوك:
الفقر والفاحشة: تعد الحاجة والفقر من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء
الرذائل والفواحش؛ إذ يكون الفقر في حال غياب الإيمان أو ضعفه أقوى من
مراقبة الله والخوف منه والاستجابة لنداء الضمير، لذا قيل: (صوت المعدة أقوى
من صوت الضمير) .
ودلالة الاقتران بين الفقر والفاحشة واضحة في النصوص الحديثية الصحيحة
الآتية:
الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد
سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق! ! فقال: اللهم لك الحمد
على سارق! ! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا
يتحدثون: تصدق الليلة على زانية! ! فقال: اللهم لك الحمد على زانية! !
لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون:
تصدق الليلة على غني! ! فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؛ فأُتي
فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على
زانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على غني فلعله أن يعتبر فينفق
مما أعطاه الله) [13] .
نستطيع أن نفهم من الحديث السالف أن حصول السارق على المال وكذا
الزانية قد يكون سبباً قوياً (فلعله، فلعلها) في رجوعهما عن غيهما والعودة إلى
الأصل وهو العفاف (يستعف، تستعف) ، وأن السبب في فاحشتهما بعد ضعف
الإيمان وغيابه هو الحاجة إلى المال.
وفي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن الثلاثة
الذين آواهم المبيت أو ألجأهم المطر إلى الغار، فسقطت الصخرة وسدت عليهم
باب الغار، فأشار بعضهم على بعض بالتوسل إلى الله بصالح الأعمال لينجوا من
الموت والهلكة، فقال أحدهم: (اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليَّ
فأردتها عن نفسها (راودتها) فامتنعتْ مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني
فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت؛ حتى إذا
قدرت عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرَّجتُ من الوقوع
عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ ... ) [14] .
ما الذي جعل المرأة العفيفة توافق على أن تخلي بينها وبين نفسها لابن
عمها؟ ! إنها الحاجة والفقر: (ألمت بها سنة من السنين) ، وهذا هو الشاهد! ! ثم ما الذي حفظها وابن عمها من الفاحشة؟ ! إنه الإيمان وتقوى الله الذي نادت به ابن عمها: (اتق الله) .
الواقع يتحدث: في اعترافات الواقعين في مستنقعات الرذيلة والفاحشة وفي
مذكراتهم ما يدل على أن الفقر والحاجة إلى المال كان سبباً في سقوطهم، ومآسي
الأسر في ضياع شرفها وفي امتهان أولادها للسرقة والدعارة بسبب الفقر قصصٌ
تُدمي القلوب وُتحزِن النفوس وتُعظم العقاب على كل راع ومسؤول لم يؤدِ حق
رعايته، وكم من امرأة شريفة قد ألجأتها الفاقة إلى العمل خارج بيتها فكان الذئاب
في انتظارها!
الفقر وأخذ المال الحرام:
من الأخلاق الذميمة التي حاربها الإسلام وجعلها من الكبائر: السرقة،
الرشوة، الغلول، وغيرها مما تؤكل بها أموال الناس بالباطل وتجعل الكسب حراماً
حراماً؛ هذه الأخلاق لا ترتكب غالباً إلا في حالة الحاجة والفقر وعدم كفاية الدخل
في سد الحاجات الأساسية؛ فأنت تجد ذا النزاهة والأمانة إن لم يستطع المقاومة ولم
يكن له زاد من الإيمان يثبته، تجده يضطر بفعل الضغوط الأسرية والحياتية وقلة
ذات اليد إلى أن يغمس يده في رجس المال الحرام والعياذ بالله، وفي الحديث:
(خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه،
تمنعكم الحاجة والفقر) [15] لذا كان من هدي الخليفة عمر بن عبد العزيز أن سدَّ
على عماله وموظفيه كل نافذة أو ثغرة لأخذ المال الحرام، وبدأ برفع أجورهم
ليحقق لهم الكفاية ويغنيهم عن الخيانة ويسد بذلك الذريعة إلى الحرام.
الفقر والذلة:
والذلة لغير الله خلق سيئ يجعل المرء عبداً للناس يخافهم ويذعن لما يملونه
عليه حتى لو كان في ذلك معصية لله، لذلك تعوَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الفقر والذلة وقرن بينهما: (اللهم إني أعوذ بك من القلة والذلة) [16] .
الفقر وصفات النفاق:
الفقر يدفع إلى طلب الدَّيْن، وعدم القدرة على السداد والأداء يجعل الإنسان
يكذب ويخلف وهي من صفات النفاق. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث البخاري:) إن الرجل إذا غرم استدان حدث فكذب، ووعد فأخلف [17] .
الفقر وضياع أخلاق حميدة:
يُجبِر الفقر الناس على التخلي عن كثير من الأخلاق الحميدة، مثل:
- الكرم للضيوف والأصحاب.
- الصدقة والتكافل الاجتماعي.
- صلة الأرحام.
- الحب والتواد بين الناس.
- التعفف والحياء.
كما يدعو إلى الاضطرار إلى التسوُّل وما يجره ذلك من أضرار.
الفقر وسفك الدماء:
الفقر يؤدي إلى الجزع على الدنيا، والخوف على فوات نصيبه منها، مما
يدفع إلى الصراع من أجلها والامتثال لسفاسفها وسفك الدماء وعدم السماح
والصفح؛ لأن الجميع يرون أنهم في حاجة إليها، ويرونها مسألة حياة أو موت، كما أن آثار الفقر السابقة تؤدي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح وارتفاع معدلات الجريمة.
3 - أثر الفقر على العلم والفكر:
طلب العلم ونشره وتوفير مؤسساته ومتطلباته يحتاج إلى الدعم المادي،
وفقدان المال يؤدي إلى عدم توفر الإمكانات المعينة على طلب العلم ونشره، فيجهل
الناس، ويضيع العلم. ويؤدي اضطرار الناس إلى العمل كباراً وصغاراً إلى
العزوف عن طلب العلم وتتفشى الأمية؛ فيظهر ذلك في تأخر الأمة علمياً وثقافياً؛
لأنهم قد شُغِلوا بطلب الرزق عن كسب العلم والثقافة والفكر، وحتى إنْ طلب أبناء
الأمة العلم في ظل مؤسسات لا توفر أبسط الإمكانات والظروف المناسبة فإن طلبهم
للعلم وتلقيهم له يكون ضعيفاً لا يغني من جهل ولا يُبصر من عمى ويؤدي إلى
تسربهم. كما أن التفكير والقدرة على الابتكار ونفع الأمة يعوقه كثيراً ما يلاقيه
أصحابه من عنت في مجال الحياة المعيشية وتوفير القدر الأدنى من الحاجات
الأولية لأنفسهم.
روي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة: أن
الجارية أخبرته يوماً في مجلسه أن الدقيق قد نفد، فقال لها: (لقد أضعتِ من
رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه) .
ويروى عن الإمام أبي حنيفة قوله: لا تستشر من ليس في بيته دقيق؛ لأنه
مشتت الفكر مشغول البال فلا يكون حكمه سديداً.
وفي الحديث الصحيح: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) [18] .
وقد قاس عليها الفقهاء: (لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها
انفعالات تؤثر على حكمه) .
يقول القائل:
إذا قلَّ مال المرء قلَّ بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان دارياً قدامه خير له أم وراؤه
وقد قيل: أعطني خبزاً أعطك شعباً مثقفاً.
وقديماً رأى الشاعر أن المُلْك يقوم على العلم والمال وأن كلاً منهما يحتاج
الآخر:
بالعلم والمال يبني الناس مُلكهم ... لم يُبنَ مُلك على جهل وإقلال
4 - أثر الفقر على الأسرة:
الأسرة نواة المجتمع، وبها يكثر أو يقل المجتمع، ويقوى ويضعف، ويصلح
أو يفسد.
وأثر الفقر على الأسرة يظهر ظلاله السيئة على تكوينها واستمرارها:
أثره على تكوينها: فالفقر مانع رئيس من موانع الزواج؛ لأن من متطلباته
المالية: المهر، النفقة، تجهيز المنزل.
لذا حث القرآن من لا يجدون القدرة على الزواج على الاستعفاف حتى يرزقهم
الله من فضله؛ ولعل المقصود في ذلك: القدرة المالية لارتباط ذلك بقوله تعالى: ... [يُغْنِيَهُمُ] ، يقول تعالى: [ولْيَسْتَعْفِفِ الَذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ ... ] [النور: 33] .
وفي الحديث المتفق عليه من رواية عبد الله بن مسعود: (يا معشر الشباب!
من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم
يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) [19] .
الفقر سببٌ قوي لدى الكثير من الآباء والأمهات للأسف لرفض الشباب
المتقدمين لخطبة بناتهم؛ إذ إنهم لا يرغبون إلا في الموسرين، وهو داء قديم
عرض له القرآن وأمر الآباء والأمهات بخلافه، قال تعالى: [وأَنكِحُوا الأَيَامَى
مِنكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُمْ إن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ واللَّهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ] [النور: 32] .
لكن الكثير من الآباء والأمهات لا يُصغون لنداء القرآن؛ لذا انتشرت العنوسة
بين النساء، وسُهِّل طريق الحرام للسالكين، وحدثت الفتنة والفساد الذي توعد به
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن
لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض) [20] .
أثره على استمرارها: والفقر معوِّقٌ قوي عن استمرار الأسرة بعد تكوينها؛
إذ إنه يكون سبباً في طلاق المرأة من زوجها؛ إذ يجيز الشارع أن يطلق القاضي
المرأة من زوجها لإعساره وفقره وعجزه عن النفقة عليها.
والفقر سبب رئيس لمعظم الخصومات الدائمة بين الرجل وزوجته حول
النفقات ومتطلبات المعيشة وكيفية توفيرها والتعامل معها، ويكون الفقر وراء انعدام
السكينة وضياع المودة والرحمة.
بل إن سياسات الإفقار تدفع بالنساء والأطفال إلى العمل، فيخرج الجميع إلى
الحياة والمغالبة لأجل البحث عن أسباب العيش ويُقوض بنيان الأسرة. إن استمرار
الأسرة أيضاً يعني التناسل والإنجاب، والحد من النسل يعني توقف استمرار الأسرة، والأعداء يروّجون لذلك ويتحججون بالفقر وانخفاض الثروات الغذائية مقابل
الانفجار السكاني، وهم للأسف يجدون من يستمع إليهم ويقتل أولاده كأولئك الذين
خاطبهم الله قائلاً: [ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ] [الأنعام:
151] ، الإملاق: الفقر، [ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ إنَّ
قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبيراً] [الإسراء: 31] .
والآيات واضحة في أن من سبب قتل الأولاد الفقر أو خوف الفقر؛ فهو عقبة
أمام استمرار الأسرة.
وفي الحديث المتفق عليه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب
أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ، قال: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك
مخافة أن يطعم معك) [21] .
ولا يخاف الأب أو الأم أن يطعم ولده معه إلا في حالة شح الطعام وندرته
بسبب الفقر والحاجة، لذا يضطر لقتله والعياذ بالله ليرتكب ذنباً من أعظم الذنوب
بعد الشرك.
كما أن انشغال الآباء والأمهات بطلب العيش وتوفير الحد الأدنى من مقومات
الحياة يؤثر سلباً في الاهتمام بتربية الأولاد والعناية بهم.
5 - أثر الفقر على الصحة:
في الصحة العامة: يؤثر الفقر على الصحة العامة للفرد والأسرة والمجتمع؛
إذ بسببه لا يمكن توفير أساسيات للمحافظة على الصحة العامة، ومنها:
- الغذاء المناسب الواقي والمدافع من الأمراض وسوء التغذية.
- الوقاية اللازمة من خلال النظافة في المنزل والشارع ومنع انتقال العدوى.
- العلاج المناسب لإعانة الجسم على استرداد حالته الصحية السوية (سواء
كان استشارة طبية، أو فحصاً مختبرياً، أو أدوية ... ) .
- المؤسسات العلاجية المناسبة: المختبرات، المستشفيات، المراكز
المتخصصة.
- مؤسسات إعداد الكوادر الطبية: إعداد الأطباء وتأهيلهم، وتدريب الكوادر
الطبية المساعدة.
في الصحة النفسية: إذ بسبب الفقر يعاني الناس أفراداً وأسراً وجماعات من
الضجر والتبرم والقلق وعدم الأمان والخوف من المستقبل والشعور بالحرمان،
والإحساس بالدون والحسد والكراهية والسخط مما يسبب ضغوطاً على النفسيات؛
فتحدث خللاً وارتباكاً يؤدي إلى ما هو أعظم وأسوأ: من التفكير بالانتقام،
والتطرف في الأفكار والتعامل، بل والجنون وفقدان الاتزان العقلي عافانا الله جميعاً.
6 - أثر الفقر على الاقتصاد والسياسة:
رغم أن السياسة والاقتصاد هما سببان رئيسان للفقر والجوع إما بسبب الفساد
المالي والإداري والسياسات المتبعة، أو الإذعان لما تمليه على ولاة الأمور
الحكوماتُ الخفية للصهيونية ممثلة في المؤسسات الاقتصادية الدولية. لكن الفقر
نتيجة تؤثر أيضاً في السبب، ومن ذلك:
- قلة الإنتاج وانهيار الاقتصاد وزيادة العجز وضعف الإيراد، والكساد
التجاري، والركود الاقتصادي.
- انعدام الثقة والحب بين الحاكم والمحكومين.
- ارتفاع تكاليف الخدمات العامة الأساسية.
- زيادة المماحكات السياسية وتبادل التهم.
- الظلم الجلي في توزيع الثروات.
- زيادة البطالة وما تؤدي إليه من أضرار اقتصادية واجتماعية.
- الشعور العام بالسخط وعدم الانتماء إلى الأمة والوطن.
- الحد من دور الدولة، وهذا يعني بقاء القرار السياسي والاقتصادي في يد
من يقدِّم المال ويتحكم في الاقتصاد ويدير وجهة تطوره وملامحه.
- تصفية المدخرات السابقة وتسييلها من قِبَل الطبقات الوسطى والاستعانة بها
في مواجهة النفقات المعيشية المتزايدة لتتحول بذلك إلى الطبقة الفقيرة.
- ازدياد هجرة العقول والأيدي العاملة المحلية.
- تغيير هيكل الإنتاج من إنتاج متين يعتمد على القطاعات الاستراتيجية
كالزراعة والصناعة إلى هيكل إنتاجي يرتبط بالعالم الخارجي كالسياحة والاستيراد
وغيرها.
تعريف أخير: مشروعات الصناديق الاجتماعية ذات الموارد الهزيلة: لا
تخرج عن كونها ديكوراً يلحق ببرامج الإفقار والهلاك لإعطائها مسحة من السمة
الإنسانية على وجهها الشيطاني القبيح، أما الزيادات الطفيفة التي تضاف إلى
الأجور فإنها لا تجدي شيئاً ولا تشكل سوى رذاذ طفيف في مواجهة لهيب الأسعار
وإعصار التكاليف الحياتية.
باختصار: تلكم كانت صنوف العذابات التي يُريد المتآمرون أن تسوم أمتنا
وشعوبنا، وأن تتجرعها غصصاً ولا تسيغها ويأتيها الهلاك من كل مكان، وأن
تُطحن برحى سياسات الإفقار فلا تبقى فيها باقية من إيمان وقوة أو أثر من خلق
وإرادة، ومن ثم تسير في درب سننهم حذو القذة بالقذة رافعة راية التبعية
والاستسلام ورامية بعقيدتها ودينها وتميزها وخيريتها خلف جدران النسيان. نعوذ
بالله من ذلك ونسأله العفو والعافية وأن يكفيها شر الأشرار وكيد الأعداء والفجار
وشر طوارق الليل والنهار.
ثالثة الأثافي:
قد أسلفت أن جرائم سياسات الإفقار لا يمكن أن تُنَفَّذ في صورتها المطلوبة إلا
في ظل ضعف الإيمان وانعدامه، لذا لا بد من أن تترافق مخططات التجويع جنباً
إلى جنب مع مخططات الإلهاء والصد عن سبيل الله، ونشر الإباحية والخنوع،
ودعم مشاريع إشاعة الرذيلة والفسق والفجور، وذلك من خلال:
- قيام وزارات الإعلام والثقافة، والسياحة في كثير من البلدان بدورها
الشيطاني في الإلهاء والتغريب والتعتيم على الشعوب وصرف أنظارها عمَّا يحاك
لها وما يدبر ضدها في الخفاء.
- شغل الناس وخاصة الطبقة المثقفة التي يُنتظَر منها قيادة الشعوب في
المقاومة وفضح المخططات في خلافات حزبية وتباينات سياسية فكرية ثقافية تعشي
أعينها عن إدراك المؤامرات التي تستهدف الدين والعقل والعرض والمال والحياة.
- محاصرة التيار الإسلامي والعمل على تجفيف منابعه وتكسير أجنحته،
ووضع الفجوات الواسعة والعميقة بينه وبين جمهور الناس عن طريق تشويه سمعة
دعاته أو إبعاده بشتى الوسائل عن مراكز القرار أو الخطاب والبلاغ والإنذار حتى
لا يؤدي دوره في إيقاظ الأمة وقيادتها في المواجهة.
إشارات على خط المواجهة:
1- تقوية الصلة بالله، وتعميق الإيمان في النفوس، والعودة إلى الإسلام
واعتماده منهجاً لتسيير شؤون الحياة وفق رغبة خالقها.
2- العلم بمكائد الأعداء، واستبانة سبيل المجرمين وفضح مؤامراتهم.
3- رص الصفوف، وتضافر الجهود، والتعاون على البر والتقوى.
4- الأمل والثقة بفرج الله وعدم اليأس: [ويمكرون ويمكر الله والله خير
الماكرين] [الأنفال: 30] ، [فإنَّ مع العسر يسرا. إنَّ مع العسر يسرا]
[الشرح: 5، 6] .
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 4898.
(2) رواه البخاري، ح/5859.
(3) رواه أحمد، ح/ 7134.
(4) رواه البخاري، ح/ 2630.
(5) رواه البخاري، ح/ 5947.
(6) رواه ابن ماجة، ح/ 2132.
(7) رواه النسائي، ح/ 5373.
(8) رواه أحمد، ح/19487.
(9) رواه مسلم، ح/ 169.
(10) رواه البخاري، ح/ 2295.
(11) رواه البخاري، ح/6311.
(12) رواه مسلم، ح/ 86.
(13) رواه البخاري، ح/ 1332.
(14) رواه البخاري، ح/ 2111.
(15) أخرجه الطبراني في الكبير، 20/90، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 228بأن فيه انقطاعاً.
(16) رواه النسائي، ح/3565.
(17) رواه البخاري، ح/ 789.
(18) رواه أحمد، ح/ 19495.
(19) رواه البخاري، ح/4677.
(20) رواه ابن ماجة، ح/ 1957.
(21) رواه البخاري، ح/ 6978.(149/124)
بأقلامهن
دعوة للتمام
علياء بنت عبد الله
ما زلنا نخاطب النفوس والقلوب منذ عدة عقود غير منتبهين لانحراف
المفاهيم التي غدا فيها الحق باطلاً والمنكر معروفاً في كثير من الأحيان! !
حين يحب الإنسان شيئاً يسعى إلى تكميله وتجميله، ويجتهد ما استطاع في
حمايته من كل خدش يعكر صفاءه، أو كسر يؤذيه، وكذلك هو هذا الدين؛ نحمل
له ولأبنائه المخلصين كل مشاعر الحب والتقدير والاحترام، ونذود عنه حتى من
نسمة الريح. ومن تمام هذا الحب علينا أن نسعى جاهدين من أجل تأدية الأمانة
التي حمَّلنا إياها.
وما حمل على كتابة هذه الأسطر إلا الطمع في القائمين على أنشطة الدعوة
في الوصول إلى التمام والكمال بالمفهوم الشرعي لهذين اللفظين وليست الرغبة في
الانتقاص من أحد؛ وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.
أولاً: القرآن تهميش أم تفعيل؟
كان وحي السماء كفيلاً بأن يغير حياة أمة جاهلية لا تعرف معنى الإنسانية
بنقلها إلى النقيض من تلك الحياة. كانت آياته تلامس أوتار النفوس فيُقبِل الناس
على هذا الدين الوليد، وكان المسلمون في مكة يُعذَّبون فتثور فيهم ثورة العربي
فتأتي التربية القرآنية: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَّ]
[النساء: 77] وحين ينتشي المسلمون بفرحة النصر في بدر يردها الله إلى الميزان
الحقيقي في وزن الأمور: [ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأَنتُمْ أَذِلَّةٌ] [آل عمران:
123] ويُهزَم الجيش المسلم في أُحُد فتأتي الآيات لتلمس الجرح وموطن العطب: ... [مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] [آل عمران: 152] وفي الوقت الذي
يرجع فيه المسلمون من صلح الحديبية مستائين محبَطين تأتي الآيات بعكس ما كانوا
يتوقعونه تماماً: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح: 1] ويستمر تنزيل الآيات حدثاً
بحدث وآية بآية، ومحنة بمحنة يشاركهم أفراحهم ويسلِّيهم عن أحزانهم، حتى
استطاع بحروفه وكلماته أن يحوِّل تلك الأمة إلى أمة ضربت بأرجلها هام السحاب.
إن كتاباً هذا شأنه وهذا شرعه جدير بأن يحتل مكاناً أكبر في برامجنا الدعوية. إن برامجنا تجعل من تحفيظ القرآن هدفاً أول وهذا حق وواجب، ولكن من
الواجب علينا أيضاً أن نصرف مجهوداً إن لم يكن أكبر فعلى الأقل مماثلاً له في
تفسيره والوقوف على آياته واستخراج كنوزه، وما ذاك إلا لإعادة دوره في حياة
الناس وربطهم بما تقتضيه الآية من استجابة فورية وتنفيذ مباشر، وإلا فإننا نطبق
ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: (هذا أوان يُختَلَس العلم
من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء) فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف
يُختَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنُقرئنه نساءنا وأبناءنا! فقال: ... (ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل
عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟) [1] .
إن جزءاً من إيماننا بأن كتاب الله هو شريعتنا الوحيدة إلى يوم القيامة يحتم
علينا أن نصرف المزيد من الأوقات في استخراج أسراره ودروسه العقدية
والتربوية والإيمانية وغيرها، ومن ثَمَّ فإن الإقلال من دور القرآن في جعله مادة
للحفظ فقط مع التعريج السريع على معاني كلماته وجعل الأوقات الكبرى والذهبية
تُصرَفُ في تعلُّم مواد أخرى ظلم كبير لكتاب الله وتهميش لدوره الحقيقي الذي يجمع
العلم كله، ومن تعلَّم القرآن فقد أخذ بحظ وافر.
ثانياً: برامجنا بين الكم والكيف:
رغم تعالي الأصوات وتكرر النداءات بوجوب العناية بالكيف والبعد عن
الغثائية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولكنكم غثاء كغثاء
السيل) [2] إلا أنه ما زالت برامجنا تخطو خطوات بطيئة نحو ترجمة هذا المفهوم، ... وما زالت تخاطب الجميع الخطاب نفسه وباللهجة نفسها.
فإذا أخذنا أحد البرامج على سبيل المثال نجد أن المشتركين قد يصل عددهم
إلى 400 مشترك: منهم العابد، ومنهم طالب العلم، ومنهم المسرف على نفسه،
ومنهم من جاء يشغل فراغاً، وآخر لا يُعلَمُ سببٌ لمجيئه! ! هؤلاء الأربعمائة
يُجمَعون جميعاً في مكان واحد ليتلقوا المعلومة نفسها والتوجيه نفسه؛ وعلى أحسن
الأحوال فقد يُفصَل الأطفال عن الكبار، وقد يكونون ربع العدد، كما يفصل كبار
السن وهم الربع الآخر لتجمع المئات المتبقية بعضها مع بعض.
أي نوع من التربية الذي نطمح إليه من خلال هذا الطرح؟ !
وبماذا يختلف هذا الأسلوب عن قراءة كتيب أو توزيع شريط؟ !
ولماذا نشتكي من عدم وجود قيادات جديدة مؤهلة، ونشتكي من تكرر الوجوه
على مر السنين؟ لماذا نشتكي من ذلك إذا كانت برامجنا لا تتسع لتقوية الضعفاء،
ولا لتحديث القدماء، ولا لتمييز الطاقات؟
ولسنا نجد تشبيهاً لفعلنا هذا إلا بطبيب يحقن جميع مرضاه على اختلاف
علاتهم بدواء واحد فيشفي هذا ويقتل هذا؛ والسبب هو الخطأ في الدواء! هذا
ونحن نتغافل عن إجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم المختلفة لسؤال واحد هو: أوصني يا رسول الله! فيأتي الجواب تارة بالحث على الصلاة في وقتها، وتارة
بعدم الغضب، وأخرى ببر الوالدين؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لا يحمل
إجابات متسرعة ومجهزة يقدمها لكل من يسأل! ! وإنما يعطي كل سائل حسب
طاقته وحسب حاله.
إننا إذا تعاملنا مع هذه المئات بهذه الكيفية فإننا نحمل وزرهم؛ لأننا نظلم ذلك
المتعطش المتلهف فنبطئ من سرعة تحصيله ونطفئ فيه رغبته لمعرفة الحق،
وعلى الصعيد الآخر فإننا قد نرمي بهذا الخطاب العام بسهام تصيب أولئك
المستجدين فتجعله آخر العهد بهم! !
ثالثاً: العيش في الشرنقة!
في الوقت الذي يقف هذا الجيل الناشئ أمام مغريات الواقع الكبيرة وفتنه
الأكبر، إلا أن برامجنا ما زالت تخاطب تلك القلوب البريئة نفسها والنفوس
الصافية التي كانت تخاطبها قبل عشرين سنة مضت متجاهلين بذلك تغير الزمان
وانحراف مفاهيم الناس التي غدا فيها الحق باطلاً والمنكر معروفاً في كثير من
الأحيان.
فحين كنا نجعل بالأمس من قضية نقاب المرأة مشكلة العصر ونعتبرها أهم
الدروس ونجمع في ذلك الفتاوى، فإننا نقف اليوم مشدوهين أمام تفسخ كامل وعري
فاحش وكَمٍّ هائل من العلاقات المحرمة، وانتشار للزنا بصورة مروعة؛ وقصص
المدارس والمستشفيات أكثر من أن تُعد أو تُحصى، فإذا أضفنا إلى ذلك إقرار
بعض أفراد المجتمع لهذه الممارسات بحجة متطلبات العصر ومستلزمات النقلة
لعرفنا حجم التغيير الذي يجب أنه نحدثه في برامجنا الدعوية حتى يتسنى لنا
استيعاب هذا الانحراف والدخول على مختلف شرائح المجتمع لتصحيح ما أفسده
هذا الانقلاب في حياة الناس.
رابعاً: دعوة للمخلصين:
استقراءاً لما سبق فإننا نأمل من القائمين على البرامج الدعوية إعادة النظر في
البرامج المطروحة على الساحة وبنائها من جديد على أساس متين آخذين بالاعتبار
ما يلي:
1- إعادة دور القرآن في حياة الناس؛ وذلك من خلال التأكيد على وقفاته
الإيمانية ودروسه التربوية والعلمية، وإعطاء تفسيره وشرحه الوقت الكافي،
ومحاولة ربطه بواقع الناس من حيث ضرب الشواهد من حياتنا اليوم مع ربطها
بفتاوى المشايخ في بعض مستجدات العصر للتأكيد على أن الدين واحد لا يتجزأ،
وأيضاً من خلال إعطاء معلمي القرآن أهدافاً لا بد من تحقيقها وفوائد ودروساً لا بد
من التأكيد عليها من خلال التفسير.
2 - إتاحة الفرصة لانطلاق قيادات جديدة عن طريق فتح برامج تأهيلية تعنى
بأولئك المتلهفين المتعطشين والذين تبدو عليهم علامات النبوغ والتميز، ويجب
دراسة ذلك من ناحية الكثافة العلمية والتربية الجادة والمتابعة الدقيقة.
3 - مراعاة الفروق بين الناس؛ وذلك عن طريق فتح دورات جديدة
لاحتياجات الناس ومطالبهم لا سيما في هذا الوقت العصيب.. ففي الحين الذي
تحس فيه امرأة بأن أصعب مشكلاتها هي عدم قدرتها على تخريج حديث مَّا، قد
تحس أخرى بأن أصعب مشكلاتها هي في التعامل مع أطفال لها بلغوا سن المراهقة: كيف تحميهم من الفتن؟ كيف تربيهم على الفضيلة وسط مجتمع منحرف؟
إن لكل فرد مطالبه، ولكل منا مشكلاته؛ وكلما استطعنا فتح أبواب جديدة
لتوسيع الخطاب مع الناس كلما استطعنا أن نسد شيئاً ولو قليلاً من أبواب الفتنة التي
عمت وطمت.
هذا ونحن لا نستطيع أن نقلل من حاجة هذه أو تلك؛ ففي الوقت الذي نُكْبِرُ
فيه سؤال حنظلة واهتمامه بإيمانياته حين يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً:
نافق حنظلة، أو يقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع تلك المرأة التي تأتيه
شاكية زوجها فلا يهمِّش من قضيتها، بل وتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة: ... [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ] [المجادلة: 1] وكم
حوت آيات القرآن من أوامر للوالدين بوقاية أطفالهم من النار والاعتناء بتربيتهم
وحفظ حقوقهم: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَاراً] [التحريم: 6] .
فبماذا ستنتفع الأمة إذا كانت الأم لا تحسن تربية أبنائها ولا تستطيع غرس
الفضيلة في صدورهم لتخرج للأمة رجالاً مشوهين فكرياً مليئين بعقد النقص
والهزيمة الداخلية؟
__________
(1) أخرجه الترمذي، ح/ 3562.
(2) رواه أحمد، ح/ 36312.(149/134)
المنتدى
مراعاة الأحوال في الدعوة
سليمان بن محمد النصيان
إن تغيير النفوس ونقلها عن ميولها ومألوفاتها أمر ليس سهلاً؛ فإن الأعراف
التي استقرت في العقول وتواطأ عليها الناس لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجّه.
والعادات في السلوكيات التي تجذرت وترسخت لا يتصور اقتلاعها في يوم وليلة،
وهناك أمور كثيرة ينبغي مراعاتها والأخذ منها بالتدرج فيها؛ وهذه خلاصة نافعة
في هذا الباب:
أ - مراعاة الطبائع: إن الناس يختلف بعضهم عن بعض في علمهم وفهمهم
وطبائعهم الشخصية وعاداتهم الاجتماعية، ومن الناس من طبعه الحدة والسرعة في
الانفعال، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال؛ وكلٌ له مدخل وأسلوب يناسبه.
ب - مراعاة الأفهام: تفاوت الأفهام أمر معروف وله أسبابه من قلة العلم أو
اختلاف البيئة أو استحكام العادات ونحو ذلك.
ج - مراعاة المقاصد والنيات: قد يتفق اثنان في عمل مَّا ومع ذلك يختلف
الحكم عليهما باختلاف النوايا؛ فهناك من يفعل الفعل ناسياً أو جاهلاً بحرمته أو
متأولاً فيه أو مكرهاً عليه.
د - مراعاة الأصول الخاصة: وذلك واضح في تعدد الجواب من الرسول
صلى الله عليه وسلم عندما يُسأل عن أفضل عمل مثلاً، أو عن الوصية والنصيحة.
هـ - مراعاة الأعراف والعادات العامة: إن لكل بلد أعرافها، وكل بيئة لها
عاداتها، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية من ضروب الحكمة وموافقة جوهر
الشريعة.
و مراعاة الأولويات والمهمات: وذلك بأن يركِّز المسلم في دعوته وهدايته
للناس على الأوْلى والأهم فيقدم الفرض على النفل، والعيني على الكفائي، وهكذا.
ومن ذلك أيضاً أن يركز المسلم على ميدان أكثر من ميدان وعلى صنف أكثر من
صنف آخر؛ فالمسلم مقدم على غير المسلم، ودعوة المقربين نسَباً وجيرانه مقدمة
على الأباعد، ودعوة المثقف مقدمة على دعوة الأمي ... وهكذا. ومن المعلوم أن
هناك مقاصد ضرورية مقدمة، ومقاصد حاجية تأتي بعدها، وهناك مقاصد تحسينية
تأتي في المرتبة الأخيرة.
ز - مراعاة المصالح والمفاسد: وهذا الأمر في غاية الأهمية؛ وذلك لأن
الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل
كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى
الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى
العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل.
وهذا مبحث دقيق ينبغي في البداية التنبيه إلى أن المراد بالمصالح والمفاسد ما
كانت كذلك في حكم الشرع لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع، ولا يكون تقريرها
وفق أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية؛ والدقة في هذا
المبحث تكمن في أن المعروف قد يترك فعله والحض عليه والمنكر قد يترك النهي
عنه والإنكار عليه.. إلخ، ثم النظر في تقدير المصلحة والمفسدة، وتقديرها
والترجيح بينهما يحتاج إلى تقوى صادقة، وبصيرة علمية نافذة، ومعرفة بالواقع
واسعة.
ح - مراعاة الأوقات: والمقصود بمراعاة الوقت تخيُّر الوقت الملائم للدعوة
من حيث فراغ المدعوين، واستعدادهم للتلقي، وكذلك المراعاة لأوقات المواعظ
والدروس ومناسبة مدتها لأحوال الناس.(149/138)
المنتدى
انتبه ... فالعمر يمضي
عبد الملك مطر النمر
قال الشاعر:
إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى ... ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
وقال حكيم: من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرضٍ أداه،
أو مجدٍ أثَّله، أو حمدٍ حصَّله، أو خير أسسه، أو علمٍ اقتبسه فقد عق يومه وظلم
نفسه.
وللوقت خصائص يتميز بها يجب علينا أن ندركها حق إدراكها، وأن نتعامل
معه على ضوئها، ومن هذه الخصائص:
أولاً: سرعة انقضائه: فهو يمر مر السحاب سواء كان زمن مسرة وفرح،
أم كان زمن اكتئاب وترح.
قال الشاعر:
مرت سنون بالوصال وبالهنا ... فكأنها من قصرها أيام
ثم أتت أيام هجر بعدها ... فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة فهو قصير ما دام الموت هو نهاية كل
حي. وعند الموت تنكمش الأعوام والعقود التي عاشها الإنسان حتى لكأنها لحظات
مرت كالبرق الخاطف.
ويحكون عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام: عندما سئل: كيف وجدت
الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
وسواء كانت القصة صحيحة أم غير صحيحة فإنها تعبر عن حقيقة مقررة هي: تضاؤل الأعمار عند الموت. قال تعالى: [ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا
ساعة من النهار] [يونس: 45] .
ثانياً: أن ما مضى منه لا يعود ولا يعوَّض؛ فكل يوم يمضي وكل ساعة
تنقضي وكل لحظة تمر ليس في الإمكان استعادتها، ومن ثمَّ لا يمكن تعويضها؛
وهذا ما عبر عنه الحسن البصري بقوله البليغ: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: ... يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني؛ فإني إذا مضيت لا
أعود إلى يوم القيامة) .
قال الشاعر:
وما المرء إلا راكب ظهر عمره ... على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة ... بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر
ثالثاً: أنه أنفس ما يملك الإنسان: فالوقت يعتبر من أنفس وأثمن ما يملك
الإنسان؛ لأن ما مضى منه لا يرجع ولا يعوَّض بشيء. وترجع نفاسة الوقت إلى
أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج؛ فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً أو
مجتمعاً.
والوقت ليس من ذهب فقط كما يقول المثل؛ بل هو أغلى في حقيقة الأمر من
الذهب وغير ذلك من المعادن والجواهر النفيسة، إنه هو الحياة؛ فما حياة الإنسان
إلا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة.
وفي هذا قال الحسن البصري أيضاً: ابن آدم! إنما أنت مجموعة أيام كلما
ذهب يوم ذهب بعضك، ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه
قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه ولكن بعد فوات الأوان.
وفي هذا يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته، حيث لا
ينفع الندم:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة
ويتمنى لو منح مهلة من الزمن وأُخِّر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسد ويتدارك ما
فات. قال تعالى: [وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ
رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ] [المنافقون: 10] .
ولكن الله رد عليهم بقوله: [ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها إن الله خبير بما
تعملون] [المنافقون: 11] .
الموقف الثاني: في الآخرة: حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما
كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ قال تعالى: [ووفيت كل
نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون] [الزمر: 70] ، وقوله تعالى: [اليوم
تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم بيوم إن الله سريع الحساب] [غافر: 17] .
هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الدنيا؛ ولكن هيهات لما يطلبون؛ فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء، والله أعطى كل مكلَّف من العمر ما
يتسع لعمل ما كُلِّفَ به، ويُذكِّره إذا غفل عنه وبخاصة من عاش حتى بلغ الستين
من عمره؛ ففي هذا القدر من السنين ما يكفي لأن ينتبه الغافل ويتوب العاصي.
وفي الحديث الصحيح: (أعذر الله إلى امرئ أمهله حتى بلغ ستين عاماً) [1] .
__________
(1) رواه البخاري، ح/0495.(149/139)
المنتدى
آلام
مشاري بن محمد الكثيري
ربَّاه إني هَائمٌ مما أرى ... وَخُطَايَ في دَربي أراها تَعثرُ
فَالسَّيفُ يَشرِيه الأصَاغِرُ لُعبَةً ... يَتضَاحَكُونَ وفي المَجَالِس يُنشَرُ
والسَّيفُ أصبَحَ في المتَاجِرِ دُميَةً ... بَعدَ المَلاحِمِ في الرؤوسِ يُسَطِّرُ
ربَّاهُ إني زافِرٌ أتَحسَّرُ ... وَدمُوعُ عَيني للعروقِ تُشَطِّرُ
تيِجَانُنَا حَالَت لِلَونٍ أَسوَدٍ ... وَخُيُولُنَا عَمَّا قَريبٍ تُنحَرُ
لم تبقَ قَادرة عَلى صَولاتها ... فَكماتُها مَاتوا ويَبقى الأخورُ
أطفَالُنَا تُغريهمُ أرسُومَةٌ ... فِي شَاشةِ التلفازِ هَذا المنكرُ
ربَّاهُ أمَّتُنَا تهانُ بِشَعبِها ... عَمداً ويَضحَكُ كَافِرٌ يَتَبختَرُ(149/140)
المنتدى
شاعر الأصالة
سعيد عبد الله الزبيدي
قال له صاحبه يوماً: ما بال شعرك لا يزال يتوشح التراث، وينأى عن
مجاراة العصر وأنت ترى ما يطرقه الكثيرون! فقال مجيباً:
قل لي: إذا ما الحزنُ مدّ رواقه ... أتزور أطيافُ الهوى إنشادي
كلا فليس الشعرُ سلعةَ مفلس ... كلا فليس الشعر بيعَ مزاد
الشعر تبريح الفؤاد وشجوُه ... نبعٌ كريمٌ طاب للورَّاد
تفنى حروف الشعر يفنى وَقْدُها ... ويظل ميراث الهداة عتادي
إني وقفت الشعر في درب الهدى ... وجعلته مرقىً إلى الأمجاد
أسرجت في درب الأصالة خيله ... وسقيتها نبضي وذوْبَ فؤادي
الشعر عندي منبرٌ تشدو به ... لغة الحقيقة كاللظى الوقَّاد
الشعر عندي دعوةٌ ورسالة ... عزمٌ على سمع الزمان ينادي
الشعر درب للأصالةِ مشرق ... سيف صقيل ملّ من إغماد
الشعر يا هذا وربِّك بلسمي ... ألقى به دون الأساةِ ضمادي
في واحةِ الكلمات تسمو همَّتي ... الشعرُ فيها بُلغتي ومرادي
ما بعت يوماً للغثاء مشاعري ... كلا ولا سحرُ الحداثة زادي
أشعلت بالفصحى لهيبَ قصائدي ... وسكبت فيها حرقتي وسهادي
فعسى بيانُ الشعر يذكي عزمنا ... وعساه في تلك المفاوز حادي
يا صاحبي فرس الحقيقة أبلقٌ ... يطوي القفارَ بعزمة ورشاد
سيظل نبع الشعر يروي سَلسلاً ... بمداده الفُصحى أعزَّ مِداد(149/141)
المنتدى
العقيدة
عبد الله بن حسين بن أحمد شقبيل
هِىَ يَا أُخَيَّ عَقِيدَةُ التَّوحِيد قَدْ ... شُغِفَ الفُؤَادُ بِهَا رِضىً ومُثُولا
لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ يا هَذَا فَقُمْ ... في الْحَالِ طَوْعاً وَفِّهَا التَّبْجِيلا
هَذِي العَقِيدَةُ يا أخِي تَاجٌ عَلَى ... هَامِ التُّقَاةِ هُنَا غَدَا مَصْقُولا
هَذِي العَقِيدَةُ مَنْ حَوَاهَا صَادِقاً ... ذَاقَ السَّعَادَةَ بُكْرَةً وأصِيلا
هَذِي العَقِيدَةُ يا أَخِي كَمْ عَالَجَتْ ... قَلْباً سَقِيماً بِالْهَوَى مَعْلُولا
وبِهَا تَفَرَّجَ ضِيقُ صَدْرِ مُخَالِفٍ ... لِلْحَقِّ لَمَّا فَارَقَ التَّضْلِيلا
فَالطَّائعُ الْوَافِي لِدِينِ مُحَمَّدٍ ... لاَ يَرْتَضِي في دِينِهِ التَّبْدِيلا
يَا سَعْدَ مَنْ حَفِظَ العَقِيدَةَ في الْحَشَى ... لَمَّا أَطَاعَ الوَحْيَ والتَّنْزِيلا
سَيَعيشُ في الدُّنْيَا كَريماً مَاجِداً ... ويَنَالُ في الأُخرى رضًا وقَبُولا
مِنْ خَالِقٍ لِلْكَوْنِ جَلَّ جَلاَلُهُ ... فَهُوَ الَّذِي يجْزِي الأَنَامَ جَمِيلا(149/142)
المنتدى
الوقت
غازي المهر
يمرُّ
دونما التفاتةٍ
يمرُّ
مارقاً كسهمْ
وقاطعاً كسيفْ
يمرُّ
شامتاً بنا
نهارنا كليلنا
شتاؤنا كصيفنا
يمرُّ
عابثاً بنا
وساخرا
فإننا لم نحتفلْ
بالصبح والمطرْ
فنحن غارقون
في سباتنا العميقْ
لا نستفيقْ(149/143)
الصفحة الأخيرة
ومن الدعاة أنواع
محمد بن يحيى
تزخر الساحة بفضل الله بالكثير من الدعاة الذين حملوا هَمّ استنقاذ العباد من
الغفلة والدنيا وشهواتها. وهؤلاء بإخلاص كثير منهم واحتسابهم الأجر عند الله
وتحملهم لما يلاقونه من أذى وبلاء أثمرت جهودهم هذه الوفود المتزايدة في التوجه
إلى الله تعالى والتمسك بشرعه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
وثمة مشكلة تواجهها الدعوة جديرة بأن يتأمل فيها كلُّ من حمل همَّ الدعوة إلى
الله تتلخص في وجود أصناف من الدعاة ليسوا على المستوى المطلوب لممارسة
الدعوة كفنٍّ يحتاج إلى التحلي بصفات خاصة والتصرف وفق أولويات واضحة.
وقبل أن أذكر بعض هؤلاء الأصناف أشير إلى شيء من أهمية الموضوع
على النحو الآتي:
1- كون هؤلاء الأشخاص يمثلون الدين في نظر الناس، والقصور منهم
سوف ينسب إلى الدين بسبب الجهل والمكر وترصد أصحاب النفوس المريضة.
2- أن الداعية من هؤلاء محسوب على الدعاة؛ والخطأ منه يعمم على
الجميع وهذه أخص من السابقة.
3- أن الداعية في كثير من الأحيان يكون فاتحة خير للمدعو وبداية ارتباط
بشرع الله، وبسبب شيء مما سنشير إليه قد يكون سبباً لنفرة المدعو وصدوده عن
أهل الخير.
وسوف أشير إلى بعض الأصناف التي ميَّزتها على أساس صفات مشتركة قد
تتوفر كلها وقد يتخلف بعضها، والمقصود أن ينظر الداعية في نفسه ويقوّم سلوكه
الدعوي، وأن يثار هذا الموضوع للنقاش وزيادة التأصيل من أهل العلم
والاختصاص والخبرة.
النوع الأول: يغلب على هذا النوع الرهبة عند البدء في موقف أو معاملة
دعوية بسبب الخوف من أن يقابل بالإساءة إليه. وغالباً فإن عدم فلاح هذا النوع
مع المدعو في المحاولة الأولى يجعل صاحبه يتردد كثيراً قبل إعادة المحاولة.
وكثيراً ما يستعجل أصحاب هذا النوع إنهاء المواقف الدعوية وعدم ربطها بتوابع
أخرى بمجرد ترديد المدعو لبعض العبارات الدارجة مثل: (الله يهدينا) .
وهذا الصنف وإن لم يكن على المستوى المطلوب ليقوم بالتأثير والجذب إلا
أن أفراده يبدون غالباً مرشحين بشكل كبير للنجاح الدعوي، ويحتاجون بعد توفيق
الله إلى تعلم المهارات المناسبة والأساليب الجيدة مع الممارسة المستمرة، كما أنه
ينبغي أن يعملوا على كسر حاجز الرهبة بتذكُّر فضل ما يعملون، والاستعاذة بالله
من الشيطان وكيده، وإقناع أنفسهم بالنجاح بدلاً من توقع الإخفاق.
النوع الثاني: (رهينة الصدود) وهذا النوع يملك في العادة خلفية دعوية جيدة؛ ولكنه يأخذ صدود المدعو بشكل شخصي يسيء إليه ذاتياً. وهذا ما يجعله يبحث
عن أي عذر يعفيه من الممارسة الدعوية المباشرة، وقد يصرف الوقت في أشياء
ليست من صميم الدعوة كأحاديث جانبية لا ينفذ منها إلى الهدف الدعوي، كما يُكثِر
الشكاوي، ويتأثر عطاؤه الدعوي لفترة طويلة بسبب إخفاقه في محاولة دعوية مع
شخص مَّا.
هذا النوع ينبغي أن يُوَجَّه إلى أهمية الفصل بين شخصه ودعوته، ويربى
على أن لا يدعو إلى نفسه وأنه ليس من لوازم الدعوة أن يرى آثار نجاح دعوته،
هذا إذا كان مفتقراً إلى هذه المفاهيم ونحوها.
أما إن كان الأمر فيه أصلياً وحدود شخصيته لا تسمح بتجاوز هذه العقبة فلعله
من المناسب أن يُوَجَّه إلى الدعوة في الأماكن التي يقل فيها جانب الصدود وتضعف
احتمالاته، كما هو الحال فيمن لهم بالمحاضن الخيرية روابط محدودة وما زالوا
بعيدين عن مظاهر الاستقامة.
النوع الثالث: (الداعية العدواني) الذي يفعل أي شيء يعتقد أنه يتمم الواجب
الدعوي، ولا يهمه بعد ذلك أو قبله الأسلوب؛ يتحرك أكثر من اللازم، ويرفع
صوته، يقول أي شيء حتى لو لم يكن متعلقاً بهذا المدعو أو ذلك الحدث، يستخدم
كثيراً أسلوب الضغط والإلحاح ودفع المدعو للاستجابة، وقد لا يهتم بتخفيف ما قد
يعتري المدعو من حدة، ولا يصرف الوقت معه لتكوين علاقة وئام ومودة.
وهؤلاء وإن بدت أوصافهم في الكتابة منفرة بغيضة إلا أنهم حقيقة واقعة لا بد
من مناصحة أصحابها، خاصة أولئك الذين يكون من طبيعة شخصياتهم (أو
مناطقهم) الحدة والصوت الجَهْوَرِي وسرعة الغضب ونحو ذلك. والأثر السلبي
لهؤلاء واضح جلي وكبير على الدعوة خاصة عندما يكون استمرار العلاقات على
المدى البعيد مطلوباً؛ لذلك عليهم مراجعة أنفسهم دائماً، ومصاحبة من ينبههم
ويذكِّرهم ويسدِّدهم قدر الإمكان.
وأخيراً أشير إلى أن مثل هذا الموضوع قد يعطي ثماره بشكل أكبر عند
وضعه على مائدة النقاش ودعمه بالأمثلة والنماذج الحية. والله الموفق والهادي إلى
سواء السبيل.(149/145)
صفر - 1421هـ
مايو - 2000م
(السنة: 15)(150/)
كلمة صغيرة
أبو رقيبة.. نهاية وعبرة
ككل الطغاة عاش أبو رقيبة حياته حاكمأ مستبدأ ظالما، وكان مشروعه
العلماني القاضي بالسير وراء الغرب وتقليده تقليداً أعمى المسوِّغ لدعم الغرب له
وتشجيعه على خطواته التغريبية في إفساد المجتمع التونسي وتضليله؛ ومع ذلك
عاشت تونس دولة فقيرة عالة على الإعانات الأجنبية. صنع إعلامه منه بطلا سمي
زورا بـ (المجاهد الأكبر) حتى بعد ما غدر برفاق الجهاد وأذل العلماء وهمشهم،
وشتم رموز التاريخ التونسي ومن أشهرهم الشيخ (عبد العزيز الثعالبي) ، وألغى
دور جامع الزيتونة باعتباره من أكبر الجامعات الإسلامية العريقة، وأبطل حلقات
العلم فيه، وبطش بالحركة الإسلامية بالقتل والسجن والتشريد ولكن الله يمهل للظالم
حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فقد جاء إذلاله على يد أحد تلاميذه بعد أن طفح الكيل
بقراراته العشوائية وأفكاره المتناقضة وإقالته للحكومات المتوالية بشكل مثير
للسخرية؛ حيث أعد تقرير من عدد من أطباء البلاط بأن الرجل أصبح عاجزا عن
الحكم فنحي، وعاش سنواته الأخيرة في سجن إجباري يعافي الهوان الذي طالما
مارسه في حق التونسيين بدون وجه حق، ومن رآه في آخر أيامه علم مدى الذلة
التي صاحبته وهو في أرذل العمر، وكيف أن أمثال هذا الرجل ممن يحاولون إذلال
شعوبهم وظلمها والبطش بها يعاقبون بالعقوبات نفسها، وفي هذا عبرة، وأي عبرة
لمن يعتبر!
ومما يؤسف له أن تونس ما زالت تسير على الخط العلماني نفسه، وما زال
الإسلاميون يعانون الظلم والتهميش بدعاوى معروفة سلفا. فهل يا ترى يعود لتونس
وجهها الإسلامي المشرق، ويتاح لأبنائها نيل حقوقهم المدنية التي كفلها دستور
الدولة أسوة بغيرهم من الأحزاب العلمانية في الساحة، أم على قلوب أقفالها؟ !
نسأل الله لتونس ولشعبها كل ما يحقق لها عزتها ونهتضها وازدهارها.(150/1)
الافتتاحية
تهويد العقل العربي
سيطرةُ اليهود على الغرب من خلال السيطرة على وسائل الإعلام مكنهم من
السيطرة على العقل الغربي، فأصبح الجميع يحرص على موادَّة اليهود والتقرب
إليهم والركوع تحت أعتابهم، فإذا كان الرئيس الأمريكي يجعل دعم (دولة إسرائيل)
أحد أبرز معالم برنامجه الانتخابي ليضمن النجاح، فغيره من باب أوْلى.
ولكن! هل استطاع اليهود تهويد العقل العربي كما استطاعوا تهويد العقل
الغربي..؟ !
وهل استطاع اليهود أن يخترقوا الوسط الإعلامي والفكري العربي كما فعلوا
ذلك في الغرب..؟ !
كان دعاة التطبيع قلَّة محدودة منبوذة، متهمين بالتبعية والعمالة، ويعانون من
حصار كبير، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أصبحت هذه الظاهرة تتصاعد
لتصبح جزءاً رئيساً من النسيج الإعلامي العربي. فبعد الزوبعة التي أثارها
الصحفي المصري (علي سالم) الذي زار (إسرائيل) بقصة سامجة مفتعلة، وبعد
تأسيس (منتدى كوبنهاجن) وعلى رأسه (لطفي الخولي) الذي يدعو إلى تطبيع ثقافي
شامل مع العدو؛ أصبح دعاة التطبيع يغزون الحظيرة الإعلامية والفكرية، وتعلو
أصواتهم النشاز فوق كثير من الأصوات.
لقد استطاع اليهود النفاذ إلى قلب بعض المؤسسات الإعلامية والفكرية العربية
واختراقها، وتغيير خطابها السياسي والفكري، وأصبح كبار الإعلاميين قبل
صغارهم يلوذون بالدعوة إلى التطبيع، من أجل البقاء والبروز نحو الأضواء،
والترقي في درجات السلم الإعلامي. وراح هؤلاء (التقدميون!) بالتفكير والتحدث
بالنيابة عن اليهود والدفاع عن حقوقهم المشروعة (!) ونصَّب هؤلاء القوم أنفسهم
حُماةً عن الحق اليهودي المزعوم، ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّ منهم من تصهين ربما
أكثر من بعض الصهاينة! وبعد أن كانوا يرفعون الشعارات الثورية، ويطبلون
باسم القومية والوطنية، لبسوا لهذه المرحلة لباساً أنيقاً ناعماً يتلاءم مع رشاقة
الكلمات التي تقتضيها ثقافة التطبيع.
نعم! بدأ كثير من المثقفين والمفكرين العرب يبحث عن دور مرموق في
الخريطة السياسية، ولا يجد طريقاً أسرع ولا أثمن ولا أكثر نجمومية وإثارة من
طريق التطبيع..! !
إنَّ الساحة الثقافية العربية تعاني من حالة اهتزاز عنيفة أدت إلى لهاث محموم
وراء سراب التطبيع، وسعت سعياً حثيثاً إلى تزييف وعي الشعوب العربية،
وتشويه رؤيتها، ونستطيع أن نجمل أبرز جوانب التزييف بما يلي:
أولاً: فرض سياسة التطبيع، والترويج لثقافة السلام، وعرضها بألوان براقة
خادعة، ومحاولة تلميع التجربة المصرية في السلام، والتعتيم المتعمد لكل المساوئ
والمخازي التي أثبتتها السنون والأيام. وتبع ذلك حصار إعلامي محكم لكل الأقلام
التي تخالف هذا التوجه، والسعي لتهميشها وعزلها، ومنع نشر كل ما يسيء لـ
(إسرائيل) أو إذاعته. وأصبح معارضو التطبيع في حس هؤلاء: من الخارجين
عن الصف العربي، ومن المتحجرين الجامدين على الماضي الذين وقفوا على
أطلاله، ولم يستطيعوا استيعاب المتغيرات الهائلة والمتسارعة التي تحدث في
العالم. وبعبارة أخرى: سعى هؤلاء الإعلاميون الذين يتشدقون بالديمقراطية
والحرية إلى احتكار الصوت الإعلامي، والتطبيل به كما يشاؤون..!
ثانياً: الدعوة إلى مسح الذاكرة العربية، وإهالة التراب على تاريخ دموي
طويل حافل بالوحشية والتسلط والطغيان. فالحروب العربية (الإسرائيلية) ، ومذبحة
دير ياسين وغيرها من المذابح، أحاديث عفا عليها الزمن قام بها مجموعة من
المتطرفين اليهود الذين لفظتهم الأيام، ولم يبق إلا صوت الحمائم الوديعة التي تؤمن
بالإخاء والتعايش السلمي الذي تمليه المصالح المشتركة. ولذا يجب أن نمد أيدينا
إليهم لنقطع الطريق على الأقلية المتطرفة الذين يعدهم حمائم (إسرائيل) خطرا
على الصهيونية قبل أن يكونوا خطراً على العرب ... !
وتأكيداً للكرم العربي المعهود يجب على منظمة التحرير الفلسطينية،
والمجلس الوطني الفلسطيني، أن يغيروا بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر
حق (إسرائيل) في الوجود على الأرض الفلسطينية، أو البنود التي تدعو إلى الكفاح
المسلح لانتزاع الحق الفلسطيني.. ونحوها من البنود التاريخية، فقد مضى زمن
الفدائيين، وصدئت أسلحتهم، فنحن في عصر سلام الشجعان!
ثالثاً: طمس معالم الصراع العسكري مع (إسرائيل) ، والتهوين من شأن
الترسانة النووية الهائلة التي يملكها اليهود، والتغاضي عن كافة الأسلحة الجرثومية
والكيميائية الفتاكة المحرمة في زعمهم! دولياً؛ والترويج لاستبعاد إمكانية قيام أي
حرب قادمة مع (إسرائيل) ما دمنا نتقدم في خطوات جادة نحو السلام المزعوم.
وربما دعا بعض (الأذكياء!) إلى أن الموازنات المالية الهائلة التي تصرف
في الاستعداد للحرب يمكن أن تستثمر في التنمية الاجتماعية والحضارية للبلاد
العربية، وكأن العائق الوحيد أو الرئيس للتنمية في زعمهم هو الاستعداد للحرب
مع (إسرائيل) ، هذا إذا سلمنا جدلاً أن هناك استعداداً للحرب أصلاً في ظل الأحزاب العروبية الثورية..! !
رابعاً: الدعوة إلى فتح الأسواق العربية لـ (إسرائيل) ، وجعلها شريكا
استراتيجياً لتنمية الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط. وقد رأينا كيف أنَّ بعض
المفكرين العرب راح يمجد دعوة (شمعون بيريز) لإقامة سوق شرق أوسطية
مشتركة يتبادل فيها العرب و (إسرائيل) المنافع الاقتصادية! ثم رأينا أن ما يسمى
بالمقاطعة الاقتصادية لـ (إسرائيل) أو الشركات التي تتعامل مع (إسرائيل)
تتهاوى تدريجياً على أعتاب الجامعة العربية فضلاً عن غيرها..! !
خامساً: الاستجابة للدعوات اليهودية المطالبة بتغيير كل ما يتعلق باليهود من
المناهج التعليمية، واستبدالها بنصوص أخرى تدعو إلى إحياء السلام والتعاون.
فتاريخ صلاح الدين الأيوبي، ومعركة حطين، والحروب الصليبية، بل حتى
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن اليهود؛ كل ذلك لا يتلاءم مع
روح الانفتاح والوئام، ويجب علينا أن نبادر إلى تغييرها وإزالتها من العقلية
العربية، ونحيي ثقافة السلام والتبادل الثقافي والحضاري. وإذا كان لا بد من
دراسة التاريخ فلْيُدرسْ من خلال التاريخ الفرعوني. وحضارات ما قبل الإسلام في
نظر هؤلاء هي الأنموذج الأمثل الذي يمكن أن يربى عليها الشعب العربي..! !
وأخيراً: إذا كان لا بد من فرض سياسة التطبيع فلا بد من تقديم القربان الذي
يرضي (أبناء العمومة) ، وهو كبت كل الأصوات المعارضة، وعلى رأسها
(أصوات الأصوليين المتطرفين!) ، وإذا استدعى الأمر أيضاً فلا مانع من توقيع
اتفاقيات أمنية مع اليهود يفرض بموجبها مثلاً دور رئيس للسلطة الفلسطينية في
تكبيل أيدي (أبطال) الحجارة، ووأد الحمية الإسلامية في نفوسهم. ولا مانع من أن
تعمل السلطة الفلسطينية (المناضلة!) شرطياً متفانياً يعمل تحت مظلة وزارة
الداخلية الإسرائيلية، وترفع عصا البطش والاعتقال وتكميم الأفواه. ومن خرج من
المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بناء على اتفاقات معاهدات السلام،
دخل أضعافه في معتقلات أخرى تابعة للسلطة الفلسطينية، ولكنه هذه المرة بمسمى
آخر لا نكير فيه أمام العالم المتحضر، ويحقق شتى الطموحات والتطلعات ...
اليهودية..!
ولكن هل سينجح دعاة السلام في ذلك..؟ !
ونقولها بكل ثقة: هيهات.. هيهات.. فما دام الناس يقرؤون آل عمران
والأنفال والتوبة، فإن فلسطين ستظل في قلوبهم بإذن الله تعالى، بعزّ عزيز أو بذل
ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. ...
[واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون] [يوسف: 21] .(150/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التشاؤم والطيرة
محمد بن عبد العزيز الخضيري
التعريف: التَطَيُّر في اللغة: التشاؤم، وهو توقع حصول الشر.
وسُمّيَ التشاؤم تطيراً؛ لأن العرب كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لأمر
قصد عش طائر فيهيجه، فإذا طار الطير من جهة اليمين تيمن به ومضى في
الأمر، ويسمون هذا الطائر في هذه الحالة: (السانح) . أما إذا طار جهة يسار الإنسان تشاءم به، ورجع عما عزم عليه، وكانوا يسمون الطير في هذه الحالة: (البارح) .
فجاء الإسلام فأبطل هذا الأمر ونهى عنه، وشدد في النكير على فاعله، ورد
الأمور إلى سنن الله الثابتة وإلى قدرته المطلقة.
وضد التطيّر: التفاؤل: وهو التَّيَمُّن بسماع كلمة طيبة، ويشمل كل قول أو
فعل يُستَبْشَر به، والفرق بين التطير والتفاؤل أن الفأل يستعمل فيما يُستَحب،
والتطير فيما يُكرَه غالباً.
ومثال التفاؤل: أن يسمع عند عزمه على فعل أمر كلمة طيبة أو اسماً حسناً
أو يرى شيئاً طيباً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يتفاءل ولا يتطير) [1] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يحب أن يسمع: (يا
راشد يا نجيح) [2] .
تاريخ التطيُّر وأمثلته:
كان التطير موجوداً عند العرب على الصفة المذكورة آنفاً وصفات أخرى
تقاربها. قال البيهقي: (كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند
إرادة الخروج للحاجة، وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء،
فسموا الكل تطيراً؛ لأن أصله الأول، قال: وكان التشاؤم في العجم إذا رأى
الصبي ذاهباً إلى المعلم تشاءم، أو راجعاً تيمن، وكذا إذا رأى الجمل مُوقَراً حِملاً
تشاءم، فإن رآه واضعاً حِمْلَهُ تيمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك
كله) [3] .
والتطير قديم الوجود في الأمم؛ فقد أخبرنا الله سبحانه أن فرعون وقومه
تطيروا بموسى عليه السلام ومن معه: [فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن
تصبهم سيئة يطيروا بموسى من معه] [الأعراف: 131] . وقبل ذلك تشاءم قوم
صالح بصالح عليه السلام [قالوا اطيرنا بك بمن معك] [النمل: 47] . وكذلك
أصحاب القرية تطيروا برسل الله إليهم ف [قالوا إنا تطيرنا بكم] [يس: 18] .
وكان الرد عليهم جميعاً: أن ما حل بهم من شر أو نقص في نفس أو مال،
أو ما نزل بهم من عقوبة ما هو إلا من قِبَل أنفسهم بسبب كفرهم وعنادهم
واستكبارهم، [ألا إنما طائرهم عند الله] [الأعراف: 131] وقال الرسل الثلاثة
لأهل القرية: [طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون] [يس: 19] .
وما زال الناس وإلى يومنا هذا يتطيرون، وتطيُّرهم دليل ضعف توكُّلهم على
ربهم، ونقص عقولهم وإلا؛ فأي شأن للطير أو غيره بمستقبل الإنسان وقدره؟ !
وللناس في التشاؤم أيام معينة أو ساعات محددة أو أعداد معينة مما لا ينقضي
منه العجب.
فالرافضة (يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة حتى
البناء لا يبنون على عشرة أعمدة، ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك؛ لكونهم يبغضون
خيار الصحابة، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة) [4] .
وكثير من الناس في الغرب يتشاءمون بالرقم 13، ولذا حذفته بعض شركات
الطيران من ترقيم المقاعد كما حذفوه في ترقيم المصاعد والأدوار في العمائر
الكبار. وآخرون يتشاءمون بنعيق البوم والغراب، ورؤية الأعور والأعرج والعليل والمعتوه.
قال الشيخ ابن عثيمين [5] : (والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم فإنها
تضيق عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا
أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم
يوم سوء وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتَرِ والعياذ بالله وكان بعضهم يتشاءم بيوم
الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما
في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم بأنه صلى الله عليه
وسلم عقد عليها في شوال؛ وبنى بها في شوال فكانت تقول: أيُّكن كانت أحظى
عنده مني؟) [6] .
حكم التطير:
التطير محرم مخل بالتوحيد قد نفى النبي صلى الله عليه وسلم تأثيره، وجعله
شركاً، وأخبر أنه لا يرد المسلم، وأنها من الجبت. أما نفي تأثيره ففي قوله صلى
الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) [7] حيث نفى تأثير
الطيرة. وأما جعله عليه الصلاة والسلام الطيرة شركاً ففي قوله: (الطيرة شرك،
الطيرة شرك، الطيرة شرك) [8] . وقوله في حديث عبد الله بن عمرو: (من
ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) [9] وإنما جعل التطير شركاً لاعتقادهم أن ذلك
يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً؛ فكأنهم أشركوه مع الله تعالى وهذا الاعتقاد منافٍ لقوله
تعالى: [وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد
لفضله] [يونس: 107] فالله هو النافع الضار، وهذه الطيور لا تعلم الغيب، ولا
تدل على المخبَّأ من الأمور بوجه.
قال ابن القيم: (التطير: هو التشاؤم بمرئيٍ أو مسموع، فإذا استعملها
الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك، بل
ولجه، وبرئ من التوكل على الله سبحانه وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق
بغير الله، والتطير مما يراه أو يسمعه، وذلك قاطع على مقام [إياك نعبد وإياك
نستعينٍ] [الفاتحة: 5] ، قوله تعالى: [فاعبده وتوكل عليه] [هود: 123] ،
قوله تعالى: [عليه توكلت إليه أنيب] [الشورى: 10] فيصير قلبه متعلقاً بغير
الله عبادة وتوكلاً، فيفسد عليه قلبه وإيمانه وحاله، ويبقى هدفاً لسهام الطيرة،
ويساق إليه من كل أرب، ويقيض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه، وكم هلك
بسبب ذلك وخسر الدنيا والآخرة!
قال الشيخ ابن عثيمين: (فإذا تطير الإنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد
مشركاً شركاً يخرجه من الملة؛ لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب
الذي لم يجعله الله سبباً، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك
يعتبر شركاً من هذه الناحية والقاعدة: (أن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله
الشرع سبباً فإنه مشرك) وهذا نوع من الإشراك مع الله: إما في التشريع إن كان
هذا السبب شرعياً، وإما في التقدير إن كان السبب كونياً. لكن لو اعتقد هذا
المتشائم المتطير أن هذا فاعلٌ بنفسه دون الله فهو مشرك شركاً أكبر؛ لأنه جعل لله
شريكاً في الخلق والإيجاد) [10] .
4 - وأما إخباره بأن الطيرة تنافي حقيقة الإسلام ويخشى على صاحبها فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تُطُيِّرَ له، أو تكهن أو
تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل
على محمد صلى الله عليه وسلم) [11] .
وروى أبو داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكِرَتِ الطيرةُ عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً) [12] .
5 - وأما إخباره أنها من الجبت ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (العيافة
والطيرة والطرق من الجبت) [13] . والجِبت: السحر كما فسره به عمر بن
الخطاب.
وذلك أن المتطير يعتمد في معرفة المغيبات على أمر خفي كالساحر الذي
يعتمد في قلب حقائق الأشياء على أمر خفي.
أقسام الناس في الطيرة:
ينقسم الناس تجاه الطيرة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يتطير، ويستجيب لداعي التطير فيحجم عن أمر أو يقدم
عليه بدافع من طيرته؛ فهذا قد واقع المحرم وولج باب الشرك على التفصيل
المذكور سابقاً.
القسم الثاني: من إذا وقع له ما يدعو إلى الطيرة عند الناس لم يترك ما بدا له
فعله لكنه يمضي في قلق واضطراب وغم، يخشى من تأثير الطيرة فهذا أهون من
الأول؛ حيث لم يُجِبْ داعي الطيرة، لكن بقي فيه شيء من أثرها، وعليه أن
يمضي متوكلاً على الله سبحانه مفوضاً أموره إليه.
القسم الثالث: وهم أعلى الأقسام وهم من لا يتطيرون، ولا يستجيبون لداعي
الطيرة، ولا يعني ذلك أنه لا يخطر في قلوبهم شيء أصلاً، ولكن متى عرض
لقلوبهم شيء ردوه بالتوكل على الله وتفويض الأمور إليه، قال معاوية بن الحكم:
قلت يا رسول الله! منا رجال يتطيرون! قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا
يصدنهم) [14] .
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك،
الطيرة شرك، وما منا إلاَّ، ولكن الله يُذْهِبُه بالتوكل) [15] . فقوله: (وما منا
إلا) أي ما منا إنسان يسلم من التطير لكن الله يذهبه بالتوكل، وهذه الجملة في الحديث مُدْرَجة من كلام ابن مسعود كما ذكر العلماء.
علاج الطيرة وكفارتها:
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يلتفت المسلم إلى الطيرة فترده
عن حاجته وعليه أن يمضي متوكلاً على الله مردداً الذكر الوارد في ذلك؛ فعن عبد
الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ردته الطيرة عن
حاجته فقد أشرك. قالوا فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك،
ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك) [16] .
وفي حديث عقبة السابق قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم
لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا
بك) [17] .
الشؤم في ثلاثة:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا عدوى ولا طيرة، وإنما
الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار، (وفي رواية: (إن كان الشؤم
ففي الدار، والمرأة، والفرس) [18] .
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره،
وأن الدار قد يجعل الله سكناها سبباً للضرر والهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو
الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه: قد يحصل
الشؤم في هذه الثلاثة. وقال الخطابي وكثيرون: هو في معنى الاستثناء من
الطيرة؛ أي: الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يسكنها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس، أو خادم؛ فليفارق الجميع) .
وقال ابن القيم: (إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه
إثبات الطيرة، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعياناً مشؤومة على من قاربها
وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم وشر؛ وهذا كما يعطي الله
الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولداً مشؤوماً يريان
الشر على وجهه، وكذلك ما حصله العبد من ولاية وغيرها؛ فكذلك الدار والمرأة
والفرس، والله سبحانه خلق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه
الأعيان سعوداً مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها، وحصول اليُمن والبركة له،
ويخلق بعضها نحوساً بها من قاربها؛ وكل ذلك بقضاء الله وقدره؛ كما خلق
الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، والفرق بين هذين النوعين مدرَك
بالحس؛ فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون والطيرة لون) [19] .
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعاء ينتفع به المسلم في دفع الضر
عند الزواج بالمرأة أو شراء الخادم والدابة؛ فعن عبد الله بن عمرو قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادماً فليقل:
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها
عليه. وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه، وليقل مثل ذلك) [20] .
الفأل:
بيَّنَّا معنى الفأل والفرق بينه وبين الطيرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يتفاءَل ولا يتطير. روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى
ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة) [21] ، وفي
رواية لمسلم: (الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة) [22] ، قال الشيخ ابن عثيمين:
(فالكلمة الطيبة تعجبه صلى الله عليه وسلم لِمَا فيها من إدخال السرور على النفس
والانبساط، والمضي قُدُماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة بل هذا
مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً) [23] .
قال ابن الأثير: (الفأل فيما يرجى وقوعه من الخير ويحسن ظاهره ويسر،
والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحب النبي صلى الله عليه وسلم الفأل؛ لأن
الناس إذا أملوا فائدة من الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على
خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي
الرجاء لهم خير معجل، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك
من الشر، فأما الطيرة فإن فيها سوء ظن وقطع الرجاء وتوقع البلاء وقنوط النفس
من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء منهي عنه من جهة الشرع) [24] ، وفي قول
النبي صلى الله عليه وسلم لما ذُكِرَتْ عنده الطيرة قال: أحسنها الفأل. قال الشيخ
ابن عثيمين: (الفأل ليس من الطيرة، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه
يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما يوجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا
فبينهما فرق؛ لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطيَّر به وضعف توكله على الله
ورجوعه عما همَّ به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطاً، فالشبه
بينهما هو التأثير في كل منهما) [25] .
تنبيهات:
1- (بعض الناس إذا انتهى من شيء في شهر صفر أرّخ ذلك وقال: انتهى
في صفر الخير، فهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل فهو ليس شهر
خير ولا شهر شر، أما شهر رمضان وقولنا إنه شهر خير فالمراد بالخير العبادة،
وقولهم: رجب المعظم؛ بناءاً على أنه من الأشهر الحرم؛ ولهذا أنكر السلف على
من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي
تنعق كبقية الطيور) [26] .
2 - (بعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار
تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب؛ فهذا مثل عمل أهل الجاهلية
الذين يستقسمون بالأزلام ولم ينقل عن السلف فيه شيء) [27] .
3 - (بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه
وتركه، وهذا خطأ، فكل شيء ترى فيه المصلحة فلا تتقاعس عنه في أول
محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك) [28] .
4 - ذهب بعض العلماء إلى كراهة تسمية المولود بما يتطير بنفيه أو إثباته
لحديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُسَمِّ غلامك يساراً ولا
رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح؛ فإنك تقول: أَثَمَّ هو؟ فلا يكون فتقول: لا) [29] ، إلا
أنه ليس بمحرم لحديث عمر: إن الآذن على مشربة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبد يقال له: (رباح) [30] .
ينظر في موضوع الطيرة:
1 - كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشروحه.
2 - القول المفيد، للشيخ ابن عثيمين.
3 - الموسوعة الفقهية الكويتية، 5/328، وما بعدها، و12/182
وما بعدها.
4 - عالم السحر والشعوذة، للأشقر.
__________
(1) رواه أحمد وصححه أحمد شاكر.
(2) رواه الترمذي وصححه (1616) .
(3) فتح الباري، 10/213.
(4) منهاج السنة لا بن تيمية، 1/10.
(5) المجموع المفيد، 2/32.
(6) رواه مسلم، 2/1039.
(7) رواه البخاري، ح/ 5278.
(8) رواه أبو داود، ح/ 3411.
(9) رواه أحمد، ح/ 6748.
(10) القول المفيد على كتاب التوحيد، 2/ 93.
(11) رواه البزار قال المنذري: إسناده جيد (الترغيب 4/33) .
(12) رواه أبو داود، ح/ 3418.
(13) رواه أحمد، 3/477، وأبو داود، 4/228.
(14) رواه مسلم، 4/1748.
(15) رواه الترمذي، ح/ 1539.
(16) رواه أحمد، 2/220، وابن السني (293) ، والطبراني كما في المجمع، 5/105.
(17) رواه أبو داود، 4/235، وسكت عنه، وصححه النووي والشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.
(18) رواه البخاري، ومسلم، قاله النووي، (شرح مسلم، 14/221) .
(19) مفتاح دار السعادة لابن القيم، ص 257، بتصرف.
(20) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه النووي في الأذكار.
(21) رواه البخاري، ح/ 5331.
(22) رواه مسلم، ح/ 4122.
(23) القول المفيد، لابن عثيمين، 2/88.
(24) ابن الأثير، جامع الأصول، 7/631.
(25) ابن عثيمين، 2/89.
(26) القول المفيد، 2/85.
(27) مختصر الفتاوى المصرية، ص 266، والقول المفيد، 2/86.
(28) القول المفيد، 2/32.
(29) رواه مسلم، ح/ 3985.
(30) رواه البخاري، 9/278، ومسلم، 2/1105.(150/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أحاديث الدجال
مسائل وفوائد
محمد بن عدنان السمَّان
ظهور الدجال أحد أشراط الساعة الكبرى، وأعظم الفتن منذ خلق الله آدم عليه
السلام إلى قيام الساعة.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه في أكثر من ثلاثين موضعاً؛ مبيناً
خطره تارة، ومحذراً منه حيناً، وذاكراً طرق السلامة منه تارة أخرى. ولما
تعددت وتنوعت الأساليب في مواجهة هذه الفتنة العظيمة وصلنا إلى مسائل وفوائد
مستفادة من فعل وقول الهادي البشير صلى الله عليه وسلم.
وقبل الشروع في ذكرها لعلنا نقدم بما يلي:
الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن الكريم:
ولعل أحسن ما قيل في ذلك ما ساقه الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في
فتح الباري [1] حيث قال: (وأجيب بأجوبة:
أحدها: أنه ذُكر في قوله: [يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا
إيمانها] [الأنعام: 158] ، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: (ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها) .
الثاني: قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى عليه السلام في قوله
تعالى: [وإن من أهل بكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته] [النساء: 159] ، وفي
قوله تعالى: [وإنه لعلم للساعة] [الزخرف: 61] ، وصح عنه أنه الذي يقتل
الدجال، فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب: (المسيح) كعيسى
عليه السلام؛ لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى عليه السلام مسيح الهدى.
الثالث: أنه ترك ذكره احتقاراً، وتُعُقِّب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة
بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله، وتعقب بأن السؤال باق وهو: ما الحكمة في
ترك النص عليه؟
وأجابنا الإمام البلقيني بأنه نظر في كل مَنْ ذُكِرَ في القرآن من المفسدين
فوجدهم ممن مضى وانقضى أمره، وأما من لم يجئ بعدُ فلم يذكر منهم أحد.
انتهى. وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج. ووقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في قوله تعالى: [لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس] [غافر: 57] ، وأن المراد بالناس هنا الدجال من باب إطلاق الكل على البعض وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة؛ فيكون من جملة ما تكفل النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه. والعلم عند الله) .
فوائد في التعامل مع الفتن:
1 - التزود بالطاعات والإكثار من الأعمال الصالحة حصن حصين من الفتن وزاد قوي في التصدي لها عند حلولها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ...
(بادروا بالأعمال ستاً [2] : طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو
الدابة، أو خاصة أحدكم [3] ، أو أمر العامة [4] ) [5] .
فأوصى صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في الأعمال الصالحة؛ بل والمسابقة
إليها قبل حلول وقت الفتن.
وذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح [6] ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة عن
أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه أنه (يخرج يعني الدجال في نقص من الدنيا
وخفة من الدين وسوء ذات البين فيرد كل منهل، وتطوى له الأرض) .
