رمضان - 1420هـ
يناير - 2000م
(السنة: 14)(145/)
كلمة صغيرة
انفعال الصورة
مع تكرار الأحداث الدامية في الشيشان كانت كل صور المأساة مكررة:
المكان مكرر، والشعب المذبوح مكرر، والعدو الحاقد، القتل والتهجير والهدم
والخراب مكرر، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يتكرر هو انفعال المسلمين مع
الأحداث، وهو ما يثير التساؤل: لماذا لم نتفاعل مع الأحداث الجارية في
(الشيشان) بالدرجة نفسها التي تفاعلنا بها مع (الشيشان) قبل ذلك! ؟ ولماذا كان
التفاعل أكثر مع أحداث كوسوفا برغم أن جميع الأحول متطابقة على الجانبين؟
أنقول بأننا قد اعتدنا على تكرار المآسي، ومشاهد القتل والتهجير وتدمير
المدن؟ أم تبلدت أحاسيسنا فلجأنا إلى الحوقلة والاسترجاع؟
لا نبرئ أنفسنا من هذه العادة السيئة؛ فها هي ذي القضية الفلسطينية بمآسيها
المتكررة قد اعتدنا عليها، ولم نعد نتفاعل معها.
إن درجة التفاعل مع الأحداث - ويا للأسف - مرتبطة بشكل كبير بحجم
العرض الإعلامي؛ فكلما ضغط الإعلام بصوره وتقاريره، وتضخيمه للحدث كلما
كان تفاعلنا أكثر، والعكس بالعكس.
لا زلنا نذكر أن تفاعلنا مع مأساة الصومال كان إيجابياً، ثم تلاشى عندما
انتهى العرض الإعلامي، وما زالت المأساة الصومالية مستمرة مكررة بشتى
صورها وفصولها.
إننا نخشى أن يكون تفاعلنا وتأثرنا بالأحداث، كذاك الذي يشاهِدُ عرضاً
سينمائياً درامياً فيتأثر ويبكي إلى أن ينتهي العرض!
إننا نحتاج إلى إعادة النظر بشكل جاد في هذه المأساة الجديدة والمتكررة
للمسلمين، ولا نقول مأساة الشيشان أو الصومال وكشمير فحسب، وإنما مأساة
(انفعال الصورة) .(145/1)
الافتتاحية
رسالة مفتوحة إلى..
قادة الجهاد الأفغاني القدامى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فمنذ أكثر من عشر سنوات، وبعد عهود طويلة من انحسار روح الجهاد
الإسلامي، كنتم أيها المجاهدون سبباً في أن تكون بلادكم أفغانستان محط أنظار
العالم، عندما سمع هذا العالم وشاهد بالصوت والصورة الانهيار المدوِّي لكيان
الطغيان الشيوعي، بعد أن دقت سواعدكم آخر مسمار في نعشه. حينها قد تنفس
العالم بعد صُعداء، وهو يرى ذلك الغول الأحمر، يجر أذيال خيبته منسحباً من
أرضكم ذليلاً كسيراً، بعد أن كان يتهيأ للانقضاض منها على أراضي المياه الدافئة
والحقول الغنية.
نعم! فقد كنتم تخاطبون العالم كله في ذلك الوقت بخطاب الشجاعة والشمم،
وبنبرة الحق وصوت القوة ... حقاً لقد استطعتم وقتها - بفضل الله - أن تعيدوا
للإسلام أحد جوانب وَضَاءته التي طال تغييبها، وهي العزة والإباء، وبدت
أفغانستان تحت قيادتكم هي الأمل والمنطلق لدى الملايين من المستضعفين في عالم
إسلامي يضج من المظالم ويئن من القهر، في كثير من أنحائه، ويحن إلى الحرية
والكرامة.
وراحت مدرستكم الجهادية تفتح فصولاً تلو فصول، لمن أراد أن يعبَّ من
دروس البذل والفداء.
عِقْد واحد من الزمان - أيها المجاهدون - رفعتم فيه رؤوس المسلمين إلى
الثريا، وقربتم إليهم نجوم المجد حتى كادوا يبتدرونها بأيديهم ثم ... ثم ماذا؟ ! ثم
كان ما كان مما لم يَدُرْ بخَلَدٍ أو حسبان، عندما دارت عجلة التغيرات لتدوس
الأماني، وتدعس الأحلام، وتسحل في غير رحمة نَبتات الأمل وزهرات
الطموح..!
فُتحت كابل فتذكر الناس أيام مجد الفتوح.. ولكنها دُكَّت بعد ذلك دكاً دكاً
بالصواريخ التي بقيت من عتاد الجهاد، فتلوَّث الجهاد وتلطَّخ وجهه الوضَّاء على
الأيدي نفسها التي كانت قد أخرجته من حواشي الكتب وأصداء الخطب، وكيف لا
يتلوث جهادكم؛ وقد تجاوز عدد ضحايا الأفغان المدنيين على أيدي بعضكم أضعاف
ضحايا البوسنة على أيدي الصرب، أو الشيشان على أيدي الروس! ! تعالَوْا - في
هذا الشهر المبارك - نفتح معكم ملفاً طال إغلاقه، ولكنكم تصرون على فتحه
بتصرفات بعضكم المتجاهلة لكل أثر مدمر، أو فتنة محبطة لكل المسلمين في
الأرض:
تفرغ بعضكم لـ (لعبة الكراسي الموسيقية) السياسية، فراحوا يتبادلون
المناصب في احتفالات صاخبة تحت أزيز الطائرات وهدير المدافع، متجاهلين
نَصَب الناس وتعبهم الذي طال بانتظار الفرج بقدومكم!
لَبِس بعضكم بزة السطان، وراح يجوب البلدان فرحاً بألقاب الفخامة والسعادة
والسيادة، مبدياً كل التفهم أو (الإذعان) لمسعى اللئام في مطلب (التعاون) لمكافحة
دعوى الإرهاب! ! وأنتم أول من يعلم من المعنيون بالإرهاب.
نسي المتعاونون منكم أن من تُعاوِنون على تسليمهم أو سُلِّموا بالفعل ما كانوا
ليوصَموا بالإرهاب ويوصفوا بالأصولية لولا ذهابهم إليكم ووقوفهم إلى جانبكم، مع
أنهم كانوا بالأمس القريب رفاق السلاح وإخوة الجهاد الذين منيتموهم بالشراكة في
جني ثمرات الجهاد.
ثمرات الجهاد هذه لمن أطعمتموها أيها المجاهدون؟ !
لعلكم ستقولون: إن الأمريكان سرقوها وتآمروا مع باكستان علينا! ! ولكننا
نعلم - وأنتم تعلمون - أنكم أطعمتموها للأمريكان ولمن هم أسوأ من الأمريكان.
وهل هناك أسوأ من الأمريكان؟ ! نعم! إنهم الروس الملحدون الذين صادقتموهم
بعد أن قاتلتموهم، والهنود الوثنيون الذين هادنتموهم والتجأتم إليهم.
ها هي أعوام خمسة تمر وأنتم تصرون على الحرب حتى آخر حمامة سلام
في أفغانستان!
إننا نخاطبكم بخطاب الدين الذي قمتم لنصرته أول مرة: احذروا حبوط العمل، واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، فوالله! إن أحدكم مهما جاهد وعمل فإنه لا
يقوى على الوقوف يوم التغابن أمام طفل بُترت ساقه أو فُقئت عينه، أو وليدة فقدت
أمها أو غاب أبوها، أو عجوز تهدم مأواها أو أُقعد عائلها..
انظروا إلى تغيُّر الأمور حولكم؛ فلعل فيها عبرة؛ فإن المسلمين جميعاً كانوا
أنصاركم بالأمس، فمن أنصاركم اليوم؟ ! المؤمنون كانوا جميعاً يدعون لكم
بالأمس فمن يدعو لكم اليوم؟ !
إن بعضكم لا يزال يلوم المسلمين على صفحات الجرائد والمجلات؛ لأنهم
تخلوا عن (الجهاد الأفغاني) ، ألا يعلم هؤلاء أنهم هم أول من تخلى عن هذا الجهاد
وخذله يوم استبدلوا بالراية الإسلامية الجهادية راية عِمِّيَّة عنصرية، ويوم استنكفوا
عن قبول النصيحة التي أسداها المشفقون من كبار علماء الأمة ودعاتها الذين تجشم
بعضهم صعوبة الوصول إليكم للإصلاح، ولكنكم أبيتم إلا مداراتهم ثم مخالفتهم؟
ولا ينسى هؤلاء المسلمون الذين تتهمونهم الآن بالتخلي عن الجهاد، يوم
اجتمعتم في أشرف البقاع في مكة المكرمة، وحينها قال الناس مستبشرين: لعل
جلال المكان وهيبة الموقف تعيد الصواب إلى العقول، والصلاح إلى النفوس،
ولكن - وبكل أسف - تبخرت تلك الآمال، وذهبت أدراج رياح الفتنة التي هبت
من جديد.
وفتنة القتال المتجدد بينكم - أيها الإخوة - لم تنته باختياركم، بل انتهت لمَّا
سُحب البساط من تحت أرجلكم، وعندها عز على عناد بعضكم أن يلقي سلاح
التناحر، فبدأ بإشعال نار (المعارضة) بعد أن خبا دخان المصارعة.
قد يقول قائلكم: هَبْ أننا جاهدنا ثم انتصرنا، ثم اختلفنا فتحاربنا، ثم انقلب
بعضنا على أعقابه وارتمى في أحضان أعدائه، فما دخل منتقدينا والناقمين علينا؟
أليست هذه قضايا خاصة، ومسائل داخلية؟ ! ولماذا ينقم علينا ما لا ينقم على
غيرنا؟
والجواب: إن الجهاد الأفغاني الذي كانت نصرته واجبة علينا وعلى جميع
المسلمين - كما أفتى علماء الأمة وقتها - هو الجهاد الذي أُهدرت فيه الأرواح
والأموال بلا حدود، وهذا الجهاد ليس من حق بضعة أفراد أن يحتكروا تحديد
مصيره وتوجيه نهايته مهما كان أمرهم. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: فإن الأمة التي ناصرتكم في الدين هي التي ناصحتكم فيه،
ولهذا فإن قضية أفغانستان (الإسلامية) التي رُفعت فيها راية الإسلام من أول يوم
ليست كأي قضية من القضايا التي رُفعت فيها الرايات العلمانية.
ومن جهة ثالثة: فإن المسلمين الذين كانوا يفاخرون بكم الدنيا، أصبحت
الدنيا تعيِّرهم بكم على مستوى الشعوب والجماعات، وحتى الأفراد، فلا يكاد مسلم
يلتزم بالدين، أو يدعو إلى نصرته، أو الجهاد من أجله في مكان من العالم، إلا
ويقال له: هل نسيت أفغانستان؟ !
إن كل قضية إسلامية جهادية - بعد تجربتكم - قد أُضِيرت أشد الضير بسبب
ممارساتكم، بدءاً من قضية البوسنة، ومروراً بكوسوفا، وانتهاء بالشيشان،
الشيشان التي يتفرج العالم عليها اليوم وهي مخذولة من جل المسلمين عامتهم
وخاصتهم، دون أن يرف لهم جفن، أو يتحرك فيهم ساكن لأجل آلاف الضحايا
والمشردين، فلماذا هذا الخذلان؟ ! لأنهم قاموا باسم الجهاد في داغستان،
والناس - بسببكم - قد سئموا حديث الجهاد! ! وتشاءموا من عاقبة المجاهدين.
إننا - أيها المجاهدون - كان بوسعنا أن نواصل السكوت سنوات أخرى، فلا
نُقْدم على خدش مشاعركم، ومس أحاسيسكم، ولكنكم أصررتم في الآونة الأخيرة،
على حفر الخنادق في مشاعر كل مسلم، عندما طيرت الأنباء خبرين فجَّرا الغيظ
في قلوبنا، فسالت له أقلامنا، وأخرجت التحفظ معكم من قائمة اهتمامنا.
الخبر الأول: هو إعطاء الأمريكان الضوء الأخضر للروس لكي يدعموكم بلا
حدود إلى النهاية، ضمن حلف ثلاثي في المنطقة لـ (محاربة ما يسمونه بالإرهاب) ! ولكي تعودوا إلى السلطة في أفغانستان، ونحن نعلم أن هذه العودة لن تكون - إذا
كانت - إلا فوق الجماجم والأشلاء.
والخبر الثاني: أن أسدكم الهصور دعا علانيةً في حديث خاص مع إحدى
الصحف الناقمة على (الأصوليين) إلى طرد جميع من أسماهم (الإرهابيين) ! من
جميع أنحاء أفغانستان! !
فإذا كانت هذه عودتكم فلا مرحباً بعودتكم إلى حكم أفغانستان إذا كانت لا تمر
إلا عبر الكرملين، والبيت الأبيض، ولا مرحباً بعودتكم إذا كان المستضعفون هم
قربانكم على عتبات المجرمين.
وأخيراً: نعلم أن كلماتنا هذه ثقيلة وشديدة: ثقَّلتها مسؤوليةُ الكلمة، وشدَّدتها
أمانة النصيحة؛ فما جرى ولا يزال يجري أشد على القلوب، وأثقل في النفوس.
وحسبنا الله لديننا، ولدماء شهدائنا، وأعراض إخواننا، وتضحيات أمتنا،
أما أنتم - أيها المجاهدون - فعودوا.. عودوا إلى الجهاد الأكبر؛ فباب التوبة
مفتوح، وهو خير لكم من أبواب موسكو، ودلهي، وواشنطن، وطهران.
عودوا - كما وعدتم - إلى جهاد أعداء الدين الحقيقيين، فلا زلنا نذكر وعدكم
بألاَّ تتوقف راياتكم حتى تُنْصَب بإيلياء! ! فهل تذكرون؟ !
والسلام ... السلام عليكم ما دمتم مجاهدين صادقين، وإنا لله، وإنا إليه
راجعون.(145/4)
إشراقات قرآنية
سورة القمر
وما فيها من إعجاز البيان وبديع النظام
د. محمد أسد سبحاني
هناك حقيقةٌ ظاهرة ثابتة، حقيقةٌ صدع بها الأصدقاء وشهد بها الأعداء،
حقيقة يؤمن بها المؤمنون ويعترف بها المعاندون ألا وهي أن هذا القرآن الكريم -
كتاب الله الخالد - يحتلّ ذروةً عاليةً وقمةً سامقةً من بلاغة الأسلوب وإعجاز البيان؛ بحيث لا يجارى ولا يبارى ولا يُشقّ له غبار.
فما هي ميزة القرآن التي أعجزت فرسان الكلام وفحول البيان؟
من الواقع المرّ الذي لا بدّ أن نعترف به أن الكتب التي أنشئت لإبراز بلاغة
القرآن وإعجاز أسلوبه - مع جلالة قدرها وعلو مكانتها - تعجز عن الإجابة
الواضحة القاطعة الحاسمة على هذا السؤال.
ولا نرى لذلك سبباً إلا الغفلة عن نظام الآيات ورباط معانيها؛ فإن من غفل
عن نظام الآيات أو تناوله تناولاً قاصراً عابراً لا يمكنه أن يستمتع بجمال القرآن،
ولا يمكنه أن يدرك ميزته التي تخصّه من بين سائر أنواع الكلام.
والحق الذي يحق أن يعلن ويقال: إن سرّ إعجاز القرآن هو هذا النظام.
فهذا النظام هو الذي جعل من تلك الآيات التي لا نرى فيها من ضروب
البلاغة إلا التجنيس والطباق والحذف والتكرار وما شابه ذلك، جعلنا نرى فيها
عالَماً عجيباً من الروعة والجمال، وبحراً زاخراً من المعاني والحكم؛ بحيث تهتز
لها النفس اهتزازاً وتمتلئ بها بهجة وسروراً، ولا تدري كيف تعبّر عمّا تجد فيها
من لطائف البلاغة وروائع البيان.
وقد أسهبت في بيان نواحي الروعة والجمال والبلاغة وحسن البيان المشتملة
عليه خواتيم آل عمران في كتاب بعنوان: (البرهان في نظام القرآن) .
وأما هذا المقال فهو مخصص لتسليط الأضواء على سورة القمر وإماطة اللثام
عمّا فيها من إعجاز البيان وبديع النظام، فنقول وبالله التوفيق:
إن هذه السورة الكريمة المباركة تشتمل - كأخواتها - على أبواب كثيرة
متنوعة من البلاغة وحسن العبارة، ولكنّها تبدو وكأنها ما زالت رِتاجاً مُرْتَجاً [1]
لقلة من عُني بنظامها وقلة من درس رباط معانيها.
ولا نرى من أئمة التفسير وعلماء البيان من تذوّق تلك السورة الكريمة
واستمتع بها مثلما تذوقها واستمتع بها المفسِّر والأديب البارع الموهوب الأستاذ سيد
قطب - رحمه الله - حيث يقول:
(هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب
المكذبين بالنذر، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة.
وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب
للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزُّه ويقول له: ... [فكيف كان عذابي ونذر] [القمر: 16] .
ثم يرسله بعد الضغط والهزِّ ويقول له: [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر] [القمر: 17] .
ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكيّة شتى؛ فهي مشهد من
مشاهد القيامة في المطلع، ومشهد من هذه المشاهد في الختام، وبينهما عرض
سريع لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وَمَلَئِه.
وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى.
ولكن هذه الموضوعات ذاتها تُعْرَضُ في هذه السورة عرضاً خاصاً يحيلها
جديدة كل الجدّة؛ فهي تُعرَض عنيفةً عاصفةً، وحاسمة قاصمة، يفيض منها الهول
ويتناثر حولها الرعب، ويظلّلها الدمار والفزع والانبهار!
وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلاً منها يمثّل حلقة عذاب رهيبة
سريعة لاهثة مكروبة يشهدها المكذبون، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسون
إيقاعات سياطها؛ فإذا انتهت الحلقة وبدؤوا يستردّون أنفاسهم اللاهثة المكروبة،
عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولاً ورعباً؛ وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبع في هذا
الجو المفزع الخانق؛ فيطل المشهد الأخير في السورة وإذا هو جوٌّ آخر ذو ظلال
أخرى.
وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه مشهد المتقين: [إن المتقين في
جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] } ، في وسط
ذلك الهول الراجف والفزع المزلزل والعذاب المهين للمكذبين [يوم يسحبون في
النار على وجوههم ذوقوا مس سقر] [القمر: 48] .
فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من
مصير؟) [2] .
هذا ما نجده عند المفسر والأديب سيد قطب رحمه الله وهو على روعته
وجلالة قدره لا يزيد على أن يكون لمحة خاطفة إلى محاسن تلك السورة ومميزاتها،
وإلا فهي تزخر بمحاسن التعبير ولطائف البلاغة بحيث لا نقضي منها العجب.
والجدير بالذكر أن هذه البلاغة وتلك المزايا يرجع معظمها إلى حسن النظام.
فمن كان يريد أن يدرك هذه المحاسن أو يتذوق تلك البلاغة فلا عليه إلا أن
يتدبر السورة متمسكاً بنظام آياتها ورباط معانيها؛ فإن ذلك سيمده بكثير مما لم
يخطر بباله ولم يتشمم رائحته عند غيره.
ونذكر هنا بعض ما لمسناه نحن من لطائف البلاغة فيها حتى يكون ذلك حافزاً
لمن تطلّع إلى الفحص عن بقيتها.
فكلما تدبرنا السورة وأنعمنا النظر في نظامها رأينا من شأنها عجباً؛ حيث
وجدناها مثالاً رائعاً لبراعة الاستهلال، وندرة الاستدلال وروعة الانتقال وسرعة
الالتفات، وحسن التلميح وجمال المقطع ودقة التصوير وشدة التأثير وكمال الإبلاغ
وعجيب الاستدراج وما إلى ذلك من دلائل الإعجاز.
براعة الاستهلال:
فأما براعة الاستهلال فيها فيكفينا لإدراكها أن نتذكر أواخر سورة النجم؛
حيث قال - تعالى -: [هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة. ليس لها من
دون الله كاشفة. أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون. فاسجدوا لله واعبدوا] [النجم: 56 - 62] .
فلما كان أعداء الله في غاية السمود [3] ؛ حيث كانوا يعجبون إذا قيل لهم: [أزفت الآزفة. ليس لها من دون الله كاشفة] [النجم: 57، 58] وكانوا يضحكون ولا يبكون ويستهزئون ولا يخافون قرعتهم سورة القمر وهزّتهم هزّاً عنيفاً حتى ينتبهوا من رقدتهم ويفيقوا من هوسهم: اقتربت الساعة وانشق القمر.
أي: جاءتكم الساعة. الساعة التي كنتم تعجبون منها وتضحكون. جاءتكم
بكل ما فيها من ويل وثبور وشرور وأهوال؛ وهذي أشراطها قد ظهرت وتحققت؛
فقد انشق القمر ولم يبق مجال لإنكار من أنكر.
وفضّل هنا هذا الأسلوب أسلوب المفاجأة والمباغتة، حتى يدركوا أن الساعة
ستأتيهم هكذا بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردّها ولا هم ينظرون، وعندئذ يندمون
ويصطرخون، كما قال تعالى: [واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار
الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين] [الأنبياء: 97] .
ولكن: ماذا يجديهم الندم، وقد فاتهم الزمن؟ !
وكان هذا الأسلوب ولا شك بحيث تتخشع له الجبال، وتتصدع له الصخور.
ولكنه لم يكن لينجع في قوم أعماهم الجهل والسمود عن النظر في عواقبهم. وكانوا
كما قال الله فيهم: [إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن
تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا] [الكهف: 57] .
فلم يكونوا ليفيقوا من هوسهم. وإنما الذي كان يخشى منهم أن يزدادوا عتواً
إلى عتوهم وعناداً إلى عنادهم، ويقولوا كما قال أشياعهم من قبل: [فأت بآية إن
كنت من الصادقين] [الشعراء: 154] .
فجاءت الآية: [وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر] [القمر: 2] .
وهذا من عجيب أسلوب القرآن؛ حيث إنه كثيراً ما يأتي بمعنيين ترى بينهما
فجوة، وما هي بفجوة، وإنما هي من لطائف بلاغة القرآن؛ إنه يأتي بمعنيين
متنائيين في بادئ النظر ويترك للذهن أن يملأ الفراغ بينهما، وإن شئت فقل: إنه
يجعل التفكر جسراً بينهما.
ومثل هذه المواطن تكون مظنة الحيرة، إلا أن رعاية النظام تعالجها بسهولة.
فكأنه قيل: إنهم الآن ينذرون ويلات الساعة، فلا ينتبهون ولا يرتعدون
ويدّعون بآية يستدلون بها على صدق هذه النبوءة.
ولو ظهرت لهم الآية تحقيقاً لطلبهم ونظراً إلى رغبتهم لأعرضوا وقالوا:
سحر مستمر، كما جاء في موضع آخر: [وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان
خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم] [الأحقاف: 11] .
وأيضاً كما ورد في موطن آخر: [فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا
أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران
تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون] [القصص: 48] .
ثم قال: على أية حال؛ فإنهم كذبوا بالساعة ولم يعتمدوا في تكذيبهم هذا على
دليل رصين أو أساس متين، وإنما اتبعوا أهواءهم. فهل تكذيبهم هذا يغيّر الوضع
ويبدّل القول؟ لا؛ فكل أمر له موعد مضروب وأجل محتوم.
فإذا جاء الموعد وحان الأجل وقعت الواقعة واستقر الأمر.
ومما يدعو إلى العجب أنهم يعرضون، مع أنهم جاءهم من الأنباء ما يكفي
لردعهم وزجرهم! !
جاءتهم أحاديث كلها حكمة بالغة وموعظة رادعة؛ ولكن هذه النذر كلها
ضاعت، كأنها كانت صيحة في وادٍ أو نفخاً في رماد!
روعة الالتفات:
وهنا يلتفت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [فتول عنهم يوم يدع
الداع إلى شيء نكر. خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.
مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر] [القمر: 6 - 8] } .
ولعمري إنه التفات عجيب ومليح؛ فإن الكلام ما زال متصلاً بالكافرين
ومتوجهاً إليهم؛ فكأنه من قبيل (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) .
ولا يخفى ما لهذا الالتفات من وقع وتأثير في النفوس إن كان قد بقي فيها
رمق من حياة!
حسن المقابلة:
ثم نلاحظ في تلك الآيات مقابلة جميلة رائعة لا ينتبه لها إلا من يهتم بنظام
الآيات: فاليوم هم [سامدون] [النجم: 61] ، وغداً تراهم [خشعا أبصارهم]
[القمر: 7] .
واليوم تراهم معرضين عن الداعي: [وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر
مستمر] [القمر: 2] } .
وغداً تراهم: [مهطعين إلى الداع] [القمر: 8] .
واليوم تراهم يكذبون: [وكذبوا واتبعوا أهواءهم] [القمر: 3] .
وغداً يصدِّقون، حين لا ينفعهم تصديقهم: [يقول الكافرون هذا يوم عسر]
[القمر: 8] .
واليوم تراهم يتبجحون ويقولون: [نحن جميع منتصر] [القمر: 44] .
وغداً يخرجون من الأجداث: [كأنهم جراد منتشر] [القمر: 7] .
وما أروع المقابلة بين [جميع منتصر] [القمر: 44] . وبين [جراد
منتشر] [القمر: 7] .
ثم تبلغ هذه المقابلة غايتها من الحسن والروعة والجمال حينما نستمع إلى
القرآن مرة أخرى وهو يقول: [أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر] [القمر: 44، 45] } .
وما أشبه الجيش المنهزم بجراد منتشر! !
ثم نجد أنفسنا أمام تلك الآيات: [كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا
مجنون وازدجر. فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر
. وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح
ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ولقد تركناها آية فهل من مدكر. فكيف
كان عذابي ونذر] إلى قوله - تعالى -: [ولقد جاء آل فرعون النذر. كذبوا
بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر] [القمر: 9 - 42] .
ينظر الناظر إلى تلك الآيات ويمر بها وكأنها ليست إلا عبارات عادية لا
يقصد بها إلا توعّد الكافرين بسوء مصيرهم في الدنيا، شأن من خلوا من قبلهم،
كما صرّح به القرآن بعدما انتهى من تلك القصص؛ حيث قال: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر] [القمر: 43 - 45] .
ولكننا حينما نقيم على تلك الآيات ونطيل القيام عليها، ونتملاّها في ضوء
نظامها نقضي منها العجب لكثرة ما تشتمل عليه من عجائب البلاغة من ندرة
الاستدلال على مجيء الساعة وعجيب الاستدراج إلى أهوالها، ثم من سرعة
الالتفات ولطيف الانتقال ودقة التصوير وشدة التأثير وأشياء أخرى قد يدركها
المتأمل المتوسم ويعجز عن وصفها.
وهنا نُلمح إلى بعض ما تتضمنه تلك الآيات من روائع البلاغة ومحاسنها.
ندرة الاستدلال:
ننظر أولاً إلى ندرة الاستدلال على مجيء الساعة وهي من ناحيتين:
الأولى: أنهم كانوا يستبعدون الساعة من جهة إمكانيتها.
وكانوا يطلبون آية يستدلون بها على وقوعها.
إنهم كانوا يقيسون القدرة القادرة المطلقة بقدراتهم الضئيلة الهزيلة العاجزة،
وكانوا يتعجبون ويتساءلون:
كيف ينشق القمر؟ كيف تنفطر هذه السماء؟ وكيف تسير تلك الجبال؟
وقد أشار القرآن إلى شبهاتهم هذه؛ حيث قال: [لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا]
[طه: 107، 108] .
فقد جمع القرآن في ثنايا تلك القصص عدداً من الحوادث الكونية الكبرى،
التي ستظهر حين قيام الساعة.
فإن كان الله قادراً في فترة قوم نوح على أن يفتح أبواب السماء، وعلى أن
يفجّر الأرض عيوناً فما وجه الاستغراب إذن إذا قيل في أشراط الساعة: [وفتحت
السماء فكانت أبوابا] [النبأ: 19] أو [وإذا البحار فجرت] [الانفطار: 3] .
ثم إن كان الله قادراً على أن يرسل صيحة واحدة على ثمود فيكونوا كهشيم
المحتظر، فما وجه الاستبعاد إذن إذا قيل: [إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم
جميع لدينا محضرون] [يس: 53] ؟
ثم انفلاق البحر وانشقاقه بضربة بالعصا ليس أقل غرابة من انشقاق القمر في
وقت قيام الساعة فما وجه الاستغراب إذن إذا قيل: [اقتربت الساعة وانشق القمر] [القمر: 1] ؟
الناحية الثانية: أن تلك الحلقات المتتابعة المتلاحقة للأحزاب التي حلّ عليها
سخط الله بسبب عصيانها وطغيانها تدل دلالة واضحة على أن رب العرش ليس
غافلاً عن خلقه، وهو يراقبهم في حركاتهم وسكناتهم ويعاملهم حسب تصرفاتهم؛
فيهلك العصاة الطاغين؛ ويرحم عباده الشاكرين.
فهي في الواقع شواهد على الدينونة الإلهية الحاسمة الكبرى التي ستظهر وقت
قيام الساعة على وجه أتم وأشمل؛ فإن هذه الدنيا ليست دار الجزاء وإنما هي دار
البلاء، وما يظهر فيها من وقائع الجزاء ليس إلا تلميحاً إلى ما يتبعه من الجزاء
الأوفى الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
عجيب الاستدراج:
ومما يزيد في روعة هذه الآيات ويرفع من قيمتها الأدبية البلاغية أنها نموذج
رائع لعجيب الاستدراج، كما أنها نموذج رائع لندرة الاستدلال.
فهي لا تصرّح بأدلة وقوع الساعة حتى ينفر منها من لا يؤمن بها، بل
تتضمنها في ثناياها وتخفيها في غضونها؛ فهي تمشي في عروقها كما يمشي الماء
في عروق الشجرة وأغصانها.
فالسامع يستمع إلى تلك القصص واحدة واحدة؛ وما يكاد ينتهي منها حتى
يلين وينكسر من حيث لا يشعر، ويتوجس في نفسه خيفة الحساب وخيفة الجزاء؛
مع أنه كان منكراً للحساب ومنكراً للجزاء.
ثم حينما ينتهي السياق من تلك القصص المخيفة المرجفة لا يباغتهم بوعيد
الساعة، بل يراعي ذلك الاستدراج، ويأخذ الجانب الذي كان من الوضوح بحيث
لا يحتمل المراء، ويوجه إليهم سؤالين اثنين: [أكفاركم خير من أولائكم أم لكم
براءة في الزبر] [القمر: 43] .
وكان هذان السؤالان من القوة وإلزام الحجة بحيث لا يسعهم إلا أن يجيبوا
عليها بـ (لا) ..
فأردفهما سؤالاً آخر بدون أن يقف عندهما وينتظر الجواب عليهما: [أم
يقولون نحن جميع منتصر] [القمر: 44] .
وكان في الموقف احتمال أن تستيقظ فيهم نوازع الأنفة والحمية الجاهلية،
وكان من المحتمل أن يسارعوا بالجواب عليهم بـ (نعم) فأزاح عنهم حجاب
الغرور، وهزهزهم بالواقع المرّ: [سيهزم الجمع ويولون الدبر] [القمر: 45] .
سرعة الالتفات:
ثم الذي يبين شأن هذه الآيات ويُظهر مدى مستواها الأدبي البلاغي هو سرعة
الالتفات.. سرعة الالتفات مع عجيب الاستدراج.. سرعة الالتفات من الغيبة إلى
الخطاب، ثم إلى الغيبة؛ حيث قال تعالى: [ولقد جاء آل فرعون النذر. كذبوا
بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر. أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في
الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر] [القمر: 41 - 46] .
علماً بأننا لأول مرة نرى في تلك السورة هذا الخطاب المباشر إلى الكفار..
نراه بعدما قطعنا ثلاثة أرباع السورة ودخلنا في الشوط الأخير منها.
ثم هذا الخطاب يفاجئهم بسرعة مذهلة ويمضي، بحيث يتحرك له الوجدان
وتهتز له المشاعر.
فما هو السر في هذه المفاجأة المذهلة أو هذا التحول السريع يا ترى؟
ما نظن هذا السؤال يمكن عليه الإجابة إلا بعد ترداد النظر وإمعانه في نظام
تلك الآيات.
لقد أسلفنا أن الله راعى في تلك القصص نوعاً عجيباً من الاستدراج؛ فما يكاد
السامع ينتهي من تلك القصص بشرط أن لا يكون مطموساً إلا وهو يتوجس الروع
ويداخله الفزع من حيث لا يشعر، ويجد نفسه مدفوعاً مضطراً إلى أن يراجع
سلوكه ويفكر فيما يؤول إليه أمره.
وهنا ينتهز السياق تلك الفرصة السانحة ويوجَّه إليه هذا السؤال بسرعة
كسرعة البرق، حتى يكون ذلك له معواناً على مراجعة نفسه: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر] [القمر: 43] .
علماً بأنه لم يكن مهيأً نفسيّاً قبل هذا حتى يوجّه إليه هذا الخطاب المباشر.
هذا، وكان هناك وراء هؤلاء الجماهير فريق من قادة الكفر الذي قد بلغ من
السمود غايته، ولم يكن مهيأً بعدُ حتى يوجه إليه الخطاب المباشر؛ فإنه على الرغم
من هذا القرع المزلزل العنيف مصرّ على سموده واستكباره، نشوان ثمل من قوته
وشدة بطشه، ويتلوى ويتبجح في غروره:
على أية حال؛ فنحن جميع منتصر!
وهنا يبادر النص القرآني بردّ هذا الغرور في وجه أصحابه مع الإعراض
عنهم: [سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر]
[القمر: 45، 46] .
ولا شك أن هذا الإعراض يزيد أحياناً في شدة الوعيد، ويكون أوقع في
النفس وأنجع في التقريع.
ومما يشير إلى هذا الفرق أن السياق لا يقول في آية الخطاب:
أيها الكفار أأنتم خير أم أولئكم؟
بل يعدل عنه إلى قوله: [أكفاركم خير من أولائكم] [القمر: 43] .
وعلى هذا فيكون تأويل الآية هكذا: أيها الناس، هل ترمقون قادتكم
وطواغيتكم هؤلاء: أهم خير وأقوى من أولئك الذين سحقوا قبلهم ودمّروا؟
وهل ترون هؤلاء يفلتون من عذابنا، إذا أُخِذوا وحوسبوا؟
وإلا فكيف أخذتم طريقهم وربطتم مصيركم بمصيرهم؟
أم هل تحسبون أن ربكم كتب لكم صك العفو والغفران وصك البراءة من
النيران وأعطاكم الرخصة للفجور والعصيان؟
براعة الترجيع:
نرجع مرة أخرى إلى القصص ونتأمل من خلالها في ترجيع قوله تعالى: [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر] [القمر: 40] .
فقد رُجِّعَت هذه الآية في تلك السورة أربع مرات، رُجِّعَت بعد كل مشهد من
مشاهد المثُلات.
فما الفائدة من هذا الترجيع يا ترى؟
هل يضيف هذا الترجيع شيئاً جديداً إلى موحيات هذه السورة؟ وهل له دور
ملحوظ ملموس في جمال السورة وفي إيقاعاتها؟
أم هو تكرار محض وليس وراءه شيء ملحوظ مذكور يتصل بجمال السورة
وموحياتها؟
تلك أسئلة وجيهة هامة تفرض علينا أن نمعن النظر في نظام الآيات، إن
الجواب عنها يكمن في نظامها، ومن أراد الإجابة عليها ساهياً عن نظامها فلا نعتقد
أنه يختلف في جوابه عن الإمام الشوكاني رحمه الله حيث يقول: (لعل وجه تكرير
تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل
عن شكرها) [4] .
بينما التأمل في نظام تلك الآيات لا يدعنا نقف عند هذا الحد الأدنى بل يفتح
أمامنا آفاقاً واسعة في الموضوع، ويجسِّم لنا جمال هذا الترجيع ويشخِّص لنا بلاغته
وإعجازه من عدة وجوه، وهي كما يلي:
الوجه الأول: هذا الترجيع يسبغ على تلك المشاهد الرهيبة المخيفة المفزعة
ثوباً ضافياً فضفاضاً من الرقة والعذوبة والرحمة، فنشعر كلما ينتهي مشهد من هذه
المشاهد المرجفة كأن ربنا تجلّى لنا برأفته.
وهو يحذرنا أن نتورط فيما تورط فيه أولئك المتمردون من الخزي والعذاب
والخسران، وينادينا بحنوّ وتأكيد وإصرار:
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر؟
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟
الوجه الثاني: هذا الترجيع بما فيه من تكرار ضمير الجلالة (نا) يبين لنا
مدى رأفة الله بعباده، ويقرّبنا حتى يجعلنا نستشعر كأننا في كنف ربنا، ونسمع
صوته في آذاننا وهو يدعونا وينادينا: [فهل من مدكر ... فهل من مدكر ... ]
[القمر: 40] .
الوجه الثالث: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات مشهداً مستقلاً
بنفسه. ويبرز كلاً منها وهي وحدها تكفي للعظة والتذكار.
وكم كان الله بعباده رحيماً، وكم كان عليهم حنوناً؛ إذ قصّ عليهم تلك
القصص تباعاً، حتى لو فاتتهم قصة أيقظتهم أخرى:
ولقد صدق نبينا عليه الصلاة والسلام إذ قال: (ولا يهلك على الله إلا
هالك) [5] .
الوجه الرابع: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات متميزة من
صاحبتها، ويجعل لكل واحدة منها إيحاءاً يخصها، ويدعونا إلى أن نطيل المكث
عند كل واحدة منها ونستوعب إيحاءاتها.
ثم إذا رجعنا إلى تلك الحلقات وعشنا مع تلك الآيات المباركات وتأملنا فيها
من هذه الناحية وجدناها كذلك، وسنفصّل فيه القول بإذن الله.
فلننظر كيف كشف لنا التأمل في نظام تلك الآيات عن نواحي الجمال والروعة
والإشراق في هذا الترجيع.
والآن فلا نبالغ إذا قلنا: إن هذا الترجيع تعرَّض في تلك السورة تعرُّض أثناء
الوشاح [6] المفصّل، وإن شئت فقل: إنه يتلألأ فيها كما يتلألأ الثريا في كبد
السماء.
تميز وتماثل:
والآن نأتي لنرى تميز تلك القصص في إيحاءاتها مع تماثلها في جوّها
وصياغتها.
وتلك ناحية عجيبة من بلاغة أسلوب القرآن، وما يفطن لها إلاّ من كان مهتماً
بنظام الآيات، وكان عاكفاً على التأمل فيها والتشبع بعلومها وكنوزها، فنقول وبالله
التوفيق:
القصة الأولى: وهي قصة نوح، يغلب عليها لون رعاية الله لعباده الأنبياء.
ألا ترى كيف بدأ القصة بقوله: فكذبوا عبدنا.
ولا ندري كيف نعبر عما تفيض به كلمة عبدنا من حفاوة ومودة تأخذ القلوب
وتملك الشعور، وخاصة في هذا الجو الخانق المكروب قالوا مجنون وازدجر.
ثم نلاحظ كذلك أنه ما تتحرك شفتا نوح بإظهار ضعفه وعجزه أمام ربه،
حتى يسرع إليه ربه بعطفه ورعايته، ويحرك له الكون كله للانتصار من أعدائه:
[فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا
الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر] [القمر: 10 - 12] .
ولننتبه لضمير الجلالة هنا: ففتحنا وفجرنا فإن التصريح بضمير الجلالة هنا
يشعر أنه - تعالى - قد تولى أمر نوح بنفسه ولم يسنده إلى غيره اهتماماً بشأن
عبده!
ثم نرى نوحاً يحمله ربه على ذات ألواح ودسر، وهي تجري بأعينه وفي
ظلّ رعايته سبحانه وتعالى!
وكان هذا جزاءاً وإكراماً لمن كفر به قومه فأكرمه ربه وأسبغ عليه فضله: ... [وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر]
[القمر: 13، 14] .
والمراد بذات ألواح ودسر هو السفينة كما هو معروف ومفهوم؛ إلا أن النص
القرآني عدل عن كلمة السفينة إلى قوله: ذات ألواح ودسر حتى يصوّر لنا ذلك
المشهد الفذ الجميل، ويجعله حاضراً شاخصاً أمام أعيننا.
فنشعر كلما تلونا تلك الآية الكريمة كأننا واقفون أمام تلك الألواح وهي تحمل
نوحاً في رعاية ربه، والأمواج الصاخبة حوله تريد أن تصل إليه ولكن بدون
جدوى؛ فإنه في رعاية ربه، وربه يرعاه بنفسه!
وهكذا نرى السياق يبرز في هذه القصة مشهد الحماية والرعاية والكرامة.
وأما المشهد الأخير وهو مشهد الإهلاك والإغراق فيطويه طيّاً، ويكتفي بالإشارة
إليه: [فالتقى الماء على أمر قد قدر] [القمر: 12] .
ثم تأتي الحلقة الثانية: وهي قصة قوم عاد، وتلك القصة بأكملها تمثل سوء
عاقبة المستكبرين، كما أن القصة الأولى كانت عبارة عن تأييد الله للمرسلين.
فهي تنذر من يغتر بقوته أنه سيصرع صرعاً فظيعاً، وما يستطيع من قيام
ولو لطرفة عين؛ فإن جنود الله الجبارين يمرِّغون أنوف المستكبرين في التراب،
مهما بلغت قوتهم، ويلصقون جباههم بالرغام مهما عظمت شوكتهم.
فتلك عاد شمخوا بأنوفهم أمام ربهم: [وقالوا من أشد منا قوة]
[فصلت: 15] .
فسلط الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، فألقتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية.
[كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر. إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر. فكيف كان عذابي
ونذر] [القمر: 18 - 21] .
فنرى السياق يذكر هلاكهم الفظيع بكل سرعة وإيجاز وينتهي ولا يتعرض
لشيء بعده.
ثم تأتي الحلقة الثالثة: قصة ثمود؛ وهي وإن كانت في لونها العام شبيهة
بقصة عاد، إلا أنها متميزة منها من جهة، فإنها تحذير للكافرين على طلبهم آية
العذاب، وتنبيه إلى أن الأمة إذا طلبت آية العذاب، ثم هتكت حرمتها فلا تمهل
بعدها.
فالآية قد تكون حسرة وندامة في حق من يطلبها، ويكون موعد ظهورها هو
موعد هلاك تلك الأمة: [كذبت ثمود بالنذر. فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا
لفي ضلال وسعر. أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر. سيعلمون غدا
من الكذاب الأشر] ... [القمر: 23 - 32] .
ثم تأتي الحلقة الرابعة: قصة قوم لوط؛ وهي وإن كانت شبيهة بقصة قوم
نوح على طريق العود على البدء، إلا أنها متميزة عنها؛ حيث إنها تبشر بتنجية
المؤمنين كافة، وتنادي بحسن جزاء الشاكرين قاطبة.
إنها تصرح بتنجية آل لوط كلهم، ولا تقتصر على ذكر نجاة نبي الله لوط
وحده.
علماً بأن القصة الأولى لا تذكر إلا نجاة نبي الله نوح: [وحملناه على ذات ألواح ودسر]
وكذلك تناولت هذه القصة هلاك المجرمين بنوع من التفصيل، بينما القصة
الأولى لم تتناوله بتفصيل وإنما أشارت إليه إشارة عابرة خاطفة: [كذبت قوم لوط
بالنذر. إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك
نجزي من شكر ... ] [القمر: 33 - 39] .
ثم تأتي الحلقة الخامسة: وهي قصة آل فرعون، وهذه القصة تنبه إلى أن
وفرة العتاد والأوتاد أو كثرة الجيوش والجنود لا تغني من ذي الجلال والجبروت؛
فإنه يقصف الطغاة ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر: [ولقد جاء آل فرعون النذر.
كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر] [القمر: 41، 42] .
إلا أن هذه الحلقة تختلف عن أخواتها؛ بحيث إنها ليست في الحقيقة حلقة
مستقلة، وإنما هي معْبرة لطيفة للتخلص من حديث الغابرين إلى واقع الحاضرين.
ولذلك ترى الآذان والأذهان تنتظر بعد ذكر آل فرعون ذلك الترجيع
المألوف: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
فإذا بها قد فوجئت بسؤال يهز الوجود ويرجف القلوب: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر] [القمر: 43 - 46] .
ثم هناك ظاهرة أخرى تميز المشهد الأخير عن أقرانه هي أن المشاهد الأخرى
جاءت مفصولة بعضها عن بعض؛ بحيث لا يربطها رابط من واو الوصل: فقال
تعالى: كذبت ثمود ... كذبت قوم لوط....
بينما نرى المشهد الأخير جاء بواو الوصل؛ حيث قال تعالى: [ولقد جاء
آل فرعون النذر] [القمر: 41] وتلك لمحة مليحة إلى أن المشهد الأخير يختلف
عن سائر المشاهد في نوعيته وطبيعته ودلالته.
وتلك لطائف عجيبة من لطائف أسلوب القرآن، بحيث يتحرك لها الوجدان
وتهتز لها حاسة البيان، ولا يمكن العثور عليها إلا بعد ترداد النظر في تصاريف
النظام.
براعة الترتيب في القصص:
لا يخفى على الباحث المتأمل أن القرآن ليس له عادة معلومة أو قاعدة مطردة
في ذكر القصص والأخبار، بل له في ذلك مناحٍ وأساليب في غاية الدقة.
فأحياناً يسرد القصص سرداً حسب ترتيبها في الزمان، وأخرى يعدل عنه إلى
ترتيب آخر تقتضيه حكمة البيان.
فلنرجع إلى ما كنا فيه من سورة القمر، ولنمعن النظر في ترتيب قصصها
عسى أن ندرك ما فيه من الحكمة البالغة والبلاغة الساحرة المعجزة.
من المعلوم أن هذا الترتيب الذي نلاحظه في هذه السورة جاء على وفق
الزمان.
فذكر السياق أولاً قوم نوح ثم عاداً ثم ثمود ثم قوم لوط ثم آل فرعون.
ولا شك أننا إذا مررنا على مصارع هؤلاء الأحزاب، هكذا على ترتيبهم في
الزمان؛ حيث يتبع بعضهم بعضاً، تمثلت لنا سنة الله التي عملت عملها دائماً،
وغلب على حِسِّنا أن أيَّ أمة من الأمم - على مدار التاريخ - لما ركبت مركب
الكفر والمعصية ذاقت وبال أمرها، وكان عاقبة أمرها خسراً.
فهذا النظم له دور بارز ملموس في إعداد هذا الجو الرهيب المفزع.
والآية التالية لتلك القصص قد نجد فيها نوعاً من التأييد لهذا القول؛ فإنه لماّ
تهيأ هذا الجو وتمكن من القلوب الروع تقدم النص خطوة أخرى، وهزّ أعداء الله
هزاً [أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر] [القمر: 43] .
أي: إذا كانت تلك سنة الله في الأمم، وكانت سنة قائمة على مرّ الزمان؛
بحيث لم تركب أمة من الأمم هذا المركب الخشن إلا جنت الندم، ودارت عليها
دائرة المحن، فما بالكم يا طغام الأحلام أمنتم على أنفسكم وتجرأتم على ربكم؟
أأنتم خير من أولئكم؛ فلا تمسكم نفحة من عذاب ربكم؟ أم كتب لكم ربكم)
صك (البراءة والغفران؛ فلا تقطفون ثمار كفركم وإنكاركم؟ !
ولمثل هذا النظم نظائر أخرى وشواهد تترى في القرآن، ولكن الأمر ليس
بحاجة إلى أن نفيض فيه الكلام ونقيم عليه البرهان.
براعة المقطع:
وأخيراً نأتي على مقطع من السورة غاية في الحسن والروعة: [إن المتقين
في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
ولكي ندرك روعة هذا المقطع لا بد لنا أن نضع في اعتبارنا ذلك الجو
الرعيب المكفهر الذي يسود السورة، والذي مررنا عليه قبل قليل.
ويزداد هذا الجو تجهماً ويشتد حين تستقبلنا هذه الآيات: [إن المجرمين في
ضلال وسعر. يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. إنا كل شيء
خلقناه بقدر. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر. ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر
. وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر] [القمر: 47 - 53] .
يا لهول المصير! ! ويا لخطورة الموقف! ! [وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر] [القمر: 52 - 53] .
فكأن هذا العذاب البئيس الذي دمرهم ومزقهم وجعلهم كهشيم المحتظر لم
يحسب في حسابهم ولم ينقص من أوزارهم؛ بل كل صغير وكبير مسطور في
زُبُر [7] أعمالهم؛ وهم سيحاسبون عليه واحداً بعد واحد.
والنتيجة واضحة معلومة؛ فهم يُسحبون في النار على وجوههم؛ وكل شيء
حولهم يسخر منهم ويقرعهم.
ذوقوا أيها السامدون! ذوقوا مسّ سقر!
في مثل هذا الجو العبوس القمطرير ترد هاتان الآيتان: [إن المتقين في
جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
يا لروعة هذه الكلمات في هذا الجو المكفهر القاتم!
فوالله! إنها لأروع من كوكب دريّ كريم يضيء في ليل بهيم! وهي أغلى
في نفس المؤمن من كل كنز ثمين ومن كل متعة ونعيم!
وتجيء سورة القمر لتفصِّل تلك المصارع بأسلوب ينطق بقدرة الله وملكه
وتفرده بالسلطان دون غيره؛ فله الملك وله الحكم؛ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد؛
يبطش بالطغاة وينتصر من البغاة؛ ويأخذ من يشاء أخذ عزيز مقتدر.
ثم هذا ليس نهاية المطاف؛ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ؛ فهم
يسحبون في النار على وجوههم ولا يجدون لديهم من يشفع لهم أو يخفف عنهم من
عذاب ربهم.
وأما المتقون فهم ينعمون ويفرحون وهم اليوم في شغل فاكهون: [في جنات
ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
فاليوم يومهم والمليك مليكهم.
فهم اليوم في عزة وسرور وفي سعادة وحبور.
والمليك يُتوِّجهم بتاج العز والكرامة، ويخلع عليهم حُلل الشرف والسعادة،
ويرفع شأنهم حتى يجلسهم حول عرشه وينزلهم في كنفه؛ فإنهم عرفوا لصاحب
الملك ملكه، وخشعوا له وسجدوا، وأوذوا في سبيله فصبروا، وقَتَلوا وقُتِلوا.
وأما الذين عدلوا عن المليك وتعلقوا بأهداب الشفعاء فلهم الويل كل الويل؛
فإنهم أسخطوا المليك ولم ينفعهم البديل.
وما أروع مشهد المتقين؛ حيث ينعمون في جنات ونهر في مقعد صدق عند
مليك مقتدر.
ما أروع هذا المشهد إذا قسناه إلى مشهد الكفار وهم يُسحبون على وجوههم
ويمثُلُون إلى نيرانهم؛ وكأن الملائكة الذين كان يحلم هؤلاء بشفاعتهم يتبرؤون منهم
ويعنفونهم: ذوقوا مس سقر.
ثم تدهشنا روعة هذا المقطع وبراعته من ناحية أخرى إذا قسناه إلى سورة
الرحمن؛ وبيانه أن سورة القمر تطفح بلهيب الإنذار وتجيش بغضب الجبار؛ فقد
تكررت فيها كلمة (النذر) و (الإنذار) اثنتي عشرة مرة، وتكررت كلمة العذاب
سبع مرات؛ وهذا شيء يخص سورة القمر دون سائر السور؛ حيث لم تتكرر
هاتان الكلمتان بهذا الشكل في أية سورة من السور.
ولعل هذا القدر من الكلام يكفينا لإدراك ما نحن بصدده من أن هناك جوانب
وأطرافاً من البلاغة القرآنية العالية المعجزة لا يطّلع عليها إلا من يدمن النظر في
نظام الآيات، ويلتمس الوشائج التي تربط المعاني بعضها برقاب بعض.
ومما يروى في كتب السيرة أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام
والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه وكلٌّ لا يعلم مكان
صاحبه؛ فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا؛ فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا؛ فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه
شيئاً ... [8] .
لقد كانت تمر بنا تلك القصة وأمثالها في كتب السيرة فكنا نتحيّر: كيف كان
يحرص الأعداء على سماع القرآن مع شدة عداوتهم، وحنقهم على الإسلام؟
وما الذي كان يسوقهم إليه سوقاً في جنح الظلام؟
وكيف كانوا يؤخذون بروعة آياته وجمال أسلوبه مع أنّ العداوة تعمي العيون
وتصم الآذان؟
ولكن لم يطُلْ بنا الزمان حتى تعرفنا على فكرة النظام فانقشعت عنا الحيرة،
وعرفنا أن هذا القرآن ينطوي في نظام آياته ورباط معانيه على عالم عجيب من
الروعة والجمال؛ بحيث لا يكاد يصبر عنه من يتذوق اللسان ولو قد جعلته العداوة
من أعمى العميان.
فسبحان ربنا الرحمن الذي كرّمنا بهذا القرآن وفضلنا به على سائر الأقوام.
__________
(1) رتاجا مرتجا: أي بابا مغلقا.
(2) في ظلال القرآن، تفسير سورة القمر.
(3) السمود: الغفلة واللهو والتكبير (لسان العرب، مادة سمد) .
(4) فتح القدير، 5/127.
(5) رواه مسلم، ح/187.
(6) اثناء الوشاح: قواه وطاقاته، ومفرد أثناء: ثني ومثناة ومثناة (لسان العرب، مادة ثنى) .
(7) الزبر: الكتاب.
(8) انظر: مثلا الروض الأنف، للسهيلي، 3/99.(145/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
إحياء سنة الوقف
نحو مؤسسة وقفية تمويلية تنموية
سليمان الطفيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى
آله وصحبه، أما بعد:
فقد طرحت افتتاحية مجلة البيان في عددها ذي الرقم (138) تحت عنوان: ... (صحونا.. فلننهض) بعض الإنجازات التي حققتها الدعوة في مرحلة الصحوة، ثم
تساءلت: ما الذي عليها أن تستعين بالله في إنجازه فيما يستقبل من مراحل؟
مطالبة في ختام كلمتها أنه آن لنا أن ننتقل من مرحلة (الصحوة) إلى مرحلة ... (النهضة) لذلك عمدتُ - بعد توفيق الله تعالى - إلى الإسهام في تجلية حقيقة طالما
غابت ولعقود طويلة عن أذهان كثير من المسلمين، هذه الحقيقة لها شأن عظيم وأثر
بالغ في نهضة الإسلام وانتشاره في القرون الأولى، ألا وهي (سنة الوقف) تلك
السنة الخيرية التي امتاز بها المجتمع الإسلامي الأول لقول جابر: (لم يكن أحد من
الصحابة له مقدرة إلا وَقَفَ) [1] ، ولقد ذكر التاريخ الإسلامي في المجال التطبيقي
لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف التي تبارى المحسنون من المسلمين في كل أقطارهم
وعصورهم وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة التي ما زال
كثير منها قائماً حتى اليوم. وهذه الأوقاف مما اختُص به المسلمون؛ لقول الإمام
الشافعي - رحمه الله -: (لم يحبس أهل الجاهلية - فيما علمته - داراً ولا أرضاً
تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام) [2] ، وإلا فقد ورد أنهم كانوا يحبسون؛
ولكن بقصد الفخر والخيلاء؛ بل إن فكرة حبس المال والاستفادة من ريعه معروفة
من قديم الزمان وحديثه، وإن لم يسم بالاسم المتعارف عليه عند المسلمين وهو
الوقف.
تعريف الوقف:
الوقف لغة: يطلق على الحبس [3] ، كما أنه يطلق على المنع [4] ، فأما
الوقف بمعنى الحبس فهو مصدر قولك: وقفتُ الدابةَ، ووقفتُ الأرضَ على
المساكين، أي جعلتها محبوسة على ما وقفت عليه ليس لأحد تغييرها أو التصرف
فيها. وأما الوقف بمعنى المنع فلأن الواقف يمنع التصرف بالموقوف.
وأما في اصطلاح الفقهاء، فقد عُرِّف الوقف بتعاريف كثيرة تبعاً لاختلاف
المذاهب والأقوال في مسائل الوقف، وأقرب تلك التعاريف لمعنى الوقف ما ذكره
ابن قدامة في المقنع بأنه: (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) [5] ، لكونه مقتبساً
من قول أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً صلى الله عليه وسلم، حينما سأله عمر بن
الخطاب عن أرض أصابها بخيبر، فقال له: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت
بها) [6] .
الأصل في مشروعية الوقف:
الأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكذلك إجماع الأمة.
أما الكتاب: فقول الله - تعالى -: [لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون]
[آل عمران: 92] .
أما السنة: فقد ورد في صحيح البخاري [7] عن ابن عمر - رضي الله
عنهما - قال: (أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت
حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث
وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان
انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
له) [8] .
وأما الإجماع: فقد اشتهر اتفاق الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على
الوقف قولاً وفعلاً [9] ؛ ومن ذلك قول الصحابي جابر بن عبد الله السابق ذكره،
وكذا قول الإمام الشافعي - رحمه الله -: (بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من
الصحابة من الأنصار وقفوا) [10] . وذكر الخصاف أن فعل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وما وقفوه من عقاراتهم وأموالهم إجماع منهم على أن الوقوف
جائزة ماضية [11] .
أركان الوقف: أركانه أربعة، هي [12] :
1- الواقف: وهو الحابس للعين.
2- الموقوف: وهي العين المحبوسة.
3- الموقوف عليه: وهي الجهة المنتفعة من العين المحبوسة.
4- الصيغة: ويقصد بها لفظ الوقف وما في معناه. وهناك ألفاظ صريحة
وألفاظ كناية. أما الألفاظ الصريحة فهي كقولك: وقفت، وحبست، وسبَّلت، وأما
ألفاظ الكناية فهي كقولك: صدقة محرمة، أو صدقة محبسة، أو صدقة مؤبدة.
أنواع الوقف:
ينقسم الوقف باعتبار الجهة الأولى التي وُقِفَ عليها إلى نوعين [13] :
1- الوقف الأهلي.
2- الوقف الخيري.
يُقصد بالوقف الأهلي: وقف المرء على نفسه، ثم على أولاده، ثم على
ذريته، ثم على جهة خيرية من بعدهم. أما الوقف الخيري: فهو الوقف على جهة
بر ومعروف، كالمساجد والمدارس والمستشفيات، وسمي وقفاً خيرياً لاقتصار نفعه
على المجالات والأهداف الخيرية العامة.
الحكمة من مشروعية الوقف:
لتشريع سنة الوقف حِكَمٌ عظيمة أبرزها: إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق
مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه
وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد تتحقق
به مصالح خاصة ومنافع عامة؛ ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال
المسلمين وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يكون من جهةٍ حلال ومن طيب المال.
مؤسسة الوقف والنهضة بشؤون الإسلام:
بعد هذه المقدمة القصيرة حول تعريف الوقف وأنواعه والحكمة منه، نجد أن
الفقه الإسلامي ينظر إلى الوقف على أنه مؤسسة تمويلية تنموية لها شخصيتها
الاعتبارية، وأن مكونات هذه الشخصية لا تنحصر في التركيز على أعيان الوقف
وإنما على الجهة (الخاصة أو العامة) التي رُصدت الأوقاف لمصلحتها، وبهذا تكون
مؤسسة الوقف مصدراً مالياً من مصادر الأمة الإسلامية تستطيع - بأمر الله - تعالى- أن تنقلها من مرحلة الإعداد (الصحوة) إلى مرحلة البناء (النهضة) . بمعنى أن
مرحلة الوعي والالتزام بالدين الإسلامي (الصحوة الإسلامية) يترتب عليها عودة
كثير من المسلمين إلى طريق الرشد والاستقامة - منهج أهل السنة والجماعة -
هذه المرحلة تدفع كثيراً من المسلمين - المقتدرين - إلى الإنفاق والبذل في جهات
البر والخير المختلفة، ومن ثم قيام مؤسسات خيرية منها مؤسسة الوقف، هذه
المؤسسات تسعى إلى دعم مجالات التنمية المختلفة، فتبدأ حينئذ حركة البناء
والنهضة تظهر وتنتشر في أرجاء المجتمع الإسلامي؛ وهذا ما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند بزوغ فجر الإسلام؛ حيث أوقف صلى الله عليه وسلم
الحوائط السبعة في المدينة [14] ، وقال عمر بن الخطاب: كان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ثلاث صفايا [15] ، وكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت
فدك [16] لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء: جزئين للمسلمين
وجزءاً كان ينفق منه على أهله؛ فإن بقي فضلٌ رده على فقراء المهاجرين [17] ...
وقال عبد الله بن كعب: حبس المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ...
أولادهم وأولاد أولادهم [18] . وذكر الطرابلسي: حبست عائشة - رضي الله عنها
- وأختها أسماء وأم سلمة وأم حبيبة وصفية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم،
وحبس سعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر
وعبد الله بن الزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - أجمعين [19] ، وقال الشافعي:
وأكثر دور مكة وقف [20] .
وعليه: إذا كانت المجتمعات الإسلامية عاشت حياة الصحوة مع بداية هذا
القرن الخامس عشر الهجري ونهاية القرن العشرين الميلادي؛ فإن المناداة إلى
عودة الوقف للإسهام في تمويل مجالات الدعوة ورعاية المؤسسات الخيرية،
والإنفاق على القائمين عليها (تمويلاً للنهوض بشؤون الإسلام) يعد فرصة مواتية
لإعادة الاعتبار لهذه السنة بما يتلاءم مع مستجدات العصر الحالي؛ لأن مؤسسة
الوقف لها أهداف تتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، تسعى دائماً لنشر الخير، وتنمية المجتمع الإسلامي، وإشاعة روح السخاء والبذل
الذي يحرك أبناء الأمة الإسلامية ويقودهم إلى ساحات التكافل والتعايش، وبذل
المعروف والإحسان، ويبعث في نفوسهم معاني الإسلام؛ تمهيداً للمستقبل المشرق
الواعد، وتوطئة لمقدم جيل إسلامي صميم أشد أخذاً بالإسلام في نهضته الحديثة
الراقية [21] .
ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن ظهور هذه المؤسسة الوقفية وانتشارها داخل
المجتمعات الإسلامية كفيل - بعد الله تعالى - بأن تقوم بالدور الريادي للأمة
الإسلامية خلال هذا القرن الهجري الجديد، بجانب المؤسسات الإسلامية الأخرى؛
ذلك أن مؤسسة الوقف بمثابة الكيان الحسي والمعنوي الذي ينسج داخل جسم
المجتمع الإسلامي خيوطاً محكمة في التشابك، وعلاقات قوية من الروابط يغذي
بعضها بعضاً، تبعث الروح في خلايا المجتمع حتى يصير كالجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ويصدق على ذلك قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم
مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [22] .
الوقف مؤسسة تمويلية تنموية:
لقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الإسلامية الماضية، الدور الكبير
والعطاء المتميز لمؤسسة الوقف في تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية
والصحية والمجتمعية، وفي رعاية المساجد والمكتبات، ... إلخ، مما ساعد على
نمو الحضارة الإسلامية وانتشارها؛ حيث انتشرت بسببها المدارس والمكتبات
والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين
وازدهر علم الطب، وأنشئ ما عرف قديماً بالبيمارستانات أو المارستانات
(المستشفيات) ، إضافة إلى دور هذه المؤسسة في دعم الحركة التجارية والنهضة
الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور.
والمتأمل في أساليب الانتفاع الاقتصادي لمؤسسة الوقف في العصور
الإسلامية الأولى سيجد أنه شمل أنواعاً مختلفة من مصادر ثروة المجتمع تمثلت في
أراض زراعية وحدائق وبساتين إلى مختلف العقارات والدكاكين وأدوات الإنتاج
فضلاً عن السفن التجارية والنقود.
أما عن الآثار التنموية لمؤسسة الوقف التي تظهر في حياة المجتمع فهناك آثار
اقتصادية أبرزها: الأثر على التشغيل والتوظيف وتوزيع الثروة وتشجيع
الاستثمارات المحلية، كما أن لها آثاراً اجتماعية، أهمها: تحقيق التكافل
الاجتماعي والترابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء، ومساعدة المحتاجين،
وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم
التغسيل والتكفين للموتى.
إضافة إلى ذلك فإن لهذه المؤسسة الإسلامية العريقة الأثر الواضح في عملية
التنمية البشرية التي تعنى ببناء الإنسان بجميع جوانبه (الروحية والعقلية
والجسمية) ، وذلك من خلال تركز أموال الوقف في بناء المساجد والجوامع ... (دور العبادة وتركيزها على جانب الروح) ، والمدارس والجامعات والمكتبات وكفالة الدعاة (دور التعليم وتركيزها على جانب العقل) ، والمستشفيات والمراكز الصحية (المارستانات أو البيمارستانات) وتركيزها على جانب الجسم.
وما أحوج المجتمعات الإسلامية في هذا العصر إلى وجود مؤسسات وقفية
تتولى كثيراً من شؤون حياتهم؛ فقد تتوفر متطلبات الحياة في مكان بينما نجد أماكن
أخرى يعيش أهلها في شظف من العيش.
__________
(1) عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي كتاب تيسير الوقوف مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1418هـ، ج1، ص23.
(2) الشافعي، محمد بن إدريس الشافعي الأم دار المعرفة للطباعة، بيروت لبنان، ج4، ص52.
(3) ابن منظور لسان العرب دار المعارف، القاهرة، 1984م، مج8، ص 4898.
(4) د إبراهيم أنيس، وآخرون المعجم الوسيط دار الفكر، مج2، ص 1051.
(5) ابن قدامة المقنع المؤسسة السعيدية، الرياض، ح2، ص307.
(6) محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزيادته، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1408هـ، ج1، حديث رقم 1418، ص299.
(7) الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، فتح الباري، المكتبة السلفية، القاهرة، ج5، حديث رقم 2773، ص468.
(8) الألباني، صحيح الجامع، مرجع سابق، ج1، حديث رقم 793، ص 199.
(9) المناوي: كتاب تيسير الوقوف، مرجع سابق، ج1، ص23.
(10) الشافعي، الأم، مرجع سابق، ج4، ص53.
(11) أبوبكر الخصاف أحمد بن عمر الشيباني، كتاب أحكام الأوقاف، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، بدون تاريخ، ص18.
(12) ينظر في ذلك: المناوي، مرجع سابق، ص24، ابوبكر، برهان الدين إبراهيم بن موسى، الإسعاف في أحكام الأوقاف، دار الرائد العربي، بيروت، 1981م، ص14، د صالح بن غانم السدلان، أحكام الوقف والوصية، دار بلنسية، ط1، 1415هـ، ص9، د إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، مرجع سابق، مج2، ص1051.
(13) ينظر في ذلك: د نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط3، 1415هـ، ص353254، د السدلان، أحكام الوقف والوصية، مرجع سابق، ص10 11، د حسن عبد الله الأمين، الوقف في الفقه الإسلامي، ضمن ندوة إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة1415هـ، ص113.
(14) الخصاف، كتاب أحكام الأوقاف، مرجع سابق، ص1، 2.
(15) الصفايا: مفردها الصفية، واستصفيت الشئ إذا استخلصته، والصفايا هي ما اختارها الرسول صلى الله عليه وسلم من الغنائم، ينظر: ابن منظور، لسان العرب، مرجع سابق، ج4، ص2469.
(16) فدك: اسم قرية بخيبر، وقيل بناحية الحجاز فيها عين ونخل أفاءها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ينظر: ابن منظور، المرجع السابق، ص2.
(17) الخصاف، مرجع سابق، ص3.
(18) الخصاف، مرجع سابق، ص2.
(19) الطربلسي، الإسعاف في أحكام الأوقاف، مرجع سابق، ص13.
(20) الشافعي، الأم، مرجع سابق، ج4، ص53.
(21) محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، الوقف في الفكر الإسلامي، وزارة الوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ج1، 1416هـ، ص11، 20.
(22) الألباني، صحيح الجامع، مرجع سابق، حديث رقم 8549، ص 1018.(145/20)
دراسات في الشريعة والعقيدة
فهم القرآن وتدبره
د.أحمد بن شرشال
القرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة اللفظية فحسب؛ بل نزل من أجل هذا
ومن أجل ما هو أعم وأكمل؛ وهو فهم معانيه وتدبر آياته ثم التذكر والعمل بما فيه، وهو المنصوص عليه في قوله - تعالى -: [ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو
عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم] [البقرة: 129] .
إن تلاوة كتاب الله - تعالى - تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو
بغير صوت، إنها تعني تلاوته بفهم وتدبّر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد
ذلك وسلوك.
إن تلاوة كتاب الله لا تعني الحرص على إقامة المدّ والغنّة ومراعاة الترقيق
والتفخيم فحسب؛ وإنما تعني ذلك مع ترقيق القلوب وإقامة الحدود.
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية المبالغة والحرص في تحقيق ذلك وسوسة
حائلة للقلب عن فهم مراد الله - تعالى -[1] .
والأمر الجامع لذلك: كما أننا مُتعبدُون بقراءة ألفاظ القرآن صحيحة وإقامة
حروفه على النحو الذي يرضيه - جلّ وعلا - متعبدون بفهم القرآن والتفقه فيه
دون سواه، والاستغناء به عن غيره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما
اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم
السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [2] .
قال - تعالى -: [الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته] [البقرة:121] وقد فسر قتادة أن الصحابة هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته [3] .
والتلاوة لها معنيان:
أحدهما: القراءة المرتلة المتتابعة، وقد أمر الله بها رسوله صلى الله عليه
وسلم في قوله تعالى: [وأمرت أن أكون من المسلمين. وأن أتلو القرآن]
[النمل: 91، 92] . وكان يتلوه على كفار قريش قال - تعالى -: [قل لو شاء الله ما تلوته عليكم] [يونس: 16] .
والثاني: الاتباع؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه؛ ومنه قوله - تعالى -: ... [والقمر إذا تلاها] [الشمس: 2] ، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (يتبعونه حق اتباعه) ، ثم قرأ: [والقمر إذا تلاها] أي: اتبعها [4] .
ونقل القرطبي عن عكرمة قوله: (يتبعونه حق اتباعه باتباع الأمر والنهي
فيُحلون حلاله، ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه) [5] ، أقول: والجمع بين
المعنيين هو المتعين، ويصح فيها جميعاً؛ فالتلاوة بإقامة الألفاظ وضبط الحروف،
ثم العمل بما تضمنته الآيات المتلوة، وعبّر عن الفهم والتدبر بالتلاوة حق التلاوة
ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة، وليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان
بالألفاظ بدون فهم وفقه واهتداء.
وقد بين عبد الله بن مسعود رضي الله عنه معنى حق التلاوة فقال: (والذي
نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله،
ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئاً على غير تأويله) [6] ، وهذا
البيان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واسع وجامع لمعنى التلاوة، وهي
قراءته كما أنزل، وفهمه وتفسيره والعمل به.
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتجاوزون خمس آيات أو عشراً
حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل.
قال أبو عبد الرحمن السلمي - أحد أكابر التابعين -: حدثنا الذين كانوا
يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا
من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من
العلم والعمل، قالوا: (فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) [7] .
وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان
الرجلُ منَّا إذا تعلمَ عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن) [8] ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة - رضي الله عنهم - نقلوا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة [9] ؛ فبين لأصحابه معاني القرآن
كما بين لهم ألفاظه: [وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم]
[النحل: 44] فنقل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء، ... بدليل قوله - تعالى -: [وما على الرسول إلا البلاغ المبين] [النور: 54] ، 0 ... (وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان) [10] .
قال ابن تيمية وابن القيم: (والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن
الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه) [11] .
وهكذا تلقى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القرآن لفظاً ومعنى، وكان
التعلم والتعليم عندهم مبناهما على التفقه في القرآن دون سواه.
ذكر الحافظ ابن كثير عن الضحاك فقال: (قال الضحاك في قوله - تعالى -: [كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون] [آل عمران: 79]
قال: (حقٌّ على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) ومعنى تَعْلَمون: تفهمون
معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم [12] .
قال الرازي: (ودلّت الآية على أن العلمَ والتعليم والدراسة توجب كون
الإنسان ربانياً؛ فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيُه وخاب عملُه) [13] .
ونقل هذا المعنى رشيد رضا وقال: (فبعلم الكتاب ودراسته وتعليمه للناس
ونشره والعمل به يكون الإنسان ربانياً مَرضِيّاً عند الله) [14] . هكذا كان دأبُ
الصحابة - رضي الله عنهم كما ذكره ابن القيم فقال: (ولم يكن للصحابة كتابٌ
يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه
وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك) [15] .
فكان القرآن عندهم هو العلمُ الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً.
وقد فسر حَبْرُ الأمة ابن عباس الحكمة بفهم القرآن وفقه ما فيه من علوم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله - تعالى -: [يؤتي الحكمة من يشاء
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا] [البقرة: 269] قال: (المعرفة بالقرآن:
ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه،
وأمثاله) [16] .
وفسرها الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف وهو ما
أُخِذَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم:
(ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [17] .
ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من
العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهو لا ينافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها
يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمبيّنة للقرآن، وتعني - من بين
ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -: [وآتيناه الحكمة وفصل
الخطاب] [ص: 20] .
قال مجاهد: (يعني الفهم والعقل والفطنة) [18] ومن أعطاه الله ويسّر له فقه
القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: (إن من أُعْطِيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي
مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها) [19] .
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما
يُمتنَع به من السفه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: [ويعلمهم
الكتاب والحكمة] [البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر
والاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ فقال: [كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا
آياته وليتذكر أولوا الألباب] [ص: 29] ، وقال: [أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوب أقفالها] [محمد: 24] ، وقال: [ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل
مثل لعلهم يتذكرون] [الزمر: 27] ففي مثل الآيات ونحوها دليل على وجوب
معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال
لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لمن كان بمعاني
القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً [20] .
وأقول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر
لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال القرطبي: (وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل
على أن الترتيل أفضل من الهذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ) وقد شكا رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه للقرآن فقال: [وقال الرسول يا رب
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا] [الفرقان: 30] .
وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: ... (ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه،
وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى
غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من
هجرانه) [21] .
قال ابن تيمية: (وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم
التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس،
وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية
قَبِلَهُ وإلا ردّه) [22] .
ويشهد لما تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: (والله
ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما
يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ) [23] .
فكلام ابن كثير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن
نوع من أنواع هجره، وكلام شيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن
يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره من كلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن
أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم
كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في
تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: (لن
تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه
ومنسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة) [24] .
فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه،
ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى
طلب التفقه في القرآن نفسه.
وهكذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛
فقد وجد من يمنع طلب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم
في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في
القرآن وبعض علومه [25] .
وذكر ابن عبد البر عن علي قوله: (أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ
رجع فمحاه؛ فإنما هلك الناس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم) ،
وذكر عن عمر: (أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب
ربهم) [26] ، نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله: (كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً) [27] .
ما أشبه الليلة بالبارحة! والقصة نفسها تتكرر في بعض طلبة هذا الزمن؛ إذ
يهجرون حفظ القرآن وفهمه وتفسيره والتفقه فيه إلى كتب فلان وفلان، وإنك
لتعجب من بعضهم؛ إذ انحرف في الطلب، فتجده لا يحفظ من القرآن إلا قصار
السور ونحوها ولا يفهمها، وتجد له جرأة عجيبة على اقتحام علم الجرح والتعديل
ونحوه؛ فمثل هذا وأمثاله لم يستوعب التصور الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي
رسمه القرآن وبيَّنه.
فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه القرآن وفعله
السلف، ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن والتفقه فيه، وما حظهم من هدايته؟
__________
(1) التفسير الكبير، 6/71.
(2) رواه مسلم (2699) .
(3) الجامع للقرطبي، 1/91.
(4) تفسير ابن كثير، 1/175، الرازي 2/36.
(5) الجامع للقرطبي، 1/92.
(6) تفسير ابن كثير، 1/175.
(7) الإتقان، 2/389، التفسير الكبير، 2/132.
(8) جامع البيان، 1/35.
(9) التفسيرالكبير، 2/132.
(10) الصواعق المرسلة، 440.
(11) التفسير الكبير، 2/104، 253، الصواعق، 440.
(12) ابن كثير، 1/ 405، القرطبي، 2/ 115.
(13) تفسير الرازي، 4/123.
(14) تفسير المنار، 3/ 348.
(15) الصواعق المرسلة، 441.
(16) الإتقان، 2/385، ابن كثير، 1/345.
(17) رواه أحمد، ح/ 16546.
(18) تفسير ابن كثير، 4/33.
(19) الجامع للقرطبي، 2/300.
(20) جامع البيان، 1/35.
(21) تفسير ابن كثير، 3/349، تفسير ابن القيم، 3/ 292.
(22) التفسير الكبير، 6/71.
(23) تفسير ابن كثير، 4/36.
(24) الجامع، 1/30، فتح القدير، 1/14.
(25) المحدث الفاصل، 203.
(26) جامع بيان العلم، 1/76، 77.
(27) أفردنا هذا الموضوع في بحث مستقل سبق أن نشرته مجلة البيان في العدد (133) .(145/24)
قضايا دعوية
الدعاة
تأملات في أسباب غياب البعد الزمني وآثاره
منصور طه الحاج آدم
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل مجتمعاً كاملاً من جاهلية وشر
وفرقة وشتات ودماء وتارات إلى مجتمع رشيد بقيم الحق معافيً يمثل قدوة في
العالمين في فترة لا تتعدى ثلاثاً وعشرين سنة، وقد بدأ العد التصاعدي للدعوة
النبوية ببزوغها والإيذان بها، وبدأ العد التنازلي لدعوة الكفر التي غدت تفقد كل
يوم أرضاً وضَيْعةً من ضيعاتها، بينما كانت الجاهلية تسعى جاهدة لتطويق الدعوة
وإماتتها في مهدها بشتى السبل والطرق؛ لمعرفتها ما يترتب من تحولات قادمة
تحسب لها الحسابات عبر رصدها لتحركات النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته،
ولكنها أخفقت وخاب مسعاها؛ لأن الدعوة منصورة بالله، ثم لأن النبي صلى الله
عليه وسلم عمل بالأسباب الواجبة المقتضية لتحقيق تمكينها في الأرض.
ولأهل الباطل عداوات شديدة ورصد كبير لأهل الحق ودعاته، ولا يفتؤون
يبذلون ما في وسعهم لضرب الدعوة وأهلها؛ مما يوجب عليهم ذلك نظراً بصيراً
وتحركاً محكماً ينطلق من تقييم صحيح وسليم، وتعرُّف على مآلات الخير والشر
ودرجات كل منهما، وكما يقال: (ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن
العاقل من يعرف خير الخيْرين وشر الشرَّيْن) كما يوجب عليهم الإفادة من الزمن
لتحقيق المفاجأة وتغيير موازين القوى؛ فإن عامل المفاجأة وتغيير الموازين في
الصراع يستند إلى قدرة الجماعة على بذل طاقاتها مع اختزال للجهد والزمن بأقصى
ما يمكن لتحقيق التفوق على الخصم؛ فإن صراع الجماعات والأمم صراع على
أرضية الزمن، وكيفية كسبه وتحقيق أعظم إنجاز بأقل جهد وزمن، وهذا ما
نلاحظه في دعوة النبوة: عظمة الإنجاز مع قلة الزمن.
وأمام أهل الحق جبهات ثلاث مفتوحة علمياً وعسكرياً وسياسياً من قِبَل
التيارات الآتية:
1 - التيارات الكفرية والشركية.
2 - تيارات النفاق من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم الذين يتلوَّنون بكل
لون، ويدفعون كل راية حسب مقتضى الحال، ويكشفون عورات المسلمين.
3 - الفِرَق والجماعات الضالة الحديثة والقديمة في أصولها.
وتستخدم هذه التيارات هيئات متخصصة لدراسة ورصد القوى الإسلامية،
وتعد خططاً ومناهج فكرية وسياسية وعسكرية لضربها وقطع الطريق أمام العودة
الإسلامية الرشيدة للأمة؛ ومما تستخدمه من وسائل محاربة:
1- إفراغ محتوى دعوات الإصلاح بتحوير مناهجها ومقاصدها عبر
الإسقاطات الفكرية المختصة.
2- التشويش الفكري والعقدي، والتشكيك في عقائد الإسلام ومنهجه.
3- إدخال الجماعات الإسلامية في معارك استنزافية فكرية وسياسية
وعسكرية.
4- بث وتوسيع الخلافات الداخلية والاستفادة من وضعية التشرذم الداخلي.
5- إيجاد الشرعية لضربها وإنهائها، والتحرش بها عبر وصمها ... بالألقاب الآتية: الأصولية، الإرهاب، المتاجرين بالدين، أصحاب العاهات العقلية والنفسية.
6 - إضعاف السند والالتفاف الشعبي حول الدعوة - أو استخدام سياسة
الاستفراد بالجماعات باستثمار أخطائها.
وفي مقابل هذه العداوات المرصودة، وبكل شراسة ضد جماعات الدعوة
الإسلامية نجد تشرذم البيت الإسلامي وانشغاله بقضايا بيئية، بينما الواقع المعاش
لأمة الإسلام يلقي بأحمال وتبعات ثقيلة على دعاة الحق، وإنه لينوء بها من ينوء
إلا ذوي العزائم وكبار النفوس المتوكلين على ربهم.
المطلوب:
1 - مرجعية علمية وعملية واحدة، أو معالجة أحوال النخبة:
من الاهتمامات الكبرى الضرورية في الدعوة المعاصرة تشكيل المرجعية
العلمية والعملية الواحدة بمعالجة أحوال النخبة من علماء وطلبة علم ليمثلوا حالة
الوحدة في المرجعية العلمية وضبط منهجية العمل الدعوي ومقاربتها في إصلاح
الواقع في تصوره ومطالبه، وفقه التعامل والإنزال فيه، ومعالجته معالجة منهجية
بعيداً عن الفوضى والارتجال العلمي والعملي التي يعاني منها الواقع الإسلامي
المعاصر الذي أدى إلى ظهور تيارات مغالية أو مجافية، وبدون أفكار نشاز زادت
من أزمة البيت الإسلامي؛ حيث انطلقت من رد فعل أزمة الواقع واتساع مطالبه
وفقدان المرجعية الموجهة والضابطة علماً وعملاً. إن توحيد أو مقاربة المرجعية
العلمية القائدة هي نقطة أولى لرأب الصدع وتوحيد الجهود.
2 - مراجعات منهجية في العلم والعمل:
مما يؤدي إلى سلامة مسلك الدعوة في أقوالها وأفعالها تحريرُ منهاجها على
قواعد وضوابط وأصول أهل السنة والجماعة: العلمية والعملية، ثم يتبع ذلك
مراجعات منهجية في جانب العلم والتصور والفهم؛ لئلا يحيد عن الوسط ويصاب
بعاديات البدع والانحراف؛ فإن الأصول ربما تكون سليمة ولكن تعتري العلة بعض
الجوانب أو بعض المسائل التي توجب فتنة للاختلاف والشقاق فيها، وقد تكون تلك
من الآثار التي عبر عنها ابن تيمية - رحمه الله تعالى - نتيجة المعصية، وهي:
خفاء الحق عند أقوام أو أحوال ومواطن فيضيِّقوا ما وسَّع الشارع، أو يتوسطوا
فيما ضيَّق فيه من الحرام، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن [1] .
فلا بد إذاً من تنقية المنهج العلمي وتصحيح المسلك العملي ومراجعته ليكون
على مشروعية صحيحة، كما أنه يجب أن نستوعب قواعد السياسة الشرعية
وأصولها في النظر إلى الوضع القائم وتقييمه، وفي ضبط مسلك الدعوة في الواقع
المحيط بمختلف مكوناته العضوية والعلمية والفكرية دوراً وموقفاً نتوخى في ذلك كله
جلب كل صلاح مستطاع ودرء كل فساد مقدور عليه، ولنؤمِّن طريق الدعوة من
المعارك الاستنزافية التي يكيد بها الخصماء، والتي تفقد فيها كثيراً من القدرات
والطاقات، وتهدم فيها المكتسبات.
3 - تجديد خطاب الدعوة المعاصرة وإصلاحه:
الذي يتابع خطاب النبوة في عصر الدعوة الأول يرى تنوعه وتطوره بحسب
المراحل التي تمر بها الجماعة والمطالب التي تقتضيها المرحلة؛ فالخطاب في مكة
غير الخطاب الموجه في المدينة، والخطاب في المدينة ممتد عن الخطاب الموجه
في مكة تفصيلاً وتوضيحاً وإضافة [2] .
والواقع المعاصر أشد حاجة إلى هذا التنوع والمرحلية في الخطاب لتلبية
حاجات المرحلة ومطالب الواقع في الأعيان والأحداث والأحوال تنوعاً ينتظم تحت
دائرة كلية واحدة يقتضي بعضها بعضاً وتتضافر فيها المفاهيم في مسلك واحد
ولتحقيق غاية واحدة وهي تحقيق العبودية لله. إن تجديد أساليب الخطاب المعاصرة
وإصلاحها لتعالج قضايا الأمة وفق منظور شرعي واستراتيجية عملية ناضجة
ضرورة لتحقيق التغيير الإسلامي المنشود، وإن أشد ما يعاني منه الواقع الدعوي
المعاصر ذلك الخطاب الذي يعرض صورة منحرفة أو جزئية ناقصة أو سطحية
تنطلق من رأي هذا أو ذاك، أو فهم هذا أو ذاك مقدماً على الحق كما أن الخطاب
الذي اقتصر على مرحلة أو جزئية معينة وثباته حولها عامل من عوامل الشلل
الدعوي، وهو ما يفسر موت كثير من الأنشطة الدعوية المعاصرة وتجاوز الزمن
لها.
4 - بناء الكفاءات والقدرات:
إن مراعاة البعد الزمني للدعوة تتطلب الإعداد الضروري الذي يؤهل
للوصول إلى المستقبل المُستَشْرَف، وكل مرحلة وطور لها متطلباتها ووسائلها التي
ينبغي الإعداد لها، وكل مرحلة تؤدي إلى الأخرى في تتابع وانتظام ثابت؛ فالذي
يجب أن يرافق الاستشراف المستقبلي إعداد وتطوير الوسائل والإمكانات والقدرات
التي تشكل ذلك المستقبل المتطور وتصوغه.
إن كثيراً من الفروض العامة غائبة لغياب المؤهلين الذين يقومون بها مما أقعد
الأمة عن ممارسة دورها الحضاري، وهذا لا يُعفي العاجزين عن أدائها، بل
يُلزمهم أمراً آخر وهو تهيئة القادرين عليها ودفعهم لإتقانها [3] ؛ فإن الأفراد قد
جُبِلتْ فيهم خَلْقاً مختلفُ القدرات والإمكانات الذاتية التي يُسِّروا لها (فكل ميسر لما
خلق له) فإما أن تموت فيهم، وإما أن تحيا فيهم فيكون لها دورها في حياتهم وفي
حياة أمتهم؛ فلذلك لا بد من العناية بالتنشئة السليمة لناشئة الإسلام التي تُخرج فيهم
كوامن القدرات والطاقات، وتسعى إلى بنائها وتطويرها، وتدفع بكل واحد إلى ما
هيئ له بوفور القدرة عليه ليحوز العلوم والآداب التي تناسب ما هو ناهض به،
وإن تأهل لغيره أُعِينَ عليه.
إن الدعوة الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى كثير من القدرات والمؤهلات والبناء
الداخلي المؤسس، مما يؤدي إلى ثغرات وعوامل ضعف فيها في المرحلة الراهنة،
وتلك القدرات هي أهم ما تفتقر إليه القيادات الدعوية الرشيدة التي تملك قدرة التأثير
وزمام المبادرة في القيادة والإصلاح والتربية. ومما يؤخذ على الجماعات الإسلامية
المعاصرة عندما تخوض المعترك السياسي أو المعترك العسكري أنها تضعف أو
تشل قدرتها في التربية والإصلاح، وتتناقص عضويتها الصفوية، وتتحول إلى
تيارات شعبية عامة، مما ينحرف بمسارها، وتتحول أهدافها وتفقد هويتها.
وأخيراً:
هل يعي دعاة الحق ويتفهمون تحديات الواقع وينهضون قياماً بالواجب
وإصلاحاً في الأرض؟ إن القيادات والدعاة الربانيين هم أدلاَّء الخير وقادة الإصلاح، تعلو بهم راية الحق وتبطل بهم رايات الباطل، والأرض الإسلامية عموماً خصبة
تنبت ما يزرع فيها نبتاً صالحاً، وقد توارت كثير من رايات الباطل إما زوالاً وإما
كيداً خفياً من وراء الشعارات الإسلامية. وإن كانت الأرض مهيأة لقبول ما يزرع
فيها فثمة تحدٍّ يتمثل في فقدان دعاة الحق؛ وهي حال قد تدفع بالتيار العام
للانحراف وراء دعوات خبيثة أو إمامات ضعيفة ناقصة تؤدي إلى فتنة داخلية؛
فإن ما يلحظ أن كثيراً من التيارات المتغربة التي تلبس لبوس الإسلام وأخرى
باطنية خبيثة لها مبادراتها وطروحاتها وأفكارها تعالج بها كثيراً من قضايا الواقع
وتنتج كمًّا هائلاً من الفكر مما يلقي بثقله على أصحاب الحق من الواجبات العظيمة
التي تنوء دونها الجبال.
إن تعقُّد الواقع وامتداداته الداخلية والخارجية تستوجب من أهل الدعوة أن
يكونوا في مستوى المطالب والمقاصد فهماً وهمة وإصلاحاً وعملاً وتضحية
وتخطيطاً وتنظيماً للجهود والطاقات؛ فإن إصلاح الأمة إنما يتم بجهاد وحركة
علمية ناضجة ونشطة تجدد ما اندرس من معالم النبوة وآثارها، وتبعث مناهج
السلف وأصولهم وهديهم علماً وعملاً وممارسة وسلوكاً. ومن الله وحده العون وعليه
التكلان.
__________
(1) يراجع الفتاوي، 14/ 147.
(2) يراجع الفتاوي، 15/159، والموافقات 2/62.
(3) الموافقات، 1/121.(145/28)
تأملات دعوية
العادات بين طرفين
محمد بن عبد الله الدويش
تنتشر العادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات،
ويرتبط التمسك بها والإصرار عليها بمستوى ثقافة المجتمع وتعلمه، وبمدى الترابط
الاجتماعي فيه.
فالمجتمعات المتعلمة والمثقفة أكثر جرأة على تجاوز العادات والتخلي عنها من
المجتمعات الأمية، وتزداد الجرأة على تجاوزها كذلك كلما قلَّ الترابط الاجتماعي؛
فمجتمعات المدن أقل تمسكاً بها من البوادي والمجتمعات القبلية.
وحين تستقر هذه العادات والأوضاع لدى الناس ويتشربونها يقع الخلط بينها
وبين الأحكام الشرعية؛ وأبرز مثال على ذلك: العادات المرتبطة بقضية المرأة.
وقد يختلط الأمر على بعض الغيورين فيدافعون عن بعض العادات ويصرون
على التمسك بها والتشبث بها ظناً منهم بأنها جزء من الدين، والدين إنما مرجعه
الوحيان وما استُنبط منهما.
وثمة طائفة أخرى يهمهم شأن الإسلام، ويسعون إلى جعله مقبولاً بين
الآخرين، ومن ثَمَّ، فهم يسعون إلى أن يُبْعِدوا وينفوا عنه أي صفة من صفات
القصور والنقص؛ حتى ولو كان معيار القصور والنقص هو ما يراه رجال الغرب
الذي لا يدين بالإسلام.
ومن ثم يشن هؤلاء حرباً شعواء على العادات والأوضاع الاجتماعية لا لأنها
ليست من الدين، بل هي - لدى هؤلاء - تشوِّه صفاءه ونقاءه.
وكما أن حرص الطرف الذي يصر على التمسك بها والتشبث غير كاف في
سلامة موقفه؛ فحرص هذا الطرف أيضاً على إبراز الإسلام بصورة صافية لدى
الآخرين ليس كافياً هو الآخر.
والغلو ومجانبة الاعتدال في المواقف أياً كان اتجاهه أمر مذموم؛ فالوسطية
سُنَّةُ الله في خلقه وشرعه.
ومن ثَمَّ، فالإصرار على التمسك بالعادات والأوضاع الاجتماعية التي لم يأت
بها شرع منزل أمر مرفوض.
ويزداد الأمر رفضاً حين تخالف أدباً شرعياً، كالتعود على نمط من الضيافة
يدخل صاحبه في دائرة السرف، أو يُحمِّله فوق ما يطيق، ولو دُعي للإنفاق في
سبيل الله لما بذل عُشْرَ ذلك.
وفي المقابل ثمة عادات لم ينص الشرع على اعتبارها، لكنه مع ذلك لم ينص
على إلغائها؛ فالأمر فيها ليس منكراً يُغلَّظ فيه على صاحبه ويَشدَّد عليه، ما لم
يعتقد ارتباطها بشرع الله وينزلها منزلته.
والعجب أن طائفة ممن يبالغ في الوقوف ضد هذه العادات لا يجد غضاضة
فيما يسمى بالأعراف الدبلوماسية، والبروتوكولات الرسمية، وهي - في الأغلب
- تقليد ليس له مسوِّغ موضوعي، ومع ذلك يلتزم بها ويحافظ عليها، بل يعيب من
يخالفها ويتجاوزها؛ فلِمَ تكون عادات الساسة وبروتوكولاتهم جديرة بالاحترام دون
عادات رجال القبائل؟
ومن العادات والأوضاع الاجتماعية ما يندرج تحت باب الشيم ومعالي
النفوس؛ فهو مما ينبغي أن يُحافَظ عليه ويُرعى؛ فالإخلال به لدى أهله إخلال بالمروءة.
ومنها ما يندرج تحت مقاصد الشرع العامة كمحافظة المرأة على ما تقتضيه
آداب الشريعة، وتوقير الكبير وتقديره؛ فعدم نص الشرع عليه بخصوصه ليس
مسوغاً للتخلي عنه بحجة كونه عادة.(145/32)
قضايا دعوية
سبق درهم مائة ألف درهم!
عبد الخالق القحطاني
من نافلة القول أن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أجلِّ الأعمال وأشرفها؛
فهي مهمّة الرسل - عليهم الصلاة السلام - وقد خُصَّت بها هذه الأمة من بين سائر
الأمم من لدن آدم - عليه السلام - حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
غير أن الناظر إلى الساحة اليوم يجد انصرافاً - إن لم يكن إعراضاً - عن
هذه المهمّة العظيمة من قِبَلِ أناسٍ كان يُفترض فيهم أن يكونوا هم أهل الميدان
المنتظرين، وقادته المبرّزين.
هؤلاء الأفراد على مستويً عالٍ من التربية الإسلامية والفهم الصحيح،
ويجمعون إلى ذلك ذكاءاً وَقَّاداً ومعرفة بالعلوم الشرعية لا يستهان بها.
ولكنّ المعادلة غير المفهومة تنشأ عندما نرى هذه الفئة من المؤهلين تدير
ظهرها لهذه المهمّة -أعني الدعوة إلى الله- وتنشغل بما ينشغل به عامَّة الناس من
الانخراط في الوظيفة والعمل الدنيوي، وقد يجمعون إلى جانب انشغالهم ذاك توزيع
كتاب أو شريط إسلامي أو القيام بعمل دعوي محدد أيّاً كان - كأثرٍ من آثار الضغط
الذي تفرضه عليهم التربية التي تلقوها في سنين ماضية - ظانين بذلك أنهم قد أدّوا
ما عليهم تجاه الفكرة التي يحملونها.
هذا الفراغ الهائل الذي خلّفه هؤلاء النفر، دفع أناساً ممّن ليست لديهم الخبرة
الكافية ولم يبلغ علم أحدهم النصاب الشرعي [1]-وربما لم ينخرط الواحد منهم في
أي برنامج تربوي طيلة حياته - إلى أن ينزلوا إلى ميدان الدعوة وليس لديهم عُدَّة
سوى العاطفة الصادقة، والإحساس بالمسؤولية تجاه الدين الذي هم به يؤمنون.
إن هذه الصورة غير المتوازنة تثير في النفس الشعور بالأسى والإعجاب في
آن واحد:
- الأسى لواقع أولئك المتخلفين عن قافلة الدعوة مع قدرتهم وتمكنهم.
- والإعجاب بأولئك المتقدمين - على قلة بضاعتهم - وأذكر عن أحد هؤلاء
المتقدمين قوله لأحد الزملاء: (أنا قليل الفهم في العلم الشرعي؛ ولكنني أستطيع
أن أقف على باب المسجد وأوزّع على الناس أشرطة أو كتيبات، أليس الدال على
الخير كفاعله؟) لقد قلت في نفسي: هو - والله - أفقه من كثيرٍ ممن لديهم الكثير
من العلم الشرعي!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم: رجلٌ له
درهمان أخذ أحدهما فتصدّق به، ورجلٌ له مالٌ كثير فأخذ من عرض ماله مائة
ألفٍ فتصدَّق بها) [2] .
وهكذا سبق درهم الفقير مائة ألف الدرهم التي للغني؛ لأنَّ الدرهم كان نصف
مال الفقير، ومائة ألف درهم كانت شيئاً من مال ذلك الغني.
وبالمثل حال أولئك النفر من الناس الذين يملكون قدرات ومواهب ولا
يستثمرون منها إلا النزْر اليسير يجعلونه لدعوتهم، وحال أولئك الذين ليس لديهم إلا
القليل من المعرفة والفهم ولكنهم قد بذلوه كله في سبيل دعوتهم؛ فإن درهم هؤلاء لا
شك يسبق دنانير أولئك المكدّسة!
فإلى إخواننا الذين هجروا الميدان قبل أن يلجوه، وظنّوا أنهم قد أدَّوْا ما عليهم
وزيادة، إليكم ما قاله أبو مالك - رحمه الله -: (كم من رجلٍ يرى أنه قد أصلح
شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همّته، قد أصلح عمله، يُجْمَع ذلك يوم القيامة
ثم يُضرَب به وجهه!) [3] .
قال - تعالى -: [وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]
[محمد: 38] .
__________
(1) أقصد بالنصاب الشرعي كل ما يلزم معرفته من الدين بالضرورة من أمور العقيدة والفقه ونحوها.
(2) ترتيب أحاديث الجامع الصغير، عوني الشريف، المجلد الأول، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة والنفقة، ح/28.
(3) أين نحن من أخلاق السلف؟ جمع الجليل وعقيل، ص10.(145/34)
نص شعري
وقفة أمام عام الحزن
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي
لمن يتدفَّق النَّغَمُ؟ ... وماذا يكتب القَلَمُ؟ !
ومَنْ ترثي قصائدُنا؟ ... وكيف يُصوَّر الألمُ؟
إذا كان الأسى لَهَباً ... فقُلْ لي: كيف أبتسمُ؟
وقُلْ لي: كيف يحملني ... إلى آفاقه الحُلُمُ؟
إذا كانتْ مَوَاجعُنا ... كمثل النَّارِ تضطرمُ
فقُلْ لي: كيف أُطْفِئُها ... وموجُ الحزن يَلْتِطم؟ !
أَعامَ الحُزْنِ، قد كَثُرَتْ ... علينا هذه الثُّلَمُ
كأنَّك قد وعَدْتَ المَوْ ... تَ وعداً ليس ينفصمُ
فأنتَ تَفي بوعدكَ، ... وهوَ يمضي مسرعاً بِهِمُو
ألستَ ترى رِكَاب المو ... تِ بالأَحباب تنصرمُ؟ !
ألستَ ترى حصونَ العلمِ ... رَأْيَ العينِ تنهدم؟
نودِّع ها هنا عَلَماً ... ويرحل من هنا عَلَمُ
جهابذةُ العلوم مضوا ... فدمعُ العين ينسجم
مضوا وجميعُ مَنْ وردوا ... مناهلَ علمهم وَجَموا
تكاد الآلةُ الحًدْبَا ... ءُ، والأَقدام تزدحِم
... تطير بهم إلى الأعلى ... وبالجوزاءِ تلتحمُ
أكادُ أقول: إنَّ الشِّعرَ، ... لم يَسْلَمْ له نَغَمُ
وإنَّ عقاربَ الساعا ... تِ لم يُحْسَبْ لها رقمُ
تشابهتِ البدايةُ والنهاية ... واختفتْ (إرَمُ)
ونفَّذ سَدُّ مَأْرِبَ كلَّ ... ما نادى به (العَرِمُ)
هوى نجمُ الحديثِ كما ... هوتْ من قبله قِمَمُ
وكم رجلٍ تموتُ بمو ... تهِ الأَجيالُ والأُمَمُ
أَناصرَ سُنَّة المختا ... رِ، دَرْبُكَ قَصْدُه أَمَمُ
رفعتَ لواءَ سنَّتنا ... ولم تَقْصُرْ بك الهِمَمُ
قَضَيْتَ العمرَ في عملٍ ... به الأَوقاتُ تُغْتَنَمُ
خَدَمْتَ حديثَ خيرِ النَّا ... سِ، لم تسأمْ كمن سئموا
حديثُ المصطفى شُرِحَتْ ... به الآياتُ والحِكَمُ
فنحن بنور سنَّته ... إلى القرآنِ نحتكمُ
خَدَمْتَ حديثَ خير النَّا ... سِ، لم تُنْصِتْ لمن وَهِمُوا
ولم تُشْغَلْ بما نثروا ... من الأهواءِ أو نظموا
سَلِمْتَ بعلمك الصافي ... من (البَلْوَى) وما سَلموا
غَنِمْتَ بما اتجهْتَ له ... ومَنْ نشروا الهدى غَنموا
ومَنْ جعل العُلا هَدفاً ... فلن ينتابَه السَّأَمُ
أَناصرَ سنَّة الهادي ... سقاكَ الهاطلُ العَمَمُ
بكتْكَ الشَّامُ وَيْحَ الشَّا ... مِ أخفتْ بَدْرَها الظُّلَمُ
وخيَّم فوق (أَرْدُنِها) ... سحابٌ غَيْثُه الأَلمُ
بكتْ (ألبانيا) لعبتْ ... بها أحقادُ من ظلموا
وعشَّش في مرابعها ... بُغاثُ الطير والرَّخَمُ
بكاكَ المسجدُ القُدْسيُّ ... والمدَنيُّ، والحَرَمُ
بكتْكَ سلاسلُ الكتبِ ... التي كالدُّرِّ، تنتظم
فسلسلةُ الأحاديث ... التي صحَّتْ لمن فهموا
وسلسلةُ الأحاديث ... التي ضَعُفَتْ لمن وَهموا
... وتحقيقُ الأسانيد ... التي ثبتتْ لمن علموا
علومٌ كلُّها شَرَفٌ ... تعزُّ بعزِّها القِيَمُ
أناصرَ سنَّةِ الهادي ... لنا من ديننا رَحِمُ
لقيتُكَ دونَ أن ألقا ... كَ، تُورق بيننا الشِّيَمُ
... لقيتُكَ في ظِلالِ العلمِ ... والأزهارُ تبتسم
تجمِّعنا محبَّةُ خير ... مَنْ سارتْ به قَدَمُ
خَدَمْتَ جَلال سنَّته ... فيا طُوبى لمن خَدَموا
رحلْتَ رحيلَ مَنْ أخذوا ... من الأمجادِ واقتسموا
كأنَّك لم تُدِرْ قلماً ... ولم يُجْرِ الحديثَ فَمُ
حزنَّا، كيف لم نحزنْ ... وشِرْيانُ القلوبِ دَمُ؟
ولكنَّا برغم الحزنِ ... لم يشطحْ بنا الكَلِمُ
... نعبِّر عن مَواجعنا ... وبالإسلام نلتزمُ
ولولا أنَّ أَنْفُسَنا ... بربِّ الكون تعتصمُ
لَمَاجتْ بالأسى وغدتْ ... أمام الحزن تنهزمُ(145/36)
نص شعري
رسالة من سفح الجبل! ؟ [*]
جمال الحوشبي
مقاتل من الشيشان.. متوشّح سلاحه.. وعلى قسمات وجهه علامات الصمود
وآثار المأساة. رأيته يرفع يديه.. يناجي ربه بحرقة، ويسأله النصر على الأعداء
قبل أن ينطلق مع إخوانه على جبهة القتال، وعلمت أن له حكاية طويلة كغيره من
المجاهدين وأنه لو تملّك زمام الكلمة لأرسل رسالة إلى من وراءه يصوّر بها حاله
ويتأسى على من فقد من الأهل والولد.. فصوّرت رسالته بلسان حاله قائلاً:
سقى الله قومي بالغمام غواديا ... وأغدق أرضي فوق تلك الروابيا
وأردفها شوقي لداري وصبيتي ... وأهطل منها سكبة من مآقيا
ألا ليت شعري كم عزيز فقدته ... وكم طلل في الحي قد بات خاليا
وكم لبيوت الله بعد خرابها ... أبيّ يبيع النفس لله غازيا
ولله خِلوٌ كان يرعى شبابه ... دهته قلوب ينتحبن بواكيا
فإذا المطايا يستبقن ركابه ... وإذا المنايا يستحلن أمانيا
تقاطر جيراني فشدوا رحالهم ... وآذنهم داعٍ إلى البين حاديا
وقالوا: هلم اليوم فالخطب نازل ... فقلت: سيقضي الله ما كان قاضيا
فواللهِ! ما أرخيت للروس هامتي ... وإنّي على المكروه صعْبٌ قياديا
وتاللهِ! لن أرضى لنفسي هوانها ... فزادي كفاحي والظلام ردائيا
ولست بنَزَّال على الناس حاجتي ... كفى بالذي أرجوه عوناً وهاديا
تولَّيت عنهم والظلام يلفني ... وأمنع نفسي أن يزيد الهوى بيا
وليس الذي أشكوه أنِّي مهاجر ... إلى الله؛ لكنْ من تركت ورائيا
صغاراً عن المكروه في حجر أمهم ... وشيخاً بركن الدار قد بات ثاويا
أودعهم والعين تذكي دموعها ... أصبّرهم والخوف ألاَّ تلاقيا
إذا عز في دارٍ مُقامٌ وعِشرةٌ ... فجهّز لبين الدار إن شئت حاديا
فلا قرَّب الرحمن دار مذلة ... ولا شق لي في لجة الضعف واديا
وجاوزت.. حتى لاح لي نار إخوتي ... على جبل يؤوي الكماة الغوازيا
رقَيْت لهم والليل يرخي سدوله ... وأنجمه في الأفق ثكلى كما هيا
فلما رأوني قام كلٌ يضمني ... ويسألني عمن تركت ورائيا
وهل جزت في سَفْري الغداةَ ديارَهُ ... وهل أهلهُ والدارُ سِلْمٌ كما هيا؟
ورحت أقوِّي عزمهم وجهادهم ... وأتلو من القرآن آياً مثانيا
فما إن فرغنا من أداء صلاتنا ... إذا بالرزايا ينتظمن عواليا
وإذا الشظايا مستطير شرارها ... وإذا الجبال الصم دوت شواكيا
وحَلَّقتِ الأشباح فوق رؤوسنا ... كغيلان ليل يستبقن عواديا
ركضت إلى كِنّ على جرف صخرة ... لعل ظلاماً منه يخفي مكانيا
ولاذ سريعاً كل إلفٍ عرفتُه ... وبات خيال الموت في السفح ثاويا
تذكرت أجدادي غداةَ تُخُرِّموا ... فأشهرت رشاشي وزال الذي بيا
وصوبت مني طلقة بعد أختها ... على طائرات الروس طلقاً مؤاتيا
وقلت: إلهي لست أرمي رصاصتي ... فأنت الذي ما زلت يا رب راميا
وأنت ترى ما يصنع الكفر بيننا ... وأسْلَمَنا حتى الأعزُّ مواليا
ودوى ضجيج هالني بُعدُ ضوئه ... ينوِّر من أضوائه تلك واديا
وكبَّر إخواني فأيقنت أنني ... غداة دعوت الله لبَّى دعائيا
وأن انتصاري ليس في جنب قوتي ... ولكن لأن الله يخزي الأعاديا
فقولوا لمن قد باع بالرخص دينه: ... أجيبوا امرأً للعز والمجد داعيا
وحَتَّامَ لا ترعون عهداً وذمة ... ألم تعلموا يا إخوة الدين ما بيا؟
وربي دهانا الروس لما رأوكمُ ... نياماً وأمري عنكمُ بات نائيا
وردنا حياض الموت كُرْهاً وأنتمُ ... وردتم على اللذات واللهو ناديا
وبأسكمُ يا قوم بين صفوفكم ... ونيرانكم تُصلون فيها المواليا
فعودوا ... لعل الله يكشف ما بنا ... وتوبوا.. تروْا نصر المهيمن دانيا
__________
(*) المرجع: (كتاب: الشيشان صقور الجبال البيضاء) من إصدارات دار الأندلس الخضراء، جدة.(145/38)
وقفات
كيف نخاطب الجماهير..؟
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
درج عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال
المنابر المختلفة، ووجد كثير منهم - ولله الحمد - إقبالاً واسعاً، والتفَّت الجموع
بين أيديهم، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز الفكر والأدب والثقافة
الآخرين. ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين إعادة النظر في طروحاتهم
وطريقتهم في الخطاب وتقويمها، لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر
الإمكان، والاستفادة من التجربة الماضية. وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها
في هذا الأسلوب أضعها بين أيديكم للحوار وتبادل الرأي حولها:
أولاً: الإيمان بالهدف:
مرَّ على الناس في العصور التاريخية المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين
ودعاة التغيير، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم. وبتتبع سيرهم وأخبارهم
نجد أن صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم
وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك
المبادئ، والتضحية من أجلها. وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت من
تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها،
وقديماً قال الرافعي: (رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً،
ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة) [1] .
ثانياً: الحذر من الخيلاء وحب الرياسة:
محبة الناس للمصلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض
النفوس الضعيفة، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة، وتصرفها عن
كثير من معالي الأمور. وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير، أو
تناستها، حينما غلبت عليها تلك الشهوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه) [2] .
ولهذا قال ابن تيمية: (كان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا
العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قال أبو داود صاحب السنن:
الشهوة الخفية: حب الرياسة. وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم) [3] . وقال أيضاً: (وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق
محبتها لله وعبوديتها له) [4] .
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن
يأخذ بها، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل، ومن تعلَّق قلبه بحبِّ الظهور
صغرت نفسه، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحرافات
التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية، وما أحسن قول الرافعي: (إذا أسندت الأمة
مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم) [5] .
ثالثاً: الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة:
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر! - في
دائرتهم، فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة
الهتاف والتصفيق، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك
العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولا يحيطون بكثير من التداخلات
الفكرية والسياسية، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية.
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان:
الأول: التأثر الإيجابي:
وهو في غاية الأهمية؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام، ويحسون بأهمية
آرائهم، وقيمتهم المعنوية، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير، ممَّا يزيدهم
ارتباطاً بدعاة الإصلاح، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون.
الثاني: التأثر السلبي:
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم، ويقع في شراكهم، ويصبح برنامجه
الإصلاحي مرتبطاً برغباتهم، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم، وتكون النتيجة أن
الجماهير هي التي تقوده، وهو يحسب أنه يقودهم..! !
رابعاً: الدقة في الخطاب:
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل، حاله
كحال غيره من المتحدثين، (وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب) [6] .
ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم،
وقد يطير خطؤه في الآفاق. وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن
يتصيد العثرات، ويتسقَّط الزلات، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح، ولهذا قال
عمر بن الخطاب: (ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل
أقوم من القدح لوجد له غامزاً) [7] . ولمَّا قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! ... إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك! فقال الحسن: (يا هذا!
إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لمَّا رأيت الناس لا يرضون
عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم) [8] .
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً،
وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة
وإتقان، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس،
ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه، ويعجبني المتحدث الذي
يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله، ويوضح ما استشكله الناس عليه،
ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ.
__________
(1) مجلة الرسالة العدد (94) محرم 1354هـ.
(2) أخرجه: الترمذي في الزهد (4/508) رقم (2376) ، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5496) .
(3) شرح حديث أبي ذر (ص25) ، وانظر: رسالة في التوبة ضمن جامع الرسائل (1/ 233) .
(4) الفتاوي (10/215) .
(5) مجلة الرسالة العدد (84) ذو القعدة 1353هـ.
(6) تأويل مختلف الحديث (ص54) .
(7) بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر القرطبي (1/406) .
(8) تبيين كذب المفتري، لابن عساكر (ص422) .(145/40)
الاسلام لعصرنا
آيات الصيام.. والدعوة إلى الإسلام
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
الإسلام دعوة ومنهاج: دعوة إلى الله، ومنهاج لتبليغ هذه الدعوة، سواءاً كان
التبليغ لأناس مؤمنين، أو لأناس لم يؤمنوا بعد، ومنهاج البلاغ هذا ليس مبيناً
بالوصف فقط كما في مثل قوله تعالى: [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن] [النحل: 125] ، بل وبالمثال أيضاً. والمثال
يكون بالطريقة التي يدعو بها الخالق - سبحانه وتعالى - عباده - كما سنرى في
آيات الصيام - وبالطريقة التي يدعو بها الرسلُ أقوامهم، كما في مثل قوله تعالى
عن نوح: [ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ... ] [هود: ...
25 - 34] والتي يدعو بها الذين ساروا على سنتهم من الإنس كما في مثل قوله -
تعالى - عن مؤمن آل فرعون: [وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه..] ... [غافر: 28 - 34] ، بل ومن الجن كما في قوله تعالى: [وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ... ] [الأحقاف: 29 - 32] .
ومثل الدعوة في هذا كمثل الصلاة والصيام والحج؛ فكما أننا نعرف الصلاة
والصيام والحج معرفة علمية نظرية، ثم نصلي كما عَلِمْنا كيف كان الرسول صلى
الله عليه وسلم يصلي، ونأخذ عنه مناسك حجنا، فكذلك نعرف طرق الدعوة معرفة
نظرية علمية، ثم نعرفها معرفة عملية بمعرفتنا للطرق التي دعا بها أنبياء الله -
تعالى - ودعا بها سائر عباده الصالحين الذين قص الله - تعالى - علينا قصصهم
في هذا المجال. لكن المسائل التي بُينت لنا طرقُها العملية نوعان: نوع لا يتأتى
فعله إلا من العباد كالصلاة والزكاة، ونوع نسترشد فيه إلى جانب ذلك بالطريقة
التي يعامل الله - تعالى - بها عباده، كطريقة الدعوة إليه، وآياتُ الصيام التي هي
موضوعنا في هذا المقال خيرُ مثال على هذا النوع الأخير.
إن الغاية من هذه الآيات هي أمر المسلمين بصيام شهر رمضان، ولو شاء
الله - تعالى - لأمرنا بها أمراً مجرداً لا استعطاف فيه ولا تعليل؛ فهو الرب ونحن
عبيده، ومن حقه أن يأمرنا بما شاء، ومن واجبنا أن نطيعه بغير سؤال ولا مراء.
لكن الله - تعالى - أعلم بطبيعة النفوس التي خلقها، وبأحسن الطرق إلى هدايتها
وعطفها على قبول الحق والعمل به. لذلك نراه - سبحانه - لا يأمر عباده بالصيام
أمراً مجرداً بل يسوق كل الحقائق التي من شأنها أن تعطف قلوبهم إلى الخير الذي
يأمرهم به.
يقول - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... ] [البقرة:
183- 187] فيخاطبهم بأحب أوصافهم إليهم. وهذا الخطاب وإن كان خطاباً عاماً
إلا أنه يجعل المستمع الفرد يُؤَمِّل في الدخول في سلك هؤلاء الذين شهد الله - تعالى- لهم بالإيمان. وهل بعد الشهادة الإلهية من شهادة؟ وإذا كان يرجو أن يكون
مؤمناً حقاً بعمله بما كتب الله عليه، فما أقل الصيام من ثمن لهذا الإكرام!
كما كتب على الذين من قبلكم: بما أن الإنسان قد يتردد في الإقدام على أمر
يراه صعباً ولا يرى له فيه سلفاً، فإذا تبين له أن الأمر قد جربه أناس قبله، فأغلب
الظن أنه سيقول لنفسه: إذا كان الصيام قد كتب على من قبلنا فصاموا، فما الذي
يمنعنا نحن من أن نصوم؟ وإذا لم نكن أول من جرب الصيام بل جربه أناس قبلنا
ونجحوا في التجربة، فما الذي يمنعنا نحن من أن ننجح كما نجحوا؟
[لعلكم تتقون] : فالغاية من الصيام ليست تعذيب الإنسان بمنعه من الطعام
والشراب والنكاح، وإنما أتى هذا المنع وسيلة ضرورية لغاية شريفة هي التقوى،
والتقوى هي سبيل النجاة من عذاب الله؛ وهي من ثَمَّ سبيل الفوز بجزائه ومرضاته، ولهذا كانت التقوى هي الغاية التي تحققها كل عبادة من العبادات التي أمرنا الله -
تعالى - بها.
[أياما معدودات] : لم يكلفنا الله - تعالى - بصيام السنة كلها ولا بأكثرها، وإنما هي ثلاثون يوماً من أيام العام التي تبلغ أكثر من ثلاثمائة وخمسين يوماً. وكلمة معدودات تعبر عن قلة هذه الأيام. والمؤمن يقول لنفسه: ولماذا لا أصوم أياماً معدودات وأكسب التقوى التي وعد الله بمنحها لمن يصومها؟
[فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر] : ولأن الغرض من الصيام هو التقوى لا مجرد تعذيب البدن؛ فإن الله - تعالى - قد أعفى من صيام هذه الأيام المعدودات من كان مريضاً أو على سفر؛ لما قد تسببه هاتان الحالتان من مشقة زائدة على الأمر العادي.
[شهررمضان الذي أنزل فيه القرآن] : والأيام المعدودات التي أمرنا الله بصيامها هي أيام شهر لا كسائر الشهور، إنه شهر رمضان الذي شرفه الله - تعالى- بأن أنزل فيه القرآن، وذلك أنه كما أن الله - تعالى - أعلم حيث يجعل رسالته بالنسبة للبشر، فهو - سبحانه - أعلم حيث ينزل رسالته بالنسبة للأزمنة؛ لأنه كما أن بعض البشر أفضل من بعض فإن بعض الأزمنة والأمكنة أفضل من بعض [وربك يخلق ما يشاء ويختار] [القصص: 68] . ولهذه المناسبة القوية بين القرآن وشهر رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل في كل رمضان، ثم إنه عرضه عليه مرتين في العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم. ولهذه المناسبة أيضاً فإنه يستحب لنا الإكثار من تلاوة القرآن ولا سيما في صلاة التراويح.
[هدى للناس وبينات من الهدى] : والفرقان هذه أهم خصائص القرآن، الكتاب الذي أنزله الله في شهر رمضان. إنه هدى للناس، وإنه بينات، بينات من الهدى ومن الفرقان.
[يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر] : إنها لحكمة بالغة أن تنزل هذه الآية الكريمة ضمن آيات الصيام. إن في الصيام شيئاً من المشقة، ما في ذلك من شك؛ لكن الآية تؤكد لنا أن هذه المشقة ليست مرادة لذاتها، وإنما هي مشقة قليلة محتملة تجلب تيسيراً روحياً كبيراً، هو نيل التقوى؛ فهي إذن ثمن قليل يدفعه الصائم لنيل عوض كبير. ولما كان المراد من أوامر الله ونواهيه كلها هو اليسر لا العسر؛ فقد أذن - تعالى - بالفطر لمن كان في حال يكون الصيام فيه عليه عسيراً.
لكن اليسر ليس شيئاً متروكاً لأهواء الناس الذين لا يحيط علمهم بكل عواقب
الأعمال والتروك، وإنما ينظرون إلى بعض جوانبها دون بعض، وإلا فلو ترك
أمر اليسر لتقديرات الناس لقال أكثرهم: إن الصيام عسر لا يسر، وما دام الأمر
كذلك وما دامت أوامر الله - تعالى - ونواهيه مبنية كلها على اليسر، فإن المنهج
الصحيح للاختيار بين آراء المجتهدين هو أن يختار ما دل الدليل على أنه أقرب
للحق؛ لأن ما كان أقرب إلى الحق فهو الأقرب إلى اليسر. أعني أنه لا ينبغي
للعالم أن يجعل ما يعتقده يسراً هو المعيار الذي يفضل به اجتهاداً على اجتهاد؛ لأن
ما يظنه يسراً قد يكون في الحقيقة عسراً، بل عليه أن يبذل جهده في النظر في أدلة
المجتهدين ليفضل ما كان منها أقرب للحق موقناً بأن ما كان أقرب للحق؛ فهو
الأقرب إلى اليسر.