فانظر رعاك الله إلى ضعف الدين وقلته في وقت خروجه.
2 - الحث على الائتلاف بين المسلمين وترك الخلاف والنزاع والفرقة، وأن الفتنة أعظم في وقت الخلاف منها في وقت الائتلاف:
ويشهد لهذه الفائدة الحديث السابق الذي رواه الحاكم، وحديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال: أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق
المصدوق: (إن الأعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قِبَلِ المشرق في زمان
اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض أربعين
يوماً..) [7] .
3 - الحذر والتحذير من الفتن قبل وقوعها:
وهذا ظاهر في كل الأحاديث التي تحدثت عن الدجال، بل إن الأنبياء كل
الأنبياء حذروا أممهم منه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛
حيث قال: (ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب ... ) [8] [9] .
4 - عدم الانخداع بالمظاهر خصوصاً وقت الفتن، بل وتحذير الناس من ذلك:
ونلحظ ذلك في المظاهر الخادعة التي تصاحب الدجال، ومن ذلك: أن معه
جنة وناراً، وأنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت [10] ،
لكن كل هذا بإذن الله تعالى، ولو تمعن المتمعن لما انخدع. قال ابن العربي [11]
رحمه الله: (في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النقص بيان أنه لا يدفع
النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه) ، إذن لا يستطيع أن يدفع
الضرر عن نفسه، فكيف يدفعه عن غيره؟ !
5 - ضرورة الابتعاد عن مواضع الشبهات والفتن، وألا يعتقد المرء أنه على قدرة في مواجهة الشبهات والفتن، وخصوصاً مع قلة العلم والدين: عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (من سمع بالدجال فَلْينأَ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن
فيتبعه مما يبعث من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات) [12] [13] .
6 - لا يكفي تحذير الناس من الفتن؛ بل الواجب توضيح السبل للخلاص منها: وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من السبل للخلاص من الدجال؛ ومنها:
أ - قراءة فواتح سورة الكهف: قال صلى الله عليه وسلم: ( ... فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) [14] .
ب - قال صلى الله عليه وسلم: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه؛ فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين عليه ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه: (كافر) يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب) [15] .
ج - التعوذ منه: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) [16] .
7 - الفتنة ليست شراً محضاً:
نقل الإمام النووي رحمه الله عن العلماء أنهم قالوا: (هذا من جملة فتنته التي
امتحن الله تعالى به عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه ويظهر للناس
عجزه) [17] .
8 - الحق لا بد أن ينتصر وتُنهى الفتن ويظهر الحق:
وهذه أعظم فتنة تمر على البشرية ثم تنتهي، وينزل عيسى عليه السلام ليهلك
الدجال، كما ثبت في صحيح مسلم: (.... يخرج الدجال في أمتي فيمكث ...
أربعين ... فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه
فيهلكه..) [18] .
9 - أهمية العلم الشرعي في مواجهة الفتن:
فالمؤمن الذي يكشف زيف الدجال وكذبه مسلم متمسك بالعلم الشرعي المبني
على الدليل الشرعي؛ لذا تجده يخاطب الدجال بلهجة الواثق كما في صحيح
البخاري: ( ... فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثه ... ) [19] .
فهو نَسَبَ عِلْمَهُ بالدجال لعلمه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من
أعظم العلم الشرعي.
10 - ويتبع القاعدة الماضية سؤال أهل العلم عما أشكل وخصوصاً وقت الفتن:
ومن ذلك ما تكرر من أسئلة الصحابة رضوان الله عليهم عن هذه الفتنة.
فقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم [20] : ( ... قلنا: يا رسول الله! وما
لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة،
وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه
صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في
الأرض ... ) الحديث.
ومن هذا الحديث أيضاً نرى حرص الصحابة على الصلاة وإقامتها في وقتها.
11 - الكثرة ليست دائماً دليلاً على الحق، والدجال باعتباره فتنةً عظيمة سيتبعه أناس كثيرون؛ فهل نقول إنه على الحق؟
لا، بالطبع؛ فعلى المسلم أن يلزم الحق ولو كان وحده وقد ثبت في صحيح
مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون
ألفاً عليهم الطيالسة) [21] .
قال ابن حجر في الفتح: وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد
ثقات التابعين في الحلية بسند حسن صحيح إليه قال: (لا ينجو من فتنة الدجال إلا
اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة) . [22] وهذا لا يقال من قِبَلِ الرأي؛
فيحتمل أن يكون مرفوعاً أرسله، ويحتمل أن يكون من بعض أهل الكتاب.
فوائد وقواعد في الدعوة:
1 - التأكيد على أمور العقيدة من أهم المهمات:
وهذا يتضح من أحاديث الدجال في التركيز على عدة مهمات عقدية منها:
أ - غرس توحيد الأسماء والصفات:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما
بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس
بأعور) [23] [24] .
ب - إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة وعدم رؤيته في الدنيا:
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس وهو
يحذرهم فتنة الدجال: (تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى
يموت) [25] .
ج - حسن الظن بالله جل جلاله:
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة أنه قال: ما سأل أحد النبي صلى
الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: (ما يضرك منه؟) قلت: لأنهم
يقولون: إن معه جبلَ خبزٍ ونهر ماء. قال: (بل هو أهون على الله من
ذلك) [26] [27] .
قال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض رحمه الله: المعنى: وهو
أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله تعالى على يده مضلاً للمؤمنين ومشككاً
لقلوبهم؛ بل إنه جعله له ليزداد الذين آمنوا إيماناً، ويثبت الحجة على الكافرين
والمنافقين ونحوهم، وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك [28] .
د - عظم التوكل على الله والالتجاء إليه:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن من بعدكم الكذاب المضل، وإن رأسه من
بعده حُبُكٌ حُبُكٌ حُبُكٌ [29] ثلاث مرات، وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: لستَ
ربنا؛ لكن ربنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا نعوذ بالله من شرك لم يكن له عليه
سلطان) [30] .
2 - أن يعطي كل أمر حقه من العناية:
فينبغي أن يُحذَّر من الأمر الخطير بطريقة تختلف عن الأمر الأخف خطورة،
وينبغي الأمر بالواجبات والفرائض بطريقة تختلف عن الحث على المسنونات
والمستحبات، وللأسف فإن بعض الناس هداهم الله يجعل المكروه محرماً أثناء
النهي، أو يجعل الصغيرة كبيرة، بل يتعدى بعضهم ذلك وذاك إلى أن يجعل أحد
خوارم المروءة من المحرمات. وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحذر
من الدجال بطرق وأساليب مختلفة متنوعة، ولماذا؟ لأن الدجال فتنة عظيمة! أي
عظيمة! فهو يدَّعِي الربوبية، بل يظهر له من الفتن الشيء العظيم، ومن ذلك ما
أخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم! فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له: يا بني اتبعه؛ فإنه ربك. وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، ويمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن
تنبت، فتمطر حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم، وأمده خواصر، وأدره ضروعاً) [31] .
3 - لا بد من التوضيح والبيان وقت الحاجة:
لذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الدجال وصفاً دقيقاً في أكثر من حديث
بينت صفته وأفعاله وكذبه، وما يحتاجه المسلم لمواجهته، ومن أشملها ما أخرجه
الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنذرتكم فتنة الدجال؛
فليس نبي إلا أنذر قومه أو أمته، وإنه آدَمُ، جعدٌ، أعور عينه اليسرى، وإنه
يمطر ولا ينبت الشجرة، وإنه يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها ولا يُسلط على
غيرها وإنه معه جنة ونار ونهر وماء وجبل خبز، وإن جنته نار وناره جنة، وإنه
يلبث فيكم أربعين صباحاً يرد فيها كل منهل إلا أربعة مساجد: مسجد الحرام،
ومسجد المدينة، والطور، ومسجد الأقصى، وإن شكل عليكم أو شُبِّه، فإن الله عز
وجل ليس بأعور) [32] .
4 - الصبر والثبات على الحق؛ لا سيما مع ظهور الفتنة:
وانظر إلى ذاك الرجل المؤمن الثابت الذي ما زاده فرقُه له فرقتين إلا بصيرة
به وتكذيباً.
ففي صحيح مسلم: (فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فيؤشر
بالمئشار [33] من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال: ثم يمشي الدجال بين
القطعتين، ثم يقول له: قم فيستوي قائماً. قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول:
ما ازددت فيك إلا بصيرة) [34] .
قال النووي رحمه الله نقلاً عن القاضي عياض: (فلا يقدر على قتل ذلك
الرجل ولا غيره) [35] .
[يثبت الله الذين آمنوا ... ] [إبراهيم: 27] .
5 - الاهتمام بالنساء في الدعوة، والتأكيد على تعليمهن العلم الشرعي: والمرأة إذا لم تُرشد للخير فقد تنساق مع الشر، ومع قلة الدين في زمن ظهور الدجال تجد أن أكثر أتباعه النساء اللاتي يغتررن بالمظاهر والفتن والشبهات.
أخرج الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل ليرجع إلى
حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) [36] .
6 - الارتباط بالقرآن الكريم قراءة وحفظاً وحث الناس على
ذلك: عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات
من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال) ، وفي رواية: (من قرأ) الحديث [37] .
__________
(1) فتح الباري، (13/98) .
(2) اجتهدوا في الأعمال وسابقوا إليها.
(3) الموت كما في شرح مسلم للنووي.
(4) القيامة كما في شرح مسلم للنووي.
(5) رواه مسلم، ح (2947) .
(6) فتح الباري، (13/98) .
(7) رواه ابن حبان بإسناد صحيح، ح (موارد الظمآن 1904) .
(8) رواه البخاري، ح (31/7) .
(9) رواه مسلم، ح (2933) .
(10) ستأتي أحاديث تدل على شيء من مظاهره الخادعة للعيان.
(11) فتح الباري، (13/104) .
(12) رواه أحمد، (4/431) .
(13) أبو داود، ح (4319) .
(14) رواه مسلم، ح (832) .
(15) رواه مسلم، ح (2934) .
(16) صحيح البخاري، ح (832) .
(17) شرح مسلم، ص 7188.
(18) صحيح مسلم، ح (2940) .
(19) صحيح البخاري، ح (7132) .
(20) رواه مسلم، ح (2137) .
(21) صحيح مسلم، ح (2944) .
(22) فتح الباري، (13/98) .
(23) رواه البخاري، ح (7131) .
(24) مسلم، ح (2933) .
(25) المسند (5/433) .
(26) البخاري، ح (7122) .
(27) مسلم، ح (2939) .
(28) شرح مسلم، (5/795) .
(29) متكسر من الجعودة.
(30) رواه أحمد، (22648) .
(31) رواه ابن ماجه، ح (4075) .
(32) مسند الإمام أحمد، 5/434.
(33) المنشار.
(34) صحيح مسلم، ح (7243) .
(35) شرح مسلم، ص 7187.
(36) مسند الإمام أحمد، (2/67) .
(37) رواه مسلم، ح (809) .(150/12)
دراسات في الشريعة والعقيدة
علم الجرح والتعديل
وعلاقته بالرواية
عبد اللطيف منديل
لما كان الحديث النبوي الشريف المورد الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن،
والمنهل البياني له في تفصيل الأحكام المجملة التي وردت فيه، وتقييد المطلق
وتخصيص العام، وتأسيس الأحكام التي لم ينص عليها الكتاب، عُني المسلمون
بحفظه وفهمه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، واستمر هذا الاهتمام
عبر الأجيال المتتالية.
نشأة علم الجرح والتعديل:
كثيراً ما تتسرب بعض العلوم من أمة كان لها قصب السبق في الوجود إلى
أمة أخرى تبعت أثرها على هذه الأرض. لكن الوضع يختلف بالنسبة لعلم الجرح
والتعديل؛ فهو علم نشأ في ظل الإسلام، وتفردت به أمة محمد صلى الله عليه
وسلم، فلا أثر له في أي أمة من الأمم السالفة؛ لأن هذه الأمة سهرت على حفظ ما
جاء به نبيها صلى الله عليه وسلم، فتعلم فيه جيلٌ من الصحابة والتابعين ومن أتى
بعدهم. إلا أن إعطاء الصدارة لأبي بكر من الجيل الأول في البحث عن الرجال
في قصة ميراث الجدة كما سطر في كتب الجرح والتعديل فيه تأمل [1] . نعم قد
يصح في غير هذه القصة؛ فقد ذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعلياً وزيد بن ثابت،
جرّحوا وعدَّلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها [2] ؛ فقد طلب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري أن يأتيه بشاهد عندما حدثه بحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له
فليرجع) فانطلق أبو موسى رضي الله عنه إلى مجلس فيه الأنصار فذكر ذلك لهم،
فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذن أحدكم ثلاث
مرات ... ؟ قالوا: بلى. لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد الخدري إلى
عمر. فقال: هذا أبو سعيد. فخلى عنه [3] . وكذلك كان علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يستحلف من حدثه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان
ثقة مأموماً [4] . ولم يكن الجيل الأول يتهمون بعضهم، ولكن كانوا يخشون جرأة
الناس على الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم دون تثبت وتدقيق، فشددوا في
قبولهم الروايات.
ثم اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم في هذا جماعة من الجيل الثاني كالحسن
البصري، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين، وغيرهم. لكن
رغم هذا لم تَنْمُ مادة واسعة في علم الرجال يتداولها العلماء والنقاد حتى منتصف
القرن الثاني الهجري؛ حيث شاع الوضع في الحديث، وكثر الضعفاء، فانبرى لهم
عدد من الأئمة النقاد والمحدثين الكبار مثل شعبة بن الحجاج، ومعمر بن راشد،
وهشام الدستوائي، وسفيان الثوري، وغيرهم كثير من أصحاب منتصف القرن
الثاني إلى أصحاب القرن الثالث؛ حيث بدأ نوع من التخصص في علم الرجال
يبرز بصورة خاصة عند يحيى بن معين، وعلي بن المديني؛ فنما التصنيف في
علم الجرح والتعديل خلال القرن الثالث والرابع. إلا أن الجرح في عصر التابعين
لا يكاد يتجاوز سوء الحفظ [5] ، وإنما ظهر الجرح والتعديل من حيث إنه علم قائم
بذاته له أهله ورجاله وقواعده بعد عصر التابعين. ولعل أول من كتب في قواعد
هذا العلم أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار المتوفى 292 هـ في جزء
له في معرفة من يُترَك حديثه أو يُقبَل. وهكذا نشأ هذا العلم، وهو أحد فروع علم
الحديث [6] .
حكم هذا العلم في الشريعة الإسلامية:
لقد جاءت عبارة ابن دقيق العيد ملجمة لأفواه المحدثين، والنقاد:
(أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس:
المحدثون، والحكام) [7] . لكن رغم هذا لم تمنعهم من الوقوف في وجوه الكذابين
والوضَّاعين ذبّاً منهم عن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وقيل ليحيى بن
سعيد القطان: (أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركتَ حديثهم خصماءك عند الله
تعالى؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلَيَّ من أن يكون خصمي رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ حدثتَ عني حديثاً ترى أنه كذب؟ !) [8] .
وقد أجمع العلماء على أن الجرح والتعديل جائزان في الشريعة الإسلامية، بل
هما واجبان صوناً للشريعة الإسلامية من الكذب. وقد أكد هذا الإجماع الإمام
النووي في كتابه: (رياض الصالحين) عند إخراجه هذا العلم من دائرة الغيبة
قال: (اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها. وهو ستة أسباب ... فذكر منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة) [9] . والحاجة هنا لا تخفى على من له غيرة على السنة المطهرة، وإجماع العلماء هنا يرتكن إلى دلائل من الكتاب والسنة: فمن الكتاب قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ] [الحجرات: 6] . وقوله تعالى: [وأشهدوا ذوي
عدل منكم] [الطلاق: 2] .
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: (ائذنوا له. بئس أخو العشيرة أو ابن
العشيرة) [10] .
وقوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) [11] .
هل يقبل الجرح والتعديل مجملين من غير بيان أسبابهما؟
تباينت آراء العلماء في الجرح والتعديل: هل يقبلان مبهمين من غير بيان
أسبابهما، أم لا بد من ذكر سبب كل واحد منهما، أم ذكر التعديل دون الجرح أو
العكس؟ لكن الذي درج عليه جمهور العلماء ونقاد الحديث وحكاه ابن الصلاح في
كتابه: (مقدمة في علوم الحديث) عن الخطيب البغدادي أنه يقبل التعديل من غير
ذكر أسبابه؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها. وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين
السبب؛ لأنه قد يجرح أحدهم بما لا يعتبر جرحاً، ولذلك احتج البخاري ومسلم
وأبو داود وغيرهم من الأئمة بأناس جُرِّحوا بدون بيان السبب؛ فقد احتج البخاري
بحديث عكرمة مولى ابن عباس، وعاصم بن علي وغيرهما، واحتج مسلم بسويد
بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل داود السجستاني، وذلك دال على
أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فُسِّرَ سببه [12] .
ما العمل عند تعارض الجرح والتعديل؟
إذا توجه إلى فرد واحد جرح وتعديل، فالجرح مقدَّم على التعديل؛ لأن
المعدِّل يخبر عما انكشف من حال الراوي، والجارح يخبر عن باطن خفِيّ عن
المعدِّل، فكان المخبر عن شيء خفي معه زيادة علم يجب الأخذ بها، وهذا بعد بيان
سبب الجرح وإن كثر المعدلون. وهو مذهب جمهور العلماء وبه العمل
عندهم [13] .
وختاماً: أقول: إن هذا العلم علم الجرح والتعديل لا تزال الأمة الإسلامية في
أمسِّ الحاجة إليه، لا سيما في عصرنا هذا؛ حيث اتجه المستشرقون ومن لفّ لفهم
وشرب من منهلهم من بني جلدتنا إلى شن الغارة على السنة النبوية ورواتها،
وإثارة الشكوك حولها بأسلوب ناعم مسموم يتظاهر رواده بالتجرد والبحث العلمي
الموضوعي. ولهذا صار محتّماً على كل مسلم يعثر على خبايا هؤلاء الضفادع
وأتباعهم في السنة النبوية ورواتها أن يرجع إلى كتب علماء الجرح والتعديل ليقف
على حقيقة رواة السنة الموثقين والمجروحين؛ لأن هذه الماهية أو الحقيقة حقيقة
رواة السنة يستحيل أن نجدها عند المستشرقين المكذبين لرسالة محمد صلى الله عليه
وسلم، وإنما نجدها عند أتباعه وخدّام سنته، عند علماء الحديث. ولقد أحسن
القائل إذ قال:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا [14]
وتخلي المسلمين عن هذا المنهج الحديثي النقدي سبب مباشر يقف إلى جانب
كيد المستشرقين في ازدياد هوة هذا الانحراف الذي تغلغل فيه المسلمون في هذا
الوقت.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الترمذي برقم 2101، وأبو داود برقم 2894، وابن ماجه، برقم 2724، وغيرهم من طرق تدور على قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر وقبيصة لا يصح سماعه من أبي بكر كما في (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) لأبي سعيد العلائي عند ترجمته لقبيصة.
(2) معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص 52.
(3) البخاري برقم 6245، 2062، الفتح، ومسلم برقم 2153.
(4) أبو داود برقم 521، والترمذي برقم 406، 3006، وأحمد برقم 2، وصحح إسناده أحمد محمد شاكر.
(5) بحوث في تاريخ السنة، ص 81 بتصرف.
(6) المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، ص 36 بتصرف.
(7) ضوابط الرواية عند المحدثين للصديق بشير نصر، ص 235.
(8) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، ص 144.
(9) رياض الصالحين، ص 279 باب ما يباح من الغيبة.
(10) أخرجه البخاري ومسلم، وابن حبان في المجروحين من المحدثين، ج 1، ص 12.
(11) أخرجه البخاري، ح/ 2457، ومسلم، ح/ 4599.
(12) مقدمة ابن الصلاح، ص 86، بتصرف.
(13) الكفاية في علم الرواية، ص 106 بتصرف.
(14) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، للشيخ الألباني، ص 44، وهو من إسناد الحسن بن محمد النسوي كما رواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء له في (فضل الحديث وأهله) كذا قال الشيخ الألباني رحمه الله.(150/18)
قضايا دعوية
حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية
بشتى صنوفها. وإذا عُرف أن ابتلاء الدعاة سنة ماضية تبين أن الدعوة الحقة لا
تقوم بلا تضحية.
والمراد بالتضحية: التبرع بالشيء دون مقابل [1] ، كالتضحية بالنفس أو
المال أو العمل أو الوقت أو الجاه أو العلم أو المنصب ... أو غير ذلك، حتى يظن
الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الضرورية، فيبذل جهده في تقويم ذلك
دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه، وإنما يرجو بذلك كله وجه الله تعالى،
ونصرة دينه [2] .
وهذا المعنى نفسه هو المقصود من الجود والبذل، وإن كان غلب إطلاق
الجود على إنفاق المال الكثير، بسهولة من النفس، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة
النفع كما ينبغي، وهو لا شك من أعظم أبوابه، والمال عماد لكثير من أعمال
الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به.
إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلك؛ فإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع
الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً:
1 - الجود بالنفس، وهو أعلى مراتب الجود.
2 - الجود بالرياسة، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم.
3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه.
4 - الجود بالعلم وبذله، وهو أفضل من الجود بالمال، ومنه تعليم الناس،
وإجابة السائلين بما يشفيهم، وهي زكاة العلم.
5 - الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان
ونحوه، وهذا زكاة الجاه.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كخدمة بدنية، وكلمة طيبة،
وفكرة نافعة.
7 - الجود بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.
8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة والبسطة. وهو أعظم مما قبله.
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له
بالحال أو اللسان [3] .
وهكذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض
الأحايين - أشد احتياجاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من
المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تصدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم
للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله تعالى كما أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله
فقال: (فهما في الأجر سواء) [4] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق
القليل حال الضراء.
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات
والجماعات.
منزلة الجود والتضحية:
الجود والتضحية شعبة من شعب الإيمان، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا
تحصى؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله عز وجل، كما أن استعمالها في غير
الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها.
والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود
تلك الآيات التي تصف المؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم، واستقرار
هذه الصفة في نفوسهم. وإنفاق المال صورة من أبرز صور الجود، لكنها جزء
قليل منه. ومن تلك الأدلة: قوله - تعالى-: [يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه]
[الإنسان: 8] أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام؛ ولكنهم قدموا محبة الله
على محبة نفوسهم، ومثله قوله: [وآتى المال على حبه] [البقرة: 177] .
- قوله عز وجل في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات: [الذين
ينفقون في السراء والضراء] [آل عمران: 134] أي: في عسرهم ويسرهم،
إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً.
ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة. فالإنفاق حال
العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين، وتحرير لها من سلطان الشح.
والمشاهد أن من يشح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه [5] .
- قوله تبارك وتعالى: [ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة]
[الحشر: 9] وهذا المقام أعلى من الذي قبله [ويطعمون الطعام على]
[الإنسان: 8] ، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف
هؤلاء، كفعل الصدّيق رضي الله عنه لما تصدق بكل ماله.
والإيثار: أكمل أنواع الجود، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله تعالى
مقدمة على شهوات النفس ولذاتها.
وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله عز وجل قبح الشح وشناعته في
قوله: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] ، وهذا يشمل
وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد، فيفعله منشرح الصدر، ويترك النهي
ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر،
ووصول المعرفة إليه، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله تعالى، فيحصل الفوز
والفلاح [6] .
وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان وكان في وسعه وطاقته مذموم
جداً وسبيل الفلاح ترك الشح، وهو أمر يعني: سماحة النفس وطيبها في فعل
أوامر الله تعالى، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة.
تضحيات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس جوداً كما وصفه بذلك صحابته.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود
الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) [7] .
فهو صلى الله عليه وسلم في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وجوده دائم
كالريح المطلقة التي لا تهب إلا بالخير والرحمة دائماً، ونفع جوده يعم الغني
والفقير كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه من الأرض الطيبة أو غير
الطيبة.
فقد كان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، وهو أسوة الدعاة
والمصلحين.
وقد كان جوده متنوعاً شاملاً لكل أنواع الجود. ويعجز المرء على وصف
بذله وتضحياته لأجل الله عز وجل وهو أمر لا يخفى يدركه جيداً من تأمل سيرته،
وسير سنته، وأكثر النظر فيها، ولأجل التمثيل فقط أسوق هذه النصوص:
عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: (فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى
قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) [8]
وصُوَرُ جوده بالمال يضيق عنها المقام، ويكفي أنه أعطى أناساً ألحوا عليه مع
أحقية غيرهم خشية أن يسألوه بالفحش، أو يصفوه بالبخل [9] ، فما أحرى هذا
بالتأمل الطويل!
وعنه قال: (إن كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله
عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت) [10] فكان صلى الله عليه وسلم باذلاً لجاهه
ووقته وراحته وماله ... في مرضاة الله تعالى ونفع الخلق.
كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يحصل غاية ما يريده من الجاه، ونيل
الرئاسة والشرف، والتمتع بزهرة الدنيا من النساء وسائر الملذات، وتحصيل
الراحة والرفاهية ورغد العيش، ولكنه ترك كل ذلك لله عز وجل وضحى بكل ما
آتاه الله عز وجل فبذل نفسه وماله، ووقته وجهده، وجاهه وراحته، وأرخص كل
ذلك في سبيل الله.
وقد بدأت معه رحلة المعاناة منذ صعد الصفاة، وأنذر عشيرته الأقربين،
فوصفوه بالسحر والجنون بعد أن كان الصادق الأمين، وأوذي وأصحابه أشد
الأذى، وابتلوا أعظم البلاء، فصار يعرض نفسه على القبائل في الحج يطلب حمايته ليبلِّغ دين الله، وقصد الطائف لعله يجد بغيته، فرجع مُدمى القدمين طريداً، وحوصر وأصحابه وأنصاره في الشعب ثلاث سنين حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع. ويعاني الصحابة من صنوف البلاء وألوان الشدائد
ما لا يخفى، ويواجه بعضهم الموت كآل ياسر وخباب وبلال.
ويخرج بعض أصحابه إلى الحبشة طلباً للنصرة، ويصبرون على مفارقة
الأهل والأولاد والأوطان، ويتسامعون بإسلام بعض الصناديد المشركين، فيعود
بعضهم إلى مكة ليجدوا أشد مما كانوا يعانون، ثم يعودون ثانية إلى الحبشة، ومعهم
آخرون في رحلة عناء أخرى. ثم يأذن الله بالهجرة إلى المدينة، ويهاجر صلى الله
عليه وسلم وسائر أصحابه، ثم يكابدون الغربة، وكثرة الأعداء، وأذى المنافقين
واليهود، وقتال الأهل والعشيرة.
وقد كان لكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صفحات
طويلة من البذل والتضحيات، فيهجر مصعب رضي الله عنه النعيم والدعة ويهاجر
داعية إلى الإسلام في المدينة، ويعرِّض علي رضي الله عنه نفسه للهلاك بنومه في
فراش النبي صلى الله عليه وسلم عشية الهجرة، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء
في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُعرِض أبو الدرداء عن التجارة
تفرغاً لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقبل خالد بن الوليد التنازل عن
منصبه طاعة لأمير المؤمنين، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن
العاص جمعاً لكلمة المسلمين، ويرفض الحسن بن علي الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً
للكلمة، ويقبِّل عامر بن عبد الله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى
المسلمين ... [11] .
ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية؛ فقد ضحت أم
سلمة بشمل الأسرة، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة، ولا يخفى جهد
أسماء وعناؤها أثناء الهجرة، ولا تضحيتها بابنها عبد الله بن الزبير في سبيل نصرة
الحق.
لا تقوم الدعوات إلا بالتضحيات:
باستقراء الحقائق، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي:
1- كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها، ودين الإسلام لم ينتشر براحة
الأبدان وسلامة النفوس.
2- تتسع الثغرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم، وتكثر المجالات
الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها
3 - يتزامن مع هذا قلة الموارد، وجفاف المنابع، وضيق ذات الدعاة مما
يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج.
4 - هذا الواقع الصعب يواجه أفراداً ممن عرفوا واجبهم ورأوا خطورة الأمر
في حين أنه يحتاج إلى اجتماع الجهود واستعداد كل داعية غيور بالجود
والتضحية.
5 - وفي المقابل تزداد جهود أهل الباطل قوة، وتزداد مخططاتهم دقة،
وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب.
ونجد هنا شكوى عمر رضي الله عنه المُرَّةَ ماثلةً: (اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ
الفاجر وعجز الثقة) ، ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله، ودليل الصدق
الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعوة في وقت كهذا، وهو
الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل، وشتان بين من يضحي وهو يرى
ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه
أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله عز وجل: [لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن
قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ
الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] . [الحديد: 10] .
موانع الجود والتضحية:
إن للتخاذل أسباباً أساسها ضعف الإيمان، وبرود اليقين، ومردها إهمال
التربية أو ضعفها، وإن كان كثير منها يعود إلى الشح بالمال، لكنها تحتمل وجوهاً
أخرى إضافة إلى أسباب أخرى عامة، منها:
1 - طول الأمل.
2 - التفات القلب إلى الولد. وهو يقوم مقام طول الأمل عند كثير من
الناس؛ لأنه يحمل على الجبن والبخل والحزن، لأن (الولد مجبنة،
مبخلة) [12] .
3 - فتنة الأزواج.
4 - الركون إلى الدنيا، وكونها الهمَّ والشغل الشاغل، وإيثار الدعة
والراحة.
5 - حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال.
6 - حب عين المال، والسعي للغنى والهروب من الفقر بلا نية صالحة.
7 - تزعزع القناعة، والثقة، وسلامة الطريق الذي يسير عليه.
8 - انعدام الجدية، ودنو الهمة، والعجز والكسل.
9 - الانشغال بالتضحية من أجل أهداف ومصالح شخصية.
10 - الوصول إلى بعض الأهداف الدنيوية لنيل شهرة، أو تحصيل جاه أو
شرف، أو منصب، يكون نهاية الجهد والعمل [13] .
11 - ضعف معرفة الواقع، وضخامة حاجة الدعوة، وجهود الأعداء، أو
الجهل بذلك.
12 - الشعور بالأثرة، وحب النفس.
وبعض هذه الأسباب كافٍ في تحطيم الداعية، وتسبيط همته على البذل
والتضحية.
بواعث الجود والتضحية:
يحصل بعث النفس على التضحية بأمور هي في حقيقتها علاج للعلل المانعة
منها؛ وذلك بالأمور الآتية:
1- دفع كل علة من العلل السابقة بما يضاد سببها؛ فعلاج حب الشهوات:
القناعة والصبر، وعلاج طول الأمل: كثرة ذكر الموت، وعلاج التفات القلب إلى
الولد: اليقين بتكفل الله عز وجل برزقه ورعايته، وعلاج حب المال: تعميق
محبة الله في القلب، ومحاولة بذل القليل إضعافاً لمحبة المال.
2 - معرفة حقيقة الابتلاء بالنعم، وأن لله تعالى في كل نعمة شكراً يليق بها؛
فالصحة لها شكر يناسبها، وكذا الوقت والجاه والقوة والذكاء والمال، وأن كلاً منها
منحة وعطية ورعاية من الله عز وجل لينظر الله أعمالنا، ويظهر الشاكر من
الكفور.
قال الله عز وجل: [وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] .
3 - تذكُّر بعض الحقائق المتصلة بالإنفاق، ومنها:
أ - أن ما قدمه الإنسان فلنفسه، فهو المستفيد منه حقاً.
ب - أن مال الإنسان حقيقة هو ما أنفقه في حياته، أما ما تركه فهو مال
الورثة، كما في الحديث [14] .
ج - أن إخراج ما زاد على حاجة الإنسان هو الخير له، (يا ابن آدم إنك أن
تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك ... ) [15] .
د - أنه يمكن للإنسان أن يكفيه القليل من المال، فما حاجته إلى الباقي؟
هـ - أنه لا حق للعبد في مال زاد عن حاجته في وقت اشتداد الحاجة، كما
في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له فضل ظهر فليعد به
على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له) . قال
أبو سعيد الخدري: (فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا
في فضل) [16] .
4 - معرفة منزلة الإنفاق وفضله وفوائده، ومنها:
أ - أن الله يُخْلِفُ له ما أنفق، قال تعالى: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] [سبأ: 39] مع أنه في الحقيقة هو الباقي عند الله تعالى في
الآخرة.
ب - أنه عز وجل يبارك فيما بقي، ومن أصدق الأدلة المحسوسة: أن الله
بارك في أوقات العلماء الصادقين فعملوا ما يصعب تصوره في الحسابات المادية،
وبارك في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم؛ فبلغت مبلغاً من النفع والأثر ما لم يخطر لهم
على بال مما يكاد ألاَّ يتصوره غيرهم، وقد كانوا عظيمي التضحية بأوقاتهم
وعلومهم. قال عز وجل: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم
مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: 268] .
5- معرفة واقع المسلمين وحاجاتهم، وخطط الأعداء وجهودهم، والتقصير
الحاصل في فروض الكفايات، مما يزيد الواجب وجوباً على أهل الكفاية والغنى
والمواهب والقدرات.
6 - التعود على تقديم القليل حال الفقر والحاجة، وبشكل أخص في أوقات
الشدائد والأزمات، التي تكثر فيها حاجات الدعوة، وتستدعي مزيداً من
التضحيات.
دلائل الجود والتضحية وثمراتهما:
1 - كمال الإيمان: وذلك لأن التضحية شعبة من شعبه، يزيد بها الإيمان،
وينقص بتركها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه) [17] .
2 - حصول شرف التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أمارة أيضاً
على قوة الإيمان لقوله عز وجل: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .
3 - عدم الركون إلى الدنيا، والتعلق بالآخرة، وهو طريق سعادة العبد.
4 - تحصيل قناعة القلب وغنى النفس، وهو الغنى الحقيقي؛ لارتباط
صاحبه بربه عز وجل.
5 - ضمان الخلف لما أنفق، وحصول البركة لما بقي. وقد جاء في
الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم
أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) [18] .
وهو مفهوم القاعدة المشهورة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه،
وأمثلتها في القرآن كثيرة: هجر إبراهيم عليه السلام قومه واعتزالهم فعوضه الله
الذرية الصالحة، وضحَّى يوسف عليه السلام بالشهوة فعوضه الله بالملك يتمتع
بالمباحات، وضحَّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا بالراحة الأعظم، وكانوا سبباً
لهداية الضالين، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوضهم الله بالرزق والعز
والتمكين، وجمع شملهم بعد فرقة ... وهكذا فكل من ترك ما تهواه نفسه وضحى به
لله تعالى، وجاد به في سبيله لرفعه كلمته عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة
إليه ما يفوق لذَّات الدنيا كلها [19] .
6 - ما يترتب على التضحية والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا
تخطر ببال صاحبها، ولا يعلم مداها إلا الله تعالى، مصداق حديث النبي صلى الله
عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك
من أجورهم شيئاً) [20] .
وختاماً:
فما دامت الدعوات لا تقوم إلا على التضحيات فقد أدرك كل واحد
من الدعاة ما يجب عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة (ضحي) .
(2) والتضحية كما تكون بالبذل تكون أيضاً بالكف والتراجع عن بعض المواقف والمكاسب لتحقيق مكاسب أخرى أكبر وأهم كما سيأتي.
(3) انظر المدارج، 2/279، 282.
(4) رواه ابن ماجه، ح/ 4228، وانظر صحيح سنن ابن ماجه، ح / 3406.
(5) خواطر في الدعوة، للصبّاغ، ص 145.
(6) تفسير السعدي، ص 805.
(7) رواه البخاري ح/ 6.
(8) رواه مسلم، ح/ 1056.
(9) رواه مسلم، ح/1056.
(10) رواه البخاري، ح/ 6072.
(11) وهذه الصور الأخيرة من التضحية تدل على أن التضحية قد تكون بالكف والترك والتراجع عن بعض المواقف، وترك بعض المصالح لكسب مصالح أكبر منها واعظم، وهذا من مواقف الحكمة (راجع الرسالة السابقة في الحكمة) .
(12) أخرجه أحمد 4/172، وانظر: صحيح الجامع، ح/7160، 2/ 1202.
(13) راجع الرسالة التاسعة (الرغبة في الصدارة والتطلع للأمارة) من هذه الرسائل.
(14) الحديث رواه البخاري، ح/ 2446، وفي آخره: (فإن ماله ما قدم، ومال وُرَّاثه ما أخر) .
(15) رواه مسلم، ح/ 1036.
(16) رواه مسلم، ح/ 1354.
(17) رواه البخاري، ح/ 8316.
(18) متفق عليه (خ/ 142، م/1010) .
(19) انظر: مجتنى الفوائد الدعوية والتربوية من مؤلفات السعدي، ص 90.
(20) رواه مسلم، ح/ 2674.(150/22)
دراسات تربوية
أيش ضرَّ أبا الحسنِ انصرافي؟
أكرم عصبان الحضرمي
إنَّ هذه النصيحة الغالية، والحكمة البالغة التي أطلقها الإمام الصَيْمَري [1]
عليه رحمة الله تأسفاً على فوات كثير من العلم والاستفادة من عَلَمٍ من أعلام
الحديث، لتمثل لنا سِراجاً نستنير به في ظلمات الهجر غير المنضبط الذي خيَّم في سماء صحوتنا، والذي يمثل عقبة في طريق العلم والاستفادة.
إنَّ مَنْ تفقه في هذه العبارة، وتأملها كل التأمل، انتفع بها غاية الانتفاع؛
لأنها تعالج لنا واقعاً من الانحراف في حياتنا التعليمية ومنهجاً معوجاً في التعامل مع
اجتهاد العلماء، وأخطائهم، وتتضح لنا خطورة هذا المسلك حين تأتي الثمار السيئة
من تفويت الخير الكثير في ترك جهود العلماء المشهود لهم بالعلم الراسخ والقدَمَ
الثابت.
من أجل هذا وغيره أضحت هذه المشكلة جديرة بالوقوف أمامها وصرف
النظر إليها، إنها مشكلة الازورار عن العلم (دروساً وكتباً وأشرطة ... ) بسبب
بعض الاجتهادات والأخطاء، فما هو خبر الصَيْمَري؟
لنستمع إليه يحدثنا عن خبره.
قال الخطيب: قال لي الصَيْمَري: (سمعتُ من الدارقطني [2] أجزاءاً من
سننه، وانقطعتُ لكونه ليَّن أبا يوسف، وليتني لم أفعل، إيش ضرَّ أبا الحسن
انصرافي؟) [3] .
تشخيص الظاهرة:
إنه يشخِّص الظاهرةَ (الانقطاع عن دروس الدارقطني) ولقد انتشرت هذه
الظاهرة في عصرنا وفشت، فكم من مجالسَ للعلماء تُهجَرُ، وكم من كتب تحرق،
وكم من أشرطة ترمى! بل وصل الأمر ذروته وبلغ السيل الزبى حين يُهْجَرُ مَنْ لَمْ
يَهْجُرْ تلك الأمور، وهذه لعمري قاصمةُ الظهر، فلم يقطعوا دروسَ الدارقطني
فحسبْ، بل قطعوا من لم ينقطع من دروسه، وهذه من فرائِد عصرِنا وهذا مخالف
لميزان الإنصاف: [قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا
لظالمون] [يوسف: 79] .
أسباب الظاهرة:
إن سبب الانقطاع (لكونه ليَّن أبا يوسف) [4] صاحب أبي حنيفة وأحد أئمة
الأحناف وأركان المذهب، فالصَيْمَري لم يتحملْ كلام الدارقطني فيه فترك مجلسه؛
وهذا نَعدُّه تعصباً منه رحمه الله وانتصاراً لإمامه.
داء التعصب:
فالتعصب إذن مَزَلةُ أقدام، ومَظنّة أفهام، وآفة من آفات العلم، (وهو انتحالُ
مجموعةٍ من الناسِ مذهباً أو انتخابُ آراء بحيثُ لا يبغون عنها حولاً ولا يريدون
بها بدلاً) .
إن الدارقطني أدَّاه اجتهادُه وهو إمامُ الحديث ورجاله إلى تليين أبي يوسف؛
فعلامَ يُترك الأخذ عن مجتهدٍ قد يكون رأيه هو الحق، ومذهبُه هو الصواب؟ ولكنه
التعصب الذي يَحْرِم صاحبَه التعلم! قال حُسَيْنَكُ بنُ علي: أول ما سألني ابنُ
خزيمة فقال: كتبت عن محمد بن جعفر الطبري؟ قلت: لا. قال: ولِمَ؟ قلت:
لأنه كان لا يَظْهرُ وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه [5] . قال: (بئسَ ما
فعلت. ليتَكَ لم تكتبْ عن كلِّ ما كتبتَ عنهم، وسمعتَ من أبي جعفر) [6] .
فالواجب على طالب العلم ألا يتحيَّزَ لمذهبٍ معينٍ، ولا لآراء خاصة، وإنَّما
ينتخب من الأقوال ما وافق الحق، ويجتنبُ ما خالفه.
التسرع في الحكم وعدم التثبت:
وتزداد الزاوية انفراجاً عند ترك التثبت، والتسرع في الحكم؛ فإن اجتهاد
الدارقطني يُنظرُ إليه، فقد سبقه إلى ذلك نفرٌ من علماءِ الجرح والتعديل منهم شيخ
المحدثين البخاري فقبلَ هجره يُتبَيَّنُ قوله، كما قال الحسنُ البصري رحمه الله:
(المؤمنُ وقَّاف حتى يتبين) [7] .
فإن أصاب فنعمَّا هو، وإن أخطأ فالكمال عزيز، وإنما يمدحُ العالمُ بكثرة ما
له من الفضائل؛ فلا تدفنُ المحاسنُ لورطة ربما رجع عنها وقد يَغْفِرُ الله له
باستفراغه الوُسعَ في طلب الحق فيه، ولمن ثبت عنده ذلك الخطأ أن يجادل بالتي
هي أحسن، ويرشده إلى الحق مع حفظ الأخوة، وبقاء الاستفادة؛ فكم من علمٍ فاتَ
بسبب التسرع وعدم التثبت.
قال قيسُ بن الربيع: (قدم علينا قتادة الكوفة فأردنا أن نأتيه فقيل: إنه
يُبغِض علياً، ثم قيل: إنه أبعدُ الناس من هذا؛ فأخذْنا عن رجل عنه) [8] .
كم فاتهم من الخير، وأي خسارة خسروا حين نزل سندهم فأخذوا العلم نازلاً
بعد إمكان أخذه عالياً، وانظر إلى السند والإحالة تجدها عن مجهول (قيل: إنه
يبغض علياً) . وقيل: (إنه أبعد من هذا) ، فأين تعاليم القرآن؟ [يا أيُّها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين] [الحجرات: 6] .
التعصب وسوء الظن:
وتزداد زاوية الانفراج للتعصب أكثر حين يُولِّدُ ظنوناً سيئةً ألا (وإن الظن
أكذب الحديث) [9] ويؤدي إلى تتبع العثرات، وترصُّد الزلات، ويبدأ الخلاف في
فرعية صغيرة فيرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة. قال
الذهبي: (قرأت بخط الموفَّقِ قال: سمعنا درسه أي ابن عُصْرُون مع أخي أبي عمر وانقطعنا. فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعدُ، فقال: لِمَ انقطعتم عني؟ قلت: إن ناساً يقولون: إنك أشعري. فقال: (والله ما أنا بأشعري) [10] هذا معنى الحكاية.
وهذه الصورة من التعصب تظهر في عصرنا في أكمل مبانيها، وفي أوضح
معانيها؛ فمن تكلم بنصوصٍ في الحاكمية من وجوب الحكم بما أنزل الله، والتحذير
من القوانين الوضعية، والأحكام الدولية، يُهْجَرُ أولاً ويعدُّ خارجياً ثانياً، كما أن
مَن لم يرَ إقحامَ الأمةِ في ظلماتِ الخروج غير المنضبط بالضوابط الشرعية يعد
مُرْجئاً جَهْمياً.
إن الظنَّ السيئَ، والاتهام بالبدعة، والتسرع في ذلك، رُوِّع بها شيوخ [11]
وظلم بها علماء وهُجِرَ بها دعاةٌ لا يرون مسوِّغات ذلك، كما قال الأول: (وأرى
العداوة لا أرى أسبابها) وكل ذلك بسبب أسانيد منقطعة (يقولون) ويرد ابن عصرون
هذه الفرية مؤكداً كلامه بالقسم: (والله ما أنا بأشعري) ، وكان حاله كحال
القائل [12] :
ولكني ظلمت فكدت أبكي ... من الظلم المبيَّن أو بكيت
الكذب وكيد الشيطان:
انظر كيف يُكذَبُ على العلماءِ بسندٍ مبهمٍ لا يُعرفُ قائله أجنيٌ أم إنسي؟ ومن
يدري؟ لعل الشيطان هو الذي نقله! وما ذلك ببعيد، فقد قال أبو عمر ابن عبد
البر: (روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحبُّ السبت وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، ثم قالت: يا جارية ما
حملك على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان. قالت: فاذهبي فأنت حرة) [13] .
ولكن إنْ مَرَّ كيدُ الشيطان على بعض العلماء فإنه لا يمرُّ على عمر رضي الله
عنه الذي كان الشيطان يَفْرَقُ منه. وهكذا نجدُ أن الشيطان قد نَصَب أحابيله وأقامَ
شِراكه ودبَّر مكائده حتى يصطاد العلماء وطلبة العلم فيها. فلا يُغْفَلُ عملهُ؛ إنه
دورُ: (ولكن بالتحريش بينهم) [14] .
مراعاة التخصصص:
والحاصل أن الدارقطني رحمه الله حين تكلم فيما تكلم لم يجاوز فنه، ولم يتعد
تخصصه، فقد كان إمام الجرحِ والتعديل، والحديث عن الرجال، فلا يعنَّفُ ولا
يُهْجَر. فإذا كان المخطئ في غير فنِّه يُرْفَقُ به، ويردُّ إلى الصواب فمن باب أوْلى
المتخصص. ومن هنا ردَّ العلماءُ على ابنِ طاهر حين قال: (وأقبحُ ما رأيتُ في
قولِ إمام الحرمين [15] في كتاب أصول الفقه: والعمدة في هذا الباب على حديث
معاذ) قال: (وهذه زلةٌ منه ولو كان عالماً بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة) .
قال الحافظ: (قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبِّر
بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشدُّ مما نقله عنه، فإنه قال:
(والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه التأويل) [16] .
فهذا في مَنْ لم يبلغ المرتبة العالية في هذا الفن (أما من بلغَ مرتبة الرسوخِ
والإفادةِ، وكان على جانب عظيم من العلم كالدارقطني، وانتحل مما انتحل عن
اجتهادٍ ونظرٍ فلا يُرتابُ في العناية بالأخذ عنه والتلقي منه) .
ثمرة فعل الصيمري:
لقد نعتَ ابنُ كثير الإمامَ الصَيْمَري بأنَّه كان عارفاً بحقوقِ العلماءِ، ومن حقِ
الدارقطني عليه أن لا يقطعه بل ينْصَحه ولذلك قال: ليتني لم أفعلْ! [17] . إنه لم
يَزدْ على تركِ مجلسه، فلم يتكلم فيه بل حفظ لسانه. وتُعَدُّ هذه في عصرنا منقبة
للهَاجِرِ ليقابل من يعنِّف على مخالفه ويفسِّقه ويبدِّعه، وأين هذا المسلك الذي سلكه
الصَيْمَري من مسلك زاهد الكوثري الحنفي الذي آذى العلماء الذين تكلموا في أبي
يوسف أمثال البخاري، والخطيب والعقيلي ونبز الأخير بأنه حشوي [18] . فهذا
يعتبر عقوقاً من الخَلَفِ بتركِ مسلك السلف!
ثم قال: (إيشٍ ضرَّ أبا الحسن انصرافي؟) لم يضرَّه شيئاً بل بقي إمامَ
عصره. إن انجفال طلبة العلم عن علماء السُّنَّة والدعاة إليها بسبب اجتهاد أو خطأ
يفوِّتُ عليهم وا أسفا علماً جماً، وخيراً كثيراً [ومّا يٍضٌلٍَونّ إلاَّ أّنفٍسّهٍم مّا
يّشًعٍرٍونّ] [آل عمران: 69] . ولا يَبْعُدُ أن يكونَ ذلك عقوبةَ الظلم، وترك
الإنصاف؛ وما ضرَّهم لو صححوا الخطأ واعتذروا له؟ ورحم الله ابن
الوردي [19] حين قال:
والناسُ لم يصنِّفوا في العلمِ ... ما صنَّفوا إلا رجاءَ الأجرِ
لكنْ قديتُ جَسداً بلا حسدْ ... واللهُ عندَ قولِ كلِّ قائلِ
لكيْ يَصْيروا هَدَفاً للذمِّ ... والدَعَواتِ وجَميلِ الذكرِ
ولا يُضيعُ الله حقاً لأحدْ ... وذو الحجَا في نفسِه في شاغلِ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
__________
(1) أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري، أحد أئمة الحنفية كان صدوقاً وافر العقل عارفاً بحقوق العلماء البداية والنهاية، 12/57، السير، 17/615.
(2) أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني صاحب السنن الحافظ المجوِّد، كان من بحور العلم وأحد أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، البداية والنهاية، 11/307، السير 16/449.
(3) سير أعلام النبلاء، 17/616.
(4) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة الإمام المجتهد، لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل.
(5) وقع بين محمد بن جرير وأبي بكر أمور وكانت الحنابلة حزب ابن أبي بكر فكثروا وشغبوا عليه السير، 14/277، وقد صدق ابن عقيل حيث يقول: (رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة، في أيام ابن يونس فكانوا يستطيلون على أصحاب الشافعي فلما جاءت أيام النظَّام استطال عليهم أصحاب الشافعي فتدبرت أمر الفريقين فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم) ، شرح الإقناع، 1309.
(6) سير أعلام النبلاء، 14/262، طبقات السبكي، 2/137.
(7) الفتاوى لشيخ الإسلام، 10/382.
(8) سير أعلام النبلاء، 5/272.
(9) جزء من حديث صحيح عند البخاري من حديث أبي هريرة.
(10) وقد تعقب السبكي الأشعري تلميذ الذهبي على شيخه هذه القصة بما لا طائل تحته؛ وهذا يعد تعصباً أيضاً وجرأة على شيخه انظر طبقات السبكي، ترجمة ابن عصرون، وحاشية السير، 21/129، سير أعلام النبلاء، 21/129.
(11) ومن الصور المبكية أن الكيا الهراسي أشيع أنه باطني إسماعيلي فنمت له فتنة هائلة هو بريء منها، ولكن وقع الاشتباه على الناقل، فإن ابن الصباح باطني إسماعيلي كان يلقب الكيا ثم ظهر الأمر وفرجت الكربة، الطبقات الكبرى.
(12) سنان بن الفحل الطائي.
(13) السير، 2/231.
(14) رواه مسلم، ح/5030.
(15) قال الذهبي: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته، السير 18/471.
(16) السلسلة الضعيفة، 2/28.
(17) يقول تعالى: [ولا تنسوا الفضل بينكم} ] [البقرة: 237] .
(18) حاشية مناقب أبي حنيفة وصاحبيه، ص 72.
(19) ويقول الحريري: وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جلَّ الذي لا عيبَ فيه، وعلا.(150/30)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2 - 2)
فاتحة الملف
وماذا نحن فاعلون؟
دأب العلمانيون على اتباع تقطير سمومهم في جسد الأمة المسلمة قطرة
قطرة، حتى تحوَّل قطاع كبير من الأمة إلى مجتمع متشرب لهذا السم، وكان هذا الهدوء الماكر والخبيث في اطِّراح العقائد والمناهج الإسلامية.
وهكذا اقتفوا سبيل إمامهم في الشر باتباع منهج (الخطوات) وقد أثمر هذا
المنهج ثماره الخبيثة من تحول هذه المناهج من مجرد أفكار فردية إلى قضايا تكبر
شيئاً فشيئاً، ويكبر معها عدد المدافعين عنها.
ولم تخرج معركة المرأة من هذه الدائرة الخبيثة؛ بيد أن تلك المرحلة كانت
سجالاً بين الكائدين من العلمانيين، وبين المدافعين من الإسلاميين وأهل الصلاح،
لكن المعركة شهدت تحولاً خطيراً يصب في صالح العلمانيين، وهو ذلك التأطير
الدولي لهذه القضية، وتبني المؤسسة الدولية لها، وفرضها على دول كانت في
حاجة إلى هذا التبني، حيث إنها لم تستطع بشكل واضح تبني الطرح العلماني في
هذه القضية الاجتماعية لحساسيتها في المجتمعات الإسلامية، أما الآن فقد أصبح
لزاماً عليهم الالتزام بالشرعية الدولية، وإلا تعرضت الأمة كلها للعقوبات، وهذا
المشهد وهو في بداياته يعتبر إخلالاً بالموازين التي كانت تحافظ عليها الحكومات
بين التيارات الفكرية داخل مجتمعاتها.
ونحن هنا ومع بداية هذا التطور نحتاج إلى وقفة نخرج بها من دائرة
التوصيف للكيد العلماني، والأساليب، والطرق التي انتهجوها إلى الوصول إلى دور
فاعل بوضع التصورات الواقعية في مواجهة هذا الكيد الشيطاني. نحتاج إلى وضع
السياج القوي حول حُرُمات الأمة بعيداً عن الندب والشجب، نحتاج إلى إطلاق
القدرات لمواجهة هذا التواطؤ على الحرمات.
وبهذا الجزء الثاني من ملف (ماذا يريدون من المرأة؟) نرجو أن نكون قد أسهمنا
بدورنا في هذا السعي، آملين أن نتبعه ويتبعه غيرنا بفاعلية أكثر.
ونحن في سعينا هذا نستعين بالعلي القدير الذي لا يُصلِح عملَ المفسدين.(150/35)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
عولمة المرأة
قراءة في الأيدلوجية النسوية الجديدة
كمال حبيب
عولمة المرأة أي جعلها كائناً عالمياً يمكن وصفه بأنه كائن فوق الحكومات أو
كائن عابر للقارات.. ولجعلها كائناً عالمياً كان لا بد من عقد المؤتمرات الدولية
وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات العالمية التي تلزم الحكومات بحقوق هذا الكائن،
وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية المرجعية
العالمية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها (أيديولوجية نسوية) لها قوة الأيديولوجيات
السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت وماتت.
وكما كان يحدث بالنسبة للأيديولوجيات السياسية والفكرية فإن الأيديولوجية
النسوية الجديدة يراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم وفي كل الدول والشعوب
وفي كل الأعمال؛ فإنها الوسيلة الجديدة لغزو العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد
الذي يُراد للعالم أن يتوحد خلفه ويدين به: بيد أن الخطر في هذه الأيديولوجية
والدين الجديد يكمن في أن الذي يُبشر بها ويدعو إليها هو النظام العالمي الجديد الذي
حقق ما اعتبره انتصاراً نهائياً وعالمياً للفكر الغربي العلماني، ويريد أن يفرض هذا
الدين والأيديولوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة
ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود والحصون
أمام هذه القوة العالمية الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها ورغباتها ومصالحها
مُسلَّماً بها ومُرحَّباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس أو
القومية أو الثقافة. أي أن المرجعية الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم
والأجناس البشرية من ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار؛ بحيث يغدو كل هذا
ذكرى بلا قيمة ولا معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة
والجديدة التي يتحوَّل البشر جميعاً فيها عبيداً للإله الذي قررها، وهو النظام العالمي
الجديد.
كما أن خطر هذه الأيديولوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان يُنظر
إليها باعتبارها خاصة أو شخصية وينظم أوضاعها بشكل أساسٍ الدينُ والتقاليد
والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم لهذه الأيديولوجية ينال
مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود، وهي محور الكيان الإنساني والوجود
البشري. ويقف وراء هذه الأيديولوجية فكر شيطاني يريد أن يجعل من الأخلاق
فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً.
وتستمد النسوية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة (حيث تعتبر
أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع
لا طبقي؛ بينما اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل (الأسرة) والأمومة في نظر (الماركسية
الحديثة) التي تستمد النسوية أفكارها منها تمثل السبب، وراء نظام طبقي جنسي
يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة.
وإذا كانت السنن الكونية الطبيعية عندهم هي التي اقتضت هذا الاختلاف
البيولوجي فلا بد من الثورة على هذه السنن الطبيعية والتخلص منها بحيث تصبح
الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة فروقاً اجتماعية متصلة بالأدوار التي يؤديها
كلٌّ من الرجل والمرأة وليست متصلة بالخواص البيولوجية لكل منهما؛ ومن ثَمَّ فإذا
قام الرجل بوظيفة المرأة وقامت المرأة بوظيفة الرجل فإنه لن يكون هناك ذكر
وأنثى وإنما سيكون هناك نوع (جندر) وهذا النوع هو الذي سيحدد طبيعة دوره في
الحياة بحيث يجوز للأنثى أن تمارس دور الذكر والعكس، وبحيث لا تكون
هناك أسرة بالمعنى التقليدي ولا أبناء ولا رجل ولا امرأة، وإنما أسر جديدة شاذة
وأبناءٌ نتاج للتلقيح الصناعي؛ فأي فكر شيطاني ذلك الذي تتبناه (النسوية
الجديدة) ؟ ! وأي قوة تجعل من الأمم المتحدة وأمريكا والغرب تتبنى هذا الفكر
الشيطاني لفرضه على العالم؟ ! ! إنها تعبير عن إرادة لا نقول علمانية، وإنما إلحادية لتحويل الوجود البشري وجوداً بلا قيمة ولا معنى تنتفي معه العناية من
استخلاف الله للإنسان في الأرض. وفي الواقع فإن هذا الفكر الإجرامي ليس
خطراً على المجتمعات الإسلامية فحسب ولكنه خطر على الحضارة الإنسانية ذاتها؛ لكن المجتمعات الإسلامية تأتي في القلب من معتقد هذا المخطط
الإجرامي البديل والجديد.
أدوات المرجعية الجديدة:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم إرساؤه عام 1948 م يمثل البذرة
الأولى لهذه المرجعية الجديدة التي طرحت موضوع الأسرة والمرأة قضية عالمية
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ضجيج القضايا السياسية والاقتصادية على
دول العالم الثالث في هذا الوقت غطى على الجانب الاجتماعي والثقافي المتصل
بالأسرة والمرأة والأحوال الشخصية؛ فمنذ عام 1950 م حاولت الأمم المتحدة عقد
الدورة الأولى لمؤتمراتها الدولية حول المرأة والأسرة بعنوان: (تنظيم الأسرة) لكن
الحكومة المصرية في العهد الملكي قاومته بقوة، وأخفق المؤتمر الذي كان يترأسه
ماركسيٌّ صهيوني، ثم عاودت الأمم المتحدة مرة ثانية تطلعها في بناء المرجعية
النسوية الجديدة، فعقدت مؤتمراً في المكسيك عام 1975 م ودعت فيه إلى حرية
الإجهاض للمرأة والحرية الجنسية للمراهقين والأطفال وتنظيم الأسرة لضبط عدد
السكان في العالم الثالث، وأخفق هذا المؤتمر أيضاً، ثم عقد مؤتمر في (نيروبي)
عام 1985م بعنوان (استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة) ثم كان
مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية الذي عقد في سبتمبر 1994م، وأخيراً كان مؤتمر
المرأة في بكين الذي عُقد عام 1995 م تحت عنوان (المساواة والتنمية والسلم)
وهو المؤتمر الذي ختمت به الأمم المتحدة القرن الماضي، وانتهت إلى الشكل
النهائي للمرجعية الجديدة والبديلة التي يراد فرضها على العالم والتي تهدف بكلمة
واحدة إلى (عولمة المرأة) .
وعولمة المرأة هو الجانب الاجتماعي والثقافي في (العولمة) الذي تسعى
الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا إلى فرضه على بقية العالم خاصة العالم الثالث.
والتوصيات والوثائق التي توقع عليها الدول والحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة
تعتبر ملزمة لها، كما أن الأمم المتحدة تقوم بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذ ما جاء
في توصيات هذه المؤتمرات الدولية ووثائقها بما في ذلك المراقبة والمتابعة لمدى
التزام الدول والحكومات بها. كما أن المنظمات غير الحكومية الممثلة في الأمم
المتحدة تمثل قوة ضغط في دولها لمراقبة التزام هذه الدول بقرارات الأمم المتحدة
وتوصياتها ومتابعة ذلك، وهي في هذا تشبه (جواسيس للأمم المتحدة) في دولها.
ولا تكتفي الأمم المتحدة بذلك وإنما تعقد مؤتمرات مع الأطراف الحكومية
والمنظمات غير الحكومية كل سنة أو سنتين للتأكد من الالتزام الحكومي بالمرجعية
الكونية البديلة والخضوع للنظام العالمي الجديد؛ فهناك مؤتمر سنوي يطلق عليه
مؤتمر السكان + 1 أو + 2 أو + 3 وهكذا حتى يأتي موعد المؤتمر الدولي القادم
للسكان عام 2004م. وأيضاً بالنسبة لمؤتمر بكين [1] قد عُقد بكين + 4 في الهند
وسوف يعقد مؤتمر للمرأة أيضاً عام 2005م أي بعد عشر سنوات من مؤتمر المرأة
الذي عُقد في بكين، أي أن هناك آلية دولية لها طابع الفرض والإلزام والمتابعة
تتدخل في الشؤون الداخلية للدول لتطلب منها الالتزام بما وقعت عليه؛ وهذه الآلية
يمكن أن تمارس الإرهاب بفرض العقوبات الدولية على الدول التي ترى الأمم
المتحدة أنها غير ملتزمة؛ كما أن هذه الآلية تمارس الإغراء بمنح معونات أو
قروض أو ما شابه إذا التزمت بمقررات الشرعية الجديدة.
ومن ثَمَّ فإن ما يجري في مصر أو المغرب أو الأردن بشأن تغيير قوانين
الأحوال الشخصية أو العقوبات هو جزء من الالتزام بالأجندة الدولية التي وافقت
هذه الدول عليها في المؤتمرات الدولية وليس تعبيراً عن حاجة داخلية لشعوب هذه
الدول. فحق المرأة في فسخ عقد الزواج، وحقها في السفر هي وأولادها بلا قيود،
وحقها في المواطنة الذي يستخدم ستاراً لمساواتها مع الرجل في الإرث والطلاق
وعدم الخضوع لسلطة أي رفض القوامة وإقامة علاقات ود وصداقة خارج نطاق
البيت والعائلة، كل هذه القضايا كانت مطروحة باعتبارها جزءاً من أجندة دولية
للتسليم بالدخول في طاعة النظام العالمي الجديد والإقرار بالالتزام بالدين النسوي
البديل.
وفي الواقع فإن كل ما سيحدث في هذا الإطار سيكون مثل تأسيس (المجلس
القومي للمرأة) في مصر [2] الذي يضم الوجوه النسوية المصرية التي تدعو
للأيديولوجية الجديدة بلا خجل أو حياء.
وهذه الوجوه النسوية هي انعكاس للفكر الغربي النسوي؛ حيث تشعر تجاه
المرأة الغربية بالنقص، وتشعر أن الالتحاق الفكري بها سوف يعوض هذا النقص
لهن كما يبلغ النقص بهذه الوجوه حد كراهية الدين الإسلامي ونظمه الاجتماعية
وقوانينه في الاجتماع والأسرة؛ وهم في ذلك أشبه (باللامنتمي) ومن ثَمَّ فهذه
الوجوه تعبر عن حالة نفسية مرضية؛ ورفعها إلى مستوى التخطيط والحديث عن
قضايا المرأة ليس سوى خضوع للقوى الدولية الخارجية التي تحب أن يعبر عن
أوضاع المرأة في العالم الإسلامي النسوةُ اللاتي يرددن الأفكار الغربية ويبشرن
بالأيديولوجية النسوية الجديدة.
وثيقة بكين.. مفردات المرجعية الجديدة:
وبالعودة إلى وثيقة بكين التي تمثل منتهى الفكر النسوي الجديد نجد مخططاً
واضحاً لتدمير الأسرة والمرأة، وتدمير الحضارة البشرية ذاتها، ويبدو لنا أن
الحضارة الغربية تريد أن تدمر الحضارات الأخرى وعلى رأسها الحضارة
الإسلامية بعد أن شارفت هي على الهلاك والتدمير والفوضى بسبب خضوعها
للأفكار النسوية والشذوذ الجنسي والأخلاقي [2] .
ومن المؤكد أن الجانب الثقافي والاجتماعي الذي يراد فرضه على الحضارات
الأخرى والإسلامية على رأسها هو جزءٌ مما أطلق عليه (صموئيل هنتنجتون) :
(صراع الحضارات) هذه الوثيقة وهي في حقيقتها تمثل مخططاً تحاول فرض
مصطلح (النوعGender) بدلاً من كلمة Sex والتي تشير إلى الذكر والأنثى أما
النوع فمعناه رفض حقيقة أن الوضع البيولوجي هو المصير لكل فرد، ورفض
حقيقة أن اختلاف الذكر والأنثى هو من صنع الله عز وجل وإنما الاختلاف ناتج
عن التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئة التي يتحكم فيها الرجل. وتتضمن هذه
النزعة فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها،
ومن ثَمَّ الاعتراف رسمياً بالشواذ والمخنثين والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية
ضمن حقوق الإنسان ومنها حقهم في الزواج وتكوين أسر والحصول على أطفال
بالتبني أو تأجير البطون. وتطالب الوثيقة بحق المرأة والفتاة في التمتع بحرية
جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء وليس بالضرورة في إطار الزواج
الشرعي؛ فالمهم هو تقديم المشورة والنصيحة لتكون هذه العلاقات (الآثمة) مأمونة
العواقب سواء من ناحية الإنجاب أو من ناحية الإصابة بمرض الإيدز.
وتطالب (وثيقة بكين) الحكومات بإعطاء الأولوية؛ لتعزيز تمتع المرأة
والرجل بالكامل وعلى قدم المساواة بجميع حقوق الإنسان والحريات بدون أي نوع
من التميز وحماية ذلك، ويدخل ضمن هذه الحقوق والحرياتِ: الحرياتُ الجنسية
بتنويعاتها المختلفة والتحكم في الحمل والإجهاض وكل ما يخالف الشرائع السماوية،
وتطالب الوثيقة الحكومات بالاهتمام بتلبية الحاجات التثقيفية والخدمية للمراهقين
ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي في حياتهم معالجة إيجابية ومسؤولة، وتطالب
بحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم دون إدانة لهذا الحمل السِّفَاح.
ولا تتحدث (وثيقة بكين) عن الزواج من حيث إنه رباط شرعي يجمع
الرجل والمرأة في إطار اجتماعي هو الأسرة؛ وإنما ترى أن الزواج المبكتر يعوق
المرأة، ومن ثَمَّ فهي تطالب برفع سن الزواج وتحريم الزواج المبكر. ولا ترد
كلمة (الوالدين) إلا مصحوبة بعبارة (أو كل من تقع عليه مسؤولية الأطفال
مسؤولية قانونية) في إشارة إلى مختلف أنواع الأسر المثلية، ولا تستخدم الوثيقة
عبارة الزوج وإنما الشريك أو الزميل.
وتخاطب وثيقة بكين المرأة الفرد وليست المرأة التي هي نواة الأسرة، ولذا
فالمرأة العاملة هي المرأة المعتبرة؛ أمَّا المرأة العاملة داخل البيت ربة الأسرة فيُنظر
إليها باعتبارها متخلفة وخارج السياق الدولي الجديد؛ لأنها لا تمارس عملاً بمقابل،
ولأنها ربطت نفسها بالزوج والأولاد والأسرة، ولذا فعبارة: (الأمومة) وردت
حوالي ست مرات؛ بينما كلمة: (جندر) جاءت ستين مرة، وجاءت كلمة (جنس)
في مواضع كثيرة. إن وثيقة بكين التي أصبحت (مقررات بكين) ووقعت عليها 180 دولة هي أساس المرجعية الكونية البديلة والتي أشارت بوضوح إلى أن الدين
يقف عائقاً أمام تحقيق هذه المقررات، ولذا ناشدت المقرراتُ المؤسساتِ الدينيةَ لكي
تساعد على تحويل مقررات مؤتمر بكين إلى واقع أي أن تصبح المؤسسات الدينية
أحد أدوات المرجعية الكونية الجديدة التي يتبناها النظام العالمي ويسعى لفرضها
على العالم. وهنا لا بد من تأمُّل دور بعض المؤسسات الدينية الإسلامية في
الموافقة على تمرير المطالب التي تفرضها الأجندة الدولية مثل حق الزوجة في
السفر بدون إذن الزوج وكذا الأولاد القُصَّر بما في ذلك البنات. والمثير أن تستخدم
الوثيقة كلمة (المساواة) للتعبير عن إزالة الاختلافات بين الرجل والمرأة، وتستخدم
(التنمية) للتعبير عن الحرية الجنسية والانفلات الأخلاقي، وتستخدم كلمة (السلم)
لمطالبة الحكومات بخفض نفقاتها العسكرية وتحويل الإنفاق إلى خطط التخريب
والتدمير للأيديولوجية النسوية الجديدة؛ حيث تلزم مقررات بكين الحكومات المحلية
بتنفيذ الأهداف الاستراتيجية للنظام العالمي الجديد فيما يتصل بإقرار الأيديولوجية
النسوية الجديدة، وذلك بمساعدة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هذه هي المفردات الجديدة، والمقررات التي يسعى النظام العالمي الجديد
لفرضها أيديولوجية كونية على العالم. وبالطبع فإنه يستهدف من وراء ذلك ضرب
مواطن القوة في الحضارات المختلفة معه.
وبالنسبة للحضارة الإسلامية فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس
ونظاماً لحياتهم خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر
والثقافة والاعتقاد وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب؛ إذ إن المسلمين يمثلون
ملياراً وربع مليار نسمة، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام
العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية
والثقافية وللهوية، ولذا لا بد من تسديد الضرب إلى الصميم للقضاء على الهوية
الإسلامية وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي
من السقوط والانهيار، ولذا فإن الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي
إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً
جديداً وأدوات جديدة؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة.
إن الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة هم المقصودون بالهجمة
العالمية الجديدة وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد؛
وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ؛ فإن وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا
بكلمة: (مسلمين) اسماً وفعلاً؛ وإلاَّ فالاستبدال كما قال تعالى: [وإن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [محمد: 38] .
__________
(1) الدعوة لتخصيص مقاعد للنساء في البرلمانات هو عنوان لندوة تقوم بها جمعية تنمية الديمقراطية ومسألة المشاركة السياسية للمرأة هي أحد بنود الأجندة الدولية، والتي قد تشهد تدخلاً لفرض نسبة مقاعد للنساء في الانتخابات العامة.
(2) يواجه العالم الغربي في أوروبا حالة من العقم؛ حيث أدى الانحلال الأخلاقي والشذوذ إلى عدم تعويض الأجيال العجوز بأجيال جديدة من المواليد كما أن مؤسسة الأسرة تواجه الانقراض هناك؛ حيث ترتفع نسب الطلاق والامتناع عن الزواج، كما ترتفع نسبة الأولاد غير الشرعيين، وترتفع نسب الإلحاد، والمثير أن ذلك كله يتناسب تناسباً طردياً في حالة الدول ذات الوضع الرفاهي الأعلى، وفي أمريكا حيث يتمرد المهاجرون من آسيا والشرق الأوسط ودول أمريكا اللاتينية على برامج تنظيم الأسرة وهو ما يحافظ على إبطاء شيخوخة المجتمع الأمريكي، وبالنظر إلى الأرقام التي تنفقها أمريكا على الانحلال الأخلاقي نصاب بالدهشة؛ فهي تقدم ما مجموعه 600 مليار دولار في عام 2020م لتبني الأطفال غير الشرعيين، وتقديمُ المساعدات العائلية والطبية سوف ترتفع إلى تريليون دولار عام 2030م، وأظن أن الدمار الذي أصاب الغرب يريد أن يشاركه فيه العالم كله خاصة المسلمين كالزانية التي تود أن لو صار الجميع مثلها.(150/36)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
لكي لا نسقط في الهاوية
عبد الله أحمد ناصر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد أخفق العلمانيون في محاولتهم إقناع الأمة بأفكارهم، واستمروا على
اختلاف اتجاهاتهم شراذم قليلة معزولة لا تمت إلى عامة الأمة بِصِلَةٍ، وبعد فترة
طويلة اتجهوا إلى تطوير استراتيجيتهم؛ فمن محاولة التأثير على الأفكار إلى
محاولة تغيير السلوك والأخلاق وتفكيك الأسرة وإفساد المجتمع وطمس هويته من
داخله، والقيام بتفريغ عقول الأمة من قيمها وإغراقها بالشهوات من دون ضابط
شرعي أو حاجز أخلاقي.
والمتأمل في واقع الأمة اليوم يلمس نجاحًا كبيرًا تحقق للقوم في هذا الاتجاه،
وكان المدخل الكبير والباب العريض الذي ولجوا منه إلى ذلك هو التأثير على
المرأة دفاعًا عن حريتها وإرجاعًا لحقوقها المهدرة فيما زعموا.
ويعود هذا النجاح إلى أسباب عديدة يمكن إجمالها في جوانب ثلاثة:
الأول: أسباب تعود إلى المرأة والمجتمع، وأهمها:
- الجهل المفرط في أوساط كثير من النساء بقيم الإسلام وأحكامه ومقاصده،
وقد زاد من خطورة هذا الأمر عمليات التشويه التي يمارسها العلمانيون تجاه
التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة عن طريق تناولها بشكل مجزأ يجعلها بعيدة
عن التشريعات التي وردت في سياقها، مع إغفال متعمد لبيان مقاصد الإسلام من
تشريعها؛ بهدف إظهار قصورها وتجاوز العصر لها ووقوفها حجر عثرة في طريق
نيل المرأة لحريتها وحقوقها.
- ظاهرة ضعف الإيمان لدى كثير من النساء نتيجة عدم قيام المؤسسات
التربوية في المجتمعات الإسلامية بالدور المنوط بها تجاه هذا الأمر، وتركها الحبل
على الغارب لصواحب السوء وذوي الشهوات ليقوموا عبر الوسائل المختلفة
بالسيطرة على عقل المرأة ومشاعرها ومن ثَمَّ تحديد اتجاهاتها وتوجيه ميولها حسب
ما يشتهون.
- غفلة كثير من النساء عن حقيقة رسالتهن في الحياة، والدور المنوط بهن
في بناء الأمة وصيانتها من عوامل الزيغ والانحراف.
- قيام بعض النساء المترفات بتبني دعوات العلمانيين، وبروزهن واجهة لكثير من الأنشطة المقامة، وتوفيرهن للدعم المعنوي، والمادي الذي تحتاجه بعض
الأنشطة، إضافة إلى تغريرهن بقطاع عريض من النساء اللاتي جرت العادة بقيامهن بتقليد مترفات المجتمع وكبرياته لعظم جهلهن وضعف إيمانهن.
- أن جزءًا كبيرًا من المحافظة الظاهرة لدى كثيرات يعود إلى أعراف قبلية
وتقاليد اجتماعية متوافقة مع الشرع دون أن يكون لها بعدٌ إيماني في نفوس
كثيرات، ومن المعلوم أن الأعراف والتقاليد ليس لها طابع الثبات بل هي قابلة للتبدل بمرور الوقت خصوصًا متى تغيرت أوضاع المجتمع: علمًا وجهلاً، غنىً وفقرًا، انفتاحًا وانغلاقًا، ويتسارع هذا التغير حين توجد جهات تخطط للتغيير وتستخدم سبلاً ملتوية تحتفي فيها بالقديم إذا احتفت معتبرة إياه تراثًا لعصر
مضى، وتلمِّع فيها ما تريد نشره وتجعله من متطلبات التقدم وعلامات
الرقي والنهضة.
- الانحراف العام والانحطاط الشامل الذي أصاب المجتمع المسلم في كثير من
جوانب الحياة المختلفة، والذي بدوره كان له أكبر الأثر في ضعف كثير من النساء
وقيامهن بالتفاعل مع الطروحات العلمانية بشكل ظاهر.
الثاني: أسباب تعود إلى العلمانيين، وأهمها:
- عملهم بهدوء وبأساليب خافتة حرصًا على عدم الدخول في مواجهات
مكشوفة، وسعيهم إلى تحقيق أغراضهم المشبوهة عن طريق لافتات وشعارات
مقبولة، مع الحرص على الاستفادة بأقصى مدى ممكن من بعض أهل العلم وبعض
المحسوبين على الدعوة لقبول أعمالهم من قِبَل العامة وتسويغها أمامهم شرعًا من
جهة، ولإحداث شرخ في صفوف العلماء والدعاة من جهة أخرى.
- استفادتهم من مرحلة الضعف والهوان التي تمر بها الأمة، ومن قوة الغرب
النصراني - حيث يرتبطون به ويعملون على تحقيق مصالحه بصورة فجة -
والذي يضغط بقوة في سبيل فرض حضارته وهيمنة قيمه وشيوع سلوكياته في
المنطقة تحت مسميات مختلفة كالعولمة والديموقراطية ودعاوى حقوق الإنسان
وحرية المرأة وحرية الاعتقاد إلى آخر القائمة.
- إبرازهم لصور الظلم التي تقع على المرأة في مجتمعاتنا، واتخاذها
موضوعاً ومدخلاً للحديث عنها بهدف تحقيق مآربهم وإشاعة السلوكيات والأخلاق
التي يروجون لها ويدعون النساء إلى تطبيقها.
- العمل على زعزعة الثقة بين العلماء والدعاة من جهة والمرأة من جهة
أخرى بهدف إيجاد فجوة بينها وبين الدين، وذلك عن طريق وصمهم لأهل العلم
والدعوة بالتخلف والجمود وعدم عيش الواقع وإدراك متطلبات العصر والوقوف
حجر عثرة في طريق نهضة المرأة ورقيها، والتسبب في صور الظلم الحاصلة
عليها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.
استهواء المرأة وإغرائها وتزيين ما يشتهون لها عن طريق الاستفادة من
بعض الخصائص التي تتمتع بها إجمالاً كقوة العاطفة وسرعة التأثر وضعف الخبرة
في مجريات الحياة ومكائدها، وحب التزين والرغبة في الترفيه.
- تحسين صورتهم لدى المرأة وكسب ثقتها عن طريق إقامة بعض المؤسسات
الطوعية التي تقدم بعض الأنشطة الاجتماعية، والجمعيات التي ترفع عقيرتها
بالمطالبة بحقوق المرأة وإنصاف المجتمع لها.
- الاستفادة من الخلاف الفقهي وشذوذات بعض أهل العلم في بعض المسائل
الشرعية المتعلقة بالمرأة في محاولة إيجاد مسوغات شرعية لما يدعون المرأة إليه
عن طريق التلفيق بين تلك الآراء والأخذ من كل عالم فتواه التي تخدم أهواءهم،
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سعيهم إلى الاستفادة من ذلك في تشويه صورة
بعض أهل العلم والدعوة، وزعزعة الثقة بينهم وبين المرأة عن طريق ضرب آراء
بعض أهل العلم ببعض، ووصم أصحاب الاجتهادات التي لا تتوافق مع أهوائهم
بالتشدد والجمود وإرادة التعسير على المرأة وكبتها والتضييق عليها.
- التدرج في تحقيق أهدافهم؛ فمن المطالبة بحقوق مشروعة هي من صميم
قيم الإسلام وتعاليمه إلى مزج ذلك بحقوق تتناقض مع قيم الإسلام إلى العمل على
إحلال قيم الغرب وتقاليده محل قيم الأمة وتقاليدها ومطالبة أفراد المجتمع بتغيير
هويتهم للوصول إلى الوضع المرتجى لهم.
- سعيهم إلى الفصل بين ما يزعمون أنه الدين الصحيح الذي يرفعون شعار
التمسك به والدفاع عنه، وبين العلماء والدعاة الذين يزعم العلمانيون بأن دعوتهم
للمرأة ليست من الدين الصحيح في شيء وإنما هي مجرد تشدد وتحكم في المرأة
بأمر لا أصل له في الدين.
- تضخيم أخطاء العلماء والدعاة ونسبة بعض الشنائع زوراً إليهم، والاستفادة
من ذلك في عملية التشويه وزيادة الفجوة بينهم وبين بعض نساء المجتمع، وفي
المقابل تضخيم العلمانيين لأعمالهم والمنكرات التي يروجونها لتضخيم وزنهم في
المجتمع، ولتصوير أن جل النساء معهم، ولتيئيس العلماء والدعاة من إمكانية
الإصلاح.
الثالث: أسباب تعود إلى العلماء والدعاة، وأهمها:
- ضعف مستوى الجهود والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وقلتها
وعدم كفايتها لسد احتياج الساحة، وذلك يعود في ظني إلى قلة الاهتمام وضعف
عملية التخطيط وتشتت الأفكار والجهود وعدم التركيز مما أدى إلى عدم استثمار
الطاقات بصورة مرضية.
- عدم وجود طروحات متكاملة لقضية المرأة والقيام بطرح النظرة الشرعية
مجزأة مما يفقدها قيمتها ويظهرها في كثير من الأحيان بأنها غير صالحة للتطبيق؛
لأنها تتصادم مع جوانب من الواقع المعاش؛ علماً بأن الواقع السيئ للمرأة يرجع
إلى عدم أخذها بالتوجيه الشرعي في كافة جوانبه.
- مجاملة بعض العلماء والدعاة للواقع السيئ، ومحاولتهم التعايش مع رغبات
بعض أفراد المجتمع المتجهة نحو التغريب، وقيامهم بإصدار الفتاوى المتسقة مع
ذلك.
- الرتابة والتقليدية في جل البرامج والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة
للمرأة، وعدم وجود إبداع أو تجديد فيها مما أدى إلى ضعف التفاعل معها وقلة
الإقبال عليها من كثير من النساء.
- عدم أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا والأحداث، والتفاعل حسب
ردود الأفعال دون أن يكون هناك مشاركة في صنعها أو تأثير في تحديد اتجاهها في
غالب الأحيان، وهو مما أفرغ الساحة الاجتماعية أمام العلمانيين، ومكنهم من فعل
ما يحلو لهم تخطيطًا وتنفيذًا وتوجيهًا وقطفًا للثمار بما يخدم مصالحهم ويحقق
أغراضهم.
- عدم بيان أهل العلم والدعوة لدائرة المباح المتعلق بالمرأة بشكل جيد،
وأخذهم لها بالأمثل عن طريق طرحهم للأفكار وتبنيهم للحلول المثلى في كثير من
المواقف والقضايا بطريقة يفهم منها بأنها الطرح الشرعي الوحيد في الجانب
المتناول.
وقضية الأخذ بالأمثل من الأمور التي لا يطيقها سوى قلة من الصالحات، أما
غيرهن من نساء الأمة فقد وسَّع الله عليهن بما أباحه لهن، وواجب العلماء بيانه،
وعدم التثريب على من أخذت به ما دامت لم تتعد حدود الله ولم تنتهك محارمه.
- عدم مراعاة بعض الدعاة لتعدد الفتوى ووجود خلاف بين أهل العلم في
بعض المسائل الاجتهادية، وقيامهم بمحاولة إلزام المرأة برأي معين مع أنها ليست
مكلفة شرعاً إلا بتقليد الأوثق لديها في دينه من أهل العلم لا صاحب رأي أو بلد
بعينه.
- حساسية بعض الدعاة المفرطة في التعامل مع المرأة وقضاياها، وانغلاقهم
الشديد الذي يمنعهم في أحيان كثيرة من تناول الأمور بموضوعية؛ مما جعل الأمور
تتجاوزهم بشكل أدى إلى انفتاح صارخ غير منضبط.
- الخلط بين الأعراف والتقاليد والمنهج، وعدم تمييز بعض العلماء والدعاة
بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة والمبنية على نصوص الشرع وقواعده وبين
آرائهم التي تكون مبنية على أعراف وتقاليد اجتماعية، ولا ريب في أن لهم الحق
كغيرهم من أبناء المجتمع في أن يتخذوا ما يشاؤون من مواقف تجاه أعراف
المجتمع وتقاليده التي لا تتعارض مع الشرع، وأن يحاولوا إقناع من يشاؤون
بمواقفهم تلك كما يحاول غيرهم، لكن الواجب عليهم إيضاح أن تلك الآراء مردها
إلى العرف والتقاليد من غير محاولة إلباسها لباساً شرعياً متكلَّفاً فيه، وأن لكل أحد
أن يتخذ الموقف الذي يشاء ما دام رأيه غير متعارض مع الشرع، وهذا بخلاف
الأحكام الشرعية الثابتة التي يجب على الناس التزامها كل حسب وسعه وطاقته.
- التعميم: بعض من الدعاة يقومون بمحاربة المشاريع والأنشطة النسوية
التي تتضمن بعض المخالفات الشرعية في المجتمع بشكل مطلق بدل محاولة مد
جسور التفاهم والثقة مع أصحاب تلك المشاريع وتنمية جوانب الخير لديهم، والقيام
بترشيد مناشطهم وتوجيهها الوجهة السليمة، مما يدفع القائمين عليها من ذوي النفوذ
ورجال الأعمال في أكثر الأوقات إلى استخدام كافة ما يملكون من أوراق لمضي
الأمر على ما يريدون.
- هيمنة الأعراف والتقاليد وخوف بعض الدعاة من تجاوزها؛ إلى جانب
إغفال بعض المناشط الملائمة للمرأة التي أثبتت نجاحها في مجتمعات أخرى وفسح
المجال أمام العلمانيين ليسدوا الفراغ الذي تعاني منه نساء المجتمع من خلال
البرامج والأنشطة التي يقيمونها.
- عدم إدراك كثير من العلماء والدعاة لطبيعة التحول الذي حصل في عقلية
النساء وسلوكياتهن واحتياجاتهن في وقتنا وحجم ذلك، واستصحابهم لواقع المجتمع
في زمن ماض، أو تعميمهم لواقع بيئاتهم الخاصة على البيئة العامة مما جعلهم لا
يشعرون بأهمية إعطاء دعوة المرأة أولوية ومزيد عناية.
- إغفال العناية بالجوانب التي فطر الله المرأة على الاهتمام بها كأمر الزينة
والجمال، والأمور التي لكثير من النساء تعلق قوي بها في وقتنا كالترفيه بحيث لم
يتم تقديم برامج ومشاريع حيوية مباحة في هذا المجال تسد حاجة المرأة وتقطع
الطريق على العلمانيين الذين يكثرون من الولوج إلى المرأة عبر هذه البوابة ولا
يجدون أدنى منافسة من العلماء والدعاة حيالها.
- ضعف الرصد والمتابعة لجهود العلمانيين وأنشطتهم مع عدم المعرفة بكثير
من أعمالهم إلا بعد وقوعها مما يؤخر من مواجهتها ويجعل العلماء والدعاة يتعاملون
مع آثارها ويتناسون في الغالب أهدافها والأسباب التي هُيِّئت لنجاحها وشجعت القوم
على المضي فيها.
- ضعف كثير من العلماء والدعاة في بناء العلاقات وتكوين الصلات والقيام
بواجبهتم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مما هيأ الفرصة للعلمانيين لكسب
كثير من ذوي النفوذ ومثقفي المجتمع ورجال الأعمال لخدمة طروحاتهم ودعم
مشاريعهم مع أنهم ليسوا منهم.
الانفصام لدى بعض الدعاة بين النظرية والتطبيق في التعامل مع المرأة
فبينما يوجد لدى جلهم إدراك نظري جيد لما يجب أن تكون عليه الأمور، نجد
ممارسة سيئة لدى كثيرين تمشياً مع الأوضاع البيئية ورغبة في الراحة وعدم
المعاناة في مواجهة شيء من ذلك.
كيف ندافع العلمانيين؟
تعد النجاحات التي حققها العلمانيون في مجال المرأة ثمرة التقصير والغفلة
التي عانى منها قطاع كبير من العلماء والدعاة وتيار الصحوة، وعليه فإن المدخل
الصحيح للمدافعة يقتضي استشعار الخطر وإدراك ضخامة المسؤولية والتفكير
بموضوعية والتنفيذ بجدية للخطوات المراد تحويلها إلى واقع، وما لم يتم ذلك فإن
الخطر سيستفحل والخرق سيتسع على الراقع، ولن يجدي عندها كثير من خطوات
الحل المؤثرة والمتاحة الآن.
وقبل أن أتطرق إلى ذكر بعض السبل التي يمكن بواسطتها مدافعة القوم وكبح
جماحهم أو التخفيف من شرهم، لا بد من ذكر بعض القواعد والمنطلقات التي لا بد
من استيعابها قبل الدخول في مواجهة معهم، ومنها:
- لا بد من التوكل التام على الله وصدق اللجوء إليه والاستعانة به والتضرع
بين يديه وطلب عونه وتسديده مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وذلك لأن من
ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له كما قال تعالى: [إن ينصركم
الله فلا غالب لكم] [آل عمران: 160] .
- الاعتناء بالوضوح الإسلامي في الطرح، والمطالبة بجلاء لكافة أفراد
المجتمع بتحقيق العبودية الحقة لله تعالى والانقياد التام له والتسليم لشرعه وعدم
الخروج عن أمره والتأكيد على الدعاة بعدم إخفاء حقيقة دعوتهم في طروحاتهم سعياً
في استصلاح جوانب الانحراف في المجتمع، وإقامةً للحجة على العباد وإبراءاً
للذمة أمام الله تعالى.
الحذر من التفلت الشرعي الذي يقع فيه بعض الدعاة أثناء طروحاتهم عن
المرأة، ومع إدراك أن الدافع لبعضهم قد يكون الحرص على الدعوة والسعي إلى
تقريب الكثيرات إلى الإسلام؛ إلا أنه قد فاتهم تذكُّر أن الانضباط بالشرع شرط
لصحة العمل وأن الغاية مهما كانت شريفة لا تسوِّغ الوسيلة، وأن الباري عز وجل
لا يُتقرب إليه بمعصيته ومخالفة أمره بل بطاعته وامتثال شرعه.
- التوجه إلى التخطيط الجاد والمتكامل في دعوة المرأة وتربيتها، والمبني
على إدراك عميق للماضي ومعايشة للحاضر واستشراف للمستقبل، وترك الارتجال
والعفوية وسطحية التفكير والتنبه إلى أن ذلك وإن قُبِلَ في أزمنة ماضية فإنه غير
مقبول بحال اليوم نظراً لضخامة الاستهداف للمرأة والعمق في التخطيط والدقة في
التنفيذ لدى العلمانيين، والحذر من أن ينشغل العلماء والدعاة بردود الأفعال تجاه
قضايا وأحداث جزئية يصنعها العلمانيون تتصف بالإثارة والهامشية على حساب
قضايا جوهرية سواء في جهة البناء والتربية أم في جهة مواجهة القوم ودفع
أخطارهم.
- العمل على طرح مبادرات إصلاحية جذرية تتسم بالعمق والشمول
والواقعية بدلاً من الحلول الترقيعية وتجزئة القضايا بشكل يمكن العلمانيين من
التلاعب بالأمر والمزايدة فيه بالدعوة إلى إصلاحات جزئية هامشية لها بريق تستغل
في تخدير فئات كثيرة من المجتمع وتحييدهم عن الوقوف في صف العلماء والدعاة
والذين يسعون إلى القيام بإجراء إصلاحات جوهرية في القضايا والمجالات
الأساسية.
- الاعتناء بالقيام بإجراء تقييم شامل لأنشطة الدعاة، وبرامجهم المختلفة
والموجهة إلى المرأة، ومراجعتها من حيث الكم والكيف، ويتأكد ذلك اليوم نظراً
لتغير الاحتياجات وتبدل الأحوال وتطور الإمكانات، وما لم يتم ذلك وتهيأ له
الفرص الكفيلة بالنجاح فإن الزمن سيتجاوز أنشطة الدعاة وبرامجهم، ويجعلهم كمن
يوصل الرسائل بين البلدان عبر الأقدام، والدواب في زمن الأقمار الصناعية
والإنترنت.
- توحيد الصفوف ولمّ الجهود وسعة الصدر لرأي أهل العلم الأثبات المخالف
في مسائل الاجتهاد، والتطاوع فيما لا إثم فيه، والمحاورة بالتي هي أحسن،
وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم، ومغفرة زلاتهم، والتجاوز عن
هفواتهم ... من أهم المهمات التي على العلماء والدعاة العناية بها؛ لأن الاختلاف
شر والفرقة عذاب، وتضرر الدعوة من كون بأسها بينها وعدوها من داخلها أعظم
عليها جداً من تربص أعدائها بها وكيدهم لها.
إدراك الدعاة لحقيقة الوضع وأنهم في صراع مع قوم ينتمون إلى جهات تريد
اجتثاث قيم الإسلام وأخلاقياته وإحلال قيم وأخلاقيات حضارة أخرى تناقضها
مكانها، وعليه فالواجب عليهم طول النفَس وبعد النظر ومحاسبة الذات وإدراك صعوبة الطريق وأن الهدم أسهل من البناء وتهيئة النفْس لتحمل الهزيمة والمواصلة بعدها لأن العاقبة للمتقين، ومعرفة أن الانتصار الحقيقي يكمن في الثبات على
المبدأ، أما شيوع المبدأ فالداعية يسعى له ويجد في سبيل ذلك، ولكن ليس من
شأنه تحققه، وله أسوة بالأنبياء عليهم السلام إذ قتل بعضهم وطرد آخرون، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي ومعه سواد كثير قد سد الأفق.
- أهمية أن تتجه برامج الدعاة إلى تربية كافة شرائح النساء في المجتمع
والبناء الصحيح لشخصياتهن وبخاصة تلك التي لم تؤثر فيها طروحات العلمانيين
بعدُ، أو أن تأثيرهم محدود فيها، وأن تشتمل تلك البرامج على جرعات تحصينية
ضد أساليب العلمانيين في الطرح، وذلك لأن الوقاية خير من العلاج وما استدفع
الشر بمثل الاستعاذة بالله منه، والتعرف عليه للحذر من التلبس به.
- الإقرار بوقوع صور متعددة من الظلم الواقع على المرأة في مجتمعاتنا
بسبب الجهل بالشرع وعدم تطبيقه، وهو ما يجب إفهامه للمرأة التي يريد
العلمانيون تشويه صورة الإسلام في ذهنها، والإسلام لا يتحمل نتاج البعد عنه.
- الاعتناء بتحلي صغار شباب الصحوة بصفات الحكمة والصبر والحلم
والروية وعدم الاستعجال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتعامل مع الأحداث
بعقل لا بعاطفة مجردة، ومشاورة أهل العلم والخبرة في سبل مدافعة العلمانيين حتى
لا تُجَر الصحوة إلى مواقف غير محمودة العواقب، وبخاصة أنه لا توجد لدى
(القوم) أي معايير أخلاقية تمنعهم من فعل أي شيء في سبيل تحقيق أغراضهم
ومآربهم.
إقامة تعاون إيجابي في المجالات الدعوية والتربوية بين البيئات والمناطق
المختلفة يتم بواسطته تبادل الأفكار والخبرات، والبدء في البرامج المختلفة من
حيث انتهى الآخرون، وهذا ولا شك سيشجع على مزيد انطلاق، ويوسع دائرة
الاختيار أمام الدعاة ويمنع من هدر الطاقات والإمكانات في إقامة برامج ثبت إخفاقها
متى امتلك الدعاة الشجاعة الأدبية للتراجع عن أنشطتهم ذات العائد الدعوي
والتربوي الأقل، وتجاوز المألوف مما لا بعد شرعياً له وتحمل الضغوط البيئية
الناتجة عن ذلك.
سبل المدافعة:
السبل المقترحة لمدافعة العلمانيين في مجال المرأة كثيرة، ومن أبرزها:
أولاً: سبل تتعلق بالمرأة والمجتمع ومن أبرزها:
العناية بتأهيل المرأة وبناء شخصيتها بناءاً متكاملاً في كافة الجوانب التي
تحتاجها ومن أبرز ذلك:
أ- تعميق قضية الهوية والانتماء لهذا الدين لديها وتوضيح مقتضيات ذلك
ولوازمه كوجوب المحبة الكاملة لله، والانقياد التام لشرعه فيما وافق هوى العبد
وفيما خالفه، (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) [1] .
ب - تجلية رسالة المرأة المسلمة في الحياة والدور المنوط بها في عصرنا في
سبيل نهضة الأمة ورقيها واستعادتها لعزتها، والسبل المعينة لها على أداء ذلك.
ج - العناية بالجوانب الإيمانية، والعبادية لدى المرأة، وتزويدها بالعلم
الشرعي، وبخاصة فيما تحتاج إليه ولا يسعها جهله في مراحل حياتها المختلفة.
د - رفع مستوى ثقافة المرأة وتحبيبها بالقراءة وتدريبها على ممارسة التثقيف
الذاتي والاستفادة من الوسائل التقنية المتاحة في ذلك.
هـ - رفع مستوى وعي المرأة وإدراكها لواقعها والتغيرات الضخمة الحاصلة
فيه، وما يحاك ضد الأمة عموماً والمرأة خصوصاً من مخططات تهدف إلى إبعادها
عن دينها، وتهميش دورها في الحياة بشكل يجعلها تعيش في عزلة شعورية عن
حاضرها.
و الرقي باهتمامات المرأة وتعميقها وإبعادها عن السطحية، وتعويدها على
الجدية وترتيب الأولويات وعدم الانشغال بالترهات والتوافه.
- تقرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، نحو: كون الأصل قرارها في
البيت، والتزام الحجاب، وعدم إبداء الزينة والتبرج تبرج الجاهلية الأولى،
ودعوة المرأة إلى التزامها.
- رصد المشكلات التي تعاني المرأة منها في كافة الجوانب المختلفة،
والسعي إلى تلافيها والتقليل من نتائجها السلبية.
- العناية بوقت المرأة وشغله بالمفيد واقتراح السبل الملائمة لتحقيق ذلك [2] .
- تقوية البناء الأسري وبخاصة في المجال الدعوي؛ إذ إن للدعوة العائلية
أهمية فائقة في تعليم المرأة دينها وتحصينها ضد طروحات العلمانيين ومكائدهم.
- تفعيل دور المرأة في مواجهة مخططات العلمنة؛ الساعية لإفسادها،
وتشجيعها على القيام بدعوة بنات جنسها؛ لأنها الأعرف بمجتمعاتهن والأكثر تأثيراً
فيهن والأقدر على الاتصال بهن والبيان لهن فيما يخصهن، مع أهمية العناية
بجانب التحفيز لها وإيجاد الدوافع لديها لمواصلة نشاطها الدعوي حتى لا تفتر أو
تصاب باليأس والإحباط نتيجة طول المسير ومشقته [3] .
- مطالبة النساء بالعناية ببيئاتهن الخاصة أزواجاً وأولاداً والقيام بالدور
المنشود منهن في استصلاحها وإمدادهن بالوسائل والآليات والسبل المناسبة،
وخاصة فيما تجهله المرأة مما يناسب في خطابها للرجال من محارمها؛ لأنهن
الأكثر دراية بها، والأقدر على توجيهها والتأثير فيها متى استخدمن الحكمة. تفعيل
دور الصالحات في المجتمع وإفساح المجال وفتح القنوات والميادين الملائمة أمامهن، ومحاولة إعداد بعض المتميزات علماً وتفكيراً وسلوكاً ثم إبرازهن بصفتهن قدوات
لنساء المجتمع.
- توعية المجتمع بأهمية دور المرأة في نهضة الأمة ورقيها، ومطالبة أفراده
بمؤازرتها والتواصي برفع صور الظلم المختلفة عنها والموجودة في بعض البيئات، وترك اللامبالاة والغفلة والتهميش للمرأة الذي يقع فيه بعض الأفراد، اقتداءاً بنبينا
صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المرأة.
ثانياً: سبل تتعلق بمجابهة العلمانيين، ومن أهمها:
- إبانة أهداف العلمانيين والتي من أبرزها:
أ - التشكيك بالأصول وإزاحة ثوابت الأمة العقدية وأسسها الفكرية والسلوكية
وإحلال حضارة الغرب وقيمه مكانها.
ب - إخراج المرأة عن العبودية لله عز وجل والاستمساك بشرعه، وجعلها
مجرد متاع في مسارح الرذيلة وملاهي الخنا ووسائل الإعلان وأوراق الصحف
والمجلات وشاشات التلفزة والقنوات الفضائية.
ج - الدعوة إلى التفلت الديني والفوضى الاجتماعية تحت مسمى الحرية
والمساواة.
د - إيضاح أن حقيقة الحقوق المزعومة التي يطالبون بإعطائها للمرأة حق
الإلحاد والزنا والعري والحمل السفاح والشذوذ الجنسي سالكين طريقة التلميع
للوسائل والتزوير للحقائق والإظهار للباطل بمظهر أخاذ.
- تتبع العلمانيين وكشف تاريخهم ودراسة إنتاجهم الفكري ورصد أنشطتهم
ووزنها بميزان الشرع وإبانة ما فيها مما يتناقض مع ثوابت الأمة والسعي إلى
زعزعتها لكي يتم فضح القوم، وكشف انعزالهم عن قيم الإسلام وحضارته،
وارتباطهم خدمة وتربية وفكراً وسلوكاً بجهات خارجية معادية تسعى إلى استئصال
هوية الأمة وإحلال قيمها مكانها، وذلك من شأنه أن يمكن العلماء والدعاة من نقل
الطرف الآخر من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.
- تتبع مداخلهم النفسية وأنشطتهم الجاذبة لكثير من النساء والعمل على الحد
منها والتخفيف من آثارها وإيجاد بدائل إسلامية عنها.
- العمل على استمالة القريبين فيهم من الحق ودعوتهم والعمل على كسبهم
إلى جانب الموقف الشرعي الصحيح.
- تحديد الشبهات التي يثيرونها حول النظام الإسلامي في مجال المرأة مما
يتخذونه وسيلة لتشكيك المرأة في دينها وزعزة عقيدتها، والقيام بتفنيدها [4]
والإثبات عقلاً وواقعاً - أن النظام الإسلامي هو الطريق الأمثل لحماية المرأة من
الظلم وصيانة المجتمع من الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه.
- بيان حقيقة واقع المرأة في الغرب وكشف ضخامة الأمراض والمشكلات
التي تواجهها على كافة الأصعدة [5] ، وفي ذلك أعظم تعرية للعلمانيين والذين
يطالبون المرأة في مجتمعاتنا بمحاكاة المرأة الغربية والسير على منوالها إن هي
أرادت سلوك طريق التقدم والمضي في دروب الحضارة كما زعموا.
ثالثاً: سبل تتعلق بالعلماء والدعاة، ومن أهمها:
-إدراك الواقع إدراكاً جيداً وتحليل جوانب القوة والضعف لدى الطرفين [6] ،
والاستفادة من ذلك في تحديد أهداف المرحلة والسبل المثلى للمدافعة. إبانة حقيقة
النظام الإسلامي في معاملة المرأة، وتجلية محاسنه وإزالة الشبهات التي تثار حوله؛
لأنه لن يدحض الظلام إلا النور كما قال تعالى: [وقل جاء الحق وزهق الباطل
إن الباطل كان زهوقا] [الإسراء: 18] .
- إيضاح الاختلاف الجذري بين النظام الإسلامي وواقع المجتمعات الغربية،
والذي من أبرزه:
أ - أن الأسرة في النظام الإسلامي تعد اللبنة الأولى في تكوين المجتمع؛
بينما يعد الفرد في الغرب هو الركيزة الأساس.
ب - أن العلاقة بين الجنسين في النظام الإسلامي علاقة تكامل وتلاحم
وحرص من كلا الطرفين على مصالح الآخر كحرصه على مصالحه، وطبيعة
العلاقة في كثير من أرجاء الغرب اليوم قائمة على التنافس والتنافر بين الجنسين
وحرص كل من الطرفين وبخاصة المرأة التي تشعر بالاستضعاف على فرض
هيمنته على الآخر.
ج - أن النظام الإسلامي يعطي المرأة حقوقها الشرعية كاملة وفي المقابل
يطالبها بالقيام بالواجبات الشرعية التي يفرضها عليها والتي لا تقوم الحياة السوية
إلا بها، وفي الغرب نجد أن كثيراً منهم يتبعهم العلمانيون في بلداننا يوهمون المرأة
بسعيهم لإعطائها حقوقاً هي في واقع الأمر بوابتهم الرئيسة لاستعبادها واستخدامها
استخداماً جسدياً قذراً بعيداً عن مراعاة متطلبات روح المرأة وعقلها وقيم المجتمع
وأخلاقياته.
- إقامة لجان ومراكز أبحاث مهمتها العناية بالجوانب الإعلامية وإبراز جهود
العلماء والدعاة أفراداً ومؤسسات في قطاع المرأة عموماً والأسرة خصوصاً في
الجوانب المختلفة: العلمية، الاجتماعية والصحية، وإعداد المعلومات
والإحصائيات عنها، ونشر ذلك بشكل دوري عبر وسائل الإعلام لإظهار ضخامة
الجهد المبذول وضآلة ما يقوم به العلمانيون مقارنة بها.
- العناية بالنساء في البيئات الخاصة بالدعاة تعليماً وتربية؛ نظراً لإمكانية
التأثير القوي والاتصال المباشر لكي يتم تلافي الإهمال غير المتعمد لها الناتج عن
الانشغال بالبيئة الخارجية وإبراز قدوات نسائية للمرأة ذات عمق في التفكير وجدية
في الاهتمامات وقوة في الأخذ بالإسلام.
- تفعيل دور العلماء والواجهات الاجتماعية الخيرة ذكوراً وإناثاً وكافة أفراد
المجتمع ومطالبتهم بالقيام بالدور المنشود منهم في مواجهة طروحات العلمانيين ودفع
خطرهم، استفادةً منهم من جهة وتوسيعاً لدائرة المعركة من جهة أخرى بدلاً من
جعلها كما يريد العلمانيون بينهم وبين الدعاة فقط.
- زيادة المناشط الدعوية والاجتماعية، وتحسينها، والاعتناء بتناول
الموضوعات المختلفة التي تحتاجها المرأة مع الحرص على التجديد في الأساليب
والإبداع في الوسائل لضمان تفاعل المرأة معها بشكل أكبر.
- توثيق الصلة بالمثقفين ورجال الأعمال ومد الجسور معهم لترشيد أعمالهم
من جهة والحيلولة دون أن تكون عوناً للعلمانيين على إفساد المرأة من جهة أخرى،
وللتنسيق معهم في اقتحام مجالات جديدة تحتاجها المرأة كصناعة الترويح والملابس
ونحوها وفق الضوابط الشرعية.
- توسيع دائرة الانفتاح الدعوي على كافة مجتمعات النساء: ملتزمات وغير
ملتزمات، مثقفات وعاميات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات، وأخوات
وبنات، وعدم قصر النشاط على فئة دون أخرى.
- اقتحام ميادين وقنوات دعوية جديدة في مجال المرأة، ومن أهم ذلك:
أ - قيام العلماء والدعاة بإنشاء جمعيات تنادي بالحقوق الشرعية للمرأة؛
لقطع الطريق على العلمانيين الذين يَلِجُون من هذا الباب لتحقيق مآربهم.
ب -إقامة مراكز أبحاث نسوية خاصة بشؤون المرأة.
ج - إنشاء مؤسسات إنتاج ودور نشر متخصصة بقضايا المرأة ودعوتها.
العمل على تغيير هيكلة تعليم المرأة؛ ليناسب وضعية المرأة، ورسالتها في
الحياة، والسعي لتطوير المناهج وفتح التخصصات التي تساعدها على القيام
بدورها الأساس المنوط بها زوجةً وأماً ومربية.
وختاماً:
فلا بد من إدراك أن الخطب جسيم، ويحتاج إلى استعانة صادقة
بالله تعالى وعمل جاد، وتضافر قوي لكافة جهود المخلصين؛ وإلا فإن العاقبة ستكون
وخيمة، والمصير غير محمود، وعندها سيهيئ الله لدينه جيلاً ينصره، ويقوم بأمره
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) تاريخ بغداد للخطيب: 4/963، شرح السنة للبغوي: 1/312، وصححه النووي في الأربعين واستبعد ذلك جداً ابن رجب في جامع العلوم والحكم: 2/493، وقال الحافظ في الفتح: 31/203: (أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات) .
(2) من الأمور الهامة التي ينبغي تحريض المرأة على ممارستها: العبادة والذكر، مدارسة القرآن والأحاديث النبوية، القراءة المبرمجة، الاستماع إلى الأشرطة النافعة، إدارة المشاريع النسوية التعليمية والاجتماعية ودعمها، التعرف على الأرامل والأسر المحتاجة ومساعدتها، تعلم الأعمال المهنية والأنشطتة الملائمة من خياطة وحاسوب وأشغال فنية ومسائل الأمومة والاهتمام بالطفل ونحو ذلك.
(3) من أهم الحوافز التي ينبغي العناية بها: بيان ما أعد الله للداعين للهدى، وإيجاد الشعور بالتحدي ببيان ضخامة الاستهداف العلماني الموجه للمرأة، وذكر نماذج متميزة لبعض داعيات الحق وأخرى لداعيات الضلال.
(4) من أبرز الجوانب التي يكثر القوم من الطعن فيها: أحكام التعدد والميراث والحجاب والخلوة والاختلاط، ومسائل القوامة والولاية والطلاق.
(5) من الأمور التي لا بد للدعاة من الحديث عنها في هذا المجال: نسب العفة والزواج والطلاق والأولاد غير الشرعيين والخيانة الزوجية في الغرب، ومشكلات العنوسة والخروج عن الفطرة والتحرش بالمرأة والأمراض الجنسية والنفسية والتفكك الأسري وواقع الأبناء بعد خروج المرأة للعمل والمعاناة التي تلقاها الفتاة حتى تتزوج هناك، ومسائل النفقة والمعاملة التي تلقاها المرأة الغربية في أطوار حياتها المختلفة: أماً وأختاً وابنةً وزوجةً ومسنةً، متزوجة ومطلقة وأرملة.
(6) من أبرز جوانب قوة العلماء والدعاة: جلاء الحق الذي يدعون إليه، وعمق انتمائهم إليه، والعاطفة في المجتمع نحو الدين، وكراهية أفراده لأعدائه والعاملين لحساب جهات خارجية تريد تقويضه، والعودة الصادقة لكثيرات من نساء المجتمع نحو الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً.(150/42)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
وقفات حول..
الخطاب الدعوي في قضية المرأة
محمد بن عبد الله الدويش
إن الحديث عن تقويم الخطاب الدعوي في قضية المرأة يحتاج إلى دراسة
علمية واسعة تعتمد على حصر النتاج الذي يتناول قضية المرأة وتحليل مضمونه
تحليلاً علمياً؛ وهذا مشروع علمي يحتاج إلى جهد واسع، ولعله أن يكون ميدان
اهتمام بعض المختصين.
ورغبة في الإسهام في هذا الملف الذي تنشره المجلة أحببت أن أسطر بعض
الوقفات السريعة التي لا تعدو أن تكون خواطر وانطباعات شخصية أكثر منها
دراسة علمية موضوعية.
الوقفة الأولى: لماذا يُعنى الدعاة بقضية المرأة؟
يعد موضوع المرأة من الموضوعات الساخنة والحيوية لدى الدعاة إلى الله عز
وجل، وقلما نجد مناسبة للحديث والكتابة إلا وتتضمن شيئاً يتعلق بالمرأة، ولعل
الذي أدى إلى أهمية قضية المرأة لدى الدعاة إلى الله عز وجل أمور، منها:
الأمر الأول: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته؛ فقد كان يولي
المرأة عناية واهتماماً؛ فكان صلى الله عليه وسلم حين يصلي العيد يتجه إلى النساء
فيعظهن ويأمرهن بالصدقة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرجت مع
النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء
فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن بالصدقة) [1] .
ولم يقتصر الأمر على استثمار اللقاءات العابرة، بل خصص لهن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يحدثهن فيه؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
(قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من
نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة
تقدِّم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار. فقالت امرأة: واثنتين، فقال: واثنتين) [2] .
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من فتنة النساء، وأخبر أنها
من أشد ما يخشاه على أمته، فقال: (ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال
من النساء) [3] .
ومن ثم كان لا بد من الاعتناء بذلك، سواء فيما يتعلق بدعوة المرأة
وإصلاحها، أو التحذير من فتنة النساء وخطورتها.
الأمر الثالث: أن لصلاح المرأة واستقامتها الأثر البالغ على صلاح الأسرة؛
فهي الأم والمربية؛ والشباب والفتيات إنما ينشؤون في أحضانها، فلا غنى لنا حين
نريد تكوين الأسرة المسلمة عن الاعتناء بدعوة المرأة وإصلاحها.
الأمر الرابع: أن دعاة التغريب قد تبنوا قضية المرأة ورفعوا لواءها،
وولجوا جحر الضب الذي ولجه الأعداء، وهي دعوة محمومة وصوت نشاز يرفعه
هؤلاء الببغاوات في وقت بدأ يعلن فيه عقلاء الغرب والشرق التراجع عما
يطرحونه في قضية المرأة، فبدؤوا يدعون إلى فصل التعليم، ويدعو بعضهم إلى
الحجاب، وإلى عودة المرأة إلى منزلها ... ومع ذلك يسير هؤلاء الأذناب كالقطيع
يريدون أن يبدؤوا من حيث بدأ هؤلاء.
الوقفة الثانية: منجزات الصحوة في قضية المرأة:
حين نتحدث عن الخطاب الدعوي في قضية المرأة فإن العدل والإنصاف
يستوجب علينا أن نذكر المنجزات والنتائج الإيجابية التي حققها الدعاة إلى الله عز
وجل. وليس صحيحاً أن تكون اللغة الوحيدة التي نجيدها هي لغة النقد وتعداد
الأخطاء.
فمن المنجزات التي حققها الدعاة إلى الله تعالى في قضية المرأة:
1 - تأخر دعوة التغريب والتحرر، ولولا فضل الله عز وجل ثم جهود الدعاة
للحقت تلك البلاد بسائر بلاد المسلمين.
2 - تغيرت لغة دعاة التغريب والعلمنة، وباتوا أقل جرأة منذ بداية
الدعوة لتحرير المرأة، فأصبحنا نسمع كثيراً في حديثهم التمسح بعبارات (في
إطار الشريعة السمحة) (فيما لا يتعارض مع شريعتنا وتقاليدنا) ، وندرك أن ذلك لا
يعني تغير الموقف، لكنه شاهد على أثر الدعوة والصحوة الإسلامية.
3 - الصحوة والعودة إلى الله التي تحققت في أوساط المرأة، ولعل من أبرز
الشواهد على ذلك انتشار الحجاب في البلاد التي كانت سباقة في دعوات التحرر؛
ففي جامعة كانت سباقة في دعوة التحرر في إحدى العواصم لم يكن يوجد إلا طالبة
واحدة محجبة، واليوم انتشر في تلك الجامعة وغيرها الحجاب حتى فاق النصف،
ولعل ما حصل في تركيا التي كانت أول من رفع لواء العلمنة والتغريب في العالم
الإسلامي من ضجة حول الحجاب دليل على ما حققته الصحوة في هذا الميدان.
4 - بروز قيادات دعوية نسائية لها حضور واضح ومتميز في الساحة
الدعوية.
5 - بروز أنشطة دعوية نسائية، كالمجلات النسائية، ودور تحفيظ القرآن
الكريم ومدارسه.
ومع هذا الجهد إلا أن العمل البشري لا بد أن تصاحبه ثغرات وقصور،
وحين تتجذر القضية وتتعقد عواملها تتسع هذه الثغرات، فنحتاج للمراجعة النقدية
لواقعنا بين آونة وأخرى.
الوقفة الثالثة: حول محتوى الخطاب الدعوي:
يلمس القارئ لهذا الخطاب سمات من أهمها:
أ - الدائرة العامة والخاصة:
يغلب على كثير من المتحدثين إلى المرأة التركيز على قضايا محددة
وتكرارها، حتى أصبحت مَنْ تحضر مجلساً من هذه المجالس تتوقع ألا تسمع إلاحديثاً حول الحجاب وبالأخص حول بعض مظاهر التحايل عليه أو الخروج إلى الأسواق، أو طاعة الزوج ... إلخ، وهي قضايا لا اعتراض على طرحها ومناقشتها والتأكيد عليها، ولا اعتراض على أنها مما تحتاجه النساء اليوم؛ لكن هذا أخذ أكبر من حجمه، وأصبح على حساب أمور أخرى ربما كانت أكثر منه أهمية، بل ربما كان إصلاحها يختصر علينا خطوات كثيرة.
إن هناك أحكاماً وآداباً شرعية خاصة بالنساء دون الرجال، وما سوى ذلك
فالأصل أن الخطاب فيه للجميع، والدائرة التي يشترك فيها الرجال والنساء أوسع
بكثير من الدائرة التي تختص بها النساء، لكن المتحدث إلى المرأة غالباً ما يحصر
نفسه في الدائرة الخاصة شعوراً منه بخصوصية المخاطبين.
إن الحديث عن الإيمان والتقوى والتوكل على الله والتخلص من التعلق بما
سواه، والحديث عن العبادات وأهميتها، والحديث عن أخطار المعاصي وآثارها،
والحديث عن الآداب والحقوق التي ينبغي للمسلم رعايتها، والحديث عن اليوم
الآخر وما أعد الله فيه للمطيعين والعصاة، والحديث عن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والنصيحة وأهمية ذلك ووسائله، وطلب العلم والوسائل المعينة على
تحقيقه، والحديث عن واقع الأمة ومسؤولية المسلمين تجاهه، فضلاً عن التربية
وأهميتها ووسائلها وبرامجها؛ إن الحديث عن ذلك كله مما تفتقر إليه المرأة شأنها
شأن الرجل، فلماذا يغيب ذلك في خطابنا الدعوي الموجه للمرأة؟ !
ب - الخطاب الموجه لغير المهتديات:
لئن كانت الفتيات المهتديات، واللاتي يرتَدْنَ المساجد ودور القرآن الكريم
يناسبهن خطاب معين، فالأخريات لهن شأن غير ذلك. إن الفتاة التي تعيش في
عالم التيه والضياع، والفتاة التي تعيش همَّ الحب والعلاقة مع الطرف الآخر،
والتي تعيش بين المسلسلات والقنوات الفضائية تحتاج لخطاب غير الذي تحتاجه
المهتدية الصالحة.
فحين يكون الحديث معها دائراً حول الحجاب وخطورة التساهل فيه، وحول
أحكام خروج المرأة ... إلخ فإنها تشعر أنها لن تسمع جديداً، لن تسمع إلا الحديث
حول الأحكام والحلال والحرام، وفرق بين أن لا نقرها على هذا التصور والكلام،
وبين أن نتعامل مع الأمر الواقع بما لا يتعارض مع الشرع.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحدِّث الناس بما يناسبهم وما يفقهون؛ فالأعراب
يدعوهم للإسلام من خلال إعطائهم المال وترغيبهم فيه، وعدي بن حاتم يحدثه عن
الأمن الذي سينشأ حينما يدين الناس بدين الإسلام، والكاهن يحدثه بحديث بيِّن
فصيح بعيد عن الكهانة ... وهكذا.
فلِمَ لا يكون الحديث مع أمثال هؤلاء حديثاً عن السعادة والطمأنينة؟ حديثاً عن
القلق والمشكلات التي سيطرت على الناس اليوم، وأن العلاج لذلك هو الإيمان
والرجوع إلى الله؟ لِمَ لا نستعين بنتائج الدراسات المعاصرة التي تثبت أثر التدين
على استقرار حياة الناس وتجاوز مشكلاتهم؟ ولِمَ لا نتناول الحديث عن اليوم الآخر
ونربط ذلك بواقع الناس بطريقة تخاطب مشاعرهم وعواطفهم وعقولهم.. إلخ.
ج - أهمية شمول الطرح والمعالجة:
لا بد من تناول قضية المرأة تناولاً شمولياً، وأخذ الأمر من جميع جوانبه
دون الاستجابة لتناول دعاة التغريب لجوانب معينة يحددونها ويريدون أن تكون هي
موضع النقاش والحوار، كقضية قيادة السيارة، أو غطاء الوجه أو نحو ذلك؛
وهي قضايا ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً، فقضية قيادة السيارة ترتبط بالخروج من
المنزل، واتساع مجالات التعرض للفتنة والإغراء، وترتبط بالحجاب ... وهكذا.
وكثيراً ما يطرح هؤلاء مسائل مما ورد فيها اختلاف فقهي، كقضية كشف
الوجه ونحوها وبغض النظر عن عدم جدية هؤلاء فيما يطرحونه، وأن مسألة
الخلاف الفقهي إنما هي تكأة أكثر من أن تكون منطلقاً حقيقياً فرفض الدعاة لها لا
ينبغي أن ينطلق من منطلق الترجيح الفقهي فقط، بل من النظر إليها باعتبارها
جزءاً من منظومة ودائرة متكاملة لا يمكن فصل جزئياتها عن بعض.
إن الأمر يختلف حين تناقش هذه المسائل لدى الفقهاء، وحين يثيرها طائفة
من دعاة تحرير المرأة، فلا يسوغ أن نتحدث مع هؤلاء بلغة الخلاف الفقهي
المجرد.
د - مناصرة المرأة وتبني قضاياها:
إن مما رفع أسهم دعاة التحرير والتغريب لدى الناس وأوجد لأقوالهم صدى
وقبولاً: انطلاقهم من مبدأ نصرة قضية المرأة والدفاع عن حقوقها؛ وبالفعل فإنهم
أحياناً ينتقدون بعض الأوضاع الخاطئة للمرأة في المجتمع.
والدعاة إلى الله تبارك وتعالى هم أوْلى الناس بنصرة قضية المرأة والدفاع عن
حقوقها المشروعة، وانتقاد الظلم الذي ينالها، ومن ذلك: حقها في حسن الرعاية
والعشرة؛ فبعض الأزواج يسيء معاملة زوجته ويهينها، وربما تعامل معها على
أنها خادم، أو سلعة، أو شيء دنس. ومن ذلك: الأوضاع الخاطئة والعادات
المخالفة للشرع في تزويجها، كالمغالاة في المهر، واعتباره ميداناً للكسب المادي،
وأخذ والدها لكثير من مهرها الذي هو حق لها، ومن ذلك العَضْلُ وتأخير تزويجها
طمعاً في الاستفادة من راتبها حين تكون عاملة.
والدعاة حين يسعون لمناصرة قضايا المرأة والدفاع عنها لهم أسوة حسنة
بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد اعتنى بعلاج ما يقع من خطأ تجاه المرأة؛ فعن
سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، فذكر في الحديث
قصة فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراًَ؛ فإنما هن عوانٍ عندكم، ليس تملكون
منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة؛ فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع
واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً. ألا إن لكم
على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً؛ فأما حقكم على نسائكم فلا يوطِئن فُرُشَكم
من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا
إليهن في كسوتهن وطعامهن) [4] .
وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا تضربوا إماء الله) [5] فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: ذَئِرْنَ [6] النساء على أزواجهن؛ فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول
الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكين أزواجهن ليس أولئك
بخياركم) [7] .
والاعتناء بهذا الجانب يبرز الدعاة إلى الله بأنهم الأنصار الحقيقيون للمرأة،
وهم المدافعون عن قضيتها.
هـ - مجالات التركيز في الدعوة والخطاب:
لا بد من مراجعة هادئة لمجالات التركيز في دعوة المرأة وخطابها، ومن
الأمور المهمة التي تحكم التركيز في خطاب المرأة:
1 - الأمور الأشد مصادمة للأصول الشرعية تكون لها الأولوية في المعالجة
سواء كانت هذه المصادمة مباشرة أو غير مباشرة بل نتيجة المآلات.
2 - الفئات الأشد تأثراً، ولعل فئات الفتيات اللاتي في مراحل التعليم هن
أكثر الفئات تأثراً واستعداداً للتجاوب مع التغيير سلباً وإيجاباً، فالاعتناء بهذه الطبقة
وتوجيه الخطاب المناسب لها، والسعي لاستثارة همم من يتعامل معهن من الآباء
والمعلمات أمر ينبغي أن يحظى بأولوية واعتبار.
3 - المتغيرات السلبية الحديثة والطارئة تستحق تركيزاً أكثر من غيرها؛
لأنها لم تستقر في المجتمع ولم تنتشر؛ فمن السهولة مواجهتها، وتركها قد يفتح
المجال واسعاً أمام انتشارها في المجتمع وتقبُّله لها، وانتقالها من مرحلة الحالات
الفردية إلى أن تكون ظاهرة، ثم تتطور إلى أن تصبح قيمة اجتماعية يصعب
تغييرها.
4 - الجوانب المخالفة للشرع في حالها أو مآلها والتي يراد قطع خطوات
عملية لإقرارها وتنفيذها؛ فالتصدي لها ومواجهتها أمر ينبغي أن يكون له أولوية،
حتى لو قدمت على ما هو أهم منها مما لم يأخذ طريقه للتنفيذ.
الوقفة الرابعة: حول منهجية الخطاب وتتمثل في:
أ - تأصيل مبدأ التسليم:
لا بد من الاعتناء بتأصيل مبدأ التسليم والخضوع لله تبارك وتعالى والوقوف
عند شرعه، والتأكيد على ذلك، وأن المسلم لا خيار له في التسليم لأمر الله سواء
أدرك الحكمة أم لم يدركها [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً
أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] ، [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
[النساء: 65] .
وحين نُعنى بتحقيق الإيمان والتسليم لله عز وجل فإننا نختصر خطوات كثيرة
على أنفسنا، وتؤتي دعوتنا ثمارها بإذن الله عز وجل.
وينبغي أن نحذر مما تسعى إليه بعض وسائل الإعلام المضللة التي تعقد
حوارات حول القضايا الشرعية، فتجعل الحكم الشرعي رأياً آخر، ووجهة نظر
قابلة للنقاش، وهي الخطوة الأولى التي يريدها دعاة التغريب والعلمنة.
ب - الاعتماد على المنهج العلمي:
مما نحتاجه عند تناولنا لقضية المرأة أن نتحدث حديثاً علمياً يحترم عقول
الناس وتفكيرهم، فلم يعد الناس اليوم يقبلون أن يملي عليهم أحد كائناً من كان آراءه
واقتناعاته الشخصية.
فحين نتحدث عن أن خروج المرأة للعمل يؤثر على رعاية منزلها وتربية
أولادها فإننا نحتاج إلى أن نستشهد على صحة ما نقول بالدراسات العلمية التي
أثبتت ذلك، وحين نتحدث عن صلة الاختلاط وخروج المرأة بالجريمة، وحين
نتحدث عن أثر العفاف والمحافظة على الاستقرار والنجاح في العلاقات الزوجية ...
إلخ نحتاج في ذلك كله إلى أن ندعم ما نقوله بالأدلة العلمية، وبنتائج الدراسات
المتخصصة.
ولدينا اليوم رصيد من الدراسات العلمية لا يزال حبيس الرفوف؛ فالاستفادة
منه وتوظيفه أمر له أهميته، يضاف إلى ذلك ضرورة إجراء دراسات علمية حول
كثير من القضايا التي يُحتاج إليها، وينبغي استثمار مراكز البحوث، وأعضاء هيئة
التدريس في الجامعات، وربما كانت هذه الدراسات الجادة أوْلى مما يطرح في
الساحة من كتب وكتيبات لا تزيد على بضعة نُقُول من كتابات قديمة [8] .
ج - التفريق بين العادات والأحكام الشرعية:
ترتبط العادات ارتباطاً وثيقاً بقضية المرأة؛ إذ لا يخلو مجتمع من المجتمعات
من عادات تختص بهذا الجانب؛ ولأن معظم العادات القبلية في المجتمعات
الإسلامية تتسم بقدر من المحافظة، فقد يختلط الأمر لدى بعض الغيورين فيخلطون
بين عادات تواضع عليها المجتمع وأصبحت جزءاً من ثقافته، وبين الأحكام
الشرعية؛ فيصرون على الإبقاء على هذه العادات والمنافحة عنها، وقد لا يكون
لها أصل في الشرع.
والأمر في ذلك يحتاج إلى الاعتدال؛ فالعادات التي ليس لها أصل من الشرع
لا ينبغي الإصرار على التمسك بها والمنافحة عنها، فضلاً عن ربطها بالشرع،
وفي المقابل لا ينبغي الإصرار على تحطيمها ونبذها بحجة أنها مما لم يأت بها
الشرع، فما كان منها حسناً فليبق عليه، وما كان سيئاً فليترك.
د - الاعتناء بالضوابط الشرعية والحذر من تجاوزها:
لما كانت فتنة المرأة من أشد الفتن وأضرها أحاطها الشرع بالضوابط والأحكام
التي تقلل من تأثيرها.
لذا فلا بد من الاعتناء بهذه الضوابط والالتزام بها، فقد يدفع حرص بعض
الدعاة على نشر الدعوة وتوسيع نطاقها إلى السعي للتخفف من هذه الضوابط
وتجاوزها.
وقد يكون الأمر ناشئاً عن ردة فعل تجاه ما يطرحه الآخر ويَصِمُ به
الإسلاميين؛ فيبالغ بعض الدعاة في التحرر من الضوابط الشرعية، وربما يشن
هجوماً غير متزن على أولئك الذين يلتزمون بها.
إنه ليس من المقبول أن يبالغ أحد الدعاة في انتقاد فصل الرجال عن النساء
في المؤتمرات والمنتديات الدعوية، أو يطلب أن تقدمه إلى الجمهور امرأة وتتولى
قراءة الأسئلة، أو أن تصبح قضية فصل مصلى الرجال عن النساء من أكبر ما
يتصدى لإنكاره في بلد يقطع خطوات حثيثة نحو التغريب وتحرير المرأة!
الوقفة الخامسة: الموقف من دعاة التغريب والتحرر، ويتمثل ذلك في
الآتي:
أ - التفريق بين من يتناولون قضية المرأة:
لقد حمل لواء الدعوة إلى تحرر المرأة وتغريب المجتمع المسلم طائفة من
رجال التيار العلماني، وسعوا بمكر ودهاء لسلوك أي طريق يمكن أن يوصلهم إلى
أهدافهم المشبوهة، ولأن هؤلاء يسلكون أساليب ملتوية في طرح أفكارهم،
ويتظاهرون بالدفاع عن قضية المرأة والسعي لإعطائها حقوقها المسلوبة فقد سايرهم
في ذلك طائفة من الكتاب والصحفيين والمثقفين ممن لا يحمل التوجه والفكر
العلماني، إنما هم من المتأثرين بما يطرحه أولئك، وكثيراً ما يطرح المتأثرون بهم
قضايا تتفق مع ما يسعى إليه أولئك.
فينبغي عند تناول القضية والحديث عن المخالفين ألا نحشر الجميع في زاوية
واحدة ودائرة واحدة؛ ففرق بين من يساير هؤلاء فيما يطرحون وبين من يحمل
الفكر والتوجه العلماني.
ولقد فرق السلف بين أهل البدع، فأهل الأهواء والزندقة ليسوا كمن عرف
عنه إرادة الخير وتحريه لكنه وافق بعض أهل البدع في بدعتهم، والداعية إلى
البدعة المنافح عنها ليس كغيره، وأصحاب البدع المكفرة ليسوا كمن دونهم من
أصحاب البدع المفسقة.
ب - البعد عن الحديث عن النوايا:
إن الحق يجب أن يقال، والباطل يجب أن يواجه ويبين للناس؛ لكن ثمة
فرق بين بيان الحق والرد على المبطل، وبين الحكم على صاحبه؛ فنحن في
أحيان كثيرة نشن انتقاداً لاذعاً لكل من يطرح طرحاً مخالفاً في قضية المرأة
وغيرها، ولا نقف عند هذا الحد، بل نتهم الكاتب والمتحدث بسوء النية، وخبث
الطوية ... إلخ.
فليكن النقاش منصبّاً على الفكرة وعلى الموضوع، أما رموز التيار العلماني،
ومن يحمل فكراً سيئاً فهؤلاء ينبغي أن يُفضحوا بالطريقة المناسبة ليس من خلال
كتاب أو مقال واحد، بل من خلال رصد واسع لتوجهاتهم وأفكارهم، وأن يكون
ذلك بطريقة تقنع الناس.
ج - النقد العلمي الموضوعي:
حين يتناول هؤلاء قضية المرأة أو غيرها فإنهم يُدبِّجون حديثهم بحجج
ومسوغات تضفي عليه صبغة الموضوعية والحياد العلمي، وكثيراً ما يوظفون
نتائج البحث العلمي توظيفاً مضلِّلاً.
والملاحَظ أن كثيراً من ردود الدعاة على هؤلاء تتسم بالتشنج والعاطفة،
وتأخذ منحى الحكم على الأشخاص، والحديث عن المؤامرات التي تحاك على
المرأة، ويتجاهلون النقاش العلمي الموضوعي لما يطرحه أولئك من مسوِّغات.
وهذا الطرح إن أقنع فئات من المتأثرين بالدعاة، فإنه لن يقنع فئات أخرى
ممن يعني الدعاة إقناعهم، بل ربما أسهم في إقناعهم بوجهة نظر الآخر.
إن الدعاة أحوج ما يكونون إلى إتقان لغة الحوار، والحديث العلمي
الموضوعي، وإلى أن يدركوا أن مجرد كونهم ناصحين غيورين لن يجعل الناس
منصتين لهم ينتظرون ما يطرحونه ويتلقونه بالتسليم والقبول.
الوقفة السادسة: لا بد من الاعتناء بالبناء والإعداد:
ينبغي الاعتناء بالبناء والإعداد، وألا تكون مواقفنا مجرد ردود أفعال لما
يثيره الأعداء؛ فحين تثار قضية نتفاعل معها، ونكثر الحديث حولها وننسى ما
سواها، ومن ثم تصبح دعوتنا مجرد انعكاس لما يثيره ويطرحه دعاة التغريب
والتحرر.
ومع أن هذا لا يعني إهمال القيام بواجب الإنكار وبيان الموقف الشرعي في
القضايا التي تثار، وأن ذلك ينبغي أن يكون في وقته، إنما الاعتراض على أن
يكون هذا هو وحده محور الحديث ومنطلقه.
والحديث الناشئ عن ردة الفعل سيتحكم في مضمونه ومحتواه ما يطرحه
ويثيره الآخر، ومن ثم فلن يكون متكاملاً أو متوازناً في تناوله للقضية.
الوقفة السابعة: لا بد من التركيز على البرامج العملية:
لا يسوغ أن يبقى جهد الدعاة منحصراً في إطار الخطاب النظري وحده، بل
لا بد من الانطلاق إلى برامج عملية ومن هذه البرامج المهمة:
أ - الاعتناء بتربية الفتيات وتنشئتهن، وهذا يتطلب من الدعاة إلى الله أن
يعتنوا ببيوتهم ويعطوها من أوقاتهم.
ب - الاعتناء بإعداد برامج ومناهج تربوية تتفق مع طبيعة المرأة بحيث
تكون متاحة للجميع ليستفيدوا منها.
ج - نظراً لطبيعة المرأة وقلة الفرص المتاحة لها لتلقِّي التربية والتوجيه في
مقابل ما هو متاح للشباب، فإن هذا يستلزم الاعتناء بإيجاد محاضن للمرأة تتلقى
فيها التربية والتوجيه، كدور القرآن ومدارسه، وأن تُطَوَّر هذه المحاضن ويُرتَقَى
بها، وأن تتضافر في ذلك الجهود ولا يكون الأمر مختصاً بفئة يسيرة من
المهتمين.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 579، ومسلم، ح/ 488 مطولاً.
(2) رواه البخاري، ح/ 201، ومسلم، ح/ 4362.
(3) رواه البخاري، ح/ 6905، ومسلم، ح/ 0472.
(4) رواه الترمذي، ح/ 3611، وابن ماجه، ح/ 1581.
(5) رواه أبو داود، ح/ 4381.
(6) ذَئِرْنَ: أي نفرن ونشزن واجترأن (لسان العرب) .
(7) رواه أبو داود، ح/ 6412، وابن ماجه، ح/ 5891، والدارمي، ح/ 9122.
(8) كثير من الكتابات في قضية المرأة مصادرها كتاب: المرأة بين الفقه والقانون، أو غيره مما قد مضى عليه ثلاثة عقود.(150/52)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
المؤسسات الدعوية النسائية
الواقع والتطلعات
د. رقية بنت محمد المحارب
أتناول في هذه الورقات موضوعاً أحسب أنه غاية في الأهمية في هذا الوقت
يتعلق بإقامة مؤسسات دعوية نسائية متخصصة تعتني بكل الجوانب المهمة في حياة
المرأة المسلمة أينما وجدت. وتعتبر الصفحات الآتية محاولة للفت الانتباه إلى أهمية
الموضوع أكثر من كونها دراسة مستوفية لكل الجوانب المتعلقة به، وكلي أمل أن
يتبع هذه المحاولة كتابات أعمق تتناول زوايا مهمة نحتاج إلى تجليتها وبيانها.
تمهيد:
أتساءل أيها الإخوة والأخوات عن مستقبل المرأة المتوقع خلال الزمن القادم،
وماذا أُعِدَّ من جهود لمواجهة المستجدات القادمة فيما يخص المرأة بالتحديد؟ وماذا
نعرف عن رموز التحرر النسائية والرجالية من أمثال: نازك العابد، ودرية
شفيق، وهدى شعراوي، وملك حفني ناصف، وفاطمة اليوسف، ونوال السعداوي، وجرجي زيدان، ورفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين؟ بل ماذا نعرف عن الدور الكبير الذي تلعبه الأمم المتحدة في مجال الأسرة؟ وماذا عن منظمة التجارة العالمية وتداعياتها فيما يختص بالشؤون الاجتماعية؟ وماذا تحقق على أرض الواقع في كل بلد إسلامي نتيجة المؤتمرات الدولية عن الطفولة والأمومة أو عن المرأة؟ وماذا لدينا من معلومات عما تواجهه المرأة في الخليج والمغرب العربي وغيرها من مناطق العالم الإسلامي؟ وما هي الهموم والتطلعات التي تراود بنات المسلمين؟
وما مدى تأثير وسائل الإعلام، والظروف الاقتصادية على تنشئة الفتاة ونموها
الثقافي والنفسي والاجتماعي؟ وماذا عن عالم الطفل والمشروعات التي تُناقَش الآن
تنفيذاً لتوصيات المؤتمرات الدولية لنزع ولاية والديه عنه نتيجة العنف الذي
يتعرض له في بلاد الغرب، وما مدى فداحة الوضع في البلاد الإسلامية؟ ثم ما مدى
موافقة هذه التشريعات للمقاصد الشرعية؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير لا يمكن أن تفي صفحات كثيرة بمجرد سردها بَلْهَ
الدخولَ في كل قضية بتفصيلها.
وكنا ولا زلنا نعيش بشكل كبير في دائرة ردود الأفعال؛ فالحدث يصنع بيد
غيرنا، والمبادرات الموجهة لصرف المرأة عن دينها تقام على مدار الساعة؛ فهذه
مجلاَّت تؤصِّل التمرد على شرع الله، وهذه دراسات أكاديمية تظهر أرقاماً وتخفي
أخرى في محاولة لإثبات أن عمل المرأة في بيتها مثلاً خسارة للاقتصاد الوطني،
وهذا ملف عن المرأة يردد مقولات الحركات النسائية الغربية ويصف عصر
الصحوة بأنه عصر الانتكاسة ويصف عصر السفور بأنه عصر التقدم [1] وهكذا
في سلسلة متنامية.
إن الجهود الدعوية المبذولة على صعيد المرأة تحاول بقدر المستطاع تقديم
رؤية شرعية، ولكنها تظل تتسم غالباً بردة الفعل وبالتكرار أحياناً، وبفقدان
الشمولية والتكامل والقلة، كما أنها تفتقر بشكل ملموس وملاحظ إلى المعلومة الدقيقة
والإحصائيات، وبالإضافة إلى ذلك فإنها لا تتميز بطول النفس في الاستقصاء
والمتابعة؛ وهذه طبيعة الجهود الفردية وضخامة المهمة.
والمرأة المسلمة وهي تواجه كل هذه التحديات المعاصرة تحتاج إلى من يعينها
على الصمود ويأخذ بيدها إلى بر الأمان، وتحتاج بشكل خاص إلى عمل مؤسسي
متخصص علمي وتربوي واجتماعي وثقافي واقتصادي. ومن شأن هذه المؤسسات
المتخصصة ونحن في عصر التخصص أن تساهم مساهمة جليلة في توفير الحصانة
الفكرية والعقدية، وفي البناء التربوي الإيماني والدعوي للمرأة، وإيجاد محاضن
تربوية تخرج لمجتمعات المسلمين المرأة التقية المثقفة الفاعلة؛ بحيث تُكَوِّن أعني
هذه المؤسسات رافداً مهماً لأهل التربية في مهماتهم، ولأهل الإعلام في جهودهم؛
وعلاوة على ذلك تكون رأياً عاماً مستنداً على الدليل الشرعي والتحليل المنطلق من
الذاتية الثقافية في انفتاح على الصالح من ثقافة الآخر؛ إذ الحكمة ضالة المؤمن أنَّى
وجدها فهو أحق بها. كما أن وجود هذه المؤسسات المتخصصة سوف يفتح آفاقاً
للباحثين والباحثات في شؤون المرأة والأسرة الذين يعانون أشد المعاناة من ندرة
مصادر المعلومات، وتبعثر المراجع العلمية وغياب الرصد الإعلامي المتخصص،
وعدم وضوح القضايا الملحة التي تحتاج إلى جهود علمية لتحرير الموقف الشرعي.
وبعد هذه المقدمة الموجزة أتساءل: لماذا لم توجد مثل هذه المؤسسات الدعوية
النسائية؟ ثم ما هو المطلوب منها بقدر من التفصيل؟ وما هي آفاق العطاء
المنتظر؟ وما هي العوائق التي قد تحول دون قيام هذه المؤسسات؟ ثم أخيراً دعوة
إلى إخواني وأخواتي لإبداء آرائهم حول هذا الموضوع ونقده.
أسباب غياب مؤسسات دعوية نسائية متخصصة:
قبل أن أورد جملة من الأسباب التي أرى أنها مسوِّغات لعدم وجود مثل هذه
الهيئات النسائية أحب أن أشير إلى أنه ليس المقصود أن يكون القائمون على هذه
المؤسسات الدعوية بالضرورة نساء، بل إن الهدف هو توجيه الاهتمام إلى كل ما
يتعلق بالمرأة من أمور على سبيل الاختصاص، كما أنه من المهم الإشارة إلى أنني
أقر بوجود جهود كثيرة بحمد الله مهتمة بهذه القضية منذ زمن، سواء كان ذلك من
خلال الفروع النسائية لبعض الجمعيات الدعوية في العالم الإسلامي أو أفراد
تخصصوا في الكتابة؛ ولكنني أعتقد أن الجميع يتفق معي في أنها لم تصل إلى
مستوى الهيئات المتخصصة التي تعتبر ذات مرجعية في قضايا المرأة. وعلى
سبيل المثال فإننا لا نجد مركز بحوث متخصصاً يُعنى بقضية الأسرة من وجهة
النظر الشرعية ويغطي كافة جوانبها. وأذكر هنا بعض الأسباب التي أدت إلى
افتقار الساحة الدعوية لهذه المراكز المهمة:
1 - حداثة سن الصحوة إن صح التعبير وضخامة المهمات المنوطة بها؛
فخلال الأربعين سنة الماضية شهدت مناطق العالم الإسلامي أحداثاً كبرى، فأصبح
العالم الإسلامي ينوء بالتبعات والرواسب على مختلف الأصعدة التي خلفها
الاستعمار الذي عمل بكل جهده على استنزاف المنطقة اقتصادياً وثقافياً، وهذا
انعكس على وضع المرأة في تربيتها ودعوتها.
2 - عدم القناعة لدى قطاع من الدعاة والمربين بأهمية العناية بقضايا الدعوة
في أوساط النساء، ولا تزال هذه القناعة موجودة إلى يومنا هذا وإن كانت في
طريقها إن شاء الله إلى الزوال.
3 - سلامة البنية الأساسية للأسرة المسلمة في كثير من بلاد العالم الإسلامي؛
فمؤسسة الزواج لا زالت محترمة رغم الدعوات المحمومة إلى اعتبار الزواج
العرفي مشروعاً! ! ولا زالت قيمة العناية بالوالدين عظيمة عند السواد الأعظم من
المسلمين، والنظرة الإيجابية للأبناء وضرورة تربيتهم التربية الصالحة.
4 - ضعف الموارد المالية للمؤسسات الدعوية مما أدى إلى تأخير تنفيذ كثير
من مشروعات التوعية، ووجود أولويات في قائمة الاهتمامات لدى هذه الجهات.
5 - ندرة الطاقات النسائية القادرة على المطالبة بإنشاء هذه المؤسسات،
وضعف تكوينهن الثقافي والتربوي مما نتج عنه فراغ كبير استطاع الاستعمار من
خلاله تبني بعض القيادات النسائية وتقديمهن للمجتمع على أساس أنهن مناضلات؛
كما حدث في المغرب أثناء المظاهرات التي رُمي فيها الحجاب في الشارع احتجاجاً
على المستعمر الفرنسي وكأنه هو الذي طالب به، وكما حصل أيضاً في مصر في
المظاهرة المشهورة ضد الإنجليز، وتذكر عائشة بلعربي [2] أن الفرنسيين اهتموا
بالمرأة منذ منتصف القرن التاسع عشر! ! فأسسوا ثلاثة أنواع من المراكز:
أحدها: للأسرة والطفل، والثاني: للطبقة العاملة، والثالث: في الأرياف لخدمة المرأة القروية. والهدف هو بالتأكيد الوصول للمرأة وتقديم الخدمات التعليمية المنسجمة مع المصالح الفرنسية. وأدى وجود بعض التقاليد المنافية للإسلام والتي فيها إجحاف واضح بحق النساء إلى الإقبال على البديل الفرنسي الذي لم يقصِّر في ربط هذه الممارسات بالدين.
فوائد المؤسسات المتخصصة:
لا أظن أن أحداً يختلف معي أن هناك منافع عظيمة من وجود المؤسسات
المتخصصة التي تتناول القضايا النسائية وتتولى إعداد التصورات والدراسات
المختلفة حول القضايا التي تشغل المهتمين بالدعوة إلى الله عز وجل، ولا ينقضي
عجبي حين أرى أنه تكونت في لبنان مثلاً 150 جمعية نسائية كثير منها نصراني
أو يمثل الديانات اللبنانية المختلفة، وأجد مثلاً أن غاية (الجمعية المسيحية للشابات)
في بيروت هي (بناء رابطة من النساء والفتيات لتحقيق المبادئ والمثل العليا التي
ائتُمِنَّ عليها باعتبارهن مسيحيات جادات في تفهم تعاليم يسوع والاشتراك في
حبه مع الجميع والنمو في معرفة الله ومحبته والاقتداء به في محبة الغير وخدمة المجتمع) [3] . ولا أدري هل لا زالت هذه الجمعيات موجودة أم أن بعضها
توقف عن العمل، أو أن جمعيات جديدة أنشئت، فأنا محتاجة إلى دراسات تعطيني صورة واقعية عن النشاطات النسائية في العالم، وتُمِدُّني بحصيلة قوية أتمكن بها من الوعي بالواقع الذي يهمني بصفتي امرأة.
وشيء آخر ذو دلالة بهذه الجزئية: ما هو نشاط المنصِّرات وطرقهن للتعامل
مع ظروف المرأة في بعض البلاد الإسلامية؟ وما هي استراتيجيات هذه الحركات
وغيرها للتأثير على عقل المرأة المسلمة؟ وأورد فيما يلي بعض المقترحات،
وأجزم أن هناك أبعاداً أخرى لم أتناولها:
1 - الخروج من دوامة ردود الأفعال، والعمل على صناعة الأحداث.
2 - القيام بمتابعة النشاطات ذات العلاقة بالمرأة ورصدها من خلال ما ينشر
في الصحافة والمؤتمرات واللقاءات.
3 - توفير المراجع العلمية ومساعدة الباحثين والباحثات في اختيار
الموضوعات التي نرى أنها مهمة وتحتاج إلى بذل جهود فكرية متميزة، وبدون
وجود مراكز دراسات متخصصة يصبح اختيار الموضوع وطرق معالجته نتيجة
لجهد فكري للباحث يعتريه ما يعتري الفرد من قصور.
4 - ترشيد الكتابات الموجهة للمرأة منعاً للتكرار وتحقيقاً لتغطية مختلف
جوانب القضية المراد الحديث عنها. وسوق الكتاب النسائي الإسلامي يحتاج كغيره
إلى كتابات نقدية قوية حتى تخرج الأعمال بصورة تتناسب وعمق الأمر.
5 - تكوين رأي عام مؤيد للرأي الشرعي المبني على الكتاب، والسنة
المستصحب لظروف الواقع. فكم أدى النظر للواقع مجرداً عن النصوص الشرعية
من فتنة لبعض الناس! وكم جر إغفال الواقع من صدور آراء لا تتفق والمقاصد
الشرعية!
6 - التعرف على المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها المرأة: طالبة على
مقاعد الدراسة في الجامعة والمدرسة، أو عاملة لها زوج وأولاد، أو مطلقة، أو
ربة بيت، أو غير ذلك، ووضع الحلول الشاملة، وهذا يحتاج إلى إجراء بحوث
مكثفة وربما دراسات أكاديمية للوصول إلى أفضل الوسائل للتعامل مع هذه
المشكلات.
7 - التعرف على الاتجاهات الفكرية المؤثرة في المجتمع وقياس قوة الخطاب
الشرعي ووسائل تنميته، وتعريف المهتمين بالقوى المختلفة ذات العلاقة.
8 - التعرف على المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها المرأة، فالمرأة
أصبحت ذات دخل وهذا الدخل يعني أنها تريد مجالات لاستثماره ووجود دراسات
شرعية تساعد المرأة على أفضل الوسائل لاستغلال مالها وتنميته، كما أن هذه
الدراسات تتيح لها خيارات كثيرة تحقق المرأة المسلمة من خلالها عوائد في دينها
ودنياها. ونتيجة لغياب الطروحات الشرعية أصبحت المرأة تستثمر في مجالات قد
تؤدي إلى خسارة مالها أو تحقيق نسبة ضئيلة من الأرباح، كما تؤدي هذه الدراسات
دوراً كبيراً في توجيه اهتمام المرأة لصرف مالها بدل أن يبذل في أدوات تجميل
وجري وراء الموضة. ويكفي أن نعلم أن بلايين الدولارات تنفق على أدوات
التجميل في العالم سنوياً لا أعلم تحديداً كم نصيب عالمنا الإسلامي من هذا
المبلغ؟ !
9 - التعرف على الجهود التي تستهدف تغيير تشريعات الأحوال الشخصية
التي كانت إلى وقت قريب إحدى البنود في الدساتير الوضعية التي لا تتعارض مع
الشريعة. والمعارك التي تمت في المغرب مثلاً ونتج خلالها بحمد الله تآزر وتكاتف
بين الغيورين هناك، نحتاج أن نعرف عنها أكثر من تحقيق ينشر في مجلة أو
اثنتين ثم ينسى بعد فترة. نحتاج إلى توثيق لكل هذه التطورات وإجراء الدراسات
القانونية الشرعية ومثل ذلك ما حصل في لبنان حول مسألة الزواج العرفي، وفي
مصر حول قضية إسقاط حق التطليق من الرجل وإعطائه للقاضي، وتطليق المرأة
إذا رغبت؛ كل ذلك يحتاج إلى مؤسسات متخصصة. ونقطة مهمة هنا أن محاربة
التصرفات المجحفة بحق المرأة في بعض البلاد والمطالبة بتغيير بعض التشريعات
التي لا تراعي حقوق المرأة لا يمكن أن يتم دون وجود تصور عن الواقع ومعرفة
بالبنود ذات العلاقة، وكل هذا يتطلب جهوداً كبيرة.
10 - التعرف على مجالات العمل الإعلامي وإمكانية إنشاء مجلات أو دور
نشر متخصصة، وإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية لمثل هذه المشروعات.
11 - تنشيط حركة التأليف الأدبي الملتزم خاصة في مجال القصة والرواية
والشعر. والأدب لعب دوراً كبيراً في مسيرة سفور المرأة كما هو معلوم؛ ولذا فإن
من المهم قيام دور نشر متخصصة مثلاً برعاية المواهب الأدبية وتقديم نتاجهم الذي
يخدم الأمة عبر المطوية والكتاب والشريط وغير ذلك. وأركز على العناية بمواهب
الفتيات الأدبية وتربيتهن على الأدب الملتزم حتى لا يقعن وسط الضجيج الإعلامي
في تمجيد أمثال نزار قباني والبياتي وغيرهما من رموز الحداثة والفساد.
12 - صناعة الرموز المصلحة من خلال إبرازهم للمجتمع، وتقديم القدوة
لكافة شرائح المجتمع النسائية؛ فتقدم مثلاً المرأة الواعية التي تنطلق من شريعة
ربها في فكرها وإنفاقها وتعاملها مع زوجها وأولادها، والعاملة الملتزمة المنتجة في
مجال عملها، وتلك التي تبذل في سبيل الإصلاح، والأديبة التي شغلتها هموم
المسلمين فتسخر موهبتها في معالجة شؤونهم.
نماذج من الدراسات النسائية المطلوبة:
من الأعمال التي من المؤمل قيام هذه المؤسسات المتخصصة بها ما يلي:
1 - إعداد قاعدة معلوماتية لكل ما نشر عن المرأة في الصحافة العربية
وغيرها.
2 - إجراء الدراسات الميدانية عن العادات الاجتماعية وأثرها على أنماط
السلوك النسائي في مختلف البلاد.
3 - عمل الدراسات الاقتصادية لتوفير مشروعات لتنمية رأس المال النسائي.
4 - إصدار دوريات ومجلات تخدم قضايا نسائية معينة وموجهة لطبقات
مختلفة؛ فدورية تُعنى بالشؤون التربوية، وأخرى لمعالجة قضايا فكرية، وثالثة
تخاطب البنت في المرحلة الثانوية والجامعية، ورابعة موجهة للمرأة العاملة،
وخامسة تتناول الأمومة والطفولة، وهكذا.. وليس بالضرورة أن تصدر هذه
الدوريات بصورة شهرية بل ربما كان صدورها مرة في السنة.
5 - إقامة مجموعات عمل لمناقشة قضايا اجتماعية ملحة كالطلاق والعنوسة
وعمل المرأة وآثارها على بنية المجتمع وكينونة الأسرة، ووضع توصيات ومتابعة
تنفيذها مع الجهات ذات العلاقة.
6 - بحث إمكانية التعاون بين الهيئات النسائية الدعوية القائمة في العالم.
7 - التعاون مع الجامعات ومراكز البحوث لإدراج قضايا المرأة ضمن
أولوياتها والتعاون في اقتراح الأفكار والمشروعات العلمية. وكمثال على البحوث
الأكاديمية تناول تأثير القنوات الفضائية على أفكار البنات في المرحلة الجامعية.
8 - متابعة المؤتمرات الدولية والمشاركة بفعالية بغرض الدفاع العلمي الرشيد
عن قضايا المرأة المسلمة.
عوائق في طريق التأسيس:
إذا كان ثمة اتفاق على حيوية وجود هذه المؤسسات فما هي يا تُرى العقبات
والصعوبات التي تقف أمام تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع؟ لعل بعض ما ذكر
عند مسألة أسباب غياب هذه المؤسسات في الماضي لا يزال يمثل حجر عثرة حتى
الآن. وألخص أبرز النقاط فيما يلي:
1 - طبيعة هذه المؤسسات الجادة تجعل من نفر قليل من الناس قادراً على
تحمل عبء تأسيسها، وهذا النفر يكون منشغلاً بقضايا أخرى لا تقل عن هذا الأمر
أهمية في كثير من الأحيان.
2 - تحتاج هذه المؤسسات إلى مبالغ مالية؛ لكونها تقوم باستقطاب فئة معينة
من الباحثين مما يعني ضرورة تفريغهم. والتعويل على العمل التطوعي لا يعني
الاستقرار كما أنه لا يعني عملاً مؤسسياً.