أعاننا الله وإياكم على صيام شهر رمضان، وجعلنا وإياكم من خير الدعاة إلى
الإسلام.(145/42)
مواقف
ودوا لو تكفرون كما كفروا..
صور من جهود المنصرين في إفريقيا
مراسل المجلة في إفريقيا
تتوالى جهود المنصرين العاملين في أوساط المسلمين في القارة الأفريقية
وتتنوع أساليبهم في ظل إمكانات مالية وبشرية وإدارية ضخمة، ومؤازرة واضحة
من الدول الغربية والمؤسسات العالمية، مما جعل مخاطرهم على المسلمين -
وخصوصاً الفقراء والنساء والأطفال - تتعاظم يوماً بعد آخر في ظل أمية طاغية،
وجوع مدقع، ومرض مؤلم، وشبهات فاتنة، وشهوات ملهية، وهو ما يوجب على
المسلمين مناصرة إخوانهم والسعي إلى رفع الجهل والجوع والمرض عنهم،
وسأكتفي هنا بإيراد بعض جهود المنصرين المكثفة والقصص الواقعية التي لا تمثل
إلا غيضاً من فيض، وقطرات من بحر؛ فلعل في ذلك عبرة وذكرى، ودفعاً للهمم
لنصرة دين الحق، والوقوف في وجه أهل الباطل، وسُبُلِهِم التي يبثون شبهاتهم عن
طريقها، ومن ذلك:
1- استطاعت الكنيسة في نيروبي في كينيا تنصير شاب عربي اسمه حسن،
وحين ارتدَّ عن الإسلام جعلته الكنيسة من زعمائها، وأخذت تطوف به المدن
والقرى لتغري به السفهاء قائلة: إن هذا الشاب عربي ولد في الإسلام ونزل القرآن
بلغته، ولكنه اختار النصرانية، وقد ارتدَّ بسببه حتى الآن 85 شخصاً، وحين تتبع
الدعاة حاله وجدوا أن الجامعة الكاثولوكية تدرب طالباتها على كسب شباب المسلمين
وخاصة العرب فوقع هذا الشاب في حبال إحداهن.
2- تمكنت الكنيسة في ولاية لامو ذات الأغلبية المسلمة في كينيا من بناء
أكثر من 300 كنيسة حتى الآن علماً بأن هذه الولاية حتى عام 1974م لم يكن فيها
أكثر من كنيستين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الكنيسة سعت في توطين أتباعها
في تلك الولاية، ووقعت مع مؤسسة (G. T. Z) الألمانية اتفاقية تم بموجبها بناء
مدارس من مرحلة الروضة إلى المرحلة الثانوية.
3- في منطقة سيولو في كينيا استطاع النصارى بناء 12 مدرسة وكنيسة،
ويشترطون على أبناء المسلمين الراغبين في الدراسة التنصر وإلا حُرموا من التعليم، وقد تنصر حتى الآن أكثر من 50 أسرة فقيرة لا تستطيع دفع رسوم أبنائها
الدراسية ولا قيمة تغذيتهم وملابسهم التي تبلغ 140 دولار للفرد سنوياً، وهم الآن
تحت إشراف منظمة (F. F. H) التي كانت تزعم في بداية تواجدها بأنها تعمل
للإنسانية جمعاء، وحين تعرفت على واقع المجتمع تنكرت لمنهجها السابق
وأظهرت هويتها.
4- قامت بعض المنظمات التنصيرية في دولة مالي ذات الأغلبية الإسلامية
بترجمة كتاب (الآيات الشيطانية) لسلمان رشدي إلى اللغة المحلية (البمبارا) التي
يتحدث بها أكثر من 85% من السكان، وتم طباعة هذه الترجمة وتوزيعها بأعداد
هائلة، فأسفر ذلك عن نتائج مؤلمة تمثلت في نشر الفهم الخاطئ والتصور غير
الصحيح عن الإسلام في أوساط الكثير وخصوصاً طلبة الجامعات والمثقفين ثقافة
غربية.
5- في بداية عام 1999م تمكنت الكنيسة في دولة مالي من امتلاك أرض
كبيرة تقع في حي من أرقى أحياء باماكو العاصمة، وذلك لبناء كنيسة ومركز
تنصيري ومكتبة عامة، وتقدر كلفة بناء المشروع بـ 6 ملايين دولار أمريكي،
ويتوقعون أن ينتج عن ذلك تنصر كثير من أبناء المسلمين إما اغتراراً بتضليلات
المنصرين، وإما طمعاً فيما يقدمونه إليهم من مساعدات مادية في ظل احتياجات
ماسة إلى الطعام والدواء والتعليم، خيب الله توقعاتهم!
6- قامت الكنيسة في جوس في نيجيريا بتجهيز أربعة مواقع: ثلاثة منها
لإيواء أبناء المسلمين الفقراء وخصوصاً المهاجرين (وهم طلبة الكتاتيب القرآنية
التقليدية) ، ورابعها للمعاقين، ويتم في هذه المواقع الأربعة تقديم الطعام ثلاث
مرات يومياً ودعوتهم إلى الدخول في النصرانية، وقد تنصر عدد منهم ولبس
الصليب، وبخاصة الشباب، ناهيك عن أعداد كبيرة تشككت في دينها.
7 - أنشأت الكنيسة في مدينة جوس في نيجيريا كُلِّيةً لتأهيل المنصرين في
مجال الدراسات الإسلامية ليتم إرسال طلبتها بعد التخرج إلى المدارس الحكومية
لتدريس الإسلام لأبناء المسلمين.
8- أصاب مرض شديد امرأة من المسلمين تدعى (هند) فعجزت عن تكاليف
العلاج البالغ مقدارها (500 دولار) ، فقامت الكنيسة بتولي علاجها، فارتدت المرأة
عن الإسلام وتنصرت، فقام المنصرون بتوظيفها، وزوجوها من أحد الأطباء،
ومنعوا الدعاة من اللقاء بها، وعندما حاول أحدهم اللقاء بها نقلها المنصرون إلى
مدينة أخرى خوفاً من أن تنجح محاولات الدعاة في الوصول إليها.
9- أقامت الكنيسة في جمهورية التوجو العديد من المراكز الصحية التي تعالج
الناس مجاناً أو بثمن زهيد، وتشترط إدارتها على كل من يأتي للعلاج فيها بأن
يشاهد قبل الكشف والعلاج فيلماً عن حياة المسيح لمدة لا تقل عن ساعة.
10 - في دولة بنين أقامت الكنيسة في شمال البلاد ذات الأغلبية الإسلامية
مراكز تنصيرية ضخمة على مساحات شاسعة، وكان من أبرز أنشطتهم استقطاب
اللقطاء وأبناء الفقراء إلى هذه المراكز بدعوى كفالتهم وتعليمهم وتقديم المعونات
المادية لهم، وتسديد الرسوم الدراسية عنهم، ونحو ذلك.
كما أنهم جعلوا من هذه المراكز قاعدة للانطلاق إلى القرى والأدغال النائية
لتكثيف دعوتهم وبث باطلهم.(145/44)
فتاوى اعلام الموقعين
صور من الجهاد بالمال
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في المملكة العربية السعودية
فتوى رقم (12627) وتاريخ 11-2-1410هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة من د.
عبد الله الخاطر [*] إلى سماحة الرئيس العام، والمحالة إليها برقم (7248) وتاريخ
16-11-1409هـ، وأجابت عن كل منها عقبه فيما يلي:
تمهيد: الجهاد في سبيل الله إعلاءاً لكلمته - سبحانه - ونصرة لدينه، ونشراً
لشرائعه عقيدة وعملاً، وتذليلاً لما قد يكون في طريق ذلك من عقبات واجب على
المسلمين، وذلك مما يختلف باختلاف أحوالهم واختلاف أحوال أعدائهم فيما يكيدون
به للإسلام والمسلمين، قال الله تعالى: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن
رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم
وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون] [الأنفال: 60] ،
فأوجب سبحانه على المسلمين إعداد ما استطاعوا من العدة عموماً: من قوة جيش
وتوفير مال للإنفاق على ظروف الجهاد: قتالاً أو بياناً قولياً أو كتابياً، وقد ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم
وألسنتكم) [1] . فذكر - عليه الصلاة والسلام - أنواعاً من الجهاد في سبيل الله
وعلى هذا يجاب عن الأسئلة:
السؤال الأول: نعلم أنكم تدفعون الزكاة للدعاة، ولكن هل يجوز دفع الزكاة
لموظفي المركز الذين لا يقوم المركز إلا على مثلهم؛ مع العلم بأن هؤلاء الموظفين
ليس لديهم دخل مادي آخر ولكنهم يستطيعون العمل في مكان آخر، ولكن المركز
سيصبح مشلولاً ومعطلاً عن العمل؟ أمثلة من الموظفين: سكرتير، مدير إداري،
حارس وطباخ، مسؤول إعلانات عامة، مدرسون في المدرسة، مدير للمدرسة.
والجواب: إذا كان أعداء الإسلام يحاربونه بالقوة الفكرية: بإلقاء الشبه،
وتحريف الآيات، والإلحاد في الدين وجب على علماء المسلمين أن يحاربوهم
بجنس السلاح: بإقامة الحجة وإزاحة الشبهة وإيضاح الحق وبيانه بدليل يدمغ
الباطل ويدحضه، ويهدي إلى سواء السبيل، كما كانت الحال قبل مشروعية الجهاد
بالقتال وبعده؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك قبل الهجرة وبعدها
فيلتقي الوافدين إلى بيت الله الحرام، ويبلغهم دعوة الإسلام، ويقف في بعض
المشاعر وينادي بأعلى صوته: يا معشر قريش! حتى إذا اجتمعوا بلَّغهم كلمة
التوحيد، وكان يسافر إلى بعض الجهات كالطائف؛ ليبلغ من فيها دعوة الإسلام،
وقد أرسل إلى بعض البلاد كالمدينة دعاة يرشدون أهلها ويعلمونهم القرآن، وأرسل
بعض القرَّاء إلى بعض القبائل كرعل وذكوان، وبعث معاذاً وغيره من الصحابة
إلى اليمن، وكتب إلى عظماء الدول وكبراء الأمم كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام.
وبالجملة: جاهد في سبيل الله بالقول والكتابة والبعوث قبل الجهاد بالسيف والرمح
والنبال ومعه، بل أمر حسَّاناً أن ينازل المشركين بالشعر حينما أخذوا يحاربون
المسلمين حرب أعصاب فأمره أن يجيبهم، وأمر الصحابة أن يجيبوا من قال من
الكافرين: لنا العزَّى ولا عُزَّى لكم، وعلمهم كيف يجيبونهم، وكان بعض الكفار
مثل كعب بن الأشرف يؤلب الكفار على المسلمين، ويوقد نار الفتنة، فرأى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يندب بعض الصحابة لقتله، تخلصاً من سعيه جاهداً في
إيقاد نار الحرب؛ فكل حرب تقابل بما يناسبها: الشبهة تقابل بالحجة الواضحة،
والسيف بالسيف، والدعاية بالدعاية، والتمويه بحسن البيان وإظهار الحق؛ فإنفاق
المال على من يقوم من الدعاة بمثل هذه الأعمال وفيما يلزم لهم في أداء مهمتهم
إنفاقٌ له في الجهاد في سبيل الله؛ فيجوز أن ينفق في ذلك من أموال الزكاة لكونه
من مصارفها.
السؤال الثاني: على المركز ديون تحمَّلها القائمون عليه وهي في ذمتهم،
وهذه الديون هي بعض قيمة المركز؛ فهل يجوز دفع الديون من الزكاة؟ وتوجد
زكاة لدى المركز مدفوعة من أهل الخير لصرفها في مصارفها؛ فهل تدفع من هذه
الزكاة الموجودة لدى المركز؟
السؤال الثالث: هل يجوز صرف الزكاة لمصاريف المركز الأخرى مثل
كهرباء - تدفئة - هاتف - ضرائب؟
والجواب (2-3) : إذا كان دعاة المنتدى الإسلامي بلندن ينهجون في دعوتهم
منهج أهل السنة والجماعة فيرجعون في الأحكام والمواعظ إلى كتاب الله وسنة
رسوله؛ ويعتمدون في مراجعهم على كتب السلف، واضطروا إلى مبنى يكون
مركزاً لهم يجمع شتاتهم، ويكون مقراً لمن يحتاجون إليه من الموظفين، ويعقدون
فيه جلساتهم للتشاور بينهم في شؤون الدعوة والتخطيط لنجاحها وقوة انتشارها فلا
بأس من دفع قيمة ذلك المبنى مما تجمَّع لدى المسؤولين عنه من الزكاة، وكذا يجوز
دفع مصاريف الكهرباء لإنارة المنتدى وتدفئته، ودفع ما لزم من الضرائب
ومصاريف الهاتف مما تجمَّع من الزكاة لدى المسؤولين عن المنتدى.
السؤال الرابع: هل يجوز دفع الزكاة لطلبة يدرسون في الخارج علوماً مادية
(ليست شرعية) في حالة انقطاع المنح عنهم؛ مع العلم بأنهم يمكن رجوعهم إلى ...
بلدهم فيعملون بما عندهم من تحصيل علمي؟ وكيف يكون الأمر عمن لا يستطيع
الرجوع إلى بلده؟
والجواب: إذا كان هؤلاء الطلاب يدرسون علوماً مادية مباحة كالطب يحتاج
إليها الدعاة ومن يقوم بخدمتهم من الموظفين، أو يحتاج إليها المسلمون وانقطعت
عنهم المنح وليس لديهم ما ينفقونه لإتمام تلك الدراسة أو تعذر عليهم الرجوع إلى
بلادهم ليرتفقوا بما لهم فيها من عقار ونحوه جاز أو تدفع نفقاتهم من الزكاة لإتمام
دراستهم لحاجتهم وحاجة دعاة المركز أو المسلمين إليهم.
السؤال الخامس: تجتمع لدى المركز أموال من الزكاة؛ فهل يجوز تأخير صرفها لأكثر من سنة نظراً للحاجة؟
والجواب: يجوز إذا لم تَدْعُ الحاجة إلى تعجيل صرفها لمستحقيها، وكان
تأخيرها لمصلحة متوقعة تقتضي إنفاقها فيها، وذلك في حدود سنة فأقل.
السؤال السادس: توجد لدى المركز صدقات تبرُّع؛ فهل عليها زكاة إذا حال
عليها الحول ولم تصرف؟
والجواب: لا تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول ولو بلغت نصاباً؛ لأنها
ليست ملكاً لمعين؛ بل هي مرصودة لتنفق في وجوه البر التي تُبُرِّعَ بها لتصرف
فيها، لكن ينبغي التعجيل بصرفها لمستحقيها حينما يوجد المستحق.
السؤال السابع: هل يجوز إرسال كتب أو مجلات إسلامية كمجلة البيان وهي
إسلامية إن شاء الله إلى البلاد الفقيرة لتعليم أهلها ونشر الإسلام فيها من أموال
الزكاة؟
والجواب: إرسال الكتب الإسلامية التي تبين الحق بالدليل عقلاً ونقلاً ...
وتنتصر له ونشر المقالات الإسلامية في المجلات والصحف هدايةً إلى الصراط
المستقيم، ودحضاً للباطل، وردّاً على الشبه من طرق الدعوة إلى الله والجهاد في
سبيله، فيجوز صرف الزكاة في ذلك؛ نصرةً لدين الله، وإعانةً على نشر العقيدة
الصحيحة والأحكام الشرعية التي يشهد لها الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة
نائب رئيس اللجنة ... ... ... ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(*) الأمين العام السابق للمنتدى الإسلامي.
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.(145/46)
ملف فلسطين
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
ليست للبيع بأي ثمن
في خنادق الفنادق، وسرادقات المنتجعات المحمية، بدأت مفاوضات حل
القضية الفلسطينية على الطريقة العلمانية حلاً نهائياً تتحلل فيه كل المعتقدات
والمبادئ والأخلاق والأعراف.
فها هم أشاوس الكفاح المسلح الذين رفعوا لواء (ثورة حتى النصر) و (ما
أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة) ها هم يبيعون القضية الفلسطينية بكل قداستها بثمن
بخس، وما أخذ منهم بالقوة يحاولون استرداده بالمفاوضات وهيهات هيهات! !
إن الزمرة التي تولت أمر القضية الفلسطينية زمرة معزولة عن آمال الأمة
وآلامها. زمرة لا يحق لها أن تنوب عن المسلمين في بيع أراضيهم المقدسة لليهود.
تأتي المفاوضات النهائية لتنتهي بها المفاوضات، كل المفاوضات، فلن نسمع
بعد ذلك عن القدس شيئاً، لن نسمع بعد ذلك عن اللاجئين شيئاً، لن نسمع بعد ذلك
عن الاستيطان شيئاً، ولن نسمع عن العمل (الجهادي) شيئاً، فوقتها لن يكون إلا
إرهاب خالص نقي خالٍ من شوائب التسويغات، فالأرض لم تعدْ محتلة! !
ووقتها لن نعجب حين يضاف لعدد الدول في الجامعة العربية واحدة أخرى.
ومع بداية هذه المفاوضات يأتي ملفنا هذا: (القضية الفلسطينية.. مآس
متجددة) ، للتذكير بالقضية بكل ما ألمَّ بها من آلام، وبكل ما نتطلع إليه من آمال،
تذكير نطرق به على ذاكرة الشعوب الإسلامية باستمرار حتى لا ننسى فلسطين التي
يريدون بيعها، يريدون علمنتها بقداستها ومقدساتها الطاهرة، تذكيراً للمسلمين
بمنزلة قضيتهم وصراعهم مع اليهود، تذكيراً بوعد الله الحق وسننه في خلقه.
كما أنه تذكير لأولئك الباعة المتجولين بأن فلسطين ليست للبيع بأي ثمن.(145/49)
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
بين القومية العربية والقومية اليهودية
عبد الناصر الشعراني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.. وبعد:
فقد خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم أبا البشر - عليه السلام - ثم خلق من
آدم حواء، ثم جعل في ذريتهما البنين والبنات، وذلك مذكور في القرآن الكريم،
في قوله - سبحانه وتعالى -: [يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا] [النساء: 1] ، فالنفس الواحدة هي آدم،
والزوج هي حواء، أما الرجال فهم الأبناء والأحفاد، والنساء هن البنات والحفيدات.
وقد سار آدم - ومَن بعده - على تقوى من الله، ثم بدأت الفُرقة التي نفث
فيها الشيطان - لعنه الله - بعدما كثر الناس، وانتشروا في الأرض، وبدأ التعصب
للقبائل في الظهور، حتى أدى إلى الاقتتال بحميَّة الجاهلية، والافتخار بالانتساب
إلى المفهوم القبلي الضيق، ولكن الله لم يرضَ عن تلك الجاهلية العمياء التي تجعل
الانتماء الفردي للجماعة الصغيرة، أو المجتمع الكبير هو أساس كل شيء، فلا
تتعدى ذلك إلى الانتماء الرحب، الذي يتعدى الفرد والجماعة الصغيرة إلى الدولة
الكبرى التي تضم الأفراد والجماعات والقبائل؛ ولذلك قال الله - سبحانه وتعالى -: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير] [الحجرات: 13] ، فالتعارف وسيلة من
وسائل عمران الدنيا، وأكرم الخلق أتقاهم.
وبدا ذلك جلياً في دولة الإسلام الفتيَّة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه
وسلم عندما كان يخاطب الأمة كلها، ولم يفرق بين أوس وخزرج ومهاجرين،
ويمن وحبشة، بل الكل عباد الله، ولم يترك للشيطان مجالاً أو ثغرة ليجتالهم،
وكان خير مثال غضبه من الفتنة التي أُثيرت بين جناحي الأنصار الأطهار (الأوس
والخزرج) ، واعتبرها دعوة جاهلية، وكذلك نجد الخطاب القرآني موجهاً إلى
الناس جميعاً، وإذا خص المؤمنين خاطبهم جميعاً، ولم يؤلب طائفة ضد أخرى،
ولم يرفع قبيلة أو جماعة، ويخفض أخرى، بل هي دعوة نورانية تسعى لتوحيد
الناس تحت راية التوحيد، وتعتبر أن التعصب الأعمى - للجنس أو العرق أو
غيرهما - جاهلية مقيتة، ودعوة مُنْتنة يجب أن توضع تحت أقدام المؤمنين.
ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بصور مدمرة ورهيبة للدعوات الجاهلية، التي
أرادت تدمير أمة الإسلام، وقد أطلق عليها كلمة: (الشعوبية) ، التي كانت في
بدايتها شعوبية فارسية، ثم تعددت أصولها، وهي نزعة - في العصر العباسي -
تنكر فضل العرب، وتحاول الحطّ منهم، فتخفَّت تلك الدعوة الجاهلية خلف
العلويين والعباسيين؛ لتقوض حكم العرب الذين هم مادة الإسلام كما قال عمر بن
الخطاب؛ فقد كان وجود العرب المسلمين حاكمين من أكبر العوامل المحافظة على
انتشار الإسلام، وانتشار اللغة العربية (لغة القرآن الكريم) ، وإن حدث منهم
تعصب فذلك مردود عليهم، ولا يقره الإسلام.
بل لم يجد المسلمون حرجاً - في الماضي - من أن يقولوا: (نحن عرب) ،
وذلك بمفهوم الاعتزاز بالإسلام، وليس بغرض الانسلاخ منه، كما تدعو القومية
العربية والدعوات القطرية الجاهلية.
بل خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً إياهم من قرب خروج ...
(يأجوج ومأجوج) ، قائلاً: (ويل للعرب من شر قد اقترب) .
إن الإسلام عندما أشرق على شعوب الأرض جمع بين أمرين قد يبدوان
متناقضين:
الأمر الأول: إذابة كل الأعراق والأجناس والانتماءات في رسالة واحدة،
وهي الإسلام.
والأمر الآخر: عدم إلغاء انتماء الأفراد والجماعات للقبائل والأعراق
والأجناس واللغات، فهذا عربي وهذا بربري، وهذا كردي ... ، لهم لغاتهم
ولهجاتهم وأصولهم الموروثة، ولكن كل ذلك في إطار الإسلام، ولا فرق بينهم إلا
بالتقوى.
وقد استمرت تلك السُّنَّة في الخلافة الإسلامية، حتى بدأ الوهن يدب في الدولة
العثمانية - آخر دول الخلافة الإسلامية - فانقضَّت جماعة (الاتحاد والترقِّي)
التركية اليهودية على الدولة العثمانية، فقضت عليها، وأعلنت الجاهلية الطورانية
التركية، فكانت دعوة لإحياء التعصب الجاهلي للجنس التركي على حساب العرب
والأكراد وغيرهم، فكان رد الفعل في الطرف الآخر (العرب) - المدعوم باليهود
والأوروبيين - هو إحياء الجاهلية العربية في النصف الآخر من القرن التاسع عشر
الميلادي؛ اتباعاً للأوروبيين الذين قد تعصبوا - في الماضي - لجنسهم، ثم أُزيل
التعصب ظاهرياً، وصار تعاوناً على الإثم والعدوان، والله - عز وجل - يقول:
[تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون] [الحشر: 14] .
وفي الوقت نفسه الذي كان العرب ينْقضون عُرى الخلافة الإسلامية عُروة
عروة - كان اليهود يواصلون مخططاتهم التي بدأت منذ العودة من السبي البابلي
(586 - 538 ق. م) ، وسميت الحركة التي تنفذها حركة: (المكابيين) ، وأول أهدافها العودة إلى صهيون، وبناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد
الأقصى (الأسير) .
وبعد القضاء على الخلافة الإسلامية ظهرت بوضوحٍ الدعوة القومية العربية
الجاهلية، وتقابلها الدعوة القومية اليهودية الجاهلية، وإن كانت تلك دعوات،
وليست دعوة واحدة لكلتيهما؛ لأن داخل القومية العربية قوميات صغيرة (وطنية أو
قُطرية) ، وقد تُختزل تلك الدعوات، حتى نرجع إلى نظام القبائل، الذي صهره
الإسلام كما ذكرت سالفاً.
وكذلك نجد تفرق الجماعات اليهودية، وقد ذكر الرسول - عليه الصلاة
والسلام - افتراقهم إلى إحدى وسبعين فرقة، وقال الله - تقدست أسماؤه - عنهم:
[تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون] [الحشر: 14] ، ولكنني
أذكرهما بصفتهما كتلتين خاضتا معارك حامية الوطيس، فخسرت الأولى خسراناً
مبيناً، أما الآخرة فانتصرت انتصاراً عظيماً - لضعف الأولى - حتى يقضي الله
أمراً كان مفعولاً.
العنصر الأول: الأسس النظرية لكل قومية.
العنصر الثاني: البرامج والشعارات.
العنصر الثالث: حصاد كل قومية.
أولاً: الأسس النظرية:
قبل الحديث عن هذه الأسس لا بد من تمهيد لُغوي ومصطلحي لمعرفة هاتين
القوميتين.
يقول صاحب (القاموس المحيط) : (القوم: الجماعة من الرجال والنساء ...
معاً، أو الرجال خاصة، أو تدخله النساء على تبعية، ويؤنَّث، (ج) أقوام، (جج) أقاوم وأقاويم وأقائم، وقام قوماً وقومةً وقياماً وقامةً - انتصب، فهو قائم من قُوَّم وقُيَّم وقُوَّام وقُيَّام،.. والقَوَام - كسَحَاب - العَدْل، وما يُعاش به،
وبالضم: داء في قوائم الشاء، وبالكسر: نظام الأمر وعماده..) [1] .
إن القومية هي مصدر صناعي من (قوم) ، وهي: (وعي قومي يمجد أمة
معينة، ويضع التوكيد على تعزيز ثقافتها ومصالحها) [2] ؛ فهي دعوة لتمجيد أمة
معينة من خلال الاعتزاز بكل ماضيها القائم على الباطل، بل هناك قوميات تحارب
غيرها؛ لتعيش على أنقاضه، ولا تكتفي بإبراز هويتها، كاليهود والصرب
والهندوس والروس والبوذيين والأوروبيين والأمريكيين، أو باختصار: كل الكفار
والمشركين والملحدين والمنافقين.
وكما يقول د. محمد السيد سعيد: (القومية تنتمي إلى طائفة من الظواهر
التي تتعلق بعملية تحديد هوية أو انتماء جماعات من الناس؛ فالناس قد يحددون أو
تتحدد هويتهم على أساس مجموعة من العوامل والعلامات مثل الدين والعنصر
العرقي واللغة والمنطقة الجغرافية والحضارة، أو أي تفرعات من هذه
العوامل) [3] ، وإذا فحصنا تلك العوامل، التي ذُكرت سالفاً فسنجد أن تطبيقها - في غياب الإسلام - يعني القضاء على القومية الأخرى المقابلة، وقد ضربت بعض الأمثلة للقوميات المتعصبة فيما سبق؛ ولذلك يخبرنا التاريخ والواقع أن كل دعوة غير الإسلام وبال على المسلمين، وأفضل مثال على غرابة فكرة القومية قول أحد كبار الدارسين لها - وهو فردريك هرتز -: (ما الذي منح القومية تلك ... القوة الكبرى في العصر الحديث؟ !) ، ويجيب: (نحن - في الحقيقة - لا ...
نعلم!) [4] ، ولكننا - نحن المسلمين - في الحقيقة نعلم أنهم اليهود!
1- القومية العربية:
إن القومية العربية هي: (حركة سياسية فكرية متعصبة تدعو إلى تمجيد
العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين، وهي صدى للفكر القومي، الذي سبق أن ظهر في
أوروبا) [5] .
وكانت تلك الدعوة الجاهلية الجامحة تدبر وتخطط منذ عام 1847م؛ ولذلك
نجد أنها تآمرت من ذلك العام إلى عام 1914م، من خلال خمس عشرة جماعة
سرية وعلنية، وكان يقودها الكافرون - وبعض مَن ينتسبون إلى الإسلام - أمثال
ميشيل عفلق النصراني الذي أسس حزب البعث العربي الاشتراكي في إبريل
(نيسان) عام 1947م في العراق وسورية، وهناك صراع بين جناحيه على حساب
البلدين الشقيقين، ومن أكبر دعاة القومية العربية ومنظِّريها ساطع الحصري
(1880 - 1968م) ، وهو من أصل سوري.
وقد برزت تلك الدعوة - بشدة - في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
الذي استغل بها مشاعر الناس، ثم سقط - وهي معه - سقوطاً مروعاً، وهناك مَن
يحاول إحياءها، ولكن هيهات هيهات!
ولم تقم تلك الدعوة إلا على أسس ومبادئ تقوم على محاولة القضاء على
الإسلام دون غيره من المِلَل والنِّحَل السابقة، ومن هذه المبادئ:
1 - إعلاء الفكر القومي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة
الدين.
2 - يرى دعاة الفكر القومي - على اختلاف بينهم في ترتيب مقومات هذا
الفكر - أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي: اللغة والدم والتاريخ
والأرض والآلام والآمال المشتركة.
3 - أن العرب أمة واحدة لها مقومات الأمة، وأنها تعيش على أرض واحدة
هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط.
4 - كما يرون أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن حدود طارئة ينبغي أن تُزال، وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة وحكومة واحدة تقوم على أساس من الفكر
القومي اللاديني.
5 - يدعو الفكر القومي إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات
والأديان - كما يزعمون.
6 - يتبنَّى الفكر القومي شعار (الدين لله، والوطن للجميع) ! ، والهدف من
هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وجعْل أُخوّة
الوطن مقدَّمة على أخوة الدين من ناحية أخرى.
7 - يرى الفكر القومي أن الأديان والإقليميات والتقاليد الموروثة عقبات
ينبغي التخلص منها؛ من أجل بناء مستقبل الأمة.
8 - يقول عدد من قادة هذا الفكر: نحن عرب قبل عيسى وموسى ومحمد! ، من أجل إقصاء مبادئ الإسلام التي جاء بها هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة
والسلام -.
9 - يقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة، أما الوحدة الإسلامية فهي
حُلم!
10 - أن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار
الطبيعة الاجتماعية، لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد.
ويتمثَّل دعاة الفكر القومي كثيراً قول الشاعر القروي:
هبوني عيداً يجعل العرب أمة ... وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ!
11- يقول بعض دعاة الفكر القومي: إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها
بأشكال شتى، فمثلاً عبرت عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة أخرى بالشعر
الجاهلي، وثالثة بالإسلام! (وكأن الإسلام دين من وضع البشر!) . ...
12 - قال أحد مشاهيرهم: لقد كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب
محمداً!
13 - يرى دعاة الفكر القومي أن من الإجرام أن يتخلى العربي عن قوميته،
ويتجاوزها إلى الإيمان بفكرة عالمية أو أممية.
14 - يقول بعض مفكري القومية العربية: إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة
فإن القومية العربية هي نبوة هذا العصر!
15 - ويقول آخرون منهم: إن العروبة هي ديننا نحن العرب المؤمنين
العريقين - من مسلمين ومسيحيين - لأنها وُجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية،
ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي، والمسيحيون على إنجيل
عيسى.
16 - يقرر بعضهم الآخر أن المرحلة القومية في حياة الأمة مرحلة حتمية،
وهي آخر مراحل التطور، كما أنها أعلى درجات التفكير الإنساني.
17 - التعاون مع الشيوعيين لمقاومة الرأسمالية الغربية، والعكس صحيح،
(عبد الناصر وغيره) .
18 - مساعدة أي ثورات أو تمردات أو انقلابات من أي اتجاه.
19 - قمع الإسلاميين ومحاربة الأنشطة الإسلامية.
20 - الاستسلام لليهود (الضفة الغربية، سيناء، الجولان..) .
ولتلك الأسس النظرية الكفرية جاء وصف الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه
الله - في (نقد القومية العربية (أنها) دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة
الإسلام، والتخلص من أحكامه وتعاليمه) و (هي دعوة باطلة، وخطأ عظيم،
ومكر ظاهر، وجاهلية نكراء، وكيد سافر للإسلام وأهله) [6] .
2- القومية اليهودية:
اختلطت اليهودية - وهي دين سابق دخله التحريف - بالصهيونية، التي هي: ... (حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فِلَسطين، تحكم
من خلالها العالم كله) ، واشتُقت الصهيونية من اسم (جبل صهيون) في القدس،
حيث تطمع الصهيونية أن تشيد فيها هيكل سليمان، وتقيم مملكة لها تكون القدس
عاصمتها، وقد ارتبطت الحركة الصهيونية بشخصية اليهودي النمساوي (تيودور
هرتزل) الذي يعد الداعية الأول للفكر الصهيوني الذي تقوم على آرائه الحركة
الصهيونية في العالم [7] ؛ ولذلك يلقى هذا الاختلاط بين اليهودية والصهيونية قبولاً
وتأييداً من أحبار اليهود، لكل مَن شارك في إقامة الكِيان المغتصب على أرض
فلسطين المحتلة، ولو كان من الملحدين! فالصهيونية هي الجناح السياسي ...
والعسكري لليهود.
وقد ظهرت تلك القومية - الممثِّلة للدين المحرَّف - منافسة للقوميات الأُخرى؛ ولذا فكلمة (يهودي) في أي دولة أوروبية أو أمريكا - تعني (قومية) ، أي تقابل
كلمة (أمريكي، فرنسي، بريطاني.. الخ) ، ولا يشعر اليهود بأدنى حرج من
إظهار هويتهم، وتعصُّبهم الأعمى لتلك الحركة الصهيونية، وإن كان هناك مَن
يعارضها؛ في انتظار عودة مسيحهم المنتظر!
وتنطلق تلك القومية اليهودية الصهيونية من العهد القديم (التوراة المحرفة
وأسفار الأنبياء) والكتابات الأخرى (المزامير والأمثال وأيوب..) ، والتلمود،
وهو روايات شفوية تناقلتها الحاخامات، حتى جمعها الحاخام يوضاس سنة 150م
في كتاب سماه: (المشنا) ، أي الشريعة المكررة لها في توراة موسى كالإيضاح
والتفسير، ثم أضاف إليها يهوذا سنة 216م تدويناً وزيادات شفوية، وقد تم شرح
هذه المشنا في كتاب سمي: (جمارا) ، ومن هذه المشنا والجمارا يتكون التلمود،
وله منزلة مهمة جداً تزيد على منزلة التوراة المحرفة [8] .
إن الأسس النظرية لليهود تحدد تعاملهم الوحشي مع غيرهم، ولكنهم فيما
بينهم يختلفون تماماً؛ مصداقاً لقوله - تعالى -: [ومن أهل الكتاب من إن تأمنه
بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك
بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون] ...
[آل عمران: 75] .
ومن الأسس النظرية للقومية اليهودية ما يلي:
يقول د. عبد المالك خلف التميمي عن بعض أهداف القومية اليهودية:
(بدأت فكرة الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي
عُقد في بازل في سويسرا عام 1897م؛ حيث حدد هذا المؤتمر الأهداف
الاستيطانية - أقول: وهي من الأسس النظرية للقومية اليهودية، التي بدأت
بالسيطرة على مراكز اتخاذ القرارات العالمية، ثم الاستيلاء على فلسطين (مركز
الحلم اليهودي) ، واتخاذها نقطة انقضاض على العالم كله - على النحو الآتي:
1 - العمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين
اليهود وفق أسس مناسبة.
2 - تنظيم اليهودية العالمية، وربطها بواسطة منظمات محلية ودولية تتلاءم
مع القوانين المتبعة في كل بلد.
3 - تقوية الشعور والوعي القومي اليهودي وتغذيته.
4 - اتخاذ الخطوات العملية التمهيدية للحصول على الموافقة الحكومية
الضرورية لتحقيق غايات الصهيونية.
5 - جعْل اللغة العبرية لغة رسمية للتخاطب بين اليهود في جميع ربوع
العالم [9] .
6 - تعتبر الصهيونية جميع يهود العالم أعضاء في جنسيةٍ هي الجنسية
الإسرائيلية.
7 - تهدف الصهيونية إلى سيطرة اليهود على العالم، كما وعدهم يَهْوَه [10] ، وتعتبر المنطلق لذلك هو إقامة حكومتهم على أرض الميعاد التي تمتد من نهر
النيل إلى نهر الفرات.
8 - يعتقدون أن اليهود هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود، وكل
الشعوب الأخرى خدم لهم (نظرية نقاء النوع) .
9 - الاستعانة بالثورات والانقلابات لتحقيق أطماعهم.
10 - يرون إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف.
11 - تسخير الحرية السياسية من أجل السيطرة على الجماهير.
12 - انتهاء سلطة الدين، وظهور سلطة الذهب (المال) .
13 - السياسة نقيض الأخلاق، ولا بد فيها من المكر والرياء، أما الفضائل
والصدق فهي رذائل في عرف السياسة؛ لذلك يغرقون غيرهم في الرذائل.
14 - بث الرعب في معارضي مؤامراتهم على العالم.
15 - استخدام الشعارات الجوفاء الخداعة (الحرية والمساواة والإخاء) .
16 - السيطرة على المال والعلم.
17 - السيطرة على الصحافة والثقافة والنشر لتوجيه العالم من خلالها.
18 - توسيع الشقة بين الحكام والشعوب؛ لكي يلجأ إليهم الحكام للدفاع عنهم
ضد ثورات شعوبهم.
19 - جعل السلطة هدفاً مقدساً لكل القوى المتصارعة.
20 - تشكيل أندية وروابط سرية كالماسونية وأذرعها الهدامة (روتاري
وليونز.. إلخ) .
21 - إقامة مجتمعات منحلة مجردة من الإنسانية والأخلاق ناقمة على الدين.
22 - إشاعة المتناقضات وإلهاب الشهوات وتأجيج العواطف.
23 - تفكيك الأسرة، ونفخ روح الذاتية في كل فرد ليتمرد، والحيلولة دون
وصول ذوي الامتياز إلى الرُّتَب العالية [11] .
ثانياً: البرامج والشعارات:
تمثل البرامج ما يسعى الفرد أو الجماعة لتحقيقه، أما الشعارات فقد تكون
كلمات نظرية لغايات معينة (غسيل مخ، خداع، حرب نفسية) .
ومن النظرة السريعة للقوميتين العربية واليهودية نلاحظ أن القومية العربية
سعت لتحقيق أهداف وأعلنت عن برامج - حققت الكثير منها - ولكن كل ذلك في
الاتجاه المعاكس للإسلام، مع ملاحظة أن بعض الأسس قد استُخدمت برامج
وشعارات، وكذلك بروز الشعارات الناصرية القومية (الشيوعية) ، التي ما زالت
تداعياتها إلى الآن، وقد استحوذت على جانب كبير من الدعاية المكثفة، أما القومية
اليهودية فقد حققت الكثير من برامجها وأهدافها، وما شعاراتها إلا لخدمة الأهداف
اليهودية، وليست للاستهلاك المحلي، كما يقولون، ومن هذه الشعارات:
1 - شعارات القومية العربية:
- الفكر القومي يعلو على الرابطة الدينية.
- الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.
- القضاء على الرجعية.
- الدين لله والوطن للجميع.
- الحرية والاشتراكية والوحدة.
- القضاء على الاستعمار وأعوانه.
- إقامة جيش وطني قوي.
- معركتنا مع اليهود معركة عسكرية وضد ما يسمونه بالاستعمار، ولا علاقة
لها بالدين.
- إزالة آثار العدوان الصهيوني على فلسطين ومصر وسورية والأردن.
- حتمية الحل الاشتراكي.
- تحالف قوى الشعب العاملة.
- حرية المرأة.
2 - شعارات القومية اليهودية:
- العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) .
- فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
- الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
- ضرب أي قوى عسكرية تمثل تهديداً - ولو بعيداً - لكِيَانهم المغتصِب.
- العناية باليهودي في كل مكان.
- السيطرة على مراكز اتخاذ القرارات في العالم؛ لخدمة أهدافهم.
- إقامة صناعة حربية متقدمة بإدخال السلاح النووي في الصراع مع العرب.
- تحسين صورة اليهود أمام العالم وتكثيف الدعاية ضد العرب المتوحشين ...
الأشرار.
- إقامة الدعايات ضد النازية للزعم بأنها قتلت ستة ملايين يهودي في أفران
الغاز (المحرقة أو الهولوكُست) أثناء حكم هتلر، والمطالبة بالتعويضات الباهظة
الدائمة من ألمانيا، وكل مَن اعتدى عليهم، كما يزعمون.
- البراءة من الصلب - المزعوم - للمسيح - عليه السلام - لتخفيف كراهية
النصارى لهم، ولتجميع القوى ضد المسلمين.
- أن اليهود هم شعب الله المختار، وكل الشعوب الأخرى خدم لهم (نظرية
نقاء النوع) .
- مَن يعاديهم أو يحاربهم فهو معادٍ للسامية، ويجب محاسبته، أو قتله.
- الأخلاق قيد لا معنى له.
ثالثاً: حصاد كل قومية:
إن الحصاد الذي جنته أمتنا من القومية العربية هو حصاد الهشيم، حصاد
الدمار، حصاد السراب، حصاد التبعية والذل.
أما القومية اليهودية فقد أقامت لها دولة العلو والفساد، وسيدمرها الله، يقول- تعالى -: [فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا
خلال الديار وكان وعدا مفعولا] [الإسراء: 5] .
1- حصاد القومية العربية:
- نشر الأفكار الإلحادية المناقضة للدين.
- تفرق الدول العربية، بل الحرب الشديدة بين الدول التي أسسها الأفراد
أنفسهم (العراق وسورية) .
- ولاء للكافرين وبراء من المسلمين ومحاربتهم وقتلهم.
- إعلاء شأن اليهود والنصارى.
- عزل الإسلام عن المعركة، بل محاربة أهله.
- الكبت والشيوعية والانفصال بين الدول المتحدة ظاهرياً وإجبارياً (مصر
وسورية) .
- تمكين الأعداء من بلاد المسلمين.
- الهزيمة الساحقة لقوة مصر في عام 1967م.
- احتلال سيناء والضفة الغربية (القدس) والجولان.
- الاستسلام للمخططات اليهودية.
- انتشار الأحقاد والعداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع والدول أيضاً بسبب
السياسات الشيوعية التي تحرض وتثير طبقات المجتمع بعضها ضد بعض.
- انتشار الرذيلة والدعارة بعد خروج النساء للعمل، وشعور المرأة بالقهر
وانتهاك كرامتها في الخارج.
2 - حصاد القومية اليهودية:
- احتلال فلسطين.
- إقامة الجيش الإسرائيلي الذي استطاع إنهاك الجيوش العربية مراراً؛
بسبب ضعف العرب لبعدهم عن الإسلام وإبعادهم له عن المعركة.
- تدمير المفاعل النووي العراقي، وتهديد باكستان بضربها، وتحريض الهند
الهندوسية عليها؛ لإنهاك قوتها وإضعافها.
- السيطرة على مراكز اتخاذ القرارات في العالم؛ لخدمة أهدافهم.
- إقامة صناعة حربية متقدمة بإدخال السلاح النووي في الصراع مع العرب.
- تحسين صورة اليهود أمام العالم وتكثيف الدعاية ضد العرب المتوحشين
الأشرار.
- الحصول على التعويضات الباهظة الدائمة من ألمانيا، وكل مَن اعتدى
عليهم، كما يزعمون، ومحاربة من يشكُّون فيه (الرئيس النمساوي والأمين العام
للأمم المتحدة كورت فالدهايم - والمفكر الفرنسي رجاء غارودي) ، بل قتل واعتقال
مَن يشكون فيه.
- الحصول على براءة من الصلب المزعوم للمسيح - عليه السلام - من
الفاتيكان، وهي كبرى هيئات التنصير الكاثوليكي في العالم.
- بث الرعب في معارضي مؤامراتهم على العالم.
- سيطرة أندية وروابط سرية كالماسونية وأذرعها الهدامة (روتاري وليونز
.. الخ) .
وما ذلك الحصاد المُرّ إلا لأن المسلمين قد تناسوا أن (للأمة الإسلامية أربعة
أبعاد لا ينفصل أحدها عن الآخر:
بُعد عقَدي: وهو الأصل والمعيار؛ فكل المسلمين أمة واحدة.
بعد إقليمي: فكل الأرض التي سرت عليها أحكام الإسلام يوماً مَّا هي أرض
الأمة الإسلامية، وعلى المسلمين أن يعيدوا ما سُلب منهم، وإلا أثموا جميعاً حتى
تعود.
بعد شخصي: فكل مَن دخل الإسلام - أياً كان مكانه على أرض الله - صار
من أبناء الأمة الإسلامية، دون نظر لجنس أو عرق أو لون، ودون نظر لعقيدته
السابقة على دخوله الإسلام، أو موطنه السابق.
بعد تاريخي: يفيد استمرارية وجود هذه الأمة - دون انقطاع - في كل
عصور التاريخ البشري، يقول الحق - جل شأنه -: [شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه] [الشورى: 13] .
ويصف الله - تعالى - الأنبياء ومن اتبعهم من لدن نوح - عليه السلام -
حتى بُعث محمد خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام -
بوصف الأمة الواحدة، فيقول: [إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون] [الأنبياء: 92] [12] .
من أجل ذلك شاء الله - جلت قدرته - أن يعود الكثير من أبناء الأمة إلى
دينهم، ويبدؤوا المسيرة المباركة من جديد؛ لكي يسودوا العالم بحكم الإسلام
ورحمته وعدله [ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو
العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون]
[الروم: 4 - 6] .
__________
(1) القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مكبتة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، عام 1317هـ/ 1925م، ط2، 4/169.
(2) قاموس المورد، منبر البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، عام 1993م.
(3) الشركات عابرة القومية ومستقل الظاهرة القومية، د محمد السيد سعيد، سلسلة (عالم
المعرفة) ، وقم 107، الكويت، عام 1407هـ /1968م، ص 103.
(4) المرجع السابق، ص127، نقلا عن القومية في التاريخ والسياسة، فردريك هرنز، المؤسسة العربية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، ب ت، ص 19.
(5) الموسوعة الميسرة، مرجع سابق، ص401.
(6) مرجع سابق، ص401، 406.
(7) الموسوعة الميسرة، ص331.
(8) مرجع سابق، ص659 75.
(9) الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي، سلسلة (عالم المعرفة) ، رقم 71، الكويت، محرم _ صفر عام 1404هـ، ص 107، نقل عن الملخص لكتاب العرب واليهود في التاريخ لجعفر
الخليلي، بغداد، عام 1997م، ط2، ص 108.
(10) يهوه: هو اسم الإله عندهم.
(11) الموسوعة الميسرة، مرجع سابق، ص332 337، وذلك نقلا عن كتاب بروتوكولات
(حكماء) صهيون وغيره، ويعمل اليهود - دائما- على زرع الشك من نسبة تلك البروتوكولات
إليهم، فمنهم من يؤكدها، ومنهم من ينفيها، ولكن الواقع يؤكدها.
(12) كيف نفكر استراتيجيا؟ اللواء_أركان حرب_ الدكتور فوزي محمد طايل، مركز الإعلام العربي، الهرم، مصر، عام 1418هـ، ص134- 135.(145/50)
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
العلو الكبير (1/ 2)
من خيمة الذل ... إلى حصن الجبروت
دور القوى الكبرى في التمكين لليهود
عبد العزيز كامل
قضى الله - تعالى - قضاءً لا مرد له، بأن تظل أمة اليهود في ذلة مقيمة
بعد أن حلَّت عليهم لعنة الله - تعالى - بسبب كفرهم وتكرار جرائمهم مع الأنبياء
والمصلحين، وتأكد هذا بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الذلة
المقيمة معهم والمضروبة عليهم كالخيمة حيثما حلُّوا أُخضعت لاستثناءين أو حالتين
ترفع فيهما:
الحالة الأولى: أن يدخلوا في الإسلام فيستمدوا منه العزة المكتوبة لله ولرسوله
وللمؤمنين.
الحالة الثانية: أن تشملهم مظلة قوة من قوى الشر من البشر الذين يستغلونهم
أو يستعملونهم لأجل أغراض ومصالح مشتركة؛ وهذا ما قرره القرآن العظيم في
وضوح جليٍّ تام، في قوله - عز وجل -: [ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا
بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون] [آل عمران: 112] .
والمتأمل في تاريخ بني (إسرائيل) كله بعد عصور الاصطفاء يجد أن تلك
الأمة اليهودية لم تخرج عن هذا القضاء الإلهي قيد شعرة؛ فطوال عهود تمكين
الإسلام لم يحظ يهودي بعزة وأمان إلا بدخوله بصدق في الإسلام وانضمامه إلى
ركب المؤمنين، أو بخضوعه لحكم المسلمين والنزول تحت حمايتهم، وهذا ما كان
طيلة التاريخ الإسلامي، وخاصة خلال فترة وجود اليهود في الأندلس، ثم في
تركيا؛ حيث لم يجدوا الأمان إلا في كنف المسلمين. أما في عصور ضعف
المسلمين، وخاصة في العصر الحديث فقد انتقل اليهود إلى الاحتماء بقوى الطغيان
الكبرى التي كانت تسمى بقوى الاستعمار.
وقبل إبراز هذه الحقيقة من خلال استعراض دور القوى الكبرى في إيجاد
كيان اليهود ودعمه وتثبيته، تجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أخرى مهمة، وهي أن
هناك قضاءاً إلهياً آخر يخص المسلمين في هذا الشأن، وهو أن الأصل فيهم أن
يكونوا أعزة، فكما ضربت الذلة على اليهود فقد كتبت العزة للمؤمنين، ونص
القرآن واضح في هذا. قال تعالى: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين]
[المنافقون: 8] وقال: [كتب الله لأغلبن أنا ورسلي] [المجادلة: 21] والمقصود هنا الرسل وأتباعهم الناصرون لدينهم، كما قال - سبحانه -:
[ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز] [الحج: 40] . فعزة المؤمنين ... والمسلمين هي الأصل، ولكن قد يعرض استثناء من الذلة إذا تخلفت موجبات العزة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعِينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم) [1] .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله
بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله) [2] ، وصدق الفاروق،
فقد جرب العرب الاعتزاز بالقوميات والوطنيات وغيرها من الرايات، فما زادتهم
إلا ذلة وخبالاً.
ونعود إلى الكلام عن ذلة اليهود؛ فقد شاء الله - سبحانه - أن يشهد عصرنا
علواً آخر كبيراً لهم، والعلو بالباطل ليس عزة في الحقيقة بل هو بغي وطغيان
وتجبر، ومع ذلك فإن هذا العلو، لم يرتفع اليهود إليه إلا فوق رافعات من قويً
أخرى غير يهودية كان لها الأثر الأكبر في ظهورهم وفجورهم.
إن الوقائع المعاصرة تصدِّق هذه السُّنَّة الإلهية التي نطق بها القرآن بشأن
اليهود، كما تصدق في أحوال المسلمين. ولكن الذي يعنينا في هذا المقال هو حال
اليهود من حيث خروجهم من دائرة الذلة: كيف خرجوا؟ وبم خرجوا؟ وعلى يد
مَنْ خرجوا؟ إن الجواب على ذلك كفيل بأن يكشف لنا ملامح المصير الذي سيؤول
إليه صراعنا معهم، وقمين بأن يبين مزيداً من معالم سبيل المجرمين في الكيد لهذا
الدين.
فرنسا الاستعمارية، والتجربة الأولى:
سبقت فرنسا إنجلترا في الاهتمام بشأن اليهود، ولفتت أنظارهم إلى إمكانية
العودة إلى الأرض المقدسة في فلسطين قبل مئتي عام، في ظل بوادر ضعف
إسلامي متزايد؛ فقد أطلق نابليون بونابرت دعوته لليهود بالهجرة إلى فلسطين في
إبريل من عام 1799م للميلاد، وعرض تعاون الحركة الاستعمارية الفرنسية معهم، لتمكينهم من السيطرة على أرض بيت المقدس؛ ولهذا فإنه بعد أن غزا مصر عمد
إلى غزو الشام، وخاض معارك كبيرة هناك، إلا أنها انتهت بهزيمته في عكا في
معركة أبي قير، مما أجهض مشروعه الإجرامي لتمكين اليهود في فلسطين في ذلك
الوقت المبكر الذي سبق ميلاد الحركة الصهيونية المعاصرة بنحو مئة عام؛ ولكن
فرنسا ظلت محتفظة بالتزامها بالتعاون مع اليهود بصور تظهر تارة وتختفي تارة،
وكان من أبرز صور التعاون معهم بعد إقامة دولتهم المشاركة في العدوان الثلاثي
على مصر عام 1956م، والأظهر من ذلك تمكين دولة اليهود من تصنيع القنبلة
النووية بتعاون فرنسي إسرائيلي وثيق منذ نهاية الخمسينات.
بريطانيا تشد الحبال الأولى:
جدلت بريطانيا لليهود حبل الخروج، فكانت أول (حبل من الناس) لنصرتهم
وانتشالهم من ذلتهم في القرون الأخيرة، وقد استفادت من إخفاقات نابليون في
تحقيق هذا الغرض، وسارت في خطوات حثيثة وخبيثة لإنجاح المشروع الذي لم
تفلح فيه فرنسا. وقد تكلل هذا المسعى المشؤوم بالنجاح - بكل أسف - في نهاية
المطاف، ووُلدت دولة اليهود على يد القابلة البريطانية بعد نحو مئة عام أخرى من
موعد بدئه؛ فالمشروع الإنجليزي لتمكين اليهود في فلسطين بدأ عام 1840م،
وأثمر قيام الدولة عام 1948م؛ فكيف كان ذلك؟
لقد بدأت بريطانيا مشروعها بتصدير رجال دين نصارى لهذه المهمة؛ حيث
رأت أن رجال السياسة لن يصلحوا لمرحلة البداية التي تحتاج إلى تحفيز روحيٍّ
وعقديٍّ، ولهذا فإن أول من أذنت له بريطانيا ببذل مساعيه لإحياء المشاعر الدينية
عند اليهود بخصوص العودة لفلسطين هو القس (وليام هشلر) الذي تحرك في دول
أوروبا من أجل الإقناع بهذا الهدف.
وبينما كان القس يهيئ الأجواء لقبول المشروع البريطاني، كان الساسة
يرتبون للتحرك على محاور أخرى لاستثمار نتائج مساعيه أولاً بأول، وأصبحت
بريطانيا تنادي علناً بحماية حقوق الأقليات الدينية في العالم، ولم يكن يهمها في
الحقيقة من هذه الأقليات سوى الأقليات اليهودية لجمع شتاتها المبعثر في العالم،
وحشْره في بيت المقدس.
وعندما آتت هذه المساعي شيئاً من أكلها بانتعاش الأقلية اليهودية في فلسطين
انتقلت بريطانيا في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر إلى جلب يهود آخرين إلى
أرض فلسطين من خارجها، واستغلت خبرتها العريقة في اغتصاب الشعوب باسم
(الاستعمار) لتضعها تحت تصرف اليهود باسم (الاستيطان) ، أي تحويل أرض
الغير إلى وطن.
وقد أرادت بريطانيا بذلك المسعى أن تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي
من ناحية تحقق ذلك الهدف المشبوه من مشروع تمكين اليهود في بيت المقدس بعد
تيه قارب الألفي عام، ومن ناحية أخرى، تضع خنجراً في خاصرة العالم الإسلامي، لتكرس حالة الوهن التي وصل إليها بعد ضعف الدولة العثمانية، وذلك حتى لا
يقوم لهذا العالم كيان عالمي يحاول النهوض من جديد. وقد جعل وزير خارجية
بريطانيا (اللورد بالمرستون) مهمته الأولى هي السير قدماً في وضع السياسات
الكفيلة بتحقيق هذين الهدفين.
ولكن برامج (بالمرستون) ظلت مجمَّدة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى
التي نتج عنها هزيمة الدولة العثمانية؛ حيث استغل الإنجليز نتائجها وسارعوا إلى
اغتنام فرصة الفراغ والبلبلة الناشئة عنها، ونادوا بضرورة فرض الحماية
البريطانية على فلسطين، ولم تكن هذه الخطوة إلا تطبيقاً لأفكار بالمرستون للإمعان
في تهيئة الأوضاع في فلسطين للتمكين لليهود فيها بالتنسيق مع فعاليات الحركة
الصهيونية العالمية التي كانت قد بلغت في ذلك الوقت مرحلة من النضج التنظيمي
الذي يؤهلها للقيام بدور فاعل في هذه التطورات المصيرية في المنطقة.
وهنا نقف وقفة مع (خيمة الذل) المضروبة على اليهود، فنتساءل: هل كان
بإمكان تنظيمات الحركة الصهيونية وحدها أن تقفز هذه القفزة، لولا (الحبل)
الإنجليزي، الذي أُلقي إليها لتتسلق عليه إلى الأرض المقدسة؟ !
لقد شهدت البدايات الأولى للقرن التاسع عشر تلاقياً ظاهراً بين أهداف الحركة
اليهودية العالمية وأهداف بريطانيا زعيمة العالم النصراني في ذلك الوقت؛ وكأن
أحقاد التاريخ كله قد اجتمعت على موعد لتصفية حسابات قرون مضت لليهود
والنصارى مع الإسلام في عقر داره.
لقد توَّجت بريطانيا هذا التلاقي بإصدار حكومتها وعداً رسمياً لليهود بإقامة
(وطن) - لا مستوطنات - ولم يكن هذا الوعد الصادر في نوفمبر عام 1917م
مجرد وعود تشجيعية، وإنما كان بمثابة حكم قضائي، سخرت لتطبيقه القوى
المتنفذة في ذلك الوقت، فوعد (بلفور) كان يعني بتعبير آخر، تعهد بريطانيا
بتحويل فلسطين إلى وطن لليهود، ولم يكن هذا التعهد قابلاً للتنفيذ عن بُعد، ولهذا
أقدمت بريطانيا على احتلال القدس بعد صدور الوعد بشهر واحد.
وهكذا، وبعد عشرين عاماً من اجتماع قادة الصهيونية في (بال) بسويسرا
فتحت لهم بريطانيا مصاريع أبواب فلسطين لكي يلج منها مشروعهم التآمري ضد
المسلمين، بل ضد البشرية جمعاء.
لقد سعى اليهود بعد ذلك من خلال منظماتهم النشطة سياسياً إلى تحويل وعد
بلفور إلى النطاق الدولي الواسع بدلاً من النطاق البريطاني الضيق، وذلك بعد أن
عرضت الحركة الصهيونية مشكلتها على مؤتمر السلام الدولي المنعقد في باريس -
1919م حيث أوجد هذا المؤتمر الأرضية المناسبة لقرار الحلفاء بوضع فلسطين
تحت الانتداب البريطاني، ومع تحول القضية إلى الصفة الدولية حرصت بريطانيا
على الاحتفاظ بدورها الخاص في إكمال مسعاها المشؤوم إلى نهايته؛ فإثر تسلمها
مهمة الانتداب عينت صهيونياً هو (هربرت صموئيل) مندوباً سامياً أول لبريطانيا
في فلسطين، وبوصفه يهودياً وبريطانياً فقد قام بما أُسند إليه بدقة وإخلاص، ولم
يضيِّع فرصة يمكن أن يستفيد منها اليهود.
كانت فترة الانتداب (1917- 1947م) كافية لتوفير المعطيات اللازمة وإعطاء
المسوغات الكافية للإعلان عن بلوغ الحركة اليهودية مرحلة التأهل الكامل لإعلان
الدولة، فعبر سياسات اغتصاب الأراضي وطرد أهلها أو التحايل لشراء الأراضي
منهم أو سن القوانين لنزع ملكيتها، تم تدبير العنصر الأول من عناصر الدولة وهو
(الأرض) .
وعن طريق تدبير الهجرة لليهود والتهجير للعرب، تم طبخ العنصر الثاني
من عناصر الدولة وهو (الشعب) ، وأصبحت أرض فلسطين مهيأة لتطبيق العنصر
الثالث من مقومات الدولة وهو (السيادة) وهو ما تم بإعلان الدولة فعلياً عام 1948م، بعد ثلاثين عاماً من العمل المتواصل والمتكامل بين يهود العالم ونصارى بريطانيا
تحت مظلة الانتداب الدولية.
وبميلاد دولة اليهود بدأت الإمبراطورية البريطانية في العالم تنحسر، وكأن
عمرها قد مُد فيه لتكون محلاًّ لسخط الله والناس بإنجاز هذا المشروع المعادي
للإنسانية (إسرائيل) . فقد أنهت وجودها في القارة الهندية في العام نفسه، ثم سحبت
جيوشها بعد ذلك من البلاد العربية التي كانت تحتلها.
لقد سلَّمت بريطانيا الشجرة الصغيرة التي زرعتها إلى من يرعاها وينميها
حتى تستوي على عودها، وتزاول مهمة إنتاج الثمرات الخبيثة.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الحاضنة الجديدة، حيث رعت دولة
اليهود وثبتتها في مراحلها المختلفة حتى بلغت الرشد، وشبت عن الطوق، بل
وخرجت عن السيطرة، ولهذا فقد كانت (الحبل) الثاني من حبال الناس التي خرج
بها اليهود من الذلة إلى حين.
ولكن الحبل الأمريكي كان أشد وثاقاً، وأحكم صنعة، حتى إنه جرَّ اليهود
جراً إلى مقدمة قوى الطغيان الدولي؛ ولكن قبل أن نبدأ في تفصيل ذلك لا بد من
وقفة مع (الأداة) التي استعان بها البريطان ومن بعدهم الأمريكان في بناء الحصون
التي احتمى بها اليهود طيلة سنوات الصراع الماضية، إنها (الأمم المتحدة) فإلى
جانب وضع الولايات المتحدة كل إمكاناتها تحت خدمة العلو اليهودي، فقد استغلت
الأممَ المتحدةَ المنظمة الدولية في القيام بدور آخر، لم تستطع الولايات المتحدة
نفسها، ولا بريطانيا القيام به، وهو دور إسباغ (الشرعية الدولية) على الوجود
والسيطرة اليهودية في بلاد المسلمين، ولهذا فلا بد لنا من وقفات مع هذا الدور
الذي قامت به وتقوم به تلك المنظمة في تمكين اليهود في منطقتنا الإسلامية؛ بحيث
أصبحت هي الأخرى حبلاً آخر مساعداً للخروج اليهودي الاستثنائي من خيمة الذل
الأبدي، وإن بدا للناس خلاف ذلك.
الأمم المتحدة.. وإرادة الكبار:
لا توجد إرادة مستقلة باسم (الأمم المتحدة) ولكن هذه المنظمة الدولية منذ
نشأت لا تعكس إلا إرادة القوى العالمية المتنفذة في تحديد العلاقات الدولية، وإن
كان لها سلطة فإنها موجهة من تلك القوى وليست نابعة من نظمها أو ميثاقها، ولذلك
فإنه فيما يتعلق بقضية فلسطين جرى فرض إرادة الدول الكبرى على معالجة الأمم
المتحدة لها، ولم تكن هذه المعالجة سوى تثبيت للخطط المسبقة والمتفق عليها من
تلك الدول؛ فقبل أن يتم إعلان قيام دولة اليهود مهدت الأمم المتحدة لقيامها بصدور
قرار الجمعية العامة التابعة لها في 29 نوفمبر 1947م برقم 181، وهو القرار
الذي أوصى بتقسيم فلسطين بين اليهود وعرب فلسطين بنسبة 51% إلى 49%.
ولم يضيِّع اليهود الفرصة، فراحوا يتسابقون لاستكمال اللمسات الأخيرة للدولة التي
قررتها لهم (الشرعية الدولية) في الأرض التي اغتصبوها بالاحتيال والإرهاب.
وقرار التقسيم هذا هو الذي رفضته الدول العربية وقت صدوره، وهو نفسه
الذي يمثل الآن أقصى ما يحلمون بتحقيقه لإعلان الدولة الفلسطينية بعد أن اجتاح
اليهود في حروب تالية بقية فلسطين التي تسمى حتى الآن (الأراضي المحتلة) !
وقد أعلنت الأمم المتحدة قبول دولة (إسرائيل) عضواً فيها بعد عام من
إعلان ميثاقها، ولم يكن هناك بالطبع وجود لدولة أخرى على الشطر الثاني من
فلسطين، فتعاملت الأمم المتحدة مع قضية الشعب الفلسطيني على أنها مجرد قضية
(لاجئين) واكتفت بتشكيل وكالة إغاثة دولية لهم، وظلت القضية تعامل داخل أروقة
الأمم المتحدة على هذا الأساس مدة عشرين عاماً في ظل إصرار إسرائيلي على عدم
عودة أي لاجئ إلى أرضه، وظل الأمر على ذلك حتى حدثت حرب (النكسة)
1967م، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة [3] عدة قرارات تؤكد فيها حق
الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومن ذلك ما صدر في 10-12-1969م،
حيث وصف القرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بأنه غير قابل
للتصرف.
وعندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين في نوفمبر 1988 م ... مستثمراً نتائج انتفاضة الحجارة، اعترفت الجمعية العامة بهذا القرار، ولكن
مجلس الأمن الذي يفترض أنه جهة تنفيذية ظل متعاجزاً عن اتخاذ أي موقف عملي
لتنفيذ قراراته فضلاً عن قرارات الجمعية العامة بما في ذلك القرار 242 الداعي
إلى انسحاب (إسرائيل) من الأراضي التي احتلتها في عام 1967م، واكتفى هذا
المجلس بإصدار قرارات الإدانة والشجب لممارسات الدولة اليهودية المتصادمة مع
القرارات والمواثيق الدولية، تلك القرارات التي اتخذ الكيان اليهودي منها موقفاً
واحداً لا يتغير ولا يتبدل وهو: التعالي والازدراء، أو على الأقل التجاهل وعدم
المبالاة؛ ففي تحدٍّ ظاهر تجاهلت (إسرائيل) نحو خمسة وأربعين قراراً دولياً
بالإدانة أو الشجب أو الاستنكار، بين أعوام 1953م إلى 1995م، واستخفت
وسخرت من نحو خمسة وثلاثين مطلباً دولياً ومناشدة في تلك المدة.
وسأضرب مثالاً بقضية واحدة ضمن قضايا عديدة صدرت بشأنها القرارات
الدولية وهي قضية القدس؛ فقد صدرت بشأنها قرارات متعددة لم تنفذ (إسرائيل)
واحداً منها؛ ففي عام 1958م صدر القرار (127) يطالب (إسرائيل) بأن توقف
فوراً اعتبار القدس منطقة نفوذ إسرائيلية، ولكنها لم تذعن، وفي عام 1968م
صدر القرار 250 يدعوها إلى عدم إقامة عروض عسكرية فيها، فلم ترعوِ،
وصدر بعد ذلك مباشرة قرار بالإدانة لرفضها الإذعان فلم تأبه به، وفي القرار
252- 1968م، طالبت المنظمة الدولية (إسرائيل) بالعدول عن قرار اتخاذ
القدس عاصمة موحدة لها، فرفضت القرار، ثم صدر القرار 267 لعام 1969م
يطالبها بإيقاف عمليات تغيير معالم القدس، فلم تُلق دولة اليهود له بالاً، ثم أتبعته
المنظمة الدولية بقرار آخر برقم (271- 1969م) يدين عدم الإذعان، ويكرر
المطالبة بإيقاف تهويد القدس، ولكنها لم تلتفت إليه أيضاً، وبعد ذلك بعامين صدر
القرار (298- 1971م) يكرر الإدانة والمطالبة بشأن قضية القدس، ولكنه لحق بما
سبق من التجاهل الذي استمر طيلة عقد السبعينيات وجاء عقد الثمانينيات، فصدر
القرار (476-1980م) مطالباً حكومة اليهود بإلغاء خطواتها المتخذة بشأن تهويد
القدس بعد أن اعتبرتها الأمم المتحدة لاغية، ولكن أحداً من المسؤولين الإسرائيليين
لم يُصْغِ لهذا القرار، بل ردت عليه (إسرائيل) بأن أعلنت في قانونها الأساس أن
القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة (إسرائيل) مما جعل الأمم المتحدة تصدر قراراً
آخر هو القرار (478) لعام 1980م، تستنكر فيه بشدة عناد (إسرائيل) في تنفيذ
القرارات الدولية السابقة كلها!
وتتكرر القضية طيلة عقد الثمانينيات والتسعينيات، بشكل يصور المنظمة
العالمية بصورة هزلية وهزيلة؛ إذ إنها تطالب العالم كله باحترام (الشرعية الدولية)
والخضوع لقراراتها، وتسارع لفرض ذلك.
العقوبات وضرب الحصار، وحشد القوى الدولية ضد كل من يخرج عن
شرعيتها، باستثناء دولة واحدة، لم يصدر بشأنها إجراء عملي واحد لردعها هي
دولة (إسرائيل) ، ويحدث هذا كله تحت سمع وبصر الدول الكبرى التي ما كان
لدولة اليهود أن تتصرف على هذا النحو إلا بإغماض منها في الظاهر وتشجيع في
الباطن.
ولهذا كله؛ فإن من البلاهة والبلادة، بل من الحمق والغباء أن يُظن أن الذين
صنعوا لليهود دولة في عقر ديارنا، ومكنوهم من التفوق على مجموع قوتنا
وجيوشنا يمكن لهم في يوم من الأيام أن يقفوا معنا ضدهم أو يمكنونا من صدهم أو
إضعافهم، هيهات هيهات؛ فالله - تعالى - يقول: [والذين كفروا بعضهم أولياء
بعض] [الأنفال: 73] ، والعجيب أن كثيراً من العرب يتصورون أنه لا حل
للأزمة مع اليهود إلا بكسب صداقة (أصدقاء اليهود) والمراهنة على (الضغوط)
التي تمارسها ضدهم الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وهذا وهم آخر، فالله -
تعالى - يقول: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين
في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]
[المائدة: 51، 52] .
فاللهم ائت بالفتح أو أمرٍ من عندك ... حتى تمكن للمؤمنين وتوهن كيد
الكافرين.. آمين.
__________
(1) رواه أبو داود، ح/ 3003، وأحمد، ح/ 4765.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، ك الإيمان، 1/62، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل مجموع أعضاء المنظمة الدولية، أما مجلس الأمن، فتتحكم فيه فقط الدول التي تتمتع بنقض الفيتو، ولا تملك الجمعية العامة إلزام مجلس الأمن بشئ من قرارتها.(145/60)
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
اللاجئون بين العودة والتوطين
د. يوسف الصغير
لا شك أن عملية زرع دولة لليهود في فلسطين كانت معدَّة ومرتبة بإتقان؛ فقد
تتابعت الأحداث من وعد بلفور إلى فرض الانتداب الإنجليزي على فلسطين الذي
كان هدفه تهيئة الأوضاع لقيام وطن لليهود؛ ولهذا فقد صرح وزير المستعمرات
البريطاني عام 1921م، (ونستون تشرشل) وهو من الصهاينة غير اليهود: أنه
إذا صار اليهود أغلبية في البلاد في غضون عدة أعوام فمن الطبيعي أن يتسلموا
الحكم فيها، ومع ذلك فإنه في عام 1947م كان اليهود يؤلفون أقل من ثلث عدد
السكان و 90% منهم من المهاجرين ولم يكتسب الجنسية الفلسطينية إلا ثلث هؤلاء
المهاجرين.
وكان الضغط الأمريكي على أعضاء هيئة الأمم المتحدة عاملاً حاسماً في
تمرير قرار التقسيم عام 1947م الذي أعطى اليهود غالبية المناطق الخصبة
والمنتجة، ولم يحدث في مكان آخر غير فلسطين أن يسمح لمهاجرين أجانب أن
يدمروا السلامة الإقليمية للبلاد التي وفدوا إليها لكي يعيشوا فيها. ومن الملاحظ أن
قرار التقسيم أقام دولة لليهود في أراضي أغلب سكانها من العرب؛ فقد كانت دولة
اليهود المقترحة تضم سكاناً مجموع عددهم في ذلك الوقت 1. 880000 منهم
509. 780 من العرب؛ و 499. 020 من اليهود.
وقد خصص التقسيم أحسن أراضي فلسطين وأكثرها خصوبة للدولة اليهودية
56% من أراضي فلسطين، وقد ارتفعت النسبة إلى أكثر من 70% بعد حرب
1948م مما ضاعف مشكلة التوازن السكاني بين الفلسطينيين واليهود. وقد اعتمد
اليهود في حل هذه المشكلة على أسلوبين:
الأول: تصفية الوجود الفلسطيني:
يقول الوسيط الدولي الكونت برنادوت في تقريره المنشور قبل اغتياله من قِبَلِ
اليهود: إن نزوح عرب فلسطين جاء نتيجة للرعب الذي خلقه القتال الدائر في
مجمعاتهم، وللشائعات المتعلقة بأعمال الإرهاب الحقيقية أو المزعومة أو بفعل
الطرد (وإن كل السكان العرب تقريباً هربوا أو طردوا من المنطقة الواقعة تحت
الاحتلال اليهودي) [1] .
وقد استعمل اليهود أساليب متعددة لطرد الفلسطينيين منها:
1- الإرهاب: مثل نسف المنازل، وإلقاء المتفجرات على تجمعات الناس،
وتدمير القرى، والمجازر المخطط لها مثل مجزرة دير ياسين التي نفذتها منظمة
أرجون بقيادة مناحيم بيجن الذي تبجح في أحد كتبه بقوله: (ما كانت إسرائيل لتقوم
لولا النصر العسكري في دير ياسين) [2] .
2- الطرد: لقد تم طرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم بالقوة وسيقوا إلى
الدول العربية؛ كما حدث لأهالي مدن حيفا وطبريا واللد والرملة ويافا وعكا وسكان
بئر السبع والجليل وغيرها.
3- الحرب النفسية: لقد شن اليهود حرباً عسكرية نفسية ضد الفلسطينيين
وصفها الدكتور جون ديفيز الذي شغل منصب المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة
لغوث اللاجئين وتشغيلهم مدة خمس سنوات بقوله: (إن مقدار الوحشية التي
استخدمها الإسرائيليون في طرد أهل فلسطين باعتبارها جزءاً من خطة مدبرة
متعمدة هو أمر لم يقدر حق قدره، وإن فكرة الصهيونية لإنشاء الدولة اليهودية قد
دعت إلى طرد السكان العرب الأصليين من ديارهم. ثم وصف الأسلوب بقوله: ...
(إنه تفاوت بين حرب نفسية دبرها خبراء وبين طرد بالقسوة وبلا رحمة) .
وقد عمدتْ إدارة القسم العربي الخاص في الهاجاناه إلى إرسال يهود يتكلمون
العربية ويرتدون الزي العربي لنشر الإشاعات. وقد استعمل اليهود سيارات جيب
مزودة بمكبرات الصوت تدور في مناطق الفلسطينيين وتبث تسجيلات الرعب،
وتضمنت التسجيلات الصراخ والعويل للنساء العربيات وللأطفال وزعيق صفارات
الإنذار، وكان يقاطعها صوت بالعربية ينادي: (يا جميع المؤمنين أنقذوا أرواحكم
وانجوا بحياتكم؛ اليهود يستعملون الغاز السام والأسلحة الذرية! أسرعوا إلى الفرار
ناجين بأنفسكم) لقد كانت هذه الدعايات والوسائل الساذجة تؤثر كثيراً على البسطاء
من أهل القرى مع دعاية أخرى توحي لهم بأن الهجرة مؤقتة وأنهم سيعودون مع
الجيوش العربية القادمة لإبادة اليهود؛ ولهذا فكثير منهم خرجوا وهم يحملون مفاتيح
منازلهم وما زال كثير منهم يحتفظ بها بعد أكثر من خمسين عاماً.
ونتيجة لسياسة التفريغ السابقة فقد هجرت مئات القرى وكثير من المدن وبدأ
اليهود تنفيذ خطة لمصادرة هذه الأملاك وإعطائها لليهود ويعلق دافيد بن جوريون
في مذكراته بتاريخ 5-6-1948م بقوله: (يجب أن نعد العدة فوراً لاستيطان
القرى الفلسطينية المهجورة بمعونة الصندوق القومي اليهودي) . [3] ...
ومن أجل تنفيذ هذه الخطة تم إصدار القوانين التي منها:
1 - قانون أملاك الغائبين لعام 1950م وقد صدر هذا القانون لتوضع أملاك
العرب تحت الحراسة ويحق للحارس بيع هذه الأملاك لقاء ثمن تحدده السلطات
الرسمية.
2 - قانون استملاك الأراضي لعام 1952م وهو يعطي السلطات حق
مصادرة الأراضي العربية بحجة استخدامها في أغراض التعمير والتنمية أو لأسباب
أمنية.
3 - قانون التصرف العام 1953م وهو يشترط على صاحب الملك أن
يتصرف بأملاكه تصرفاً فعلياً بشخصه هو مباشرة؛ والمقصود طبعاً إبطال حقوق
الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم. ولوزير المالية وفق هذا القانون وضع اليد
على هذه الأملاك والتصرف فيها.
4 - قانون تقادم العهد 1957م؛ ونص هذا القانون بأن المالك لأرضه لا
يحق له الاحتفاظ بها إلا إذا قدم إثباتات تؤكد تصرفه بها طيلة 25 عاماً وإلا
أصبحت ملكاً لدولة (إسرائيل) . والمقصود بالطبع إسقاط حقوق المطرودين؛ إذ
كيف يتصرف في أرضه وهو ممنوع من العودة إليها؟
لقد بلغ عدد اللاجئين في ذلك الوقت ما بين 600 و 700 ألف، منهم 120
ألف بقي في فلسطين ولكن بدون أراضي أو أملاك، وصنفوا من قِبَل الأمم المتحدة
على أنهم لاجئون. أما البقية فقد وزعوا على عدة دول عربية، وبعضهم انتقل إلى
أطراف بعيدة وقد انضم إلى اللاجئين آلاف مؤلفة أخرى بعد حرب 1967م.
وعلى الجانب الآخر عمل اليهود بعد قيام دولتهم على تشجيع اليهود على
القدوم، وفي مقابل القوانين السابقة في حق الفلسطينيين فقد سن اليهود قانون العودة
الذي ينص على أن لكل يهودي الحق في المجيء إلى هذه الدولة، وأضيف قانون
ينص على أن لكل يهودي الحق في الجنسية الإسرائيلية حتى لو لم يتخل عن
جنسيته الأصلية.
واتسمت الهجرة بعد قيام الكيان الصهيوني بارتفاع كبير نتيجة نقل يهود الدول
العربية. فمثلاً بلغت أعداد المهاجرين من 1948م إلى 1952م كما يلي:
- 1948م: 101. 837
- 1949م: 239. 954
- 1950م: 169. 720
- 1951م: 174. 014
- 1952م: 13. 500
واستمر على هذا المعدل المنخفض حتى عام 1955م ليرتفع من جديد نتيجة
أحداث الجزائر والمجر، ثم عاد للانخفاض.
لقد نص قرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948م في إحدى فقراته: (تقر
الأمم المتحدة وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في
العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات
الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود، أو مصاب وفقاً لمبادئ
القانون والإنصاف وأن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قِبَلِ الحكومات أو
السلطات المسؤولة) .
يتلخص القرار في حق العودة لمن يشاء والتعويض لمن تتعذر عودته، وقد
حاولت الولايات المتحدة في دورة خريف عام 1993م حذف هذه الفقرة من صلب
القرار.
لقد كان من الواضح أن أكبر عقبة في تصفية القضية الفلسطينية هو هذا العدد
الكبير من اللاجئين؛ فقد عملت الولايات المتحدة منذ البداية على تصفية هذه
المشكلة، وقد قال الرئيس الأمريكي ترومان في خطاب ألقاه عام 1951م: (ما لم
يجد هذا العدد الضخم من المشردين بيوتاً جديدة وفرصاً اقتصادية فإنهم سيؤلفون قوة
في استطاعتها أن تصبح هدامة في هذه البقعة من العالم ذات الأهمية الحيوية لنا) .
وقد سارعت الأمم المتحدة بدلاً من الإصرار على عودة اللاجئين إلى إنشاء
وكالة تسمى وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بتاريخ
8-12- 1948م.
وحددت أعمالها بما يلي:
1 - إطعام المشردين وإغاثتهم.
2 - إيجاد المشاريع الزراعية والصناعية المختلفة لتوطين اللاجئين في البلاد
العربية، وإقامة مشاريع في سوريا ولبنان والأردن، وقد أخفق المشروع بسبب
مقاومة اللاجئين لهذه المشروعات؛ لأنهم يعرفون أن معناها تصفية قضيتهم وإقفال
أمل العودة نهائياً.
وتقوم الوكالة بتسهيل هجرة الشباب الفلسطيني إلى الولايات المتحدة وكندا
وأوروبا واستراليا وتهيئة فرص العمل لهم بشرط أن يتنازلوا عن جنسيتهم
الفلسطينية، وما تزال الولايات المتحدة تقوم بدفع نصف تكاليف الأونروا.
والآن وبعد حوالي 50 عاماً على أول طرد جماعي للفلسطينيين فما هي
خريطة توزيع اللاجئين؟ وما هي الحلول المطروحة؟
لقد بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين حوالي خمسة ملايين نسمة. ويتوقع أن
يصل العدد إلى ثمانية ملايين عام 2005م، ويتوزع اللاجئون الفلسطينيون بصورة
تقريبية على البلدان الآتية [4] :
البلد ... عدد اللاجئين المسجلين لدى الأونروا [5] المجموع الكلي
------------------------------------------------
الأردن ... ... 1.437.000 ... ... ... 2.330.000
سورية ... ... 361.000 ... ... ... ... 445.000 ... ... ...
لبنان ... ... ... 362.000 ... ... ... ... 808.000
الضفة الغربية ... 550.000 ... ... ... ... -------
قطاع غزة ... ... 760.000 ... ... ... ... -------
مصر ... ... ... ----- ... ... ... ... 40. 500
دول الخليج ... ... ----- ... ... ... ... 415.000
ليبيا ... ... ... ----- ... ... ... ... 75.000
العراق ... ... ... ----- ... ... ... ... 75.000
شمال وجنوب أمريكا ----- ... ... ... ... 400.000
دول متفرقة ... ... ----- ... ... ... 220.000
فلسطين المحتلة 1948 ----- ... 200-300 ألف لاجئ
إن قضية العودة مطلب رئيس للاجئين تحملوا في سبيله البقاء في مخيمات
تنعدم فيها الخدمات وتقل فيها فرص العمل؛ ويعيشون على فتات الأونروا التي
تتعرض لمحاولات جادة لإلغائها ونقل مسؤولية خدماتها إلى الدول العربية المضيفة.
والذي لا شك فيه أن العودة لن تحصل إلا بتصفية الوجود اليهودي في
فلسطين، ولن يعودوا إلا برفقة الجيوش الإسلامية المنصورة، وليس هذا على الله
بعزيز. ولا ننسى في هذا المجال التذكير بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم
حول قتال اليهود: (حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي
خلفي تعالَ فاقتله) [6] .
إن الإحداث والتحركات الحالية تصب في حل قضية اللاجئين بعدة طرق
يمكن تطبيقها مجتمعة ومنها:
أولاً: السماح بعودة عدد محدود جداً إلى فلسطين المحتلة عام 1948م،
وستكون عودتهم إلى مناطق تجمع وليس إلى المناطق التي أُخرجوا منها، وقد
تراجع العدد الذي صرح اليهود بإمكانية عودتهم من 100 ألف عام 1948م إلى
بضعة آلاف في الوقت الحاضر، وعندما تثمن الإدارة الأمريكية موافقة (إسرائيل)
على لمِّ شمْل عدد محدود من اللاجئين مع حرصها على إلغاء حق العودة أو
التعويض في قرار 194؛ فإنه يتبين أن حل المشكلة سيكون أساساً على حساب
الدول العربية، وستكون مشاركة دولة اليهود رمزية.
2 - توطين جزء من الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي خاصة الضفة
الغربية؛ حيث إن هناك أفكاراً في نقل بعض سكان غزة إلى الضفة لتخفيف الكثافة
السكانية العالية جداً في غزة، وتقدر مصادر أمريكية إمكانية توطين حوالي 750
ألف لاجئ أغلبهم من لبنان والأردن في مناطق السلطة.
3 - تسوية أوضاع اللاجئين الفلسطينيين الذين لم يحصلوا على الجنسية
الأردنية وذلك إما بالعودة إلى الضفة أو تجنيسهم، وهناك مفاوضات جادة في هذا
المجال ويبدو أن أكبر عائق هو الاتفاق على الثمن النقدي لهذا الإجراء؛ حيث
يشاع أن الأردن يطالب بمبلغ معين مقابل كل لاجئ يتم تجنيسه. وقد بدأ طرح
عطاءات الأعمال الاستشارية لمشروع كلفته 980 مليون دولار لتحسين الخدمات
ورفع مستوى المعيشة في المخيمات.
4 - تنشط المشاورات السياسية مع سوريا في الوقت الحاضر من أجل تطبيع
العلاقات مع اليهود وحل مشكلة اللاجئين. ولفرنسا دور كبير في هذا المجال
لعلاقاتها المتميزة مع كل من سوريا ولبنان، وتشير مصادر أمريكية إلى إمكانية
تجنيس الفلسطينيين المقيمين في سوريا بصورة جماعية.
5 - تفترض الإدارة الأمريكية أن على دول الخليج ومصر والعراق ودول
المغرب العربي إعطاء حق المواطنة للفلسطينيين المقيمين فيها والذين يقدر عددهم
بحوالي 965 ألف نسمة.
6 - تقوم الولايات المتحدة ودول غربية أخرى بتوطين 900 ألف فلسطيني.
7 - تبقى قضية الفلسطينيين في لبنان حساسة جداً؛ حيث إنه في البداية في
عام 1948م، تم التعامل معهم بحذر؛ حيث تم تجنيس عدد كبير من النصارى،
أما الأكثرية وهم السُّنَّة فقد تم توزيعهم على مختلف الأراضي اللبنانية مع عدم
السماح لهم بالإقامة قرب الحدود.
وفي استطلاعات حديثة تبين أن عموم الفلسطينيين في المخيمات يعارضون
التوطين ويقاومونه، ولتصفية هذه المعارضة فقد بدأت السلطة الفلسطينية بالتنسيق
مع (إسرائيل) بإحياء دور فتح في المخيمات؛ حيث بدأت في تجنيد المسلحين
وفتح المكاتب تمهيداً لتصفية أي معارضة للحل النهائي؛ ويتوقع قيام حرب
فلسطينية فلسطينية جدية داخل المخيمات لإسدال الستار نهائياً على قضية اللاجئين
في لبنان. إن الموقف من التوطين حساس لخصوصية لبنان بغض النظر عن
الموقف من السلام مع (إسرائيل) وهذا الموقف يتلخص في الآتي:
- النصارى يعارضون التوطين بشدة؛ لأنه يخل بالتوازن على حسابهم؛
ولهذا فقد صرح الرئيس الهراوي لوفد كنديٍّ ناقش معه قضية التوطين أن من يريد
الفلسطينيين فليأخذهم، وأن هناك ملايين من المهاجرين من أصل لبناني في
البرازيل أحق بالجنسية. ويطرح في لبنان تجنيس الفلسطينيين مع تجنيس
المهاجرين الذين يغلب فيهم النصارى، وذلك لحفظ التوازن.
- يرحب السنة عموماً بتجنيس الفلسطينين؛ لأنه يمثل سنداً لهم في التوزيع
الطائفي.
- يعارض الشيعة التوطين؛ لأنه يخل بالتوازن مع السنة داخل المجتمع غير
النصراني.
- لا يهتم الدروز بالتوطين بشرط أن يكون بعيداً عن مناطقهم.
وأخيراً: عندما تحل مشكلة العودة بتذويب اللاجئين يبقى موضوع
التعويضات والأملاك الفلسطينية التي سيحرص اليهود على ابتلاعها وطي صفحتها، وقد حرصت (إسرائيل) عن طريق أمريكا على إلغاء بنود العودة والتعويضات ...
من القرار 194، ولما أخفقوا بدأ الكلام عن حق عودة اليهود الذين خرجوا من
الدول العربية وحقهم بالتعويض؛ حيث إن القرار 194 وأوسلو أيضاً ينصان على
عودة اللاجئين ولكن لم يذكر قط لفظ اللاجئين الفلسطينيين وبذلك فهو يشمل اليهود
أيضاً، ولا يستبعد أن يحصل اليهود على تعويضات كبيرة عن أملاكهم في العراق
واليمن ومصر وليبيا؛ وقد صرح أحد السياسيين اليهود أن على الدول العربية أن
تقوم بتوطين الفلسطينيين ونقوم نحن بتوطين اليهود.
وتحاول (إسرائيل) في الوقت الحاضر إلغاء مرجعية قرارات الأمم المتحدة
والتي تنص على عودة اللاجئين وحق العودة أو التعويض وانسحاب (إسرائيل) من
أراضي عربية محتلة والتأكيد على أن المرجعية هي التراضي والتفاوض بدون
شروط، وأنَّ ما وقَّع عليه رابين لا يلزم نتنياهو، وما وقَّع عليه الجميع لا يناسب
باراك، وبكلمة أخرى: (إن كلام الليل يمحوه النهار) فمتى يعي مدمنو الحلول
السلمية وسياسة التنازل خطوة خطوة أنه سيأتي اليوم الذي لا يجدون فيه شيئاً
يتنازلون عنه؟ ! يومها سيتبين لهم قيمتهم الحقيقية عند أبناء عمهم.
__________
(1) U N Prgress Report, Spt 16, 1948 تقرير الأمم المتحدة 16 سبتمبر 1948.
(2) Begin, Menachem: The Revolt Story of the Irgun.
(3) Davis, Jahn: The Evasive peace, PP, 57-60.
(4) مقابلة مسؤول ملف اللاجئين في منظمة التحرير أسعد عبد الرحمن مع صحيفة الشرق الأوسط.
(5) لا يشمل اللاجئين عام 1967م أو الذين هاجروا لغير الدول التي تشملها خدمات الأونروا.
(6) رواه مسلم، ح/2500.(145/66)
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
أخطبوط الاستيطان الصهيوني في فلسطين
باسل يوسف النيرب
بدأت عملية الاستيطان اليهودي منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد من
خلال خطوات مدروسة، ولم تخلُ التسويغات الاستيطانية الصهيونية من العنصر
الديني؛ فقد استوطن اليهود المدن الفلسطينية القديمة (صفد، طبريا، الخليل،
القدس) وخلال هذه الفترة نشأ العديد من المستوطنات في القرى الزراعية المحاذية
للقرى الفلسطينية دون أن تثير أي مشاكل لدى الفلسطينيين، وإثر وضوح النوايا
في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن - ببروز دعم الانتداب والدول الأوروبية
لمشروع الاستيطان، وظهور عمل العصابات الصهيونية على استملاك الأراضي
بالشراء من بعض الإقطاعيين المستملكين أراضي من فلسطين وضحت أبعاد
المسألة، ومع ذلك لم تتجاوز النسبة 6. 5% من مجموع مساحة فلسطين، مما
جعل الفلسطينيين يأخذون حذرهم من الخطر الصهيوني.
الدور الأوروبي:
تتحمل الدول الأوروبية الدور الأكبر في منح فلسطين لليهود؛ فبريطانيا
منحتهم وعد بلفور المشؤوم 1917م مدعية أن تلك الأرض لا سكان فيها، وكانت
قبل ذلك في عام 1871م قد سهلت قيام فرع منظمة الأليانس العالمية - الاتحاد
الإسرائيلي العالمي - لمساعدة (المضطهدين) اليهود والمشاركة بشكل رسمي
لإنشاء الدولة العبرية.
عمد رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (بالمرستون) ، إلى الطلب من سفيره في
إسطانبول أن يحاول إقناع السلطان العثماني بفتح أبواب الهجرة إلى فلسطين، وبعد
مؤتمر بال 1897م، أقيم العديد من الجمعيات الاستيطانية ومنها صندوق الائتمان
اليهودي للاستعمار، وشركة أنجلو فلسطين المحدودة، وشركة أنجلو ليفتين
المصرفية المحدودة، والصندوق الثقافي اليهودي، وشركة المكابي للأراضي
المحدودة.
كما ساعدت بريطانيا على بناء العديد من المستوطنات بخلفية الشعور الديني
القائم على المذهب البروتستانتي؛ فالمذهب البروتستانتي يرى في قيام (إسرائيل)
علامة على قرب عودة المسيح المنتظر، مما دفع أتباع هذا المذهب للمساعدة على
قيام (إسرائيل) .
ولم تختلف مساعي فرنسا ومشاعرها كثيراً عن بريطانيا؛ ونجد هذا واضحاً
في النداء الذي أرسله نابليون إلى اليهود أثناء حصار عكا قائلاً: (يا ورثة فلسطين
الشرعيين ندعوكم للمساهمة في السيطرة على بلادكم من أجل بناء أمتكم، وحتى
تصبحوا أسياد فلسطين الشرعيين) كما أن مؤسسة الإليانس كانت نشأتها الأولى في
فرنسا عام 1860م.
وتُعَدُّ ألمانيا هي صاحبة الدور الأبرز في بناء المستوطنات، وصاحبة فكرة
مستوطنات الهيكل وصاحبها فوتمبرج WUTTEMBERG، وأعلنت ألمانيا
موقفها من لجنة التحقيق لعام 1937م، بأنها ليست مع قيام دولة يهودية تحت
الانتداب البريطاني؛ لأنها لا تستطيع استيعاب جميع يهود العالم؛ ولكنها توافق
على أن تكون فلسطين قاعدة قانونية لدولة اليهود.
وتذكر الوثائق التاريخية أن أول قطعة أرض امتلكها اليهود في فلسطين كانت
في عهد السلطان عبد المجيد (1839 1861م) عام 1854م، وهي التي أقيم عليها
حي مونتفيوري، وكان قد اشتراها موسى مونتفيوري الذي شجع فكرة الاستيطان
ونشر التعليم الزراعي بين يهود فلسطين.
مراحل الاستيطان:
مرت العمليات الاستيطانية بأربع مراحل:
المرحلة الأولى: كانت في العهد العثماني؛ حيث قامت الحركة الصهيونية
بزرع عدد من المستوطنات فكانت كالجزر المعزولة وسط المناطق العربية،
وأصبحت فيما بعد نقاط ارتكاز، فبعد أن كان عدد اليهود عام 1882م 24 ألف
يهودي قفز في عام 1917م إلى أكثر من 85 ألف يهودي، وبلغ عدد المستوطنات
عام 1884م خمس مستوطنات في كل منها 100 مستوطن، أقيمت ثلاث منها في
جوار يافا، وواحدة في الحولة وأخرى في حيفا، وارتفع عدد المستوطنات عام
1900م إلى 22 مستوطنة ضمت 5410 من المستوطنين، ومعظم هذه
المستوطنات في السهل الساحلي حيث بلغ عددها فيه 12 مستوطنة، وفي الجليل 7، وفي القدس اثنتين، وواحدةً في الغور.
بلغ عدد المستوطنات وفي عام 1914م 47 مستوطنة: منها: 26 مستوطنة
في السهل الساحلي، و12 في الجليل، ومستوطنتان في القدس، وواحدة في كل
من الغور ومرج بني عامر، وبلغ عدد المستوطنين 11990 مستوطن، وحتى
نهاية عام 1918م كان بحوزة اليهود من أراضي فلسطين 418 دونم.
المرحلة الثانية: ترافقت مع الانتداب البريطاني على فلسطين واقتطع
الانتداب أخصب الأراضي في مرج ابن عامر ووادي الحوارث وغيرها من
المناطق، ووصل عدد اليهود إلى469. 600 يهودي في آخر فترة الانتداب.
وقد عملت سلطات الانتداب على تكثيف الهجرة لتحقيق التوازن العددي بين
السكان الأصليين والمستوطنين، وحرصت على زيادة المساحات التي في حوزة
اليهود وخاصة الأراضي الزراعية، وقلب الوضع الاقتصادي بالاستيلاء على
المرافق الحيوية والصناعات الناشئة في ذلك الوقت، وتغيير الوضع بالنسبة
للأماكن المقدسة.
بلغ عدد المستوطنات المقامة من 1918 - 1948م نحو 363 مستوطنة،
وأزيلت خمس قرى في قضاء صفد وحولت إلى مستعمرات ومثلها في طبريا،
وأربع في قضاء بيسان، وعشر في قضاء الناصرة، وست في قضاء عكا،
وعشرون في قضاء حيفا، وخمس في قضاء يافا، وبلغت مجموع القرى التي
محيت إحدى وستين قرية.
المرحلة الثالثة: مع قيام الدولة اليهودية بدأت مرحلة أخرى من الاستيطان
من الجليل شمالاً حتى النقب جنوباً وجرت خلال هذه المرحلة عمليات ترحيل ...
(ترانسفير) وطرد منظم للسكان العرب من فلسطين. وأوضح ما يبين هذه الصورة
رسالة موشي شاريت إلى ناحوم جولدمان عام 1948م التي يقول فيها: إن إخراج
العرب هو حدث رائع في تاريخ (إسرائيل) كما يعتبر الحدث - وفق مفهوم معين- أروع من إقامة دولة (إسرائيل) نفسها، إضافة إلى ما كتبه الكونت برنادوت
الذي اغتيل على يد عصابات الهاجاناه: (إن عرب فلسطين لم يغادروا ديارهم
ويهجروا ممتلكاتهم طوعاً أو اختياراً؛ بل نتيجة لأعمال العنف والإرهاب) ، وأعلن
ابن غوريون بأن على (إسرائيل) عمل كل شيء لضمان ألا يعود أحد من ...
الفلسطينيين المطرودين إلى بيوتهم.
المرحلة الرابعة: وجاءت إثر عدوان حزيران سنة 1967م واحتلال الضفة
الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وهنا اختلف الاستيطان عن ذي قبل، وأخذ
طابعاً جيوسياسياً مغلَّفاً بالدوافع القومية الدينية.
وضعت السلطات الإسرائيلية العديد من القوانين التي تمنع عودة أصحاب
الأراضي إليها، ويُعرف عن هذه القوانين أنها تشكل إحدى الدعامات التي مهدت
للاستيلاء على الأرض، ومنها قانون (حارس أملاك الغائبين) وحاولت (إسرائيل) من خلال هذا القانون إقناع الرأي العام العالمي أن الهدف هو الحفاظ على أملاك
الغائبين، وصدر الأمر العسكري رقم 58 لسنة 1967م، الذي ينظم عمل قانون ...
(حارس أملاك الغائبين) والمناط به حق التصرف في أملاك الغائبين، وأن يتخذ
الإجراءات الضرورية لذلك، ولحارس أملاك الغائبين الحق بالموافقة أو عدم
الموافقة على بيع وشراء وتأجير أي صفقة ينطبق عليها قانون أملاك الغائبين، ثم
عملت هذه السلطات على مصادرة الأراضي لأغراض عسكرية: للرماية،
والتدريبات، واعتبرتها مناطق أمن للجيش، وكان الصندوق القومي اليهودي
ومؤسسة هيمنوتا التابعة للصندوق يقومان قبل عام 1979م بالشراء، ثم أصدرت
السلطات العسكرية أمراً عسكرياً بمنع المحاكم من النظر في مسألة بيع الأراضي
وتحويل تسجيلها إلى لجنة خاصة، وبعد عام 1979م سمحت السلطات الإسرائيلية
بالشراء للأفراد، وكانت أغلب الصفقات عبارة عن بيوع مزيفة، كما أعلنت العديد
من الأراضي أراضي حكومية لا يجوز التصرف بها إلا من قِبَل الدولة.
القدس والاستيطان:
يجب التأكيد في البداية على أن الاختلاف القائم بين اليهود على الاستيطان
ليس ضد التوسيع أو البناء؛ لكن ضد التوقيت الذي يعلن فيه عن قيام المستوطنة؛
ففي القدس يحظى الاستيطان بإجماع عام داخل الأحزاب الدينية والعلمانية؛ فبعد
الانتهاء من حرب 1967م، أصدر ليفي أشكول رئيس الوزراء الأسبق قراراً
بتوحيد القدس، وأشار إلى أن (إسرائيل) مستعدة لإعادة الجولان وسيناء مقابل
السلام، أما بالنسبة إلى القدس فقال: إننا مستعدون للموت دون التنازل عنها، ثم
أعلنت (إسرائيل) العديد من القوانين واتخذت الإجراءات الكافية لضم القدس، ثم
شرعت في البناء، وعملت على خلق واقع ديمغرافي جديد.
يبلغ عدد المستوطنين حالياً في القدس الشرقية ما يزيد عن 170 ألف،
والمدقق في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين يخرج بنتيجة أكيدة وهي: إجماعهم
على أنه لا (إسرائيل) بدون القدس وأنها يجب أن تبقى عاصمة أبدية (لدولتها)
وهذا تنفيذ لمقولة مؤسس (إسرائيل) بن غوريون: (من الواجب جلب يهود إلى
القدس بأي ثمن، من الواجب توطين عشرات الآلاف من اليهود هناك في غضون
فترة قصيرة) .
تصنيف المستوطنات:
تصنف المستوطنات من حيث المساحة إلى أربع فئات:
الفئة الأولى: مساحتها أكثر من 1500 دونم، وتمثل ما نسبته 7. 58%.
الفئة الثانية: مساحتها بين 1000 - 1499 دونم.
الفئة الثالثة: مساحتها بين 500 - 999 دونم وتشكل ما نسبته 7. 6%.
الفئة الرابعة: وهي المستوطنات المحاذية للخط الأخضر، ومساحتها
الإجمالية 15130 دونم، ويبلغ عددها 17 مستوطنة.
تتشكل أغلب البؤر الاستيطانية في ألوية القدس، ورام الله، والخليل،
ونابلس؛ فالاستيطان فيها قائم على أسباب استراتيجية وديمغرافية ضمن سياسة
عزل وتفتيت المناطق العربية بعضها عن بعض بواسطة الكتل الاستيطانية.
وتنتشر المستوطنات المخصصة للسكان في الضفة الغربية بنسبة 76. 7%
وقطاع غزة بنسبة 73. 45% إضافة إلى بعض المستوطنات الزراعية في أريحا،
وبيت لحم، ونابلس.
أما القدس فتضم العدد الأكبر من المستوطنات وعددها 84 مستوطنة، وتضم
الأراضي الاستيطانية 45615 دونم، ثم يتبعها محافظة نابلس وتبلغ المساحة
العمرانية للمستوطنات 20638 دونم، ثم محافظة الخليل، وتشكل مستوطنات لواء
القدس 5. 76%، ثم رام الله 1. 9%، ونابلس 1. 6، وبيت لحم 1. 5%.
التسوية والاستيطان:
تشير إحصاءات المكتب المركزي للإحصاءات الفلسطينية أن المستوطنات
التي بناها الليكود تقارب 70. 1% في حين ساهم حزب العمل في بناء 29. 95
% من المستوطنات، ومعظم هذه المستوطنات تم بناؤها بين أعوام 1976 1982م، و1989- 1991م، ثم توقف تقريباً بناء المستوطنات لتبدأ عمليات توسيع
وتسمين المستوطنات المقامة واستمر حتى ما بعد توقيع اتفاق أوسلو.
ويعتبر الاستيطان مشكلة من المشاكل الكبرى في طريق التسوية النهائية
الجارية حالياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن خلال المفاوضات الجارية
ستعمل (إسرائيل) على المحافظة على المستوطنات باعتبارها عموداً فقرياً لها
ومصاحباً (للدولة) في كل مراحل تطورها، إضافة إلى الإجماع الرسمي والحزبي
على أن المستوطنات تشكل مورداً استراتيجياً ثابتاً يجب المحافظة عليه وتوسعته.
بدأت أولى مراحل البحث عن حلول لمشكلة الاستيطان بعد الاحتلال
الإسرائيلي للضفة والقطاع في عام 1967م، عبر مشروع (إيغال آلون) والذي
اقترح ضم غور الأردن إلى (إسرائيل) بشكل رسمي وتكثيف الاستيطان فيه، ثم
قدَّم البروفيسور الإسرائيلي (إبراهام فاكمان) مشروعاً في عام 1969م عرف باسم
(الخطة الفقرية المزدوجة) ، كما طرح (معهد ديفيس) التابع للجامعة العبرية اقتراحاً
بتحديد الحدود من خلال ضم المناطق الغربية من الخط الأخضر الفاصل بين
المناطق المحتلة 1948م وبين المناطق المحتلة 1967م، وهي المناطق التي تضم
أكبر عدد من المستوطنات، وتوالت الاقتراحات التي تدور حول هذا الطرح من
خلال صياغة خارطة تأخذ بالحسبان تحديد الحدود لحزام المستوطنات المقامة
وضمان المياه والديمغرافيا والأمن.
كما صمم فريق من جامعة حيفا برئاسة أرنون سوفير رئيس قسم الجغرافيا
خارطة مقترحة وقُدمت لحزبي العمل والليكود تنص على تعديل الخط الأخضر،
ووضعت مناطق تستوعب الكتل الاستيطانية التي كانت في ذلك الوقت تضم 50
ألف مستوطن، وما يزيد عن 145 ألف مستوطن في منطقة القدس الشرقية،
وتسمح هذه الخارطة لـ (إسرائيل) بالسعي من خلال ثلاثة ممرات واسعة
للوصول إلى الخط الفاصل مع الأردن، وتمنحها معظم مصادر المياه في الجبال
الوسطى من الضفة الغربية، ثم عُدِّلت الخارطة لتربط المسجد الإبراهيمي بالحرم
القدسي الشريف، على أن تكون مسؤولية سلامة اليهود في الخليل بيد الفلسطينيين، وفي القدس تكون مسؤولية سلامة العرب بيد اليهود.
قدم شارون اقتراحاً نص على: إبقاء سلسلة من الجيوب بيد الفلسطينيين في
الضفة والقطاع وضم المناطق الأخرى باعتبارها مراكز ونقاطاً استيطانية لاحقة لـ
(إسرائيل) ، كما صدرت عن (جمعية سبل الاتفاق الوطني) مقترحات، ومنها: أن
تبقى في يد (إسرائيل) السيطرة الكاملة على كل من القدس الكبرى وغوش
عتصيون وغور الأردن وشمال البحر الميت، وضم الكتل الاستيطانية غير
المأهولة بالسكان العرب.
تُجْمِعُ قوى اليمين واليسار حالياً في (إسرائيل) على وثيقة عرفت باسم
(وثيقة العمل والليكود) ، التي تنص على أن لا عودة لحدود الرابع من حزيران
1967م، وأن معظم المستوطنات ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية مع الحفاظ على
تواصل بين المستوطنات عبر ربطها بالكتل الاستيطانية، كما نصت الوثيقة على:
أن المستوطنات التي سيتم ضمها لـ (إسرائيل) ستحظى بترتيبات خاصة ومتفق
عليها في إطار يحافظ من خلاله المستوطنون على الجنسية الإسرائيلية ويحافظون
على حقهم في المرور الآمن إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
يشكل الاستيطان عامل انقسام داخل القوى السياسية الإسرائيلية، فترى
أحزاب الوسط واليسار إمكانية وجود مستوطنات داخل الدولة الفلسطينية مقابل عدم
تفكيكها، وثمة رأي آخر داخل هذا التيار يقف مع تفكيك بعض المستوطنات
الصغيرة، وفي المقابل تعزيز المستوطنات في غور الأردن والمنطقة الشرقية من
الخط الأخضر وحول القدس.
والتيار الآخر الذي يتزعمه الجناح اليميني وأحزاب الوسط يطالب بتعزيز
المستوطنات حتى داخل التجمعات الفلسطينية مع البحث عن دور وظيفي
للفلسطينيين في إدارة شؤونهم المدنية دون السيطرة على الأرض والموارد الطبيعية، ولذلك أقيمت الطرق الالتفافية حول المستوطنات وربطت بعضها ببعض، ثم
خصصت الميزانيات الضخمة لتسمين المستوطنات حتى وإن كانت غير مأهولة.
إن الحل السياسي المطروح حالياً لا يضمن إزالة المستوطنات التي أقيمت
على الرغم من معارضة القانون الدولي لذلك، بل يضمن بقاء المستوطنات ضمن
المدن والقرى في مناطق الإدارة الفلسطينية وفق ترتيبات تعد الآن، كما أن
المستوطنين لن يخرجوا من الأراضي الفلسطينية؛ فقد عملت (إسرائيل) على
زيادة زخم الاستيطان وإقامة الحقائق على الأرض؛ لأن جميع الاتفاقيات بدءاً من
أوسلو وحتى واي ريفر 2 أخفقت في منع (إسرائيل) من استغلال المرحلة النهائية، مما يعني أن الحل السياسي الدائر حالياً سيصب في المصلحة الإسرائيلية. ...
إن الحديث عن موضوع الاستيطان متشعب وفيه الكثير من الآراء؛ ولكن
علينا أن لا ننسى أن المستوطنين هم الذين أسسوا الحركات السرية لملاحقة
الفلسطينيين وحملهم على الخروج من أراضيهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما
نشر في عهد حكومة إسحاق شامير 1990م، وكان تحت عنوان: (دليل
المستوطنين) ، وفيه توصيات وتوجيهات لكيفية أداء العمليات الانتقامية ضد السكان
العرب، ويدعو الدليل إلى استخدام الذخيرة الحية، والعمل على سرقة الأسلحة
واستخدامها، ويقول الدليل: (طوبى لك إذا قررت القيام بعملية مدبرة، وتهانينا لك
إذا قمت بتنفيذ العملية) ويشرح الدليل كيفية التصرف إذا اعتقل المستوطن، وسوَّغ
التقرير أفعال المستوطنين بأنها رد على كل حجر يلقيه عربي، فعلى المستوطنين
القيام بعمليات انتقامية سرية أو بعمليات جماعية، وإلحاق الخسائر الفادحة
بالممتلكات العربية.
وختاماً لا بد من التأكيد على أن المستوطنات التي أقيمت فوق الأرض
الفلسطينية استولت على المياه والموارد الطبيعية والأرض، وقطعت القرى
الفلسطينية عن المدن، وفصلت الاتصال العمراني بين المناطق الفلسطينية، كما
أثرت على الاقتصاد الفلسطيني بأن جعلت العمال الفلسطينيين يعملون في البناء
والزراعة داخل المستوطنات مما جعل مصدر الرزق الوحيد العمل داخلها،
وساهمت المستوطنات في إبقاء الفلسطينيين بلا بُنية تحتية وتحت رحمة
(إسرائيل) .(145/72)
ملف فلسطين
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
د. عبد الفتاح العويسي
خالفنا نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الاتجاه إلى القدس
- الدكتور عبد الفتاح العويسي يعمل أستاذاً للدراسات العربية والإسلامية
بجامعة استيرلينج في بريطانيا، وأحد المؤسسين لمجمع البحوث الإسلامية في
المملكة المتحدة، وهو مجمع متخصص ببيت المقدس، واختير أميناً عاماً لهذا
المجمع، وأيضاً يرأس تحرير مجلة دراسات القدس الإسلامية. وقد كان لمجلة معه
هذا الحوار حول المجمع وأهدافه ودوره.
ينصبُّ اهتمامكم على التركيز على قضية المسجد الأقصى؛ وهذا يستدعي أن
نطرح على فضيلتكم السؤال الآتي: كيف وصلتم إلى القناعة بأن قضية المسجد
الأقصى المزمنة بحاجة الآن إلى المزيد من دراسات متخصصة عن بيت المقدس؛
فقمتم مع إخوانكم بتأسيس مجمع البحوث في بريطانيا؟ وهل من الممكن إعطاؤنا
فكرة مختصرة عن المؤسسين لهذا المجمع؟
دعني في البداية أربط الحدث مع قضيتين تاريخيتين: القضية الأولى: هي
نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع قضية القدس؛ فالفتح الإسلامي
لمدينة القدس - في السنة الخامسة عشرة للهجرة النبوية الشريفة - لم يتم دفعة
واحدة؛ إنما سبقه خطوات عملية هيأت لعملية الفتح الإسلامي.
بدايةً هيأ الرسول صلى الله عليه وسلم وعبأ النفوس حول هذه المدينة المقدسة
بالآيات التي وردت في كتاب الله عن هذه البقعة، ثم بما تحدث به؛ بحيث إن
القلوب والعقول أصبحت تحن إلى بيت المقدس وهو واقع تحت الاحتلال الروماني
قبل أن تتم عملية الفتح.
لقد كانت الخطوة الأولى - وهي التعبئة للنفوس والعقول المسلمة لتبدأ
بالتحرك عملياً تجاه القدس، وقد حدث هذا وأهل الإسلام في مكة مستضعفون قبل
الهجرة إلى المدينة - تلك الخطوة تعني أنه حتى في مراحل الضنك والألم التي
عاشها المسلمون في مكة كانت آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم توجههم نحو هذه المدينة المقدسة، ثم بعد ذلك تبعتها الخطوات العملية بعد
الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس ومعراجه من بيت
المقدس إلى السماوات العلى بعد ذلك.
وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأت الخطوات العملية
نحو تحرير القدس من الاحتلال الروماني لها؛ فكانت معركة مؤتة أول صراع مع
الرومان، وكانت الخطوة الثانية في الطريق إلى تحرير القدس، ثم بعد ذلك كانت
غزوة تبوك؛ فقد كانت بمثابة تتبع للروم.
وجاءت بعدها معركة اليرموك، وأستطيع أن أقول: إنه لولا اليرموك ما
كانت قدس، وكذلك من باب المقارنة: لولا حطين في زمن صلاح الدين ما كانت
قدس؛ وهذا يعطينا - حقيقة - درساً تاريخياً مهماً مُفَادُه: أنه قبل معركة القدس
الكبرى، وقبل تحرير القدس لا بد أن تُسبَق بمعركة في الشام في منطقة وادي
الأردن؛ لأن اليرموك وحطين حدثتا في تلك المنطقة، ثم بعد ذلك تم الفتح
الإسلامي في السنة الخامسة عشرة لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم على يد
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا ما بشر به رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
هذه المقدمة التاريخية تخبرنا أنه لا بد من خطوات عملية، ولا بد أن تُهيأ
الأمة للتحرك تجاه هذه المدينة.
للأسف الشديد! واقعنا العربي والإسلامي يقول: إننا نتحرك نحو القدس دون
أن تتعلق قلوبنا بها؛ فنحن خالفنا طريق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي انتهجه
تجاه القدس. نحن نتصور أننا يجب أن ندخل في صراع مسلح مع المحتلين لهذه
المدينة المقدسة وتنتهي الأمور! لا ... لا بد أن يسبق ذلك إعداد؛ فتنفيذ قول الله
تعالى: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم] [الأنفال: 60] وربط القلوب والعقول بهذه المدينة هي الخطوة الأولى
للتعلق بها والحنين إليها، وحب المرابطة فيها، وحب الجهاد بها.
القضية الثانية: أنه أحزننا أنْ مرت ذكرى أربعة عشر قرناً على الفتح
الإسلامي للقدس والعالم العربي والإسلامي لم ينتبه لهذه المناسبة العظيمة. والفتح
الإسلامي للقدس كان نقطة تحوُّل ليس في تاريخ القدس وحدها؛ وإنما في تاريخ
المشرق العربي الإسلامي؛ إضافة إلى الأمة الإسلامية جمعاء.
وهنا نتساءل: لماذا تحدث القرآن الكريم كثيراً عن المسألة التاريخية؟ هل
هي من باب إضاعة الوقت أو من باب التسلية - حاشى لله -؟ لا ... إنما بهدف
أخذ العبرة والدرس للانطلاق للمستقبل، وإن أردت أن تعرف التاريخ ففي القرآن
الكريم علم الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنك تصنع الحاضر في ضوء الماضي
وتستشرف المستقبل في ضوء فهمك للماضي والحاضر؛ فكان مرور أربعة عشر
قرناً على الفتح الإسلامي لبيت المقدس 1994م نقطة أردنا أن نحتفل بها، ليس
على طريقة الاحتفالات التقليدية، وإنما في إطار حضاري إسلامي مميز يأخذ هذه
القضية ويدفعها إلى إطارها الواسع.
أحببت أن أعطي هذين الإطارين التاريخيين حول هذا الموضوع لنفهم لماذا
تم إنشاء مجمع البحوث الإسلامية.
أما إذا أردت أن أوضح الأمر بشكل مباشر حول مجمع البحوث فأقول: إن
لكل عصر متطلباته التي تختلف عن العصر الذي يسبقه؛ فما كان يصلح
للخمسينيات والستينيات لا يصلح في التسعينيات؛ لا أقصد أن المبادئ لا تصلح؛
ولكن أقصد الوسائل التي تصل بنا لتحقيق هذه الغايات؛ فالإسلام بدأ من 1400
عام وهو صالح لكل زمان ومكان؛ ولكن أقول: الوسيلة التي نستعملها لتحقيق هذه
الغاية تختلف من عصر إلى آخر. البيئة التي نعمل بها هنا بيئة غربية؛ فعلينا أن
ندرس البيئة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة للمدينة درس البيئة التي
هاجر إليها مما ساعده في تنظيم الدولة الإسلامية الأولى في المدينة.
كان ينقصنا معرفة البيئة التي نتحرك بها؛ ولذلك فقد قمنا بدراسة البيئة التي
نحن بها في هذه البلاد الغربية ولا سيما في بريطانيا فوجدنا أن هنالك فجوة خلاف
عميقة جداً فيما يخص موضوع القدس على صعيدين: فالدراسات الأكاديمية
المتوافرة في الغرب إما دراسات توراتية، أو دراسات استشراقية من ناحية، ولا
يوجد دراسات إسلامية متعمقة أو جدية حول القدس، ومن ناحية أخرى؛ فإن
الدراسات الإسلامية المتوافرة هي دراسات عاطفية لا تعتمد المنهج العملي في
الحوار.
إسلامنا علمنا أن نواجه الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق؛ ولكن للأسف!
عندما نناقش قضية القدس نناقشها بعاطفة، حتى هذه العاطفة غير واضحة وغير
مبنية على أسس؛ إذن عمَلُنا الأكاديمي في الغرب هنا أثبت لنا أن هنالك فجوة
كبيرة في الدراسات المتوافرة عند العرب والمسلمين، وعند الغربيين في دراساتهم
الأكاديمية.
النقطة التي تلي ذلك: أننا نعيش في عصر التخصص، وللأسف الشديد!
فإن المؤسسات الإسلامية تحب أن تدعي أنها تفهم في كل شيء، وفي نهاية
المطاف لا تبني أي شيء؛ ولذا فإن علينا أن نعي أننا في عصر التخصص؛
فالأطباء الآن لا يتخصصون (أنف وأذن وحنجرة) ؛ بل يتخصصون في جزء من
أجزاء الأنف؛ هذا التخصص الدقيق جداً أيضاً معرفة؛ ونحن غير مختصين
بالقضية الفلسطينية؛ نحن مختصون فقط بجانب بيت المقدس؛ قضية القدس من
جميع جوانبها: الشرعي، التاريخي، الجغرافي، الجيولوجي، أي موضوع له
علاقة بموضوع القدس حتى الموضوع الطبي البيئي، أي شيء له علاقة بموضوع
القدس يجب أن نهتم به. إذن هذه هي الخلفية الفكرية التي دفعت إلى إنشاء مجمع
البحوث الإسلامية، وإن أردت أن أُلخِّص الهدف من نشأة مجمع البحوث الإسلامية
أقوله في جملة واحدة فهي أن مجمع البحوث الإسلامية يهدف إلى تأسيس مرجعية
جديدة حول القدس.
نود ولو إشارة بسيطة حول هذا المجمع؛ لأن هناك - كما هو ملاحظ في
مجلة دراسات القدس الإسلامية - كادراً كبيراً وشخصيات متميزة يعملون به،
وبعضهم من الغربيين؛ فما الجانب الذي كنتم تودون لو تصوغون فيه المجلة؟ أو
ما هي الفكرة من مثل هذه المجلة؟
علينا أن نعود إلى معرفة البيئة التي نعمل فيها؛ فنحن لا نعمل بانعزال عن
البيئة الغربية التي نقيم بها، وقد قلنا: إن الدراسات المتوافرة هنا دراسات توراتية
أو استشراقية؛ ولكنْ هناك عدد من الأكاديميين المتعاطفين الذين يبحثون عن
الحقيقة.
ولكن لا ندعي أن جميع من يعمل في السلك الأكاديمي متعاطفون؛ بعضهم
يريد أن يصل إلى الحقيقة، هؤلاء هم الذين تعاونا معهم. قلنا: إن بعض
الأكاديميين الغربيين الذين يُظهرون نوعاً من التعاطف ونوعاً من البحث عن الحقيقة
قمنا بالتعاون معهم؛ علماً بأن عضوية مجمع البحوث الإسلامية ليست مقتصرة على
المسلمين. ونحن نسعى لجعل المجمع مؤسسة مؤثرة لدى صانعي القرار في هذا
البلد؛ فالعمل الأكاديمي هو الذي يصنع العقول، ويدفع إلى الانطلاق نحو تشكيل
هذه المرجعية الجديدة التي تكلمت عنها.