3 - حساسية الموضوعات المطروحة وصعوبة إجراء الدراسات الميدانية
بحرية كافية.
4 - قلة الخبرة بالعمل المؤسسي لدى قطاع عريض من المهتمين، وكذا
ضعف القدرات الإدارية.
كلمة أخيرة:
وفي ختام هذه الورقات أحب أن ألفت نظر إخواني وأخواتي إلى بعض
الأمور:
1 - ضرورة استحضار الإخلاص في هذا الأمر؛ إذ إنه من وسائل الدعوة
إلى الله عز وجل، وبدون الإخلاص تصبح كل هذه الأعمال هباءاً منثوراً يوم الدين.
2 - الثقة بنصر الله والتفاؤل بالخير خاصة في مثل هذا الوقت الذي قلَّ فيه
الناصر، وهكذا كان هدي الرسول عند الفتن تفاؤلاً وحسن ظن بالله وثقة به مع
العمل الجاد المستمر.
3 - أن المرحلة التي نعيشها تتطلب اهتماماً كبيراً بقضايا المرأة.
4 - ما جاء من معلومات أو أفكار يحتمل الخطأ؛ وإنني أتمنى موافاتي بأي
ملاحظة أو تصويب أو تعقيب؛ بحيث يتبلور العمل وتنفتح آفاق دعوية جديدة
للمرأة المسلمة في العالم أجمع.
أسأل الله أن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى مرضاته، وأن يجعل نياتنا خالصةً
لوجهه، وأن يبصِّر نساء المسلمين بدينهن، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) مجلة الوسط، عدد 414.
(2) الدراسات الاجتماعية عن المرأة في العالم العربي إصدار اليونسكو، 521.
(3) الطاقات النسائية العربية، ص 153.(150/60)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
المرأة.. وخطوات نحو التربية
علياء بنت عبد الله
ثلاثة عشر عاماً هي تلك التي أمضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة
باذلاً جهده ووقته وثمين دعوته في تربية جيل الصحابة أثمرت أفراداً قلائل..
وشخصيات معدودة.. ولكنها قلة ضربت أروع الأمثلة في الثبات يوم كثر النفاق
بعد بدر.. قلة ولكن كتب لها النصر دون عشرة آلاف من الطلقاء الذين انهزموا في
حنين.. قلة ثبتت على عهدها يوم ارتدَّت قبائل العرب بعد موته صلى الله عليه
وسلم.. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عميق الفكرة.. بعيد النظرة.. حين
صرف الوقت الذهبي من دعوته في تربية ذلك الجيل الأول من الصحابة.. كيف
لا! ! وهم نجوم النور.. وخير أهل الأرض.
فلنتجاوز أربعة عشر قرناً من تاريخنا الممدود لنصل اليوم إلى منظر هذه
الجموع النسائية التي تتوجه يومياً إلى مراكز تحفيظ القرآن الكريم وغيرها من
المراكز الإسلامية لسماع كلمة حق في تفسير آية أو شرح حديث.. والتي تدفع إلى
الابتسامة والتمتمة بكلمات الحمد والثناء لله.. ثم الإعجاب بتلك الجهود والتضحيات
التي ولا شك كانت وراء كل قلب اهتدى وكل رِجْل قدَّمتِ الخُطا..
إن هذه الجموع التي تصمُّ آذانها عن نعيق الغربان معلنة التحدي أمام كل
مغريات الزمن وفتنه.. لهي جموع تنظر بعين الحاجة والافتقار إلى من يأخذ بيدها
ويحسن توجيهها.. وهنا بالذات يأتي دور التربية.. فإننا لا نعاني من الكم! وإنما
من الكيف!
خطوات نحو التربية:
لو أخذت أي بذرة من بذور الأرض ووضعتها في إناء زجاجي أو على رف
من الخشب فإنها لن تنبت مهما طالت المدة حتى تضعها في أرض خصبة وتتعاهدها
بماء وسقيا وتعرضها لحرارة الشمس، ثم ما تزال معها تهذبها وتشذب أطرافها
وتحسن توجيهها وتزيل عنها ما يؤذيها حتى تشتد وتخضر وتقف على ساقها..
وهذا ما تعنيه عملية التربية.
أولاً: تطوير المنبع:
كلما كان ماء النبع عذباً كان أروى للظمأ.. وعلى قدر خصوبة الأرض يكون
جمال النتاج.
إن فقه المربية لعقيدتها التي تدعو الناس إليها وعلمها بمداخل النفوس
واقتناص الفرص يزيد من فرصة قبولها لدى الناس ونجاحها في دعوتها إياهم إلى
الخير والتزام طريق الحق.. ولذلك كان لزاماً على كل مؤسسة أو مركز إسلامي أن
يهتم بالعاملات فيه تطويراً وأداءاً ونقترح في هذا الصدد عدة نقاط:
شرح أهداف المركز لجميع العاملات فيه سواء الأهداف المرحلية (مختصة
بفترة محددة) أو الأهداف طويلة الأجل التي تحتاج إلى سنوات لتحقيقها ومتابعة
تطبيقهن وسعيهن لإتمام هذه الأهداف؛ فإن ذلك مما يعزز الشعور لدى كل واحدة
منهن بأنها لبنة لو نزعت لانكسر الجدار.. وأيضاً فالمتابعة تساعد في التنبؤ بالخطأ
قبل وقوعه، وبالسيطرة على المشكلة في مراحلها الأولى.
تنظيم دورات تأهيلية تطويرية تكون موجهة خاصة للعاملات في المراكز
والمؤسسات تتشعَّب إلى ثلاثة محاور رئيسة:
1- دورات شرعية: تعطي الأسس والقواعد في كل علم من علوم الدين
الأساسية مما لا يسع مسلمة أن تجهلها فضلاً عن عاملة في المركز ينبغي أن تكون
قدوة الناس ومحط أنظارهم.
2 - دورات تربوية: تسهم في فهم رسالة هذا الدين الفهم الصحيح، وأن
مهمتنا لا تقف عند البلاغ وتغيير الأفكار فقط، بل تتجاوز ذلك إلى مساعدة الناس
على أن يغيروا من سلوكهم ويتغلبوا على مشكلاتهم وأن يتخطوا جميع العقبات من
المجتمع والنفس.. وذلك لن يتسنى لنا حتى يكون لدينا أسس تربوية صحيحة
نتعامل بها مع الناس. وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكيفية تعامله هي
المنهج للتربية والمنبع الذي لا ينضب.
3 - دورات دعوية: يُتناول فيها مستجدات الساحة وما يجب علينا إدخاله
وإدراجه ضمن مناهجنا الإسلامية، وطرح الحلول لبعض مشكلاتنا الدعوية،
ووضع جداول زمنية لتوسيع نطاقات الخطاب مع مختلف شرائح المجتمع ودراسة
الأفكار والمقترحات الجديدة. والأهم من ذلك: وضع تصور عام للدعوة في
المنطقة يهيب بكل العاملات الوصول إليه ولو بعد حين.
ولمزيد من الفاعلية فإن هذه الدورات يجب ألا تكون عشوائية أو كلما سنحت
الفرصة لإقامتها، وإنما يجب أن تكون جميعها مدرجة ضمن جدول محدد (مثلاً:
دورة شرعية كل ثلاثة أشهر، ودورة تربوية كل أربعة أشهر، ودورة دعوية
نصف سنوية) وعلى كل مركز أن يحدد حاجة منسوباته دون المبالغة في جانب على
حساب جانب آخر، وإدراج لجنة خاصة (لجنة التطوير) ضمن لجان المركز تكون
مسؤولة عن تنظيم هذه الدورات من حيث اختيار المواضيع ودعوة المقدِّمات
واستشارة المشايخ والعلماء وذوي الخبرة والتجربة في ساحة العمل الدعوي قبل
الشروع في هذه الدورات.
ثانياً: البحث عن الراحلة:
قال صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [1] .
إن بين هذه الجموع أشخاصاً ما أن تحكَّ قشرتهم حتى يبرق لك الذهب،
وهؤلاء قد لا يأخذون من الداعية جهداً طويلاً حتى يحس بسرعة النتاج؛ بخلاف
الصنف الآخر الذي قد تبذل معهم جهداً مضاعفاً ولكنهم، (مكانك راوح) ، ومن ثَمَّ
فإن من الخسارة أن يأتي أمثال هذه الشخصيات في مراكزنا الإسلامية ويبقين معنا
سنين طويلة دون أن يُكتشفن أو يسعى إلى استخراج مكنونهن أحد! ! وأحياناً كثيرة
نشعر بتميزهن ووجودهن؛ ولكن برامجنا تخاطب الشريحة العامة ولا تتسع لأمثال
هذه الشخصيات. وها هنا ثمة نقاط لا بد من مراعاتها:
اهتمام المعلمات ومن هن في خط المواجهة مع الناس بالبحث عن
الحريصات على دينهن المتميزات في علمهن وغيرهن ممن يظهر عليهن سِيما
التنبه والنبوغ، وتوجيه رسائل خاصة لهن أثناء الشرح والتفسير، وبذل الجهود
لاحتوائهن لا سيما إذا كُنَّ ممن يحضرن لأول مرة.
إيجاد برامج خاصة لهؤلاء يشرف عليها أهل الاختصاص، تعطى فيها المواد
بشكل مدروس، وتختار فيها السُّور والأحاديث والمواضيع بشكل دقيق.
تكليف المربيات بمتابعة أحوالهن وتفقُّد حياتهن لا سيما خارج المركز،
ومدى تقدمهن وتخطِّيهن العوائق والعقبات، وتقديم النصح والتوجيه اللازم ليتكون
لنا من مجموع ذلك شخصيات مؤهلة مربية ملتزمة غير ضعيفة ولا ازدواجية.
ثالثاً: وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح:
قال عليه الصلاة والسلام: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله
عمر، وأصدقهم حياءاً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيٌّ، وأفرضهم زيد، وأعلمهم
بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن
الجراح) [2] .
لم يكن مجتمع الصحابة مجتمعاً مكوناً من نسخ مكرورة بعضها من بعض،
بل كان فيهم العالم والزاهد وطالب العلم والتاجر والساعي لرزقه والفارس والمجاهد؛
بل ومنهم الأديب الذي يعلن النبي صلى الله عليه وسلم له التأييد بروح القدس؛
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقن فن توزيع الأدوار، ولم يكن يهمِّش من دور
هذا أو ذاك، بل لم يكن يفاضل بينهم إلا بالتقوى وما وقر في النفس عبداً كان أو
حراً عالماً كان أو أمياً عابداً كان أو تاجراً! !
إن الأمة التي لا يحسن أفرادها إلا شيئاً واحداً أمة سهلة الانهزام.
وحين نتحدث عن العصر الذهبي لمجد الإسلام الذي بلغ مشارق الأرض
ومغاربها يتبادر إلى ذهننا العدد الهائل من المدارس والجامعات والثورة العلمية من
طب وهندسة ومعمار وإحصاء وغيرها من العلوم التي برع فيها المسلمون بأمر
وإرشاد من دينهم. ومن تصفح القرآن استشعر مسؤوليته في خلافة الأرض والتي
تعني إصلاحها وإصلاح أهلها من جميع الجوانب.
وما علاقة المرأة بذلك؟
إننا في مراكزنا نخاطب شريحة من النساء تريد أن تسمع وتريد أن تفهم؛
وبلغنا بحمد الله شوطاً في ذلك ولكن ما زال هناك صنف من الناس خارج الأسوار
وهؤلاء على اختلاف أسباب عزوفهم إلا أنهم يشكلون شريحة كبرى من المجتمع،
وطموحاتنا الدعوية لا تقف عند حد ذلك الصنف الأول، بل إننا نريد أن نوسع
نطاقات الخطاب ليصل صوتنا إلى كل بيت وكل فرد.
إن الجمعيات النسائية التي أسهمت بل أدارت الحركة المشبوهة حركة تحرير
المرأة وسَّعت أنشطتها ليصل خطابها إلى كل امرأة في المجتمع، فكان لديها أنصار
من مختلف التخصصات والطبقات.. ليصلوا بالمرأة إلى ما وصلوا إليه الآن!
ولذلك فإن حصر دور المراكز الإسلامية النسائية بأن تدور أنشطتها حول الأنشطة
التلقينية واستعمال مهارة السماع فقط هو اختصار مخل لرسالة المركز الأصيلة
العالية.. ولو أحصينا عدد مراكز تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في كل حي
ومنطقة مثلاً ثم تلمسنا آثارها الإيجابية لوجدنا أن الآثار الملموسة في حياة الناس لا
تتناسب أبداً مع عدد المراكز المتزايد في الأحياء! ! وهذا يعني أن رسالتنا لم تصل
بعدُ بالصورة الكافية.
إن هذا الدين الذي يدعو إليه المركز يجب أن يكون له أنصار ينافحون عنه
وينشرون لواءه في كل مكان في شتى الطبقات ومختلف التخصصات.. فمثلاً:
لا بد أن يكون لدينا معلمات واعيات يحملن لواء الدعوة في المدارس، ويربطن أهداف التعليم بأهداف هذا الدين ولا تضاد بينهما وإبراز أنفسهن قدواتٍ ونماذجَ حية لما يمكن أن يصنعه الدين في حياة الناس، ودعوة الطالبات والمعلمات إلى امتثال القيم العليا والأخلاق الفاضلة التي يدعو إليها هذا الدين، ومثال آخر: لا بد أن يكون لنا كاتبات وأديبات يكتبن أدباً إسلامياً رفيعاً يكفيننا مؤونة البحث عن قصص إسلامية هادفة أو مجلة خالية من المنكرات، ولعل من أنجع الأساليب في توسيع نطاق الدعوة وأنسبها للمرأة هي المشاركة الإعلامية في المجتمع.. في المجلات والجرائد.. والكتب والدوريات.. وذلك إعلاءاً لصوت الحق ليتسنى لكل فرد سماعه، وليتعرف الناس على أنشطة المراكز وأهدافها.. وطرح تجاربنا في معايشة العصر لا سيما في تربية الأطفال والمراهقين، وخططنا لتربية هذا الجيل الناشئ.. فلماذا دائماً تتوارى تجاربنا الناجحة وتقتصر على فئة محدودة من الناس؟ ! هناك مئات القلوب التائهة التي تبحث عن الحق.. بل مئات العقول الواعية التي لو فهمت الحقيقة لما ترددت في سلوك الدرب.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 8946، ومسلم، ح/ 7452.
(2) رواه الترمذي، وابن حبان وإسناده صحيح قال ابن حجر في فتح الباري في باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أورد الترمذي وابن حبان هذا الحديث من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء هذا الإسناد مطولاً، ثم ذكر الحديث، وإسناده صحيح إلا أن الحُفَّاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري، 7/264 والله أعلم.(150/66)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
الحجاب وأصول الاعتقاد
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه. أما بعد:
فلم يعد خافياً على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة
من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها؛ حيث
ضاق عطنهم وأخرجوا مكنونهم ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثير من مجتمعات
المسلمين؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من
هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض
والأخلاق، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل
العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما
يرومون إليه. وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين
المصلحين والمفسدين.
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة
أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة؛ ولكنهم يتسترون وراء الدين
ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله
عز وجل في قوله: [فّأّمَّا بَّذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً زّيًغِ فّيّتَّبٌعٍونّ مّا تّشّابّهّ مٌنًهٍ \بًتٌغّاءّ بًفٌتًنّةٌ
ّابًتٌغّاءّ تّأّوٌيلٌهٌ] [آل عمران: 7] . وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ
بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل
الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء، وقد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم قوله: (ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء) [1] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم: ( ... واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في
النساء) [2] .
وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة؛
حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها
وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من
ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم
والغيرة حضورهم؛ فإنهم كما سبق بيان ذلك لا يتجرؤون على طرح مطالبهم
التغريبية بشكل صريح لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من
الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج
مطالبتهم في قوالب إسلامية وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل.
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونة الأخيرة مطالبتهم في
مجتمعات محافظة بكشف المرأة عن وجهها وإخراجها من بيتها معتمدين بزعمهم
على أدلة شرعية وأقوالٍ لبعض العلماء في ذلك. ولنا في مناقشة هؤلاء القوم
المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب واختلاطها بهم في مجتمع محافظ
لا يعرف نساؤه إلا الحجاب الكامل والبعد عن الأجانب لنا في ذلك عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
إن هناك فرقاً في تناول قضية الحجاب وهل يدخل في ذلك الوجه أم لا؟ بين
أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري
الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر هناك فرق بين أولئك وبين من يتبع الزلات، ويحكم بالتشهي، ويرجِّح بالهوى؛ لأن وراء الأكمة ما وراءها؛ فيؤول حاله إلى الفسق وَرِقَّة الدين ونقص العبودية وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل.
وهناك فرق بين تلك الفتاوى المحلولة العقال المبنية على التجرِّي لا على
التحري التي يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين ومن أسموهم المفكرين تعج
منهم الحقوق إلى الله عجيجاً، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، ينفرون
من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمتي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه أو جائز أو
بدعة كما يُرجفون، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب. فاللهم
باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب) [3] .
(ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتَّبعوا التمدن
الغربي، ثم يسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي.
ولقد أوتيت المرأة من الرخص في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها إذا
دعت الحاجة في بعض الأحوال، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاء
يجعلون هذا نقطة البدء وبداية المسير، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب
الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، يل يجاوزه إلى
تعرية الشعر والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيئة القبيحة المعروفة، وهي الهيئة
التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط، بل يخرجن بكل تبرج
من بيوتهن، ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات، ويأتين الفنادق
والمسارح، ويتبسطن مع الرجال الأجانب.
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة
وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف؛ على أنه يحل لها أن تغدو وتروح في
الطرقات، وتتردد إلى المتنزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة، وأفتنها
للناظرين، ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية ذلك
الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة يُتَّخذ حجة ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة
جميع تبعات الحياة المنزلية، وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني
تماماً وحذو القُذَّة بالقذة كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا الشيخ المودودي رحمه الله يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في
سياستهم، العبيد في عقليتهم قائلاً: (ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرَج منه
جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنكم يا إخوان التجدد إن شاء أحدكم أن يتبع
غير سبيل الإسلام فهلاَّ يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام، ويتفلَّت
من شرائعه؟ وهلاَّ يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له
أن يتَّبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً
وموضوعاً، ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتِّباع القرآن كي ينخدع
به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن؟) [4] .
الوقفة الثانية:
وهي نتيجة للوقفة الأولى، وذلك بأن ينظر إلى قضية الحجاب اليوم وما يدور
بينها وبين السفور من معارك إلى أنها لم تعد قضية فرعية ومسألة خلافية فيها
الراجح والمرجوح بين أهل العلم، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية ترتبط
بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وعدم فصله عن
شؤون الحياة كلها؛ لأن ذلك هو مقتضى الرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد
صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
إن التشنيع على تغطية المرأة وجهها والتهالك على خروجها من بيتها
واختلاطها بالرجال ليست اليوم مسألة فقهية فرعية ولكنها مسألة خطيرة لها
ما بعدها؛ لأنها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس وعلى تغريب المجتمع وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنه بالطلقة الأولى.
وإن لنا في جعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية كلية مع أن محلها كتب
الفروع إن لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة؛ حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية
مع أصول الاعتقاد لَمَّا رأوا أن أهل البدع يشنِّعون على أهل السنة فيها ويفاصلون
عليها، من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية في قوله عن أهل
السنة والجماعة: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في
الأثر) وعلق شارح الطحاوية على ذلك بقوله: (وتواترت السنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة، تخالف هذه
السنة المتواترة) [5] .
ومعلوم أن المسح على الخفين من المسائل الفقهية؛ ولكن لأن أهل البدع
أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه نص العلماء عليه في عقائدهم.
إذن فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية مصيرية،
وذلك لتشنيع مبتدعة زماننا ومنافقيهم عليه ولحملتهم المحمومة لنزعه وجر المرأة
بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك، وأنها لم تعد مسألة فقهية يتناقش فيها أهل
العلم المتجردون لمعرفة الراجح وجوانب الحاجة والضرورة فيه.
وقد صرَّح بعضُ العلماء بتكفير من قال بالسفور ورفْع الحجاب وإطلاق حرية
المرأة؛ إذا قال ذلك معتقداً جوازه.
قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه: (المسائل الكافية؛ في
بيان وجوب صدق خبر رب البرية) [6] :
(المسألة السابعة والثلاثون) : من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق
حرية المرأة ففيه تفصيل:
فإن كان يقول ذلك ويُحسِّنُه للغير مع اعتقاده عَدَم جوازه، فهو مؤمن فاسق
يجب عليه الرجوعُ عن قوله، وإظهارُ ذلك لدى العموم.
وإن قال ذلك معتقداً جوازه، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على
دعواه! فهذا يكفر لثلاثة أوجه:
الأول: لمخالفته القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ] [الأحزاب: 59] .
الثاني: لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين. ونتيجة رفع الحجاب، وإطلاق
حرية المرأة، واختلاط الرجال بالنساء: هو ظهور الفاحشة، وهو بيِّنٌ لا يحتاج
إلى دليل.
الثالث: نسبةُ الحيف على المرأة، وظلمها إلى الله تعالى الله عما يقول
المارقون؛ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك، وهو بيِّنٌ أيضاً.
قلتُ: وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب، وإطلاق حرية المرأة، واختلاط
النساء بالرجال يَشهد به الواقعُ من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى
الإسلام، وهم في غاية البعد منه.
وصرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي أيضاً بتكفير من أظهرت زينتها الخلقية
أو المكتسبة، معتقدة جواز ذلك، فقال في كتابه المشار إليه ما نصُّه: (المسألة
السادسة والثلاثون) : من أظهرت من النساء زينتها الخِلقية أو المكتسبة؛ فالخلقية:
الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك، والمكتسبة ما تتحلى وتتزين به الخلقة كالكحل
في العين، والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع، والأساور في المعصم،
والخلخال في الرِّجل، والثياب الملونة على البدن، ففي حكم ما فعلتْ تفصيل:
فإن أظهرت شيئاً مما ذُكِرَ معتقدة عدم جواز ذلك، فهي مؤمنة فاسقة تجب
عليها التوبة من ذلك، وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة لمخالفتها القرآن؛ لأن
القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن، قال الله
تعالى: [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ] [النور: 31] .
قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول من سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب، ومن
سَبَّ عائشة قُتِل؛ لأن الله يقول: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
] [النور: 71] . فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتِل أي
لأنه استباح ما حرَّم الله تعالى انتهى.
الوقفة الثالثة:
ليس المقصود في هذه الوقفات حشداً للأدلة الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها
عن الرجال الأجانب ووجوب الابتعاد عنهم؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة
والحمد لله ويمكن الرجوع إليها في فتاوى أهل العلم الراسخين ورسائلهم كرسالة
الحجاب للشيخ ابن عثيمين. ومن الكتب التي توسعت في هذا الموضوع وردَّت
على شبهات المخالفين كتاب: (عودة الحجاب/ القسم الثالث) للدكتور محمد بن
إسماعيل المقدم حفظه الله وإنما المقصود في هذه المقالة ما ذكر سابقاً من فضح
نوايا المنادين بكشف الوجه والاختلاط بالرجال، وأن وراء ذلك خطوات وخطوات
من الفساد والإفساد؛ ومع ذلك يحسن بنا في هذه الوقفة أن نشير إلى أن علماء الأمة
في القديم والحديث من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه كلهم متفقون ومجمعون
على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها إذا وُجِدَت الفتنة وقامت أسبابها؛ فبربكم أي
فتنة هي أشد من فتنة النساء في هذا الزمان؛ حيث بلغت وسائل الفتنة والإغراء
بهن مبلغاً لم يشهده تاريخ البشرية من قبل، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرض
المرأة بصورها المثيرة في كل شيء في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة
والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع؛ فمن قال بعد
ذلك: إن كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة فهو والله مغالط مكابر لا يوافقه في ذلك من له مُسْكَة من دين أو عقل أو مروءة.
وبعد التأكيد على أن أهل العلم قاطبة متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا
وجدت الفتنة يتبين لنا أن خلافهم في ذلك كان محصوراً فيما إذا أُمِنَتِ الفتنةُ، ومع
ذلك فتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا القدر من الخلاف بقي خلافاً نظرياً إلى حد
بعيد؛ حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل
التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان
أحد معالم (سبيل المؤمنين) في شتى العصور: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله تعالى: (كانت سُنَّة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة
تحتجب، والأَمَةُ تبرز) [7] .
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: (لم يزل الرجال على مر الزمان
مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات) [8] .
وقال الحافظ ابن حجر: (لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً أن يسترن
وجوههن عن الأجانب) [9] .
وقد يتعلق دعاة السفور أيضاً ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها
بكشف وجهها لغير محارمها كرؤية الخاطب لمخطوبته، وعند التداوي إذا عدمت
الطبيبة بشرط عدم الخلوة وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها، وهذا كله من يُسْر
الشريعة وسماحة الإسلام؛ حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة
والحاجة الماسة أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحكام؛ وليس في هذا أدنى
مُتَعَلَّق لدعاة السفور؛ لأن الأصل هو الحجاب الكامل وهذه رخص تزول إذا زالت
الحاجة إليه.
الوقفة الرابعة:
ومن منطلق النصح والشفقة وإقامة الحجة أتوجه بالكلمات الآتية إلى أولئك
القوم الذين ظلموا أنفسهم وأساؤوا إلى مجتمعهم وأمتهم وخانوا أماناتهم وحملوا بذلك
أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون فأرجو أن تجد هذه
الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل مباغتة الأجل وهجوم الموت؛ حيث لا تقبل
التوبة ولا ينفع الندم.
1 - أذكِّركم بموعظة الله تعالى؛ إذ يقول: [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن
تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] .
فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه أو مع صاحبه، ثم فكرتم فيما أنتم
عليه من إفساد وصد عن سبيل الله عز وجل، هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما
تجرُّونه على أمتكم من الفتن؟ وهل هذا يرضي الله تعالى، ويجلب النعيم لكم في
الآخرة؟ إنكم إن قمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى، وفكرتم في ذلك فإن
الجواب البدهي هو أن الفساد والإفساد لا يحبه الله عز وجل، بل يمقته، ويمقت
أهله، وسيأتي اليوم الذي يمقت فيه أهل الفساد أنفسهم، ويتحسرون على ما
فرطوا وضيعوا وأفسدوا، وذلك في يوم الحسرة؛ حيث لا ينفع التحسر ولا التندم،
فعليكم بالتوبة قبل أن يحال بينكم وبينها.
2 - أذكِّركم بيوم الحسرة والندامة يوم يتبرأ منكم الأتباع وتتبرؤون من
الأتباع، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ، بل كما قال تعالى:
[وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [سبأ: 33] .
أذكِّركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين
تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا، قال تعالى: [ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ
ولَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ] [العنكبوت: 13] ، وقال عز وجل: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ومِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ] [النحل: 25] .
وإن الظالمين جميعهم رئيسهم ومرؤوسهم، تابعهم ومتبوعهم لهم يوم مشهود
ويوم عصيب، يوم يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة
بعضهم على بعض؛ ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلا الخزي والبوار.
3 - إن لم يُجْدِ واعظُ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم فلا أقل من أن يوجد
عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد المرأة وإفساد المجتمع بأسره.
إن المتأمل لحال المتبعين للشهوات اليوم ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم!
فما لهم وللمرأة المسلمة التي تقر في منزلها توفر السكن لزوجها وترعى أولادها؟
ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها
وطبيعتها؟ ماذا يريدون من عملهم هذا؟ !
ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال
الكريمة؟ ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم؟ هل
يريدون جيلاً منحلاًّ يكون وبالاً على مجتمعه ذليلاً لأعدائه عبداً لشهواته؟ إن هذه
هي النتيجة؛ وإن من يسعى لهذه النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها الأسر المسلمة
اليوم لهو من أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه.
إن من عنده أدنى مروءة ونخوة فضلاً عن الدين والإيمان لا يسمح لنفسه أن
يكون من هؤلاء الظالمين، وما ذُكِرَ من إفساد الأسرة إنما هو على سبيل المثال لا
الحصر؛ فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوط والجناية! توبوا إلى ربكم،
وفكِّروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن وراءكم أنباءاً عظيمة وأهوالاً جسيمة
تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار؛ فإن كنتم تؤمنون بهذا فاستيقظوا من
غفلتكم وراجعوا أنفسكم، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون
بذلك فراجعوا دينكم، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون.
4 - يا قومنا! أعدوا للسؤال جواباً وذلك حين يسألكم عالم الغيب والشهادة
عن مقاصدكم في حملتكم وإجلابكم على المرأة وحجابها وقرارها في بيتها، فماذا
أنتم قائلون لربكم سبحانه؟ إنكم تستطيعون أن تفروا من المخلوق فتدلِّسون وتلبِّسون
، وقد يظهر ذلك للناس في لحن القول وقد لا يظهر؛ لكن كيف الفرار ممن يعلم ما
تخفون وما تعلنون؟ [يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية] [الحاقة: 81] .
فتوبوا إلى علاَّم الغيوب ما دمتم في زمن التوبة، وصحِّحوا بواطنكم قبل أن يُبعثَر
ما في القبور ويُحَصَّل ما في الصدور.
وختاماً:
أوصي نفسي وإخواني المسلمين الحريصين على دينهم وأعراضهم وسلامة
مجتمعاتهم من الفساد بأن يكونوا يقظين لما يطرحه الظالمون لأنفسهم وأمتهم من
كتابات وحوارات مؤداها دعوة إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب، فما
دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين فإن الله عز وجل يقذف بالحق على الباطل
فإذا هو زاهق. وينبغي أن لا ننسى في خضم الردود على ما يكتبه المفسدون من
الشبهات والشهوات؛ ذلكم السيل الهادر الذي يتدفق من وسائل الإعلام المسموعة
والمرئية في بلاد المسلمين؛ وذلك بما تبثه الإذاعات والتلفاز والقنوات الفضائية من
دعوة للمرأة إلى السفور ومزاحمة الرجال في الأعمال والطرقات، والتمرد على
الرجل سواء كان أباً أو زوجاً أو أخاً؛ ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد
المسلمين فكان لزاماً على المصلحين محاربتها وإبعادها عن بيوت المسلمين قدر
الاستطاعة، فإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلا أقل من تكثيف الدعاية ضدها والتحذير
من شرها ووقاية المسلمين من خطرها؛ وذلك بإصدار الفتاوى المتتابعة والخطب
المكثفة حول أضرارها وأثرها المدمر للدين والأخلاق؛ فإنها والله لا تقل خطراً عما
تكتبه الأقلام الآثمة عن المرأة إن لم تزد عليه، والمقصود أن لا يكتفي المصلحون
بمحاربة ما يكتبه المفسدون في الصحف والمجلات عن المرأة فإن هم سكتوا سكت
المصلحون وظنوا أن الخطر قد انتهى. كلا! إن الخطر لم ينته وإن المعركة
مستمرة؛ لأن الخطر الأكبر لا يزال قائماً ما دامت الوسائل المسموعة والمرئية لا
تكفُّ عن المرأة والاستهزاء بحجابها وقرارها في بيتها وقوامة الرجل عليها، وإثارة
الشبهات في ذلك.
أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعز دينه
ويعلي كلمته، وأن يرد كيد المفسدين في نحورهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 6074.
(2) رواه مسلم، ح/ 5294.
(3) انظر عودة الحجاب، 3/ 734.
(4) انظر مقدمة عودة الحجاب للدكتور محمد إسماعيل المقدم، ص 22، 32 باختصار وتصرف يسير.
(5) شرح الطحاوية، ص 683.
(6) عن كتاب الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور، للشيخ حمد التويجري رحمه الله.
(7) تفسير سورة النور، ص 56.
(8) إحياء علوم الدين، 4 / 927.
(9) فتح الباري، 9/423.(150/70)
ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
ندوة عن: واقع المرأة في الغرب
أشرف على إعدادها وترجمتها في بريطانيا
براق البياتي، وعبد السلام عبد اللطيف
المرأة الغربية هي الأنموذج والمثل الذي يُحتذى من قِبَلِ أدعياء التحرر
والتغريب؛ فهي بزعمهم قد وصلت إلى قمة السعادة، وحصلت على كافة حقوقها
الإنسانية، ولكن هل هذا الزعم صحيح حقاً؟ ! أم أنه مجرد وهْم كبير يريدون أن
يوقعونا في شراكه؟
هذا ما سوف نراه في هذه الندوة التي شاركنا فيها مجموعة من الأخوات
الغربيات المسلمات، كلهن من أصول إنجليزية وويلزية، عشن في الغرب،
وتربين في أحضانه، ثم عرفن حقيقته بعد أن شرح الله صدورهن للإسلام.
الأخوات المشاركات:
1 - فاطمة أم إسماعيل، واسمها قبل الإسلام: فيكتوريا كيب وول.
2 - عائشة أم سعدية، واسمها قبل الإسلام: راشيل بريتشرد.
3 - خديجة أم عارف، واسمها قبل الإسلام: ويندي بووث.
4 - أم يوسف، واسمها قبل الإسلام: آشلي داينتي.
5 - خديجة أم محمد، واسمها قبل الإسلام: جوان توماس.
6 - نبيلة أم إسماعيل، واسمها قبل الإسلام: روبين رييد.
البيان: مفهوم الأخلاق مرَّ بتغيرات جذرية متعددة: فكرية واجتماعية،
حتى وصل إلى مرحلته الحالية، فما مفهوم الأخلاق في الغرب؟
الأخت: خديجة أم عارف: تختلف الأخلاق في الغرب من شخص إلى شخص ومن بيت إلى بيت، وهناك تصور عام أن كل التصرفات الشخصية مصونة
مهما كانت هذه التصرفات إذا لم تؤثر على شخص آخر. ومن هذه التصرفات
المقبولة عند الغرب مثلاً: أن ينتحل الرجل شخصية المرأة بزيها وعلاقاتها وأن يُظْهِرَ
ذلك أمام أطفاله، ومثال آخر: هو الكَمُّ الهائل من المواد والعروض الإباحية في شتى
وسائل الإعلام والتي أصبحت متقبلة. وبالرغم من أن هناك فئة من الناس تشعر
بالخجل من هذه التصرفات إلا أنها لا تستطيع الانتقاد العلني خوفاً من أن
توصف بالتحجر والتخلف. وتحت ضغط الإعلام أصبح الكثير من هؤلاء ومنهم
أرباب الكنيسة يقبلون بالقيم الجديدة، ومثاله: السماح بزواج الشواذ داخل الكنيسة.
نعم! الأخلاق في انحدار عجيب؛ وهناك ذلك المفهوم السائد بأن تفعل ما يحلو لك ما
دمت تشعر بالسعادة، وما دام مقبولاً عندك، هذا المفهوم الذي بدأ ينتشر من
الستينيات حتى الآن.
الأخت: فاطمة أم إسماعيل: أنا لا أعتقد أن هناك قيماً باقية في الغرب؛
فالنساء أصبحن كالرجال، والرجال كالنساء، حتى الكنيسة التي كانت أساس القيم
الغربية غيَّرت كلام الله لتكثر حضور الناس، فصاروا يجعلون الحرام حلالاً.. فالقيم
الغربية قد انهدمت!
الأخت: خديجة أم محمد: لقد فُقِدَت فكرة القيم في الغرب؛ والأحوال تقزز
النفس أكثر وأكثر، فالأفعال التي تحصل هنا من هذه الأنواع كثيرة، والناس
المسؤولون عنها لا يوجد لديهم قيم، فهم لا يعتنون بتصحيح الأخلاق للناس
والأطفال هذه الأيام، المسلمون الملتزمون هم فقط الذين لهم قيم هنا في الغرب.
الأخت: نبيلة عبد الله: لم تعد فكرة القيم موجودة في الغرب، فالغرب يؤمن بأن حرية الاعتقاد الشخصي أهم من مسألة الالتزام بقيم معينة. وبهذا فإن
الغرب سمح للمجتمع أن ينقلب ضد نفسه؛ حيث إن كل فرد يعتقد بأن ما يؤمن به
هو الصحيح، كما أن من المسلك الحسن عندهم أن يترك الأمر لكل فرد يدعو لما يعتقد به بغض النظر عما قد يحمله من أفكار ومعتقدات شاذة. لقد مضى عهد طويل
منذ أن كان الغرب يهتم بالقيم؛ حيث إن الاهتمام بالماديات أصبح بمثابة الإله
المعبود.
البيان: دعوات تحرير المرأة في الغرب قديمة جداً، فهل استطاعت تلك
الدعوات أن تستنقذ المرأة الغربية وتنصفها وتكرمها؟ وهل استطاعت أن تسعدها
حقاً؟
الأخت: عائشة أم سعدية:أنا شخصياً لا أعتقد أن المرأة المسماة «محررة»
بأنها سعيدة، فالشيء الذي حصلت عليه هو الغرور بأن تعتبر مساوية للرجل فقط؛
إذ ليس لها وقت أو إحساس لتحيا حقيقة أنها زوجة أو أم، وهذا مما يُحزِن؛ لأن
الله سبحانه وتعالى خلق المرأة زوجة للرجل وأمّاً لأولاده لتراعي بيت الأسرة
والأطفال وحاجات زوجها، ولمَّا لم يتحقق ذلك للمرأة المتحررة فقد ضاع عليها أهم
شيء في الحياة؛ ويوماً مَّا سوف تشعر بهذا، ولكن بعد فوات الأوان! كيف يوجد
للمرأة ذرة من الكرامة وهي تريد أن تكون كالرجل؟
الأخت: خديجة أم محمد: لا ... تحرر المرأة في الغرب لم يستطع أن
ينقذ المرأة أو يكرمها، فقط استطاع أن يضغط على النساء ليخرجن من البيوت
من غير رقيب ولا حسيب، يكون لهن هواياتهن وحياتهن الخاصة، لا يردن العمل
فقط بل دفعن بأنفسهن للوصول إلى أعلى مرتبة في العمل، والوصول إلى هذه
(القمة) ليس بالسهل للنساء، ولهذا هن دائماً تحت ضغوطات محاولاتهن للتنافس مع الرجال، وفي النهاية إذا وصلن إلى أعمال ووظائف فعادةً لا يرقين إلى ما يحققه
الرجال؛ فبعد كل هذا العمل، والوقت، والجهد والضغط ما زالت النساء هنا
مثلاً لا يحصلن على المرتبات نفسها لنظائرهن من الرجال، وهذا يؤدي إلى
نتيجة سلبية!
بعض الشركات لا تقبل النساء للعمل عندهم إذا كن حوامل ولا يوظفون
النساء اللاتي لديهن أطفال، وهذا يزيد التعقيدات للنساء اللائي يسعين للتساوي التام
مع الرجال، وهذا التعقيد هن اللواتي جلبنه؛ فبدلاً من أن يرفعن مكانتهن جعلن
حياتهن مضطربة وتحت ضغوط جمة هذا لا بد أن يؤدي إلى الحزن والأسى.
الأخت: نبيلة عبد الله: أنا أرى أن النساء في الغرب عشن مراحل (التحرر)
واستُعبدن من قِبَلِ أفكار المجتمع الداعية لتحرير المرأة. ولقد ناضل النساء لنيل ما يسمى: (حقوق المساواة في أماكن العمل) وطالبن بالمعاملة بالمثل مساواة بالرجل ولكن هؤلاء النساء أنفسهن سمعناهن فيما بعد يصرخن مطالبات بحقوق تختلف عن
الرجال العاملين، مثل مطالبتهن بإجازات وضع الحمل، وتفريغهن للبقاء في رعاية
أطفالهن الرضع، وفي هذا تناقض مع دعوات المساواة، حيث إن الرجال ليس لهم مثل تلك الحقوق، وهناك أمور أخرى مثل ترقيات العمل، فالمرأة عادة لا تمنح مثل تلك الترقيات ما لم تكن مستعدة لتقبل التحرشات المخدشة للعرض من قِبَلِ
رؤسائها في العمل. ثم إذا ما نظرنا إلى واقع المرأة العاملة فسنجد مثلاً أن عليها
التضحية في مسائل مثل تربية أطفالها والتي تلجئها ظروف العمل في كثير من
الأحيان إلى إيكال تلك المهمة إلى مربيات؛ وقد أثبتت تجربة استخدام المربيات أنها
قد تسيء إلى الأطفال؛ حيث تم ضبط كثير من الحالات التي يعنف فيها الأطفال
ويُضربون، بل وكان منها حالات أدت إلى قتل الأطفال!
أما عن وضع أزواج النساء العاملات فهي الأخرى لا تخلو من خلل؛ فكثير
من هؤلاء الأزواج قد يعاني من إهمال وتقصير زوجته تجاهه خصوصاً من الناحية
العاطفية مما قد يؤدي به إلى العزوف عنها، والبحث عن امرأة أخرى، فينتهي الأمر
إلى الطلاق وتفسخ العائلة؛ ولذا فالمحصلة الكلية لمثل تلك الدعوات التحررية
وبشكل عام لم تؤدِّ إلى السعادة.
البيان: خرجت المرأة الغربية للعمل في شتى الميادين مع الرجل جنباً إلى
جنب؛ فهل تجربة العمل هذه ناجحة؟ وما أثرها على الأسرة والأبناء؟
الأخت: فاطمة أم إسماعيل: لا أصدق أن من النجاح أن يعمل الرجال
والنساء جنباً إلى جنب؛ فمن فطرة الرجل أن يكون القائم والأقوى، ومن الطبيعي
أن يرفض منافسة المرأة في مكان العمل، وعليه فسيصعب عليها العمل في مثل
هذه الأجواء، وسيؤثر هذا بدوره على حياتها الأسرية، وذلك عندما تنقل تأثرها
بمشاكل العمل إلى البيت وتؤثر بذلك على الأسرة.
وهناك أيضاً: الدعوة للوقوع في العلاقات المحرمة في العمل، إذا كانت
الأحوال في البيت تمر في ظروف صعبة.
الأخت: عائشة أم سعدية: كثير من النساء خرجن للعمل مع الرجال،
ولكن تسمية ذلك نجاحاً شيء يحزن؛ والتنافس مع الرجال خطأ بالكلية، ولعل
المرأة العاملة تعتقد أنها ناجحة بالتمكن من نفس مكانة الرجل، أو أعلى منه، ولكنها
في الحقيقة هي الخاسرة؛ فمن مشاكل الاختلاط مع الرجال أنها تخاطر بنفسها في
الوقوع بعلاقات محرمة معهم، وطبيعي أن يؤدي هذا إلى الطلاق فتخسر زوجها
وأطفالها.. ونحو ذلك. أيضاً عدم وجودها مع زوجها قد يقلل من اكتراثها به،
ويمكن أن يجعله هو الآخر يدخل في علاقات جنسية غير مشروعة، حينئذ الأطفال
حتماً سيعانون؛ لأن الأم ليست موجودة لتعلمهم ولترعاهم. وعادة ما يؤدي هذا إلى
أن يخرج الأطفال إلى الشوارع، فيزيد احتمال وقوعهم في مشاكل عويصة، ومن
تلك المشاكل الحمل المبكر غير الشرعي للبنات. وللمعلومية فيوجد في المجتمعات
الغربية أكثر عدد من حالات الطلاق في العالم، وكذلك حالات حمل المراهقات
من علاقات جنسية غير مشروعة.
الأخت: خديجة أم عارف: في مجتمع العمل المختلط ينظر إلى العلاقات التي تنشأ بين الرجال والنساء على أنها علاقات من قبيل المتعة غير الضارة، ولكن
ينسى هؤلاء أن هذه العلاقات قادت إلى الزنا وإلى تفكك الأسرة والقضاء على الكثير
من الزيجات. هذا الاختلاط خلق كثيراً من الشك بين الأزواج حول العلاقات غير
المشروعة التي يقيمها كلا الطرفين من خلال العمل، كما أنه ورَّث كثيراً من
المضايقات والتحرشات الجنسية في العمل من قِبَل الرجال للمرأة، تلك المرأة التي
تبدي نصف جسدها أثناء العمل. إن دور المرأة أمّاً ومربية للأطفال
لم يعد له قيمة في الغرب، بل إن المرأة تُلقي بأطفالها في الحضانة أو إلى شخص
آخر ربما يكون غريباً، وتنطلق للعمل وبأجر أقل من أجر الرجل. أعتقد أنه ليست
هناك وظيفة أكثر ربحاً، وأجراً من وظيفة الأم التي تربي أطفالها في بيئة متزنة
حانية. كل طفل يحتاج أن يشعر بالحنان والطمأنينة، وهل يستطيع أحد أن يعطيه
هذا الشعور مثل الأم؟ ! على الرجال في الغرب أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه أسرهم
وأن يقوموا على الأسرة معيلين لها، وأن يشعروا بأخطائهم عندما يدفعون
نساءهم للعمل خارج البيت.
الأخت: أم يوسف: عمل النساء بجانب الرجال خطر جداً وهو ليس بناجح
حتماً، والخاسرون منه هم الأسرة عموماً والأطفال بالذات؛ فعندما تعمل المرأة
فإنها تهمل البيت الذي هو مسؤوليتها، ولعل إحدى آثار عمل المرأة أن الأكل
الجاهز أصبح الوجبة الأساسية للأطفال، مما يدعو إلى تدهور صحة الأطفال
بمرور السنين، وهناك أثر ثانٍ وهو أن الأمهات يصبحن غير متفرغات لأطفالهن
مائة في المائة، والأطفال يشعرون بذلك؛ وبهذا يظهر النقص في الاتزان
والتصرف وتنشأ مشكلات سلوكية.
أما الأثر الثالث فهو أن المرأة تبدأ في لبس زي معين لكي تجذب الرجال
داخل العمل، كما يؤدي اختلاطها بالرجال إلى عدم الرضا عن زوجها. ولعل
وجود المرأة في محيط عمل الرجال من الأسباب التي أدت إلى ارتفاع
نسبة الطلاق.
البيان: التعليم المختلط وخاصة في سنوات المراهقة من خصائص التعليم في
البلاد الغربية؛ فما تقويم هذه التجربة؟
الأخت: عائشة أم سعدية: التعليم المختلط يشجع على العلاقات بين الأولاد
والبنات، وإذا أُحصي عدد المراهقات الحوامل من مدارس مختلطة ومن مدارس
بدون اختلاط (خصوصاً المدارس الإسلامية) لوجدنا في الغالب أن النسبة في
المدارس المختلطة ستكون 57 % على الأقل مقارنة بالمدارس التي تطبق الفصل
بين الجنسين بنسبة لعلها تقرب من 5% (في حين ستجد أن النسبة في
المدارس الإسلامية هي الصفر) ، كما أنني أعتقد أن اختلاط الجنسين يؤدي
إلى عدم تركيزهم من الناحية الدراسية؛ لأن اهتمامهم سيكون موجهاً
للجنس الآخر.
الأخت: خديجة أم محمد: لتقويم التربية المختلطة في المدارس الغربية أقول: إن اختلاط الأولاد والبنات مثلاً في هذه المدارس شيء في غاية التهديم؛
فعندما يكبر الأطفال وينمون سوف يبدؤون يفهمون أمور النساء في المدرسة، وهم
ليسوا تحت رعاية دائمة، والآن غدت مواضيع الحياة يُتحدَّث فيها علانية، وعند
ذلك فإن الأطفال سوف يُشجَّعون على الفعل القبيح من زناً وما شابه ذلك، والذي
يجري في الصفوف العُليا (الفصول المتقدمة) في هذه المدارس أن ترتب النشاطات
للبنين والبنات معاً ويتركوا للاختلاط بحريَّة، والنتيجة التي لا مفر منها أن البنات
والبنين يبدؤون بعلاقات الحب والغرام، وهذا يؤدي إلى الزنا وحالات حمل البنات
الصغار، وبعد ذلك تُترك البنت لتربية الأطفال وحدها، وهذا هو سبيل
تفكك المجتمع!
الأخت: نبيلة عبد الله: التعليم المختلط خطر يهدد المجتمع؛ فالمربون
(المعلمون والمعلمات هنا) يؤمنون بمشروعية إقامة العلاقات بين الجنسين من الطلبة
المراهقين، متناسين الأبعاد الخلقية والصحية والجنسية لهذا الأمر، وهم أنفسهم
(الهيئة التعليمية) قد يكونون متورطين في أعمال غير خلقية، مثل تعاطي
المخدرات والعلاقات غير الخلقية بل وحتى الزنا. الشغل الشاغل للمراهقين في
مثل هذه الحال هو معايشة هذه الأجواء وبذلك يصبحون معرضين لمختلف الأخطاء
التي تحيق بهم في مجتمع تحطمت فيه القيم الخلقية، والمجتمع نفسه هو الخاسر في
نهاية الأمر.
البيان: تعاني الفتاة الغربية المراهقة من مشكلات اجتماعية ونفسية متعددة
نتيجة انتشار الشذوذ والزنا والاغتصاب ونكاح المحارم.. ونحو ذلك؛ فهل هذه
المشكلات موجودة حقاً؟ وما حجمها؟ وهل يدرك الغربيون خطورة ذلك؟
الأخت: خديجة أم عارف: لا أعتقد أن نكاح المحارم منتشر، ولكن الزنا
منتشر؛ فالأولاد يُعَلَّمون في المدارس أن العلاقات الجنسية مسموح بها بشرط أن
يُستخدَم الواقي، أو ما يسمى بالجنس الآمن؛ ولكنهم لا يعلمون القيم الأخلاقية أو
أهمية الزواج. وهذه الأشياء لم تؤدِّ إلى أعداد كثيرة من الحمل المبكر غير
المرغوب فيه، وإلى أعداد من الأمهات بدون أزواج فحسب؛ بل أدت إلى مجتمع
يفتقر إلى الاتزان الأخلاقي والذي هو من الضرورات لتربية الأطفال في أي مجتمع.
كثير من الفتيات أصبن بصدمة نفسية نتيجة الحمل المبكر (بطريق الزنا) وأدى
ذلك إلى الإجهاض، ولا تسأل عن آباء صغار السن والذين يتنكرون
للمسؤولية عادة. إن الصدمة النفسية والمعاناة المترتبة على هذه المشاكل خيالية. الإعلام يدفع الفتاة إلى التجمُّل والخروج بشكل سافر وهو ما يؤدي غالباً إلى الاعتداء
الجنسي، والقتل أحياناً. كل ذلك له تأثير سيئ على المجتمع؛ فالفرد الذي
اعتاد الخلاعة والإباحية يصعب عليه أن يقيم علاقة متزنة من خلال أسرة وأن يربي
أطفالاً. المجتمع والمربون والآباء لا يقدمون إلا القليل في مواجهة هذه المشاكل.
الأخت: نبيلة عبد الله: أنَّى للمربين أن يُقدِّروا خطر هذه الانحرافات وهم
أنفسهم من ضحاياها؟ ! لقد انضم كثير من ذوي الانحرافات وبمختلف أصنافها إلى
فئة المربين، وهذا يشجع المراهقين على ممارسة ما يسمى بالطرق المأمونة
لتعاطي المخدرات وممارسة العلاقات الجنسية وهم في عمر يافع لا يعون معه
المخاطر التي تحيق بهم!
الأخت: أم يوسف: هذه المشاكل موجودة، وأعتقد أن حجمها أكبر من أن
يتخيله أحد. أنا أعتقد أن المربين واعون لأخطار هذه الانحرافات السلوكية ولكن لا
يعرفون كيف يوقفونها.
الأخت: خديجة أم محمد: نعم! هذه المشاكل موجودة، ومدى هذه المشاكل
يؤدي إلى خلخلة أسرية؛ فعندما يكبر الأطفال يغدون مختلين وينقلون مشاكلهم
وخللهم الاجتماعي إلى مراهقين آخرين أو حتى أطفالهم؛ وهذا ينتج قلة الاحترام
في المجتمع، ولهذا فإن هناك تفككاً كبيراً في الحياة الأسرية، وفي القدرة على
التعامل الاجتماعي الجيد.
الأخت: فاطمة أم إسماعيل: نعم هذه المشاكل موجودة، ولكن أنا أشعر أن الموضوع في غاية البشاعة، ولا أريد أن أعلق أكثر.
البيان: للإعلام دور بارز في صناعة الأخلاق والقيم؛ فكيف يصور الإعلام
الغربي المرأة الغربية؟ وهل لهذه الصورة دور في إفساد المجتمع وتفككه؟
الأخت: فاطمة أم إسماعيل: الإعلام يستخدم النساء معظم الوقت أدوات
للنظر إليهن، والبنات الصغيرات يشاهدن هؤلاء النساء ويرغبن في الظهور
مثلهن، ولذلك فإن المشكلات كثيرة منها تخلي المرأة عن عملها البيتي كالطبخ وغيره من الخدمات وانشغالها بجسمها.
الأخت: خديجة أم عارف: الإعلام يركز على منظر المرأة ومظهرها؛
فالمرأة الجميلة ذات الجسم الرشيق تغطي صورتها الصفحات، وتعرض جسمها
بطريقة مقززة، والمرأة تفاخر بجمالها وتعتبره سلعة ناجحة. وتعتقد بعض النساء أن
الحرية للمرأة هي في التعليم وفي تحقيق المنصب والشهرة، ولا يخفى أن هذه الحرية
هي التي أنتجت صناعة الجنس والتي تعتبر من أكثر الصناعات نمواً في الغرب.
نعم! لقد امتُهِنَت المرأة في الغرب وهي التي سمحت للعابثين بذلك. غسيل الدماغ
مستمر في الإعلام من خلال طرح نماذج على أنها مثال أعلى؛ إذ تقدم حياتهم
الجنسية على أنها المثال، مثل نجوم الموسيقى والغناء مع عدم تقديمهم أمثلة
إيجابية يمكن الاقتداء بها.
الأخت: خديجة أم محمد: الإعلام الغربي يصور المرأة الغربية على أنها
قوية، مستقلة، جميلة ومثالية؛ لأن النساء يرغبن بذلك كما يقول الإعلام،
وإذا لم يكن عندها أي من تلك الصفات فستفعل أي شيء للحصول على ما يتوقعه
الناس من هذه المظاهر مثل لون الشعر، ولون البشرة، وإذا لم تستطع أن تحقق
ذلك فسوف تكون في غاية من الضيق؛ لأنها لم تبلغ (المثالية) التي يصوِّرها
الإعلام! وهذا يؤدي بها إلى الكآبة الشديدة والإحباط بل، وأحياناً إلى قتل النفس.
صورة الإعلام هذه شر ماحق يمكن أن يدفع المرأة إلى أن تحطم عزتها
بنفسها، وإذا فقدت عزة النفس فلن تُكرَم أو تراعي أي أحد، أو أي شيء آخر،
وهذا يمكن أن يؤدي إلى الإجرام واللامبالاة بين أفراد المجتمع.
الأخت: نبيلة عبد الله: إن الإعلام في تصويره للمرأة في الغرب يهمل
دورها في المجتمع زوجةً وأمّاً، ويركز على مسائل مظهرها وهيئتها ودوافعها إلى
كسب المال. الغالب هنا أن البنات الناشئات لم يعد لهن قدوة حسنة في أمهاتهن اللائي
أصبحن يعلمنهن أن قيمة المرأة تكمن في اهتمامها بالملبس وقابليتها على جذب وإبهار
الرجال. ومن المفاهيم المنحرفة التي أصبحت مترسخة عند كثير من النساء أن
الاهتمام برشاقة الجسم مثلاً مقدم على الإنجاب والاعتناء ببيتها. كذلك فإن نظرة
المرأة الغربية للرجل أصبحت تتسم بقلة الاكتراث لدوره في المجتمع، حيث إنها
ما عادت في حاجة ملحة للارتباط بزوج؛ فالحرية الجنسية تصور لها أن الزواج
أضحى من عادات الماضي وتقاليده وأن الزواج يؤدي إلى استعبادها من قِبَل رجل
واحد!
الأخت: عائشة أم سعدية: الإعلام بارع في إبراز قضية تحرر المرأة
الغربية.. الحرية في الذهاب إلى العمل، السياحة، السوق.. ونحوها. النساء في
خطر كبير وهو: الاقتناع بأن كل شيء في الحياة رائع ويُشْرَع لها نيله؛ فلماذا
تتزوج، وفي استطاعتها نيل المتعة من غير زواج؟ ! ولماذا تجلس في البيت وفي
استطاعتها أن تعمل وتختلط بحرية مع الرجال، وتحصل على أي عدد من
الأخلاء كما تريد؟ ! المرأة في الغرب اليوم لا يوجد عندها قيم لنفسها، وليس لها كرامة البتة، وسوف تهلك نفسها بنفسها.
البيان: التفكك الأسري، والتمزق الاجتماعي يعده بعض الناس أحد سمات
المجتمع الغربي، فهل هذا صحيح؟ وهل له أثر على تربية الأبناء؟
الأخت: خديجة أم عارف: من أهم أسباب تفكك الأسرة في الغرب كثرة
الطلاق وارتفاع نسبته، وقلة الزواج؛ فالكثير لا يتزوج. ومن آثار هذا التفكك الآثار
السلبية على الأطفال الذين يقعون ضحية للطلاق. ومن مظاهر التفكك كثرة
الأمهات العزاب التي يكون لديهن أطفال من غير زواج، ولكن من علاقات غير
مشروعة، وعدد هؤلاء في ارتفاع مع ما يواجهن من صعوبات في تربية الأطفال
وفقدان للعطف والرعاية من الآباء. وهذا يفسر انحراف كثير من الأطفال في هذا
المجتمع. إن تعاليم الإسلام تحفظ للمرأة كرامتها وأي حدود توضع لها هي لحفظها
وصيانتها؛ ولكن للأسف فإن هناك جهلاً بحقوق المرأة في الإسلام؛ فمثلاً واجب
الإنفاق من قِبَلِ الزوج على المرأة والأطفال والبيت هو حق لهم مقرر في الإسلام؛
فعلى الزوج أن ينفق ومع ذلك يحق للمرأة أن تحتفظ بما تمتلك لنفسها إلا إذا أرادت
المساعدة في حال العسر مثلاً. المرأة في الإسلام ليست تحت ضغط يدفعها للخروج
من المنزل للعمل، بل لها الحرية في البقاء في البيت لتربية أطفالها دون الشعور
بالذنب الذي تشعره الكثيرات من النساء غير المسلمات في الغرب. وللمرأة حق
التعلُّم وخاصة في أمور دينها وأن تسد الحاجة في مجال الطب والتدريس حتى تقوم
بخدمة أخواتها المسلمات في بيئة تعمل فيها بعيداً عن الاختلاط وتحكم بأحكام
الإسلام.
إن نظرة الذين لم يذوقوا حلاوة الإسلام والإيمان بأننا لسنا سعداء بطريقتنا
الإسلامية في الحياة هذه النظرة غير صحيحة ولا واقعية؛ فأنا مثلاً أشعر بسعادة
غامرة عندما التقي بأخواتي المسلمات بعيداً عن الرجال في مجتمع نسائي منفصل؛
حيث لا تحاسُد ولا تباغُض كما يحدث في المجتمعات المختلطة؛ حيث الغيرة
والتباغض. كما أن الإسلام يحث المرأة على الاهتمام بالمنزل والأسرة؛ فإنه يفتح
المجال لتعارف النساء، وفتح باب التعلم لهن، وخاصة العلم الشرعي. النساء غير
المسلمات اللائي يحضرن أحياناً معنا في الحلقة بغرض التعرف على الإسلام يفاجأن
بالتواد والتراحم الموجود بين المسلمات.
أما الحجاب الذي يتصور الغرب أنه حاجز أو عائق فقد كان تحرراً بالنسبة
لي، تحرراً من أن يُنظَر إليَّ تلك النظرة المادية نظرة الجسد الخالي من العقل،
وكان الحجاب دافعاً لأن أعامل باحترام وكرامة.
الأخت: أم يوسف: هذا صحيح، والآثار على تربية الأطفال بالغة؛ ففي
المجتمع الغربي لا يربى الأفراد في أسرة تعتني بهم؛ لأن كل عضو في الأسرة منشغل بنفسه، ولهذا عندما يصل الأطفال إلى سن البلوع فإنهم يمرون بهذه المرحلة
الحساسة (سن المراهقة) وحدهم دون رقيب ولا حسيب ولا قلب حانٍ شفوق،
وحتماً فإن المجتمع سيتدهور عندما يعاني الناس من المشاكل، وهذه نتيجة طبيعية لا مفر منها.
الأخت: خديجة أم محمد: نعم! ما ذكر صحيح وله تأثير على الأطفال؛
فالأطفال إذا ما نشؤوا في أسرة مفككة فلربما أدى ذلك إلى مرورهم بطفولة مؤلمة.
كما أنهم عندما يكبرون ربما تنشأ عندهم مشكلة بخصوص تحمل مسؤوليات الزواج،
هذا إذا لم يعدلوا عن فكرة الزواج أصلاً خوفاً من الوقوع في زيجات غير موفقة، مما
يدفعهم إلى أن يخوضوا في العلاقات المحرمة التي بدورها ستنتج أطفالاً غير
شرعيين في بيوت لا تربطها الأنظمة الأسرية؛ وهكذا دواليك.
الأخت: نبيلة عبد الله: إن التفكك الأسري من سمات العائلة الغربية؛
فمصطلح (العائلة) أصبح يعني مجموعة من الأفراد الذين يتقاسمون مكاناً معيناً،
ولكن ليس عندهم هموم ولا أهداف ولا قيم مشتركة، وتُرِكَ الأمر للصحافة والتلفاز
والحاسب لتثقيف العائلة. والغربيون يصدقون ما تبثه لهم هذه الوسائل على أنها
الحقيقة الخالصة ولا يلتفتون كثيراً إلى ما قد يبث عبرها من حملات إعلامية
تضليلية. كما انشغل أفراد العائلة الغربية فأصبحوا نادراً ما يأكلون سوياً، وقلما
يتخاطبون فيما بينهم، بل وقد ينعدم اكتراث بعضهم ببعض، وأصبحت الأنانية
وحب الذات من سمات المعيشة في المجتمع الغربي، ومن أساسيات البقاء فيه على
(هامش الحياة) . كما صار العزوف عن القيم الأخلاقية من قِبَلِ الأبوين ينعكس على
أولادهم فينشؤون هم بدورهم أفراداً بعيدين عن المعايير الخلقية ينقصهم احترام
الذات واحترام الآخرين.
البيان: بعد هذه الندوة اللطيفة هل لنا أن نسأل عمَّا جعلكن تهتدين إلى
الإسلام؟ !
الأخت: خديجة أم عارف: ما زلت أتذكر أني كنت أؤمن بالإله منذ الثامنة
من عمري، وكنت أذهب إلى الكنيسة مع وجود لَبْس وعدم وضوح لديَّ لمفهوم
التثليث ومفاهيم أخرى، ثم توقفت عن ذلك في سن التاسعة عشرة وعشت حياة
الغربيين. سمعت لأول مرة عن الإسلام في سن الرابعة والعشرين، وبعد سنوات
قابلت رجلاً مسلماً في العمل، وعرفني على زوجته، ثم بدأت أتعلم الإسلام، كل
شيء كان بالنسبة لي صحيحاً ويقع في الموقع الصحيح، لقد كنت أؤمن بالتوحيد
بأن الله واحد؛ وما ذُكِرَ في القرآن والسُّنَّة عن عيسى عليه الصلاة والسلام كان منطقيا ومقبولاً لي. كثير من تفاصيل الإسلام جذبتني كالرفق بالحيوان والاهتمام بالبيئة والأدلة العلمية في القرآن وأصبحت أكثر وضوحاً عندي الآن. ثم بدأت
بالتحدث مع عائلتي والأصدقاء عن الإسلام والمسلمين، وبعد سنتين من
القراءة والتأمل والتفكير وهذا التأخر ليس لتشككي في صحة الإسلام ولكن
كان بسبب التأمل بقدرتي على تحمل الأعباء والتحولات التي سوف تنتج عن
إسلامي بعد ذلك كله أعلنت الشهادة وأصبحت مسلمة والحمد لله.
الأخت: خديجة أم محمد: كان لديَّ صديقات مسلمات كثيرات، وكنت
دائماً أحب أن أسمع تعاليم النبي، وأحببت كثيراً من الأشياء المذكورة في القرآن
والحديث، لقد قرأت كتاباً يشرح الحياة الأسرية في الإسلام وهذا ما أردته. أيضاً
لقد انجذبت للإسلام؛ لأن المسلم الصالح أمين، ومن ناحيتي فإني أحب الاجتماع مع
الناس، والحياة مع زوج أمين يتقي الله سبحانه وتعالى، وأنا أرى أن المسلمين هم
الناس الوحيدون الذين يستحقون الاجتماع معهم.
الأخت: نبيلة عبد الله: لقد تقبلت معتقد الإسلام بعد أن وجدت أن الله تعالى
أنه قد وضع نظاماً شاملاً لحياة البشر رحمة بالعالمين. وهذا النظام الشامل الذي يتيح
للبشر أن يتعبدوا ربهم الخالق من خلال تطبيقه في نواحي حياتهم المختلفة؛ فهو نظام
مهذِّب يغطي جميع القيم الخلقية والحريات والتربية وأسس العلاقات الزوجية، بل
وعلاقات البشر بعضهم ببعض. كنت أشعر بأن حياتي كان ينقصها شيء معتبر،
وكنت أفتش في قرارة نفسي عمن يستحق الثناء والشكر، متناسية من هو أهل للثناء
والشكر وهو الخالق المنان. وكنت دائمة الاستجابة لتوقعات الآخرين مني، وفي الوقت نفسه غير آبهة بالأحكام والسنن الإلهية المفروضة على العباد. أمَّا الآن وقد
هداني الله تعالى للإسلام فسعيي حثيث للقبول بتوجيهاته، والاستسلام لحكمه
وتعاليمه جل شأنه وأدعو الله ألا أنسى أبداً أن الفضل والحمد كله يعود له
وحده سبحانه وتعالى. أسأل الله أن يتقبل صالح أعمالنا وأن يشملنا برحمته جميعاً.
البيان: الحمد لله على نعمة الإسلام. والآن نود لو تحدِّثْنَنا عن تجربتكن في
الإسلام: هل وجدتن في التعاليم الإسلامية ما يُقيد المرأة أو ينتقص من كرامتها، أم
أن الأمر مغاير لذلك؟
الأخت: فاطمة أم إسماعيل: لا، نحن محميون ونعامَل بأعلى كرامة.
الأخت: عائشة أم سعدية: لا يوجد شيء في الإسلام يقلل من كرامة المرأة،
الإسلام يعطيها الكرامة، إنها لا تعرض على أي شيء سيئ، إنها تحفظ نفسها
بالستر والكرامة وتغض نظرها وتخفض صوتها ولا تكون مصدراً للمشاكل لا داخل
البيت ولا خارجه، إنها محدودة فقط داخل نطاق الإسلام، ولكن ليس كما يصوره
الإعلام الغربي؛ فالمرأة المسلمة تعامل بالود والكرامة التي تستحقها، وإذا عرفت
النساء الغربيات كيف تُعامَل المرأة المسلمة كما يأمر الله سبحانه وتعالى فسوف
يسرعن لاعتناق الإسلام إن شاء الله.
الأخت: نبيلة عبد الله: إن الإسلام لا يقيد ولا يصادر أي شيء من كرامة
المرأة. والحقيقة أن الإسلام يرفع من منزلة المرأة إلى درجة لا يمكن التعرف عليها
ما لم تعتنق المرأة الإسلام فعلياً. عند دخولي في الإسلام دهشت لما يتمتع به النساء
من منزلة رفيعة. فالصورة مغايرة لتلك التي عند الغربيين؛ فالمرأة عندهم زينة في
ذراع الرجل يتباهى بها ثم يلقيها أرضاً بعد حين. إن التزام المسلمة بالحجاب
والنقاب يُعد بمثابة حماية داخلية، وأخرى خارجية لها. فلسان حال مظهرها
الخارجي يقول: إنني أغطي جسدي لأحميه من قلة الستر المستشرية في المجتمع،
وحتى لا أدع مجالاً للآخرين كي ينجذبوا لعورتي؛ ومن دون ذلك ربما كانوا
سيهينونني بنظراتهم أو لمساتهم التي كان من الممكن أن تنشأ نتيجة سوء فَهْمٍ
لمظهري أو حركاتي فيما لو كنت غير ملتزمة بالزي الإسلامي. إنني أعتز بكوني
مسلمة، والآن وقد تزوجت فأحس بالمشاعر الخاصة كوني امرأة لها زوج يعتني
بها، وإن شاء الله يكون ممن يتذكر تعاليم الله تعالى وأحكامه بخصوص معاملة
الزوج لزوجته.(150/78)
قراءة في كتاب
نبي الإسلام.. بين الحقيقة والادعاء!
تأليف: د. عبد الراضي محمد عبد المحسن
عرض: د. أحمد علي زلط
صدر مؤخراً كتاب: (نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء) للدكتور
عبد الراضي محمد عبد المحسن عن الدار العالمية للكتاب الإسلامي بالرياض؛ وقد
قام المؤلف في إخراج مادة كتابه بمنهأج موضوعي رصين؛ وأسلوب عربي مشرق،
بهدف تصحيح الصورة الخاطئة والمفاهيم المغلوطة عن نبي الإسلام، وقد استغرق
إعداد الكتاب كما يقول مؤلفه: (عشر سنوات ... وذلك إدراكاً منا لدقة الموضوع
وأهميته، وضرورة الاحتشاد الكافي له) [1] .
وعنوان الكتاب يتآزر مع مضمونه أو محتواه؛ مما يشكل إضافة مهمة لمكتبة
الدراسات الإسلامية المعاصرة.
ظل النبي المصطفى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هدفاً لمطاعن خصوم
الإسلام التقليديين وجنودهم من جحافل المبشرين والمستشرقين الذين راحوا يثيرون
الغبار والشبهات، ويروِّجون المزاعم حول النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته،
يريدون تشويهه في أعين الذين لا يعرفونه، لتنفيرهم من الإسلام السمح، و (في
محاولة يائسة لقطع الطريق أمام الإسلام في أداء رسالته التنويرية وتعطيل دوره
الحيوي في هداية البشرية) [2] .
وقد جاءت الدراسة الموضوعية للكتاب في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: بعنوان: النبوة في الإسلام، ويهدف المؤلف إلى تعريف
طبيعة النبوة في الإسلام وذلك من خلال إيراد مفهومها في اللغة والاصطلاح، ذلك
المفهوم الذي يجمع بين نظرية الاتصال والمعرفة المترتبة على هذا الاتصال؛ ومن
جانب ثالث هو (الهبة) التي تمثل الطريق الوحيد للنبوة في الإسلام. وقد بدأ
المؤلف بتعريفات النبوة، فيقف أمام تعريف أهل السنة للنبوة ويرتضيه، وينقل
عن ابن حزم: (النبوة مأخوذة من الإنباء وهو الإعلام؛ فمن أعلمه الله عز وجل
بما يكون قبل أن يكون أو أوحى إليه منبئاً له بأمر ما فهو نبي بلا شك) [3] . أما
ابن تيمية فيؤكد في تعريفه على الاتصال الرأسي (بالله) والاتصال الأفقي (بالبشر)
فيقول: (فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأه الله به؛ ويقول أيضاً:
فالأنبياء ينبئهم الله، فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره، وهم ينبئون المؤمنين بما أنبأهم
الله به من الخير والأمر والنهي) [4] .
توقف المؤلف في كتابه أيضاً ليؤكد تعريفات النبوة أو مفاهيمها عند المعتزلة،
وهم يرون فيها (رفقة مخصوصة خص الله بها بعض عباده، ثم توقف أمام تعريف
ابن خلدون للنبوة الذي رأى فيها) الصدق الذي لا يعتريه الكذب؛ لأنها اتصال من
النبي بالملأ الأعلى من غير مشيع، ولا استعانة بأجنبي (وعمَّق المؤلف في ضوء
ذلك ماهية النبوة لغة واصطلاحاً.
وقد حدد المؤلف في مباحث الفصل الأول مراتب النبوة، وعصمة الأنبياء،
وختم النبوة، فعرج إلى مراتب الأنبياء، الرسل، أولي العزم، خاتم الأنبياء محمد
صلى الله عليه وسلم. ثم تناول عصمة الأنبياء في الجانبين الأخلاقي والتبليغي
(إبلاغ رسالة النبوة) . وقد عرض مؤلف الكتاب في المبحث الرابع والأخير من
الفصل الأول أدلة العقل والشرع والإجماع، والاجتهاد (الأدلة الذاتية) على كون
رسالة الإسلام هي خاتم الرسالات ورسول الإسلام خاتم الأنبياء والمرسلين.
ويستدل المؤلف بالقرآن الكريم في إثبات عصمة الأنبياء في التبليغ فيذكر في كتابه:
(فالقرآن يخبرنا أن الله قد عصم أنبياءه عن النسيان، قول تعالى:
[سنقرئك فلا تنسى] [الأعلى: 6] . أي لا تنسى شيئاً من الوحي إلا ما أراد
الله، ويقول تعالى مخبراً عن تكفله جمع الوحي في قلب الموحى إليه: [لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ]
[القيامة: 16 - 18] ، ويقول تعالى عن ضمان التبليغ: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] [المائدة: 67] ، وعن استحالة
القدرة على الكذب: [ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ
(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ] [الحاقة: 44 - 46] ، ويجمع القرآن كل ذلك في آية
قاطعة جامعة: [ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى] [النجم:3،4] .
ويدعم المؤلف مباحث الفصل الأول الفرعية بمقولات سديدة حول موضوعات
الفصل جميعاً؛ حيث يلخصها في جانب عصمة الأنبياء (في الأخلاق والتبليغ) ؛
ومنها رأي ابن تيمية: (والعقل يلزم بهذه العصمة؛ إذ بدونها لا يحصل مقصود
النبوة والرسالة؛ إذ لما كانت النبوة أو الرسالة هي النبأ أو الخبر فقد وجبت
العصمة عن الخطأ في نقل هذا النبأ الذي هو مقصود النبوة والرسالة [5] ،
والإجماع قد ثبت باتفاق الأمة على عصمة الأنبياء في التبليغ عن رب
العالمين [6] .
يقول الله تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ] [الأحزاب: 40] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون في أمتي
ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) [7] .
في ضوء ذلك يسترشد المؤلف بالكتاب والسنة؛ ثم ما أسماه بالأدلة الذاتية
ويقصد بها الخصائص والمقومات الذاتية للإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً ومنهج
حياة؛ كما فند الاختلاف بين الأدعياء في تاريخ الديانات؛ من أفراد أو مذاهب، وبين الثبات والرسوخ واليقين بمقام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لكونه خاتم الأنبياء، ومنه قول العلاَّمة كارستن كولبي في كتابه: (خاتم النبيين) الذي دعم به المؤلف فكرة ختم النبوة، فيذكر أنه الإعلان الوحيد في تاريخ النبوة الذي يصدر عن صاحبه وفي حياته ويسجله كتابةً، وذلك في وضوح ودقة وقطع لا مجال فيه للبس أو غموض؛ إذ هو ليس كغيره من الإعلانات السابقة التي تحصل عن طريق الاستنباط أو التحليل [8] .
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد أخذ مجهوداً أو تكثيفاً لتفنيد المزاعم ضد نبي
الإسلام وقد انبرى قلم المؤلف في وعي وبرهان ليفند الدعاوى الآتية:
1 - دعوى عدم انقطاع شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
2 - دعوى عدم الحاجة إليه.
3 - دعوى (عدم تبشير النبوات) .
4 - دعوى (عدم التأييد بالمعجزات) .
5 - دعوى (قصر النبوة على العرب) .
6 - دعوى (أن الإسلام (هرطقة) مسيحية) !
وظاهر الدعاوى السابقة؛ أنها هرطقات الأعداء للإسلام ولرسوله صلى الله
عليه وسلم، ولذا فإن الصفحات من (74) إلى (108) من الكتاب تكفلت بالرد على
تلكم المزاعم، وهي ترهات تنكر ضوء الشمس وحقيقة نبوة الإسلام، وخاتم
الأنبياء؛ وهنا لم يأت المؤلف بجديد، لكنه كثف وحدد في نهج موضوعي كيفية إبطال كل دعوى من الدعاوى المثارة حول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بما يزيل تلك الشبهات باليقين العلمي المسدد. قال تعالى: [ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 107] . وقال عز من قائل: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] [سبأ: 28] . ويقول تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ] [الأعراف: 158] .
عرض كتاب: (نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء) في الفصل الأخير منه،
عرضاً موثقاً وأميناً لدلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فصَّل المؤلف
دلائل النبوة تفصيلاً: أنواعها، وخصائصها، ثم توجه المؤلف إلى القرآن الكريم
يكشف للقراء وجوه دلالته على النبوة، ومراتب الإعجاز القرآني على تنوعها
المعروف.
وفي المبحث الثاني من الفصل عرض المؤلف أنواع المعجزات (معجزات
النبوة) واستهل بماهية المعجزات والرد على منكري المعجزات وهي ماثلة
كما عرض لها المؤلف في القرآن الكريم وكتب الحديث، أو المعجزات الفعلية والقولية، وقد لجأ المؤلف إلى استناد حقيقي آخر هو البشارات، وأثرها في
الاستدلال على (دلائل النبوة) قبل البعثة المحمدية وبعدها.
أما المبحث الرابع حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه فقد وقف
المؤلف عنده بالتأمل وملتزماً بمنهج عرض مادة الكتاب، فكان خير خاتمة لفصول
الكتاب، ومنه نقتطف بعض ما أورده المؤلف بقلمه أو تعضيداً بالرأي من السلف
الصالح: (نص القرآن الكريم على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فيقول
تعالى: [وإنك لعلى خلق عظيم] [القلم: 4] ، وإشارته إلى هذا الكمال الأخلاقي
سبب في تأليف القلوب حول النبي، يقول تعالى: [ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك] [آل عمران: 159] [9] .
ويقول الماوردي هنا: (إن تكامل الأخلاق أمر معجز؛ لأن الناس يطلبونه
فلا يجدونه؛ فهو معوز لهم، وتكامل الأخلاق أيضاً موجب للصدق، والصدق
موجب لقبول القول، ومعلوم أن جماع الكلام في النبوة قائم على الخبر وقبوله،
فوجب أن يكون من دلائل الرسل [10] .
وليس من شك أن المؤلف وُفِّق إلى تفصيل ذلك، فعرض إلى كمال الخصال
والأوصاف، وفضائل الأقوال، وفضائل الأعمال؛ وسنقف عند فضائل الأعمال
لنثبت ما قاله المؤلف عنها بوصفها أحد محددات كمال أخلاق الرسول صلى الله
عليه وسلم ومن سيرته العطرة. يقول المؤلف: (فضائل الأعمال مختبر بخصال
منها: حسن سيرته، وصحة سياسته، والثانية: جمعه بين رغبة من استمالة
ورهبة من استطاع حتى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته،
والثالثة: توسط شريعته بين الإفراط والتفريط، والرابعة: أخذه من الدنيا على قدر
الكفاية، والخامسة: توضيحة لمعالم الدين وأحكامه وعباداته حتى لم يحتج إلى
شرع غيره، والسادسة: جمعه بين الدعوة للدين باللسان والبيان وبين الانتصاب
لجهاد الأعداء حتى انتصر، والسابعة: ما اختص به من الشجاعة في الحروب
وثبات القلب وسرعة النهوض إلى نجدة الملهوف والمحتاج والمفزوع، والثامنة:
ما كان عليه من سخاء وجود، حتى جاد بكل موجود، وآثر بكل مطلوب
ومحبوب) [11] .
خاتمة مجملة:
إن كتاب: (نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء) أحد أهم الكتب الإسلامية
الرصينة التي أفرزتها حركة الدعوة، أو إنتاج دور النشر المختصة في العقود
الأخيرة، وهو مجهود فكري هادئ موضوعي ينأى عن الحماسة والضجيج،
ويقترب من الكتب الثقة الأم التي تناولت مثل هذا العنوان.
وقد بات من الضروري أن أنوِّه بكلمة الناشر في ذيل الكتاب، وأجدها فرصة
للإفادة من موضوعات الكتاب فهماً وعملاً؛ فالكتاب هذا أصبح أحد العناوين المهمة
للدفاع عن نبي الإسلام ورسالته. وجاء الكتاب في مجمله دراسة منهجية فيها من
الدقة العلمية والأخذ بثوابت العقيدة؛ وجديد العلم الصحيح النافع، وهو ما تقدمه
صفحات ذلك الكتاب. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم
على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء، د عبد الراضي محمد عبد المحسن، الطبعة الأولى، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، 9141هـ 8991م، ص 6.
(2) المصدر السابق، ص 5 (3، 4) المرجع السابق، ص 71.
(5) انظر: النبوات، لابن تيمية، ص 122.
(6) المرجع السابق، النبوات، نفسه.
(7) البخاري، كتاب المناقب باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
(8) نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء، ص 56.
(9) المرجع السابق، ص 212.
(10) أعلام النبوة، الماوردي، ص 851.
(11) نبي الإسلام بين الحقيقة والادعاء، ص 512.(150/88)
البيان الأدبي
من مناهج قراءة النص الأدبي
د. مصطفى السيد
(خير للإنسان أن يَعْدِل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير
منهج) [*] .
1/4
ولد النص النقدي بوصفه البحث عن الأنساق المتحكمة في شعرية النَّص
الأدبي بعد ميلاد هذا الأخير، وليس النص النقدي ثرثرة أو ترفاً فكرياً، بل هو من
مكملات النص الأدبي ومن مقوماته، ومن العناصر الأساس في الثقافة الإنسانية
الأصيلة؛ لأن الإنسان فرداً كان أو أمة يكون حظه من الفكر المتين، بمقدار حظه
مما يمتلكه من ذائقة نقدية وذهنية ناقدة لا تُسلِّم أو تستسلم لأي فكر قبل أن تحاكمه
نقدياً.
وإذا كان الخطاب الأدبي يمتح ابتداء من موهبة أصيلة، فإنه أيضاً يتقرَّى
بالواقع، ويقتات من إخفاقه ونجاحه ليرد إليه ما يأخذه منه بعد أن تعيد عبقرية
المبدع صهره، وصياغته صياغة أدبية؛ وبسبب من هذه العلاقة الأبوية بين
المجتمع/ الواقع والنص ظهرت الاتجاهات: الواقعي/ الاجتماعي / النفسي، لتحاكم
النص بوصفه إحدى التجليات الفكرية والإبداعية للمجتمع والمبدع، وما زالت هذه
الاتجاهات أكثرها تتبعثر جهودها حول النص لا فيه، ولم تلحظ استقلاله عن بيئته
الزمانية والمكانية، وعن حياة قائله وشخصيته، ولو أن أعمال شكسبير
(1564-1616م) مثلاً اعتمدت في فهمها وتقدير قيمتها على البيئة والعصر اللذين انتجاها لما كان لها معنى ولا قدر خارج هذه البيئة وذاك العصر؛ ذلك لأن الشعر أعمق بكثير من مجرد كونه مصدراً نستقي منه حياة الشاعر، وإذن فيمكن أن
يقال: إن القصيدة هي الحياة ولا أقول الواقع وقد وضعت في بناء لغوي موسيقي متوازن، تتضاءل فيها قيمة المناسبة الخاصة، وتتضاءل قيمة الواقع الخاص المصوَّر) [1] .
(ولعل واحداً على الأقل من أسباب انصراف الناس عن الآداب أن الدارسين
تحدثوا إليهم كثيراً عن الأدب وتحدثوا إليهم قليلاً في الأدب) [2] .
(فالدارس العربي محتاج إلى مراجعة موقفه على ضوء ما يتجه إليه النقد
العالمي في هذه الناحية؛ فما يزال لحياة المؤلف عنده أي الناقد العربي ذلك البريق
الشديد، وما يزال يحتفل بحقائق السيرة الذاتية، ويعدها وثيقة من وثائق الدرجة
الأولى لتفسير العمل الأدبي) [3] .
فالاتجاه الواقعي وأشقاؤه يمَّموا وجوههم قِبَلَ النص بوصفه وثيقة اجتماعية أو
تاريخية أو نفسية، واعتقدوا أنهم قالوا كل شيء عن العمل الأدبي عندما كشفوا
شبكة علائقه التاريخية والاجتماعية، ومدى محاكاته لمرجعيته الاجتماعية، وإلى
أي حدّ كان النص مظهراً لمشكلات مجتمعه ولنجاحاته أيضاً.
كما ساءلوا النص عن حياة الكاتب الخاصة؛ إذ أكّد سانت بيف
(1828-1893م) أكبر نقاد فرنسا في زمانه أكد (في تفسير أعمال الأدباء على دراسة حياتهم الخاصة، واستقصاء جميع تفاصيلها، بما فيها حياتهم الحميمة، حتى اتهمه الأدباء المعاصرون له بما يشبه التجسس على حياتهم الخاصة) [4] .
ويثمّن ريمون بيكار ناقد فرنسي جهود سانت بيف ومجهوداته قائلاً عنه وعنها
: (كان مسؤولاً أكثر من أي إنسان آخر عن هذا الخلط بين حياة المؤلف وعمله،
والغريب مع هذا أن مكانته لا تزال على حالها، ولا يزال سانت بيف الشخصية
التي تقرر مصير الأدب) [5] .
ولا شك أن النقد الفرنسي قد تجاوز سانت بيف، غير أن توجه هذا الأخير مازال مهيمناً على أكثر أركان المؤسسة الأدبية في العالم العربي وما زال النص درساً
ودارساً ومدروساً يعاني من السانت بيفية إذا صح هذا التعبير، ودراسة النص بهذه
المنهجية تجعل النقد والناقد يتنازلان عن موقعهما لموقع الشرطي والرقيب إزاء
العمل الأدبي، في حين يبقى موقعهما شاغراً.
يقول جورج ستينير ناقد أكاديمي إنجليزي: (إن رجل الشرطة والرقيب
يسألان الكاتب، على حين يسأل الناقد الكتاب فحسب) [6] .
وكان أكبر همِّ المناهج السابقة أن تجد في النص الفكرَ لا الجمال، والحقائق
لا الخيال، ولا يمكن أن نضع دعاة هذه الاتجاهات في قَرَن واحد، أو نحددهم
بتعريف وحيد، ولكن النقد الواقعي خاصة لفظ أنفاسه الأخيرة أو كاد على أيدي
دعاته من الروس عندما انحطوا بالنص الأدبي إلى مهام أقرب ما تكون تابعة
للبلديات لا للمؤسسات الأدبية، ولعل أندريه جدانون (1896-1948م) الذي رأى
اختزال الأدب ونقده إلى المستوى الذي يطابق منظوره ورؤيته الشيوعية السوفياتية
لهذا الفن الجميل، بل لعله كان يوقع شهادة وفاة هذا الاتجاه من حيث أراد بحسب
منظوره الزِّمّيت دفعه إلى الإمام.
ولا أنكر وأي باحث حر أن أموراً خارج النص يمكن أن تسعف في إضاءته،
وإنما غير المقبول هو تضخيم هذه الأمور الخارجية حتى توشك أن تحجب أشعة
شمس النص أو تكاد.
ولقد نبه نقاد كثر يُعتد بكلامهم إلى الإحالات الخارجية، ولكن بدون إسراف
في التناول.
يقول ت. إس. إليوت: (1888-1965م) : (إنه لا يمكن تحديد عظمة
الأدب على أساس المقاييس الأدبية وحدها) [7] .
ويقول غيره: (نجد أن القراءة الفاحصة جداً للنص، قد تضل عندما تمضي
دون الرجوع إلى السياق التاريخي) وكيف يستطيع ناقد الأدب الإنجليزي أن يقرأ
(تاجر البندقية) [**] (بسذاجة على أنها مادة أدبية خالصة) وأن خبث اليهود
وجشعهم كانا غائبين لدى كتابتها؟
2/4
وإذا انحرف فهم الأدب عن مهامه الرسالية ووظيفته الجمالية، استتبع ذلك
غالباً انحراف النقد وانحساره عن ارتياد جوهر النص، وانحصاره باستقراء ما قبل
النص تشاغلاً بذلك، وعجزوا عن حوار ملفوظ النص ودلالته، خدمة لأهداف قَبْلِية، وإبقاءاً للغة النص بكراً لم تفترعها أقلام النقاد.
وهكذا أدت هذه المناهج التي ترى النص وسيلة لا غاية إلى التعجيل بظهور
الشكلانيين الروس [8] الذين جسَّدوا عصر النص، ومجدوه بوصفه لغة تتحقق
جماليته في أدبيته، فهو بنية لغوية مغلقة هدفه ووسيلته أمر واحد: أدبيته،
ومرجعية الحكم عليه أو له من داخله؛ لأن له حياته الخاصة، ومن هنا كما يقول
الدكتور محمود الربيعي: (فإن حياة القصيدة المتطورة النامية الباقية لا حياة الشاعر
المحدودة المنقضية هي التي ينبغي أن تستحوذ على اهتمامنا) [9] .
ولذا فإن التماس المطابقة أو المفارقة بين المجتمع والناصِّ من جهة والنص
من جهة أخرى: التماس ذلك ليكون حكماً وحاكماً قطعي الدلالة يهمِّش النص في
الوقت الذي يعلي من شأن العوامل الثانوية في النتاج الأدبي.
يقول مالارميه: (1842-1898م) : (إن الكتابة مزودة باستقلالية تامة،
بالقياس إلى العالم الذي تتحدث عنه) .
ويقول جيرار جانبت ولد (1930م) : (إن الشيء الأدبي لا يمكن أن يوجد إلا
بواسطة نفسه، وفي مقابل ذلك فإنه لا يرتبط إلا بنفسه أيضاً) [10] .
وإذا كان للكتابة هذا الاستقلال فإن النقد يجب ألا يكون خاضعاً لغير النص،
بل يجب أن تكون علاقته مع النص علاقة نِدِّيَّة تحاوره ليكون النقد أدباً على أدب؛
لأن (النقد ذا القيمة هو النقد الذي يصبح نفسه أدباً، هو الذي تستمر قراءته لا
لحججه وأفكاره، إنما لكونه نبعاً مستقلاً للمتعة الأدبية) [11] .
وقد يستطيع الباحث أن يعدَّ كلاً من الجاحظ (150-255 هـ) وعبد القاهر
الجرجاني ت (471 أو 474 هـ) من الأمثلة التراثية المقاربة لاتجاه الشكلانيين،
غير أن هذا الاتجاه تطور على أيدي نقاد غربيين، وبات يعرف بالاتجاه البنيوي
الذي هو (عبارة عن جهود متفرقة تلتقي أساساً عند محاولة علمنة الدراسة النصية
للأدب) [12] ، ولقد بالغ هذا الاتجاه في الاعتداد بلغة النص، ولم يعتدّ بأية قيمة
فكرية أو أخلاقية يتضمنها النص، وذلك عندما جعله (بنية مكتفية بذاتها، لا تحيل
على وقائع مجاوزة للغة، قد تتصل بالذات المنتجة، أو بسياق الإنتاج، بل تحيل
على اشتغالها الداخلي فقط) .
ولكن بعض النقاد اعترف بالقيم التي ينتجها النص بوصفها مولوداً شرعياً،
ولكن حذَّر من قيم خارجية يفسر الناقد النص عليها. يقول هذا الناقد: (القيم جميعا
تتولد من لغة القصيدة، والقارئ الذي يستنتج من الشعر شيئاً لا تنشئه لغته لا يقرأ
الشعر، وإنما يقرأ أفكاره الخاصة) [13] .
ولعل الاتجاه الشكلاني والبنيوي هما الأقرب تمثيلاً لما بات يعرف بـ
(عصر النص) .
3/4
يجب على القراء ألاّ يظلوا (مجرد قراء مستهلكين، مجرد تلاميذ، يظلون
تلاميذ طول عمرهم، أنا أريد أن يتحول القارئ إلى ناقد يحاور المادة المقروءة،
وأحرره من سلطة المقروء وسلطة المؤلف والنص عليه لكي تتحقق إرادة القارئ
في حريته مع النص) [14] .
لا أدري هل ينهض الكلام السابق ليكون فاتحة الحديث عن عصر القارئ أو
عصر ما بعد النص، والذي يعد الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980م)
أبرز ممثليه، وهو الذي كتب (لذة النص) [15] ليضع بحسب قوله: لذة الكتابة،
ولذة القراءة على قدم المساواة؛ وهو الذي دعا مع آخرين [16] إلى موت المؤلف
إحياءاً لدور القارئ، ومن حججه في ذلك وجود أعمال أدبية عالية المستوى،
عالمية الشهرة يتيمة الأب كبعض الملاحم وألف ليلة وليلة.
وهذا الاتجاه لا يعوّل على شيء مما قبل النص، وبذلك يسقط عملياً
الاتجاهات الواقعية والاجتماعية والنفسية، كما تجاوز الاتجاه الثاني، لا ليقف عند
ما تقوله لغة النص، بل عند ما يُقوِّله القارئ إياها. يقول بول فاليري (1871
-19451م) أحد أساطين هذا الاتجاه: (إن كل إبداع أوْلى له أن يكون أي شيء،
إلا أن يعزى إلى مؤلفه) ! ! !
فالقارئ هو المؤهل لإعادة إبداع النص، وإليه يدين بحياته وشهرته (عندما
لا تكون القراءة مجرد شرود، أو رغبة غير مبالية، مصدرها الملل، تكون نوعاً
من الفعل) [17] الذي يضاهئ [***] الفعل الأول المتمثل بإنتاج النص.
والقارئ المؤهل هو الذي يُنطِق النص الصامت على رفوف المكتبات عندما
يجعله بؤرة المشهد النقدي، ليؤهله للدخول في مفردات الفكر الأدبي والإنساني.
ولا إخال ناقداً مسؤولاً يوافق دعاة هذا الاتجاه ودعاواه في زعمهم أن موت
المؤلف يخلي لهم وجه النص؛ فهذه الدعوى أكذب من أن تصدّق، ومن يجرؤ على
بتر وشائج العلائق القائمة بين النص وكاتبه؟
يقول الجاحظ: (ليعلمْ أن لفظه أي الكاتب أقرب نسباً منه من ابنه، وحركته
أمسُّ به رحماً من ولده، ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنته بكلامه وكتبه فوق
فتنته بجميع نعمه) [18] .
ولعل الجاحظ لامس بُعداً من المشكلة، ولكن بعداً خطيراً لا بد من الإشارة
إليه، وهو أن النظر إلى النص بوصفه لقيطاً يفقده ليس شيئاً من جمالياته بل
قداسته كما في النصوص الشرعية.
يقول الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض (ولد في 1935م) : (فكيف يعقل أن
تكون أنت الذي يكتب ثم لا تكون في الوقت ذاته أنت الذي يكتب تلك الكتابة؟ وأي
عقل يصدق ذلك؟ وبأي منطق يمكن البرهنة على موت المؤلف؟) ويرى أن
رفض المؤلف (رفضاً للإنسان في معناه العام، وهو قائم على فلسفة إلحادية أولاً
وعبثية آخراً) [19] .
كما يرفض الناقد فيرنون هال هذه الخدعة بقوله: (إن الناقد يدرك أنه مع
أهمية عمله في مساعدة القارئ أو المشاهد في الاقتراب أكثر من الروائع الأدبية،
فإنه لا يمكن أن يخدع نفسه، فيظن أن عمله يساوي العمل الأدبي ذاته؛ فوظيفته
أن يزيل العقبات من الطريق حتى يستطيع آخر أن يسير بسهولة في
الغابة) [20] .
4/4
وفي الموروث الشرعي والشعري عندنا توجد إشارات واضحة تؤكد دور
القارئ، وحقه في فهم النص فهماً يؤكد الثراء في بنية النص العربي الذي سالت
أوديته بفضل الله ثم بفهمٍ يؤتاه قارئ، ويؤتى آخر غير ذلك الفهم، وقد يكون
الثالث كما في الحديث الصحيح (لا يُمسك ماءاً ولا يُنْبِتُ كلأً) [21] .
ولعل فيما أخرجه الإمام البخاري (194-256هـ) رحمه الله تعالى في
صحيحه ما يعضد تعدد القراءات مع وحدة النص.
(عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في
الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بلى نصلي، لم يُرد
منا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّف واحداً منهم) [22] .
فالنص واحد والقراءات متعددة، ولقد أورد الإمام ابن حجر (773-852 هـ)
ما قد يؤكد ذلك؛ وذلك أثناء شرحه الحديث المشار إليه.
قال رحمه الله: (قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب
على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى
يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق إنسان، وخطأ في حق غيره) [23] .
وفي (محاسن التأويل) للقاسمي رحمه الله 1/31: قال أبو الدرداء: (لا
يكون أحد فقيهاً حتى يحمل الآية على محامل متعددة) ويقول مفسر تونس وفقيهها
صاحب (التحرير والتنوير) ابن عاشور رحمه الله 1/97 في حديثه عن كثرة
المعاني للآية: (لا تكنْ من كثرتها في حَصَر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً
للحمل على الآخر، إن كان التركيب سمحاً بذلك) .
ويقول أبو الطيب المتنبي (303 -354هـ) عن مؤسسة قرائه
: أنام ملءَ جفوني عن شواردها ... ويسهرُ الخلق جُرَّاها ويختصمُ
ويقول بول فاليري (1871-1945م) : (لأشعاري المعنى الذي تحمل عليه
ويقول: (إن القصيدة قد تبدأ في التكوُّن الحقيقي من اللحظة التي يتلقاها فيها
المتلقي الخبير) .
وقبل استعراض آراء بعض النقاد التي تتبنى تعدد القراءة = التفسير الأدبي
لنص واحد، لا بد من التذكير بأن القراءة المكثفة امتداد للكتابة المكثفة؛ فالنص
الشفاف الذي لا يتجاوز الضفاف يحدّد قُرَّاءه، كما يُطالب الناقد بالتفسير المركب
والتحليل المعمق لما يرتضيه من قراءات، وأن يكون النص يسعف كل قارئ
وقراءة، فلا يُلوى عنقه، أو يُقْسر على المعنى قسراً، وأن ندرك كما يقول رينيه
وليك صاحب نظرية الأدب: (إن هناك حدوداً موضوعة لحرية التفسير) ولكن إذا
سقي النص رحيق الموهبة، وأُشرِب ثقافة حرة أصيلة، فإن قراءته توشك أن
تكون عالماً بلا حدود، وإن كل ما يتوصل إليه في هذا الطريق صحيح ما دام
النص لا يرفضه منطوقاً ومفهوماً.
والمرء يدعو إلى تعدد القراءة؛ لأنه (ليس من الحكمة أن نتوقع من عمل ذي
عمقٍ مَّا أن يسلم معانيه كلها من القراءة الأولى التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان في
أي ظرف. صحيح أن الأدب يهدف إلى المتعة، ولكنها متعة التعرف والارتياد
والتنظيم، والإنجاز الجمالي، غير أنه علينا أن نعطي اهتماماً أكبر، وجهداً أكثر
فنتغلغل وراء المستوى البسيط) سيطرة الإيقاع مثلاً (لتلامس أعماق النص بحيث
تؤدي القراءة) من حيث هي فعل ذهني إلى إنشاء جديد لقول سابق، وإنطاق لما
بدا صامتاً في الأقاويل الشعرية) [24] .
وإذا تجاوزنا دوافع الكتابة لهذه الأقطار عن القراءة (فإن احتفال الدارسين
المحدثين بلحظة التقبل = القراءة ظل عابراً رغم ملاحظاتهم الوجيهة في حين أن
مبحث القراءة محتاج منهجياً ومعرفياً إلى دراسات كثيرة تلائم قيمته) [25] .
وأخيراً فإن الناقد الأريب الخِرِّيت هو الذي يأخذ من هذه المناهج ومن هذه
المفاهيم عن القراءة ما يعينه على استنطاق النصوص، وكشف ما فيه من إبداع أو
عكسه، فلا تستعبده مدرسة بعينها، بل يستخدم المعرفة بوصفها، أداة لا غلاً يقمح
عقله عن دقة الاختيار وروعة الاختبار، ثم (ما الذي يفيده رفض الفكر المخالف
سوى التمكين للرأي الواحد. إن النهضة الأدبية محتاجة إلى الاستماع إلى كل
الأصوات، ومن الواجب عدم طغيان صوت أدبي على صوت أدبي آخر، وقد لا
تتضح قيمة الأشياء من فورها، وبذا يكون من الخير الاقتصار على محاولة
استيعابها، وتأجيل الحكم على قيمتها) [26] .
ولنكن على ذكر دائم لقول أحد النقاد: (إن ما يفكر فيه الخيال الحديث أو
المعاصر ليس وضع أي شيء في كتاب بقدر ما هو إطلاق شيءٍ مَّا من الكتاب
بالكتابة) .
__________
(*) عَرّف الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 1650) المنهج قائلاً إنه: (قواعد سهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يؤخذ الباطل على أنه حق، وتبلغ بالنفس إلى المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي يستطيع إدراكها، دون أن تضيع في جهود غير نافعة) فقال في المنهج ص: 141 رينيه ديكارت: ترجمة: محمود محمد الخضيري: (والمنهج هو مفتاح التحكم في كل بحث، ونجوع كل دراسة، والأداة المساعدة على استنطاق القضايا وتوليد الأفكار) كما يقول (كارل يا سيرز) : (إن قدرتنا على الإبداع تكمن في قدرتنا على إعادة توليد الأفكار التي تلقيناها عبر التاريخ، وبدون المناهج الصالحة تبقى المعطيات خرساء نستنطقها فلا تجيب) .
(1) قراءة الشعر، ص 122 123، د: محمود الربيعي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 164.
(3) حاضر النقد الأدبي، طائفة من الأساتذة المتخصصين، ترجمة د: محمود الربيعي، ص 13.
(4) الأدب وفنونه، ص 145، د: محمد مندور، دار نهضة مصر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
(5) حاضر النقد الأدبي، ص 136.
(6) المرجع السابق نفسه، ص 46.
(7) من محاضرة لأليوت تقدّم بها إلى ندوة (الإيمان الذي يضيء) .
(**) (تاجر البندقية) رائعة وليام شكسبير (1564-1616م) كتبها 1596م والتي رسم فيها بعناية فائقة جشع اليهود وعدم إنسانيتهم.
(8) الشكلانيون الروس: كانوا جماعة من الطلبة الشباب في موسكو وليننغراد، شكلوا فريق عمل اختباري للبحث في القوانين الداخلية المشتركة بين النصوص الأدبية، لم يتجاوز عددهم العشرة، مارسوا نشاطهم ما بين (1915 -1930م) .
(9) قراءة الشعر، مرجع سابق، ص 128.
(10) الكتابة من موقع العدم، مساءلات حول نظرية الكتابة، ص 395، د: عبد الملك مرتاض، مطابع مؤسسة اليمامة بالرياض.
(11) حاضر النقد الأدبي، مرجع سابق، ص 15 16.
(12) بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ص 5، د: حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1993م.
(13) قراءة الشعر، مرجع سابق، ص 161.
(14) مقابلة مع د عبد الله الغذامي، جريدة الجزيرة، 26/11/1419هـ، عدد: 9663.
(15) وداعية هذا الاتجاه الأول: بول فاليري (1871 1945) ومن دعاته الروائي الأمريكي وليام فولكتر (1897 1962م) .
(16، 17) حاضر النقد الأبي، مرجع سابق، ص 8.
(***) يضاهئ: يشابه (18) الحيوان، 1/89، والكتاب للجاحظ.
(19) الكتابة من موقع العدم، مرجع سابق، ص 381 390، ويقول د مرتاض في كتابه: (في نظرية الرواية) ، ص 272: إن قتل المؤلف ثم إقامة عنصر وهمي أطلق عليه (المؤلف الضمني) ليوقع شهادة وفاة المؤلف، وليدفع بالتاريخ إلى المزبلة، وليرمي بالإنسان إلى العدم) .
(20) قراءة الشعر، مرجع سابق، ص 46.
(21) فتح الباري، 1/175، الحديث رقم: 79.
(22) المصدر السابق، 1/407 408، الحديث رقم: 4119.
(23) المصدر السابق، 1/409.
(24) جمالية الألفة، النص ومتقبله في التراث النقدي، ص 36، شكري المنجوت، بيت الحكمة قرطاج، الطبعة الأولى 1993م.
(25) المرجع السابق نفسه، ص 8.
(26) قراءة الشعر، ص 164 مرجع سابق.(150/92)
البيان الأدبي
مع الله
نافذة الحنبلي
ظِلُّ إنسانٍ يخطو خطوات هادئة وقورة، يزيد امتداد الظل تحت كل نور بين
عدة أمتار وأخرى.. يتأرجح الظلّ تحت تأرجح أغصان الشجر العاري وهبّات
الهواء التي تحاول جاهدة كسر هذه الأغصان ...
بيوت جميلة متباعدة يسكنها الهدوء القاتل.. تنبعث من نوافذها أنوار هادئة
تكاد ألا تضيء حافة النافذة التي زرعت بالزهور الجميلة وكأنها ألوان رسمت على
لوحة ثلجية ...
الظل يحدث نفسه.. ما أجمل هذه الطبيعة التي أودعها الله سرّه.. سبحان
الله.. رغم البرد ورغم سقوط أوراق الشجر عن عيدانها، ورغم اكتساء السماء بثوب سحبها الداكن ... أحس بإحساس عميق بسعادة عارمة تجتاح جوانحي.. حيث أحسّ في كل خطوة ومع كل هبّة ريح ومع تمايل كل غصن بعظمة الخالق وقدرته.. ما أروع هذا الشعور وما أسعدني به.. يسير الظل حتى يتوارى في أحد البيوت المختفية في حضن الأشجار.. يضيء نور خافت يرسل خيوطه متسللة عبر الستائر الشفافة.. يظهر الظل في النور بوضوح تام.. رجل أشيب.. طويل القامة.. قوي البنية.. يفتح كتاباً ويبدأ في قراءته بخشوع وتأمل.. ويقفل الكتاب بهدوء وينطفئ النور وتظلم الغرفة؛ ولكنَّ هناك نوراً غريباً يحيط هذه الغرفة وكأن انعكاسات من الخارج والداخل تتلاقى لتجعل للبيت وهجاً خفياً لا أحد يعرف كنهه.
الفجر يبدأ بفتح جفونه رويداً رويداً، ويحاول جاهداً إبعاد رمد الغيوم عن
مقلتيه.
البيت المختفي يضاء ثانية مع أول ومضة عين للفجر.. الرجل نفسه ينهض
بنشاط وحيوية يتوضأ ويصلي.. وما كاد الفجر يفتح عينيه جيداً حتى كان الرجل
قد انتهى من صلاته.. وتابع قراءة كتابه.
الشمس تحاول جاهدة أن تطلّ من خلف الستائر الدّاكنة التي حاول الفجر قبلها
فتحها لكن لم يستطع.
خرج الرجل ثانية من البيت وسار بهدوء ووقار من حيث كان يسير هو وظله
في المساء.. يحمل حقيبة يبدو أنها ملئت كتباً..
وصل إلى مبنى كبير وعريق وقديم.. أحجاره تتحدث بأنه قائم منذ مئات
السنين ولكنه لا زال متماسكاً قوياً جميل البناء.. كتب على بابه (جامعة) .
الرجل يدخل حتى يصل إلى أحد المكاتب ويجلس ليتابع كتبه بشغف
وتعمق.. تدق الساعة الثامنة.. يدخل إحدى القاعات الكبيرة التي عجت بالطلبة.
يدخل بهدوء.. تهدأ القاعة من الأصوات المتجاذبة من هنا وهناك.
يبدأ السلام باللغة العربية وبلغة أخرى.. ومن ثم يتابع إعطاء محاضرته عن
الإسلام والنفس البشرية بلغة أجنبية.
الأسئلة تنهال عليه كوابل المطر.. لماذا المسلم لا يشرب الخمر؟ لماذا لا
يقامر؟ لماذا لا ينطلق ويتمتع كيفما يشاء.. لماذا ولماذا؟ ؟
فأجابهم بهدوء: لماذا تكثر عندكم ملاجئ العجزة؟ لماذا تكثر عندكم الملاهي
الليلية؟ لماذا أنتم في صراع مع الزمن؟ لماذا أنتم تتعاطون المخدرات؟ لماذا
تنتشر عندكم الأمراض الخبيثة بكثرة؟ لماذا تكثر عندكم حالات الانتحار؟ لماذا
تسعى حكوماتكم إلى توفير بيوت للمواليد غير الشرعيين؟ لماذا ولماذا؟
وجم جمهور الطلبة بهدوء غريب، وتأملوا وجه هذا الرجل الذي يضيء
صحة ونوراً وكأنه في عنفوان شبابه.
ألا أقول لكم: لماذا لا يوجد عندنا كل هذا؟ لأننا مع الله.. وهل تعلمون
معنى أن يكون الإنسان مع الله؟ هو أن يعمر قلبه إيمان دائم كنهر عذب متدفق لا
تجففه الشمس ولا تجتاحه الفياضانات ولا تهزه الزلازل.. فهو دائم السريان.. دائم
العطاء.. دائم العذوبة.(150/98)
نص شعري
وتَرْجَمَ الشُّعَرَاء
عبد العزيز بن أحمد البجادي
بمناسبة مرور سنة على وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه
الله.
لَيْس بدعاً بكاء شعر، ولا إبْ ... داع فيه، إذا ثوى العظماءُ
كَمْ بَكَى الشّعْرُ مِنْ إِمَامٍ، ولا خَيْ ... رَ بِشِعْرٍ يُجْتَرُّ، وَهْو خواءُ
زَمْجَرَتْ بالحُرُوفِ أَفْئِدَةُ الأبْ ... رارِ، حَرَّى، وتَرْجَم الشَّعَرَاءُ
إذْ هَوى غُرّةُ الزّمَانِ ابنُ بَازٍ ... قبساً جُلّيَتْ بِه الظّلْمَاء
وبَكَاهُ قَصيدٌ انثالَ، واصْطَ ... فَّ اصْطِفَافَ القَطا دَعاها الماءُ
فَبَكَى الجُودَ، والسَّمَاحَةَ، والمَعْ ... رُوفَ، والبَذْلَ، والنَّدَى الفُقراء
وبَكَى فقْدهُ، إذِ افْتَقَدُوا المَنْ ... قُولَ مِنْ عِلْمِ شَيْخِنَا الدَّهْمَاءُ
غَيْرُ شافٍ بُكاؤُهُ، ذَاكَ بَحْرٌ ... غبّ من لُجهِ قَوّافٍ ظماءُ
إن مضى بذْلُهُ فَرَازِقُهُ بَا ... قٍ، فمنْهُ العَطَاءُ، والنّعماءُ
مَنْ لنا اليَوْمَ بالمؤَصِّل مَا يَنْ ... زِلَ فينا لمَّا خبا الضَوَّاءُ
دَهْرُنا مُفْعَمُ النّوَازِلِ، كَمْ حَا ... رَتْ لَدَى تيه دَرْبها الفُهماءُ!
كُمْ إِمَامٍ تَعَثَّرَتْ فِيهِ، واصْطَ ... كّتْ، خُطاهُ، وحَارَ مِنْهُ الذّكَاءُ
وامْتَطَى الشّيْخُ في خُطاً كَالرَّوَاسِي ... زَلِقَ الدّرْبِ، حِينَ غَابَ الضياءُ
جَوّلَ الفِكْرَ فِيهِ، واطَّرَحَ التَّقْ ... لِيدَ طُرّاً، ولاحَ مِنْهُ الدّهَاءُ
تَحْتَ وَحْيٍ مِنْ نَصِّ وَحْيَينِ إنْ مَا ... رِيمَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ، والإفْتَاءُ
وَبدَا الرُّكْنَ لِلدُّعَاةِ إلى الدِّيْ ... نِ، لَهُمْ مِنْهُ مُرْشِدٌ، ووقَاءُ
وشَجًى في حُلُوقِ أَهْلِ ضَلالٍ ... وانْحِلالٍ سَاقَتْهُمُ الأهْوَاءُ
وتَحَرَّى تَأَلُّفاً شَمْلَ أَهْلِ الْ ... عِلْمِ، إنْ دَبّ فيهم شحْناء
ثُمًَّ وَلَّى لِيَحْمِلَ الهَمَّ، والعِبْ ... ءَ، جميعاً، كَمَثْلِهِ، الأحْيَاءُ
مِثْلُ هَذَا فَلْتَبْكِهِ أُمَّةُ الإسْ ... لامِ، والحفظُ، والتقى، والسخاءُ(150/100)
نص شعري
قُومي يا نؤوم
فتحي الجندي
أيا صاحِ! السعادةُ لا تدومُ ... ولا الأهلون والأمُّ الرؤومُ
فبيْنا الريحُ ساكنةٌ رخاء ... تبدّل حالُها وأتت غيوم
وبينا نملأ الآفاق عزّاً ... فقد صرنا نُسام ولا نسومُ
وأصبحنا أذل الناس رأساً ... وأصبحنا نُلام ولا نلومُ
وحالُ الأمة الخرساء يُبكي ... فقد شُلَّت ومزَّقها الوجومُ
فللأعداء «شاةٌ» دون قرنٍ ... وللأبناء «سكينٌ» ظلومُ
جميعُ الخلق قد قاموا ونمنا ... ووالِينا يُزمجر: لا تقوموا
سيوفُ الأمة الشمّاء ضاعت ... وما زال النزيفُ له كلومُ
ألا يا أمة الإسلام هبّي ... كفاك النوم.. قومي يا نؤوم
فحتّامَ التسكّع في خنوعٍ ... وفي قاع الهوان نُرى نعُومُ؟
وحتامَ التشرذمُ والتغابي ... ويرقص فوق جثتنا اللئيمُ؟
نهارُك بالأسى: لعبٌ ولهو ... وليلك بالهوى دنسٌ بهيم
فألوان المباذل خدّرتنا ... وإن سال الغثاءُ فنحن هِيمُ
كفانا في دروب العار ضعْنا ... كفانا في ضلالاتٍ نهيمُ
وللتزييف أشياخٌ كبارٌ ... وللتسويغ تُمتهن العلومُ
ومهما قام للإسلام شهْمٌ ... فإنّ به كلابهمُ تحومُ
ذئابُ الغرْب بحرٌ ماج حقداً ... في أجوافهم نارٌ سموم
ومهما يطلبوا فلهم كلابٌ ... وأذنابٌ ولاؤهُمُ عظيمُ
كلابُ «الترك» كم خرجوا علينا ... وقائدهم «أَتَاتُرْكُ» المشومُ!
وكم في أرض يَعِرُب من حقيرٍ ... يحركه الهوى وبه يقومُ!
«نتنياهو» يمرِّغ أنف قومي ... فنهتف كالحواة له: «شلوم» [1]
وشرع الله مغضوبٌ عليه ... وللداعين أُحضِرت السُّمومُ
وما زلنا نقدّم رأس «يحيى» ... نبيِّ الله كي ترضى «سلومُ»
وأحضرت المشانق من عدو ... وشُيّدت السجونُ لمن يحومُ
وكلٌ يدعي شرفاً ولكن ... قضى الشرفاءُ وارْتحل الكريمُ
ألا يا أمة الإسلام عفواً ... فؤادي كاد تقتله الهمومُ
__________
(1) شلوم بالعبرية: سلام.(150/101)
الإسلام لعصرنا
دين الحق والخير والجمال
د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
الإسلام دين الحق والخير والجمال؛ لأنه حق كله، وخير كله، وجمال كله؛
فلا باطل فيه، ولا شر فيه، ولا قبح فيه. وأما ما عداه فيختلط فيه الحق بالباطل
والخير بالشر، والجميل بالقبيح. وهو دين الحق والخير والجمال؛ لأنه يوائم بين
هذه القيم الثلاث، ويجعل كلاًّ منها كما ينبغي أن يكون معاضداً للآخر ومعيناً عليه،
بينما يجعلها غيره من المذاهب والحضارات والنِّحَل متشاكسة متضاربة، يهدم
بعضها بعضاً. يرون في جمال الفنون مسوِّغاً لاتخاذها وسيلة إلى قول الزور،
وهدم الفضيلة؛ وفي جمال التعبير شعراً كان أم رواية ما يجعل من حق القائل أن
يختلق الأباطيل ويروِّج للشرور، ويجاهر بالفسوق.
والإسلام دين الحق والخير والجمال؛ لأن المعبود الذي يدعونا إليه هو
الحق، وهو فاعل الخير، وهو الجميل الذي لا يضاهي جمالَه جمالٌ.
فالله تعالى هو الحق الأعلى الذي لا يقارِب أحقيتَه حقٌّ؛ فهو الأول والآخر
والظاهر والباطن، وهو الخالق لكل شيء.
وربنا تعالى خيرٌ مَحْضٌ؛ فالخير كله بيديه، والشر ليس إليه. وربنا تعالى
جميل يحب الجمال.
والرسول الذي أرسله إلينا حق، نعرف نسبه، ومولده، ونشأته، وصفاته،
بل نعرف عنه ما لا يعرف أحد عن بشر سواه؛ فهو ليس كأولئك الذين يعتقد بعض
أصحاب الديانات فيهم، وهم لا يملكون دليلاً تاريخياً حتى على وجودهم، ودعك
من سيرتهم. وكان رسولنا متصفاً بكل صفات الخير، حتى قال عنه ربنا سبحانه:
[وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: 4] ، وحتى قالت عنه زوجه التي عرفت مداخله
ومخارجه: كان خلقه القرآن [1] . كان صادقاً، أميناً، وفياً، كريماً، رحيماً،
شجاعاً، صبوراً، دوَّاراً مع الحق حيث دار، لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان
جميل الصورة، جميل الروح، جميل الحديث. وكان لذلك رجلاً مهيباً. والقرآن
الكريم الذي أنزله تعالى كتاب يقول الحق، ويهدي إليه، ويأمر بالخير وينهى عن
الشر، ويعبر عن كل ذلك بلغة هي الذروة العليا من الجمال: [بالحق أّنزلناه
بالحق نزل] [الإسراء: 105] .
[الم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: 1، 2] .
[لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]
[فصلت: 42] .
[إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء: 9] .
[وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً] [الأنعام: 115] . (صدق في الأخبار
وعدل في الأوامر والنواهي) .
[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ] [الزمر: 23] .
فهو ليس كالكتب الدينية التي يشك أصحابها في أصولها، وفي ترجماتها،
وفي معانيها.
وبما أن هذه القيم الثلاث مجتمعة في الإله المعبود، وفي الرسول المبعوث،
وفي الكتاب المنزل، فإن أحسن أحوالها أن تكون كذلك متداخلة في حياة البشر.
ولذلك نجدها متداخلة موصوفاً بعضها ببعض في كتاب ربنا وسنة رسولنا:
فمكارم الأخلاق توصف بالجمال. [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]
[يوسف: 18] ، [فاصبر صبرا جميلا] [المعارج: 5] .
والقول يوصف بالحسن وهو مفهوم جمالي وبه يوصف الفعل: [ادفع بالتي
هي أّحسن] [المؤمنون: 96] ، [وقولوا للناس حسنا] [البقرة: 83] ،
[وجادلهم بالتي هي أّحسن] [النحل: 125] .
ولا تناقض بين الانتفاع بالشيء وتذُّوق جماله، بل إن هذا الذي ينبغي أن
يكون: [والأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ومَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ
حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ
الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7] ) [النحل: 5 - 7] .
[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ
لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ] [البقرة: 69]
[أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ
ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] [النمل:
60] .
وتأمل هذه الآية الكريمة التي يأمرنا الله تعالى فيها بالنظر إلى ثمر النبات
وينعه: [انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]
[الأنعام: 99] . والنظر إلى الثمر والينع لا ينفك عن رؤية ما فيه من بهجة وجمال
. فكما أن خلقه آية، وما فيه من غذاء آية، فجماله أيضاً آية لقوم يؤمنون. وانظر
كيف جمع سبحانه بين الأمر بالنظر إليه، والأمر بإيتاء زكاته: [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا
أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: 141] .
والمحظوظ من كانت له زوجة تجمع بين حسن الخلق وجمال المنظر: إن
نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها
وماله [2] .
وكما أن هذه القيم يوصف بعضها ببعض فإن ديننا يجعل بعضها وسائل
لبعض.
فالدعوة إلى الخير لا تبنى إلا على الحق، ولا تكون إلا مقرونة بالحسن
والجمال: فالقصص القرآني أحسن القصص محتوىً وأسلوباً، لكنه كله مبني على
الحق، لا على الخيال. إنه يقرر واقعاً ولا يختلق باطلاً ليتوسل به إلى عِبرٍ
أخلاقية أو دينية: [نحن نقص عليك أّحسن القصص] [يوسف: 3] . [لَقَدْ كَانَ
فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ولَكِن تَصْدِيقَ الَذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [يوسف: 111] .
والدعوة إنما تكون بالكلام الجميل الذي تأنس به المسامع وترتاح إليه القلوب:
[وقولوا للناس حسنا] [البقرة: 38] ، [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أّحسن] [النحل: 125] .
لكن بعض إخواننا عفا الله عنهم جعلوا الدعوة إلى أعظم حق وأفضل خير:
عبادة الله وحده، والاستمساك بسنة نبيه جعلوها مرتبطة بأنواع من الجفاء والغلظة
التي تنفر منها طباع الكرام. ألم يتأملوا قول الله تعالى لرسوله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ
اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] [آل عمران: 159] .
يا لله! فكأن الله تعالى يقول لرسوله الكريم: إنك لو أبقيت على كل ما فيك
من خصال الخير، ولو بقيت تدعو إلى ما تدعو إليه من حق، لكنك كنت مع ذلك
فظاً غليظ القلب لانفض من حولك هؤلاء الذين هم الآن معك. لماذا يا ترى؟ لأنهم
أناس كرماء يحترمون أنفسهم، ولا يرضون لها أن تذل حتى من رجل في مثل
شخصية الرسول. وما كل الناس كذلك؛ بل إن منهم من لا يبقى ويطيع إلا مع
الإذلال والهوان. ألم يقل الله تعالى عن قوم فرعون: [فاستخف قومه فأطاعوه
إنهم كانوا قوما فاسقين] [الزخرف: 54] . وصدق القائل:
إذا أنت أكرمتَ الكريم ملكتَه ... وإن أنت أكرمتَ اللئيمَ تمردا
ودعوة الحق إنما يصلح لها هذا النوع من كرام الناس. إنهم هم الذين
يصدقون فيها ويتحملونها بقوة وشجاعة. فليكونوا هم إذن طَلِبَتَنا حين ندعو؛
ولندعهم لذلك بطريقة تليق بهم، فتجمعهم حولنا ولا تنفرهم منا. أما اللئام الذين
يرضون بالهوان فلا خير فيهم، ولا رجاء منهم.
وقابل هؤلاء أناس تذرعوا بلين الكلام وخفض الجانب ليوقعوا الناس في
مهالك الشرك والابتداع. والسعيد من وفقه الله تعالى للدعوة إليه بالتي هي أحسن.
الجمال إذن محمود ومرغوب فيه، وهو قرين الحق والخير. فأما حين يكون
مَظِنَّةً لأن يُتَّخَذَ وسيلة لهدم المكارم فإن الإسلام يمنع الاستمتاع به. ولذلك فإنه
يحرم النظر إلى بعض الصور الجميلة، والاستماع إلى بعض الأصوات الجميلة
حين يكون ما فيها من جمال ذريعة إلى شرك أو هدم مكارم. ولهذا حرم النظر إلى
زينة النساء لغير محرم أو زوج؛ لأن الاستمتاع بجمالهن قد يكون وسيلة إلى هدم
الفضيلة. وأباحه للمحارم؛ لأن هذه العلة منتفية في حقهم، وأباحه للأزواج، بل
ودعاهم إليه؛ لأنه استمتاعٌ حلال، وقد يكون وسيلة إلى الامتناع عن الحرام.
وكذلك الأصوات الجميلة قد يرتبط جمالها بخاصةٍ فيها، أو في المستمتع بها،
تثير مشاعر الرذيلة، أو تكون ملهية عن فضيلة. فخضوع النساء بالقول قد يثير
الطمع فيهن وإن كن أزواج نبي، ولذلك مُنِعْنَ منه: [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ
النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً
مَّعْروفاً] [الأحزاب: 32] .
وقل مثل ذلك عن المعازف وأنواع من الغناء. قال تعالى: [ومِنَ النَّاسِ مَن
يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
مُّهِينٌ] [لقمان: 6] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هو والله الغناء.
فالحمد لله الذي هدانا للحق، وسهَّل لنا سبل الخير، ومتعنا بجمال الكلام،
وجمال الخلق، وجمال المعاني.
__________
(1) رواه أحمد، ح، 33460 (1) رواه ابن ماجة، ح/ 1847.(150/102)
وقفات
رسالة على لسان مجاهد شيشاني
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
افعلوا ما شئتم أيها الروس.. فإنكم مهما قتلتم من الشيب والشباب، أو رمّلتم
من النساء ويتمتم من الأطفال، فاعلموا أن ذلك لن يضرنا بإذن الله تعالى.
افعلوا ما شئتم.. وكيدوا ما شئتم، واستخدموا ما أردتم من الأسلحة الفتاكة،
والقنابل المدمرة؛ فإن الله تعالى معنا، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
افعلوا ما شئتم.. انتفشوا وتبختروا ولا تأخذكم بنا رأفة لا شفقة، لا ترحموا
طفلاً رضيعاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة ضعيفة؛ فإن الله تعالى لن يضيعنا.
عجباً لكم! ماذا تنقمون منا؟ !
ألأننا عدنا لديننا واعتصمنا بكتابنا؟ ! ألأننا نهضنا من سُباتنا ورحنا نبحث
عن هويتنا؟ ! ألأننا بدأنا نستنشق نسائم الحرية، ونزيل تراب الشيوعية من فوق
رؤوسنا..؟ !
أرأيتم تبختركم وطغيانكم وجبروتكم وظلمكم، أتظنونه سوف يستمر؟ ! لا
والله؛ فإن الله هو القوي العزيز، وإنَّا لنبصر فجر الخلاص بين راحتي هذه المحن
بإذن الله تعالى.
كم فسقتم وطغيتم وزلزلتم الأرض من تحت أقدامنا، وصبَّحتمونا بالقنابل
المدمرة، ومسَّيتمونا بالصواريخ الحارقة.. كم.. وكم؟ ! ولكن: [أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ] [الملك: 16، 17] .
انظروا إلى فلول المهاجرين من الشيوخ والنساء والصبيان والعَجَزة كيف
راحوا يهربون زرافات ووحداناً فراراً بأنفسهم وأعراضهم من جبروتكم
وتسلطكم..؟ ! يا سبحان الله! ما أقسى الذلة والمهانة! وما أصعب الشتات والتفرق! وما أشد ألم المرأة العفيفة التي انتُهِكَ عِرضها! وهل تعرفون أشد حرارة من دموع ذلك الشيخ الذي هدّه الألم وفجعته الكارثة..؟ !
تأملوا في نظرات ذلك الصبي التائهة، يتلفت هنا وهناك في تلك الأفواج
المهاجرة لعله يجد أمه أو أباه أو أخته فيرتمي في أحضانهم.. ولكن.. هيهات
هيهات..! !
ها هو ذا شيخ طاعن في السن يضم رأسه بين راحتيه مقعياً حزيناً يتجرع ألم
الحسرة والفراق فقد هُدِّم بيته، وأُحرق زرعه، ودُمِّرت أملاكه، وتخطفت قنابل
النابالم المحرقة زوجه وولده، فانزوى حزيناً يدفن مرارته وحزنه، ويكفكف دمعه
وعبرته، وهكذا حال بقية الناس من حوله يُظلِّل وجوههم الفزع، ويحوطها
الهلع.. ولكن ما زادنا ذلك إي والله إلا قوة وثباتاً وإصراراً على طريق الجهاد في سبيل الله.
نعم صبَّ طغاتكم علينا أقسى أنواع الظلم، فأحاط بنا الألم من كل مكان،
نأرق ونحزن، وتتصدع قلوبنا على أهلينا وأبنائنا، لا تهنأ لنا عين بنوم، ولا يرقأ
لنا دمع، نرى أبناءنا ونساءنا وإخواننا يُتَخَطَّفون من حولنا، وربما قدرنا على
مواراتهم بالتراب، وربما عجزنا عن ذلك.. ولكن واللهِ الذي لا إله إلا هو إن
قلوبنا العامرة بالإيمان مطمئنة ساكنة يملؤها البِشْر والراحة والشوق للقاء الله،
وتحدوها أطايب الجنة إلى التسابق في التضحية وملاقاة الكفرة الملحدين، ولا نجد
في نفوسنا قوة وثباتاً وشجاعة كما نجدها الآن، ولله الحمد والمنَّة.
أيها الروس: إننا نقاتلكم برجال نحسبهم والله حسيبهم يحرصون على الموت
أكثر من حرصكم على الحياة، ارتفعت رؤوسهم الشماء اعتزازاً بدينهم، وشمخت
أفئدتهم الكريمة ثباتاً وصلابة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، استعانوا
بربهم، وعضوا على دينهم بالنواجذ.
إننا نقاتلكم برجال يصدق فيهم قول الشاعر العربي:
عُبّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم ... كم عابد دمعه في الخدِّ أجراه
وأُسْدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم ... هبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
أيها الروس: هَبُوا أنكم دمَّرتم ديارنا وقتلتم رجالنا؛ أتظنون أن الله مخلفٌ
وعَده رسُله..؟ ! افعلوا ما شئتم؛ فإننا نرى بناءكم المترهل بدأ يتساقط ويتمزق
بإذن الله، [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 04] . ...
ماضٍ وأعرفُ ما دربي وما هدفي ... والموتُ يرقصُ لي في كل منعطَفِ
وما أبالي به حتى أحاذرَه ... فخشيةُ الموت عندي أبردُ الطُّرَفِ(150/106)
المسلمون والعالم
زيارة بابا الفاتيكان:
خطوات جديدة على طريق الاختراق
عبد العزيز كامل
رغم الضجيج العالمي الذي سبق زيارة (بابا) الفاتيكان إلى منطقة الشرق
الأوسط وما صاحبها، وبرغم الأضواء المبهرة التي سلطت عليها إعلامياً، إلا أن
ذلك لم يكشف بشكل كامل عن أبعاد تلك الزيارة؛ فقد صورها الإعلام الدولي على
أنها إحدى مظاهر الاحتفال العالمي بـ (اليوبيل) الألفي لميلاد المسيح عليه السلام.
أما الإعلام العربي في غالبه فقد صور الزيارة بصورة مقطوعة عما قبلها وما بعدها، ومارس عملية تضليل كبرى في إخفاء معانيها ومراميها البعيدة، وشاركت
أضواؤه الخدَّاعة في خطف الأبصار عن إدراك الحقائق على ما هي عليها، إمعاناً
في المزيد من إطالة الغيبوبة المتواصلة للوعي العربي، والتي بدأت منذ إدخاله
غرفة الـ (إن عاش) العلمانية الجاهلية الرديئة.
لقد أصر ذلك الإعلام على أن يفجعنا في عقيدتنا وفي ثوابتنا، بل وفي أذواقنا
ومشاعرنا عندما استعلن بإظهار شعائر الوثنية، ومظاهر الشرك ليذيعها على
الملايين من المسلمين، وعلى الهواء مباشرة، لا ليطلعوا على رداءة الكفر وأهله،
ولكن لتزيينه وتزويقه بكلمات النفاق وشهادات الزور على ألسنة المعلقين والمحللين
المكتوبة والمسموعة، وقد أطْلَعَنا هذا الإعلام على ما لا تشتهي الأنفس وما لا تلذ
الآذان والأعين، فسمعنا من الذين أوتوا الكتاب ومن الذي أشركوا أذىً كثيراً،
وأصاب القذى أعيننا والأسى قلوبنا ونحن نرى حامل الوثن يُعظَّم وتعد خطواته
وكلماته وهو يرفع ذلك الوثن المتخذ على شكل الصليب وقد عُلِّق به تمثال عيسى
عليه السلام الذي اتخذوه إلهاً. ومما زاد في الفجيعة أن ذلك الاحتفاء بالشرك الأكبر
والجُرم الأعظم لم يكن في ديار بطرس أو مرقس أو قسطنطين، وإنما كان على
أراضي الأنبياء التي أرادها الله خالصة للتوحيد، واستحفظها أمة خاتم الأنبياء
ليطهروها ويعمروها. لقد شاهدنا غلاظ الأكباد من بني جلدتنا وهم يروِّجون في تلك
الأيام المعدودات لتجارة الشرك المسماة بـ (التبشير) .
ونسجل هنا شهادة وقد جعل الله تعالى أمتنا شاهدة على الناس أن ما يسمى
باحتفالات (ميلاد الرب) لم تلقَ نجاحاً في أي مكان على ظهر الأرض مثلما وجدته
على أرض الإسلام وفي بلاد العرب، ولم يلق حامل وثن (الإله المصلوب) ترحيباً
ولا تبجيلاً ولا تكريماً في تلك الاحتفالات مثل ما لقيه من المتحدثين باسم المسلمين،
فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله نشكو غربتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس.
لقد كادت الجوقة العربية المشاركة في شركيات الاحتفال أن تلهينا بتناقضاتها
المتنافرة ومواقفها المتخاذلة عن تتبع التفاعلات الحقيقية للحدث، حتى نضعه في
سياقه ونسلكه في نظامه ضمن سلسلة التطورات الحادة التي تمر بها قضايا أمتنا
فيما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط.
وقد سبق أن تناولنا على صفحات البيان الغراء مع القارئ الكريم قضايا عديدة
ذات اتصال بالعلاقة المريبة والغريبة القائمة اليوم بشكل مستقر بين اليهود
المعاصرين والنصارى البروتستانت في كل من إنجلترا وأمريكا، وكانت المناسبة
في ذلك ما تم تناوله على صفحات المجلة في حلقات (حمى سنة 2000) وقد ظهر
من خلال المادة المعروضة فيها أن العلاقة بين هؤلاء وأولئك قد استقرت على شكل
وفاق واتفاق جعل قوى البروتستانت في أمريكا دابة مطيعة ذلول يركبها (شعب الله
المختار) سواء كانت هذه الدابة هي الفيل الجمهوري أو الحمار الديمقراطي [1] .
والآن أجد في أخبار زيارة كبير الأحبار مناسبة لإلقاء الضوء على علاقة
جديدة لا تزال العناكب السامة تنسج خيوطها بين اليهود وبين الطائفة الأكبر عددياً
والأخطر تاريخياً من أمة النصارى وهم (الكاثوليك) [2] ، وحتى لا نقفز فوق
المقدمات إلى النتائج باستعراض آثار تلك الزيارة المشبوهة فإني أجد من المهم أولاً
أن نلقي ضوءاً على بعض الخلفيات التي كانت تحكم العلاقة بين العدوين التاريخيين: اليهود والكاثوليك، حتى عصر قريب جداً.
الإصلاح الديني على الطريقة الكاثوليكية:
شاع إطلاق وصف (الإصلاح الديني) على التغيير الذي أدخله البروتستانت
على الديانة الكاثوليكية في القرن السادس عشر للميلاد على يد (مارتن لوثر) وقد
انشطرت النصرانية بعد ذلك التغيير إلى شطرين فيما يتصل بالموقف من اليهود
واليهودية: شطر أبقى على عقائد النصرانية المعادية لليهود وهم الكاثوليك
والأرثوذكس وشطر أقبل على إجراء تغيير جذري في (تصحيح) العلاقة مع اليهود
وهم (البروتستانت) الذين طوروا تلك العلاقة بعد ذلك، فاحتضنوا اليهود وأيدوهم
وأمدوهم بكل أسباب العون والمساعدة حتى قامت دولتهم وقويت شوكتهم في القرن
الأخير؛ ولكن البروتستانت رغم تقاربهم الشديد من اليهود إلى حد قريب من التهوُّد، لا يمثلون سوى نسبة السدس من مجموع النصارى في العالم، وكذلك الأرثوذكس؛ بينما يمثل نصارى الكاثوليك القسم الأكبر من أمة النصارى؛ إذ يبلغ رعايا
الكنيسة الكاثوليكية وحدهم ملياراً ونيفاً من (الضالين) الذين اتخذوا حيال (المغضوب
عليهم) موقفاً عدائياً دينياً ينطلق من صلب العقيدة الصليبية.
فالعداء لليهود كان جزءاً أساسياً من عقيدة النصارى الكاثوليك الذين يعظمون
الصليب، وما كان للصليب أن يتخذ شعاراً لتلك الديانة، لولا اتهام النصارى لليهود
بأنهم هم الذين تسببوا في صلب المسيح عليه السلام حتى قتل كما يزعمون ولهذا
ظلت النصرانية الكاثوليكية على موقفها العدائي الديني من اليهود حتى وقت قريب
مما دعا أحد مفكريها المعاصرين أن يقول: (إن القوى ذاتها التي (صلبت) المسيح
طيلة 1900 سنة تسعى اليوم إلى صلب كنيسته. لقد فُرِضَ على المسيحية في
عصرنا الراهن نضال عظيم نهايته ستحدد مصير المسيحية: حياةً أو موتاً) [3] .
ونحن الآن في ضوء التطور الأخير بين الديانتين نحاول أن نراقب (مصير
المسيحية الكاثوليكية حياةً أو موتاً) مع قرب نهاية عمر أكثر باباوات الكاثوليكية
غموضاً (يوحنا بولس الثاني) . إن هذا الرجل الذي يقود دينياً ما يقرب من ربع
سكان العالم يتربع على عرش صغير لدولة هي الأصغر في العالم من حيث المساحة
والعدد، ولكن لهذا العرش حصانة غير مسبوقة؛ فمنصب (بابا الفاتيكان) هو
المنصب الديني الوحيد في العالم الذي لا يخضع لنفوذ جهة أعلى منه، سواء كانت
دولة أو حلفاً أو منظومة عالمية، وهو فوق ذلك لا يخضع لأي سلطة في تعيينه أو
خلعه من خارج الدائرة الفاتيكانية، وقد أحكم وثاق هذه الحصانة أو بالأحرى شدِّد
خناقها على النصارى الكاثوليك بالقرار القديم للمجمع المسكوني في روما عام
1896م باعتبار صاحب منصب البابوية إنساناً معصوماً، وهو ما يعني أن مواقف
البابا الكاثوليكي هي في مرتبة الوحي المنزل من السماء في اعتقاد أتباعه. ولقد
أضفى (يوسف فوجتيلا) [4] أو (جون بول) أو (يوحنا بولس) الثاني بشخصيته
الرمادية أبعاداً أخرى من الإثارة والغموض على ذلك المنصب، فهو أول (بابا)
يرأس البابوية الرومية من خارج روما. وتاريخه القديم مليء بعلامات الاستفهام
وخاصة علاقاته اليهودية الخاصة.
إن هذا الرجل الذي يرتدي مسوح المسكنة، ويتقنع بلباس السكون يحمل بين
جوانحه نفساً بعيدة الأغوار، سحيقة الأسرار؛ فقد قطعت الكاثوليكية في عهده
أوسع خطاها وأسرعها نحو التقارب مع اليهود؛ ولا ندري على وجه التحديد إن
كان الرجل بدوره يحتل موقع الفاعل أم المفعول؛ فمنذ أن تولى منصبه في عام
1978م وهو يسير وئيداً نحو واقع جديد لتقريب الشُّقة بين بوابتي هيكل
بطرس [5] وهيكل سليمان.
وقبل أن أشرع في عرض أو سرد التسلسل في خطوات الشيطان نحو ذلك
الوفاق النكد؛ أحب أن أشير إلى أحد أدوار هذا (البابا) على الساحة الدولية؛ لأدلل
بها على أنه ليس شخصية هامشية في المجريات العالمية.
معاول الصمت:
يوحنا بولس الثاني، مولود في بولندا، وقد اجتاحت النازية بلاده، مما تسبب
في اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومثلما قامت الحرب باجتياح (هتلر) لبولندا فقد
انتهت بدخول الجيش الأحمر إليها مخترقاً شرق أوروبا، وأقامت روسيا نظاماً
شيوعياً في بولندا كان ركيزة للحلف الشيوعي الدولي المعروف بحلف (وارسو)
وليستمر بعد ذلك الوجود الشيوعي في بولندا طيلة 35 عاماً، ولأن الرجل لم يكن
دوره المرسوم أن يبقى محبوساً في (قمقم) الرهبنة والانعزال عن السياسة كما هو
مشاع عن دور الكنيسة فقد تهيأت أمامه فرصة لإثبات أن الدين ولو كان باطلاً لا
يزال عامل دفع وتحفيز للشعوب؛ نصرةً للحق أو ثأراً بالباطل.
كانت بولندا منطقة التماسِّ بين المعسكرين العالميين قبل انتهاء الحرب الباردة، وكان لنشاط المخابرات الأمريكية فيها دور ملموس لتحسس أخبار الند الشيوعي
عن قرب، وقد أثمر هذا النشاط إبراز الشخصية التلفزيونية اللامعة (ليخ فاونسا)
زعيم نقابة التضامن البولندية ذلك الزعيم الذي دفعته إلى مقدمة الأحداث في بولندا
ومقدمة الأخبار في العالم (كلمة) من كلمات بابا الفاتيكان.
لقد أوقد ذلك (البابا) في هدوء عود ثقاب على أرض بولندا؛ سرعان ما أشعل
نيران ثورة عارمة في أنحائها ضد الحكم الشيوعي، وكانت البداية زيارة قام بها
إلى هناك بعد سبعة أشهر فقط من تسلُّم منصب البابوية، وعندما هبط من الطائرة
في يوم من أيام يونيو عام 1979م، انكب كعادته الطقسية على الأرض ليقبلها أمام
(الكاميرات) العالمية، فُدقَّت لذلك أجراس الكنائس في كل دول أوروبا الشرقية،
ودبت روح من اليقظة الدينية في أوصالها، بدأت في بولندا ثم انتشرت حولها،
وأثناء الزيارة أقام يوحنا (قُدَّاساً) أمام نحو 300 ألف بولندي كاثوليكي، ألقى فيه
خطبة تخللتها الكلمة التي كان لها ما بعدها، لقد قال أمام الحشود: (لا يمكن
استبعاد السيد المسيح من تاريخ البشرية في أي بقعة من العالم، من أي خط عرض
أو طول، أو شمال أو جنوب، إن استبعاد المسيح خطيئة في حق البشرية) ! وبعد
أن انتهى من خطبته دوَّى التصفيق بشكل متواصل مدة عشر دقائق كاملة، وسط
ترديد الحضور لأهازيج منظمة يقولون فيها منشدين: (المسيح سينتصر.. المسيح
سيملك.. المسيح سيحكم) ثم انفضَّت الجموع حاملة في نفوسها مشاعل الثورة التي
قادها حركياً (فاونسا) ونظم لها روحياً ومعنوياً يوحنا بولس الثاني، وقد انتبه لهذا
التطور في وقت مبكر الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) الذي شاهد
(القدَّاس) من خلال وسائل الإعلام، وعلق وقتها على ما شاهده قائلاً: (إن تحولاً
هائلاً يُنتظر أن يحدث في العالم الشيوعي، وإن هذا القداس في قلب وارسو ما هو
إلا نقطة البداية) وهذا ما كان بالفعل؛ فقد اشتعلت الثورة في أنحاء بولندا إلى أن
انتهت بسقوط الحكم الشيوعي فيها، ثم تساقطت الأنظمة الشيوعية بعد ذلك في دول
أوروبا الشرقية طيلة عقد الثمانينيات حتى انتهت بتفكك المنظومة الشيوعية بعد
سقوط سور برلين في آخر الثمانينيات، ثم أعقبه تفكك الاتحاد السوفييتي في أوائل
التسعينيات، وقد اعترف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي (ميخائيل جورباتشوف)
بخطورة الدور الذي لعبه بابا الفاتيكان فقال: (يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث في
أوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة، كان مستحيلاً لولا الدور الذي قام به البابا،
والمجهود الهائل الذي أداه من خلال الدور السياسي الذي لعبه على الساحة
العالمية) [6] .
هذا إذن هو (البابا) وهذه كلماته وهذه خطواته وهذه مخططاته التي لا ندري
والحق يقال: هل هي لحساب كنيسته أم لحساب الذين رفعوه لرئاستها بعد الوفاة
المفاجئة لسلفه يوحنا بولس الأول الذي مات في ظروف غامضة بعد شهر وثلاثة
أيام من تولي منصبه.
الكاثوليكية واليهودية.. من يخترق الآخر؟
لو لم تكن عمليات شد الحبال ومحاولات الاختراق المتبادل بين اليهود
والنصارى (بروتستانت وكاثوليك) تجري على أرضنا الإسلامية، لما ألقينا لها
بالاً، ولا أرعينا لها سمعاً، ولكن لما كانت تلك الصراعات الدينية تتخذ من أرض الإسلام ميداناً في جزء من أقدس بقاعه؛ فإن المسألة يصير لها شأن آخر.
إن الصراع القديم بين الكاثوليكية واليهودية قد تواصل حتى العصر الحديث؛
فعندما ظهرت الحركة الصهيونية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد على
يد (تيودور هرتزل) ، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية موقفاً مناقضاً ومناهضاً لتلك
الحركة، برغم حرص الصهيونية العالمية وقتها على كسب كنيسة روما لجانبها في
مشاريعها المستقبلية في المنطقة، أو تحييدها على الأقل.
ولكن الكاثوليك ظلوا على موقفهم المعادي لليهود ما داموا باقين على عداوة
المسيح وعدم الاعتراف به، وعندما جمع لقاءٌ بين هرتزل وبابا الفاتيكان في
زمنه، رفض ذلك البابا وهو (بيوس العاشر) التماس اليهود بالتجاوب مع المطالب الصهيونية باستيطان أرض فلسطين، بل إن (البابا) اشترط على هرتزل صراحة في ذلك اللقاء الذي تم في 25/1/1904م، أن يتنصر اليهود أولاً قبل الحديث في أي موضوع يتعلق بالعودة إلى الأرض المقدسة وقال له: (إن بقاءكم على انتظار مسيح غير يسوع يجعلكم باعتقادكم هذا منكرين ألوهية يسوع، ولا يمكننا حينئذ مساعدتكم) [7] .
وقد وجد اليهود الصدر الرحب والأذرع المفتوحة لدى النصارى البروتستانت
الذين ساروا معهم على طريق العودة من بدايته، حتى أوصلوهم إلى عتبة الدار،
بعد أن بنوها وهيؤوها لهم عبر عقود الانتداب الثلاثة؛ كل ذلك والكاثوليك
يرفضون مجرد الاعتراف بهذا الواقع الجديد؛ فعندما صدر وعد بلفور سنة 1917م
على لسان الملكة البريطانية رفضته البابوية الكاثوليكية ولم تعترف به، وعندما
أعلنت الدولة في سنة 1948م لم تعترف البابوية الكاثوليكية بها، وعندما احتل
اليهود القدس ثم أعلنوها عاصمة موحدة أبدية لهم لم تعترف البابوية الكاثوليكية بذلك، وظل الأمر على هذا حتى انتصف القرن العشرون وجاء عقد الستينيات.
رياح التغييرات تهب من أمريكا:
شهد عقد الستينيات الميلادية وصول أول رئيس من طائفة الكاثوليك [8] إلى
سُدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الرئيس (جون كنيدي) وهو الذي
قُتل بعد ذلك ومع بداية ولايته بدأ اللوبي الصهيوني بالتعاون مع رجال دين من
الكاثوليك الأمريكيين في الضغط على الرئيس الأمريكي لمطالبة الفاتيكان باتخاذ
مواقف مغايرة من الديانة اليهودية والدولة اليهودية، وبالفعل بدأت تلك المساعي
تؤتي شيئاً من ثمارها؛ إذ اتخذ المجمع المسكوني النصراني المنعقد عام 1962م
قراراً بتبرئة اليهود من دم المسيح! ثم بدأ الأمريكيون الكاثوليك في نشر مناخ جديد
يطالب بتطبيع العلاقة بين الكاثوليكية العالمية ودولة (إسرائيل) فأصدر القس
الأمريكي الكاثوليكي (إدوارد فلا نيري) وثيقة في 1/12/1969م يطالب فيها
الكنيسة الكاثوليكية باتخاذ موقف لاهوتي جديد من دولة (إسرائيل) وطالب بعده
الأسقف (أوستريشر) في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في (26/5/1971م)
بالاعتراف بحق اليهود في القدس وقال: (إن القدس مدينة يهودية ... أطالب
المسيحيين بالاعتراف اللاهوتي بالصهيونية ... ، إن إسرائيل هي تعبير عن إرادة
الله) !
ثم تطور النشاط من شكل فردي إلى شكل جماعي، ففي 23/11/1984م
وقَّع أكثر من عشرين نائباً كاثوليكياً في مجلس النواب الأمريكي علي رسالة إلى بابا
الفاتيكان يطالبونه فيها بالاعتراف الرسمي بـ (إسرائيل) وتبادل التمثيل الدبلوماسي
معها.
ومع هذه المساعي المحمومة والمشاعر الحميمة من نصارى أمريكا الكاثوليك، إلا أن اليهود ظلوا يشكون من وجود عثرات كبيرة تعترض مجرى التطبيع بين
الكاثوليكية العالمية والصهيونية العالمية وهي:
1- عدم اعتراف الفاتيكان بـ (إسرائيل) باعتبارها دولة.
2- عدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لها.
3- عدم الاعتذار عن سكوت البابوية الكاثوليكية على جرائم النازية في حق
اليهود [9] أثناء الحرب العالمية الثانية.
4- عدم إدانة معاداة السامية [10] .
5- عدم الاعتراض على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار
الصهيونية حركة عنصرية [11] .
البابا يقيل عثرات اليهود:
لقد نصب البابا نفسه لدحرجة تلك الأحجار عن طريق الوفاق التاريخي مع
اليهود، وشرع يزيلها الواحدة تلو الأخرى.
- أما الاعتراف بدولة (إسرائيل) فقد أعلن باسم الفاتيكان اعترافه الرسمي
بدولة (إسرائيل) في عام 1993م، ثم أقام علاقات دبلوماسية كاملة معها في عام
1994م.
- وأما الاعتذار فقد أقر به قبل زيارته الأخيرة وأثناءها؛ فقد قام بوضع
إكليل من الزهور على النصب التذكاري لضحايا المحرقة في متحف (يافا شيم) ،
ودعا في كلمة ألقاها هناك إلى إقامة جسور جديدة مع اليهود تعتمد على (الجذور
المشتركة) بين الديانتين وقال معتذراً عن المحرقة بلسان فصيح: (إنه لا توجد
كلمات تكفي للتعبير عن الأسف على المأساة المروعة التي حدثت ضد اليهود) .
- وأما الإعراب عن إدانة معاداة السامية والصهيونية فقد أتى به ضمناً في
إطار زيارته لتل (صهيون) حيث ألقى كبير حاخامات (إسرائيل) كلمة أمام (البابا)
أكد فيها على أن القدس هي العاصمة الأبدية الموحدة لدولة (إسرائيل) ولم ينبس
(البابا) ببنت شفة اعتراضاً على هذه العبارة التي قيلت بمناسبة استقباله؛ فهل
يطمع البابا بهذه (العطايا) أن يصل في النهاية إلى كسب اليهود تمهيداً لتنصيرهم في
آخر الأمر ليحقق نبوءة تنصرهم قبل عودة المسيح ... ؟ ربما، أم هل يريد أن
يشكل تحالفاً غربياً كاثوليكياً ينافس التحالف البروتستانتي في السيطرة على العالم؟
قد يكون.
على أي حال فقد جمع كبير الكاثوليك في تلك الزيارة كل ما في جعبته
لإهدائها لليهود حتى أقر أعينهم وأجرى الثناء على لسان كبيرهم (باراك) الذي
وصف الزيارة بأنها (رحلة التداوي التاريخية) وقال: (إن البابا أسهم بشكل كبير
في تحقيق تغيير تاريخي في اتجاه العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل) .
هذا ما قدمته البابوية الكاثوليكية لليهود؛ فماذا أعطت المسلمين والعرب
والفلسطينيين؟ !
الجواب بمعيار الحقيقة لا الزيف أو الدعاية: لا شيء [12] !
إذن فماذا أُعطي البابا في بلاد المسلمين؟ ! والجواب: أُعطي الكثير.
ومع قليل من هذا الكثير هذه بعض الإشارات (والإشارة تغني عن العبارة) :
- فُتحت أمام (البابا) أكبر فرصة تبشيرية تنصيرية تكفيرية في التاريخ،
عندما هُيئت أمامه كل الإمكانات لإقامة أكبر (قدَّاس) عالمي متنقل خارج مقر
البابوية؛ حيث أذيعت شعائره وصلواته ودعواته على العالم أجمع عبر الفضائيات
حية على الهواء، وتمكنت دعوة الشرك والخرافة والدجل أن تسمع الدنيا كلمتها،
دون أن تسمع في مقابلها كلمة واحدة باسم دين الحق والتوحيد؛ حيث استُبعِدَ خطاب
الدين في الكلمات الرسمية على المستوى العربي كالعادة بينما حفلت الكلمات
الرسمية اليهودية والنصرانية في المناسبة بكثير من المعاني الدينية الصريحة.
- أهديت في الزيارة وقبلها، هدايا تذكارية، تجعل من (الصليب) تحفة
فنية أو أثرية مهداة، وفي هذا ما فيه من اعتراف صريح بأن لهذا الوثن نصيباً من
قيم الحق، ومن ذلك ما سمي بـ (صليب بيت لحم) الذي جعل وشاحاً لتكريم
الضيوف يُحمل على الصدور!
- سُمعت كلمات (كبيرة) من شخصيات كبيرة القولُ منها تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً؛ ومن ذلك ما سمعته بإذني من
أحدهم وهو يقول في كلمة نقلتها الإذاعات: (يا قداسة البابا: نحن هنا مسلمين
ومسيحيين ويهوداً أبناء الله الذين اختارهم للعيش في هذه الأرض) ! وقول آخر:
(إن شعبنا يؤمن بتعاليم القرآن والإنجيل معاً) ! ! ... أي بالشرك والتوحيد معاً؛
لأن (البابا) ومن معه لا يعرفون شيئاً عن الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه
السلام!
- أتيح لـ (البابا) أن يتيه فخراً، ويتبختر فرحاً وسط جموع ممن يُفترض
أنهم (رموز الإسلام) عندما اصطفت كوكبة منهم بزيهم الرسمي صفوفاً على
الجانبين لاستقباله بالتصفيق الحار، حتى أصابه الاندهاش؛ فقال لأحد مضِّيفيه:
(هذا يوم لن أنساه أبداً إنه هدية من الرب) ! وحُقَّ له أن يفرح بتصفيق (الرجال)
حملة دين التوحيد ابتهاجاً بقدوم حامل لواء الشرك!
- غرر بالبسطاء من عامة المسلمين وخاصة الأطفال الذين أُخْرِجَ الآلاف
منهم لتنظيم المهرجانات الاحتفالية من المدارس النصرانية التي عامة طلابها من
أبناء المسلمين؛ حيث رفع بعضهم لافتات مكتوب عليها: (أيها البابا إننا نحبك)
وردد بعضهم هتافات تقول: (مرحباً بقدوم ملك السلام) والمقصود عيسى لا بولس!
- ظهر اعتزاز طوائف الكفار على اختلاف مللهم بأديانهم؛ في مقابل هوان
الدين على بعض المسلمين؛ حيث رفض بابا الأقباط مثلاً الذهاب بنفسه لاستقبال
(بابا) الفاتيكان في المطار؛ وأصر أثناء زيارة بابا الفاتيكان له في مقره أن يجلس
أتباع كنيسته من القسس صفوفاً في مواجهة قسس الكاثوليك بشكل نِدِّيٍّ مستقل،
بينما رُتِّبَ اللقاء الإسلامي مع (البابا) ووفده بحيث يجلسون جنباً إلى جنب بشكل
تبادلي.
- أما المغزى السياسي الذي أظهرته الزيارة والذي يدخل ضمن ما قدمه
العرب لـ (البابا) ومعه اليهود فهو طمأنتهم بأن قضية الأرض المقدسة تضاءلت
وانكمشت من قضية إسلامية عالمية إلى قضية عربية قومية، ثم إلى قضية (سلطة)
وطنية.. ثم إلى قضية (لجنة) إشرافية تشارك فيها شخصيات علمانية ونصرانية
مع آخرين من حاملي الجنسية الإسرائيلية، لا يعرف أكثرهم القدس والأقصى إلا
جزءاً من التراث أو (الفلكور) الفلسطيني، أو أنها شيء للبركة لا تزيد عن
(البركات) الملتمسة بمصافحة (البابا) .