ولعلِّي في هذه المناسبة أذكر المؤرخة الإنجليزية كارن أرمسترونج التي نشرنا
لها مقالة في المجلة واستضفناها في المؤتمر الأكاديمي الدولي الأول عن القدس في
عام 1997م، ونستغرب الكلام الذي قالته عن القدس، وخلاصة رأيها:
أنها بعد أن درست تاريخ القدس منذ بدء الخليقة حتى الآن وجدت أن
القدس قائمة على مفهوم العدل، وبمعنى أصح: إن من يحقق العدل في القدس تدوم
سيطرته على تلك المدينة، وخلصت بالقول بعدما درست المتغيرات المختلفة،
ووجدت أن القدس في العهد الإسلامي تمتعت بالعدل وتميزت بالتسامح والمساواة
بين الجميع مما أدى إلى ازدهار المؤسسات العلمية والثقافية وهو الدور الكبير الذي
دفع إلى الاستقرار في المنطقة، وتحقيق السلام.
أشرتم إلى أهمية التخصص الأكاديمي بالذات لمثل هذه الدراسات؛ ولكن
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تعتقدون أننا سنصل بهذه الطريقة - أيْ
طريقة الحوار الهادئ والدليل المقنع - إلى شيء يفيد القضية؟ ثم هل تجدون أُذناً
صاغية في الجانب الآخر: المسيحي، واليهودي؟
مرة أخرى نعود إلى قضية الأهداف التي نسعى إليها؛ لأن هذه قد توضح
جزءاً من الإجابة على هذا السؤال. نحن نهدف في هذه المؤسسة إلى ما نسميه
تحقيق الوعي الحضاري من خلال بناء سقف حضاري معرفي، وتأصيل عمل
مميز عن بيت المقدس من جانب، ومن جانب آخر: احتضان الطاقات المبتعثة
المختصة وتهيئتها ومساعدتها في إطلاق إمكانياتها، كما أننا نريد أن يكون المجمع
منبراً عالمياً لمناقشة القضايا المتعلقة بالقدس وملتقى للعلماء المهتمين بهذه القضية،
أو بمعنى أوضح وأشمل:
نريد أن نخرج بقضية القدس من دائرة رد الفعل إلى دائرة صناعة الفعل؛
فحتى هذه اللحظة في كل القضايا التي يعاني منها العالم الإسلامي نحن نقوم بردود
أفعال؛ ففي قضية كوسوفا كان العالم الإسلامي يقوم برد فعل على جرائم تُرتكب
هناك؛ ولكننا لا نصنع الفعل. (نحن في مجمع البحوث) نريد أن نصنع الفعل تجاه
قضية القدس، هذا جزء من أهداف المجمع؛ وليس الرد على الدراسات التوراتيتة
والاستشراقية؛ لأننا لو أخذنا جزءاً من وقت المجمع في الرد على الدراسات
التوراتية والاستشراقية لبقينا في دائرة رد الفعل؛ ولكننا أردنا أن نصنع الفعل من
خلال المحاورة، من خلال المؤتمرات الأكاديمية التي نعقدها، من خلال المجلة
الأكاديمية، ومن خلال الندوات، والمحاضرات. اطرح وجهة نظرك، ولْيطرح
الآخر وجهة نظره؛ فتلك هي المحاورة الحضارية الهادئة التي أمرنا بها القرآن
الكريم عندما نتكلم في محاوراتنا مع غير المسلمين. قال الله - تعالى -:
[وجادلهم بالتي هي أحسن] [النحل: 125] في كل القضايا نحن نريد أن نطبق هذا الشعار، في قضية القدس نحاورهم بالتي هي أحسن على ألاَّ نُجَرَّ فيصبح عملنا رداً لفعلهم؛ ولكننا نصنع الفعل.
المؤتمر عندما يعقد فإننا نضع فعلاً جديداً حول القدس، وعندما نصدر مقالة
فإننا نؤسس مرجعية جديدة، ونقوم بصناعة الفعل بطريقة هادئة، والطريقة الهادئة
تنتج في الغرب أكثر من الصراخ والغوغائية والعاطفية؛ وأستطيع أن أدَّعي أننا
منذ 1994م وحتى هذه اللحظة كسبنا إلى صفنا من الغربيين لصالح قضية القدس
أكثر مما كنا نتوقع، وبهذه الطريقة الحضارية.
يتوجه أغلب المصْلحين لمخاطبة الجماهير الغفيرة بلغة بسيطة يفهمها الجميع؛ فلماذا توجهتم هذا التوجه الأكاديمي البحت؟ ثم هل وجدتم تجاوباً من المؤسسات
والجهات العلمية المهتمة بهذا مع مشروعكم؟
أولاً: لعلِّي من خلال المقدمة التي أعطيتها القارئ نلاحظ أنه ليس لدينا
مختصون في موضوع القدس، وإن كان لدينا فعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ بل أستطيع أن أدعي أنهم يقلون عن عدد أصابع اليد الواحدة في جميع أنحاء
العالم الإسلامي، ولذا فإننا إذا أردنا أن نخاطب الجماهير فسنكون اثنين أو ثلاثة أو
أربعة أو خمسة؛ فكيف نستطيع أن نخاطب العالم الإسلامي والعالم الغربي؟ هذا
الأكاديمي سيصاب بجهد كبير من السفر والمتابعة، وسيذهب جميع وقته في
اللقاءات والمحاضرات ... إلى آخره؛ مما يعني أنه لن يكون هنالك إنتاج؛ ولكن
نحن قلنا: نعم! لن نغفل هذا الجانب في مخاطبة الجماهير المسلمة؛ ولكن في
الوقت نفسه نريد أن نعدَّ قطاعات علمية أكاديمية متخصصة في موضوع القدس،
وهذه القطاعات هي التي ستحمل على عاتقها مشروع مخاطبة الجماهير المسلمة في
جميع أنحاء العالم الإسلامي. نحن نتمنى أن يكون هناك - على الأقل - متخصص
واحد في كل قطر عربي؛ حتى يحمل هذه الأمانة، وهذه الراية في مخاطبة
الجماهير.
إذن الهدف في المرحلة الحالية هو تكوين مجموعات أكاديمية متخصصة
تعرف الحقائق من جميع نواحيها حول موضوع القدس لتتولى مخاطبة الجماهير؛
ولكن عملية إعداد هذه النوعيات ليست عملية سهلة، ويجب أن نتعاون مع
المؤسسات العلمية والإسلامية والسياسية في العالم العربي؛ لدعم ذلك المشروع.
الآن لدينا 6 طلاب يحضِّرون الدكتوراه في مواضيع مختلفة حول موضوع القدس:
طالب يحضر حول القدس بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي، والثاني: حول
الفتح الإسلامي الأول للقدس، والثالث: عن المؤسسات العلمية الإصلاحية في
القدس في الفترة الأيوبية، الرابع: حول الاستيطان في القدس منذ عام 1948 منذ
قيام دولة اليهود، والخامس: عن القدس في الصراع العربي الإسرائيلي، أما
السادس: فعن نظرية جديدة في تفسير العمارة الإسلامية في القدس؛ فجميع
الدراسات الاستشراقية حتى الآن وحتى العربية والإسلامية تقول: إن العمران في
القدس هو نسخة طبق الأصل من المعمار البيزنطي، هذا الطالب الآن يحضر
رسالة الدكتوراه في الهندسة المعمارية في القدس، ليؤكد أن العمارة في القدس في
الصدر الأول للإسلام إنما بنيت انبثاقاً من فهم القرآن الكريم وسنة الرسول صلى
الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال ما كان ليتم هذا لولا المكرمة التي تسجل بأحرف من نور
للشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم حاكم دبي الذي تفضل مشكوراً بتبني خمسة طلبة
يُحضِّرون الدكتوراه في المواضيع التي ذكرتُها بعد أن رأى جدِّيَّة المشروع
الأكاديمي الذي نقوم به، كذلك قمنا قبل عدة أسابيع بالسفر إلى دبي؛ لزيارة الشيخ
حمدان، وقمنا أيضاً بمقابلة الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات ولجامعة زايد، ووزير
التعليم العالي في الإمارات العربية المتحدة: الشيخ مبارك آل نهيان الذي أمر بتقديم
كل الدعم اللازم لمجمع البحوث الإسلامية للانطلاق لتحقيق هدفه السامي من أجل
الحفاظ على القدس عربية إسلامية.
ولعلي أستغل هذه المناسبة لأوجه هذا النداء لقراء هذه المجلة الرائدة (مجلة)
لنقول لهم: إننا خطونا خطوة أولى على الطريق الصحيح نحو القدس، ونحن
نسعى بجميع ما لدينا من إمكانيات ووقت وتخصص وعلم؛ لكي ننطلق في هذا
المجال؛ ولكننا نريد من أهل الخير في عالمنا العربي والإسلامي أن يقدموا لنا
الدعم المادي والمعنوي؛ فجميع هذه النشاطات لا يمكن أن تتم إلا من خلال الدعم
المادي والمعنوي. نحن بحاجة إلى أن نرفع من عدد المنح الدراسية التي نقدمها في
المجمع لنُكَوِّنَ هؤلاء الخبراء الذين ينطلقون لنشر هذه الرسالة العظيمة ونأمل في
الاتصال بنا ليقولوا لنا: إننا نريد أن نتبنى طالباً، اثنين، عشرة، أي عدد
يستطيعونه لدراسة الدكتوراه في مجال موضوع القدس مثلاً، ويسرنا أن نتعاون
معهم في أي مجال آخر، فمن أراد أن يتبنى مالياً المؤتمر والمصاريف التي ننفقها
على المؤتمر الأكاديمي السنوي الذي نعقده في لندن فجزاه الله خيراً، أو إن أراد أن
يتبنى طباعة المجلة العلمية الأكاديمية (مجلة دراسات القدس الإسلامية) التي نطبعها
فأهلاً وسهلاً، أو إن أراد أن يترك له صدقة جارية في وصيته بعد مماته وقفاً جارياً
عنه لننتفع به في هذه القضية، أو إن أراد أن يدعم بعض المشاريع التي نقوم بها
في القدس نفسها من خلال ترميم بعض الأماكن التاريخية الإسلامية الآيلة للسقوط
في داخل المدينة المباركة المقدسة؛ فالمجال مفتوح للتعاون على البر والتقوى.
نعود للحديث عن أهم النشاطات التي يقوم بها مجمع البحوث الإسلامية،
ولعل من أبرزها: مجلة دراسات القدس الإسلامية؛ فما هي أهم الموضوعات التي
تتطرق لها المجلة؟
مجلة دراسات القدس الإسلامية هي مجلة تصدر مرتين في السنة باللغتين
العربية والإنجليزية، وهي مجلة أكاديمية محكَّمة. بمعنى أصح: إن أي مقالة
تصل إلينا لا بد أن نرسلها إلى اثنين من المختصين في مجال القدس، فإن وافقوا
على نشرها يتم نشرها في المجلة، وهذا يساعد في بناء الشخصيات العلمية
المختصة؛ لأن النشر في تلك المجلة يساعد على الترقيات العلمية الأكاديمية؛
فالباحث الذي يريد أن يرقى أكاديمياً من درجة أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك، ثم
إلى أستاذ لا بد أن ينشر في مجلات أكاديمية محكَّمة، وهذا ما نسعى إليه في الوقت
الذي ننشر فيه مقالات حول القدس، كما أننا نريد أن نتيح لإخواننا نشر مقالات
متخصصة تساعدهم على الترقيات العلمية في حياتهم الدنيوية. هذا تعريف عام
بمجلة دراسات القدس الإسلامية، وحتى الآن صدر من المجلة أربعة أعداد يُتناول
بها جملة من القضايا المختلفة والمتعددة؛ فمثلاً: في العدد الأول كان هناك مقالة
للأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حول القدس في الوعي الإسلامي، وأيضاً مقالة
أخرى للدكتور محسن صالح عن جهود علماء فلسطين في رعاية المقدسات
الإسلامية في القدس وحمايتها من سنة 1918 إلى سنة 1931م.
ومن المناسب أن نقول: إن الدكتور محسن صالح فاز بجائزة بيت المقدس
للعلماء المسلمين الشباب، وهي الجائزة التي يتبناها المجمع سنوياً ويقدمها لأفضل
الباحثين في هذا المجال، وفي العدد الثاني - نتكلم عن المقالات باللغة العربية -:
كانت هنالك مقالة حول تخريج أحاديث فضائل بيت المقدس والمسجد الأقصى
للأستاذ أحمد يوسف أبو حلبية، وكان فيه أيضاً وثيقة عن موقف حزب العمال
البريطاني من قضية القدس. العدد الثالث كانت فيه ترجمة للمقالة المهمة جداً التي
أود أن يطلع عليها القارئ - وهي باللغة العربية - للمؤرخة الإنجليزية (كارن
أرمسترونج) بعنوان: (مكان مقدس: قدسية القدس الإسلامية) ومقالة أخرى بعنوان: (القدس نقطة مركزية في حياة صلاح الدين) لمؤرخ إنجليزي آخر بالإضافة إلى
المقالات الإنجليزية الأخرى، أما العدد الرابع فيتضمن مقالاً عن مركزية القدس في
الإسلام للأستاذ الدكتور: إبراهيم زيد الكيلاني، ومقالاً آخر عن أهمية القدس عند
المسلمين للدكتور: مروان أبو خلف.
كما هو ملاحظ فإن مجلتكم تخاطب الطرف المقابل باللغة الإنجليزية؛ فهل
توجد شريحة مهمة في المجتمع البريطاني تشارك في الحوار الهادئ وتوجهون لها
الخطاب حول هذه القضية؟
لا شك أن هذه المجلة هي مجلة محترمة في جميع الأوساط الأكاديمية وجميع
الجامعات الغربية والأمريكية والبريطانية، وهذه المقالات التي تنشرها تهدف إلى
تعميق هذا الحوار حول موضوع القدس، وقد يكون من الجميل في هذا الإطار أن
يكتب المقالات المفيدة للحقل الإسلامي باحثون وعلماء مشهورون في العالم الغربي؛
مما يؤثر إيجابياً على عقلية الإنسان الغربي. فمثلاً: عندما يقرؤون مقالة لكارن
أرمسترونج وهي معروفة جداً في مجال التأريخ، فإن هذا يؤثر جداً في العقلية،
ولعلي أقول: إن بعض السياسيين البريطانيين الذين يحضرون المؤتمرات دهشوا
من الكم الهائل للمعلومات الإيجابية التي قالتها كارن أرمسترونج حول موضوع
القدس، وعلق أحدهم قائلاً: إننا نجهل الجانب الآخر عن القدس وهو الجانب
الإسلامي، وقال: إنه لا يمكن حل قضية القدس دون الأخذ بعين الاعتبار البعد
الإسلامي لهذه المدينة. إذاً هذا الحوار الذي بدأ منذ أربع سنوات حول قضية القدس
أستطيع أن أدعي أننا بدأنا نقطف ثماره بعد تزايد عدد المهتمين والمؤيدين
والمتخصصين من الجانب الغربي بقضية القدس.
حقيقةً الإشارة إلى المؤتمرات التي هي من مجالات عمل مجمع البحوث مهمة؛ فهل لكم أن تحدثونا أكثر عن المؤتمر الأول والثاني وما تنوون عقده من مؤتمرات
في المستقبل القريب إن شاء الله؟
المؤتمرات أيضاً تدور في نفس الهدف لمجمع البحوث وهو: تأسيس مرجعية
حول موضوع القدس، فوجدنا أن الحوار عن طريق المجلة والمحاضرة قد لا يكفي؛ ولذلك فنحن نريد أن نجمع جملة من المهتمين والمختصين من العالم الإسلامي
والغربي؛ ليطرحوا قضية القدس للمناقشة؛ فكانت فكرة المؤتمر الأكاديمي الدولي
عن القدس الإسلامية.
وأريد أن أركز على أننا نستطيع أن ندعي أننا طرحنا مفهوماً جديداً حول
القدس كان غائباً في الغرب والعالم الإسلامي وهو: (مصطلح القدس الإسلامية) هذا
المصطلح له أهميته؛ كنا نسمع: القدس اليهودية، القدس النصرانية، القدس
العربية؛ ولكن أن نطرح القدس بهذا البعد في بلد غربي فهذا مفهوم جعل الكثير من
الغربيين الأكاديميين والسياسيين يعيدون النظر في هذه القضايا. وهذه من بركات
المؤتمر الذي يعقد - عادة - في فصل الصيف قبل العودة للحياة الأكاديمية، وعادة
يكون في كلية الدراسات الشرقية الإفريقية بجامعة لندن.
وفي المؤتمر الأول عام 1997م كان الحضور مميزاً، وكان الحاضرون على
مستوى عالمي من العالم العربي والإسلامي، وأصبح لدينا سُنة - نسأل الله أن
تكون سنة حسنة - أن يُفتتح المؤتمر من شخصية سياسية بريطانية لنقل التأثير إلى
المؤسسة السياسية. والكلمة التي ألقيت في المؤتمر الأكاديمي الأول سنة 1997م
كانت من شخصية سياسية بريطانية لنقل التأثير الأكاديمي للدوائر السياسية، وهذا
حقيقة ما صنعه الطرف الآخر يعني اليهود؛ فقد استطاع أن يؤثر في صناعة القرار
في البلاد الغربية؛ مما أدى إلى تحول الغرب تجاه دعم قضيتهم؛ وقد افتتح
المؤتمر الأول (إرني روس) رئيس مجلس الشرق الأوسط في حزب العمال
البريطاني رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني. والمؤتمر الأول
في سنة 1997م كان مؤتمراً عاماً تحت عنوان: (القدس الإسلامية) أما سنة 1998 م فكان المؤتمر متخصصاً أكثر وكان عنوان المؤتمر: (مركزية القدس في الإسلام)
وأيضاً شاركت فيه نخبة من العالم الغربي هنا، وأيضاً افتتح من الدكتورة (فلس
استاكي) نائبة رئيس مجلس الشرق الأوسط في حزب العمال ورئيسة اللجنة
البرلمانية لجميع الأحزاب السياسية في البرلمان البريطاني.
وفي 7-9-1999م انعقد المؤتمر هذا العام تحت عنوان: (العلاقات
الإسلامية المسيحية في القدس) ومن المتوقع أن يَفتتح المؤتمر هذا العام وزير الدولة
في وزارة الخارجية البريطانية، وأيضاً سندعو له جملة من المختصين والمهتمين
بموضوع القدس إن شاء الله ونسأل الله أن يعيننا على نقل بعض هذه المؤتمرات
إلى العالم العربي، ونحن على استعداد لأن نتعاون مع أي مؤسسة أكاديمية بحتة أو
جامعة من جامعات الوطن العربي لعقد مؤتمرات مماثلة في أي قطر أو بلد عربي
إن شاء الله تعالى.
فضيلة الدكتور: هل لكم اتصالات مباشرة مع بعض الجهات الأكاديمية في
القدس أو في فلسطين؟ وهل تساعدكم هذه في الحصول على معلومات أو
مخطوطات علمية تساعدكم في دراستكم حول القدس؟
نعم! نحن على اتصال مع المؤسسات الأكاديمية في القدس نفسها وبعض
المدن الفلسطينية؛ فالطلبة الذين يحضِّرون للدكتوراه هم من القدس أو من المدن
الفلسطينية، وهم سيكونون بإذن الله - تبارك وتعالى - خير سفراء لنا في جلب
الوثائق والمخطوطات المتعلقة بالقدس. ومن جانب آخر نحن أيضاً على اتصال
بالمؤسسات المهتمة بموضوع القدس.
ودعَوْنا في العام الماضي مدير المعهد العالي للآثار الإسلامية بجامعة القدس
في داخل القدس للحديث حول القدس في المؤتمر، أيضاً لنا اتصال مع المؤسسات
المهتمة بالترميم داخل القدس، ولا سيما جمعية الأقصى لرعاية المؤسسات
الإسلامية التي يرأسها الشيخ (رائد صلاح) الذي كان له دور كبير جداً في الحفاظ
على المسجد الأقصى، وأخص هنا الدور الكبير التي قامت به هذه الجمعية في
تحويل التسوية الشرقية للمسجد الأقصى والتي تعرف حالياً بالمصلى المرواني التي
تبلغ مساحتها خمسة آلاف متر مربع، وكانت خالية يُمنع الدخول إليها إلا بإذن،
فعندما اكتشفت جمعية الأقصى أن اليهود يسعون إلى عمل نفق يربط حائط البراق
(الذي يسمونه حائط المبكى) بتلك التسوية بادرت تلك الجمعية إلى العمل في داخل
هذه التسوية فتم تبليطها وترميمها وفرشها، والآن أصبحت مصلى يصلي فيه أهل
الإسلام في فلسطين، وهذه الحال لم تكن كذلك منذ الاحتلال في عام 1967م.
فنحن على اتصال دائم داخل القدس مع المؤسسات العلمية والأكاديمية والشخصيات
التي نأمل أن تكون عناصر في هذا المجال، بالإضافة إلى المؤسسات التي تتولى
ترميم ورعاية وحماية المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس بصفة عامة.
نود أن نسأل عن نشاطاتكم الأخرى من خلال مجمع البحوث، وما هي
طموحاتكم لتطوير المجمع؟
بالإضافة للمؤتمر الأكاديمي الدولي السنوي، والمجلة، والمنح الدراسية لدينا
سنوياً معارض فوتوغرافية حول موضوع القدس؛ وكل معرض يحمل مفهوماً نريد
أن نوصله إلى من يشاهده؛ ففي السنة الأولى - على سبيل المثال - عملنا (درة
المدينة المقدسة) ، وكنا نريد أن نغير مفهوماً خاطئاً في عقلية المسلم والغربي في
نفس الوقت، وأردنا أن نقول: إن المسجد الأقصى ليس قبة الصخرة، وإنما القبة
جزء من المسجد الأقصى.
المعرض الثاني كان لتوضيح فكرة التواصل المستمر للمسلمين مع القدس منذ
الفتح الإسلامي حتى هذه اللحظة، وأن الوجود والصفة الإسلامية حول هذه المدينة
صيغت مباشرة بعد الفتح الإسلامي للقدس. ونحن في الطريق إلى إعداد المعرض
الثالث بإذن الله إضافة إلى أن لنا نشرة تصدر أربع مرات في السنة باللغة العربية
والإنجليزية: وهي نشرة إخبارية نخاطب بها عامة المسلمين والغربيين، ونحاول
أن نوصل لهم أحدث الأخبار التي لا تنشر في الصحافة حول موضوع القدس باللغة
العربية وتسمى: (نداء العلماء) وباللغة الإنجليزية تسمى: (The Holy Sity) .
هذه نبذة مختصرة حول ما نقوم به لتأسيس المرجعية الجديدة حول موضوع
القدس بأسلوب حضاري مميز نأمل تحقيقه، وأشياء كثيرة جداً؛ ولكن طموحنا في
إطار المعقول، وليس طموحاً فيما لا يمكن أن نحققه.
نحن منذ إنشاء المجمع 1994م نخطو خطوات دقيقة وبطيئة وهادئة بعيدة عن
أي صخب أو ضوضاء؛ وهذه الطريقة تعطينا مصداقية في عالمنا العربي
والإسلامي والعالم الغربي، ونأمل - إذا ما توافر لدينا الدعم المالي اللازم - إلى
زيادة عدد المنح الدراسية وزيادة المعارض.
والمجلة تصدر أربع مرات في السنة، ونقوم بطباعة بعض الوثائق حول
موضوع القدس، وعقد مؤتمرات في البلاد الغربية كذلك لتوعية ونقل هذا الاهتمام
الحضاري إلى عالمنا العربي، ونأمل كذلك في توثيق علاقتنا بالجامعات العربية
والجامعات الإسلامية ومراكز البحث العلمي في تلك البلاد، ولكن كثيراً من
المشاريع التي ناقشناها في مجمع البحوث وتوقفنا عن تنفيذها كان بسبب عدم توفر
الدعم المالي. نحن على استعداد أن نناقش جميع المشاريع التي لدينا مع أي جهة
خير أو فرد يريد أن يدعم هذه المشاريع بإذن الله تعالى فالمشاريع كثيرة؛
والطموحات كثيرة؛ ولكننا نريد أن نكون واقعيين في تعاملنا فلا نريد أن نطرح
قضايا كثيرة جداً وهي بحاجة إلى دعم كبير، ونريد أن نتعامل مع ما هو متوافر
لدينا؛ فإن توافر لنا الدعم فمن المؤكد أننا سننطلق في مشاريع كثيرة جداً تشمل بقية
أوروبا وأمريكا والعالم العربي والإسلامي.
أريد أن أذكر نقطة وهي: نشر الكتب، فلقد قمنا مؤخراً بنشر كتاب وثيقة
حول حائط البراق الشريف الذي أصدرته اللجنة الدولية عام 1930م وصادقت عليه
الحكومة البريطانية وعصبة الأمم عام 1931م بعد ثورة البراق 1929م، وهذه
الوثيقة لمن يريد أن يتكلم بالشرعية الدولية والقانون الدولي نقول بكل وضوح: إن
حائط البراق هو ضمن أوقاف المسلمين وإن ملكيته تعود إلى المسلمين، والكتاب
باللغتين العربية والإنجليزية.
وأختتم حديثي بأننا بفضل الله - تعالى - على قناعة بهذا المشروع، ولقد
وافقت الجامعة التي أعمل بها على طرح مقرر أتولى تدريسه حالياً اسمه: (القدس
الإسلامية) ليدرس لطلبة البكالوريس؛ فهذا إنجاز كبير. والحمد لله رب العالمين.(145/78)
ملفات
القضية الفلسطينية.. مآس متجددة
مستقبل العمل الإسلامي في فلسطين
عبد الملك محمود
لا شك في الدور الضخم للانتفاضة في فلسطين الذي أخاف أعداء الأمة من
يهود ونصارى، وقد خطط الأعداء طويلاً ومكروا مكر الليل والنهار، خصوصاً
عندما رأوا تأثير الانتفاضة حتى توصلوا إلى أفكار ومشاريع مختلفة. هؤلاء
الأعداء المتربصون كثر، وعلى رأسهم الحلف اليهودي النصراني الدنس. وكان
من أبرز ما تمخض عن مشروعات الأعداء للمنطقة (اتفاقية أوسلو للسلام) ، هذا
المشروع الذي أقيم أصلاً للمحافظة على مصالح دولة (إسرائيل) . وهي مصالح لا
تتحقق إلا بضرب كل ما يمت للإسلام بصلة وصد الناس عن دين الله، فالتقت
مصالح اليهود والعلمانيين من السلطة وغيرها، فتعاونوا على حرب تلك الانتفاضة. وقامت هذه الحرب على عدة محاور:
1- إنهاء الانتفاضة ورموزها.
2- القضاء على النشاط الإسلامي وتجفيف منابعه.
3- شن حرب شرسة على الأخلاق، ويرتبط بها سياسة التجويع والتجهيل.
4- إنهاء أي صورة من صور المعارضة لمشاريع السلام ومحاولة ضرب
الإسلاميين بشتى الوسائل.
ولعلنا نشير فيما يلي إلى بعض النقاط حول طبيعة المعركة الحالية، ثم بعد
ذلك نعرج على الموضوع الأهم وهو حديث في النقد الذاتي داخل البيت الواحد،
ونريد من إخواننا العاملين في فلسطين على كافة اتجاهاتهم أن تتسع صدورهم
للحديث؛ فهم منا ونحن منهم، ونحن نثق بإخواننا ونقول لهم: لسنا أوصياء عليكم
ولكنها النصيحة الواجبة علينا وما يهمكم يهمنا. لذا سنتحدث قليلاً عن بعض
المراجعات والدروس نظراً لعدم اتساع المقام - ثم نشير إلى بعض المسائل
الإيجابية التي يجب أن تُنمى ويركز عليها.
القضاء على الانتفاضة وبذورها:
كانت هناك محاولات ومخططات للقضاء على الانتفاضة، وأخيراً توقفت
الانتفاضة، ووقف شمعون بيريز بعد عام من اتفاق أوسلو في الكنيست يدافع عن
الاتهامات الموجهة له ولحزبه بالتسرع في الاتفاق مع السلطة الفلسطينية، فقال: ...
(إلى من يعترض على برنامج حكومتنا أقول شيئين: الأول: نحن إذا رجعنا
بالذاكرة إلى الوراء فسنرى أنه لم يكن أمامنا إلا خياران: إما أن نأتي بالمنظمة
الضعيفة ونسلب منها كل مقومات المقاومة ونتفاوض معها وهي ضعيفة بشروطنا،
أو أن نذهب إلى حماس ونتفاوض معها وهي قوية وتلقى قبولاً لدى الناس والشارع
الفلسطيني ونضطر إلى مفاوضتها بشروطها هي. الثاني: اذهبوا إلى غزة الآن
وانظروا إلى حال المرأة الفلسطينية في غزة وكيف حجابها؟ من يستطيع أن يقول
إن المرأة كانت تستطيع نزع الحجاب أيام الانتفاضة) ؟
لقد كانت حال المجتمع الفسلطيني خلال الانتفاضة تمثل نوعاً من التكافل
والترابط والعودة إلى الدين. كانت هناك صورٌ جيدة من التكافل والنظافة
الاجتماعية وربما كان ذلك بسبب التماسك في وجه العدو المشترك ومشاركة الذين
فقدوا أبناءهم أو أصيبوا بما أصيب به كل بيت. لم تكن تسمع عن حالات الفجور
التي نراها الآن. ولم تكن هناك قوات ردع أو شرطة تجبر الناس على الحجاب؛
فقد كانت الأخلاق بصورة عامة منضبطة نوعا ما.
ومثالٌ على هذا: اتجه الناس أيام الانتفاضة إلى تبسيط الأعراس وعدم البذخ؛ فكان مبلغ 500 دينار كافياً لإقامة الزواج وحفلته. أما الآن فإن ظاهرة التنافس
في الأعراس في فلسطين أصبحت لا تطاق من مغالاة في المهور، فضلاً عن
مظاهر البذخ والانحلال والتقليعات الجديدة والفساد في الحفلات مثل استئجار عدد
كبير من السيارات والذهاب إلى البحر في غزة أو غيرها، أو موضة الذهاب إلى
مطار رفح والتقاط الصور في صالة المطار ... وعادات أخرى عجيبة بدائية،
وتضييع للأموال والأوقات والانشغال بأشياء تافهة؛ وبهذه الطريقة لا يفكر الناس
باليهود ولا بما يقومون به. بينما يقوم اليهود في بناء المستوطنات وتفريغ القدس
والاستيلاء على مزيد من الأراضي.
القضاء على النشاط الإسلامي، وسياسة تجفيف المنابع:
لقد نصت الملاحق السرية لاتفاقية أوسلو على محاربة الإسلام والنشاط
الإسلامي، وبذلت السلطة في ذلك جهوداً كبيرة شملت تصفية رموز الإسلاميين
ومطاردتهم خصوصاً أصحاب الجناح العسكري، كما شملت تشديد الخناق
والاعتقالات والتعذيب. ومن جهة أخرى عملت السلطة على إقفال الجمعيات
والمؤسسات الإسلامية على الساحة، وإبعاد الخطباء النشطين، حتى إن الخطيب لا
يسمح له بالقيام بخطبتي جمعة متتاليتين. لقد بدأت السلطة باكراً بهذه السياسة،
ومن المفارقات أن يكون من أولويات السلطة إنشاء المعتقلات والسجون والتشديد
الأمني قبل أن تبدأ بأي شيء من البنى التحتية التي يفتقدها الناس. إن سجلات
عرفات طوال أكثر من 5 سنوات كلها خزي؛ فمن حصيلة إنجازاته: إنشاء 30
مركز توقيف واعتقال، و17 سجناً و40 ألف شرطي! ! لقد بدأت المنظمة باكراً
بهذه العملية مع استلامها للسلطة فبادرت بعمليات الاعتقال وإغلاق الجمعيات
وتجفيف المنابع، وأخذت خلاصة خبرات الأنظمة القمعية في هذا المجال.
من المفارقات - وللحق - أن المسلمين في المناطق التي يحتلها اليهود
(مناطق عام 1948م) هم أفضل حالاً ممن يرزحون تحت سلطة عرفات. وخلال
الأشهر الأولى من عام 1996م تعرض الكيان اليهودي لموجة انفجارات عنيفة
هزت أركان المجتمع اليهودي وأثارت مخاوفه وقلقه، وكان عقب ذلك تشديد آخر
ضخم، وتعقُّب لعناصر حماس وتصفيات جسدية واعتقالات في مناطق ما يسمى
بالحكم الذاتي! كان لها تأثير بالغ.
- ولن نتحدث هنا عن مظاهر الفساد الإداري والاختلاسات والرشاوى التي
يقوم بها أباطرة السلطة ورجالاتها؛ فهذه القصص حديث الناس اليومي.
تحالف يهودي - أمريكي - عرفاتي - عالمي:
أما عن تعاون السلطة مع اليهود فهو واضح وأدلته كثيرة؛ فقد تكلم بيريز مع
نتنياهو عندما سأله: لماذا لا تترك الخليل؟ فقال نتنياهو: لماذا لم تنسحب أنت في
الفترة السابقة؟ قال: لم أنسحب؛ وذلك بناء على طلب عرفات. وهذه رواية ثابتة
عنه. بل إن الخلافات بين (إسرائيل) والمنظمة على مواضيع المفاوضات تبدو
وكأنها خلافات داخل الأسرة الواحدة، وكما صرح نتنياهو ذات مرة بأن (الأصدقاء
في الأسرة الواحدة يختلفون ثم يتصالحون!) .
أما الأنظمة الأخرى، فلا شك أن السباق بينها الآن محموم لإقامة علاقات مع
(إسرائيل) وإنهاء الحالة السابقة، والمنطقة كلها تهرول نحو السلام. ...
وعلى سبيل المثال فإنه عقب فوز باراك في الانتخابات بدأت سوريا تتخلى
عن الفصائل المعارضة التي كانت تستخدمها ورقة ضغط، وأرسلت إليها إشارات
واضحة بضرورة التفاهم مع السلطة والتخلي عن خيار هذه الورقة - حتى لو كان
ذلك عبارة عن مجرد تصريحات على الورق - كما أن هناك مساعيَ لإكمال سلسلة
العلاقات المغاربية الإسرائيلية بإيجاد علاقات مع الجزائر؛ وقد بدرت لذلك عدة
بوادر منها: مصافحة الرئيس الجزائري لباراك، ومقابلة صحيفة إسرائيلية مع
بوتفليقة، وإشارات متفرقة أخرى. وما لا يتم في هذه السنة فسوف يتم في التي
بعدها، وما لا يمكن إحرازه على هذه الجبهة يمكن أن يحرز في جبهة أخرى، لكنْ
هناك اتفاق على قضايا ومحاور أساسية من أبرزها محاربة (التطرف) الإسلامي،
كما حدث في اتفاق شرم الشيخ الذي أطلق عليه: (مؤتمر مكافحة الإرهاب) .
نظرة إلى مسيرة المفاوضات:
بمجرد فوز باراك في الانتخابات أطلق لاءاته الأربعة الشهيرة: لا للانسحاب
من القدس، لا للدولة الفلسطينية، لا لعودة اللاجئين، لا لإزالة المستوطنات. ومع
هذا فلا زالت السلطة ومن حولها تلهث خلف المفاوضات، وهي مفاوضات تسير
على وتيرة واحدة. فهناك سلسلة صعبة مما تم تأجيله في المفاوضات كقضية القدس
والمعتقلين واللاجئين. ولو سلمنا جدلاً بأن المفاوضات عبارة عن حل وسط فما هو
الحل الوسط المطروح في قضية القدس؟ وما هو الحل الوسط في قضية اللاجئين؟
في كل جولة تثار قضايا جانبية ثم تؤجل المفاوضات لفترات ربما تمتد لشهور
طويلة ثم تعود ثانية وهكذا. ولننظر على سبيل المثال إلى نموذج من فنون
المماطلة اليهودية في قضية النازحين إذا ما تمت الموافقة على بدء الحوار فيها،
ولا ندري متى يتم ذلك؛ فإن هناك بعض الطروحات الإسرائيلية ومنها:
1 - تعريف من هو النازح.
2 - كم عدد النازحين.
3 - تشكيل لجنة دولية لإجراء إحصاء لمعرفتهم.
4 - النازحون هم الذين نزحوا عام 1967م من الضفة وغزة وليس أبناءهم
أو ذويهم.
شكلت لجنة فنية لتعريف من هو النازح أولاً، وانشغلت اللجنة بستة
اجتماعات ثم توقفت بموت رابين، وجاء اقتراح بيريز بأن تتم عودة النازحين -
في حال الموافقة - بصورة مبرمجة لكيلا يحدث انفجار سكاني في منطقة السلطة [1] ، والطريف في الأمر أن هذا البرنامج المقترح يعني أن النازحين ستتم عودتهم
في مدة وجيزة لا تتجاوز 300 سنة فقط (! !) .
وأحياناً تدور المفاوضات حول قضايا معينة مثل مسألة ميناء غزة ومسألة فتح
شارع الشهداء في الخليل وربما تكون على مستوى آخر كمسألة الممرات الآمنة،
وهكذا تؤجل القضايا الأساسية الضخمة؛ فهناك حرب إسرائيلية شاملة شرسة
لتفريغ القدس من أهلها المسلمين، والمستوطنات تزداد رسوخاً (ربما يسمح بإزالة
بعض بيوت الصفيح المتنقلة) وعدد اليهود القادمين إلى فلسطين يزداد (تقرير في
مجلة المجتمع العدد الأخير أوائل نوفمبر 1999م تحدث عن قرب هجرة 240 ألف
من اليهود الروس خصوصاً عقب الحرب في الشيشان) وهكذا فالعدو الإسرائيلي
الماكر يبرمج الحلول كما يشتهي، والسلطة تقابل ذلك بمسيرة تنازلات والرضى
بأي شيء: ممر آمن، أو غيره [2] . وما لقاء أوسلو الجديد في أوائل نوفمبر
1999م سوى استمرار للمسيرة نفسها، ولا ينسى عرفات في التوقيت نفسه (ذكرى
مقتل رابين) أن ينحني ليقبل يد زوجة رابين كأنها إشارة إلى مسلسل الانحناء والذل
لليهود.
مثال: قضية المعتقلين:
يقدر عدد المعتقلين بنحو 7000 معتقل، وقد أطلق سراح بعض المتهمين في
قضايا جنائية، وفي العام الماضي طالبت المنظمة بإطلاق سراح 750 من أعضاء
فتح والجبهات العلمانية فأطلق سراح 250 منهم: 150 جنائي، و100 سياسي،
ومنذ نحو شهر ونصف أطلق سراح 200 والباقي نحو 300 من فتح والعلمانيين
من المتهمين بقتل يهود أو المساهمة في العمليات، أما الإسلاميون فيقدر عددهم
بنحو 3000 مَن أُخرج منهم حديثاً بعضهم اقتربت نهاية محكوميته، ومن الطريف
أن هناك شخصاً بقي له أسبوع فقال: اتركوني حتى ينتهي الأسبوع وخذوا مكاني
آخر.
(إسرائيل) غير مستعدة لمناقشة موضوع الإسلاميين في السجون، بل
وغير الإسلاميين ممن ثبت أنه سفك الدم اليهودي (المقدس) . والحقيقة أن المنظمة
ليس لديها القوة للمطالبة بهؤلاء، بل لا بد من موافقة مكتب الـ (سي آي إيه) في
غزة بناءاً على اتفاقات أوسلو، وهو مكتب قوي له إمكانات واتصالات وحسابات،
وهو موجود لحل بعض المعادلات والوصول إلى الأسماء والمعلومات المطلوبة.
ومن الجدير بالذكر أن عبد العزيز الرنتيسي المعتقل لدى السلطة وهو من قادة
حماس ممنوع إطلاق سراحه بناء على طلب (إسرائيل) وأمريكا على خلفية أنه
رجل قوي الشخصية وإداري، ووجوده خارج السجن يعني قوة لحماس وكلامه
مقبول، وهناك اتفاق مسبق بين المنظمة و (إسرائيل) بعدم إطلاق سراح هؤلاء،
فالمعادلة إذن محسومة.
حرب على الأخلاق:
من أبرز أهداف المشروع اليهودي الغربي للمنطقة محاربة الأخلاق؛ فهو
يحرض على نشر الفساد والرذيلة، وقد ركز الأعداء على هذا الأمر؛ لأن الانهيار
الأخلاقي مفتاح استسلام الشعوب وقبولها للذل والتبعية والتغريب.
وبمجرد استلام رجال المنظمة للسلطة تم استيراد بعض فرق الباليه من روسيا
ومن مصر، فضلاً عن استقدام الفنانات؛ بينما أهملت البنية التحتية: الكهرباء،
والماء.
كما قامت السلطة بعمل ترميم وبناء لدور السينما التي دمرت خلال الانتفاضة
وكانت هدفاً للإسلاميين [3] ، فبدأت سينما النصر في غزة تعمل بعد ترميمها،
ولكن الله قدر أن تخرب مرة أخرى أثناء أحداث 18 نوفمبر الماضي، كما تستعد
السلطة لافتتاح سينما الجلاء في غزة. وفي إطار إنجازاتها قامت السلطة بتشييد
الكازينوهات مثل: كازينو زهرة المدائن، وكازينو النورس وعددها في ازدياد،
وقد كان لسهى الطويل زوجة عرفات دور أساس في إنشاء هذه الكازينوهات
ورعايتها، كما تقوم قوات الشرطة الفلسطينية بحراسة هذه الكازينوهات؛ لأنهم
خائفون على هذه الإنجازات من العبث أو الغضب الشعبي. ويكفي أن نذكِّر بأحد
منجزات السلطة وهو مشروع الكازينو الضخم في أريحا ويحوي صالة من أكبر
صالات القمار في العالم، وعُملت له دعاية ضخمة، واستُقدمت إحدى الممثلات
الأمريكيات لافتتاحه، وهكذا وكأن الشعب الفلسطيني لا ينقصه إلا مشاهدة الأفلام
والكازينوهات؛ وهذا شيء بسيط من إفرازات أوسلو أو الاتفاقات اليهودية
الفلسطينية. والذي عايش الأوضاع في فلسطين قبل خمس سنوات يرى الآن
صوراً كثيرة من الفجور والسرقات وغيرها من الأخلاق السيئة.
العمل الإسلامي آمال وآلام:
لا شك أن النشاط الإسلامي المعاصر في فلسطين له تاريخ عريق بدأ منذ
أوائل القرن، وما ثورة القسام إلا صورة من صورها المشرقة، ورغم المؤامرات
الضخمة وتكالب الشرق والغرب إلا أن النشاط الإسلامي انتعش وقوي بحمد الله -
تعالى - وكان أوج نشاطه أيام الانتفاضة. وبعد الانتفاضة كان حقاً علينا أن ندرس
واقعنا بصورة أكثر عمقاً وبعداً عن السطحية، دراسة لنقاط القوة والضعف،
وللإمكانات والفرص الضائعة والمتاحة. لذا كانت هذه بعض الإشارات التي ينبغي
علينا الانتباه إلى واقعنا من خلالها، مثل:
- الأزمة الأخلاقية التي تحدثنا عنها قبل قليل.
- الجهل والغفلة والبدع.
حدثني أحد الإخوة من شخصيات حماس عن بعض الأمور العجيبة من انتشار
الدجل والشعوذة والسحر، ومن يذهب إلى هناك لفترة قصيرة فسيسمع عشرات
القصص المضحكة المبكية عن صور من الدجل الذي يتم. وذكر لي هذا الأخ قصة
أناس مرض أحد أبنائهم فذُكر لهم أن فلاناً يمكن أن يكون عنده العلاج، فشدوا
الرحال إلى خان يونس وقال لهم المشعوذ: دوروا حول هذا الشيء الذي جعله لهم
في وسط المجلس، فأخذوا يدورون وهو يقول لهم: أخرجوا كل شيء من جيوبكم
وضعوه على الأرض فيقوم هو بأخذ ما يحتاجه فقط وهو الأموال (!) وبعد اللفات
العلاجية يطلب منهم أن يأخذوا هوياتهم وأوراقهم الهامة التي رموها على الأرض
حتى لا يواجهوا صعوبة من اليهود أثناء عودتهم، ويسألونه إن كان يريد مالاً
فيعتذر الرجل؛ لأن عمله لله! ولا أحد يستطيع سؤاله عن الأموال التي سرقها وهم
يدورون كحمار الرحى! !
كما حدثني هذا الأخ عن انتشار البدع الصوفية والأفكار المنحرفة بتشجيع
ودعم من السلطة وحمايتها، مثلاً: إذا وُلِدَ لإنسان ولد فإنهم يذهبون به إلى ما
يسمى مقام الخضر في (دير البلح) ويذبحون عند الخضر ويلطخون رأس الولد
بالدم! فهل هذا إلا صورة من الجاهلية الأولى؟ !
ضعف في العلوم الشرعية وسياسة التجهيل:
الشعب الفلسطيني عموماً بقدر تقدمه في العلوم المادية وحيازته أعلى
الشهادات فإنه يعتبر فقيراً جداً في العلوم الشرعية؛ ولذلك فلا بد من إيجاد مشاريع
لإنشاء معاهد ومدارس للتربية وتعليم العلوم الشرعية وإنشاء مكتبات: مكتبات عامة، ... مكتبات في المساجد، وحلقات علمية؛ وتزويدها بما تحتاجه من الكتب والمراجع.
مراجعات:
ونحن نقصد بهذه المراجعات ضرورة النقد الذاتي ومحاسبة أنفسنا؛ فهو نقد
داخل البيت الواحد، ونحن ننتقد أنفسنا، وهذا العمل منا ونحن منه، والأخطاء
أخطاؤنا قبل أن تكون أخطاء غيرنا. ومن جهة أخرى فمما لا شك فيه أن الذي
يعمل ويتحرى الحق خير من القاعد، ونحن أمة واحدة كالجسد الواحد، كما أن
المسلمين ينصح بعضهم بعضاً ويسعون إلى الاستفادة من الدروس، والمؤمن لا
يلدغ من جحر واحد مرتين.
لقد تضخم العمل الإسلامي في فلسطين - وفي أماكن كثيرة أخرى في بلادنا- وكثيراً ما كان التضخم والتوسع بدون دراسة - ونحن لا نقصد الجانب القدري
الكوني في المسألة - نقول هذا للإشارة إلى مشكلة الترهل التي تصاحب كثيراً من
الجماعات الإسلامية التي تسلك السبيل نفسه، وهي تذكرة لنا ولإخواننا؛ والحر
تكفيه الإشارة. ولعل هذا يدفعنا إلى دراسة كيفية الانتشار ووسائله، والتوسع
والتوثيق بين العاملين، ومعرفة حقيقة حجمنا حتى تبنى الأمور على قواعد
معلومات دقيقة.
والشيء بالشيء يذكر؛ فإنه رغم الدور الضخم للإسلاميين في تفعيل
الانتفاضة إلا أنه للإنصاف لا بد من تقدير حجم ودور التيارات الأخرى الموجودة
والظروف التي رافقت عملية الانتفاضة. فهل بالغنا في تقدير قوة حماس وقيمتها
أيام الانتفاضة؟ هل كانت حماس هي صاحبة الانتفاضة أم أنها كانت رقماً كبيراً؟
ألم يكن ثمة دور لأبي جهاد وفتح في العملية؟
القيادة والمسؤولية:
ربما يكون هناك أناس طيبون فيهم صلاح أو إخلاص ولكن صلاحهم هذا لا
يعني أن يتولوا دفة القيادة أو أن يكونوا ناطقين باسم المجموع، وكم جرَّت مثل هذه
الأخطاء أو المجاملات على العمل الإسلامي من ويلات. إنك ترى أحياناً بعض من
يشار إلى أنهم قادة يصرحون تصريحات أو تُجرى معهم مقابلات غير موفقة
ومحرجة؛ ولقد شاهدنا في أكثر من بلد أناساً كانوا في السجون وخرجوا منها، كأن
أحدهم خرج من القبر وبعث بعد سنين فهو لا يدري كيف تسير الأمور ثم يتحدث
بالأعاجيب، وهناك يبدأ الأصحاب والأتباع في البحث عن التسويغات والمعاذير
التي لا تجدي شيئاً للخروج من الإحراج.
فهم الواقع بصورة أكثر دقة:
وقد أشير فيما سبق إلى شيء من ذلك، ونود هنا الإشارة إلى أهمية معرفة
دور عرفات ورجاله وخططه، إن زعيم السلطة يقدم مصلحته فوق كل مصلحة،
وإذا رأى أن هناك إمكانية للصلح بسجن أعضاء حماس والجهاد الإسلامي فإنه لن
يتردد في سجنهم كلهم. وكمثل كثير من تجاربنا الإسلامية قطف عرفات وجماعته
من العلمانيين والنفعيين ثمرة الانتفاضة.
ونود التذكير بأهمية المنطلقات والتركيز على كونها شرعية تماماً؛ فلقد لمسنا
في لهجة بعضهم الكلام عن أرض فلسطين وتراب فلسطين، والوطنية، وهذا لا
يتناسب مع إسلامية القضية، كما رأينا من بعضٍ آخر عدم الانتباه إلى خطورة
الرافضة والحرص على بناء علاقات متينة معهم. ومن فهم الواقع حقيقة أن ننطلق
فيه من خلال مبادئ ثابتة. ونعيد هنا التركيز على أهمية المنطلقات، وضرورة أن
تكون سليمة هي ووسائلها حتى لا يكون هناك غبش في الرؤية. ولنأخذ على ذلك
مسألتين:
1 - علاقة الإسلاميين بإيران: نحن نعلم أن الكثير من الإسلاميين في
فلسطين لا يكنون الود للرافضة، لكن حدثت بعض الأمور والعلاقات التي أزعجت
عامة التيار الإسلامي، ومنهم كثير من الإسلاميين في فلسطين، وقد كان واضحاً
أن مسألة تبني منهج أهل السنة والموقف الشرعي من الرافضة لم تأخذ بعداً منهجياً
واضحاً عند قيادة حماس؛ رغم أن عامة شعبنا في فلسطين يذكر تماماً ما فعله
رافضة لبنان في المخيمات.
2 - العلاقة مع السلطة: لقد كانت العلاقة مع السلطة مذبذبة وغير واضحة،
رغم أن السلطة كانت ظالمة للإسلاميين منذ البداية، ونحن نقدر تماماً التوازنات
التي يحاول الإسلاميون تقديرها هناك، ولكن هذا لا يعني بأي صورة أن يكون
هناك مداهنة أو موالاة. وللأسف فإن بعض التصريحات والمقابلات التلفزيونية
والصحفية مع بعضهم أعطت إشارات سلبية في هذه القضية، ولذا فإننا نحذر
إخواننا من محاولة جر السلطة لهم لحقل الألاعيب السياسية، ومحاولات تفريغ
العمل من حقيقته.
ونرجو ألا يكون هناك مستقبلاً أي استغلال من السلطة للإسلاميين؛ فلقد
قطفت السلطة ثمرة الانتفاضة، ولا نريد أن يكون هناك مزيد من الخسائر أو أن
نفاجأ بجر الإسلاميين بالألاعيب السياسية ودهاليز الوزارات، ومن الضرورة فهم
من هم أعداؤنا، ومعرفة حجمهم وأدوارهم وفضح المنافقين.
إن التحالف القائم، وإن لم يكن قد تم بصورة رسمية مع الأمريكان واليهود
والعلمانيين إلا أننا نعلم ذلك يقيناً، ولسان الحال ينطق بذلك؛ فهو حلف تشترك فيه
كل التيارات العلمانية، ومن رموزه: الجبهة الشعبية (جورج حبش) ، ...
والديمقراطية (نايف حواتمة) وقد رأينا اتصالات المنظمة للحوار مع هذه التيارات ...
والوعود بإعطائها بعض المناصب، وهذه الجبهات متعدة الوجوه؛ حيث تقوم
بأدوار تمثيلية عدة، فتلبس لكل حالة لبوسها، ومثل هذه الجبهات المتعددة؛ الأقنعة
التي تلبس لكل سياسة قناعاً لا يمكن إقامة أي نوع من التحالف أو التعاون معها.
الأمل والمستقبل:
هناك صراع طويل وكبير بين الإسلام واليهود، والنصوص الشرعية تشير
إلى هذا. نعم! ربما ليست لدينا القوة على التغيير حالياً، ولكن لدينا القدرة بإذن
الله على الإعداد لهذا التغيير. وهذا الصراع والهجمة العالمية دخل فيها أطراف
وتحالفات من النصارى الأمريكان - على وجه الخصوص - وأنظمة مرتدة ودول
تحمي وتدعم بطرق مختلفة؛ صراع تنوعت فيه الأدوات والوسائل، وجند فيه
نظام العولمة والإنترنت، وسخرت الإمكانات الضخمة لخدمة اليهود. وبرغم هذا
فإن المسلمين ما خرجوا إلا من منطلق: لا يزيدهم هذا الأمر إلا إيماناً وتسليماً
بموعود الله كما في سورة الأحزاب: [وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا] [الأحزاب: 10] ألا ما أشبه الليلة بالبارحة! الإسلاميون يقولون: هذا [ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله] [الأحزاب: 22] إنه وعد لا يشك فيه أحد.
وسواء توقفت العمليات الجهادية ضد اليهود حالياً أو لم تتوقف فإن مشروع
الجهاد لا تملكه السلطة بل ولا حماس ولا غيرها، إنه وسيلة الأمة كلها، لدفع
العدوان ودحره والله - سبحانه - هو الذي يختار ويصطفي وهو الذي وعد بأن
يبعث على اليهود إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب من المسلمين أو من
الألمان أو من غيرهم، ونحن نوقن أيضاً بأن سنة التدافع خير للأمة وفيها مفاتيح
الفرج للمسلمين إن شاء الله.
نعم! إن الوضع العام الغالب يدل على الضعف، وهذا صحيح؛ حيث رمانا
الأعداء عن قوس واحدة، وهناك من توجد عنده سلبية أو ينظر بتشاؤم، ولا زلنا
حتى اللحظة نعاني صوراً من القصور والضعف والتشتت؛ ولكتن أغلب
الإسلاميين يقولون: وصدق الله ورسوله، ويوقنون بأنه لا بد من الابتلاء
والتمحيص والفتنة، ويشعر الكثيرون أننا نحن لضعفنا لا زلنا في مرحلة لم نتأهل
بعدُ لنصر الله، وسلعة الله غالية، ولو انتصر المسلمون الآن على ما فيهم من
ضعف وقصور ربما كان الأمر أشد فتنة.
- لا بد من تنمية الخير الموجود في النفوس. ولا بد للطاقات من أن تُنمَّى
وتوجَّه بصورة سليمة حسب الظروف التي يراها العاملون هناك بالحكمة.
- لا بد من التركيز على إنشاء المراكز والمعاهد الشرعية ومدارس تحفيظ
القرآن، ونحن نعلم أن هناك بوادر جيدة في هذا الإطار للأعمال الإغاثية وطلاب
العلم ورعاية الأيتام والأرامل، ولكنها مشاريع بحاجة إلى تركيز ودعم ودراسة أكثر. وهذه مناسبة نطلقها إلى الجميع لتبني قضايا المسلمين في فلسطين، وهي دعوة
للمحسنين في بلاد المسلمين للإنفاق ولدعم إخوانهم المحاصَرين من كل جهة لدعم
مراكزهم ومساجدهم وطلاب العلم لديهم، ومن العجب أن السلطة المفلسة لما رأت
هذا النوع من النشاط بدأ ينتشر صارت تنافس الجمعيات الخيرية في انتشار حلقات
التحفيظ في المساجد [4] ، والأوقاف أنشأت بعض مشروعات تحفيظ القرآن الكريم، وما ذلك إلا لأنهم شعروا بأن الجمعيات الخيرية تنشط في الحلقات وتحاول سحب
البساط. ولعل هذا مصداق سنة التدافع التي جعلها الله - سبحانه - لصالح عباده
وعمارة الأرض.
- ونعيد التأكيد هنا على مسألة بث العلم الشرعي وتصحيح مفاهيم الناس من
خلال الخطب والمحاضرات والحلقات القرآنية والندوات والمراكز الصيفية.
- توحيد الصفوف والبعد عن الحزبية الضيقة وعدم إثارة الخلافات، وهي
وإن كانت قليلة - بحمد الله - مقارنة بما في غيرها من البلاد، إلا أنه لا بد من
السعي للتنسيق على الأقل بين جميع العاملين المخلصين.
- فهم الواقع بصورة أكثر دقة وشمولية، وقد سبقت الإشارة قبل قليل إلى
شيء من هذا.
- التركيز على مسألة التربية ثم التربية، وهي تشمل التربية الجهادية
وغيرها.
دور المسلمين:
إن شعبنا في فلسطين تحيط به (إسرائيل) من جميع الجهات، وله حق كبير
في النصرة والدعم والتأييد خصوصاً في ظل أجواء التجويع والبطالة الموجودة.
الدعم المعنوي مطلوب من دعاءٍ ونصيحةٍ وتواصلٍ وكذلك الدعم المادي للمشاريع
الخيرية التي قامت وتقوم - بحمد الله وفضله - من بناء المساجد والمراكز الصيفية
والحلقات القرآنية والمدارس ونشر الكتاب والشريط الإسلامي.
__________
(1) لا يخشى من حدوث انفجار بعودة 800 ألف يهودي من روسيا خلال أشهر.
(2) نرجو أن لا تكون الممرات الآمنة عاملاً في القمع ومطاردة الإسلاميين.
(3) ففي عام 1985م تحرك بعض المشايخ وطلاب العلم فأحرقوا خمارة في خان يونس وأخرى في منطقة أخرى من غزة.
(4) لعل هذا من قبيل: إن الله لينصر هذا الين بالرجل الفاجر.(145/86)
المسلمون والعالم
حزب الله.. رؤية مغايرة! !
(3)
البناء بالحرب! !
عبد المنعم شفيق
في 18 فبراير من عام 1974م، وقبل بداية الحرب الأهلية اللبنانية بعام
تقريباً، وقبل اندلاع الثورة الإيرانية بسنوات قليلة، وقف موسى الصدر أمام حشد
كبير من شيعته ليقول: (إن اسمنا ليس المَتَاوِلة، إننا جماعة الانتقام، أي هؤلاء
الذين يتمردون على كل استبداد، حتى إذا كان ذلك سيكلفنا دمَنا وحياتنا، إننا لم نعد
نريد العواطف، ولكن نريد الأفعال، نحن تعبون من الكلمات والخطابات، لقد
خطبت أكثر من أي إنسان آخر، وأنا الذي دعا أكثر من الجميع إلى الهدوء، ولقد
دعوت إلى الهدوء بالمقدار الذي يكفي، ومنذ اليوم لن أسكت أبداً، وإذا بقيتم
خاملين، فأنا لست كذلك) [1] .
(لقد اخترنا اليوم فاطمة بنت النبي، يا أيها النبي، يا رب، لقد اجتزنا
مرحلة المراهقة، وبلغنا عمر الرشد، لم نعد نريد أوصياء، ولم نعد نخاف، ولقد
تحررنا، على الرغم من كل الوسائل التي استخدموها لمنع الناس من التعلم، ولقد
اجتمعنا لكي نؤكد نهاية الوصاية، ذلك أننا نحذو حذو فاطمة، وسننتهي
كشهداء) [2] .
وبهذا الإعلان (الثوري) كانت بداية جديدة للحركة السياسية الشيعية في لبنان، وكانت نقطة الانطلاق التي اتفق فيها الصدر مع فضل الله. (أمل) تبعث الأمل:
قصة البداية: بعد حرب العام 1948م لجأ إلى لبنان أكثر من 150 ألف
فلسطيني، وفي منتصف السبعينات الميلادية وصل هذا العدد إلى أكثر من 400
ألف، وفي أعقاب الصدام العنيف في (أيلول الأسود) من عامي 1970، 1971م
بين المنظمات الفلسطينية، والسلطات الأردنية، لجأ كثير من هذه المنظمات إلى
لبنان، وبطبيعة الحال فإن هذه المنظمات كانت أفضل تسليحاً وتنظيماً من أي قوة
أخرى في الجنوب، في ذلك الوقت كان المجتمع الشيعي في حالة صحوة كما مر،
واجتمع للشيعة عدة عوامل تزيد من عدم رغبتهم في هذا الوجود الفلسطيني، ومنها:
1 - عامل التاريخ: وهو ذلك العداء القديم لأهل السنة؛ فهاهم الآن في معقل من معاقلهم (جبل عامل) وبقوة مسلحة تستطيع تهديدهم بشكل مباشر ولهذا كان الشيعة أول من سارع لمساندة الجيش اللبناني (الموارنة) في الاشتباكات ... التي جرت مع المنظمات الفلسطينية، بل ومساعدة اليهود في ذلك أيضاً؛ ... فالموارنة لا يريدون تكثير (السنة) لأجل إنشاء دولتهم النصرانية، واليهود لا يريدون الفلسطينيين في لبنان لئلا يتهدد أمنهم من الشمال، والشيعة لا يريدونهم كذلك؛ لأنهم يمثلون عائقاً أمام تحقيق وجودهم وكيانهم الذي يسعون من أجله.
2 - عامل الجغرافيا: وهو الرغبة في عدم إثارة الدولة اليهودية (الجارة) ... وهذه الإثارة تنتج عن مهاجمة المنظمات الفلسطينية لأي أهداف إسرائيلية سواء من داخل لبنان أو خارجها، وذلك أن دولة اليهود دأبت على تأديب سكان الجنوب كلما حدث ذلك لتزيد من النقمة الشيعية على الفلسطينيين.
3 - عامل الأيديولوجيا الثورية: حيث إن الشيعة في حال جديدة رغبة في التطلع لوضع سياسي واجتماعي يدفعهم نحو الدولة الحلم في لبنان، والتمكين للطائفة في الواقع اللبناني، وحيث إن الجنوب هو معقلهم التاريخي، فلا مناص إذاً من التخلص من هذا العائق الكبير الذي يقف أمام هذا الحلم.
ولهذا فقد كان من الضروري التعامل مع هذه القضية الشائكة بحذر وجدية في
الوقت ذاته.
فالحذر: كان لاعتبار تلك النداءات التي أطلقها الصدر من أنهم يحملون هَمَّ
القضية الفلسطينية وأنها قلب دعوتهم كما جاء في ميثاق حركته:
(فلسطين، الأرض المقدسة التي تعرضت - ولما تزل - لكل أنواع الظلم،
هي في قلب حركتنا وعقلها، وإن السعي إلى تحريرها أول واجباتنا، وإن الوقوف
إلى جانب شعبها وصون مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها) [3] .
كما كان من دواعي الحذر أن الصدام السريع مع المنظمات الفلسطينية سوف
يكون لصالحها لا محالة.
وأما الجدية: فكانت في إيجاد حركة مسلحة تستطيع تحقيق الأمن الذي
تحتاجه الطائفة الشيعية، والتخلص من هذا الهمِّ الجاثم على صدورهم، وكان أن
أُعلن عن إنشاء (اتحاد محرومي لبنان) [4] أو (أفواج المقاومة اللبنانية) والتي
عرفت فيما بعد باسم (أمل) . ومن العجيب أن هذا الاسم الأخير (أمل) كان من
اقتراح ياسر عرفات على موسى الصدر [5] ، وكانت هذه الحركة هي (الجناح
المسلح) لحركة المحرومين التي تم التدثر بها ابتداءاً.
(ومضى الصدر إلى أبعد من مجرَّد الدفاع الداخلي عن حقوق طائفته، فنراه
يقيم علاقات وثيقة مع المقاومة الفلسطينية، وهكذا نجده يخرج عن تحفظه في
موضوع العلاقات بين الدولة اللبنانية والمنظمات المسلحة التي كانت تعمل ضدّ
(إسرائيل) بدءاً من جنوب لبنان، وكان تحالفه معها يتيح لرجل الدين الإيراني أن
يستفيد من دعم عسكري لكي يقف بقوة أمام الرؤساء التقليديين لجبل عامل، وأن
يجد بعد عام 1975م دعماً شخصياً (كتقديم أسلحة، وتدريب) عندما أسست
الميليشيا العسكرية لحركة أمل) [6] .
وكما تدربت ميليشيا أمل على يد (فتح) فقد كانت المنظمة تقدم خدماتها بهذه
الصورة إلى ما هو أكبر وأوسع من دائرة أمل، فقد وسعت هذه الخدمة لتشمل
النشاط الشيعي على مختلف الأصعدة، وكأنهم يقولون لهم: هكذا تذبحوننا! ! [7] .
وعندما وجد الصدر من جماعته القوة التي تستطيع أن تواجه المنظمة التي
دربته قلب لها ظهر المجن، فبعد أن اشتعلت الحرب المدنية اللبنانية، بدأ الصدر
يغير موقفه بشكل واضح من المنظمات الفلسطينية، وقد نقل عنه كلمات قاسية جداً
ضدها، قالها - قبل أن يختفي - لأحد رجال السياسة الموارنة القريب من الطلائع
المارونية:
(إن المقاومة الفلسطينية ليست بثورة، إنها لا تقبل البرهان على قضيتها
بالشهادة. إن هذه مكنة عسكرية ترهب العالم العربي؛ فمع السلاح يحصل عرفات
على المال، وبواسطة المال يمكنه أن يغذي الصحافة، وبفضل الصحافة يستطيع
أن يجد آذاناً صاغية في الرأي العالمي، إن المنظمة (فتح) عامل اضطراب في
الجنوب، وقد نجح الشيعيون بالتغلب على عقدة نقصهم تجاه المنظمة
الفلسطينية [8] .
في الوقت ذاته كان الصدر لا يريد أن يفقد علاقته مع حلفائه من الموارنة في
السلطة الحاكمة فأعلن أن (أمل) عون ومدد للجيش اللبناني في الجنوب في
التصدي للهجمات الإسرائيلية! ! وبهذا الفعل حصل الصدر على عدة مكاسب:
1 - اكتساب شرعية لميليشياته من الدولة اللبنانية، وعدم خسارة العلاقة معها.
2 - إضعاف سلطة الفلسطينيين في الجنوب بوجود قوة أخرى (لبنانية) ...
مشتركة، وكان التعاون بينهم في هذا الجانب واضحاً [9] .
3 - كان هناك كذلك مكسب هام وإن كان إعلامياً وهو الادعاء بأنه مازال يدافع عن القضية الفلسطينية، وها هي قواته تقاتل في الجنوب ضد العدو الصهيوني، وهو ما اعتبره الصدر انتزاعاً لانفراد المنظمات الفلسطينية بالمواجهة، وعليه؛ فقد تم التفريق بين القضية الفلسطينية وبين مواجهة الفلسطينيين. ...
الخروج إلى بيروت:
بعد هذا الاستقواء الذي تم للحركة طالب الصدر أتباعه في خطاب جماهيري
باحتلال القصور في بيروت، واعتبر الشيعة ذلك نداءاً مقدساً، واحتلوا من بيروت
مناطق وقصور (أهل السنة) .
يقول عبد الله الغريب: ويغلب على ظني أن استيطان الشيعة في بيروت في
الستينات وقبلها كان عفوياً، أما بعد الستينات فكانت أهدافهم واضحة، وكان موسى
الصدر مهندس هذه الخطة ومن ورائه النهج النصراني، ومن الأدلة على ذلك أن
العمال والموظفين الءقادمين من الجنوب والبقاع والشمال كانوا يبنون منازلهم في
جنوب بيروت على أملاك الغير، وكان ذلك يحدث تحت سمع السلطة وبصرها،
بل وكان أصحاب الأراضي من أهل السنة يطالبون الأجهزة المسؤولة بوضع حدٍ
لهذا العبث، ورغم ذلك فالسلطة تترك قُطَّاع الطرق يفعلون ما يشاؤون. ولو كان
هذا الذي يحدث في بيروت الشرقية أو في أي منطقة من مناطق النصارى لما
صمت قادة الموارنة لحظة واحدة.
وعندما سأل الصحفيون نبيه بري عن الأسباب التي دفعته إلى احتلال بيروت
الغربية أجاب: بيروت الغربية عاصمة لبنان وملك لجميع المواطنين وليست حكراً
على أهل السنة [10] .
وشاع في وسط المهجرين الخروج عن القوانين العامة وعن الأعراف، مثال
ذلك: أن 88% من الـ 4400 مبنى التي أحصاها المجلس الإسلامي الشيعي
الأعلى بالرمل العالي والأوزاعي وشاتيلا والجناح، وهي من نواحي الحركة
الإسلامية (الخمينية) ، شيّدت في الأملاك العامّة أو في أملاك الغير (اغتصبت
عنوة) ، وهذه الحال استمرت على الوجه نفسه إلى العام 1996م، وسوف يستمر
هذا الاغتصاب حتى يتم إنجاز ما يسمّى مشروع (اليسار) وبناء هذا الجزء من
ضواحي بيروت بناءاً جديداً في نصف العقد الآتي، ومع استهلال الألف الثالثة،
فإن ما يقرب من 20% من المقيمين ببيروت الغربية كانوا منذ العام 1986م
واستمر معظهم على حاله إلى 1995 1996م يقيمون في منازل تسلّطوا عليها
واحتلّوها احتلالاً (14%) ، أو ينزلون مؤقتاً ببيوت يملكها أقارب أو
أصحاب (5. 8%) [11] .
غياب الصدر:
وصل الصدر إلى ليبيا مع اثنين من رفاقه هما الشيخ محمد شهادة يعقوب،
وشفيع عباس بدر الدين في 25 أغسطس عام 1978م في زيارة غير محددة المدة
والغرض. وقد صرح أحد رفاق الصدر القريبين منه بأن الزيارة كانت استجابة
لدعوة من الزعيم الليبي معمر القذافي، وقَبِل الصدر هذه الدعوة على أساس أنها
سعي نحو تحقيق السلام في لبنان.
وكثرت الروايات حول أسباب اختفاء الصدر، ولعل من أبرز الأسباب هو ما
تمحور حول مسألتين:
الأولى: طموح الصدر؛ فقد سُئل علي الجمال، وهو أحد المقربين لموسى
الصدر، ومن كبار ممولي حركته بالمال والسلاح، سُئل عن طموح الصدر فقال:
أما طموحه فكان الوصول إلى الأمانة العامة للطائفة الشيعية في العالم [12] .
الثانية: وهي نتيجة للأولى وسبب مباشر لها؛ حيث إن هذا الطموح لم يكن
خافياً على الخميني مما اعتبره منافساً قوياً وخطيراً له كما أشار بذلك الخبراء
والقريبون من مصادر المعلومات الجيدة [13] .
على الرغم من أن الغموض الذي يحيط باختفاء الصدر لا يزال قائماً، فإن
هذا الاختفاء شكل أهمية رمزية لحركة أمل؛ فقد ارتفع الصدر إلى مرتبة الشهيد
القومي عند العديد من الشيعة اللبنانيين، وتصدرت صوره افتتاحيات صحف أمل،
كما أعيد طبع خطبه وتعليقاته مصاحبة بصوره، وأطلق أعضاء الحركة على
أنفسهم من حين لآخر (الصدريين) .
لقد حقق اختفاء الصدر فوائد عدة لحركة أمل؛ فقد وجد العديد من الشيعة في
(الإمام المختفي) رمزاً ملزماً للتعبير عن عدم الرضا الذي يشعرون به، وقد أكمل
اختفاء الصدر هذا المزاج السياسي للشيعة وغذاه، وكان وسيلة ملائمة للتعبير عبر
الحركة التي خلفها وراءه.
كما أن هناك بعضاً من قادتهم من يسلم بأن اختفاءه كانت له قيمة كبيرة في
التعبئة السياسية لجماهير الشيعة، لم يكن يحققها وجوده ذاته، كما أدى أيضاً إلى
قلة حدة الانتقادات التي توجه للحركة بسبب تبجيلها لذكراه واعتباره رمزاً لها [14] .
وهكذا فقد حقق اختفاء الصدر هدفين في وقت واحد: التخلص من طموحه،
وإعطاء دفعة معنوية لحركة أمل إلى حين.
كمون (حزب الله) :
كان حسين فضل الله في ذلك الوقت يمارس دوره بهدوء بعيداً عن ضوضاء
الصدر وحركته، وكانت عناية فضل الله كما ذُكر قبل متوجهة إلى التربية المنهجية
لإعادة العِلم الإمامي الديني وتوطينه وتطويره، ولم تكن تلك المهمة لتمتد أكثر من
ذلك، فقد بدأ الزرع يُخرج بعض الثمار، فبدأ (أبناء فضل الله) بالانتشار في
نسيج المجتمع اللبناني، ومد أذرعهم في جنباته، وبالرغم من هذه الخطوة إلا أنهم
لم يستطيعوا الإعلان عن هويتهم؛ إذ ما زال فيهم من الضعف ما يمنعهم من ذلك،
فكان لا بد من الاحتماء بـ (أمل) .
(فكانت الحركة الصدرية واقي أنصار الدعوة والإسلاميين الخمينيين في
حال ضعفهم، وحتى إعلانهم الاستقلال السياسي والعسكري، إلا أنهم في هذه
الأثناء كانوا يعملون عملاً حثيثاً على بناء النواة التي في مستطاعهم إنشاء معقلهم
حولها) [15] .
وبالرغم من هذا الاحتماء بـ (أمل) إلا أنه لم يكن في حسبان الحركة
الشيعية في لبنان أن تكون (أمل) هي صورتها الدائمة والمستقبلية ولا قائدة
مسيرتها؛ إذ الصورة المطلوبة هي ذلك المثال (الإيراني) لا المثال (العلماني)
الذي تدين به أمل، ولسوف يأتي اليوم الذي يخرج فيه الطائر ويكسر (قشرة
البيضة) التي احتضنته لا محالة.
وفي ذلك الوقت لم تكن كذلك قد تبلورت الأفكار والمناهج والتصورات
السياسية لـ (حزب الله) بل لم تكن تسمت هذه المجموعة بهذا الاسم، إلا أنها
كانت تعيش أهم مستلزمات العمل الثوري، وهو ما أسمته الحركة بـ (الحالة
الجهادية) أو (الحالة الثورية) أو (الذهنية الثورية) وكان الوصول إلى هذه الحال
أساس التعليم الإمامي في الحوزات والحسينيات، فكان (لا بد للعلم من جهاد يكمله
ويتكامل معه) وكان من لوازم التخرج من الحوازات العلمية أن تنتقل به إلى ...
(ساحات الجهاد) وأصبحت هذه (الحالة الجهادية) هي الحال التي يتمنى كل فرد
منهم الوصول إليها؛ إذ هي تصل بصاحبها لـ (الشخصية المتكاملة) ولقد كان
السعي لها لتتحقق أمنية الأماني: التمتع برؤية (الإمام الحسين) ! !
فهذا (أبو هادي) كان على هذه الحال، وهو فتى في الثالثة عشرة، سمع
أحد العلماء يتكلم عن استقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً
بدمه، فصرخ في العالم، وقال: (دع الحور العين لك أنت وحدك، أما أنا فحدثني
كيف وأين أرى الإمام الحسين) ! ! ويعلق وضاح شرارة على ذلك فيقول: وهذه
أي رؤيا الحسين هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية بلبنان، وما
يعربون عن الأمل في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرون فيه ثمناً لبذلهم
دمهم وحياتهم [16] .
الخروج من الشرنقة:
أولت الحركة الإسلامية الخمينية في لبنان أمر المساجد والمدارس الدينية
الاهتمام الكبير؛ إذ هي في تلك المرحلة محاضنها وبيوتها التي تحميها من حمأة
الانصهار في جحيم المجتمع بحربه المستعرة والحركة ما زالت في مهدها
(الثوري) ، وإذ هي مدارس العلم وحوزاته كذلك.
ولهذا فقد اتخذت الحركة طريقها الأول عند الخروج من الشرنقة لعمل حزام
من الحسينيات والمصليات تتحصن بها، ولتؤدي من خلالها دورها المنوط بها من
تحويل المجتمع إلى وجهة أخرى، وكان لهذا الحزام دور هام في انتشار الحركة
وتوسعها على ما نرى.
كما أن هذا الحزام ساعد أبناء الحركة على مد أيديهم لإخوانهم من الشيعة
بإحلالهم محال غيرهم ومنازلهم.
أما المصليّات فكانت أربعة:
المصلى الأول: (الإمام الباقر) ناحية الروشة، غير بعيد من الصخرة، أقيم
مكان مقصف وعلبة ليل رخيصة كانت تحفهما فنادق ومطاعم ومقاهٍ، بعد أن اتخذها
الفلسطينيون المسلحون موئلاً ومعقلاً وملجأ، ولم يكد الفلسطينيون يخلونها حتى حل
في أبنيتها التي لم تكتمل بعض أهالي الجنوب، وتبعهم أهالي كيفون، والقماطية، والبلدتان سكانهما من الشيعة وتقعان بدائرة (عاليه) الانتخابية التي يقتسمها
الدورز والموارنة والأرثوذكس، ووقعت عشرات الأبنية ومنها ثلاثة فنادق سابقة
في قبضة المسلحين، فأسكن المسلحون الشيعة المهاجرين والمهجّرين من الضاحية، وأنشؤوا مصلى الإمام الباقر في وسط المهجرين الشيعة، ونصبوا مذياعاً
للصلوات والأدعية، وأقاموا من أنفسهم مطوعة أو (شرطة أخلاق) ، فمدوا طرفهم
إلى المطعم القريب، وحرّموا تناول المشروبات الكحولية في شهر رمضان، وفي
الأيام العشرة الأولى من محرم، وزينوا المصلى بالأعلام والصور، واتخذوه قاعدة
للدعوة بالصورة والصوت.
أما المصلى الثاني (الإمام الصادق) فكان في بناء من أبنية الحمراء يقع خلف
سينما ستراند، في شارع احتُل بعضُ أبنيته الجديدة التي لم يتم إنشاؤها، وبعضُ
أبنية المنطقة القديمة التي كانت شققها مكاتب تجارية أو مكاتب مهن حرة، وأُنزل
فيها الأهالي الذين نزحوا من حي فرحان ومن حي (ماضي) ، وأُخليت إحدى
الشقق في بناء يقع بالطرف الغربي من بناء صالة ستراند، وأُخرج مكبر صوت
إلى الشوارع التجارية الكبيرة وإلى الأبنية التي يقيم في معظم شققها من بقي من
مسيحيي رأس بيروت، ومن الأرمن والسنَّة.
وأقيم المصلى الثالث (الإمام الحسين) في ناحية القنطاري غير بعيد من برج
المر.
وأقيم المصلى الرابع (المصطفى) بعين المريسة، في وسط ناحية يتنازعها
السنة الذين سبقوا إليها، والدورز، والشيعة الذين وجدوا بها ملاذاً شعبياً رخيصاً
في العقد الخامس، ثم طرأ على الناحية تغير عميق من جراء انتشار الفنادق الفخمة
والشقق المفروشة والمقاهي والمقاصف وعلب الليل. وهذه الفنادق والشقق أخلتها
الأعمال الحربية ودمرتها وأسكنت في بقاياها وبين أنقاضها الذين قسروا على
النزوح من برج حمود والنبعة ... إلخ.
ولا تقتصر شبكة الحركة (الخمينية) على المساجد والنوادي الحسينية
والمصليات البيروتية هذه، فانضمت إليها حسينيات وادي أبو جميل ومدينة الكرامة
(حي السلم) ، وبرج البراجنة، ومسجد الطيونة؛ إلا أن هذه الأماكن لا يرد ذكرها
ولا يشار إلى استعمال الحركة (الخمينية) لها إلا في معرض خطبة أو تأبين،
وقلما يتجاوز الخبر هذا المعرض إلى غيره.
أما خارج بيروت، فيدور نشاط الخمينيين على عدد من المساجد والحسينيات
التي يتولى الصلاة فيها أو يرعى شؤونها دعاة الحركة من علماء الدين، وغالباً ما
يتفق الاحتفال في البلدة مع سقوط أحد أفراد الحركة من أهل البلدة فتكون إحياء
ذكراه جسراً إلى أقربائه وإلى أهالي بلدته.
وتتصدر بلدات الجنوب اللبناني بمساجدها وحسينياتها نشاط الدعاة الخمينيين؛ ففي صور؛ حيث مدرسة من المدارس الدينية الإيرانية حسينية تستقبل على
الدوام تظاهرات (الخمينيين) ، ونادي الإمام الصادق الذي يقوم مقام حسينية ثانية.
وتعد صور من بين الأرياف اللبنانية الفقيرة التي تأخرت هجرة أهلها إلى
بيروت، لكن هجرة أهل الساحل هذا كانت مبكرة جداً إلى فلسطين وإلى المهاجر
الإفريقية والأمريكية، وإلى ذلك؛ فقد أدت هجرة الريف الصوري إلى صور إلى
طبع المدينة البحرية بطابع سكاني وطائفي جديد؛ فبعد أن غلب السنة والمسيحيون
على المدينة، انتقلت الغلبة إلى الشيعة المهاجرين من الأرياف العاملية القريبتة على
نحو حاد، من غير أن تملي المدينة الصغيرة على المهاجرين إليها التطبع بطباع
مدنية أو التأدب بآداب جديدة. ولم يبق من أهل صور الأولين إلا ضعفاؤهم
وفقراؤهم وغير القادرين منهم على (الاختلاط بالأشغال مع المسيحيين في بيروت
وصيدا وجبل لبنان) .
أما في البقاع فتتصدر بعلبك نشاط الإسلاميين قبل مقدم الحرس الثوري في
صيف 1982م وبعده.
هذه الخريطة لأبرز المساجد والحسينيات والمصليات التي يتخذ منها
الخمينيون (خلايا) دعوة وتعبئة) [17] .
الانقلاب على (أمل) ! !
يقول ميثاق حركة أمل: (إن حركة أمل ليست حركة دينية، وميثاق الحركة
الذي تمت صياغته في عام 1975م، من قِبَل 180 مثقف لبناني معظمهم من
المسيحيين! ! يدعو إلى إلغاء النظام الطائفي في البلاد وإلى المساواة في الحقوق
والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز) [18] .
وعندما نجحت الثورة الإيرانية، كانت نقطة تحول كبيرة في الحركة الشيعية
في لبنان؛ فقد تحقق جزء كبير من حلم الدولة الثلاثية، وأصبحت هناك دولة دينية
شيعية آلت على نفسها منذ اليوم الأول لها تصدير ثورتها لنصرة المستضعفين في
كل مكان.
وكان على هذه الدولة الجديدة أن ترد الجميل لأهلها في لبنان، فقد احتضنوهم
بالمأوى والتدريب، وكان رد الجميل سريعاً، فأمدوهم بعد الدفعة المعنوية الكبيرة
بنجاح الثورة بالمال والسلاح والرجال والتخطيط.
وهكذا - وبسرعة أيضاً - تم الإسفار عن الوجه المطلوب إظهاره في لبنان،
وهو ذلك الوجه الكامن المختبئ إلى حين، وجاء موعد خروجه من كمونه، ولكن
ما زالت (أمل) هي الصورة الواضحة في لبنان كممثل رسمي لشيعته، ولكن
(أمل) بهذه الوجهة (العلمانية) أصبحت مرحلة مضت يجب تجاوزها؛ لأنها ستمثل
عائقاً في طريق إكمال السعي للأهداف الجديدة، وبما أن الهدف من إيجاد (أمل)
كان إخراج الفلسطينيين وحماية الشيعة منهم؛ فها هو الاحتلال الإسرائيلي لبيروت
قد أخرج الفصائل المسلحة منها، كما أنه قد تمت تصفية عدد كبير منهم في مذابح
مروعة قام بها اليهود والموارنة والشيعة.
وهكذا لم يعد لأمل دور تستطيع الدفاع عنه أو تنازع حوله، وعلى هذا فقد تم
اتخاذ فرامانات عدة لزحزحة أمل من قلب الصورة إلى هامشها، وكان من ذلك:
1 - الضلوع في إخفاء الصدر أو قتله كما مر لإضعاف الحركة في أحد مراحلها.
2 - بروز خلافات (علنية) بين نبيه بري، ومحمد مهدي شمس الدين الذي كان نائباً لرئاسة المجلس الشيعي الأعلى؛ حيث كان الصدر الغائب لا يزال الرئيس، وسبب ذلك: عدم القبول بتصرفات بري ومنهجه (العلماني) ! !
وقد نقل راديو (صوت لبنان الكتائبي) أن المكتب الخاص لنائب رئيس
المجلس الشيعي الأعلى أعلن أنه لم تعد للقيادة الحالية لحركة أمل أي علاقة مع
سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وقد أُبلغت القيادة الحالية لحركة أمل بهذا
القرار في حينه [19] .
3 - تصفية بعض الرموز المهمة في حركة أمل، أمثال: مصطفى شمران الذي كان له دور بارز في الحركة، وكان المسؤول التنظيمي فيها، كما تسلم إدارة المدرسة المهنية في جبل عامل التي أشرفت على تخريج كوادر أمل العسكرية بعدما حضر إلى لبنان يحمل خطاب تزكية من الخميني [20] .
وبعد أن قامت الثورة استدعي لشغل منصب وزير الدفاع في إيران، وتم قتله
أثناء زيارة للجبهة في الحرب مع العراق في ظروف غامضة [21] .
4 - كان الخط الذي اتبعته (أمل) منذ بداياتها مع الصدر هو مد حبال الصلة مع الحكومة اللبنانية، وتمسكها (الظاهري) بشرعية الدولة، والسعي من خلال هذا الطريق لاستنقاذ حقوق الشيعة وكان الاستمرار على هذه الطريقة هو مما يتعارض والهدف الجديد للحركة الشيعية في لبنان.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ودعا الرئيس اللبناني وقتها إلياس
سركيس إلى اجتماع (هيئة الإنقاذ الوطني) وكان نبيه بري عضواً فيها، وقبلت
القيادة الدينية حضور بري [22] باعتبار أن هذه الهيئة ستتحول إلى حكومة وطنية، وهو أحد أهداف بري وحركته في أن يكون لهم تواجد حكومي قوي. وهنا أعلن
أحد أبناء الحركة الخمينية الكامنة والمتدثرة بـ (أمل) انشقاقه عن (أمل) ورفضه ...
لهذه المشاركة وأعلن (أمل الإسلامية) وكان هذا الرجل هو: حسين الموسوي،
نائب رئيس حركة (أمل) وبهذا الانشقاق تم تفريغ (أمل) من كوادرها الخمينيين
الذين انضموا إلى (أمل الإسلامية) وكان ذلك الإعلان الرسمي الذي تحول فيما بعد
إلى (حزب الله) .
لماذا استمر بري [23] بـ (أمل) ! ؟
السؤال الذي يطرح نفسه: إن كان تم الانقلاب على (أمل) بهذه الطريقة،
فلماذا استمر بري في صدارة الصورة (السياسية) الشيعية، بل لا زالت (أمل) لها
من الوجود نصيب؟
هناك قاعدة هامة يجب الالتفات إليها أولاً، وهي: أن معيار الظهور السياسي
الشيعي في لبنان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران ومطالبها في لبنان، وذلك حسب
الخيارات والأهداف المرحلية التي تنتهجها [24] .
ثانياً: استخدام إيران لبري بعد الصدر [25] كان لعدة اعتبارات:
1 - كان هناك إقرار وموافقة من قِبَلَ (الفقهاء) أصحاب السلطة الحقيقية-
على بري ومنهجه والدور الذي سيؤديه، وإلا لما كان له وجود ابتداءاً باعتبار اليد
الطولى للملالي.
2 - أن الواقع الطائفي اللبناني أفرز عدداً من الشخصيات الشديدة التعصب لمذهبها، وإن لم تكن (متدينة) في سلوكها، وكان بري من تلك النماذج، وهو ما تقتضيه المرحلة.
3 - هذه المرحلة تحول فيها الشيعة إلى العمل المسلح الظاهر، وأضحى هدفهم بالتخلص من الفلسطينيين (السنة) معلناً، وكان من الصعب أن تلصق المذابح التي أعدوا لها وقاموا بها بأحد الآيات أو الحجج، كيف ذلك وهم ينادون بالتقارب مع أهل السنة وإزالة الحواجر، وعندما وقعت ألصقت بـ (علمانيي) المنهج.
وعلى ما سبق فالود باق مع بري، ولا نُغفل هنا عقيدة (التقية) التي هي من
أصول دين الإمامية، وعلى هذا فيبقى في الأخير أن الأدوار توزع حسب الحالة،
وليس أدل على ذلك من البيان الذي صدر في 8-10-1983م؛ حيث أعلن عبد
الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز باسم المجلس الشيعي الأعلى ما يلي: (إن
حركة أمل هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه (أمل) نتمسك به
كمجلس إسلامي شيعي أعلى، وبالتالي فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به
الحركة) [26] .
وجاء هذا الإعلان بعد البيان الذي أذيع في 27-2-1983م من أن حركة أمل
لم يعد لها علاقة بالمجلس الشيعي الأعلى! !
4- جاء هذا التأييد السابق للحركة بعد الانشقاق الذي خرجت به (أمل
الإسلامية) وبعد (الحضور الفعلي) لحزب الله على أرض الصراع.
5- كان للسياسة الإيرانية في لبنان خطان تستعملهما في تحقيق أهدافها:
خط أول: يتلمس سبل طي الحرب المستمرة والمقيمة ولو من خلال التفاوض
مع ممثل (القوات اللبنانية) ، وفي رعاية وسيط أمكنه من القيام بالوساطة احتلالٌ
إسرائيلي يطوق بيروت والقصر الجمهوري ويرزح بثقله على الجنوب وعلى
الجبل.
وخط آخر: رأى في الاحتلال وفي ما حفَّه من أدوار سياسية ودبلوماسية
أمريكية وأوروبية وعربية ذريعة إلى تجديد الحرب، وإلى اختبار الاستراتيجية
الإيرانية في ميدان غير إيران.
وبينما أملت الخط الأول عصبية شيعية لبنانية حفظت من الروابط المحلية
والعالمية ومن اعتدال النخبة الصدرية الأولى قسطاً كان لم يزل فاعلاً، فقد أملت
الخط الثاني نزعة إلى توسيع النزاع، وإلى تأجيجه وتوجيهه وجهة ضم جبهة لبنان
إلى جبهة الخليج والجبهات الإقليمية المشرقية، وإلى استدراج القوى الغربية التي
تلعب دوراً راجحاً في النزاع الإقليمي، ولو من غير الاشتراك في الاشتباك مع
المجابهة المباشرة [27] .
ونختم هنا بكلام لحسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، يقول: إننا
حريصون على علاقة طيبة مع (أمل) ونحن نعمل على تطوير هذه العلاقة،
وهناك لجنة ثنائية من أحد قادة (أمل) مع أخيه في حزب الله ينظرون في كل
الأمور المشتركة سياسية وعسكرية، وسياستنا تقول: إن الموضوعات التي نتفق
عليها نتعاون معاً، وما نختلف عليه لا يؤدي الخلاف في وجهة النظر إلى نزاع،
حتى الخلافات تم تنظيمها، الطابع العام لعلاقتنا الإيجابية والتنسيق والتعاون، وقبل
أسابيع حضرت لقاء مع الرئيس (بري) لتثبيت هذه الصيغة وتفعيلها [28] .
وبهذا يتضح أنه لم يكن هناك إبعاد كبير للحركة بقدر ما هو زحزحة من
الصورة (العسكرية) والمواجهة إلى الساحة (السياسية) واستبقاؤها لأدوار أخرى
تتوافق والمتغيرات السياسية لإيران وملفاتها في لبنان.
ثورة تحمي.. الثورة:
إذا أراد شخص ما أن يحقق لعمله الهدوء والاستقرار، والأشخاص
المحيطيون به لا يوفرون له ذلك، بل لا يريدون له ذلك، فلا بد من التفكير
والسعي لأن يصنع لهم شيئاً يشغلهم عنه ويلتهون به، وهذا ما فعلته إيران بعد
ثورتها.
(فمنذ بداية انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م، طالب التيار الداعي
لتصدير الثورة باعتبار تصدير الثورة إحدى سبل حمايتها في الداخل، وبعدم
الاكتفاء بالدعاية الخارجية للنموذج الإيراني بل بتقديم مساعدات ودعم لقوى سياسية
خارج إيران، وخاصة القوى الراديكالية المعادية للنظم القائمة في العالم الإسلامي
لإنشاء حكومات على النمط الإيراني.
وقد طالب الخميني منذ البداية بتكرار ثورة إيران في البلدان الإسلامية
الأخرى، باعتبارها خطوة أولى نحو التوحد مع إيران في دولة واحدة يكون
مركزها إيران في المواجهة مع من أسماهم بأعداء الإسلام في الشرق والغرب.
والتزم بتدمير من أسماهم بالأنظمة الفاسدة التي تقمع المسلمين واستبدالها بما اعتبره
حكومات إسلامية، كما ربط بين تصدير الثورة وبين مواجهة الإمبريالية وتحرير
فلسطين.
وأضفى الخميني على رؤيته قدراً من الواقعية عندما ذكر أن عدم تصدير
إيران لثورتها سيضعفها أمام أعدائها.
وقد سوَّغ الدكتور حسن آيات أحد منظري الحزب تدخل الثورة الإيرانية في
شؤون الدول الإسلامية الأخرى بأن على إيران نصرة المستضعفين في كل مكان
حتى يتم ضمان استمرارية الثورة واتساع دائرة إشعاعها.
وقد جاءت تصريحات لعدة مسؤولين إيرانيين لتؤكد أن إيران لن تأمن من
مؤامرات الدول الكبرى إلا إذا حدثت ثورات مماثلة في العالم الإسلامي، ووعدت
بمساعدة كل حركات التحرير والحركات الإسلامية الراديكالية في أي مكان في
العالم) [29] .
كما بذلت إيران ما في وسعها منذ قيام الثورة لإدماج الأقليات الشيعية الأجنبية
سياسياً تحت قيادة الإمام، وهكذا دعمت في فترة أولى تمتد حتى عام 1982م،
كافة الحركات الشيعية الصرفة مثل حركة أمل في لبنان.
بعد ذلك راحت تطلب المزيد من الراديكالية والمزيد من التخلّي - في آن معاً- عن المرجعية الوطنية والاندماج في بنى إيرانية محضة، وهذه الفترة الثانية هي
الفترة التي بدأ فيها ظهور الأحزاب التي دُعيت بأنها أحزاب الله، سواء في لبنان
أو أفغانستان، وإلى قيام تنظيمات باسداران لدى الشيعة.
وهكذا، فإن السفارة الإيرانية في بيروت أصبحت بمثابة قيادة الأركان
الشيعية الحقيقية في لبنان؛ حيث شرع حزب الله وأمل الإسلامية التي نشأت عام
1982م في معارضة حركة أمل، مع الابتعاد عن رجال الدين الأكثر تقليدية (مثل
الشيخ محمد مهدي شمس الدين) .
أما المرحلة التالية فكان قوامها توجيه المجموعات الشيعية لشنّ هجمات ضد
خصوم إيران وهي المرحلة التي حولت لبنان بخاصة إلى ساحة حرب ضد الرعايا
الغربيين (تدمير مركز قيادة الأركان الفرنسية والأمريكية عام 1983م) [30] .
وتفلسف أحد قادة الحركة في لبنان وهو إبراهيم الأمين وقال: إن تصدير
الثورة لا يعني تسلط النظام الإيراني على شعوب منطقة الشرق الأوسط، وإنما
المفروض أن تعيش هذه المنطقة الإسلام من جديد! ! أي إسلام؟ فيكون المتسلط
على هذه الشعوب الإسلام وليس الإنسان، على هذا الأساس نحن نعمل في لبنان
من خلال المسؤولية الشرعية ومن خلال القناعة السياسية أيضاً، حتى يصبح لبنان
جزءاً من مشروع الأمة في منطقة الشرق الأوسط، ولا نعتقد أنه من الطبيعي أن
يكون لبنان دولة إسلامية خارج مشروع الأمة [31] .
وكان الحرس الثوري الإيراني هو المؤسسة الرسمية الرئيسة التي تحمي
وترفع راية مبادئ الثورة الإسلامية ومُثُلها التي حددها الخميني، وقد لعب الحرس
دوراً هاماً في ترسيخ أفكار الثورة وزعيمها [32] .
وانطلاقاً من هذه السياسة الإيرانية بعد نجاح الثورة وبلوازم الدور الذي يقوم
به الحرس الثوري لتصدير هذه الثورة، ولتحقيق الأمل الآخر بقيام الدولة الأخرى
في لبنان فقد ساعدت مفرزة الحرس في لبنان على تأسيس (حزب الله) ، وعلى
تدريبه ودعمه فيما بعد، بهدف إقامة جمهورية إسلامية في ذلك البلد، وعموماً
كانت قيادة مفرزة الحرس وأفراده في لبنان وقوامها 2000 مقاتل تضم أكثر رجال
الحرس راديكالية من الناحية العقائدية وإلى جانب المساندة والتدريب العسكريين
المباشرين لحزب الله لعب الحرس دوراً عقائدياً وسياسياً كبيراً في وادي البقاع
اللبناني؛ حيث بثوا معتقداتهم بين السكان المحليين وأسسوا المدارس والمستشفيات
والمساجد والجمعيات الخيرية، واكتسبوا التأييد للثورة الإسلامية وأمدوا حزب الله
بالمجندين.
كما لعب السفير الإيراني السابق في سوريا ووزير الداخلية علي أكبر
محتشمي، وهو أحد المتشددين البارزين، دوراً فاعلاً بالتعاون مع الحرس في
تشكيل حزب الله، ويبدو أنه لا يزال يتمتع بنفوذ قوي في لبنان. كما تسعى
السفارتان الإيرانيتان في سوريا ولبنان مع وزارة الخارجية الإيرانية وبعض
الزعماء الإيرانيين، إلى السيطرة على أنشطة الحرس والسياسة الإيرانية في
لبنان [33] .
البناء بالحرب! !
حين وصلت الحركة الجديدة إلى (الحالة الثورية) كان لا بد من الاستجابة
للنداء المقدس من ضرورة تحويل لبنان إلى دولة أخرى، وحيث الروح المعنوية
عالية، والمدد المادي والعسكري والتنظيمي متوفر بكثافة وبكرم يفوق الخلق العربي
فكان لا بد من الخروج الكلي والإعلان الواضح عن الحركة، وكان من الطبيعي أن
يتوجه الجهد العسكري لمحاربة الاحتلال وتطهير الأرض اللبنانية من (رجس
اليهود) والسعي إلى إخراجهم من (الأرض المقدسة) إلا أن ذلك لم يكن هدف
الحركة! !
يقول وضاح شرارة: لم يصرف الإسلاميون اللبنانيون - والقيادة الإيرانية
من ورائهم - جهدهم إلى عمليات ضد الإسرائيليين وقوات احتلالهم، في الأشهر
الأولى التي أعقبت صيف 1982؛ فمصدر الخطر الأول على (مجتمع الحرب) ...
أو (الحالة الجهادية) ، يومذاك ليس الاحتلال الإسرائيلي! ! فكان المصدر الذي
يتهددها هو استقرار الدولة اللبنانية وحملها اللبنانيين على تسليم أمورهم وشؤونهم
إليها وإقرارهم بشرعيتها، وهذا أي التسليم والإقرار بالشرعية ما كان يبعد أن
يحظى به الاحتلال الإسرائيلي.
ويبرز الفرق جلياً بين الإسلاميين وبين الأحزاب والقوى السياسية التي أمدت
المقاومة الوطنية اللبنانية بالمقاتلين والسلاح والخطط، في هذه المسألة، وما
احتجاج الشيوعيين اللبنانيين على سبقهم في هذا الميدان إلا إمعاناً في الغلط، وفي
التعامي عن الاختلاف في تقدير الأوضاع؛ فذهب الحزب الشيوعي اللبناني،
والحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعض فصائل حركة (أمل) ، والمرجح أن
قسماً من الفلسطينيين تابعهم على رأيهم، إلى أن الأمر الملحّ والداهم هو عرقلة
الاحتلال الإسرائيلي، والحؤول دون استتبابه، والمضي على المقاومة التي جابهت
العملية الإسرائيلية، ولو اختلف في تقويم هذه المقاومة؛ وعقدت الأحزاب
والمنظمات آمالها على قيامها بـ (حرب التحرير) هذه، ورجت أن تقطف ثمار
عملها قوة جديدة تمكنها من أخذ موقع سياسي راجح في الميزان اللبناني.
اطَّرح (الإسلاميون) هذا الرسم من غير مواربة ولا تأخر، فقدَّموا على
سائر المهمات والأعمال مهمة الحؤول بين الأبنية السياسية والإدارية اللبنانية وبين
انتزاع الاعتراف بشرعيتها من جديد؛ والسبب في ذلك أن مثل هذا الاعتراف يحكم
على الإسلاميين وفيهم، وعلى غيرهم، بالخروج على الشرعية، وعلى ما هو
مُجمَع عليه، ويدينهم بعرقلة مسيرة السلم والعودة إلى الحياة السياسية الآمنة. ودفع
الإسلاميين لهذا الإطراح عواملُ كثيرة، منها: أنفتهم من تناول الأمور تناولاً
وطنياً ومحلياً، ومنها بروز الوجه الإقليمي والدولي للحرب الإيرانية والعراقية،
واختبار قادة طهران جدوى التعبئة الجماهيرية عسكرياً وسياسياً وانتقالهم بعد ربيع
وصيف 1982م إلى مرحلة الهجوم، وسعيهم إلى انتزاع مكاسب إقليمية ثابتة في
نهاية هجومهم المأمولة.
ولم يكن خافياً أن استقرار أبنية الدولة اللبنانية تبع لمساعدة أمريكية وأوروبية
تحوط هذه الأبنية، وترعى ذراعها المسلحة، وتحول بين القوى الإقليمية والمحلية
وبين بعثها المعاقل التي تقطع جسم الدول. ولما كانت الدول الأوروبية والولايات
المتحدة الأمريكية، من وجه آخر، تقف عائقاً دون إحراز القوات الإيرانية
انتصارات عسكرية تقوض النظام الإقليمي في الخليج، تحالفت السياسة الإيرانية
والسياسة السورية، والمصالح المحلية على ضرب القوة الأوروبية والأمريكية التي
تملك حوط الدولة اللبنانية وإحباط الانتصارات الإيرانية معاً.
وضربُ مثل هذا الغرض القوات المتعددة الجنسية [34] قمين إذا ما أفلح -
بحرمان الدولة اللبنانية الرعاية التي لا قيامة لها من دونها، وبإباحة لبنان أرضاً
ومجتمعاً للمعاقل المختلفة، وهو قمين أيضاً بإطلاق اليد السورية في غير ناحية من
لبنان، وبتعويض التراجع الذي منيت به القوات السورية في صيف 1982م،
وبمد جسر إيراني إلى قلب المشكلات العربية يحول دون تأليب الإسلام العربي
(السني) عليها، وتحويل إيران إلى قوة عربية عن طريق محاربة القوات
الإسرائيلية والعلاقة بالمنظمات الفلسطينية على أرض دولة عربية [35] .
ويعني هذا الأمر، بعبارة أخرى، وفي ضوء الثورة الإسلامية الإيرانية
وتجربتها يومذاك، أن الحرب وحدها في مستطاعها أن تظلل إنشاء المعقل
الإسلامي، وأن ترد عنه غائلة حياة اجتماعية وسياسية وثقافية مستقرة، لذا كان
الإسلاميون الشيعة ذوو الهوى الإيراني والخميني في الصفوف الأولى من كل
أعمال الكر والهجوم على (العدو العام) : على القوات الإسرائيلية، وعلى الوحدات
الأمريكية والفرنسية، وعلى (القوات اللبنانية) ، وعلى الجيش اللبناني، وعلى
المواطنين اللبنانيين المسيحيين والمواطنين الأجانب، وعلى (جيش لبنان
الجنوبي) ، وعلى السفارات الأجنبية والعربية، وعلى القوات الدولية، وعلى بعض المواطنين اللبنانيين المسلمين الذين يخالفون الإسلاميين في الهوى والمشارب، وعلى المراقبين السوريين الذين سبق قدومهم الانتشار السوري في بيروت أواخر شباط 1987م، وعلى مسلحي (أمل) بالضاحية الجنوبية في صيف 1988م، وعلى المسلحين الفلسطينيين المتحالفين مع (أمل) في حروب المخيمات الطويلة (1985 1990م) فهؤلاء كلهم، الذين كانوا أو ما زالوا هدفاً لأعمال الخمينيين الحربية، تسهم حربهم في إنشاء الجيب الإسلامي الإيراني وفي إطالة الأمد الذي يحتاج إليه أصحابه من أجل إرسائه على أسس يظنونها ثابتة.
فإلى الدور الذي تضطلع به هذه الحرب الكثيرة الوجوه في الوصول بمآرب
السياسة الإيرانية إلى غاياتها الإقليمية والدولية، تضطلع بدور آخر لا يقوم الدور
الأول إلا به، وهو تشييد أبنية المجتمع الإسلامي الذي تتعهده ولاية الفقيه ويتعهده
وكلاؤه) [36] .
بهذه البدايات المتفجرة بدأ (حزب الله) إثبات وجوده في الساحة اللبنانية
طبقاً للأهداف الإيرانية، وعلى الجهة الأخرى كانت سوريا على الخط اللبناني
الساخن، واستخدمت سوريا (حزب الله) كما استخدمت أمل من قبل، فهل ينجح
حزب الله في خدمة سيدين! ؟
وعلى الصعيد الداخلي اللبناني كان على (حزب الله) وسادته أن يقوموا
بتأمين المجتمع وإغراقه (بالإحسان) والخدمات الاجتماعية ليكسبوا التأييد الشعبي
للحزب، فما هي هذه الخدمات؟ وهل حققت أهدافها؟ وما هي النجاحات التي
حققها (حزب الله) في الصراع المتبادل مع اليهود؟ كما يطرح سؤال مهم نفسه:
مع تغير اللهجة الإيرانية واتباعها للمنهج البراجماتي في سياستها الجديدة، ومع
خوض سوريا في مفاوضات تسوية، هل يستمر حزب الله في الدور نفسه الذي بدأ
به؟
كل هذه الأسئلة وغيرها نجيب عليها - بإذن الله - في الحلقة الرابعة
والأخيرة.
__________
(1) الإمام المستتر، فؤاد عجمي، ص155.
(2) الإسلام الشيعي، عقائد وأيديولوجيات، يان ريشار ترجمة: حافظ الجمال، دار عطية للنشر والترجمة بيروت، ط/1/1966م، ص199، 200.
(3) عبد الله الغريب، أمل والمخيمات الفلسطينية، ص157.
(4) انظر هذه التسمية عند باتريك سيل في كتابه: الأسد، الصراع على الشرق الأوسط، دار الساقي، ط2/1989م.
(5) انظر حوار نبيه بري مع مجلة الوسط، العدد: 274/28/4/1997م.
(6) يان رينشار، الإسلام الشيعي، 200.
(7) انظر: الحرس الثوري الإيراني، نشأته وتكوينه، ودوره، كينيث كاتزمان، ص46، 52، 53، وانظر: وضاح شرارة، دولة حزب الله، ص 109.
(8) فؤاد عجمي، الإمام المستتر، ص178.
(9) راجع في ذلك أمل والمخيمات الفلسطينية لعبد الله الغريب، وراجع حرب الألف عام في لبنان، جوناثان راندال، ترجمة فندي الشعار دار المروج 1984، ص33.
(10) عبد الله الغريب، أمل والمخيمات الفلسطينية، ص155وانظر فصلي دول الجماعات، وبناء المعقل الإسلامي في كتاب دولة حزب الله لشرارة.
(11) دولة حزب الله 211.
(12) حوار مع مجلة الشراع اللبنانية العدد: 898، 6/9/1999م بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين لاختفاء الصدر.
(13) انظر الصدر ودوره في حركة أمل، ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي، مجلة المجتمع، العدد957، ص47.
(14) المصدر السابق، 47.
(15) انظر دولة حزب الله، 197199.
(16) المصدر السابق، 282.
(17) دولة حزب الله، 235، 239 بتصرف.
(18) أمل والمخيمات الفلسطينية، ص155.
(19) انظر: حركة أمل، مرحلة ما بعد المصدر، مجلة المجتمع، العدد: 958، ص51، وانظر: أمل والمخيمات، ص177.
(20) انظر: الإسلام الشيعي، ص211، وانظر حوار نبيه بري مع مجلة الوسط، العدد: 278/26
/5/1997م.
(21) انظر: حركة أمل، مرحلة ما بعد الصدر، مجلة المجتمع، العدد/ 958، ص50.
(22) انظر ذلك في حوار بري مع الوسط، العدد: 274، ص18، والعدد، 277، ص33.
(23) انظر ترجمة له في أمل والمخيمات، لعبد الله الغريب، ص167- 171، انظر: حكام لبنان، مجلة، العدد: 795، 13/4/1995م، ص44.
(24) راجع: آر نورتون، لبنان: الصراع الداخلي والارتباط بإيران، ص116-137 عن الإسلام الشيعي، ص211.
(25) شغل حسين الحسيني منصب الأمانة العامة لحركة أمل بعد غياب الصدر إلى أن تولى بري عام 1980.
(26) أمل والمخيمات، 184.
(27) دولة حزب الله، ص118-119.
(28) حوار أجرته مجلة المصور المصرية في شهر مارس 1999، ونشرته مجلة المقاومة في
العدد: 40/إبريل/1999م، ص26.
(29) انظر: د وليد عبد الناصر، إيران: دراسة عن الثورة والدولة، دار الشرق، ط1/1418هـ، ص70-75.
(30) انظر: أولفيه ورا، تجربة الإسلام السياسي، ص182-183.
(31) دولة حزب الله/210.
(32) انظر: الحرس الثوري الإيراني، نشأته وتكوينه ودوره، ص26-27.
(33) المصدر السابق، 139ت140، 178، 180، وانظر: دولة حزب الله، ص277 وانظر: مجلة المقاومة العدد: 31، ص4.
(34) راجع تفاصيل العمليات التي قام بها حزب الله ضد الآهداف الأمريكية والفرنسية بمساندة الحرس الثوري، د سعد أبو دية، دراسة تحليلية في العمليات الاستشهادية في جنوب لبنان، 1407هـ.
(35) دولة حزب الله، 231-232، 269، 217بتصرف.
(36) المصدر السابق /121-122.(145/94)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
إخوة الجهالة
(غنى اللبناني (مارسيل خليفة) قصيدة للشاعر محمود درويش تتضمن آيات
قرآنية، وأحيل إلى المحكمة بناءً على إدانة مفتي لبنان لهذا العمل) .
1 - إن ما يحدث لمارسيل خليفة اليوم ليس سوى حلقة في مسلسل العنف
الذي تمارسه المجموعات المعادية للمجتمع المدني التي تبرر إرهابها باسم الدين
زوراً وبهتاناً على المبدعين والمفكرين العرب، بوصفهم طليعة المجتمع المدني،
وفاتحي أفق الحق والخير والجمال لمجتمعاتهم التي تحلم بالحرية والعدل والتقدم.
ما يتكرر حدوثه في هذه السنوات من ممارسات التعصب والتطرف والإرهاب
التي تهدف إلى الإطاحة بإمكانات الدولة المدنية الواعدة لا يعرف قيم التسامح التي
تعرفها الأديان الكبرى وتؤكدها، ولا يعترف بحضور المجتمع المدني الذي يسعى
إلى تدمير وعوده. وأول هذا التدمير إشاعة الرعب في نفوس المبدعين والمفكرين، وتثبيت تقاليد الاتباع المعادية لكل اجتهاد أو تجريب، وإشاعة روح العداء
للخروج على المألوف أو المعتاد، أو التحرر من قيود الثبات أو أسر الضرورة في
الفكر والإبداع، والمطاردة المستمرة والملاحقة القمعية للمبدعين والمفكرين الذين
يبحثون عن المغايرة في كل مكان. قضية مارسيل خليفة، حلقة من حلقات القمع
المستمر على الإبداع في كل مكان من هذا الوطن العربي الذي لا يكاد يخرج من
كارثة من كوارث التعصب إلا ليقع في غيرها.
{د. جابر عصفور، جريدة الحياة، العدد: (13374) }
2 - إننا من خلال تضامننا مع مارسيل خليفة نتضامن مع العلمانية ضد
الجهل والخرافة، ولم نعد نخشى أن نشهر علمانيتنا وأن نعتز بها ونكافح بها في
وجه الجهل والخرافة، وعندما نتضامن مع مارسيل فإننا نتضامن مع أنفسنا لرغبتنا
في بناء حياة جديدة مليئة بكل أشكال التنوير والحداثة، وتجاوز القتامية والظلامية
التي يُحاوَل فرضها علينا.
{ياسر عبد ربه، وزير الثقافة والإعلام الفلسطيني،
جريدة الحياة، العدد: (13386) }
دين أدونيس
الشعر تحديداً: انشقاق، أو لأكرر ما يراه (نيتشه) بعبارة أخرى: يكون
الشعر مضاداً أو لا يكون. الشعر انفجار متواصل في تصدعات زمنية متواصلة،
وهو لذلك ضد كل ما هو سائد، أو راسخ، ضد المعتقدات والتقاليد! وضد كل ما
هو عام، لقد كان الفكر العربي في مختلف اتجاهاته فكراً أصولياً، وتعود أصوليته
إلى أنه ينطلق دائماً من أفكار ومعتقدات يعدها مسلمات وحقائق نهائية، ولا يطرح
عليها أي سؤال، إن العمل الأول للفكر هو نقد أصله أو أصوله، هو نقد المسلَّمات، لا نقدها وحسب، وإنما الخروج منها كذلك، كل شيء يجب أن يخضع للسؤال
والبحث، عندما يمارس الفكر العربي هذه الحرية يمكن القول عنه آنذاك: إنه فكر
خرج من الأصولية ويمكن أن نسميه آنذاك فكراً بحصر المعنى.
{أدونيس، مجلة الوسط، العدد: (405) }
وحيد.. زمانه! !
1 - شاءت المقادير أن أقتربَ من السيد (عبد الرحمن وحيد) في أكثر من
مناسبة في مؤتمر أمستردام كان الرجل يردد مقولات المستشرقين عن الإسلام فيما
يتعلق بالشريعة والمرأة والحدود وغير المسلمين، وكلها آراء سلبية يعرفها الجميع
لا ترى في الإسلام فضيلة ولا تنسب إليه فضلاً، وقبل هذا وذاك فإن السيد عبد
الرحمن كان له موقفه العلماني الحاسم الذي يدعو إلى عزل الدين عن المجتمع
وحصره أو حصاره في الأخلاق والعبادات والتوحيد أما المعاملات وشؤون الدولة
وغير ذلك ففي رأيه أنه ينبغي ألا يكون للدين بها علاقة. وهو كلام يطرب
الغربيين لا ريب، لأنه يسمعهم ما يريدون ويتمنون، ولذلك فإنهم اعتبروا الرجل
زعيماً إسلامياً معتدلاً ومستنيراً للغاية، وقدموه في المؤتمر وفي غيره من المحافل
بهذه الصفة.
هذه هي المرة الأولى في حدود علمي على الأقل التي يقدَّم فيها رجل علماني
بحسبانه زعيماً إسلامياً يتبعه ملايين البشر ممن انخرطوا في جماعة مصنفة تاريخياً
باعتبارها إسلامية محافظة. ذلك أن السيد عبد الرحمن وحيد يرأس جماعة (نهضة
العلماء) التي أسسها جدُّه في عام 1926م، وتضم أعضاءاً يصل عددهم إلى أكثر
من 20 مليون شخص.
عندما التقيته في بيته، كرر الكلام نفسه عن الشريعة وظل عند موقفه منها،
لكن حديثه في السياسة كان جديداً، بالنسبة لي على الأقل؛ إذ وجدته شديد الحماس
لـ (إسرائيل) والإعجاب بشعبها وبما اعتبره تقدماً على أصعدة مختلفة فيها. ثم
اكتشفت أنه عضو مؤسس في معهد بيريز للسلام بتل أبيب، وعلمت منه أنه زار
(إسرائيل) ثلاث مرات، وأنه اعتذر عن عدم تلبية دعوة رابعة بسبب انشغاله
بالانتخابات في بلاده!
وبسبب علاقاته التي أقامها مع (إسرائيل) ، لم يكن مستغرباً أن يحتفي
الزعماء الإسرائيليون بتوليه رئاسة أكبر دولة إسلامية، وهو ما عبر عنه تقرير
نشرته صحيفة (جاكرتا بوست) التي يملكها تجمع مسيحي أندونيسي متعاطف مع
(إسرائيل) ونقلت فيه تصريحاً لرئيس الوزراء الأسبق شمعون بيريز أدلى به
لصحيفة (يديعوت أحرونوت) قال فيه: إن عبد الرحمن وحيد صديق حميم لـ
(إسرائيل) وهو يمثل (الإسلام المستنير) (!) كما أنه رجل مبادئ وروحاني كما
نقل ما نشرته صحيفة (هاآرتس) أن الرجل زار (إسرائيل) عدة مرات، وشارك
في مؤتمر هناك ضد الإرهاب (الفلسطيني لا غيره) ! وقال: إن الإسلام دين سلام
مع الجميع. أضاف تقرير (جاكرتا بوست) أن عبد الرحمن وحيد كان قد أدلى
بحديث صحافي للإذاعة الإسرائيلية قبل عدة أشهر، أعرب فيه عن إعجابه بالشعب
اليهودي، وقال: إنه تلقى علاجاً في تل أبيب، وأنه يتطلع إلى اليوم الذي تقام فيه
العلاقات الدبلوماسية بين إندونيسيا وإسرائيل) .
{فهمي هويدي
جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7636) }
2 - ذكرت وكالة الأنباء الرسمية (أنتارا) : أن إندونيسيا ستمضي قدماً في
خطتها لإقامة علاقات تجارية مع (إسرائيل) على رغم المعارضة العامة؛ ونقلت
الوكالة عن وحيد قوله: (أدعو الذين يعارضون ذلك أو لا يريدون التفهم أن يفهموا) وأضاف أن على إندونيسيا أن تتمكن من إقامة علاقات اقتصادية مع أي دولة في
العالم، بما في ذلك (إسرائيل) ، إلا أنه لم يشر إلى أنه سيعترف بـ (إسرائيل) ...
في المستقبل القريب.
وتابع وحيد: إن عدداً من الدول الإسلامية التي تستبعد علانية إقامة علاقات
مع (إسرائيل) ، تقيم من دون ضجة علاقات تجارية مع تل أبيب؛ وقال: (دعونا
من النفاق) وزاد: إن الغرض من إقامة علاقات تجارية مع (إسرائيل) هو التمتع
بمزايا اقتصادية.
وأعلنت الحكومة الإندونيسية أن خطة إقامة علاقات تجارية مع (إسرائيل)
جزء من الضغط على تل أبيب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية! !
{جريدة الحياة، العدد: (13392) }
تواطؤ عربي على الأقصى
كشف الشيخ رائد صلاح رئيس بلدية أم الفحم ورئيس الحركة الإسلامية
النقاب عن وجود مباحثات سرية تجري بين الحكومة الإسرائيلية وأطراف عربية
لوضع حلول لبناء الهيكل المقدس لدى اليهود. وهذه المباحثات السرية جرت في
النمسا وفرنسا ودول عربية لم يعلن عن اسمها من أجل بلورة حل لقضية المسجد
الأقصى وبناء الهيكل إلى جانبه. وعدَّدَ صلاح ثلاثة مقترحات لبناء الهيكل تتم
دراستها، وهي:
إقامته في الأماكن التي تقع في أسفل المسجد الأقصى، بينما يبقى المسجد
الأقصى والقبة مع المسلمين على قاعدة: (ما فوق التراب للمسلمين، وما تحته
لليهود) .
والمقترح الثاني: بناء قواعد ضخمة جداً وسط الآثار الأموية والأيوبية
الواقعة في القسم الجنوبي والجنوبي الغربي للمسجد الأقصى المبارك مشتركة بين
اليهود والمسلمين.
وينص الاقتراح الثالث على بناء الهيكل بصورة مباشرة في ساحات المسجد
الأقصى. وأوضح الشيخ رائد صلاح أنه منذ توقيع اتفاقية أوسلو وحتى الآن - بين
الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفسلطينية - ازدادت عمليات الاعتداء على
المسجد الأقصى؛ بحيث بلغت 72 محاولة، في حين كانت بلغت 40 اعتداءً في
الفترة الواقعة بين عامي 1967م و 1990م، وكان أخطرها في العام 1984م وهي
محاولة تفجير الأقصى.
{جريدة الخليج، العدد: (7469) }
ترى هل يسمعون؟
أهابت الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي - في نداء أصدرته - بأصحاب
الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية والمنظمات
والهيئات والمؤسسات والشعوب الإسلامية للتضامن مع شعب الشيشان في المحنة
الأليمة التي يعيشها منذ أن شنت القوات الروسية أبشع عدوان عسكري عليه. إن
القوات الروسية أحرقت الأرض، ونفذت استراتيجية الإبادة الجماعية وحملت مئات
الآلاف من الشيشان على الفرار والهرب، إننا نطالب جميع المسلمين بالمسارعة
إلى تقديم أشكال العون المادي والعيني لشعب الشيشان المنكوب استجابة للاستغاثة
التي أطلقها الشيشانيون للمسلمين وملوكهم ورؤسائهم.
{جريدة الرياض، العدد: (11459) }
أساؤوا.. وأخطأت
قال سعيد عبد المسلموف السكرتير الصحافي للرئيس الشيشاني أصلان
مسعادوف: إن الأخير قد بعث برسالة إلى البابا يوحنا بولس الثاني طلب منه ومن
العالم المسيحي حماية الشعب الشيشاني من إبادة لا علاقة لها إطلاقاً بالإرهاب
والجريمة، إن الأحياء السكنية تحترق، وقال مسعادوف في الرسالة: إنه لم يوجه
رسالته إليه إلا بعد ما تأكد من أن العالم الإسلامي لا يكترث بمأساة الشعب الشيشاني
ونداءاته المتكررة! !
جريدة الحياة، العدد: (13383) }
أين أونسكوم؟
أفادت وكالات الأنباء أن القوات الروسية أطلقت صواريخ من قاعدة عسكرية
بالقرب من فلاديقفقاس تصنف على أنها أسلحة دمار شامل، وأن ثلاثة من هذه
الصواريخ أصابت سوق جروزني.
{جريدة الخليج، العدد: (7466) }
حتى متى؟ !
أعلن وزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين أن الولايات المتحدة ستعزز قواعدها
الجوية في الكويت لتتمكن من الرد بأسرع ما يمكن في حالة الطوارئ، وأعلن
كوهين في مؤتمر صحافي عقده في الكويت: ما نريده هو زيادة قدرة قواعدنا على
استيعاب قوات والتأكد من أن لدينا مجالاً أوسع للطائرات وتسهيلات أخرى لاستقبال
عدد كبير من الطائرات، على سبيل المثال، في الحالات الطارئة أو حدوث ما هو
غير متوقع. وقال: إن كلفة المشروع قرابة 173 مليون دولار، ولم نناقش كيف
ستتوزع الكلفة بين الولايات المتحدة والكويت. وأضاف كوهين سنتوزع النفقات،
ثم قال: (إن الشعب والحكومة في الكويت كانا في غاية الكرم في دعمهما للمشاركة
في أهداف الولايات المتحدة في المنطقة ونأمل في أن نستمر في تلقي دعم الشعب
الكويتي) .
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7636) }
الحرب المستعرة
قال الرئيس التركي سليمان ديمريل: إن الإسلام بالمفهوم المعاصر لا يتناقض
مع العلمانية وإنه لا يفهم سبب خوف بعضٍ من أن يعلنوا بأنهم مسلمون.
لقد تغير الكثير خلال ألف وأربعمائة عام، وإن هناك بعض الأحكام في
القرآن لا يمكن تطبيقها الآن مثل تعدد الزوجات، وإن أفضل شيء في هذا
الموضوع استبعاد آيات الأحكام من التطبيق وعدد هذه الآيات ثلاثمائة وثلاثون آية
أو يزيد! ! - على حد قول الرئيس التركي.
جريدة الرياض، العدد: (11456) }
كلام لا يُشرف
قال قائد الجيش الباكستاني الجنرال برويز مشرف: إن الزعيم التركي
الراحل كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة (مصدر وحي كبير) له، مشيراً إلى ما
تردد في الدوائر السياسية بباكستان حول تشابه صيغة (مجلس الأمن القومي
الباكستاني) التي أعلن عنها مع النموذج الأتاتوركي العلماني.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7631) }
بين المنع والإباحة
1 - منعت حكومة جزر المالديف الإسلامية عرض فيلم (أمير مصر) الذي
يُظهر أمريكياً في دور سيدنا موسى - عليه السلام - وسبق لهم أن منعوا فيلم (بن
خور) و (التعاليم العشرة) لنفس السبب وهو ظهور ممثلين يتقمصون دور أحد
أنبياء الله مما يتعارض مع تعاليم القرآن، وقد سبق لحكومة المالديف أن طردت
بعض المنصرين الغربيين وسجنت بعض المرتدين عن الإسلام.
{دورية الكوثر، العدد: (23) }
2 - قام وفد من البطريركية الأرثوذكسية في القدس، على رأسه البطريرك
اليوناني ثيودوروس الأول الآتي بدعوة رسمية تستمر 3 أيام من أمير قطر الشيخ
حمد بن خليفة آل ثاني، في أول زيارة يقوم بها لقطر، شكر خلالها الأمير على
دعوته ومبادرته بالموافقة على بناء أول كنيسة هناك. وقال تيماثاوس: في قطر
التي زارها وفد أرثوذكسي مصغر قبل عامين للاطلاع على أوضاع الرعايا من
أبناء الطائفة فيها أكثر من 10 آلاف مسيحي، معظمهم من الأرثوذكس القادمين من
لبنان وفلسطين والأردن ومصر، وبعض الدول المسيحية، كاليونان وروسيا
وصربيا والهند وسواها، وهؤلاء كانوا يطالبون دائماً بمكان للعبادة هناك، تدعمهم
جهود بذلها بعض الدبلوماسيين الأجانب في الدوحة، فأجريت اتصالات خلال العام، تبعتها دعوة رسمية من الأمير لثلاثة أيام، شكروه خلالها على تبرعه بأرض لبناء
أول كنيسة أرثوذكسية منذ 1300سنة في الدوحة، من دون أن يشرح كيف كانت
هناك كنيسة أرثوذكسية في ذلك العصر بقطر.
جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7649) }(145/106)
متابعات
المسلمون والإعلام الفضائي
مروان كجك
تتعاظم آثار الإعلام التلفزيوني يوماً بعد يوم؛ تبعاً لتعاظم الشبكة الفضائية
التي غدت من أكبر مشاغل الناس، ومن أعظم همومهم. وإذا كانت جموع
المؤمنين ترفع أكفها إلى السماء ليسقيها ربها ماءاً غدقاً فإن أكثر مَنْ في الأرض
يُرهفون أسماعهم، ويوسِّعون حدقات عيونهم، ويُبيحون حِماهم لاستقبال رسائل
مستعمري الفضاء التي لا يحمل أكثرها إليهم إلا ما يؤدي إلى عبودية الإنسان
للإنسان، واستغلال الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء، وسيادة الكذب، وتواري
الصدق، والدعوة للإسراف في كل شيء إلا الخير.
وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في هذا الجهاز المتربع على عرش الإعلام
بكل أبعاده ومقاييسه وأخطاره، تحذيراً للغافل وتعليماً للجاهل، وبياناً للحق في هذه
المسألة التي تشغل أذهان الآباء والمربين وقلوبهم وهم يرون ما لهذا الجهاز من
السيطرة على عقول الناشئة، وما له من الآثار على الشخصية السوية والمسلمة
منها خاصة وهي الشخصية التي نرجو لها أن تسود العالم بما تحمله من الأهداف
النبيلة التي يشمل خيرها الصديق والعدو، والإنسان والحيوان، والنبات والجماد.
وإن التطور المذهل في وسائط الاتصال وآلياته وأساليبه يستدعينا - نحن
المسلمين - أن نسارع إلى استدراك ما فاتنا من هذا التطور الذي ارتضينا أن نكون
من زبائن تُجَّاره ورعايا فُجَّاره، وكأن هزيمتنا وخضوعنا لأعدائنا على وجه
الأرض لم يكفنا حتى غدونا عبيد الفضاء وأذلاء الأثير، حتى إننا أجَّرنا قمرنا
(عرب ساتنا) لـ (ألدِّ أعدائنا) ولم يعد لنا من حول ولا طَوْل إلا أن نقول بألستنا ما
لا نعقده في قلوبنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وكأننا نرائي الله بأقوالنا كما يرائي
بعضنا بعضاً؛ واللهُ يعلم أن قولتنا هذه لا تجاوز حناجرنا، ولو علم الله منا صدقاً
في الإيمان بمدلول هذه الكلمة كما يقتضيه لسان العرب لانتصر لنا من أعدائنا.
إن استخدامات التلفزيون، في صورته الراهنة، ومن خلال المؤسسات
العالمية التي تمارس التوجيه المشبوه من خلاله، تشكل عقبة تؤثر في العملية
التربوية المنوطة بالأسرة والمدرسة والمجتمع، وتنحرف بالعملية التربوية عن
مسارها الطبيعي وتقود المجتمع نحو الهاوية.
ولعلّ الدراسات المستفيضة التي قامت في السنوات الأخيرة حول الآثار
السلبية للتلفزيون تدعونا - نحن المسلمين - أن نكون أول من يتنبه وينتصب
ليدافع عن حضارته وهويته، ويسد المنافذ على المفسدين الذين لا يرون في جموع
البشر - ومنهم المسلمون - غير مجموعات استهلاكية لبضاعتهم الفكرية والتجارية، أو فئران تجارب تخضع لاختبارات التأثير المباشر لغاياتهم وأهدافهم.
إن الأضرار الناجمة عن كثير من برامج التلفزيون مؤكدة تحمل البراهين
الدالة على أنه - بما وراءه من أهداف - يُستخدم ليكون مِعْوَل هَدْمٍ وأداة تراجع في
المفاهيم الإنسانية النبيلة. ولو لم يكن لهذا الجهاز من الآثار الضارة - فيما يقدمه -
إلاّ ما يقع منها على أطفالنا لكان ذلك كافياً لكل أب عاقل وأم رؤوم أن يختطفا
أبناءهما من بين أيدي المحطات الداعرة حرصاً على إنقاذ فلذات الأكباد من مجونٍ
إعلامي عاهر يضع المثل الأعلى لأطفالنا في ممثلين وممثلات أجَّروا أنفسهم
لوكالات العهر والتخريب، أو في شخصيات خيالية غير مقبولة شرعاً ولا عقلاً
تبني شخصيات أبنائنا على تقبُّل صُوَرِ الزيف والباطل، وتقودهم إلى مسارب الذل
والهوان، فلا يرون في الصَّغار إلاَّ عظمةً، ولا في الذل إلا عزاً، ولا في التخلُّف
إلاّ تقدماً.
إن أباطرة الإعلام وهم يتربعون على عرش التوجيه الثقافي والروحي لعصرٍ
سمِّي في إصداره الأحدث: (النظام العالمي الجديد) هؤلاء الأباطرة لا يتورعون
عن اتباع شتى الأساليب التي تضمن لهم عالَماً يُساق إلى الذل في موكب خادع ماكر
يأخذ بتلابيب الجميع من غير رحمة أو شفقة أو تأثر بأي معنى من معاني الإنسانية
الفطرية.
إن ساعة زمنية من ساعات البث التلفزيوني تحتاج إلى تكاليف باهظة يعجز
عن تسديدها كثيرٌ من حكومات العالم الفقيرة؛ ومع ذلك فإن أفراداً بأعيانهم - وكثير
منهم من اليهود - يمتلكون محطات عالمية ومحلية للإرسال التلفزيوني يبذلون في
سبيلها كثيراً من الأموال قد تبلغ الملايين من الدولارات؛ مما يتيح لهم تسخير
مختلف أنواع الأقمار الصناعية واستخدامها للَّعب بأهواء الشعوب واجتذابها بشتى
صنوف البرامج الجادة منها والهازلة، ولكنها في النهاية تتوجه إلى ترقيص الجميع
على إيقاعها الإلكتروني ومشاهدها الساحرة، محرِّكةً للغرائز الشهوانية لتكتب ولو
سطراً واحداً على قلوب مشاهديها الذين لا يدرون أن هذا السطر قد داخلهم فعلاً
دون أن يحسوا له دبيباً!
نعم! إن قطاعات عريضة من شعوبنا الإسلامية قد أدركت اللعبة قبل غيرها؛ وإن كنا نعلم أن بُؤَراً اجتماعية في الغرب نفسه قد أفزعتها هذه المحطات التي لا
تفرق في استعبادها للبشرية بين غربي أو شرقي أو مسلم أو نصراني؛ فالكل في
نظرها قطعان تستهلك الطعام والجنس تقايضه بحريتها وكرامتها دون أن تتاح لها
الفرصة للتفكر أو إعادة النظر في مجريات حياتها؛ فالزخم الإعلامي غامر،
والجدران الحصينة تنشق وتتفجر ليطل من خلالها على العالم مواليد إعلامية جديدة
تتيح للُّصوص والمنحرفين والشواذ السطو على البيوت والمنتديات؛ ولا أدل على
ذلك من شبكة الإنترنيت التي لن تكون آخر صيحة ولا نهاية مطاف لما يتفتق عنه
العلم، وما إن يظهر جيل من أجيال الكمبيوتر أو المستحدثات الأخرى حتى يظهر
جيل آخر أكثر تقدماً وأعظم خطراً؛ بل إن شركات الكمبيوتر تُعِدُّ دفعة واحدة
أنواعاً من هذه الأجهزة المختلفة في قدراتها والتي يلغي بعضها بعضاً فتسربها إلى
السوق الواحد تلو الآخر بحسب قدراتها ومواصفاتها؛ بحيث يندفع الباحثون عن
الجديد والأحدث إلى اقتنائها والفوز بقصب السبق في عالم متغير مع كل نقلة
لعقرب الثواني في عصر العولمة الجديد.
وأضع أمام ناظِرَيِ القارئ الكريم خبرين طازَجين يدعوان إلى إعادة النظر
في معالجة مسألة الإعلام المرئي المسموع واستنفار أصحاب الغيرة في الأمة من
علماء الدين، والعلماء الاختصاصيين، والمربين الغيورين، وأهل الأموال
الخيرين، وأصحاب الخبرة التربوية والإعلامية والدعاة المرهفين إلى المبادرة
الجادة مجتمعين ومنفردين للعمل الجاد لملاقاة هذه المداهمات والتصدي لمخاطرها،
والإفادة من إمكاناتها في التوجيه الصحيح والبناء الصالح للفرد والجماعة، وألا
نضع أنفسنا في مواقع التوجس منتظرين كشف الكاشفين؛ فإذا العالم كله يتقدم
ويقوى ونحن على حالنا منتظرين حالمين مستهترين.
الخبر الأول نقلته كثير من الصحف قبل أيام من كتابة هذه السطور، وأُورِدُ
رواية صحيفة الرياض السعودية في عددها الصادر يوم 8-8-1999م تحت
عنوان: (شاشة عالية الوضوح على إبهامك) :
(توصلت شركة أمريكية مقرها في ولاية كاليفورنيا إلى إنتاج شاشة صغيرة
وعالية الوضوح ارتفاعها حوالي سنتيمتر واحد من السهل أن يضعها الشخص على
إبهامه. ومن غير المتوقع أن تستخدم هذه الشاشة بالطريقة التقليدية؛ فلن يجلس
الشخص أمامها في غرفة المعيشة ليشاهد التلفزيون أو يستعمل الكمبيوتر، وإنما
توضع هذه الشاشة داخل أجهزة رؤية توضع أمام العين مباشرة مثل النظارات
الطبية. وتؤكد الشركة أن درجة الوضوح التي توفرها الميكرو شاشة تتفوق على
درجة الوضوح التي توفرها شاشة مساحتها 19 بوصة) اهـ.
فما الذي يعنيه هذا الخبر؟ وما الذي سينتج عنه؟ وهل يثير مثل هذا
الاختراع في المسلمين شيئاً أو يحرك ساكناً؟
هذا الخبر يعني - دون ريب - تضيُّق مساحة الرقابة التربوية على الآباء
والمربين ورجال الأمن؛ وفي كثير من الأحوال انتفاء هذه الرقابة واستحالتها؛ فقد
أصبح بمقدور أي شخص صغير أو مراهق أو كبير إخفاء هذه الأداة عن الأعين
الشفيقة الحانية؛ فقد يواريها الفتى طية من طيات ثيابه، أو كتاباً من كتبه، أو
تحت فراشه أو مخدته، وهذا ما يشير إلى تعطُّل جزء كبير ومهم من وسائل الرقابة
التربوية التي كانت فعالة إلى حد كبير.
الخبر الثاني نقلته مجلة الشباب في عددها السادس الصادر في جمادى الأولى
1420هـ تحت عنوان: (الإنترنيت تطلِّق الكمبيوتر) . قالت المجلة:
(بعد شهور قريبة سيرثي الكمبيوتر فراق الإنترنيت؛ حيث أعلنت شركة
الهواتف (vsest) عن خططها لإطلاق أجهزة هاتفية تسمح للمستخدمين بإرسال
البريد الإلكتروني وتصفح الإنترنيت بدون الحاجة إلى استخدام الكمبيوتر؛ وبذلك
تنتهي مشكلة أولئك الذين يعانون من صعوبة التعامل مع الحاسوب ويرونه عقبة
تقف أمام دخولهم على الشبكة العالمية (الإنترنيت) . وهذه الفئة من الناس ليست
بالقليلة؛ حيث قدَّرتهم الشركة بـ 50 %. ويتضمن ذلك الهاتف الجديد شاشة
ملونة تسمح للمستخدم بتصفح الإنترنيت عن طريق التأشير ولمس أيقونات معينة.
كما يمكن إرسال البريد الإلكتروني عن طريق طباعة الرسالة على لوحة المفاتيح
الخاصة بهذا الهاتف. والجميل فعلاً أن من أهداف هذا الاختراع الجديد أن يقدَّم
بسعر مناسب لا يتجاوز 1000 - 1500 ريال سعودي؛ وذلك يوفر عليك أضعاف
هذا المبلغ لشراء جهاز الكمبيوتر) . ا. هـ.
وهذا الخبر ماذا يعني لنا أيضاً؟ وما الذي يعنيه للمربين؟ بل ما الذي يعنيه
بالنسبة لإمبراطورية الكمبيوتر التي كان يتراءى لها وللعالم أنها وضعت شبكة
الإنترنيت تحت إبطها؟
إن هذا الخبر يعني الكثير بالنسبة لنا خاصة وللعالم عامة. إنه يعني أن هذه
الإنجازات المذهلة سوف تكون مطارق تسحق قِيَمنا ومعاول تهدم ما بقي من
صروحنا إن لم نأخذ أهبتنا لها لا بإغماض أعيننا واستهجان استخدامها ومستخدميها
واستبعاد الزمن الذي تدخل فيه بلادنا أو تطأ ترابنا.
أما ما يعنيه هذا المخترَع بالنسبة للمربين فهو الحيرة والذهول، ثم البحث
عن وسائل تضطلع بمهمة شاقة لم تكن منتظرة.
أما إمبراطورية الكمبيوتر فسوف يساورها الشك في استحوازها على أكبر قدر
من وسائط الاتصال بعد اليوم.
إنه عالم متغير حقاً مع كل قفزة من قفزات عقارب الساعة. فما العمل اليوم؟
في عام 1986م تساءلتُ في كتاب: (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون)
بالسؤال نفسه، وكان جوابي قبل أربعة عشر عاماً الذي تبع العنوان: (المخرج
حاضراً) : (إننا نرى أن على الأسرة المسلمة اليوم أن تتخلى عن التلفزيون نهائياً،
وألا تدع له مكاناً بين أفرادها مادام موجهاً نحو أغراض تناقض ما أحبه الله لخلقه
... والتلفزيون على ما هو عليه الآن من هيمنة جهات معينة لا تقيم للدين وزناً،
فتوجهه الوجهة المعاكسة للتربية القويمة المتوازنة فإنه بالتمحيص والدراسة المتأنية
نجد وبشكل يثير القلق أن مضاره تدفعنا إلى اختيار الدعوة إلى الإحجام عن
استعماله أو الركون إليه ولو مؤقتاً إلى أن تنحاز برامجه إلى جانب الحق، ويغلب
خيرُه شرًَّه) {ص 256، 257} .
ومما قلته تحت عنوان: (المخرج مستقبلاً) : (ليست دعوتنا الأسرة المسلمة
إلى التوقف عن تشغيل التلفزيون تعني طلب الإعدام لهذا الجهاز أو إلقائه في مقلب
الزبالة كما اقترح الكاتب الأمريكي جيري ماندر ... ولكن تقديرنا أن المؤسسة
التلفزيونية في بلدان العالم الثالث - والشعوب الإسلامية جزء من هذا التصنيف -
هذه المؤسسة تبدو صورة من صور السلطة وجانباً هاماً من مرتكزاتها التي لا
تنفصل عن حقيقتها، هذا التقدير جعلنا نتوجه باقتراحنا هذا مباشرة إلى الأسرة
لإدراكنا بأن شعوب العالم الثالث قد هُذِّبت على ألاَّ تطلب في واقعها شيئاً بل عليها
انتظار الإنعام ... فما هي الوسيلة التي تجعلنا نفيد من هذا المختَرَع الرهيب
العجيب ونسخِّره للخير بعد أن ظل زمناً طويلاً منذ اختراعه مستخدَماً في ضروب
شتى من التخريب وإضاعة العمر في متابعة ترهاته وخزعبلاته؟ هذه الوسيلة تكمن
في التلفزيون السلكي أو التلفزيون الجماعي، وهو ما يسمَّى بالتلفزيون الكابلي ...
وقد أصبح وسيلة اتصال قائمة بذاتها ولمحطاته القدرة على البث في نحو مائة قناة
مرة واحدة، وما تزال الأبحاث جارية لزيادة عدد القنوات هذه) . {ص 257.258}
وما يزال للتلفزيون الكابلي دوره المتميز على الرغم من مزاحمة الفضائيات
له؛ فقد أشارت الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة في جامعة القاهرة
إلى هذه الحقيقة في مقالة لها في صحيفة الحياة تحت عنوان: (وظائف الإعلام
العولمي بين شمال وجنوب) قالت فيها: (تشير خريطة الفضائيات التي تسيطر
عليها كل من الولايات المتحدة واليابان والدول الأوربية إلى أنه يوجد في العالم -
أي حتى كتابة المقالة تلك - 26، 1 بليون جهاز تلفزيون منها 200 مليون جهاز
بالكابل..) {الحياة 15-7-1998م} وقد يبدو العدد قليلاً؛ إذ إن نسبته إلى
المجموع الكلي هي السدس؛ إلا أننا إذا عدنا إلى التفكُّر بالطبقة العلمية والاجتماعية
التي تأخذ عادة بهذه الأساليب الراقية فإننا نستطيع أن نتخيل أن الطبقة الفاعلة
المؤثرة في مجريات العصر الذي نحياه هي الأعلى نسبة بين مستخدمي هذا الصنف
من شبكات التلفزيون.
أما اليوم وفي أيامنا الراهنة هذه فقد تبدلت الصورة عما كانت عليه قبل ما
يقرب من سدس قرن تبدلاً يكاد يكون جذرياً، واتسع الخرق على الراقع، ولم يعد
المجال مناسباً للاقتصار على الدعوة إلى الابتعاد عن الجهاز أو الإقلال من قربانه،
أو محاولة ترويض النفس على المشاهدة الانتقائية التي لا يستطيع تحملها إلاَّ القلة
النادرة أمام الإغراءات الطاغية التي تأخذ بتلابيب المرء ولا تدعه حتى يصبح
مدمن تلفزيون من فئة خمسة نجوم؛ مما يستدعي إعادة التفكير في حل مناسب
للمسلمين خاصة، وللبشر عامة؛ فما هي الدواعي للبحث عن حل؟ وما هو الحل؟
دواعي البحث عن حل:
إن دواعي البحث عن حل كثيرة، ولو جئنا ننقب عنها لوجدناها تحوم حولنا
وتحف بنا وتحيا معنا، تمر بنا ونمر بها، تغيب عن أذهاننا لتغوص في أعماقنا؛
فإن أطلت ثانية جاءتنا بثوب جديد، وفلسفة مستحدثة، ولون مبهر، وطلاء أخاذ؛
ومعظمُ الغيورين ينشدون حلولاً تناسب العصر ولا تخرج بنا عن عقيدتنا وأعرافنا
القيمة التي انبنت على هذه العقيدة ونبتت بين ظهرانيها؛ ولذلك فإننا نذكر أهم
دواعي البحث عن حل يتناسب وواقع الأمة بمجملها:
1 - سيادة البث الفضائي القسري، وتسلحه بأرقى ما توصل إليه فن الإعلام
وتقنية الاتصال، واستناده إلى رأسمال ضخم يبتلع الأخضر واليابس.
2 - خروج البث التلفزيوني من قبضة الحكومات إلى قبضايات الرأسمالية
التي لا تفرق بين الحلال من المال أو الحرام منه؛ فبإمكان المال شراء ما يشاء من
قنوات البث التلفزيوني والذمم المعروضة للبيع أو التأجير بدون شروط مسبقة إلا
توفر الفلوس.
3 - توجُّه أصحاب الأيديولوجيات المنحرفة عن الحق والمعادية له من
يهودية ونصرانية وإلحادية إلى امتلاك الأقنية التلفزيونية والإذاعية في شتى بقاع
العالم، وتوجيه العديد منها إلى العالم الإسلامي بقصد زعزعة عقيدته تمهيداً لرد
المسلمين عن دينهم، أو فصل حياتهم عن دينهم بعد أن تمكنوا في معظم بلاد
المسلمين من فصل الدين عن الدولة.
4 - تصدُّر البث التلفزيوني بصورة عامة والفضائي منه خاصة المنابر
التربوية، وهيمنته على الأطر التربوية التقليدية من خلال: الأسرة والمدرسة،
وأمكنة العبادة؛ بل يكاد التلفزيون يلغي التأثير التربوي لتلك الأمكنة ويزيح القائمين
عليها من الآباء والمدرسين والخطباء والوعاظ، ويمهد لتشكيل شخصية عالمية لا
يجمع بينها سوى شدة النهم لكل دواعي الغرائز والشهوات، شخصية استهلاكية
أنانية فردية لا يعنيها غير تحقيق رغباتها والاستجابة إلى نزواتها.
5 - استحالة التصدي الفعلي لمحطات البث الفضائي، أو إيقافها أو التحكم
فيها من قِبَلِ الدول المستقبلة لها، مما يعني استفحال المشكلة، وخروجها عن نطاق
التحكم فيها، أو تصفيتها وترشيحها وتنقيتها (الفلترة) ، أو حجب بعض برامجها؛
فلها سلطانها الذي يحميها، وهي في منأى عن قوانين وأنظمة البلاد التي تستقبل
الإرسال، ولا تخضع إلا لسلطة البلد الذي تعمل فيه أو القمر الصناعي الذي تعيد
البث من خلاله نحو أصقاع شتى.
6 - بداية عصر الاستقبال الفضائي دون الحاجة إلى الأطباق والدشوش؛ مما
يعني إمكان إخفاء مظاهر التعامل مع هذا الاستقبال مما يقطع الصلة بالناس
المحتاجين للإرشاد والتوجيه والنصيحة؛ ليصبحوا فريسة طيعة للشيطان والإرسال
الشاذ.
هذه بعض أسباب ودواعي البحث عن حل؛ وذلك بمقتضى المستجدات
والمتغيرات التي طرأت على آليات البث التلفزيوني وزادت من آثاره وأخطاره؛
وهذا ما يدعونا دون إبطاء أو تمهل إلى المبادرة إلى الأخذ بمنهج الإقلال من
مخاطر البث التلفزيوني عامة، والفضائي منه على وجه الخصوص؛ دون إغفال
الاهتمام بالإنترنيت؛ متصدين للمخاطر محاولين الإقلال من المفاسد إلى أقصى حد
ممكن؛ مع العمل على زيادة الإفادة من الجوانب الإيجابية إلى أقصى حد ممكن
أيضاً وتوظيفها لخدمة الإنسانية لتتمكن من السير في دروب العبودية ولا للشهوات
والطواغيت ودعاة الباطل.
وحيال هذا السيل الطامي من التدفق الإعلامي من خلال البث المباشر المتَّسم
بالأهداف غير الإنسانية فإن من الحكمة الأخذ بالمعطيات الخيِّرة للتلفزيون، ولن
يتأتى ذلك إلاَّ بتصدي نخبة العلماء والعقلاء والفضلاء لهذا الأمر والوقوف له
متعاونين متعاضدين باذلين ما وسعهم الجهد للتلاقي بين أجهزة الإعلام الوطنية وبين
العلماء والمربين والتنسيق فيما بينهم للتخفيف - إلى أي حد مستطاع - من آثار
هذه الهجمة الإعلامية الشرسة.
الحل المقترح:
لعل من المفيد الإشارة إلى بعض الأساليب التي يمكن أن تساهم في الحد من
الآثار السلبية لسوء استخدام هذه المخترعات الفائقة التأثير على مسيرة البشرية
جمعاء وهي:
1 - إنشاء محطة بث إسلامية عربية تشترك فيها كافة البلدان الإسلامية،
ويمكن التقاطها في أية بقعة من الأرض، وتعمل على مدى أربع وعشرين ساعة
يومياً.
2 - إنشاء شركات إعلامية إسلامية أهلية خاصة مساهمة تتبنى المنهج
التربوي الإسلامي في الإعلام بأصنافه المختلفة وعلى رأسها الإعلام التلفزيوني
الفضائي والإنترنيت.
ويمكن لهذه الشركات والمحطات التعويل على الإعلانات التجارية التي لا
تتعارض مع التربية الإسلامية في سد جانب كبير من متطلباتها المالية، والعمل
علي تنميتها بحيث تتمكن من تمويل نفسها بنفسها ثم الانتقال إلى تطويرها بما
يتناسب وكل مرحلة جديدة لتؤدي رسالتها بثقة وقوة، وللوقوف في وجه ما يمكن أن
تتعرض له من أساليب المحاربة والتخريب المحتمل؛ على أن تحمل الإعلانات
التي تُبث من خلالها الروح الإسلامية التي تروِّج للحلال وتبتعد عن الحرام.
3 - العمل على إيجاد منهج تربوي إسلامي جديد يتناسب والعصر الإعلامي
الذي نحياه؛ مع الأخذ في الحسبان التطور المتوقع على مدى مستقبلي للأجيال
الحاضرة والمستقبَلة؛ فمما يروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه
قال:) رَبُّوا أبناءكم غير تربيتكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم (فإن الدفاع
الذاتي خير وأجدى من كل أنواع الدفاع؛ فمن امتلك العقيدة وعرف أسسها
وخطوطها العريضة حتى أصبحت له عقيدة وقضية كان أقوى على الصمود في
وجه الشبهات ودحضها والانتصار عليها، ثم التحول إلى الانتصار للحق قولاً
وعملاً.
4 - الإكثار من المنتديات التي تهتم بعرض الأفلام التسجيلية الصالحة
مساهمةً في البناء التربوي للشخصية دينياً وعلمياً وحضارياً.
5 - قيام صناعة وطنية في البلاد الإسلامية لأجهزة التلفزيون مبرمجة بشكل
متوافق مع محطات الإرسال الوطنية والإسلامية لا غير.
6 - التنسيق بين أجهزة البث التلفزيوني الإسلامي والعربي لتحقيق الأهداف
والغايات المتفق عليها فيما بينها.
7- إنشاء قنوات بث إسلامية بمختلف لغات الشعوب الإسلامية على أن يكون
من أهم برامجها تعليم اللغة العربية لتلك الشعوب بأساليب تربوية ميسرة.
8 - إنشاء محطات بث إسلامية موجهة لغير المسلمين يمكن التقاطها في أية
بقعة من الأرض، وناطقة بلغات الشعوب الموجهة إليهم.
9 - إنشاء صناديق تبرعات دائمة في كافة أنحاء العالم الإسلامي لتقوية
الرسالة الإعلامية، وإصدار طوابع مالية وبريدية بقِيَمٍ رمزية تُوَجَّهُ حصيلتها
لتحقيق أغراض الإعلام الإسلامي.
10 - حث رجال المال والأعمال المسلمين وأهل الخير على البذل الخيري
في الجانب الإعلامي، وتخصيص وقف إسلامي للعلم والإعلام.
11 - مسارعة المؤسسات الإسلامية وسَبْقُها إلى تعرُّفِ أيِّ مخترع جديد مفيد، والتدرُّب عليه وتهيئة الأشخاص والظروف المواتية للإفادة منه بشكل جدي
وسريع؛ وهذا يستدعي قيام مؤسسة إسلامية لمتابعة ورصد المخترعات والمبتكرات
والمكتشفات وبرامج الكمبيوتر والإنترنيت الجديدة التي تخدم الشعوب الإسلامية.
12 - القيام بوضع أفلام تسجيلية تبرز الدور العلمي للعرب والمسلمين حين
كان الغرب يغط في الظلام، وإبراز دور الأندلس والمشرق العربي أثناء الحروب
الصليبية في بعث الروح العلمية لدى الغربيين؛ وذلك لإعادة الثقة إلى نفوس أبنائنا
وتعريفهم بفضل أمتهم على العالم.
13 - إنشاء مكتبة مركزية عامة (سمعية - بصرية) حكومية ومؤسسية في
جميع المدن والأحياء الإسلامية تساهم في إعارة ونسخ الأفلام والبرامج الجادة
المتفقة مع شريعتنا وتقاليدنا؛ مع عناية هذه المكتبة بإنشاء ملفات إحصائية لما
يُتداول من البرامج الخاصة بكلٍّ من الفيديو والكمبيوتر على المستوى الوطني لكل
بلد من بلدان المسلمين، وإنشاء لجان تربوية مختصة لدراسة هذه البرامج وتقييمها
وتبادل هذه الدراسات بينها.
14 - إنشاء مؤسسة إسلامية عالمية تقوم بإنتاج برامج تلفزيونية تخدم
المسلمين، وتساعدهم على الوصول إلى ما يتطلعون إليه في دينهم ودنياهم،
وترجمة هذه الأفلام (الدبلجة) إلى جميع لغات المسلمين.
15 - إنشاء مؤسسة إسلامية عالمية لإنتاج برامج الكمبيوتر مما يخدم
أغراض المسلمين، ويحقق أهدافهم الدينية والدنيوية.
16 - إنشاء مجلس إعلامي يضم عضواً واحداً على الأقل من كل كلية من
كليات الإعلام في جميع البلدان الإسلامية؛ للتنسيق بينها في مجال المناهج
والمستجدات العلمية في أساليب الاتصال والأخذ بالمفيد منها، ورصد المناهج
المضادة للنهج الإسلامي والعمل على التصدي له.
وبعد إيراد هذه البنود التي أجد أن من الأمانة إبلاغها لمن يدخلون تحت قوله
صلى الله عليه وسلم:) كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته) [1] ؛ فالخطاب بتلك
المقترحات وإن خص أناساً لمواقعهم ودرجة مسؤوليتهم فإنه يعم كل بني الإسلام؛
فحاجة الجميع إلى تربية إسلامية صحيحة أعظم من أن يتلهى عنها أحد في عصر
فَغَرَ فاه ليبتلع كل شيء ويحوله إلى ركام وسماد يُستزرَع عليه طغيان لا ينجو منه
ابن البيضاء ولا السوداء ولا الحمراء ولا الصفراء في عصر عولمة الشر والضنك
والافتئات على خلق الله.
وأخيراً
فإنه لا بد من التذكير بأن تضافر الجهود الخيِّرة، وتآزر الهمم
المتطلعة لسيادة الحق وهزيمة الباطل كفيلة - بعد توفيق الله وتسديده - بأن تصل
بخير أمة أخرجت للناس إلى بر الأمان، وامتلاك ناصية الأمر، وتخليص
الإنسانية من كابوس طغيان المادة، وتحكُّم الذين يسيئون وهم يحسبون أنهم
يحسنون صُنعاً.
__________
(1) رواه البخاري، ح /844، ومسلم، ح / 3408.(145/110)
في دائره الضوء
العولمة بين منظورين
د. محمد أمحزون
إن الصراع الذي يميز التاريخ الإنساني وما يزال هو الصراع بين ضروب
العولمة، أو بين الصور النموذجية للإنسان في الحضارات المختلفة.
والمتأمل في الحِقَب أو الفترات المهمة في التاريخ الإنساني يلحظ أنها كانت
عالمية، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خواصهم على
الآخرين.
وبهذا المعنى؛ فالعولمة فعل تاريخي متواصل، وهو حصيلة المعركة الجارية
بين العالميات أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة
تحدد المثال الإنساني الأعلى.
وفي هذا الإطار فإن (العولمة) صفة لفعل الإنسان الصانع للتاريخ.
عالمية الدعوة الإسلامية:
إن الإسلام منذ أيامه الأولى كان واضح المعالم بأنه دين عالمي غايته تقديم
رسالة الحضارة الإسلامية بوصفها ضرباً [1] روحياً خلقياً ومادياً لا يتنافى فيه
الدنيوي والأخروي تنافياً انقسامياً يجعل الإنسان ممزقاً بين عالمين: أحدهما تحكمه
القوانين الطبيعية الصماء، والثاني تحكمه القوانين الخلقية العزلاء.
ولقد كان واضحاً كل الوضوح في لغة القرآن المكي عالمية الدعوة الإسلامية
وإنسانية هذا الدين الذي يخاطب الإنسان جنس الإنسان بغضِّ الطرْف عن وطنه
وقومه كما في قوله - تعالى -: [إن هو إلا ذكر للعالمين] [التكوير: 27] ،
وقوله - جل ثناؤه -: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين] [الأنبياء: 107] ،
وقوله - جل ذكره -: [وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا] [سبأ: 28] .
وهذا الخطاب موجه للناس كافة في شتى بقاعهم ومختلف أزمانهم، وبكل
أجناسهم وقومياتهم وألوانهم.
وخلال الحوار الذي دار في بيت أبي طالب بين كبار قريش وبين النبي صلى
الله عليه وسلم قال لهم: (كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها
العجم) [2] أي: كلمة لا إله إلا الله.
وفي مطلع السنة السابعة للهجرة باشر النبي صلى الله عليه وسلم عمله في
المجال العالمي حينما أرسل رسله من (الحديبية) يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء
عصره يدعوهم إلى الإسلام، وعلى رأسهم قيصر ملك الروم وكسرى ملك
الفرس [3] .
ثم بدأ بعد ذلك الاحتكاك بالروم البيزنطيين في غزوة مؤتة وتبوك على
مشارف بلاد الشام؛ إذ كانت هذه المنطقة ضمن الإطار الحيوي الاستراتيجي للأمة
الإسلامية.
ولم يلتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى كان العرب
جميعاً قد دانوا بالإسلام، ووضعت الدعوة الإسلامية خطوات ثابتة ومدروسة في
طريق التبليغ العالمي.
وقد ألقيت هذه المهمة الثقيلة على كاهل الخلفاء الراشدين الذين ابتدؤوا
الفتوحات الإسلامية لإنقاذ الشعوب من الاستبداد السياسي والاستغلال المالي والتفكك
الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
خصائص العولمة الإسلامية:
لقد انطلقت العولمة الإسلامية من منطلقات فكرية وعملية قوية، مما جعلها
تلقى القبول لدى الأهالي في البلدان المفتوحة وتتجلى خصائصها في أنها:
- تحمل ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات حسب الشريعة الإسلامية.
- تحرص على بناء مجتمع العدل والقوة.
- تنطلق من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه أو اللون أو
العرق.
- تتخذ الشورى أساساً للنظام السياسي.
- تُربّي الناس على الإبداع والإتقان من خلال دعوتها إلى العمران.
- تجعل العلم فريضة على الجميع لتفجير الطاقات الإنسانية لمواصلة التقدم
والرقي.
الملكية العقارية بين الفرس الساسانيين والخلفاء الراشدين:
لنقتصر على نموذج واحد في المجال الاقتصادي لرصد العلاقة بين أشكال
استثمار الأرض الزراعية في العهد الساساني والتحول النوعي في العهد الإسلامي.
لقد كان الفلاحون في سواد العراق أيام الدولة الساسانية يرتبطون بالأرض،
وجلهم في حالة رق واستعباد، خاصة في ضياع الدهاقين والنبلاء، وتروي
المصادر أن هؤلاء دأبوا على جباية الأموال واغتصابها من أصحابها لتدعيم
مدخراتهم وإثراء كنوزهم، حتى يُروى أن (كسرى خسرو) الثاني اعتلى كرسي
الملك وفي خزينته (2. 68) مليون مثقال ذهبي لترتفع بعد ثلاثة عشر عاماً من
الحكم إلى (800) مليون مثقال ذهبي مما دفع الفلاحين إلى هجر الأرض نتيجة
الإرهاق الضريبي، واللجوء إلى الأديرة طمعاً في الترهب وفراراً من الظلم [4] .
ولكن بعد الفتح الإسلامي اعتُبروا أحراراً، واقتصرت السياسة الإسلامية في
عهد الراشدين على إبقاء الأراضي في أيديهم بدافع تشكيل القوى المنتجة من جهة،
وتحديد مساحات تلك الأراضي بهدف ضبطها فنياً واقتصادياً، مما سهل أعمال
جباية الخراج، وأنصف أصحاب الأرض العاملين فيها من جهة أخرى [5] .
تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا المسيحية:
في ضوء الدور الحضاري المتجدد والمتطور للمسلمين خلال العصر الأموي
والعصر العباسي، أمكن للحضارة العربية الإسلامية أن تقدم مثالاً من الكونية
ونموذجاً من العولمة يتسم بالتأثير على أوروبا المسيحية عبر معابر الحضارة في
الأندلس وصقلية ودمشق وفاس وغيرها من الحواضر الإسلامية تأثيراً إيجابياً؛ إذ
لم يحتكر المسلمون المنهج التجريبي الذي اكتشفوه، بل تركوا المجال مفتوحاً أمام
البعثات الطلابية التي كانت تأتي من أوروبا إلى الحواضر الإسلامية لتستفيد من
الاكتشافات الإسلامية في مختلف فروع العلوم: في الكيمياء، والطب، والهندسة،
والطبيعة، والرياضيات، والزراعة، وعلم الاجتماع، والحسبة.. إلخ، كما
ساهمت أيضاً حركة الترجمة عن العربية - التي كانت لغة العصر - إلى اللغات
الأوروبية وخاصة اللاتينية في نقل مناهج المبحث الإسلامي والكثير من نتائجها
العلمية [6] .
التسامح في التعامل مع غير المسلم:
لقد مثَّل الإسلام فتحاً في تقاليد العولمة من حيث التعامل مع غير المسلم؛ إذ
كان المخالف (المُعارض) في أوروبا يُقتل أو يُطرد؛ بينما جاء الإسلام ليقبل الآخر
المختلف معه في العقيدة أو الدين، ورتب له أوضاعاً قانونية وحقوقية تحفظ له
وجوده، وتحفظ له ممارسة عقيدته، ويكفي أن نعرف أن غير المسلمين الذين
عاشوا في المجتمعات الإسلامية قد ازدهرت حياتهم ولم يعانوا أية مشكلة؛ وعلى
سبيل المثال فإن العثمانيين اتجهوا نحو التسامح مع الأقليات الدينية والعرقية،
وتناقل المسيحيون عبارة قالها (لوكاس ناتوراس) الزعيم الديني البيزنطي في
القسطنطينية حيث قال: (إنه خير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينية من
أن نرى فيها تاج البابوية) [7] .
كما كانت الدولة العثمانية ملاذاً للهاربين من الاضطهاد الديني في أسبانيا وفي
أوروبا؛ يقول المؤرخ البريطاني (توينبي) في هذا الشأن: (إنها لأول مرة في
التاريخ استطاعت أن تتوحد الكنيسة الأرثوذكسية في ظل هذه الدولة التي كانت
استراتيجيتها: (وحِّدْ واحْكُمْ) ، بينما كانت الاستراتيجية الاستعمارية تتبنى مبدأ:
(فَرِّق تَسُدْ) [8] .
الاستعمار ووسائل التغريب:
عندما بدأ التخلف يطرق أبواب العالم الإسلامي لجملة من الظروف لا مجال
لذكرها هنا، وأخذت موازين القوى تميل لمصلحة الأوروبيين مع إرهاصات
النهضة، وبدأت أوروبا تسعى إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل،
فلم ينته القرن التاسع عشر الميلادي إلاّ وقد عظم شأن الاستعمار الغربي واستفحل،
وسقطت أكثر البلدان الإسلامية تحت سيطرته أو نفوذه مستغلاً ضعف السلطنة
العثمانية.
لكن الذي ينبغي ذكره هنا هو أن الاستعمار الغربي يدخل في نطاق العولمة
السلبية؛ لأن مهمته كانت تقتصر على استغلال الموارد الطبيعية، وتوفير المواد
الخام لصناعاته، والأيدي العاملة التكميلية، وتأمين سوقٍ مفتوحة لبضائعه. على
أنه كان ينتظر الوقت الذي يستطيع فيه أن يستغني عن القوة العسكرية والتدخل
المباشر ليعتمد في حراسة مصالحه على ما يسميه: (الصداقة) .
وكان منح الاستقلال للمحميات أو المستعمرات بعد المواجهات الدامية وسيلة
تخدم هدفاً مزدوجاً هو: إيجاد التواصل وإنشاء علاقة مستقرة ظاهرها الود والتفاهم
وأساسها حراسة مصالح المستعمر، وتطوير السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب
(Westernigation) التي تطمح إلى طبع البلدان المختصة بطابع الحضارة
الغربية [9] .
وقد شمل التغريب كل الميادين، فتغلغل في السلوك الفردي، والفنون
والآداب، والمناهج والبرامج والدراسية والإعلام، والاقتصاد، والقوانين ... إلخ.
على أن العولمة الغربية تتكون من المراحل الآتية:
أ - عولمة التصفية الجسدية: ويدخل ذلك في نطاق ما تفعله القبيلة البدائية
الغالبة بالقبيلة المغلوبة. وهو ما فعله همج الغزاة الأوروبيين في أمريكا من تصفية
جسدية لأصحاب الأرض المحتلة (الهنود الحمر) .
ب - عولمة الاستعباد الرقيقيِّ: وقد كانت تتمثل في ضرورة البحث عن حل
لما يترتب على تلك التصفية باستيراد العبيد من القارة الإفريقية لمن يعتقدون في
أنفسهم تمثيل النوع الأرقى (الرجل الأبيض) .
ج - عولمة الاستعمار الاقتصادي: وكانت تتمثل في ضرورة التوسع دون
تصفية واستعباد، لإيجاد مصادر للمواد الخام، والأيدي العاملة التكميلية، وأسواق
مفتوحة للبضائع.
د - عولمة الاستتباع الحضاري: وتتمثل في جعل المستعمَرين توابع
يفضلون بأنفسهم مستعمراً على مستعمر آخر دون حسبان للمصالح، بل يسعون
لنوع من الاندماج الحضاري في قيم الغالب المفضَّل، وهو ما يمكن أن نسميه:
اقتسام العالم إلى مناطق نفوذ ثقافي.
هـ - والمرحلة الأخيرة هي عولمة التصفية الروحية: عندما يصبح التابعون
يجدون في سيدهم المثال الأعلى؛ بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله مع
الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا كذلك إلا بنفي كل ما يميزهم عنه، وهو ما يمكن أن
نطلق عليه: (الانتحار الروحي فيسخرون من لغتهم وأدبهم وتاريخهم وقيمهم؛ وهو
ما يعني إبادتهم الحضارية، وهذا الذي أصبح غالباً على جلّ النخب العربية،
وخاصة التابع منها للمافيات الحاكمة الفاسدة المفسدة) [10] .
خصائص العولمة المعاصرة:
جاءت العولمة (Glabolisation) لتكريس توجه الهيمنة ولتفرض أنماطاً
حضارية جديدة في إطار الليبرالية الجديدة، بهدف تقوية الرأسمالية العالمية وخدمة
مصالحها.
وقد جرى استخدام مصطلح: (عولمة) في هذا العِقْد على نطاق واسع،
وتنبع خطورة هذا المفهوم وأهميته من أنه تحوّل كلية إلى سياسات وإجراءات
عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية
والإعلامية، وأضحى عملية تطرح في جوهرها هيكلاً للقيم تتفاعل كثير من
الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلف شعوب
المعمورة - وخاصة المسلمين - على تبنّي تلك القيم وهيكلها ونظرتها للإنسان
والكون والحياة.
فما هي العولمة إذن في صورتها المعاصرة؟ ...
إنها ظاهرة تتداخل فيها أمور السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك،
وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور تؤثر في حياة الإنسان على كوكب
الأرض أينما كان.
ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة
الجنسيات التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على
المدخرات العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها
كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي [11] .
وهي وسيلة للهيمنة أو هي نمط من الاحتلال الجديد احتلالاً جدد آلياته
وأساليبه بفعل التقدم التقني، فلم يعد قائماً على احتلال الأرض؛ بل أصبح قائماً
على تحويل العالم كلّه إلى سوق استهلاكية للأفكار والمنتجات الغربية، أو بعبارة
أخرى: فهي تمثل عصا استعمارية جديدة بحكومة عالمية خفية لها مؤسساتها:
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولها أدواتها: الجات، والسبعة الكبار.
والولايات المتحدة - مهندسة هذا النظام العالمي الجديد - أخذت بمساندة
احتكارات الشركات متعددة الجنسيات ودعمها في اختراق مجتمعات عالم الجنوب أو
العالم الثالث، وإخضاع شعوبها لأنماط المعيشة الغربية وتحديداً: الأمريكية.
مجالات العولمة:
عولمة الاقتصاد:
قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها دعت الولايات المتحدة حلفاءها
لمؤتمر عقد في مدينة (بريتون وودز) عام 1944م، للتفكير في الأسس التي
سيدار على أساسها النظام الاقتصادي العالمي.
وقد سيطرت على سير أعمال المؤتمر توازنات القوى التي نجمت عن
الحرب، فكان من البدهي أن تصوغ أمريكا للعالم هذا النظام بما يحقق مصالحها.
وقد تمخص هذا المؤتمر عن ميلاد عدد من المؤسسات تشكل في مجملها
الركائز التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الدولي وهي:
- صندوق النقد الدولي، ويقوم بدور الحارس على النظام النقدي العالمي.
- البنك الدولي: ويعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.
- الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة والتي تعرف اختصاراً باسم: (الجات) ، التي تمخضت عن إنشاء المنظمة العالمية للتجارة [12] ، وهي الشريك الثالث
لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية، كما عبّر عن
ذلك مدير عام الاتفاقية (بيتر سذرلاند) [13] .
ويعتبر الهدف الرئيس من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة تمكين الدولة
العضو من النفاذ إلى الأسواق لباقي الدول أعضاء الاتفاقية، وقيام كل دولة بتثبيت
بنود تعريفاتها الجمركية إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية،
بحيث لا يتم تغيير هذا الربط (التثبيت (إلا بعد الرجوع إلى بقية الأطراف
وتعويض المتضررين منها بهذا التغيير [14] .
لكن التفاوت الكبير في القوة السياسية والمنافسة الاقتصادية يجعل بنود
الاتفاقية تصبّ في مصلحة الدول الكبرى؛ فقد أعلنت الولايات المتحدة عزمها على
استغلال حق المطالبة بالتعويض أو فرض العقوبات التجارية في حالة الإخفاق في
الوصول إلى حلّ مع المخالفين.
بل والأخطر من ذلك: أنه لأول مرّة في التاريخ الاقتصادي للأمم تصبح
السياسة التجارية للدول المستقلة شأناً دولياً وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية؛
إذ أصبحت مقيدة بمجموعة من القواعد الملزمة وآليات التحكم الإجبارية؛ حيث إن
منظمة التجارة العالمية تحدّ من قدرة دول الجنوب على التصرف المطلق ضمن
حدودها الوطنية، وتملك حق تشريع قوانين دولية وسلطة قضائية تلاحق الحكومات
التي لا تنصاع لقراراتها، وقوة شرطية تمارس حق التفتيش داخل الدول [15] .
ومن جهة أخرى، فقد وضع الغرب آليات التحكم في الاقتصاد العالمي بناءً
على ثلاثة محاور:
أولها: النظام النقدي العالمي:
من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على وسائل الدفع العالمية؛ حيث يمثل
وسيلة الدفع العالمية المقبولة التي حلّت محل الذهب لتغطية إصدارات معظم عملات
الدول، وبخاصة دول العالم الثالث. وتتحكم في هذا النظام المؤسسات المالية
الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بوضع السياسات النقدية التي تخدم
هيمنة رؤوس الأموال الغربية على اقتصاديات دول الجنوب والكتلة الشرقية بعد
انهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا بزعامة الاتحاد السوفييتي [16] .
ثانيهما: التحكم في حركة رؤوس الأموال:
من خلال أسواق المال العالمية التي تتركز في الولايات المتحدة بالدرجة
الأولى، وأوروبا بالدرجة الثانية، واليابان بالدرجة الثالثة، وهذه الحركة لرؤوس
الأموال تتم السيطرة عليها من خلال السياسات التي تضعها المؤسسات المالية
الأمريكية التي تتحكم بدورها في المؤسسات المالية الأوروبية واليابانية من خلال
تملّكها لمعظم أسهم تلك المؤسسات.
ومن أجل ذلك نجد الدعوة التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية بتشجيع
التخصيص، وبالسماح لرؤوس الأموال الأجنبية بتملك أسهم الشركات والسندات
التي تصدرها الحكومات المحلية، ما هي إلا وسيلة لتحقيق الهيمنة الاقتصادية
الغربية على اقتصاديات تلك الدول [17] .
وقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم الإسلامي
على إعادة هيكلة اقتصادياتها وفقاً لهذه السياسة الليبرالية، فاتجهت هذه الدول إلى
الخارج لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال استخدام
آليات السوق الحرة، وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح للملكية العامة وزيادة
الفوارق الاجتماعية، ورهن أجيال المستقبل بالديون الخارجية.
ثالثها: الشركات متعددة الجنسيات:
وهي تمثل أهم مظاهر عولمة الاقتصاد، والإحصاءات الآتية توضح مدى
خطورة تمركزها الرأسمالي:
- إن إيرادات أكبر خمسمائة شركة في العالم بلغ في عام 1994م نحو (10)
تريليون و (254) مليار دولار، أي ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي لدول
العالم في سنة 1993م.
- إن مبيعات أكبر 200 شركة تجاوزت مداخيل اقتصاديات (182) دولة ما
عدا أكبر [9] دول؛ فقد وصل دخل (182) دولة إلى مستوى (6. 9) تريليون
دولار، بينما وصلت مبيعات أكبر (200) شركة إلى (7. 1) تريليون دولار.
- إن حجم المبيعات لأكبر ثلاث شركات متعددة الجنسيات (إكسون، شل،
موبيل) عام 1980م فاق حجم الإنتاج الوطني الإجمالي لكل دول العالم الثالث عدا
سبع دول: (الصين، البرازيل، الهند، المكسيك، نيجيريا، الأرجنتين،
أندونيسيا) .
- في عام (1996م) تعدى حجم المبيعات السنوية لأكبر (20) شركة (67)
مليار دولار.
أما بالنسبة لكل شركة على حدة:
- فليب مورس التي احتلت المركز (69) ؛ فإن حجم مبيعاتها تجاوز حجم
اقتصاد نيوزيلندا، ولها فروع في (170 دولة) .
- متسوبيشي: المركز (22) : حجم نشاطاتها الاقتصادية أكبر من حجم
النشاط الاقتصادي لأندونيسيا التي تحتل المركز الرابع على المستوى العالمي من
حيث تعداد السكان.
- جنرال موتورز: المركز (26) : أكبر من الدانمارك في حجمها الاقتصادي.
- فورد: المركز (31) أكبر من جنوب إفريقيا اقتصادياً.
- تويوتا: المركز (36) : أكبر من النرويج في نشاطها الاقتصادي.
وجدير بالإشارة أن مجال عمل هذه الشركات تجاوز الميدان الاقتصادي إلى
العمل على التأثير في القرارات السياسية وثقافة الناس وطرائق عملهم، مما جعل
كثيراً من الاقتصاديين والمهتمين بظاهرة هذه الشركات يخلُص إلى أنها نوع من
الاستعمار بأسلوب يناسب وعي الشعوب وتطورها.
وكانت طموحاتها التجارية محفوفة بالنتائج الدبلوماسية العالمية في عقود
الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ونذكر على سبيل المثال: الدور الذي قامت
به الشركة الأمريكية [14] في أحداث 1972م في الشيلي التي أدت إلى سقوط نظام
(سلفادور إلَّندي) ذي التوجه الماركسي، أو العمل الذي قامت به (British
feroling) عام 1953م في إسقاط حكومة (مصدق) في إيران حين أمّم مصافي
النفط وآباره.
وفي عام 1997م شاركت (إلف الفرنسية) التي تسيطر على ثلثي إنتاج النفط
في الكونغو في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب (باسكال ليسوبا) ؛ لأنه أراد
كسر عملية الاحتكار التي تقوم بها (إلف) بالتفاوض مع شركات النفط الأمريكية.
بل في بعض البلدان كنيجيريا، فإن شركة النفط (شل) هي الحكومة الفعلية؛
ففي مقابلة مع (د. أوين سراويو) شقيق (كن سراويو) الذي أعدمته السلطات
النيجيرية بسبب انتقاده لشركة (شل) ، سألته مجلة (ملتنشيونال مونتر) في عددها
الصادر في يوليو 1996م السؤال الآتي: إذن (شل) هي التي تحكم وليست
الحكومة؟ فأجاب: نعم (شل) بطبيعة الحال هي التي تحكم فعلياً، هذا معروف جداً
(أي في نيجيريا) [18] .
ويقول (بيير أوجين) رئيس منظمة الشفافية العالمية، وهي منظمة تهتم
بمراقبة الفساد المالي والإداري على المستوى العالمي: (إن نسبة كبيرة من الفساد
المنتشر في دول العالم الثالث هي من صنع الشركات المتعددة الجنسيات التي تتركز
مقارها في الدول الصناعية، وتعمل على تقديم رشاوى كبيرة لمسؤولي الدول
المختلفة من أجل الفوز بالصفقات) [19] .
العولمة الإعلامية والثقافية:
لقد تطور الإعلام بدرجة أدت إلى غزو جميع ميادين الأنشطة البشرية؛ حيث
وُجدت بنيً أساسية عالمية تنتشر وكأنها نسيج عنكبوتي يمتد عبر العالم أجمع،
مستفيداً من التقدم الحاصل في تقنية الرقميات وثورة المعلومات، ومن التداخل
الحاصل بين قطاعات الاتصال والهاتف والتلفاز والحاسوب وشبكة المعلومات
الدولية (إنترنت) .
ونظراً للترابط القوي بين عولمة الثقافة ووسائل الإعلام، فإن الإحصاءات
تشير إلى أن الاتصالات اللاسلكية تمثل سوقاً تُدرّ (525) مليار دولار سنوياً، وأن
هذه السوق تزداد بنسبة 8 إلى 12% سنوياً.
ففي عام 1985م بلغ الوقت الذي استهلكه مستخدمو الاتصالات في العالم على
شكل إرسال معلومات أو حديث أو فاكس (15) مليار دقيقة. وفي عام 1995م بلغ
(60) مليار دقيقة [20] .
ولأهمية قطاعات الاتصال في نشر وترويج أنماط معينة من الثقافة، قامت
الولايات المتحدة بوضع ثقلها كله في معركة تحطيم الحواجز لتصبح الاتصالات
قادرة على الانتقال دون عوائق تُذكر عبر العالم كلّه، كالريح فوق صفحة
المحيطات.
ومن أجل ذلك انعقدت أربع مؤتمرات دولية (جنيف 1992م، بيونس أيرس
1994م، بروكسل 1995م، جوهانسبورج 1996) نجح خلالها الأمريكان من
تسويق فكرتهم حول: (مجتمع المعلومات العالمي) والضغط لفتح حدود أكبر عدد
ممكن من البلدان أمام التدفق الحرّ للمعلومات [21] .
ولعل هذا هو ما حدا بباحث من وزن (نعوم تشومسكي) الأكاديمي الأمريكي
المعروف أن يقول: (إن العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام
تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف أي على العالم كله) [22] .
ونلاحظ هذا من خلال قطاع الاتصالات الثقافية للنظام العالمي الذي أخذ
يتطور طبقاً لتدفق المعلومات من منطقة المركز - الولايات المتحدة؛ أول منتج
للتقنية الحديثة - إلى الأطراف - دول العالم الثالث خاصة - وهو ما يؤيده انتشار
لغة بمفردها هي اللغة الإنجليزية.
وفي هذا الإطار عبّرت دول متقدمة داخل المنظومة الحضارية الغربية نفسها
مثل: فرنسا، وكندا (مقاطعة كيبيك) عبرت عن التوجس الشديد من المخاطر
الناجمة عن الهيمنة الأمريكية على الإعلام والثقافة تحت ستار العولمة؛ إذ إن
وسائل الإعلام الأمريكية تسيطر في الواقع على 65% من مجمل المواد والمنتجات
الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية، بل إن فرنسا تقاوم سيطرة اللغة
الإنجليزية على شبكة الإنترنت؛ وذلك لأن 95% من حجم تداول المعلومات
والاتصالات على الإنترنت باللغة الإنجليزية، في حين أن 2% فقط باللغة الفرنسية.
وفي هذا الصدد يقول وزير العدل الفرنسي (Jack tobon) : (إن الإنترنت
بالوضع الحالي شكْل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في
خطر) [23] .
ولذلك رفعت فرنسا خلال مناقشات ثقافة (الجات) الأخيرة شعار: (الاستثناء
الثقافي) .
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج
الإعلامية والتلفاز إلى حدّ دعا بعض الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين
أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية [24] .
ولعل تمكُّن الولايات المتحدة من تدعيم هيمنتها على العالم عبر قدرتها على
التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال هو ما دفع الباحثين إلى التعبير
عن العولمة أنها: (أمركة) ؛ إذ تستهدف بشكل خاص إشاعة وتعميم وتسييد
أسلوب الحياة الأمريكية وقيمها من خلال:
1 - قرية المواصلات الأمريكية.
2 - وحدة السوق الأمريكية.
3 - حضارة الاستهلاك الأمريكي.
4 - وحدة النمط المعيشي.
5 - الديمقراطية الأمريكية [25] .
وهذا التصور يعبر عنه بوضوح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بقوله: (إن
أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً
مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) [26] .
وتنبع خطورة عولمة الإعلام من كونها وسيلة للسيطرة على الإدراك وتسطيح
الوعي وتنميط الأذواق وقولبة السلوك، وهدف ذلك كلّه هو تكريس نوع من
الاستهلاك لنوع معين من المعارف والأفكار والسلع تشكل في مجموعها ما يطلق
عليه د. محمد عابد الجابري: ثقافة الاختراق.
ونختم هذا الحديث عن العولمة الإعلامية والثقافية بكلام أحد الباحثين الغربيين
في كتابه: (تغريب العالم) ينقل لنا فيه كيف تتم عملية الغزو الثقافي في بلدان
العالم، يقول: (ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية،
يتدفق على شكل صورة.. كلمات ... قيم أخلاقية، قواعد قانونية ... مصطلحات
سياسية ... معايير ... كفاءة ... ينطلق كل ذلك ليجتاح بلدان العالم الثالث من خلال
وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتلفزيونات، وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية، ينطلق عبر سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات
العالمية الأربع: أسوشيتدبريس ويونايتدبريس (الولايات المتحدة) ، رويتر
(بريطانيا) ، وفرانس بريس (فرنسا) ، وتسيطر الولايات المتحدة على (65%) من
تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين - أو بتعبير
اخر: الأسرى السلبيين - يشكل أنواع سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط
حياتهم، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضمِّ من الغزو؛ لأن مواد الغزو
تُصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعينة) [27] . ومن المؤكد أن
المستهدَف خاصة بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون: العرب منهم خاصةً،
والمسلمون عامة، وذلك لعاملين اثنين:
أولهما: ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز
وثروات طبيعية أخرى.
ثانيهما: ما ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن هذه الأمة
مستعصية على الهزيمة إذا حافظت على هويتها الإسلامية، ومن ثم فالطريق الوحيد
هو القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل
أشكال الاحتلال والسيطرة.
العولمة الاجتماعية:
تتحدد معالم هذه العولمة ومظاهرها من خلال مؤتمرات دولية كان الغرض
منها تأطير الأنماط السلوكية الشاذة التي تتعارض مع الفطرة الإنسانية ونشرها،
والتسلُّل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية الغربية.
ففي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1994م عُقد في القاهرة المؤتمر العالمي
للسكان والتنمية، وفي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1995م عقد في بكين مؤتمر
المرأة، وفي شهر يونيو (حزيران) 1996م انعقد في إستانبول مؤتمر الإيواء
البشري.
وهذه المؤتمرات أطَّرتها منظمة الأمم المتحدة، وهي الذراع التنفيذي
لمخططات الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا.
وإن كانت الشعارات التي دأبت الأمم المتحدة على رفعها وفق دعايتها هي
تحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والاجتماعية، لكن حقيقة
الأمر بخلاف ذلك؛ بل إن هذه المؤتمرات أداة ووسيلة تستخدمها الليبرالية الجديدة
للسيطرة على العالم فكرياً واقتصادياً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي، واستبعاد
الجوانب الأخلاقية في السلوك الاقتصادي وفق منظور خاص يخدم مصالحها
الأيديولوجية والاقتصادية.
على أن الإجراءات التنفيذية التي رسمتها هذه المؤتمرات تدل دلالة واضحة
على ذلك؛ ففي مؤتمر الإيواء البشري في إستانبول تم الاتفاق على مجموعة من
الالتزامات تتضمنها وثيقة المؤتمر منها:
أ - التأكيد في البنود رقم: 140، 147، 150 من الوثيقة على ربط
(السلطات المحلية) بالسوق المالي الدولي، ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون
البلدية، مع العمل على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي بالنمو والمساهمة
في بناء البنية التحتية لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضارية [28] .
ب - تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية،
وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع
العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند رقم 56 من
الوثيقة) [29] .
ج - توسيع نظام الإقراض، وتمكين المؤسسات المالية العالمية من التغلغل
في دول العالم الثالث من خلال عمل شبكة من البنوك، وربط تمويل توفير المباني
والبنية التحية لمشاريع الإسكان بالإقراض الخارجي (البند رقم 30) [30] .
ويتضح من خلال هذه البنود أن ما يحصل من أساليب إجرائية متعددة
الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين لمراكز النظام الرأسمالي من
إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص قواها طبقاً لمنطق تراكم رأس
المال في تلك المراكز. والأخطر من ذلك أن هذه الإجراءات تؤدي حتماً إلى تآكل
السيادة الوطنية التي تعدّ عاملاً كبيراً من عوامل تميز الهوية القومية للشعوب والأمم.
والحقيقة التي يجب أن تُذكر هنا هي أن هذه الأوضاع الجديدة ستعمق الهوة
بين الفئات الاجتماعية وتزيد من معاناة الفقراء والمعوزين في مجتمعاتنا، ذلك أن
آليات السوق التي تقوم عليها الفكرة الأساس للرأسمالية أو الليبرالية هي: أن من لا
يستطيع كسب قوته يجب أن يموت؛ فهناك أصوات في الغرب تنادي بأن المليار
من فقراء العالم الثالث زائدون عن الحاجة؛ وعليه فلا مسوِّغ لوجودهم ولا حاجة
إليهم ضمن مفهوم فلسفة: البقاء للأقوى.
ولذا نجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض،
وقتل العَجَزة، وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية التي ما هي
إلا نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية [31] .
أما في مجال الأسرة التي تعدّ النواة الرئيسة لبناء المجتمع فنجد أنفسنا في
مؤتمر بكين للمرأة أمام توصيات تدعو إلى نشر التعليم الجنسي، وإدماج كل أشكال
الانحراف من الزنا إلى الشذوذ لتصبح أوضاعاً طبيعية [32] .
وقد تم تعبيد الطريق لهذه التوصيات لتتحول إلى قرارات ملزمة في مؤتمر
الإيواء البشري الذي انعقد بعد ذلك بسنة في إستانبول؛ حيث ينص البند رقم (18)
من وثيقة المؤتمر على شمول الإيواء لمختلف أشكال الأُسَر؛ والمقصود من ذلك
منح الشاذين جنسياً الذين يكوِّنون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين
الرجال والنساء الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية منحهم جميعاً مساكن
للإيواء [33] .
وفي الختام أقول: إن أخطر أنواع العولمة هي تلك (العولمة الطوعية) التي
يدخل فيها الفرد باختياره وبملء إرادته؛ إذ توجد عولمة لا شعورية تلقائية يصل
فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي، ولعل
ذلك هو ما يقرره ابن خلدون في (مقدمته) أن المغلوب مولَع بتقليد الغالب.
لذلك ينبغي أن نفرِّق بين هزيمة الجيوش في ساحة المعارك، وانكسار الأمم
والشعوب في مجال الأفكار والقيم؛ إذ إنّ الأولى في بُعدها العسكري هي تعبير عن
طبيعة الحروب؛ فالمعارك ما هي إلا كرّ وفرّ وفقاً للسنة الإلهية: [وتلك الأيام نداولها بين الناس] [آل عمران: 140] . أما انكسار الأمم وهزيمة الشعوب النفسية فهي قاصمة الظهر.
ولعلّ ذلك ما علمتنا إياه تجربة التاريخ في حروب الفرنجة: (الحروب
الصليبية) ؛ فعلى الرغم مما حققته تلك الحروب خلال غزواتها المتعددة ومكوثها
في بلادنا بين القرنين السابع والتاسع للهجرة الموافق للقرنين الثاني عشر والثالث
عشر للميلاد، فقد استطاعت تلك الحملات الهمجية أن تُعمِلَ السيف في رقاب مئات
الألوف، واستطاعت أن تمزق وتجزِّئ وتفسد في الأرض الإسلامية، ولكن الشيء
الذي لم تستطع أن تفعله هو تخريب النمط العقدي والفكري والاجتماعي والحضاري
ذي الطابع الإسلامي للبلاد؛ وهو الأمر الذي أبقى السلطة الفرنجية خارج المجتمع، على الرغم من أن حربها وسيوفها تغلغلت في داخل المجتمع الإسلامي.
لقتد أثبتت تلك التجربة أن الإسلام حين يبقى في قلوب الناس وفي شرايين
حياتهم يشكل حالة مقاومة مستمرة تجعل الاحتلال أمراً مرفوضاً ومؤقتاً مهما بلغت
سطوته ووصلت درجة قوته.
ولعل هذا ما يفسر موقف نابليون حين اجتاح مصر بجيوشه؛ فقد وجد نفسه
في وجه (صَدَفَة مغلقة) لم يستطع أن ينفذ إلى داخلها، ولهذا تظاهر بإعلان إسلامه
كذباً حتى يجد له مكاناً في الداخل ليجعل حكمه أمراً قابلاً للاستثمار.
وهكذا كل محتل في ظل العولمة لا بد له من تحطيم مقومات المجتمع الأصلي
(ثوابت، مبادئ، قيم) ثم استحداث مجتمع آخر مكانه يحمل الرؤى الحضارية
نفسها؛ وذلك لأن الهمينة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطَّم المقومات العقدية
والحضارية، وتحلّ محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع الاستهلاكي
التابع، وبذلك تدخل الشعوب في مضمار العولمة الطوعية، وهي أخطر أنواع
العولمة [34] .
ومما لا ريب فيه أنّ المخرج من هذه التبعية التي تكرسها العولمة يوماً بعد
يوم ينحصر في أمرين:
الأول: هو استعادة الوعي بالهوية الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من
الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي
لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات وتدمير البنية التحتية العقائدية
والفكرية التي تحفظ للأمة تحصينها واستقلالها، علماً بأن الهوية تعتبر الآن عنصراً
هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول
الأخرى.
والمطَّلع على خطط الدول سواءاً الأمنية أو التنموية يلحظ أن مسألة الهوية
تحظى بعناية خاصة؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها
وقيمها الحضارية.
والثاني: الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال نقل التقنية وعلوم
الوسائل حرصاً على امتلاك القوة في المجالات الاقتصادية والإعلامية والعسكرية
لدعم التنمية الشاملة في بلادنا، وذلك بالربط المباشر بين السياسات الفعلية
والتربوية وبين سياسات التنمية الشاملة في تلك القطاعات، لتفجير الطاقات الكامنة
في المجتمع.
فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو
بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير: ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن اللغة والتاريخ
وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر مع خلق
المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.
والنموذج الآسيوي (خاصة الياباني) خير مثال على ذلك؛ فاليابان بدأت
الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان أولاً، ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاتها
وضروراتها، وليس بالنسبة لكمالياتها وشهواتها. فالفارق العظيم بين صلة اليابان
بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقفت من الحضارة موقف التلميذ،
ووقفنا منها نحن موقف الزبون! إنها استوردت منها الآليات والوسائل بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص.
والأمة العربية الإسلامية إذا أرادت التقدم ورغبت أن تدخل حلبة السباق
الحضاري فإنه لا سبيل لها إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتستفيد مما عند
الغرب من تقدم مادي وعلمي، وفي الوقت ذاته تحذر من الذوبان في شخصية
الغرب وهويته، وتتفاعل مع قيمها وهويتها الإسلامية.
__________
(1) الضرب: النوع.
(2) ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ج2، ص27.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ج12، ص112.
(4) نقلا عن: عبد المجيد قدي: قراءة في واقع تخلف العالم الإسلامي، ص82.
(5) انظر: أبو يوسف: كتاب الخراج، ص3638.
(6) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، وزيغرد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب.
(7) محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص71.
(8) محمد كمال منصور: توظيف ورقة الأقليات في العالم الإسلامي (حالة تيمور الشرقية) ، ص71.
(9) محمد محمد حسين، الإسلام والحضرة الغربية، 41، 42، 45، 46.
(10) أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص19.
(11) عمرو عبد الكريم: العولمة، عالم ثالث على أبواب قرن جديد، ص 35.
(12) المرجع نفسه، ص40.
(13) ياسر قارئ: اتفاقية التجارة العالمية (gatti) ، ص7.
(14) عمرو عبد الكريم: العولمة، ص40.
(15) المرجع نفسه، ص39.
(16) محمد بن عبد الله الشباني: مؤتمر القاهرة الاقتصادي، ص3132.
(17) المرجع نفسه، ص32.
(18) أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد (الشركات متعددة الجنسيات) ، ص 2223، (نقلا عن: الشقيقات السبع: شركات البترول والعالم الذي صنعته لأنتوني سمبسون) .
(19) أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد، ص2729 (نقلا عن مجلة ملتنشيونال مونتر) .
(20) المرجع نفسه، ص29.
(21) عمرو عبد الكريم: العولمة نص42.
(22) المرجع نفسه، ص43.
(23) المرجع نفسه، ص43.
(24) المرجع نفسه، ص43.
(25) أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص27.
(26) ندوة: هويتنا الإسلامية، الشيخ محمد بن إسماعيل، مجلة البيان، العدد129، ص46.
(27) ندوة: هويتنا الإسلامية، الشيخ محمد بن إسماعيل، مجلة البيان، العدد129، ص46.
(28) المرجع نفسه، د مصطفي حلمي، ص55 (نقلا عن: لا توش: تغريب العالم) .
(29) محمد بن عبد الله الشباني: العولمة الاقتصادية ومؤتمر الإيواء البشري، ص98.
(30) المرجع نفسه، ص98.
(31) المرجع نفسه، ص98.
(32) المرجع نفسه،ص100.
(33) محمد يحيى: تدشين الأممية النسوية العلمانية (قراءة خلفيات مؤتمر المرأة ببكين) ، ص98.
(34) محمد بن عبد الله الشباني: العولمة الاقتصادية، ص97.(145/118)
قضايا ثقافية
البراجماتية
نشأتها وأثرها على سلوك المسلمين
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري
ابتُليت الأمة الإسلامية عبر تاريخها بتيارات هدامة تسعى إلى الفتك بجسمها
وتشتيت فكرها وإهدار كرامتها، وتمزيق هويتها، والحيلولة بينها وبين الوصول
إلى أهدافها وغايتها. وقد تدرجت تلك التيارات في خطورتها وضلالتها كما تدرجت
وتباينت في خفائها وتلبيسها على أبناء هذه الأمة. وإن من تلك التيارات التي بدأت
تتشكل وتستشري بين أفراد هذه الأمة ومثقفيها (التيار البراجماتي) الذي يدعو إلى
الذرائعية، وتمييع المفاهيم، وتقديس الواقعية، وتسويغ الوسائل للوصول إلى
الغايات العملية. هذا الفكر الدخيل وجد أتباعاً ومريدين بل ودعاة ومروجين له ولو
لم يسمعوا به من قبل أو يخطر لهم على بال. وهذا البحث المختصر يلقي الضوء
على نشأة هذا التيار وأسباب انتشاره وأثره على سلوك المسلمين وتوجهاتهم الأدبية
والإعلامية والاقتصادية.
ما هي البراجماتية؟
إن البراجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني براجما (Pragma) ، وتعني (العمل) . وعرفها قاموس ويبستر العالمي (Webster) (بأنها تيار فلسفي أنشأه
شارلز بيرس [1] (eirce) ووليام جيمس [2] (William James) يدعو إلى أن
حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العلمية) [3] .
أما ديوي [4] (Deey) فقد وصف البراجماتية بأنها (فلسفة معاكسة للفلسفة
القديمة التي تبدأ بالتصورات، وبقدر صدق هذه التصورات تكون النتائج، أما
البراجماتية فهي تدعُ الواقع يفرض على البشر معنى الحقيقة، وليس هناك حق أو
حقيقة ابتدائية تفرض نفسها على الواقع) [5] .
وكما يؤكد جيمس الذي طور هذا الفكر ونظر له في كتابه (البراجماتية)
(Pragmatism) ، فإن البراجماتية لا تعتقد بوجود حقيقة مثل الأشاء مستقلة عنها
. فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير كما أن الخير هو منهج للعمل والسلوك؛ فحقيقة
اليوم قد تصبح خطأ الغد؛ فالمنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية ليست
حقائق مطلقه، بل ربما أمكننا أن نقول: إنها خاطئة [6] .
ما بين العلمانية والعقلانية:
يخلط من يعتبر البراجماتية مصطلحاً مرادفاً للعقلانية؛ فالبراجماتية تقرر أن
الحقيقة أو التجربة أو الواقع يتغير، أما الواقع والحقيقة في نظر العقلانية فهي قائمة
منذ الأزل؛ فبمقدار ما ينظر العقلانيون إلى الماضي يعتد البراجماتيون بالمستقبل
وحده. أما العلمانية أو (اللادينية) بتعريفها العلمي الدقيق فقد كانت، وما تزال منهجا ...
فكرياً هداماً تسللت من خلاله أفكار الغرب وقيمهم التي حملها وكان من أخلص
دعاتها بَعْضٌ من أبناء هذه الأمة وفلذات كبدها. إلا أن تيار الصحوة الإسلامية الذي
اجتاح بفضل الله ورحمته بقاع الأرض تصدى لهذا الفكر الفاسد وعرَّى دعاته ورد
كيد مروِّجيه؛ فلم يعد للعلمانية في عدد من ديار المسلمين التي نضجت فيها
الصحوة ونمت وأثمرت مشاعل خير وهدى، لم يعد لها بريق أخاذ كما كانت في
الماضي؛ فقد أصبحت الأصوات المنادية بأفكارها نشازاً، ودعاتها منبوذين،
واستبانت للجماهير (سبيلُ المجرمين) وطرقُهم. فلم يعد مقبولاً في أكثر بلاد
المسلمين أن ينعق أحد بالقول: (ما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟) ، (وما للإسلام
وزي المرأة؟) ، (وما للإسلام والأدب؟) ، (وما للإسلام والاقتصاد؟) . لكن
هذه الأصوات تجد آذانا صاغية بل وأتباعاً ومريدين ومؤيدين حينما تنهج الفكر
البراجماتي فتقول: (إنه لا بأس بوجود القنوات الفضائية العربية الماجنة طالما أنها
تصرف المشاهدين المسلمين عن القنوات الكفرية المنحلة) ، أو تنادي بأن التمكين
في الأرض واستخلافها يسوِّغ بعض الربا إذا ما أدى إلى انتعاش موارد الأمة وقوة
اقتصادها. كما أنه ليس في بعض الكفر والإلحاد بأس إذا ما أنتج الأدب إبداعاً
ثقافياً مميزاً. فهذا المذهب الذرائعي البراجماتي ربما كان مطية يمتطيه أصحاب
الفكر العلماني للوصول إلى مآربهم وأهدافهم في تمييع شرائع الدين ونقض أصوله
وثوابته.
والحق أن البراجماتية على هذا النحو تعد أكثر خطراً على سلوك المسلمين
وعامتهم من العلمانية في وقتنا المعاصر. كما أن دعاتها الذين استمرؤوا هذا الفكر
ودافعوا عنه، وروجوا له وحسنوه في أعين الناس، وارتضوه معتقداً ومنهجاً
لسلوكهم ليسوا مجرد عُصاة، بل مبتدعة ومحدثون يسري فيهم قول المصطفى
صلى الله عليه وسلم: (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى
يوم القيامة) [7] وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) [8] . وهم أشد من مرتكبي المعاصي
المقصرين والمعترفين بذنوبهم وآثامهم، فكما قال سفيان الثوري: (البدعة أحب
إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها) [9] .
فخطرهم قد امتد إلى كثير من نواحي الحياة ولم يقتصر على السلوك
الشخصي لأبناء الأمة بل تجاوزه إلى التغلغل إلى معاملاتهم الاقتصادية وتوجهاتهم
الأدبية ومناهجهم السياسية ومنطلقاتهم الإعلامية.
البراجماتية في الأدب:
إن التزام المسلم فيما يكتب ويقول يعد مبدأ هامّاً من المبادئ المقررة في
الشريعة وهو (الالتزام) الذي تدعو إليه أدبيات الدعوة، وسيرة السلف الصالح.
فحياة المسلم وأفكاره ومنطلقاته لا تسير عبثاً ولا تتشكل ارتجالاً، بل قوامها
ومرجعها الثوابت الأساسية والشرائع الربانية التي تعد الإطار العام الذي ينظم
للمسلم منطلقاته وتوجهاته العلمية والأدبية والسياسية والاقتصادية وسائر حياته
العامة.
والناظر إلى المذاهب الأدبية المتعارضة والمتناقضة يجد أنها كانت نتاج
أزمات وردود أفعال زمنية مَرَضِيَّة مرتبطة بالحالات والأزمان التي عايشتها. لذا
فقد ظهرت تلك الأفكار ونمت تلك الاتجاهات الأدبية المريضة وما يقابلها من
اتجاهات معاكسة وانبثقت من المجتمعات التي تسودها الأنانية المطلقة والحرية
الفردية التي تقدس الوحدوية، وتسعى إلى نقل ذلك التقديس الفردي إلى ما يصدر عن
ذلك الفرد من أقوال لا ترتبط بثوابت ولا بقيم.
وقد كان للاتصال بالغرب والتتلمذ على أيديهم الأثر الكبير في تبني تلك
المذاهب الأدبية المنحرفة، فبدافع الواقعية أو البراجماتية في الاستفادة من العلوم
الغربية ومحاكاة الغرب والتنافس معه في طلب العلم والمعرفة أقبل الأدباء
والمفكرون المسلمون على تبني تلك المناهج الأدبية المنحرفة وسايروا توجهاتهم
الفكرية والأدبية، ونقلوها على علاتها وأسقامها، فظهر المتبنون للمناهج الأدبية
التي منها تلك المناهج التي تجعل كاتب النص أو مستقبله يترفع عن المبادئ والقيم
التي تحكم المجتمع، فيقرأ المستقبل للنص وهو يشارك القائل الحرية في معناها
الإنساني دون أن يكون للنص علاقة بصاحبه أو بمظاهر الحياة أو قيمها التي تسود
في ذلك الزمن الذي صدر فيه النص. كما ظهر أولئك المسايرون للمذاهب الحداثية
في دراسة النصوص، فاعتنوا بالشكل دون المضمون، وأصبحت دراسة النص
لديهم تنْحو المنحى التحليلي المعتمد على الدلالات والرموز والطلاسم والإشارات
المتحررة من جميع النزعات الدينية أو السياسية أو المذهبية، وتخلَّوْا عن
مصطلحات النقد العربي إلى المصطلحات الغربية ليضفوا على توجهاتِهم الشرعيةَ
والعلميةَ فتحوَّل المجاز في اللغة إلى (انحراف) ودلالات الألفاظ إلى ... (سيميوتيكا) [10] والإشارات الموحية إلى (سوسيولوجيا) [11] وقواعد اللغة إلى زوايا وخطوط، وتقاطعات وتداخلات هندسية، وحلت هذه المصطلحات محل ... مصطلحات النقد الأدبي الموروث ليختلط بذاك المعنى مع التركيب مع الدلالة ولتصبح إبداعاً وابتكاراً وتجديداً يختلط فيه الصحيح مع السقيم والحق مع الباطل والخير مع الشر دونما رابط، أو محدد أو إطار ينظم ذلك الإبداع ويقوِّمه. ...
البراجماتية في الإعلام:
خلافاً للأدب الذي كانت بداياته وأصوله الإسلامية حسنة منذ زمن طويل،
فإن ولادة الإعلام في كثير من بلاد المسلمين كانت على يد المستعمر الأجنبي الذي
أنشأ تلك الوسائل الإعلامية التي من أهدافها أن تديم وتبقي استعماره، وترسخ
سيطرته وسطوته؛ ولذلك فقد كانت منطلقات الإعلام وأهدافه لا تمت بصلة لخدمة
قضايا الأمة، ولا ترتبط بتراثها الأصيل؛ فالإذاعة على سبيل المثال بدأت في
بلادنا العربية كمحطات أهلية صغيرة متفرقة في مصر هدفها خدمة الاستعمار، فلما
تحولت إلى مؤسسات حكومية ظلت تقلد الغرب وتعتمد على الترجمة والاقتباس
والنقل الأعمى لما تبثه إذاعات الغرب ووسائله، وهكذا كان الحال في معظم البلاد
العربية والإسلامية، وما يسري على الإذاعة يسري كذلك على التلفاز والمسرح
والسينما التي تنافست في تشتيت هوية الأمة، وإهدار فكرها، وتمزيق وحدتها،
وإفساد أخلاقها.
وعلى هذا فقد بُني أغلب إعلامنا لخدمة الغرب ومبادئه، وغلب عليه
الانفصام بين الدين والدنيا، والبعد عن الأصالة، والإيغال في التقليد الأعمى، ولم
تكن الحركات الإصلاحية الرسمية ذات أثر فعال سوى فيما يحقق أهدافها ومآربها
من توجهات إعلامية ترضيها، وتعمل على تقديسها وإضفاء الشرعية المطلقة
لأحكامها وأوامرها.
ولما هيأ الله لهذه الأمة صحوة مباركة أيقظت أبناءها من السبات العميق،
والغفلة الغارقة أدرك المصلحون الحاجة إلى صياغة أخرى للإعلام الإسلامي وخدمة
قضايا الأمة وأهدافها السامية؛ حينها ظهرت المحاولات الجادة (لأسلمة) الإعلام،
وجعله أداة داعية إلى الخير العام للإنسانية، ومعيناً على عمارة الأرض
والاستخلاف فيها، ومحققاً للعبودية الخالصة لله عز وجل كما قال - تعالى -: [قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين] [الأنعام: 162] ، وظهر
في الساحة الإسلامية أولئك المتبنون والمتحمسون لتقديم إعلام إسلامي رزين،
يكون بديلاً لتلك المعاول الهدامة والوسائل المفسدة، ولكنها لم تكن سوى بدايات
متواضعة واجتهادات بسيطة أمام ذلك الفساد الجارف، ونشأ بين هؤلاء وأولئك
البراجماتيون الذين خلطوا السم بالدسم ليقدموا إعلاماً هجيناً مشوَّهاً يختلط فيه الحق
بالباطل والخير بالشر؛ فظهرت تلك الصحف والمجلات والقنوات الفضائية التي
جعلت الترويج والترفيه هدفاً أساساً وغاية كبرى للإعلام الإسلامي البديل، فخلطت
المفاهيم، ومُيِّعت القضايا باسم الإسلام ونصرته ونشر مبادئه السمحة؛ فليس هناك
غضاضة لدى القائمين عليها من أن تعرض تلك القنوات أفلاماً عربية ساقطة
ومفسدة للأخلاق بحجة أنها البديل الأفضل والأهون ضرراً على المشاهد العربي
المسلم من تلك الأفلام الأجنبية الغربية الخليعة. كما أنه لا بأس في عصر الحضارة
والتقدم أن تنبري بعض الماجنات والمتغربات مظهراً ومخبراً لتقديم الفتاوى
الإسلامية ومناقشة القضايا الدينية والاجتماعية في حياة أبناء وبنات هذه الأمة.
فكان هذا التوجه البراجماتي الخطير نذير شؤم على تصحيح مسار الإعلام الإسلامي
النبيل، فدعاته هم أولئك الذين يملكون السبل المادية والإمكانات البشرية التي يحلو
لها الرقص على ما يثير نزواتها وشهواتها.
البراجماتية في الاقتصاد:
يقول الدكتور محمد عزيز سالم: (إن البراجماتية تعبير صادق عن الفلسفة
الأمريكية) [12] ، فهي تدعو إلى (العملية) وتتخذ من (العمل) مقياساً للحقيقة،
لتوافق بذلك ما يدعو له النظام الرأسمالي الذي يربط بين الحقيقة من جهة، والذاتية
والنفعية من جهة أخرى. وأصبحت البراجماتية منذ ذلك الحين المبدأ الإداري
والاقتصادي الحكيم الذي يتعامل مع الواقع وما يحيط به من ظروف متغيرة بصورة
عملية تحقق الأهداف القائمة على مبدأ المنافسة الحرة بكفاءة واقتدار. وأصبح
المصطلح البراجماتي مفهوماً مرتبطاً بالإدارة والاقتصاد وتسلل هذا المفهوم إلى
مبادئ الاقتصاديين والإداريين المسلمين وسلوكيات التجار وأصحاب الأموال
والاستثمارات، فتساهل الممارسون للأعمال التجارية في استخدام جميع الوسائل
بغض النظر عن شرعيتها للوصول إلى ما يعتقدونه هدفاً سامياً، وغاية حسنة
تسوغ الوسائل كلها، فظهر من ينادي بحِلِّ بعض أنواع الربا حتى تتمكن البنوك
الإسلامية من مقارعة مثيلاتها الغربية الكافرة ومنافستها، واستحلال اليانصيب
لجمع الأموال وإنفاقها في وجوه الخير، كما ظهر من لا يرى غضاضة في استخدام
الأساليب الإعلامية والإعلانية الشهوانية تقليداً للغرب؛ وذلك بحجة جذب
المستهلكين إلى الصناعات المسلمة وصرفها عن صناعات أعدائها؛ فأصبح من
المضحك المبكي أن ترى من لا يجد بأساً في ظهور الفتيات الفاتنات يعرضن إعلاناً
لأحد المنتجات العربية ما دمن متحجبات الحجاب العصري الجديد. كما ظهرت في
بلادنا العربية تلك الاستثمارات السياحية المشبوهة والاحتفالات المختلطة التي يسوِّغ
دعمها صرف الشباب المسلم عن الوقوع فريسة السياحة الغربية الكافرة. والأمثلة
كثيرة على تلك الاستثمارات التجارية المتنامية في بلاد المسلمين التي تقوم على
أسس براجماتية وذرائعية.
أسباب انتشار البراجماتية:
إن أسباب انتشار الفكر البراجماتي كثيرة ومتعددة، كما أن العوامل التي
ساهمت في نموه وقبول فئة من الناس له مختلفة ومتداخلة.
وإجمالاً للقول: فإن من تلك الأسباب الكثيرة التي يحسن إلقاء الضوء عليها:
أولاً: قلة العلم الشرعي.
ثانياً: اتباع الهوى.
ثالثاً: اتساع الفجوة بين العلماء والمفكرين.
رابعاً: التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أولاً: قلة العلم الشرعي:
لعل من أبرز عوامل بروز هذه الظاهرة هو: قلة العلم والعلماء المختصين
بالعلم الشرعي وندرتهم لسد حاجة الأمة؛ فقد أتى على المسلمين زمن ضعفت فيه
همم الشباب عن طلب العلم الشرعي والتخصص فيه ومتابعة علومه، واكتفى كثير
منهم بالعلم السطحي المادي مسايرة للتقدم الحضاري الغربي، فظهرت الفجوة
الكبيرة والنقص الواضح في المرجعية والتخصص العلمي، وظهرت طبقة جديدة
من المثقفين وجيل جديد من المختصين الحاملين للشهادات العلمية البراقة والأسماء
العلمية اللامعة التي لا تحمل في جعبتها من العلم الشامل إلا القليل؛ فانتشرت بذلك ... (الجهالة المقنعة) ، وترأَّس أولئك المثقفون والمفكرون المعاهد والأقسام، وتصدروا ...
مجالس الفتوى ومنابر الفكر، ونعتهم الإعلام بالمفكرين المثقفين؛ فصاروا مرجعاً
للعلم والإفتاء، فخلطوا الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، فصدق قول المصطفى
صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد،
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) [13] ، فلا غرو والحالة هذه أن نرى
في وسائل الإعلام من يتخبط بالقول منكراً أن يكون للمسلمين علاقة دينية
بالمقدسات الفلسطينية، أو أن نسمع فتاوى تروِّج لها وسائل الإعلام المكتوبة تبيح
ربا البنوك اليوم بحجة أنه ليس من (الربا القرآني المحرم) ، أو أن يخرج علينا
فقيه عصري يحل أموال اليانصيب والمشاركة فيها تفويتاً لاستغلالها من قِبَلِ الكفار.
وكان من أولئك المفكرين من أعمل العقل في كل شيء، وجعل النقل تابعاً
لاستنباطات العقل ومداركه وما يراه عملياً في عصره وبيئته، فقدموا عقولهم
المحدودة على النقل، وحكَّموها في قبول النصوص الصحيحة الصريحة وردها،
وظهرت المدرسة العقلية من جديد ولكنها عبر الذرائعية لتكثر المناقشات والمجادلات
والمواقف العلمية الشاذة والشبهات العقلية المنحرفة والتأملات الفكرية المنكرة. ومن
ذلك ما ذكر عن أحد المفكرين الذي ملأت سمعته الأصقاع أنه عندما خرج إلى رمي
الجمار في منى فشاهد زحام الناس الشديد عليها وقف قريباً من خيمته وقال لمن معه: إن الله لم يكلف نفساً إلا وسعها، وإن الغاية من الرمي تجسيد عداوة الإنسان
للشيطان، فتعالوا نرمي هنا، فرمى حصى الجمرات بجوار خيمته! [14] أو
تسمع عن ذلك الإمام الإسلامي الكبير الذي أجاز لأتباعه في أمريكا الشمالية أن
يؤدوا صلاة الجمعة يوم الأحد بدلاً من يوم الجمعة، وذلك كي يتمكن المسلمون من
الحضور واستماع الخطبة نظراً لارتباطهم بأعمالهم يوم الجمعة!
ثانياً: اتباع الهوى:
يقول المولى - عز وجل -: [واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض
واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم
الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون] [الأعراف: 175، 176] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - في الظلال: (والحياة البشرية ما تني تطلع
علينا بهذا المثل في كل مكان وزمان، وفي كل بيئة.. حتى إنه لتمر فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مَثَلُه؛ فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله، ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض، ولا يتبعون الهوى،
ولا يستزلهم الشيطان.. ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً،
ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر. ورأينا من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين
الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه) [15] .
وما ظهور الاتجاه الذرائعي في الفتوى والأحكام والمعاملات إلا من بعد أن
ركن هؤلاء الدعاة إلى ما تميل إليه نفوسهم وترغبه وتهواه من أمور تسوِّغ لهم
تصرفاتهم، وتحقق لهم مصالحهم، وتزكي لهم أعمالهم. وكانت مجالستهم
واختلاطهم بالنفعيين المتزلفين وأصحاب الأهواء فتيلاً أجج نار الهوى لديهم؛
فاعتدُّوا بآرائهم واستحسنوها ووجدوا من أتباعهم من تروق له هذه الأفكار والأحكام
والاتجاهات ومن باركوها وتتلمذوا عليها. وظهر من ينادي بأن (الفتوى تتغير
بتغير الزمان والمكان) ويحتج بأن العلماء غيَّروا فتاواهم عندما تغيرت أماكنهم
وأزمانهم، كما كان من الإمام الشافعي رحمه الله عندما ذهب إلى مصر فصار يفتي
بغير ما كان يفتي به في الشام حتى صار له مذهبان: أحدهما قديم، والآخر جديد.
وهكذا حتى وجدوا تخريجاً لكل ما تهوى أنفسهم من أفعال وأقوال. ومن أكبر
تبعات اتباع الهوى إضلال الآخرين وإبعادهم عن الطريق الحق؛ فالهوى لا يقتصر
خطره على صاحبه بل كثيراً ما يتعداه إلى غيره من الناس؛ فقد قال المولى - عز
وجل -: [وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم] [الأنعام: 119] ؛ فعامة
الجماهير لا تفرق بين الحق وقائله، فتعرف الحق بالرجال؛ فإن صدر ممن اشتهر
بين العامة بالعلم أخذوا منه كل ما قال، وإن اشتهر بعمل الخير سوَّغوا له كل ما
عمل وقلدوه في كل أمر، وهكذا حتى انتشر المذهب الذرائعي البراجماتي بين
الناس بزلات أهل العلم والاختصاص واتباعهم لأهوائهم.
ثالثاً: اتساع الفجوة بين العلماء والمفكرين:
لقد استيقظت الأمة الإسلامية من غفلتها وسباتها وقد سبقها الغرب إلى ركب
الحضارة والتقدم والمعرفة، فلم يكن لأبنائها بد من السعي الحثيث لاقتفاء أثر
المعرفة الدينية والدنيوية في معاقل الغرب ومعاهدهم، فنشأ جيل من المفكرين
والمثقفين الذين تتلمذوا وتعلموا على أيدي الغرب ومناهجهم، وكان منهم من
يستهجن آراء بعض العلماء وفتاويهم وتصريحاتهم ومحاضراتهم ويكثر من العبارات
المنتقصة لوعيهم وإحاطتهم بالواقع المعاصر، وظهرت المصطلحات الساخرة ... (كدعاة الجمود) و (التحجر الفكري) و (غلق باب الاجتهاد) .
وفي المقابل فقد كان لانغلاق العلماء الشرعيين في حدود بيئتهم الضيقة سبب
في اتساع هذه الفجوة؛ فقد ترفع بعض هؤلاء العلماء عن مخالطة المفكرين والرد
عليهم والاطلاع على آرائهم وكتبهم، واكتفى بعضهم بالحكم على بعض أقوال
المفكرين أحكاماً عامة لا تَشْفِي غليل الأجيال الناشئة التي كانت الضحية الأولى لهذه
الفجوة. ففي حين ظهر تيار شعبي رافض لجميع وسائل الحوار والرد والتصدي
لمثل هذه الأفكار ومناقشتها بحجة الحكم مسبقاً على أصحابها بالضلالة ظهر تيار
آخر من تلك الأجيال الناشئة راقت له هذه الآراء وتبناها وعمل بها ودعا إليها دون
تمحيص أو تقييم فزاد هذا التقسيمُ الفجوةَ اتساعاً يصعب الآن ترقيعه.
رابعاً: التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو
المهمة التي بعث الله بها الرسل أجمعين. وبإقامته كما أمر الله - سبحانه وتعالى -
استحقت هذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس؛ حيث قال المولى عز وجل:
[كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بالله] [آل عمران: 110] ؛ وإن من أشق ما تواجه الأمة اليوم هو الغبش
والغموض في مدلول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعناه الشامل الذي
يقتضي (استبانة سبيل المجرمين) وإظهار الحق ومناصرته ودحض الباطل
وتعريته. وقد كان لاختلاط المسلمين بالمجتمعات الغربية أثر واضح في تمييع
المفاهيم الإسلامية والتساهل في بعض الأحكام، بل وردها أحياناً مجاراةً لتحقيق
التعايش وتبادل المصالح وتقارب الأفكار. فلم يعد مستغرباً أن نستمع الآن إلى
خطيب يستنكر على أصحاب العقول المتحجرة أنهم يصرحون بدخول النصارى
النار، محتجاً بأن القرآن امتدحهم وأن بعضهم قدّم للإنسانية أجمع أعمالاً جليلة في
حين يرتكب بعض المسلمين جرماً وآثاماً تعجز عن حملها الجبال ولا يحكم عليه
بدخول النار! كما أنه لم يعد مستغرباً اعتراض بعض الكتاب على الحجاب
الإسلامي واعتباره مسألة هامشية ينبغي أن لا تعيق المرأة من مشاركتها في تنمية
المجتمع والمساهمة في بنائه أسوة بمثيلاتها في الغرب. ومن ذلك أيضاً احتجاج
بعضهم بالقاعدة الدعوية المعروفة (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا ًفيما اختلفنا فيه) فوسعوا هذه القاعدة حتى شملت إعذار من لا يشك في كفره
وضلاله، واختلط الأمر على بعض المسلمين الذين عاشوا بين ظهراني الغرب
واعتادوا على التعاون معهم فاختلط عليهم معنى التعاون والمودة والإعذار؛ فالتعاون
مع الكفار لرد الشر والباطل بشتى أنواعه وطرقه أمر مجاله فسيح وبابه واسع؛
لكن مودتهم ومحبتهم لا تحل لمسلم لقول المولى عز وجل: [لا تجد قوما يؤمنون
بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو
إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله
ألا إن حزب الله هم المفلحون] [المجادلة: 22] ؛ فالإنكار عليهم واجب،
وإعذارهم لا ينبغي؛ فمحل الإعذار بين أهل السنة من المسلمين وليس مكانه بينهم
وبين غيرهم.
وأخيراً فإن البراجماتية ستبقى مستشرية في جسد هذه الأمة ناخرة في عقول
أبنائها إن لم يتصدَّ العالمون بحقيقتها وسبيلها بواجبهم في الإنكار على مروِّجيها
وسالكي سبلها، وبيان خطرها على تراث الأمة ودينها؛ فقد قال صلى الله عليه
وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع
فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى لمسلم: (وليس وراء ذلك من
الإيمان حبة خردل) [16] ؛ وإذا كان هذا الخطاب للمسلمين عامة فإنه على العلماء
العارفين أوجب. فالأحرى بمن ملك العلم منهم أن يخرج من العزلة المعنوية
والمحلية الضيقة إلى العالمية الفسيحة والمعايشة الدائمة لمشكلات العالم الإسلامي
المعاصرة، وأن يتخذ من الأساليب الحديثة طرقاً للحوار والاتصال بالمفكرين
ووسائل الإعلام. كما أنه من الواجب على أصحاب الفكر والمثقفين الرجوع إلى
فتاوى وآراء أهل العلم الشرعي والاستماع لهم ومناقشتهم وسد النقص الذي لديهم،
فإن حسن نواياهم وسلامة مآربهم وإخلاص أعمالهم لا تشفع لهم أخطاءهم
واجتهاداتهم الفكرية الشاذة. والله أعلم.
__________
(1) شارلز بيرس (18391914م) المنظر الحقيقي للبراجماتية طور الفكر البراجماتي ودعا له في كتابه (تثبيت الاعتقاد) المؤلف عام 1877م الذي وضع فيه النظرة الفلسفية الراجماتية لتحديد التصورات والقيم انظر: (الإسلام في مواجهة المذاهب الغربية) محمد عزيز سالم، ص282.
(2) وليام جيمس (1842 1910م) المنظر الحقيقي للبراجماتية طور الفكر البرجماتي ودعا له وأوضح فلسفته، وقد ساعده في ذلك أنه عاش في الفترة التي استكملت فيها امريكا نظامها الرأسمالي ودعا له وأوضح فلسفته، وقد ساعده في ذلك أنه عاش في الفترة التي استكملت فيها أمريكا نظامها الرأسمالي ألف كتابه الشهير (البراجماتية) الذي وضع فيه معالم الفكر وأصوله.
(3) أنظر:.
(4) جون ديوي (18591952م) هو أحد الفلاسفة اللأمريكان الذين أثروا في الفلسفة البراجماتية ومطوريها؛ إذ كان له الدور الأكبر في إدخال الفلسفة البراجماتية إلى الفكر التربوي.
(5) انظر (الإسلام في مواجهة المذاهب الغربية) محمد عزيز سالم مؤسسة شباب الجامعة، 1996 ص282.
(6) أنظر (الفكر البراجماتي في ضوء الإسلام) بحث لنيل شهاة الماجستير من جامعة أم القرى محمد الشميمري ص47؛ والعنوان السابق غير دقيق لعدم إمكانية الاطلاع على الرسالة عن طريق مكتبات الجامعات، وما توفي للباحث سوى ورقات منها بتعاون من المؤلف.
(7) اخرجه مسلم، ح/1691.
(8) أخرجه البخاري ويرى أهل العلم أن الحديث عام انظر (فتح الباري 13/281) .
(9) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/472.
(10) سيميوتيكا: أي العلم الذي يبحث في دلالة الألفاظ.
(11) سوسيولوجيا: أي علم الإشارات، وسوسيو (كلمة يونانية تعني الإشارة) أنظر: قراءة النص وجماليات التلقي، محمد عباس عبد الواحد دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1417هـ، ص72.
(12) انظر: الإسلام في مواجهة المذاهب الغربية، محمد عزيز سالم، مؤسسة الجامعة، 1996م، ص282.
(13) أخرجه البخاري (فتح الباري1/194) ومسلم (2673) .
(14) القصة ذكرت في مقال نشرته مجلة السراط المستقيم بعنوان: الفجوة بين العلماء والمفكرين، عام 1418هـ.
(15) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1398/3، دار الشروق.
(16) الحديثان أخرجهما مسلم في صحيحيه، بشرح النووي 2/23.(145/130)
بأقلامهن
أنصاف العلماء.. وأنصاف الفقهاء..
نجوى الدمياطي
ليس من شك أن كثيراً من مظاهر الاختلاف والفرقة في واقعنا الإسلامي
المعاصر إنما مردها إلى القول على الله بلا علم، وأن أحد أهم الأسباب التي يرجع
إليها التفرق (هو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرُّص على معانيها بالظن من غير
تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول) [1] . ذلك أنه عندما يضعف العلم يصبح الأمر
فوضى، وعندما يغيب تتسع دائرة الشقاق والفرقة..
ومعظم البلاء في واقعنا الإسلامي إنما يأتي من أنصاف العلماء، وأنصاف
الفقهاء، الذين يتعجل الواحد منهم ممارسة ما لا يصلح له من العلوم دون تأهل،
ويخوض الواحد منهم فيما لم يحصل رتبته ولم يبلغ درجته! ! ويفتي الواحد منهم
في دين الله بغير علم، فتعظم في فتاويه الصغائر، وتصغر العظائم كمن تنازعوا
قديماً في دم البعوضة، واستباحوا دم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن من تمام فقه الفقيه أن يعرف قدر نفسه فلا يتعداه، وأن يعرف مجاله
العلمي فلا يخرج عنه، ولا يتصدى لما ليس له بأهل، فإذا (سئل عن مسألة
فينبغي له قبل أن يجيب عنها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون
خلاصه في الآخرة، ثم يجيب) [2] كما قال مالك - رحمه الله -: (أمّا أن يكره
أن يُسأل عما لا يعرف فيقول: لا أدري، فهذا من الخطأ والجهل.. ولهذا صح عن
ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون) .. وقال
ابن مسعود: من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛
فإن الله قال لنبيه: [قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين] ...
[ص: 86] .
إن المسلم الصادق مع ربه قبل أن يُقْدِم على أي قول أو فعل ينظر في مبلغ
علمه الذي يؤهله أن يتخذ قراراً ينبني عليه اعتقاد أو عمل سيوضع في ميزانه أمام
الله يوم القيامة، وسيحمل حسنات أو سيئات من اتبعه على هذا القرار.. فإذا لم
يكن أهلاً للحكم فيه رجع إلى أهل الذكر والاختصاص فشاورهم ولم يستقل بالجواب
ذهاباً بنفسه وارتفاعاً بها أن يستعين على الفتاوى بغيره من أهل العلم؛ فهذا من
الجهل! !
إن المسلم لا يمكنه الخروج عن الظلم والجهل إلا بالرؤية العلمية السليمة التي
تميز بين الأفكار؛ وتتعرف على مميزاتها وعيوبها، فتستفيد من جزئياتها
الصحيحة وتترك ما فيها من الانحراف. ولا يمكن أن تتوفر هذه الرؤية إلا
لصاحب العلم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يمد
صاحبه بالبصيرة فيعلم ماذا يأخذ؟ وماذا يدع؟ ويدرك أنه لا بد له من أن يعلم،
ولا بد مع العلم من معرفة: متى وأين وكيف يقول بالعلم؟ !
إن على المسلم ألاَّ يتعجل في قول أو عمل قبل أن يثبت له أنه الحق؛ فإذا
تيقن منه أقدم على القول به والعمل بمقتضاه، وإلا توقف عن القول على الله بلا
علم، وبدأ في طلب العلم.. العلم النظري وتراث السابقين من أهل الذكر وخبراتهم.. والعلم بالواقع والفحص الدقيق لجزئياته..
__________
(1) الشاطبي الاعتصام ج2، ص182.
(2) ابن القيم أعلام الموقعين ج4/ص217، 218.(145/138)
المنتدى
اتباع الجنائز أم اتباع المناهج؟
إبراهيم بن علي العريني
كم من المقالات سُطِّرت، وكم من العبرات سُكِبَت، وكم من القوافي نُظمت
حين فقدت الأمة كوكبة مضيئة من علمائها في أيام قلائل، ومع ذلك لم تفِ الكلمات
ولا الشعر بحق تلك الثلة من بقية السلف وحملة العلم وهداة الأمة، بل وعجزت
الدموع أن تعبّر عن مقدار الحزن الذي خيّم على القلوب والألم الذي حاصر النفوس
بفقد أولئك الجهابذة، ويا سبحان الله! لكأنما هو عقْدٌ انفرط نظامه فتساقطت درره
واحدة بعد أخرى، وهذه هي سنة الله في خلقه: [إنك ميت وإنهم ميتون]
[الزمر: 30] .
وبقدر الألم والحزن اللذين شَعَر بهما مُحِبّو أولئك العلماء، بقدر ما عمتهم
الفرحة والاستبشار عند رؤية الألوف المؤلفة تتبع جنائز أولئك العلماء، بل من
الناس من تكبّد المصاعب وتحمل المشاق والعناء ليشارك في جنازة أحدهم، والآن، وقد برد الحزن، وخف الألم وتسللت الدنيا إلى قلوبنا مرة أخرى لتحتل المكانة
التي ألفتها، يأتي السؤال الكبير: هل نسينا علماءنا؟ أهذا ما يريده العلماء
الراحلون منا؟
إن أجر اتباع الجنازة قد وعد به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم،
واتباع جنازة عالم ليس كاتباع جنازة غيره؛ لأن فيه إظهاراً لقيمة العلم ورفعاً
لمنزلة العلماء، وهو اللائق بهم، ولكن: كم من تلك الجموع التي سارت خلف
جنائز علمائها واصلت السير بعد فراق العالم على منهجه وطريقته في طلب العلم
ونشره، وفي الدعوة إلى دين الله، وفي الصبر والمثابرة، وفي الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وفي العبادة والزهد؟ أهي ردود أفعال، أم تعزية نفس، أم
تبرئة ذمة؟ ماذا يا تُرى سيكون حال الأمة لو قام من تلك الحشود مكان كل عالم
يُوَدَّع رجلٌ واحد فقط يسُدُّ مكانه فيعوِّض الله به الأمة ما فقدت؟ أم كيف يكون حال
الأمة إذا قام مكانَ كل عالمٍ رجال يسعون في الخير والعلم والدعوة والجهاد كما سعى
عالمهم؟
إن فرحة المسلم بتلك الجموع التي شيعت علماءها لم تلبث أن تلاشت حين
رأت أكثر المشيّعين ما إن نفضوا أيديهم عن تراب علمائهم حتى عادوا إلى ما كانوا
عليه من كسل لا يليق بمسلم، وهدر للوقت لا يرتضيه عامل، وصدود عن العلم
والدعوة والجهاد ليس له مثيل، وأكثر تلك الجموع غرّها التزامها الظاهر بهدي
الإسلام حتى صَنّفُوا أنفسهم طلاب علم ودعاة وهم عن هذين الوصفين أبعد ما يكون.
فيا شباب المسلمين وشيبهم، ويا رجالهم ونساءهم (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ
عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [1] .
فهلاَّ منكم مشمِّر عن ساعد الجد طلباً للعلم ودعوة للحق وجهاداً في سبيل الله
حتى يعوض الله به الأمة ما فقدت ويحميها من الضلال؟
__________
(1) رواه البخاري (رقم 100) ، ومسلم (رقم 2673) .(145/140)
المنتدى
ماذا بعد وفاة العلماء؟ !
عبد الإله محمد العسكر
عاش المسلمون في الفترة الماضية أياماً محزنة، وذلك بوفاة عدد من علمائهم
العاملين ودعاتهم المصلحين؛ ففقْد العلماء لا شك في أنه خسارة كبيرة ورزية
عظيمة لا سيما في عصر تلاطمت فيه أمواج الفتن وكثرت فيه أسبابها ودوافعها.
قال الله - تعالى -: [أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم
لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب] [الرعد: 41] ، قال ابن عباس ومجاهد:
(ننقصها من أطرافها) : موت علمائها وصلحائها.
لقد رحل أولئك العلماء، والأمة الإسلامية في أمسِّ الحاجة إلى العلماء
العاملين، يقول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقْد مال ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقْد فذٍّ ... يموت بموته خلق كثير
لقد كان أول عالم ودَّعته الأمة الإسلامية هذا العام فضيلة الشيخ صالح بن
علي بن غصون عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، وأحد العلماء البارزين
الذين ملؤوا بعلمهم الأرض، ثم بعد وفاته - رحمه الله - بمدة قصيرة فجعت الأمة
الإسلامية بوفاة عالمها الجليل ومحدثها وفقيهها إمام أهل السنة والجماعة في عصره
الحبر العلاَّمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي يعجز الواحد منا أن
يحصي أعماله وفضائله في خدمة الإسلام والمسلمين، ثم ما لبثنا إلا أياماً قليلة وإذا
بنا نسمع خبر وفاة الداعية الأديب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -، ثم بعد
ذلك بأسبوعين نسمع خبر وفاة الشيخ مصطفى الزرقاء - رحمه الله -، وما هي إلا
أيام وإذا بخبر وفاة الشيخ مناع القطان نسمعه ونقرؤه عبر وسائل الإعلام، وما
كادت تجف دموعنا بوفاة ذلك الشيخ وإذا بنا نسمع خبر وفاة الشيخ محمد عطية سالم
المدرس بالمسجد النبوي الشريف في اليوم التالي لوفاة الشيخ مناع القطان؛ ثم
جاءت أنباء وفاة محدِّث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني؛ فلا حول ولا قوة
إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فأحسن الله عزاء الأمة وجبر مصابها
وعوضها خيراً وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) [1] .
لا شك أن وفاة أولئك العلماء ثلمة في الأمة الإسلامية؛ فالناس في حاجة ماسة
للعلماء أكثر من حاجتهم للطعام والشراب؛ بل إن العلماء كالشمس للدنيا وكالعافية
للناس كما قال الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي بأنه كالشمس للدنيا وكالعافية
للناس، قال إبراهيم بن أدهم:
... إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولَّى ... بحكم الأرض منقصة ونقمة
إن وفاة أمثال هؤلاء العلماء الأجلاء ليؤكد ضرورة يقظة المسلمين والتنبه لما
يخططه الأعداء لهم؛ لأن الأعداء يكونون أشد فرحاً بوفاة علماء المسلمين؛ فهم
يعلمون أن المسلمين أقوياء بعلمائهم؛ حيث يوجهونهم ويبصرونهم ويبينون لهم؛
وهم على يقين - أعني الأعداء - بأنهم مخفقون فيما يخططون له؛ لأنهم أمام سد
منيع من العلم والعلماء؛ وبوفاة العلماء ينهار ذلك السد، ويحدث فراغ في الأمة
يتسلل من خلاله الأعداء إلى جسدها ليبثوا سمومهم وينشروا أفكارهم؛ لذلك يجب
على المسلمين مواجهة هذا الخطر ودفع هذا العدوان بالوقوف أمام مخططاتهم
والتصدي لها، ولن يحدث ذلك إلا بطلب العلم والتسلح به، وبذلك يمكن سد الفراغ
الذي تحدثه وفاة العلماء، ويمكن بإذن الله أن نواجه الأعداء بهذا السلاح ونحبط
محاولاتهم، وليس طلب العلم سلاحاً نتسلح به فقط، بل له فضل عظيم ذكره
الصحابي الجليل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حيث يقول: (تعلموا العلم؛
فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة، والعلم منار سبيل أهل الجنة،
والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على
السراء والضراء والزيْن عند الأخلاء والسلاح على الأعداء؛ يرفع الله به قوماً
فيجعلهم قادة أئمة تُقتفى آثارهم ويُقتدى بفعالهم) ، والله نسأل أن يوفقنا للعلم النافع
والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) رواه البخاري رقم 100، كتاب الفتن.(145/141)
المنتدى
تعقيب على مقال: أخيتي كفى عجزاً
سارة بنت عبد الله الزامل
(أخيتي.. كفى عجزاً) ما إن وقع نظري على هذا العنوان وأنا أتصفح
محتويات مجلة البيان العدد (143) ، حتى تجاوزت ما سواه إليه؛ فكثيراً ما تدفعني
نفسي للبدء بقراءة مثل هذه الوقفات العاجلة مستفتحة بها قراءة المجلة، ومن ثم
أَعْبُر منها إلى غيرها من الموضوعات الأخرى - التي تهمني -. أما هذه المرة فقد
وجدت نفسي لا تحتمل مغادرتها إلى غيرها حتى أبث لصاحبها بعض ما جال في
خاطري حيال كلماته التي أحسبها كلمات ناصحة مشفقة صادقة.
أخي الفاضل: إن المرأة كما ذكرتم قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من
حصونه، ومن المعلوم وكما بينتم أن أعداء هذا الدين حريصون ساعون ليل نهار
على انتهاك هذا الحمى الكريم، ومن ثم تساءلتَ - كما هي عادة الغيورين -: أين
دعاتنا؟ وأين هن نساؤنا الداعيات؟ ! وإن كان السؤال كبيراً على هذا القلم إلا أنه
أبى إلا المشاركة!
أخي - حفظك الله ورعاك -: النساء الصالحات كثير، والداعيات إلى الله
كثر، وللمصلحات وجودهن في كثير من الأوساط النسائية؛ لذا فالمشكلة ليست في
الوجود والمشاركة، إنما تبقى مشكلتنا في الكيف، والفن، والإتقان، والإبداع في
تطوير وسائل الدعوة وأدواتها، ومدى تأثيرها على فتاة اليوم، وتلمُّس حاجات هذه
الفتاة المسكينة، وتتبُّع مراحل تطورها الثقافي، والفكري، والاجتماعي، ليسهل
عندها التأثير، والنصح، والبيان، ولتصل إليها دعوة التوحيد دعوة النجاة على
طبق تفهمه وتقبله وتتحلى به عقيدةً، وشعائر، وسلوكاً، وهي مرفوعة الرأس، لا
تطأطئه لناعق محترف، ولا إلى منافق مرد، والأدهى من ذاك والأمرُّ: عند
مناقشة أخواتنا الطيبات حول موضوع الدعوة والنظر في وسائلها، و.... و.... .، فإنك تصدم بإجابة لا تأمل بعدها شفاءاً لصاحبتها! مما قد يضطر بعضهن إلى
ترك مقعد الدعوة اضطراراً لا اختياراً، ولا عجزاً، ولا يأساً من الحال ولا جهلاً
بها، ولكن: إما مع الخيل يا شقراء، وإلا فلست منا! ! هذه هي المعضلة! فهلاَّ
صنعتم لها حلاً رحمكم الله!(145/142)
الورقة الاخيرة
من أجل دعوة إنسانية
خالد أبو الفتوح
هل تأملتَ يوماً سيارة قديمة أُنتجت منذ عشرات السنين وقارنتها بسيارة
حديثة الصنع؟ لا بد أنك لاحظتَ مدى التقدم في التقنية التي عليها السيارة الحديثة؛ من حيث المظهر والقوة والرفاهية، وقد يجول بخاطر بعضنا مدى التخلف الذي
عليه السيارة القديمة، وقد يقطع آخرون بأنه لم يعد لهذه السيارة مكان إلا في أفران
الحديد ومصانع الصلب، أو في أحسن الحالات تُوجَّه إلى إحدى القاعات في متحف
للمواصلات، وقد يكون ذلك ما يمليه الواقع بالفعل.