- أما أكبر الهدايا التي حباها أحباء (البابا) إليه فهو تحقيق أمنيته الغالية عنده
وعند النصارى جميعاً بأن يبدأ (الألف السعيد) بداية سعيدة تبشرهم بأن العالم مهيأ
بالفعل للاستجابة لأي ناعق كذاب يقول شيئاً باسم الإله، أو ابن الإله، فلا تجد من
القطعان البشرية إلا الهتاف والتصفيق حتى لو كان ذلك في عقر ديار المسلمين!
إنه اختراق من نوع آخر؛ فمنذ قرن من الزمان أو يزيد، والساحة خاوية
أمام كل صنف من الأعادي الذين تمالؤوا فأسقطوا خلافتنا الإسلامية ثم أقاموا
أحلافهم الاستعمارية الصليبية وعايرونا وتفاخروا علينا بأن لهم (بابا) والمسلمون لا
بابا لهم..! !
ونحن منصورون بالله عليهم إن استقمنا فالله مولانا، والكافرون لا مولى لهم.
__________
(1) الفيل هو الرمز الرسمي للحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية، والحمار هو الشعار الرسمي للحزب الديمقراطي في تلك الانتخابات، ولم أعثر حتى الآن على السر في اختيار الحمار رمزاً لهذا الحزب! وعلى من عرف هذا السر أن يفيدنا.
(2) معنى الكاثوليك: الجامعة فكنيستهم هي الجامعة.
(3) انظر (انقضاض اليهودية على المسيحية) للكاهن (جيرالد دنيرود) ، ص 6.
(4) هذا هو الاسم الأصلي لبابا الفاتيكان الحالي، وتغيير اسم (البابا) عندهم طقس ديني تقليدي.
(5) ينسبون إلى عيسى عليه السلام أنه قال لأحد حوارييه وهو بطرس: (فوق هذه الصخرة أبني هيكلي) ففهم من النصارى أن المكان الذي سيموت فيه بطرس سيكون بيتاً للنصرانية، كما هو في روما.
(6) راجع كتاب (القديس) تأليف (كارل برنشتاين) ، (ماركو موليتي) .
(7) يوميات هرتزل، ص 3061.
(8) الكاثوليك الأمريكيون يشكلون الآن ما يزيد على ستين مليوناً من مجموع تعداد الشعب الأمريكي، وقد قدر معهد جالوب للإحصاء عدد (الأصوليين) من الأمريكيين الكاثوليك عام 1982م بثمانية ملايين.
(9) لأن اليهود يعتبرون الكاثوليك مشاركين في (الهولوكست) كارثة المحارق النازية التي يدَّعي اليهود أن هتلر أحرق فيها نحو ستة ملايين يهودي في أفران الغاز، ومع هذا لم تتحرك الكنيسة الكاثوليكية لإيقاف هذا العمل أو إدانته.
(10) السامية نسبة إلى (سام بن نوح) وباعتبار أن بني إسرائيل ينحدرون من نسل سام، فإنهم يعتبرون أي عداء لهم عداءاً عنصرياً؛ لأنهم من الجنس السامي، ويتجاهل اليهود أن العرب أيضاً ينحدرون من الأصل السامي.
(11) ضغطت الولايات المتحدة لإلغاء هذا القرار وبالفعل ألغي في عهد.
(بوش) .
(12) بطبيعة الحال نحن وفق مفاهيمنا الإسلامية لا ننتظر خيراً أصلاً ممن قال الله تعالى في أمثالهم: [ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] [النساء: 89] فعداوتهم باقية سواء اعتذر الفاتيكان أو لم يعتذر، وأما اعتذار (باباهم) عن الحروب الصليبية فلم يكن نيابة عن الكنيسة نفسها بل عن بعض رعاياها (الأشقياء) الذين خرجوا عن تعاليمها! .(150/108)
المسلمون والعالم
زيارة البابا لـ (مصر)
دلالات وأبعاد
محمد أحمد منصور
رفض شنودة استقبال بابا الفاتيكان في المطار لكونه مماثلاً له، وحتى لا
يعني ذلك الاعتراف بأحقية بابوية روما على بابوية الإسكندرية!
في تعليق البابا على كلمة الترحيب التي ألقاها فضيلة شيخ الأزهر وتحدث
فيها عن «تكامل الثقافات والأديان» ارتجل البابا كلمة بالإنجليزية؛ حيث قال:
«إن الإسلام أصبح ثقافة؛ والمسيحية كذلك، إنني مقتنع بأن مستقبل العالم يعتمد
على الثقافات باختلافها وعلى الحوار بين الأديان. إنني أشكر هؤلاء الذين يطوِّرون
الثقافة الإسلامية» ! ! ويبدو أن بابا الفاتيكان [*] لم يكن متصوراً أن الحفاوة به
ستصل إلى هذا الحد من الإكرام البالغ. لقد كان فضيلة شيخ الأزهر في استقباله في
المطار مع بعض مسؤولي الأزهر، ونزل على رغبة مرافقيه في تنظيم استقباله
بالأزهر، ومكان الجلوس وطريقته، ونوع الهدية التي ستقدم له.
لكن كل ذلك يصغر في جانب ما قاله فضيلة شيخ الأزهر من معان طالما
انتظرها البابا من مثله. فالإسلام أصبح ثقافة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى
وفق المنظور الغربي!
ولعل مثل هذه العبارة المرتجلة تعبر عن فحوى الزيارة الأولى له إلى
مصر،
والأولى له في هذه الألفية والتي تأتي على ضوء المستجدات على الساحة العالمية
والإقليمية والمحلية تحمل في طياتها معضلات كثيرة؛ فعلى الساحة العالمية تطمح
أوروبا إلى تبوُّؤ مكانة عالمية مشكِّلَةً قطباً آخر منافساً أحياناً ومكملاً في أحيان
أخرى، ومع سعي أوروبا نحو أن يكون لها هوية متميزة فإنها تفضل عالماً أكثر
كاثوليكية في مقابلة الهيمنة الإنجيلية الأمريكية.
ومما يكشف بعضاً من هذا التوجه هو التردد البريطاني بين الولاء الديني
الإنجيلي والانتماء الجغرافي لأوروبا، وهذا الأمر يؤكد أن المسألة الدينية عادت
بشكلٍ سافرٍ لتفرض نفسها على خريطة السياسة الدولية.
أما على الساحة الإقليمية فإن المنطقة تشهد مخاضاً يحدد معالمه طبيعة
التنافس بين المشروع الأمريكي الشرق الأوسطي، والمشروع الأوروبي البحر
متوسطي وحجم ذلك التنافس؛ مع استبعاد للمشروع الحقيقي لهوية المنطقة
(الإسلامي) والمشروع المرحلي الماضي (العربي) ؛ ولهذا فإن هناك تسابقاً من
الطرفين المتنافسين ومن الطرف الثالث (الضحية) ومن الطرف الرابع (الضيف
الصهيوني) كل منهم نحو ما يراه يخدم مصالحه؛ فالعرب يريدون بقاء ما كان على
ما كان حماية لمصالحهم، و «إسرائيل» تريد هيمنة مطلقة برعاية أمريكية،
وأوروبا لا تكف عن طلب دور لها في ظل طلب عربي متكرر لمشاركة أوروبية
في عملية السلام. ولكن كِلا المشروعين يتفقان من جهة المنظومة القيمية
المطروحة للمنطقة سواء في شقها الأمني أو الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي؛
أما الخلاف فعلى الأسلوب وتحقيق المصالح الذاتية. ومن ثَمَّ بات واضحاً أن هذه
المنطقة المستهدفة تتعرض لألوان من الضغوط وقدر كبير من المزاحمة الثقافية
والأيديولوجية والعرقية والدينية حتى يمكن فرض المنظومة السابقة وتغيير هوية
المنطقة لصالح «إسرائيل» .
ولعل ما تتعرض له مصر بالأخص بشأن المسألة القبطية بوصفها أحد أعقد
التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع في آن واحد بالإضافة إلى الضغوط
الإقليمية والدولية لعل ذلك هو الذي فتح الباب واسعاً أمام زيارة البابا بعد أن أخفقت
النخبة ذات الولاء العلماني والموروث الماركسي في تفكيك الأزمة حتى بات التعبير
الأقرب هو أن هناك «أزمة في إدارة الأزمة» ومن ثم وجدت الدولة نفسها أمام
منعطف جديد يعبر عن مرحلة جديدة لم تجد بداً أمامها من تقديم عدد متوالٍ وغير
متوقف من التنازلات!
هذه الخطوة رحب بها أحد المثقفين الأقباط «ميلاد حنا» طالباً المزيد حيث
قال: «إن مبادرات البابا ونقل زيارته عبر التلفزيون الوطني أدى إلى بروز أجواء
جديدة في مصر» ، وقال أيضاً: «إن الحوار بين المسيحيين والمسلمين في مصر
سيأخذ من الآن فصاعداً منحىً جديداً» [1] .
السلام.. والألفية ومبعوث العناية الإلهية:
يعتقد النصارى أن سعيهم لتحقيق السلام هو تمهيد لمجيء المسيح [2] الذي
يربطونه بحلول الألفية الثالثة، وسبيلهم إلى ذلك هو نشر ثقافة السلام ومحاولة
إلغاء (أو إيقاف) سُنَّة التدافع وتغييب الوعي بالذات وبالآخر، والتي تعني إلغاء
حقائق شرعية كالجهاد والولاء والبراء وتجريم كل صور ممارستها. ويتم هذا عبر
آلية متكاملة وواضحة بدءاً بالتعليم والإعلام، ومروراً بالدساتير والقوانين وترتيب
الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانتهاءاً باختراق المؤسسات الدينية
من خلال الحوار أو بالرموز العلمانية. هذه الآلية هي التي أفرزت الواقع المرير
الذي يحياه الجميع الآن، والذي حتم على الكثيرين فرضية الصمت فَرَقاً من
تداعيات جديدة أو طلباً لسلام اجتماعي هش.
لمحات من الزيارة:
الزيارة التي بدأت ظهر الخميس 42 فبراير كانت قد بدأت قبل أكثر من عام
على صفحات الصحف ووسائل الإعلام؛ لتهيئة الرأي العام لذلك، لكن اللافت للنظر
هو الزيارات التي تقدمت زيارات البابا مباشرة؛ حيث زار كل من الرئيس
الإيطالي والألماني القاهرة وعدة عواصم أخرى فيما يفهم منه أنه تهيئة لزيارة البابا
للمنطقة التي استهلها بالقاهرة؛ حيث استقبل استقبالاً رسمياً فوق العادة؛ إذ كان في
استقباله رئيس الدولة وستة وزراء وشيخ الأزهر وذوو مناصب أخرى قيادية.
وخارج المطار اصطف طلبة المدارس الكاثوليكية التي يبلغ عددها في مصر 170
مدرسة غالب أبنائها من المسلمين! رافعين الأعلام والصور. وكانت أول فقرة في
برنامج الزيارة هي توجهه إلى الكاتدرائية الأرثوذكية؛ حيث استقبله بابا الأقباط
شنودة الثالث.
وأنشد له الكهنة لحنيْن: «أو بورو» أي «يا ملك السلام» ،
و «أفلوجو مانوس» أي «مبارك الآتي قبل الرب» [3] .
وقد حرص الطرفان على إلغاء أي دلالة رمزية حيث تساوت الكراسي التي يجلس عليها القسس والكهنة من الطائفتين، وتساوى الكرسيان اللذان يجلس عليهما البابوان في الشكل والحجم.
ويشار أيضاً إلى أن شنودة رفض الذهاب إلى المطار؛ لأنه يعد الخروج
نوعاً من الهرولة من رمز إلى رمز كلاهما متكافئان وكي لا تهتز صورته أمام شعبه
وتفسر على أنها نوع من الاعتراف بأحقية روما عن الإسكندرية! ويشار أيضاً إلى
أن البابا قد صحب القيادات الكاثوليكية في المنطقة العربية إلى جانب الوفد الفاتيكاني
والمصري حيث صحبه بطريرك اللاتين (القدس) وبطريرك الأرمن (لبنان)
والموارنة (لبنان) والسريان (سوريا) والكلدان (العراق) .
ثم قام بزيارة مقر الأزهر؛ وكان كل شيء خلال هذه الزيارة يوحي
بالتكافؤ على خلاف زيارة الكاتدرائية الكاثوليكية! سواء شكل الجلسة التي جاءت
على التوالي لا التوازي؛ حيث كانت عبارة عن: شيخ فقسيس ثم شيخ فقسيس
وهكذا. أما عبارات الترحيب التي خلطت الأوراق فلا هي تعبيرات
بالأصالة عن موقف الإسلام ولا هي بالوكالة حيث لم تَرْقَ إلى مستوى التعبير
الدبلوماسي، ولكن جاءت عباراته هكذا أقرب إلى الشعبية التي لا يرتضيها كثير
من العوام.
وقد تجاهل البابا زيارة كنيسة الروم الأرثوذكس التابعة لليونان (والتي تعرف
بكنيسة القسطنطينية) نظراً لرفض الكنيسة صلاة البابا داخل دير سانت كاترين التابع
لها. وفي صباح الجمعة فيما يشبه الحلم وجد البابا نفسه يقيم (قداساً) في ملعب
رياضي في عاصمة إسلامية (17 مليون) يحضره 20 ألف كاثوليكي إلى جانب
1500 من المسلمين غالبهم ممن تربى في المدارس النصرانية أو من الفضوليين!
وعلى مقربة من جامعة الأزهر؛ وقد تم نقل القداس عبر التلفزيون المصري على
الهواء مباشرة. ويذكر أن القداس أقيم بسبع لغات: القبطية القديمة، والأرمنية
القديمة، والعربية، والإنجليزية، والإيطالية، والبولندية، والفرنسية التي وجه
فيها البابا نداءه من أجل التقارب بين النصارى.
وقد ألّف صلاة عن السلام، وانتهى القداس قبيل صلاة الجمعة!
وقد لاحظ عدد غير قليل من الناس أن البابا والوفد الفاتيكاني المرافق له
يرتدون ملابس بيضاء بينما يرتدي كرادلة الأقليات الكاثوليكية في البلاد
الإسلامية السواد (ترى لماذا؟) .
وفي عصر اليوم نفسه انتقل إلى كنيسة العذراء ليقيم فيها صلاة ويرأس لقاءا
ً مع وفد قبطي أرثوذكسي بقيادة شنودة الثالث.
وقد أكد فيه البابا على ضرورة توحد المؤمنين بالمسيح! تحت راية واحدة،
وشدد مراراً على ذلك وكرر: «علينا أن نغتنم الوقت!» .
وقد سئل شنودة بعد الزيارة عن مدى التقدم الذي طرأ على العلاقات، فجاء
رده حاسماً وفي اتجاه واحد: «الحوار بين الأديان والطوائف يكون في إطار
التعاون المشترك لكنه لن يدخل في العقيدة الدينية كما يتصور البعض» [4] .
مثل هذا التصريح وغيره من المواقف تعكس حجم الصراع الدائر بين
الكنائس؛ حيث حاولت الحكومة أن تنفذ من خلاله للتهوين من ادعاءات بعض
الأقباط التي لا تنتهي أمام العالم، ولكن القيادة الفاتيكانية ليست بهذه السذاجة؛ فهي
تحاول الموازنة لتحقيق مكاسبها دون مقابل وهذا يجعل الأمر بين فكي رحى.
وفي صباح السبت توجه إلى سيناء حيث دير القديسة كاترين التي ركع البابا
عند قبرها، غير أنه لم يتمكن من إقامة صلاته داخل الدير، وأقامها بحديقة بجانبه
فيما قيل عنه إنه حج على خطا موسى عليه السلام، حيث تلقى الوصايا العشر
والعائلة المقدسة التي آوت إلى مصر. وصلى البابا أيضاً لتتويج الحوار المسكوني
مع الكنيسة الأرثوذكسية ثم عاد بعدها إلى روما مروراً بالقاهرة.
دلالات:
ثمة دلالات حاول البابا جاهداً وأعوانه أن يؤكدوا عليها في ثنايا أحاديثهم كلها
تشير إلى زحزحة الهوية الإسلامية والعربية لمصر وإشراك الهوية النصرانية معها؛ وهذا ليس في مصر وحدها وإنما في كل الدول التي شارك كرادلتها البابا في
زياراته. وهو إجراء وقتي يسمح بعد حين بما هو أكثر.
- ومن ذلك ارتباط زيارة البابا على أعتاب الألفية الثالثة والتي ترتبط في
أذهان نصارى العالم بأحداث مستقبلية معينة.
- تسمية رحلة البابا إلى هذه البلاد حجاً بما يسمح بتكرارها سنوياً؛ حيث
زعموا ارتباطها بنبي الله موسى عليه السلام وبـ (الأسرة المقدسة) .
- التأكيد على أن النصرانية خرجت إلى العالم من مصر.
- قوله: «مصر هي أرض القديس أنطونيوس وهي معقل الدراسات
(المسيحية) ولعبت دوراً عظيماً في الحفاظ على الثقافات والعقائد الخاصة بالكنيسة»
ولسوف أتذكر كلمات البابا شنودة الثالث الذي قال: «إن مصر ليست بلداً
نستوطن فيه إنها أرض تعيش فينا» [5] .
- الإشادة بتراث مصر النصراني مذكراً بأنه البلد [6] الذي نزلت فيه
الوصايا العشر على موسى عليه السلام ولجأت إليه عائلة المسيح عليه السلام
وانطلق منه تقليد إنشاء الأديرة.
- البدء بزيارة الكاتدرائية القبطية قبل زيارة الأزهر مع أن قواعد
البروتوكول تقتضي العكس!
- ما أشير إليه قبيل الزيارة من حج روحي إلى «أور» مسقط رأس الخليل
إبراهيم عليه السلام وإظهار التعاطف مع شعب العراق يعلم حقيقته المطلعون على
حجم النشاط التنصيري داخل العراق اليوم. والبابا هنا يريد أن يحرك مشاعر مليار
كاثوليكي في العالم للضغط على الحلف الإنجليكاني للسماح بدخوله مشاركاً في اللعبة.
وتساؤلات أيضاً:
وهي تساؤلات تفرض نفسها:
- هل تعد مثل هذه التصريحات مستنداً لتدريس التاريخ القبطي وإقامة أقسام
له في الكليات، خاصة أنه في وقت كتابة هذا المقال يقام مؤتمر حول «علم
المصريات» وستطرح مثل هذه القضية للنقاش من خلاله، والمتوقع أن تقر هذه
المطالب في الوقت الذي تتقلص فيه دراسة التاريخ الإسلامي لصالح التاريخ الحديث
والتاريخ الفرعوني وهكذا سيضاف إلى شخصية مصر عنصر آخر هو البعد
القبطي! [7] .
- هل ستعطى صلاحيات أوسع للمؤسسات النصرانية سواء التي تمارس
الدور التنصيري الصريح، أو التي تمارس أدواراً أخرى لا تقل خطورة، خاصة
في ظل فكرة المجتمع المدني وإلغاء سيادة الدولة [8] ؟
- هل هناك علاقة بين زيارة البابا وإلغاء القرار الهمايوني من قبل وبين
النقل التلفزيوني أسبوعياً قداس الأحد على الهواء؟
- إلى أي حد سيخدم الفاتيكان بالوكالة مصالح الحكومة المصرية؟ وإلى أي
حد سيخدم المشروع الشرق أوسطي والأوروبي اللذين يصبان في صالح الأقباط.
فإلى الذين لا يقرؤون الآيات: تدبروا ما تطلعون عليه من التصريحات،
وكما قال البابا: علينا أن نغتنم الوقت!
حيرة: حوار أم تحوير؟ !
الحيرة والتحوير والحوار أصبحت متقاربة الدلالات في ظل ما يدار بهدف
إزالة الحاجز النفسي لدى المسلمين ضد أوروبا النصرانية صاحبة الأيادي الحمراء
التي تتبنى الهدف نفسه ولكن بأساليب أكثر نفاذاً وأقل تكلفة في حوارات وما هي
بحوارات! وعلى حد تعبير أحد السياسين: «ليس هناك حوارات حضارية وثقافية
في أذهان الغرب! ! ولكنه صراع مخطط الأدوات والأهداف والمراحل» . في
عام 1995م اتخذ المجمع الفاتيكاني الثاني قراراً بفتح مجالات الحوار مع الإسلام
واليهودية، وامتد الحوار ليشمل حوارات الأديان الوثنية مثل البوذية، بل
والماركسية أيضاً، وفي عام 1996م عقد مؤتمر عن الحوار بين الأديان تحت
رعاية الأزهر بالقاهرة، وفي مايو 1998م عقد اتفاق ثنائي وقع عليه وكيل الأزهر
(الشيخ فوزي الزفزاف) ورئيس المجلس الأسقفي (أرينزي) لإقامة لجنة دائمة بين
أعلى هيئة للكاثوليك في العالم (الفاتيكان) وأعلى هيئة إسلامية (الأزهر) وقيل إنها
تهدف إلى دعم مبادئ العدالة والسلام واحترام الأديان السماوية [9] .
وهنا سؤال جدير بالطرح: هل يعترف الفاتيكان بالإسلام باعتباره ديناً سماوياً؟ ! إن العبارات المنتقاة بدقة للبابا عن الإسلام لا تحمل أي اعتراف بكونه ديناً سماوياً، ولا تحمل اعترافاً بفضل الإسلام على أوروبا؛ حيث نوَّه بدور الإسلام الذي جاء بالعلم والمعرفة والذي أثَّر تأثيراً كبيراً على العالم العربي وإفريقيا. وهي عبارة تحمل قدراً كبيراً من الالتواء. وقد جاءت الزيارة الأخيرة لتعطي دفعة جديدة لذلك الحوار؛ فستعقد ندوة بين كلية أصول الدين في
جامعة الأزهر وإحدى الجامعات الكاثوليكية؛ وقد تتحول هذه الندوة إلى مركز دائم للحوار داخل جامعة الأزهر التي أصبحت مأوى لكثير من المنظمات المشبوهة مثل مركز الصحة الإنجابية التابع لمؤتمر السكان.
وأخيراً نختم المقال بعظة للبابا تحتاج إلى مزيد تأمل في ظل ما يقع من
أحداث: «إن الوصايا العشر ترسم طريقة حياة مفعمة بالإنسانية لا يوجد خارج
هذه الوصايا مستقبل مشرق، ولا سلام للأشخاص والمجتمعات والأمم» [10] .
وأخشى ما أخشاه أن يقترب اليوم الذي يُطْلَبُ منا تطبيق هذه الوصايا في واقع
الحياة!
__________
(*) أصبح الفاتيكان يلعب دوراً محورياً في السياسة الأوروبية؛ ولهذا أصبح أكثر حضوراً على الساحة الدولية والعربية؛ حيث أصبح محطة لبعض الساسة العرب، وكان آخرهم الرئيس اليمني (علي عبد الله صالح) .
(1) القدس العربي، عدد: 9533، يوم 28/2/2000م، هذه الأجواء التي تحدث عنها هي مطالب الأمس والتي حوتها وثيقة السبعينيات الشهيرة والتي طالبت بإلغاء الخط الهمايوني واسترداد الأوقاف القبطية من الدولة وإلغاء وصاية الدولة على الكنيسة بالإضافة إلى تخصيص ربع المناصب الوزارية والبرلمانية لأبناء الكنيسة.
(2) هناك تحالف نصراني يهودي بثلاثة أبعاد (الفاتيكان، مجلس الكنائس العالمي الأرثوذكسي، والجماعات الإنجيلية) ، على مستوى العالم لفرض هيمنة شاملة على مستوى العالم؛ ومن ثم فإن تبادل الأدوار في هذا السياق هي مسألة تكتيك متفق عليها، ويسعى الجانبان إلى ضم أطراف جديدة للتحالف كالهندوسية والبوذية.
(3) يلاحظ أن الأرثوذكس يدَّعون أن الله هو المسيح، وليس ابن الله كما يعتقد الكاثوليك ولكن مَنْ هذا الآتي الذي يقصدونه قبل مجيء الرب؟ .
(4) المشاهد السياسي، عدد: 112.
(5) الحياة، 52/2/0002م.
(6) اختلف أهل التاريخ حول موقع الطور الذي تلقى عنده موسى عليه السلام الوحي؛ والظاهر أن أغلبهم على أنه ليس في مصر؛ والمسألة تحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق.
(7) وقد قررت الجامعة الأمريكية أخيراً إنشاء (كرسي) للدراسات القبطية! .
(8) للبابا تصريح خطير في هذه المسألة صرح به في 5/21/2991م يقول: من الضرورة عدم الالتفات إلى حجج الاعتباطية مثل السيادة، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية؛ إذ من الضروري أن تتدخل القوات الغربية من أجل توفير الغذاء والصحة لكل إنسان على وجه الأرض والواضح أن الغرب لن يعدم مسوغاً وأن هذا الكلام غير سار على الشيشان.
(9) هذا الاحترام له وقائع تفسره مثل ما جرى في تيمور الشرقية وما جرى أخيراً في نيجيريا فهما وجهان لهذا الاحترام أما ما يحدث في الشيشان فشأن لا يعني هذا الشعار.
(10) قالها بعد عودته من القاهرة في قداس الأحد 72/2/0002م بروما تعليقاً على حجه على خطا موسى عليه السلام نقلاً عن الحياة 82/2/0002م، عدد: 20531.(150/116)
المسلمون والعالم
الأحداث الأخيرة في نيجيريا
الخلفيات والحقائق
بلال عبد الله
نيجيريا من أكثر البلدان الإفريقية عرضة للتقلبات السياسية؛ حيث وقعت بها
كثير من الأحداث والانقلابات التي شغلتها وشغلت معها القارة بأسرها.
ومن المعلوم أن الاستعمار الإنجليزي دخلها وفيها آنذاك ممالك إسلامية متعددة، وكان ذلك عن طريق المكتشفين ثم المنصِّرين، وبدأ الإنجليز يقنعون الأمراء
المسلمين (الفولانيين) في الشمال بقبول الحماية البريطانية بحجة أن الألمان في
الشرق والفرنسيين في الغرب والشمال يهددون دولتهم، ومع التعهد لهم ببقائهم
أمراء في نواحيهم، وفي عام 1900م أعلنت بريطانيا قيام محمية نيجيريا الشمالية
وعين السير (فريدريك لوجارد) مندوباً سامياً، وأرسلت الحملات العسكرية ضد
الأمراء الفولانيين الذين رفضوا توقيع اتفاقيات معهم، وفي عام 1903م تم احتلال
(كانو) و (سوكوتو) ولم تقع (بورنو) في حوزتهم إلا عام 1906م، واستلم الإنجليتز
الحكم مساعدين للأمراء الفولانيين، ثم أدمجت المحمية الجنوبية بمستعمرة لاجوس، وأبقت بريطانيا الإمارات الإسلامية في الشمال مع إيقاد الخلاف بينها. وفي عام
1914م حكم (لوجارد) نيجيريا الشمالية والجنوبية وجعل منها محمية إنجليزية،
وأفقدوا الإمارات الإسلامية استقلالها وجعلوها أداة طيعة في أيديهم وقام الإنجليز
بتنصير الوثنيين وبعض المسلمين، وعلموهم ومكَّنوهم من سدة الحكم. وفطن
المسلمون للمؤامرة فعلَّموا أبناءهم وقاوموا الاستعمار الإنجليزي.
وسكان نيجيريا عموماً (حوالي 111 مليون نسمة) ويختلفون من حيث الدين
والجنس واللغة والعادات. ويمثل المسلمون 76% من السكان والنصارى 20%
والباقي نصارى ووثنيون.
والنيجيريون عدة قبائل هي:
1- اليوربا: ويعيشون في الجنوب الغربي، وكانوا وثنيين، والمسلمون فيهم
أكثر من النصف والباقي نصارى ووثنيون.
2- الإيبو: في الشرق وهم بالنسبة لليوربا متخلفون، وبدؤوا حديثاً بتنظيم
القرى والهيئات الاجتماعية، وانتشرت فيهم النصرانية من طريق المنصِّرين،
وأسلم لله الإيبو لكن لم يجدوا من يعلمهم الدين الصحيح سوى الصوفية من القادرية
والتيجانية.
3- الهوسا: وأكثرهم في الشمال وهم ليسوا جنساً قائماً بذاته إنما هو
اصطلاح لغوي يطلق على الشعوب التي تتكلم لغة الهوسا، كانوا وثنيين قبل أن
يتحولوا إلى الإسلام على يد الفولانيين وهم عدة أمارات يحكمها ملك أو أمير يعاونه
بعض الوزراء، وهم يعملون بالتجارة لكنهم متأخرون وتنتشر بينهم الصوفية التي
ترى إبقاء التصوف سائداً بينهم لتضمن انقيادهم لها.
4- الكانوري: في الشمال الشرقي وهي قبائل متمسكة بدينها، ولها طلاب
يدرسون في الأزهر، وهم خليط من العرب والحاميين والزنوج، ومن أشهر قادتهم
الداعية الإسلامي المعروف: (عثمان بن فودي) .
5- الفولاني: وهم أصلاً من صعيد مصر وفدوا لتلك المناطق وحكموا مملكة
(تكرور) ثم تغلب عليهم التوكلور. اتجهوا للشرق حيث يقيم الهوسا، وكانوا قبائل
صغيرة وحَّدها الشيخ عثمان بن فودي، وجعل منهم قوة محاربة تسيطر على منطقة
واسعة.
أخطر الأحداث ضد المسلمين:
وأشهر الأحداث الدامية ضد المسلمين في نيجيريا يوم كان المسلمون يقودون
الحكومة الاتحادية، فبدأت الإشاعات ضدهم؛ بأنهم زيفوا إحصاء 1963م حيث
سيطر الشماليون على البرلمان الاتحادي. وفي فجر 15يناير 1966م تحركت
مجموعة عسكرية نحو منزل الشيخ (أحمد بيللو) بعد عزله القائد العسكري (جوشون
ايرونسي) ووضْعِ قائد مسلم بدلاً منه، فهوجم بيت الشيخ بالقنابل وانتزعوه من
فراشه هو وزوجته وأطلقوا عليهما النار، وتركوا بيته طعمة للنيران. وفي لاجوس
العاصمة خُطِفَ (الشيخ أبو بكر تفاوا بليوا) رئيس الوزراء الاتحادية، ووزير
المالية النصراني (فستسوس أوكوني) المتهم بممالأة المسلمين وقتلوهما بعد أيام من
الانقلاب الذي قام به (ايرونسي) . وقابل النصارى الانقلاب في كل أنحاء العالم
بالابتهاج والفرح. أما المسلمون فقد سادهم الصمت عدا (مظاهرة إسلامية ضخمة
في السودان) لكن ايرونسي النصراني عوقب بانقلاب نصراني آخر قاده (يعقوب
جودن) وهو من مسلمي الهوسا المتنصرين، وتوالت الانقلابات العسكرية؛ ومع
أن بعضها قام به ضباط مسلمون إلا أنهم (علمانيون) لم يقيموا للإسلام وزناً.
لكن المسلمين بذلوا جهوداً في تنظيم صفوفهم وجمعياتهم ومدارسهم وجامعاتهم
إلا أنهم أقل مستوى من النصارى، وتسود بينهم الطرق الصوفية المشار إليها
آنفا [1] .
ماذا حدث مؤخراً في نيجيريا؟
الدعوى التي قامت بها بعض الولايات المسلمة من تبني تطبيق الشريعة
الإسلامية أثارت ردود فعل غاضبة من النصارى؛ فما أسباب هذه الأحداث؟
أولاً: هناك توجُّهٌ في الجزء الشمالي من نيجيريا نحو تطبيق أحكام الشريعة
الإسلامية في حدود ما يسمح به الدستور على مستوى الولاية؛ حيث إن نيجيريا
تعتبر دولة اتحادية؛ فهنالك قوانين اتحادية وأخرى ولائية. فحاولت بعض الولايات
في حدود سلطانها تطبيق الأحكام الشرعية. وكانت البداية ولاية زمفرا وهي ولاية
حديثة اقتطعت من ولاية سكتو حاضرة المملكة الإسلامية التي أسسها الشيخ عثمان ابن فودي. وقطعت ولاية زمفرا شوطاً في ذلك. وهذه الخطوة شجعت المواطنين
والمهتمين في ولايات كثيرة للمطالبة بالتأسي بزمفرا في تطبيق أحكام الشريعة.
واستجابة لهذه الرغبة أعلنت بعض الولايات نيتها لتطبيقها، وبعضها كَوَّن لجاناً
لدراسة الأمر ومن ضمنها ولاية كدونا. ومدينة كدونا تعتبر مدينة قديمة وعاصمة
للشمال في عهد الإنجليز وحتى بعد الاستقلال، وهي من أهم المراكز التجارية
والصناعية بعد كنو، وأكبر مركز عسكري وسياسي في الشمال، وبها المصفاة
الرئيسة في البلاد.
وهنا ثارت حفيظة النصارى وكتبوا وصرحوا أنهم سيعملون على إسقاط
مشاريع تطبيق الشريعة، وعندما شعروا أن هنالك خطوات كبيرة ربما تتخذ
خططوا للتعبير عن معارضتهم، فكانت تلك الأحداث والمظاهرات التي نتج من
جرائها تدخل الشرطة والجيش للحفاظ على الأمن الوطني العام.
ثانياً: وقائع حادثة كدونا وما تبعها من أحداث:
في يوم الأحد 16/11/1420هـ الموافق 20/2/2000م وكالعادة اجتمع
النصارى في كنائسهم واستمعوا إلى مواعظ رؤسائهم وخططوا للخروج يوم الاثنين
صباحاً 17/11/1420هـ الموافق 21/2/2000م في مظاهرة سلمية كما يقولون
للاحتجاج على تطبيق الشريعة في الولاية. وبعد أن سلموا مذكراتهم لنائب حاكم
ولاية كدونا وهو نصراني؛ حيث كان الحاكم خارج البلاد للعلاج وهو مسلم،
خرجوا إلى السوق؛ وفي الطريق أخذ النصارى يضربون كل من لم يتجاوب معهم
في مطالبهم وهي كالآتي:
1- يطالب المسلم بقول: (- NO WAY TO SHARI DOWN TO
SHARI) أي لا، للشريعة - لا سبيل لتطبيق الشريعة.
2- العبث من قبل المتظاهرين رجالاً ونساء بلحية من لقوا من المسلمين
الملتحين، ثم يطالب بما يغيظه من الكلمات.
3- مطالبة المسلم بخلع القلنسوة التي تعتبر من علامات المسلم.
4- التغني بأناشيد النصارى، وترديد بعض كلماتهم مثل: ALLELUYA
كلمة تقال عند تبجيل إلههم.
5- حمل أوراق الأشجار في اليد أو تعليقها على السيارة ليكون دليلاً على
رضا من فعل ذلك بما هم يطالبون به وهو عدم تطبيق الشريعة. وإلا فإنه يتعرض
لأنواع من العذاب.
هذا وغيره من أمور لا يرضى بها المسلم لنفسه مهما كان ضعيف الإيمان،
وجزاء من يرفض شيئاً مما سبق ذكره ضربٌ حتى الموت، ومن فعله ينجو منهم
سالماً.
وبالإضافة إلى هذا فإنهم كتبوا في ألواح يحملونها في أيديهم عبارات تدعو
للفتنة مثل: RIP SHARIA IS DEAD IN KADUNA. JESUS
ONLY أي ما معناه: ماتت الشريعة في كادونا، وقد تولى المسيح.
وقد واصل النصارى عملية الضرب والاستهزاء بالدين إلى أن وصل الأمر
بهم إلى إحراق بيوت المسلمين وممتلكاتهم وكذا دكاكينهم ومتاجرهم، فكأنهم يريدون
إجلاء المسلمين من المدينة حتى تخلو لهم وتصبح مدينة للنصارى وللنصارى فقط،
حتى وصلوا إلى السوق، وبدؤوا في إحراق السوق وقتل المسلمين وإحراقهم
وإحراق مساكنهم، واستخدموا السلاح الأبيض والسلاح الناري بالإضافة إلى
العصي وحرق الناس في البيوت بالبترول. وكانت لهم الغلبة في الفترة الأولى من
الساعة العاشرة صباحاً تقريباً وحتى الظهر. ثم نظم المسلمون أنفسهم وأعادوا لهم
الكرة وكانت الضربة قاسية واستمرت طوال ليلة الثلاثاء وكل يوم الثلاثاء أي اليوم
التالي وكذلك جزءاً من ليلة الأربعاء. وفي يوم الأربعاء تم احتواء الوضع من قِبَلِ
الجيش وقوات الشرطة إلا من أحداث متفرقة.
وكانت النتيجة عدداً كبيراً من القتلى قُدرت من قِبَل الحكومة بخمسمائة
شخص. ولكن الذين شهدوا الأحداث يقولون بأن قتلى الأحداث قد يصل عددهم
إلى أكثر من ألفي شخص. وهذا غير الجرحى الذين يتلقون العلاج الآن في المستشفيات.
كذلك فرَّ عدد كبير من الناس من كدونا إلى مدنهم الأصلية أو القرى المجاورة.
وأما عن الخسائر المادية فكانت كبيرة جداً وبخاصة المنازل والأسواق والسيارات
وبعض محطات الوقود والمساجد والكنائس.
وحسب تقييم كثير ممن نثق فيهم ممن شهدوا الأحداث أن المسلمين قد كسبوا
الجولة رغم الخسائر التي تكبدوها في الممتلكات، ورغم أنهم كانوا على غير
استعداد عندما غدر بهم النصارى.
ثم تبع ذلك أحداث انتقام من المسلمين في مناطق الإيبو نتيجة ما رأوا من
جثث أقاربهم الذين تم نقلهم إليهم في الجنوب الشرقي وبالتحديد في مدينة أبا وواري؛ حيث قُتل أعداد كبيرة من المسلمين وحرقت مساجدهم وممتلكاتهم. والمسلمون في
تلك المناطق قلة. كذلك لم ينجُ النصارى ممن جذورهم من الشمال في تلك المناطق
من القتل؛ حيث يعتقد الإيبو أنهم سبب هذه الفتنة ولذلك انتقموا منهم.
ومازالت الأوضاع متوترة في بعض المدن، وهنالك تحرشات وشائعات؛
ولذلك بدأ الإيبو في الرحيل من شمال نيجيريا وكذلك بعض النصارى من المناطق
الشمالية.
وقد أسفرت الأحداث عن إحراق ممتلكات بعض الأغنياء المسلمين وذلك
لدعمهم أعمال إسلامية مثل:
- تمويل برامج إسلامية في تلفزيون المدينة.
- تمويل مؤتمرات ولقاءات لدراسة الشريعة وبيان أهميتها وتطبيقها.
- تمويل مسابقات القرآن الكريم مع تكلفة عرضها في التلفاز.
- الجهات المهتمة بنشر أشرطة إسلامية.
وقد خطط النصارى للهجوم على ممتلكات كل من يقوم بأحد تلك الأنشطة؛
وفعلاً نجحوا في إحراقها مثل:
- شركة بيع الأجهزة الإلكترونية للحاج/ سليمان، وقد قدرت خسارته بـ 2.2
مليون دولار أمريكي.
- دابو لبيع السيارات لصاحبها الحاج/ دابو شنشنغي، وقد قدر خسارته بـ
2 مليون دولار أمريكي.
- شركة بكي لبيع السيارات، وقدر مديرها العام الحاج/ عبد الرحمن خسارته
بـ 740. 000 دولار أمريكي.
- شركة إكارا لبيع السيارات لصاحبها الحاج/ محمد أحمد، وقد قدر خسارته
بـ 730. 000 دولار أمريكي.
وقد أحرق دكان إحدى السيدات وهي مسلمة، وذنبها أنها في كل يوم جمعة
توفر الماء للذاهبين إلى المسجد لصلاة الجمعة أمام دكانها.
ثالثاً: نظرة عامة الناس إلى الحادثة وسببها الحقيقي:
من خلال المقابلات وما نشر في الجرائد والمجلات يمكن تحديد الأسباب التي
أدت إلى الأحداث في النقاط الآتية كما جاء في استطلاعات تلك الصحف والمجلات:
1 - أسباب دينية:
يرى النصارى أنه إذا طبقت الشريعة ونجحت في إصلاح ما عجزت القوانين
الوضعية عنه أن تكون للإسلام قوة ويؤدي ذلك إلى دخول غير المسلمين في الإسلام، ويقطع طريق تنصير المسلمين، ولذا لا بد من إيقاف تطبيقها حتى لو كان
بالعنف والقتل، وقد قاموا بمحاولات عديدة لتتدخل الحكومة الفيدرالية وتمنع
الولايات التي يطالب سكانها حكامهم بتطبيق الشريعة من تطبيق ما أجازه دستور
البلد، ولَمَّا أخفقوا في ذلك رأوا أن الطريق الوحيد لتتدخل الحكومة هي إحداث بلبلة
تؤدي إلى زعزعة الأمن وتوتره.
2 - مصالح تجارية لمنفعة شخصية:
الذين يتاجرون بالبيوع المحرمة مثل الخمور وأصحاب بيوت الدعارة عرفوا
أنه إذا طبقت الشريعة تكون نهاية بيوعهم المحرمة، ولذا رأوا أن إيقاف تطبيق
الشريعة هو الطريق الوحيد للدفاع عن مصالحهم التجارية، وشجعوا إخوانهم
النصارى على تنظيم المظاهرة، كما دعموها بكل ما أعطوا.
3 - أسباب سياسية:
لا تزال بعض القبائل وخاصة قبيلة إيبو تفكر في الانفصال، وهي دائماً
ترصد أحداث تتخذها حجة للقيام بتنفيذ أهدافها، وهناك أدلة واضحة ومنقولة في
الجرائد والمجلات تثبت ذلك.
4 - وأضاف بعض الناس أن البطالة ساعدت في توسيع رقعة الفتنة حيث تنظر الفئة نفسها أنها ضائعة في المجتمع.
رابعاً: موقف المسلمين من تطبيق الشريعة بعد الحادثة:
من خلال مقابلات أجريناها مع بعض الشخصيات والرأي العام للمسلمين
اتضح أن موقف المسلمين لم يتزعزع في المطالبة بتطبيق الشريعة، بل زادتهم
الحادثة شدة في المطالبة، ووجدت الحكومة نفسها في حيرة من أمرها؛ إذ لو
حاولت منع المسلمين وخاصة في ولايات أغلبية سكانها مسلمون فسوف يتهمها
المسلمون أنها وقفت مع النصارى ضدهم، وكذا أي محاولة لإلغاء الفقرة التي
أجازت تطبيق الشريعة من الدستور يقابلها المسلمون بالرفض.
ولهذا يرى كثير من الناس أن المسلمين سيحققون بمشيئة الله نجاحاً في تطبيق
أجزاء كبيرة من القضايا الشرعية وإن لم يكن 100%.
ويرى آخرون أنه لا بد قبل التطبيق من دراسة الموضوع دراسة دقيقة
ومنظمة ثم الإكثار من توعية العوام.
__________
(1) المصدر (مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا (نيجيريا) للأستاذ محمود شاكر الحرستاني بتصرف.(150/122)
المسلمون والعالم
جماجم الشيشان.. أوراق انتخابية
د.سامي محمد صالح الدلال
لم يصل بوتين للرئاسة بعدد أوراق الناخبين وإنما بعدد جماجم الشيشانيين؛
فأين منظمات حقوق الإنسان من تجريمه وحكومته والدعوة لمحاكمتهم أسوة بمجرمي
الحروب؟ ! !
لأول مرة في التاريخ الغابر والحاضر تتقرر نتيجة الفوز بالرئاسة ليس بعدد
أصوات الناخبين، بل بعدد الجماجم التي أُزهِقت أرواح أصحابها.
منذ أن عين يلتسين بوتين قائماً بالأعمال، شرع هذا الأخير يخطط لدعايته
الانتخابية ليفوز بكرسي الرئاسة في انتخابات 26 مارس 2000م.
وقد وضع خطة دعائية جهنمية، هي (الإبادة الشاملة للشيشان) ثم راح يضع
عناصر تنفيذها بكل ما أوتي من عزم ذاتي وقوة عسكرية روسية عاتية. ولم يكن
أحد في العالم يعلم حقيقة تلك العناصر حتى تجلت وتجسدت في الواقع، فإذا هي
تتكون من عدة ورقات وفق ما يلي:
1- الورقة الأولى: جمع شتات مشاعر الشعب الروسي حول القضية التي
يريد إشعالها لتكون وقود انتخابات الرئاسة. وقرر أن تكون القضية المطروحة هي
تهديد الشيشان لأمن روسيا الداخلي والخارجي.
ولتحقيق ذلك لغمت المخابرات الروسية عدداً من الأبنية السكنية في داخل
موسكو بالعبوات الناسفة شديدة الانفجار وعظيمة القدرة التدميرية، ثم فجرت تلك
الأبنية على قاطنيها الأبرياء من الروس فأحالتها ركاماً في الحال مما أدى إلى قتل
معظم سكانها تحت الأنقاض ولم الشيشان مسؤولية ذلك بكل ما أوتي من قوة ووسائل
عبر الصحافة والإذاعات والتلفزيون وعلى مدى أسابيع مع ضخ ينج من تلك
المجازر المخابراتية إلا بضعة من الجرحى.
وما أن وقعت تلك الانفجارات الضخمة حتى راح الإعلام الروسي يُحَمِّل
يومي للعبارات التي تؤجج مشاعر الكراهية والحقد والغضب على الشعب الشيشاني.
كل ذلك لأجل تمهيد المسرح لبدء الغزو الروسي الهمجي الوحشي لأراضي
جمهورية الشيشان المسلمة الموادعة. فكانت هذه الأحداث الإجرامية هي أول ورقة
انتخابية طرحها بوتين في الساحة الروسية الديمقراطية! !
2- الورقة الثانية: في حملة بوتين الانتخابية كانت قرار إزالة دولة الشيشان
من الوجود، وليس مجرد تدمير بنيتها التحتية. فأصدر أوامره العسكرية لجحافله
الجرارة لتحقيق تلك الغاية. فتحركت تلك الجحافل المكونة من الدبابات والمدفعية
والطائرات والصواريخ الشاملة للقوات البرية والجوية والبحرية، من المشاة
والمظليين وقوات الصاعقة وقوات العمليات الخاصة والقوات البحرية، وقد تزودت
بجميع أنواع أسلحة التدمير والتقتيل والإحراق والإزالة والغازات السامة وأسلحة
الدمار الشامل كالأسلحة الكيميائية والنووية التكتيكية، مع حقن نفوس جميع الأفراد
العسكريين المشاركين في تلك الحملة الشيطانية الإبليسية بالحقد والكراهية الشديدتين
لكل ما له متعلَّق بمسمى الشيشان، نعم! تحركت تلك الجحافل لتزيح الستار عن
الورقة الانتخابية الثانية لبوتين، وذلك في ظل مهرجان إعلامي هائج قرعت له
جميع طبول الحرب الإعلامية، وعزفت له جميع أوتار الكذب والدجل الصحفية
والإذاعية والتلفزيونية في ظل من الصخب الدعائي الذي يدعي أهمية وحدة
الأراضي الروسية وتماسكها من خلال إبقاء الشعوب الإسلامية المضطهدة
بالاستعمار الروسي تحت نير كيان الستار الحديدي الذي أعاد الروس صبغ لونه
بغير اللون الأحمر مع إبقاء حقيقته الجوهرية.
وهكذا اندفع الموت المدجج بغية بسط سلطانه الأسود على الربوع الخضراء
للأراضي الشيشانية.
3- ومع تسارع عقارب الزمن متجهة صوب يوم الانتخابات تسارع
اصطفاف الورقة الانتخابية الثالثة فإذا هي تشكل الجمل الآتية:
أ- إزالة مدن شيشانية كاملة من الوجود بما فيها غروزني التي سويت
بالأرض تماماً.
ب- تشريد الشعب الشيشاني إلى خارج أرضه ودياره في جو من الخوف
والفزع والهلع تلسعه برودة الشتاء الثلجي القارس والقاسي، ويعشش الجوع الشديد
في بطون أبنائه.
وقد دب فيهم الوهن والضعف وهجمت عليهم الأمراض، يحملون جرحاهم،
ولا يجدون مكاناً يدفنون فيه موتاهم، ولا أحد يكسو عاريهم أو يدفِّئ أبدانهم أو
يطعم جائعهم أو يداوي مرضاهم أو يعالج جرحاهم، يسيرون في مواكب الموت
تلاحقهم الطائرات الروسية بصواريخها فتنثر أشلاءهم فوق الثلوج، وتدكهم
المدفعية الثقيلة فتتطاير أحشاؤهم في كل اتجاه، وتقصفهم الدبابات المدمرة فتقطع
الرءوس عن الأجساد، وتبتر الأطراف وتقذفها في كل واد!
هكذا اندفعت الجموع العزل من المدنيين الشيشانيين نحو حدود جمهورية
الأنغوش يتجسد فيها ذلك المشهد المأساوي الذي تتقاصر أجزل الكلمات وأمضى
العبارات عن وصف صوره ووقائعه.
ج- الإجهاز على كل من بقي في المدن وتشبث بما بقي فيها من طوب متناثر
أو أنقاض مبعثرة.
وقد شمل هذا الإجهاز النساء والأطفال والمسنين والرجال العزل الذين لم
يقاتلوا أو اختاروا الصمود في ديارهم. فأما النساء فقد اغتصبوهن ثم قتلوهن، وأما
الأطفال والمسنون والرجال فذبوحهم أو مثَّلوا بهم أو أحرقوهم أو أسروهم. ويا ويل
هؤلاء الذين وقعوا في الأسر! فإنهم فعلوا بهم الأفاعيل التي يعجز القلم عن وصفها
وتنوء الكتب عن حمل أثقال أوزارها.
إن الورقة الانتخابية الثالثة لبوتين تضمنت مشاهد إجرامية ليس لها مثيل في
تاريخ البشرية؛ فقد نشرت جريدة (سبعة أيام) الجورجية في عددها الصادر برقم
47في 25نوفمبر 1999م تقريراً ميدانياً من الشيشان بلسان صحفية جورجية
يرافقها صحفي ألماني، وقد جاء في التقرير باختصار: (تعتبر قرية قالمي أقرب
إلى جورجيا. وتبدو حولها السيارات المحترقة من جميع الجهات، يلفها صمت
رهيب، باستثناء طائرة روسية تبحث عن هدف آخر. القرية كلها دمرت بالكامل.
وتلي هذه القرية قرية أخرى نصف مدمرة. والباقون من سكانها على قيد الحياة هم
الذين لم يستطيعوا الخروج. قادونا أولاً إلى منزل سُوِّي بالأرض؛ ثم روضة
أطفال، لم يبق منها سوى المدخل الذي كُتب عليه تحية من الأطفال: (نحن نرحب
بكم وننتظركم بقلوبنا وأرواحنا) حيث ذهب بقية الأطفال حرقاً داخل الروضة التي
دمرتها طائرات روسية. وفي اليوم الثاني عندما كان أقرباؤهم يوارونهم التراب
قامت المروحيات الروسية بالتحليق فوقهم. وكل ذلك يجري بجوار القرية،
وبجانبها حافلة مليئة باللاجئين. تبدو لنا وجوه الأطفال وهم خائفون مرعوبون.
وفجأة بدأ القصف على الحافلة بالصواريخ الحارقة. وكان المحرك وخزان الوقود
هما الهدف الأول بالنسبة لهم. ثم شعرنا بقوة الانفجار والارتجاج والحافلة تحترق،
ولم يستطع أحد من الركاب الخروج، فاحترق كل من فيها من الأطفال والنساء.
وفي إحدى القرى قرب غروزني عُذِّب أحد السكان حتى الموت، حين قام جنود
فيلق روسي كامل بإطفاء سجائرهم على جسمه العاري وأجبروه على المشي على
الثلج حافي القدمين، وأمام عينيه قام الجنود الروس باغتصاب زوجته. ودون
رحمة قام هؤلاء بتعذيب ثلاثة أفراد من عائلة شيشانية. وتحمل الثلاثة جميع أنواع
وفنون التعذيب الروسي الإجرامي فأحدهم قتلوه رمياً بالرصاص بعد تعذيبه،
والآخر قطعوا قدميه، والثالث نزعوا كبده وهو حي، وقطعوا يديه حتى المرفق)
انتهى التقرير.
هل سمع أحد من الخلق بورقة انتخابية أبشع وأفظع من هذه الورقة؟ ! !
4- وأما ورقة بوتين الانتخابية الرابعة فكانت مقاتلة المجاهدين الشيشانيين؛
فقد حشد عليهم أكثر من مائة ألف مسلح مدجج بأفتك الأسلحة، ظاناً أنه سيسحق
بهم أولئك المجاهدين في بضعة أيام؛ فإذا بها تزيد على ستة أشهر ولا يزال أُواراها
متقداً ولهيبها مستعراً.
لقد لقن المجاهدون الجيش الروسي دروساً قاسية في المعارك القتالية، رغم
أن هذا الجيش كان يتجنب أية مواجهة مباشرة؛ وذلك باللجوء إلى الاستخدام
المكثف لسلاح الطيران والقصف المركز بالمدفعية والدبابات، ومع ذلك فقد تكبد
أفدح الخسائر وامتلأت مستشفيات روسيا بالأعداد الهائلة من الجرحى، وانتعشت
سوق تصنيع التوابيت في جميع أنحاء المدن الروسية وازدحمت بطون المقابر
بالهلكى في المعارك وظهورها بالمشيعين والمفجوعين بفقد أبنائهم أو أزواجهم أو
آبائهم.
لقد وعد بوتين شعبه بأنه سيقضي على هؤلاء المجاهدين قضاءاً مبرماً
ويصفيهم تصفية جسدية شاملة، فخاب ظنه وما أوفى بوعده ولن يستطيع؛ فإن هذا
الجهاد سيستمر بإذن الله تعالى وستكون من نتائجه ليس تحرير بلاد الشيشان
واستقلالها فقط ولا استقلال جمهوريات القوقاز فقط. بل ستكون من نتائجه انهيار
شامل للدولة الروسية، وتمزق لوحدة شعبها. وسيأتيك نبؤهم بعد حين. قال تعالى: [وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَسَاكِنِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا ويْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى
جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ] [الأنبياء: 11 - 15] .
لم يتمكن بوتين من لعب هذه الورقة الانتخابية على الوجه الذي خططه لها؛
لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولعل هذه الورقة هي التي أوشكت أن تقوض
وصوله إلى هدفه الذي أراده وهو: أن يتبوأ الرئاسة الروسية بإجماع شعبي، فإذا
به لم يفز إلا بـ 52% من الأصوات.
5- أما الورقة الانتخابية الخامسة التي استخدمها بوتين للوصول إلى الزعامة
الروسية فكانت (الكذب) نعم، الكذب، حتى صار بالإمكان أن يطلق على وزارة
الدفاع الروسية اسم وزارة الكذب الروسية.
لقد امتهنوا الكذب على شعبهم وعلى جميع العالم وذلك للتغطية على الجرائم
القذرة والبشعة التي مارسها الجيش الروسي ضد الشعب الشيشاني الصامد المجاهد.
لقد وظفت وسائل الإعلام الروسية كلها لتقود حملة الكذب، على طريقة:
اكذب اكذب حتى يصدقك الناس. وقد شملت حملة الكذب هذه عدة ميادين:
1- فقد أصدروا بيانات كثيرة كاذبة يدَّعون فيها عدم ممارسة أي بطش وعنف
ضد السكان المدنيين العزل من النساء والأطفال والشيوخ.
2- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يخففون فيها من الخسائر الحقيقية في
الرجال والعتاد.
3- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يدَّعون فيها انتصارات وهمية على
المجاهدين.
4- وأصدروا بيانات كثيرة كاذبة يردون فيها باستخدام أسلوب الكذب، على
الذين فضحوا كذبهم من صحافيين ومراسلين أجانب.
لقد جعل بوتين الكذب ورقة هامة في حملته الانتخابية ليموه الحقائق على
شعبه وشعوب العالم، وليدَّعي تحقيق انتصارات وهي في حقيقتها هزائم منكرة.
تلك هي أهم أوراق الحملة الانتخابية وأبرزها التي دفعت ببوتين إلى سدة
الرئاسة الروسية.
لقد انفرد بوتين بين الأولين والآخرين في صياغة حملة انتخابية عبر مجازر
وحشية وفظائع دموية ومقابر جماعية.
فإن كنت تعجب فاعجب من دولة تسنَّم زعيمها سدة الرئاسة من خلال تلك
المواصفات السوداء؛ فهل ينتظر الشعب الروسي إلا الظلم والشنار من هذا الرئيس
الذي سيحكمه بالحديد والنار؟
ولكن نقول له ولأمثاله ما قاله الله تعالى في سورة الفجر: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ (8) وثَمُودَ الَذِينَ
جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ (11)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] .
[الفجر: 6 -14] .
وقوله تعالى: [إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] [الطارق: 15 - 17] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(150/126)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
بابا.. اليهود! !
قال بابا الفاتيكان أثناء زيارته لـ (إسرائيل) : (أنا أشعر أنني جزء من
العائلة اليهودية، جزء من الشعب اليهودي، هذه قرابة موجودة عميقاً في نفسي
(وصرح مصدر كبير في الفاتيكان وأحد المقربين جداً للبابا ويوجد في حاشيته منذ
سنوات طويلة: إن البابا يشعر بانتماء إلى الشعب اليهودي منذ أمد بعيد، وأن
زيارة البابا إلى الديار المقدسة عمقت لديه المشاعر تجاهكم أي الشعب اليهودي منذ
أمد بعيد، ومنذ أن وصل البابا إلى القدس وهو يفكر بصلته الوثيقة مع الشعب
اليهودي. صحيح أن البابا يوحنا بولس الثاني ترعرع في بيئة يهودية ولكن فهم
تحديداً في هذه الأيام أن عليه أن يحب شعبكم مثلما يحب نفسه. لدينا إيمان مشترك
بإله واحد، ونفس الأصل، ونفس الدم. المسيحي الحقيقي لا يمكنه إلا أن يحب
شعب الله المختار.
وقال المعلق السياسي في التلفزيون الإسرائيلي (مائير كوهين) : (إن زيارة
البابا للقدس حملت ثلاث محطات هامة: الأولى دينية عندما التقى في مقر
الحاخامية الكبرى في (إسرائيل) مع الحاخامين الأكبرين اللذين يمثلان الديانة
اليهودية، وهو بمثابة اعتراف بالشعب اليهودي، والثانية سياسية في لقائه مع
رئيس الدولة وهو بمثابة اعتراف بدولة (إسرائيل) ، والثالثة وهي الأهم تمثّلت في
زيارة البابا لمؤسسة ذكرى ضحايا النازية وطلبه بأن يلتقي مع ستة من الناجين من
جرائم النازية، وهو ما يرمز إلى أن كل واحد منهم يمثل مليون شخص من
الإسرائيليين الذين تمت إبادتهم) . ويجدر بالذكر أن البابا زار الأردن (24) ساعة
فقط، و (12) ساعة في أراضي السلطة الفلسطينية وخمسة أيام في (إسرائيل) ! !
[السبيل الأردنية، العدد: (327) ]
شذوذ الشذاذ! !
صوَّت الحاخامات المنتمون لأكبر تجمع يهودي في الولايات المتحدة لصالح
الاعتراف بزواج الشواذ جنسياً. ووافق المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين
التابع لحركة الإصلاح اليهودية على مباركة زواج الشواذ من الجنسين في طقوس
دينية يهودية.
وقال رئيس المؤتمر الحاخام تشارلز كرولوف: إن من حق الشواذ الاعتراف
بزواجهم واحترامهم.
إن المؤتمر اليهودي ذهب بموافقته تلك إلى مدى أبعد من أي حركة دينية
أخرى في الولايات المتحدة في منح حقوق للشواذ؛ فحتى صدور هذا القرار كان
الشواذ يضطرون للبحث عن حاخام يقبل تزويجهما بصورة فردية. وكانت مراسم
الزواج تتفاوت بين مباركة بسيطة وعرس كامل يشبه حفلات الأعراس التقليدية.
في عام 1990م وافقت الحركة على تعيين حاخامات يهود من الشواذ اعتماداً
على مبدأ أن جميع اليهود متساوون في التدين بغض النظر عن توجهاتهم الجنسية.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية/ بي. بي. سي أونلاين
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news
إنما الأعمال بالنيات
أعلن الرئيس الإندونيسي عبد الرحمن وحيد أنه سيقترح على البرلمان إلغاء
مرسوم ساري المفعول منذ أكثر من ثلاثة عقود ينص على حظر نشاط الأحزاب
الشيوعية والترويج للفكر الشيوعي. وأشار إلى وجوب إنهاء هذه الفترة التي
هضمت فيها حقوق الشيوعيين! ! ويذكر أن أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي
والمتعاطفين معه لا يحق لهم الدخول في سلك الوظائف العامة، وكانت هوياتهم
الشخصية تحمل شارة بهذا الخصوص. وفرض رئيس أندونيسيا السابق سوهارتو
الحظر على الحزب الشيوعي الإندونيسي في البلاد عام 1966م. ووقتها قتلت
قواته حوالي 500 ألف من أنصار الحزب الشيوعي البالغ عدد أعضائه في ذلك
الوقت حوالي 20 مليوناً من الإندونيسيين. كما زج بقرابة 600 ألف أخرين في
السجون.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد (7791) ]
الحرب المقدسة!
الإندونيسي (أجوى واتيمينا) الذي يحمل إنجيله في جيبه ويمسك سبحته في
يده المختومة بشارة الصليب يشن حرباً مقدسة انتقاماً لإخوانه النصارى، وهو
موظف عمره 53 عاماً برع في صنع القنابل المصنوعة من السماد، ويزعم بأن
تحت إمرته أكثر من 60 ألف جندي يهبون أنفسهم لله. ومضى شاب من أتباعه
يرتدي سترة رياضية حمراء يقول بتفاخر: (لقد قتلت في غضون عام واحد نحو
عشرة من المسلمين) . أما (باولوى) والد (أجوى) الذي يبلغ من العمر
73 عاماً فقد أظهر لنا ثلاث قطع من البنادق التي لم يتم العثور عليها من
قِبَل الجيش الإندونيسي. كما كشف لنا عن أثر صرح يرجع تاريخه إلى ... معركة (سيلو) وهو المعبد البروتستنتي الرئيس في المدينة والذي تم دكه يوم
الثاني عشر من ديسمبر الماضي. كما أعرب مضيفاً قوله: إنه مستعد للموت
في سبيل الله وفي مواصلة هجماته ضد القرى التي يقطنها المسلمون برغم انتشار الجيش فيها.
[صحيفة (لوفيجارو) ] (مترجم)
خوف أم تخاذل؟
1 - اعتبر وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي أمس أن العلاقات بين
موسكو وطهران (قوية ودائمة) مشيراً إلى أن الوضع في الشرق الأوسط وآسيا
الوسطى يعتمد على تطور هذه العلاقات.
وقال: إن سلطات بلاده تريد إبقاء الاتصالات مستمرة مع روسيا وعلاقات
مستقرة ودائمة. وأضاف: أن روسيا وإيران لعبتا دوراً مهما في ضمان السلام
والأمن في المنطقة الكبرى التي تضم أيضاً آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
فالوضع في هذه المنطقة يعتمد في عدد من الجوانب على علاقتنا. ووصف خرازي
الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين بأنه (رجل حازم، يتمتع بشعبية كبيرة) .
وأعرب عن ثقته في أنه (سيتمكن من تحقيق نجاح في كل مشاريعه) . وجدير
بالذكر أن إيران الآن هي الرئيس لمنظمة المؤتمر الإسلامي! !
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7796) ]
2 - في تعليقه على المهرجان الذي أقامته الحركة السلفية في الكويت لمساندة
الشعب الشيشاني، قال الكاتب اليساري الكويتي عبد اللطيف الدعيج:
لن أعترض مثل ما قد يعترض الكثيرون باعتبار أن نقد السياسة الروسية قد
يضر بمصالح الكويت الوطنية، وقد يحرض الروس على مزيد من المساندة
العسكرية والسياسية لطاغية بغداد، لن أعترض لأن روسيا دولة عظمى ونحن الله
يرحم.. أعترض لأننا في الكويت وطوال النضال العربي أو الأممي وحتى الإقليمي
لم نحرق علماً لدولة ولم نستهتر يوماً برمز لشعب، بل كان اعتراضنا على ما
نعترض عليه كان التعبير عن الشعور راقياً وكانت الرسالة حضارية. ما جرى في
هذا المهرجان لم يكن محاولة للتذكير بما يتعرض له الشيشانيون، ولم يكن تسجيل
موقف ضد العنف والعدوانية التي تلمَّسها البعض من الرئيس الروسي، ولكن كان
عملاً فظاً بدائياً، وخروجاً واضحاً عن التقليد والعرف الكويتيين للذين طالما ادعى
البعض حفظهما وصونهما. من تجمهر أعلن للشعب الروسي أن المطلوب رأس
رئيسه وأن اختياره الحر (نعال وزبالة) .
[القبس، العدد: (9619) ]
أشاوس الـ (C. I. A) ! !
خصصت السلطة الفلسطينية عشرات الدونمات من الأراضي في الضاحية
الشمالية لمدينة أريحا من أجل إقامة مبنى المدرسة الخاصة التابعة لدائرة المخابرات
الفلسطينية المقرر البدء في إنشائها قريباً.
ويهدف إنشاء المدرسة إلى عقد الدورات، والتدريبات لرجال المخابرات
الفلسطينية وذلك باستخدام الأساليب العلمية والأجهزة الحديثة، وسيتم إقامة قاعدة
خاصة ملحقة بمبنى المدرسة لإجراء التدريبات وإسكان عناصر الجهاز. وحسب
التقديرات الأولية فإن تكاليف هذا المشروع ستصل إلى نحو أربعة ملايين دولار.
وفي هذا الإطار أيضاً قررت السلطة الفلسطينية بناء مقر جديد للمخابرات
العامة الفلسطينية في مدينة رام الله في الضفة الغربية، وسيقام المبنى الجديد فوق
قطعة أرض تصل مساحتها إلى حوالي خمسين دونماً.
وسيتولى الإشراف على بناء المدرسة ومقر قيادة المخابرات مهندسون
أمريكيون تابعون لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C. I. A) التي ستتولى
تمويل مشروع مبنى القيادة والمدرسة في إطار التعاون المشترك بين الجهازين.
ومن المعروف أن ضباط الـ (سي. آي. إيه) يتولون تدريب عناصر وضباط
المخابرات الفلسطينية، حيث يقيم في مدينتي رام الله وغزة خمسة ضباط كبار
يقومون بالإشراف على هذه التدريبات.
ويتلقى هؤلاء رواتب مالية من قيادتهم في واشنطن إضافة إلى رواتب
تصرف لهم من ميزانية السلطة الفلسطينية، ويتراوح المبلغ الذي يحصل عليه
ضابط المخابرات الأمريكية من السلطة ما بين 10 15 ألف دولاراً وذلك حسب
رتبته. من جهة أخرى، أكدت معلومات مصدرها شخصية أمنية فلسطينية، أن
السلطة الفلسطينية قامت في الأسبوع الأول من الشهر الماضي بتكريم عدد من
ضباط المخابرات المركزية الأمريكية وذلك بمناسبة انتهاء مهامهم الأمنية الخاصة
في الضفة الغربية وقطاع غزة. وحسب المعلومات فإن حفل التكريم الذي جرى في
مكتب رئيس السلطة في غزة، قد أذهل الضباط الأمريكيين أنفسهم؛ حيث قام
رئيس السلطة بتقليدهم أوسمة فلسطينية رفيعة، بالإضافة إلى منحهم مكافأت مالية
كبيرة وصلت إلى 50 ألف دولار للضابط الواحد، وتم منحهم شهادات تقديرية
موقعة من قِبَل رئيس السلطة. وكان خمسة ضباط أخرون قد وصلوا إلى مناطق
السلطة الفلسطينية ليأخدوا مكان الضباط الذين أنهوا فترة إقامتهم في المدن
الفلسطينية.
[السبيل الأردنية، العدد: (326) ]
إلى دعاة حقوق الإنسان!
تتعرض أكثر من مليون امرأة وطفل للبيع والشراء كل عام من خلال تجارة
الرق المعاصرة، وأصبحت هذه التجارة متسارعة في النمو ومغرية جداً إلى حد أنها
باتت تشكل ثالث أكبر المصادر المربحة بالنسبة لعصابات الجريمة المنظمة بعد
الاتجار بالأسلحة والمخدرات.
ويوظف معظم ضحايا هذه التجارة بعد شرائهم أو بيعهم في أعمال الدعارة أو
لاستغلالهم بالعمل في بعض المصانع ذات الأوضاع الصحية الرديئة والأجور
المتدنية إلى أبعد الحدود. أما الأطفال فيتعرضون للبيع والشراء لأجل تجارة
(البورنوغرافي) (الصور والأفلام الإباحية) أو لاستئصال أعضاء بشرية منهم بهدف
بيعها للمرضى القادرين على دفع أسعارها.
وتبيع الجهات المتخصصة في تجارة الرقيق حوالي 250 ألف امرأة وطفل
من منطقة شرق آسيا وحوالي 200 ألف من روسيا سنوياً. وتأتي البقية من أمريكا
اللاتينية بشكل رئيس. أما المناطق التي تشتري فهي عملياً محصورة في آسيا
وأوروبا والولايات المتحدة.
وأوضحت (انيتا بوتي) نائبة مديرة مجلس الرئيس الأمريكي للتحقيق في
أوضاع النساء أن هؤلاء الأخيرات (يتعرضن للبيع والشراء بكل ما تحمله الكلمتان
من معان مخيفة داخل أوروبا مقابل 20 ألف دولار. أما في جنوب آسيا فيتراوح
الثمن من حوالي 3 ألاف دولار إلى 6 ألاف) .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7794) ]
تعليق على الأحداث
نهاية العالم.. أو نهايتكم
أوردت وكالات الأنباء أخبار القتل الجماعي في أوغندا، وكان مفادها
أن زعيم إحدى الطوائف الدينية النصرانية في أوغندا، أمر أتباعه في نهاية العام
الميلادي 1999م أن يبيعوا ممتلكاتهم والاستعداد للذهاب للجنة، وأمرهم أن
يُحضِروا أموالهم هذه له؛ ولَمَّا لم ينته العالم كما زعم مع بداية العام 2000م طالب
أفرادُ هذه الطائفة زعماءَهم بإرجاع هذه الممتلكات، وبعد فترة كانت تلك المذبحة
التي قيل عنها إنها انتحار جماعي؛ حيث قام القساوسة بتجميع أفراد الطائفة في
أماكن عدة، وقاموا بشنقهم وخنقهم ودس السم لهم، ثم بعد ذلك قاموا بإضرام النار
في الجميع، وهرب أولئك إلى أوروبا، وقد جاوز عدد القتلى الألف من بينهم
أطفال، فإن كان قساوسة النصارى لم يرحموا أبناء ملتهم وتعاملوا معهم بهذه
الوحشية بل لقد كانوا أتباع طائفتهم، فما بال حال حقدهم وحربهم على المسلمين؟
أول قطْر (المنبر) !
في إصدار جديد يحمل رقم (صفر) وهو العدد التجريبي الأول من مجلة
(المنبر) وهي مجلة شيعية تصدر في الكويت جاء ما يلي: (ربما تتعجب لو سمعت بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من الأنبياء بل إن هذا الكلام يثير ثائرة البعض؛ فبدل أن يصغوا إلى أدلة هذا المعنى بصدور
واسعة وأفكار متفتحة ليكتشفوا بذلك الحق، ينتهزون الفرصة لنشر الأكاذيب في
وسائلهم الإعلامية وإشاعة الضوضاء والكلام الخالي من التعقل والاستدلال
النابع عن العصبية وروح الانغلاق الشديد.
وأمير المؤمنين عليه السلام قد جمع كل هذه الصفات: فكان له علم آدم وعزم
نوح وحلم إبراهيم وهيبة موسى وزهد عيسى وكل من له أدنى درجات الإنصاف
يعلم بأن الذي جمع أفضل صفات أولي العزم هو أفضل من الأنبياء كلهم إلا من ابن
عمه رسول الله وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؛ فعلى المسلم التابع لرسول الله
والمؤمن بالله وبكلامه أن يتبع هذا ويؤمن بهذه الحقيقة وإلا فسيشملهم قول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (من شك فيه فقد كفر) والعياذ بالله من الكفر) .
وكان ما سبق جزءاً من المقال الرئيس وموضوع غلافها الذي حمل عنوان:
(كيف يكون علي (ع) أفضل من الأنبياء؟ ! (وفي مقال آخر تحت عنوان:
(الإمامة أعلى الرتب والمقامات الإلهية) ، يقول الكاتب في خاتمته: (ومن خلال
هذه الشواهد يتضح لنا أن الإمامة مقام يختلف عن النبوة والرسالة، بل هي أسمى
منها وأرفع، وأنه عليه السلام (علي بن أبي طالب) حصل عليها أيام شيخوخته،
بعد أن خرج من جميع ما ابتلاه الله به صابراً مسلماً) .
ومن المعلوم أن الأقلية الشيعية في الخليج كانت ملتزمة إعلامياً بعدم إثارة
مثل هذه القضايا بهذه الصورة المستفزة. وإذا كان العدد التجريبي بدأ بهذه المثيرات
المذهبية، فكيف بباقي نبرات أعداد المنبر؟ !(150/130)
في دائرة الضوء
حوار الأديان بين المظهر والجوهر
د. محمد يحيى
في محاولة تتبع الجوانب المختلفة للدعوة ودحض ما يروَّج له مما يسمى
بحوار الأديان بين الإسلام والنصرانية على وجه التحديد لا ينبغي إغفال مسألة
السياق العام أو الظروف والأوضاع التي تطرح هذه الدعوة في سياقها أو يراد لها
أن تجري في ظلها، ولعل أبرز ما يشد الانتباه هو ذلك التفاوت الحاد بين السياق
الذي تنشط فيه النصرانية بكنائسها هذه الأيام والسياق الذي يمر به الإسلام وهذا
التفاوت الحاد في الظروف والسياق؛ حيث يكشف عن الجانب المريب أو على
الأقل غير المتكافئ وغير المناسب لهذه الدعوة وهو ما سعيت إلى الكشف عنه من
زوايا أخرى في مقالات سابقة حول الموضوع نفسه.
إن النصرانية العالمية بكنائسها وحركاتها ولا سيما في أمريكا وأوروبا تمر
بحالة من المد تزداد قوة على مدى الأعوام الماضية؛ حيث أخذت تستعيد مكانتها
الفاعلة والمؤثرة في المجتمعات على حساب تراجع أكبر في الأنظمة والمذاهب
والتوجهات العلمانية التي تحكم تلك المجتمعات الغربية أو كانت تحكمها حتى عهد
قريب، وتقترن بهذه القوة المتنامية في المجتمعات الغربية للنصرانية من حيث إنها
دين وعاملُ فعلٍ اجتماعي ثقافي سياسي عمليةُ توسُّع كبرى وطرح للذات على
مستوى العالم كله، ولم تعد هذه الحركة تقتصر على ما يسمى عادة في الكتابات
الإسلامية بالتبشير أو التنصير على الأصح بل إنها تعدَّت ذلك بكثير لتصبح
النصرانية قوة دولية نشطة تسهم في شتى التحركات السياسية تحت شعارات
أبرزها: (السعي للسلام والوفاق) والطروحات الثقافية (قضايا التعاون بين
الثقافات والتقارب والحوار فيما بينها) بل والجهود الاقتصادية تقديم معونات
(التنمية) والخدمات الصحية والتعليمية على نطاق عالمي ... إلخ) ، ولسنا بحاجة
لضرب الأمثلة الكثيرة والمتواترة على هذا الوضع الجديد للنصرانية العالمية الذي
نكتفي بتلخيصه بأنه تحول من حالة انحسار وضعف داخلي إلى وضع القوة الدولية
الفاعلة في مجالات تتجاوز ما اصطلح على وصفه بـ (الديني) لتصل إلى الأبعاد
الكاملة لما يوصف بـ (السياسي) وهي قوة تزداد فاعليتها وأثرها على سياسات بلدانها؛ بل تكاد توجهها.
ويرتبط بذلك وفي السياق نفسه بل ويترابط معه بشكل المسبب للسبب تصاعد
موجة العداء للإسلام في الغرب وهو العداء الذي يحاول بعض اللادينيين في البلدان
الإسلامية التهوين منه بالقول بأنه مجرد رد فعل لممارسات المسلمين (الإرهابية)
أو (الظلامية) . كما يحاول بعضٌ آخر التقليل من خطره بالقول بأنه مجرد بحث
من جانب الغرب عن عدو جديد بعد زوال الشيوعية؛ غير أن شراسة هذا العداء
واستمراريته واتخاذه لأشكال منظمة ومخططة واسعة المدى يدحض تلك الأقاويل بل
الأباطيل، ويكشف عن أن الهجمة الغربية على الإسلام تأتي من مستويات أعمق
من مجرد ردود الأفعال وأن هذا العداء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع القوي الذي
أصبح للمسيحية بحركاتها وكنائسها في وضع الاستراتيجيات الكبرى في الغرب
وإدارتها؛ دون أن ننسى بالطبع دور اليهود والصهيونية في صنع هذه العداوات
وتأجيجها وتوجيهها.
والحق أن دعوة الحوار تبدو غريبة بل مثيرة للشكوك عندما تأتي في هذا
السياق الغربي من عداء منظم ضد الإسلام يشمل نطاق الفعل السياسي الغربي (من
وسائل الإعلام إلى الجامعات ومراكز الأبحاث إلى مخططات المعونة الاقتصادية
والفنية إلى النشاطات الثقافية والفكرية إلى الاستراتيجيات العسكرية والأمنية)
وأيضاً من تنامي قوة النصرانية العالمية باعتبارها عنصراً فاعلاً وعلى امتداد نطاق
الفعل نفسه في كل جوانبه على المسرح العالمي، وفي ظل هذا العداء المستحكم من
ناحية والقوة الصاعدة الواثقة للنصرانية الدولية من ناحية أخرى فإن الدعوة إلى ما
يسمى بـ (حوار الأديان) وبالذات مع الإسلام تبدو وكأنها ورقة سياسية ضاغطة
تستخدم لتحقيق أهداف بعينها تخدم هذه القوى والسياسات الغربية أكثر منها دعوة
صادقة أو واضحة للتقارب والتعاون حسب ما يُدعى لها علناً وفي وسائل الإعلام؛
ذلك لأن للسياسات الغربية والكنسية أولوياتها المحددة وثوابتها الكبرى واهتماماتها
الأسمى في هذه المرحلة أولها (جدول أعمال) خاص بها على حسب مصطلح
المؤتمرات.