ولكن الحقيقة الغائبة أن هذه السيارة القديمة ليست متخلفة بل (بدائية) ، وأن
السيارة الحديثة ليست إلا سيارة (متطورة) ، وأن هذا التطور ما كان ليحدث لو لم
يُستفد من تجربة السيارة البدائية ويبنى عليها؛ فإهدار التجارب السابقة والبدء دوماً
من نقطة الصفر يعتبر عبثاً وإهداراً للأعمار.
فالاستفادة من التجارب السابقة والبناء الواعي عليها هو أحد أسرار التقدم
الإنساني، وهو ميزة إنسانية محضة؛ فعلماء الاجتماع يقولون: إن من الخصائص
المميزة للإنسان كونه حيواناً ذا ذاكرة، بمعنى أنه - بخلاف الحيوانات الأخرى -
يمتلك القدرة الذهنية على اختزان التجارب والمعلومات ثم استرجاعها مرة أخرى
عند الحاجة إليها أو في مواقف مشابهة للاستفادة منها في تجارب جديدة وأيضاً نقلها
إلى آخرين.
وهذا ما حض عليه القرآن الكريم عندما دعا في أكثر من آية إلى الاعتبار
وأخذ العبرة بتأمل الآيات الكونية والأحداث التاريخية، وبيّن أن ذلك من سمات
أولي الأبصار وأولي الألباب وأصحاب الخشية: [يقلب الله الليل والنهار إن في
ذلك لعبرة لأولي الأبصار] [النور: 44] ، [لقد كان في قصصهم عبرة لأولي
الألباب] [يوسف: 111] ، [فكذب وعصى. ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى.
فقال أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن
يخشى] [النازعات: 21 - 26] .
وأصل معنى (العبرة) و (الاعتبار) من العبور، وهو الانتقال من جانب إلى
آخر، كعبور النهر أو الطريق؛ ففي هذه الآيات وأمثالها حث القرآن على تأمل
الآيات والأحداث، ثم الانتقال منها وبها إلى الواقع والمستقبل، يقول ابن فارس في
قوله - تعالى -: [فاعتبروا يا أولي الأبصار] [الحشر: 2] : (كأنه يقول:
انظروا إلى مَنْ فعل ما فعل فعوقب بما عوقب به، فتجنبوا مثل صنيعهم لئلا ينزل
بكم مثل ما نزل بأولئك) [1] .
فالاستفادة من التجارب السابقة ومراعاة نتائجها عند الشروع في العمل إحدى
السمات التي تميز أولي الأبصار: [إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار] [آل
عمران: 13] ، بينما فَقْدُ ذلك يجذب الإنسان نحو عالم الأنعام [لهم قلوب لا
يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل
هم أضل أولئك هم الغافلون] [الأعراف: 179] .
ومن هذا المنطلق ينبغي أن نلاحظ أنفسنا في تجاربنا التربوية والدعوية؛
فالمربي الذي لا ينقل خلاصة علمه وتجاربه إلى من يربيه فإنه يتركه في الحقيقة
ليبدأ من نقطة الصفر أو قريب منها، وبمعنى آخر: يدعه يعيد إنتاج (السيارة
البدائية) ، وكذلك يفعل بنفسه من يتربى إذا لم يكن حريصاً على (عصر) المربي
للاستفادة منه.
وأي مجموعة دعوية تنقطع عن التجارب الدعوية الأخرى - الناجحة
والمخفقة، الماضية والمعاصرة - فإنها تهدر أعماراً يمكن إضافتها إلى عمرها، بما
تحويه هذه الأعمار من علوم ومعارف وتجارب ورصيد في الواقع؛ وهذه أمور بُذِلَ
من أجلها الغالي والنفيس من تضحيات ومعاناة.
لا بد من حرص متبادل على استثمار التجارب الأخرى وتركيزها في الأجيال
الجديدة، وأن يتم ذلك بقصد ووعي وليس بعفوية وكيفما اتفق؛ لأن تواصل
الأجيال ضمانة ضد الإخفاق، وفضلاً عن كونه حاجة إنسانية فإنه ضرورة قرآنية.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص210.(145/143)
شوال - 1420هـ
فبراير - 2000م
(السنة: 14)(146/)
كلمة صغيرة
رمضان على مشارف الألفية الثالثة..!
انقضى شهر عظيم من شهور الله المباركة، ولكن بصورة أخرى ما كنا
نعهدها من قبل في الأعوام السالفة؛ ففي مطلعه كانت طبول الاستعداد العالمي تُدقُّ
لدخول ما يُسمى بـ (الألفية الثالثة) ، وفي وسطه بدأت الاحتفالات الصاخبة تطغى
على كافة الأجواء الفكرية والإعلامية والاجتماعية، ولا زال الضجيج يصمّ الآذان،
ويسيطر على العقول والأفئدة.
كان الجميع يسعى للتميز زعموا! فهذه المناسبة لا تكرر عليهم كثيراً.. لم
نعجب كثيراً من هذا الصخب الغربي، ولكن العجب لا ينقضي من تلك التبعية
الفكرية والإعلامية لبعض المنتسبين إلى الإسلام الذين سلبت عقولهم، ومسخت
هويتهم..! !
لقد انتُهكت حرمة شهر رمضان، ومسخت لياليه المباركة بليالي الرقص
والخمر والمجون، وسقطت الأقنعة الكالحة، وراح دهاقنة العلمنة وأباطرة الإعلام
ودعاة الرذيلة يستبيحون المحرمات، ويلهثون وراء الشهوات، ويزيِّنونها بكل
ألوان الفتنة والإغراء، ويُلبسون الحق بالباطل.
نعم! حصل ذلك كله، وهو أمر عظيم، ولكن الأعظم منه ذلك الخلل العقدي
العريض الذي ظهرت بعض معالمه في موالاة الكفار، ومحبتهم، والتشبه بهم،
ومجاراتهم في أعيادهم وشعاراتهم وأخلاقهم، والسقوط في أحضانهم، وها هنا
مكمن الداء نسأل الله السلامة.
إنَّ التقليد الأعمى للغرب ومجاراته في ضلاله آية من آيات الهزيمة النفسية
والفكرية التي تسيطر على بعض النفوس الضعيفة، ولهذا روى الشيخان في
صحيحيهما عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من
كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قلنا:
يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟ !) .
إن هذه الظاهرة من أهم النوازل التي يجب دراستها وتحديد معالمها، ثم
معالجتها برؤية شرعية متكاملة.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من مضلات الأهواء والفتن.(146/1)
الافتتاحية
أعطوا الحرب فرصة! !
الشيشانيون.. لا بواكي لهم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
للمسلمين مع الروس تاريخ طويل من القهر والاستعباد، والنفي والتشريد،
والتجهيل والتضليل سواء من قِبَلِ روسيا القيصرية (النصرانية) ، أو من قِبَلِ
روسيا الشيوعية، أو حتى من قِبَلِ روسيا الديمقراطية! ! حيث تشهد اليوم فصولاً
من المأساة الشيشانية.
وقد سطَّر المسلمون تاريخاً طويلاً من الجهاد والاستشهاد في مقاومة الروس
ودفع عدوانهم وبغيهم، وسجلوا مواقف بطولية نادرة فداءاً لدين الله وحماية
لأعراض المؤمنين.
[عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا]
[ {النساء: 84] .
وقد كتب الله لنا اليوم أن نشهد فصولاً من الجهاد الشيشاني؛ حيث بدأت
الأحداث بإعلان جوهر دوادييف الضابط السابق في الجيش الروسي، ورئيس
الشيشان الاستقلال عن روسيا، ولم يكن الرد الروسي بالاستفتاء الشعبي حول
الانفصال من عدمه، ولا بمنحهم حق تقرير المصير! ! ولكن بتحرك الآليات
العسكرية الروسية المدمرة، وحلقت الطائرات لتمطر أرض الشيشان بأنواع القنابل
لتأتي على الأخضر واليابس على مدى عشرين شهراً 1994- 1996م والعالم كله
يتفرج على ما يجري على أرض الشيشان وكأن الأمر لا يعنيه!
ولكن - وبفضل الله تعالى ثم بثقة المجاهدين بربهم وحسن توكلهم عليه بعد
اتخاذ الأسباب الشرعية - استطاعت الفئة قليلة العدد والعتاد دحر الظالمين وتكبيدهم
خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، خرجوا على إثرها من أرض الشيشان الأبية
صاغرين يجرون أذيال الهزيمة.
واتجهت الشيشان لتحكم نفسها وتتحرر من ربقة العبودية لغير الله، فأُعلن
فيها تطبيق الشريعة الإسلامية، فانتشرت المحاكم الشرعية في أنحاء البلاد،
وأقيمت الحدود والتعزيرات الشرعية، ورُدَّت المظالم، وأُخِذَ على أيدي المجرمين، فقرّت عيون أهل الشيشان بالأمن والاستقرار الذي لم تشهده البلاد منذ زمن،
وانتشرت الدعوة والمعاهد الشرعية، وكثر طلاب العلم مما كان له كبير الأثر في
رفع الجهل عن الشعب الشيشاني وتبصيره بدينه.
وقامت اللجان الاحتسابية بمنع المنكرات من الأسواق والأماكن العامة؛
فكسرت أواني الخمر، وأقيم الحد على شاربيها، وبدأ الحجاب ينتشر، وبدأ
الشباب يتجه إلى ربه، وأصبحت عينك ترى المرأة المحجبة والشاب الملتحي،
وأعيد بناء المساجد، وانتشرت حلقات تعليم القرآن، ورأى الناس ثمار جهادهم
على أرض الواقع في أمن مستتب، وحرية مطمئنة وشعائر إسلامية ظاهرة، مع
ضعف صوت الباطل وقلة أنصاره.
ولكن الروس أزعجهم ما يجري على أرض الشيشان، وأقلقهم نجاح التجربة
الشيشانية في الاستقلال مما يحدو باقي الجمهوريات لاتباعها، وبدلاً من أن يدفع
الروس تعويضاً عن التدمير الذي لحق بالشيشان من جراء الاحتلال، وبدلاً من أن
يساعد في إعادة تعمير البنية التحتية للبلاد؛ سعى الروس عن طريق عملائهم في
البلاد إلى زعزعة الأمن والاستقرار في الداخل، ومحاولة إحداث الفتن والخلافات
بين الفصائل الشيشانية، وبثوا الجواسيس داخل صفوف المجاهدين بهدف الإيقاع
بينهم واغتيال قادتهم، فكشفهم الله وفُضِحوا وأُعلِنت اعترافاتهم في وسائل الإعلام،
وباءت محاولات الروس بإحداث الفتنة داخل الشيشان بالإخفاق، فأخذوا يضيقون
على الشيشان ويحاصرونها، ومنعوا فتح المطار والاتصال بالعالم الخارجي،
وحالوا بينها وبين الاستفادة من مواردها الطبيعية؛ وكل ذلك لم يثن الشيشانيين عن
الاستمرار في التجربة الفريدة.
وها هم الروس اليوم تحركوا لتدمير هذا البلد الآمن باجتياح الشيشان للمرة
الثانية واختلاق المعاذير لذلك، واتخذوا سياسة جديدة في الحرب مستفادة من الغرب
بتكثيف القصف على المدن والمناطق الآهلة وإحداث أكبر قدر من التدمير والقتل
والتهجير، وهددوا بل استخدموا المواد الكيماوية في قتالهم للشعب الأعزل إلا من
سلاح الإيمان، وها هم الآن يجتاحون المناطق ويدمرونها بمساندة الغرب الكافر
واليهود ما بين صمت وتعتيم على ما يجري، وبين دعم مادي ودعم معنوي
بالكوادر العسكرية والاستشارات.
ولنا ها هنا وقفات:
1 - في هذا العالم الذي يتغنى بالديمقراطية وحق تقرير المصير وتحرير
الشعوب المضطهدة يبقى المسلمون ليس من حقهم هذا؛ فلكم سمعنا من المصطلحات
الدولية والأعراف والأنظمة العالمية حين كانت قضية تيمور الشرقية، والنداءات
الدولية تصخ الأذان، والضغوط الأمريكية والأوروبية (النصرانية) تتتابع على
إندونيسيا حتى تأثر كثير منا بالإعلام ورأى أن من حق تيمور الشرقية (المضطهدة)
أن تستقل، واستقلت بالفعل! !
ولكن هذه كلها صارت أدراج الرياح في قضية الشيشان، وذابت النداءات كما
يذوب الملح في الماء لا على المستوى الرسمي الدولي ولكن حتى على المستوى
الإعلامي والإنساني (الهيئات التي تُعنى بحقوق الإنسان) . والغرب (الكافر! !)
يقول: (نحن نتفهم أسباب ضرب روسيا للشيشان ونقدرها) ويقول: (الحرب في ...
الشيشان شأن داخلي) ! ! ويقول مندوب الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين بعد زيارة
اللاجئين الشيشان في أنغوشيا: (إن أوضاعهم لم تصل إلى درجة الكارثة) ! !
2- إنه يمكن لنا أن نفهم معنى سكوت الغرب، ودعمه لما يجري في الشيشان
من قتل للمدنيين وتدمير القرى على أهلها (المسلمين) . لكننا لا نفهم موقف منظمة
المؤتمر الإسلامي الذي صرح (بأنه يؤيد وحدة الأراضي الروسية) يا عجباً وحدة
الأراضي الروسية! !
ألا يدخل هذا في مظاهرة الكافرين على المسلمين؟ !
المستجير بعمرٍو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
نريد أن نفهم: لِمَ كل الحماس على جميع المستويات الذي حظيت به قضية كوسوفا وهي شبيهة إلى حد كبير بقضية الشيشان الذي لم يقتصر على المستوى الرسمي في بلاد المسلمين حيث تدور معظم الأنظمة في فلك (النظام العالمي ... الجديد) بل حتى على مستوى الجمعيات والمؤسسات الخيرية وبعض الأئمة والخطباء والدعاة والعلماء؟ !
ما الفرق بين القضيتين بالنسبة لنا نحن المسلمين؟ !
إن الفرق المؤثِّر هو أن للغرب مصالح في ضرب الصرب والتدخل باسم
حماية حق شعب كوسوفا.
ونحن بالطبع نتفاعل ونخطب ونقنت لتحقيق مصالحنا! لا عفواً بل لتحقيق
مصالح الغرب من حيث لا نشعر! !
3 - بتنا على ظهر العراء وبين أنياب المنون
نصحو على قصف المدافع، والمجازر بالمئات
وننام والخوف الرهيب يلفنا بالطائرات
أمٌّ هناك وطفلة.. وأب تمزقه الشظايا المحرقات
تبكي وقصف الطائرات يسوقها نحو الممات
حتى متى يا أمتي..؟ !
وإلى متى..؟ !
حتى تُهدَّمَ دورنا وديارنا؟ !
حتى تقطع للعدا أشلاؤنا؟ !
حتى يشرّد أهلنا.. أطفالنا؟ !
حتى تُقادَ عفيفةٌ بالأمس كانت لا تقاد؟ !
إنا نصيح ولا مجيب..!
إنا نئن.. ولا طبيب..!
فأين.. أين المسلمون؟ !
بل أين بعض المسلمين؟ !
بل أين أهل العلم منهم من بقايا الصالحين
لاذوا بأسوار السكوت
لم يمنحوا إخوانهم حتى كليمات القنوت؟ !
وعلى كل حال فمهما تخلى المسلمون عن إخوانهم فإن الله ناصرهم ومؤيدهم،
والذي يظهر لنا والله أعلم أن الحرب ستطول، وسيسيطر الروس على جميع مدن
الشيشان؛ ولكنهم لا يستطيعون الاستمرار فيها والمحافظة عليها؛ حيث ستستمر
حرب العصابات، والنتيجة أن يخرج الروس من خلال سيناريو يحفظ ماء الوجه
لتقوم دولة حرة مسلمة على أرض القوقاز بإذن الله ما لم يتدخل الغرب لمنع قيام
دولة إسلامية، كما في البلقان حين أُجهِضت آمال المسلمين بقيام دولة لهم على
أرض البوسنة باتفاق دايتون الذي لم يكن في حقيقته إلا تبديداً للنجاح الذي حققه
المسلمون على الصرب.
وعلى كل حال فقد وُعِدْنا وعداً لا يخلف: [ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين]
[الأنبياء: 105، 106] .
لكنه النصر القريب
بإذن علام الغيوب
مهما تواترت الخطوب
والنصر آتٍ فوق أشلاء الكماة المخلصين
والنصر آتٍ خلف إمداد الكرام الباذلين
والنصر آتٍ بالدعاء وبالبيان
آتٍ بإذن الله رغم غواية الغاوي وهذرمة الجبان(146/4)
خير الهدي
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
عبد اللطيف بن محمد الحسن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه
أجمعين، وبعد:
فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنوار هادية إلى الصراط المستقيم،
وأضواء كاشفة عن سبل العوج والانحراف والنقص والزلل.
وفي كلمة من مشكاة النبوة يرسم النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلماً من معالم
النجاة، بل يحدد أمارة للفلاح والسداد يقيس بها المرء نفسه، ويعرف بها مقدار
قربه أو بعده عن الجادة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه) [1] .
وهذه وقفات مع معنى هذا الحديث وفقهه وآفاق تطبيقه تصلح لأن تكون معالم
في طريق تزكية النفس وتربيتها.
حديث جامع:
هذا حديث جامع لمعانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها، وهو من
روائع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وقد تعددت عبارات الأئمة في بيان
منزلته من الدين، فقال ابن أبي زيد: (جماع آداب الخير تتفرع من أربعة
أحاديث ... ) وذكره منها [2] . وعدّه حمزة الكناني ثلث الإسلام [3] ، وذكر ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث [4] ، وقال ابن رجب عنه: (أصل عظيم من أصول الأدب) [5] ، وذكر أبو داود أنه يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث، وذكره منها [6] .
والحديث قاعدة عظيمة فيما يأتي الإنسان وما يذر، وفيه تنبيه على الركن
الأول في تزكية النفس، وهو جانب التخلية بترك ما لا يعني، ويلزم منه الركن
الثاني وهو التحلية بالانشغال بما يعني.
وتزداد الحاجة لفهم مثل هذا الحديث والعمل بمقتضاه في زمن تزاحمت فيه
الواجبات، وتنازعت فيه الأولويات، وصعبت الموازنة.. فكانت الخطوة الأولى
هي تركيز الاهتمام فيما ينفع، وترك كل ما لا يعني، وهي أولوية تربوية ملحّة في
تربية النفس، وفي تربية الآخرين.
دعوة لتحسين الإسلام:
في الحديث بيان أن ترك ما لا يعني من أسباب حسن الإسلام.
(والإسلام عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان والإحسان، وهو شرائع الدين
الظاهرة والباطنة.
والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين كما دل عليه فحوى هذا الحديث:
فمنهم المحسن في إسلامه، ومنهم المسيء؛ فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو
المحسن [ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا
واتخذ الله إبراهيم خليلا] {النساء: 125} فينشغل هذا المحسن بما يعنيه ...
ومفهوم الحديث: أن من لم يترك ما لا يعنيه فإنه مسيء في إسلامه) [7] .
يرتبط مفهوم حسن الإسلام بمفهوم زيادة الإيمان بالعمل الصالح، ومفهوم
مرتبة الإحسان الذي هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فيتولد ترك ما لا يعني من مراقبة الله عز وجل [8] .
(وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا
ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه) [9] .
ففي الحديث معيار وعلامة يُعرف بها حسن الإسلام من ضده، وأسباب كل
منهما.
فضل حسن الإسلام:
جاءت الأحاديث بفضل منزلة حسن الإسلام، وما يكرم الله تعالى به من
أحسن في إسلامه، ومن ذلك:
1- مضاعفة الحسنات: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها،
إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها، حتى يلقى الله) [10] .
2- الإثابة على الحسنات التي فعلها قبل الإسلام: كما في أحاديث، منها:
حديث حكيم بن حزام حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما
أسلفتَ من خير) [11] .
3- التجاوز عن سيئات ما قبل إسلام المرء: يدل عليه حديث ابن مسعود
رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله! أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: (أما
من أحسن منكم بعد الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية
والإسلام) [12] . وما ثبت من أن الإسلام يجبُّ ما كان قبله من الذنوب
ويهدمها [13] فهو محمول على الإسلام الكامل الحسن؛ جمعاً بين الحديثين [14] .
4- تبديل سيئاته التي عملها وقت كان مشركاً إلى حسنات: يشهد لذلك قول
الله تعالى: [إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم
حسنات وكان الله غفورا رحيما] [الفرقان: 68 - 70] . وظاهر الآية شامل
لتبديل المعاصي بطاعات مكانها يوفقهم الله لها، وشامل أيضاً لتبديل السيئات التي
عملوها نفسها بحسنات يُجزون بها [15] . وكذا حديث الرجل الذي تعرض عليه
صغار ذنوبه يوم القيامة، ثم تبدل حسنات، فيتمنى أن تبدل كبائره كلها حسنات
قائلاً: (يا رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا) [16] . وذلك والله أعلم؛ لأن
صادق التوبة والندم (يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق
من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنب من ذنوبه سبباً لأعمال صالحة ماحية
له) [17] . وهذا هو حال الموفقين المهتدين الصادقين في توبتهم، فانظر إلى عمر الفاروق رضي الله عنه لما راجع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، ورأى أنه قد أساء، قال: (فعملت لذلك أعمالاً) [18] ، أي: أعمالاً صالحة أكفِّرُ بها ما فعلت. ومن كانت هذه حاله فإنه كلما كان أكثر إساءة في الجاهلية وكان صادق التوبة كان أكثر إحساناً في الإسلام.
الإعراض عن اللغو صفة الجادين:
وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو في غير ما آية، فقال: [والذين
هم عن اللغو معرضون] [المؤمنون: 3] . واللغو: الباطل، وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وكل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال [19] ، والاهتمامات
والشعور [20] . ومن اللغو: الاشتغال بما لا يعني من أمور الناس [21] .
(والإعراض عن جنس اللغو من خلق الجد. ومن تخلق بالجد في شؤونه
كملت نفسه، ولم يصدر منه إلا الأعمال النافعة؛ فالجد في الأمور من خلق
الإسلام) [22] .
أي شيء هو الذي لا يعنيك؟
قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ما لا يعنيه) أي: ما لا
يهمه [23] ، ولا يفيده في دينه ولا دنياه. والشيء الذي يعني المرء هو ما تتعلق
عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال:
(عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه) [24] .
والفعل أصله من (عنى) الدال على (القصد للشيء بانكماش فيه، وحرص
عليه ( [25] .
(وعناه الأمر يعنيه عناية وعُنِياً: أهمَّه. وقوله: [لكل امرئ منهم يومئذ
شأن يغنيه] [عبس: 37] . وقرئ: يَعنيه، فمن قرأ يعنيه بالعين المهملة،
فمعناه: له شأن لا يهمه معه غيره، وكذلك: شأن يغنيه، أي لا يقدر مع الاهتمام
به على الاهتمام بغيره) [26] .
والمرء إنما ينبغي له أن يهتم أصلاً بما به نجاته وخلاصه وسعادته، وذلك
منحصر فيما يجلب له مصالح آخرته، ويدفع عنه مفاسدها، وأيضاً فيما يجلب له
مصالح دنياه، ويدفع عنه مضارها؛ لأن له في صلاح دنياه وسيلة لصلاح آخرته.
وهذا ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص عليه بقوله: (احرص على ما
ينفعك) [27] .
وما سوى ذلك فإنه لا يعنيه ولا يهمه، وذلك شامل لجميع أنشطة الإنسان
وأعماله، من الأقوال والأفعال، كما هو شامل للمحرمات والمشتبهات والمكروهات
وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها [28] ، وكلها مما يحاول الشيطان إيقاع العبد
فيه متدرجاً من الأشد إلى الأخف.
وما لا يعني قد يكون في أمور الآخرة، كالتفكير فيما يكون عليه حال الأرض
بعد انقضاء الأمر، وهل يخلق الله خلقاً آخرين يكلفون ويبتلون ويُرسَل إليهم رسل؟ فإن هذا مما لا يعني الإنسان [29] .
وما لا يعني أيضاً جزءان [30] : جزء في أمور لا تعني الإنسان ولا تهمه
في أصلها، كشؤون الآخرين وخصوصياتهم في كيفيات معايشهم وجهات تحركاتهم
ومقدار تحصيلهم من الدنيا، وكذا الانشغال بالقصص والوقائع والمشاهدات التي لا
تتعلق بقصد صحيح. وجزء في حاجات تهم الإنسان في أصلها كشؤون المعايش
من الطعام والشراب والمنام والكلام والخلطة والنظر والحركة، وما لا يعني فيها
هو الزيادة فيها على قدر الحاجة، وهو ما يعرف بـ (فضول المباحات) . ...
قال ابن القيم: (قد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة
واحدة، فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، فهذا يعم الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع) [31] .
لذا فإن الذي ينبغي ألا يكون المقياس لمريد الكمال والرفعة في فعله وتركه هو
حصول الإثم أو عدمه؛ فذلك حال يشعر بضعف الإيمان، بل الأنجح له أن يكون
الدافع حصول الأجر وبلوغ مرضاة الله، والدافع إلى تركه عدم ذلك؛ ليكون دائراً
في فلك الإحسان، أو حائماً حوله، ومن كانت هذه حاله فهو من أبعد الناس عن
دائرة الظلم.
الضابط في معرفة ما يعني وما لا يعني:
الضابط في معرفة ما يعني الإنسان مما لا يعنيه هو الشرع المطهر؛ فلا
يجوز أن يكون للهوى دخل فيه [32] .
واليوم يفهم كثير من الناس أن المراد بما لا يعني: شئون الغير على الإطلاق. وهو خلط في المفاهيم، ولبس في فهم المراد؛ فإن من شئون الغير ما يعني
الإنسان مباشرة، ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ
من الخطأ المبين التذرع بمثل هذا الحديث للتوصل إلى ترك هذه الشعيرة العظيمة.
كما أن مما يعني الإنسان بدرجة كبيرة شؤون المسلمين وقضاياهم في أي
صقع كانوا.
نعم إن للآخرين خصوصياتهم وشؤونهم التي لا تعني الإنسان، كأحوالهم في
بيوتهم، ومراكبهم، ومكاتبهم، وأوراقهم، ومتاجرهم، وطرائقهم في العمل
والمعيشة، ومقدار مكاسبهم وأرباحهم، و (رواتبهم) ومدخراتهم، مع مراعاة حقوق
القرابة كالأب مع ابنه، علماً بأن استرسال الأبوين في التدخل في شؤون أبنائهما
المتزوجين خاصة ينجم عنه مفاسد لا تخفى، وهي بالنسبة للتدخل في شؤون البنت
المتزوجة أظهر وأكثر.
حفظ الأبواب الأربعة:
قال ابن القيم: (من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات،
واللفظات، والخطوات. فينبغي أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة،
يلازم الرباط على ثغورها؛ فمنها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار، ويتبر ما
علا تتبيراً ... وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة) [33] .
وكذا انشغاله بما لا يعنيه؛ فإنه يلج من هذه الأبواب، ولذا فلا بدَّ من الوقوف
معها:
أولاً: النظر:
لا غنى للإنسان عن بصر ينظر به طريقه، ويعرف به مكانه، ويدرك به
حاجته، ويتأمل به في خلق ربه.. لكن المتأمل في واقعنا يرى مدى التجاوز بهذه
النعمة العظيمة إلى ما لا يعني، من التوسع في النظر المركز إلى المباحات من
بيوت ومراكب ومتاجر ولوحات.. مما يعيق الناظر عن التقدم [لمن شاء منكم أن
يتقدم أو يتأخر] [المدثر: 37] ويتطلب من الجادين مجاهدة للنفس في تركه
واجتنابه. هذا فضلاً عن المكروهات من النظر للقراءة في غثِّ الكتب والمجلات،
كالقصص الخيالية والبوليسية التي ليس فيها إلا مجرد الاستمتاع النفسي بتصور
الأحداث، وكالزوايا المفرغة من المحتوى المفيد كأخبار الرياضة والفنّ، وأخبار
الكلاب ونحو ذلك. والأشد: النظر في المحرمات والعورات.
ثانياً: الخواطر والأفكار:
باب الخواطر والأفكار من الأمور التي تستحق العناية؛ لما لها من أثر ظاهر
في أقوال المرء وتصرفاته وأفعاله.
وأنفع الخواطر ما كان لله والدار الآخرة، كالتفكير في معاني آيات القرآن
الكريم وفهم مراد الله منه، والتفكير في آيات الكون المشهودة والاستدلال بها على
أسماء الله وصفاته وحكمته، والتفكير في آلائه وإحسانه وإنعامه، والتفكير في
عيوب النفس وآفاتها وعيوب العمل ونقصه، والتفكير في واجب الوقت
ووظيفته [34] .
وما عدا ذلك فإن الواجب ضبط الذهن، وعدم ترك المجال له يسترسل في
الخواطر والشطحات والخيالات الواسعة التي تقلب صاحبها في أودية الدنيا وشعابها، وتنقله من شيء إلى آخر غير أنها لا توقفه على ما يهمه، وهذا شأن التفكير
الفوضوي غير المنظم. أما التفكير المنظم المدروس فهو حاجة ماسة للعبد،
ومطلب ملح للأمة تنتقل به نقلات في طريق الريادة.
ثالثاً: اللسان:
وكما أن الأمور التي لا تعني الإنسان تكون في أفعاله، فإنها تكون في أقواله
أيضاً، فإنها من عمل الإنسان، وهذا ما يغفل عنه أكثر الناس، فلا يعتبرون
أقوالهم جزءاً من عملهم. قال عمر بن عبد العزيز: (من عدّ كلامه من عمله قلَّ
كلامه إلا فيما يعنيه) [35] . بل إن (أكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان
من لغو الكلام) [36] ، يشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [37] .
يكفي دافعاً لحفظ ألفاظ المرء قول الله تعالى: [ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد] [ق: 18] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس
في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلاَّ حصائد ألسنتهم) [38] .
و (حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة؛ بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح
والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن
فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه. وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة
اللسان؛ فإنه يُطْلِعُ على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى ... ) [39] .
وحدّ الكلام فيما لا يعني: أن يتكلم بكلام لو سكت عنه لم يأثم، ولم يتضرر
به في حال ولا مآل، كذكر أخبار الأسفار والوقائع اليومية والأطعمة والألبسة،
وسؤال الغير عن عبادته، وعن مكانه الذي كان فيه، وعن كلامه الذي قاله لفلان.
مما يوقع المسؤول في الحرج أو الكذب [40] .
والواقع أن الإنسان يحتاج قدراً من الكلام بشكل غير مباشر، وذلك ما كان
من باب المباسطة على سبيل التودد لبلوغ مصلحة، أو دفع مفسدة.. لكن لا شك
أنه باب يشق ضبطه إلا على الجادّين الموفقين، وقليل ما هم.
ومن الكلام الذي لا يعني: الزيادة فيما يعني على قدر الحاجة [41] ، وهو
أمر نسبي.
وكلام الأئمة في التحذير مما لا يعني من فضول الكلام كثير جداً.
وسئل لقمان عما بلغ به مكانته، فقال: (صدق الحديث، وطول السكوت
عما لا يعنيني) [42] .
رابعاً: الحركات والخطوات:
إذا نظرت في اهتمامات الناس وأعمالهم تعرف مدى انشغالهم بما لا يعنيهم من
أنواع اللهو والألعاب المسلية، وهوايات جمع الطوابع، والتحف، والنوادر،
والعملات، والمسابقات التافهة، وكتب الطبخ والأزياء، وأسفار السياحة، وتتبع
الأخبار العالمية الدقيقة التي لا تعني إلا أصحابها، وقراءة الصحف والمجلات ...
الهابطة، وجلسات السمر، والدراسات المفرغة من النفع عديمة الجدوى.. ... وغيرها كثير مما قد ينهى عنه لكونه يلهي أو يطغي، ناهيك عن المحرمات الواضحة كمسابقات عارضات الأزياء، وملكات الجمال، وسماع المحرمات والنظر إليها من خلال الشاشات المتنوعة.
حقيقة مرّة.. وتزداد مرارة؛ حيث تنظر في كثير من اهتمامات بعض من
أنعم الله عليه بالهداية، فتراه ما بين اهتمام بدنيا، أو انشغال بما لا يعني! ولهؤلاء
يتوجه الخطاب أولاً بأن يراجعوا أنفسهم قبل نفاد العمر.
قال ابن القيم: (وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو
ثوابه، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج
من كل مباح يخطو إليه قربة ينويها لله، فتقع خطاه قربة) [43] ، وهكذا سائر
حركات الجوارح وأعمال البدن.
قال قتادة: (كان يقال: لا يُرى المسلم إلا في ثلاث: في مسجد يعمره، أو
بيت يُكنُّه، أو ابتغاء رزق الله من فضل ربه) [44] .
وفي أبواب العلم أيضاً أمور لا تعني:
ضمن أبواب العلم ومباحثه ومسائله أمور لا تعني ولا تفيد دارسها في شيء،
ولا تعدو أن تكون ضرباً من إضاعة الوقت والاشتغال عن المهم؛ وذلك ما نبه عليه
بعض أهل العلم محتجين بهذا الحديث.
فالاشتغال بعلم الكلام والفلسفة [45] لم يَجْنِ منه أصحابه إلا كدّ العقول
وإهدار الأوقات وتبديد الجهود وإحلال الفرقة والتناحر، كما صرح كبار ... أساتذتهم بعد عمر طويل، كالرازي والشهرستاني، والغزالي والجويني [46] .
ومن المسائل التي لا تنفع بل لا يجوز الكلام، ولا التفكير فيها: كيفيات ... صفات الله تعالى؛ فإن هذا مما لا يعني في شيء، ولا يمكن أن يدرك بالعقل؛ فإن الله [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] [ {الشورى: 11] .
كذلك من المسائل التي لا تنفع: الانشغال بالبحث عن أسماء وأعداد وأوصاف
أشياء ذكرت في القرآن على عمومها دون تقييد، مثل: تحديد الطيور الأربعة التي
ذبحها إبراهيم عليه السلام، وعدد أصحاب الكهف، وصفة كلبهم، وجزء البقرة
المضروب بقتيل بني إسرائيل ...
ومن المسائل التي ينبغي إيجاز بحثها: مسألة التفضيل بين الملائكة
والأنبياء [47] ، ومسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه [48] ، ومبحث
الروح [49] ، وكل ما كان من قبيل التكلف كالسؤال عن صفة كفتيِّ الميزان [50] ، وكذا المسائل الافتراضية المستحيلة أو النادرة جداً [51] .
وفي هذه المسائل ونحوها من مُلَحِ العلم يقول الإمام الشاطبي رحمه الله
تعالى: (كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي. وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً. والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع ُيعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به؛ ففي القرآن الكريم: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] [البقرة: 189] ، فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضاً عما قصده السائل ...
وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة: أيان مرساها: [فيم أنت من ذكراها]
[النازعات: 43] ، أي: إن السؤال عن هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من
علمها أنه لا بد منها، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة فقال للسائل:
(ما أعددت لها؟) [52] ؛ إعراضاً عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة، ولم يجبه عما سأل. وقال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن
تبد لكم تسؤكم] [المائدة: 101] .. ومن هنا نهى عليه الصلاة والسلام: (عن
قيل وقال، وكثرة السؤال) [53] ؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد..... وقرأ عمر بن
الخطاب: [وفاكهة وأبا] [عبس: 31] ، وقال: (هذه الفاكهة، فما الأبّ؟ ،
ثم قال: نهينا عن التكلف) .
وفي القرآن الكريم: [ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي]
[الإسراء: 85] ، وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يجابوا، وأن هذا مما لا يحتاج
إليه في التكليف) .
ثم ذكر أوجهاً في كون الخوض في هذا النوع من العلم غير مستحسن، ومنها:
أولاً: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف بما لا يعني؛ فهو غير مفيد في
أجر أخروي، ولا رزق دنيوي.
ثانياً: أن الشرع بيَّن ما تصلح به حياة العباد؛ فما لم يبينه فلا مصلحة فيه،
بل قد يجر إلى المفسدة، وهذا واقع مشاهد في حال المفترقين الذين أُتِيَ كثير منهم
من قبيل انشغاله بما لا يعنيه.
ثالثاً: أن الاهتمام بالنظر في كل شيء وتطلب عمله من شأن الفلاسفة
المنحرفين.
ثم ناقش الاعتراضات الواردة على هذا الأمر [54] .
ولعل النهي عن الإكثار من السؤال في صدر الإسلام كان ضرباً من التوجيه
إلى ترك ما لا يعني، وسداً للذرائع الموصلة إليه؛ إذ التوجيه إلى الانشغال بما
يعني وبيانه هو مهمة الرسول في البلاغ، وحسْب الإنسان أن يفعل ما يوعظ به.
وهذا باب تربوي ينبغي للمربين العناية به؛ اهتماماً بما اهتم به الشرع.
لماذا الانشغال بما لا يعني؟
إنه يعني بالدرجة الأولى التفرغ من الانشغال بما يعني ويفيد؛ فهذا إنسان
فارغ بطَّال لا هو في أمر دنياه ولا في أمر آخرته، وكفى بهذه رادعاً للعاقل اللبيب
عن الغي والعبث. قال عمر رضي الله عنه: (إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً
{أي: فارغاً} لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة) [55] .
إن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ولا ينفعه إنما يدل في واقع الأمر على جهل
الإنسان بمصالحه، وجهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة، أو يدل على
غفلته عن السنن ونواميس الكون، أو يدل على محاولته التهرب من المسؤوليات،
وذلك دليل عجزه وأمارة ضعفه في علاقته مع الله تعالى؛ فإن المؤمن القوي يكتسب
قوته من حرصه على ما ينفعه مع استعانته بالله عز وجل، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل
خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ... ) الحديث [56] .
أما الكلام فيما لا يعني فيبعث عليه أمور [57] :
- الرغبة في معرفة ما لا حاجة له فيه، وهو ما يعرف بـ (حب الفضول) ،
وربما سُوِّغ ذلك فسمي (حب استطلاع) ، وحب الاستطلاع بهذا المعنى مذموم.
- المباسطة في الكلام على سبيل التودد. وهذا إذا كان له قصد صحيح؛
كتأليف القلب وإحلال المحبة ودوام المودة، توصلاً إلى نصيحة أو توجيه أو
تربية.. وإلا كان ضرباً من إضاعة الأوقات. وقد يقع هذا حتى بين الإخوان المجتمعين من غير هدف، كما سماه ابن القيم رحمه الله (اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت) [58] .
- تزجية الأوقات، وقضاء الفراغ الناتج عن ضعف فهم حقيقة العبودية
وغاية الخلق.
للمسلم شغل عما لا يعنيه:
إن فيما كلف به الإنسان شغل شاغل عما لا يعنيه، وعساه أن يقوم به. قال
ابن العربي: (هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان لا يقدر أن يشتغل باللازم؛ فكيف
أن يتعداه إلى الفاضل) [59] ، وقال قتادة في قوله تعالى: [والذين هم عن
اللغو معرضون] [المؤمنون: 3] : (أتاهم والله من أمر الله ما وقذهم عن
ذلك) [60] .
(إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو الهذر.. له ما يشغله من ذكر
الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق.
وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر ويحرك الوجدان..
وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب وتزكية النفس وتنقية
الضمير، وتكاليفها في السلوك ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه
الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصيانة حياة الجماعة من
الفساد والانحراف، وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها والسهر عليها
من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه
منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق
الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة، وهي إما أن تنفق في
هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها، وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو.
والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح.
ولا ينفي هذا أن يروِّح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا
شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ) [61] .
الإنسان مع اهتماماته بين الربح والخسارة:
قرن النبي صلى الله عليه وسلم توجيهه إلى ترك ما لا يعني الإنسان ببيان
علة ذلك وفائدته فهو طريق إلى تحسين الإسلام، وزيادة الإيمان، والترقي في سلم
درجات الكمال ومراتبه التي يُحرَمها من انشغل بما لا يعنيه.
قال الإمام ابن تيمية: (فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص من حسن إسلامه،
فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقاً لعذاب جهنم
وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه) [62] .
كيف لا وقد انشغل بغير ما خلق له، وأضاع وقته فيما لا يقربه من مرضاة
ربه؟ فإن إضاعة الوقت في غير فائدة انشغال بغير العبودية [63] . قال ذو
النون: (من تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه) [64] .
وقال سهل التُستَري: (من تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق، ومن اشتغل
بالفضول حرم الورع، ومن ظن السوء حُرم اليقين، ومن حُرم هذه الثلاثة
هلك) [65] .
في حين أن انشغاله بما يعنيه دون ما لا يعنيه يرقيه في درجات الكمال،
ويقربه من مولاه. قال ابن خلدون: (الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في
ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا، أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا ... وإن لم يكن
مهماً علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربةً إلى الله، فإن (من حسن إسلام
المرء تركه ما لا يعنيه)) [66] .
وترك ما لا يعني حصن للعبد من المكروهات، فضلاً عن المحرمات؛ فمن
ترك ما لا يعنيه ترك المحرمات من باب أوْلى [67] .
إن تربية النفس على ترك ما لا يعني معين على تركيز الذهن والفكر
والشعور والنظر والقول والعمل في الاهتمامات الواجبة والمستحبة، بدلاً من تشتيته
في أودية وشعاب لا حصر لها؛ فإن السمع والبصر رسولان للقلب ينفذ من خلالهما
الكلام والصور، فتنطبع في القلب وتشغله بتحليلها حتى يمتلئ بالفضول؛ فلا يبقى
فيه مكان لهمّ فاعل مفيد.
بالانشغال بالمفيد ينال الإنسان الحكمة، (قيل للقمان: ما حكمتك؟ قال: لا
أسأل عما قد كُفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني) [68] . وبه يُدرَك الحِلْم. قال
معاوية لرجل: (ما بقي من حلمك؟ قال: لا يعنيني ما لا يعنيني) [69] . وتلك
هي السيادة حقاً، (قيل للأحنف: بِمَ سُدْت قومك، وأنت لست بأنقبهم ولا أشرفهم؟
قال: أني لا أتناول أو قال: لا أتكلف ما كُفيت، ولا أضيع ما وليت) [70] .
إذا كانت هذه سعادة المحيا فإن هذا الأمر مجلبة لسعادة الممات. قال زيد بن
أسلم: دُخل على ابن أبي دجانة وهو مريض، ووجهه يتهلل، فقال: (ما من
عملي شيء أوثق في نفسي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي
للمسلمين سليماً) [71] .
أول الطريق:
وختاماً: فإن الأمر ليس باليسير، ومما يُعين عليه:
- استفراغ الوسع في معرفة ما يجب على المرء، والاجتهاد في أدائه: ففي
ذلك شغل شاغل عما سواه. قال شميط العنسي: (من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك
ما لا يعنيه) [72] .
- دوام مجاهدة النفس: قال مورِّق العجلي: (أمرٌ أنا في طلبه منذ عشر
سنين، لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه ... قالوا: ما هو يا أبا المعتمر؟ قال:
الصمت عما لا يعنيني) [73] .
ولا بد من محاسبتها، وربما اقتضى الأمر الزيادة عليها مما يفيدها لتألفه،
ومن السلف من عاقب نفسه في ذلك: (مرَّ حسان بن أبي سنان بغرفة، فقال: متى
بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عما لا يعنيك، لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها) [74] .
- الاستعانة بالله تعالى ودعائه والتضرع إليه ولا بد من ذلك للسالكين؛ فها
هي مالك يوم الدين {الفاتحة: 4} تتلى في كل ركعة، وها هو نبي الهدى صلى الله
عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) [75] .
- دوام مراقبة الله عز وجل: وعظ عطاء بن أبي رباح أصحابه فقال: (إن
من قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمراً بمعروف، أو نهياً
عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد لك منها، أتذكرون أن عليكم
حافظين كراماً كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس
فيها شيء من أمر آخرته؟) [76] .
ومن استحضر موقف الحساب [يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه.
وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه] [عبس: 34 - 37] وتخيل
حقيقة الإفلاس إلا من عمل الصالحات أخذ الأمر بمأخذ الجد، وتأهب بما يجب.
والله المستعان، وإليه المرجع والمآب.
__________
(1) أخرجه الترمذي، 3217، 3218 (4/855) ، وابن ماجه، ج 3976 (2/1315) ، ومالك، 2/903، وأحمد، 01 /201، وابن حبان، ح 339 (1/466) وغيرهم، والحديث حسن لغيره، حسنه النووى في الأربعين النووية، الحديث (12) ، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذى، ح1887، وغيره.
(2) الديباج على صحيح مسلم (مخطوط ورقة 29) .
(3) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، 3/69.
(4) مدارج السالكين، 2/32.
(5) جامع العلوم والحكم، 1/882.
(6) تاريخ بغداد، 9/57، قال الذهبي: (قوله: يكفي الانسان لدينه ممنوع، بل يحتاج المسلم إلي عدد كثير من السنن الصحيحة مع القرآن) (السير، 13 /120) .
(7) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار شرح جوامع الأخبار، للشيخ عبد الرحمن السعدي، 174 - 175.
(8) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/289.
(9) السابق، ص295.
(10) أخرجه مسلم، 129.
(11) أخرجه مسلم، ح23.
(12) أخرجه البخارى، 6931، ومسلم، ح 130، واللفظ له.
(13) كما في صحيح مسلم، ح131.
(14) انظر: جامع العلوم والحكم، 1/296.
(15) انظر: تيسير الكريم المنان، للسعدى، ص 535.
(16) أخرجه مسلم، ح 23.
(17) السابق، 1/300.
(18) ذكره البخارى مرسلاً، كتاب الشروط، باب 15، وانظر المسند4 /331، والفتح5/408، وعمدة القارى للعينى 13/14.
(19) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/300.
(20) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب 4/2454.
(21) شعب الإيمان للبيهقى، 7/415.
(22) التحرير والتنوير، لابن عاشور، 18/11.
(23) النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/314.
(24) جامع العلوم والحكم، 1/ 228.
(25) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، 4/146.
(26) لسان العرب، 4/3146.
(27) أخرجه مسلم، ح 2664.
(28) انظر: جامع العلوم والحكم، 1/289.
(29) هذه مأخوذة من أشرطة مسجلة في شرح الأربعين النووية، للشيخ محمد المنجد.
(30) انظر: إحياء علوم الدين، 3/112 -114.
(31) مدارج السالكين، 2/23 -24.
(32) انظر: جامع العلوم والحكم، 1/289.
(33) الجواب الكافي لابن القيم، ص 158.
(34) انظر الجواب الكافي، ص 161 -165.
(35) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/291.
(36) السابق، 1/290.
(37) أخرجه أحمد، 1/201، وهو حسن لغيره.
(38) أخرجه الترمذي، ح2616، وقال حسن صحيح، وأحمد5/231.
(39) الجواب الكافي، ص165-167.
(40) انظر: إحياء علوم الدين، 3/113-114.
(41) السابق، 3/114.
(42) الصمت، لابن أبى الدنيا (116) ، ضمن موسوعة رسائله.
(43) الجواب الكافي، ص169.
(44) شعب الأيمان، 4/416 (10810) .
(45) علم العقيدة لا يدخل في علم الكلام، وإطلاق الكلام على العقيدة - كما يفعله بعض الناس -إطلاق خطأ غير صحيح.
(46) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز 1/236 248، وإحياء علوم الدين 1/9497، ولسان الميزان4/243، وتذكرة الحافظ، للذهبي 3/ 921.
(47) شرح الطحاوية 2/410412.
(48) سير أعلام النبلاء، 10/114.
(49) نقل الكرمي في أقاويل الثقات، ص 192، عن الرملي في شرح الزبد، أن الأقوال في الروح بلغت ما يزيد على ألف قول! .
(50) سير أعلام النبلاء، 9/312.
(51) شرح الطحاوية، ص291.
(52) أخرجه البخاري، ح6171 (10/557) .
(53) أخرجه البخاري، ح7292، (13/264) .
(54) راجع الموافقات 1/4366 وانظر أيضا 5/387؛ حيث ذكر عشرة مواضع يكره فيها السؤال، منها هذا الموضع وغيره.
(55) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 2/340، لسان العرب، 3/1932.
(56) أخرجه مسلم، ح2664.
(57) انظر الإحياء: 3/114.
(58) الفوائد، ص51.
(59) تنوير الحوالك، 3/96.
(60) تفسير القرآن العظيم، 3/300 وقذهم: أي جاءهم من الله ما يسكنهم ويمنعهم من انتهاك ما لا يحل ولا يجمل (لسان العرب، مادة وقذ) .
(61) في ظلال القرآن، 4/2454.
(62) الإيمان الكبير، 7/50.
(63) انظر كلاما في غاية النفاسة عن إضاعة الوقت لابن القيم، في مدارج السالكين، 1/278، 279.
(64) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/418 (8/108) .
(65) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 13/330، وانظر: نزهة الفضلاء، لمحمد عقيل، 2/981.
(66) مقدمة ابن خلدون، 2/199، 200.
(67) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص497.
(68) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/416 (10809) ، والصمت لابن أبي الدنيا، ضمن موسوعة وسائله 5/90، (115) .
(69) الصمت، لابن أبي الدنيا (117) .
(70) شعب الإيمان، 7/418 (10817) .
(71) الصمت (1139) .
(72) الصمت، لابن أبي الدنيا (119) .
(73) السابق، (118) .
(74) شعب الإيمان، 4/275 (5083) .
(75) تقدم ذكره وتخريجه.
(76) شعب الإيمان، 4/374 (5080) .(146/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عِلْمُ المُنَاسَبَات في القرآن
محمد بن عبد العزيز الخضيري
من المألوف لدى كل قارئ لكتب التفسير أن يجد المفسِّر يكاد ألاَّ يغفل عن
ذكر المناسبة بين الآية والتي بعدها، أو السورة والتي تليها، أو الحكم وما قارنه
من أسماء الله وصفاته، ونحو ذلك، ولم يدُرْ بخلد كثير من القراء أن هذا العلم علم
عظيم حظي بعناية العلماء واهتمامهم، وأفردوا له المؤلفات تحقيقاً، أو تطبيقاً.
وفيما يلي أخي القارئ إطلالة عابرة تبين لك جوانب هذا العلم، وتعرفك
بمقاصده، وتكشف لك أنواعه وتاريخه وأهم المؤلفات فيه.
تعريفه:
المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة [1] .
ويعرف اصطلاحاً بأنه: علم تعرف به وجوه ارتباط أجزاء القرآن بعضها
ببعض، وقولُنا: (أجزاء القرآن) شامل للآية مع الآية، والحكم مع الحكم،
والسورة مع السورة، والقصة مع القصة، وكل جزء من القرآن مع ما قارنه.
أهميته وأقوال العلماء فيه:
لقد أبان العلماء فيما سطروه بجلاءٍ عن أهمية هذ العلم وعظيم الفائدة بمعرفته
حتى قال الفخر الرازي: (أكثر لطائف القرآن مودَعة في الترتيبات
والروابط) [2] .
وقال الزركشي: (واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول، ويعرف
به قدر القائل فيما يقول) [3] .
أما القاضي أبو بكر بن العربي فقد كشف عن منزلة هذا العلم بقوله: (ارتباط
آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني، منتظمة
المباني ... علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح
الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلَةً ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه) [4] .
وقال الرازي: (علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن
وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول) [5] .
وقال في تفسير سورة البقرة: (ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي
بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو
أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته) [6] .
وقال البقاعي مبيناً فائدة جليلة من فوائد معرفة هذا العلم: (وبهذا العلم:
يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقتين:
إحداهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب.
والثانية: نظمها مع تاليتها بالنظر إلى الترتيب. والأول أقرب تناولاً وأسهل
ذوقاً؛ فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه وتحصل له عند سماعه
روعة بنشاط مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، ثم إذا عبر الفطن من ذلك إلى
تأمُّل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل
متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض
والكرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزّ والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل
إيمانه؛ فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز
والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى،
فانفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار رقص ... الفكر منه طرباً، وشاط لعظمة ذلك جنانه، ورسخ من غير مرية إيمانه) [7] . ...
أول من أظهره، وأهم المؤلفات فيه:
يعد العلماء أبا بكر النيسابوري (ت 324هـ) أول من أظهر علم المناسبات في بغداد، وكان يزري على علماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان إذا قرئت عليه آية أو سورة يقول: لِمَ جُعلت هذه الآية إلى هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة [8] .
وهذه الأولية إنما هي باعتبار شدة العناية والتعليم؛ وإلا فالمتتبع لتفاسير
السلف حتى من الصحابة يجدهم يتحدثون أحياناً عن المناسبات في بعض المواطن
وإن كانت قليلة.
وقد ذكرنا آنفاً كلمة ابن العربي حين تكلم في هذا العلم وشكواه من بطالة النقلة.
أما المؤلفات فيه فهي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من أفرده بالتصنيف، ومن أشهرهم:
1 - أبو جعفر بن الزبير الأندلسي (ت 807 هـ) في كتابه: (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن) .
2 - السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه: (تناسق الدرر في تناسب السور) .
3 - عبد الله الغُمَاري في كتابه: (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) .
وأعظم من كتب في هذا العلم وأشفى على الغاية القصوى فيه، وغدا مرجعاً
لا يستغنى عنه فيه هو برهان الدين البقاعي (ت 885 هـ) في كتابه: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) حيث ذكر المناسبات بين آيات القرآن وسوره كلها وبلغ كتابه اثنين وعشرين مجلداً.
القسم الثاني: الذين جعلوه نوعاً من علوم القرآن الكريم وتحدثوا عنه في باب من كتبهم، ومن أشهرهم:
1 - الزركشي في كتابه: (البرهان في علوم القرآن) فقد جعله النوع الثاني
من كتابه الكبير.
2 - السيوطي في كتابه: (الإتقان) وقد جعله في النوع الثاني والستين.
القسم الثالث: المفسرون الذين عُنُوا بذكر المناسبات في تفاسيرهم، ومن
أشهرهم:
1- الفخر الرازي في تفسيره الكبير: (مفاتيح الغيب) .
2- أبو السعود في تفسيره: (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) .
3- سيد قطب في كتابه: (في ظلال القرآن) حيث كان يفتتح تفسير السورة
بذكر موضوعها العام، ثم يربط بين مقاطع السورة على ضوء ما ذكره من
موضوعها وجوّها العام.
فوائد هذا العلم:
لهذا العلم فوائد، ومن أهمها:
1- أنه يزيل الشك الحاصل في القلب بسبب عدم التأمل في دقة النظم وإحكام
الترتيب، وقد تقدم كلام البقاعي في هذه القضية [9] .
2 - أنه يفيد في معرفة أسرار التشريع وحِكَم الأحكام وإدراك مدى التلازم
التام بين أحكام الشريعة؛ فإذا قرأت قوله تعالى: [قل للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم] [النور: 30] وتعرفت على المناسبة
بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج علمت ما بينهما من التلازم والتلاؤم؛ فحفظ
الفرج لا يتم إلا بغض البصر، ومن أطلق بصره في الحرام فحري أن تزلَّ قدمه
في الآثام.
3- أنه يعين على فهم معنى الآيات وتحديد المراد منها، ومن ذلك: خلاف
المفسرين في معنى قوله تعالى: [والصافات صفا] [الصافات: 1] ، فقال قوم:
هي الملائكة، وهذا قول الجمهور، وقال آخرون: هي الطير، والصحيح الأول؛
وذلك لأنا لو بحثنا عن المناسبة بين أول السورة وخاتمتها لوجدناه ذكر في الخاتمة
في معرض حديث الملائكة عن أنفسهم: [وإنا لنحن الصافون. وإنا لنحن
المسبحون] [الصافات: 165، 166] .
4- وبه يتبين لك سر التكرار في قصص القرآن، وأن كل قصة أعيدت في
موطن فلمناسبتها ذلك الموطن، ولذلك ترى اختلافاً في ترتيب القصة ونظمها
بحسب المناسبة وإن كانت متحدة في أصل المعنى [10] .
قواعد في علم المناسبات:
علم المناسبات كغيره من العلوم له قواعد وضوابط ينطلق منها المتحدثون فيه، ومنها:
الأولى: في كيفية التعرف على المناسبات في السورة جملة:
قال المشرالي المغربي: (الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع
القرآن هو أنك تنظر الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في
القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه
من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء
العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها؛ فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على
حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم
مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة) [11] .
وقد لخص البقاعي تجربته في التعرف على المناسبة فقال: (تتوقف الإجادة
فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من
جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير
نسبة علم البيان من النحو) [12] .
والمتأمل لما كتبه سيد قطب في ظلاله يجده سار على هذا المنوال في بيان
أوجه الربط بين مقاطع السورة.
الثانية: قال الزركشي: (وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها
وعداً ووعيداً؛ ليكون ذلك باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات التوحيد
والتنزيه؛ ليُعلم عظم الآمر والناهي، وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها
تجده كذلك) [13] .
الثالثة: المزاوجة بين الوعد والوعيد، والبشارة والنذارة، والترغيب
والترهيب؛ وفي ذلك من الحكمة والمناسبة ما هو بيِّن لكل متأمل.
الرابعة: قال السيوطي: إن عادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل
العبد؛ حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في
الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في سورة الكهف: [ووضع
الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ... ] [الكهف: 49] إلى أن قال: ... [ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل.....] [الكهف: 54] .
والقواعد في هذا الباب كثيرة ومثيرة، وليس هذا موطن استقصائها. ...
أنواع المناسبات: [14]
للمناسبات في القرآن ثلاثة أنواع:
الأول: المناسبات في السورة الواحدة.
الثاني: المناسبات بين السورتين.
الثالث: مناسبات عامة.
ولكل نوع من هذه الأنواع أقسام كثيرة وسنقتصر في هذه العجالة على بعضٍ
منها، مما يتضح به المقصود وينفتح به الباب للطالب الراغب.
النوع الأول: المناسبات في السورة الواحدة، ويتضمن أقساماً ومنها:
أولاً: المناسبة بين أول السورة وخاتمتها:
مثاله: قوله تعالى: في أول سورة البقرة: [الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون] [البقرة: 3] ، ثم قال في آخر السورة: [آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله ... ] [البقرة: 285] فهو في أول السورة يذكر صفات المتقين التي يتميزون بها وفي آخر السورة يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه قد امتثلوا تلك الصفات وتحلوا بها.
مثال آخر: في سورة (المؤمنون) افتتح السورة بذكر فلاح المؤمنين [قد أفلح
المؤمنون] [المؤمنون: 1] ، واختتمها بنفي فلاح الكافرين [ومن يدع مع
الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون]
[المؤمنون: 117] .
ثانياً: المناسبة بين الآية والتي تليها.
مثاله: قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: 5] فإنه لما ذكر في
أول السورة استحقاق الله تعالى لكل المحامد، وكونه رباً للعالمين، وهو الرحمن
الرحيم، وهو مع كل هذا الملك المتصرف في اليوم الذي لا ملك فيه لأحد إلا لله..
كان من شأن كل عاقل أن يُقبِل على مَنْ هذه صفاته وتلك عظمته معترفاً بالعبودية
له والذل الكامل لجنابه العظيم ملتجئاً إليه طالباً منه العون والمدد، ثم إنه لما حمد
وأثنى ومجّد واعترف بالعبودية ناسب أن يستشرف للطلب من ذلك الرب المستعان، فيقول: [اهدنا الصراط المستقيم] [الفاتحة: 6] .
ثالثاً: المناسبة بين حكمين في الآيات أو الآية:
وذلك كما في آيات الاستئذان حين أعقبها بالأمر بغض البصر؛ فإن الاستئذان
إنما جعل من أجل أن لا يقع بصر المستأذن على عورة، ولو صادف أن وقع فإن
على المستأذن أن يغض البصر، ثم إن العلاقة بين الحكمين بيِّنة؛ إذ فيهما ذكر ما
تكون به العفة وحفظ العورات في المجتمع المسلم.
والمناسبة بين الأمر بحفظ الفرج والأمر بغض البصر تقدمت فيما سبق،
وهما حكمان في آية واحدة.
رابعاً: المناسبة بين اسم السورة ومضمونها:
مثاله: المناسبة بين مضمون سورة الكهف واسمها؛ فإن السورة قد ذكرت
أنواع الفتن التي تمر بالمرء؛ إذ ذكرت فيها الفتنة في الدين في قصة الفتية، وفتنة
الجلساء في قوله: [واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ... ]
[الكهف: 28] ، وفتنة المال في قصة صاحب الجنتين، وفتنة العلم في قصة
موسى والخضر، وفتنة السلطان في قصة ذي القرنين، وفتنة القوة والكثرة في
خبر يأجوج ومأجوج، وذكرت هذه السورة المخرج من كل واحدة من هذه الفتن؛
فكأنها كهف لمن اعتصم بها من الفتن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) [15] .
النوع الثاني: المناسبات بين السورتين: ويتضمن أقساماً منها:
أولاً: المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمة التي قبلها:
مثاله: في آخر سورة الإسراء قال تعالى: [وقل الحمد لله الذي لم يتخذ
ولدا ... ] [الإسراء: 111] ، وفي أول سورة الكهف التي تليها قال: [الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا....] [الكهف: 1] .
مثال آخر: في آخر سورة الطور قال: [ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم]
[الطور: 49] ، وفي أول سورة النجم قال: [والنجم إذا هوى] [النجم: 1] .
ثانياً: المناسبة بين مضمون السورة والتي تليها:
مثاله: في سورة الضحى ذكرٌ للنعم الحسية على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفي سورة الشرح ذكر للنعم المعنوية عليه.
مثال آخر: في سورة البقرة ذكر للطوائف الثلاث: المنعم عليهم ويمثلهم
المسلمون، والمغضوب عليهم ويمثلهم اليهود، والضالون ويمثلهم النصارى. وقد
ذكر في سورة البقرة الطائفتين الأوليين بما هو ظاهر، وفي سورة آل عمران ذكر
الطائفة الثالثة فيما يزيد على (120) آية من أولها.
النوع الثالث: مناسبات عامة:
وهي المناسبات التي يذكرها العلماء مطلقة في القرآن وهي كثيرة جداً أذكر منها نموذجاً للبيان.
- افتُتحت سورتان بقوله: يا أيها الناس وهما: سورتا النساء، والحج،
وذكر في الأولى بدء الخلق والحياة للإنسان: [يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم
من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء] [النساء: 1] ، وفي سورة الحج ذكر لنهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى: [يا أيها الناس اتقوا
ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم] [الحج: 1] .
شبهة وجوابها:
قد يقول قائل: كيف تطلب المناسبات بين الآيات والسور علماً بأنها نزلت
مفرقة كل واحدة منها في زمن يخالف زمن الأخرى، وفي قضية مغايرة لمضمون
ما جاورها؟ وقد أجاب عن هذا التساؤل الزركشي فيما نقله عن بعض مشايخه
المحققين فقال: (قد وهم من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة؛ لأنها على
حسب الوقائع المتفرقة؛ وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى
حسب الحكمة ترتيباً؛ فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب
المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف) [16] .
ويزيد هذا الجواب إيضاحاً الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: (إن كانت بعد
تنزيلها جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان
قائماً على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته
ثم فُرِّق أنقاضاً، فلم تلبث كل لبنة أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد
مرصوصاً يشد بعضه بعضاً كهيئته أول مرة) [17] .
وبعدُ أخي القارئ فهذه كلمات وجيزة أردت بها تعريفك بعلم تفيدك معرفته
والاطلاع على حقيقته، واللهَ أسأل أن أكون موفقاً في بلوغ الهدف وتحقيق المقصود.
__________
(1) الإتقان للسيوطي، 2/139.
(2) انظره في: البرهان، للزركشي، 36، والإتقان 2/138.
(3) البرهان: 35.
(4) البرهان: 36، وانظر الإتقان: 2/136.
(5) انظر البرهان: 35.
(6) نظم الدرر: 1/9، والإتقان: 2/138.
(7) نظم الدرر: 1/1012.
(8) أنظر: البرهان، للزركشي: 36.
(9) انظر أيضا: البرهان: 36.
(10) انظر: نظم الدرر: 1/14.
(11) نقله السيوطي في الإتقان 2/141 عن بعض المتأخرين.
(12) نظم الدرر: 1/6.
(13) البرهان: 40.
(14) انظر: مباحث في التفسيرالموضوعي: 68وما بعدها.
(15) رواه مسلم، ح/809.
(16) البرهان: 37.
(17) مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، 57.(146/18)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أهمية علم مصطلح الحديث
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
لعلم مصطلح الحديث أهمية عظيمة؛ وقد أشار إلى أهمية هذا الفنِّ عددٌ من
العلماء الأجلاَّء أذكر منهم:
الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي في أول (شرح ألفيته) التي ...
لخص فيها (كتاب ابن الصلاح) في هذا الفن؛ حيث قال: (وبعد؛ فعلم الحديث خطير وقعه، كبيرٌ نفعُه، عليه مدار أكثرِ الأحكامِ، وبه يعرف الحلال والحرام، ولأهله اصطلاحٌ لا بُدَّ للطَّالب من فهمه؛ فلهذا نُدِب إلى تقديم العناية بكتابٍ في علمه) [1] .
فإذا علم هذا فلا شك أن الإسناد وتأريخ الرواة، ووفياتهم، ونقد الرواة،
وبيان حالهم من تزكية أو جرح، وسبر متن الحديث ومعناه، وعلم الجرح والتعديل، وعلم علل الحديث: هي شعب كبرى من (علم مصطلح الحديث) ؛ فهو المَقسِم
العام، وتلك أقسام منه.
وذلك أن (علم مصطلح الحديث) هو مجموع القواعد والمباحث الحديثية
المتعلقة بالإسناد والمتن، أو بالراوي والمروي حتى تقبل الرواية أو ترد، التي بدأ
تأسيسها في منتصف القرن الأول للهجرة حتى تكاملت، ونضجت، وانصرفت في
أواخر القرن التاسع لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدس والتزوير، والخطأ والتغيير، وهي تتصل بضبط الحديث سنداً، ومتناً، وبيان حال الراوي
والمروي ومعرفة المقبول والمردود، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ،
وما تفرع عن ذلك كله من الفنون الحديثية الكثيرة، وكل ذلك يسمى: (علم
مصطلح الحديث) أو (علم أصول الحديث) ، أو (علم المصطلح) اختصاراً،
كما سيأتي بيانه إن شاء الله [2] .
وللأستاذ الشيخ سليمان الندوي رحمه الله كلمة مهمة في بيان أهمية الرواية،
وضرورة نقد المرويات أحببت أن أوردها هنا؛ ففيها خير تعريف لعلم أصول
الحديث.
قال رحمه الله وهو يتحدث عن (تحقيق معنى السنة ومكانتها) : (الرواية
أمر ضروري؛ لا مندوحة عنه لعلم من العلوم، ولا لشأن من شؤون الدنيا عن
النقل والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضراً في كل الحوادث.
فإذاً لا يُتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهاً، أو
تحريراً.
وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم.
هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء
والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم: هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل
والرواية؟
ولما كانت الأحاديث أخباراً وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من
غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا؛ فهذه
القواعد، وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث، وسموها: (أصول ...
الحديث، وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها) [3] .
نشأة علم مصطلح الحديث:
نشأت علوم الحديث مع نشأة الرواية ونقل الحديث في الإسلام، وبدأ ظهور
هذه الأصول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتم المسلمون بجمع
الحديث النبوي خوفاً من ضياعه، فاجتهدوا اجتهاداً عظيماً في حفظه وضبطه،
ونقله، وتدوينه، وكان من الطبعي أن يسبق تدوين الحديث علم أصول الحديث؛
ذلك لأن الحديث هو المادة المقصودة بالجمع والدراسة، وأصول الحديث هي
القواعد والمنهاج الذي اتبع في قبول الحديث أو رده، ومعرفة صحيحه من ضعيفه.
وقد اتبع الصحابة والتابعون وتابعوهم قواعد علمية في قبول الأخبار من غير
أن ينصوا على كثير من تلك القواعد، ثم جاء أهل العلم من بعدهم فاستنبطوا تلك
القواعد من مناهجهم في قبول الأخبار، ومعرفة الذين يُعتد بروايتهم أو لا يعتد بها،
كما استنبطوا شروط الرواية وطرقها، وقواعد الجرح والتعديل، وكل ما يلحق
بذلك؛ فقد لازم نشوء علم أصول الحديث نقل الحديث وروايته، وهذا أمر طبعي؛
فما دام هنالك نقل للحديث فلا بد من وجود مناهج وطرق لذلك النقل.
ثم ما لبثت علوم الحديث أن تكاملت، وأصبحت علماً مستقلاً له شأنه بين
العلوم الإسلامية [4] .
ومن خلال هذا نعلم أن بدء تدوين مبادئ هذا العلم، وكذا تسجيل بعض
مسائله كان ببدء تدوين التاريخ للرجال، والتصنيف للحديث في الكتب، وكان قبل
ذلك محفوظاً في الصدور متردداً على الألسنة، ومع ذلك فإنه لم يؤلف فيه تأليف
خاص جامع في الجملة إلا في القرن الرابع، وما جاء قبل ذلك كان رسائل مستقلة، ونتفاً وجملاً منثورة، ورسائل في بعض المسائل منه تجيء بها المناسبات.
وفي أواخر القرن الثاني بُدئ بتأليف بعض المباحث منه على شكل أبواب
مستقلة في موضوعها، يجمع الموضوعَ الواحد منها جزءٌ، أو أجزاءٌ تكون كتاباً
لطيفاً بمقاييسنا اليوم [5] .
وإذا كان كما نقل النووي عن الخطيب لعلي بن المديني مئتا مصنف في
الحديث فمعنى ذلك أن هذا المذكورَ من مؤلفاته وقد بلغت (29) كتاباً غيضٌ من
فيض من تصانيفه في خدمة الحديث، فلا شك أن هناك أنواعاً أخرى ألف فيها،
وانقرضت كُتُبها، ولكن أصحابه وتلامذته تلقوها عنه، واستفادوا منها، وأفادوا بها
مَنْ بعدهم.
وهكذا نرى أن علي بن المديني ألف في جملة كبيرة من أنواع المصطلح
وفنونه، وهو من أهل القرن الثاني وأوائل الثالث.
وهكذا كانوا يؤلفون أول الأمر لكل فن من فنون علم الحديث كتاباً، ثم لما
تقعدت المسائل، ونضجت المباحث، واستقرت الاصطلاحات جعلوا كل نوع باباً
من أبواب المصطلح، كما هو الحال في كتاب الإمام ابن الصلاح: (معرفة أنواع
الحديث) ، وقد يطول النوع أو يقصر بحسب ما كتبوا فيه، وما دخل تحته من
مسائل وفروع وفوائد وتنبيهات.
ويمكن أن يقال: إن الإمام الشافعي رحمه الله (150 - 204هـ) ، هو أول من دوَّن بعض المباحث الحديثية في كتابه: (الرسالة) ، فتعرض فيه لجملة مسائل هامة مما يتصل بعلم المصطلح، كذكر ما يشترط في الحديث للاحتجاج به، وشرط حفظ الراوي، والرواية بالمعنى، وقبول حديث المدلس، واشتهر عنه موقفه من (الحديث المرسل) ، واستعمل (الحديث الحسن) كما ذكره الحافظ العراقي في حاشيته على (مقدمة ابن الصلاح) [6] .
أطوار علوم الحديث:
لقد اعتاد الباحثون في علوم السنة تقسيم كتب علوم الحديث إلى طورين:
الأول: طور ما قبل كتاب ابن الصلاح (معرفة أنواع علم الحديث) .
الثاني: طور كتاب ابن الصلاح، وما بعده [7] .
الطور الأول:
أما بدء الطور الأول لهذا العلم فلا شك أن الإمام الشافعي رحمه الله (150-
204هـ) أول من نعلمه تكلم عن بعض علوم مصطلح الحديث كلام تقعيد وتأصيل في كتابه المشهور بـ (الرسالة) .
وإليك طرفاً مما قاله الإمام الشافعي رحمه الله في (الرسالة) مما يتصل أوثق
اتصال بمصطلح الحديث.
قال رحمه الله في (باب خبر الواحد) [8] : (قال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما
تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة) .
فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو من انتهى به إليه دونه، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً:
منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً
لما يحدث به، عالماً بما يُحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي
الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى
وهو غير عالم بما يحيل معناه: لم يَدْرِ: لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه
بحروفه فلم يبقَ وجهٌ يخافُ فيه إحالته الحديث.
حافظاً إذا حدث به مِنْ حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شَرِكَ
أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً: يحدِّث عمن لقي
ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى به إليه دونه؛ لأن كل واحد منهم مثبتٌ
لمن حدثه، ومثبتٌ على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت ... إلخ) .
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمته لكتاب (لسان الميزان) [9] ،
كلامَ الشافعي هذا، ثم قال: (وقد تضمن كلام الشافعي هذا جميع الشروط المتفق
عليها بين أهل الحديث في حدِّ من تُقبل روايته) انتهى.
وقد علق الشيخ أحمد شاكر على كلام الشافعي في (الرسالة) بقوله: ( ...
ومن فِقْهِ كلام الشافعي في هذا الباب وُجِدَ أنه جمع كل القواعد الصحيحة لعلوم
الحديث المصطلح) ، وأنه أول من أبان عنه إبانة واضحة، وأقوى من نصر
الحديث، واحتج لوجوب العمل به، وتصدى للرد على مخالفيه، وقد صدق أهل
مكة وبروا إذ سموه: (ناصر الحديث) ، رضي الله عنه) [10] .
ثم تبعه الإمام الحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي (219هـ) شيخ البخاري والذهلي وهذه الطبقة؛ فقد روى عنه الحافظ أبو بكر بن الخطيب في مواضع من كتابه: (الكفاية في علم الرواية) كلمات هامة في مصطلح الحديث يمكن أن تعد رسالة لطيفة في الموضوع، فيها التعريف الكاشف للحديث الصحيح المحتج به، ولحكم الحديث المعنعن، وما يعد جرحاً عاماً في الراوي، وما لا يُعد إلا جرحاً في بعض حديثه، وغير ذلك مما له أهميته [11] .
وكذا في (الجامع الصحيح) للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل
البخاري رحمه الله (194 - 256 هـ) جملٌ كثيرةٌ في مسائل مصطلح الحديث، وكذلك في مجموع كتبه ك (التاريخ) ، و (الضعفاء) ، فَيُلتَقَط منها جمل جمة من عل وم الحديث، لا سيما مباحث الجرح والتعديل.
ثم تبعه الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج رحمه الله (240 - 261هـ) ؛ حيث قدم لكتابه: (الجامع الصحيح) ، مقدمة نفيسة تضمنت جملة صالحة من علم المصطلح، وجاءت هذه المقدمة الحديثية الاصطلاحية بالغة الروعة في ... لغتها، وقوتها ومضمونها، وأمثلتها.
وهناك من الأئمة المحدثين من كان يشير إلى بعض قواعد علوم الحديث من
تصحيح، أو تضعيف، أو تعليل خلال كلامه على الحديث، كثيراً كان أو قليلاً.
فمن المكثرين: الإمام الحافظ محمد بن سورة الترمذي رحمه الله؛ ففي كتابه
المشهور بـ (الجامع) جملة كبيرة من علوم الحديث نجدها مبثوثة في أبوابه،
وعند الكلام على أسانيده.
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتابه: (عارضة
الأحوذي) [12] : (وليس في قدر كتاب أبي عيسى مِثْلُهُ حلاوةَ مَقْطَعٍ، ونَفَاسَةَ مَتْرَعٍ، وعذوبةَ مشرعٍ، وفيه أربعة عشر علماً فرائد: صنَّف أي الأحاديث على الأبواب وذلك أقرب للعمل وأسند، وصحَّح، وأشهر، وعدد الطرق، وجرَّح، وعدَّل، وأسمى، وأكنى، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في
تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، فرْد في نصابه) .
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد رحمه الله: (هذا الذي قاله
القاضي أبو بكر رحمه الله تعالى في بعضه تداخل، مع أنه لم يستوف تعديد علومه، ولو عدد ما في الكتاب من الفوائد بهذا الاعتبار لكانت علومه أكثر من أربعة عشر؛ فقد حسَّن، واستغرب، وبيَّن المتابعة والانفراد، وزيادات الثقات، وبين المرفوع
من الموقوف، والمرسل من الموصول، والمزيد في متصل الأسانيد، ورواية
الصحابة بعضهم عن بعض، ورواية التابعين بعضهم عن بعض، ورواية الصاحب
عن التابعي، وعدد من روى هذا الحديث من الصحابة، ومن تثبت صحبته ومن لم
تثبت، ورواية الأكابر عن الأصاغر، إلى غير ذلك.
وقد تدخل رواية الصاحب عن التابع تحت هذا، وتاريخ الرواة.
وأكثر هذه الأنواع قد صُنِّف في كل نوع منها، وفي الذي بيناه ما هو أهم
للذكر) انتهى.
وقد ختم الترمذي أيضاً (جامعه) ، بجزء نفيسٍ للغاية، ألحقه به، وعُرِف
أخيراً بكتاب: (العلل الصغير) ، جاءت فيه المباحث الكثيرة الهامة: في الجرح
والتعديل، ولزوم الإسناد، والرواية عن الضعفاء، ومتى يحتج بحديثهم، ومتى لا
يحتج؟ وفي الرواية بالمعنى، كما ذُكِر فيه شيء من مراتب بعض المحدثين الكبار، ... وصور التحمل والأداء، ومن حُكْم الحديث المرسل، واصطلاح الترمذي في
وصفه الحديث بالحسن، أو الغريب في كتابه.
ومن المقلين الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي المشهور
بأبي داود رحمه الله (275هـ) ؛ حيث حفظ لنا قدراً حسناً من مسائل هذا العلم في (رسالته في وصف سننه) إلى أهل مكة.
وكذا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي رحمه الله (303هـ) ، لم يخل كتابه: (السنن) من بعض مباحث علوم الحديث.
ففي خلال القرن الثالث اتضحت معالم هذا العلم علوم الحديث بما ذُكِر من
مسائله في كتب الرجال، أو في كتب الحديث، أو في كتب مستقلة ذات موضوع
واحد، مثل كتب الإمام علي بن المديني، وأكثرَ الكاتبون في مسائله: فمنهم:
الإمام الحافظ الحجة أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (181 - 255هـ) في المقدمة النفيسة لكتابه: (السنن) ، وهو أحد شيوخ الأئمة المحدثين الكبار كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي، وهذه الطبقة العالية الشأن.
فإن هذه المقدمة نفيسة الموقع كل النفاسة؛ إذ تعرض فيها للتعريف بصاحب
السنة الشريفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان الناس عليه قبل
مبعثه، كما تعرض لذكر أول شأنه عليه الصلاة والسلام وما أكرمه الله به من
معجزات، وما خص به من الصفات المحمدية، والأخلاق النبوية، ولذكر وفاته،
وللزوم اتِّباعه، والأدب مع سنته، وأوامره، ونواهيه.
وتوجد أيضاً جملة من ألفاظ الجرح والتعديل، والمصطلح، في كتاب ... (الثقات) للعجلي: أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي ثم
الطرابلسي (261هـ) رحمه الله.
وكذلك في كتاب: (تاريخ أبي زرعة الدمشقي) (200 - 281هـ) رحمه الله كلام كثير جداً في الرجال، ومسائل من علوم المصطلح، بل هو محشو حشواً بتلك الفوائد والمسائل، حتى إن تلميذه أبا بكر الخلال أحمد ابن أحمد بن هارون (311هـ) سمى كتاب شيخه هذا: (كتاب التأريخ وعلل الرجال) ؛ ففيه نُقُول في مسائل هامة من علم مصطلح الحديث من كلام أئمة القرن الثاني والثالث، كالإمام التابعي محمد بن شهاب الزهري (124هـ) رحمه الله، وكلام الإمام الأوزاعي (157هـ) رحمه الله، وكلام الإمام مالك (179هـ) رحمه الله ومن كلام كثير سواهم.
وقد جاء في كلام هؤلاء الأئمة: التوثيق، والتضعيف، والجرح والتعديل،
والتفضيل لبعض الرواة الثقات على بعض، وذكر من يدلس، ومن لا يدلس،
والمفاضلة بين الحافظ والأحفظ، والفقيه وغير الفقيه ... ، وحكم التحديث،
والإخبار، والإجازة، والقراءة على العالم والسماع منه، وكيف يروى عنه في ذلك، وذِكْر مصطلح بعض المحدثين كدحيم شيخ أبي زرعة الدمشقي، وذِكْر من حظي
بالصحبة واللقاء، والإدراك للنبي صلى الله عليه وسلم وعدمه، وذِكْر الموالي
ومواليهم، والأسماء المتفقة والمفترقة، وأنساب الرواة، وألقابهم، وكناهم، وبيان
مواليدهم، ووفياتهم، وبعض شيوخهم، والجرح ببدعة القدرية والخوارج،
وبالزندقة، وباللصوق بالسلطان والخروج عليه، وغير ذلك من المسائل الهامة
المفيدة.
وكذلك في كتاب (المعرفة والتأريخ) للحافظ الإمام يعقوب بن سفيان الفَسَوي
(200 - 277 هـ) جملة صالحة من علوم المصطلح منثورة في خلال بحوثه، يقف عليها الباحث المتتبع بيسر وسهولة.
وكذا للحافظ العلامة أبي بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزَّار (290 هـ) جزءٌ في معرفة من يُترك حديثه، أو يقبل، ذكره الحافظ العراقي، ونقل عنه في شرحه (للألفية) .
وهكذا تعددت التآليف، وتنوعت التصانيف، وكثرت الروافد والأصول،
حتى جاء في القرن الرابع الهجري أئمة أعلام لم يفتؤوا من العناية، والكلام عن
الحديث ومصطلحاته، ومباحثه.
وفي منتصف القرن الرابع توجهت أنظار بعض العلماء إلى جمع تلك
المباحث والقواعد المتفرقة في كتاب جامع ناظم لمسائل هذا العلم العظيم علوم
الحديث.
فقد كتب الإمام الحافظ الناقد ابن حبان البُستي مقدمة صحيحه: (التقاسيم
والأنواع) ، ومقدمة كتابه الآخر: (المجروحين) ، ومقدمة كتابه الثالث: (الثقات) ... وتعد هذه المقدمات وخاصة مقدمة الصحيح والمجروحين من أهم ما كُتبَ في
علوم الحديث لما حوته من مباحث مهمة، وقواعد لا يستغنى عن العلم بها.
وفي القرن الرابع أيضاً كتب الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم
الخطابي (388 هـ) مقدمة كتابه: (معالم السنن) ، ومع كونها صغيرة إلا أنها تعتبر أول باكورة في تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف.
ثم كتب أيضاً الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي (403 هـ) مقدمة كتابه: (مختصر الموطأ عن مالك) ، المعروف بـ (الملخَّص) تناول فيها مسائل في: الاتصال والانقطاع، وصيغ الأداء، والرفع وأنواعه، ونحوها.
وهكذا تتابع العلماء كتابةً في هذا الفن علوم الحديث وما زالوا على هذا
المنوال حتى تصدى بعض أهل العلم للكتابة والتدوين لهذا الفن استقلالاً.
التدوين استقلالاً:
ومن أول من دوَّن فيه تدويناً مستقلاً الحافظ القاضي الإمام البارع الذواقة أحد
أئمة هذا الشأن دون شك: أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاَّل الفارسي
الرَّامَهُرْمُزي، (265 - 360 هـ) رحمه الله، فألَّف فيه كتابه الرائد الماتع الشهير بـ (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) ، وهو كتاب جليل عظيم النفع جمع فيه مادة ضخمة منوعة في فنون الرواية وآدابها.
وكذلك نجد كتاب: (المحدث الفاصل) معتمداً الاعتماد كله على كلام أئمة
النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري؛ حيث بيَّن فيه منهجهم في مسائل
(علوم الحديث) .
وكذلك لأبي عبد الله بن منده الحافظ (395هـ) رحمه الله (جزء) في شروط الأئمة في القراءة، والسماع، والمناولة، والإجازة ذكره الحافظ سبط ابن العجمي في كتابه: (التبيين لأسماء المدلسين) .
وكذا قام الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري رحمه الله (405هـ)
بتأليف كتاب مستقل فيما نحن بصدده، وذلك هو كتابه العظيم: (معرفة علوم
الحديث) .
فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرَّامَهُرْمُزي رحمه الله
من الاعتناء بمصطلح الحديث، وشرح معناه، وضرب الأمثلة له.
وقد تكلم رحمه الله عن العالي والنازل، والموقوف والمرسل والمنقطع،
والمعنعن، والمعضل، والصحيح، والسقيم، وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت
عنده اثنين وخمسين نوعاً.
وكتابه هذا صريح كله بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث من شيوخ الحاكم ومَنْ
قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري.
وعلى هذا المنهج نفسه في الأغلب صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ... (مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم) [13] ؛ لأن طبيعة المستخرجات تُلزم
بذلك.
وهنا ننتهي من الكلام على مصنفات علوم الحديث في القرن الرابع، وندخل
في القرن الخامس الهجري؛ إذ تتابع فيه التأليف، وتعدد فيه التصنيف، فألف فيه
حافظ المشرق الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ابن ثابت (392 -463 هـ) فأكثر، وأوعبَ، وأطالَ، ونَوَّعَ؛ وقد قال عنه ابن نقطة الحنبلي: (له مصنفات في علوم الحديث لم يُسبق إلى مثلها ولا شبْهها عند كل لبيب. إن المتأخرين من أصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب) [14] . انتهى.
وعنه قال ابن حجر: (قلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً
مفرداً) [15] ؛ إلا أن أجلَّ كتبه، وأنفعها في علوم الحديث هو: (الكفاية في علم
الرواية) .
أما منهجه في كتابه هذا فقد صرح به الخطيب رحمه الله في مقدمته تصريحاً
واضحاً؛ حيث قال: (وأنا أذكر بمشيئة الله تعالى وتوفيقه في هذا الكتاب: ما
بطالبِ الحديث حاجةٌ إلى معرفته، وبالمتفقه فاقةٌ إلى حفظه، ودراسته من بيان
أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب السلف الرُّواة والنَّقلة في ذلك ما
يكثر نفعه.
ومن أعيان هذا القرن الخامس الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد
الخليلي (446 هـ) ؛ فقد كتب في مقدمة كتابه: (الإرشاد في معرفة علماء الحديث) مقدمة نفيسة تعرض فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها، وكلامه فيها من
معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب.
وكتب أيضاً في هذا القرن الإمام البيهقي (458هـ) ، رحمه الله كتابه: (المدخل إلى السنن الكبرى) .
وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية
الكتاب شبه مفقودٍ، فكان مما فقدنا من هذا الكتاب القسم الذي خصَّه البيهقي لعلوم
الحديث، ومصطلحاته، وأصوله والله أعلم!
وقد جعل الحافظ ابن كثير (701 - 774 هـ) رحمه الله كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني بعد كتتاب ابن الصلاح في كتاب: (اختصار علوم الحديث) كما ص رح بذلك في مقدمة كتابه [16] .
غير أن محقق كتاب البيهقي: الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي قد جمع
مجموعة من النقول عن القسم المفقود من (المدخل إلى السنن) من كتب علوم
الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي [17] .
فـ (المدخل إلى السنن الكبرى) عبارةٌ عن كتابٍ لإسناد أقوال أئمة الحديث
في القرن الرابع فما قبله المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها.
كما ألف فيه أيضاً حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي: أبو عمر
يوسف بن عبد الله بن عبد البر، (368 - 463هـ) ، وذلك فيما أودعه في مقدمته النفيسة الواسعة الشاملة لكتابه العُجاب الفريد: (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) في ستين صفحة.
وقد نقل الحافظ ابن الصلاح رحمه الله كلام الحافظ ابن عبد البر في علم
المصطلح في غير موضع من كتابه: (معرفة أنواع علم الحديث) .
فإذا انتهينا من مقدمة ابن عبد البر نذكر تبعاً قرينه أبا محمد ابن حزم: علي
بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري، (456هـ) ، وإنما قلت: تبعاً؛ لأنه تعرض لعلوم الحديث في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام) ، وهو كتابٌ في أصول الفقه لا في علوم الحديث، ولا مقدمة لكتاب في الحديث!
والكتاب، بعد ذلك وعلى هذه الشاكلة، يمثل قواعد ابن حزم رحمه الله
ومصطلحه، لا قواعد الحديث، ومصطلحه عند أهله!
وجاء بعد الحافظين الكبيرين الخطيب البغدادي، وابن عبد البر الأندلسي
الحافظ القاضي عياض اليحصبي (479 - 544 هـ) رحمه الله فألف كتابه الماتع: (الإلماع إلى معرفة أصول الرِّواية وتقييد السَّماع) .
ولهذا الإمام تعرُّضٌ واسع لأبوابٍ من علوم الحديث، في كتابين له هما:
(الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) ، ومقدمة كتابه: (إكمال المعلم
بفوائد مسلم) للمازري.
إلا أن كتابه الأول (الإلماع) كتاب مختص بأصول الرواية (طرق التحمُّل
وحجيتها) ، وتقييد السماع (كألفاظ الأداء) ، وما يتعلق بذلك، وبعض الآداب وما
شابهها.
فليس في الكتاب اهتمام بالمصطلحات الحديثية لأقسام الحديث التي هي مدار
حديثنا!
أما كتابه الآخر: فهو شرح لمقدمة الإمام مسلم لصحيحه، وحيث تعرض
الإمام مسلم في مقدمته لصحيحه لبعض القضايا المهمة في علوم الحديث تناولها
القاضي عياض بالشرح.
وبما أن القاضي عياض رحمه الله فقيه وأصولي لذلك فقد حشا كتابه: (إكمال
المعلم) بالنقل عن الفقهاء، والأصوليين، والمتكلمين حتى غلب النقل عنهم على
المتحدثين [18] !
ثم جاء بعده قاضي الحرمين أبو حفص الميَّانِشيّ: عمر بن عبد المجيد بن
عمر القرشي، نزيل مكة (583 هـ) رحمه الله وكتب رسالته الصغيرة المسماة بـ
(ما لا يسع المحدث جهله) ، وهي رسالة مختصرة جداً، وغالبها نقل واختصار من
كتابَيْ: (معرفة علوم الحديث) للحاكم، و (الكفاية) للخطيب، ولم تَخلُ من فائدةٍ.
وقد أغفل الحافظ ابن حجر أيضاً في سلسلة من كتبوا، أو ألفوا في
(المصطلح) : الإمام مجد الدين أبا السعادات مبارك بن محمد المشهور بابن الأثير،
(544 - 606 هـ) وما كتبه في مقدمة كتابه: (جامع الأصول في أحاديث الرسول) وذلك في الباب الثالث في بيان أصول الحديث وأحكامها، وما يتعلق بها [19] .
وقد بلغ هذا الباب (111) صفحة فهو كتاب وليس بباب صاغه الإمام ابن
الأثير رحمه الله بفصاحة عبارته، وجمال أسلوبه، ودقة صياغته، واستوفى فيه
أهم مباحث المصطلح تقريباً.
واستخلص ذلك من كتب الترمذي، والحاكم، والخطيب، البغدادي وغيرهم،
كما أشار إلى ذلك في فاتحة ذلك الباب.
وبقي في هذا الطور مشاركات عدة مما بلغنا، وما فُقِدَ فأكثر!
لكن ما بلغنا من هذه المشاركات: إما أنه لم يقصد إلى شرح مصطلحات،
وإنما اعتنى ببيان بعض القواعد، والأصول، أو أنه نقل محض تندر فيه الإضافة
المؤثرة.
ومن أمثلة تلك المشاركات:
كتاب: (شروط الأئمة الستة) لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي
(507 هـ) .
ومقدمة كتاب: (الوجيز في ذكر المجاز والمجيز) لأبي طاهر أحمد بن محمد
السلفي (576 هـ) .
وكتاب: (شروط الأئمة الخمسة) لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (585هـ) .
وبهذا نكتفي بما ذكر مما ألف في هذا الطور طلباً للاختصار، وما ذُكر فيه
كفاية والله أعلم.
الطور الثاني:
وهذا الطور لا شك أنه أخذ حجماً كبيراً، وميداناً واسعاً في كثرة التأليف في
فن (علم الحديث) ، حتى إنك قد تعجز عن حصر الكتب التي اعتنت بهذا الفن،
لذا لن نتوسع في ذكر كتب المصطلح التي صنفت في هذه الحقبة الزمنية خشية
الإطالة والخروج عن مقصدنا؛ ومنه سنكتفي إن شاء الله بذكر كتابين عظيمين،
وكذا ما تعلق بهما سواءاً اختصاراً، أو شرحاً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً؛ لأنَّ في
ذكرهما وذكر ما تعلق بهما كفاية، ووفاية والله أعلم، وهما:
الأول: كتاب: (معرفة أنواع علم الحديث) ، للإمام ابن الصلاح رحمه الله.
الثاني: كتاب: (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) ، للإمام ابن حجر
رحمه الله.
كتاب: (معرفة أنواع علم الحديث) :
ثم بعد هذا وذاك جاء الحافظ ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن
الشَّهْرَزُورِي، الشافعي (577 - 643 هـ) ، فألف كتابه العظيم في علوم الحديث المسمى بـ (معرفة أنواع علم الحديث) ، وقد اشتهر أخيراً بـ (مقدمة ابن
الصلاح) ، ووقف التأليف في (علوم الحديث) ، عند كتابه هذا، فإنه جمع فيه
عيونه، واستوعب فيه فنونه.
وغدا هذا الكتاب لمحاسنه الجمة، وتفوقه على كل من سبقه المنهل العذب
المورد في المصطلح لكل حديثي ومحدث وعالم، وتوجه العلماء من بعده إليه
بشرحه، أو اختصاره، أو تحشيته، أو نظمه.
قال الحافظ السيوطي رحمه الله عنه: ( ... إلى أن جاء الشيخ تقي الدين ابن
الصلاح، فجمع (مختصره) المشهور، فأملاه شيئاً بعد شيء لما ولي تدريس دار
الحديث الأشرفية بدمشق فهذب فنونه، ونقح أنواعه، ولخصها، واعتنى بمؤلفات
الخطيب، فجمع متفرقاتها، وشتات مقاصدها، فصار على كتابه المعوَّل، وإليه
يرجع كل مختصر ومطول) . انتهى.
وعنه يقول الحافظ ابن حجر: (فهذب فنونه، وأملاه شيئاً بعد شيء؛ فلهذا
لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب، وضم إليها نخب فوائدها، فاجتمع في
كتابه ما تفرق في غيره؛ فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم
ناظم له ومختصر، ومستدرِك عليه ومقتَصر، ومعارضٍ له ومنتصر!) [20] .
فإذا علم هذا فإننا نجد أهل العلم لم يألوا جهداً في العناية بكتاب ابن الصلاح
هذا ولذا تضافرت جهودهم في الاهتمام به شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو
تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً، وهكذا لم يبرحوا عن متابعة خدمة هذا الكتاب الجليل، وهو كذلك؛ فقد أتعب ابن للصلاح رحمه الله من بعده، وحاز سعده؛ حيث
أصبح كتابه همّاً للاحقين، ومفزعاً للطالبين، والله يؤتي الفضل من يشاء من
العالمين، والحمد لله رب العالمين.
هذا، وبقي كتاب الحافظ ابن الصلاح: (معرفة أنواع علم الحديث) المنهل
الوحيد المفضل في علم المصطلح نحو مائتي سنة حتى جاء الإمام الحافظ ابن حجر
رحمه الله فألف رسالته المختصرة التي سماها: (نخبة الفكر في مصطلح أهل
الأثر) ، كما سيأتي الكلام عنها إن شاء الله.
نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر:
لقد ألف الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد
العسقلاني، المشهور بابن حجر رحمه الله (773 - 852 هـ) أمير المؤمنين في الحديث، رسالته المختصرة الجامعة التي سماها: (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) ، ثم شرحها بالكتاب الذي اشتهر أيضاً باسم: (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) ، فاتجهت أنظار العلماء إليه، وعوَّلوا في علم المصطلح عليه؛ لاختصاره وتنسيقه، وتمحيصه وتحقيقه، واحتوائه لزيادة جملة هامة ... من أنواع علم الحديث خلت عنها مقدمة الحافظ ابن الصلاح؛ فمن ثم صارت ... (نخبة الفكر) وشرحها محل الدرس والنظر من علماء الأثر، فكثر شراحها ومختصروها، وكاتبوا حواشيها، وناظموها، كثرة بالغة كادت تبلغ ما بلغته مقدمة ابن الصلاح؛ فلا يحصى كم ناظم لها ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارض لها ومنتصر [21] !
ومن خلال ما ذكرناه عن كتاب ابن حجر رحمه الله فإنه لم يكن أقل حظاً من
كتاب ابن الصلاح؛ لذا نجد أهل العلم أيضاً لم يألوا جهداً في العناية به؛ حيث
تضافرت جهودهم في الاهتمام به سواءاً: شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو
تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً.
__________
(1) انظر كتاب: (شرح الألفية) للحافظ العراقي (3) .
(2) انظر كتاب: (لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ورحمه الله (198200) بتصرف.
(3) انظره في مقاله المانع: (تحقيق معنى السنة ومكانتها) المنشور في مجلة المسلمون في المجلد السادس، ص565، في العدد السادس منه، ص49.
(4) انظر كتاب: (أصول الحديث) للشيخ محمد عجاج الخطيب (14-15) .
(5) انظر كتاب: (لمحات من تاريخ السنة) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة (200 - 201) .
(6) انظر كتاب: (التقييد والإيضاح) للحافظ العراقي (838) ، وكتاب: (لمحات من تاريخ السنة) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة (205 - 206) .
(7) انظر كتاب: (نزهة النظر) لابن حجر رحمه الله، ص (46 - 51) ، وكتاب: (تدريب الراوي) للسيوطي رحمه الله (1/3536) ، وكتاب: (لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث) للشيخ حاتم الشريف (183 وما بعدها) وقد ذكر الأخيران جملة من مباحث هذين الطورين، وهناك كتب أخرى سيأتي ذكرها إن شاء الله.
(8) انظر (الرسالة) للشافعي، ص (8، 38) .
(9) انظر لسان الميزان لابن حجر (1/18 -19) .
(10) انظر: ما علقه الشيخ أحمد شاكر على كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي، ص (369) .
(11) انظر هذه الكلمات في كتاب (الكفاية) للخطيب رحمه الله في الصفحات التالية (40، 41، 133، 146، 175، 179، 181، 265، 412، 429) ، نقلا عن الشيخ أبو غدة في كتابه السابق (215216) .
(12) انظر عارضة الأحوذي لأبي بكر العربي (1/5) .
(13) ذكر هذا المستخرج، الحافظ ابن حجر في كتابه: (نزهة النظر) .
(47) ، والسيوطي في كتابه: (التدريب) (1/35) .
(14) انظر كتاب: (التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد) لابن نقطة، ص.
(154) ، و (تكملة الإكمال) (1/103) .
(15) انظر كتاب: (نزهة النظر) لابن حجر، ص (48) .
(16) انظر كتاب: (اختصار علوم الحديث) لابن كثير، ص (1/96) .
(17) انظر مقدمة محقق (المدخل إلى السنن) (7583) .
(18) انظر كتاب: (المنهج المقترح) لحاتم الشريف، (206 - 207) .
(19) انظر كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، (1/ 68 - 178) .
(20) انظر كتاب: (نزهة النظر) لابن حجر (51) .
(21) من كلام ابن حجر في (نزهة النظر) عن كتاب ابن الصلاح (51) .(146/24)
قضايا دعوية
نحو استثمار أفضل لفائض الوقت
د. مصطفى السيد
يسعى المسلم يومياً مع الملايين من إخوانه في مناكب الأرض إعماراً لها،
وإعمالاً لمواهبه، إنتاجاً وإبداعاً، وبعضهم يضرب في طلب الرزق أجواء الفضاء، وآخرون يركبون متون البحار والأنهار يعملون وكلهم يشتهون غداً أفضل،
ومستقبلاً أجمل لأمتهم وأوطانهم.
والأمة التي تجعل العمل من مقومات وجودها، وهدفاً أساساً لها في الحياة لن
تحصد بفضل الله ثم بعملها إلا مجداً باهراً، وازدهاراً ساطعاً، وحُق لأمة تكون
كذلك أن تكون لها سويعات ترفيه، وأوقات راحة تخلد فيها إلى الهدوء، أو تركن
إلى صحبة تتعاطى معها نشاطاً ذهنياً أو رياضياً يتجدد من خلالها نشاطها، وتتنمى
عبرها مواهب قد لا يتمكن العاملون من إشباعها أوقات الدوام.
هكذا تكون الحياة السوية سمواً عبر العطاء، ومثاقفة بناءة في ساعات
الترويح والاسترخاء.
تعالوا أيها الأحبة نسائل أنفسنا: أين نحن من ذلك في حياتنا بشطريها:
العامل، والمستريح؟
لا أنكر ابتداءاً أنه يوجد بيننا من حولوا ساعات العمل بفضل الله ثم بفضل ما
طبعوا عليه من تربية؛ حولوها إلى زيادة في رصيد حسناتهم، وإلى نتاجات فكرية
أو مادية استفاد منها البلاد والعباد.
كما يوجد من بيننا من حوّل ساعات الترفيه والاسترخاء إلى وجه آخر من
وجوه الحضور للمسلم المنتمي إلى عصره ومجتمعه انتماء مشاركة، وتعاون على
البر والتقوى، وتفكر وتدبر في كل دقيقة، وكيف تملأ بما يكفل عائداً مجزياً
ومردوداً مريحاً؛ وذلك عندما يوفق في قضاء ساعات راحته مع فئة من الناس
تتبسط بغير استهتار، وتتحادث بغير إسفاف، لا تخلع العذار في مزاحها، ولا
تسقط الحياء في لهوها، تتهادى الكلمة الطيبة، وتتبادل الأفكار التي تفتح للأمل
أبواباً، وتوصد من اليأس مثلها، يحضرهم سمر النبي صلى الله عليه وسلم عند
أبي بكر رضي الله عنه الذي كان سمراً في مصالح المسلمين، وقول عمر رضي
الله عنه: (إنه لم يعد له من أرب في العيش لولا محادثة أهل الفضل والمروءة) .
إن مثل هذه النماذج المباركة جعلت من لقاءات الترفيه والسمر مدارس تبث
الكلمة النافعة، وتضخ الخبرة الناضجة لجُلاّسها؛ لأنها:
- لم تفهم الترفيه تحرراً من المسؤولية، وتحللاً من الفضيلة مرددة مقولة
جاهلية ومأثورة شيطانية: (ساعة لك وساعة لربك) ، أو: (دع ما لقيصر
لقيصر، وما لله لله) .
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى رفقة سوءٍ رأت في الحياة عبءاً، والعمر هماً
جاثماً على الصدر، فتفننت في التخلص منهما، والتحلل من مستلزماتهما.
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى العكوف بين يدي متحدث عليم اللسان، فارغ
الجنان، اختزل الحياة بساقط النكات والقهقهة العابثة التي رأت في سخف القول
والعمل سقفاً للعيش، ومضماراً للهو والطيش.
- لم تفهم الترفيه هروباً من الأسرة وحقها في أوقات تأخذ من الأب تجربته،
كما يلقي الأب السمع إلى أفكار ورؤى أبنائه وبناته، لا يتركهم تحتبس الكلمات في
صدورهم، والأسئلة في عقولهم، يغيب عنهم وعن زوجته ليحل محله يأس طاغ،
أو رفيق سوء باغ، أو جلوس إلى قنوات فضائية تتسمر أعينهم في صورها،
يلتهمون سمها الزعاف وفكرها القاتل.
- لم تفهم الترفيه استقالة من معالي الأمور، وانتحاراً بطيئاً غير مباشر من
تبعات الحياة، حتى صار هؤلاء القوم يقدمون الاستراحة على البيت، وروادها
على الأسرة، والحياة الهاربة من كل التزام جاد على الحضور الذي تتحقق به ومعه
أهداف الحياة، حتى إن بعضهم ليحسب أنما خلق عبثاً للعيش بلا دور سوى
حضور باهت على هامش الحياة معطلاً فيه عقله، معلقاً رجولته بخيوط العجز
واللامبالاة، مؤكداً حضوره بتثاؤب مكدود، عيناه باتتا موانئ للذباب، وروحه
ملاعب لجيوش اليأس والإحباط.
- لم تفهم الترفيه سخرية لاذعة من الإصلاح والمصلحين، والجد والجادين،
بل رأت في الترفيه والسمر فرصاً لرفعه إلى مستويات الجد من خلال دعاء لحاكم
ومحكوم بالتوفيق والنجاح، أو من خلال جمع بعض المال تفك به أزمة مأزوم، أو
بالتداول في طرائق النصح لمنحرف ضل الطريق، وهكذا كانت أوقات الترفيه
استمراراً لأوقات الجد واستكمالاً لساعات العمل.
إذا كان الناس يتداعون لشهود صلاة الجنازة على ميت مات فما العمل إزاء
شريحة كبيرة من أفراد الأمة باتوا أحياءاً أمواتاً، وأصبحوا حاضرين غائبين،
همشوا أنفسهم، أو همشتهم ثقافة الإقصاء التي تجرعوها، توارثوها من أسر لا
تمسك علماً، ولا تنبت قيماً.
شريحة تعيش في الحضيض، وإخوانهم من شياطين الجن والإنس يمدونهم
بالغي ثم لا يقصرون، يوهمونهم أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم في قلب الحياة،
والحق أنهم لم يدخلوها إلا بشهواتهم، ولم يحضروا إلا في أطرافها النائية.
هل هؤلاء الذين ارتضوا من الغنيمة بالإياب، ومن الحياة بالفتات؟
هل هؤلاء ضحايا أم خاطئون؟ برءاء أم مسؤولون؟
هل هم نتاج الثقافة الزائفة؟
هل هم دلائل ساطعة على إخفاقنا، وإخفاق المؤسسات العامة والخاصة في
استيعابهم؟
وهل حسبُنا أن نطرح السؤال فقط؟ أو أن نشخص الأوجاع فحسب؟
إن ذلك فهم، ولكن الأهم أن ننتفض انتفاضة نفسية وعقلية لمواجهة النزف
والهدر في هذه الشرائح، وأطْرها على الحق من خلال كل الوسائل المتاحة
والمباحة؛ لأن الأمة لن تقدر على نهضة جادة وفي خواصرها جروح نازفة يأساً،
راعفة إحباطاً، هاذرة في الملمات، هائمة في وقت الحاجة الماسة إلى التركيز.(146/34)
قضايا دعوية
الداعية المطلوب
محمد بن عبد الله التميمي
إن مضمار الدعوة إلى الله - تعالى - هو المضمار الذي تتسابق إليه النفوس
الطموحة والعقول الواعية المفكرة لخوضه وكسب قصب السبق فيه - إي وربِّي!
نعم إنها لكذلك، وإنها لأجلُّ من ذلك ... فلكم قُدِّمت لأجلها رؤوس ...
وأُزهقت أنفس ... وأُدميت أعقاب ... وذرفت دموع! ...
إنها (صناعة الحياة) والآسي [1] المضمِّد لجراحات الأمة (وما أكثرها!)
وهي المهندس الذي يبني (قلعة) الإسلام ويُرمِّمُ بِنْيَة جدارها الذي يُريد أن ينقضَّ،
وهي الضوء والخرِّيت [2]- الذي يشق العُبابات ويجلي الغبش عن نواظر الأمة
ليَمدَّ لها طريقاً في الأفق يبدأ من منطلق: [واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا]
[النساء: 36] عبر محور: [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين] [التوبة: 122] مروراً بمبدأ: [وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما
صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون] [السجدة: 24] كل هذا يصاغ ببوتقة: [ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك] [آل عمران: 159] ، [ولا تصعر
خدك للناس] [لقمان: 18] .
أَجْمِلْ بالداعية وهو يصعد عالي البحار وسافل الوهاد يَجُوبُ الأرض قائلاً:
[يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ... ] [النساء: 1] مذكراً كلَّ مدَّكرٍ،
ومعلماً كل جاهل، ويداً حنونة تعطف على من تنكَّب الجادَّة، ومَنْهلاً روِيًّا يطفئ
غليل كل طاغية.. وابتسامة متفائلةً في وجه كل الصعوبات، وأمام كلِّ العقبات ...
وثباتاً على المبدأ عند المنعطفات وتحت وطأة كل التيارات؛ أجل ... فالدعوة هي
سُلَّمُ النهوض بالأمة الإسلامية من سباتها العميق ومشهدها الدامي الحزين! !
والداعية هو البطل الذي سَيَنْتَشِلُ قرة عينه (الأمة الإسلامية) من كَنَفِ الرذيلة، وحمأة الضلالة، ومنعطفات الغواية، ومن شؤم المعصية إلى حلاوة الإيمان
وزورق الحياة السعيدة وجمال الحسنة وبَرِّ الأمان؛ حداؤه في برنامجه الدعوي: ... [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين]
[فصلت: 33] ليحوز الخيرية (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر
النعم) [3] .
لكن (العمل الدعوي) ليس باباً مفتوحاً على مصراعيه، أو ماءاً الناسُ فيه
شركاء، لا، ثم لا.. فإن صُنَّاع الحياة لا بد لهم من معايير ومقاييس يسيرون على
ضوئها؛ ومن أبرزها:
- الإخلاص والمتابعة (شرطان لذاتهما ولغيرهما) .
- المصداقية في القول والعمل.
- ترجمة (الأوامر والنواهي) إلى واقع محسوس في حياة الداعية، ثم إلى
مسرح الحياة.
- الصبر. وفي الحديث: (والصبر ضياء) [4] قال الشاعر:
أحرى بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... وُمْدمِنِ القرع للأبواب أن يلِجا
بل إنَّ مدارالإمامة في الدين على الصبر واليقين كما قال الحسن البصري -
رحمه الله تعالى - مصداقاً لقول الله - سبحانه -: [وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون] [السجدة: 24] .
- (التأصيل العلمي) وجمع المسائل العلمية [5]- وإن كان هذا المعيار تدور
حوله القضية الساخنة (العلم، والدعوة، والصراع) [6] إلا أننا ندرك أن الدعوة
إلى الله - تعالى - دائرة حول (الأحكام التكليفية والوضعية) وهي مفتقرة إلى الدليل
الذي يدعم حكمها - قلَّ أو كثُر - قال صلى الله عليه وسلم: (بلِّغوا عني ولو
آية) [7] وقال: (رُبَّ حاملِ فقه لا فقه له) [8] .
- صب الاهتمام بكليات المسائل من غير إذابة لجزئياتها عملاً بقاعدة: (إذا
تزاحمت المصالح قُدِّمَ الأعلى منها) .
وهذه (المقاييس والمعايير) هي السلاح الذي يغدو به (الداعية إلى الله) صانعاً
للحياة مؤدياً رسالته على الوجه المطلوب.
وجماع هذه المقاييس والمعايير محوران: (التحصيل العلمي الصحيح) ... و (المخزون الإيماني) بجانب - الخلق الدمث النبيل - وإن لم تكن هذه (المقاييس
والمعايير) في جعبة الداعية فما عليه إلا أن يتنحى عن الطريق لغيره؛ لأن فاقد
الشيء لا يعطيه.
__________
(1) الآسي: الطبيب.
(2) الخريت: الماهر.
(3) البخاري، ح/2724، ومسلم، ح/4433.
(4) مسلم، ح/328.
(5) ليس المراد أن لا يدعوإلى الله حتى يرسخ باعه ويعلو كعبه في العلم، وإنما أن يكون معه من العلم مايجعله لايتكلم من (فراغ) وذلك لأن الداعية هو من أكثر الناس تعرضا للتيارات المنحرفة والأفكار الهدامة.
(6) هناك مقال (لايمل) في هذه القضية للشيخ (عبد الله المسلم) ، أنظر البيان (114) .
(7) البخاري، ح/3302.
(8) رواه احمد، ح/16138.(146/36)
تأملات دعوية
وما عليك ألا يزكى
محمد بن عبد الله الدويش
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل عاطفة صادقة، كان يحب الخير
للناس كلهم، ومن ثم كان يحزنه ويؤلمه ما هم عليه من الكفر والضلال، ويكاد أن
يهلك نفسه حزناً على ما هم عليه، وحرصاً منه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم
وإيمانهم.
وفي القرآن آيات عدة تحكي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ ففي
سورة الأنعام يقول تبارك وتعالى: [وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت
أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على
الهدى فلا تكونن من الجاهلين. إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
إليه يرجعون] [الأنعام: 35، 36] .
وفي سورة الكهف قال تبارك وتعالى: [فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم
يؤمنوا بهذا الحديث أسفا] [الكهف: 6] وفي سورة الشعراء: [لعلك باخع
نفسك ألا يكونوا مؤمنين] [الشعراء: 3] .
إن حرص الداعية على اهتداء الناس، وحزنه على ضلالهم وإعراضهم دليل
على محبته الخير لهم، وعلى صدقه في دعوته، وها هو صاحب أهل القرية حين
مات ورأى ما أعده الله له في الجنة تمنى أن يعلم قومه بما جُوزي به، حتى يهديهم
الله، ويقبلوا عليه [قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي
وجعلني من المكرمين] [يس: 26، 27] .
لكن هذا الحرص ينبغي ألا يتجاوز حد الاعتدال، وإلا كان أمراً منهياً عنه.
إنه حين يتجاوز هذا القدر يولِّد آثاراً سلبية، منها:
1- شعور الداعية بأنه مسؤول عن هداية الناس، وإصلاحهم بينما واجبه
البلاغ، والهداية إنما هي بيد مَنْ قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف
شاء، ولئن كانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم تقف عند واجب البلاغ؛ فغيره
من باب أوْلى.
2- انشغال الداعية أحياناً بشخص يطمع في هدايته، أو شخص انحرف بعد
صلاحه واستقامته، وهذا الانشغال يصبح في أحيان كثيرة على حساب الآخرين،
فيأخذ وقت الداعية ويشغله عمن هو أحوج منه إلى بذل الجهد والوقت؛ فالمقبلون
على الله عز وجل الصادقون في الاستجابة أوْلى من هؤلاء المعرِضين، ولقد عاتب
الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: [أما من استغنى. فأنت
له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى] [عبس: 5 - 8] .
3- انشغال فكر الداعية وقلقه، مما يشغله عن التفكير بما هو أهم من ذلك
وأوْلى.
إن الشعور بأن لكل مشكلة حلاً إن صح في ميادين فإنه لا يصح في الميادين
الإنسانية؛ فالمربي والداعية قد يستطيع أن يخطو خطوةً مَّا، ويتخذ حلاً لمشكلة
تؤرقه، لكنه لا يستطيع بحال أن يضمن استجابة الطرف الآخر وتقبله؛ فالدعوة
والتربية ليسا عملاً من طرف واحد.
وفي سِيَر الأنبياء وهم الذين بلغوا الغاية والقمة في دعوة الناس والتأثير عليهم
نماذج تدل على صدق هذه القضية.
فها هو نوح عليه السلام يجتهد في دعوة ابنه دون يأس من استجابته حتى
آخر لحظة، فيناديه وهو في الفلك: [يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين]
[هود: 42] .
وها هو إبراهيم عليه السلام يبذل جهده في دعوة والده ونصيحته دون يأس.
وها هو خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه وهو في مرض
الموت قائلاً له: (كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله) [1] .
ومع ذلك الجهد من هؤلاء الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه عليهم فلم
يستطيعوا هداية هؤلاء الذين هم من أقرب الناس إليهم، وماتوا على الكفر كما
ماتت زوج نوح وزوج لوط عليهما السلام على الكفر وقيل لهما: [ادخلا النار مع
الداخلين] [التحريم: 10] .
فلنبذل جهدنا في دعوة الناس وتربيتهم وإصلاحهم، لكن لنعلم أن الثمرة
والهداية بيد الله عز وجل؛ فحين لا تتحقق النتيجة التي نريد فلا ينبغي أن نضجر
ونبالغ في التألم والتحسر.
__________
(1) رواه البخاري، (3884) ، ومسلم (24) .(146/38)
دراسات تربوية
وصايا محب
بليغ المشاعل
الحمد لله رب العالمين ...
أخي الحبيب: كم يعتريني خجل وحياء كلما رأيت قلمي يداعب الورقة لكتابة
رسالة إليك، فأنا كالمدين الذي جاء يسدد الدين بعد فوات الأجل، تراه يسير بجانب
الجدار ثم يطرق الباب، وهو يسأل الله ألا يفتحه الدائن بل أحد أبنائه الصغار،
فيعطيه ما معه وينصرف سريعاً ليختفي عنه ردحاً من الدهر.. وأحسب أني لا
أختلف كثيراً عن ذلك المدين؛ فكم أتمنى أن أرسل هذه الرسالة مع أحد معارفك أو
زملائك، أو لعل ريحاً تأتي فتحمل تلك الرسالة إليك وتريحني من عناء اللقاء
المشوب بخجل المداينة؛ لكن طمعي وأملي في جميل طبائعك وكريم سجاياك
سيجعلني أتجرأ لأقف بالرسالة بين يديك فأعطيكها دون خوف الدَّين والمدين.
مشاعر غريبة جداً اعتلجت في صدري حينما قرأت ما كتبته إليَّ حول طلبك
النصيحة مني:
أهي شعور بالفرح لاستمرار الثقة والمودة بيننا؟
أم شعور بالخوف من عدم القدرة على أداء هذه المهمة؟
أم شعور محبط بنقصي الذي يمنعني من نصح من هم على مستوى عالٍ من
الخلق والدين.
وبقيت أياماً لا أستطيع تحديد حقيقة مشاعري وموقفي تجاه تلك الرسالة،
حتى استقر شأني على أمرين لا ثالث لهما: إما أن أكتب الرد، أو لا أكتبه.
وكان لكلٍ من هذين الأمرين داعيه الذي يلح عليَّ بالإجابة فأقف حائراً بينهما، ولكني عزمت على الكتابة أداءً للحق الواجب شرعاً بين المؤمنين، ولعلَّ الله -
تعالى - أن ينفعني وإياك بهذه الوصايا:
الوقفة الأولى: رفيق الدرب!
أخي الفاضل ... ما أشق الطريق وأبعد الغاية على الذين يسافرون وحدهم من
غير صاحب يخفف عنهم عناء الطريق، ويدفع عنهم جهد السفر، والمسلم في هذه
الحياة مسافر يحتاج إلى أنيس في سفره ومعين في جهاده حتى يصل لغايته وهدفه،
ويا لسعادة ذلك المسافر إن كان رفيق دربه كيّساً تقياً! ويا لتعاسته إن كان غير
ذلك!
إن المؤمن قوي بإخوانه ضعيف وحده، ولا يزال العبد في قوته ما دام آخذاً
برفقة الخير والجلساء الصالحين (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) [1] .
كم أشعر بالغباوة وأنا أسترسل في ذكر أهمية الأخ الصادق والرفقة الطيبة
وهي حقيقة أصبحت من آكد المسلَّمات!
قد يستنكر بعض الشباب الذين قطعوا شوطاً كبيراً في الهداية حينما توصيه
بالتزام الرفقة الصالحة والعض عليها بالنواجذ، وهم مخطئون بذلك الاستنكار؛
فالمؤمن في كل حال ومهما بلغ يظل محتاجاً لإخوانه، بل هذا نبي الله محمد صلى
الله عليه وسلم يوصيه ربه فيقول: [واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من
أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا] [الكهف: 28] .
فيا لغباء المستكبرين! !
الوقفة الثانية: وللرفيق بريق:
من الخطأ بل من السذاجة أن نعتقد أن الشيطان سينسحب من المعركة في أول
هزيمة له أو أنه سيتركنا مع أول وقفة جادة لنا مع أنفسنا.
ولئن أشرت إلى أهمية الرفقة الصالحة قبل قليل فلا بد من الإشارة إلى
مزلقين هامين يحرص الشيطان على نصبهما لنا كثيراً:
المزلق الأول: أن نعتقد أنَّا قد وجدنا الرفيق الصالح بمجرد رفقتنا لمجموعة
صالحة، ومن ثمَّ يعتقد الإنسان أنه مع جليس صالح بمجرد أن يكون مع رفقة
بعمومها صالحة، وننسى أن النفع الأكبر إنما يكون من خاصة أولئك الصالحين،
فبعض الناس ينتقي أردى الأصحاب ليقتبس أخلاقه ويتطبع بطباعه، ويهمل
الأخيار والمتميزين منهم؛ لأنه في رفقةٍ الغالبُ عليها الصلاح، ولا يزال يتردى
وينحط مع خليله ذاك حتى ينسى نفسه، ويفقد خيراً كثيراً.
وقد أشار الإمام ابن القيم إلى آفات الاجتماع بالإخوان فقال: (الاجتماع
بالإخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق
والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
تزيين بعضهم لبعض، والكلام والخلطة أكثر من الحاجة، وأن يصير ذلك
شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود) [2] .
المزلق الثاني: الاكتفاء بدور الأستاذ المربي، ومع شرف هذه المهمة
وأهميتها إلا أن الاهتمام بمعاشرة أهل الفضل والعقل والتقوى من الجانب الآخر أمر
مهم؛ لكي لا يكون عقل الرجل مع مرور الوقت عقل صبي في جسم رجل.
والتوسط في كل الأمور حسن ومطلوب.
الوقفة الثالثة: حياة بلا روح:
ما أقبح الحياة بلا روح! بل لا حياة بلا روح.. وكل مبتغٍ للحياة استمراراً
من غير روح فهو كمن يرجو المحال.. يقول تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من
أمرنا [الشورى: 52] .
سبحان الله! فقد سمَّى الله القرآن العظيم بالروح، فلا حياة حقة من غير
كتاب الله عز وجل، ولا نعيم في الدنيا والآخرة من غير كتاب الله؛ فهو لذة
المتلذذين ونعيم المتنعمين، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم.
إن خير ما يربي به المرء نفسه وخير ما يربي به المربون أبناءهم جلسة
خاشعة مع كتاب الله عز وجل خالية من كدر الدنيا، وخالصة من شوائب الحياة،
وما أجمل الصلة بحبل السماء يوم تنقطع حبال الأرض! وما أجمل ولوج أبواب
السماء يوم تغلق أبواب الأرض! وأعظم ما يكون الأُنس بكتاب الله تعالى حينما
تهدأ العيون ويغط الناس بنومهم، فيقوم الصالحون يتلون كتاب الله تعالى بخشوع
صادق، وإخبات تام، تحفهم الملائكة بالرحمة، [وقرآن الفجر إن قرآن الفجر
كان مشهودا] [الإسراء: 78] .
احرص على قراءة كتاب الله وتفسيره وحفظه وتدبره والعيش معه في ورد
خاص، ولا تقطع صلتك بكتاب الله، بعيداً عن كل ملهيات الدنيا وصوارف الحياة.
[وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم] [فصلت: 35] .
الوقفة الرابعة: أرحم الناس بالناس:
أخي الكريم: كم تكون شفيقاً حينما تشاهد منكوباً يتألم، فتتألم لألمه وتبكي
لبكائه.
وكم تكون رحيماً حينما تمد يدك بصدق من أجل مساعدته.
وكم تكون أرحم ممن سبق حينما تجهد نفسك في عونه ومساعدته، وتؤثره
على نفسك.
لكن اعلم رحمك الله أنك من أرحم الناس بالناس يوم تدعوهم إلى الله، يوم
تقدم لهم نور الهداية، وتنقذهم من ظلمة الغواية.
إن الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين من قبلنا، ولنا الشرف يوم
نسلك مسلكهم ونسير على طريقهم، واعلم أن من أعظم الدعوة إلى الله تربية النشء
على حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وإبعادهم عن مستنقعات الرذيلة؛
أقول كلامي هذا في وقت انتقص فئام من الناس مهمة المربين ووصموهم بقصر
النظر وسطحية التفكير، وتعليم الصبيان.
أخي المحب: إن تربية الشباب على الطاعة والتقوى من أعظم أوجه الدعوة
إلى الله التي لا يبصر نتائجها إلا أهل البصيرة الثاقبة الذين وفقهم الله لفهم هذه
الأمور، ولْيرتع أصحاب الفكر السطحي وطالبو النتائج السريعة في حمأة سذاجتهم
ولْيتركوا هذا الأمر لرجاله.
إن المربين هم صُنَّاع الرجال، وهم بنّاؤو الحضارة، ومغيرو مسيرة التاريخ. والدعوة التي تمتلك أكبر قدر من المربين الصادقين هي الدعوة التي يكتب لها
البقاء، وترسخ أقدامها في أعماق الأرض، فلا تضرها فتنة إلا أن يشاء الله.
الوقفة الخامسة: لا تكن شمعة!
مسكينة هي الشمعة، كم هو مؤلم أن تحترق ويستفيد الناس من نورها..!
وكم هو مؤلم أن يحترق الداعية للناس فيستنيرون ويذبل هو..!
ما أعنيه هنا هو إهمال المرء تربية نفسه ببلوغه مرحلة من العمر؛ فقد يعتقد
بعضنا أن كبر سنه يغنيه عن التربية الفردية لنفسه، أو أن ممارسته لنشاط دعوي
يغنيه عن الانتباه لنفسه، وهذا مزلق خطير؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، والداعية في
مقام القدوة دائماً فلا بد من أسلوب التربية الذاتية، والحرص على بناء الإيمان،
وتعهد القلب بالصلاح وإنماء الورع، حتى لا نكون مثل الشمعة تحترق وغيرنا
يتمتع بالإضاءة.
الوقفة السادسة: ميراث الأنبياء!
مع أهمية ما أسلفت من دعوة إلى الله عز وجل وعبادة صالحة له، إلا أنها
قد تكون وبالاً على صاحبها إذا خلت من أساسها المتين ومادتها الأصيلة وهي العلم
الشرعي، قال الله تعالى: [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن
اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين] [يوسف: 108] .
إن كل دعوة مهما بلغت من نشاط هي دعوة جوفاء إذا خلت من العلم الشرعي
الرصين، بل ربما تكون دعوة إلى الجهل، وما نشأت الجماعات الضالة إلا بسبب
الدعوة المفرَّغة من العلم الصحيح.
وكل عبادة على غير هدي النبوة مهما بلغت من كثرة هي نقص وخلل
وخاصة إذا خلت من العلم الشرعي، وما نشأت فرق الزهاد الضالة إلا بسبب
الجهل العريض الذي اكتنف تلك الفرق.
إن في العلم حياة لا يعرف قدرها إلا من ذاق حلاوتها، واستطعم لذتها، وما
أحسب أن هناك صفوة في أي مجتمع إلا وكان أهل العلم هم روادها، [إنما يخشى
الله من عباده العلماء] [فاطر: 28] .
الوقفة السابعة: إخلاص يحتاج إلى إخلاص:
يقول الله عز وجل: [ليبلوكم أيكم أحسن عملا] [الملك: 2] لقد جعل الله
عز وجل أساس التفاضل هنا الحسن، ولم يجعله الكثرة؛ فالمسألة ليست مسألة
كثرة، بل هي نوع وجنس صالح.
وأكمل ما يعين على تحسين العمل ووصفه بالحسن: (إخلاص العمل لله عز
وجل) بل هو مادة العمل الحقيقية، ومن غيره فوجود العمل وعدمه سواء.
أخي الكريم: كم يعاني الصادقون من قضية الإخلاص، لكن لا بأس؛ فأول
خطوات الوصول (المعاناة) لكن لا بد من الصبر والمصابرة والمجاهدة حتى يصل
المرء إلى غايته ومطلوبه ولو بعد حين، وإياك والاغترار بالعمل فقد قال بعض
السلف: (من ظن أن في إخلاصه إخلاصاً، فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص) .
أخي الفاضل: إن ما ذكرته سابقاً من وصايا أنا والله من أحوج الناس إليها قد
تثير في نفسك همة العمل وشِرَّة [3] الإنتاج، وهذا ما أرجوه، لكن قد يعجز المرء
في أول أمره فلا بأس، فليعاود ثم ليجاهد ثم ليصابر حتى يبلغ مراده ولا تحسبن أن
الأمر سهل ميسر، بل هو غاية قُطِعَتْ من أجلها رقاب وأزهقت أنفس، فأرخص
الغالي لها سددك الله: [والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا] [العنكبوت: 69] .
ختاماً: أخي الكريم! أعتذر إليك إن كنت قصرت في نصحك أو أسأت الأدب
في وعظك؛ فهذا جهد المقل وأرجو التجاوز والصفح، واعلم يا رعاك الله أني ما
كتبت هذا الكلام إلا بعد تردد لعلمي بقصور ذاتي وقلة علمي.
وأسأل الله أن يعينني وإياك على تحقيق مرادنا، وأن يتجاوز عنا جهلنا
وإسرافنا في أمرنا.
__________
(1) أخرجه أحمد، ح 20719، والنسائي، ح/838، وأبو داود، ح/ 460.
(2) الفوائد، ص51.
(3) الشرة: النشاط والرغبة.(146/40)
قراءة في كتاب
أزماتنا ... كيف نديرها؟
الإبداع يخنق الأزمات
رؤية جديدة في إدارة الأزمات
عرض وتلخيص: أحمد عثمان
المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن البريدي.
دار النشر: بيت الأفكار الدولية، 1999م.
عدد الصفحات: 178 من القطع المتوسط.
مدخل:
كانت الحياة ولا تزال تعصف بها ألوان من المشاكل، وأشكال من الأزمات،
وكان الإنسان ولا يزال يقاوم أحداثها، وينازل أطرافها، ويكابد نتائجها، يستمر
تارة، وينقطع تارة، يبلغ به ذكاؤه إلى أهدافه حيناً، ويقصر به حيناً، ينجح مرة،
ويخفق أخرى.
وأخذت الأزمات تتنوع في مجالاتها، وتشتد في خطرها، فجعل الإنسان
يستفيد من تجاربه - الناجحة والمخفقة على السواء - وأخذ يصهر ركام خبراته
بالنقد البناء، ثم تلقف بعد ذلك اللبنات الصالحة الباقية فشيّد بها بناءاً علمياً تراكمت
أجزاؤه عبر الأبحاث العلمية الرصينة والخبرات الحياتية الرائدة، فعلا بناؤه في
فضاء المعرفة الإنسانية، واصطُلح على تسميته بـ (إدارة الأزمات) .
وبِلُغة ميسرة وأسلوب رصين يهدف المؤلف بكتابته في هذا الموضوع الذي
نحن بصدده الآن إلى محاولة إكساب القارئ منهجية إدارة الأزمات من خلال الإجابة
على سؤالين رئيسين هما:
1 - كيف ندير الأزمات التي تواجهنا بشكل مباشر في مختلف مناحي حياتنا: في شركتنا، منظمتنا، جامعاتنا، منطقتنا، بيتنا؟
2 - كيف نحلّل الأزمات التي لا تواجهنا مباشرة ولا نشارك في إدارتها،
ولكن نتائجها تهمُّنا وتؤثر علينا في أشكالها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،
والدينية، والسياسية.
وبعد هذه المقدمة السريعة، ومن أجل الإفادة من بعض أجزاء الكتاب،
يمكنني الولوج إلى الموضوع عبر تلخيص بعض النقاط محافظاً في أكثر المواطن
وبشكل كبير على أسلوب المؤلف المتميز (مع الإشارة إلى الموطن الذي أنقل منه
بين قوسين) :
بعد تجوال في إشكالية التعريف ينتهي المؤلف إلى تعريف مختار للأزمة قائلاً:
(الأزمة هي فترة حرجة أو حالة غير مستقرة يترتب عليها حدوث نتيجة
مؤثرة، وتنطوي في الأغلب على أحداث سريعة وتهديد للقيم أو للأهداف التي
يؤمن بها من يتأثر بالأزمة) .
ثم يعرج المؤلف على أنواع الأزمات:
فيبين أن تصنيف الأزمات وتقسيمها يفيدنا في تعميق التفكير في الأزمة ويلفت
الانتباه إلى بعض القضايا الهامة، كأن يقال: هذه أزمة شاملة، أزمة جزئية، أزمة
عنيفة، هادئة ونحوها، كما يفيدنا هذا التصنيف في توحيد المفاهيم والمصطلحات
عندما نفكر أو نتناقش في أزمة معينة، أما في حالة غياب مثل ذلك التوحيد،
فسيكون التفكير الجماعي والنقاش حينذاك كمن يتكلمون بلغات مختلفة غير مفهومة،
ومن ثم سيظفر أولئك المتناقشون بـ (لا شيء) ! !
وبعد أن يستعرض المؤلف (دور حياة الأزمة) التي يشبهها بالكائن الحي في
ولادته ونموه وفتوته ثم ضعفه واضمحلاله، ينتقل بنا في الفصل الثاني إلى معالجة
مصطلحين مرتبطين بالأزمات وهما:
إدارة الأزمات أم الإدارة بالأزمات؟
ثمة فرق بين هذين المصطلحين يمكن توضيحه عبر التعريف بهما، وذلك
كما يلي:
فإدارة الأزمات بعبارة يسيرة هي: معالجة الأزمة على نحو يمكن من تحقيق
أكبر قدر ممكن من الأهداف المنشودة والنتائج الجيدة.
من يدير الأزمة: مدير أم فريق الأزمة؟
والأزمة يجب ألا تدار فقط من خلال المدير الخارق (السوبرمان) ، وإنما من
خلال فريق خاص يُختار أعضاؤه بعناية فائقة، ليتم بعد ذلك تدريبهم ورفع
مستوياتهم وإكسابهم المهارات اللازمة لإدارة الأزمة.
من هو مدير الأزمة الفعال؟
ومع ضرورة إدارة الأزمة من خلال فريق متكامل، إلا أن مدير الأزمة بذاته
يكتسب أهمية خاصة، ويلزم اتصافه بصفات معينة من أهمها أنه ينبغي أن يكون:
- قوي الإيمان بقضية الأزمة، شديد التحمل، ماضي الإرادة.
- يمتلك القدرة على التفكير الإبداعي.
- يتسم بالمهارات القيادية في إدارة فريق الأزمة، وفي الاتصال مع كافة
الأطراف ذات الصلة بالأزمة بما في ذلك الطرف الآخر (أو الخصم) .
أما الإدارة بالأزمات فمصطلح يشير إلى: (افتعال أزمة من أجل تحقيق هدف
معين) .
ومن هذين التعريفين ندرك أنه في (الأزمات المفتعلة) يستخدم مفتعل الأزمة
(الإدارة بالأزمات) في حين أن الطرف الآخر يلجأ إلى (إدارة الأزمات) وهذا ...
لا يعني أن جميع الأزمات مفتعلة من قبل أحد أطراف الأزمة؛ بل قد تكون الأزمة
حدثت من جراء عوامل خارجة عن سيطرة ونطاق طرفي الأزمة، ومن ثم يلجأ
كلاهما إلى (إدارة الأزمات) .
وفي الفصل الثالث يدخل بنا المؤلف إلى صلب الموضوع الهام والذي عنون
به الكتاب (الإبداع يخنق الأزمات) كيف ندير أزماتنا؟
إنه يصل بنا إلى كيفية إدارة الأزمات، والتي يقرر أنها ليست أكثر من أن
تكون لوناً من ألوان التفكير الإبداعي الذي:
- يتفهم طبيعة الأزمة وإفرازاتها، ويدرك أنواعها ودورة حياتها.
- يتعرف على استراتيجيات التعامل معها وكيفية رسم سيناريوهاتها.
- ويستبطن الوصايا المرعية في إدارة الأزمات.
إذاً فإدارة الأزمات - في رأي المؤلف - تفكير إبداعي واعٍ، ومن ثم يجب
التعرف على هذا اللون من التفكير، ونرى الاكتفاء بتلخيص أبرز النقاط المتعلقة
بهذا اللون من التفكير، وذلك كما يلي:
التفكير الإبداعي هو: (عملية ذهنية مصحوبة بتوتر وانفعال صادق ينظم بها
العقل خبرات الإنسان ومعلوماته بطريقة خلاقة تمكنه من الوصول إلى جديد مفيد) .
ويتميز المبدع بمزايا عقلية ونفسية كثيرة، من أبرزها:
الخصائص العقلية:
أ - الحساسية في تلمس المشكلات.
ب - الطلاقة.
ج - المرونة.
د - الأصالة.
هـ - الذكاء.
الخصائص النفسية:
أ - الثقة بالنفس.
ب - قوة العزيمة وحب المغامرة.
ج - القدرة على نقد الذات.
د - الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان) .
هـ - البذل بإخلاص وتفان.
و دائم التغلب على (العائق الوحيد) .
ز - حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل.
ح - الميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله، مع مهارات اجتماعية.
وفي الفصل الرابع يبدأ المؤلف في تناول كيفية إدارة الأزمات والتي تنتظم
خمس خطوات بتفصيل معقول كما يلي:
أولاً: تشخيص الأزمة وتحديد أسبابها:
في هذه الخطوة يجب تحديد الأزمة بدقة، وهنا يجب أن نفرق بين (الأزمة
الظاهرية) و (الأزمة الحقيقية) ، فالأولى قد يفتعلها الخصم من أجل المناورة
وكشف بعض الأوراق بل ربما من أجل استنزاف الموارد وإنهاك القوى.
ومدير الأزمة المبدع يمتلك حساسية بالغة تجاه المشاكل والأزمات، كما أنه
يعايشها بصدق وحرارة؛ ليستكشف بهذه المعايشة جوهرها وأبعادها، ويستبصر
اتجاهها ومراحلها، ويتلمس أسبابها ونتائجها.
ويُفضّل عند تحديد الأزمة أن تُصاغ في ظل أسوأ الاحتمالات وأفضلها، مما
يساعد على الاستعداد لها ورسم كافة السيناريوهات الممكنة.
كيف نشخص الأزمة؟
يفهم من كلام المؤلف أن الأزمة في حقيقتها ليست أكثر من مرض خطير
هاجم جسداً فوجده منهك القوى ضعيف المقاومة، ومن ثم كان بدهياً القول بأن
التشخيص السليم للأزمة هو بداية الاهتداء للأسلوب الأمثل للتعامل معها، ويمكن
تشخيص الأزمة عبر ما يسمى بـ (المنهج الشامل) الذي يقوم على المحاور الآتية: ...
1 - استقراء تاريخ الأزمة وتصنيفه إلى مراحل.
2 - عند وصف المراحل التاريخية للأزمة وتحليلها يمكن تفكيك الأزمة إلى
الأجزاء المنطقية التي تفاعلت على نحوٍ معين أدى إلى حدوثها، وهذا التفكيك
يعرف (بمنهج النظم) .
ثانياً: تحديد الأهداف (لماذا ندير الأزمة؟)
ماذا نريد؟ لماذا ندير هذه الأزمة ونتحمس لمواجهتها؟
سؤال محوري وخطير يستلزم إجابة دقيقة من خلال سلوك المنهج العلمي في
تحديد الأهداف، ومثل هذه الإجابة قد تبين لنا في بعض الأزمات التي نديرها أن
الأهداف التي يمكن تحقيقها متواضعة، ومن ثم فهي لا تستحق الجهد المبذول
والتكلفة المتوقعة.
وعند (صناعة الأهداف) في أجواء الأزمة، يجب التأكد من أنها: واضحة
ودقيقة، متناسقة، متكاملة، واقعية، قابلة للقياس، وأن تكون الأهداف من نوع
واحد (استراتيجية أو تكتيكية) .
ثالثاً: الحد من تفاقم الأزمة:
يقضي التفكير العلمي - بعد تحديد الأهداف - أن نحدّد البدائل الممكنة، غير
أن تصاعد أحداث الأزمة يفرض على فريق الأزمة التفكير في (آلية للحد من
تفاقمها) من خلال تحديد بدائل (أولية) ، أو (علاجات مسكّنة) بغية السيطرة ...
على (فيروس الأزمة) بقدر المستطاع والذي ينشر (الخلايا السرطانية) ويعمل على تضخمها.
وهذه الخطوة يجب ألا ننظر إليها على أنها مستقلة عن خطوة تحديد البدائل؛
وذلك أن الأزمة تتصاعد أحداثها بشكل سريع ومخيف، مما يحتم علينا محاولة دمج
هاتين الخطوتين عبر طريقتين هما:
1- قيام الفريق بـ (التفكير الآني) في كلا العلاجين المسكّن والأساس في
وقت واحد أو في أوقات متعاقبة.
2 - تقسيم فريق الأزمة إلى قسمين: يتولى أحدهما العلاج المسكّن، ويتولى
الآخر - في الوقت ذاته - العلاج الأساس.
رابعاً: تحديد البدائل الممكنة:
في هذه الخطوة سجل كل ما يعن لك من أفكار، ولا تستعجل في محاكمتها
وإعدامها، فلقد أثبتت بعض الدراسات المعنية بالأزمات أن كثيراً من الأفكار
والبدائل الجيدة التي نفذت في بعض الأزمات قد هوجمت في البداية ووصفت بأنها
مثالية أو مجنونة! !
وعند تحديد البدائل يجب على فريق الأزمة أن يطرحوا على أنفسهم بعض
الأسئلة التي تعين على توليد أكبر قدر ممكن من البدائل، ومن تلك الأسئلة مثلاً ما
يلي:
- ماذا لو فعلنا - أو لم نفعل - كذا.......... .؟
- هل نغير زاوية التفكير؟ هل (نفكر رأساً على عقب) ؟
- هل نستطيع تنفيذها؟ وهل الوقت مناسب لتنفيذها؟ ومن يستطيع ...
مساعدتنا؟
ومدير الأزمة - بل فريق الأزمة - المبدع هو الذي يتخلص من أقفال الإبداع
التي تحاول أن توحي لفريق الأزمة بإيحاءات سامة تنتشر في جو الأزمة، فيُخنق
الإبداع ويخلفه الجمود ويعتل الجو بالبلادة.
عصف الأزمة ذهنياً:
وقد تتطلب بعض الأزمات حلولاً كثيرة، مما يؤيد استخدام ما يسمى ... (العاصفة الذهنية) وتتلخص في طرح أزمة أو مشكلة معينة على مجموعة من
الأفراد، وتمر هذه العاصفة بالمراحل الآتية:
أ - توضيح الأزمة وتجزئتها.
ب - توليد الأفكار وعرضها.
ج - تقويم الأفكار المطروحة.
خامساً: اختيار أفضل البدائل:
بعد تحديد البدائل الممكنة يجب إخضاعها لدراسة علمية، يشترك فيها
مجموعة من الخبراء والمتخصصين (فريق الأزمة + بعض المستشارين - إن لزم
الأمر) .
ويمكن تقييم كل بديل من خلال مجموعة من الأسئلة مثل:
- هل يمكن تطبيقه عملياً؟ وهل نملك القدرة والموارد الكافية لتطبيقه؟
- ما هي تكلفة تطبيقه؟ وكم سيستغرق من الوقت؟
- ما هي الآثار والمخاطر المتوقعة؟ وما هي ردة الفعل المتوقعة للخصم؟
وإذا تم اختيار البديل المناسب فثمة أسئلة أخرى نجيب عليها هي:
- من الذي سيشارك في تنفيذ كل خطوة؟ ومتى؟ وكيف؟ وكم ستستغرق
هذه الخطوة من الوقت؟
- ما هي المشكلات التي يمكن أن تنشأ بين الأشخاص بسبب التنفيذ؟
- ما هي استراتيجيات التعامل مع الأزمات؟
وبعد أن عرفنا الكيفية التي تدار بها الأزمات يجب أن نتعرف على
الاستراتيجيات المتاحة للتعامل معها، وفي الفصل الخامس يناقش المؤلف هذه
القضية بإسهاب، ويمكننا عرضها كما يلي:
إدارة الأزمات يجب أن تتم في ضوء استراتيجية معينة، بحيث يقتنع فريق
الأزمة بضرورة إدارة الأزمة في ضوئها.
واستراتيجيات التعامل مع الأزمة كثيرة، ولذا كان من الواجب عند اختيار
الاستراتيجية مراعاة الأمور الآتية:
- تحديد الموقف من الأزمة: من هو صانع الأزمة؟ ومن هو المستهدف بها؟
- اختيار الاستراتيجية التي تناسب طبيعة الأزمة وإفرازاتها.
- التأكد من أن الاستراتيجية المختارة يمكن تطبيقها في ظل الإمكانات المادية
والبشرية المتاحة.
- التعرف على استراتيجية الطرف الآخر.
ثم تناول المؤلف أهم الاستراتيجيات على النحو الآتي:
1- كبت الأزمة:
وتقضي هذه الاستراتيجية بالعنف في التعامل مع الأزمة ومع الطرف الآخر،
وذلك بالتدخل السريع ومحاولة وقف أحداثها والقضاء على (مولّداتها) كالأزمة
الطلابية التي حدثت في الصين في صيف 1989م.
2 - تفريع الأزمة:
وهذه الاستراتيجية تعتبر امتداداً لما قبلها، إلا أن الفارق بينهما يكمن في أن
الاستراتيجية الأولى تهدف إلى القضاء نهائياً على الأزمة دفعة واحدة، بينما الثانية
تروم القضاء عليها تدريجياً لقناعة مستخدمها بضرورة التدرج: إما لتماسك الطرف
الآخر وقوته وكثرة أتباعه، أو للظهور إعلامياً بمظهر المتسامح، أو لغير ذلك من
الأسباب.
3 - إنكار الأزمة أو بخسها:
أي أنه لا يتم الاعتراف بوجود الأزمة أصلاً أو التقليل من شأنها بحيث
تصور على أنها مجرد (فقاعات هواء) لا تلبث أن تتبدد، ومن ثم فإن هذه
الاستراتيجية يصاحبها:
- تعتيم إعلامي لتفويت الفرصة على الطرف الآخر لإقناع بعض من
المستهدفين بالأزمة وبخطورتها.
- تحصين الأفراد من هذه الحملات الإعلامية، وإقناعهم بعدم وجود أي أزمة
أو التهوين من شأنها.
4 - عزل قوى الأزمة:
هذه الاستراتيجية تؤمن بالحكمة التي تقبع في (اللاشعور الإنساني) والتي
تقضي بقطع (رأس الحية) بغية التخلص من شرها! !
وعبر هذه الاستراتيجية يتم تصنيف قوى الأزمة إلى:
أ - القوى الصانعة.
ب - القوى المؤيدة.
ج - القوى المهتمة بالأزمة.
وبعد هذا التصنيف يتم عزل القوى الصانعة بطريقة أو بأخرى.
5 - احتواء الأزمة:
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى (محاصرة الأزمة) والعمل على عدم استفحالها، عبر امتصاص الضغط المولد لها؛ ففي الأزمات العمالية - مثلاً - يمكن اتباع ما
يلي:
- إبداء الرغبة في معرفة مطالب العمال عبر مفاوضات ذكية.
- مطالبة العمال باختيار ممثل لهم في هذه المفاوضات، ومن ثم مطالبة
الممثل بتوحيد الرغبات؛ حيث إنها متعارضة، أو المطالبة باستبعاد بعضها؛ لتعذر
تنفيذها دفعة واحدة.
- التفاوض مع الممثل بذكاء والخلوص إلى نتائج جيدة.
6 - تصعيد الأزمة:
وذلك بالعمل على زيادة حدة الأزمة إلى درجة معينة، ويتم اللجوء إلى هذه
الاستراتيجية في حالات خاصة ولتحقيق أهداف محددة، مثلاً:
- في حالة الغموض الشديد في الأزمة وعدم ظهور أطراف الأزمة الحقيقية.
- عند الرغبة في تصنيف قوى الأزمة.
7 - تفريغ الأزمة من مضمونها:
ليس ثمة أزمة بلا مضمون، ومضمون الأزمة قد يكون دينياً أو ثقافياً أو
سياسياً أو اقتصادياً، أو اجتماعياً أو خليطاً، وهذه الاستراتيجية تقضي بـ (خنق
الأزمة) وذلك بامتصاص مضمونها، وجعلها تتنفس بلا هواء، أو بهواء بلا رئة! !
استراتيجية (التفريغ) كثيراً ما تستخدم في الأزمات الدينية والثقافية؛ ذلك أن
الدين والثقافة يستعصيان على العنف والإكراه في الأغلب، وهو ما يضطر أحد
الطرفين إلى تفريغ الأزمة من مضمونها والادعاء بأنها لا تمت إلى الدين أو الثقافة
بأدنى صلة، لتبقى بعد ذلك مهمة الطرف الآخر منحصرة بالتأكيد على هذا
المضمون، بل ربما امتدت مهمته إلى إيجاد مضامين جديدة لتشتيت خصمه تقكيراً
وتنفيذاً.
وكلام المؤلف العميق حول هذه الاستراتيجية يجعلني أبادر إلى تقرير أن
قضية فلسطين وما انتهجه اليهود تجاهها تعد مثالاً جيداً على هذه الاستراتيجية؛
ذلك أن اليهود ما برحوا منذ بدء الأزمة يصورون الصراع على أنه مسألة سياسية
لا عقدية وأن الحل تستحيل بلورته وإنضاجه إلا عبر مجلس الأمن وما يسمى بـ ... (الشرعية الدولية) ، حتى مصطلح الأزمة ذاته بات يمارس دوره التضليلي؛
فالصراع القائم هو (الصراع العربي الإسرائيلي) ! !
ثمة وصايا يلزم اصطحابها:
بعد أن تعرفنا فيما سبق على ماهية الأزمة، وعلى خصائص فريق ومدير
الأزمة الفعال، وبعد أن استعرضنا كيفية إدارة الأزمات في ضوء استراتيجية معينة، بعد هذا كله نكون قد أنهينا أغلب مفردات الإطار النظري لإدارة الأزمات، ليكون
من المنطقي في هذا الجزء أن نتعرف على ما هناك من وصايا يلزم اصطحابها عند
إدارتنا لأزماتنا.
يقول المؤلف: إن الأزمة بطبيعتها تخلق جواً مفعماً بالضيق والتوتر
والانفعال - وربما صاحبه شيء من الشعور بفقد السيطرة على مجريات الأحداث -
جواً مشحوناً بالمعلومات المتضاربة والآراء المتناقضة، جواً ربما يبعث بعض
الناس على الانكفاء على الذات والانطواء على مصالحه الخاصة.
من هذا الجو (الخانق) تتجلى أهمية استصحاب وصايا تعيد إلى العقول
رشدها وإلى النفوس طمأنينتها وإلى الإدارة حكمتها. وهذه الوصايا نستنبطها من
النصوص الشرعية، ونفيد مما هو مبثوث في أدبيات إدارة الأزمات، وهي كثيرة، غير أن من أهمها ما يلي: (ذكر المؤلف في الفصل السادس عشر وصايا نذكر
منها ثماني وصايا على سبيل الاختصار) :
1- ما أصابك لم يكن ليخطئك:
هذه الوصية تجعلك تظفر بثمرة (الإيمان بالقضاء والقدر) ؛ فالأزمة في
حقيقتها مصيبة يبتلينا ربنا - عز وجل - بها تمحيصاً للذنوب ورفعة للدرجات،
قال - تعالى -: [إنا كل شيء خلقناه بقدر] [القمر: 49] ، وقال: وكان أمر
الله قدرا مقدورا [الأحزاب: 38] ، وفي حديث جبريل - عليه السلام - أخبرنا
الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره) [1] ، ولذا فإن من الواجب على المؤمن ... ... (المتأزم) أن يؤمن بأن أزمته لم تكن لتخطئه، ليستجمع بعد ذلك قواه ويسترد رشده
ويلتقط أنفاسه من أجل الشروع في مواجهة أزمته بعد الاستعانة بالقوي الحكيم العليم
- جل وعلا -.
2- لا تغضب!
لِمَ تغضب وعلامَ تطيش إن كنت أيقنت حقيقة بأن أزمتك لم تكن لتخطئك؟ !
يجب أن تؤمن بأنه ليس ثمة سبيل إلى التفكير السديد في حالة (انقلاب الأعصاب)
و (تسرّب الحِلْم) و (تبخّر الهدوء) وقد تقول: لا بد أن أغضب؛ فهذه أزمة، ثم كيف لا أغضب؟ بكل بساطة أقول لك: إن أردت ألا تغضب فلا تغضب!!
ليست هذه فلسفة ولا سفسطة، وإنما توجيه نبوي كريم؛ فعن أبي هريرة أن رجلاً
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا
تغضب) فردد مراراً؛ قال: (لا تغضب) [2] .
3- كن واقعياً؛ فقد لا تستطيع تحقيق كل أهدافك:
بعد أن يثوبَ إليك رشدُك وتُمسِك زمامَ عقلك، عليك أن تبادر نفسك بالسؤال:
ما هدفي؟ ماذا أريد بالضبط؟
وبعد أن تحدد أهدافك بدقة احذر من المثالية التي قد توهمك أحياناً بأنك قادر
على تحقيقها كلها وفي كل أزماتك التي تديرها، غير أن الواقعية تقضي بغير ذلك؛
فكثيرٌ من الناس - ولعلك كنتَ واحداً منهم - حدَّدوا أهدافاً جيدة ولكنها غير واقعية: إما في عددها أو في مضمونها، ثم راحوا يديرون أزمتهم ويتعبون أنفسهم بغية
تحقيقها ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم كانوا يحلُمون! ! وربما كان ذلك سبباً في عدم
تحقيق شيء من أهدافهم! ! إذاً فكن واقعياً من البداية وحدد ما تستطيع تحقيقه من
أهدافك في ظل الظروف الراهنة وفي ضوء قدراتك المادية والبشرية.
4- لا تحرج خصمك!
من الأصول المستقرة في إدارة الأزمات (عدم إحراج الخصم) ؛ ذلك أن
الخصم في أغلب الأزمات يعتبر شريكاً لا مناص من التنازل له ببعض الأمور،
ويرجع هذا إلى عدة أمور من أهمها:
- انتشار الوعي الإداري والإلمام بأصول إدارة الأزمات.
- الثورة المعلوماتية أتاحت لطرفي الأزمة معلومات مهمة عن الأزمة
وملابساتها.
ليس ذلك فقط هو الذي يدعو إلى (عدم إراقة ماء وجه الخصم) ، بل إن
إحراج الخصم قد يؤدي به في بعض الأحيان إلى موجة من التهور والطيش تكون
سبباً في احتدام الأزمة وإشعال فتيلها.
ويتفرّع عن هذه الوصية ويلزم منها وصية أخرى مفادها:
دع خصمك يتنفس!
ذلك أن الاستعجال في مبادرة الخصم قد يلجئه إلى شيء من الاستعجال الذي
قد يصاحبه شيء من التهور؛ وذلك من أجل تقديم الدليل على كامل قدرته على الرد
الحاسم والمدروس! !
5- صعّد تدريجياً:
من الطبيعي في خضم الأزمة أن يحدد كل طرف بدائل متعددة، وتقضي
إدارة الأزمات بالبدء بالأخف منها ثم التدرج فيها حتى البديل الأقوى، ومثل هذا
التدرج يفيد في:
- إعطاء الخصم انطباعاً بأنك قادر على الاستمرار في الأزمة بل والتصعيد،
مما قد يحمله على التنازل وإنهاء الأزمة بالصورة المطلوبة.
- تجنب توجيه الأزمة نحو العنف.
وهذا يقودنا إلى التأكيد على ضرورة الاقتصاد في استخدام الموارد المتاحة؛
وذلك أن بعض صانعي الأزمة قد يفتعل في البداية أزمة وهمية (كمين) بقصد
استنزاف الموارد وإنهاك القوى، لتظهر بعدُ الأزمة الحقيقة التي قد لا تكفي الموارد
الباقية والقوى الخائرة لمواجهتها! !
6- وسّع نطاق استشاراتك:
قال - تعالى - مبيناً أهمية الاستشارة: [وشاورهم في الأمر] [آل
عمران: 159] ، وتنبثق هذه الأهمية من كونها تتيح لمدير الأزمة أن ينظر للأزمة بعقلانية أكثر وطرائق تفكير متعددة، ومن زوايا متعددة، وبنفسيات تختلف تفاؤلاً وتشاؤماً.
إن بعضاً ممن يعانون من الأزمات يستشير الكثير من الناس في أزماتهم،
غير أنهم في الحقيقة لا يستشيرون إلا أنفسهم ولا يصدرون إلا عن عقولهم. إنهم
أولئك الذين يستشيرون من يحاكونهم في طريقة التفكير والتخصص والخلفية الثقافية
والاهتمامات! !
7 - تلمّس دعماً أكبر:
مدير الأزمة الناجح هو من يتلمس دعماً أكبر:
- باستبقاء المؤيدين بقوة من خلال إقناعهم بالقرار الذي تم اتخاذه وبأهمية
تأييدهم للقضية التي آمنوا بمشروعيتها واقتنعوا بضرورتها.
- وبجذب أكبر عدد ممكن من المترددين والعمل على زيادة تأييدهم؛ وذلك
بإطلاعهم على كافة الجوانب التي تزيل اللبس وتقنعهم بسمو القضية، وبالنتائج
الطيبة التي ستسفر عنها الأزمة.
- وبتحييد أكبر عدد ممكن من المعارضين.
8 - استخر واستعن:
لم يبق لك إلا أن تستخير الله - تعالى - وتستعين به؛ فلقد حكى لنا جابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من
القرآن، ولاحظ أنه قال: (في الأمور كلها) هكذا، أي في عظيم الأمر وحقيره؛
فما بالك بقرار يتعلق بأزمة، وها هو صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (إذا هَمَّ
أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك
بعلمك) الحديث [3] .
ثم ختم المؤلف كتابه بفصلين هامين:
الأول: (وهو الفصل السابع) تحدث فيه عن سيناريوهات الأزمة التي
عرفها بأنها: (مسلسل متوقع للأحداث والنتائج تجاه قضية معينة) ، متناولاً في
هذا الفصل كيفية صناعة السيناريوهات وعوامل نجاح مثل هذه الصناعة.
الثاني: (وهو الفصل الثامن) : وهو من أهم فصول الكتاب؛ وذلك لأنه
يتعلق بالتطبيق العملي، وقد عرض فيه لبعض التطبيقات العملية الناجحة والمخفقة
في إدارة الأزمات؛ فقد عرض في التطبيقات الناجحة:
- أزمة بلقيس (قصة سليمان - عليه السلام - مع ملكة سبأ وكيف استطاع
أن ينجح في إدارة تلك الأزمة الرهيبة) .
- أزمة دواء التلينول (وقعت أحداثها في الثمانينيات الميلادية وهي أزمة
مثيرة) .
- أزمة الصواريخ الكوبية والتي تعد الأزمة النموذجية في عالم السياسة والتي
وقعت أحداثها في عام 1962م بين القطبين آنذاك.
أما التطبيقات غير الناجحة فقد استعرض المؤلف أزمة واحدة فقط هي (أزمة
إدارة الأزمات العربية) ! !
وما تم عرضه من الكتاب لا يغني عن قراءته واقتنائه لاكتساب المنهجية
العلمية في إدارة الأزمات والتعمق في فهم مفرداتها وخطواتها.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم، ح/9.
(2) رواه البخاري10/431.
(3) رواه البخاري، 3/40.(146/44)
رسائل جامعية
الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر
(دراسة نقدية)
عبد العزيز بن محمد المسلم
كتب الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه بهذا
العنوان: (الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر) (دراسة نقدية) .
والباحث صاحب عطاء علمي متميز وإنتاج دعوي أصيل؛ حيث ألَّف رسالة في
حقيقة البدعة، كما أعدّ مؤلفاً عن حزب البعث، ونشر كتاباً عن زغل الدعاة
وغيرها من المشاركات العلمية والفكرية النافعة.
وتأتي هذه الرسالة ضمن الجهود المباركة التي قام بها أهل السنة حكاماً
وعلماء تجاه الزنادقة والمارقين، فإذا كان الخليفة المهدي مثلاً قد تتبع الزنادقة في
عهده بالسيف، فإن الدكتور سعيداً قد تتبع زنادقة هذا العصر بقلمه بالتعرية
والتحذير من شرورهم.
وتتكون الرسالة من مقدمة وتمهيد وأربعة أبواب وخاتمة وفهارس، وقد زادت
صفحات الرسالة عن ألف وسبعمائة صفحة.
ذكر الباحث في مقدمة الرسالة عظم انحراف الحداثيين وشدة وطأتهم، فكان
مما قاله: (قضيتهم الكبرى استيراد الآراء النظرية المتناقضة، وتخدير إحساس
الأمة بآلاف الدواوين والمسرحيات والرسوم والمقالات النقدية وغير النقدية، من
خلال الإثارة والجاذبية والمتعة الفنية في الشعر والرواية والقصة، وتهريج للمسرح
وأصباغ الرسوم، وإذا بنا نرى كل طائفيٍّ يحمل أحقاده التاريخية على الإسلام
يخفي دمامة معتقده تحت فلسفة الحداثة والعلمنة، ويخرج سمومه القاتلة من أكمام
الثوب الأدبي الفضفاض) .
وتحدث الكاتب عن اهتماماته ومتابعاته لهذا الموضوع قائلاً: (هذا وقد بدأتُ
بهذا الموضوع معتنياً بجمع الكتب فيه منذ أيام الدراسة الجامعية، يوم شعرتُ أن
بعض الطلاب قد تأثرت عقائدهم بشكوكٍ قادت بعضهم إلى الانحراف الصريح،
وبعضهم إلى الشك في وجود الله تعالى والنبوات والمعاد، وكانت لي معهم جولات
في القضايا الكبرى.
وفي عام 1407هـ سجلت على شريطين مادة علمية في هذا الاتجاه
بعنوان: (الحداثة حقائق ووثائق) وكانت ذات أثر بالغ بينت فيها حقيقة هذا الاتجاه وفضحته؛ ولله الحمد.
وفي أثناء هذه المسيرة الطويلة من المرحلة الجامعية وحتى تسجيل هذا البحث
جمعت كميات كبيرة من كتبهم ومجلاتهم وقصاصات كثيرة من صحفهم وملاحقهم
الأدبية، ولما جئت لكتابة هذا البحث وجدت أمامي ركاماً هائلاً مما هو في ملكي،
فضلاً عما في الأندية الأدبية الكبيرة، فعمدت إلى كتب وروايات ودواوين أكابر
عتاة هذه النِّحلة، وأعرضت عن التلاميذ الصغار، وقد قرأت بعد تسجيلي لهذا
البحث ما يزيد على خمسة عشر ألف صفحة من كتبهم) .
وبيّن الباحث أن عنوان البحث في موضوعه يتجه لمعالجة الحداثة، وبداية
الحداثة العربية على يد السيّاب أو نازك الملائكة حسب اختلاف الحداثيين وكلاهما
ظهر في حقبة واحدة ما بين 1366 1380هـ.
ورتب الباحث فصول رسالته على ذكرٍ إجمالي لمعتقد أهل السنة في القضية
المتناولة، ثم يذكر الجذور الفكرية للانحرافات العقدية عند أهل الأدب العربي
المعاصر، ثم يورد أوجه الانحرافات والشواهد عليها ويعقب ذلك بالنقد والنقض،
أو يتركها من غير تعقيب لظهور انحرافها للعيان.
وذكر الباحث الأوصاف التي يستحقها أولئك القوم مثل أوصاف: الضلال،
والزيغ، والإلحاد، والسخف، والانحدارات الغثائية.
وساق الباحث في المقدمة الدراسات السابقة لهذا الموضوع؛ حيث عرّفها
ونقدها، وتحدث في تمهيد البحث عن شمول الإسلام لكل أعمال الإنسان ومناشطه
رداً على تمرد الحداثيين على شرع الله تعالى زعماً منهم أن هذا الشرع المنزّل ليس
شاملاً لكل الأعمال والمناشط الحياتية، وتحدث أيضاً عن علاقة الأدب بالاعتقاد،
وقرر الباحث بعد دراسة واستقراء أن كل عمل أدبي لا بد أن ينشأ من عقيدة،
وينتج من فكر معيّن وفلسفة معينة للكون والحياة والإنسان والخالق سبحانه وتعالى.
ثم سطّر الباحث نبذة عن الانحرافات العقدية المعاصرة في مجال الثقافة والفن
والأدب، وأشار في ثنايا هذه القضية إلى الخطوط العامة في مسيرة الانحراف
الثقافي والأدبي: كالحملة الفرنسية، والتخلف الاعتقادي والحضاري، وسلطة
محمد علي باشا وأثرها، والاحتلال البريطاني الاستعماري.
وأما الباب الأول فعنوانه: (الانحرافات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى) ،
ويتكون من أربعة فصول؛ ففي الفصل الأول تحدّث الباحث عن الانحرافات
المتعلقة بالربوبية، ولخّص هذه الانحرافات بما يلي:
1 - نفي وجود الله تعالى والتشكيك فيه.
2 - نفي كون الله تعالى رباً خالقاً مدبراً.
3 - نسبة الأبدية للمخلوق والقول بأزلية العالم.
4 - الزعم بأن الوجود عبث.
5 - نسبة الخلق إلى غير الله تعالى وتسمية غير الله خالقاً.
6 - نسبة الربوبية إلى غير الله تعالى.
7 - السخرية والاستخفاف بالخالق جل وعلا.
ثم بسط الباحث تلك الانحرافات بالأمثلة والشواهد من كتابات الحداثيين،
وأتبعها بالمناقشة والتعقيب، واستنفد هذا الفصل قرابة مائة وخمسين صفحة.
وأما الفصل الثاني فعنوانه: المؤلفات المتعلقة بالألوهية؛ حيث كشف المؤلف
تلك الانحرافات من خلال عدة مظاهر ومن أبرزها:
1 - نفي ألوهية الله تعالى مطلقاً.
2 - نفي بعض خصائص الألوهية.
3 - جحد حق العبودية لله والسخرية بالعبادة ومظاهرها.
4 - العبودية لغير الله تعالى.
5 - تأليه غير الله ووصف غيره بالألوهية.
6 - الحيرة والشك في الغاية من الحياة ووجود الإنسان والزعم بأن وجوده
... عبث.
7 - السخرية والاستخفاف بألوهية الله تعالى.
8 - معاداة السماء ويريدون بها الله جل جلاله والوحي والدين والشريعة.
9 - احترام الكفر والإلحاد والوثنية والماركسية والعلمانية وامتداحها، ونحوه
من نِحَل الكفر والاعتراف بالانتماء إليها، وبلغت صفحات هذا الفصل ما يربو على
مائة وسبعين صفحة.
والفصل الثالث؛ حيث كان موضوعه عن الانحرافات المتعلقة بالأسماء
والصفات ومظاهرها، ومن ذلك: وصف الله وتسميته بأسماء وأوصاف النقص،
ووصفه بما لم يصف به نفسه، ووصفه بما نفاه عن نفسه، والسخرية بأسماء الله
وصفاته ومخاطبته بما لا يليق بجلاله.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام ما قاله الباحث: (إن من عبث الكلمات
والتلاعب بالمصطلحات وغبش المضامين أن يُمتدح المستهزئ بالله والساخر من
دينه؛ فإذا قال غيور على دين الله: لِمَ هذا؟ قالوا: نثني على جماليات أدبية،
وتراكيب إبداعية.
فليس الإبداع أو الجمال أو التجديد خيراً لذاته، وليس دليلاً على العبقرية؛
لأن الذي يُبدع أو يأتي بعمل من الفن ليس ممدوحاً لذاته، بل إن كان إبداعه
وجمالياته على وجه الحق ومن أجل الحق والخير والتوحيد أساس كل ذلك فهو
محمود، وإن كان إبداعه وجمالياته في صفة الباطل والشر، وتنطوي على الإلحاد
والكفر فهو مذموم مخذول.
وسطّر يراع المؤلف الفصل الرابع من التصورات المتأثرة بالوثنيات
والديانات المحرفة، وأطال النفس فيه؛ حيث دوّن أكثر من مائتي صفحة في هذا
الفصل، ومما قاله في مقدمة هذا الفصل: (قضية تأثر الحداثيين العرب بالعقائد
الوثنية واليهودية والنصرانية من أوضح الواضحات، وأجلى المضامين الحداثية في
الشعر والدراسة والنقد والرواية) .
وتتبُّع كل شواهد هذه القضية مما يعسر ويصعب؛ ولكن نقول قولاً إجمالياً،
ثم نتبعه بشيء من التفصيل:
أما الإجمال فإنه يمكن القول: إنه لا يخلو حداثي من التأثر بهذه العقائد
الباطلة، إمّا في مجمل اتجاهه وفلسفته، وإما في جزئيات عباراته.
وقد قسم المؤلف الحداثيين العرب إلى ثلاثة أقسام:
1- النصارى العرب.
2 - الطائفيين ممن لهم نزعة باطنية أو رافضية.
3 - الشعوبيين؛ حيث أثبت المؤلف أن الحداثيين هم الامتداد الحقيقي
للشعوبية؛ إذ أظهروا بغضهم للعرب أمة وجنساً ولغة، مع بغض سافر للإسلام،
وإلحادٍ مكشوف.
ومما حرره الكاتب في هذا الفصل: (المسألة الجوهرية أن الحداثيين يسعون
جاهدين لتبديل دين الأمة وتحويلها من أمة موحدة إلى أمة وثنية، ومن أمة صاحبة
رسالة ودين إلى أمة بلا دين ولا رسالة) .
وساق الباحث الشواهد والأمثلة على الوثنية الصارخة في فكر الحداثة
والحداثيين، ومن ذلك أن عصابة (شعر) قد اتخذت في سبيل مشروعها
الأسطوري الوثني مصطلح الشعراء التمُّوزيين؛ حيث إن (تمُّوز) وثن أسطوري
استخدم عند الآشوريين على اعتباره رباً للمحاصيل! !
ومما يجدر نقله في هذا الصدد ما قاله الكاتب: (من آثار اعتناقهم للأسطورة
وارتوائهم من آبارها، مع وجود أرضية شاكّة في الدين أو جاحدة له: عمدوا إلى
الحقائق الثابتة في الوحي المعصوم في القرآن والسنة الصحيحة فجعلوها من
الأساطير، أو من الفلكور الشعبي! !) .
وقد تحدث المؤلف عن التصورات الحداثية المتأثرة باليهودية، وبالنصرانية،
وبالفرق المنتسبة إلى الإسلام من الباطنية والصوفية الفلسفية والخوارج والمعتزلة
والشعوبية والزنادقة، وكشف الباحث بالحقائق عن باطنية طائفة من الحداثيين
كأدونيس النصيري، وتوفيق زياد الدرزي، كما بيَّن الباحث الأثر الباطني في شعر
البياتي ونزار قباني، وخلص المؤلف في شأن الشعر الصوفي إلى (أن للصوفية
تأثيراً واضحاً في أدب الحداثة، وخاصة التصوف الفلسفي المنحرف، وما فيه من
عقائد وحدة الوجود والاتحاد وغيرها من الانحرافات الصوفية، ونجد أن أشهر
رموز هذا الاتجاه ينالون الحظوة الكبرى عند الحداثيين وخاصة ابن عربي وابن
الفارض والحلاج والسهروري والنفري) . واستوعب هذا الباب ثلاثمائة صفحة.
وشرع المؤلف في الباب الثاني تحت عنوان: الانحرافات المتعلقة بالملائكة
والكتب المنزلة والأنبياء، وكانت الانحرافات المتعلقة بالملائكة عليهم السلام
موضوع الفصل الأول، ويتمثل انحراف الحداثيين في شأن الملائكة بما يلي:
1 - نفي وجود الملائكة.
2 - وصف الملائكة بما لا يليق بهم والتهكم والسخرية بهم.
3 - إلحاق أسماء وأوصاف الملائكة بغيرهم.
يقول الباحث في شأن سخرية الحداثيين من الملائكة عليهم السلام: (ومن
أساليب أهل الحداثة أنهم يستعيضون عن الأفكار الصريحة بالسخرية والتهكم
والاستهزاء، كما أنهم يستخدمون أسلوب الأوصاف الهابطة وغير اللائقة بالشيء
الذي يريدون جحده أو التشكيك فيه تحت شعار: (تدنيس المقدس) الذي يعتبرونه
أحد أهم إنجازات الحداثة وأهم مشاريعها) .
وأما الانحرافات المتعلقة بالكتب المنزلة عامة وبالقرآن خاصة فكانت موضوع
الفصل الثاني؛ حيث ذكر الباحث أوجه الانحرافات التي اقترفها المصابون بداء
الحداثة حول قضية الوحي، وأنها تدور على ثلاثة محاور:
1 - انحرافات متعلقة بالتلقي.
2 - انحرافات متعلقة بالفهم.
3 - انحرافات متعلقة بالتطبيق.
وبسط الباحث الحديث عن جحد الوحي عند الحداثيين والتشكيك في ثبوته،
أو ثبوت بعضه، وإرادة القضاء عليه، ومثَّل لهذه القضية مع التفصيل بكلٍّ من:
حسن حنفي، وأركون، ونصر أبو زيد، وجابر عصفور، ونزار قباني،
وأدونيس، وعبد الرحمن المنيف.
وأما موضوع الفصل الثالث من هذا الباب فعنوانه: الانحرافات المتعلقة
بالرسل عليهم السلام؛ حيث ذكر أوجه انحرافهم على النحو الآتي:
1 - جحد الرسالات والتشكيك في وجود الرسل وفي صدقهم.
2 - البغض والاستهانة والسخرية بالرسل وأعمالهم وأقوالهم.
3 - جعل الرسل والرسالات مناقضة للعقل وسبباً للتخلف.
4 - اتهام الرسل بأقوال الديانات المحرفة.
5 - إطلاق أسماء الرسل وأوصافهم وخصائصهم على غيرهم.
وعرض الباحث في الباب الثالث الانحرافات المتعلقة باليوم الآخر والقدر،
وبلغت صفحات هذا الباب أكثر من مائتي صفحة. وكشف في الفصل الأول منه
عن انحرافاتهم المتعلقة باليوم الآخر؛ حيث لخّصها في ثلاثة مظاهر رئيسة:
1 - جحدهم لليوم الآخر، وما وراءه، ونفي البعث، واعتبار موت الإنسان
فناءاً لا شيء بعده.
2 - قولهم بأبدية الدنيا أو بعض ما فيها.
3 - سخريتهم واستخفافهم باليوم الآخر وما وراءه.
ومما كتبه الباحث في المظهر الأخير قوله: (إن عبارات السخرية
والاستهزاء التي يطلقها هؤلاء ليس في حقيقة الأمر إلا عجزاً يلبس ثوب القدرة،
وضعفاً يرتدي رداء القوة، وخوفاً من غلب الحق يأخذ شكل الاستهانة والتحدي
والاستخفاف، وهالة مصطنعة تأتي في ألبسة التقريرات الجوفاء والشتائم
الهابطة) .
وأما الفصل الآخر فقد تحدث الباحث فيه عن الانحرافات المتعلقة بالقدر،
ومن انحرافاتهم فيه:
1 - نفي وجود القدر، ونفي قدرة الله، وجعل القدر خرافة وكذباً.
2 - ذم القدر والاعتراض عليه، وجعل الإيمان به سبباً للتخلف والتحجر
... والمهانة والسذاجة.
3 - التهكم بالسخرية بالقضاء والقدر وبالمؤمنين به.
4 - نسبة التقدير والقدر إلى غير الله تعالى، وزعم القدرة على تغيير مجرى
القدر المكتوب.
5 - نسبتهم الشرك إلى الله تعالى وتسويغ الرذائل والانحرافات بالقدر.
وتحدث الباحث في الفصل الثالث عن الانحرافات المتعلقة بالغيبيات الأخرى.
وأشار الباحث إلى واقعية الحداثيين التي أوقعتهم في شذوذٍ وجنس وصراع
حيواني ونهم وجشع دنيوي هابط؛ وهربوا من الروح الرقراقة التي تميز الإنسان
عن الحيوان، لقد أصبحوا واقعيين، نعم! ولكن على مستوى الحيوان. لقد كان
فرارهم من كل ما له علاقة بالغيب والروح جعلهم يرتكسون في هذا الخوض
الآسن) .
وتتجلى انحرافاتهم في هذا الموضوع في عدة أوجه:
1 - جحد الغيبيات الحقيقية الثابتة التي جاء بها الإسلام.
2 - جعل الإيمان بالغيبيات الحقيقية تخلفاً ورجعية.
3 - السخرية بالغيبيات الحقيقية وبالمؤمنين بها.
4 - الإيمان بغيبيات تناسب أهواءهم وضلالاتهم.
وتحدّث الباحث في الوجه الأخير عن الإيمان بما وراء الحس وأنه حاجة
فطرية في الإنسان، ولما أعرض الحداثيون عن الإيمان الحق وعن الإقرار
بالغيبيات الثابتة اشتغلوا بغيبيات خرافية وتصورات وثنية، كما هو ظاهر في
رواياتهم وأشعارهم، وكما بسطه الباحث في الفصل الرابع من الباب الأول
(التصورات المتأثرة بالوثنيات والديانات المحرفة) .
وختم الباحث أبواب الرسالة بالباب الرابع تحت عنوان: (الانحرافات المتعلقة
بالأحكام والسلوك ونظام الحياة) ، واستوعب هذا الباب قرابة مائتين وخمسين
صفحة، وتحدّث الباحث في الفصل الأول منه عن عبثهم بالمصطلحات والشعائر
الإسلامية، ثم بيّن محاربتهم الحكم الإسلامي والدعوة إلى تحكيم غيره كما في
الفصل الثاني حيث بيّن أوجه محاربتهم الحكم الإسلامي من خلال ما يلي:
1 - رفض حكم الإسلام ورَدُّه جملة وتفصيلاً.
2 - زعمهم بأنه لا حكم في الإسلام.
3 - زعمهم بأن أحكام الإسلام لا تلائم العصر ولا يمكن اعتماد الإسلام
... نظاماً للحكم.
4 - الزعم بأن حكم الإسلام سبب للتخلف وعائق في وجه التقدم.
5 - زعمهم بأن أحكام الشريعة بشرية وليست إلهية.
6 - قولهم بوجوب فصل الدين عن الدولة وعن الحياة.
7 - تفسيرهم الإسلام تفسيراً عصرياً.
8 - السخرية بأحكام الإسلام.
وأورد الباحث في الفصل الثالث سخرية الحداثيين من الأخلاق الإسلامية
والدعوة إلى الانحلال والفوضى الخلقية.
وساق الباحث في الفصل الرابع انحرافات الحداثيين في القضايا الاجتماعية
والنفسية كالسعي في إفساد المجتمع، وإسقاط مفاهيم الأخلاق من المجتمع، ونفي
قيام مجتمع على أساس ديني، والمضادة للأسرة ونظام العائلة.
وختم الباحث هذا الباب بفصل خامس عن انحرافات الحداثيين في القضايا
السياسية والاقتصادية؛ حيث استقرأ جملة من انحرافاتهم في القضايا السياسية
والاقتصادية فذكر دعوتهم إلى تطبيق النظم السياسية والاقتصادية الجاهلية وإخضاع
الأمة لها كالماركسية والليبرالية الديمقراطية الرأسمالية، ثم بين انتماء الحداثيين
لأعداء الإسلام والمسلمين ومؤسساتهم مثل مؤسسة فرانلكين وأثرها في الاتجاه
الحداثي، ومجلة شعر وعمالتها للغرب، ودور الجوائز الأدبية والثقافية في اجتذاب
أصحاب القلوب المريضة.
وفي خاتمة الرسالة ذكر الباحث نتائج البحث، وبيان أسباب الانحراف العقدي
في الأدب العربي المعاصر، ومقترحات لمعالجة الانحراف العقدي في الأدب
العربي المعاصر مثل: تحصين أبناء المسلمين بالعلم النافع، والاهتمام بالأدب
الإسلامي، وقيام العلماء بدورهم في كشف زيوف تلك الانحرافات، وفضح الرموز
المنحرفة، وترسيخ مبدأ الولاء والبراء والمناقشة والحوار مع المغرَّر بهم،
والحصول على فتاوى من علماء الإسلام البارزين عن حكم الإسلام في تلك
الانحرافات.
لقد تميزت هذه الرسالة بسعة اطلاع كاتبها وتمام نضجه وكمال إدراكه لهذه
النازلة المترامية الأطراف، كما أن الرسالة ذات أسلوب أدبي رفيع، ولغة فصيحة
وقد أجاد الباحث في وصف هؤلاء الزنادقة بما يستحقونه من أوصاف الضلال
والزيغ. وليت الباحث تقدّم خطوة أخرى فبيّن حكم الله تعالى في مقالاتهم، وهل
يُستتابون أم لا؟
وقد وُفق الباحث في منهجه؛ حيث سار على طريقة منضبطة، وعُني بحشد
الشواهد الكثيرة والأمثلة المشهورة لكل مسألة يوردها، ولو أن الباحث أعطى
خلاصة في نهاية كل مسألة كما فعل ببعضها لكان أرفق بالقارئ وأيسر، وكذا لو
عمد إلى ترتيب بعض الفصول إلى مباحث ومطالب لكان أنفع وأكمل، وليت
الباحث عقد بحثاً مستقلاً عن العقوبات والمثلات التي حلّت بالكثير منهم [وما هي
من الظالمين ببعيد] [هود: 83] .
إن هذه الرسالة لا تعد تصوراً مهماً ومرجعاً ثرياً في رصد فكر الحداثيين
فحسب، بل هي وثيقة علمية رصينة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، كما أنها
مصدر نافع في التعريف بجملة هائلة من المصطلحات الفكرية والأدبية والتراجم
الموثقة لأدباء الحداثة، كما أبدع الباحث في مناقشة الذين يحسنون الظن بالحداثيين، والذين يجادلون عن الذين يختانون أنفسهم.
وأخيراً:
فهذه الرسالة قُدِّمت إلى قسم العقيدة، والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد ابن سعود سنة 1417هـ، ثم نوقشت هذا العام 1420هـ عن طريق
كوكبة من أهل العلم والاختصاص؛ حيث كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله
آل الشيخ مفتي عام السعودية مقرراً، وكان أعضاء المناقشة كلاً من: فضيلة الشيخ
صالح بن عبد الله بن حميد، وفضيلة الشيخ ناصر بن عبد الكريم المشد، وسعادة
الدكتور حسن بن فهد الهويمل.
فجزى الله الباحث كل خير على ما قدّم، وأعانه الله على المبادرة في نشرها
بأقرب فرصة، وبالله التوفيق.(146/52)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء على ما يتيسر لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة لقارئها ...
سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر، والله الموفق.
- التوضيح لتوحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية (مجلد لطيف) ،
للعلاَّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تصحيح: محمد البسام، دار عالم الفوائد،
1420هـ.
الكافية الشافية قصيدة جامعة - لابن قيم الجوزية - اشتملت على ما لم يشتمل
عليه كتاب في فن التوحيد والعقائد والأصول، واحتوت على تفاصيل كثيرة لا
توجد في سائر الكتب - حتى كُتُب مؤلفها - اكتفى المؤلف بشرح الأبيات المتعلقة
بالتوحيد منها؛ اهتماماً منه بما تمس إليه الحاجة، وقد أكثر من النقل لعبارات
المؤلف في كتبه؛ لأن أحسنَ ما شُرِحَ به النظمُ هو كلامُ ناظمه.
- معالم في منهج الدعوة (مجلد) ، للشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد،
دار الأندلس الخضراء، 1420هـ.
عشر من الرسائل تندرج تحت وحدة موضوعية متقاربة، في ثناياها: مفهوم
الحكمة، ونماذج القدوة، وثمرات التعاون، وأثر التوجيه، وأدب الخلاف،
وأصول الحوار، ومواقف العزة، وكشف اللبس، وتعليم الخطابة، وأحكام الأذان.
- الأحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام (رسالة دكتوراه -
مجلدان) ، د. أحمد بن عبد الله العمر، دار ابن عفان، 1420هـ.
يهدف الكتاب لتنقية الفكر من نتن دعوات مساواة المرأة بالرجل في كل شيء، رغم الاختلاف الحقيقي في التركيب الجسمي والعقلي والوظيفة المناطة بكل منهما، جمع المؤلف الفروق بينهما في أحكام العبادات ضمن أبواب أربعة في دراسة
فقهية، فجاءت الدراسة لبنة في بناء صرح علمي فكري متين.
- الطريق إلى الصحة النفسية عند ابن قيم الجوزية وعلم النفس (بحث
تكميلي في مجلد لطيف) لعبد العزيز بن عبد الله الأحمد، دار الفضيلة، 1420 هـ.
الصحة النفسية مطلب تشتد حاجة الناس إليه - لا سيما في وقتنا الراهن -
وتزدان مادته حين يدرس من خلال إمام فذّ كابن القيم. قدم الباحث قواعد
وتفسيرات ومبادئ تهم الباحثين والعامة، من خلال المقارنة بين تقريرات هذا الإمام
وبين المبادئ النفسية المعاصرة؛ وذلك في أسلوب سهل قريب المنال؛ فجاءت
الدراسة نموذجاً للتأصيل الإسلامي في هذا الفن الذي نشأ في غيبة عن المنهج
الرباني.
- الحوافز التجارية التسويقية وأحكامها في الفقه الإسلامي (رسالة ماجستير - مجلد) ، لخالد بن عبد الله المصلح، دار ابن الجوزي، 1420هـ.
ترغيب المشتري في الشراء من خلال الوسائل والأساليب التسويقية المعاصرة
من: الهدايا والتخفيضات والمسابقات والإعلانات والدعايات وإمكانية رد السلعة
والضمان والصيانة والاستبدال من نوازل العصر الملحّة، كيف تخرّج أحكامها؟
وما الضوابط الشرعية العامة للمعاملات؟ هذا ما جاء البحث مجيباً عنه، ووقع
على حاجة صارت ظلاً للتجارة المعاصرة لا تفارقه!
- مقالات في التربية - المجموعة الأولى (غلاف) ، محمد بن عبد الله
الدويش، دار طيبة، 1420هـ.
تجني الصحوة اليوم بعض ثمرات جهود تربوية مباركة، تشدّ الأمة إلى
الإصرار على التربية، وتدعوها إلى تفعيلها، ولما كانت التربية ضرورة لنقل
الأحكام الشرعية من مجرد العلم إلى العمل كان إثراؤها بالدراسات ضرورة أيضاً،
وقد جاءت هذه المقالات استجابة لها، من خلال العناوين الآتية: صفات المربي،
وافتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية - النجباء والموهوبون - أخطاء في
علاج الأخطاء؛ بقلم معروف باهتماماته التربوية.
- المال المأخوذ ظلماً وما يجب فيه في الفقه والنظام (رسالة دكتوراه- مجلدان) ، د. طارق بن محمد الخويطر، دار إشبيليا، 1420هـ.
تأتي الدراسة في وقت تفاقمت فيه مظالم الأموال بالسرقة والاختلاس والنصب
والرشوة والخيانة واحتكار الأموال العامة، فوصَّف الباحث تلك الأفعال، وكيّف
أوصافها، وحرر شروطها، ودلف إلى ما يترتب على كلٍ من الأحكام الشرعية،
والقضائية - مكتفياً بالنظام السعودي -.
- المحْكمات في الشريعة الإسلامية وأثرها في وحدة الأمة وحفظ المجتمع (غلاف) د. عابد بن محمد السفياني، دار ابن الجوزي، 1420هـ. تتحقق مقاصد الشريعة من خلال ما أحكمته الشرع الحنيف، وأوضحه وحفظه
من المحكمات التي ترعى ضرورات: الدين والنفس والعرض والعقل والمال التي
يُحفظ بها المجتمع وتتوحد بها الأمة، ومن خلال المحكمات والأساسيات ينبغي تقديم
الإسلام في التطبيق والدعوة؛ منعاً للتفرق المذموم على ما يسع فيه الخلاف.
الدراسة تكشف عن أهمية الموضوع من الناحية العلمية الأصولية، والتطبيقية
الفقهية يدبجها مختص ذو باع.(146/60)
البيان الادبي
الخطيئة
د. خالد بن سعود الحلبي
إن المسلم في صراع دائم مع نفسه الأمَّارة بالسوء، يجاهدها ويكشف
خططها ومؤامراتها، ويلجم جموحها بزمام المراقبة لله، والخشية منه؛ وقد عبر ...
الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله عن ذلك في صور شعرية
مختلفة، ومن ذلك قوله [1] :
تسول لي نفسي بأن ذنوبها ... تخفف من أطماعها وغرورها
ولو أن نفسي صح في الله عزمها ... لما بطنت ثوب التقى بفجورها
فيا نفس خل المكر عنك وسارعي ... إلى رحمة قد لاح بارق نورها
وقد عمد الشاعر هنا إلى أسلوب التجريد البلاغي؛ حين جرد من نفسه
شخصاً آخر؛ ليكيل لها اللوم والتقريع؛ وربما ليومئ إلى الاعتراف بالذنب المبطن
بالاعتذار بالطبيعة البشرية، والنفس الأمارة بالسوء، والتي تقررت طبيعتها في
الآية الكريمة: [وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن
ربي غفور رحيم] [يوسف: 53] . ولكنه يدعوها إلى الاقتراب من رحمة الله،
والتعرض لمغفرته.
وتجلى لنا الصراع أقوى ما يكون في مواجهة الرغبة الجامحة في المعصية
في قول الأميري في مقطوعته (لفح السعير) [2] :
أحس اختناقا بأعماق روحي ... إذا طاف بي طائف المعصيه
كأن الجبال على أضلعي ... ولفح السعير بأنفاسيه
مران البراكين في غور قلبي ... تثور، وتنفث في قلبيه
فأبغي نجاتي ولو بمماتي ... لأعتق من شهوة عاتية
وألقي كياني إلى من براني ... لترتاح نفسي من نفسية
وكما نرى في هذه الأبيات فإن الشاعر لم يتأثر بالفكر النصراني المندس في
الشعر المعاصر؛ حيث راح بعض شعراء العربية حتى من المسلمين يقلدون الغرب
الصليبي في استيحاء الفكرة الباطلة التي تقرر: توارث بني آدم خطيئة أبيهم؛ وأن
(الخلاص) يكون عن طريق (المسيح) عليه السلام، ولذلك كثر في شعرهم الرمز
بالصليب والمسيح ونحو ذلك؛ كما نجد عند نزار قباني، ومحمود درويش،
وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي الذي يقول [3] :
خطيئة ما برحت نارها ... تطلب من موقدها المغفرة
لو عاد للعالم أمواته ... لاحتضنوا في أرضنا المزهرة
ألف يسوع في جراحاته ... مات لتحيا فكرة نيرة
وتعجُّبي: كيف يقول مسلم ببقاء خطيئة غفرها الله بنص قوله تعالى: ... [فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم] [البقرة: 37] ؟ وكيف يؤمن مسلم بصلب المسيح عليه السلام، وقد قال تعالى: [وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم] [النساء: 157] ؟ وغير خفي إعراض الشاعر حتى عن اسم المسيح ولقبه في القرآن، إلى اسمه في كتب النصارى.
فإن الأميري برؤيته الإسلامية الناصعة حسم هذا الموقف بقوله [4] :
كانت الزلة والتو ... بة والعفو الرحيم
فالزلة حدثت من (آدم) عليه السلام، والتوبة أعقبتها منه، وتلاهما العفو
الإلهي الرحيم.
وخُتِمَ الأمر، ولم يبق إلا الإغراء الشيطاني، ونزغات النفس الأمارة بالسوء، أما أسطورة الخطيئة والتكفير فلا وجود لها في الإسلام الذي قرر: [ألا تزر
وازرة وزر أخرى] [النجم: 38] .
وما كان لعيسى عليه السلام أن يؤثِّر في العالم بعد أن رفعه الله إليه، إلى أن
ينزل في آخر الزمان.
__________
(1) ديوان: مع الله: 63.
(2) مخطوطة غير مصنفة في ديوان، محفوظة في مكتبة الشاعر في الرباط.
(3) ديوان عبد الوهاب البياتي: 314.
(4) ديوان: ملحمة الجهاد: 22.(146/62)
نص شعري
أحمد بن حنبل " رحمه الله "
د. محمد بن ظافر الشهري
سيكون للديدان قوتاً في غدِ ... فاجلِدْهُ يا سجّانُ أو لا تَجْلِدِ
قد بعتُ هذا الجسمَ واللهُ اشترى ... ومَن اشتراهُ اللهُ لم يَترددِ
لو حرَّقوني لم أكن مستبدلاً ... ديناً مَرِيسِياً بدين محمدِ
لو فُهتُ بالكفر اتّقاءَ عذابهم ... مَا حيلتي في ألفِ ألفِ مُقَلّدِ
ما ضرني سجني ولا قيدي وفي ... قلبي أرى حريتي لا في يدي
ظنوا سيوفهمُ تُبيد عقيدتي ... فقتلتُ بدعتهم بغير مُهنَّدِ
حقٌ على العلماء ألاّ يكتموا ... ما جاء في القرآن أو في المُسندِ(146/63)
نص شعري
هروب
محمد ظافر الشهري
رأى الناسُ فيما يرى النائمونَ ... وللنومِ في الشرع حكم الجنون
كأنّ اليهود غداً يجنحونَ ... لسلْمٍ وبعد غدٍ يُسْلِمون
وأنهُمُ يوقفون البناءَ ... وها همْ أولاءِ مضوا يبتنون
وأن اليهودَ إذا غادروا ... سيخلفهم بشرٌ يَرْحَمون
فلما صحوْا علموا أنهمْ ... رأوْا صُوراً أبداً لن تكون
فَفَرُّوا إلى النوم أُنْساً به ... فقد وجدوا فيه ما يشتهون(146/64)
نص شعري
دَعُونا نَراهُمْ بِخَفَّاقِنا
محمد سعد دياب
إذا ما شَبِعْنا فَيا ليْتَنا ... نُسافرُ هَمّاً ولكنْ لِمَنْ؟
لِسِرْبِ الجِّياعِ بَرَى جسمَهم ... جحيمُ الزَّمانِ وَلَيْلُ المِحَنْ
سَرَى الجُوعُ يسحقُ أضلاعهم ... ونحنُ تَخِمْنا ببطنٍ يئنْ
لقد داسَ أعناقَهم ذُلُّهُ ... مَراراتُهُ أنهرٌ مِنْ شَجَنْ
هياكلُهُمْ ناتئٌ عظمُها ... فُؤادٌ كسيرٌ وَجَفْنٌ وَهِنْ
أناخَ الشَّجا رَحْلَهُ ساكباً ... بحاراً تَدَفَّقُ مُرَّ الحَزَنْد
يُطِلُّ الأسى مِلءَ شريانِهمْ ... فإنَّ الشَّقاءَ بِهِ مُرْتَهَنْ
فلا الصُّبحُ صَبحٌ يُنِيرُ الدُّجَى ... ولا الدَّرْبُ إلا الضَّنَى والوَهَنْ
يرون سواهُمْ تُحِيطُ بهم ... غدائرُ نُعْمَى وفجرٌ أغَنْ
وهمْ كأسُهُمْ بَحْرُ صَابٍ هَمَى ... ودمعٌ غزيرُ الشَّجا ما وَهَنْ
بِكُلِّ وريدٍ ثوَى عَلْقَمٌ ... أراقَ اللَّظَى في الحَشا وَاقتَرنْ
حياةٌ هُنَيْهاتُها حَنْظلٌ ... مُقِيمٌ بأحْداقِهِمْ ما ظَعَنْ
دَعُونا نُفَكِّرُ يا إخوتي ... نُحِسُّ بهم لحظةً من زمنْ
دَعُونا نراهمْ بخفَّاقِنا ... ونعطيهمُ القوتَ مِنْ دون مَنْ؟
لنرحمَ طِفْلاً قَضَى لَيْلَهُ ... يُصارعُ عُمْراً غريبَ الإحَنْ
نُقِيلُ بهِ عَثْرةً زعزعتْ ... يقيناً وقلباً عَسَى يَطْمَئِنْ
وَيَبْقَى نَدَى الأَجْرِ نهفو لهُ ... فما ضاعَ للأَجْرِ يوماً وَطَنْ(146/65)
الاسلام لعصرنا
الدعوة.. ووسائل الاتصال الحديثة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
إن وسائل الاتصال الحديثة آية دالة على صدق النبوة المحمدية، وهي فرصة
كبيرة لنشر الرسالة المحمدية، لكنها أيضاً أكبر تحدٍّ يواجه الدعاة إلى هذه الرسالة.
أما كونها آية فلأنها جعلت بلدان العالم كلها بمثابة البلد الواحد الذي كان يرسل
إليه كل نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة علي أن الذي أرسل
محمداً رسولاً للناس كافة لا لقومه خاصة هو الخالق سبحانه الذي كان يعلم أن العالم
كله سيصير بمثابة القرية الواحدة، فلا يحتاج إلى تعدد المرسلين، ولا يحتاج إلى
رسول بعد الرسول الذي تعم دعوته شعوب العالم أجمعين. لقد كان هذا التقارب
بين بلاد العالم قد بدأ مع مبعث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، لكنه ظل يزداد
ويزداد مع تطور وسائل المواصلات والاتصالات، حتى وصل إلى ما وصل إليه
في عصرنا، وربما تشهد العصور التي تلينا تقارباً أكبر، بسبب تطور أكثر في
مجال الاتصالات. فمَنْ غيرُ الخالق سبحانه كان يعلم آنذاك أن هذا سيكون؟ إن
الترابط بين شعوب العالم الذي أحدثه هذا التطور الكبير في وسائل الاتصال ليس
إذن مجرد أمر دنيوي بالنسبة للمسلم، وإنما هو أمر يتصل بصميم عقيدته؛ لأن فيه
دليلاً يضاف إلى الأدلة المشيرة إلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما كونها فرصة لنشر الدعوة فأمر لا يكاد يحتاج إلى بيان. إن الكتب تطبع
الآن بأسرع مما كانت تطبع به في الماضي، وتنتشر على نطاق أوسع مما كانت
تنتشر به، والكلمات لم تعد تقتصر كتابتها بحبر على ورق، وإنما صارت الملايين
منها تكتب في أقراص مدمجة يسهل حملها، ويسهل الوصول إلى المادة المكتوبة
فيها. والكلمة المنطوقة لم يعد ينتهي صوتها بانتهاء النطق بها، وإنما صارت
تسجل على أشرطة مسموعة وأخرى مرئية مسموعة، والرسائل لم تعد تحتاج إلى
بريد بالجِمال أو بالسيارة أو الطائرة أو القطار، وإنما صارت ترسل في لحظات
عبر الفاكس والبريد الإلكتروني. ثم الشبكة العالمية (الإنترنت) التي تجمع لك هذا
كله، أعني: الكتابة والصوت والصورة والإرسال السريع والحفظ. وقد استفاد
الدعاة بحمد الله تعالى من كل هذه الوسائل، فسُجِّل كتاب ربنا بأصوات عدد من
كبار قرائنا، وسجلت بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وها نحن اليوم
نستمع إلى دروس كبار شيوخنا ومحاضراتهم حتى بعد وفاتهم، وأما الشبكة العالمية
فقد استفادوا منها هي الأخرى أيما فائدة، وما تزال المواقع الإسلامية تفتح فيها يوماً
بعد يوم، وما تزال المادة الإسلامية المعروضة فيها في ازدياد مطرد. وقد سمعت
عن أناس ورأيت أناساً هداهم الله تعالى عن طريق هذه الوسيلة. وقد كان المسلمون
في البلاد الغربية يشكون من أن الصحف والمجلات لا تفتح لهم مجالاً للنشر فيها
حتى عندما يكون المقال رداً على افتراء على الإسلام، فإذا هم اليوم يكتبون ما
يشاؤون على صفحات هذه الشبكة. لكنني ما زلت أرجو أن يزداد اهتمامنا بها
واستفادتنا منها، وأرجو أن يأتي يوم قريب تكون فيه كل المراجع الإسلامية متيسرة
فيها، وأرجو أن أرى فيها مقررات في شتى الفنون الإسلامية تأخذ بيد الراغب من
المستوى الابتدائي وتتدرج به حتى توصله إلى المستوى الجامعي. وأرجو أن يأتي
يوم تتحول فيه جامعتنا الأمريكية المفتوحة، وأختها كلية لندن المفتوحة، إلى جامعة
إسلامية عالمية تضاهي الجامعات المفتوحة الكبرى كالجامعة البريطانية التي يبلغ
عدد طلابها أكثر من مئتي ألف، أرجو أن يدرك المحسنون، وأن تدرك المنظمات
الإسلامية في عالمنا الإسلامي أهمية مثل هذا التعليم الذي يسمى بـ (التعليم عن
بعد) ، والذي يصفه بعض رجال التربية الغربيين بأنه نظام المستقبل، فيولونه
عنايتهم ودعمهم حتى تكون الدراسة في جامعته مجاناً، وحتى يوفر العلم الشرعي
للراغبين فيه أنَّى كانوا على وجه الكرة الأرضية.
وأما كونها تحدياً عظيماً:
فأولاً: لأنها كما يسرت لنا إيصال دعوة الإسلام إلى غير المسلمين، فقد
سهلت لغير المسلمين ولا سيما الغربيين إيصال دعوتهم إلينا، وبما أن إمكاناتهم
المادية هي اليوم أكبر من إمكاناتنا، وبما أن إدراكهم لأهمية هذه الوسائل الحديثة
أكبر من إدراكنا فإن ما يوصلونه إلينا يفوق كثيراً ما نوصله إليهم، بل إنهم لا
يحتاجون إلى الاقتصار على الخطاب المباشر من الغرب إلى الشرق الإسلامي؛
لأن لهم عملاء في بلادنا هم من بني جلدتنا ويعربون بألسنتنا، ويكتبون في صحفنا، ويتكلمون في إذاعاتنا ويظهرون في قنواتنا، ولا همَّ لهم إلا دعوتنا للسير في
ركاب الغرب، في نظمنا السياسية، وأوضاعنا الاقتصادية، وقيمنا الخلقية،
ونظرياتنا التربوية، وأساليبنا الأدبية، ونظرتنا التاريخية، بل وتصوراتنا الدينية،
يعطون الكلمات العربية والمصطلحات الإسلامية مثل الأصولية معاني كلمات غربية
ثم يكررونها بذلك المعنى الغربي على مسامعنا ليل نهار، واصفين بها كل مستمسك
بدينه من الأفراد والدول والجماعات ليُدخلوا في روْع الناس أن مسلك هؤلاء
وطريقهم هو الطريق الشاذ، وأن المسلم المعتدل إنما هو ذلك الشخص الذي يأخذ
دينه مأخذ الغربي الليبرالي أو حتى العلماني للدين.
وثانياً: لأنها لا تفتأ تذكِّر المسلم بأن أكثر الناس على وجه الأرض ليسوا
مسلمين، وأن أقوى دول الأرض سلاحاً واقتصاداً وأكثرها لذلك تأثيراً ليست دولاً
مسلمة، بل وأن معظم الدول الإسلامية قد نهجت نهجها العلماني في نظمها السياسية
وقوانينها، وكثير من نواحي حياتها الأخرى. وفي البشر ضعف يجعل من الشاق
عليهم مخالفة الأمر الشائع حتى لو كان في نطاق قرية، أو مجموعة محدودة متن
الناس كما كان الأمر في الماضي، فكيف إذا أصبح مخالفة لأكثر سكان العالم وأكثر
دوله؟ إن هذا الضعف قد يصل بالإنسان إلى مجاراة الأكثرية في إنكار أمر هو
موقن بأنه حقيقة لا ريب فيها؛ ألم يقل الله تعالى لرسوله موسى عليه السلام: ... [فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى] [طه: 16] ، والإنسان قد
يدفعه هذا الضعف إلى الضيق بما يعلم أنه الحق إذا رأى الناس يعترضون عليه
باعتراضات مهما كانت واهية. ألم يقل الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ... [فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز
أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل] [هود: 12] ، إن الله
تعالى لا يرسل رسولاً تصده أهواء الناس عمَّا أوحى إليه ربه، أو تحمله
اعتراضاتهم على الكف عن تبليغ بعض ما أنزل الله إليه، لكن في تذكير الرسل
بعد الوقوع في مثل هذا النوع من الضعف دليل على أنه يقع من غيرهم، حتى لو
كان من أتباعهم، وإذا كان الله تعالى يذكِّر رسله بعدم الاستسلام لمثل هذا الضعف
فإن غيرهم أوْلى بأن يذكَّر ويذكِّر.
لكن حتى هذه الجوانب التي تبدو ضارة في وسائل الاتصالات الحديثة لا تخلو
من نفع فيما يبدو لي، بل يمكن أن يُسْتغَل كثير منها استغلالاً حسناً لمصلحة الدعوة
إلى الإسلام، وأرجو أن أبين هذا في مقال قادم بإذن الله وتوفيقه.(146/66)
وقفات
كيف نخاطب الجماهير..؟
(2-2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
ذكرتُ في الحلقة الماضية ضرورة إعادة النظر في خطابنا الجماهيري،
وأثرت أربعة أمور، هي: (الإيمان بالهدف) ، و (الحذر من الخيلاء وحب
الرياسة) ، و (الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة) ، و (الدقة في الخطاب) ،
وفي هذه الحلقة أنبه إلى أمور أخرى إتماماً للموضوع:
خامساً: الحذر من التعلق بالأشخاص:
من الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير؛ سواء أكان ذلك على
المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي ... ونحوها: التعلق بالرموز
والانكفاء عليها، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض
بها من كبوتها، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط، وثارت
في كوامنهم دواعي العجز والحيرة، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحياناً إلى ازدراء
مصلحين آخرين ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهماً وقدرة، وقد يؤدي هذا
التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد، أو عدم استغلال الفرص
السانحة لهم.
وقد يُرسِّخ هذا المفهوم بعض هؤلاء الرموز، ويدفع الناس إلى تقليده
وتعظيمه، بلسان المقال حيناً، وبلسان الحال أحياناً أخرى. والتقليد قاصمة من
القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير، وتحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان
هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال، وهي تستجيب له بكل دعة
وخنوع. والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس
إليهم فحسب، بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم؛ فمن تبعهم
تبعهم بحجة وبرهان، ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة
ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم.
سادساً: وضوح الرؤية:
تتم مخاطبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية رتيبة؛ حيث لا
توجد لديهم رؤية واضحة، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي
يريدون الوصول إليها؛ وقد ترى أن كثيراً من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية
على خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك، بل تلمس أحياناً أن
بعضهم لا يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي، ولهذا تراه يجتر كثيراً
من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة!
إن وضوح الأهداف يعين كثيراً في الاعتبار بالماضي واستبصار الحاضر
واستشراف المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة: ما
الموضوعات التي سوف يتحدث عنها؟ ! وما القواعد التي يريد بناءها؟ ! وما
الأمراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها؟ ! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك؟ ويعرف في ذلك الأولويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة، ونحو
ذلك مما يعدّ من البدهيات المنهجية التي لا غنى عنها.
سابعاً: تلمس احتياجات المخاطبين:
احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية كثيرة جداً، ويتميز المصلح الجاد
بقدرته على تلمس احتياجات الناس، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة
الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون، ويتحدثون عن أشياء كثيرة، لكنهم بعيدون عن
نبض الشارع واهتمامات الناس.
ومعلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيراً، ويألفه في بداية أمره،
لكنه يبتعد عنه شيئاً فشيئاً إذا فقد المادة الأصيلة المتجددة التي تشبع حاجاته
وطموحاته، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجمهور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم
بالحيوية والتجدد، وهذا فيما أحسب أحد المعايير الرئيسة للاستمرارية والبقاء.
ثامناً: الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي:
يغلب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي
يُبنى على استثارة المشاعر، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه، ولكنه
وحده لا يكفي على الإطلاق، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء.
نعم قد تجمِّع العاطفة أناساً كثيرين، ولكنها وحدها لا تحيي أمة، ولا تبني رجالاً،
ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن.
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة
عواطفهم، ولكنَّ القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم
وصناعتهم من جديد. وإنَّ من أكبر التحديات التي تواجه دعاة الإصلاح: هي
القدرة على توظيف الطاقات، واستثمارها في البناء والعطاء، وكم هي الطاقات
المهدرة التي طالما استهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة!
ولذا كان ممَّا ينبغي على دعاة الإصلاح إدراكه أنَّ من واجبهم التأثير الفكري
والمنهجي على الجماهير، ورفع مستواهم الثقافي، وإحياء الوعي في صفوفهم،
وتربيتهم تربية راسخة عميقة، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة
العطاء والوعي الإنتاجي.
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنَّه لو
دعاهم لتحرير القدس لما تخلف منهم رجل واحد، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق
هذه الغاية العظمى، ولكنه يفاجأ بأنَّ كثيراً منهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر
بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته! ولست هنا أدعو إلى ترك
الجماهير أو عدم الثقة بهم، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب
المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة.
لقد ظلت الجماهير عقوداً متتابعة مغيَّبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر
والوطنية، وها هنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعادة تشكيل عقولهم وصناعة
أفكارهم، ولا شك بأن هذا يتطلب جهداً كبيراً ونَفَساً طويلاً.
تاسعاً: الارتقاء بمستوى الخطاب:
كثير من الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة
ومشكلاتهم، وتتوافق مع طموحاتهم وتطلعاتهم، ولا شك بأن هذه الطموحات
محدودة، وتدور في أطر ضيقة، وقد يغفل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة
طبقات أخرى في المجتمع، ولا بأس أن يوجد من يتخصص في مخاطبة العامة
ويقصر اهتمامه في دائرتهم، ولكن ليس من المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر
خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر الأخرى!
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الذي أدى إلى انفتاح اجتماعي وفكري
عريضين، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية من أهم
أدوات التأثير الفكري، وأعتقد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية
الأهمية، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجامعة، وما يصلح في المسجد
قد لا يصلح في وسائل الإعلام، وما يصلح في هذا البلد قد لا يصلح في البلد الآخر.. وهكذا. وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحد المفكرين الإسلاميين مع مفكر ليبرالي، فآلمني جداً أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية خطابية هزيلة، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء والمراوغة، شعرت من خلالها أنَّه يعرف ماذا يريد. ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور عريض من العامة!(146/68)
المسلمون والعالم
الحرب القذرة في الشيشان والمتواطئون
د. يوسف الصغير
يعيش العالم الإسلامي اليوم مرحلة مخاض صعبة تبشر بقرب ظهور الأمة
الإسلامية على السطح من جديد مع مقاومة شديدة من قوى البغي المختلفة لظاهرة
الانبعاث الجديدة؛ فأعداء الحق حريصون على بقاء العالم الإسلامي غائباً عن
التأثير على مجريات الأحداث العالمية؛ بل والغياب حتى عن قضاياه الخاصة.
لقد كانت الأمة غائبة تقريباً عن أحداث البوسنة وكوسوفا وكشمير وجنوب
الفلبين وجنوب السودان والصومال وغيرها. ونقصد بالغياب: هو عدم القدرة على
توجيه الأحداث والتأثير على مواقف الدول. ولنضرب مثالاً بسيطاً: في حالة
البوسنة أجري استفتاء وأعلن على أساسه استقلال البوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي، وقام الصرب بحرب إبادة ضد المسلمين، وكان دور الاتحاد الأوروبي والأمم
المتحدة التغطية على عملية الإبادة ومحاصرة المسلمين ومنع السلاح عنهم؛ ومع
تطاول الحرب واستقتال المسلمين في البوسنة تكوَّن رأي عام ضاغط في العالم
الإسلامي، وعقدت مؤتمرات إسلامية حرص الغرب على أن يرسل مندوباً سامياً
يؤثر في مجريات الأحداث، ويمنع اتخاذ مواقف مؤثرة في رفع الظلم والحصار
عن المسلمين.
وكان غياب جنود من العالم الإسلامي عن تركيبة القوات الدولية العاملة في
البوسنة في بداية الأحداث مقصوداً، وفي المقابل فبمجرد إجراء استفتاء فيما بعد في
تيمور الشرقية على الاستقلال عن إندونيسيا تدخلت قوات تستظل بعلم الأمم المتحدة، واحتلت الإقليم، وفرضت استقلاله وانفصاله بدعوى تحقيق رغبة شعب تيمور
الشرقية بالانفصال.
إن نفاق من يسيِّر الأمم المتحدة ليس له حد ولا مثيل؛ فأين هذه القوات عما
يحدث في بقاع كثيرة من بلاد المسلمين؟ وهل هناك شك في رغبة المسلمين في
كشمير في الانفصال عن الهند؟ وهل هناك أدنى ريبة في تضحيات المسلمين
الجسيمة في جنوب الفلبين وفطاني؟ ولكن السيد مشغول عن صيحات المسلمين
بالإنصات إلى (جون قرنق) ومحاولة إقناعه بالتواضع في مطالبه ليمكن تحقيقها؛
فهو يريد حكم السودان بأجمعه، وهم يحاولون إقناعه بما يمكن تحقيقه بسهولة
حسب ظنهم وهو الاقتصار على جنوب السودان.
ولسائل أن يسأل: فما بال الشيشان؟ والجواب: أنه لا يختلف كثيراً؛ فهناك
حضور قوي وتداعٍ من الأمم: إما للحفاظ على مصالحها، وإما للحصول على مغانم
مستقبلية. ونقصد بالأمم ما يمكن أن يدعى (بالأَكَلَة) كما في حديث الرسول صلى
الله عليه وسلم: (تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها) [1] فالأكلة
حريصون على الحضور وتسجيل المواقف مع حرصهم في المقابل على منع أي
حضور إسلامي قدر الإمكان إلا في حالة الاضطرار. ويمكن أن نقول: إن هناك
تواطؤاً في حضور الأكلة على المائدة الشيشانية، وتواطؤاً في غياب الأقارب من
المسلمين.
لقد دخل الإسلام إلى بلاد القوقاز في صدر الإسلام، وعم في هذه المنطقة
وتجذر فيها.
وبدأت الاحتكاكات مع الروس عندما بدأت الإمبراطورية الروسية القيصرية
في التوسع جنوباً؛ حيث بدأت جحافل الروس في الدخول إلى المنطقة بهدف
احتلالها منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ولم يستسلم المسلمون لهذه الغزوات بل
واجهوها بكل قوة؛ حتى إن شجاعة الشيشان أصبحت مضرب المثل في روسيا
ودخلت في أدبيات الروس، لقد كان ضعف الدولة العثمانية عاملاً مهماً في تمكُّن
الروس من احتلال القوقاز وآسيا الوسطى، وكانت سياسة الروس القياصرة ومن
بعدهم الشيوعيون تتلخص في تجويع الشعوب ومحاولة توطين الروس في هذه
المناطق لضمان استقرارها، ولا ننسى أن جروزني كانت في الأساس قلعة أقامها
الروس لترابط فيها قوات الاحتلال الروسي، وكانت علاقات الروس مع الشيشان
سيئة على الدوام، وكان انعدام الثقة هو الأساس في التعامل بين الجانبين؛ ولهذا
فقد قام (ستالين) باتهام الشيشان بالتعامل مع الألمان عند احتلالهم للقوقاز أثناء
الحرب العالمية الثانية، وأمر بنفي الشعب الشيشاني. نعم! لقد تم نفي شعب
بأكمله بتهمة أن بعض أفراده تعاون مع الألمان، وفي هذا الوقت فإن الشعب
الشيشاني تدمر مدنه وقراه، ويجبر تحت التهديد بالإبادة على مغادرة أرضه؛
والحجة هي محاربة الإرهابيين، وهذه الحجة هي التي استخدمت منذ بداية الأحداث؛ فقد ركزت عليها الدعاية الروسية ورددها السياسيون والعسكريون الروس ولم
يجدوا غيرها، ومع ذلك فقد كانت مؤثرة في مواقف الدول والشعوب التي يمكن
تلخيصها فيما يلي:
1 - لقد تم تخويف الصين من أن ما يجري في الشيشان سيتكرر تماماً في
تركستان الشرقية المسلمة التي تحتلها الصين؛ ولهذا فإن الصين تقف بقوة مع
روسيا.
2 - لقد سارعت (إسرائيل) إلى تأييد روسيا، وعرضت عليها المساعدة
وتقديم الخبرة المكتسبة في التعامل مع الإرهاب في فلسطين وجنوب لبنان، وبدأ
تسويق مقولات: إن روسيا ستقيم حزاماً أمنياً حول الشيشان يماثل الحزام الأمني
في جنوب لبنان؛ وعلى الرغم من سقوط هذا الخيار وتجاوزه فإن (إسرائيل) تكرر
مساندتها لروسيا فيما يسمى بحرب الإرهاب الإسلامي!
3 - لقد ردد الروس أن لأسامة بن لادن دوراً في أحداث الشيشان والداغستان؛ وذلك من أجل استغلال حساسية أمريكا الشديدة، ولكن يبدو أن أمريكا تعرف أن
ابن لادن بعيد عن أحداث الشيشان، إلا أنها في المقابل ترحب في تورط روسيا في
الشيشان؛ وذلك لأن إضعاف الإسلاميين يصبُّ في مصلحة أمريكا، وإخفاق
الروس المتوقع سيفتح المجال للنفوذ الأمريكي في هذه المنطقة الحيوية. والذي أراه
أن أمريكا كانت ترغب في تورط الروس في هذه المنطقة، وكانت تردد أنه ليس
فقتط من حق روسيا محاربة الإرهاب بل هذا من واجبها كما حصل في مؤتمر
إستانبول الأخير.
إن موقف أمريكا من الأحداث يتوقع له أن يتطور من أجل كسب شعوب
المنطقة وتقبلها للحضور الأمريكي بعد طرد الروس.
4 - لقد نجح الروس في البداية ولفترة مؤقتة في إبعاد الدول الإسلامية التي
يتوقع أن يكون لها دور في الأحداث؛ وذلك باتهامها ابتداءاً بتأييد الإرهاب في
القوقاز؛ وبالطبع سيسارع المتَّهم إلى نفي التهمة والتعامل بحذر حتى لا يعطي أي
فرصة للروس لتأكيد هذه التهمة.
5 - لقد سببت أحداث الشيشان الكثير من الحرج لإيران نظراً لعلاقاتها
الوثيقة مع روسيا في جميع المجالات؛ ولهذا فقد سارعت لإرسال وزير خارجيتها
على رأس وفد منظمة المؤتمر الإسلامي إلى موسكو.
إن تصرفات الروس تشبه بتصرُّف من يقوم بتحطيم الكرسي الذي يريد
الجلوس عليه؛ فقد ابتلع الروس الطعم الغربي بالتبشير بأسلوب الحرب الجديد الذي
يناسب الجبناء والغرباء؛ حيث قام الروس بتقليد الأسلوب الأمريكي في الحرب
الجوية والاستعمال الفائق للقوة، وفاتهم أن أمريكا استعملت هذا الأسلوب ضد
أراضٍ تعتبرها عدوة مثل العراق وصربيا وكوسوفا؛ حيث تم تدمير البنى التحتية
والمباني والجسور من أجل تحطيم قدرات الخصم على المقاومة ودفعه للخضوع.
إن مشكلة الروس في الشيشان أنهم لا يواجهون زعيماً أو حكومة متمردة
ولكنهم يواجهون شعباً يكرههم، ومجموعات مجاهدين تسعى لطردهم. إن تدمير
المدن والبنى التحتية من مصانع وطرق وخدمات سيضعف قدرة الروس على
الصمود أمام حرب عصابات طويلة الأمد؛ فأين يقيم الجنود الذين بلغ عددهم مائتي
ألف حتى الآن، وكيف يتم تموينهم؟
إن خروج الروس قضية محسومة وليست بعيدة المنال؛ ولكن الذي يهمنا أن
يقوم المسلمون بتبني هذه القضية واستغلالها وأن يزاحموا الأكلة ويطردوهم، وعلى
المسلمين أن يفهموا أن حرب الشيشان بدأت مشروعاً قومياً شيشانياً خالصاً ولكنها
تحولت إلى مشروع إسلامي؛ فقد استلم الإسلاميون بجدارة قيادة الشيشان أثناء
الحرب الأولى، وبعد خروج الروس بدأ المشروع الإسلامي يقوى ويتجر في
الشيشان، ولكن المشكلة الأساس هي حالة الحصار الذي تعيشه الشيشان، من قِبَلِ
الروس وهاجس المستقبل؛ حيث نجح الروس في التملص من الاعتراف باستقلال
الشيشان وأقنعوا الشيشان المرهقين من الحرب بتأجيل البت في هذا الموضوع لمدة
خمس سنوات من عام 1996م، وهذا يعني تأجيل الموضوع حتى تستقر الحكومة
الروسية ويتعافى الاقتصاد الروسي ومن ثَمَّ يكون وضع الشيشان أصعب بكثير.
والذي يبدو أن أحداث الداغستان أجبرت الروس على تطبيق مخطط كان مقرراً أن
ينفذ بعد عام 2001م؛ إذ لم تنجح المخابرات الروسية في اغتيال قيادات المجاهدين
وترتيب حكومة عميلة أو على الأقل خاضعة للروس.
إن حرب الشيشان الحالية ووضع الروس الصعب فيها فرصة لكل دولة
إسلامية تريد أن تخرج من طوق العزلة والوصاية، وأن يكون لها ريادة العالم
الإسلامي الجديد المشرِق والذي أراه أمامي من خلال الأحداث رغم قسوتها؛ فإنه
المخاض.
__________
(1) رواه احمد، ح/21362، وأبو داود، ح/3745.(146/70)
المسلمون والعالم
صراعات القرن الإفريقي
وعودة العلاقات الإرتيرية السودانية
جلال الدين محمد صالح
تعقدت الأوضاع في القرن الإفريقي، وازدادت سوءاً إلى الحد الذي سلبه
استقراره السياسي، وَحَوَّلَهُ إلى بؤرة صراع عسكري وتوتر أمني لا يسوقه إلا إلى
نكبة من وراء أخرى، وليس فيما يظهر ما يبشر بقرب الانفراج، أو يوحي
بتخفيف الأزمات فضلاً عن الذهاب بها إلى حيث لا رجعة؛ فالصومال الحزين ما
زال ينزف دماً من جراء الاقتتال القبلي، ويُدفَع به من هاوية إلى أخرى من دون
أن تجدي في إطفاء حريق الحرب كلُّ محاولات المساعي الحميدة وغير الحميدة من
وسطاء عرب وغير عرب، وبلغ به الانهيار والتردي إلى الدرجة التي جعلت منه
أفضل ميدان تصطفيه القوى الإقليمية المتصارعة لتصفية حساباتها وخدمة
استراتيجياتها تماماً كما يفعل النظامان الإرتيري والإثيوبي باللعب في تناقضاته
القبلية، وإغراقه بكميات من مختلف الأسلحة دعماً لمن تتطابق معه مصالحهما من
الفصائل المتحاربة سواءاً من المعارضة الإثيوبية التي تتلقى دعماً عسكرياً من
النظام الإرتيري، أو أطراف النزاع الصومالي؛ حيث تنحاز إرتيريا نحو عيديد،
وإثيوبيا نحو عثمان علي عاتو الذي ندد مؤخراً بالتصرف الإرتيري وذلك بعد
وصول سفينة محملة بالسلاح من إرتيريا لدعم المعارضة الأرمية الكامنة في
الصومال تحت مظلة (عيديد) للانطلاق من هناك في ضرب الأهداف الإثيوبية،
وتذكر مصادر صحفية أن قتالاً نشب بسبب النزاع على تقاسم هذه الأسلحة التي تم
تفريقها بحضور (عيديد) وإشرافه.
وكتب مدير مركز القرن الإفريقي للدراسات الإنسانية في مقديشو نقلاً عن
الصحف المحلية (أن وفداً عسكرياً إرتيرياً قام بزيارة معسكرات التدريب للثوار
الصوماليين والأرميين في وقت سابق من الشهر الماضي للوقوف على مستوى
التدريب ومدى القدرات القتالية لدى الثوار) [1] .
ويتوقع المدير المذكور أن إثيوبيا سوف تتخذ هذا ذريعة لاجتياح الصومال كما
اجتاحته من قبل لضرب ما أسمته بأوكار الأصولية القابعة هناك، وأورد أنها عقب
هذا النشاط الإرتيري دعت حلفاءها الصوماليين إلى اجتماع طارئ للاتفاق على
استراتيجية تحبط المخطط الإرتيري.
وهذا التفكك الصومالي بالرغم من أنه أنهى دور الصومال باعتبارها دولة
مؤثرة، وأتاح لإثيوبيا فرصة العبث به إلا أنه من زاوية أخرى عاد عليها نتيجة
غياب الحكومة المسؤولة بكثير من المساوئ مما أوجب عليها القيام بمبادرات
إصلاحية تمثلت في تنظيم اجتماع (سودري) لتسوية الوضع المأساوي في هذا
البلد؛ ولكن على النحو الذي يجعل منه كياناً مطواعاً تمسك به من خطامه وتجره من أنفه إلاَّ أنها عجزت عن كسب ثقة كل الفصائل، وبخاصة (عيديد) الذي وقف معارضاً لكل ما انبثق عن اجتماع (سودري) من لجان وقرارات معتبراً ذلك نمطاً من أنماط التدخل الإثيوبي في الشؤون الصومالية، وهكذا انحصر هذا الاجتماع في ستة وعشرين فصيلاً خرجوا بتكوين مجلس أطلق عليه: (مجلس الإنقاذ الوطني الصومالي) ومن أبرز رجاله (عثمان عاتو) .
ومهما كان حظ (عيديد) من الصدق في تشخيص النوايا الإثيوبية من وراء
تنظيم هذا اللقاء فإن التأثير القبلي والمصلحي في القيادات الصومالية بات عقبة
صعبة التجاوز، فلم تعد مثل هذه المواقف الرافضة خاصةً بإثيوبيا ومبادراتها؛
وإنما أيضاً مصير كل مبادرة لا يجد فيها طرف من الأطراف ما يُخَصُّ منها
بنصيب الأسد، حتى ولو كانت من المحيط العربي والإسلامي، كما كان الأمر مع
لقاء القاهرة الذي تم في 22-12-1997م بعد اجتماع (سودري) وحضره ... (عيديد) لكنه جُوبِهَ بمعارضة قيادات أخرى كالكولونيل عبد الله يوسف، واللواء آدم عبد الله اللذين أعلنا فور وصولهما إلى أديس أبابا من القاهرة معارضتهما لكل ما ينجم عنه من قرارات. والكولونيل المذكور حسب إفادة مصادر مطلعة حليف قوي لإثيوبيا، ويقود منظمة تدعى (الجبهة الصومالية للإنقاذ) وقام بتشكيل حكومة محلية في مناطق الشمال الشرقي من البلاد، ولا ريب أن اتساع رقعة التنافر والتدابر بين هذه القيادات يعد مؤشراً جلياً على أن الصومال سيبقى بعيداً عن بر الأمان ملتهباً ومتقرحاً يندب حظه، وتتساقط عليه جراثيم الصراع الإقليمي لتعمق من جراحاته إلى أجل غير مسمى، وهو بالقدر الذي يمثله بوضعه الحالي من وصمة عار على جبين بنيه يعكس من جانب آخر ضعف المنظمات الإقليمية عربية وإفريقية في حل معضلات الشعوب لافتقارها إلى آليات فرض ما تراه مناسباً.
الصراع الإثيوبي الإرتيري:
من ناحية أخرى أدى تطور الخلاف الحدودي بين إرتيريا وإثيوبيا إلى اندلاع
حرب شاملة بينهما، وتلبية لمتطلبات هذه الحرب شرع كل منهما في العمل على
تصعيد الموقف بالشكل الذي يقيه شر الهزيمة، ويفل قدرات خصمه؛ الأمر الذي
حفز أحزاب المعارضة المسلحة في كلا البلدين إلى استثماره وتوظيفه لصالح
أهدافها ومراميها؛ فأقبلت تعمل في ترتيب صفوفها وتجميع قواها؛ فعلى الصعيد
الإثيوبي أعلن مقاتلو (كدوجابين) عن توحدهم، وأعربوا عن استعدادهم لقبول
مختلف الدعم العسكري والسياسي من مختلف الجهات في سبيل إحراز استقلال
الإقليم وفصله عن إثيوبيا، ومن المؤكد أن هذا مما يصب في مصلحة السياسة
الإرتيرية التي أخذت على نفسها دعم اتجاهات كهذه ما دامت تشغب على إثيوبيا
وتصرف مجهودها الحربي إلى قضايا جانبية تحول دون تركيزها على جبهة القتال
الناشب بينها وبين إرتيريا، كما أن إثيوبيا لم تهمل من طرفها هذا الجانب فقد
رحبت بالمعارضة الإرتيرية في أديس أبابا، وأجازت لها ممارسة نشاطها السياسي، ومن آثار هذا النزاع واستقطاباته أن جيبوتي وجدت ذاتها في معمعة بحكم
المجاورة وتداخل المصالح مما فرض عليها في نهاية الأمر قطع علاقاتها
الدبلوماسية مع إرتيريا. وفي الحقيقة أن هذه النهاية جاءت نوعاً من أنواع التعبير
الصريح عن عدم رضى الطرفين بسياسة كل منهما نحو الآخر، وقد أصابها الوهن
منذ إنهاء إثيوبيا ارتباطها بميناء عصب الإرتيري، ولجوئها عوضاً عنه إلى ميناء
جيبوتي، ثم تنامت إلى أن وصلت إلى حد القطيعة الكاملة باتهام الرئيس الإرتيري
(إسياسي أفورقي) جيبوتي بالانحياز المكشوف نحو إثيوبيا في حربها مع إرتيريا، ...
وطالب بإبعاد رئيسها السابق (حسن جوليد) عن لجنة الوساطة الإفريقية التي
شكلتها منظمة الوحدة الإفريقية. ومن جانبه وصف (جوليد) الرئيس الإرتيري
بالخروج على أسس الدبلوماسية الراشدة، ومجانبة العقلانية ومنطق الاتزان في
معالجة مشكلاته مع جيرانه بشكل عام ومع جيبوتي بشكل خاص.
ورغبة في الضغط على جيبوتي اختارت القيادة الإرتيرية مد حبال التواصل
مع المعارضة الجيبوتية والقيام بتزويد أجنحتها المسلحة بالمؤن العسكرية، وتفيد
تقارير صحفية مطلعة نقلاً عن مصادر جيبوتية أن مجموعة الزعيم أحمد ديدني
قامت (بضرب إحدى المجموعات العسكرية الحكومية الصغيرة في مناطق العفر
بجنوب وشمال جيبوتي) [2] ويبدو أن إرتيريا لا تجيد أي مهارة أخرى غير هذا
الخيار الذي يصنفها في خانة المشاغبين ليس إلا، وهو خيار ينم عن قصور في
التجربة السياسية، وجفاف في ينابيع التفكير السياسي لدى القيادة الإرتيرية،
وتطرف في استعمال العنف العسكري ليس له من تفسير سوى أن هذه القيادة ما
زالت تعاني من تشابه وتشابك في الخطوط الفاصلة ما بين العهد الثوري بخصائصه
ومتطلباته والعهد الدولي الذي لا يمكن أن يستجيب لتطبيقات العهد الثوري، وقد
أظهر هذا الخلط بين الخطوط النظام الإرتيري بمظهر عدواني ارتد إليه في نهاية
المطاف بالعزلة الإقليمية إلى الحد الذي صار يتخوف فيه من نشوء تحالفات جديدة
بين مَنْ يعاديهم ويعادونه من دول المنطقة تعمل للإطاحة به، والتخلص منه،
ويمكن أن نسبر عمق التضجر الإقليمي من سياساته بالتصريح الذي أدلى به وزير
خارجية إثيوبيا (سيوم مسفن) الذي حمله (مسؤولية خلق الأزمات مع جيرانه) [3] ، وأكد عدم استعداد بلاده للتعايش معه ما دام يريد أن يفرض ذاته (سوبرمان
في المنطقة عن طريق الضغط على جيرانه بالقوة) [4] وكذلك تصريح وزير
الخارجية السوداني مصطفى عثمان إسماعيل الذي نعت فيه أفورقي في أديس أبابا
أمام الصحافة المحلية والدولية (بهتلر إفريقيا الجديد) [5] وليس بمستبعد أن تكون
تلك القمة الثلاثية بين الرئيس السوداني عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي ... (ملس زيناوي) ، والرئيس الجيبوتي (إسماعيل عمر جيله) التي عقدت بمناسبة
تنصيب الأخير رئيساً على جيبوتي خلفاً (لجوليد) خطوة أولى إلى تأسيس تحالف
يقلم أظافر (أفورقي) باعتبار أن ذلك بات ضرورة من ضروريات مواجهته، وفي
هذه القمة أطلع الرئيس السوداني نظيره الإثيوبي والجيبوتي على المساعي القطرية
في تحسين العلاقات السودانية الإرتيرية وطمأنهما بأن (التقارب بين الخرطوم
وأسمرا لن يكون على حساب العلاقات السودانية الإثيوبية) [6] ، وناقش الرؤساء
الثلاثة قضايا تهم المنطقة وخرجوا بنتائج قالت عنها الصحافة: (أحيطت بتكتم
شديد) [7] ولا ريب أن ذلك مما يقلق النظام الإرتيري الذي وجد نفسه بعد سلسلة
من الأخطاء الكبيرة محجوراً عليه في زاوية ضيقة. وفيما يبدو لي أن خروجه من
نطاق هذه العزلة بعد أن فقد مصداقيته سيكلفه الكثير، ولا أظن أن أحداً من دول
الجوار سيمنح ثقته (لأفورقي) ، وقد أسفر الرئيس الجيبوتي السابق عن هذه
القناعة عند تعليقه على المساعي المبذولة لتطبيع العلاقات السودانية الإرتيرية
بقوله: (الذي أعرفه أن إقامة علاقة مع أفورقي مكلفة الثمن، وأي جهة تقدم على إقامة العلاقات مع أفورقي يجب أن تضع في حسبانها الربح والخسارة) [8] .
القرن الإفريقي والدور العربي:
وأياً كان ما سيتمخض عن تلك التحالفات الجديدة في القرن الإفريقي فإن
العرب لا محالة معنيون بكل غاشية تغشى القرن الإفريقي وتقلب موازين تحالفاته
بحكم ارتباطهم به: أمنياً؛ واقتصادياً، ومن الطبيعي أن تكون لهم مشاركات في
ترتيب أمنه ورصد أحداثه صوناً لمصالحهم من القرصنة، وتأكيداً لوجودهم في
بقعة من الأرض لها تأثيرها المباشر على استراتيجياتهم الإقليمية والدولية، وتضم
دولاً تربطها معهم مواثيق الحماية، وعهود المناصرة، ومن ثم لا بد أن نرى دولاً
عربية كمصر والسعودية والإمارات تتقدم بمبادرات إصلاحية لإخماد فتنة الصومال
وإعادة بناء دولته، وبغض النظر عن حجم هذه المبادرات وأثرها الملموس فإنها
نوع من التعبير عن إدراك أهمية القرن الإفريقي بالنسبة للأمن العربي، ولكي
تكون فعالة ومثمرة لا بد أن تتسم بالتتابع والتناسق ودقة الرؤية التي تخدم فقط
مصالح الاستراتيجية العربية بشكل عام، وإلا فلن تقطف ثمار أي طارئ سياسي
يشهده القرن الإفريقي إن لم تجلب الضرر؛ والحرب الإرتيرية الإثيوبية مثلها مثل
أحداث الصومال تهم الأمن العربي وخطط التنمية العربية، ولهذا سارع الليبيون
ومعهم اليمنيون إلى إطفاء فتيلها، إلاَّ أن عناد الطرفين الإرتيري والإثيوبي حال من
أول وهلة دون نجاح المساعي اليمنية الليبية، بيد أنه بعد اضطرار الرئيس
الإرتيري إلى الإذعان للمبادرة الأمريكية الرواندية التي ظل يرفضها قبل تمكن
القوات الإثيوبية المهاجمة من إجلائه عن (بادمي) -المنطقة المتنازع عليها -
نشطت الدبلوماسية الإرتيرية بفعالية أكثر نحو العواصم العربية حاثَّةً العرب إلى
دفع إثيوبيا نحو تفهم الرغبة الإرتيرية في إنهاء النزاع معها سلمياً، ونجحت في أن
تدخل مصر للعمل في جمع الطرفين على مائدة التحاور ليس على أساس مبادرة
جديدة وإنما - كما أكد وزير الخارجية المصري عمرو موسى - (في إطار الجهود
الإفريقية وإقناع البلدين بها) [9] ولكن كما كان متوقعاً فإن المصريين لم ينجحوا
في إقناع الإثيوبيين بالجلوس مع الإرتيريين والتنازل عن شروطهم المطالبة
بانسحاب الإرتيريين الكامل أولاً من كل ما يحتلونه من الأراضي الإثيوبية، ثم
تعويض الخسائر الإثيوبية الناجمة من الاعتداء الإرتيري حسب تفسيرهم، وإزاء
هذا الموقف المتصلب لم يملك المصريون إلا أن يقولوا: (إن الخلافات حادة بين
إرتيريا وإثيوبيا، وإن مسار تسوية الأزمة الحدودية بين البلدين لم يتحدد
بعد) [10] ، وتعذر هذا بما صرح به الرئيس الإرتيري مؤخراً في احتفال يوم الاستقلال 24-5-1999م إذ قال: (إن كل الجهود السلمية التي بذلت لم تثمر حتى الآن) [11] ، ومما يظهر أن الإثيوبيين يعملون في تطويق مساعي الدبلوماسية الإرتيرية، ويحاولون مزاحمة (أفورقي) في كسب المحيط العربي، ومن المناسب أن أشير هنا إلى أن صحفاً إثيوبية كانت قد اتهمت مصر بالميل نحو إرتيريا مما حمل سفيرها في أديس أبابا على الإنكار، كما أن رئيس قطاع الموارد المائية بوزارة الري الإثيوبي (محمد أحمد هاجرسي) دعا مصر إلى عدم إهدار مياه النيل، وأثنى على الخبرة الإسرائيلية في إنشاء السدود، وطالب بالاستفادة منها في كلمته التي ألقاها في مؤتمر النيل [12] ، وإني لا أفهم من هذا إلا توجيه رسالة تحذيرية إلى مصر خشية أن تنحاز إلى إرتيريا، ولفت نظرها إلى أن مصالحها في إثيوبيا أهم من أي إغراء تلوِّح به إرتيريا، وأن بإمكان إثيوبيا أن تفعل في مياه النيل بالتنسيق مع (إسرائيل) ما ليس في مصلحة مصر، كذلك انتقدها الرئيس الإرتيري - من قبل - في خلافه مع اليمن حول أرخبيل حنيش تضايقاً مما لمسه فيها من مساندة اليمن على حساب الحق الإرتيري على حد قوله، ومرة في فجر الاستقلال الإرتيري؛ إذ صرح بأن مصر غير راضية بما تم إنجازه في الساحة الإرتيرية و (أن المصريين تورطوا مع الفرنسيين في التخطيط لفكرة إيجاد نزاع قبلي في كل المنطقة) [13] واستفزهم مرات باعتقال عددٍ من صياديهم في البحر الأحمر، ورماهم بخيانته والتخلي عنه بعد توريطه في مواجهة السودان.
الوساطة الليبية القطرية بين السودان وإرتيريا:
وعلى كلٍ ولكون النظام الإرتيري حديث عهد بالسياسة الدولية والتواءاتها فإنه
لم يحسن السير في ساحتها، وتاهت به السبل إلى أن أدرك أن لا بد من العودة إلى
طريق السودان لا سيما في هذه اللحظة الحرجة بالنسبة له، اتقاء مضاعفات حربه
مع إثيوبيا التي لا بد أن يكون ضررها عليه كبيراً إذا ما خاضها دون حليف مجاور، أو جار مسالم.
وتأتي هذه العودة بعد فترة من الهجران أعلنتها إرتيريا متذرعة بأن المد
الإسلامي القادم من السودان صار يهدد أمنها، وأن السودان بدعمه لحركة الجهاد
الإسلامي صار مصدر خطر عليتها، ورتبت على ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية،
وفي مخالفة صارخة للعرف الدبلوماسي سلمت مقر السفارة السودانية إلى المعارضة
واندفعت بحماس منقطع النظير إلى إعلان عزمها على إسقاط نظام البشير في
الخرطوم إلا أنها بوغتت بانكسار جدار العلاقة الإرتيرية الإثيوبية، وبه دارت
الدائرة على أفورقي نفسه فأمسى مقصوداً في بقائه كما تتناقل وسائل إعلامه، وأخذ
يعيب على الإثيوبيين هذه النزعة المناقضة للشرعية الدولية وعرفها المألوف؛ ففي
مقابلة له خص بها مجلة (النبض) الموالية لنظامه قال: (فالتحدث علناً بمسعاك
لإسقاط نظام سياسي ما منافٍ للأعراف السياسية، فيمكنك أن تكره نظاماً معيناً،
ولكن أن تفكر في إزالته ومحوه من الوجود فغير مقبول في هذا العصر) [14] .