ولا تمثل دعوة الحوار الديني أياً من هذه المبادئ والأولويات الجوهرية لكنها
مجرد أداة من أدوات تحقيق هذه الأولويات السياسية تستخدم بقدر وبشكل مؤقت
لتحقق ما يُبتغى منها ثم تُنَحَّى جانباً، وليس غريباً أو مما يستبعد أن نحدد أهداف
هذه الأداة في نوع من التحذير للمسلمين أو لفت أنظارهم بعيداً عن المواجهة
المطلوبة أو (التجسس) للتعرف على الكيفية التي يفكرون بها ويتصرفون من
خلالها أو وهذا هو الأهم تعديل مواقفهم وأفكارهم وتحويرها لإبعادها أو إضعافها
عن المواجهة مع الغرب الصليبي وحليفه اليهودي الصهيوني وذلك عن طريق
العلمنة قبل أي شيء آخر.
وتزداد الشكوك المحيطة بدعوة حوار الأديان بين النصرانية والإسلام إذا تبينا
السياق الذي تُروَّج فيه هذه الدعوة على الجانب الإسلامي وهو سياق مقلق على أقل
تقدير، ومرة أخرى لسنا بحاجة إلى اجترار المفردات الأليمة لذلك السياق الذي
يعيش فيه الإسلام والمسلمون داخل بلدانهم؛ ولكن يكفي أن نلخصه في عملية
اجتياح وضرب للمؤسسات الإسلامية والحركات الدينية والأوضاع الاجتماعية
والثقافية والاقتصادية بل والسكانية (تحت ستار تحديد النسل) إلى عملية الإبادة
الفعلية أو (المذابح) الموجهة للمسلمين التي لم تعد تلفت الأنظار لكثرتها، وهذه
العملية تحدث بدرجات وأشكال متفاوتة في شدتها وكيفيتها على امتداد عالم الإسلام،
وتقودها نخب علمانية لا دينية حاكمة أو صاحبة نفوذ قوي على الحكام وصلت
بفضل المساندة الغربية القديمة والمتجددة إلى مقاعد الحكم والتوجيه وصنع القرار
في هيئة دكتاتوريات عسكرية وبوليسية أو حتى حكومات (ديمقراطية ليبرالية) .
والحجج والمسوِّغات، والأسباب التي تساق؛ لهذا الاجتياح معروفة هي الأخرى
لفرط تكرارها، وهي تتراوح بين التحديث، والعصرنة إلى مكافحة التطرف
والإرهاب (الإسلامي) !
وفي هذا السياق الخطير رأينا العجب: رؤساء الوزارات والهيئات التي
أنيطت بها السيطرة على شؤون الإسلام يُعيَّنون من العلمانيين الأقحاح ذوي العقليات
المتغربة؛ بينما المساجد تغلق، والعلماء يُنَحَّوْن عن المنابر ويسجنون، والجمعيات
والهيئات الإسلامية تحاصَر، وأعمال البر والتقوى تحظر.. إلخ.
ويتشابه السياق الإسلامي الذي تطرح فيه دعوة الحوار الديني مع السياق
الغربي أو المسيحي للدعوة من زاويتيه بشكل مذهل. ففيه أيضاً تتحول النصرانية
أو الكنائس المحلية للأقليات النصرانية إلى عناصر قوة تتكامل مع قوة المسيحية
الدولية، وفيه كذلك يسود مناخ العداء المرضي ضد الإسلام في وسائل الإعلام
ودوائر الحكم والسلطة العلمانية وفيه أخيراً يبرز نفوذ اليهودية الصهيونية من وراء
ستار الماسونية وأندية الروتاري والليونيز والإباحية في الفنون وما شابهها.
الإسلام والمسلمون هم العنصر الغائب والمضروب في السياقين المسيحي
الغربي و (الإسلامي) لدعوة الحوار الديني؛ وكأن أعداء الإسلام وخصومه في
النهاية هم الذين يتحاورون مع بعضهم بعد أن قسَّموا أنفسهم إلى فريقين: أحدهما
مسيحي أصيل واثق من نفسه حر مستقل يتمتع بالمستوى المطلوب من الكفاءة
الفكرية والسياسية والحوارية والآخر (الإسلامي) يمثله موظفون يأتمرون بأمر
النخب العلمانية الحاكمة ولا يتمتعون بأي حرية أو استقلال أو كفاءة أو غيرة على
الإسلام.
سياق دعوة الحوار الديني إذن أو الظروف والأوضاع التي تجري فيها أو
يراد لها أن تجري فيها يبعث على التأمل بل يثير الشك والريب، وهو سياق يبلغ
فيه التفاوت الحاد والتناقض البين حد إلغاء فكرة الحوار بين طرفين متكافئين من
أساسها لتحل محلها حقيقة أن النصرانية العالمية في وضعها المسيطر تخترع مع
الاستراتيجية الغربية المعادية للإسلام خدمة لهيمنتها أداة أسموها بالحوار يبتغون
فيها تحقيق أهدافهم الخاصة وحدها و (يحاورون) فيها طرفاًَ أسموه
بـ (الإسلامي) وما هو في الحقيقة بممثل للإسلام؛ لأن الإسلام وممثليه الحقيقيين غائبون ومغيبون ويعانون من سياق مضاد من الضعف والضغط والهجوم يكاد يلغيهم من الوجود.
حوار الأديان مرة أخرى:
لا تفتأ الدعوة إلى ما يسمى بحوار الأديان بين الإسلام والنصرانية، تتكرر
من مصادر عديدة أكثرها هذه الأيام: بعض ممن يسمون بالشخصيات الدينية
الرسمية في بلدان تخضع فيها المؤسسات الإسلامية للتوجيه المباشر من الجهات
السياسية بل والأمنية، وقد كتب صاحب هذا القلم في الماضي على صفحات هذه
المجلة حول جوانب من هذه الدعوة التي تحتمل مع ذلك المزيد من التناول لتشعُّب
نواحيها، ولعل أحد أبرز هذه الجوانب هو تصور الأطراف لأهداف هذا الحوار
ومراميه الذي يقصد به عادة الإسلامي النصراني رغم وجود مذاهب ومعتقدات
أخرى يعتنقها الملايين وتتصل بهم مصالح وحياة الكثير من المسلمين ولا سيما في
بلدان آسيا، والواقع أن اقتصار دعوة الحوار الديني على الحديث مع الكنائس
المسيحية وبالذات الغربية منها يكشف عن جوهر الدعوة ومقصدها الأول ألا وهو
التقرب للغرب والانضواء تحت لوائه وتكريس التبعية له. ويجلِّي هذا المقصد أن
نعود إلى مسألة تصور هذا الحوار والداعين إليه وأهداف الداخلين فيه.
على الجانب الإسلامي نلاحظ أول ما نلاحظ غيبة مثل هذا التصور الواضح؛
فدعاة الحوار من الموظفين الرسميين المكلفين بذلك يكتفون بالحديث عن الحوار مع
النصرانية وتحبيذه وكأنه هو الخير الأسمى للمسلمين في هذا العصر، وهم لا
يوضِّحون لنا لماذا يعد هذا الحوار أمراً جيداً ومرغوباً فيه؟ كما لو كان مجرد طرح
كلمة (الحوار) يغني عن أي بيان لطبيعة هذا الحوار وسياقه وأهدافه ومضمونه.
والأخطر من ذلك الغموض المحير؛ إذ إن بعض هؤلاء عندما يفكر في اختراع
تصور للحوار يخرج علينا بمفاهيم سقيمة ومتردية؛ ففي الآونة الأخيرة خرج
بعض من هؤلاء في مصر يقولون: إن الحوار مع النصرانية الغربية مطلوب
لتحسين صورة الإسلام في عين الغرب بعد أن شوهتها ممارسات المسلمين
الموصوفين بالأصولية (وليس كيد الإعلام الغربي) ! وهكذا فتصور هؤلاء
المسؤولين أو الرموز الإسلامية المعنية عن هذا الحوار الذي يطنطنون به هو
تصور دفاعي اعتذاري تسويغي وكأنهم منذ البداية يحددون صورة الحوار في هيئة
المواجهة بين الادعاء والمتهم وبين جهة الاتهام واللص المقبوض عليه متلبساً؛
فالكنائس وقساوستها تجلس من ناحية تطرح التهم والشبهات ويجلس (ممثلو)
الإسلام من الناحية الأخرى (وهم ليسوا في الواقع ممثليه الحقيقيين أو الغيورين)
جلسة المحرَج والمعتذر الذي يحاول أن يرد على هذه الاتهامات بأي شكل حتى لو
تعسف في ذلك إلى درجة التنازل عن ثوابت العقيدة والشريعة الإسلامية.
ومثل هذا التصور (للحوار) ينسف فكرة الحوار ذاتها منذ البداية ويلغي أي
نِدِّيَّة وتكافؤ وتوازن بين الأطراف الداخلة فيه، فليس بين وكيل النيابة والمتهم
حوار بل هناك استجواب ومساءلة بغرض الإيقاع بالمتهم والحصول على اعترافه
بارتكاب الجرم، ولا يهم بعد ذلك إن قدم الأعذار والتسويغات لجريمته، بل المهم
أن يدان. بينما يجلس المدعي (الطرف النصراني) مجلس المتفوق وهو المكان
الذي ينبغي أن يتبوَّأه الضحية الذي عانى من إجرام الطرف المواجه وتعصبه
وعدوانيته، بل ليس هذا حواراً وإنما هو أشبه بالتأنيب والتلقين من جانب الأستاذ
للتلميذ الخائب الفاشل.
وفي كل الأحوال وبصرف النظر عن التشبيهات والكنايات فإن العلاقة التي
تنشأ وفق تصور هذا (الطرف الإسلامي) المزعوم نفسه ليست علاقة (حوار) بين
أنداد متكافئين بل هي علاقة خضوع واستسلام من طرف لآخر، وفي أحيان أخرى
يلجأ هؤلاء الممثلون للطرف الإسلامي إلى طرح تصور بديل لهذا (الحوار) في
محاولة لتغطية تخبط مفاهيمهم أو لحجب الطبيعة الحقيقية للعملية المطلوبة تحت
مسمى الحوار؛ فهم يدَّعون أن الحوار مع المسيحية مطلوب في سبيل دعم السلام
العالمي ودفع جهود التنمية وتحقيق الرخاء للشعوب ... إلخ، وهذه كلها دعاوى
سخيفة لا محل لها من الاعتبار؛ فالداخلون في الحوار هم هيئات وجهات دينية لا
علاقة لها بالاقتصاد الدولي ولا بمجريات السياسة الدولية وإن كانت الكنائس تمثل
أحد المؤثرات المهمة في صنع السياسات العالمية لبلدانها وللكتلة الغربية عموماً.
ثم كيف يخدم السلام العالمي والتنمية الدولية إذا كانت الكنائس تنغمس في عمليات
التنصير الواسعة حتى بين المسلمين، وحتى وهم يجلسون على مقاعد الحوار
المزعوم، بل وما هو دور ممثلي الطرف الإسلامي في السلام والتنمية العالمية
والكل يعلم (وهم قد يصرحون بذلك في مناسبات) بأنهم مجرد موظفين تابعين لدولهم
وليس لهم صلاحيات أوسع من مجرد الحديث باسم رؤسائهم ووفق التكليفات المحددة
والمحدودة التي تصدر لهم؟
التصور عن الحوار إذن غير موجود على الجانب الإسلامي؛ بل والأسوأ من
ذلك أنه قد يكون موجوداً ولكن في شكل متهافت وخطير؛ لأنه ينم عن حقيقة أن
المطلوب ليس حواراً كما يفهم ويعرف ويمارسه الناس؛ بل شيء آخر هو أقرب
إلى الإذعان لما يريده الطرف النصراني من هذه اللقاءات والتمشي مع أهداف هذا
الطرف الآخر، وعلى الجانب المسيحي في المقابل نجد أهدافاً وتصورات واضحة
ومحددة لما يريدونه من هذا (الحوار) وهم قد يتحدثون على سبيل المجاملة
السطحية والعابرة عن خدعة المحبة والمودة والتفاهم بين أصحاب الدينين؛ لكنهم
يأتون إلى اللقاءات بمجموعة من التصورات لا تخطئها عين المراقب، ولعل أبرز
هذه التصورات هو الحصول من الجانب الذي يفترض أنه يمثل الإسلام على
اعتراف وتقبُّل بصحة ما تمثله الكنائس من عقائد ودعاوى، وندِّيته وتميُّزه، وهو
اعتراف ثمين للغاية في إطار سياسات الكنائس وأوضاعها داخل بلدانها وخارجها،
فهو من ناحيةٍ ورقة مهمة للغاية تطرح أمام جموع المسلمين في البلدان المستهدفة
بالجهود التنصيرية؛ حيث يقال لهم: إن (مشايخ الإسلام) في بلاد القلب الإسلامي
يجلسون مع أرباب الكنائس يتعاونون ويتباسطون و (يتقاربون) مع المفاهيم
النصرانية ولذلك فلا حاجة للتوجس من جهود البعثات التبشيرية أو الابتعاد عن
ممثليها؛ بل لا بد أيضاً من التواصل معهم وهو ما يفتح آفاقاً أوسع أمام العملية
التنصيرية لا سيما في بلدان آسيا وإفريقيا.
ومن الناحية الأخرى والأكثر أهمية فإن الكنائس تستغل هذا الحوار لتعزيز
مكانتها داخل بلدانها؛ حيث تخاطب الجمهور العريض ودوائر الحكم والنفوذ ورجال
الأعمال والثراء بأنها تقوم بدور خطير في التعرف على (العدو الإسلامي المحتمل)
وجس نبضه وكف عدوانيته وشراسته وتعديل مفاهيمه (الأصولية) مما يستدعي
توجيه الدعم المادي والمعنوي لها واعتبارها من الأدوات الفعالة للسياسة الغربية
عموماً تجاه العالم الإسلامي وهي السياسة التي أصبحت تركز الآن على عالم
الإسلام واعتباره هدفاً رئيساً بعد انهيار الكتلة الشيوعية. ومن الناحية الثالثة تسعى
الكنائس من خلال الحوار مع أطراف يدعى لها تمثيل الإسلام كما أنها لا تتسم بأي
عمق أو جدارة فكرية إلى أن تتوصل وبواسطة طرح سيل من الاتهامات إلى تعديلٍ
وعلمنةٍ وتغريبٍ للكثير من المفاهيم والتصورات الإسلامية الشرعية تحت ستار
التحديث والعصرية والاجتهاد الملائم للواقع وما شابه ذلك؛ حيث يتبارى (ممثلو
الإسلام) في تقديم هذه (التنازلات) أو المواجهات في مجالات معروفة كالجهاد
وأوضاع المرأة والأقليات غير المسلمة والتعامل مع الغرب والأخلاق
والقيم.... إلخ، وذلك في سبيل السعي المحموم لنفي التهم التي يطرحها الطرف النصراني في الحوار ودحضها.
والخلاصة هي أن التصورات الموجودة حول الحوار الديني عند الطرفين
الإسلامي والنصراني (وبصرف النظر عن الجوانب الأخرى لهذا الحوار مثل
مصداقية ممثلي الأطراف أو السياق الذي يجري فيه أو الأهداف المتحققة لكل
طرف) لا تبعث على الثقة؛ بل تثير أشد المخاوف؛ لأنها لا تدل على (حوار)
يجري بين أنداد متكافئين يملكون رؤية واضحة حول ما يريدون؛ بل تشير إلى أن
طرفاً واحداً فقط هو الذي يمتلك مثل هذه الرؤية الواضحة والهدف المحدد بينما
يضطر الطرف الآخر بسبب افتقاده إليها إلى مجاراة الجانب النصراني مجاراة ذليلة
تابعة يدور في فلك أهداف الآخر ونواياه ويضر بمصالح الإسلام وأوضاعه من
خلال تمييع مفاهيمه وعقيدته وإضعاف هويته وتميزه وتحويله إلى تابع يسير وراء
النظام الغربي العالمي الجديد كما سارت الدول والأنظمة والسياسات.(150/134)
المنتدى
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
راشد بن عبد الله العدوان
نقرأ هذه الأيام في بعض المجلات (المرتزقة) بعض الكتابات من تسطير
أصحاب الأقلام المسمومة حول قضية المرأة، وكيف أن الرجال سلبوها حقها، وأن
الحجاب الشرعي بزعمهم ما هو إلا تقاليد وعادات دخيلة ورثناها إبان عصر الغفلة
والجهل، وأن [وقرن في بيوتكن] [الأحزاب: 33] ما هو إلا حبس لها، وإحكام
الخناق على حقوقها المسلوبة التي لا تَتَأَتى إلا بمشاركة المرأة للرجل ومخالطتها له
في شتى شؤون الحياة.
ولا أدري: أأعجب من كلام هؤلاء الموتورين، أم أعجب من مدى جرأتهم
وصفاقة وجوههم؛ حيث كشفوا عمَّا تُكِنُّ صدورهم، بدون أدنى حياء أو خجل؟
وأقول: إن هؤلاء الذين يَدَّعُون بأن للمرأة قضية، ويَدْعُون مطالبين
ومزمرين ومطبلين بإخراج المرأة من مستقر حشمتها وعفافها، إنما يَدْعون لإحياء
فتنة، ويحاولون جاهدين إحداث الانقسام في المجتمع بين الرجل والمرأة، وشغل
أفراده بقضايا لا تفتأ أذهانهم تثيرها بين الحين والحين، ببريق لامع وغلاف يلفت
النظر، في حين نجد العدو يتربص بالمسلمين الدوائر وواقعنا خير شاهد على هذا.
إن الرجل والمرأة حقيقةٌ واحدةٌ ربط الله بينهما بمودة ورحمة، لتثمر وتنبت
التعاون على مسيرة الحياة كما شاء الله. يقول جل شأنه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً
واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] [النساء: 1] .
وإثارة قضية المرأة إنما يأتي على الطريقة الغربية لخدمة الكثير من الأهداف
المشبوهة في مجتمع المسلمين، فإذا كان الإسلام عند الغرب ومقلديه قد صار مبادئ
عفا عليها الزمن بمرور القرون فعلى المسلمين أن يبحثوا لهم عما يعوضهم عنها من
مبادئ العصر وأفكاره تُشكل نمط حياتهم، وتوجه مسارها، ومن ثَمَّ فإن حاضرهم
يجب أن يُفصَل عن ماضيهم، ومشكلات يومهم هي من ثمار أمسهم، وحلول
الأمس لا تجدي نفعاً مع معطيات العصر، فيتحتم إذاً ولوج جُحْر الضب فتُدعى
المرأة إلى الخروج والعمل، والاختلاط، والسفور، والانتقال بلا ضابط أو رقيب
كالرجل؛ فهي نصف المجتمع، يجب ألا يموت، ويجب أن تُرفع الوصاية عنها!
ويفسح لها المجال في كل اتجاه، وهكذا تدور الحلقة في شرقنا المسلم كما دارت في
الغرب الصليبي، وترفع لها شعارات (حرية المرأة) ، و (قضية المرأة) ،
و (التحديث) ، ويتطرق الأمر إلى أن هناك موروثات يجب هدمها لإفساح الطريق
أمام النهضة الحضارية المزعومة.
ونحن اليوم نتساءل: لماذا كانت هذه الدعاوى المحمومة في سبيل نهضة
المرأة الحديثة؟ هل لتنهض بالأمة؟ هل لتسمو ببيتها وتعلو بأولادها وزوجها إلى
مراقي السعادة، أم لكي تذوب المرأة المسلمة في خضم تقليدها للمرأة الغربية،
والتي ضاعت وأصبحت متاعاً مباحاً وكَلأً ليس له من يحرسه ولكن تنتهك
حرماته! !
ولكل من فشا فيهم مرض التجديد ووباء التقليد، فتمسكوا بكل حديث، ولو
كان بالاختلاط والتبذير والرقص والفسوق، ونبذوا كل قديم، ولو كان الدين والعقل
والفضيلة، والذين يطالبون بمساواة الرجل مع المرأة، أقول لهؤلاء جميعاً: اعلموا
أن لكل من الرجل والمرأة عمله المناسب له، فالجدال حول هذا الأمر لا طائل
وراءه.
نعم: لا جدال في الوظيفة المثلى التي تستقل بها المرأة وهي حماية البيت في
ظل سكينةٍ زوجية من جهاد الحياة وحضانة الجيل المقبل لإعداده بالتربية الصالحة
لذلك الجهاد، والعمل بكل ما يتناسب مع فطرتها ويخدم بنات جنسها. ألا يُحَكِّم
هؤلاء (المأفونون) عقولهم، ويعلموا أن الرجل رجل له مقوماته وخصائصه، وأن
المرأة أنثى لها طبيعتها ومميزاتها؟
ألم يعلموا أن للرجال وظائف ومهام ومجالات عمل لا يتقنها بإجادة إلا هم،
وأن للنساء وظائف ومهام لا يصلح لها ولا يقدر عليها إلا هن؟
وأما دعاوى هتك الحجاب فليست نفياً للحجاب فحسب، بل نفياً للمرأة ذاتها
وراء حدود الأسرة، وما الحجاب إلا حفظ لمكانة المرأة، وصونها من التبذل
الممقوت، والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق
والأسواق. فخروج المرأة من حجابها وفطرتها خروج إلى الضياع، وهو إضعاف
لها، وجعلها فريسة للمغرضين.
إن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي، وحجاب
المرأة جزء هام في وظيفتها الحياتية، يصونها من غوائل السوء، ويحفظها من
لصوص الأعراض، ويقي حياءها من الخدش، ويحفزها إلى صلاح الروح،
وصلاح النفس، ولهذا كان الغرب الحاقد شديد الحرص على نزع حجاب المسلمات
ليصلوا إلى بغيتهم ويحققوا أهدافهم؛ فكأس وغانية تفعل بالمسلمين ما لا يفعله ألف
مدفع. وعندما أدرك أعداء الإسلام أهمية الحجاب، وعرفوا ما فيه من وقاية
للمجتمع ومحافظة عليه من الذوبان في غيره وجهوا سهامهم إليه، وأَلَّبوا عليه
جموعهم وأجْلَبوا عليه بخيلهم وَرَجِلهم ليصلوا إلى ما يريدون ويحققوا ما ينشدون.
وباسم حرية المرأة عمل المخدوعون ببريق حضارة الغرب على الدعوة إلى
تشبُّه المسلمات بالكافرات، وصاحبات الخدور بالسافرات، لتكون المرأة وسيلة
لتحقيق أهوائهم ورغباتهم، بعد تجريدها من مكانتها، وتهميش دورها، وتحطيم
قيمها وأخلاقها، ثم الوصول إلى هدم بناء الأسرة، وتذويب المجتمع المسلم في
عاداته وسلوكه بالمجتمعات التي لا تَمُتُّ إلى عقيدتنا وقيمنا بأي صلة، حتى لا تبقى
لشريعة الله بقية.
وقد كان من أول ما قررته القوى المعادية للإسلام من كيد للإسلام أن تُدفع
المرأة للتخلي عن معاني العفة، ومكارم الحياة، فزينت لها أسلوب الجاهلية في كل
مناحي حياتها، وخاصة في موضوع حجابها ولباسها.
وختاماً أقولها صريحة وقوية: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا
العزة بدونه أذلنا الله.(150/138)
المنتدى
همسة في أذن داعية
أبو عبد الرحمن الفاتح
احذر الموت والمرض والغفلة والرياء والانشغال بهموم الدنيا وضياع الوقت
في غير مرضاة الله، واجتنب البخل والتقييم الخاطئ لنفسك ولغيرك، ودع عنك
كثرة الضحك واليأس والنسيان.. نسيان القضية التي من أجلها خلقت ولها تدعو،
واحذر الانشغال عن إخوانك ونسيان الموحدين المبتلين في كل بقاع الأرض،
واحذر الشيطان وأعوانه وحزبه والخوف من غير الله، وتعوَّذ بالله من النكوص
عن حمل الأمانة وإقامة الخلافة وتحكيم الشريعة.
.. واحذر إهمال القرآن: (قراءة وتدبراً وعملاً ودعوة) .
فإن كثيراً من الدعاة لا يعطي القرآن حقه في أن تتصل به القلوب أكثر من
اتصالها بأي كتاب آخر وتستقي وتتلقى منه وتحيا فيه؛ فإنه لا بد لنا في أي مرحلة
من مراحل الحياة أن نعيش بالقرآن ونتعامل بالقرآن ونتربى بالقرآن وندعو بالقرآن
ونجاهد بالقرآن ونتحاكم للقرآن وهكذا حتى يمن الله علينا ونستحق أن نقيم خلافة
على منهج القرآن.
فالمقصود هو الارتقاء بالدعوة والدعاة إلى حد أن يهيمن القرآن على
الحوارات واللقاءات والندوات والدعوات، ولا مانع من الاستعانة بالكتب والشروح
وأقوال العلماء ولكن تظل الصدارة والهيمنة للقرآن بروحه وآياته ويظل القرآن هو
المحور البارز في الحوار واللقاء؛ وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أنه كلام الله فهو أيسر وأسهل أسلوب يصل بأسهل الطرق إلى القلوب.
2- أنه كلام الله فهو أبلغ دلالة.
3- جعل المدعو أكثر ارتباطاً بالقرآن وبالله سبحانه وتعالى عن ارتباطه بكلام
البشر وهذا عنصر تربوي مهم لا يحسه إلا من عاشه.
4- إذا أُدير الحوار واللقاء بالقرآن فهو آمَنُ للعواقب.(150/139)
المنتدى
مشاركة
أحمد بن محمد أشرف بن أمين
إن الصحوة الإسلامية اليوم في مرحلة نضوج وإيناع؛ فهي قد اجتازت
مراحل الضعف التي مرت بها سابقاً، والتي كان لها أسبابها، ولست بصدد الحديث
عنها الآن؛ لأنني إنما أردت أن أكتب عن مشكلة تواجهها الصحوة، وهي بالطبع
ليست المشكلة الوحيدة، لكنها تستحق الاهتمام، وذلك لأنها تمس الوتر الحساس كما
يقولون وإني وإن لم أكن من الدعاة الذين عملوا من أجل الوصول بالصحوة إلى هذا
المستوى، أو من المربين الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل الرقي بجيل الصحوة
إلى هذا القدر؛ إلا أني أحببت أن أدلي بدلوي من حيث إني فرد من المسلمين الذين
تسرهم ظاهرة الرقي والرفعة، وتسوؤهم هذه الظاهرة أو المشكلة التي أنا بصدد
الحديث عنها، وهذه الظاهرة وهي ظاهرة خطيرة حقاً هي: (عدم الثبات على
المبدأ والتغير المفاجئ في الأفكار) ، ولست أعني بذلك التغير الناتج عن التصحيح
أو التصويب، إنما أقصد بذلك التغير إلى الخطأ.. وفي الحقيقة فهذه ظاهرة
أصبحت واضحة جلية للعيان، والعجيب في هذه الظاهرة أنها تحدث كلمح البصر
أو أقل من ذلك ولا أكون مبالغاً فيما أقول، فتجلس مع شخص من أولئك الذين هم
في الحقيقة ضعاف النفوس من الذين ساروا على الطريق مدة ليست بالقصيرة،
وتشبعت أفكاره بالأفكار الصحيحة المؤصلة، وإذا به عندما يتحدث ذو فكر معتدل
لا يحيد ولا يميل قد وافق بفكره نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة،
وعندما تقابله مرة أخرى بعد شهر أو حتى أسبوع أو أسبوعين فإذا هو شاهر سيفه
ينقض كل ما قاله، ويستند إلى أحداث ووقائع ومواقف، ربما يكون هو أحد أبطالها، ويجتهد اجتهادات باطلة لا أصل لها، ولا يقف عند هذا الحد، بل ويبدأ
بالمواجهة العمياء، فيتتبع العثرات والأخطاء، ويقول: أنتم فيكم كذا، وفيكم كذا،
وعندكم من الأخطاء كذا وكذا، ويبدأ يعدّ ويعدّ، ويتكلم ويُشهِّر، وما إلى ذلك مما
يقوم به أمثاله، وإذا حاولت معرفة سبب ذلك تجده إما تعصباً لشخص مَّا قد أخذت
الصحوة منه موقفاً لضرره، وإما تشدداً في أمر مَّا، وإما لأنه قرأ كتاباً منحرف
الفكر فتأثر به، وإما لأنه جلس مع فلان ممن هم أمثاله فأخذ يلعب بأفكاره يمنةً
ويسرة، أو لفهم خاطئ لشيءٍ مَّا، أو للبعد عن واقع الصحوة مدة معينة لسبب ما؛
حيث تأخذ الوساوس الشيطانية وخلجات النفس الشهوانية مسارها فيتأثر ويرى أن
فكره السابق إنما هو خطأ في خطأ، وهذا من أكثر الأسباب التي تؤدي إلى ذلك في
الوقت الحالي، ولنذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من
الغنم القاصية) [1] ، وهكذا، فإن هذا شيء يستدعي أن لا يُهمل حتى وإن كان في
زاوية ضيقة؛ فهل النار إلا من مستصغر الشرر؟ ولعل من المظاهر التي يتميز
بها هؤلاء التذبذب في الأفكار، فتجده يعجز عن المواجهة إذا ناقشته مناقشة عقلية،
وإن حاول الهروب من هذا العجز، فسيكون عجزه أكثر عند مناقشته بنصوص
القرآن والسنة ومعتقدات أهل السنة والجماعة، وسيحاول تأويل النصوص لكنه في
الحقيقة لن ينفك عن الاحتجاج بأي حجة على أنه لا يستطيع الكلام لسببٍ ما، أو
أنه يحتفظ بذلك لنفسه، وما إلى ذلك.
ولعل العلاج لمثل هذه الظاهرة موجود لدى المربين والدعاة وعلماء النفس
المعتدلين، ومتوفر في كتبهم، ولعل العلاج أيضاً من وجهة نظر خاصة يختلف من
شخص لآخر، إلا أنني أنادي المختصين من المربين وغيرهم بأن يبذلوا ما في
وسعهم لعلاج هذه الظاهرة المتفشية التي ربما كان لخصوم الصحوة دور كبير فيها،
وليس هذا إسقاطاً، ولكن لا بد أن تتوخى الأمة الحذر، وأن تعرف أعداءها
الحقيقيين، والذين من أخطرهم المنافقون لعنة الله عليهم.
__________
(1) رواه النسائي، ح/ 838.(150/140)
المنتدى
إليكِ يا.. فتاة الإسلام
عبد الحميد سالم الجهني
لو تعلمين أُخيتي ما يحملون ... بقلوبهم لك هؤلاء المجرمون؟ !
لعلمت أنهم الذئاب وليتهم ... كانوا كذلك بل أشد. أتعلمين؟ !
فالذئب يفتك بالحياة وهؤلاء ... يمزقون حياءك الطهر المصون
أترينهم في كل نادٍ يصرخون: ... إلى متى عهد الحريم المستكين؟
وإلى متى تمشي الحسان مكفنات ... بالعباءة والحجاب بلا عيون
وإلى متى يبقى النساء كما الدجاج ... مجلدٌ ومحاصرٌ في كل حين
وإلى متى نجدُ الجمالَ رهينةً ... في البيت دون لقائِه الحرزُ الحصين
وإلى متى يا للحضارة والتقدمُ ... لم يحررهن من أسرٍ ودين
وإلى متى وإلى متى وإلى متى ... هذا صراخهمُ القوي أتسمعين
ملؤوا به الدنيا فكل جريدة ... فيها شياطين الدعارة والفنون
وفويسقٍ جمحت به أهواؤه ... فكأنه إبليس يهدي الفاسقين
عيناه تنطق بالفسوق وحولها ... هالات عربدة تطاير بالجنون
وهمُ فراخٌ للدياثة والخنا ... وتقلبوا دهراً بوحل الكافرين
فتشربوا أهواءهم وتشدقوا ... كالببغاوات الضعيفة بالظنون
فأتوا سكارى يزعمون بأنها ... الحرية الحمراء يعشقها الرهين
وهي الحضارة لا سبيل لنيلها ... حتى تَكَشَّف كل أنثى للعيون
سبحان ربي ما جنى المتحررون ... وقد تمادوا بالتحرر من سنين
قد حرروها؟ ! من كرامة ربها ... فاقتيدت البلهاء للقيد المهين
قيدٌ من الشيطان والدنيا اللعينة ... يستبيها كل أفاك لعين
أَوَ هكذا تحيا الحرائر كالدمى ... أم أنهن من الإماء وقد سُبين؟
ونفائس الدرر الكريمة لا ترى ... إلا بأصداف كألطف ما تكون
أختاه لا.. لا يخدعنك هؤلاء ... الفاسقون ولا أظنك تخدعين
يا أيها الأخيار قد نطق الرويبضة ... الحقير ولا أراكم تنطقون
أعجزتم حتى عن الشكوى فما ... أدري بأي مصيبة تتألمون؟ !
إن كان هذا لم يحرك ساكناً فيكم ... فلا عشتم على هذا السكون
والضعف لا ينفك بهدم أمة ... حتى وإن كانت على الحق المبين
والحق ما لم يحمه أتباعه ... بلسانهم وسنانهم ذاق المنون
أو فاصبروا يستبدل المولى بكم ... قوماً على نصر الشريعة قادرين(150/141)
المنتدى
من ينبوع الحزن
عبد الرحمن الأحمد
قرأت في الصحف والمجلات كثيراً عن منظمات حقوق الإنسان والهيئات
التابعة لها وقلت في نفسي: أين هم من مؤتمراتهم التي أقاموها على مرأى ومسمعٍ
من الجميع؟ وأين هم من قراراتهم وتوصياتهم التي لم يطبق منها شيء؟ وفجأة
أفقت من غفلتي وقلت: أنعاتب اليهود؟ وهم المعروفون بالغدر ونقض العهود
والمواثيق؟ أم نعاتب النصارى الذين ديدنهم المكر والخديعة للإسلام وأهله؟
إن الواقع المشاهد في دول العالم الإسلامي في هذا العصر ليتنافى مع كل القيم
الإنسانية والأحكام السماوية بل وحتى الأحكام الوضعية التي هي من صنع البشر
أنفسهم. ففي فلسطين احتلال وتدنيس، وفي كشمير مذابح وحشية، وفي البوسنة
والشيشان جرح نازف، وفي كوسوفا تشريد وتعذيب واغتصاب وتقتيل، وفي كل
بقعة من بقاع المسلمين مأساة، وما ذاك إلا لأنهم قالوا ربنا الله؛ فأين حقوق
الإنسان من اغتصاب للنساء وتشريد للشيوخ وتنصير للأطفال ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم؛ فيا أيها المسلمون العودة العودة إلى كتاب الله والتمسك بدين الله، ولن يصلح شأن آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، تمسكاً بكتاب الله وتطبيقاً
لأحكام هذا الدين الحنيف.(150/142)
ردود
* الإخوة: الذين أرسلوا ملاحظاتهم أو اتصلوا بالمجلة للتنبيه على الخطأ
الذي وقع في افتتاحية العدد 148، بسبب الاستشهاد بآية: [فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن
تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وتَشَاوُرٍ] في موضوع الخلع وأن هذه الآية المقصود منها الفطام
وليس الفصال، نشكر أولئك جميعاً شكراً جزيلاً معتذرين عن هذا الخطأ، آملين
من الجميع دوام التناصح.
* الأخ: باسل السدحان: أرسل اقتراحاً يطلب فيه أن يحتوي عدد نهاية العام
أو بدايته على فهرس يصنف مقالات هذا العام، ونحن نشكر الأخ على اقتراحه،
وجزاه الله خيراً.
* الإخوة: الذين يسألون عن البرنامج الإلكتروني لمجلة البيان، فنخبرهم
بأن البرنامج في مراحله النهائية بإذن الله وعند الفراغ منه سوف يتم الإعلان عن
ذلك على صفحات المجلة. بارك الله فيكم لحرصكم واهتمامكم.
* الإخوة: الذين يستفسرون عن رقم فتوى هيئة كبار العلماء
وتاريخ إصدارها حول كتاب: (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) لخالد
العنبري، الرقم هو: 21154 بتاريخ: 24/10/1420هـ.
* الأخ: ذعار بن محمد الجميلي: نشكر لك تواصلك الطيب، وحول
ملاحظتكم اللغوية فيرى الإخوة اللغويون أن الأمر يقبل الوجهين، مع تقديرنا
لتواصلكم.
* الأخ: د. عبد الله بن هادي القحطاني: نشكر لكم تواصلكم الكريم
مع مجلة البيان، ونفيدكم بأن مشاركة (الإرهاب الروسي) مجازة للنشر،
ونعتذر عن نشر المشاركة الأخرى، آملين دوام التواصل.
* الأخ: محمود محمد دبش: جزاكم الله خيراً على مشاركتكم (منهج التفكير
العلماني) والمقالة مجازة للنشر مع رجاء اختصارها إلى نصف عدد صفحاتها،
بارك الله فيكم.
* الأخ: محمد شلال الحناحنة: نشكر لك تواصلك الدائم مع مجلتك، وحول
مشاركتك (وقفات للخلف مع سيرة السلف) فنعتذر عن نشرها لغياب التوثيق
والعزو إلى المصادر.
* الأخ: حسين بن علي الشقراوي: جزاكم الله خيراً على مشاركتك التي
أرسلتها حول موضوع المرأة، ولكن الموضوع قد تم تغطيته في (ملف المرأة)
المنشور في العددين (149، 150) مع أمل دوام التواصل.
* الأخ: صالح بن سليمان العامر: كتاب: (صناعة الحياة) للأستاذ محمد
أحمد الراشد، من الكتب المفيدة المتميزة، ولكن الكتاب متداول، ولهذا لا نرى
مناسبة تلخيصه في المجلة، نسأل الله تعالى أن يبارك في جهودكم وبانتظار
مشاركات أخرى.
* الأخ: أبو جعفر محمد الشريف: نشكر لك اهتمامك وحرصك، ونعتذر
عن نشر مشاركة (وداعاً محدث العصر) لفوات المناسبة، وجزاكم الله خيراً.
* الأخ: يحيى آل سالم: مشاركاتكم التي أرسلتها عبر الفاكس عن التربية لم
تصلنا كاملة، كما أنها غير واضحة، فنرجو التكرم بإعادة إرسالها، بارك الله فيكم.
* الأخ: الذي أرسل يصحح اسم كاتب قصيدة عنب السلام من (علي
الغامدي) إلى (الحسين جبره) نقول: إن القصيدة وصلتنا باسم (علي الغامدي)
فكيف نكتب اسماً آخر؟ !
* الإخوة: د. محمد ظافر الشهري، جابر بن راشد الفهيد، ناصر سنادة،
جلال راغون، نايب صالح، راشد عبد الله العدوان، د. أحمد جمال بادي، عادل
بن عبد الله الدوسري: بارك الله فيكم، وشكر سعيكم في هذا التواصل الطيب،
ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر ونرجو المزيد.
* الإخوة: سليمان بن يحيى المالكي، عبد الله سالم الغامدي، محمد عبد الله
الرويلي، زاهر محمد الشهري، محمد سعيد حجاب: جزاكم الله خيراً على
مشاركاتكم، هي مجازة للنشر في المنتدى.
* الإخوة: عبد الله عبده السمسمي، عمر الرماش، أحمد سلامة أحمد، علي
بن سليمان البذيخي، نجاح محمد عبد الغني، محمد الباشا، حسين عبد الرحمن بن
عقيل، مد الله عبد الكريم المديد، عبد المنعم محمد خير، خالد بن سليمان العامر،
عبد الله السبيعي، خالد عبد الوهاب القرينيس، يحيى آل سالم، حسين بن علي
الشقراوي: (وقفات مع العام الهجري) وصلتنا مشاركاتكم، وجزاكم الله خيراً على
هذا التواصل الطيب، ونأمل دوام التواصل، ونتمنى لكم التوفيق في مشاركات
قادمة.(150/143)
الورقة الأخيرة
خواطر في زمن الغربة
سالم فرج سعد
الغربة الحقَّة:
أستعيدُ ذكريات الماضي فلا تتراءى أمامي إلا أشباحُ الغربة بعذاباتها ومتاعبها.. أجول بخاطري فيما مضى، وفيما يأتي فيتقاذفني اليأس والأمل،
والشدة والرخاء.. نعم كنت أحب الغربة والوحدة لأعيش فيها لحظات خيال سابحة
جعلني أتأمل في الكون والحياة؛ لكن عندما عايشتها عرفت أن الحب شيء
والتعايش مع هذا الحب شيء آخر.. قد يفهم البعض من الغربة ترك الأهل والوطن والسفر من أجل لقمة العيش أو تحصيل علم، وهو فهم صادق لكنه قاصر؛ فالغربة الحقيقية هي التي يعيشها المسلم في زمن الظلام والظلم والجاهلية العمياء، غربته في دينه ودنياه، وفي فكره وعقيدته، تلك هي الغربة الصعبة المريرة التي يشعر فيها العبد المؤمن أنه مسافر غريب في هذه الدنيا وينتظر راحته في دار النعيم، والقرار بأعماله الصالحة وطاعته لربّه ومولاه ... شعاره الدائم نصيحة
رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر
سبيل) [1] .
وتهون كل المصائب.. وتضعف كل المتاعب.. التي تحيط بهذه الغربة الحقّة.. لأنها غربةٌ في سبيل الله.
غرباء وارتضيناها شعاراً للحياةْ ... غرباءُ ولغير الله لا نحني الجِباه ...
لماذا أكتب؟
إنه سؤال يطاردني كلما كتبت أو أردت أن أكتب ومع ذلك لا بد من طرحه
والإجابة عنه لتكون الكتابة هادفة وخالصة.
ونظرة سريعة إلى أعمدة الصحف وأسطر المجلات اليومي منها والأسبوعي،
الشهري والسنوي، تجد التباين الشاسع بين أساليب المقالات، وأفكار الكتابات،
وعندها يتأكد لك مدى أهمية هذا السؤال: لماذا أكتب؟
إن الكتابة للكتابة هي هواية وحرفة لا تؤدي مفعولها ودورها إلا حينما تكون
الفكرة والصراحة والوجدان تلامس الواقع، وتخاطب العقول والضمائر.
إن أمانة القلم تفرض هذا السؤال العَلَم: لماذا أكتب؟
حفاظاً على حرية الكلمة، ورصانة العبارة، وقوة الفكرة والهدف.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 7395.(150/144)
ربيع الأول - 1421هـ
يونيو - 2000م
(السنة: 15)(151/)
كلمة صغيرة
بين المجلة وقرائها
إنَّ مما يثلج صدورنا، ويقرّ عيوننا، ويدفعنا إلى المزيد من العطاء والإنتاج
بعون الله تعالى تفاعل قرائنا مع مجلتهم، ثناءاً وتقويماً واقتراحاً. فكلما ازداد
التواصل والتفاعل بين المطبوعة وقرائها ازداد نجاحها واتسعت ساحتها، وإننا
نشعر في المجلة بأن قراءنا ليسوا كبقية القراء؛ فهم معنا بعقولهم النيرة، وبقلوبهم
المفعمة بالحب والتقدير، يمدون أيديهم إلينا بصدق وإخلاص، وهذا بإذن الله تعالى
يزيدنا حرصاً على إرضائهم بما ينفعنا جميعاً في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا، مع
تطلعنا إلى نشر المادة العلمية التي تشبع رغباتهم.
وكم أسعدنا ثناء قرائنا على ملفنا الأخير (ماذا يريدون من المرأة؟!) .
ونؤكد بدورنا أنَّه ثمرة من ثمار التعاون اليانعة بين المجلة وكتابها وكاتباتها الأفاضل، ويسعدنا أن يستمر هذا التواصل؛ فنحن في هذا الطريق شركاء متعاونون لعمل
كل ما من شأنه إفادة القارئ وتوجيهه.
وقد طلب منا بعض الكُتَّاب أن نذكر لهم عنوان الملف القادم لعلَّ بعضهم
يرغب المشاركة فيه، ونزولاً عند رغبتهم فإن ملفنا القادم بإذن الله تعالى سيكون
بعنوان: (التنصير.. أهداف.. ووسائل.. وأرقام) ويشرفنا أن يُثرى الملف
بمشاركات الأكفاء من أهل المتابعة والاختصاص. كما يشرفنا أن نستقبل آراء
القراء لاقتراح عناوين لملفات أخرى قادمة تثري المعرفة وتنير آفاقنا إلى الصراط
المستقيم.
والله الهادي إلى سواء السبيل.(151/1)
الافتتاحية
في المؤامرة على المرأة المسلمة:
منظمة العفو الدولية تدلي بدلوها!!
تجتاح منطقتنا العربية في هذه الآونة حمى مسعورة تستهدف المرأة العربية
في إسلامها بدعوى نيل حقوقها المهضومة، ويدل التوقيت المتتابع والتشابه في
الجزئيات رغم تباعد المواطن على أن هذه الحمى ما اجتاحت المنطقة بطريقة
عفوية غير مقصودة، وإنما هناك مطالب محددة ومخطط دولي محكم، ربما نسجت
خيوطه من مغازل توصيات مؤتمرات القمة الدولية في القاهرة وبكين وإستانبول
والهند.
فمن الضجة حول قانون الزواج المدني في لبنان الذي أرادوا فيه هدم قيام
الأسرة على أساس ديني، إلى الضجة حول قانون جرائم الشرف في الأردن الذي
لم يريدوا فيه الدفاع عن حق المرأة في الحياة بقدر دفاعهم عن حقها في التحلل
والفجور باطمئنان! إلى الضجة حول مرسوم قانون حقوق المرأة السياسية في
الكويت، إلى الضجة حول قانون الخُلْع والزواج العرفي في مصر الذي أرادوا به
تفسيخ الأسرة المسلمة وتقنين الانحلال والفساد، إلى الضجة حول قانون الأحوال
الشخصية وخطة إدماج المرأة في التنمية في المغرب.. . وغيرها وغيرها، نقاط
متباعدة وخيوط متصلة تنسج شبكة جديدة يراد إيقاع المرأة المسلمة في براثنها.
وفي هذا السياق رصدت مجلتكم البيان خيطاً آخر من خيوط هذه الشبكة ولكن
في نقطة بعيدة عن عالمنا العربي، ربما لذلك يُعَدُّ أحدَ الحبال (أو الأحابيل) في
شبكة هذا المخطط؛ فقد انعقد يوم السبت الحادي عشر من شهر مارس (آذار)
سنة 2000م الموافق 4/12/1420هـ برعاية منظمة العفو الدولية مؤتمر حول
الحقوق الإنسانية في الشرق الأوسط في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في
العاصمة البريطانية لندن، حضرته ثلة من الناشطات في مجالات العمل النسوي في
شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
افتتحت (كيت آلن) مديرة فرع المنظمة في المملكة المتحدة أعمال المؤتمر
بالترحيب بالضيوف وتقديم المتحدثات.
وشاركت في الجلسة الأولى كل من: أسماء خضر (الأردن) ، أمينة
المريني (المغرب) ، ناولا درويش (مصر) ، د. فاطمة العبدلي (الكويت) ،
وأدارت الجلسة الدكتورة (لين ولشمان) من مركز القانون الإسلامي والشرق
الأوسطي في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية.
وتدل الأسماء العربية المذكورة على أحد أهداف المؤتمر غير المعلنة، وهو
زيادة تسخين (قضية المرأة) في المناطق الساخنة المشار إليها سابقاً، إضافة إلى
الصعود بها من الصفة المحلية والإقليمية إلى التدويل وتحريك الرأي العام
(الغربي) لمساندتها وتأييدها، وهذا ما طالبت به بالفعل بعض المحاضِرات كأمينة المريني التي طلبت الدعم من منظمات حقوقية وشخصيات سياسية ومن منظمة العفو الدولية، وميرفت رشماوي التي تحدثت عن عالمية حقوق الإنسان باعتبار حقوق المرأة كما يطالبن بها ضمن هذه الحقوق، وأشادت بمؤتمر بكين باعتباره تجربة رائدة، كما أكدت على ضرورة حضور المرأة في المنظمات الأممية.
وهذا يجرنا إلى الحديث عن نقطة أخرى مهمة وهي حرص أصحاب
المشروع التغريبي للمرأة على الاستقواء بأصحاب السلطة والنفوذ لفرض توجهاتهم
بالإرهاب المعنوي عبر تمرير مشاريع لقوانين وقرارات حكومية بطريقة مريبة،
كما حدث في البلاد المشار إليها، إضافة إلى نموذجي تركيا وتونس، وهذا الملحظ
(فرض التوجهات بقوة القانون) كان قاسَماً مشتركاً في حديث المشارِكات في
المؤتمر.
كما يدل اختيار مديرة الجلسة من (مركز القانون الإسلامي والشرق أوسطي)
على اتجاه متنامٍ في (تكتيك) إدخال التوجهات الغربية حول المرأة إلى المنطقة
العربية و (الشرق أوسطية) ، وهو اتجاه استخدم الإسلام (مطية) لحمل هذه
التوجهات إلى شعوب هذه المنطقة باعتبار الإسلام هو الدين الشائع بين هذه
الشعوب ونظراً لكونه لا يزال يشكل عامل تأثير و (حساسية) لديها، وقد برز هذا
الاتجاه في أحاديث معظم المحاضِرات في المؤتمر، من خلال محاور طرح
(إعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع التوجهات الجديدة) ؛ فالأستاذة أسماء خضر
(الأردن) عرَّجت على النموذج التونسي باعتباره حمل مفاهيم مختلفة للشريعة
للقضايا نفسها محل البحث، ثم طرحت تساؤلاً حول مدى وجوب معالجة هذه
القضايا: من داخل الشريعة أم من خارجها؟ وأجابت بأنه ينبغي معالجة الموضوع
ضمن الأطر الشرعية وأنه يجب العودة إلى القرآن، ثم طرحت مسألة نشوز المرأة
التي تقرر العمل خارج المنزل دون موافقة زوجها، والفتاة التي تريد الزواج دون
موافقة أهلها، وتحدثت عن العلاقة بين قانون الأحوال الشخصية وقوانين الأسرة
مبرزة أن المرأة لا زالت بحاجة إلى إذن زوجها للحصول على جواز سفر وأنها
تمنع من السفر دون موافقته.
و (التكتيك) ذاته استخدمته أمينة المريني (المغرب) ، حيث قالت: إن
قانون الأسرة يؤثر عليه الفهم المخطئ لنصوص الشريعة، وأكدت على إمكانية
تغيير هذا الواقع بفهم أكثر تطوراً للشريعة؛ إذ يجب علينا القبول بواقعنا وديننا
وأن يكون الإصلاح من داخلهما. ثم ذكرت أنه لأول مرة في المغرب وجدت حركة
يسارية أيدت بشكل أوسع حقوق المرأة آخذة بتوصيات مؤتمر بكين، وطالبت برفع
السن الأدنى للزواج من 15 إلى 18 سنة، وإلغاء تعدد الزوجات، وحق المرأة في
حضانة الأولاد إذا أرادت الزواج مرة أخرى، وأوضحت أن هذا البرنامج لقي
معارضة شديدة من الإسلاميين باعتباره مخالفاً للشريعة.
وفي إحدى حلقات العمل المسائية [1] حاضرت البروفسور هالة أفشر (جامعة
يورك) حول الحركة النسوية الإسلامية، فأشارت إلى أنه من الممكن وجود نساء
إسلاميات داخل الحركة النسوية؛ فهؤلاء النساء يعتبرن أن الماضي كان مفتوحاً
أمام المرأة (أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على سبيل المثال) فمنذ أربعة
عشر قرناً تمتعت المرأة بحقوقها كاملة في الإسلام، ولكنَّ قيماً كثيرة تلاشت بسبب
سوء فهم النصوص، كما أكدت على أن المعركة كانت دائماً (مع رجال الدين) !
باعتبارهم يناهضون المرأة بسبب سوء فهمهم للنص الشرعي؛ فهم يعتقدون كما
تقول أن المرأة كائن أقل من الرجل وعليه فهي غير مؤهلة نفسياً ودستورياً لتشغل
منصب القضاء مثلاً، وأردفت قائلة: إنه لا يوجد سبب على الإطلاق يجعل
منصب القضاء حكراً على الرجال، وخلصت إلى التأكيد على أهمية انخراط المرأة
في التفسير والاجتهاد وإلى ضرورة عودة المرأة إلى الساحة وإعادة قراءة النص
القرآني، ثم شددت على ضرورة منع تعدد الزوجات باعتباره سلوكاً يقتصر على
النبي صلى الله عليه وسلم وحده.. وقد أثارت هذه المحاضرة جدلاً شديداً، وشهدت
حضوراً مكثفاً.
وقد رأينا بوضوح هذا (التكتيك) ممارساً على أرض الواقع عند تمرير
قانون الأحوال الشخصية الجديد في مصر مصاحباً بحملة إعلامية علمانية تؤكد
(إسلاميته!) .
ونستطيع رصد المطالب التي دارت حولها أحاديث المؤتمِرات في الآتي:
1 - حق المرأة في المشاركة السياسية؛ بما فيها حقها في صنع القرار وحقها
في الانتخاب.
2 - حق المرأة في تولي مناصب القضاء والتشريع.
3 - إطلاق حرية المرأة في التنقل والسفر بغير إذن من رجل (أب أو زوج) .
4 - حق المرأة في الطلاق من غير الرجوع إلى رجل.
5 - منع تعدد الزوجات واعتبار ذلك شكلاً من أشكال العنف ضد المرأة.
هذه هي أهم المطالب التي أثارتها المجتمِعات في مؤتمر منظمة العفو الدولية
حول الحقوق (الإنسانية) للمرأة في الشرق الأوسط، وهي تدل على أن الحقوق
المقصودة هي الحقوق (الإنسانية الغربية) ، وتدل أيضاً على انقياد الحركة
النسائية العربية خلف الغرب وقيمه؛ فمطالبهم تمس فقط الأمور التي لها علاقة
بالشريعة الإسلامية وشكل الأسرة المسلمة باعتبارها ركيزة البناء الاجتماعي
الإسلامي الذي لم يقوَ الغرب على هدمه تماماً رغم محاولاته العديدة منذ زمن بعيد،
وإلا فهناك حقوق للمرأة لا يلتفت إليها ولا يسمح بالحديث عنها رغم بداهتها
ووضوح اضطهاد المرأة فيها فهم لا يناقشون مثلاً حق المرأة في ارتداء ما تريده من
ملابس إذا كانت هذه الملابس هي الحجاب الشرعي، فنرى المرأة تُمنع من ذلك
بقوة القانون والقرارات الحكومية في تركيا وتونس ومصر، بل وفي فرنسا بلد
الحريات في أوروبا، وأين الحديث عن حقوق المرأة التي يغيّب عائلها أو رحمها
في غياهب سجون الاحتلال الصهيوني أو النظم العلمانية بدون جريرة غير الدفاع
عن مبادئ أمته وحقوق أبناء وطنه؟
ولكن يبدو أن المدافِعات عن حقوق المرأة اجتمعن فقط للتأكد على (ضرورة
كسر المحرمات من أجل النهوض بوضع المرأة) ! . كما عبرت إحدى المجتمِعات
ولكن بالطبع النهوض بها كما يريدون.
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
__________
(1) انقسمت أعمال المؤتمر بعد الجلسة الافتتاحية إلى ست حلقات عمل: ثلاث في الفترة الصباحية: موضوع الأولى عن (المشاركة السياسية للمرأة) ، تحدثت فيها د فاطمة العبدلي (الكويت) وإصلاح جاد (جامعة بيرزيت فلسطين المحتلة) ، والثانية عن (المرأة والعائلة وقوانين الأحوال الشخصية) ، شاركت فيها أمينة المريني (المغرب) ، وأسماء خضر (الأردن) ، والثالثة حول (العنف ضد النساء) تكلمت فيها ناولا درويش (مصر) ، وفي المساء كانت هناك ثلاث حلقات عمل أخرى: الأولى عن (جرائم الشرف في الأردن) تحدثت فيها كل من أسماء خضر وفادية فقير (مركز الدراسات الإسلامية في جامعة دورهام) ، والثانية حول موضوع (المرأة والخطاب الثقافي) تحدثت فيها زليخة أبو ريشة (جامعة أكستر) وريم كيلاني (مغنية شعبية فلسطينية) ، والثالثة حول (الحركة النسوية الإسلامية) ، حاضرت فيها البروفسور هالة أفشر (جامعة يورك) ، وفي الجلسة الختامية تحدثت ميرفت رشماوي عن (عالمية حقوق الإنسان وحقوق المرأة) .(151/4)
إشراقات قرآنية
[يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه
أجمعين. أما بعد:
فعنوان هذه المقالة آية عظيمة من كتاب الله عز وجل يذكِّر الله سبحانه عباده
فيها بشأن القلوب وأعمالها وسرائرها مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم، كما ينبه
الله عز وجل من خلال هذه الآية إلى أن هذه السرائر ستبلى وتُختبر يوم القيامة،
ويظهر ما فيها من الإخلاص والمحبة والصدق أو ما يضادها من النفاق والكذب
والرياء؛ وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب؛ وهذا واضح من الآية وما
قبلها وبعدها؛ حيث يقول الله عز وجل: [إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ] (الطارق: 8-10) . والقلب هو محط
نظر الله عز وجل وعليه يدور القبول والرد كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن
الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [1]
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة فإنه يفسد بفسادها أقوال العبد وأعماله
وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذاً بالله تعالى، ويوضح هذا الأمر قوله صلى
الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» [2] . ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية
رحمه الله تعالى عن وهب من قوله: «ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من
السريرة؛ فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجر مع عرقها العلانية
ورقها والسريرة عِرقها، إن نُخِرَ العرق هلكت الشجرة كلها ورقها وعودها، وإن
صلح صلحت الشجرة كلها: ثمرها، وورقها؛ فلا يزال ما ظهر من الشجرة في
خير ما كان عرقها مستخفياً لا يُرى منه شيء؛ كذلك الدين لا يزال صالحاً ما كان
له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته؛ فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة
كما ينفع عِرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قِبَلِ عرقها فإن فرعها
زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تزين الدين
وتجمِّله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل» [3] .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: [يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ] (الطارق: 9) : «وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أن
الأعمال نتائج السرائر الباطنة؛ فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً،
فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياءاً، ومن كانت سريرته فاسدة كان
عمله تابعاً لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة
وشيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته فيوم القيامة
تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها» [4] .
وقال أيضاً في تفسير: قوله تعالى: [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] (الطارق: 9)
أي: تختبر، وقال مقاتل: تظهر وتبدو. وبلوتَ الشيء إذا اختبرتَه ليظهر لك
باطنه، وما خفي منه. والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين
عبده في ظاهره وباطنه لله؛ فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتختبر
ذلك اليوم، حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم
يكن له. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «يبدي الله يوم القيامة كل سر
فيكون زيناً في الوجوه، وشيناً فيها. والمعنى: تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار
مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم» [5] .
مما سبق يتبين لنا عِظَمُ شأن القلب وخطورة السريرة؛ حيث إنها محط نظر
الله عز وجل وعليها مدار القبول عنده سبحانه وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن
الخاتمة وسوؤها، وكلما صلحت السريرة تمت الأعمال الصالحة وزكت ولو كانت
قليلة، والعكس من ذلك في قلة بركة الأعمال حينما تفسد السريرة ويصيبها من
الآفات ما يصيبها، وهذا هو الذي يفسر لنا تفوُّق أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم ممن قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادة
وقربات؛ حيث إن أساس التفاضل بين العباد عند الله عز وجل هو ما وقر في
القلب من سريرة صالحة مطابقة لما ظهر في العلانية من أعمال وأقوال.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «أنتم أطول صلاة وأكثر
اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أفضل منكم قيل
له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم» [6] .
وعن القاسم بن محمد قال: «كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر
ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه
الشهرة: إن كان يصلي فإنا لنصلي، ولئن كان يصوم فإنا لنصوم، وإن كان يغزو
فإنا لنغزو، وإن كان يحج فإنا لنحج؟ قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام
ليلة نتعشى في بيت؛ إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح،
فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من
الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد
السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة» [7] .
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب وإصلاح السرائر كثيرة
ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل والخوف منه وإخلاص العمل له
سبحانه ومن ذلك:
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «القوة في العمل أن لا تؤخر عمل
اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرةٌ علانيةً، واتقوا الله عز وجل؛ فإنما التقوى
بالتوقي، ومن يتق الله يقه» [8] .
* وعن عثمان رضي الله عنه قال: «ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله
على صفحات وجهه وفلتات لسانه» .
* وعن نعيم بن حماد قال: «سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيت أحداً
ارتفع مثل مالك: ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة» [9] .
* وعن خالد بن صفوان قال: «لقيتُ مَسْلَمَة بن عبد الملك فقال: يا خالد!
أخبرني عن حَسَن أهل البصرة. قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم: أنا جاره
إلى جنبه وجليسه في مجلسه وأعلم من قِبَلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية،
وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر
بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً
عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك! كيف يضل قوم هذا
فيهم؟» [10] .
* وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: «ابن آدم! لك قول وعمل، وعملك
أوْلى بك من قولك، ولك سريرة وعلانية؛ وسريرتك أوْلى بك من علانيتك» [11] .
* وعن ابن عيينة رحمه الله تعالى قال: «إذا وافقت السريرة العلانية فذلك
العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية
أفضل من السريرة فذلك الجور» [12] .
* وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال: «قيل لحمدون بن أحمد:
ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس
ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق» [13] .
* ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فكل محبة لغيره فهي عذاب على
صاحبها وحسرة عليه إلا محبته ومحبة ما يدعو إلى محبته ويعين على طاعته
ومرضاته؛ فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر» [14] .
ونكتفي بهذه المقتطفات من وصايا السلف في إصلاح السرائر لنتعرف على
بعض العلامات الدالة على صلاح السريرة وسلامة القلب؛ ومنها نعرف ما يضادُّها
من المظاهر التي تدل على فساد في السريرة ومرض في القلب، ومن هذه
العلامات:
1 - العناية بأعمال القلوب ومنها: إخلاص الأعمال والأقوال لله عز وجل
ومحاولة إخفائها عن الناس وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس.
ويضاد ذلك: الرياء وإرادة الدنيا بعمل الآخرة وحب الظهور.
2 - التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها ويضاد
ذلك: الكبر والعجب والولع بنقد الآخر.
3 - الإنابة إلى الدار الآخرة والتجافي عن الدنيا والاستعداد للرحيل وحفظ
الوقت وتدارك العمر. ويضاد ذلك: الركون إلى الدنيا وامتلاء القلب بهمومها
ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة وقلة ذكر الله عز وجل وتضييع الأوقات.
4 - سلامة القلب من الحقد والغل والحسد. ويضاد ذلك: امتلاؤه بهذه
الأمراض.
5 - التسليم لأمر الله عز وجل وأمر رسوله # دون: لماذا؟ وكيف؟ ويضاد
ذلك: الولوع بالمتشابهات والخواطر الرديئة.
6 - الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله جل
وعلا ومحبة كل داعية إلى الخير والحق والدعاء له والتعاون معه على البر
والتقوى. ويضاد ذلك: القعود عن تبليغ دين الله عز وجل وعدم الاهتمام به، بل
إذا صفا له مأكله، ومشربه ومسكنه وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل فلا يهمه بعد ذلك
شيء، وقد لا يقف الأمر في فساد السريرة عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى
مناصبة الداعين إلى الحق العداء أو التشهير بهم والتشكيك في نواياهم ومحاولة
إحباط جهودهم الخيرة.
7 - شدة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرة
بالتوبة والإنابة من الذنب. ويضاد ذلك: ضعف الوازع الديني وقلة الخوف من الله
جل وعلا؛ بحيث إذا خلا بمحارم الله عز وجل انتهكها، وإذا فعل معصية لم يتب
منها بل أصر عليها وكابر وتبجح.
8 - الصدق في الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانة وإنفاذ الوعد، وتقوى
الله عز وجل في الخصومة، فكل هذه الخصال تدل على صلاح في السريرة؛ لأن
أضداد هذه الصفات إنما هي من خصال المنافقين الذين فسدت سرائرهم كما أخبر
بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً،
ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر،
وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» [15] ، ويدخل في ذلك ذو الوجهين الذي يلقى
هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
9 - قبول الحق والتسليم له من أي جهة كان ويضاد ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل واتباع الهوى في ذلك.
ويحسن في نهاية هذه المقالة الإشارة إلى بعض الثمرات العظيمة لصلاح
السريرة وذلك فيما يلي:
1 - نزول الطمأنينة والسكينة في قلب من صلحت سريرته، وثباته أمام فتن
الشبهات والشهوات وابتلاءات الخير والشر.
2 - إلقاء المحبة لمن صلحت سريرته بين الناس مما يكون له الأثر في قبول
كلامه ونصحه وأمره ونهيه.
3 - حسن الخاتمة؛ حيث ما سُمِعَ ولا عُلِمَ ولله الحمد بأن صاحب السريرة
الصالحة والقلب السليم قد ختم له بسوء؛ وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته
وباغته الموت قبل إصلاح الطوية.
4 - القبول عند الله عز وجل يوم القيامة ومضاعفة الحسنات وتكفير السيئات قال الله عز وجل: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً]
(الطلاق: 5) ، وقال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ] (المائدة: 27) .
5 - تفريج الكربات وإعانة الله عز وجل للعباد عند حدوث الملمات
والضائقات كما حصل لأصحاب الغار.
6 - الهداية إلى الحق والتوفيق إلى الصواب عندما تحتار العقول والأفهام.
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 2564.
(2) رواه البخاري، ح/50.
(3) حلية الأولياء، 4/70.
(4) بدائع التفسير، 5/185.
(5) المصدر السابق.
(6) صفة الصفوة، 1/420.
(7) المصدر السابق، ص 4/ 145.
(8) سير أعلام النبلاء، 2/572.
(9) المصدر السابق، 8/ 97.
(10) المصدر السابق، 4/ 576.
(11) مدارج السالكين، 1/436.
(12) صفة الصفوة، 2/234.
(13) المصدر السابق، 4/122.
(14) روضة المحبين، ص 280.
(15) رواه البخاري، كتاب الإيمان (34) ، ومسلم (58) واللفظ له.(151/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تقديس البشر
(1 - 2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين.
«الله ابتعثنا لنُخرِجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا
إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا نبيُّه إلى خلقه لندعوهم
إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نُفضي إلى
موعود الله» [1] .
بهذه الكلمات واجه ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه رستم الفارسي، ولم يكن
ربعي بن عامر بذلك الخطاب شجاعاً مقداماً فحسب، بل كان ذكياً فطناً يدرك أحوال
مخاطبيه؛ فإن الفرس قد أُولِعوا بتأليه «الأكاسرة» وتقديسهم؛ فلذا قال ربعي:
«الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله» .
ويُعَدُّ الغلو في الأشخاص وتقديسهم من الظواهر القديمة في تاريخ البشرية،
ولا تزال هذه الظاهرة جاثمة في العصر الحاضر بهيئات متنوعة وصور شتى.
وتُعنى هذه المقالة بالحديث عن مظاهر تأليه البشر [2] ، وبواعث تلك الظاهرة
وعلاجها.
إن مظاهر تأليه البشر كثيرة يتعذر حصرها، لكن يمكن أن نشير إلى أهم
الأصناف التي غلب على الناس تأليهها وتقديسها، وهم: العُبَّاد، والعلماء،
والسلاطين.
يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوء ورهبانُها
وسيكون الحديث عن تلك الأصناف الثلاثة ومظاهر الغلو والتأليه لهم. فأما
الصالحون فيجب محبتهم وولايتهم والإقرار بكراماتهم.
لكن الكثير من الناس قد أفرط في محبتهم، وغالى فيهم حتى عبدوهم من دون
الله تعالى كما وقع من قوم نوح عليه السلام.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:
[وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً]
(نوح: 23) . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما
هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها
وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم
عُبِدت.
وغلب على النصارى تأليه البشر وتقديسهم، فزعموا أن عيسى عليه السلام
ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما زعمت يهود أن
عُزَيْراً ابن الله، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ
إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (النساء: 171) .
وقال عز وجل: [وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ
اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ] (التوبة: 30) .
وما فتِئ الشيطان يزيّن لأتباعه عبادة الصالحين حتى آل بهم إلى عبادة أقوام
يدَّعون لهم الوَلاية وهم من أعظم الناس فسقاً وفجوراً.
ومن ذلك ما كان يفعله بعض أهل نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد
الوهاب رحمه الله عند قبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب؛ حيث
كان يخرج إلى بلدان نجد، ويضرب عليهم خراجاً من المال، فإن أعطي ما أراد
انصرف، وإلا عاداهم وحاربهم، فصاروا يأتون قبره، ويستغيثون به عند حلول
المصائب [3] .
وحكى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ما
عليه بعض المصريين تجاه أحمد البدوي فقال: «كما جرى لأهل مصر وغيرهم،
فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يُعرَف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة، ومع هذا صار أعظم آلهتهم، مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة
فبال فيه، ثم خرج ولم يصلِّ» [4] .
وما زال الشيطان يؤزُّهم إلى حضيض الشرك، حتى أوقعهم في ادعاء
الربوبية لأولئك البشر، وأن الخلق والتدبير بأيديهم.
وكما يقول العلاَّمة حسين بن مهدي النعمي واصفاً حالهم: «وحاصل معتقدهم
أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت.. ومن ذلك: أن حياً من أهل البوادي إذا
أرسلوا أنعامهم للمرعى قالوا: في حفظك يا فلان، يعنون ساكن مشهدهم.
ومنهم من يخاطب الولي بزعمه، فيقول: يا خالق الولد الذي تخلقه مطهوراً
ولقد تجاسر بعض العامة فقال: والله! أما الولي فإنه يحيي الموتى، أما الولي
فلان فإنه حي لا يموت» [5] .
ومن أشهر الطوائف التي نُعتت بتأليه العُبَّاد وتقديسهم: الرافضة والصوفية.
فأما الرافضة فقد جعلوا الإيمان بإمامة الإثني عشر شرطاً في قبول الإيمان،
واعتقدوا أن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم، وزعموا أن تراب قبر الحسين
شفاء من كل داء، وأمانٌ من كل فقر « [6] .
وأما الصوفية فقد قال بعضهم: من قال لشيخه: لِمَ؟ فقد هلك، وزعموا أن
مشايخ الطرق» يُسَلَّم «إليهم حالهم فلا نقاش ولا اعتراض!
يقول أبو الوفاء بن عقيل في الردّ عليهم:» وليس لنا شيخ نُسلِّم إليه حالَه؛
إذ ليس لنا شيخ غير داخل في التكليف، ولو كان لنا شيخ يُسلَّم إليه حاله، لكان
ذلك الشيخ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وقد قال: إن اعوججتُ فقوِّموني، ولم
يقل: فسلِّموا إليَّ « [7] .
ومن مظاهر تأليه البشر وتقديسهم عند الصوفية: سجود المريد للشيخ.
يقول ابن القيم عن ذلك الشرك:» ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ،
فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون، ليس هذا سجوداً،
وإنما هو وضع الرأس قُدَّام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء: ولو سميتموه
ما سميتموه؛ فحقيقة السجود وضع الرأس لمن يُسجد له، وكذلك السجود للصنم،
وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه « [8] .
لقد برع الصوفية في استعباد الأتباع والمريدين، وجعلوا منهم جيلاً موطَّأ
الظهر لكل معتد ومستعمر، فزعم أرباب السلوك الصوفي أنهم يسعون إلى
استئصال الغرور من الأنساب، فأذهبوا الغرور، ثم أذهبوا أيضاً عزة النفس، ثم
ذهبت كذلك الشخصيات الحرة المستقلة [9] .
وقد سمَّى الشيخ الغزالي رحمه الله ذلك الصنيع» تمارين على الذل «فكان
مما قاله:» إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على
التواضع بشتى الطرق المهينة؛ فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة
وترفُّع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر
نفسه، وينخفض رأسه؛ وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب!
ولم يَدرِ المغفَّلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا
الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين [10] الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم
وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها « [11] .
وأما الصنف الآخر وهم العلماء فقد وقع كثير من الأتباع في التأليه لعلمائهم،
فاتخذوهم أرباباً من دون الله تعالى فأطاعوهم في تحليل ما حرّم الله تعالى، وتحريم
ما أحل الله تعالى وقلدوهم وأعرضوا عن الدليل، بل عارضوا النصوص الشرعية
بآرائهم وأقيستهم؛ ففي حديث عدي بن حاتم وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه
وسلم وذلك قبل أن يُسِلمَ وكان نصرانياً، فسمعه يقرأ هذه الآية: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) ، فقال عدي: إنا لسنا نعبدهم،
قال: أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلُّون ما حرم الله فتحلونه؟ فقال
عدي: بلى، قال: فتلك عبادتهم» [12] .
فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام
وتحريم الحلال، فاتبعوا أولئك الأحبار والرهبان في هذا التبديل.. وقد ذكر الله أن
ذلك شرك في قوله سبحانه: [لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ...
(التوبة: 31) [13] .
وساق الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بسنده أن ربيعة شيخ الإمام مالك
اضطجع مقنِّعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر وشهوة خفية،
والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم
به ائتمروا [14] .
يقول الشيخ العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي في الفرق بين تقليد العلماء وبين
اتِّباعهم: «لا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب
الله ورسوله وتقديمها على كل قول، وعلى كل رأي، كائناً ما كان. فمن قلدهم
التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم فهو المخالف لهم، المتباعد عن
طاعتهم» [15] .
فالتقليد: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، والاتِّباع: ما ثبت عليه حجة [16] .
ومما يجدر ذكره «أن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها؛
لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات،
لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب
الحجة، ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله
عز وجل: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) » [17] .
ومن الغلو في العلماء: اتباعهم في زلاتهم وعثراتهم، وقد حذر السلف
الصالح من ذلك أيما تحذير؛ فعن زياد بن جرير قال: قال لي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم،
وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين [18] .
قال ابن القيم رحمه الله: «والعالم قد يزلُّ ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم؛ فلا
يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذمه كل
عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله، وذلك أصل بلاء المقلدين
وفتنتهم» [19] .
كما ينبغي التحذير من اعتراضات علماء السوء على شرع الله تعالى، وكما
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وأحبار السوء وهم العلماء الخارجون عن
الشريعة يعترضون بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرّم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد
ما أطلقه ونحو ذلك» [20] .
والمقصود أن نسلك الوسطية تجاه أهل العلم، فلا بد من توقيرهم ومحبتهم
والانتفاع بعلومهم، ونحذر من التفريط فيهم أو انتقاصهم أو التطاول عليهم، كما
نحذر من الغلو فيهم وتأليههم.
وأن يُعنى بفقه أهل العلم المعتبرين وفهمهم لنصوص الشريعة، فيحتج
بفهومهم لنصوص الشريعة لا أن يحتج بكلامهم على نصوص الشريعة.
كما يتعيّن على العامة ومن في حكمهم أن يسألوا من يوثق بعلمه ودينه، وأن
يحذروا من يتبع الرخص وانتقاء آراء العلماء التي تتفق مع شهواتهم؛ فإن الله
تعالى بالمرصاد، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
واللهَ اللهَ في الحذر من علماء السوء ورؤوس الضلالة الذين يُلبِسون الحق
بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
وننتقل إلى صنف الملوك، وما حصل من تأليههم واتخاذهم أوثاناً تُعبَد من
دون الله تعالى فاستعبد أولئك الملوك سائر البشر طوعاً وكرهاً، وما وقعوا فيه من
تسلط واستبداد.
وتأليه الحكام ظاهرة قديمة في حياة البشر، فكانت الأكاسرة ملوك الفرس
يدّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم بوصفهم آلهة،
ويرونهم فوق القانون وفوق الانتقاد وفوق البشر، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل
إنسان، وليس لإنسان حق عليهم [21] .
ومثال آخر: ما يجري في بلاد الهند من الطبقية الجائرة بين أصناف الهنود؛
فلقد كان نظام الطبقات في الهند أشد قسوة واستهانة بكرامة الإنسان من سائر
الأنظمة، فكانوا يجعلون «البراهمة» الطبقة الممتازة، وأنهم صفوة الله، وهم ملوك
الأرض، وأن ما في العالم هو ملك لهم؛ فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض [22] .
وكان تقديسهم هذا النظام الطبقي البغيض مانعاً لهم من الدخول في دين
الإسلام كما قال البيروني (ت 440هـ) : «وللهند في أيامنا من ذلك أوفر
الحظوظ [23] حتى إن مخالفتنا إيّاهم وتسويتنا بين الكافة إلا بالتقوى أعظم الحوائل
بينهم وبين الإسلام» [24] .
ومع تهافت هذه الوثنية السياسية عند الفرس والهند، إلا أن هذه الأمة قد
تتبعت سنن تلك الأمم الغابرة، فوقعت في تأليه الملوك والغلو فيهم.
ومن ذلك: دعوى أن الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائله وغاياته [25] ،
مع أن الإمامة ليست مقصودة لذاتها، بل إن المقصود منها وكذا جميع الولايات
أن يكون الدين كله لله عز وجل وإصلاح دين الخلق.
قال الطيبي في شرحه لحديث «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» :
«في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبه لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه
المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه» [26] .
وقال ابن القيم رحمه الله: «وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر» [27] .
ومن مظاهر تأليه الملوك: طاعتهم في كل شيء، ودعوى أنه لا حساب
عليهم ولا عذاب! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكثير من أتباع بني أمية أو
أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم
على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم
بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير.
وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز فجاء إليه
جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه إذا ولَّى اللهُ على الناس
إماماً تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات.
ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقاً وأن من
أطاعه فقد أطاع الله؛ ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال:» طاعة شامية « [28] .
ومن مظاهر ذلك الغلو: ما يفعله ملوك الجور من الاعتراض على الشرع
المنزّل بالسياسات الجائرة وتقديمها على حكم الله ورسوله، وتعطيل شرع الله
وعدله وحدوده [29] .
قال أبو الفرج ابن الجوزي في بيان أن ذلك الاعتراض من تلبيس إبليس
وكيده:» إنه يحسِّن لهم العمل برأيهم فيقطعون من لا يجوز قطعه، ويقتلون من لا
يحل قتله، ويوهمهم أن هذه سياسة. وتحت هذا المعنى أن الشريعة ناقصة تحتاج
إلى إتمام ونحن نتمها بآرائنا، وهذا من أقبح التلبيس؛ لأن الشريعة سياسة الإلهية
[30] ومحال أن يقع في سياسة الإله خلل يحتاج معه إلى سياسة الخلق، قال الله
تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] (الأنعام: 38) ، وقال: [لاَ مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ] (الرعد: 41) ، فمدعي السياسة مدعي الخلل في الشريعة، وهذا يزاحم
الكفر « [31] .
وصدق ابن الجوزي رحمه الله فقد أكمل الله تعالى هذا الدين، وأتم النعمة،
ونزّل كتابه تبياناً لكل شيء، وعلّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته كل شيء، فلا
حاجة إلى تلك السياسات الجائرة فضلاً عن تقديمها على الشرع المطهر.
وهذه السياسات إنما ظهرت بسبب الإعراض عن شرع الله والتفريط في اتِّباع
دين الله تعالى كما كشف ذلك ابن تيمية بقوله:» وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً
من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو
قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب
والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم العدل الذي شرعه الله، لما احتاجوا إلى
المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد
والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء
بعض الأقاليم « [32] .
ومن صور المبالغة والغلو في الملوك: نعتهم بالألقاب الرنانة، والأوصاف
المفتعلة التي تخرجهم عن دائرة البشر وتضفي عليهم تأليهاً وتقديساً.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:» إن أخنع اسم عند الله رجل
تسمى ملك الأملاك؛ لا مالك إلا الله « [33] .
فما بالك بمن تجاوز ذلك بمراحل! كما في رسالة كتبها السلطان سليمان
القانوني؛ حيث قال:» سلطان السلاطين، وملك الملوك، ومانح الأكاليل لملوك
العالم، ظِلُّ الله في الأرض، باشاده، سلطان البحر الأبيض والأسود.. و.. .
و.. وبلاد شتى فتحها أسلافنا العظام، وأجدادنا الفخام بقواتهم الظاهرة، وكثير من
البلاد التي أخضعتها عظمتي الملوكية بسيفي الساطع « [34] .
لقد كان العامة فضلاً عن الخاصة في العصور السابقة يمقتون تلك المبالغات
في الألقاب، حتى أن جلال الدين لما لقب بـ (شاهنشاه) أي ملك الملوك سنة
429 هـ وأمر الخليفة بذلك، فخطب له به، فنفر العامة ورموا الخطباء
بالآجُرِّ [35] .
وقد سطّر شيخ الإسلام ابن تيمية فتوى متينة في شأن الألقاب، وخلاصتها ما
يلي:» وأما الألقاب: فكانت عادة السلف الأسماء والكنى.. وكان الأمر على ذلك
في القرون الثلاثة، فلما غلبت دولة الأعاجم لبني بويه صاروا يضيفون إلى الدولة
فيقولون: ركن الدولة، عضد الدولة.. ثم بعدها أحدثوا الإضافة إلى الدين وتوسعوا
في هذا، ولا ريب أن ما يصلح مع الإمكان هو ما كان السلف يعتادونه من
المخاطبات والكتابات؛ فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه، وإن اضطر إلى المخاطبة
خوفاً من تولُّد شر إذا عدل عنه، فليقتصر على مقدار الحاجة.
ولا ريب أن هذه المحدَثات المنكرة التي أحدثها الأعاجم، وصاروا يزيدون
فيها فيقولون: عزّ الملة والدين، وعزة الملة والحق والدين، وما أكثر ما يدخل في
ذلك من الكذب المبين، بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضدّ ذلك الوصف، والذين
يقصدون هذه الأقوال فخراً وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم الله ويسلّط
عليهم عدوهم « [36] .
ويعلِّق الشيخ محمد الغزالي على ألقاب سليمان القانوني قائلاً:» ليس
للسلطان سليمان ولا لغيره من الحكام أن يضيفوا إلى أسمائهم هذه المجموعة الفريدة
من الألقاب المفتعلة والأوصاف التي أُخِذَ أكثرها من الصفات الإلهية المقدسة إلى أن
قال: والتجرد من ألقاب القداسة ومظاهر الأبهة قصد به الإسلام أن يجعل من
الحاكم رجلاً يؤخذ منه ويرد عليه، وتنقد تصرفاته كلها، فما كان منها صواباً أُقِرَّ،
وما كان منها من خطأ رُدَّ عليه ولا كرامة.
والدول التي نضجت كرامتها السياسية ألغت الألقاب إلغاءاً تاماً.. أما في
الشرق فلا تزال الألقاب تحكم على الناس بالهوان وتحكم على أصحابها بالغرور،
ومن الواجب فك آصارها ومحو أغلالها.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(1) البداية والنهاية، لابن كثير، 7/39.
(2) كتب الباحث محمد لوح رسالة علمية مطبوعة لنيل شهادة الماجستير بعنوان: (تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي) كما كتب الباحث ثامر الغشيان رسالة علمية غير مطبوعة لنيل درجة الماجستير.
بعنوان «غلو الأمم في معظميها وأثره على الطوائف الإسلامية» ، وقد استفدت من الرسالة الأخيرة.
(3) انظر تاريخ ابن غنام، 1/13.
(4) قرة عيون الموحدين، ص 114.
(5) معارج الألباب، ص 170، 173، 179 = باختصار.
(6) انظر أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، 2/ 425 503.
(7) تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص 21.
(8) مدارج السالكين، 1/344، وانظر: زاد المعاد، 4/159 161.
(9) انظر: الإسلام والطاقات المعطلة لمحمد الغزالي، ص 7.
(10) بشتى صوره وألوانه، ويدخل في ذلك أذنابهم وعملاؤهم وهم كثير، لا كثَّرهم الله.
(11) تأملات في الدين والحياة، ص 173.
(12) أخرجه الترمذي، ح/ 3095، والبيهقي، 10/116، وحسنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 7/67.
(13) انظر مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 7/67، 70.
(14) أخرجه في جامع بيان العلم وفضله، ص 114، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، ج 2، 1/203.
(15) أضواء البيان، 7/519.
(16) انظر المرجع السابق.
(17) جامع بيان العلم لابن عبد البر، ج2، ص 114، 115.
(18) أخرجه الدارمي في السنن، ح/216.
(19) إعلام الموقعين، 2/ 192.
(20) شرح الطحاوية، 1/235، وانظر مدارج السالكين، 2/70، والصواعق المرسلة، لابن القيم، 3/1051.
(21) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي، ص 40.
(22) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي، ص 49، 52.
(23) يشير إلى شدة عنايتهم وحرصهم على تلك الطبقية.
(24) تحقيق ما للهند من مقولة، ص 74.
(25) كما ظن الرافضة ومن تأثر بهم، انظر مقدمة منهاج السنة النبوية، لابن تيمية.
(26) فتح الباري، 13/113.
(27) الطرق الحكمية، ص 217.
(28) المنهاج، 6/430.
(29) انظر: مدارج السالكين، 2/71، والصواعق المرسلة، 3/1051، وشرح الطحاوية، 1/ 235.
(30) هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: الإله، كما تدل عليه العبارة التالية لها.
(31) تلبيس إبليس، ص 146.
(32) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/98.
(33) أخرجه البخاري ومسلم.
(34) نقلاً عن كتاب تأملات في الدين والحياة لمحمد الغزالي، ص 25.
(35) انظر المنتظم لابن الجوزي، 15/264، وذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، 2/84.
(36) فتوى في الألقاب والقيام، تحقيق صلاح الدين المنجد.(151/12)
دراسات في الشريعة والعقيدة
مُرَاعَاةُ الخِلافِ في الاجْتِهَادِيّات
دراسة أصولية
عبد الرحمن بن معمر السنوسي
ما استجدّت في واقعنا الحوادث والنّوازل؛ وقفزت بنا المتغيّرات إلى جديدٍ
من القضايا إلاّ هُرِعَتْ إلى بحثها وبيان الحكم فيها أعدادٌ وفيرةٌ من أساتذتنا وباحثينا، وقام لتحقيق الحقّ فيها متخصّصون فضلاء؛ ممّا يبعث على الاسترواح
والاستبشار بالصّحوة الإسلاميّة التي هي ملء السّمع والبصر.
والمتفحّص في كثير من تلك الدّراسات والبحوث؛ رغم ما يسرّه من مستوى
علميّ وتدقيق معرفيّ: هذا المتفحِّص واجدٌ في بعضها ما يُحْوِجه إلى تَمَثُّلِ المنهج
السّليم في تناول القضايا الاجتهاديّة والنّوازل المستحدَثة.
ولئن كان من الأسس المنهجيّة الواضحةِ عند أهل السّنّة والجماعة إزاء مسائل
الاجتهاد رعي [1] الخلاف فيها احتياطاً أو اجتناباً أو امتثالاً؛ إلاّ أنّ هذا الأصل
الأصيل يُدلف [2] إلى الضّمور والاضمحلال في كثير من دراساتنا المعاصرة؛
بسبب تلك الهوّة الشّادهة [3] بين المتقدّم والمتأخّر، علاوة عن افتقار الأمّة إلى
انتصاب القدوات، خاصة مع استشراء الأهواء.
ولقد أحببتُ أن أتناول في هذه الدّراسة المتواضعة هذه المسألة التي لم تُفرَد
بدراسة مستقلّة حتّى الآن حسب اطّلاعي القاصر رغم خطرها وارتباطها بالجانب
العمليّ من جوانب العمل الإسلامي المعاصر.
أولاً: تعريفها:
أ - لغةً: المراعاة من راعيتُ الشيء رَعْياً ومراعاةً «لاحظته محسناً إليه؛
والأمرَ: نظرتُ إلامَ يصير» [4] .
والخلاف والمخالفة: أن يأخذ كلُّ واحد طريقاً غير طريق الآخر [5] .
ب - اصطلاحاً: عُرّفت المراعاة بعدة تعريفات لا تسلم من مآخذ، ولعل
أحسنها تعريف ابن عرفة رحمه الله في حدوده: «إعمالُ دليل [المخالف] في لازم
مدلوله الذي أُعمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر» [6] .
مثال ذلك: إعمالُ مالك رحمه الله دليلَ مخالفه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار؛
في لازم مدلول ذلك المخالف ومدلوله عدم الفسخ الذي هو ثبوت الإرث بين
الزوجين المتزوجين بالشغار عند موت أحدهما، وهذا المدلول الذي هو عدم الفسخ
أعملَ مالكٌ رحمه الله في نقيضه الذي هو الفسخ أعملَ دليلاً آخر يقتضي الفسخ
عنده.
لكن تعريف ابن عرفة رحمه الله لا يشمل كل صور المراعاة المذكورة؛ لأن
تخصيصها بالمعنى المتقدم لا يتجاوز بها المعنى المتواضَع عليه [7] عند متأخري
المالكية.
وأوْلى منه أن يُقال: مراعاة الخلاف: «اعتبار خلافِ الغير بالخروج منه
عند قوة مأخذه بامتثال مقتضى ما اختُلِفَ فيه» .
ثانياً: موضوعها:
أما موضوع مراعاة الخلاف بالمعنى العام فهو: التصرفات المختلَف في
حكمها الدائر بين الاقتضاء والمنع من حيث تحقيقها لمقصود الشارع.
ومنشؤها: احتمال التورط في نقيضِ مقصودِ الشارع بفعلِ ما هو خلاف
الأوْلى مطلقاً [8] .
ثالثاً: رعي الخلاف في المذاهب الأربعة:
نصَّ غير واحدٍ من العلماء على أن مشروعيتها ثابتةٌ بالإجماع [9] .
وما دام تتبُّع ذلك عند سائر العلماء متعذّراً؛ نظراً لاستحالة الإحاطة بأقوال
الجميع؛ فإنّ الاقتصار على حكم ذلك في المذاهب الأربعة المشهورة يغني عن كل
تتبّع واستقراء.
وتجدرُ الإشارة إلى أن أكثر المذاهب أخذاً بهذه القاعدة وتعويلاً عليها:
المالكية والشافعية، ثم الأحناف والحنابلة.
أما في مذهب مالك رحمه الله فاعتمادها في بناء كثير من الفروع مشهور
معلوم. قال الشاطبي رحمه الله: «وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل
كثيرة» [10] .
قال أبو العباس ابن أبي كف رحمه الله: [11] .
أما في مذهب الشافعي رحمه الله فقد نَصَّ أئمّة مذهبه على مشروعية البناء
على رعي الخلاف واستحبابه. قال البدر الزّركشيّ رحمه الله: «يُستحَبُّ الخروج
منه أي الخلاف باجتناب ما اختُلف في تحريمه وفعل ما اختُلف في وجوبه» [12] .
وجعل ابن السّبكي رحمه الله اطِّراح الخلاف بـ «الخروج أفضل..
واعتماده من الورع المطلوب شرعاً» [13] .
أما في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فقد صرح ابن عابدين رحمه الله في
حاشيته باستحباب رعي الخلاف؛ حيث أفرد لها مطلباً خاصاً فقال: «مطلب في
ندب مراعاة الخلاف» [14] .
كما صرح به أيضاً الملاَّ علي القاري رحمه الله في مواضع من «المسلك
المتقسّط» [15] .
وقد صلَّى أبو يوسف القاضي رحمه الله بالناس الجمعة يوماً مغتسِلاً من الحمَّام، فلما تفرقوا أُخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام؛ فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قُلَّتين.. إلخ [16] .
أما في مذهب الإمام أحمد رحمه الله فيجد الدارس نماذج كثيرة تدل على ذلك؛
منها ما ذكره ابن قُدَامة رحمه الله بخصوص وقت صلاة الجمعة عند الحنابلة وأنها
تُصلَّى قبل الزوال عندهم خلافاً للجمهور؛ حيث قال: «فالأوْلى أن لا تُصلى إلا
بعد الزوال ليخرج من الخلاف» [17] .
وفي «باب رد الشهادة» من كتاب كشَّاف القناع قوله: «إن من عمل في
الفروع المختلَف فيها عند الأئمة اختلافاً شائعاً كمن تزوَّج بلا ولي أو بلا شهود، أو
شرب من النبيذ ما لا يسكر، أو أخَّر الزكاة، أو حج متأوِّلاً أو مقلِّداً لمن يرى حِلَّه: لم تُرَدَّ شهادتُه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع؛ وقَبِلوا
شهادة كل مخالف لهم فيها، ولأنه اجتهاد شائع لا يُفَسَّق به المخالف كالمتَّفَق
عليه» [18] .
وفيما نُقِلَ عن الإمام أحمد رحمه الله يجد الباحث نماذج عالية تدل على
اعتباره رحمه الله لخلاف الأئمة المتقدمين، وورعه إزاء المسائل الخلافية في
الفروع.
ذكر أبو داود رحمه الله في مسائله عنه في باب «نقض الوضوء من مس
الذكر» قال: «قلت لأحمد: فرجل لا يرى من مس الذكر وضوءاً؛ أصلي خلفه
وقد علمت أنه مس؟ قال: نعم!» [19] .
رابعاً: الغاية من رعي الخلاف:
إن التصرف بباعث الخروج من الخلاف لا ينشئه المكلف لمعرفة الحكم؛
ولكن لتنجيزه [20] والخروج من عهدته، ويتذرع به إلى إيقاع تصرفه على وجه
متيقَّن لا يعصف الشك بساحته؛ فهو وسيلة إلى الامتثال المحقق؛ لا طريق إلى
معرفة الحكم.
فالغاية التي يصدر عنها المحتاط في حال خروجه من الخلاف: هي الورع
والاستبراء للدين؛ لكونهما متعلق براءة الذمة والخروج من العهدة، والعمل بالورع
غير محتاج إلى استدلال لبداهة استحبابه في الشرع، لا سيما إذا كان في امتثال
الأوامر والنواهي.
وثمة ملحظ آخر يلتحق بهذا الأصل؛ وهو أن من المقاصد العليا والغايات
العظمى التي يلتفت إليها ههنا هي: تضييق هوة الخلاف بين المذاهب الفقهية؛
فكثيراً ما أحدثت هذه الخلافات شروخاً في وحدة المسلمين، وخلَّفت جراحات لا
تؤسى [21] ، وَفِتَناً عظيمة وعاها التاريخ وشهد بها الواقع.
وبقَدْر ما في اختلاف الفهوم والأنظار من خير ونفع؛ وما في تعدد المذاهب
من ثراء وسَعة فإن فيها من دواعي الفرقة وأسباب التشتت ما يأسى له القلب
ويحزن.
ولا شك أن الخلاف الفقهي في ذاته لا ينتهض [22] لإحداث الفرقة، وإنما
تتسبب الفرقة عن ضيق الصدور، واستحكام الهوى، والتعصب للرأي.
خامساً: مشروعيتها وأصلها من الدين:
1 - مستندها النقلي: من أمثلة مراعاة الخلاف ما ثبت عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان عُتبة بن أبي وقاص عَهِدَ إلى أخيه سعد بن
أبي وقاص أن ابنَ وليدةِ زَمْعَةَ مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه
سعد، وقال: ابنُ أخي، قد كان عهد إليّ فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي
وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه؛ فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
سعد: يا رسول الله! ابن أخي قد كان عَهِدَ إليّ فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي
وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك
يا عبد بن زمعة» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش،
وللعاهر الحَجَر» ثم قال لسودة بنت زمعة: «احتجبي منه» لِمَا رأى من شبهه
بعتبة بن أبي وقاص، قال: فما رآها حتى لقي الله! « [23] .
ووجه الاستدلال بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى الحُكْمَيْن معاً، أي حكم الفراش وحكم الشَّبَه، أما مراعاته لحكم الفراش فلإلحاقه الولد بصاحبه وهو زمعة، وأمّا مراعاته لحكم الشبه فلأمره سودة رضي الله عنها بنت صاحب الفراش بالاحتجاب من الولد الملحَق به [24] .
ويشهد لهذا الأصل من حيث معناه العام قصة الصحابي الجليل عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه لما صلَّى خلف عثمان رضي الله عنه بمنى مُتِمّاً؛ رغم
مخالفته له ومراجعته إيّاه في ذلك؛ ولما سئل عن ذلك قال:» الخلاف شر « [25] .
2 - مستندها الأصولي:
أ - تخريجها على الاستحسان: وَجْهُ انتزاعها منه [26] : أن مقتضى القياس
أن يجري المجتهد على وفق دليله ويحكم بمقتضى اجتهاده الذي أداه إليه الظن
الغالب الموجِب للعمل، فلا يترك قولَه ودليلَه لِيَصِيرَ إلى قول الغير ودليله.. هذا
هو الأصل.
غير أنه يعدل عن ذلك فيُهمِلُ العملَ بمقتضى قوله ودليله من وجهٍ لِيُعْمِلَ دليل
غيره المرجوح عنده.
وموجب هذا العدول: هو رجحان دليل المخالف في لازم مدلوله، وعلى هذا
فهو ليس تاركاً لاعتقاده في قوله ودليله ولا مطَّرحاً له بالكلية؛ بل قصاراه أنه امتثل
على وفق دليل غيره في جهة يكون رأي الغير أرجح فيها، أو اختار الأشقّ مع
اعتقاده صحّة الأخفّ، وهو كما ترى عُدول يُسنده النّظر الحازم والرأي السديد.
ب - تخريجها على» المناسب الملائم «: والمقصود من ذلك بالضبط:
اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم؛ فإن جنس الشبهة مؤثر في جنس الترك
والاجتناب؛ إذ جنس الوصف الذي هو» الاختلاف «مؤثر في جنس الحكم الذي
هو الاجتناب المصطلح عليه هنا» بالمراعاة «أو» الخروج «: لما في التورط
فيه من احتمال مواقعة الحرام أو تفويت الامتثال الواجب الذي يناسبه فعل الأشق
من الأمرين؛ إما بالترك وإما باستيعاب محتملات التكليف.
فعلى هذا يكون الخروج من الخلاف من المصالح التي أمر الشرع بتحصيلها
كما ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله [27] .
ج - تخريجها على» اعتبار المآل «: وهو مختص بحالة ما بعد الوقوع كما
سيأتي؛ فإنه ربما أفتى المفتي بفساد الفعل ابتداءاً، فإذا وقع عاد إليه بالإنفاذ
والاعتبار، وهو نوع من الالتفات إلى الأمر الواقع والبناء عليه بعد تجديد النظر
في المسألة؛ بحيث يصير التصرف بعد وقوعه معتبراً» وشرعياً بالنظر لقول
المخالف، وإن كان ضعيفاً في أصل النظر؛ لكن لما وقع الأمر على مقتضاه
روعيت المصلحة « [28] .
ومنه ما يجري في تصحيح العقود إذا كان فسادها مختلَفاً فيه؛ كقولهم: كل
نكاح فاسد اختُلِفَ فيه فإنه يثبت به الميراث ويفتقر في فسخه إلى الطلاق؛ لأنه بعد
وقوعه تعلق به مصلحة كل من الزوجين والأولاد والورثة.
ومنه أيضاً قولهم: إذا دخل المصلي مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسياً
تكبيرة الإحرام، فإنه يتمادى مع الإمام ولا يقطع مراعاة لقول من قال: إن تكبيرة
الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام [29] .
سادساً: حكم مراعاة الخلاف:
تكاد تجتمع كلمة القائلين برعي الخلاف على أنها مستحبة؛ قال الزركشي
رحمه الله:» يستحب الخروج منه أي الخلاف باجتناب ما اختُلِفَ في تحريمه
وفعل ما اختُلِفَ في وجوبه « [30] .
وقال الملا علي القاري رحمه الله:» الخروح الخلاف مستحب بالإجماع « [31] .
ويقول الراعي الأندلسي رحمه الله:» وأما استحباب الخروج من الخلاف
فمسلَّم حيث أمكن « [32] .
والاستحباب في هذا الباب» استحباب مقدّمي «لتعلقه برعي الخلاف من
حيث هو مقدمة للمستحب الأصلي ووسيلة إليه لا أنه هو عين الحكم المطلوب
أصالة.
كما أن الحكم باستحباب الخروج من الخلاف إنما يتمشى مع الأصل فيه، وإلا
فإن ثمة حالات يخف فيها الطلب أو يتأكد؛ وهي مجال بحث الناظر المتمرِّس
واجتهاده.
سابعاً: أحوال مراعاة الخلاف:
أكثر الأئمة القائلين برعي الخلاف لا يقيدونه من حيث فعله بحالة دون
أخرى؛ وإنما ينضبط عندهم بحسب قوته ووجاهته.
ويفرِّق كثير من العلماء المالكية بين حالة» ما قبل الوقوع «و» حالة ما
بعده «؛ فمنهم من يراعيه قبل حصول الفعل؛ نظراً لأصل البراءة والاحتياط من
التورط في الشبهة، ومنهم من يراعيه بعد الحصول؛ التفاتاً إلى المصلحة واعتباراً
للمآل الذي يتقوَّى حياله دليل المخالف.
والحق أن تقييد الاعتبار بإحدى الحالتين دون الأخرى غير مُتَّجَه في النظر؛
لأن مناط الاعتبار إنما هو قوة المأخذ ووجاهته في الخلاف؛ وذلك غير مقصورٍ
على حال دون حال؛ لوجدانه في كليهما كما هو مشاهَد في فروع القاعدة.
الحالة الأولى: قبل الوقوع: وصورتها: أن يظهر للمجتهد بعد اجتهاده قوة
مأخذ مخالفه وصحة مُتَمَسَّكِهِ؛ بأن يكون مقتضاه آتياً على وفق الاحتياط، أو محققاً
لمصلحة شرعية ظاهرة كائنةٍ في جهة الأخف: فيمضي حينئذ على اجتهاد مخالفه؛
مرجحاً لمقتضاه ومقرِّراً لظهوره ابتداءاً؛ بحيث يجوز الامتثال على وفقه قبل
الشروع في الفعل والامتثال.
وممن ذهب إلى هذا القول المراعاة قبل الوقوع أبو عبد الله المقري [33] وأبو
عثمان العقباني رحمة الله عليهما.
ومن مسائل هذه الحالة: قول المالكية بكراهة الوضوء بالماء المستعمل في
رفع الحدث؛ مراعاةً لمن قال ببطلان التطهر به [34] .
ومن مسائله أيضاً: ما سبق نقله عن ابن قُدامة رحمه الله بخصوص استحباب
صلاة الجمعة بعد الزوال عند الحنابلة رغم تجويزهم صلاتها قبله.
الحالة الثانية: بعد الوقوع: وصورتها: أن يرجِّح المجتهد في المسألة مثلاً
دليلَ الحظر والمنع ابتداءاً، فإذا وقع الفعل بخلافه: راعى دليل غيره المرجوح
عنده لوجه يقتضي رجحان دليله في تلك الحالة؛ كاستحقاق المرأة المهرَ والميراثَ
عند المالكية إذا تزوجت بغير ولي؛ فإن مالكاً رحمه الله مع قوله بفساد النكاح دون
ولي يراعي الخلاف عند نظره فيما يترتب عليه بعد الوقوع؛ إذ التّفريع على
البطلان الراجح عنده يؤدي إلى مفسدة وضرر أقوى من مقتضى النَّهي على ذلك
القول.
ويشهد لهذا التقرير ما ثبت في قصَّة الأعرابي البائل في المسجد [35] ، فهو
مع كونه واقعاً منهيّاً عنه على وجه القطع وهو البول في المسجد؛ إلا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتّى يُتِمَّ بوله لما في قطعه عليه من الأضرار
والمفاسد، وكان يحصل من تقويمه من محله الذي بال فيه مع ما حصل من تنجيس
المسجد تنجيسُ ثيابه وبدنه ومواضع أخرى من المسجد، ولأصابه من ذلك في بدنه
مرض للاحتباس المفاجئ في بوله.
ثامناً: شروط مراعاة الخلاف:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي المدرك: أي يكون مأخذ المخالف فيما
ذهب إليه قويّاً بحيث لا يُعدّ هفوة أو شذوذاً؛ ومن ههنا لم يُرَاعَ خلاف أبي حنيفة
رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين [36] ، وكذلك
إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد [37] ، ومنه أيضاً ما نقل
عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية [38] .
الشرط الثاني: أن لا تؤدي إلى صورة تخالف الإجماع: أي أن لا يلزم من
رعي الخلاف خرق للإجماع وإلاَّ حُرِّمَ؛ كمن تزوج بغير ولي ولا شهود بأقل من
ربع درهم؛ مقلداً أبا حنيفة في عدم الولي ومالكاً في عدم الشهود والشافعي في أقل
من ربع درهم، فإن هذا النكاح لو عرض على الحنفي لا يقول به؛ وكذلك المالكي
والشافعي رحم الله الجميع [39] .
ومنه أيضاً ما نقل عن ابن سريج رحمه الله من الشافعية؛ أنه كان يغسل أذنيه
مع الوجه ويمسحهما مع الرأس ويفردهما بالغسل؛ مراعاة لمن قال إنهما من الوجه، أو الرأس، أو عضوان مستقلان: فوقع في خلاف الإجماع [40] .
الشرط الثالث: أن لا يترك المراعي للخلاف مذهبه بالكلية: إذا لزم من
رعي الخلاف ترك المجتهد أو الناظر لقوله ودليله جملة فإن ذلك خارج عن مسمى
مراعاة الخلاف؛ وإنما هو تقليد للغير بعد الاجتهاد والنظر؛ وجل العلماء على منعه.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذهب ممكناً: فإن لم يكن كذلك؛ فلا
يترك الراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح؛ لأن الجمع بين المتناقضين متعذر عقلاً.
مثاله: قول بعض الشافعية أن من تقدم بقراءة الفاتحة وجب عليه إعادتها؛
فإن القائل بهذا لا يمكن معه مراعاة القائل بأن تكرار الفاتحة مرتين مبطل! إلا أن
يخص البطلان بغير العذر [41] .
الشرط الخامس: قيام الشبهة: [42] لأنه إذا توافر العلم بصحة الحكم ووجه
انتزاعه من دليله فالمصير إلى قول المخالف مراعاةً له غير متَّجَه؛ كما أن عبادة
الله بمؤدى الاجتهاد التام أوْلى من عبادته بالاحتياط العام؛ لليقين في الأول ومطلق
التفويض في الثاني.
والسياق هنا مختص بحالة ما قبل الوقوع لا غير، وثمة حالة تُستثنى من هذا
العموم: وهي حال التورع في التروك؛ فإنها لا تُقَيَّد بقيام الشبهة ولا يُطلَب عليها
دليل؛ لأن الورع لا يتوقف على وروده.
هذا وقد اشترط التاج السبكي والسيوطي عليهما رحمة الله لرعي الخلاف أن
لا يخالف سُنَّةً ثابتة [43] ، والحقُّ أن ذلك مستغنى عن ذكره؛ لاندراج مخالفة السنة
ضمن المواضع التي يُنقَض فيها الاجتهاد.
تاسعاً: أهمية مراعاة الخلاف في العمل الإسلامي المعاصر:
من الهموم المُمِضَّة التي تؤرق المخلصين من أبناء الدعوة ظاهرة الفرقة التي
تكاد أن تتأصل في مسيرتها الحالية، مما تسبب عنه كثير من الآلام، وتولدت منه
عوامل ضعف أربكت حيويتها، وبعثرت جهودها، وسرَّت أعداءها.
وبدل البحث عن عناصر الائتلاف والاجتماع رحنا نؤصِّل لذلك التفرق،
ونلتمس له التعليلات والمسوِّغات، ووصل بنا الحد في بعض الحالات والمواقع إلى
فَقْدِ أساليب التعايش السلمي» على الأقل «.
إن قلة الورع، وغياب الرؤية العلمية المتكاملة، وإيثار» مصالح الكيان «
على المصالح العليا؛ هي أسباب حقيقية لواقعنا المزري، وإذا أردنا الخروج منه
لنحقق الوثب إلى الآفاق الرحبة التي هي أمل الجميع فعلينا أن نعالج تلك الأسباب
نفسها.
وينبغي أن يكون واضحاً في أدبيات الصحوة الإسلامية أن الحوار البنَّاء
المبني على الرغبة في الخروج من الخلاف؛ هو مفتاح الخلاص من حالة التدهور
والتخلف الذي كرسناه بأنفسنا. ولئن كان الوصول إلى تحقيق هذه القناعة عسيراً
فيما يبدو؛ فإنه لا بد أن تسبقه مرحلة التأصيل لهذه الكليات المعرفية والأخلاقية في
الوقت نفسه بتكريسٍ دؤوبٍ يجعلها فيما بعدُ من المسلَّمات التي تأخذ مكانها في
الوجدان العام للصحوة، وحينها تنفسح أمامنا فرص التفوق والنصر والتمكين بإذن
الله.
__________
(1) رعي الخلاف: مراعاته.
(2) يدلف: يتوجه رويداً رويداً.
(3) الشادهة: المدهشة المحيرة.
(4) القاموس (رعي) .
(5) بصائر ذوي التّمييز للفيروز آبادي، 2/ 562.
(6) الحدود بشرح الرّصّاع، 1/ 263، ولفظة [المخالف] زيادة للتّوضيح؛ لأنّ الإضمار مرّتين يضاعف الغموض.
(7) المعنى المتواضَع عليه: أي المتَّفَق عليه.
(8) عُبِّرَ بلفظ» مطلقاً «ليدخل في حكم القاعدة فعلُ الأخفّ مع ترك الأحوط إن كان فيه معنى الاحتياط من جهة أخرى؛ كأن يكون فعل الأحوط مُوقِعاً في فتنة أو فرقة أو نحو ذلك.
(9) ينظر: شرح صحيح مسلم للنّووي، 2/ 23، والمسلك المتقسّط في المنسك المتوسّط، لعلي القاري، ص 88.
(10) الاعتصام 2/ 145، والجواهر الثّمينة للمشّاط، ص 237، وفي كتاب النّكاح فقط من شرح التّلقين لابن بزيزة» مخطوط «نصّ على نحو من عشرين مسألة بنيت على رعي الخلاف، وانظر على سبيل المثال هذه المواضع من» عقد الجواهر الثّمينة «لابن شاس: 1/ 8، 75، 136، 170، 171 وانظر إن شئت: إيضاح المسالك للونشريسي، ص 154، والإسعاف بالطّلب، للتّواتي،
ص 51.
(11) قواعد مذهب مالك» مخطوط بالمسجد النّبويّ « (ق / 108/ ب) .
(12) المنثور في القواعد: 2 / 127.
(13) الأشباه والنّظائر للسّبكي: 1 / 112.
(14) ردّ المحتار: 1 / 147.
(15) المسلك المتقسّط، ص 88، 96، 105.
(16) الإنصاف للدّهلوي، ص 71.
(17) المغني، 2 / 358؛ إفادة من فضيلة أستاذنا الدكتور سليمان بن عبد الله العمير حفظه الله.
(18) كشاف القناع: 6 / 342.
(19) مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود، ص 12، وانظر نماذج أخرى عنه في: حجة الله البالغة: 1/ 158 159.
(20) تنجيز الأمر: فعله والإسراع بإنجازه.
(21) لا تؤسى: لا تداوى ومنها: الآسي: وهو الطبيب.
(22) لا ينتهض: أي لا يصل إلى أن يكون سبباً.
(23) أخرجه البخاري، 5/ 278 في الوصايا: باب قول الموصي لوصيه: تعاهَدْ ولدي، ومسلم (1457) في الرضاع: باب الولد للفراش، ومالك واللفظ له: 4/ 23 بشرح الزرقاني.
(24) وانظر أدلة أخرى في الاعتصام، للشاطبي، 2/ 148 فما بعدها.
(25) أخرجه أبو داود (1492) في المناسك: باب الصلاة بمنى، ومنه أيضاً امتناعه صلى الله عليه وسلم عن تجديد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وكفه عن قتل المنافقين، وقصة الأعرابي البائل في المسجد.
(26) وجه انتزاعها منه: أي دليل استنادها إلى الاستحسان.
(27) قواعد الأحكام: 2/ 14.
(28) هامش الموافقات للشيخ دراز: 4/151.
(29) المقدمات الممهدات لابن رشد: 1/ 160.
(30) المنثور في القواعد: 2 / 127.
(31) المسلك المتقسط، ص 88.
(32) انتصار الفقير السالك، ص 301، وانظر أيضاً: البحر المحيط للزركشي: 8 / 311، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 151، الإسعاف بالطلب للتواتي، ص 72، والمعيار المعرب للونشريسي، 6 / 379 381.
(33) القواعد للمقري: 1/ 236.
(34) ينظر: شرح الرصاع على الحدود: 1/ 263، وبه صرح في شرح مختصر خليل (ق / 16 / ب) » مخطوط بخزانة جدي رحمه الله «.
(35) أخرجه البخاري: 1/ 65 في الوضوء: باب يهريق الماء على البول، ومسلم: 1/ 236 في الطهارة: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد.
(36) ينظر: المنثور، للزركشي: 2 / 129.
(37) ينظر: رد المحتار: 6/ 528.
(38) ينظر: المنثور، للزركشي: 2 / 130، والأشباه والنظائر، للسبكي: 1/ 38.
(39) الدليل الماهر الناصح، للولاتي، ص 80، والجواهر الثمينة، للمشاط، ص 236.
(40) المنثور، للزركشي: 2 / 131.
(41) المنثور في القواعد: 2 / 132، وحاشية القواعد، لسراج الدين العبادي (ق/59/أ) مخطوط بالمكتبة الأزهرية رقم (869 / 22432) .
(42) لم يشترطه القائلون برعي الخلاف؛ وحاصل كلامهم يقتضيه.
(43) الأشباه والنظائر للسبكي: 1 / 112، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 152.(151/20)
تأملات دعوية
الناس كالإبل المائة
محمد بن عبد الله الدويش
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» [1] .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: «قال الخطابي: تأولوا هذا
الحديث على وجهين: أحدهما: أن الناس في أحكام الدين سواءٌ لا فضل فيها
لشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة التي لا يكون فيها
راحلة وهي التي ترحل لتركب، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة، أي كلها حمولة
تصلح للحمل، ولا تصلح للرحل والركوب عليها. والثاني: أن أكثر الناس أهل
نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً؛ فهم بمنزلة الراحلة في الإبل المحمولة،
ومنه قوله تعالى: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 187) » .
ورجح الثاني الأزهري، والنووي، والقرطبي، وغيرهم.
ولا شك أن المعنيين ثابتان بأدلة أخرى، ومرادنا هنا المعنى الثاني، وسواء
أكان هو المراد بهذا الحديث، أم المراد غيره فهكذا شأن الناس؛ فالقليل منهم هو
الذي يُعتمَدُ عليه، وأكثرهم دون ذلك.
وفي هذا المعنى وقفات عدة:
الوقفة الأولى: أن على الدعاة والمربين الاعتناء بالعناصر الفاعلة المتميزة؛
إذ هم قليل في الناس، عزيزٌ وجودهم، وأثر استجابتهم للدعوة لا يقاس بأثر
غيرهم.
ولهم في ذلك أسوة حسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: «اللهم
أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب» [2] .
وقد كان السلف يُعنَوْن بأمثال هؤلاء؛ ومن صور هذه العناية ما رواه
الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال: كان ابن أبي حسين المكي
يدنيني، فقال له أصحاب الحديث: نراك تقدم هذا الغلام الشامي وتُؤْثِرُه علينا؟
فقال: إني أؤمِّله. فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر: إذا جمع الطعام
أربعاً فقد كمل، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة، فسألني عن ذلك، فقال لي: كيف
حدثتكم؟ فقلت: حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا كان أوله
حلالاً، وسُمِّيَ عليه الله حين يوضع، وكثُرت عليه الأيدي، وحُمِدَ الله حين يُرفَع.
فأقبل على القوم، فقال: كيف ترون؟ [3] .
الوقفة الثانية: حين يدرك الداعية والمربي هذا المعنى يدعوه ذلك لأن يكون
واقعياً فيما يطلبه من الناس وينتظره منهم؛ فالناس لن يكونوا كلهم رواحل، ولا
يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس جميعاً أن يصلوا إليها.
الوقفة الثالثة: حين نرى صورة واقعية من أحد من الناس، فلا يسوغ أن
نتخذها نموذجاً نقارن الآخرين به، وننتظر منهم أن يصلوا إلى ما يصل إليه. ومن
الصور الشائعة في ذلك ما يصنعه بعض الآباء مع أبنائه، أو بعض المعلمين مع
طلابه حين يعجب بأحدهم فينتظر من الآخرين أن يكونوا مثله، وأن يصلوا إلى ما
وصل إليه.
الوقفة الرابعة: ليس معيار الاختلاف بين الناس قاصراً على القدرات العقلية
والذهنية وحدها؛ فهم يتفاوتون في تحملهم للأعباء، وفي جديتهم، وفي تضخيمهم
للمخاطر، وفي قدراتهم النفسية.. .. إلخ هذه العوامل، وهي كلها مما لا بد من
أخذه في الاعتبار.
الوقفة الخامسة: إدراك هذا المعنى يجعل المسلم عالي الهمة، متطلعاً للمزيد،
ينظر في العلم والصلاح إلى من هو فوقه، ولا ينظر إلى من هو دونه.
__________
(1) رواه البخاري (6498) ، ومسلم (2547) .
(2) رواه أحمد (5363) ، 2/95، والترمذي (5681) .
(3) الجامع، 1/312.(151/28)
دراسات تربوية
التربية بترسيخ الأهداف
محمد عبد الله محمد آل عباس
إن القارئ المتابع لأحوال المجتمعات الإنسانية اليوم ليعجب أشد العجب لشتى
صور الانحراف التي سادت العالم اليوم التي تمثل أصدق تعبير لما يسود العالم من
جاهلية معاصرة؛ فالجاهلية ليست محددة بفترة معينة من التاريخ مضت إلى غير
رجوع؛ وإنما هي صور وأوضاع ومظاهر يمكن أن تظهر في أي جيل وأي عصر. إن الجاهلية المقصودة ليست مقابل العلم أو الحضارة أو التقدم المادي؛ فالقرآن
الكريم لم يقل إن العرب كانوا في جاهلية؛ لأنهم لا يعرفون الفَلَك وعلم الطبيعة وإلا
لكان البديل لمثل هذا الجهل معلومات في تلك العلوم التي أصابها التخلف
والجهل [1] ، وإنما كان البديل للجاهلية التي كانت عليها البشرية قبل الرسالة هو الإسلام.
وَلِتَفَهُّمِ الجاهلية التي جاء الإسلام بديلاً عنها لا بد من فهم معنى الإسلام. إن
الإيمان بالإسلام إيماناً حقاً يبلغ أغوار النفس، ويحيط بكل جوانبها من إدراك
وإرادة ووجدان، وهو كذلك عمل جسدي تؤديه الجوارح كما شرع الله؛ فالإسلام
عقيدة وسلوك جاء ليصحح العقائد التي كانت منحرفة والتصورات عن الإله والكون
والحياة. وجاء أيضاً ليصحح السلوكيات المنحرفة التي انبعثت من عقائد منحرفة؛
ولذلك كان هدف الدعوة الإسلامية الأول هو تصحيح العقيدة باعتبارها المنطلق لبناء
الشخصية المسلمة.
العقيدة والهدف والسلوك:
إن الارتباط بين عقيدة الإنسان وأهدافه وسلوكياته ليبدو وثيقاً؛ فما أهداف
الإنسان إلا تعبير ذهني عن عقيدته، وما سلوكه إلا تعبير عملي عن أهدافه.
فالأهداف على هذا تمثل الرابط الفكري بين سلوكيات المرء وعقيدته.
فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا يؤمنون باليوم الآخر.
[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ] (سبأ: 7-8) .
فكان من أثر انحراف هذه العقيدة انحراف في أهداف الإنسان تمثَّلَ في اعتبار
هذه الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة إذا لم يكسبها الإنسان ذهبت إلى غير رجعة،
فانكب على الحصول على الملذات تعبيراً في سلوكه عن أهدافه والحصول على
المحرمات والألقاب الزائفة حتى لو كان عن طريق النهب والسلب والقتل؛ فهذا
(طرفة بن العبد) يقول في معلقته:
ألا أيهذا اللائمي أن أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذَّات هل أنت مُخْلدي؟
لذلك جاء الإسلام ليصحح العقائد والسلوكيات عن طريق ربط كل منهما
بالأهداف؛ فقد رفع الإسلام أهداف الإنسان وتسامى بها من أهداف دنيوية زائلة إلى
أهداف أبدية وخلود دائم؛ فقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس:
«يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» [2] .
ففيها إصلاح للعقيدة وإصلاح للهدف. وهكذا ركزت السور المكية القرآنية في
أول الدعوة على تصحيح العقيدة، وأن الله وحده الإله المتصرف في هذا الكون.
قال الله تعالى: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن
لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] (الإِخلاص: 1-4) .
وفي العقيدة أيضاً تصحيح هدف الإنسان الأسمى وذلك بجعله هو الفوز بالجنة
والنجاة من النار: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] (آل
عمران: 185) .
فتحديد الهدف من الأعمال المهمة لتصحيح السلوكيات ولذلك وجدنا الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من
قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» [3] . وفي هذا إلغاء لهدف كان
يعتبر من أسمى أهداف الجاهلية ألا وهو التعصب للقبيلة والنسب.
ولقد اتبع القرآن في توجيهاته أسلوب ربْط السلوك السوي الذي لا بد أن يكون
عليه المرء المسلم بالهدف الذي لا بد أن يسعى إليه، فكان ذلك تصحيحاً للهدف
والسلوك معاً قال تعالى: [إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ....... أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ]
(المعارج: 22-35) .
وقال تعالى: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً
دِهَاقاً * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً * جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً.
(النبأ: 31-36)
لذلك ظهر ذلك الجيل الذي تسامى فوق الأهداف الصغيرة والتطلعات
الدنيوية الحقيرة ليسعى نحو الهدف السامي عن طريق سلوك سوي لعمارة الأرض
كما شرع الله بعد أن امتلك عقيدة سوية.
قال شداد بن الهاد: «جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك. فأوصى به بعض أصحابه؛ فلما كانت
غزوة خيبر غنم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسمه وقسم للأعرابي، فأعطى
أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوا إليه، فقال: ما هذا؟
قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه، فجاء به النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: قسم قسمته لك. قال: ما على
هذا تبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت،
فأدخل الجنة. فقال: إن تَصْدُقِ اللهَ يصدقْكَ، ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأُتي به
للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: أهو هو؟ قالوا: نعم! صدق الله
فصدقه» ] 4 [.
وحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «قوموا إلى جنة عرضها
السماوات والأرض فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها
السماوات والأرض؟ قال: نعم! قال: بخ بخ. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله! يا رسول الله إلا رجاء أن
أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم قاتلهم حتى
قُتِلَ» ] 5 [.
وضوح تام في الهدف، وصدق في العقيدة أدى إلى وضوح وسلامة في
السلوك.
الجاهلية المعاصرة:
إن الجاهلية التي أصابت العالم اليوم بشقَّيْه: الإسلامي، وغير الإسلامي،
يمكن تقسيمها إلى نوعين:
- جاهلية عقائد.
- جاهلية أهداف.
جاهلية العقائد:
وهي التي تضرب آفاق العالم اليوم بما فيه الإسلامي وغير الإسلامي. فالعالم
غير الإسلامي بكفره البواح يؤكد على انحراف في العقيدة لا شك فيه، وهو الذي
أدى إلى انحراف في الأهداف ثم في السلوك.
إن التخبط الذي يعيشه الفرد غير المسلم إنما مردُّه إلى ضياع وتخبُّط في
أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها؛ فمن هدف قصير الأجل دنيوي لا يلبث بعد أن
يحققه أن يكتشف مدى استشراء الهشاشة فيه حتى يبحث عن هدف آخر إلى أن
تقوده تلك الأهداف الزائفة إلى الانتحار أو سوء الخاتمة.
وكذلك الدول والتي ليست في حال أحسن من أحوال أفرادها تعطي شعوبها
أهدافاً، وتسعى بكل جهدها لتحقيقها، ثم حينما تتحقق هذه الأهداف تنكشف
للشعوب مدى هشاشتها مما يجعل تلك الدول والحكومات تبحث عن أهداف وغايات
أخرى قبل أن تقوم هذه الشعوب الضالة بتغيير تلك الحكومات؛ فمن القضاء على
النازية إلى القضاء على الشيوعية، ثم النظام العالمي الجديد. فهذا (بيتر رايت)
وهو أحد كبار ضباط المخابرات البريطانية يصف فترة ما بعد الحرب العالمية
الثانية بقوله: «كان الشتاء قارساً، وأخذ الناس بالتذمر من حصص الغذاء،
وكانت نشوة الانتصار عام 1945م قد بدأت تتلاشى» ] 6 [، وما أبعد هذه الصور
عن قول ربعي بن عامر حين قال له رستم: ماذا جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا
لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة
الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
جاهلية الأهداف:
قبل التحدث عن جاهلية الأهداف يلزم توضيح ماهية الأهداف؛ فمعلوم أن
الهدف هو: القصد والغاية، والأهداف تنقسم إلى نوعين:
أولاً: أهداف ثابتة، وهي ما تسمى في علم الإدارة بالأهداف الاستراتيجية.
ثانياً: أهداف مرحلية أو قصيرة الأجل، وهي ما تسمى بالأهداف
التكتيكية] 7 [.
ولا بد أن تسير الأهداف المرحلية وتصاغ في ضوء الأهداف الثابتة؛ بحيث
لا تعارضها، وإن حدث أن عارض هدف مرحلي الهدف الثابت يجب فوراً إلغاء
الهدف المرحلي أو تصحيح مساره ليتناسب مع الهدف الثابت. فلو نظرنا إلى
مؤسسة تجارية فإن الهدف الثابت لها هو الربح وتوزيع أكبر عائد ممكن على
مُلاّكها، وقد يكون أحد الأهداف المرحلية لهذه المؤسسة هو فتح فرع في إحدى
المدن، فإذا كان تحقيق مثل هذا الهدف سوف يتسبب في إحداث خسائر لهذه
المؤسسة فإنه يجب استبعاده فوراً؛ لأنه يتعارض مع الهدف الثابت لهذه المؤسسة.
وفي حياة الإنسان المسلم هناك أهداف ثابتة وأخرى مرحلية؛ فالهدف الثابت له هو
الفوز برضوان الله تعالى ودخول الجنة والنجاة من النار وذلك بعد أن يمن الله عليه
برحمته جل وعلا.
وقد يخطئ من يعتقد أن هدف الإنسان هو عبادة الله. والحق أن عبادة الله
ليست سوى الوسيلة لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه الإنسان وهو المذكور سابقاً،
وسبب هذا الاعتقاد الخاطئ هو تفسير قوله تعالى:] وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ [ (الذاريات: 56) وذلك أن هذا هو غاية الله جل وعلا من خلق الإنس
والجن وليس في الآية ما يدل على أن ذلك هو هدف الإنسان، ومصداق ذلك في
قوله تعالى:] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [ (الدخان: 38) .
وقوله جل وعلا:] أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [ (المؤمنون: 115) .
بل إن هدف الإنسان لَيُوضحه جل وعلا بقوله:] لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ
فَوْزاً عَظِيماً [ (الفتح: 5) .
فتعبير فاز يدل على أن هذا هو ما يجب أن يسعى إليه الإنسان ويكون هدفه
في هذه الدنيا.
وأما الأهداف المرحلية فإنها تلك الأهداف التي يسعى الإنسان لتحقيقها في هذه
الحياة الدنيا مما ييسر عليه أمورها ويعينه على تحقيق هدفه الثابت. ومن هذه
الأهداف: السعي في طلب الرزق الحلال، وتحقيق الكسب الحلال، والزواج،
والسكن المريح. كل هذه الأهداف يجب ألا تتعارض مع الهدف الثابت للإنسان.
فجاهلية الأهداف: وهي التي تصيب بعض المجتمعات الإسلامية التي تسود
فيها عقائد سليمة على الأغلب، ولكن أهدافها تكون منحرفة وهي حالة شاذة جداً
عما ينبغي أن تكون عليه مجمل المجتمعات الإسلامية؛ فليست أهداف الإنسان إلا
محصلة عقائده. ولا شك أن التخبط والانحراف في تحديد الأهداف أو في ترتيب
أولويات الأهداف بحيث تصبح الأهداف الثابتة أهدافاً غير ذات بال والأهداف
المرحلية أو التافهة منها هي الأهداف الثابتة التي يسعى لها الإنسان، بمعنى أن
تكون الآخرة والحصول على رضوان الله جل وعلا أهدافاً غير ذات بال، وتكون
أهداف الدنيا الزائلة أهدافاً ثابتة يسعى لها الإنسان ويبذل في تحقيقها الغالي والنفيس؛ فما الذي يجعل أفراداً بل شعوباً من هذه الأمة تؤمن بالمفاهيم والأفكار الإسلامية،
ثم تسلك سلوكاً منحرفاً يقودها إلى غير ما ترشدها تعاليم دينها الحنيف إلا انحراف
في أهداف هذه الشعوب وهؤلاء الأفراد.
إن ظهور جيل من المسلمين له عقيدة سليمة يؤمن بالله واحداً أحداً، ويقوم
بكل واجبات دينه من صلاة وزكاة وصوم وحج، ثم يدعو إلى أكل الربا أو سفور
للمرأة، أو يجري وراء ملذات الدنيا وشهواتها حتى لو كانت سوف تلقي به في
جهنم ليؤكد على أن الانحراف الذي أصاب سلوك مثل هؤلاء مع صفاء عقائدهم إنما
مردُّه إلى انحراف في فهم أهداف هؤلاء؛ بحيث أصبحت الدنيا هي الهدف الأسمى، والآخرة هدفاً يليه إن تذكّرَه الإنسان.
التربية بترسيخ الأهداف:
وإذا آمنا بكل ما سبق فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: ما الذي
يجعل أهداف هذا الجيل (مع صفاء العقيدة) تنحرف عن الهدف السامي وتؤدي
بدورها: إلى انحراف في السلوك؟
وللإجابة على هذا التساؤل نعيد النظر في الحلقات الثلاث وهي:
العقيدة - الهدف - السلوك.
فالعقيدة التي هي الأصل؛ ويجب الاهتمام بها جيداً والتأكد من صفائها.
نراها في مثل هذا الجيل عقيدة سليمة؛ فهم يؤمنون بالله واحداً، واليوم الآخر،
والرسالات، والكتب، والملائكة، وبالقدر خيره وشره، وكل المغيبات من جنة أو
نار.
ثم نجد بعد هذا أهدافاً منحرفة بل أهدافاً تعارض الهدف السامي الذي يسعى له
الإنسان في هذه الدنيا وهو دخول الجنة والنجاة من النار؛ مما يؤكد على أن مثل
هذا الهدف لم يرسخ في قلوب أفراد هذه الفئة ترسيخاً يتلاءم مع ما تمليه به عقائدهم؛ وما ذلك إلا لوجود حلقة ضائعة بين العقيدة والهدف ألا وهي التربية؛ فلا يمكن
زرع عقيدة سليمة ثم لم ترسخ، ثم نطالب صاحبها بسلوك سوي إلا إذا ربطت
العقيدة والسلوك بهذا الهدف، وهكذا كان أثر القرآن والسنة النبوية في تربية الجيل
الأول.
وعليه فلا بد من إعادة تربية هذا الجيل وربطه بالهدف الحقيقي له، وإلغاء
كل هدف يتعارض معه. فعلى الآباء في المنازل تربية الأطفال على ذلك النهج،
وعلى الأساتذة في المدارس تربية الطلاب على هذا المنوال، وعلى الخطباء في
المساجد التركيز على إعادة صياغة الهدف في حياة الناس ليكون ذلك هو الهدف
الأسمى الذي إذا تعارض معه أي هدف من أهداف الدنيا غلب الهدف الأساس عليه؛ لأنه الأسمى ألا وهو دخول الجنة والنجاة من النار.
ولا يفوتني في ختام هذا المقال من التنبيه على مسائل مهمة في هذا البحث
وهي:
أولاً: دأبت كثير من الأفلام والقصص الموجهة للأطفال على أن يقوم بطل
الرواية أو القصة بالبحث عن أرض السعادة أو أرض الجمال؛ وهذا الأسلوب يمكن
اتباعه في تربية الأبناء والأطفال على أساس البحث عن الجنة وتجنب النار، وأن
الجنة هي أرض السعادة المنشودة الأبدية، ثم بعد ذلك يتم ربط سلوكيات الطفل بهذا
الهدف، ورسم صورة مشرقة في ذهنه عن الجنة وما فيها من ملذات، وعن النار
وما فيها من عذاب.
ثانياً: يجب تربية هذا الجيل وتصحيح أهدافه بداية من المدرسة؛ وذلك بربط
العقائد التي يدرسها والسلوكيات التي يتعلمها بالهدف الذي يجب أن يسعى إليه
وتصحيح تصوراته عن الجنة والنار بحيث تصبح أهدافاً يسعى إليها لا مجرد عقائد
نظرية فحسب.
ثالثاً: يتهاون كثير من الخطباء بمسألة التذكير الدائم بالجنة والنار وكذلك
أهوال يوم القيامة؛ وأرى أنه لا بد من التذكير بذلك؛ بحيث يتم توجيه الناس إلى
أن الهدف الحقيقي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق التذكُّر الدائم للجنة والنار،
فيجب عرض أهداف الدنيا عليه؛ فما عارضه فينبغي أن يستبعد فوراً.
قال تعالى:] وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ * ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ [ (مريم: 71-72) .
__________
(1) محمد قطب، جاهلية القرن العشرين، ص 9.
(2) رواه أحمد، ح/15448.
(3) رواه أبو داود، ح/ 4456.
(4) زاد المعاد، ج 3، ص 190.
(5) رواه مسلم، ح/ 3520.
(6) بيتر رايت، صائد الجواسيس، ترجمة عمادة القسوس، ص 14.
(7) انظر: حتى لا تكون كلاًّ، عوض القرني، ص 14.(151/30)
قضايا دعوية
تخريج العمالقة
د. عبد الرحمن آل عثمان
لقد اقتضت حكمة الباري جل وعلا أن خلق البشر وجعلهم متفاوتين في
الصور والهيئات والألوان، بَلْهَ القوةَ والضعف، والصحة والمرض، والغنى
والفقر، فضلاً عن التفاوت العظيم بينهم في الهمم والإرادات، والميول والرغبات،
والفهوم والمَلَكَات، كل ذلك لحِكَم عظيمة بها تقوم حياة الناس وتتحقق مصالحهم،
ويُسخَّر بعضهم لبعض، ومن ثَمَّ أيضاً يتفاوت حسابُهم بحسب ما أعطاهم الله تعالى
من الأَعْراض والمَلَكَات، كما قال تعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً] (الزخرف: 32) ، وقال سبحانه أيضاً في آخر الأنعام: [وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ]
(الأنعام: 165) .
وهذا التفاضل ينتج عنه تَمَايُزٌ في السعي والتحصيل في العلوم والصنائع،
ومن ثَمَّ يحصل التكامل الذي به تكون عمارة الأرض وبناء الحضارة؛ فهذا يكون
رأساً في العلوم الشرعية، وذاك نابغة في العلوم التجريبية، وثالث هَامَة في الفنون
القتالية، ورابع باقِعَة [1] في التدبير والسياسة.. . وهكذا.
وإنما هذه المهارات بمنزلة الزرع؛ فهو يقوى ويشتد، ويُؤتي ثماره المرجوة
بأمرين:
الأول: قابلية المحلّ.
الثاني: القيام عليه وتعاهده بالسقي والرعاية.
فهو عند اجتماع الأمرين يكون بمنزلة جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها
ضعفين، وإن لم يصبها وابل فيكفيها طَلٌّ حتى تُخرِج من كل زوج بهيج.
وبانعدام أحدهما لا يحصل المطلوب؛ ذلك أن من يحاول علماً لا يتناسب مع
ميوله وقدراته كمن يزرع جوز الهند في الأندلس كما قال ابن حزم أو النخيل في
أحد القطبين!!
وهكذا نَفَاسَة المعدن، وتوقُّد الذكاء، وقابلية المحل، لا تكفي من غير صقل
وتربية وعناية.
وعليه يقال: مقومات النبوغ والتفوق والإبداع بعد توفيق الله تعالى أربعة:
الأول: الإخلاص لله تعالى وتقواه، خاصة إذا كان العلم المطلوب شرعياً.
وقد جاء في بعض رسائل الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ) رحمه الله ما
نصه: «.. . ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد به، فيجد من يَشِبّ ويشيب
وهو يقرأ ولم يُحصِّل شيئاً لمانع قام به وحال من نفسه» [2] .
ولما وقعت عين الإمام مالك رحمه الله لأول مرة على الإمام الشافعي رحمه
الله وهو في أوائل الطلب قال له مالك رحمه الله: «إن الله عز وجل قد ألقى على
قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية» [3] . وفي رواية عند ابن عساكر: «فلما أن سمع
كلامي نظر إليَّ ساعة [4] وكان لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد،
فقال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن من
الشأن» [5] .
الثاني: توفر المَلَكَة والأهلية في ذلك الفن.
الثالث: أن يوفَّق إلى المربي الفطن الذي يتمكن من اكتشاف مواهبه والتفرس
في مَلَكَاته منذ مراحله الأولى، فيوجهه إلى تنمية تلك القُدرات، ويَكِلُه إلى من لديه
القدرة على صقلها وتقويتها.
الرابع: وجود البيئة الملائمة من التلاميذ الذين يتفقون معه في النبوغ والتفوق
من جهة، والأساتذة البارعين في هذا الجانب من جهة أخرى.
وإذا وقع الإخلال بشيء من ذلك فالنتيجة المنتظرة هي الفشل والضمور
والتضاؤل، ومن ثَمَّ تكون الثمرة: تخريج الأقزام بدلاً من العمالقة. والله المستعان.
ولعل من المناسب في هذا العصر الذي برز فيه الحديث عن الموهوبين أن
أنقل لك كلاماً لعَلَم من أعلام المسلمين في هذه القضية الحيوية، وهو الإمام
الشاطبي رحمه الله (ت 790هـ) حيث يقول في معرض كلامه على فروض
الكفاية: «وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في
الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]
(النحل: 78) ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما
يُلهَم الطفلُ الْتِقام الثَّدْي ومصَّه، وتارة بالتعليم؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع
ما يُستجلَب به المصالح وكافة ما تُدْرأ به المفاسد، إنهاضاً لما جُبِلَ فيهم من تلك
الغرائز الفِطْريَّة، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح
سواء كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب
الشرعية أو العادية وفي أثناء العناية بذلك يَقْوى في كل واحد من الخلق ما فُطر
عليه، وما أُلْهِم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويُبرِّز فيه
على أقرانه ممن لم يُهيأ تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمانُ التعقُّل إلا وقد نجم [6] على
ظاهره ما فُطر عليه في أوَّليَّته؛ فترى واحداً قد تهيَّأ لطلب العلم، وآخر لطلب
الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها، وآخر للصِّراع والنطاح، إلى
سائر الأمور.
هذا وإن كان كلُّ واحدٍ قد غُرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بدَّ في غالبِ العادة
من غَلَبة البعض عليه؛ فيردُ التكليفُ عليه معلَّماً مؤدَّباً في حالته التي هو عليها؛
فعند ذلك ينتهضُ الطلبُ على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهضٌ
فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها
ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام
بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه
من تلك الخُطط [7] ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من
أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدْركات الضرورية؛ فعند ذلك
يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.
فإذا فُرِضَ مثلاً واحدٌ من الصبيان ظهر عليه حسنُ إدراك، وجودة فهم،
ووفور حفظٍ لما يسمع وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف مِيل به نحو ذلك
القصد، وهذا واجبٌ على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يُرجى فيه من
القيام بمصلحة التعليم، فطلب بالتعلم وأُدِّب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد
أن يُمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويُعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نصَّ
عليه رَبَّانِيُّو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص،
وأحبَّه أكثر من غيره؛ تُرك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه
حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك
فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طُلب به؛ فُعل معه فيه ما فعل فيما قبله،
وهكذا إلى أن ينتهي.
كما لو بدأ بعلم العربية مثلاً فإنه الأحقُّ بالتقديم؛ فإنه يُصرَف إلى معلميها؛
فصار من رعيتهم، وصاروا هم رُعاةً له؛ فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما
يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعدُ إلى أن صار يحْذِقُ القرآن صار من رعيتهم، وصاروا هم رُعاةً له كذلك، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر
ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وَصْفُ الإقدام
والشجاعة وتدبير الأمور، فيُمال به نحو ذلك، ويُعلَّم آدابه المشتركة، ثم يصار به
إلى ما هو الأوْلى فالأوْلى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية،
أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض، وبذلك يتربى لكل فعلٍ هو فرضُ كفايةٍ قومٌ؛ لأنه سير أولاً في طريق مشترك؛
فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة،
وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات
الكفائية، وفي التي يَنْدُر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك
تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخر» [8] .
__________
(1) الباقعة: الرجل الداهية، والذكي العارف الذي لا يفوته شيء ولا يُدهى (القاموس، مادة: بقع) .
(2) مجموعة رسائل الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله، ص 112 (طبع دار الهداية الرياض) .
(3) مناقب الشافعي للبيهقي، ص 103، 104.
(4) ساعة: كناية عن إطالة النظر.
(5) مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور، 21/363.
(6) أي: ظهر انظر: «لسان العرب» (ن ج م) .
(7) أي: الأمور والأحوال انظر: «لسان العرب» (خ ط ط) .
(8) الموافقات، 1/284 286.(151/36)
حوار
حوار مع الشيخ محمد السيف
نترقب إحدى الحسنيين
الشيخ أبو عمر محمد بن عبد الله السيف من طلبة العلم الذين نفروا إلى الجهاد
في سبيل الله؛ وقليل هم الذين يُعنَون بالجهاد من طلبة العلم، وقليل من هؤلاء من
ينفر للجهاد في سبيل الله بنفسه، وقليل ممن ينفر بنفسه مَنْ يبقى ويستمر في ميدان
الجهاد ويثبت السنوات الطوال؛ فهم قليل من قليل من قليل.
وضيفنا نحسبه من هذا القليل؛ فقد تخرج في كلية الشريعة وتتلمذ لفضيلة
الشيخ ابن عثيمين. شارك في الجهاد في الحرب الشيشانية الأولى، وعند انتهاء
الحرب اشتغل بالدعوة والتعليم، فكان له دور في تأسيس المحاكم الشرعية في فترة
الاستقرار التي تلت الحرب الأولى من 1996م - 1999م تقريباً، وكان له دور
في نشر المنهج العلمي الشرعي؛ فقد أنشأ معهد القضاء الشرعي، ومعهد الإمام
الشافعي للدراسات الشرعية؛ ولما وقعت الحرب الثانية على أرض الشيشان بادر
للمشاركة في الجهاد، فكان أحد رموزه المؤثرة؛ حيث كان يشارك بنفسه ويحرض
المؤمنين ويعلمهم ويدعمهم الدعم المادي والمعنوي.
وقد أصيب عدة مرات في القتال، ولا يزال بحمد الله في صحة جيدة يقوم
على الثغور ويتحرك في العمليات. نسأل الله أن يوفقه وإخوانه، وأن ينصرهم
على القوم الكافرين، ويسعدنا في مجلة البيان أن يكون فضيلته ضيفنا في هذا اللقاء.
البيان: نريد أن تحدثنا عن الوضع القائم من حيث مناطق نفوذ المجاهدين
ومعنوياتهم وخطتهم العسكرية في هذه المرحلة؟
* الوضع القائم الآن جيد، والمجاهدون بصحة جيدة يتحركون نحو أهدافهم
بسهولة، وينتشرون في مناطق واسعة لا تحدهم حدود، ومعنوياتهم مرتفعة، ولله
الحمد؛ فهم يترقبون إحدى الحسنيين ولا يبالون بأيهما ظفروا: النصر أو الشهادة؛
فعلى الرغم من التضحيات الكثيرة التي قدمت وشدة القتال وضراوة المعركة وما
يملكه العدو من إمكانات عسكرية ضخمة إلا أن هذا كله زادهم إصراراً وتصميماً
على مواصلة الطريق نحو الهدف الأسمى، وهم يرتقون ذروة سنام الإسلام
ويتراءى لهم قول الله جل وعلا: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 139-141) .
وأما الخطة العسكرية في هذه المرحلة فهي القيام بعون الله تعالى بحرب
عصابات شاملة ومفاجئة للعدو في جميع أنحاء البلاد وفي كل مكان يمكن الوصول
فيه للقوات الروسية، وهذه تحتم كثرة التنقل وعدم الاستقرار في مكان واحد لمدة
طويلة وعدم المحافظة على المواقع، بل يضرب العدو في موقع ثم نفاجئه في موقع
آخر.
البيان: ما وضع الروس والمناطق التي يسيطرون عليها ومعنوياتهم؟ وما
الفرق بين الجيش والأمون؟
* الروس مع ما يملكون من قدرات عسكرية ضخمة إلا أنهم يعانون من تدني
الروح المعنوية؛ حيث يساقون قسراً إلى مواقع القتال وهم يبكون وقد سيطر عليهم
الرعب، ولا يدرون من أين يأتيهم المجاهدون؛ حتى وصل الحال ببعضهم إلى
الانتحار؛ فقد عُثِرَ على ضابط انتحر في مكتبه في إحدى نقاط التفتيش، وعثر
على بعض الجنود وقد انتحروا في آلياتهم.
ولا يسيطر الروس إلا على الأرض التي تحت أقدامهم، وأما سائر أرجاء
الشيشان فلا يملكون السيطرة عليها؛ حيث يتحرك المجاهدون ويتنقلون في المناطق
التي تزعم القوات الروسية السيطرة عليها.
والفرق بين الجيش والأمون: أن قوات الأمون هي الشرطة الخاصة التابعة
لوزارة الداخلية، ويتلقى أفرادها تدريباً خاصاً وعناية وتجهيزاً متميزاً، وأعمار
أفرادها يبدأ بعد الخامسة والعشرين، وعملها تفتيش القرى، ووضع نقاط التفتيش
في الطرق، ومكافحة الإرهاب على حد زعمهم. أما الجيش فمهمته الرئيسة القتال
والقصف بالطيران وإنزال المظليين.
وبين الجيش والأمون خلافات تصل إلى حد القتال؛ نسأل الله أن يجعل بأسهم
بينهم شديداً.
البيان: ما موقف المجاهدين من عروض المصالحة التي يسمع عنها بين
الحين والآخر؟
* المجاهدون يرفضون أي مصالحة لا تكون نتيجتها الاستقلال الكامل
للشيشان ويلتزم الروس فيها بتعويض الشيشان عن الخسائر التي نزلت بها، وإعادة
الإعمار وبخاصة البنية التحتية.
والمجاهدون الآن يرفضون أي تفاوض مع الروس ما لم يخرج الجيش
الروسي من الشيشان.
البيان: يثار أن هناك خلافاً بين المجاهدين، ويتخوف كثير من المحبين أن
يتكرر ما حصل في أفغانستان من الاختلاف فما ردكم؟
* ليس هناك خلاف بين القادة الميدانيين بحمد الله تعالى، بل العمل قائم على
التنسيق والتكامل، والوضع في الشيشان يختلف عن أفغانستان؛ حيث إن أهل
الشيشان من عرق واحد وليس هناك خلافات عميقة ولا أحزاب بين القادة بخلاف
أفغانستان؛ فإنها أعراق مختلفة، والخلاف بين القادة له جذور وصراعات حزبية.
نسأل الله أن يؤلف بين المسلمين في كل مكان.
البيان: يتردد في بعض وسائل الإعلام أن غير الشيشانيين المشاركين في
القضية الشيشانية مرتزقة وليس لهم علاقة بالقضية، فبماذا تردون عليهم؟
* قد يرد مثل هذا الطرح لدى الكفار الذين لم يعرفوا طبيعة هذا الدين وأن
أمة الإسلام أمة واحدة؛ فقد استجاب المجاهدون من غير الشيشان لأمر الله تعالى
بقوله: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] (الأنفال: 72) وقد أجمع
العلماء على تعيُّن الجهاد إذا دخل الكفار بلاد المسلمين، وبلاد المسلمين كلها بمثابة
البلد الواحد؛ فالذين نفروا من غير الشيشانيين وتركوا ما هم فيه من رغد العيش
ورخاء الدنيا ارتقوا بذلك ذورة سنام الإسلام يبغون حظ الآخرة نحسبهم كذلك
محققين بذلك أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «والذي نفسي
بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم
عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في
سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» رواه البخاري.
ولماذا يلام أهل الإسلام على نصرتهم لإخوانهم في الدين؟ والإسلام لا يعرف
الحدود ولا الحواجز ولا الفوارق العرقية:
وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ ... عددت أرجاءه من لب أوطاني
ألا يرون الروس الأرثوذكس الذين خرجوا متطوعين لمناصرة إخوانهم
الصرب في يوغسلافيا؟ ألا يرون تحرك الغرب أوروبا وأمريكا لمناصرة إخوانهم
النصارى في تيمور الشرقية؟!
البيان: هناك من يطرح أهمية اقتصار الإخوة الأنصار على النشاط الدعوي
والجهادي وعدم محاولة البروز السياسي؛ لأنه مزلق سيكون له آثار مدمرة وعكسية
فما تعليقكم؟
* النشاط الدعوي والجهادي يقوم به الإخوة الأنصار وهو أساس عملهم وهم
على كل حال قدموا لنصرة القضية الإسلامية في الشيشان سواءً في جانب الدعوة
والجهاد أو في الجانب الإعلامي السياسي وغيرها وليس لهم طموح دنيوي لا في
أرض الشيشان ولا في غيرها.
البيان: ما هو تقويمكم لمواقف الشعوب والحكومات الإسلامية؟
* أما بالنسبة لموقف الشعوب الإسلامية بل المسلمين في العالم فهو موقف
مشرّف؛ ونحن نشعر بمشاركتهم لنا في قضيتنا من خلال دعمهم المادي والمعنوي.
لقد قذفت هذه الشعوب بفلذات أكبادها ليشاركوا في الجهاد بأنفسهم، وبذلوا أموالهم
لنصرة القضية، وإنا لنرى أثر دعواتهم في تنزُّل النصر وحصول الفرج من الله
تبارك وتعالى وتصلنا عواطفهم الحارة من خلال رسائلهم إلى موقعنا على الإنترنت
(صوت القوقاز) الذي يبث حتى الآن بخمس عشرة لغة؛ وإنا لنقدر لهذه الشعوب
مواقفها، ونسأل الله أن يحيي في الأمة المسلمة روح الجهاد من جديد.
أما الدول الإسلامية فإنها للأسف تخاذلت عن نصرة الشعب الشيشاني، ولم
ترجع في هذه القضية إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ بل رضيت
بما تحكم به هيئة الأمم التي هي في الحقيقة تمثل اليهود والنصارى.
وليتهم توقفوا عند هذا الحد؛ بل إنهم دعموا الروس من خلال تصريح وفد
منظمة المؤتمر الإسلامي بأنهم يؤمنون بوحدة الأراضي الروسية، وأن القضية
الشيشانية شأن داخلي لروسيا، وأنهم ليس من عقيدتهم دعم الإرهاب على زعمهم
دون أن يعبروا عن استنكارهم لما يجري في الشيشان.
البيان: ما تقويمكم لموقف الغرب من القضية؟
* نحن لا نعلق أملاً على الغرب الكافر لمناصرتنا، بل نحن نعلم أن الغرب
يسعى إلى تحقيق مصالحه، وأن عدوه الأول هو الإسلام. فالغرب له مصلحة من
استمرار الحرب في الشيشان من خلال موازنة ومعادلة معينة في مصلحته، ومن
ذلك: زيادة إخضاع روسيا للغرب، وإضعاف قبضتها على القوقاز؛ حيث
طموحات الغرب هناك، ومساومة روسيا بالقضية الشيشانية للحد من انتشار
الأسلحة، وعدم تمرد روسيا على سياسة الغرب في القضايا العالمية، والحديث عن
انتهاكات روسيا لحقوق الإنسان لتحقيق هذا الغرض. وبالمقابل فإن الغرب يخشى
من انتصار القوى الإسلامية في القوقاز، ويعتبر قيام دولة إسلامية خطراً داهماً
يهدد النظام العالمي الجديد، وبناءاً على هذا فهو يدعم روسيا بالمال من خلال
القروض، وبالاستشارات العسكرية ويتعاونون معهم في مجال الاستخبارات
والاتصالات.
وأما الشعارات الجوفاء التي يرفعها الغرب مثل: حقوق الإنسان، وحق
الشعوب في تقرير المصير، والديمقراطية، فهذه كلها نداءات ليس لأهل الإسلام
فيها نصيب.
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
[وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة:
217) .
البيان: هل لليهود دور في القضية الشيشانية؟
* نعم! لقد وقف اليهود من خلال دولتهم في (إسرائيل) مع الروس من
بداية الحرب، وعرضوا خدماتهم العسكرية والاستشارية، واستقبلوا جرحى الروس
في مستشفياتهم.
البيان: ما أبرز سمات الجهاد في الشيشان؟
* أبرز السمات: وضوح الراية؛ حيث ترفع راية الجهاد لقتال الكفار
وتحرير بلاد المسلمين بشكل واضح؛ فإن الشعب الشيشاني مع كونه قد عاش ردحاً
من الزمن تحت الاحتلال الروسي إلا أن العلم الشرعي قد انتشر في صفوفه وأصبح
اتِّباع السنة والمنهج الصحيح بارزاً لدى كثير من المجاهدين مما حدا بالروس إلى
الادعاء بأنهم يحاربون الوهابية في الشيشان.
البيان: كثيرون يحبون أن يتابعوا أخباركم فما المصدر الموثوق لمعرفة
أخباركم؟
* أخبارنا تؤخذ من موقعنا على الإنترنت صوت القوقاز، والذي يصدر حتى
الآن بأكثر من خمس عشرة لغة منها: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية،
الأوردية، التركية، الماليزية، البوسنوية، الأندونيسية، الهندية، البنغالية،
الإيطالية، الألبانية، ولكن الموقع أحياناً يتوقف أو يتأخر في نشر الأخبار بسبب
الظروف الصعبة التي يمر بها الموقع أحياناً، ومن ذلك انقطاع الاتصالات وانشغال
الإخوة في العمليات، وقريباً إن شاء الله سيكون هناك تطوير للموقع ومتابعة جيدة
بإذن الله تعالى.
البيان: ما مستقبل القضية الشيشانية حسب تصوركم؟
* الصراع بين الحق والباطل سنة الله الماضية، ونحن نقوم بالواجب
الشرعي في قتال الكفار والدفاع عن أراضي المسلمين؛ والذي نتوقعه إن شاء الله
أن تكون القضية الشيشانية سبباً لتقويض الاتحاد الروسي كما كانت القضية الأفغانية
سبباً لتقويض الاتحاد السوفييتي، ونأمل أن تقوم دولة مسلمة على أرض القوقاز
يُعاد فيها ذِكْرُ الفتوحات على عهد الخلفاء الراشدين.
ونحن نعلم أن هذا الأمل لا يمكن أن يتحقق من خلال نزهة في جبال القوقاز
وسهولها، ولكنه يتحقق بإذن الله حين نطيع أمر الله، ونبذل الأسباب الشرعية التي
أمر بها، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
البيان: هل من توصيات تسجلونها في نهاية اللقاء؟
* في ختام هذا اللقاء أشكر مجلة البيان التي عُرفت بأصالتها وسلامة منهجها
على إتاحة الفرصة للتعريف بالقضية الشيشانية، وأوصي الحكومات الإسلامية
بنصرة الشعب الشيشاني والاعتراف باستقلال دولته عن روسيا، وأوصي عموم
المسلمين بمساعدة إخوانهم والجهاد معهم بالنفس والمال واللسان والدعاء والقنوت
لهم.(151/40)