وهذه الإدانة من (إسياس) للتفكير الإثيوبي إزاء نظامه بالتأكيد من غير جدال
تنسحب منطقياً على تفكيره هو إزاء السودان يوم كان يفصح عن عزمه من غير
تورية ولا تعمية أنه لن يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى في المضي إلى تغيير نظام الإنقاذ، وكأنه كان في عصر غير هذا العصر؛ ففي مقابلة له مع الحياة 22-1-1998م
قال: (مشكلة إسقاط هذا النظام السوداني لا مجاملة من جانبنا فيها، ونحن لا نعمل
في الخفاء إزاء هذا الأمر، فإذا كان التجمع يحتاج إلى أسلحة فسندعم المعارضة
السودانية من دون أي تردد بالأسلحة، ليس لدينا أي مشكلة في هذا الأمر) [15] .
وكلفته هذه الغاية الكثير من الخسائر البشرية والمادية؛ حيث غزا السودان
من بوابته الشرقية، والجنوبية أيضاً، والآن بعد تورطه في الحرب مع إثيوبيا
التفت إلى ثورة الإنقاذ متصالحاً لا مسقطاً، واستبدل مفرداته السابقة بمفردات
أخرى تتحدث - كما يقول - في: (البحث عن الحلول السلمية، وعدم التدخل في
شؤون الغير، ونبذ أسلوب تصدير الأيديولوجيات، واحترام التقاليد، والأعراف
الإقليمية والدولية) [16] .
وهذا الخطاب مهما تباينت فيه وجهات النظر فإنه ما كان معهوداً من إسياس،
وفيه من الدلالة ما يمكن أن يفهم منه أن بوادر الإفاقة بدأت تسري في عروق الرجل
بعد أن سقط خارج حلبة الصراع، وانفض عنه من حوله ليواجه إثيوبيا وحيداً
فريداً.
وكان السودان من باب مجازاة السيئة بمثلها قد خفض للمعارضة الإرتيرية
جناحه، وقد أكسبت هذه السياسة قوى المعارضة الإرتيرية منافع كثيرة، وبخاصة
حركة الجهاد الإسلامي بقيادة أبي سهيل التي استطاعت تنمية قدراتها وتوغلت في
عمق الموَاطِن الحصينة من الساحل الشمالي من إرتيريا، ومن هنالك استطاعت أن
تصد أكثر من مرة هجمات الجبهة الشعبية الحاكمة، كما تداعت كل فصائل
المعارضة إلى عقد مؤتمر في الخرطوم خرج بتحالف يحمل اسم (التجمع الوطني
الإرتيري) وأجمع على إسقاط نظام (أفورقي) . وشعوراً من (أفورقي) بخطورة
هذه المواقف عليه وهو مشغول بالجبهة الإثيوبية طار إلى ليبيا وقطر حتى يُنْهِيَا ما
بينه وبين السودان من جفوة وخصومة، وأثمر سعيه عن لقاء بالبشير تحت رعاية
القذافي، وبالرغم من أن (أفورقي) صرح بأن ذلك كان بمبادرة من القذافي؛ فإن
الرغبة الإرتيرية كانت من وراء تحريك هذه المبادرة التي توجت أخيراً بعد تنسيق
مع قطر بتوقيع اتفاقية الدوحة بين الرئيسين تحت رعاية الشيخ حمد بن خليفة آل
ثاني أمير دولة قطر، ونصت الاتفاقية على (إعادة العلاقات الدبلوماسية، واحترام
الأعراف والمواثيق الدولية، والاحتكام إلى سياسة حسن الجوار، وعدم التدخل في
الشؤون الداخلية، وعدم إقامة تدابير إقليمية ضد الآخر) [17] .
وهذه الاتفاقية وإن كانت في جانب منها كسباً للسياسة السودانية ودليلاً على
إخفاق (إسياس) في سياسته المعلنة ضد السودان إلا أنها من جانب آخر نجاح
يحسب له؛ لكونه ما أراد منها أكثر من تقييد السودان عن الدخول في تحالف إقليمي
يجمعه مع إثيوبيا وجيبوتي في مواجهته، وجاءت في وقت هو في أشد حاجة إلى
تحييد السودان، وساعده عليها (كارت) المعارضة السودانية الموجودة في أسمرا
فأجاد استغلاله، ومع أنه أكد أن هذا الاتفاق لا يمكن أن يكون على حساب
المعارضة إلا أنه في النهاية يبقى مجرد كلام لا يغير من الحقيقة شيئاً. وإذا ما
بحثنا عن المتضرر الأكبر من هذه الاتفاقية في المعارضة السودانية فإنه ليس إلا
الشوعيين وبعض التجمعات الناشئة حديثاً في شرق السودان التي ما كانت تقبل بأقل
من إسقاط نظام الخرطوم وتفكيك مؤسساته، ومن المتوقع أن ينعدم تأثيرها إذا ما
نجحت الحكومة السودانية في الوصول إلى صيغة مصالحة مُرْضية بينها وبين
الحزبين الكبيرين بقيادة المهدي، والمرغني، وهذا ما ترجحه معطيات الأحداث؛
إذ خرج المهدي بتفاؤل كبير بعد لقائه في جنيف مع صهره رئيس البرلمان
والمؤتمر الحاكم الدكتور حسن الترابي، كما عاد رئيس السودان السابق جعفر محمد
نميري من منفاه ليمارس نشاطه السياسي من الداخل.
المعارضة الإرتيرية وعودة العلاقات السودانية الإرتيرية:
وحتماً فإن السودان بموجب هذه الاتفاقية سوف يقلص من نشاط المعارضة
الإرتيرية ويحده في نطاق لا يوقعه في حرج مع الحكومة الإرتيرية، إن لم يلزمها
بما ألزمها به من قبل من لزوم الصمت والكف عما يثير (أفورقي) . وأياً فعل فلا
أعتقد أن تأثير ذلك على المعارضة يضاهي تأثير القرار الإرتيري على المعارضة
السودانية لأسباب من أهمها:
أولاً: أن إثيوبيا هي بديل السودان الجاهز، وستجد فيها المعارضة من
المتسع ما يعوضها عما تفقده في السودان.
ثانياً: أن الحدود الإرتيرية السودانية أكبر من أن تسيطر عليها أجهزة الأمن
السودانية أو الإرتيرية، وفيها من الفسحة ما يمكِّن كلا معارضي البلدين من التحرك
بعيداً عن عيون المراقبة، وحيث إن المعارضة السودانية الشرقية جزء من تحالف
كبير فستفقد تأثيرها على النظام السوداني إذا لم تنصع لما سيصل إليه الحزبان
الكبيران - الأمة، والاتحادي - من مصالحة مع الإنقاذ، فلن تبقى إلا المعارضة
الإرتيرية المسلحة تتحايل، وتماطل.
ثالثاً: لم يكن الجهاز العسكري في المعارضة السودانية - باستثناء جناح جون
قرنق - قوياً بذاته وإنما بمشاركة الجيش الإرتيري؛ في حين أن الجهة المقاتلة في
المعارضة الإرتيرية وهي حركة الجهاد الإسلامي الإرتيري بقيادة أبي سهيل شبَّت
عن الطوْق، وأعيت النظام وأعجزته عن القضاء عليها بالرغم من خوضه ضدها
عدة معارك ضارية وعنيفة.
ولا جدال أن السودان له كامل الحق في أن يرتب أموره الأمنية على النحو
الذي يحفظ به كيانه القائم من الانقسام، ويعيد إليه استقراره الأمني والسياسي؛
ولكن لا بد أن يعي أن هرولة (إسياسي) نحوه إنما جاءت لحاجة في نفسه أمْلتها
أزمته الحادة مع حلفاء البارحة، وأنه قد يعود إلى غيه، وغدره إذا ما سنحت له
سانحة، ولدى السودان تجربة ذاخرة وعامرة بكثير من العبر والفوائد في التعامل
معه أحسبها كافية في أن تجعل حكومة السودان تفكر بعمق وروية قبل الإقدام على
اتخاذ أي خطوة عملية بشأن المعارضة الإرتيرية، وإلا فستفقدها ساعة الحاجة إليها، ولا أظن أن يغيب عن السودان مهمته في حماية بوابته الشرقية.
__________
(1) المجتمع، عدد 1351، 25/5/1999م.
(2) المسيرة الجديدة، عدد 58، مارس 1999م (34) مجلة (المجلة) عدد: 1002، 25/41/5/1999م.
(5) الحياة، 27/3/ 1999م.
(67) الحياة، 10/5/1999م.
(8) المسيرة الجديدة، عدد 58، مارس 1999م.
(9) الحياة، 19/5/1999م.
(10) الحياة، 20/5/1999م.
(11) الحياة، 25/5/1999م.
(12) مجلة المجلة، عدد 998، 28/33/4/1999م.
(13) الحياة، 19/9/1991م.
(14) الفيض، عدد خاص، ص 12 خالية من التاريخ.
(15) الحياة، 22/1/1998م.
(16) الحياة، 6/5/1999م.
(17) الحياة، 3/5/1999م.(146/74)
المسلمون والعالم
العلو الكبير
(2-2)
أمريكا ... عالم جديد، لعلو جديد
عبد العزيز كامل
لليهود في هذا العصر هدفان كبيران كانا حلمين قديمين، وهما كما يبدو والله
أعلم قَدَرَانِ مكتوبان على الأمة الغضبية حتى تستكمل معالم العلو الكبير، وربما
الأخير.
فبعد الإفسادين الكبيرين المذكورين في أول سورة الإسراء [1] ، وبعد أن قال
الله تعالى لهم: [وإن عدتم عدنا] [الإسراء: 8] أي لو عدتم إلى الإفساد عدنا
عليكم بالعقوبة [2] ، عاد اليهود إلى الإفساد، فعاد الله عليهم بالعقوبة: مرة على يد
الفرس، ومرة على يد المسلمين في المدينة، ومرة على يد الألمان في العصر
الحديث، وها هم يعودون لعلو آخر كبير كبير، وإفساد في الأرض عريض خطير
يتجلى في الهدفين الكبيرين اللذيْن يسير اليهود نحوهما سيراً حثيثاً، وهما:
أولاً: السيطرة على الأرض المقدسة، ومن ثم على ما حولها.
ثانياً: السيطرة على العالم كله بعد ذلك، وتسييره بعد تسخيره لصالحهم عن
طريق السيطرة على أكبر قوة عالمية فيه.
وقد قام النصارى الإنجليز بدورهم الشرِّير لتحقيق الهدف اليهودي الأول
بمنتهى الدقة والإخلاص؛ فهم أول من زرع نبتهم، وروى شجرتهم، ورعى
ثمرتهم، ثم ترك الإنجليز للأمريكان إكمال الأشواط الباقية في مسيرة الطغيان
اليهودي في أراضي المسلمين.
ومن العجب أن يكون للإنجليز أيضاً (فخر) القيام بالدور الأساس للبدء في
تحقيق الهدف الثاني لليهود وهو السيطرة على العالم؛ فكيف كان ذلك؟
إن طلائع المهاجرين الإنجليز إلى القارة الأمريكية بعد اكتشافها؛ قد
اصطحبوا معهم إبَّان هجرتهم أفواجاً من اليهود للاستيطان في تلك الأرض الجديدة
(أمريكا) ، وهم قد اصطحبوا قبل ذلك موروثاتهم الدينية وترهاتهم العقدية التي تمجد
(الشعب المختار) وتضفي عليه هالة من التقديس الغامض، انطلاقاً من التغيرات
التي أصابت النصرانية على يد (البروتستانت) الذين ينتمي إليهم الإنجليز.
ربما لم تكن النظرة المستقبلية لما يمكن أن يحدث مع اليهود في أمريكا تدور
بخلد أحد من قدامى المهاجرين إلى تلك القارة، ولكن ما حدث ولا يزال يحدث يبرز
حقيقة مفادها: أن اليهود ساروا أو سُيِّروا في طريق جديد من العلو في الأرض
ممتطين فيه ظهور (الجويم) أو (الأمميين) أو الكفار، كما يحلو لهم أن يرددوا.
إنه لأمرٌ لافت جداً أن نرى العلو اليهودي يتكرر في التاريخ مرة أخرى
وبشكل ربما يفوق كثيراً ما كانوا عليه في مرات علوهم السابقة؛ لكونه عالمياً هذه
المرة وذلك بعد أن مُدَّ لهم من قارة (العالم الجديد) حبل جديد، يتمادى غِلَظاً، كي
يتسلقوا عليه إلى قمة العلو بالباطل والغلو في الإفساد.
إسرائيلان ... لا إسرائيل واحدة!
أطلق المهاجرون الأوائل من اليهود على القارة الأمريكية (صهيون الجديدة) ،
وأخلد أكثرهم إلى اتخاذها وطناً دنيوياً ينافس الوطن الديني في الأرض المقدسة التي
لم يكونوا قد عادوا إليها بعد.
وظل الوطنان يتنافسان فيما بعد على جذب اليهود للهجرة حتى أصبحا أكبر
موضعين في العالم يضمان يهود. لقد كان التناقض يبدو صارخاً عندما نسمع عن
عدم رغبة اليهود الأمريكيين في الهجرة إلى الأرض المقدسة كغيرهم، حتى بعد أن
أقيمت فيها دولة لهم بعد غياب أكثر من ألفي عام، ولكن هذا العجب يزول
والتناقض يرتفع عندما نعلم أن من ضمن عقائد اليهود عقيدة تبشر بالسيطرة
اليهودية على العالم كله بعد استكمال السيطرة على الأرض المقدسة في آخر الزمان. جاء في التوراة التي في أيديهم عمَّا يعتقدون أنه ملك آخر الزمان: (يولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفيه ويدعى اسمه عجيباً، مشيراً قديراً، أباً
أبدياً، رئيس السلام لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد) [3] ويذكرون في رؤى دانيال
في حكايته عن هذا الملك: (كنت أرى في الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن
إنسان أتى، وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً
لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته
ما لا ينقرض) [4] .
إذن، لا بد من تقسيم اليهود للقيام بالمهمتين: مهمة السيطرة الدينية على
(أرض الميعاد) ، ومهمة السيطرة الدنيوية على شعوب العالم.
وقد علم الجميع كيف قام اليهود بمؤازرة من النصارى بالسيطرة على الأرض
المقدسة؛ فهل ينتبه الناس إلى سعيهم الآن للسيطرة على العالم عن طريق السيطرة
على أعظم قوة فيه؟ !
بعبارة أخرى: إذا كانت أمريكا تقود العالم، واليهود يتحكمون أو يكادون في
قيادة أمريكا فهل نحن بعيدون عن عصر العلو الكبير؟ ! لندع الحقائق تتحدث:
نقض المنطق!
مجموع اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية حسب إحصاءات 1992م يبلغ
خمسة ملايين ونصف، ويمثلون بالنسبة لمجموع السكان 2. 4% فقط من إجمالي
عدد الشعب الأمريكي البالغ (257.595.000) نسمة. ويفترض أن هذه الأقلية؛ ... يصعب عليها أن تلفت نظراً، فضلاً عن أن تثبت وجوداً، ولكن الواقع أن هذه
الأقلية التي تمثل مع بقية اليهود ثمانية أجزاء من العشر في المئة تتجه بسرعة نحو
السيطرة على الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم تهدف للسيطرة على العالم.
وسنحاول إيراد إشارات بارزة وخطوط عريضة توضح كيف أن كل خيط من
خيوط التآمر اليهودي يستحيل في أمريكا حبلاً مشدوداً، سرعان ما يتلوى نافثاً
سموم الأفاعي وجراثيم الخراب.
1 - المجال السياسي: لم يعد الدور الذي تقوم به المنظمات اليهودية في
التغلغل في الأوساط السياسية الأمريكية خافياً على أحد؛ فاليهود يتبرعون عادة
بأكثر من نصف الهبات التي تدخل صناديق الحملات الانتخابية، وخاصة للحزب
الديمقراطي الذي وجدوا فيه بوابة ولوج لخدمة المصالح اليهودية، فألقوا بثقلهم خلفه
وأعطوه تأييد أكثر من 90% من مجموع اليهود الأمريكيين. أما الحزب الجمهوري
فقد أصعد اليهود وأنصارهم من النصارى الصهيونيين عدداً من مرشحيه إلى سدة
الحكم وعضوية الكونجرس.
وهم يركزون على الكونجرس باعتباره المفتاح المتحكم في المخصصات
المالية الخارجية ومبيعات الأسلحة لمختلف دول العالم؛ فعن طريقه يستطيع اليهود
التحكم في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية. وليس كل أعضاء الكونجرس من
اليهود بداهة، ولكن جُل أعضائه صهاينة، وإن كانوا نصارى ومع هذا، فإن ... 10 % من أعضاء الكونجرس يهودٌ خلَّص، و 8% من أعضاء مجلس النواب من اليهود، ولو قارنا هذه النسبة بنسبة إجمالي عدد اليهود الأمريكيين إلى ... إجمالي الشعب الأمريكي وهي (2.4%) لأدركنا أن اليهود يتصدون للخطاب نيابةً عن شطر كبير من الشعب الأمريكي؛ وبالذات الأغلبية الصامتة، خاصة أن في الولايات المتحدة 38 منظمة يهودية تضم تحت عضويتها نحو 4.5 مليون يهودي أمريكي (أي ما يوازي عدد اليهود في الأرض المحتلة) .
هذه المنظمات النشطة قد جرى توحيدها تحت مظلة واحدة عام 1954م تحت
مسمى: (اللجنة الصهيونية الأمريكية العامة) ثم غُيِّر اسمها إلى (اللجنة الإسرائيلية
العامة) ، وهي المعروفة اختصاراً باسم: (آيباك) وكان الهدف من توحيد تلك
المنظمات ممارسة الضغوط على الكونجرس لحمله على إصدار التشريعات
والقرارات الضامنة لمصالح اليهود داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ومن أبرز الشواهد وأحدثها على تحكم اليهود في قرارات الكونجرس
الأمريكي فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية ذلك القرار الذي أصدره الكونجرس في
(24-10-1995م) بإلزام الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية في (إسرائيل)
من تل أبيب إلى القدس، وهو القرار الذي صدر بأغلبية 406 صوت مقابل 17
صوتاً، وأيضاً امتناع الكونجرس مؤخراً عن الموافقة على معاهدة الحد من أسلحة
الدمار الشامل.
ولمنظمة (آيباك) دورها البارز في الانتخابات الأمريكية، فهي وإن كانت غير
مؤهلة قانونياً لتقديم المساعدات المالية المباشرة للحملات الانتخابية إلا أنها تتحايل
على ذلك بتنسيق عملها مع ما يزيد عن 80 لجنة نشاط سياسي منتشرة في أنحاء
الولايات المتحدة؛ وتعمل كلها على حشتد التأييد لكل توجه يناصر اليهود، وبهذا
أصبحت (آيباك) أقوى لجنة سياسية في الولايات المتحدة؛ لأنها تقوم بتنظيم عدة
لجان سياسية مستقلة تابعة لها سراً. وتزودها بالتبرعات التي تُمرر إلى حملات
المرشحين الأكثر استعداداً لخدمة مصالح اليهود، وبهذا نفهم كيف أصبحت الغالبية
الساحقة من أعضاء الكونجرس الأمريكي من المؤيدين علناً لـ (إسرائيل) ولو كانوا
من غير اليهود.
وقد بلغ التغلغل اليهودي في السياسة الأمريكية مداه في عهد الرئيس الحالي
بيل كلينتون؛ فقد أحاط نفسه في الفترتين الرئاسيتين بجَوْقَة من اليهود في أدق
المناصب وأخطر الوزارات؛ فوجوه اليهود الكالحة تطل من شرفات المكاتب
الوزارية والإدارية في البيت الأبيض: ففي الخارجية (مادلين أولبرايت) وفي الدفاع
(وليام كوهين) ومستشار الأمن القومي (صمويل برجر) ووزير الزراعة (دان
جليكمان) والخزانة (روبرت روين) ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية (جورج
تنيت) بالإضافة إلى العديد من المستشارين والمساعدين ورؤساء المجالس ومدراء
المكاتب في أنحاء الهيكل التنظيمي الحكومي. على أننا نشير إلى أن من يدعون
أنفسهم: (الصهيونيين المسيحيين) يكملون النقص الذي لم يسده اليهود الخٌلَّص، بل
إن بعضهم أشد صهيونيةً من اليهود أنفسهم.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط بالذات تكوَّن في عهد كلينتون فريق عمل من
الصهيونيين وعلى رأسهم (مارتن إنديك) الصهيوني الشهير الذي يشغل منصب
نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وهو صاحب سياسة
الاحتواء المزدوج، ولا يفوقه في الخبث إلا (دنيس روس) منسق عملية السلام في
الشرق الأوسط.
أما في المجال العسكري والأمني، فمن الحقائق المعلنة أن صهاينة أمريكا
الحكوميين يقدمون لصهاينة (إسرائيل) سنوياً ثلاثة مليارات من الدولارات التي
يدفعها المواطن الأمريكي ضرائب، (1.8) منهتا مساعدات عسكرية، و (1.2)
مساعدات اقتصادية، ولولا هيمنة (الأسياد) اليهود على صناعة القرار في أمريكا
لما سمح المواطن العادي في أمريكا زعيمة (العالم الحر) بأن يُستعبد شعبها، ويدفع
هذه المبالغ الباهظة كل عام من جيبه الخاص، ليست معونات إنسانية لشعب فقير،
ولكنها إتاوات جبرية لمستكبر حقير يريد أن يجتاح بالسلاح حقائق التاريخ
والجغرافيا في أراضٍ مغتصبة.
لم تكتف الولايات المتحدة بالتبرع بتسليح دولة اليهود منذ قامت وإلى الآن
بكل أنواع الأسلحة الحديثة، ولكنها أيضاً تعوضها عما تخسره أولاً بأول؛ وذلك ما
حدث في حرب عام 1973م عندما أقامت جسراً جوياً إلى (إسرائيل) نُقل خلاله 22
ألف طن من العتاد العسكري لتعويضها عما خسرته من الأيام الأولى من تلك
الحرب.
وقد أقامت أمريكا مع (إسرائيل) علاقة خاصة لم تقمها مع غيرها من الدول،
وذلك منذ عهد الرئيس الأسبق (لندون جونسون) في الستينيات الميلادية التي شهدت
بداية الانحياز المطلق لليهود، بدءاً من حرب 1967م. وقفزت تلك العلاقة قفزة
أكبر في عهد الرئيس (رونالد ريجان) الذي وقَّع مع دولة اليهود في سنة 1981م ما
عرف بـ (اتفاقية التعاون الاستراتيجي) التي تحولت عام 1983م من اتفاقية
(تعاون) إلى اتفاقية (دفاع) استراتيجي، وهي التي تم بموجبها التعهد بشراء ما
قيمته 200 مليون دولار سنوياً من السلاح الإسرائيلي، وقد تحولت اتفاقية (الدفاع)
في عهد كلينتون إلى اتفاقية (تحالف) استراتيجي عسكري وأمني جعلت (الصهيوني
الأخير) [5] يقول بعدها: (سوف نساعد الإسرائيليين في صياغة المعاهدات الأمنية
المشتركة التي ستضع أمن (إسرائيل) مع أمن الولايات المتحدة سواءاً بسواء. وقد
كان كلينتون أول رئيس أمريكي يحضر بنفسه اجتماعاً وزارياً في وزارة الدفاع
الإسرائيلية، وذلك في عهد بيريز.
أما في مجال التعاون النووي: فمن الحقائق المعروفة أن الفرنسيين هم أول
من ساعد اليهود على امتتلاك أول مفاعل نووي بتصنيع فرنسي، ولكن ما يخفى
على كثير من الناس أن أمريكا هي التي وفرت لهذا المفاعل مادة نشاطه وبرامج
نظامه وخبرات تشغيله وتقنياته، فإذا كانت فرنسا قد صنعت لهم (المخبز) فإن
أمريكا زودتهم بالطحين والوقود ... والخبازين أيضاً، وكان أول من كشف هذه
التفاصيل الصحفي الأمريكي (ستيفن جرين) في كتابه: (علاقات أمريكا السرية مع
إسرائيل) حيث كشف الحقائق المتعلقة بتسريب الأسرار النووية (لإسرائيل)
وتزويدها باليورانيوم المخصب والمعلومات التقنية، وكشف أيضاً عن تغاضي
الأمريكان الرسمي في عهد (جونسون) عن سرقة الإسرائيليين لكميات من
اليورانيوم عالي التخصيب من شركة المعدات والمواد النووية الأمريكية ما بين
سنوات 1962م، 1965م.
وكانت الولايات المتحدة قد فرضت رقابة على مفاعل (ديمونا) الإسرائيلي
لضبط النشاط النووي ل (إسرائيل) والحد من جموحه، إلا أن هذه الرقابة أُوقفت
منذ عام 1969م.
ومع أن دولة اليهود من الدول القليلة جداً التي لم توقع على معاهدة الحد من
انتشار الأسلحة النووية، إلا أن مجلتس الأمن القومي الأمريكي في عهد نيكسون
أوصى بعدم ممارسة الضغوط عليها لكي توقع على هذه المعاهدة!
وقد أظهرت اعترافات الفني النووي الإسرائيلي (مردخاي فعنونو) إضافة إلى
العديد من الأبحاث والكتب الصادرة بعد تلك الاعترافات أن (إسرائيل) تمتلك ما بين
200 إلى 300 قنبلة نووية، وهذا بلا شك لم يكن ليتم دون علم الأمريكان وتأييدهم، وهو ما يدل صراحة على أن يهود (أمريكا) يقولون بلسان الحال ليهود (إسرائيل) : عليكم بالعرب، وعلينا بالغرب!
وقد صدر في عام 1990م كتاب يتحدث عن فضيحة تستُّر أمريكا على
الأنشطة النووية الإسرائيلية بعنوان: (المحاكمة والخطأ) وصدر بعده كتاب:
(الخيار شمشون) من تأليف (سيمور هيرش) ليكشف الدور الأمريكي في التواطؤ مع
(إسرائيل) في المجال النووي خلال العهود المتوالية للرؤساء الأمريكيين، وكشف
بالإضافة إلى ذلك دور الإدارات الأمريكية المختلفة في منع أو عرقلة أي مشروع
عربي لتملك السلاح النووي، بل ومساعدة الأمريكان لـ (إسرائيل) في ضرب
المفاعل النووي العراقي عام 1981م، عن طريق تزويدها بصور سرية التقطتها
الأقمار الصناعية الأمريكية. وقد أرغم الأمريكيون بضغوطهم الثقيلة على الأمم
المتحدة الدول العربية على التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية،
بعدما حاولت مصر قيادة اتجاه للامتناع عن التوقيع ما لم توقع عليها (إسرائيل) .
من الناحية الاقتصادية: لم يعد سراً أن اليهود الأمريكيين يمسكون بكثير من
مفاتيح خزائن الاقتصاد الأمريكي، ويكادون يصبغون هذا الاقتصاد بصبغة الجشع
اليهودي المالي الاحتكاري.
ويلاحظ خبراء في الاقتصاد أن هناك تحولاً حدث في السنوات الأخيرة في
الرأسمالية الأمريكية؛ حيث انتقلت من التركيز على الصناعة والإنتاج إلى
رأسمالية المضاربات التي يحسن اليهود فنون اللعب والنصب بها في (وول
استريت) حيث يتاجرون بالنقد، ويكسبون منه الملايين على حساب عامة الناس.
واليهود الأمريكان، بما يملكون من ثروات وبنوك؛ يغترفون ثم يغدقون على
إخوانهم الإسرائيليين، بما يجعل من الدولة اليهودية مثالاً شاذاً في الدول [6] ؛ فهي
دولة مهجر للمال والرجال؛ فكما أن شعبها غاصب وافد فاقتصادها مغتصب وافد.
إن دولة اليهود تُصنَّف على أنها دولة صناعية، ومع ذلك فإن نسبة الإعانات
للمشروعات الصناعية تصل أحياناً إلى 40% من قيمة الناتج الصناعي، ولذلك فإن
المستوى المعيشي مرتفع جداً بالنسبة إلى ناتج الادخار القومي الذي تسد المعوناتُ
الفجوةَ بينه وبين الاستثمار [7] .
إن مصادر هذه المعونات الاقتصادية لا يمكن حصرها، أو بالأحرى لا يمكن
كشف تفاصيلها على حقيقتها خاصة وأنها تتعلق بسر تضخم الكيان اليهودي، وعلوه
في هذا العصر، وإذا ضربنتا صفحاً عن المعونات الألمانية والإنجليزية والفرنسية
التي ضخت الدم في عروق (إسرائيل) إبَّان نشأتها فإننا لا نستطيع تجاوز التبني
الكامل من الولايات المتحدة لها في مرحلة عنفوانها وفتوتها؛ فأمريكا التي منحت
دولة اليهود بعد أسابيع من إعلانها قرضاً قيمته 100 مليون دولار [8] ، هي التي
حولت القروض في السنوات التي تلت ذلك إلى مساعدات، ثم حولت المساعدات
بدءاً من الثمانينيات إلى منح لا ترد تصل إلى ثلاثة مليارات من الدولارات سنوياً،
وقد أوصلت بعض التقديرات هذه المنح إلى ما بين خمسة ونصف إلى ستة ونصف
من المليارات سنوياً، وتقدر المساعدات التي وصلت إلى (إسرائيل) منذ قيامها بنحو
600 مليار دولار. {جريدة الحياة: 12-12-1999م} .
أما ضمانات القروض التي تطلبها (إسرائيل) فإن الحكومة الأمريكية في حال
الموافقة عليها تُلزم نفسها بسدادها نيابة عن (إسرائيل) ، ولهذا فلا عجب أن نرى
(شامير) يطالب الرئيس (بوش) في أعقاب حرب الخليتج في انتهازية ظاهرة
بضمانات قروض قيمتها عشرة مليارات من الدولارات! وقد حاول بوش أن يظهر
تصلباً واستقلالاً في القرار فرفض هذا المطلب، أو طلب تأجيله، فكان مصيره أن
خرج من أقرب بوابات البيت الأبيض.
والذي أريد قوله هنا: إن أموال اليهود التي تحولها المنظمات اليهودية
الأمريكية [9] ليست هي وحدها التي تخدم مصالح اليهود في (إسرائيل) ؛ ولكن
اقتصاد الدولة الأمريكية نفسه يسخَّر لخدمة هذه المصالح ويوضع رهن إشاراتها.
إنه (حبل) من ذهب يمد شعب السُحت والبُهت بأسباب البقاء.
من الناحية الإعلامية والثقافية: الإعلام الأمريكي يكاد يسيطر على الإعلام
الدولي، واليهود يسيطرون على الإعلام الأمريكي، فبأي حال تجري صناعة
الرأي الأعمى العالمي؟ !
وإذا كان الإعلام الإلكتروني قد زحزح الإعلام المقروء عن مكان الصدارة فإن
الاهتمام قد توجه إلى الشبكات التلفزيونية التي تقرن الصورة بالصوت، والحدث
باللحظة، وتربط اللحظة بالرأي والتحليل، وتربط ذلك كله بالقناعات المملاة
والآراء الموجَّهة.
إن هناك خمس شبكات تلفزيونية كبرى في الولايات المتحدة تبث ما نسبته
95% من مجموع الأخبار المحلية والدولية، وهذه الشبكات الخمس مملوكة ليهود،
أو خاضعة لإداريين يهود، فشبكة (ABS) يملكها (مايكل ايزنار) وهو يهودي،
وشبكة (NBC) يرأس قطاع الأخبار فيها (أندورلاك) وهو يهودي، وشبكة
(CBS) يرأسها (إيرواير) وهو يهودي، وشبكة (فوكس) وهي أحدث الشبكات
الكبرى في أمريكا يملكها الإعلامي اليهودي العالمي (ميردوخ) .
وغير خافٍ أن بضاعة السينما في هوليود من صناعة اليهود، وتظهر بعض
الإحصاءات أن نسبة الكتاب والمنتجين والمخرجين السينمائيين اليهود تعدت
الخمسين بالمائة من مجموع العاملين في هذا المجال، هذا فضلاً عن (نجوم) الفن
والتمثيل والغناء والثراء والبغاء الذين يملؤون أثير الفضاء بظلمات بعضها فوق
بعض، والعجب يزيد عندما نعلم أن ثمانية من ضمن عشر دور سينما كبرى في
الولايات المتحدة يديرها يهود، وأن أكبر خمس شركات إنتاج سينمائي هناك يقوم
على إدارتها يهود. ومن المعلوم أن ما يسمى بـ (صناعة السينما) هو في الحقيقة
تصنيع للأذواق والآراء والتقاليد بمواصفات يهودية، همها السعي لإفساد إنسانية
الإنسان حتى يصير حيواناً ذلولاً خاضعاً للراكبين.
أما في مجال الإعلام المقروء فيكفي أن نعلم أن هناك أكثر من 1500 صحيفة
يومية تطبع أكثر من 55 مليون نسخة يومياً، ومن ضمن هذا العدد يستقل اليهود
بملكية أو إدارة 1100 منها، أما المؤسسات الصحفية الكبرى ذات الصبغة العالمية
فإن الثلاثة الكبرى منها يملكها يهود، وهي صحيفة (نيويورك تايمز) التي يتولى
رئاستها (آرثر أوكس) اليهودي، ويشغل منصب المدير العام (فاكس فرانك) وهو
يهودي، أما مدير التحرير، فهو (جوزيف ليفليد) اليهودي، وصحيفة (الواشنطن
بوست) وهي الجريدة السياسية الأولى في أمريكا تملك (كاترين مائير) اليهودية أكبر
حصة فيها، ويشغل ابنها (دونالد مائير) منصب الرئيس العام لها، أما الصحيفة
الثالثة فهي (دول ستريت جورنال) وهي صحيفة المال والأعمال فتملكها شركة
(داجونز) التي يرأسها (بيتركان) اليهودي، وبالنظر إلى المجلات الأمريكية الكبرى
فإن أوسعها شهرة مجلة (تايم) و (نيوزويك) و (يو إس نيوز) ولليهود صلة قوية
بخيوط ملكيتها وإدارتها جميعاً، علماً بأنها كلها توزع دورياً (8.7) مليون نسخة.
وأخيراً:
نذكِّر بأن يهود الولايات المتحدة الأمريكية يمثلون ما يقرب من 44
% من يهود العالم، وهي نسبة أعلى من نسبة اليهود في (إسرائيل) الذين يمثلون
34% من مجموع يهود العالم، ومع هذا ينظر إلى يهود أمريكا على أنهم يهود
(سوبر) بالنسبة ليهود (إسرائيل) ، ولا عجب فمهمة اليهود الأمريكيين أوسع وأخطر
من مهمة اليهود الإسرائيليين؛ لأن ساحة الإسرائيليين هي عالم العرب، وساحة
الأمريكيين عالم الغرب، بل العالم أجمع. وهذا لا يمنع من تعاونهما معاً لإفساد
الأرض كلها، كما قال سبحانه: [ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب
المفسدين] [المائدة: 64] .
اللهم! إنهم قد عادوا للإفساد كما أخبرت، وعلوا علواً كبيراً كما ذكرت، فعد
عليهم بالعقوبة كما توعدت، وانصر المسلمين عليهم كما وعدت، وسلِّط عليهم
عباداً لك أولي بأس شديد يجوسون خلال الديار، ويمسحون عنا الذل والعار آمين.
__________
(1) الإفساد الأول كما ذكره المفسرون كان قتل نبي الله زكريا، والإفساد الثاني كان قتل ابنه نبي الله يحيى انظر: تفسير الطبري، ج15، ص2123.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (3/30) بتحقيق الأرناؤوط.
(3) سفر أشعيا (9/6، 7) .
(4) سفر دانيال، 7/13.
(5) هذا اللقب أطلقته الصحافة الإسرائيلية على بيل كلنيتون بعد مؤتمر (شرم الشيخ) عام1996م الذي عقد لبحث سبل تامين إسرائيل من خطر الإرهاب! .
(6) نصيب دولة اليهود من المساعدات الأمريكية =ثلث مجموع المساعدات العالمية الأمريكية.
(7) يصل إلى الفرد في إسرائيل من أموال دافعي الضرائب الأمريكان ضعف استحقاق المواطن الأمريكي.
(8) هذا في الأربعينات الميلادية، فكم يساوي وقتها؟ .
(9) هناك أكثر من 200 منظمة يهودية أمريكية معفاة من الضرائب، وتعد هذه المنظمات مصدرا من مصادر المعونات الخارجية للحكومة الإسرائيلية.(146/82)
المسلمون والعالم
حزب الله.. رؤية مغايرة! !
(4) فدائيون أم.. عملاء؟
عبد المنعم شفيق
في الوقت الذي كانت إحدى مجلات اليسار الثوري المتطرف تتوب فيه من
اليسار، والثورة، والتطرف، أوردت مقالاً بعنوان: (حزب الله.. فدائيون أم
عملاء؟) ووصلت كاتبة المقال في نهايته إلى الافتراض السلبي أي: إنهم عملاء،
وذلك في وقتٍ لم تمنع أُخُوة المذهب أحد الكتّاب أن يطلق على (حزب الله) ...
لقب: (خدم الأسياد) ، وتلطف كاتب بريطاني وأطلق عليه: (الوكلاء) ، بل ... ... إن أمينه العام اعتبر الحزب.. (ورقة وأداة) .
في جميع الأوصاف السابقة إشارات واضحة باتهامات وإدانات لحزب الله،
وهنا لن نتبنى وصفاً معيناً مما سبق، وإن صدَّرنا واحداً منه ولكن سنعرض
تفاصيل الاتهامات وما يتعلق بها، ثم نترك القارئ يجيب عن السؤال الذي تقدَّم في
صدر المقال.
هل كان الإحسان خالصاً؟
(إننا يمكن أن نأتي بالتغيير في لبنان بتعليم الشعب وتنويره داخل المؤسسات
الاجتماعية) .
(إن قوتنا تكمن في قدرتنا على صنع الناس والجماهير، وعلى أن نضع
أوامرنا موضع التنفيذ، إنهم ينفذون أوامرنا لأنهم يعرفون أننا أقرب الناس في
تحقيق مطالبهم) [1] .
بهذه الكلمات الموجزة يُبين محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله
إحدى الوسائل الهامة التي يسعون من خلالها إلى تحويل لبنان إلى دولة شيعية، أو
على الأقل مجتمع شيعي؛ فلم تقتصر وسائل التغيير لدى (حزب الله) على نمط
واحد، بل تعددت وتشعبت في أركان لبنان، وكل وسيلة تغرس غرساً وتجني ثمراً.
وكان للخدمات الاجتماعية التي يقدمها (حزب الله) دور كبير في ترسيخ
القناعة بأحقيته بأن يكون صوت العشيرة وراعيها الساهر على راحتها، الساعي
إلى قضاء حوائجها في وقت تقطعت فيه أوصال المجتمع اللبناني، وانهارت
مؤسساته بعدما حل بالبلد ما حل.
وفي الوقت الذي سعى فيه (حزب الله) لأن يكون رأس الحربة في الساحة
اللبنانية، وفي مقدمة الطائفة الشيعية كان لا بد من النظر إلى عامة الشيعة نظرة
تشعرهم بالاهتمام بهم، والسعي لرفع الفقر والحاجة التي طالما عانوا منها، فكان
للحزب سعيان: سعي بالسلاح، وسعي بالإحسان؛ فالمبادئ والمثل والحقائق تبقى
عند كثير من الناس بلا تأثير إن لم يروا لها واقعاً حياً يتحرك بها بينهم.
ولم يكن هذا الإحسان خالصاً كله؛ فقد كان يرمي فيما يرمي إلى خلق جبهة
خلفية تتبنى الدفاع الأدبي والمعنوي عن الحزب، كما أنها تمثل المدد البشري الذي
يدين بالولاء والطاعة؛ فليس جزاء الإحسان إلا الإحسان! !
هدف الخدمات الاجتماعية ودورها:
تنهض هذه المنظمات الاجتماعية بالصلة بعامة الشيعة، والمقصد منها:
إنشاء دوائر أوسع من التأييد، وكلها تفترض علاقة وثيقة ومتينة لسياسة الحركة
وعملها. إن الهيئات المختلفة تعمل على الإحاطة بكل وجوه الحياة الاجتماعية
لإنشاء مجتمع نقيض للمجتمع العام والظاهر؛ فينبغي لجمهور الحركة الشيعية
وأنصارها أن يظلوا من المهد إلى اللحد، هم وأهلهم والصغار منهم والكبار من غير
الخروج عن مرافق (ذلك المجتمع) مهما كانت الذريعة [2] .
مؤسسة (الشهيد) :
وكان من أبرز المؤسسات الشيعية التي قامت بأدوار اجتماعية بارزة: ... (مؤسسة الشهيد) .
وهي تضطلع برعاية (عوائل الشهداء) التي لا تقتصر على المواساة
والعاطفة الصادقة؛ بل تتعداها إلى القيام بعبء مالي كبير، بعضه عيني يتمثل في
تعويض ثابت ودوري، وبعضه الآخر خدمات مدرسية وصحية وتربوية
ودينية [3] .
والمؤسسة مسؤولة عن عوائل من يسقطون في المعارك والأسرى خدمةً
ورعايةً، بما في ذلك القتلى المدنيون من غير المقاومين، والمؤسسة منتشرة في
معظم المناطق اللبنانية وتتولى فيما تتولى: الاهتمام بتعليم أبناء الذين قضوا نحبهم. وتصل الكلفة الإجمالية للفرد حوالي 2500 دولار شهرياً [4] .
المؤسسات الصحية:
افتتحت (الهيئة الصحية) في مطلع 1987م وبتمويل من (مؤسسة الشهيد)
صيدلية في حي السُّلَّم أسمتها: (صيدلية الشهيد الشيخ راغب حرب) تضطلع بمد
يد العون إلى المستضعفين كافة، وتبيع الدواء بأسعار معتدلة ومدروسة، ولا شك
أن الإقدام على مثل هذه الخطوة يخرج الجناح الشيعي الخميني من إطار جمهوره
السياسي والحزبي إلى دائرة أصحاب الحاجات اليومية والعامة، وهم عامة الناس
في الأحياء والشوارع التي يقطنها الشيعة بشكل كثيف [5] .
ومن المهمات التي تقوم بها الهيئة الصحية: الرعاية الصحية الأولية، مثل:
الإرشاد، والوقاية، وإقامة دورات في المناطق النائية، وتنظيم محاضرات، كما
تقوم بإجراء حملات التلقيح ضد الشلل، وقد استفاد منها عام 1998م حوالي50
ألف شخص، وتملك الهيئة: 21 مستوصفاً و 9 مراكز صحية كبيرة و 13 عيادة
تجول في 45 قرية في البقاع و 25 قرية في الجنوب، وقد خرجت 360 متطوعة
عام 1998م و 119 مسعفاً انضموا إلى جهاز واسع لـ (الدفاع المدني) يبلغ عدد
أعضائه الآلاف، كما يوجد مستشفى الجنوب في النبطية التابع للهيئة، وكذلك
مستشفى دارة الحكمة في البقاع، وقد استقبلا ما يزيد عن مئتي ألف مريض خلال
عام 1998م.
وتقدم الهيئة تسهيلات صحية للمواطنين. وقد استفاد 222 ألف لبناني من
ذلك بمبالغ فاقت المليون دولار: ما بين دواء مجاني، أو دخول للمستشفى لعمليات
جراحية، وغيرها من الخدمات الصحية.
مؤسسة الجرحى:
تقدم المؤسسة العناية الكاملة لجرحى المقاومة، والجرحى المدنيين بشكل
(شبه كامل) أما بالنسبة لجرحى المقاومة فالعناية شاملة من لحظة دخول المستشفى
حتى لحظة الخروج، والمسؤولية عن المعاقين تشتمل على: مخصص شهري،
سكن، صحة، تربية، تكاليف العائلة.. إلخ.
كما تعمل المؤسسة على إيواء الجرحى، ورعايتهم ضمن العائلة والمجتمع.
مؤسسة جهاد البناء:
جمعية (مؤسسة جهاد البناء الإنمائية) تأسست في لبنان سنة 1988،
شعارها: (إسرائيل تقصف يومياً ونحن نرمم يومياً) وقد اقتصر عملها بعد
التأسيس في ظل غياب الدور الخدمي للدولة على رفع النفايات وتأمين المياه
والكهرباء، وما شابه ذلك من قضايا تهم اللبنانيين في حياتهم اليومية وتفاصيلها. ... (جهاد البناء) وجدت نفسها مدعوة إلى (ردم الهوة التي تريد إسرائيل إيجادها بين
المقاومة والناس) . و (ردم الهوة) بات يعني تحديداً: القيام بأعمال الترميم بعد
الاعتداءات. ويُقَدر عدد المنازل والوحدات السكنية المتضررة في كل من عدواني
يوليو 1993م وإبريل 1996م بخمسة آلاف منزل، وأمكن في المرتين إتمام
الترميم خلال 3 إلى 4 أشهر، ثم إعادة البناء تماماً لكل ما تهدم، كما أن المؤسسة
عاملة على بناء مدارس ومستشفيات ومستوصفات وملاجئ، وعلى القيام بتمديدات
كهربائية بعد القصف وعلى حفر آبار ارتوازية، ويزداد يوماً بعد يوم، وللمؤسسة
دورها في التنمية الزراعية؛ فهي تقوم بإرشاد زراعي وبتسليفات وتضع صيدلياتها
وتعاونياتها في الجنوب والبقاع في خدمة المزارعين [6] .
وقد قامت المؤسسة حتى أوائل تموز عام 1994م، بإنشاء تسع وعشرين
مدرسة أو تأهيلها، وترميم نحو خمسة آلاف وثلاثمائة منزل، كما تم رفع خمسة
عشر مسجداً وأُهِّل ثلاثة وخمسون، وشُيد سبعة عشر نادياً حسينياً (حسينية) [7] .
وكان الشيخ نبيل قاووق، رئيس شورى الجنوب، نوه في أواخر أيلول عام
1993م، أي بعد عملية (تقديم الحساب) بنحو شهرين، بترميم (جهاد البناء)
1750 منزلاً في إحدى وثلاثين قرية جنوبية، وأسهم في إنجاز ذلك خمسة آلاف
ومئة إداري ومهندس وعامل [8] .
المدرسة:
يقول نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله إن لدى الحزب 50 مدرسة
موزعة على مناطق لبنان [9] .
ونأخذ من هذه المدارس نموذجاً لنرى ما الذي يُقدَّم من خلالها، وهي مدرسة
(شاهد) :
المدرسة من حيث المبدأ هي لأبناء القتلى والأسرى، والمبدأ المتبع فيها كما
في مؤسسة الشهيد هو عدم عزل هؤلاء عن الآخرين؛ فعددهم في (شاهد) هو
180 من أصل 675 طفل موزعين على الصفوف حتى الرابع الابتدائي [10] .
وهكذا نرى أن الخدمات الاجتماعية كانت شاملة لجميع الاحتياجات الاجتماعية ... ... وهي خدمات لا تستطيع جماعة بمفردها القيام بها؛ إذ إنها مساعدات لا تقدر
عليها إلا دول أو جماعات تمدها دول، وقد كان الهدف من تلك الخدمات هو ... (حصار) الناس ضمن إطار مذهبي شيعي لا يشذ عنه أحد، وكما قيل: من المهد
إلى اللحد.
من أين لك هذا؟
سؤال يرد بلا شك على ذهن أي مطَّلع على حجم هذه الخدمات التي تُقدم،
وسنورد حجم المبالغ التي تُنفق على (حزب الله) لينفقها بدوره على مشاريعه
وأهدافه، وسنرى كيف أن المورد الذي اعتمد عليه (حزب الله) كان سخياً؛ فهل
كان وراء هذا الكرم سر؟
بالنظر إلى جانب المدارس الدينية وحجم الإنفاق على الطلبة والمدرسين فيها، سنجد أن راتب الطالب العازب المقيم في المدرسة نفسها ألف وخمسمائة ليرة
لبنانية (في صيف 1986م) [11] ، أما راتب المتزوج فيبلغ ألفين وخمسمائة ليرة،
ارتفع الراتب الأول إلى نحو مئتي دولار (في العام 1995م) ، والثاني إلى نحو
ثلاثمائة. أما المدرس فيُجرى عليه بقدر حاجته وأعبائه، ويرجح أن ما يتقاضاه
المدرس لا يقل عن خمسة آلاف ليرة نقداً (1986م) ، وصار متوسط راتب
المدرس نحو خمسمائة إلى ستمائة دولار [12] . وليس لدينا إحصاء لعدد المدرسين
أو الطلبة.
فإذا نظرنا إلى جانب آخر من المصروفات كتكلفة الجهاز العسكري المحترف، والرواتب العديدة، وتكلفة الجهازين السياسي والأمني، وجهاز الإعلام، فسوف
يترجح تقدير الميزانية. بين العشرين مليون دولار والمئة والستين مليون
دولار [13] .
ويقدر زين حمود دخل (حزب الله) المالي النقدي من إيران بثلاثة ملايين
دولار ونصف المليون في الشهر الواحد، وذلك منذ 1990م، أما علي نوري زاده
فذهب إلى أن دخل الحزب الخميني بلغ عشرين مليون دولار في عام 1992م،
وخمسين مليون عام 1991م، وقُدِّر بمئة وعشرين مليوناً في 1992م، ومئة
وستين في 1993م [14] .
وتشير بعض المصادر إلى ارتفاع ميزانية (حزب الله) في عهد رفسنجاني
إلى 280 مليون دولار [15] .
وقد تواتر الخبر واستفاض العلم للقاصي والداني عن هذا الدعم الإيراني غير
المحدود لحزب الله [16] .
ولم تكن إيران وحدها على خط الدعم العام لحزب الله؛ فقد كانت سوريا
شريكاً وحليفاً قوياً لإيران، وكان لهذا التحالف أثره على (حزب الله) دعماً ومساندة ...
سياسية، واستخداماً بما يتوافق مع أهداف الحليفين. لقد كان لهذا التحالف دور هام
في تحديد مسار (حزب الله) ، ولذلك فمن الضروري إلقاء نظرة عليه وقراءة
لأوراقه.
الحلفاء وقصة التحالف:
كانت نظرة الأسد إلى الشيعة أكثر إيجابية وتأييداً، وكان كفاح الشيعة من
أجل حصة أكبر في الدولة اللبنانية نسخة من كفاحه هو في سوريا، وفي إحدى
المناسبات في أوائل الثمانينيات طلب وفد من زعماء المسلمين السنة في بيروت
مساعدة الأسد ضد جموع الفلاحين الشيعة التي تزحف على مدينتهم وتهدد بتغيير
طابعها، فلم يظهر الأسد تعاطفاً مع هذا الطلب، وذكَّر زائريه بأنه هو نفسه كان
فلاحاً أطاح بسلطة وجهاء المدن [17] .
وكان حزب البعث مدركاً منذ وصوله إلى السلطة عام 1963م للقاعدة الضيقة
للنظام؛ فإن علويي سورية (النصيرية) سعوا للوصول إلى توازن قلق بين
الحصول على الاعتراف بوضعهم المعلن ذاتياً فرعاً من المذهب الشيعي الإثني
عشري وبين الحفاظ على هويتهم. لذا فإن الدور السياسي للعلويين بصفتهم قاعدة
للسلطة الحزبية قد ساعد في إبراز مشكلة (إضفاء الشرعية) العلوية، وأضاف بعدا
إلى السياسة السورية، ومن هنا كانت أهمية العلاقات مع شيعة لبنان وإيران على
التوالي.
بالنسبة للشيعة اللبنانيين فإن البحث العلوي عن الشرعية كان يسير في توازٍ
مع حاجة الشيعة إلى حليف خارجي يُعتمد عليه، ولقد تعززت هذه العلاقة من وقت
لآخر بفعل الروابط الشخصية الحميمة بين قادة الطرفين، كما تمثلت العلاقة بين
الرئيس السوري وموسى الصدر في أوائل السبعينيات، ويمكن النظر إلى فتوى
الصدر باعتبار العلويين اللبنانيين المحليين شيعة في أيلول 1973م على أنها إيماءة
شخصية وسياسية على درجة عالية في الوقت ذاته باتجاه القيادة السورية، هذه
الإيماءة تناغمت بشكل بارع مع هدف الصدر في الحفاظ على روابط قوية مع
سورية بصفتها ثقلاً موازناً قوياً للأطراف الأخرى في المرجل اللبناني، وكانت
هامة أيضاً في سياق اهتمام سورية الخاص بالطائفة الشيعية اللبنانية البادئة النمو
والتجذر.
إن الفحوى السياسية لقضية الشرعية قد لعبت دوراً هاماً في تطور العلاقات
السورية الإيرانية، ويمكن في الواقع النظر إليه على أنه المحرك الرئيس لنشوء
التحالف بين البلدين. لقد ساعدت هذه الصلة في تأسيس لبنان باعتبارها نقطة
تقاطع هامة بين العنصر الاجتماعي الديني للعلاقات الشيعية العلوية والمصالح
الإقليمية والاستراتيجية لكل من سورية وإيران [18] .
وقد قدم موسى الصدر خدمة جليلة للنظام السوري أثناء حربه مع القوات
الوطنية المتحالفة عام 1976م؛ حيث طالب الشيعة بعدم الانضمام إلى هذه الجبهة، أما حركته حركة أمل فكفت يدها عن النصارى والنصيريين! ! وبذلك فقدت
الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينيون أحد الدعائم التي كان من الممكن أن تغير
الوضع في لبنان [19] .
وعلى نهج الصدر سار نبيه بري من بعده في التحالف مع سورية؛ فها هو
يقول: إننا اتخذنا خيارنا مع سورية: نعيش معاً أو نموت معاً [20] . إن حركة
أمل لم تتسلم شيئاً على الإطلاق من أي إنسان خارج سورية التي حصلنا منها على
السلاح، أخذنا أسلحة ودبابات من سورية، وإمداداتي العسكرية كلها من سورية،
أنا لا أنكر ذلك [21] .
وهذا الارتباط السوري مع شيعة لبنان جزء من ارتباط أكبر مع إيران صاحبة
اليد العليا التي تنفق وتخطط، ومن المهم استعراض هذا التحالف وأسبابه وأهدافه.
بين طهران ودمشق:
منذ اللحظة التي تسلم فيها الخميني السلطة في أوائل عام 1979م اعتبر الأسد
مصادقته شيئاً تقتضيه مصالحه العليا.
وبوقوفه إلى جانب دولة خارج الأسرة العربية، ومع حركة إسلامية ثورية
تتحدى المؤسسات السنية أظهر الأسد تحرراً غير معهود من التقاليد، وأعاد رسم
قواعد نظام القوى في الشرق الأوسط. وكانت هناك أسباب استراتيجية هامه
لتحركه.
رحب الأسد باستيلاء الخميني على السلطة في طهران ببرقية تهنئة حارة،
وبعد ذلك بأسابيع قليلة أرسل له نسخة من القرآن مزخرفة بالذهب والأحرف
الساطعة، هدية حملها إلى (قم) وزير إعلامه في ذلك الوقت أحمد إسكندر أحمد،
وبعد تقبيل المصحف شكر آية الله سورية على عرضها له بالنزول في ضيافتها في
أكتوبر سنة 1978م، وقام وزير خارجية الأسد في ذلك الوقت عبد الحليم خدام
بزيارة طهران في أغسطس سنة 1979م، وأعلن بشيء من المبالغة والغلوّ أن
الثورة الإيرانية هي (أعظم حدث في تاريخنا المعاصر) ، وافتخر بأن سورية قد
دعمتها (قبل قيامها وأثناء اندلاعها وبعد انتصارها) [22] .
بالإضافة إلى ما ذكر من الترابط العقدي بين سورية العلمانية بعدما سيطر
حزب البعث على النظام فيها، وبين إيران الثورية الخمينية؛ فإن هناك عوامل
أخرى كانت دافعاً لكل طرف لكي يوثق التحالف مع الآخر، وقد تشعبت هذه
العوامل وكثرت.
بالنسبة للسوريين فقد كان توقيت الثورة الإيرانية أكثر ملاءمة لهم؛ حيث
تفاقم إحساس سورية بالعزلة وكونها عرضة للخطر الاستراتيجي بشكل متزايد نتيجة
لتخلي مصر عن الصراع ضد (إسرائيل) وتوقيعها على اتفاقية كامب ديفيد في عام
1979م، وقد كانت سورية قلقة أيضاً لكون مصر وقد أصبحت في المعسكر
(المؤيد للغرب) بثبات سوف تجر في أعقابها أطرافاً عربية أساسية أخرى بما في
ذلك الأردن مما يؤدي إلى زيادة عزلتها وإضعاف موقعها إزاء (إسرائيل) .
إن الموقف السوري من إيران قد تحول إلى موقف منطقي محسوب يقوم على
اعتبارات القوة والتوازن مع النظام المنافس في العراق من ناحية، وبالمفهوم
الإقليمي الأوسع من ناحية أخرى. إن دور إيران في تقييد حرية الحركة العراقية
كونها ثقلاً موازناً ضد أطراف عربية أخرى، بما في ذلك مصر هذا الدور يمكن أن
يكون قد أضاف بعداً إلى الحوافز السورية لإعادة نظرها في موقفها نحو إيران.
وتأتي اهتمامات إيران من ناحيتها لتعكس عدداً من العوامل المستقلة
والمتداخلة؛ فكانت إيران في حاجة إلى حليف يعتمد عليه أكثر إلحاحاً بشكل كبير
بسبب رغبتها في الحفاظ على موطئ قدم هام في المعسكر العربي، وحاجتها لإبقاء
الضغط على العراق.
إن الحفاظ على علاقات جيدة مع سورية قد منح إيران فائدة أخرى هي تحديداً: الوساطة السورية الممكنة مع عدد من الدول الهامة الأخرى في المنطقة العربية.
وعلى الصعيد الدولي كانت روابط سورية الوثيقة مع الاتحاد السوفييتي قد
منحت إيران قناة لا تقدر بثمن إلى القوة العظمى الأخطر على حدود إيران المباشرة؛ فإن إيران كانت مدركة لحاجتها إلى الحفاظ على علاقات الدولة بالدولة مع الاتحاد
السوفييتي بشكل نِدِّي لعدد من الأسباب السياسية والاقتصادية والطائفية
والاستراتيجية.
أدت مساعي سورية الحميدة في بعض الأحيان إلى تسريع الاستجابة
السوفييتية للمطالب الإيرانية، كما كان الحال ظاهرياً بالنسبة للشحنات العسكرية
السوفييتية العابرة إلى إيران عن طريق سورية.
لقد عكس هذا التحالف عدداً من الاعتبتارات، منها: تراخي الضغط على
صدام حسين؛ فالدعم السوري لإيران كان يعتمد على الخلاف مع العراق، وزاد
من احتمال الانتقام العراقي ضد سورية إذا ما سنحت الفرصة لذلك؛ إذ إن انهيار
التحالف مع إيران سيكون له تأثير ضئيل في تهدئة صدام حسين في هذه المرحلة،
وقد تكون سورية رأت أن من الأفضل الإبقاء على إيران ثقلاً موازناً للعراق بدلاً
من التعويل على الاعتراف العراقي بالجميل مقابل تغير متأخر في العلاقة مع
طهران.
لقد ساعد الغزو العراقي لإيران في أيلول 1980م في تحضير الأساس
لتحالف رسمي بين سورية وإيران أثناء المرحلة الأولى من الحرب ما بين 1980،
1982م.
بالنسبة للإيرانيين: قدم السوريون وسيلة غير مباشرة للضغط العسكري على
العراق ومصدراً مباشراً للسلاح للقوات المسلحة الإيرانية المنغمسة في الحرب.
بعد أحداث مدينة حماة ولاحظ المناسبة سارعت الدولتان باتجاه تحالف رسمي؛ فقد تم توقيع بروتوكول تجاري واقتصادي بعيد المدى بين البلدين من قبل نائب
الرئيس السوري عبد الحليم خدام في طهران في مارس 1982م.
الغزو الإسرائيلي للبنان.. والتحالف:
كان لغزو 1982م تأثير عميق على وجود إيران في لبنان عن طريق توسيع
دورها في الصراع العربي الإسرائيلي؛ فإن الغزو قد وفر الفرصة للمساهمة
الإيرانية المباشرة الأولى في المجهود الحربي الداعم للحركة الشيعية في لبنان على
شكل وحدة عسكرية صغيرة نسبياً مكونة من 1500 عنصر من الباسداران (الحرس
الثوري الإيراني) الذي سُمح لهم بالدخول عن طريق سورية إلى البيئة الصديقة في
وادي البقاع. وقبل ذلك الوقت كانت الجهود الإيرانية لإقامة وجود عسكري مستقل
في لبنان قد صُدَّت من قِبَلِ الأسد نفسه، لكن الموقف السوري بعد الغزو الإسرائيلي
ربما أضحى أقل مقاومة لعروض المساعدة الإيرانية من ذي قبل.
من وجهة نظر إيران فإن وجودها الجديد في لبنان أنتج نقطة التَّماسِّ المباشر
الأول بين النظام الثوري وطائفة شيعية كبرى في العالم العربي، ومنذ ذلك الحين
غدت إيران لاعباً قيادياً في شؤون هذه الطائفة التي تمثِّل قاعدة ممكنة لمدّ نفوذها
إلى قلب الصراع العربي الإسرائيلي.
في ذلك الوقت بدأ تقاطع المصالح والتوجهات بين سورية وإيران بالاتساع؛
ففي حملتها لإخراج الإسرائيليين من لبنان كانت الدوافع المباشرة لسورية دوافع
استراتيجية؛ فالوجود العسكري الإسرائيلي في النصف الجنوبي من لبنان وعلى
الأخص في وادي البقاع قد وضع العمق السوري تحت تهديد مزدوج؛ فلأول مرة
كانت دمشق معرضة لخطر مزدوج محتمل من الجولان والمواقع الإسرائيلية
الأمامية في لبنان، إضافة إلى ذلك؛ فقد كان هناك التهديد الجيوسياسي النابع من
وجود نظام موالٍ لـ (إسرائيل) وموال للغرب في لبنان. إن القلق السوري حول
إمكانية العزلة الإقليمية ومخاطر الصفقات الثنائية العربية الإسرائيلية المستقلة كان
آنذاك المحدد الأساس لسياستها الخارجية؛ فوجود لبنان في الفلك الإسرائيلي
الأمريكي سوف يزيد من ترجيح كفة التوازن الإقليمي المائل أصلاً بشكل غير
مرغوب فيه عن طريق إكمال التهديدات العراقية والإسرائيلية بتطويق محتمل من
الغرب.
كما أن ارتداد لبنان سوف يضيف ثقله إلى خسارة مصر، ومع الأخذ بعين
الاعتبار الموقف المشكوك فيه للأردن، وفي ظل هذه الظروف فإن رغبة سورية
في تقوية روابطها مع إيران ليست مفاجئة. استطاعت سورية الاعتماد على إيران
لتأمين المساعدة المادية على شكل معونة اقتصادية، وقوة بشرية على شكل جماهير
محلية مهيأة، وتحريض يمثل وجهة نظر راديكالية معادية لـ (إسرائيل) وللغرب، ومصدر جديد للضغط والتهديد المحتمل لإلهاء كل خصوم سورية الإقليميين
والدوليين تقريباً، مع الحفاظ في الوقت ذاته على مسافة مادية وتاريخية كافية
لتفادي أن تصبح قوية أكثر مما يجب أو مستقلة أكثر مما يجب على الحلبة الداخلية
لسورية.
وبين أغسطس 1988، وأغسطس 1990م كان هناك عدد من التطورات
التي أثرت على العلاقة السورية الإيرانية؛ فمع انتهاء الحرب الإيرانية العراقية
بدت قوة العراق بشكل ملحوظ في وجه كل من سورية وإيران؛ فالعراق لم ينجح
فقط في فرض نهاية مذلة للحرب، بل كان في موقع جيد جداً لجني أفضل فائدة من
التأييد الدولي والعربي الواسع للقيام بدور القوة العربية الكبرى المتربعة على الخليج
والمشرق، لذلك فقد قويت دوافع إيران للتمسك بالتحالف مع سورية بفعل تضافر
عدة عوامل، والتي منها: ضعفها مقابل القوة العراقية والانتشار العسكري
الأمريكي في الخليج والعزلة الإقليمية والدولية.
وبالمثل فقد كانت سورية مدفوعة بمصلحتها التقليدية في احتواء العراق
والحفاظ على دورها الفريد في لبنان؛ بيد أن عوامل أخرى كانت تفعل فعلها،
أولها وأهمها: التغيرات في علاقات الشرق بالغرب، وإبعاد التنافس الأمريكي
السوفييتي من المنطقة؛ فقد بدأت علاقات سورية السياسية والاستراتيجية الطويلة
الأمد مع الاتحاد السوفييتي بالتآكل مع مجيء الرئيس غورباتشوف في منتصف
الثمانينيات والامتناع السوفييتي المتزايد عن إمداد المجهود الحربي لسورية أو تدعيم
اقتصادها المتوعك [23] .
هذا الحلف الإيراني السوري كان له مركز هام لإظهار نتائجه، فكان لبنان
هو مطبخ هذا الحلف الذي تشتم منه رائحة الصفقات والاتفاقيات، وبهذا فقد تم ربط
لبنان بهذا الحلف شاء أم أبى.
فهذا وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي في محادثات مع نظيره السوري
فاروق الشرع يقول: إن مصير إيران وسوريا ولبنان في مجال السياسات التي
يتخذها البلدان الثلاثة مترابط بعضهم مع بعض [24] .
كما كان من الطبيعي أن يكون (حزب الله) ورقة بين أطراف هذا الحلف،
أو الطرفين القويين: إيران، وسوريا، وكان عليه أن ينسجم مع أهدافهما؛ فوجوده
ونشاطه مرتهن بتوجهاتهما السياسية، ولكن هل ينجح حزب الله في الاستمرار في
دوره على هذه الحال من الانجذاب بين طرفين؟
مُجبر.. لا بطل:
رسم الظهور العلني لحزب الله خطاً فاصلاً جديداً من وجهة نظر سورية،
وكان هذا التطور إشكالياً؛ فمن ناحية شكلت العناصر الراديكالية الموالية لإيران
ذراعاً فعالاً للنشاط بالوكالة ضد (إسرائيل) والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى
فإن المناداة بجمهورية إسلامية في لبنان وإخضاع إرادة (حزب الله) لأوامر طهران
الروحية والسياسية، كل ذلك كان يشكل تناقضاً مباشراً بشكل محتمل مع المصالح
السورية الوطيدة.
كان نجاح إيران حزب الله في منع سورية من تنفيذ سياستها في لبنان بمثابة
رسالة خطيرة بخصوص السلطة النسبية لكل عنصر فاعل على الساحة اللبنانية؛
فقد كان الدافع السوري قوياً أيضاً لرسم حدود ثابتة ومفهومة بشكل متبادل لهذه
السلطة في أعقاب الحملة المشتركة لعامي 1983م 1984م؛ إذ لم يُبد تحمُّل سورية
لنشاط حزب الله المعادي لـ (إسرائيل) في جنوب لبنان أي تغير في هذه الفترة،
وظل بدون انتقاص حتى اليوم، إن تحدي حزب الله للهيمنة السورية بين الشيعة في
لبنان يتجاوز الخلافات العملياتية حول الفلسطينيين والحرب في الجنوب، ومن
الممكن أن يضرب في عمق النفوذ والهيبة للسوريين بالذات.
فسورية لم تكن مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدي في حين كانت قوة (حزب
الله) ونفوذه يتوسعان في لبنان، وهذا أدى في شباط 1987م إلى أن اصطدمت القوات السورية مباشرة مع (حزب الله) في ضاحية بيروت الجنوبية.
إن السيطرة السورية في لبنان، ومقدرتها على منع أية تحركات إيرانية ذات
شأن في هذه الساحة من المكانة التي تجعل أي تحدٍ مباشر لمصالح سورية الحيوية
من قِبَلِ (حزب الله) أو إيران لن يؤدي إلى أي مكسب إيجابي لإيران.
في الواقع: إن الفقدان المحتمل لحرية الوصول إلى الشيعة اللبنانيين يمكن أن
يكون رادعاً لأي دور تخريبي إيراني، إضافة إلى كونه حافزاً كبيراً بالنسبة لإيران
على تشجيع (حزب الله) على التقيد بقوانين التحالف.
وعلى هذا فقد تحاشى (حزب الله) مهما كلفه الأمر وغلا الثمن تحاشى
الخلاف المعلن مع السياسة السورية، بل سعى إلى مزاوجة ولاءيه: الخميني
الإيراني من وجه أول والسوري من وجه ثان من غير انفصال. فالولاء الخميني
هو مصدر التحزب والداعي إليه ومنشئ هذه الجماعة على الصورة التي هي عليها؛ وعلى هذا الولاء مرجع تماسك الحزب، وتَدِينُ المنظمة الخمينية إلى ولائها هذا
بنهجها وطريقتها التي ميزتها عن غيرها، وتدين للدولة الخمينية بالإعداد والتجهيز
والعتاد والموارد والملجأ والحماية و (الذراع الطويلة) .
أما الولاء السوري فهو شرط بقاء الجهاز الخميني المادي (بقاءاً مادياً) بلبنان
واستمراره على خطته ونهجه، وهو بهذا الاستمرار مسوَّغٌ دوره. وفي ظلال
الولاءين: الخميني والسوري ووفاقهما وتنسيقهما وعقدهما لم يكن على (حزب
الله) إلا المضي في مقاتلة الدولة العبرية، والتمتع بامتيازات سياسية تحول دون استقرار الدولة اللبنانية؛ وعلى هذا فاليد العليا: معنيً ومورداً هي لإيران، واليد العليا: سياسة وشرطاً مادياً هي لسورية، ويسعُ (حزب الله) البقاء وهو يخدم سيدين لا سيداً واحداً! ! [25] .
المتغيرات وأثرها على الحزب:
من الصعوبة بمكان، بل من الاستحالة أن تستمر الأمور على نسق واحد من
بداياتها إلى منتهاها، بل إن المتغيرات التي تطرأ على الأحداث تجعل من الحكمة
إعادة النظر في السياسات الاستراتيجية والأهداف بعيدة المدى وإعادة صياغتها بما
يتناسب مع الوقائع الجديدة، وكان هذا المنطق واضحاً بشكل كبير لدى إيران التي
أنشأت حزب الله ورعته حتى أصبح كياناً له وزنه المعتبر في لبنان، وكانت
التحولات التي طرأت على إيران تفرض لا محالة تغيرات جذرية على سياسة
(حزب الله) ومنهجه وعمله.
فعقب تولي رفسنجاني رئاسة الجمهورية عبَّر عن رفضه فرض الثورة على
المسلمين خارج إيران، بينما طالب الحركات الإسلامية خارج إيران باتخاذ الثورة
الإيرانية قدوة ومثالاً لها، وبالسعي لإيصال صوت الثورة إلى الناس؛ وأضاف أن
إيران ستصدر أفكارها في القوانين الدولية.
والواقع أن التحول نحو السياسة البراجماتية داخلياً وخارجياً قد ارتبط في
جزء من دوافعه بانتهاء الحرب مع العراق والإحساس بالاختناق الاقتصادي
وبالحاجة للانفتاح على العالم، خاصة اجتذاب استثمارات الغرب وتكنولوجيته
لإعادة تعمير إيران مما تطلَّب اعتدالاً في السياسة الخارجية.
ومنذ عام 1986م كانت إيران قد بدأت تمارس ضغوطاً على التنظيمات
المسلحة الموالية لها في لبنان للإفراج عن الرهائن الغربيين مقابل تحقيق مصالح
وأهداف (للثورة الأم) في إيران.
وشهدت فترة رئاسة رفسنجاني لإيران تقليص المساعدات العسكرية والمالية
لحزب الله.
كما أن إيران مارست ضغوطاً على حزب الله لضبط النفس عقب اختطاف ... (إسرائيل) في 29-7-1989م للشيخ عبد الكريم عبيد، أحد قياديي حزب الله في
الجنوب اللبناني، وعدم الإصرار على استبداله برهائن غربيين خلال صفقات
لاحقة بين إيران والدول الغربية، وكذلك الشيء نفسه بعد اغتيال (إسرائيل) للشيخ
عباس الموسوي زعيم حزب الله في هجوم بالهليكوبتر في فبراير 1992م فأين
الانتقام للشهداء؟ ! كما ساهمت إيران في إقناع حزب الله بالانضمام للهجوم
الشامل بالتعاون مع سورية ضد العماد ميشيل عون في بيروت الشرقية
في 14-8-1989م [26] .
ولا شك أن حزب الله اللبناني ساهم بدور الرافعة للدور الإيراني في المشرق
العربي، مما أعطى لإيران وزناً استراتيجياً أكبر من حجمها، وتم استغلاله منذ
تدهور قوتها التقليدية.
ويمكن لحزب الله أن يظل أحد مصادر التأثير السياسي لإيران، وهذا هو أحد
الأسباب التي جعلت طهران تشجعه على التفكير في أدائه المستقبلي. وبغض النظر
عن الجانب الأيديولوجي والترابط العضوي؛ فإن حزب الله اللبناني يمثل حالياً
رافعة هامة لسوريا التي تعد أحد أهم اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعد إيران بحكم التعريف الجغرافي ليست جزءاً منها [27] .
ولهذا فقد كان التحول إلى وجه آخر وتبديل السياسات أمر لا مفر منه لحزب
الله [28] .
إن الاتجاه الأكبر داخل حزب الله مدرك للحاجة إلى التكيف مع وقائع التسوية
الممكنة بين (إسرائيل) وكل من سورية ولبنان، ولقيود السعي لبسط الحكم ذي
النمط الذي يدعو إليه في البلد الأكثر تنوعاً من حيث الطوائف والأديان في المنطقة
. وقد انعكس هذا في استعداد حزب الله للمشاركة في النظام السياسي اللبناني،
بالإضافة إلى إظهار رغبة الحزب بالالتزام بقوانين النظام السياسي اللبناني المنبعث
مجدداً ونقل نشاطاته السرية إلى مجال غير موجه ضد الدولة بحد ذاتها.
إن نقلة من هذا النوع في سياسة (حزب الله) وموقفه تعتمد كثيراً على توازن
الآراء ضمن الحركة والموقف النهائي الذي تتخذه إيران، إضافة إلى موقف حزب
الله مع سورية.
وتتمتع القيادة الرسمية لحزب الله، بما فيها الأمين العام الحالي الشيخ حسن
نصر الله بعلاقات جيدة مع كل من سورية وإيران، ومن المرجح أن تستجيب
لمتطلبات وحساسيات الأولى بقدر استجابتها لمتطلبات وحساسيات الأخيرة [29] .
ومن خلال هذا المنطلق، فقد صرح السفير السوري في واشنطن وليد المعلم
أن حزب الله حركة مقاومة وطنية ولن تكون عقبة في طريق السلام إذا كان يلبي
المصالح السورية واللبنانية، إن قيادة الحزب تدرك بأن أي اتفاق مقبول من سورية
ولبنان يكون ملزماً لها على السواء [30] .
بل لقد استبق حسن نصر الله الجميع باعترافه بأنهم أداة في يد المفاوضين في
عملية السلام، فقال: إن المقاومة ورقة ضغط بيد المفاوض العربي. والغريب أن
باراك يريد أن يفاوض ومعه طائرات حربية أمريكية جديدة، ومئات الملايين من
الدولارات من أمريكا، وهذا مسموح به، بينما المطلوب أن تذهب الوفود العربية
مجردة من عناصر قوتها، وعنصر المقاومة هو الأهم [31] .
وإمعاناً في التحول تلبية للإرادة الجديدة، فقد قام (حزب الله) بتوسيع قاعدة
المشاركة في عملياته العسكرية انطلاقاً من ذوبانه في الحالة اللبنانية، فقام بإنشاء
(سرايا المقاومة) التي فتح فيها الباب لجميع شرائح المجتمع اللبناني بما فيهم
النصارى لكي تنضم إلى صفوفه، فقد أصبح الهدف الآن: تحرير التراب
اللبناني! ! [32] .
حقيقة النجاح العسكري:
على الجانب العسكري الذي برز من خلاله نشاط حزب الله، فمن الواضح
اليوم لكل ذي عقل أو على الأقل يجب أن يكون واضحاً أنه في حرب العصابات
التي تدور اليوم في جنوب لبنان لا توجد فرصة للانتصار بالنسبة للإسرائيليين؛
وذلك لعدة اعتبارات:
أولاً: أنه لم يتغلب مطلقاً بأي شكل من الأشكال في العالم جيش نظامي على
مقاتلي حرب عصابات.
ثانياً: أن (حزب الله) يعرف الميدان والمنطقة أفضل من جنود (إسرائيل)
وأفضل من جيش نظامي بعتاده وإعداده.
ثالثاً: أن أتباع (حزب الله) يعملون في أوساط سكان متعاطفين معهم
ويمنحونهم مزايا كثيرة كما سبق الإشارة إليها ابتداءاً.
رابعاً: أن جيش جنوب لبنان تحول من جيش أجير الذي كان من المفروض
أن يقوم بالعمل الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي إلى أداة مكسورة هشة، والتي بدون
حماية (إسرائيل) وحضورها فإنه يصبح بدون فائدة.
خامساً: أن الوجود الجسدي على أرض لبنان يحول (حزب الله) من تنظيم
إرهابي إلى مقاتلين من أجل الحرية وشرعيين في أعين العالم، وبذلك تُخلى
مسؤولية لبنان وسورية من الدم المسفوك [33] .
كذلك فإن جزءاً كبيراً من الذين يخدمون في جهاز أمن جيش جنوب لبنان
الذي تستخدمه (إسرائيل) هم من الدروز والشيعة سكان الحزام الأمني، ولقد
مارس حزب الله معهم أساليب مختلفة ليجندهم، وفي الوقت ذاته هناك افتراض بأن
الدروز في جهاز الأمن لا يرون أن هناك أي مشكلة في إطلاع أعضاء الحزب
التقدمي الاشتراكي التابع لوليد جنبلاط على المعلومات التي لديهم، وهؤلاء
يتعاونون مع حزب الله [34] .
إن القليل فقط ينتبه إلى أنه في العام الأخير طرأ انخفاض في عدد قتلى جيش
الدفاع الإسرائيلي في جنوب لبنان. وبصفة عامة فإن من الممكن القول بأنه في
أربعة مجالات أساسية لم ينجح حزب الله حتى اليوم في تحقيق أهدافه: فهو لم
يحتل حتى اليوم موقعاً لجيش الدفاع الإسرائيلي، ولم ينهر بسببه جيشُ جنوب لبنان
على الرغم من أن ذلك يمثل هدفاً أساساً لحزب الله، وعلى الرغم من جهود (حزب
الله) فلم ينجح التنظيم في اختطاف جنود لجيش الدفاع الإسرائيلي ورغم كل
محاولات (حزب الله) فإنه لم تسقط حتى اليوم طائرة هليوكوبتر واحدة أو طائرة
للسلاح الجوي الإسرائيلي [35] .
ولقد أعلن زعماء (حزب الله) في الماضي أنهم سيواصلون محاربة ... (إسرائيل) حتى (تحرير القدس) ، ولكنهم قالوا مرات كثيرة ما هو عكس ذلك، أي
أن هدفهم هو تحرير الأرض اللبنانية، وليس من شأنهم مواصلة العمل ضد ... (إسرائيل) بعد تحقيق هذا الهدف.
من الناحية العملية، وعلى النقيض من المنظمات الفسلطينية التي حاربت ...
(إسرائيل) نفسها، تجد أن حزب الله لم يبادر أبداً بعمل ضد أراضي (إسرائيل)
المحتلة قبل 5 يونيو (حزيران) عام 1967م، وقصر هذا النشاط على الأراضي
اللبنانية التي احتلت بعد ذلك التاريخ. ورغم أن مقاتلي حزب الله قد وصلوا عدة
مرات إلى خط الحدود، إلا أنهم لم يتسللوا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان
يمكنهم أن يفعلوا ذلك بدون شك [36] .
وهكذا نرى أن النجاحات التي يدندن حولها حزب الله لم تكن على مستوى
لائق بهذا الزخم الضخم من الضجيج الإعلامي.
وأخيراً:
لا بد أن السؤال المطروح في صدر المقال قد أجيب عنه، وبغض النظر عن
النتيجة التي سيصل إليها قارئ هذه الحلقة، تبقى تجربة (حزب الله) تستحق
الاهتمام؛ حيث إن كثيراً من الناس، بل من المتابعين لشؤون الحركة السياسية
الإسلامية لم يكونوا على اطلاع على هذه التجربة.
فعلى الحركة الإسلامية (السنية) أن تنظر إلى هذه التجربة بشكل عملي
للاستفادة من الإيجابيات والسلبيات؛ فقد كان من أجلَى إيجابيات (حزب الله) أو
التجربة الشيعية في لبنان هو ذلك النفس الطويل في العمل والحركة، مما أدى في
نهاية التجربة إلى الوصول إلى نتيجة مُرْضية جداً؛ مقارنة بالأهداف المرسومة
أولاً، كما أن من الإيجابيات التي ينبغي النظر إليها باهتمام شديد: الإعداد العلمي
الهادئ الذي استمر مدة زمنية طويلة؛ حيث كان أساس الحركة ومنطلقها. أيضاً؛
فقد تميزت التجربة بالاهتمام بعامة الناس بشكل كبير، واصطفافها وراء الحزب
عاطفة وتأييداً ودعماً ومساندة؛ بيد أن الملحظ هنا أن الحزب خُلِّيَ بينه وبين الناس، وهو ما لم يتوفر للحركات السنية، وهذه الأخيرة لا يسعها ما وسع (حزب الله)
من انحرافات وتقلبات في المنهج العلمي والحركي، ولا يسعها تبدل الولاءات، ولا
أن تكون (أداة أو ورقة) في يد من له يد طولى في الواقع الذي تحياه، فلا يسعها
إلا أن تكون راية تحت لواء الشريعة الحاكمة من قبل أهل الولاية الشرعية.
ونشير هنا إلى أن كثيراً من مباحث هذه الدراسة تم عرضه بشكل مختصر،
ليناسب مساحة النشر، كما أن هناك مباحث أخرى لم يُتطرق إليها في هذا العرض.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) قراءة في فكر زعيم ديني لبناني، د أحمد إبراهيم خضر، مجلة المجتمع، العدد: 954، 958، ص 43، 50.
(2) راجع دولة حزب الله، وضاح شرارة، ص 68، 212214.
(3) المصدر السابق، ص217.
(4) لبنان: أربعة وجوه للمقاومة الإسلامية، جوزف سماحة، جريدة الحياة، العدد: 13222، 6/2/1420هـ، 21/5/1999م، ونشرته مجلة المقاومة في العدد: 42، يوليو/1999م.
(5) دولة حزب الله، 68، وانظر مزيدا من التفصيل في: سوريا وإيران تنافس وتعاون، أحمد خالدي، حسين ج آغاء، ترجمة: عدنان حسن، ص44.
(6) لبنان: أربعة وجوه للمقاومة الإسلامية، مصدر سابق.
(7) دولة حزب الله، ص337.
(8) جريدة النهار اللبنانية، 28/9/1993م.
(9) محمد القدوسي، كربلاء الجديدة، أيام مع المقاومة في جنوب لبنان، اللجنة العربية لمساندة المقاومة في لبنان، ط1/1998م.
(10) جوزيف سماحة، مصدر سابق.
(11) أي قبل انهيار قيمة الليرة اللبنانية.
(12) دولة حزب الله، ص135136.
(13) المصدر السابق، ص337338، الإسلام الشيعي، عقائد وأيديولوجيات، يان ريشار، ص212.
(14) حزب الله من الداخل، أسرار وخفايا، زين حمود، مجلة الشراع، 14/8/1995.
(15) مجلة المجلة، لعدد: 1013، 11/7/1999م.
(16) انظر على سبيل المثال: حوار محمد حسين فضل الله مع مجلة الوسط، العدد: 222/11/2/1416هـ، وحوار حسن نصر الله مع مجلة المقاومة، العدد: 31، ص6، ومقال: حرب حزب الله للاستقلال، رونين برجمان، صحيفة هآرتس اليهودية، 5/3/1999م.
(17) باتريك سيل، الأ سد صراع على الشرق الأوسط، 579.
(18) راجع: سوريا وإيران تنافس وتعاون، 1215.
(19) راجع: رؤية إسلامية للصراع العربي الإسرائيلي، 483484، وانظر: باتريك سيل 573.
(20) جريدة الحياة، العدد: 13402/9/8/1420هـ، 17/11/1999 م.
(21) حواره مع مجلة الوسط، العدد: 276، 12، 19/5/1997م.
(22) راجع باتريك سيل، 572، وما بعدها، وانظر: سورية وإيران، 1013.
(23) راجع سورية وإيران، 2129، 35 36، 4951، وراجع الأسد، صراع على الشرق الأوسط، 575، 577، 581583، 642، ومقال لإفراهام سيلع، صحيفة هارتس 6/4/1999م، ومقال: من يعرقل الانسحاب ليوسي أولمرت، صحيفة يديعوت أحرونوت، 22/3/1998م، ومقال: لبنان، أوان تقييم الوضع، لشلومة جازيت، صحيفة معاريف، 21/8/1997م، ومجلة المجتمع، عدد: 959، وحوار محمد حسين فضل الله مع الوسطن العدد: 222/ 11/2/1416هـ، ومجلة المقاومة، عدد: 2، 25، 26،.
(24) جريدة الأنباء، العدد: 8302، 14/2/1420هـ، 28/6/ 1999م.
(25) راجع: وضاح شرارة، ص 362 374.
(26) انظر: د وليد عبد الناصر، إيران دراسة عن الثورة والدولة، 7475، 8385.
(27) حوار نيل باتريك، رئيس قسم الشرق الأوسط بالمعهد الملكي للدراسات الدفاعية في لندن، مع مجلة المجلة، المصدر السابق.
(28) انظر: حوار على فياض عضو المجلس السياسي لحزب الله، جريدة الله، جريدة السفير، ونشرته مجلة المقاومة، العدد: 32، ص4، وانظر مقال: آنذاك ستبدأ الأيام الصعبة لحزب الله، لباروخ كيمد لنيج، صحيفة هارتس/ 4/3/1997م.
(29) راجع: سوريا وإيران، 136139.
(30) جريدة الأنباء، العدد: 8305/1/7/1999م، وانظر تصريح رئيس الأركان الأركان الإسرائيلي حول تأثير سوريا على قرارت حزب الله في جريدة الحياة، العدد: 1329/15/4/1420هـ، 28//7/1999م، وانظر: هيثم مزاحم: حزب الله وإشكالية التوفيق بين الايديولوجيا والواقع، مجلة شؤون الأوسط، العدد/59، يناير/1997م.
(31) جريدة الأنباء، 8331/14/2/1420هـ، 27/7/1999م.
(32) انظر: حوار حسن نصر الله مع مجلة الوسط، العدد: 432/17/ 8/1998م، وحواره مع مجلة المقاومة العدد/40، ص25، 26، وانظر: محمد القدوسي، كربلاء الجديدة، ص1920.
(33) الخروج، يؤنيل ماركوس، ملحق هارتس السياسي، 2/3/1999 م.
(34) انظر: مقال رونين برجمان، هارتس، 5/3/1999م.
(35) فشل جيش الدفاع الإسرائيلي ومشكلة الحكومة، زئيف شيف، هارتس، 29/11//1998م.
(36) افراهام سيلع، هارتس 31/3/1999م.(146/90)
مرصد الاحداث
يرصدها: حسن قطامش
يفهم أفضل منك! !
أكد الرئيس الإندونيسي عبد الرحمن وحيد إثر لقاء مع الرئيس الفلسطيني
ياسر عرفات تفهم الأخير عزم جاكرتا إقامة علاقات تجارية مع (إسرائيل) .
وقال وحيد الذي كان يجيب بالعربية عن سؤال بهذا الشأن في مؤتمر صحفي
عقب اللقاء: إن قصدنا من العلاقات التجارية مع إسرائيل هو تأييد موقف منظمة
التحرير الفلسطينية، والرئيس عرفات يعبر عن فهم لهذا الموقف. أوضحت
للرئيس عرفات أن العلاقة التجارية بين إندونيسيا و (إسرائيل) ستتجه إلى تدعيم
موقف منظمة التحرير.
إن المجتمع الإسرائيلي ينقسم إلى فئات، وهناك فئة ترى أن مصير
(إسرائيل) في إقامة علاقات طيبة مع جيرانها، ومع البلاد المسلمة، وعلى هذا
يجب علينا تدعيم تلك الفئة، ولذلك قمت بالاشتراك في تأسيس مركز شمعون بيريز
للسلام؛ لأنني أعرف أن بيريز غير بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي
السابق.
وخلص وحيد إلى القول: لهذا يجب علينا دعم (الإسرائيليين) الذين لهم اهتمام
في تطوير العلاقة مع جيرانهم، ونرجو في المستقبل أن ينظر جميع الإسرائيليين
إلى أن العلاقة الطيبة مع جيرانهم هي مفتاح للسلام في هذه المنطقة.
{جريدة الحياة، العدد: (13410) }
هي لنا.. ولا تقبل القسمة
1 - أشار تقرير حقوقي صادر عن مركز القدس للحقوق الاجتماعية
والاقتصادية أن الحكومة الإسرائيلية تواصل سياسة نهب الأراضي والأملاك العربية
في المدينة عبر وسائل غير قانونية وأن ما لا يقل عن 34% من أراضي الدولة
باتت مصادرة تماماً.
وقال التقرير الذي يتناول أوضاع حقوق الإنسان في القدس العربية: إن
(إسرائيل) اعتبرت نحو 52% من مناطق المدينة مناطق خضراء يحظر البناء فيها
لتشكل احتياطاً استراتيجياً للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في المدينة ولم تبق سوى
14% من مساحة المدينة للسكان مقام عليها المنازل.
وأضاف التقرير: إن (إسرائيل) هدمت ما يزيد على 441 منزلاً،
وأخطرت بهدم 400 منزل آخر بالهدم خلال السنوات الخمس الماضية. {مجلة
الإصلاح، العدد: (418) }
2 انتقد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الموقف الإسرائيلي المتمسك
بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل معتبراً أنه يقوم على سياسة الإقصاء وقال: إنها
تتسع لعاصمتين: فلسطينية، وإسرائيلية، وأن تكون للعالم كله في الوقت نفسه.
{جريدة الحياة، العدد: (13411) }
كانت دولة الخلافة!
الزلزال الكبير الذي حدث في منطقة مرمرة التركية كان فرصة لأن ينقل
المنصِّرون نشاطاتهم إلى الشارع التركي. إن الموقف الذي اتخذته حكومة بولنت
أجاويد من المنظمات الشعبية ذات الصفة الإسلامية عقب تدفق المساعدات الضخمة
منها إلى المناطق المنكوبة كان له دور في ازدياد النشاطات التنصيرية في المنطقة،
وكانت منظمة تنصيرية قد وزعت مئات الآلاف من الكتيبات، وبلغ عدد الكتيبات
الموزعة في منطقة اسطنبول وحدها أكثر من مائتي ألف، وألقت مديرة المنظمة
محاضرة للتعريف بالنصرانية في فندق مرمرة ذي النجوم الخمسة، هذا وقد لوحظ
أيضاً أن الكتيب الذي يحوي عناوين وأرقام هواتف مراكز المنظمة في مختلف
البلدان يوزع على منكوبي الزلزال قبل تقديم الطعام أو المأوى لهم.
{جريدة الرياض، العدد: (11473) }
ما زال الحقد مستمراً
بدأت زمالة الكنائس التنصيرية في إثيوبيا ببرنامج واسع لتنصير المسلمين،
يشمل البرنامج إنشاء أربع مراكز إقليمية للتدريب على كيفية تنصير المسلمين، وقد
تم تنفيذ ذلك، وسيتخرج كل عام 50 شخصاً من مدربي المنصرين المختصين في
تنصير المسلمين، وكل واحد منهم سوف يدرب عشرين شخصاً، وبالتالي كل واحد
من هذه المجموعة سيدرب عشرة أشخاص؛ حيث يكون للكنيسة عشرة آلاف
شخص متخصص ومدرب على تنصير المسلمين في إثيوبيا سنوياً. ومن الناحية
النظرية سيكون بالإمكان للكنيسة أن تصل إلى كل المسلمين في إثيوبيا.
دورية الكوثر، العدد: (24) }
والله لتفتحن
عدَّد المونسينيور جوزيبي برنارديني أسقف أزمير (تركيا) ، الإيطالي الأصل
ما ادعى أنه مراحل تؤكد عزم المسلمين على فتح أوروبا. وزعم أن العالم
الإسلامي سبق أن بدأ ببسط سيطرته بفضل دولارات النفط. وأضاف: إن هذه
الدولارات لا تستخدم لخلق فرص عمل في الدول الفقيرة في إفريقيا الشمالية أو في
الشرق الأوسط؛ بل لبناء مساجد ومراكز ثقافية للمسلمين المهاجرين إلى دول
مسيحية بما في ذلك روما عاصمة المسيحية، وتساءل: كيف يمكننا أن لا نرى في
كل ذلك برنامجاً واضحاً للتوسع وفتحاً جديداً.
إن كلمات الحوار والعدل والمعاملة بالمثل، أو مفاهيم مثل: حقوق الإنسان
والديمقراطية تتضمن معاني تختلف تماماً عن مفهومنا لها.
إن ذلك قد يجعل من الحوار بين المسيحيين والمسلمين (حوار طرشان) إن
الجميع يدرك أنه يجب التمييز بين الأقلية المتعصبة والعنيفة والأكثرية الهادئة
والمعتدلة. لكن علينا ألا ننسى بأن الأكثرية ستقف وقفة الرجل الواحد وستستجيب
دون تردد لأوامر تصدر باسم الله أو القرآن. لا يمكن للمسيحيين أن يكونوا
متشائمين؛ لأن النصر النهائي سيكون للمسيح.
{جريدة الخليج، العدد: (7402) }
لماذا تقدمونها؟ !
بعض المساعدات التي نقدمها تذهب إلى جيوب الحكام، ويوظفونها في بنوك
سويسرية، وهذا أمر لا يخدم مصالح الناس ولا مصالح فرنسا.
{وزير التعاون الفرنسي، مجلة الوسط، العدد: (385) }
لو أنهم أولادكم؟ !
بلغ عدد الأطفال العراقيين المتوفَّيْن في عام 1997م بنحو 150 ألف طفل
بسبب الحصار، وقد ارتفع هذا العدد إلى 180 ألفٍ وذلك عام 1998م، بزيادة
نسبتها 66% مقارنة بعام 1989م، كما ارتفع عدد الأطفال الذين توفوا بسبب سوء
التغذية إلى نحو مليوني طفل منذ فرض الحصار على العراق قبل تسع سنوات،
أي بنسبة زيادة بلغت 2000% قياساً بعام 1990م.
كما أن هناك ارتفاعاً خطيراً في عدد الولادات لأطفال من ذوي البنية الضعيفة
نتيجة أوزانهم المنخفضة؛ إذ ارتفعت نسبة المواليد دون وزن 2.5 كيلو جرام من
5.4 % عام 1990م إلى 23.5 % عام 1998م، بالإضافة إلى حدوث ارتفاع
كبير في عدد الأطفال المصابين بالأمراض الانتقالية: كالحصبة، والتيفوئيد، ...
والسعال الديكي بنسبة 800 %. وقد سُجلت نسبة كبيرة لتفشي الإصابة بأمراض
أخرى كانت اختفت من العراق منذ مدة طويلة كالجرب والكوليرا؛ إذ سُجل 40 ألفاً
و360 إصابة بهذين المرضين عام 1998م، بعد ما كانت تُعادل الصفر عام
1989م، علاوة على حدوث ارتفاع كبير في عدد المواليد المعوقين جراء نقص
الأغذية والأدوية وتأثيرات الأسلحة المحرمة التي استخدمت ضد العراق خلال
حرب الخليج.
{جريدة الخليج، العدد: (7453) }
الحق معهم
أظهرت دراسة لمعهد غالوب أن الشعوب في أنحاء العالم تشتبه في نزاهة
حكوماتها وفي مراعاتها حقوق الإنسان.
وجاء في الدراسة أن النتائج تبين أن كلمتي: (فاسدة) و (بيروقراطية) أكثر
الأوصاف استخداماً بين الناس لدى وصف حكوماتهم، وأظهر المسح الذي أجري
في أكثر من 50 بلداً في أوروبا وإفريقيا وآسيا والأميريكتين أن حوالي 41% من
المشاركين فيه يعتقدون أن حكوماتهم فاسدة، في حين يرى 40% أن حكوماتهم
بيروقراطية، ويظن أقل من 10% فقط أن حكوماتهم تتسم بالكفاءة.
{جريدة الحياة، العدد (13411) }
بعدما قلََّّ الناصر
بلغ عدد اللاجئين المسلمين الشيشانيين في أنجوشيا وحدها (175 ألف نسمة)
منتشرين بين مخيمات اللاجئين وقطارات السكك الحديدية، التي لم تستوعبهم،
فاتجه الباقون إلى حظائر الماشية، ويعيش الجميع في ظروف بالغة البؤس.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7665) }
قرن الدم
مع أن إنسان هذا القرن استطاع أن يفجر القنبلة النووية (1945م) ويسير
على سطح القمر (1969م) ويستنسخ النعجة دوللي (1998م) إلا أن المجازر التي
ارتكبها، والحروب التي شنها، والثورات التي أطلقها، جعلت من هذا العصر
خزاناً للعنف الدموي، ونزاعاً متواصلاً للمواجهات السياسية والدينية والعرقية،
ويقدر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زيغنيو بريزنسكي في كتابه (انفلات
الضوابط) رقماً مخيفاً؛ إذ يقدر عدد ضحايا حروب القرن العشرين العالمية منها
والإقليمية والداخلية بنحو 187 مليون نسمة، وهو يضيف إلى أرقام القتلى
العسكريين والمدنيين خلال الحربين العالميتين عدة ملايين فقدوا في حروب صغيرة. كما يضيف بريزنسكي إلى قائمة العنف ضحايا التصفيات الستالينية فيقدر عددها
بأكثر من 20 مليون نسمة بينهم 12 مليون ماتوا في المعتقلات النائية، أو في
عمليات التطهير خلال الثلاثينيات.
{جريدة الحياة، العدد: (13412) }
مرصد الأرقام
- تفيد أكثر الإحصاءات تفاؤلاً بأن نحو 900 مليون شخص يعانون من
الجوع، و1. 3 مليار شخص يعيشون في فقر مدقع.
{جريدة الأنباء، العدد (8408) }
- تم التوقيع بين ممثلين من وزارتي الدفاع الأمريكية والإسرائيلية على اتفاق
تبيع الولايات المتحدة بموجبه 50 طائرة من طراز (إف 16 آي) ضمن صفقة
مقدارها ملياران و 460 مليون دولار.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7603) }
- ذكرت وكالة الطاقة الأمريكية أن (إسرائيل) أصبحت القوة السادسة في
مجموعة الدول الكبرى نووياً، وتمتلك (إسرائيل) ما بين 300 و 500 كيلو جرام
من البلوتونيوم الصالح لصنع الأسلحة.
{جريدة الحياة، العدد: (13363) }
- كشف استطلاع رأي أجرته نقابة المعلمين في (إسرائيل) أن حوالي ربع
المعلمين الإسرائيليين تعرضوا للضرب، أو لشكل آخر من العنف على أيدي ...
تلاميذهم.
جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7644) }
- يفيد برنامج الأمم المتحدة للإيدز أن 22.5 مليوناً من أصل 33 مليون
مصاب بفيروس الإيدز نهاية العام 1998م في العالم هم من منطقة إفريقيا جنوب
الصحراء. ومنذ ظهور هذا المرض في الثمانينيات أصيب 34 مليون شخص
بالفيروس في إفريقيا جنوب الصحراء وتوفي 11.5 مليوناً منهم من جراء هذه
الإصابة، وتضم هذه القارة 68% من إيجابيي المصل في العالم رغم أن سكانها
يشكلون 10% فقط من مجموع سكان العالم.
جريدة الحياة، العدد: (13365) }
- احتفظت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوضعها أكبر سوق سلاح
في العالم العام الماضي بينما زاد الإنفاق العسكري 7% إلى 61 مليار دولار،
وعززت الولايات المتحدة مكانتها باعتبارها مورداً للأسلحة في العالم وسلمت
شحنات أسلحة ومعدات عسكرية في عام 1998م قيمتها 26. 5 مليار دولار وهو
ما يمثل حصة نسبتها 49% من السوق.
{جريدة الأنباء، العدد: (8418) }(146/102)
متابعات
إشكالية التعامل مع الآخر
في فكر ابن تيمية
عبد الله محمد الأمين النعيم
من المصلحين من لا يستطيع الخروج عن إطار عصره، فيركن إلى التوافق
الاجتماعي بدل تغيير ما يمكن تغييره من الأفكار والعادات؛ لكن القليل من رجال
الإصلاح من تكون له الشجاعة على تحدي العقبات التي تعترضه، فيخرج عن
الإلف والعادة ومسايرة الرأي العام، فينتقد الأسس الفكرية الفاسدة والمسلَّمات
المتواضع عليها، ويكشف العيوب الكامنة في تاريخ الأمة، ويبين المنهج الصحيح
في الإصلاح، ولعل من هؤلاء القليل تقي الدين أحمد بن تيمية الذي عاش في
النصف الثاني من القرن السابع والثلث الأول من القرن الثامن الهجري أي في
عصر ابتُلي فيه المسلمون بفتن من الداخل والخارج لم يسبق أن ابتلوا بمثلها [1] .
مدخل:
يأخذ الآخر وهو غير المسلم مساحة واسعة في القرآن والسنة النبوية والفكر
الإسلامي عموماً؛ وإذا كان الوحي بشقيه قرآناً وسنة قد حدد الأسس والمعايير
للتعامل مع الآخر إلا أن كثيراً من الدراسات الإسلامية قد انحرفت عن هذه الأصول
الفكرية، ولقد لعبت عوامل عديدة لا محل لذكرها هنا دورها في إحداث هذا
الانحراف الفكري نحو الضالين والمغضوب عليهم. وقد تنبأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم بحدوث هذه الانحرافات في العلاقة بين المسلمين والآخرين؛ حيث
قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) [2] . وقال في حديث آخر: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبراً بشبر
وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومَنِ الناس إلا
أولئك؟) [3] ، غير أن الأمة لا تتردى بمجموعها إلى هذه الهاوية؛ فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة [4] ، وأخبر كذلك أن هذه الأمة لا تجتمع على الضلالة [5] .
وابن تيمية الذي عاش في عصر شبيه بعصرنا الحالي حاول في كتابه:
(اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) تأصيل العلاقة مع الآخر مستنداً
إلى الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وقد استطاع إخراج دراسة شرعية على
الرغم من أن العصر الذي عاش فيه كان عصر استضعاف للمسلمين؛ إذ كانت
الغلبة في الديار الإسلامية للصليبيين والتتار ومتى ما كان هناك استضعاف وذل
للمسلمين فثمة بدع وضلالات ومذاهب باطلة [6] .
فإذا كان ابن تيمية استطاع إخراج كتاب اقتضاء الصراط وكتابه الآخر:
(الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) في عصر هيمن فيه الآخر وعلا في أرض
المسلمين، وإذا كان ذلك العصر شبيه بعصرنا فإن هذا يدق إسفيناً في فكر
الاستتباع للآخر؛ حيث يجري تسويق الآخر في ديار المسلمين حتى يمكن التعايش
معه في ظل النظام العالمي الجديد.
في هذه الدراسة سأحاول تقديم خلاصة لأفكار ابن تيمية في التعامل مع الآخر
مع ملاحظة الآتي:
أولاً: إن عصر ابن تيمية وإن كان شبيهاً بالعصر الحالي إلا أن هناك
اعتبارات سياسية وعسكرية وغيرها من الاعتبارات يجب وضعها في الاعتبار؛
فلا يمكن معايرة ذلك العصر بعصرنا تمام المعايرة، وإن وجدت المشابهة في
الظروف العامة.
ثانياً: إن دراسة ابن تيمية وإن كانت دراسة أصولية استندت إلى الوحي
وفكر السلف الصالح إلا أنه استصحب معه في دراسته واقعة المعاش مما يجعل
السقف المعرفي لدراسته في بعض جوانبها محدوداً بظروف ذلك العصر وملابساته، ويتضح ذلك جلياً في اهتمام ابن تيمية بالآخر الموجود داخل ديار المسلمين؛ دون
أن يضع كثير اعتبار للآخر الموجود خارج ديار المسلمين وهو الأخطر على
المسلمين؛ لأن الجهل أو عدم الفهم وهو الذي يولد العداوة بين المسلمين تقل
خطورته إلى حد مَّا بحكم معايشته للمسلمين؛ وهذه المعايشة قد توجِد نوعاً من الألفة.
ثالثاً: إن ابن تيمية وإن اهتم بالآخر في ديار المسلمين إلا أن دراسته جاءت
شاملة لجميع الضالين؛ فلم تقتصر على الكتابيين؛ بحيث تدرج دراسته ضمن
الدراسات المتعلقة بأهل الذمة وأحكامهم، وهو وإن تطرق في دراسته لهذه الجوانب
إلا أنه توسع؛ بحيث وضع الأسس والمعايير للتعامل مع الآخر، وأشار إلى أمور
أهل الكتاب والأعاجم التي ابتُليت بها الأمة وذلك ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف
عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم على حد قوله. ويذكر بأنه عدد
أشياء من منكرات دينهم لما رأى طوائف من المسلمين قد ابتلي بها وجهل كثيراً
منهم دين النصارى المحرف [7] .
هذه الملاحظات لا بد منها لكي توضع في الحسبان؛ فلا شك أن هناك من يود
اقتفاء أثر ابن تيمية في معالجاته الفكرية، وهناك من يود الابتعاد عن معالجاته ومما
لا شك فيه أن هناك عوامل عديدة تؤثر سلباً أو إيجاباً على المفكر.
كيف عالج شيخ الإسلام ابن تيمية إشكالية التعامل مع الآخر؟
إن ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم عمل على تشخيص بعض
أنواع البدع والشركيات التي ابتليت بها الأمة، وأوضح أثر التشبه بالآخر على
الأمة، ووضع قواعد أساسية في التشبه، وأوضح فئات الناس التي نهينا عن
التشبه بها والنهي عن سماتهم وعن الأعياد والاحتفالات البدعية والرطانة ومفهوم
البدعة وزيارة القبور ونحو ذلك، ونبه المؤلف على أصلين هما:
الأصل الأول: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم القاطع الأكيد بأن أمته
ستتبع سنن الأمم التي سبقتها من اليهود والنصارى وفارس والروم شبراً بشبر
وذراعاً بذراع.
الأصل الثاني: إخباره صلى الله عليه وسلم القاطع والأكيد أيضاً بأن الله
تعالى تكفل بحفظ الدين وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى تقوم
الساعة، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة [8] .
في بيان أسباب مخالفة المغضوب عليهم:
إن ابن تيمية وهو بصدد بيان دواعي مخالفة المغضوب عليهم والضالين
يوضح بأن الانحراف نحو الكفار قد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون
معصية، وقد يكون خطأ [9] ، ويؤكد بأن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في
القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال أو أفعال قد تكون
عبادات وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح.. وهذه الأمور الباطنة
والظاهرة بينها ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب
أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً،
وقد شرع الله لنبينا من الأعمال والأحوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر؛ وإن لم تظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة
لأمور منها [10] :
1 - أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين،
يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا الأمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب
أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ... إلخ.
2 - أن المخالفة في الهدي الظاهر تؤدي إلى مباينة ومفارقة توجب الانقطاع
عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى والرضوان،
وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان
القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً
وظاهراً أتم، وكان بعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
3 - أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع
التميُّز ظاهراً بين المهديين المرضيين والمغضوب عليهم والضالين؛ إلى غير ذلك
من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي إلا مباحاً محضاً لو تجرد من
مشابهتهم. فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبة من شعب الكفر؛ فموافقتهم
فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي التفطن له.
ويؤكد ابن تيمية بأن الأمر بموافقة قوم أو مخالفتهم قد يكون لأن موافقتهم
مصلحة، وكذلك قصد مخالفتهم أو مخالفتهم نفسها مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل
يتضمن مصلحة أصولية للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به
الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة أو المخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو
المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بمتابعتنا نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين
في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث من محبتهم
وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، ويدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى؛ إلى غير ذلك من
الفوائد. كذلك قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر
بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو
يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه. لكن عبر عن ذلك بالموافقة
والمخالفة؛ على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلاً على
المصلحة [11] ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني؛ أي: أنا من نوعه وهو من نوعي؛ لأن الشخصين لا يتَّحِدان إلا بالنوع [12] .
ويذهب ابن تيمية إلى القول بأن مشاركة الكفار في الظاهر ذريعة إلى الموالاة
إليهم وليست فيها مصلحة كما في المباينة والمقاطعة؛ حيث يقول: (والموالاة وإن
كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع من الموالاة
والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوعٍ ما من
المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا السبب كان السلف يستدلون
بهذه الآيات (المائدة 51، 55، 56. المجادلة: 14، 22. الأنفال: 72، 75)
على ترك الاستعانة بهم في الولايات [13] .
وإذا كانت مخالفة المغضوب عليهم والضالين أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي
أن يكون الفعل نفسه الذي خولفوا فيه ينطوي على مصلحة مقصودة مع قطع النظر
عن مخالفتهم؛ فإن هنا شيئين [14] :
أحدهما: أن المخالفة ذاتها لهم في الهدي مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛
لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم.
وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به
المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض
الأبدان.
والثاني: أن ما هم عليه نفسه من الهدى والخلق قد يكون مضراً أو منقصاً،
فيُنهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا
وهو: إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة
ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله؛ فهو يقبل الزيادة والنقص؛
فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من
أمورهم كاملاً قط، فإن المخالفة لهم تنطوي على منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا،
حتى فيما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم؛ إذ قد يكون مضراً بأمر الآخرة أو
بما هو أهم منه من أمر الدنيا؛ فالمخالفة فيه صلاح لنا.
وبالجملة: فالكفر بمنزلة مرض القلب، ومتى كان القلب مريضاً لم يصح
شيء من الأعضاء صحة مطلقة؛ وإنما الصلاح أن لا تشبه مريض القلب في شيء
من أموره؛ وفساد الأصل لا بد أن يؤثر في القلب، وإن جميع أعمال الكافر فيها
خلل يمنعها أن تتم بها منفعة، ولو فرض صلاح شيء من أموره صلاحاً تاماً
لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن أموره إما فاسدة وإما ناقصة.. فالحمد لله على
نعمة الإسلام؛ فقد تبين أن مخالفتهم نفسها أمر مقصود للشارع في الجملة.
الدعوة إلى ترك إكرامهم:
بعد أن أكد ابن تيمية على عدم التشبه بهم دعا إلى عدم إكرام أصحاب الجحيم
وإلى إلزامهم الصَّغار الذي شرعه الله تعالى (فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون
معه وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله من ولاة الأمور على منعهم من أن يُظهروا
في دار الإسلام شيئاً مما يختصون به مبالغة في أن لا يُظهروا في دار الإسلام
خصائص المشركين؛ فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها؟ ومن المعلوم أن
تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها نوع من إكرامهم؛ فإنهم يفرحون بذلك
ويسرون به، كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل) [15] . ولقد منع عمر رضي
الله عنه استعمال كافر أو ائتمانه على أمر الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله [16] .
النهي عن الرطانة:
ومن القضايا التي نعايشها إشكالية اللغة، وموقف ابن تيمية هو أن اعتياد
اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً؛ فإن اللغة العربية نفسها من
الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم
اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [17] .
واستدل ابن تيمية بأحاديث عمر رضي الله عنه إذ نهى عن رطانة الأعاجم
وقال: إنها خب، أي أنها لغة خديعة ونفاق أو أن اعتيادها يورث النفاق، وحديثه
الآخر: (لا تَعَلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم كنائسهم؛ فإن السخط ينزل
عليهم) [18] . ولهذا النهي شواهد من السنة النبوية: (من يحسن أن يتكلم
بالعربية فلا يتكلم بالعجمية؛ فإنه يورث النفاق) [19] . لهذا كانت الكراهية
للحديث بغير العربية.
المخالفة في الأعياد:
في مسألة الأعياد يذكر ابن تيمية الآتي:
أولاً: (إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك [لكل أمة جعلنا
منسكا هم ناسكوه] [الحج: 67] فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم
في سائر المناهج؛ فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في
بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به
الشرائع ومن أظهر ما لها من الشرائع؛ فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع
الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تُنهي إلى الكفر في الجملة
بشروطه. أما العيد وتوابعه فإنه من الدين المحرَّف؛ فالموافقة فيه موافقة فيما
يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه.
ثانياً: إن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله؛ لأنه: إما محدَث مبتدَع، وإما
منسوخ، وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت
المقدس، هذا إذا كان المفعول مما يتدين به.
ثالثاً: إنه إذا سوّغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر
الشيء دخل فيه عوام الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً حتى
يضاهى بعيد الله بل قد يزاد عليه حتى يكاد يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر
كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام مثل عيد القيامة (شم النسيم) .
رابعاً: إن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق
ودنياهم؛ ولهذا جاءت بها كل شريعة.
خامساً: إن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من
الباطل خصوصاً إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصَّغار فرأوا المسلمين قد
صاروا فرعاً لهم في خصائص دينهم؛ فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح
صدورهم واستذلال الضعفاء.
سادساً: إن ما يفعلونه في عيدهم منه ما هو كفر، وما هو حرام، وما هو
مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة وجنس الموافقة وهنا يلبس على العامة دينهم حتى
لا يميزوا بين المعروف والمنكر.
سابعاً: إن الله تعالى جبل بني آدم وسائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين
المتشابهين؛ وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى
يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. فالمشابهة والمشاكلة
في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة
والتدريج الخفي؛ فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع مَّا من اكتساب
أخلاقهم التي هي ملعونة؛ وكل ما كان سبباً لهذا الفساد فإن الشارع يحرمه.
ثامناً: إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما
أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر؛ وهذا أمر يشهد به الحس
والتجربة؛ والمحبة والموالاة لهم تنافيان الإيمان.
الخاتمة:
لقد جرى ويجري تسويق الآخر حتى أمكن تقبله والتعايش معه بدون حرج
مما شكل خطورة على الدين الإسلامي ذاته، ومما يؤسف له أن يشارك علماء
السوء في تحسين الوجه القبيح للآخر لا سيما اليهود والنصارى مستدلين بآيات
منسوخة أو أحاديث ضعيفة لإضفاء الشرعية الدينية على آرائهم وفتاويهم، ولقد
تخوَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته من هؤلاء الأئمة المضلين [20] .
إن المسلمين وهم يعايشون مرحلة تداعت فيها الأمم عليهم تداعي الأكلة على
قصعتها لا سبيل أمامهم للخروج من هذه الحالة إلا من خلال:
1 - التمسك بالهوية الإسلامية وعدم الذوبان في الآخر؛ مع ملاحظة أن
التمسك بالهوية لا يعني الانكماش والانغلاق على الذات؛ لأننا أمة الدعوة الخاتمة
ومطالبون بالتعامل مع الآخر لا من أجل أن نكون جزءاً منه؛ وإنما من أجل
استنقاذه وإخراجه من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام. وإن ثمة ممارسات خاطئة
أدت إلى تعويق الدعوة الإسلامية كانت وليدة تدين سلبي؛ إذ آثر بعض المتدينين
الابتعاد عن الاختلاط بالضالين بحجة أن الاختلاط بهم سيؤثر سلباً على تدينهم،
وتناسى هؤلاء الناس أنهم سيخالطون هؤلاء الضالين وهم مستعلون بالإيمان الذي
يقي صاحبه من العودة إلى الكفر بعد أن استنقذه الله منه.
2 - التمسك بالمصطلحات الشرعية في التمييز بين الناس حسب عقيدتهم؛
فهناك المؤمن، والكافر، والمنافق، والفاسق.. إلخ فهذه المصطلحات من شأنها
ترسيخ الأسس والمعايير الإسلامية في العقل المسلم، فلا يتعامل مع الآخر إلا من
خلال التمايز العقدي. ولقد كان من شأن تجاهل هذه المصطلحات الشرعية حدوث
اضطراب في التعامل مع الآخر. وهنا يجدر التنبيه إلى أن العالم الغربي الصليبي
يستعمل مصطلح (المسلمين) في أي صراع يخوضه ضد أي دولة إسلامية، وبدا
هذا واضحاً في حرب البوسنة والهرسك والشيشان وغيرها مما أدى إلى تكاتف
الضالين والمغضوب عليهم. هذا في الوقت الذي يستخدمون ونحن من ورائهم
المصطلحات القومية لمناصريهم حتى يوهموا الناس بأن هذه الصراعات ليست
دينية؛ فالعداء إذن في البلقان بين الصرب والمسلمين وفي الشيشان بين الروس
والمسلمين وهلم جرّاً؛ فلنتفكر.
3 - الاهتمام باللغات الأجنبية ومقارنة الأديان في كليات الدعوة وأصول
الدين؛ فلا يمكن أن نخاطب الآخر بلغة لا يفهمها مع الجهل بعقيدته. فإذا كان
النهي قد ورد بعدم استعمال اللغة الأجنبية فإن النهي المقصود به التحدث بهذه
اللغات لغير ما ضرورة؛ لكن متى ما كانت هناك ضرورة فإن المحظور ينتفي.
وإن عالمية الدعوة الإسلامية تستدعي فهم اللغات الأجنبية.
4 - الحذر من الأئمة المضلين الذين يدعون للحوار بين الأديان متناسين أن
الدين عند الله هو الإسلام.
5 - الاستفادة من الاختلافات في صفوف الآخر؛ إذ إنهم شيع وأحزاب؛
فهذا قد يحقق الكثير للمسلمين.
6 - عدم الترويج في وسائل الإعلام لعقائدهم الباطلة وأعيادهم الفاسدة أو
التعطل عن العمل فيها ومشاركتهم طقوسها؛ إذ إن هذا من المفاسد التي نهت عنها
الشريعة.
[قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا
نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا
بأنا مسلمون] [آل عمران: 64] .
ندعو الله سبحانه أن يحقق للأمة خيريتها وشهادتها على الناس؛ إنه نعم
المولى ونعم النصير.
__________
(1) إبراهيم عقيلي: تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، أمريكا، ط1 1994م.
(2) حديث صحيح أورده البخاري في كتاب الاعتصام، ومسلم في كتاب العلم، ومسند أحمد، ج4، وجامع الأصول لابن الأيثر، ج10.
(3) أورده البخاري في كتاب الاعتصام.
(4) أورده البخاري في المناقب ومسلم في الإمارة.
(5) أورده الترمذي ف كتاب الفتن.
(6) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، م1، ص15.
(7) المصدر السابق، ص70، 476.
(8) المصدر السابق، ص68 وما بعدها.
(9) المصدر السابق، ص70.
(10) المصدر السابق، ص 7981.
(11) المصدر السابق، 8283.
(12) المصدر السابق، ص152.
(13) المصدر السابق، ص171، 173.
(14) المصدر السابق، ص325.
(15) المصدر السابق، ص322، وراجع الشروط العمرية على أهل الذمة في كتاب ابن القيم: أحكام أهل الذمة.
(16) ابن تيمية: المصدر السابق، ص 470.
(17) المصدر السابق، ص349، 466، انظر المدونة براوية سحنون، ج1، مطبعة السعادة بمصر، ص63.
(18) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج4 مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ص 87، فيه عمر بن هارون وهو متروك.
(19) ابن تيمية المصدر السابق، ص471489، وراجع مسألة الأعياد بتوسع في المجلد الثاني، ص 513 وما بعدها.
(20) انظر الحديث في سنن أبي داود: كتاب الفتن والملاحم.(146/106)
قضايا ثقافية
موقف العصرانيين من الفقه وأصوله
محمد حامد الناصر
بعد أن شكك العصرانيون بحجِّية السنة النبوية راحوا يهاجمون الفقه والفقهاء، ويدعون إلى تطوير أصول الفقه (وخاصة في المعاملات) زاعمين ظاهراً فتح
باب الاجتهاد، ولكن ليس هو الاجتهاد كما عرفه الفقهاء استنباطاً من النصوص،
وكشفاً وإظهاراً لحكم الله، وإنما هو عندهم اجتهاد لتخطي النص، بل وتخطي سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكتَّاب المدرسة العصرانية أقوال عحيبة حول تجديد أصول الفقه مآلها
الفصل بين الدين والدولة، ومحاولة تمييع العلوم المعيارية للوصول إلى الفوضى،
والتمهيد لتطبيق القوانين الوضعية الغربية تحت مظلة الإسلام.
يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد: (والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ليس
اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول) [1] .
ودعا الدكتور حسن الترابي إلى تطوير أصول الفقه، للوفاء بحاجات
المسلمين المعاصرة فقال: (إن علم الأصول التقليدي لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا
المعاصرة حق الوفاء؛ لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها) [2] .
ويقول موضحاً فكرته: (إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة
العامة، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة العامة تدور
بعيداً عنهم، والنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية، وإن
العلم النقلي الذي كان متاحاً في تلك الفترة كان محدوداً مع عسر في وسائل الاطلاع
والبحث والنشر، بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار
عظيمة) [3] .
وإنها لدعوى غريبة أن يزعم الدكتور الترابي أن العلم النقلي من نصوص
الكتاب والسنة كان محدوداً في زمن نشأة الفقه وازدهاره!
وما البديل لدى الدكتور الترابي؟ !
البديل عنده أن يشارك الشعب في الاجتهاد على طريقة دعاة الديمقراطية
الغربية! !
يقول: (الاجتهاد مثل الجهاد، وينبغي أن يكون منه لكل مسلم نصيب) .
ويضيف: (واتسم فقهنا التقليدي بأنه فقه لا شعبي، وحق الفقه في الإسلام
أن يكون فقهاً شعبياً) [4] .
ويتابع الدكتور محمد عمارة زملاءه في حملتهم على الفقه والفقهاء ودعوتهم
إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لكل مدعٍ وعامي لا علم له بالكتاب والسنة.
ويقول: (إن الاجتهاد يجب أن يخرج وأن نخرج به من ذلك الإطار الضيق الذي
عرفه تراثنا الفقهي، والفقهاء ليسوا وحدهم المطالَبين بالاجتهاد؛ بل إن المطالَب به
هم علماء الأمة وأهل الخبرة العالية فيها، ومن كل المجالات والتخصصات؛ لأن
ميدانه الحقيقي هو أمور الدنيا ونظم معيشتها، وليس إلحاق فروع الدين
بأصولها ... ) [5] .
(فالمجتهد عند عمارة يمكن أن يكون بلا علم بالقرآن والسنة واللغة
والأصول؛ لأن مجال المجتهد هو) أمور الدنيا (ولا يشترط لها كل هذا من العلوم
الشرعية، وإنما يشترط لها أن يكون المرء (مستنيراً عقلانياً) تقدمياً ثورياً
حضارياً؛ فمن جمع هذه الصفات فهو شيخ الإسلام حقاً؛ وقد بنى كلامه على باطل، هو التفريق المزعوم بين الدين والدنيا، وما بُني على باطل فهو باطل) [6] .
ومن غرائب الاجتهاد العصراني أن بعضهم دعا إلى صهر المذاهب الفقهية
في بوتقة واحدة، وجعلها مستمَداً لا ينضب معينه، وذلك بالتسليم بكل ما قالت به
المدارس الفقهية على اختلافها وتناكرها، بغض النظر عن أدلتها، ثم اختزانها في
مدونة منسقة الأبواب كمجموعة (جوستينان) وأعْنِي كل ما أعطت المدارس:
الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية، وذلك بجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما
يجدُّ ويحدث) [7] .
(وهذه الدعوة التي تطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد
ليفتح الباب على مصراعيه للقادرين وغير القادرين، ولأصحاب الورع وأصحاب
الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدنى عذر.. وتبيح الربا إلا ربا
النسيئة أو أصنافاً معينة وظهرت آراء تحظر تعدد الزوجات وتحذر من الطلاق؛
وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية، يهدف إلى
مطابقة الحضارة الغربية) [8] .
والنتيجة التي يود هؤلاء أن يصلوا إليها من تطوير الشريعة هو تحكيم
القوانين الوضعية، وفي ذلك تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام، الذين زعموا أن الفقه
الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني. وردد هذه المقولة - مقولة المستشرق اليهودي
(جولد زيهر) - الدكتور محمد فتحي عثمان نقلاً عن أستاذه السنهوري الذي يقول: ...
(الفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاته
القانون المدني، وقد صنعوه فقهاً صحيحاً؛ فالصياغة الفقهية، وأساليب التفكير
القانوني واضحة فيه وظاهرة) [9] .
والغاية من كلام السنهوري، وإقرار تلميذه له أن يخضع الفقه الإسلامي
لإشراف القانون الوضعي، ويكيِّف نفسه حسبما يقتضيه ذلك الخضوع.
(وغني عن القول أن كل أصل من الأصول الفقهية ثبتت حجيته بالكتاب
والسنة، وقد بيَّن أهل العلم أدلة كلٍ من: الإجماع والقياس والمصلحة وحجية
ذلك.. فهي ليست مبتدعة كما يزعم هؤلاء؛ بل هي منهج الاستنباط الشرعي الذي هو من الدين) [10] .
إن دعوة العصرانيين هذه ما هي إلا علمانية جديدة تود تسويغ تحكيم القوانين
الوضعية في ديار المسلمين، أو للتهوين من شأنها، ومن ثَمَّ مساواتها بأحكام شريعة
السماء.
وقد خرج هؤلاء علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر
بانحرافاته، وإليك أخي القارئ نماذج من شذوذات العصرانيين في مسائل الفقه ... المختلفة.
شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه المختلفة:
موقفهم من الحدود:
حاول العصرانيون تسويغ رفضهم لإقامة الحدود الشرعية بحجج واهية
كالشفقة على المجرمين، وأن قطع اليد أو الرجم ما هي إلا قسوة ووحشية لا تناسب
العصر الحاضر؟ !
فالشيخ عبد الله العلايلي مثلاً: يرى أن إقامة الحدود ينبغي أن لا تتم إلا في
حال الإصرار، أي: المعاودة تكراراً ومراراً؛ إذ إن آخر الدواء الكي، وبلغ من
استهزائه بالحدود الشرعية أن قال: (إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي
جعل القصاص صيانة للحياة، وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة
مشوهين: هذا مقطوع اليد، والآخر مقطوع الرجل، أو مفقوء العين، ومصلوم
الأذن، أو مجدوع الأنف) .
أما الرجم: فيقول فيه بمذهب الخوارج: (لا رجم في الإسلام كما هو مذهب
الخوارج عامة) [11] .
والزاني والزانية - في عرف هؤلاء - لا يقام عليهما الحد إلا أن يكونا
معروفيْن بالزنا، وكان من عادتهما وخلقهما؛ فهما بذلك يستحقان الجلد [12] .
ولحسين أحمد أمين فتوى عجيبة في حد السرقة عندما يقول: (لقد كان
الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة
وسلاح في مصافِّ قتله، لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة جازمة
رادعة لجريمة السرقة في مثل هذا المجتمع) [13] .
إباحة الربا في البنوك:
وقد بدأ ذلك الاجتهاد الشيخ محمد عبده، وتابعه في ذلك تلميذه الشيخ محمد
رشيد رضا، وكانت الحجة هي الحفاظ على اقتصاد البلاد. والربا المحرم عند
هؤلاء هو الربح المركب، أي الذي يكون أضعافاً مضاعفة [14] .
وممن قال بذلك من المعاصرين: الشيخ عبد الله العلايلي، وهو يكرر ما قاله
أسلافه، يقول: (ما دام المصرف لا يزيد على أنه مقر سمسرة بتقاسم المردود
مشاركةً مع من أسلم إليه مالاً، مفوضاً إياه ليعمل به حيث قضت خبرته، ولا قائل
بحرمة عمولة السمسار! ! [15] .
فحرمة الربا واضحة، ونصوصه قطعية في الكتاب والسنة، وتحريم السرقة
في الكتاب والسنة، وطُبِّق الرجم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد
أصحابه رضي الله عنهم ولذلك فمن فضول القول أن نناقش الفتاوى السابقة؛ لأنها
واضحة الضلال والانحراف، وخارجة عن إجماع فقهاء الأمة خلال عصورها
المفضلة.
يقول الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله في هذه الفتاوى المنحرفة: (أما النظام
الوضعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات
والأرض كدعوى تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأن الرجم
والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فِعْلها بالإنسان ... إلخ) [16] .
ويكفي أن نعلم أن الأمم عندما ألغت القصاص شاعت فيها الجرائم، وضجت
المحاكم وابتليت المجتمعات، فشاعت الفوضى ونضب معين الأمن.
موقفهم من قضية المرأة:
اهتم العصرانيون بقضية ما يسمى بتحرير المرأة وإعطائها حقوقاً سياسية
كالمرأة الغربية، ودعوا إلى الثورة على الحجاب وتعدد الزوجات وإباحة الطلاق؛
لقد أكمل هؤلاء المؤامرة على المرأة المسلمة التي قادتها الحركة النسائية بعد قاسم
أمين وأعوانه.
لقد اعتبر العصرانيون مسألة تعدد الزوجات التي شرعها الله من سمات عصر
الإقطاع. يقول محمد عمارة: (إن تعدد الزوجات، وتتابع الزواج واتخاذ السراري
والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية) [17] .
ويرى هؤلاء أن الحجاب الشرعي قيد يجب التخلص منه، ثم راحوا يسوِّغون
الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها وحصنها الأمين.
فالدكتور محمد عمارة يرفض أن تعود المرأة مكبلة بحجابها ويؤكد (أن جذور
هذه القضية ترتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر مما هي مرتبطة
بالدين) [18] .
وهذا حسين أحمد أمين يقرر أن الحجاب (وهمٌ صنعه الفرس والأتراك،
وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه) [19] .
والدكتور الترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط.
والاختلاط مباح في عرف العصرانيين؛ إذ (ليست الحياة العامة مسرحاً للرجال
وحدهم، ولا عزل بين الرجال والنساء في مجال جامع) .
(وتجوز المصافحة العفوية التي يجري بها العرف في جو طاهر وذلك عند
السلام كما يزعم) [20] .
وفي ذلك مخالفة لأحاديث صحيحة وصريحة؛ فقد جاء في الحديث الشريف
عن أميمة بنت رقيقة قالت: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه،
فقال لنا: (فيما استطعتن وأطعتن؛ إني لا أصافح النساء) [21] .
ويرى الترابي كذلك أن للمرأة أن تسقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدمهم
وتأكل معهم) [22] .
ويدعو الدكتور محمد فتحي عثمان إلى ما يسميه الاختلاط المأمون؛ لأن
المجتمع الذي يلتقي فيه الرجال والنساء في ظروف طبيعية هادئة، لن يغدو مثلُ
هذا اللقاء قارعة تثير الأعصاب؛ إذ سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثتها،
وستألف المرأة بدورها الرجل، وتتجمع لدى الجنسين خبرات وحصانات
وتجارب [23] .
وواقع المرأة المزري في ديار الغرب مما ينقض هذا الرأي.
ودعا العصرانيون إلى مشاركة المرأة في السياسة والقانون والتجارة
والاقتصاد بلا قيود، ويرون جواز مشاركتها في الانتخابات والمجالس النيابية؛ بل
ويرى بعضهم ولاية المرأة للقضاء، وحتى الولاية العامة جائزة عند العصرانيين
بإطلاق [24] .
إلغاء أحكام أهل الذمة:
لقد أكثر العصرانيون من الحديث حول حقوق أهل الذمة وزعموا أن أحكام
أهل الذمة كانت لظروف خلت وأن تطور العصر يرفضها، وممن تصدى لهذه
المسألة وخصّص لها كتاباً: فهمي هويدي بعنوان: (مواطنون لا ذميون) نقتطف
منه بعض آرائه؛ حيث يقول: (أليس غريباً أن يجيز الفقهاء أن يفرض المسلمون
الحرب دفاعاً عن أهل ذمتهم، ثم يحجب البعض عن هؤلاء حق التصويت في
انتخابات مجلس الشورى مثلاً؟) ، ثم يقول: (أما تعبير أهل الذمة فلا نرى وجها
للالتزام به إزاء متغيرات حدثت. وإذا كان التعبير قد استخدم في الأحاديث النبوية
فإن استخدامه كان من قبيل الوصف، وليس التعريف، ويبقى هذا الوصف تاريخياً
لا يشترط الإصرار عليه دائماً) [25] فالكاتب يحاول إلغاء الأحكام بلا دليل، وكأن
الاجتهاد في الإسلام تحوَّل إلى لعب أطفال وأوهام مبتدعة، وأمزجة منحرفة.
وفي فصل (الجزية التي كانت) يقول: (ومن غرائب ما قيل في هذا الصدد
تعريف ابن القيم للجزية بأنها هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً
وصغاراً، وأن هذا يتنافى مع روح الإسلام، ودعوته للمسامحة بين الناس جميعاً:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [26] .
لقد حكمت الشريعة الإسلامية بضعة عشر قرناً من عمرها، لم يعرف في
التاريخ عدلاً وإنصافاً ورحمة بأقليات دينية كما عرفت في تلك القرون تحت مظلة
الشريعة، بل كانت الطوائف تفر من بطش أبناء دينها لتنعم بالأمن في ظل عدل
الإسلام وإنصاف المسلمين، إلا أنها التبعية والتزلف الذي تناسى أصحابه أحقاد
اليهود والنصارى التي ما زالت والغة في دماء المسلمين.
ولكن: يا ليت قومي يعلمون!
حقيقة العصرانية: علمانية جديدة:
لاحظنا فيما سبق من حلقات أن العصرانيين يلحُّون على تطوير الشريعة
محاولين التسلل نحو تحكيم القوانين الوضعية (وخاصة في قضايا المعاملات
وسياسة الحكم، وشؤون المجتمع) .
وزعموا أن القوانين الوضعية لا تخالف الشريعة الإسلامية، كما دعوا إلى
التوفيق بين الشريعة وتلك القوانين، أي أنهم دعوا إلى الفصل بين الدين والدولة،
وهذه هي العلمانية بأجلى مظاهرها.
فالعلمانية مصطلح غربي يعني إقامة الحياة على غير الدين على مستوى الفرد
والأمة، وقد ساد هذا المذهب أوروبا رد فعلٍ على تسلط الكنيسة ومبادئها المحرَّفة
إثر صراع دام بين الكنيسة والعلم.
والعلمانية فكرة مستوردة بعيدة عن مناهجنا وتراثنا وهي تعني بداهة: الحكم
بغير ما أنزل الله، وهذا هو معنى قيام الحياة على غير الدين، وهي نظام جاهلي
بعيد عن دائرة الإسلام، قال تعالى: [من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون] [المائدة: 44] .
وقد سلك العصرانيون لتحقيق هدفهم هذا سبلاً متعددة منها:
1 - محاولاتهم الجادة لتنحية الشريعة:
لقد هاجم العصرانيون الفقه والفقهاء، وشككوا في حجية السنة النبوية،
واتفقوا باسم الاستنارة على ضرورة تجديد الإسلام ذاته، بمعنى تعديل أحكامه
وتشريعاته أو اقتلاعها من الجذور.
فالدكتور محمد أحمد خلف الله: (يرى ضرورة انعتاق الأحكام من إسار
الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، وأن خروج المعاملات من نطاق الشرع
إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق، لم يكن لهم بها عهد من
قبل) [27] .
(وهو يعجب من الجامدين الذين يتمسكون بتلك المعايير البالية لمجرد أنها
وردت في القرآن والسنة) [28] .
ويعتبر الدكتور محمد عمارة أن الشريعة ما عادت تلائم قضايا العصر فيقول:
(إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما يقرره نبي
لعصره) [29] .
ويدعو كذلك إلى مدنيَّة السلطة، وجعل حق التشريع في يد جمهور الأمة
عندما يقول: (فأصحاب السلطة الدينية قد احتقروا جمهور الأمة عندما سلبوها حقها
في التشريع وسلطاتها في الحكم) على حين قرر القائلون بمدنيَّة السلطة (أن الثقة
كل الثقة بمجموع الأمة؛ بل جعلوها معصومة من الخطأ والضلال) [30] .
أما الدكتور أحمد كمال أبو المجد (فهو يتعجب ويتأفف من هؤلاء المسرفين
الذين يرون ضرورة إسقاط القوانين الوضعية، ومن ثم يدعو إلى زلزلة قواعد
الشريعة؛ حيث لا يُقتصر الاجتهاد على الفروع فحسب، بل والأصول
أيضاً) [31] .
إن الأقوال السابقة تدعو صراحة إلى إسقاط الأحكام الشرعية. والشريعة
الإلهية هي حكم الله، والقانون الوضعي حكم جاهلي كله سفه ونقص وعجز
وقصور.
والشريعة الإلهية فصّلها الله الذي خلق الإنسان، وهو أعلم به؛ فهي ثابتة
باقية إلى يوم القيامة، أما القانون الوضعي فهو صناعة بشرية من أناس يتصفون
بالعجز والنقص والتحريف، وتتحكم فيهم الشهوات [32] .
إلا أنها التبعية عند العصرانيين الجدد الذين يرون التقدم في القوانين الأجنبية
منذ أقدم العصور، يقول محمد فتحي عثمان: (وعلينا ألا نتنكر لأنظمة مرت
بمراحل تقدمية كبرى في الفكر والتطبيق، قبل أن نتطور بثروتنا الفقهية التي
تكدس عليها غبار القرون من التعطيل والتجميد) [33] .
ولنا أن نتساءل عن هذه المراحل التقدمية؟ ! !
يقرر البحث العلمي أن مراحل القانون الوضعي تبدأ بقانون (حمورابي)
وقانون (مانو) وقانون (أثينا) والقانون (الروماني) والقانون (الكنسي الأوروبي) مأخوذ من القانون الروماني ومما شرعه الرهبان، ثم قانون نابليون، وهذه هي المراحل التقدمية الكبرى في الفكر والتطبيق عند المؤلف [34] .
يقول تعالى: [أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم ...
يوقنون] [المائدة: 50] .
2 - تأييد سقوط الخلافة:
لقد تكالب الأعداء على إسقاط الخلافة، وكان من أهم شروط اتفاقية (سايكس
بيكو) 1915م، أن اشترط الحلفاء (إلغاء نظام الخلافة وطرد السلطان العثماني
خارج الحدود، ومصادرة أمواله، ثم إعلان علمانية الدولة) [35] .
وهاجم العصرانيون نظام الخلافة متبعين في ذلك كبيرهم الشيخ علي عبد
الرازق، صاحب كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) الذي وصف الخلافة بأنها ... (خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، وليس لنا حاجة إليها في أمور ديننا ولا
دنيانا، ولو شئت لقلنا أكبر من ذلك؛ فإنما كانت الخلافة، ولم تزل نكبة على
الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد) [36] وهو يستعير في عرضه هذا آراء
المستشرقين من قساوسة صليبيين ويهود حاقدين وأن الإسلام دين لا دولة، وكان
التوقيت لصدور كتابه هذا خبيثاً؛ ذلك أنه أصدره عام 1925م لإجهاض محاولات
إحياء الخلافة آنذاك بعد إلغائها على يد كمال أتاتورك [37] .
ويقول محمد أحمد خلف الله: (والفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري
خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد
فيه) [38] .
ويرى محمد فتحي عثمان (أن الخلافة الإسلامية كانت صورة تاريخية، ولم
تعش طويلاً، فعلى المسلمين ألا يفكروا فيها مرة أخرى) [39] .
ويقول محمد عمارة: (لم تكن الدولة هدفاً من أهداف الوحي، ولا مهمة من
مهام النبوة والرسالة، ولا ركناً من أركان الدين وإنما اقتضتها ضرورة حماية
الدعوة الجديدة) [40] ، (إن موقف الإسلام في مجال السياسة والدولة ينكر وجود
سلطة دينية لبشر خارج نطاق الموعظة والإرشاد، ولم يحدد نطاقاً معيناً
للحكم) [41] .
وهذه آراء علي عبد الرازق وسادته من المستشرقين الحاقدين نفسها.
لقد كان منصب الخلافة شوكة في حلوق أعداء الإسلام، وهدفاً طالما تحالفوا
لإسقاطه، وتمزيق ديار المسلمين، وها هم تلامذة اليهود والنصارى ينادون بما
خطط لهم سادتهم، والويل والصَّغار للمرْجفين.
3 - دعوتهم الصريحة إلى علمانية الحكم:
يصرح بعض العصرانيين بحقيقة دعوتهم في الحكم وفصل الشريعة عن
قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويدعون إلى علمانية مصبوغة
بمفهومهم عن الإسلام.
فالدكتور حسن حنفي يرى أن العلمانية هي أساس الوحي ويقول: (العلمانية
هي أساس الوحي؛ فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع
التاريخ) [42] .
ويقول الدكتور محمد عمارة: (أما إسلامنا فهو علماني، ومن ثم فإن مصطلح
العلمانية لا يمثل عدواناً على ديننا، بل على العكس يمثل العودة بديننا إلى موقفه
الأصيل) ويقول: (فالسياسة والحكم والقضاء وشؤون المجتمع ليست ديناً وشرعا
يجب فيها التأسي والاهتداء بما في السنة من وقائع؛ لأنها عالجت مصالح هي
بالضرورة متطورة ومتغيرة) [43] .
إذا لم تكن العلمانية هي ما يقوله العصرانيون فماذا ستكون؟ ! فهم بفصلهم
الدين عن شؤون الدولة والحياة، يدعون إلى علمانية قد يسمونها إسلامية، ولكنها
في الحقيقة أشد بعداً عن الدين من العلمانية اللادينية؛ لأن هؤلاء يخدعون العامة
باسم الإسلام، وتحت أسماء: (المفكر الإسلامي، الداعية الإسلامي، العقلاني
المستنير) .
ويريد هؤلاء الكتاب حكماً علمانياً، وفي أحسن أحواله ديمقراطياً برلمانياً على
طريقة الغرب في أن يكون للأمة حق التشريع. رغم أن واقع الديمقراطية الغربية
يشهد بإفلاس شعاراتها عند التطبيق، كما يريد بعضهم حكماً اشتراكياً يسارياً، باسم
اشتراكية الإسلام أو اليسار الإسلامي [44] .
ويقول محمد فتحي عثمان: (واليسار المسلم يتمسك بالديمقراطية؛ إذ هي
حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية؛ حيث لا يكون النص الإلهي الملزم
القاطع) [45] .
والحقيقة: (أن الفاصل بين العصرانيين والعلمانيين إن وجد دقيق جداً،
وكأنهما وجهان لعملة واحدة، واسمان لمسمى واحد. وقد استفاد العصرانيون مما
واجهه العلمانيون من استنكار، فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويبحثون
عن الشبه والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوباً إسلامياً مزوراً، ويضفوا عليها صفة
الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام، والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى
حين) [46] .
إن تنحية الشريعة عن شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في
مجتمعات المسلمين الحديثة؛ وإلاَّ؛ فما الفرق بين قول قريش في جاهليتها: يا
محمد! اعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة، وبين قول العلمانيين لفظاً أو واقعاً: نعبد
الله في المسجد، ونطيع غيره في المتجر أو البرلمان أو الجامعة؟ !
وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: (إن من
الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب
محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) وقال رحمه
الله: (من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكم الرسول
صلى الله عليه وسلم وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع،
إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير
الأحوال، فلا ريب أنه كفر) [47] . وقال ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) :
(ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر؛ فمن
استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر) .
ومن الخطأ أن تنقل تجربة غريبة هجينة في التصور والاعتقاد إلى ديار
المسلمين.
(إن الغلطة من الأصل هي محاولة وضع الإسلام وتطبيقاته على ميزان
التجربة الأوروبية، واستخدام المصطلحات الغربية ذات الدلالات المحلية البحتة،
كأنها اصطلاحات عالمية تصلح للتطبيق على أي شيء، وفي أي مكان، دون
النظر إلى الفروق الجوهرية بين الاصطلاحات التي وضعها البشر في ظروف
معينة، والمصطلحات التي أنزلها الله لتحكم الحياة، أو اجتهد المجتهدون بها، وهم
ملتزمون بما أنزل الله) [48] .
ولقد تميزت العصرانية بتبني الآراء الشاذة، والأقوال الضعيفة، واتخاذها
أصولاً كلية الهدف منها عند أصحابها هدم القديم أكثر من بناء أي جديد؛ إذ دأبوا
على محاولاتهم لتطويع الإسلام بكل وسائل التحريف والتأويل كي يساير الحضارة
الغربية فكراً وتطبيقاً، ومن أجل ذلك دعوا إلى التقريب بين الأديان والمذاهب،
وهوَّنوا من أمر الجهاد وقصروه على جهاد الدفاع فقط، ولكن الله غالب على أمره،
والعاقبة للمتقين.
__________
(1) مجلة العربي: العدد (222) ، عام 1977م.
(2) تجديد أصول الفقه الإسلامي: د حسن الترابي، ص12 مكتبة دار الفكر، الخرطوم، 1400هـ.
(3) المرجع السابق، ص8، 14.
(4) تجديد الفكر الإسلامي: محاضرة بجامعة الخرطوم، ص10، 1977م.
(5) الإسلام والمستقبل: محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، 1985م.
(6) محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة: سليمان بن صالح الخراشي، دار الجواب، الرياض، ص470.
(7) أين الخطأ: عبد الله العلايلي، ص107 وما بعدها.
(8) الإسلام والحضارة الغربية: د محمد محمد حسين، ص70.
(9) الفقه الإسلامي والتطور: محمد فتحي عثمان، ص29.
(10) المستشرقون: د عابد السفياني، ص125126 بتصرف وإيجاز.
(11) أين الخطأ؟ : عبد الله العلايلي، ص7987.
(12) الهداية والعرفان: أبو زيد الدمنهوري، وكان قد حكم على كتابه بالمصادرة وعلى صاحبه بالزيغ والضلال، ينظر: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم: د محمد حسين الذهبي، ص94، ط دار الاعتصام 1396هـ.
(13) دليل المسلم الحزين، ص141.
(14) ينظر: تفسير المنار، ج4/123، وتاريخ الأستاذ الإمام: ج1/944.
(15) أين الخطأ؟ : عبد الله العلايلي، ص68.
(16) أضواء البيان: 4/8485، عالم الكتب، بيروت.
(17) فجر اليقظة العربية: د محمد عمارة، ص118.
(18) الإسلام وقضايا العصر: محمد عمارة، ص9.
(19) موقف القرآن من حجاب المرأة: حسين أحمد أمين، الأهالي القاهرية، في 28/11/1984م.
(20) المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، د حسن الترابي، ص21، 35.
(21) صحيح سنن ابن ماجه، الألباني، 2/145.
(22) المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، ص25.
(23) الفكر الإسلامي والتطور، ص204.
(24) العصرانيون: ص265268.
(25) مواطنون لا ذميون: فهمي هويدي، ص124125، دار الشروق.
(26) المرجع السابق، ص128، 131.
(27) من مقال بعنوان: العاملات بين الشراع والقانون، الطليعة القاهرية، فبراير/1976م.
(28) المرجع السابق، عدد نوفمبر/1975م.
(29) المعتزلة وأصول الحكم: ص330، سلسلة الهلال، العدد (400) / 1984م.
(30) الإسلام والسلطة الدينية: ص 7.
(31) حوار لا مواجهة: ص 10/13.
(32) المستشرقون: د عابد السفياني، ص131132 بأيجاز.
(33) الفكر الإسلامي والتطور، ص168.
(34) انظر الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، ص4550 د الأشقر.
(35) ينظر تاريخ الدولة العثمانية، على حسون المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق.
(36) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: د محمد محمد حسين، ج 2، ص83.
(37) أنظر هذا الكتاب: ط3، مطبعة مصر، 1925م.
(38) مجلة العربي: العدد (276) ، ص18، محمد فتحي عثمان (3940) الإسلام والعربية والعلمانية: محمد عمارة، ص5.
(41) التراث والتجديد: حسن حنفي، ص69، طبعة القاهرة، 1980م.
(42) الإسلام والسلطة الدينية، محمد عمارة، ص120.
(43) ينظر: العصرانيون، ظاهرة اليسار الأسلامي، ص327347.
(44) مجلة المسلم المعاصر: محمد فتحي عثمان، العدد الافتتاحي.
(45) انظر: كتاب مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي، للأمين الحاج محمد أحمد ص 103.
(46) رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم، مطابع الثقافة بمكة، 1380هـ.
(47) العلمانيون والإسلام: الأستاذ محمد قطب، ط دار الوطن.(146/112)
في دائرة الضوء
مأزق الفكرالدفاعي
د. محمد يحيى
يلاحظ المتابع لساحة الفكر والكتابة الإسلامية على مدى السنوات الماضية
بروز تيار من الكتابات والطروحات يمكن تسميته بالتوجه الدفاعي أو الاعتذاري أو
التسويغي كان من المظنون أن الفكر الإسلامي قد تجاوزه منذ عقود ثلاثة أو أربعة
من الزمان، وأنه عاد إلى الحجم الطبيعي الذي ينبغي له ليبدو مجردَ مكوَّن صغير
الحجم داخل الكم الفكري العام أو الطرح الثقافي في مجمله.
ويمثل هذا التطور في تصوري ردة إلى مطلع هذا القرن الميلادي عندما ساد
تيار فكري دفاعي التوجه وإن كانت هناك اختلافات جوهرية. إننا نستطيع القول
بصورة مجملة - وربما إلى حد التبسيط المخل -: إن التيار الدفاعي الفكري يعود
إلى القرون الأولى للإسلام؛ لكنه في ذلك الوقت كان ينصبُّ على الدفاع عن العقيدة
الإسلامية في وجه ما سمي بشبهات تثار ضدها من جانب أفراد أو جماعات تعيش
داخل الأمة الإسلامية وتتألف في غالبها من فلول أصحاب العقائد والمذاهب السابقة
على الإسلام، أو أناس لا عقيدة لهم أو ملة، أو مسلمين حدث لهم ضلالٌ في الفكر
أو زيغ عن قويم الاعتقاد. أما في طرحه الحديث فإن الفكر الدفاعي قد اتخذ منحى
يمكن تسميته بالاعتذاري أو التسويغي، وكان جل توجهه صوب (اتهامات وليس
شبهات) تأتي من خارج الأمة الإسلامية، وبالتحديد من دوائر التنصير
والاستشراق الأوروبية ثم الأمريكية، وهي في القرون: الثامن عشر، والتاسع
عشر، والعشرين الميلادية طليعة حركات الغزو الاستعماري والسيطرة الإمبريالية
في الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية.
هذا التحول والاختلاف في الفكر الدفاعي نحو الاعتذارية ونحو الخارج
التنصيري الاستعماري كان سمة المرحلة التي عاصرت مطلع هذا القرن أو نحوه
والتي شهدت صعود نجم هذا الفكر بل وتحوله إلى (نجم) الفكر الإسلامي عموما
بمعنى توليه صدارة طروحات هذا الفكر. غير أن التيار العام للفكر الإسلامي الذي
استعاد ثقته بالنفس واعتداده بالعقيدة والدين مع مضي عقود هذا القرن تجاوز
السقوط في أسر هيمنة الفكر الدفاعي، بل وأصبح إيجابي النزعة (هجومياً) إن
جاز التعبير بمعنى أنه أخذ يطور من نظراته وتحليلاته لشتى نواحي الحياة في ثقة
واعتزاز بالنفس دون الوقوع في الدائرة المفرغة لضرورة الدفاع عن النفس أمام
الاتهامات الأجنبية، وقد بلغ هذا التوجه الإيجابي (الهجومي) الذروة في عقدي
السبعينيات والثمانينيات مع صعود قوة الحركات والأفكار الإسلامية ونشاطها، وقوة
المؤسسات الدينية الإسلامية وتهاوي الأطروحات المضادة الواقعة تحت مظلة
العلمانية والتغريب التي عرفت في مذاهب سياسية وفكرية متنوعة يساراً ويميناً،
وساد نتيجة لهذا تصورٌ بأن مرحلة فقدان الثقة بالذات على أفضل الأحوال مرحلة
الاضطرار إلى تسويغ العقيدة والشريعة الإسلامية في وجه الطروحات العلمانية
والتنصيرية والاستشراقية القادمة من الغرب قد ولت.
ولكن حدثت تحولات معروفة في دنيا السياسة وأحداثها صبت جميعها في
توجه ضرب الحركات والطلائع الإسلامية السياسية والفكرية وصولاً نحو ضرب
أوضاع الإسلام نفسه ووجوده التاريخي والجغرافي الثابت. ولم يحدث هذا في
أطراف عالم الإسلام بل في مواقع القلب منه وفي بلدان تعتبر بؤرة عالم الإسلام
وعقله.
وإذا كانت ما تسمى بالنخب السياسية والثقافية والاجتماعية في هذه البلدان
الإسلامية هي التي تولت كبر هذا التدبير دفاعاً عن مصالحها ووجودها إلا أن
الغرب الذي تتصل به هذه الدوائر وتستمد منه التوجه والتوجيه والدعم بأنواعه -
ولا نقول الوجود - كان له الباع الأكبر في تحديد هدف ضرب الحركات الإسلامية
وأساليبه ومعها الدين نفسه. وقد أصبحت هذه كلها الآن أموراً معروفة تحت عناوين
الخطر الأخضر أو الأصولي، أو صراع الحضارات والثقافات، أو مكافحة إرهاب
الإسلام والمسلمين، أو معركة تحديث وعصرنة الرجعية الإسلامية ... إلخ وكان
من أبرز تدبيرات الغرب وأتباعه بين ظهراني المسلمين في خضم هذه المعارك
عملية خبيثة هدفت في غايتها إلى إعادة إحياء النزعة الدفاعية بطابع اعتذاري
تسويغي سلبي منكسر، وإحلالها محل طروحات الفكر الإسلامي الإيجابي التي
أخذت تملأ الساحة الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية والثقافية والقانونية في
بلاد الإسلام.
كانت الصورة التي أَقَضَّتْ مضاجع الغربيين والدوائر اللادينية المتسلطة على
المسلمين في بلادهم هي تهاوي أطروحات الفكر العلماني المتغرب على كثرتها وقوة
النفوذ المستخدم في ترويجها وإفلاسها تاركة الساحة لفكر إسلامي جديد يملؤها
بأطروحات إيجابية فعالة وهو ممتلئ الثقة بالنفس، ومعتد بما لديه وليس منكسراً أو
متخاذلاً أمام ما يأتي به العلمانيون والغرب، ولهذا كان الهدف الاستراتيجي الأعلى
إعادة الصورة القديمة إلى ما كانت عليه قبل حوالي القرن من الزمان. كان
المطلوب هدفاً عامّاً هو إخلاء الساحة من الفكر الإسلامي الصاعد والواثق من نفسه
والإيجابي ليحل محله فكر متخاذل متراجع سلبي ذليل لا يقدم سوى الاعتذارات
والتسويغات في وجه طروح علمانية وتغريبية يعاد بث الحياة فيها بعد موتها، ويعاد
طرحها على الساحة، أو قل: فرضها فرضاً بعد أن أثبتت الأحداث على مدى
سنوات طويلة تهافتها، وبعد أن انفض من حولها من انفض إلا القليل جداً ممن
آمنوا بها.
ولا حاجة بنا إلى ذكر الوسائل التي أصبحت معروفة ومستخدمة في تحقيق
هذا الهدف الاستراتيجي العام، وقد شملت الأساليب غير الموضوعية من ضربات
قمعية وأمنية، ومنع وحظر، وملاحقة للنشاطات الفكرية الإسلامية، ومصادرات
لكتب ومجلات، ولجوء إلى وسائل الإعلام والتسلية القوية لتشويه السمعة وطمس
الصورة المشرقة وتضليل الجماهير، والدفع برموز مطعون فيها ومشبوهة وسقيمة
الولاء والعقيدة لكي تتحول في الإعلام إلى (مفكرين إسلاميين) يوصفون بالعقلانية
والاستنارة ويُستفتون في كل الشؤون! غير أن أبرز أدوات هذه العملية كانت طرح
سيل من (الاتهامات) (وليس الشبهات أو الأسئلة) من جانب أجهزة الإعلام الغربية
ومراكز الأبحاث والجامعات ودوائر السياسة والكنائس وغيرها؛ بحيث تصبح هذه
الاتهامات هي المحرك والباعث والمسوِّغ للتيار الدفاعي الاعتذاري المراد إحياؤه
كي ينطلق.
إن المسألة اتخذت طابعاً (تعاونياَ) مريباً؛ فالغرب يستمر في توجيه
الاتهامات بشكل مستمر أشبه بالطقوس الدينية، ولا يحول دون توجيه هذه
الاتهامات السيل المستمر من الردود عليها.
وعلى الجانب الآخر يبرز أرباب الفكر الاعتذاري ليستمروا في اجترار
بضاعة (الردود) على الاتهامات ولا يحول دون الاجترار أن هذه الاتهامات قد
قُتلت رداً وتفنيداً منذ مطلع القرن. لكن التفسير لهذه الدائرة المفرغة من الاتهامات
والردود هو أنها ليست في الحقيقة عملية طبعية من شبهات تثار ثم يرد عليها ويغلق
الملف، ولكنها عملية مدبرة ومخططة يقصد بها في نهاية المطاف تسويغ إحياء
الفكر الاعتذاري التراجعي ليحل محل الفكر الإيجابي الواثق في الساحة الإسلامية؛
وإلا، فمتى يرد على اتهامات الأجانب؟
هذه هي الخلفية لصعود الفكر الدفاعي في السنوات الأخيرة، وهو فكر يتسم
كما قلنا لا بالرد على شبهات تثار في الداخل حول العقيدة بل لاتهامات وترهات ترد
من الخارج في إطار تدبير معين، وهو فكر لا يظهر ليحتل وضعاً طبعياً داخل
منظومة متكاملة من الطروحات الفكرية الإيجابية ولكن يشغل الحيز الأكبر وإن لم
يكن الوحيد داخل الإنتاج الفكري الإسلامي، وهو فكر لا يأتي ليبني على
الإنجازات الكبيرة التي تحققت للفكر والفعل الإسلامي بل ليحدث ردة وانكساراً
واستخذاءاً وتراجعاً يظهر معه الإسلام وكأنه موضوع في قفص اتهام يعاني من
مشاكل خطيرة أو كأنه دين مطعون فيه مليء بالعيوب والنواقص تؤكدها ولا تنفيها
ردود الفعل للفكر الدفاعي التسويغي، وهذا الفكر في طرحه الأخير يعاني من مأزق
أو قل مآزق جسيمة فوق ما سلف ذكره من عيوب نوجزه في أنه: يهدم وينقض من
حيث ادَّعى البناء، ويتراجع وينتكس من حيث أراد الدفاع في زعمه، ويثبت
التهمة من حيث أراد أن ينفيها، ويقر بجهة الاتهام ويؤكدها من حيث زعم أنه أراد
تخطئتها.
وعلى ضوء خلفية الفكر الدفاعي التي بسطناها يتحدد مأزقه أو مآزق الفكر
الدفاعي في عدة محاور يحسن تسليط الضوء عليها؛ لأن هذا التوجه أصبح الآن
مفروضاً، وكأنه اتجاه شبه وحيد للفكر الإسلامي. وأبرز مشكلة لهذا التوجه ...
الاعتذاري هي أنه حوَّل المسألة الفكرية والثقافية إلى ما يشبه القضية الجنائية أو
الإجرامية؛ فهناك في طروحات هذا الفكر ثنائية حاكمة هي ثنائية الادعاء أو النيابة
والدفاع، هناك جهة توجه الاتهام تلو الاتهام ولا تني وهي جهة الغرب ودوائره
المختلفة تقابلها جهة تزعم أنها تدافع عن هذه الاتهامات وتدحضها، ومن الجلي أن
التيار الدفاعي قد فرط منذ البداية بعنصر التساوي والتكافؤ؛ حيث أقر للغرب
بشعبه وجهاته بحق توجيه الاتهام وشرعية ذلك، ثم وضع نفسه ومعه الإسلام الذي
يدعي تمثيله في موضع الطرف الأضعف والموصوم منذ البداية بالاتهامات
المتنوعة. ومن الواضح ألا تكافؤ هناك بين المدعي والمدعى عليه، ولا سيما أن المتهم قد أقر بشرعية سلطة الادعاء وأحقيتها في توجيه التهم.
ولا أتصور أنه يمكن في إطار تحويل المسألة الفكرية إلى شبه محاكمة جنائية
ذات طرفين: قوي، وضعيف أن تكون هناك قيمة تذكر لأي أطروحات تتمخض
عنها، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أن الفكر الدفاعي قد وضع نفسه تحت رحمة
اتهامات الغرب وحصر جهوده في الرد المزعوم عليها، تاركاً للغرب أو من يمثلونه
الحرية في تحديد نطاق هذه الاتهامات ورسمها، بينما سجن نفسه هو في قفص الرد
عليها دون أن تكون له حرية طرح أي قضايا أخرى، أو حتى رد التهم على من
يطلقونها، وإلا تعرض لاتهام آخر بالتعصب وعدم الموضوعية.
ولعلنا نذكر هنا بالمناسبة أن ما يعيب العملية المسماة الآن بالحوار بين الأديان
والتي أصبحت الشغل المفروض على بعض المؤسسات الدينية الإسلامية في عالمنا
العربي هو أنها تجري في إطار هذا الفكر الدفاعي، وتحكمها قيوده؛ وعليه فلا
حوار هناك حقيقة؛ بل سيطرة من طرف يفرض شروط العملية ومحدداتها،
وإذعان من طرف آخر لا يملك إلا رد الفعل على التهم المحددة الموجهة. ...
وإذا كان الفكر الدفاعي أو بالأصح الاعتذاري الصادر من الجانب الإسلامي
المزعوم قد نسف أسسه منذ البداية بالتخلي عن حرية الحركة وحصر نفسه في
دائرة الرد على الاتهامات التي يوجهها من اعترف وأقر لهم بسهولة بمشروعية
توجيهها فإنه يعاني بعد هذا العيب القاتل من عيب آخر، وهو: إثبات التهمة من
حيث أريد نفيها؛ ذلك لأن السمة الغالبة على هذا الفكر الدفاعي الإسلامي (زعماً)
هي القول بفصلٍ بين الإسلام والمسلمين، ثم بين الإسلام (الصحيح) كما يقولون -
والإسلام الموجود في كتب الفقه والشريعة والدراسات الدينية وهو مجرد (تفسير)
للإسلام حسب الادعاء الرائج.
وإذا كانت الاتهامات الغربية توجه الآن بالأكثر إلى مجالات الشريعة
الإسلامية أو التاريخ الإسلامي القريب والحديث أو تراث المسلمين وعاداتهم (بينما
كانت في الماضي توجه ضد العقيدة نفسها وهو ما لم يعد مقبولاً كثيراً هذه الأيام في
ظل ادعاء الغرب بالتسامح وعدم تحقير الأديان) فإن الأسلوب المفضل والغالب عند
الفكر الدفاعي في الرد على هذه الاتهامات هو القول بأنها بالفعل صحيحة وثابتة،
ولكن ذلك بسبب ممارسات الغالبية العظمى أو كل المسلمين الذين خرجوا عن
الإسلام (الصحيح) ؛ فالمسلمون عند الفكر الدفاعي مدانون بالتهم التي يطلقها
الإعلام الغربي (من التعصب والإرهاب إلى اضطهاد النساء وإنكار حقوق الإنسان) ، ولكن هؤلاء المسلمين لا يمثلون الإسلام (الصحيح) أو يمثلون على الأقل
تفسيرات سيئة ورجعية للإسلام!
أما إذا حاولنا أن نعرف ما هو ذلك الإسلام الصحيح أو ذلك التفسير التقدمي
للإسلام الذي لا تنطبق عليه الاتهامات الغربية فسنجد في كتابات الاعتذاريين أنه
مسخ معلن متغرب يطلقون عليه اسم الإسلام الحقيقي الذي اكتشفوه هم بعد أربعة
عشر قرناً من المسلمين بعلمائهم وعامتهم! وهكذا ينتهي بنا الفكر الدفاعي ليس فقط
إلى إثبات التهم على المسلمين وتاريخهم بحجة أنهم لا يمثلون الإسلام الأصلي أو
التفسير (الصحيح) و (التقدمي) للإسلام؛ بل إنه يصل إلى نتيجة خطيرة وهي
أن الإسلام الحقيقي أو تفسيره السليم والعصري هو الذي يماثل آراء أهل الغرب
ومذاهبهم وقيمهم: أي من تصدر عنهم الاتهامات.
إن التصور المنطقي العام الذي نخرج به من تأمل مقولات أصحاب الفكر
الدفاعي وكتاباتهم هي أنهم - وقد انطلقوا بزعم رد اتهامات معينة أو بتصحيح
(صورة الإسلام) في الغرب حسب تعبيرهم الشائع ينتهون إلى إثبات التهم على
المسلمين مع نفيها عن الإسلام؛ لكنهم عندما يتحدثون عن هذا الإسلام الذي ينفون
عنه التهم نجد أنهم يقدمون - باسم (التفسير) و (التأويل) للدين صورة هي شبه
متطابقة مع قيم الغرب المعاصر وعاداته ومذاهبه وحتى القديم منها. ولعل أشهر
الأمثلة على هذه النهاية ما عرفناه على امتداد العقود الماضية من دعاة يزعمون -
مثلاً - أن التفسير (الصحيح) لمقولات الشريعة الإسلامية في شؤون الأسرة يدل
على خطر تعدد الزوجات ومنع إيقاع الطلاق من جانب الرجل، وتقييد قوامة
الرجل على أهل بيته وكلها عادات أو ممارسات تطابق الفكر المسيحي الليبرالي
الوضعي الذي هيمن على الغرب في القرن التاسع عشر وليس في القرن العشرين!
الفكر الاعتذاري يبدأ بإقرار واعتراف ساذج وغير نقدي بسلطة الغرب
واتخاذها مرجعيةً أعلى وأنضج فكرياً في توجيه الاتهامات ضد الطرف الأدنى
(وهذا هو رأي الفكر الدفاعي الضمني في الدين الذي يفترض أنه يمثله) ، وهذا
الفكر لا يجهد نفسه في تمحيص الفكر والوضعية الغربية التي تصدر الاتهامات ولا
يتعمق في خلفية مضامين هذه الاتهامات وحقيقتها، ولا يجول في خاطره بحث
الأسباب والبواعث غير الموضوعية وغير الفكرية (سياسية وتآمرية ودعائية) التي
تكمن وراء هذه الاتهامات، ولا يسعى لتحليل المؤسسات والدوائر الغربية التي
توجهها، إنه لا يفعل أياً من هذا ولا يوجه تهماً مماثلة أو حتى انتقادات متبصرة
لأوضاع الغرب الفكرية والاجتماعية والتاريخية، بل إنه يتقبل الاتهامات على
علتها حتى مع صدور معظمها عن دوائر - وبالذات الإعلام السيار - أصبحت
موضع شك وطعن في الغرب ذاته، وبعد هذا التقبل (المجاني) للاتهامات بروح
الفكر الدفاعي يفندها كما يتصور؛ فلا يخرج على الناس إلا بمبدأ ساذج وغريب،
وهو أنه لا علاقة بين الإسلام والمسلمين؛ فالأول بريء، وأما الآخرون فمدانون
بهذه التهم. والإسلام البريء من هذه الاتهامات الغربية الجزافية في صحفهم
الشعبية أو مؤسساتهم ذات التدبيرات الخفية ليس هو الإسلام الذي عرفه المسلمون
طيلة القرون؛ فهذا الآخر مدان؛ لأنه كتلة من تفسيرات الفقهاء المنحازين أو
المتأثرين ببيئات غابرة وأوضاع متخلفة.
إن الإسلام (البريء) في عرف جمهرة الدفاعيين هو إسلام جديد عصري
تقدمي يخرج على الناس لأول مرة وهو - وللمصادفة البحتة - يكاد يتطابق مع قيم
وتوجيهات وشرائع وأفضليات أهل الغرب ومشاربهم في الشؤون السياسية
والاجتماعية والفكرية؛ فهو إسلام ليبرالي (مستنير) عقلاني (نسوي) رأسمالي
يقدس حقوق الإنسان كما يفهمها الغرب ويبجل أديان الغرب.
إن النهاية التي يصل إليها الفكر الاعتذاري في طرحه الجديد حسب تصور
هذا الكاتب أو ذاك وبشكل عام مجرد تؤدي بنا إلى سقوط الفكر الدفاعي واختفائه؛
فأي دفاع يتبقى بعد أن تثبت التهمة على جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء على مر ...
التاريخ من ناحية، وتنفى عن مخلوق في علم الغيب يسمونه بالإسلام التقدمي أو
التفسير الصحيح؟ ! لكنه يتضح بعد رسم الملامح والخطوط أنه يتطابق مع
طروحات وتيارات الغرب السائدة، أقول: أي (دفاع) يتبقى بعد الإقرار بصحة
الاتهامات من ناحية، ثم (تبرئة) الإسلام المعلمَن المتغرب من ناحية أخرى؛ في
تأكيد غريب وشاذ بالمرجعية العليا والمشروعية والصحة للغرب؛ بحيث إن
(الإسلام) لا يمكن أن ينجو من التهم والشبهات إلا إذا قدمت له (صورة) هي طبق
الأصل أو قريبة جداً من الممارسات والتصورات الغربية؟ ! لقد قال ماركس عن
الرأسمالية: (إنها تحمل بين طياتها بذور فنائها) ونستطيع الآن القول بأن الفكر
الدفاعي - لو سلمنا بصحة النوايا - يحمل في طياته بذور فنائه كما أوضحنا.
ولطغيان الفكر الدفاعي الاعتذاري على ساحة الكتابة الإسلامية في السنوات
الأخيرة خلفية وسمات؛ فقد اكتشفنا أنه يعاني من مأزق أساس وهو أنه لا ينتهي في
الحقيقة إلى دحض شبهات حول الدين تصدر هنا وهناك بقدر ما ينغمس - بوعي أو
بدون وعي - في لعبة سقيمة تنصبها بعض الدوائر الغربية والإعلام هناك بأهداف
تحويل الفكر الإسلامي عن مسار الاهتمام والإبداع الإيجابي تطويراً لمفاهيم هذا
الدين، وبسطاً لها على مختلف جوانب الحياة، ورداً للطاقات الفكرية الإسلامية إلى
الاجترار العقيم لمقولات مملة ما تزال تتردد في جوهرها وإن اختلف الأسلوب منذ
قرن، وقلنا: إن الطابع الاعتذاري التراجعي الذي يطغى على هذا الفكر قد وسم
بنوع من الخوف - ولا أقول الاستخذاء - وعقد النقص والدونية أمام الطروحات
والاتهامات الغربية والعلمانية المحلية التي تتكرر بأسلوب يشبه الطقس الديني؛
بحيث إنه أصبح يسلم بالتهم ولا ينفيها ويقبلها على علتها دون أن يدحضها؛ بل
يسارع إلى الخروج (بتفسيرات) للإسلام تعترف ضمناً بالاتهامات لكنها تسعى من
خلال تقديم صورة معلمنة ومتغربة و (تقدمية) و (عصرية) و (مستنيرة) للدين
إلى أن ترضي الغربيين والعلمانيين أصحاب الاتهامات، والواقع أننا بدل الحديث
عن مأزق يعاني منه الفكر الدفاعي الاعتذاري يجدر بنا أن نتحدث عن (جنايات)
ينتجها هذا الفكر على الفكر الإسلامي.
إن أبرز هذه الجنايات هو رد الفكر الإسلامي من مواقع الطرح الإيجابي
الواثق العريض المساحة والواسع الاهتمام إلى مواقع التراجع والارتداد وتضييق
الجبهة وتقليص الاهتمام وزعزعة الثقة، والأمثلة على هذا كثيرة لا تعد؛ ففي
العقود القليلة الماضية كان هناك إنتاج كبير في ميادين الدراسات الاقتصادية
والإنسانية للخروج بفلسفات ومواقف ونظريات إسلامية فيها. أما الآن فالكتابة
الغالبة أو التي تحظى بالترويج الإعلامي الرسمي والغربي هي التي لا تقدم مثل هذه
الدراسات؛ بل التي تقتصر على الجانب التسويغي المتراجع وعلى زوايا ضيقة إلى
حد يبعث على الريبة.
فبدل تكوين نظرية اقتصادية إسلامية وجدنا الخطاب الاعتذاري الذي فُرض
على الساحة يركز في السنوات القلية الماضية على نقاط مثل إباحة الفوائد الربوية
المصرفية.
وبدل طرح المفاهيم الإسلامية المتكاملة في مجال الأسرة كي تهدي وتعالج
ملايين الحائرين في خضم فتن العصر وإباحيته نجد الفكر الدفاعي يفرض على
الأمة مسائل مثل: إلغاء رخصة تعدد الزوجات، وتقييد حق الرجل في الطلاق مع
منح المرأة حق إيقاع الطلاق بكل سهولة، ثم تقييد حق الرجل في القوامة على
أهل بيته أو حتى إلغائه؛ وكل ذلك بحجج واهية من التمشي مع العصر، أو
مراعاة حقوق الإنسان، أو إنصاف المرأة، أو تحقيق (روح) الدين؛ بينما الهدف
النهائي هو أن تتحول تعاليم الأسرة وأحكامها في الإسلام إلى نسخة من نظيرتها في
القوانين الغربية المسيحية والوضعية.
وبدل الحديث عن النظام السياسي في الإسلام يطرح الفكر الدفاعي بعد أن
ينكر وجود مثل هذا النظام قضيةً وحيدة تقول: إنه لا خلافة ولا حكومة في الإسلام؛ بل نظام حزبي فقط أشبه بالنظم الليبرالية الغربية.
وبدل الحديث عن النظام القانوني في الإسلامي - أي تطبيق الشريعة -
يخرج الفكر الدفاعي بمفهوم شاذ يقول: إن الشريعة في المحك الأخير ليست سوى
نظام قانوني وضعي يصاغ وفق الاحتياجات المتغيرة للناس - حسب ما يزعمون -، ونكتشف رغم ذلك أن ما يريدونه حقاً هو نظام وضعي يساير نظام الغرب
ونماذجه، وليس احتياجات المسلمين، والأمثلة كثيرة ولكن في هذا كفاية.
ومن الجنايات الأخرى التي يرتكبها الاتجاه الدفاعي الاعتذاري في حق الفكر
الإسلامي القضاء على روح الابتكار والخلق والنقد والبحث الواثق؛ فهذا الاتجاه
كما قلنا يحصر الفكر في قضايا معدودة ما زالت تتكرر منذ القرن الماضي، وهو
يتقبل اتهامات الغرب على علتها دون أن يمارس أي نقد أو حتى تمحيص لها،
وهو يتقبل الغرب مشروعيةً فكريةً عليا دون أن يدرس هذا الزعم بموضوعية
وإدراك بالعوامل التاريخية ودورها.
إن الغرب نفسه لم يعد يقبل أن يمنح مدارسه الفلسفية والفكرية وضع
المرجعية العليا التي تسمو على النقد والمراجعة، لكن الفكر الدفاعي وفي جهل
غريب ومريب بكل التطورات الفكرية في الغرب نفسه والتي أسقطت مفهوم
المرجعية المطلقة لمدارسهم ومذاهبهم التي أسست الفكر النقدي يروح في سذاجة أو
ذيلية يعلي من شأن الفكر الغربي في شتى اتجاهاته، ويجعل له مشروعية توجيه
الاتهامات، ثم يتقبل هذه الاتهامات باعتبارها حقاً مطلقاً قبل أن يتولى (الرد) عليها
بالطريقة التي وصفناها سابقاً.
وعلى سبيل المثال: نجد الفكر الدفاعي عندما يستمع للاتهامات الغربية حول
اضطهاد الإسلام للمرأة يتقبل هذه الاتهامات ولا يفكر حتى في اتخاذ موقف نقدي
بسيط وأولي، يرى فيها مجرد إسقاط لمفاهيم وممارسات غربية بحتة وتاريخية
نابعة من ثقافتهم وظروفهم الخاصة على عالم وحضارة الإسلام. وحتى إذا تجاهلنا
الحديث عن الطابع الكيدي والمغرض لهذه الاتهامات وصدقنا أنها تصدر بحسن نية
فإننا لا نستطيع أن ننكر على أنفسنا اتخاذ موقف نقدي بسيط يفحص هذه الاتهامات، ويرى أنها تعبر عن موقف ورؤية ومفهوم خاص بالغرب ونابع من ظروفه
التاريخية والثقافية الخاصة المختلفة عن عقيدة الإسلام والمسلمين ودينهم وتاريخهم
وحضارتهم، كما يرى هذا الموقف النقدي أن الاتهامات الغربية تنبع من صورة
للإسلام تنطبع في تلك الحضارة عن الإسلام باعتباره لديهم عدواً تاريخياً وعقدياً لهم
منذ أيام الحروب الصليبية. لكن الفكر الدفاعي الاعتذاري وفي غمرة تراجعه وتقبله
المطلق للغرب لا يفكر في اتخاذ حتى أبسط المواقف النقدية، أو الفاحصة. ...
وفي نهاية المطاف تنعكس هذه المثالب الناجمة عن فرض الاتجاه الدفاعي
الاعتذاري ممثلةً توجهاً طاغياً أو وحيداً في ساحة الفكر الإسلامي على جمهور
المشتغلين بالفكر والثقافة في الساحة الإسلامية؛ حيث يؤدي إلى إشاعة الظن بأن
ذلك التوجه بعيوبه هو القدوة الوحيدة التي تحتذى، وبحيث يعتقد المشتغل بالفكر أو
القارئ أنه مطالب بتقديم تسويغ ودفاع واعتذار أمام محكمة الغرب عن كل فكرة
تطرأ على باله أو فعل يمارسه أو عادة يعتادها، ولعلنا نشبه هذا الموقف بمن يمشي
وهو يتلفت وراءه حتى يظنه الناس مريباً؛ كما تغيب عن أذهان المشتغلين بالفكر
الإسلامي نتيجة لسيادة التوجه الدفاعي كل الإنجازات والطروحات الإيجابية التي
أفرزتها الصحوة الإسلامية وصعود الإسلام في السنوات الماضية؛ وهذا في حد
ذاته هو المستهدف من وراء تلك (الهجمة) لفكر الدفاع والاعتذار والتسويغ التي
تحتاج إلى وعي كامل بها وبأبعادها حتى نستطيع أن نفوِّت الفرصة على من
فرضوا هذا الفكر وجعلوه تياراً شبه وحيد على الساحة، ومهدوا له كي يخدم
أغراضاً هي أبعد ما تكون عن الدفاع حقاً عن الإسلام أو تصحيح صور مشوهة
عنه يقال لنا: إنها تسود في الغرب.
وتبقى كلمة أخيرة وهي أن بعضاً منهم أصبح الآن مهتماً قبل أي شيء آخر
بما يسمونه تصحيح صورة الإسلام المشوهة في الغرب، وتبلغ بهم الوقاحة حد
الزعم بأن السبب في هذه الصورة الشائهة هم المسلمون أنفسهم وليست أية توجهات
أو مكائد غربية، وهذا هو أحدث أو آخر ما أنتجه الفكر الدفاعي من مثالب؛ حيث
انتهى به الأمر إلى اختزال كل جهود الفكر الإسلامي في تصحيح لصورة إعلامية
بعد اتهام المسلمين بالمسؤولية عنها رغم أنها محض (صورة) في إعلام غربي تافه
سوف يظل يكررها عشرات السنين مهما حدث لها من تصحيحات وتسويغ ودفاع؛
لأن المقصود بترويجها ليس طلب التصحيح؛ بل التشويه والكيد والإساءة، وتنفير
الناس من الإسلام.(146/120)
مصطلحات
الحضارة
خالد أبو الفتوح
لم يدُر بخَلَدَي قبل أن أشرع في الكتابة عن مصطلح (الحضارة) أن مصطلحاً
بمثل هذا الانتشار يكتنفه غموض وإبهام كالذي رأيت؛ فهذا المصطلح غير العربي
نشأةً أحد الترجمات لمفردتين في اللغات الأوروبية منبثقتين عن جذرين لاتينيين
يختلف كل منهما عن الآخر، وقد نقل بعض (المثقفين) العرب معاني هاتين
المفردتين الأوروبيتين إلى اللغة العربية وفرغوها في ألفاظ عدة حسب فهمهم لهذه
المعاني وتلك الألفاظ، كان منها: (الحضارة) .
فإذا علمنا أن الكلام على (الحضارة) يتشعب في كتب التاريخ والاجتماع
والفلسفة والآداب والسياسة والجغرافية والعلوم ... ، وإذا أضفنا إلى ذلك أن عالمي
الإنثروبولوجي (علم الإنسان) ألفريد كروبر، وكلايد كلوكهون كانا قد أحصيا سنة
1952م ما يزيد عن (164) تعريفاً لـ (الحضارة) في اللغات التي نشأت دلالة
المصطلح وتطورت فيها.. اتضح لنا حجم الاختلاف في تحديد مفهوم هذا
المصطلح.
ولأن المصطلح نشأ وتطور خارج البنية اللغوية العربية فليس من المناسب أن
نذهب كما يفعل بعض الباحثين في مثل هذه المصطلحات إلى المعاجم العربية
لنبحث في مادة (ح ض ر) ثم نلوي بعض المعاني العربية لتتسق مع هذا المفهوم أو
ذاك، أو نبتسر بعض هذه المفاهيم الغربية لتتفق مع معنى اللفظ العربي، ولكن
ينبغي أن نذهب إلى المصطلح في لغته الأم، لنحاول الوقوف على معانيه الأصلية، ثم على المفاهيم التي انبثقت من هذه المعاني وتطورت عنها، وعلينا بعد ذلك أن
ننظر في مدى مطابقة هذه المفاهيم للفظ العربي، وأن نبحث في مدى موافقتنا على
هذه المفاهيم والمعاني، وفي أنسب الألفاظ لهذه المعاني والمفاهيم.
الحضارة في اللغات الأوروبية:
انتقل المفهوم الغربي إلى لفظ (الحضارة) العربي، وأيضاً إلى لفظي (المدنية) ... و (الثقافة) عبر ترجمة لفظ Civilization التي تعود إلى اللفظ اللاتيني Civits،
وأيضًا عبر ترجمة لفظ Cltre التي تعود إلى الجذر اللاتيني Cltra؛ لذا علينا
البحث في معاني هذين اللفظين:
أولاً: تطور مفهوم (Civilization) :
اشتقت Civilization من اللاتينية Civis التي تعني المدني أو المواطن
الساكن في المدينة، وهذا المعنى قريب من المعنى المقصود في كلام الفلاسفة
العرب الذين تأثروا بالترجمات اليونانية عندما كانوا يذكرون أن (الإنسان مدني
الطبع) ، ويعنون بذلك: أنه (اجتماعي) ، فمدني هنا كانت تعني: (أهلي) ، أي:
إنه غير وحشي، وكان هذا الاشتقاق غير متداول حتى القرن الثامن عشر، غير
أن الكلمة Civilization لم تنتشر بوصفها اصطلاحاً على (الحضارة) خلال هذا
القرن، حتى إن أحد الكتاب رفض إدخالها في قاموس لغوي كان يؤلفه مفضلاً
المصطلح القديم Civility الذي يحمل معنى الكياسة واللطف، وفي الوقت نفسه
يعكس احتقار أهل المدن للريفي وللبدائي الهمجي.
وفي القرن الثامن عشر أيضاً استخدمها الموسوعيون الفرنسيون قبل صياغة
كلمة (رأسمالية) لتناقض النظام الإقطاعي، وهي أيضاً قريبة من أصل المعنى؛
حيث تتناقض المدينة وحركتها الصناعية التجارية مع الإقطاع، كما أن صفة
الانعتاق والتحرر تتعلق بكلمة Civilization التي قد تعني التقدم والسير إلى الإمام.
وقد عنت Civilization عند اشتقاقها: عملية (اكتساب) الصفات المحمودة،
وبخاصة الألطاف الفردية والاجتماعية، ثم تطورت لتدل على النتيجة الحاصلة،
أي: حالة الرقي والتقدم في الأفراد والمجتمعات (التحضر) .
وفي القرن العشرين ساعد أوزفالد إشبنجلر وأرنولد توينبي وآخرون على
إعطاء معنى آخر لـ Civilization إضافة إلى عملية (التحضر) وهو كون الكلمة
تدل على وحدة حضارية تاريخية معينة؛ فالمعنى الأول مقصود به التقدم أو التحول
الإنساني بشكل عام من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تعقيداً أو تطوراً من حيث
التقنية المستخدمة أو الثقافة السائدة، وفي هذا السياق يقال: حضارة بدائية، أو
حضارة الآلة، أو حضارة دينية.. أما المعنى الثاني فيعني حضارة شعب بعينه أو
منطقة بذاتها، فيقال: الحضارة الفرعونية، أو حضارة قبائل المايا، أو الحضارة
الصينية ...
وعموماً فإن الكلمة تستخدم اليوم في اللغات الغربية في الأغلب بصورة مطلقة
لكلا المعنيين، وإن اختلفوا في ماهية المقصود منها؛ فهي عند الباحثين الإنجليز
تعني الحضارات العليا، ويستعملها الفرنسيون بمعناها الشامل (المادي والمعنوي) ،
أما عند الباحثين الأمريكيين والألمان فهي تعني الجوانب المادية أو التكنولوجية من
الحضارة، وغالباً ما يستعمل الألمان Civilization للدلالة على أن الحضارة في
طريقها إلى الاحتضار.. ولكنهم جميعاً يتفقون على أن الكلمة تدل على: نمط ما
من الحياة الاجتماعية مكتسب ومشتق من المدينة.
ثانياً: تطور مفهوم: (Cltre) :
أُخذت Cltre عن اللفظة اللاتينية (Cltra من فعل Colere) بمعنى حرث
أو نمّى، وقد ظلت اللفظة مقترنة بمعنى حراثة الأرض وزراعتها طوال العصرين: اليوناني، والروماني، ومع أن شيشرون استعملها بالمعنى المجازي داعياً الفلسفة: (Cltra mentis) أي: زراعة العقل وتنميته، إلا أن هذا الاستعمال ظل نادراً
في اللغة اللاتينية.
وفي القرون الوسطى أُطلقت الكلمة في فرنسا على الطقوس الدينية، وفي
عصر النهضة الأوروبية اقتصر مفهوم Cltre على مدلوله الفني والأدبي، وبدأت
الكلمة في أوائل العصور الحديثة تستعمل في الإنجليزية والفرنسية بمدلوليها المادي
والعقلي، مع إضافة الشيء المقصود بالتنمية (ذكاء معرفة مهارة زراعة ... ) .
فلما كان القرن الثامن عشر أطلق الكتاب الفرنسيون اللفظة إجمالاً دون
إضافتها إلى شيء معين، وأصبحت تدل على تنمية العقل والذوق، ثم انتقلت إلى
حصيلة هذه التنمية من مكاسب عقلية وذوقية، وفي أواخر هذا القرن انتقلت اللفظة
بما استقرت عليه من معانٍ من الفرنسية إلى الألمانية، ثم اكتسبت في الألمانية في
القرنين التاسع عشر والعشرين مضموناً اجتماعياً؛ حيث أصبحت تدل على التقدم
الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة، ويعتبر
جوستاف كليم (1802- 1867م) مؤسس علم الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) من
أوائل من استعمل الكلمة لتدل على ظواهر اجتماعية عند أي جماعة من مهارات
سلوكية و (دين) وفن وعلم وأنظمة للسلام والحرب.
أما في الإنجليزية، فحسب معجم أكسفورد فإن أول استعمال لهذه الكلمة بمعنى
قريب من ذلك يعود إلى سنة 1805م، وإضافة إلى ذلك فقد انطلق المفكرون
الإنجليز في المسائل السياسية والدينية لينظروا إلى Cltre من زاوية تطبيقاتها
العملية، وفي عام 1871م وضع الإنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور (1832
1917م) تعريفاً لمفهوم هذه الكلمة تأثر به معظم من جاء بعده؛ فهي عنده: ذلك
الكل المركب الذي يشتمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل
القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع.
وعرفها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بأنها: حصيلة التفاعل بين الإنسان
وبيئته، ويعرفها كل من كروبر وكلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب
معين، أي: الميراث الاجتماعي الذي يحصل عليه الفرد من مجموعته التي يعيش
فيها.
وإجمالاً فإننا نستطيع القول: إن مفهوم Cltre يتضمن حصيلة التنمية
المعرفية والأخلاقية والذوقية والتنظيمية وثمرتها المكتسبة الظاهرة في مجتمع ما،
نتيجة التعليم والنظام والخبرة الاجتماعية والعوامل الاقتصادية.
ومن الملاحظ تبادل مفاهيم (Civilization و Cltre) في اللغات الأوروبية
من بيئة معرفية إلى أخرى.
انتقال مفهومي Civilization و Cltre إلى العربية:
لعل ترجمة كتاب: (إتحاف الملوك الألبا بسلوك التمدن في أوروبا) في عهد
محمد علي باشا أوائل القرن التاسع عشر الميلادي شهد ظهور أول ترجمة لكلمة
Civilization بمفاهيمها الغربية الحديثة إلى العربية. وواضح أن لفظ (المدنية)
صيغ في هذه الفترة مقابلاً لها للدلالة على المجالين المادي والمعنوي، وقد ذكر
رفاعة الطهطاوي في كتابه: (مناهج الألباب المصرية) ما يوضح ذلك، أي: إن
(التمدن) و (المدنية) كانتا تطلقان إطلاقاً شاملاً، وكذلك صيغت اللفظة نفسها في
ترجمات كتب القانون، خصوصاً ما أطلق عليه: (القانون المدني) ، وظل هذا
المفهوم الشامل (للمدنية) مستخدَماً طوال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن
العشرين.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صيغت كلمة (حضارة)
ترجمة لـ (Civilization) ، وربما كان علي مبارك ومن بعده أحمد لطفي السيد
أول من استخدم كلمة (حضارة) للدلالة على مفاهيم (Civilization) ، وابتداءاً من
الربع الثاني من القرن العشرين شاع استخدام كلمة (الحضارة) بديلاً عن (المدنية)
بمعناها الشامل.
في عشرينيات هذا القرن أطلق سلامة موسى لفظ (ثقافة) على مفاهيم
(Cltre) قاصداً بها: المعارف والعلوم والآداب والفنون، يتعلمها الناس ويتثقفون
بها؛ بينما أطلق (الحضارة) مقابلاً لكلمة (Civilization) قاصراً مدلولها على
الأمور المادية والمحسوسة.
وفي أواخر الخمسينيات أُطلقت لفظة (المدنية) على الظواهر المادية في حياة
المجتمع ترجمة لـ (Civilization) ، بينما ترجمت Cltre إلى (حضارة) للدلالة
على الظواهر الثقافية والمعنوية، وقد ساهمت في ذلك ترجمات علماء الاجتماع
والإنثروبولوجيا العرب.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين أخذت المعاجم والقواميس تترجم
Civilization إلى (حضارة) ، مع نقل التعريفات والمفاهيم المرتبطة بالكلمة
الأوروبية كما هي في بيئتها.
ومن خلال هذا الاستعراض يتضح لنا أن هناك شقين في المفهوم الغربي الذي
أراد بعض المثقفين العرب نقله إلينا من خلال ترجمة (Civilization) و (Cltre) : شق مادي محسوس، وشق معنوي ومعرفي. وقد انتقل التداخل والتضارب في
مفاهيم اللفظين عند الأوروبيين إلى الترجمات العربية؛ حيث عبرت (المدنية)
أحياناً عن الشقين معاً، وأحياناً أخرى عبرت (الحضارة) عنهما، وأحياناً عبرت
(المدنية) عن الشق المادي، و (الحضارة) عن الشق المعنوي، وأحياناً أخرى
عبرت (الحضارة) عن الشق المادي، تاركة للشق المعنوي المعرفي كلمة (الثقافة) .. وهكذا اضطرب ارتباط المفهوم مع المصطلح، وإن كان يكثر في السنوات
المتأخرة إطلاق لفظ (الحضارة) على الشقين المادي والمعنوي، مع بعض الميل إلى
استخدام (المدنية) في الجوانب المادية، تاركاً (الثقافة) لجهود الفرد في تنمية وعيه
ومعارفه وذوقه؛ بخلاف (الحضارة) التي تتسم بالجماعية.
نقد المفهوم الغربي:
بادئ ذي بدء: فإننا غير ملزمين بقبول محتوى المفهوم ولا بالتمسك بمصطلح
ارتآه بعض المثقفين إلا بقدر ما يوافق قناعاتنا، وهذا مقتضى إسلامنا، بل مقتضى
كوننا عقلاءَ وأحراراً، ومن هنا: وجب علينا مناقشة المفهوم وتمحيص المصطلح؛ فمن خلال مناقشة المفهوم الغربي الذي يعد مرجعاً للمفكرين العرب الذين نقلوه
إلينا نستطيع التعرف على فحوى المصطلح ومدلولاته وملابساته التي تسللت إلى
المصطلح العربي، ونستطيع أيضاً استيضاح مدى توافق ذلك المفهوم مع مفاهيمنا
الإسلامية الأصيلة.
لقد اتضح من خلال العرض السابق أن المفهوم الغربي خرج من كلمتين تدل
إحداهما في أصل معناها على الفلاحة (غرس، ثم إنماء، ثم حصد) ، وتدل
الأخرى على النسبة إلى المدينة، بينما خرج المصطلح العربي (حضارة) من
منطلق أن (الحضر) بخلاف البدو، وعليه: فإن الكلمة (حضارة) تدل على
الاستقرار الذي تنشأ عنه المدينة التي هي أصل Civilization، ويمكن مناقشة
ذلك فيما يلي:
أولاً: ارتباط مفهوم (الحضارة) بالمدن والنظرة الأوروبية للتطور أخرج
مجتمعات بشرية مما يسمى بالمجتمعات البدائية من دائرة الحضارة، وهذا لا يستقيم
إنسانياً؛ فالحضارة ميزة إنسانية نظراً لتفرد تكوين الإنسان العقلي والنفسي
والعضوي، وهذا ما عناه ابن خلدون في مقدمته عندما أدخل البدو (بدون مدن) في
مراحل العمران، وقريب من ذلك تقريرات علماء الإنثربولوجيا؛ فهم يقصدون
بالحضارة: جماع حياة أي مجتمع بدائي أو متقدم؛ فلكل جماعة إنسانية من النشاط
(الحضاري) ما تهيأ لها لتتكيف مع بيئتها وتحقق غايتها من التحسين والسعادة،
وهكذا يكون لكل جماعة إنسانية حضارتها التي أبدعتها، وكما أنه ليست هناك
جماعات كاملة التحضر كذلك لا توجد جماعات وحشية أو بدائية تماماً.
فالبدو مثلاً ليسوا خلواً من (الحضارة) ، وقد كان لهم في بلاد العرب قبل
الإسلام أعرافهم وقيمهم الأخلاقية التي ترتكز في تقريرها وتنفيذها على إعمال فكر، وكان لهم شِعْر يحمل كثيراً من الحكمة والتأمل والخبرة، كما كانت لهم خبرات
عن النجوم والرياح والمطر بنيت على الملاحظة والاستقراء.
وقد أشار علماء الأجناس الجدد حسب الموسوعة البريطانية إلى أن شعوباً
بدون مدن مثل قبائل بولينيزيا والهنود الحمر في أمريكا الشمالية كانوا على درجة
عالية من (الحضارة) ، بمعنى أنه عند التدقيق وجد أنه كانت لديهم لغات، وفنون
أصيلة، بشكل يثير الإعجاب لظروفهم ومؤسساتهم المتطورة، وكان لديهم أيضاً
ممارساتهم الاجتماعية والسياسية والدينية، وأساطيرهم الوثيقة التي هي ليست
بأحسن ولا بأسوأ من كثير من تلك التي تسود اليوم بين دول أوروبا.
وقد قدمت (الحضارات الماضية) في أطوارها المتعددة إنجازات تعتبر الأساس
الذي شيد عليه البناء الحضاري الأوروبي، كاكتشاف النار، وصهر المعادن،
وتدجين الحيوانات، والكتابة، والعجلة، وابتكار الصفر ... بل قدمت جماعات
بشرية بدائية اختراعات كانت أنفع للإنسان من الصعود إلى القمر، وهل يقارن هذا
الصعود من جهة نفعه للبشرية باختراع رغيف الخبز مثلاً؟ !
ونخلص من كل ذلك إلى أن الحضارة نسبية، وأنها تراكمية، كما أنها أيضاً
كلمة محايدة لا تحمل في ذاتها مدحاً ولا ذماً.
ثانياً: إن مفهوم (الغرس، ثم الإنماء، ثم الحصد) جعل كثيراً من الباحثين
ينظرون إلى (الحضارة) على أنها تسير في خط تصاعدي دوماً، حتى إن بعض
المفكرين كهيجل وكانت وفيكو على فروق بينهم قسموا التاريخ إلى ثلاث مراحل:
مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة (الحضارة) ، وبناءاً على ذلك المفهوم
تكرست النظرة إلى أحوال المجتمع الأوروبي المعاصر على أنها (الحضارة) ، بينما
المجتمعات الأخرى الماضية أو المعاصرة مجتمعات همجية، أو في أحسن الأحوال
في مرحلة متدنية من (الحضارة) ، ولذلك: ظهرت عبارات مثل: المجتمعات
المتخلفة، المجتمعات النامية، اللحاق بركب الحضارة، تضييق الفجوة،.... وفي
الوقت نفسه: أعطى هذا المفهوم تصوراً عن قيم المجتمع الأوروبي الذي تسنم قمة
(الهرم الحضاري) ومعتقداته وأنماط سلوكه ووسائل حياته.. أنها الأرقى والأصلح، بينما عدت قيم المجتمعات الأخرى ومعتقداتها وأنماط سلوكها رجعية ومتخلفة،
ومن ثم: ظهرت عبارات مثل: رسالة الرجل الأبيض، اتباع الحضارة الغربية
بحلوها ومرها، الدور التحضيري لأوروبا.. وبالفعل فقد تعاظم الدور الأوروبي
في المجتمعات الأخرى، وأخذ الأوربيون في (غرس) قيمهم وأفكارهم ونمط
معيشتهم، والعمل على (إنمائها) وسط هذه المجتمعات، والتطلع والصبر لـ
(حصد) ثمرتها، وهو ما نعده نحن غزواً حضارياً بينما يدعي بعضهم أنها مجرد
عملية (تحضير) قسري.
ثالثاً: إن هذا المفهوم بخلفياته التاريخية الأوروبية ولّد نوعاً من فكر التبعية
تجاه الغرب؛ فنسق التطور الأخير للمدينة الأوروبية أوجد مدناً كبيرة بمثابة مراكز
عالمية تمثل بؤراً تتشابك حولها مدن مختلفة رغم تباعدها، غير أنها ترتبط بالمدينة
(الأم) ، وتكون هذه المدن أخوات في المدينة الأم، وهذه هي النظرة الإغريقية
نفسها تجاه المدينة الأم (أثينا) ، ولكن طبيعة العلاقات المعاصرة أوجدت أنماطاً من
الارتباطات مختلفة عن تلك التي كانت على عهد الإغريق، ومن هنا تكرست
النظرة إلى طبيعة العلاقة المفترضة بين دول العالم (النامي) ودول العالم
(المتحضر) بأنها علاقة تبعية، ثم نشأت المحاور والأحلاف والعلاقات الخاصة مع
المراكز (الحضارية) الأوروبية.
ومن جهة أخرى: فإن انبهار العالم (النامي) بحضارة أوروبا ونظرة كثير من
مثقفيه المهزومين نفسياً إلى كون الحضارة: نقلاً وغرساً وإحلالاً، أوجد بيئة
خصبة للدعوة إلى استبعاد الثقافة والمعارف بل والقيم المحلية وتنحيتها؛ بوصفها
رجعية متخلفة، لتفسح المجال لـ (الثقافة الجديدة) و (ثقافة اليوم) و (ثقافة
المستقبل) ، ومن ثم: للحضارة الجديدة.
رابعاً: إن المفهوم الأوروبي مستمد من القيم والأخلاق والأنماط التي أوجدتها
المدينة الأوروبية بعد تطورها الأخير، ولذلك فإن هذا المفهوم ينسب إلى (المدينة) ؛ فالمدينة في الغرب مصدر للقيم والسلوك، القيم والسلوك اللذين ظهرا في القرن
السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ حيث تطورت المدينة الأوروبية وانتشر فيها
نمط حياة الترف وما صاحبه من أفكار وعلاقات اجتماعية وسياسية مستحدثة، وهذا
بخلاف التصور الإسلامي، بل والتاريخ الإسلامي اللذين يختلفان عن التصور
والتاريخ الأوربيين؛ فالمدينة إسلاميّاً هي التي خرجت من رحم القيم والسلوكيات
الإسلامية وليس العكس؛ فهي مدينة؛ لأنها ذات شرعة (دين) وسلطان (دان) ؛
فهي إحدى صور تشكلُّ حياة المسلمين، وهكذا كانت حضارة الإسلام وليدة هذا
الدين، ولذلك صاحب تغيير الرسول صلى الله عليه وسلم لاسم (يثرب) إلى
(المدينة) إعادة تشكيل المجتمع الجديد وفق القيم الإسلامية، وربما لذلك أيضاً كان
من علامات النفاق إطلاق اسم (يثرب) على (المدينة) ؛ حيث يحمل إطلاق هذا
الاسم القديم رغبة في العودة إلى العقائد والقيم والنظم القديمة التي محاها تأسيس
(المدينة) النبوية.
ومن هنا: رأينا اختلاف المجتمع الأوروبي (المتحضر) عن المجتمع
الإسلامي في شتى المجالات حتى المادية منها؛ حيث تسيطر أدوات الحضارة
(الأشياء) على الأول، يدور حولها ويعمل من أجلها؛ لأنها غايته، بينما يوظف
المجتمع الإسلامي هتذه الأدوات لخدمة عقيدته ومبادئه ومنهجه.
خامساً: صاحَبَ نشوء المفهوم الأوروبي أو سبقه انفكاك المدينة الأوروبية من
هيمنة الكنيسة حيث كانت الكنيسة مركز المدينة الأوروبية والمسيطرة عليها أو
بالأحرى: انفكاك المجتمع الأوروبي من الدين، وعلى ذلك قامت حضارة أوروبا
المعاصرة، ونتج عن ذلك أمران مهمان:
أما الأمر الأول: فهو بروز مفهوم (الحضارة) أو (المدنية) على أنه عكس
مفهوم (الدينية) ، ومن هذا التصور ظهرت عبارات: الدولة المدنية، والقانون
المدني، والثقافة المدنية، في مقابل: الدولة الدينية، والقانون الديني، والثقافة
الدينية، وهكذا انتقلت (اللادينية) إلى مجتمعاتنا عبر (المدنية) رغم التباين الكبير
بين دين النصرانية ودين الإسلام.
والأمر الثاني: نشوء القومية الحديثة على أطلال الانتماء الديني أو المذهبي،
ومن ثم ربطت الحضارة بالأرض أو القومية؛ ولهذا السبب لا نجدهم يطلقون اسم
(الحضارة المسيحية) على حضارتهم رغم اشتراكهم في الانتساب إلى (المسيحية) ،
إضافة إلى سبب آخر هو أن انكماش المساحة التي يتحرك فيها دينهم وأي دين
خلاف الإسلام جعلهم لا يتركون للدين إلا ركناً ضيقاً، هو كونه أحد مكونات الشق
المعنوي في (الحضارة) أو (المدنية) ، وهذا بخلاف الإسلام الذي تتأبى طبيعته على
الانكماش أو الانزواء؛ فهو أوسع من أن تحتويه دائرة في (الحضارة) أو حتى كل
الحضارة؛ لأنه يشمل الحياة كلها، ولذا خرجت منه الحضارة وانتسبت إليه وليس
العكس؛ وهذه خصيصة إسلامية فريدة.
تمحيص المصطلح العربي:
ارتكز من روج لمصطلح الحضارة على أن الحضر لغة بخلاف البدو، مما
يعطي دلالة على الاستقرار الذي هو شرط للحضارة، وأيضا: على الاستعمال
العربي ل (حاضرة) بمعنى مدينة أو قرية.
ورغم أن المعاجم العربية تورد (الحضر) على أنها خلاف البدو، وأن
الحضارة الإقامة في الحضر، إلا أن الاقتصار على هذا المعنى لاتخاذه مصطلحا
غير مسلم به؛ فقد أورد ابن الأنباري في كتابه (الأضداد) وكذا أورده قطرب في
الأضداد أيضا أن الحضارة من الأضداد؛ حيث قال: (ومن الأضداد قولهم: فلان
من أهل الحضارة، إذا كان من أهل الحضر، ومن أهل الحضارة، إذا كان من
أهل البادية [1] .
وإذا ضربنا صفحا عن دلالة ما ذكره ابن الأنباري فإننا بالتأكيد لا نستطيع
الزعم بأن أهل العربية قصدوا من لفظ الحضارة المفاهيم نفسها التي يقول بها علماء
الإنثروبولوجيا المعاصرون؛ لأن اللفظ العربي لا يحتمل تلك المفاهيم لغة، كما أن
الحضارة إذا اعتبرناها من حاضرة بمعنى مدينة لا تدل لغة على الشق المعنوي
والقيمي الذي ارتبط بالمفاهيم الحديثة ل (الحضارة) ، إلا إذا أضفنا إليها مفاهيم
Civilization الغربية، وهذا لا يستقيم لغة ولا تاريخا كما بينا.
وقد حاول الأستاذ نصر محمد عارف [2] توسيع مفهوم الحضارة عربيا ليتسع
لمعان إسلامية كثيرة، عن طريق ربطه بمعنى الشهادة، وحاول ذلك أيضا من
خلال التفريق بين الحضور والوجود؛ حيث أعطى للحضور معنى طرح نموذج
إنساني للاقتداء به، أو للتبشير به بغض النظر عن مضمون هذا النموذج.
ولا شك أن هناك رابطا بين الحضور والشهود، ولكن هذا الرابط لا يصل
إلى حد أن تكون الكلمتان مترادفتين، بنحيث نذهب لنستنطق المعاني المستنبطة من
شهد ثم نسقطها تلقائيا على حضر كما فعل الاستاذ نصر، فأصل معنى شهد لغة:
علم وبين، وهذا المعنى لا يشترط دوما في الحضور، وهذا على ما بينا،
والحضور لا يقتضي العلم، ألا ترى أنه يقال: حضره الموت، ولا يقال شهده
الموت؛ إذ لا يصح وصف الموت بالعلم [3] وهذا يعني أن الشهادة أعم من
الحضور، فكل من شهد حضر، وليس بلازم أن يكون كل من حضر شهد.
فنحن إذن بإزاء ثلاث كلمات: الوجود: وهو ضد العدم، وهو ممكن مع
الغيبة، والحضور: وهو ضد الغيبة، لذا فهو غير ممكن مع الغيبة، ولا يستلزم
العلم والبيان. والشهود: وهو أعلى من الحضور؛ إذ يقتضي حصول العلم والبيان، وقد يعني هنا: المراقبة وأداء الرسالة.. وهذا التفريق بين الكلمات الثلاث يجعلنا
نخرج أصحاب حضور مثل التتار الذين كان لهم نظم ودساتير وتأثير في حركة
التاريخ من الشهود؛ حيث كان لهم حضور ولكن لم يكن لهم شهود.
فإذا كان مصطلح الحضارة لا يكفي للدلالة على المفهوم المراد رغم التحفظات
الموردة عليه فما هو اللفظ الذي يمكن أن يطرح بديلا له؟
قبل أن نبحث في المصطلح البديل علينا أولا أن نحدد المفهوم، وإذا كان
مقال كهذا لا يحتمل البحث في تعريف جامع مانع للمفهوم، فسوف أحاول تقديم
ملامحه من خلال التعرف على العناصر والخصائص والشروط ودوائر النشاط
المشكلة له.
فالمفهوم يبحث في نشاط الإنسان وإنجازاته في فترة زمنية، بما يحقق ذاته
وسعادته ويكيفه مع بيئته ويميزه عن غيره، باعتباره مخلوقا اجتماعيا مختلفا عن
الحيوان.. ومن هنا نستطيع القول: إن عناصر المفهوم هي: الإنسان، والبيئة'،
والزمن..
والإنسان: عقل، وجسد، وروح، يتميز عن الحيوان عندما يكون إنسانا بأن
عقله: يستطيع التأمل والنظر، والتحليل والتركيب، والربط بين المتشابهات
والتفريق بين المتنافرات، واختزان التجارب والمعارف ثم تذكرها والاستفادة منها.. وبأن جسده: يحتوي إضافة إلى غرائزه على مخ كبير الحجم، له جهاز عصبي
معقد التركيب، قامته منتصبة مما حرر يديه، يداه تمكمنانه من القبض على الأشياء
بقوة، لسانه وحباله الصوتية مكنته من إخراج أصوات مختلفة، عيناه في وجهه
مما يمنانه من الرؤية في مجال بصري واسع، طفولته الجسدية والعقلية والنفسية
طويلة.. وبأن روحه: تبحث عن الطمأنينة والسكن والتجانس والجمال مع جنسه
ومع بيئته، تسمو بالغرائز، وتبحث دائما عن معبود تألهه.
وأما البيئة فمقصود بها: العناصر والإمكانات المادية المتاحة لاستغلال
الإنسان، والعوامل الجغرافية (تضاريس، وموقع ومناخ) التي يعيش فيها ويتأثر
بها ويحاول السيطرة عليها.
وأما الزمن: فهو امتداد الوقت الذي ينشط فيه الإنسان: الماضي الذي يستمد
منه خبرته، والحاضر الذي يعايشه ويستغله، والمستقبل الذي يستشرفه ويخطط له.
ولكن هذه العناصر الثلاثة: (الإنسان، والبيئة، والزمن) لا تعمل وحدها؛ إذ
لا بد أن يكون هناك غاية (هدف) يسعى إليه، وتعاون اجتماعي يعمل على تحقيق
هذا الهدف وتلك الغاية، ولإخراج هذا الهدف إلى الواقع لا بد من الاستقرار
والاستمرار إضافة إلى التعاون، ولقيام هذا التعاون لا بد من وجود نوع من أدوات
الاتصال (اللغة والكتابة مثلا) ولا بد من وجود نوع من العلاقات الاجتماعية،
ونوع من الحكم المنظم والسلطة المؤثرة وقوانين (أو أعراف) منظمة.
ومن هنا: نجد أن الإنسان في سعيه لتحقيقف هدف راحته وسعادته (الجسدية
والعقلية والنفسية والروحية) يعمل في دوائر نشاط متعددة ومتداخلة، نتجت من
طبيعة الإنسان وتفاعله جماعيا مع بيئته خلال الزمن، هذه الدوائر هي: دائرة
النشاط المعنوي والمعرفي، وتشمل: الجوانب العقدية والروحية والفكرية، ودائرة
النشاط المادي، وتشمل: الجوانب الاقتصادية والتقنية والمعمارية..، ودائرة
النشاط الإداري، وتشمل: النظم والمؤسسات السياسية والإدارية.
فما هي الكلمة التي تصلح أن تدل على هذه المفاهيم؟
في رأيي وبدون تعصب فكري أو سلفية شكلية أن أقرب كلمة تدل على هذه
المفاهيم هي الكلمة التي اختارها العلامة ابن خلدون (العمران) ، فهي أقرب الكلمات
في اللغة العربية، وأقربها إلى الاستعمال القرآني، بل لا تدانيها حسب علمي لفظة
أخرى في اللغات الأجنبية للدلالة على هذه المفاهيم..
فأصل مادتها واشتقاقاتها تتضمن الجانبين: المادي، والمعنوي، وتتضمن
أيضا: البقاء (الاستمرار) ، والامتداد الزمني، والاجتماع، والكثرة (أو الانتشار) ،
والعلو (السمو والتقدم) .. وإليك بيان ذلك:
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (العين والميم والراء، أصلان
صحيحان، أحدهما يدل على: بقاء [4] ، وامتداد زمان [5] ، والآخر على: شيء
يعلو [6] ..... ومن الباب: عمارة الأرض [7] ، يقال: عمر الناس الأرض ... عمارة ... ) ، ويقول الأزهري في تهذيب اللغة (وانظر أيضا لسان العرب لابن منظور) : ( ... عن ابن الأعرابي أنه قال: عمرت ربي أي عبدته [8] ، وفلان عامر لربه، أي: عابد، قال: ويقال: تركت فلانا يعمر ربه، أي يعبده، وقال الله عز وجل [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها] [هود: 61] أي: ... أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها [9] ... ورجل عمار، وهو الرجل القوي الإيمان الثابت [10] في أمره.. قال: والعمار: الزين [11] في المجالس مأخوذ من العمر، وهو القرط، والعمار: الطيب الثناء والطيب من ... الروائح..... [12] ) ، ويقول أيضا: (وعمار: المجتمع الأمر اللازم ... للجماعة [10] الحدب على السلطان [11] ، مأخوذة من العمارة، وهي القبيلة المجتمعة على رأي واحد [11] ، قال: وعمار: الرجل الحليم الوقور في كلامه وفعاله ... [12] ، وعمار مأخوذ من العمر، وهو البقاء [4] فيكون باقيا في إيمانه وطاعته وقائما بالأمر والنهي إلى أن يموت، وقال: وعمار: الرجل يجمع [10] أهل بيته وأصحابه على أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام بسنته..) .
وعلى هذا تكون (العمران) التي هي مصدر عمر يعمر كلمة محايدة أيضا لا
تفيد مدحا، ولا ذما، فقد يكون عمران قوم فاسدا أو باطلا، وقد يكون صالحا أو
حقا، وقد يكون فيه جانب من هذا أو جانب من ذاك.. تماما مثل كلمة دين التي قد
تعني دين الحق أو تعني دينا باطلا.
وبمثل الاستعمال اللغوي جاء الاستعمال القرآني: يقول الله تعالى: [أو لم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة
وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها] [الروم: 9] ، وقد بين لنا القرآن في
مواضع أخرى بعض أنماط هذا العمران الأقوام؛ فقوم عاد قال لهم نبيهم هود عليه
السلام: [أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا
بطشتم بطشتم جبارين] [الشعراء: 128 - 130] ، وقوم ثمود الذين قال لهم
نبيهم صالح عليه السلام في معرض التذكير بمنة الله عليهم: [هو أنشأكم
من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروا ثم توبوا إليه ... ] [هود: 61] قال لهم في
موضع آخر في معرض المنة أيضا: [واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد
وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ... ]
[الأعراف: 74] ، وقال أيضا: [أتتركون ما هاهنا آمنين. في جنات وعيون
وزروع ونخل طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين]
[الشعراء: 146 - 149] .
ومن الاستعمال القرآني بمعنى العبادة (الشق المعنوي) قوله تعالى في العمران
الحق: [إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر] [التوبة: 18] ، وقوله
تعالى في العمران الباطل: [ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على
أنفسهم بالكفر] [التوبة: 17] .
ومن الاستعمال بمعنى التشييد والإعمار المادي قوله تعالى: [أجعلتم سقاية
الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله]
[التوبة: 19] ، ومن الاستعمال بمعنى الامتداد الزمني قوله تعالى: [أو لم نعمركم
ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير] [فاطر: 37] قوله تعالى: [يود أحدهم لو
يعمر ألف سنة] [البقرة: 96] .
وأخيرا:
فقد يبدوا استعمال مصطلح (العمران) غربيا ومهجورا، وقد ينظر إلى
مصطلح (الحضارة) من منطلق: خطأ شائع خير من صحيح مهجور، ولكن
مصطلح (الحضارة) أو (المدينة) كان مهجورا أكثر منه، ولم يثبت ويعرف إلا حين
استخرجه من استخرجه ثم استعمله وأكثر الآخرون من استعماله، وهكذا أصبح
متداولا معروفا، ويمكن لمصطلح (العمران) إذا رأى فيه أصحاب الرأي والفكر
صلاحيته لأن يكون مصطلحا لهذا المفهوم أن يفرض نفسه ويأخذ السيرة نفسها
بكثرة استعماله وتدواله أيضا.
أهم مراجع المقال:
الحضارة الثقافة المدنية …دارسة لسييرة المصطلح ودلالة المفهوم.. نصر
محمد عارف.
في معركة الحضارة ... قسطنطين زريق.
معجم علم الاجتماع ... تحرير: دينكن ميتشيل، ترجمة ومراجعة: د.
إحسان محمد الحسن.
الحضارة.. د. أحمد حمدي محمود.
الحضارة.. دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها.. د. حسين مؤنس.
مؤشرات حول الحضارة الإسلامية ... د. عماد الدين خليل.
مصطلحات فكرية.. سامي خشبة.
تأملات.. مالك بن نبي.
مقدمة ابن خلدون.. ابن خلدون.
__________
(1) الأضداد، لابن الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ص 365.
(2) في بحثه المعنون: الحضارة الثقافية المدنية (دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم) ، ولا تحط هذه هذه الملحوظة من قدر البحث وتميزه؛ إذ يعد من أقيم ما كتب بالعربية حول هذا المصطلح حسب اطلاعي، وهو من أهم ما استفدت منه في هذا المقال.
(3) الفروق في اللغة، ص89.
(4) تدل على: استمرار.
(5) وقت وتاريخ.
(6) سمو الإنسان في قيمه ومبادئه وسلوكه، وتقدمه في منجزات نشاطه.
(7) إنجازات مادية.
(8) سمو روحي تحقيق لإنسانية (شق معنوي) .
(9) جمال وذوق (شق معنوي) .
(10) اجتماع وتعاون.
(11) نظم وعلاقات اجتماعية وسياسية.
(12) سمو وعلو خلقي (شق معنوي) .(146/128)
المنتدى
العيد.. وكلمة الروح
أسامة طه الشافعي
يأتي يوم العيد ببُشريات متجددة كل عام؛ ففي المغزى الاجتماعي والمعنى
الإنساني لهذا اليوم سرّ الفرح، وروعة الانتقال من طور إلى طور؛ إذ هو يوم
الخروج من الزمن إلى زمن جديد، زمن قصير ضاحك بين الحين والحين؛ ليكون
يوماً طبيعياً في هذه الحياة التي تعقدت وانتقلت عن طبيعتها! !
يوم يعمّ فيه الناسَ ألفاظُ الدعاء، والتهنئة ليرتفعوا فوق منازعات الحياة
وجاذبيات التراب.
يوم سنّ فيه الإسلام الثياب الجديدة إشعاراً للجميع بأن الوحي الإنساني جديد
في هذا اليوم، فلا معنى فيه للأخلاق البالية من القطيعة والقسوة. في هذا اليوم الجديد الأطفال هم المعلمون لنا على نحو ما قال (الرافعي) - رحمه الله -، فلِمَ لا نجتلي حالهم لنتعلم منهم أن الحياة وراء الحياة وليست فيها؟ !
هؤلاء السّحرة الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من دراهم
معدودة.
هؤلاء الأطفال هم السهولة قبل أن تتعقد، يأخذون من الأشياء لأنفسهم
فيفرحون بها قانعين يكتفون بالتمرة ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها، فهلاّ
تعلمنا منهم! ؟
إن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها، فإذا لم تكثر الأشياء في النفس كثرت
السعادة ولو من قلة؛ فالطفل يقلّب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمه هي أجملهن، وإن كانت شوهاء؛ فأمه وحدها هي أم قلبه، ومن ثم فلا معنى للكثرة في هذا
القلب، هذا هو السرّ، فهلاَّ أخذه الكبار عن الصغار؟ !
يا إلهي! ما أبعدنا عن سر الخلق وعن كلمة الروح بأطماعنا وآثامنا! وما
أبعدنا عن البهجة بهذه الغرائز التي لا تؤمن إلا بالمادة، ولا تستقر إلا بإحراز أوفر
الأنصبة منها! فيا أسفا علينا نحن الكبار، وما أبعدنا عن حقيقة الفرح وسر
الحياة!) .
إذا كانت كلمة الروح في ذلك اليوم هي تذكير للناس بسهولة الحياة قبل أن
تتعقد فهي أيضاً تذكير للناس بحق الضعفاء والعاجزين حتى تشمل الفرحة بالعيد كل
بيت، وحتى لا نرى النموذج البائس (الجائع العاري) ، وإلى هذا المغزى
الاجتماعي العظيم يرمز تشريع صدقة الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى،
إطلاقاً للأيدي الخيّرة في مجال البر، حتى لا تشرق شمس العيد إلا والبسمة تعلو
شفاه الناس جميعاً.
فهلاَّ أرينا الله من أخلاقنا ما يحب! إن ألوف المؤمنين والمؤمنات تعوّدوا
السماحة وبذل الخير وصنائع المعروف، وتلك من سمات الخير في أمتنا، فإنما
يتسرّب الشقاء إلى الناس عندما يحيون متقاطعين لا يعرفون إلا أنفسهم ومطالبها
فحسب؛ فمن أراد معرفة أخلاق أمة فليراقبها في أعيادها؛ إذ تنطلق فيها السجايا
على فطرتها، وتبرز العواطف على حقيقتها، والمجتمع السعيد هو الذي تسمو
أخلاقه الاجتماعية في العيد إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى،
وذلك حين يبدو متماسكاً متراحماً فيخفق فيه كل قلب بالحب والمرحمة.
إن الفقر محنة، إذا لصقت بالإنسان أحرجته وربما هبطت به دون المكانة
التي كتب الله - تعالى - للبشر، وقضية الإيمان قديماً وحديثاً أن يرهب الإنسان
ربه في أمثال هؤلاء البائسين، وأن يذكر مصائب إخوانه من الأقطار الأخرى
المشردين في هوان، وامتدت إليهم الأيادي الآثمة الملوثة لتنفرد هي بالحياة! !
إن من حقنا أن نفرح، لكن من واجبنا أن نذكر فواجعنا.. نذكر أطفالنا في
إفريقيا وفي شتى البقاع.
إن دنيانا تمتلئ بالكوارث والأرزاء، فلنظهر بمظهر الأمة الواعية التي لا
يحُول احتفالها بذكرياتها الحبيبة وأعيادها دون الشعور بمصابها.
وقالها الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله -: (فلنقتصد في لهونا،
ولنخفف من سرَفنا؛ لنشعر بالإخاء قوياً حتى تقوى العزائم، وهنا روح الإيمان
الحي ولُباب المشاعر الرقيقة التي يكنّها المسلم لإخوانه، حتى إنه ليحيا بهم ويحيا
لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو روح واحدة حلت في أجسام
متعددة، وحتى يوقن المرء بهذه المعاني في هذا اليوم كانت صلاة العيد تجمع الناس
صفاً وراء صفٍ، ونسقاً على نسق كالسنبلة ليس فيها على الكثرة حبة متميزة! !
فلنعش بهذه الروح، ولنمحُ ساعة بساعة، فالزمن يمحو الزمن، والعمل يغير العمل، ودقيقة باقية في العمر هي أمل كبير في رحمة الله) .(146/138)
المنتدى
أنت.. وإن قيل
إبراهيم المشرف
أنت أيها الداعية رأس طبقات المجتمع بنص قول الله تعالى: [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين] {فصلت: 33} ، وراية الفصائل الإسلامية بقرار: (وذروة سنامه) ، فمهما سمعت من نقد، أو هجوم فابقَ شامخاً لا تهزك الرياح، ولا تنكسك العواصف، بل تزيدك رسوخاً في طريق الدعوة.
وإن ما تشهده الأطروحة الفكرية المعاصرة من دعوة إلى (النقد الذاتي) بكل
صوره ومفرداته يجب فيه أمران:
أولاً: أن لا تخرج عن ميزان: [ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا
تبسطها كل البسط] [الإسراء: 29] وأن تنضوي تحت [اعدلوا هو أقرب
للتقوى] [المائدة: 8] فلا إفراط ولا تفريط.
ولكن الذي نراه أن الورقة النقدية في توسع وثراء، والعمل الدعوي في فقر
وضمور.
ألا فليتق الله كاتب يرمي بسهامٍ طائشة، وعبارات مجحفة حارقة، باسم النقد
الهادف البناء زعموا معرضاً عن المحاسن، غير مقدر للجهود، وربما زين له
الشيطان الجهر بالسوء من القول، تحت مظلة: (الحق أغلى من الرجال) .
لله كم كانوا سبباً في صروح دعوية تقوَّض بناؤها! وكم كانوا سبباً في دعاة
تساقطوا وآثروا السلامة! وكم كانوا سبباً في مشاريع دعوية ذهبت أدراج الرياح!
وكم كانوا سبباً في صرف عامة الناس عن قنوات إرشادية دعوية إلى غير بديل!
بل قد تلقفتهم قنوات الشر الهابطة، كل ذلك [وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا]
[الكهف: 104] .
ثانياً: أن لا يضيق الداعية بذلك ذرعاً؛ ففي كثير من تلك الأطروحات أفكار
هادفة، وأقلام صادقة تحترق للدعوة، وتشعر بآلامها بعاطفة حية، وشعور جياش، غاية مسعاها تصحيح المسيرة وترتيب الأوراق ورص الصفوف؛ فإن خانها
الأسلوب، ولم يسعفها التعبير فلا تثيرنك المواقف، واجعل الحكمة ضالتك،
واستقبلها على الرحب والسعة، فإني أراك طالما احتفيت بأن المؤمن يستفيد من كلٍ
حتى من عدوه، وطالما رأيتك تتغنى:
عِداتي لهم فضل عليَّ ... ومنَّةٌ فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
همُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فإن كان هذا هو منهجك مع نصال شانئة، وأقلام حاقدة تترصد للدعوة،
وتناصبها العداء، فأنت مع أولياء الإسلام وأنصاره أوْلى وأحرى؛ فهلم نفتش عن
تصحيح، ونبحث عن توجيه، ونغض الطرف عن إساءة لأدب النقد، أو خلل في
أخلاقيات الحوار.
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكنَّ سيد قومه المتغابي(146/139)
المنتدى
نريد رجالاً كهؤلاء
محمد العيسى
إن المتبصر في أحوال أمتنا الإسلامية لا يستطيع أن ينكر مدى ما تعيشه من
خذلان ومدى ما تلاقيه وتعانيه من أنواع الإذلال والقهر؛ فها هي تعيش في مؤخرة
الركب، وتأكل من فتات موائد الأنذال اللئام، وتتوالى عليها الصفعات تلو
الصفعات؛ فما تكاد تفيق من واحدة إلا وتأتيها أخرى، ونحن ننظر إلى الأمة وهي
تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة؛ فأي شباب نحن؟ وأي جيل هذا الجيل؟
إن واجبنا تجاه أمتنا وعقيدتنا لا يحتاج إلى مزيد شرح وبيان؛ فطالما تكلم
بذلك المتكلمون والدعاة إلى الله - سبحانه - ولكن وللأسف صُمَّت الآذان، فقد
استمرأنا الهوان وظللت سماءنا سحب الخَوَر والإحباط! !
أخي! إنني أدعوك أن تقلِّب معي دفتر الذكريات وصفحات التاريخ لننظر
سوياً إلى رجال ذلك الجيل الذي علت فيه الأمة وسادت؛ فما أحوجنا إلى رجال
أمثالهم يقودون السفينة التي عصفت بها ريح الكفر وهبت عليها أعاصير الحقد
والكراهية للإسلام وأهله! لذا كان هذا الموضوع: (نريد رجالاً كهؤلاء) .
الصبر على قدر الله:
امرأة يُقتل أبوها وزوجها وأخوها يوم أحد فلما أتاها خبرهم قالت: ما فعل
الله برسول الله؟
قالوا: بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته صاحت من أعماق قلبها: كل مصيبة
صغيرة بعدك يا رسول الله!
إنه الصبر الجميل على قدر الله، إنه الصبر الذي افتقده كثير من رجال
زماننا، الصبر مدرسة تخرج الأبطال الأشداء الذين يثبتون عندما تزل الأقدام
ويحتسبون عندما ييأس أصحاب العزائم الخاملة؛ فبالصبر تنال المكرمات.
نعم نريد رجالاً كهذه المرأة في صبرها.
شجاعة وإقدام:
عندما وصل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - إلى شاطئ دجلة وجد
على مد البصر مدينة المدائن في عظمتها وقصر كسرى في بهائه، وانتهى به
الرأي أن يعبر مع رجاله على خيولهم وكان هذا أمراً غريباً وجديداً عليهم؛ فلم
يلبث أن تقدم عاصم بن عمرو ومعه ستمائة من أهل النجدة، فساروا حتى بلغوا
شاطئ دجلة يريدون أن يعبروا أولاً ليحموا الشاطئ، فلما وجد بعض رجاله
يترددون تلا قول الله تعالى: [وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا]
[آل عمران: 145] ثم رفع رأسه فاقتحم النهر واقتحمه زملاؤه؛ فلما رأى القعقاع
الكتيبة الأولى تتقدم في سبحها، ونظر فإذا العدو في الجانب الآخر يتأهبون لردها
أمر سائر أصحابه الستمائة فدفعوا خيولهم إلى النهر فدخلوه كما دخله عاصم
وأصحابه، وتولى العدوَّ العجبُ لهذا الصنيع، فأرسلوا فرسانهم ليمنعوهم من
الخروج وليقاتلوهم على الماء، وصاح عاصم: (الرماحَ الرماحَ أسرعوها وتوخوا
العيون) ، وخرجت كتيبة الأهوال سالمة.
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
نعم نريد رجالاً كهؤلاء.(146/140)
المنتدى
من تاب فربي ينجيه
محمد عبد السلام الباشا
يسعى الانسان بلا كلل ... والدنيا ماذا تعطيه
تعطيه طعاما او شرابا ... وقليل من ذا يكفيه
جهد وجهاداً يا كبدى ... يتوارى دوماً فى التيه
عجلات تسرى من دهرى ... من يرفض هذا يأتيه
ثمرات تنضج يقطفها ... إن خابت حتما تشقيه
يا من لا تدرى ساعتها ... سارع فالأمر بتاليه
ندماً لايشدى صاحبه ... ودقيق حساب يرديه
حضر أشيائك ولتغنم ... من عمرك يكفى باقيه
ألطاف الله بنا حلت ... من تاب فربى ينجيه
التوبة تلغى ماضينا ... والشكر لربي نزجيه
التوبة ميلاد يأتى ... وصلاح المرأ سيعليه(146/142)
المنتدى
الصلاة
أسامة أنور عيسى
كيف الحياة لمن نسى ركعات ... والخير ينبض فى ربا الصلاوات
وعلا ألآذان فلا مجيب لدعوتى ... هل قد نسيت روائع الحسنات
نادى المؤذن هل رميت بلذة ... ومضيت نحو مجامع البركات
أدميتني حرقت كل مشاعري ... باللهو في الحركات والسكنات
فإذا ذهبت إلى الصلاة تعطلت ... لغة الهدوء ومجت بالهفوات
وإذا إنتهيت أبحت كل تشاجر ... بالكف والإقدام والكلمات
واذا أتاك من الاحبة ناصح ... ألقيت نفسك فى خضم سبات
قف ي أخى لا لا تظل معفراً ... باللهو عند إقامة الصلاوات
لا تلقى بالنفس الكريمة للدجى ... فى هفوة من أقبح الهفوات
وتأمل الخير الوفير بركعة ... وبسجدة يا روعة الركعات
قف ثم قم نحو الصلاة معطراً ... بالذكر والتسبيح والعبرات
إن الصلاة بها الصلاح جميعه ... وفسادها يفضى إلى النكبات
تنهى الصلاة عن التفاحش والهوى ... والميلنحو براثن العثرات
فإظفر بها متمسكا بخشوعها ... تنل الجنان وروعة الحسنات(146/143)
المنتدى
نوم ونشاط
فتحى الجندي
القلب ينشط للقبيح ... وكم ينام عن الحسن
يا نفس ويحك ما الذى ... يرضيك فى دنيا العفن
أولى بنا سفح الدموع ... وأن يجلببن الحزن
أولى بنا أن نرعوى ... أولى بنا لبس الكفن
فأمامنا سفر بعيد ... بعده يأتى السكن
أقسمت ما هذي الحياة ... بها المقام أو الوطن
فلم التلون والخداع ... لما الدخول على الفتن
يكفي مصانعة الرعاع ... مع التقلب في المحن
تبا لهم من معشراً ... ألفوا معاقرة النتن
بيننا يدبر للأنين ... أو الخيانة يأتمن
تبا لمن يتملقون ... وينطون على دخن
تبا لهم فنفاقهم ... قد لطخ الوجه الحسن
تبا لمن باع الجنان ... لأجل خضراء الدمن [1]
__________
(1) خضراء الدمن: هي الدنيا.(146/144)
المنتدى
تعقيب على العدد 144
... ... ... ... ... ... ... ... أبو عبد الله التميمي
قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) فهذه ملحوظات على العدد 144
شعبان 1420هـ.
أولاً: في غلاف العدد: جعلتم أو شبهتم السُّنَّة بذلك الجدار الذي تنكسر عليه
الأقلام، والسُّنَّة أعلى وأرفع من أن تشبه بمثل هذا الجدار الذي يمكن أن يهدم
بالأيدي. ثم إن هذا الجدار به خروم وتكسير في بعض نواحيه؛ فهل السُّنَّة هكذا؟
لا والله، فإن السنة محفوظة بإذن الله، ولها رجال يدافعون عنها.
ثانياً: تجعلون الصفحة الأولى في الغالب وهذا العدد منها عن الحديث في
أمور السياسة وهذا غير محذور؛ ولكن افتتاحيتنا وأول نظرة تكون على أمريكا
وأخواتها.
فلو كانت البداية من ديننا الحنيف آية وتفسيرها أو حديث ومعناه، أو كلام
لأهل العلم من أهل السنة والجماعة، ثم يتم في الصفحات التي تليها ما ترغبون من
سياسة وغيرها. والله يحفظكم ويسدد خطاكم.(146/145)
الورقة الأخيرة
الدمعة الألبانية
محمد بن سليمان المهنا
جاءني خبر وفاة الشيخ العلامة أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر
محمد ناصر الدين الألباني بُعيد صلاة المغرب من ليلة الأحد الثالثة والعشرين من
الشهر السادس من عام 1420هـ، فنكأ الجرح، وبعث الحزن الذي تجرعته
أنفسنا خمسة أشهر منذ وفاة شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين عبد العزيز بن باز رحمه
الله وغفر لنا ولهم. آمين.
نعم! قبض في خمسة أشهر رأسا الأمة وإماما الحديث والسنة الرجلان اللذان
رَبَّيا النشء المبارك من شباب الإسلام على الأخذ بالكتاب والسنة وتعظيمهما وعلى
اطِّراح التقليد ونبذ العصبية المذهبية والرجوع إلى كتب السنة قراءة وعناية وحفظاً. ما إن جاءني هذا الخبر حتى تلفَّتُّ يمنةً ويسرةً: ماذا أصنع؟ ومن أُعزِّي؟ ثم
انطلقتُ أنا وإخواني يُعزي بعضنا بعضاً، وقصدنا بالتعزية كبار علمائنا وجمعاً من
طلبة العلم الذين عُرفوا بالعناية المتميزة بآثار الشيخ رحمه الله.
ثم عمدت إلى أشرطة للشيخ كنت اقتنيتها قديماً، فجمعتها لأجدد العهد به
وأتعزى ببقاء عمله خالداً إلى ما شاء الله.
واستمعت إليها وكان من بينها شريط محاضرة لم يتبين لي مكان إلقائها ولا
تاريخه إلا أنها كانت بعد العصر فيما أظن والله أعلم.
والعجيب من تلك المحاضرة فاتحتها وسائرها مُعْجِبٌ فقد بُدئت بمقدمة ألقاها
شاب حسن الصوت والأسلوب، وكانت كغيرها من مُقَدمات المحاضرات شكراً
للشيخ وثناءً عليه وعلى علمه ودعاءً له بالخير والإثابة.
ولم يكن في المقدمة شيء من الإطراء والمبالغة في المدح، وإنما اشتملت
على مدح يسير وثناء متواضع على الشيخ وعلمه وجهاده، ثم ختم المقدم كلامه
ليبدأ الشيخ محاضرته.
بدأ الشيخ بخطبة الحاجة، وفي صوته ضعف، وفي لسانه حَبْسة، ثم قال:
(أشكر الأخ على كلمته وعلى ثنائه، وليس لي ما أقوله لقاء ذلك الثناء إلا الاقتداء
بالخليفة الأول أبي بكر الصديق الذي كان الخليفة الحق والأول لرسول الله) ،
ولم يكن صوت الشيخ يزداد إلا تقطعاً وضعفاً واحتباساً، ثم قال: (ومع ذلك،
فكان إذا سمع رضي الله عنه شخصاً يثني عليه خيراً وأعتقد أن ذلك الثناء مهما كان
صاحبه قد غلا فيه، فما دام أنه خليفة رسول الله فهو بحق ومع ذلك ... ) وهنا
انقطع صوت الشيخ وبكى طويلاً وسمعته يقول مُخافتاً: (الله المستعان) ثم سكت
ونشج وانتحب ثم أكمل فقال: (ومع ذلك كان يقول: اللهم لا تؤاخذني بما
يقولون) ، ثم سكت، ثم أكمل: (واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا
يعلمون) وهنا انقطع صوته مرة ثانية، وبكى، ثم قال: (هذا يقوله الصدِّيق الأكبر؛ فماذا نقول نحن من بعده؟ فأقول اقتداءً به: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، ... واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون) ثم أضاف الشيخ وهو يبكي فقال: (الحقُّ والحقَّ أقول: لست بذلك الموصوف الذي سمعتموه آنفاً من أخينا الفاضل؛ وإنما أنا طالب علم لا شيء آخر) .
ما أن سمعت تلك الكلمات الصادقات التي اختلطت بالدموع والعبرات حتى
أيقنت بما كنت مؤمناً به من قبل من صدق الشيخ، ونصحه لله ورسوله وللمسلمين
أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكِّي على الله أحداً، حتى أيقنت أن الشيخ لم يكن يردُّ
على المخالف وربما أغلظ عليه إلاَّ غيرة على الدين ونصرة لشرعة رب العالمين،
فلم يكن قصده الصعود على أكتاف العلماء، ولا التنقص من ذواتهم، ولا التفكه
بالنيل من أعراضهم، وإنما كان غيوراً وربما دفعته الغيرة إلى شيء من الغلظة
والفظاظة.
وهذا وإن لم يُستحسن أحياناً إلا أن وراءه نية صالحة وقصداً حسناً؛ والله لا
يضيع أجر المحسنين.
هذا اليقين بصدور الشيخ عن قصد حسن بعيداً عن الانتصار للنفس وحب
الشهرة والظهور لم يُستفد من هذه الواقعة آنفة الذكر فحسب؛ وإنما استفاده
المنصفون من تاريخ طويل وسيرة عريضة سارها الشيخ في خدمة السنة والذود عن
حياض الشريعة، وليست هذه الواقعة إلا مثالاً من أمثلة كثيرة تشهد على تواضع
هذا الرجل العظيم، وتدل على ما ينطوي عليه قلبه من خير وصدق وهضم للنفس، وإلاَّ؛ فعلامَ البكاء الذي قطع كلام الشيخ وأخفى صوته؟
ثم لماذا نفى تلك الأوصاف التي مدحه بها المقدِّم مع أنه يستحقها وأكثر منها؟
ثم لم يكتف بذلك؛ بل نفى أن يكون من العلماء، وقال: (إنما أنا طالب علم لا
شيء آخر) .
إنها والله أخلاق الصادقين من العلماء، ولقد تذكرت بها الإمام الرباني شيخ
الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله الذي كان آية في التواضع والخشوع مع شدة
متناهية على أهل الأهواء؛ فانظر ما يحدِّث به عنه تلميذه الإمام الحَبر الهمام ابن
القيم رحمه الله يقول: (ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من
ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: (ما لي شيء، ولا مني شيء
ولا فيَّ شيء) وكان يتثمل كثيراً بهذا البيت:
أنا المُكدِّي وابن المُكدِّي ... وكذاك كان أبي وجدي
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: (والله إني لأجدد إسلامي كل وقت، وما
أسلمتُ بعدُ إسلاماً جيداً) ، وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه وعلى
ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي
ثم ذكر بعدها تسعة أبيات ملئت تواضعاً وخضوعاً وإخباتاً لله تعالى.
هكذا فليكن العلماء، وبهذا فليتأدب الطلاب، والحمد لله الذي أرانا في علمائنا
الأنموذج الصادق ليكونوا للناس أئمة وهداة.
اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.. اللهم صلِّ على نبينا محمد وآله
وصحبه أجمعين.(146/146)
ذو القعدة - 1420هـ
مارس - 2000م
(السنة: 14)(147/)
الافتتاحية
الطور الثاني لدولة يهود
كان مقتل (رابين) - رئيس وزراء (إسرائيل) السابق وزعيم حزب العمل -
عام 1995م أثناء إحدى جولاته الانتخابية على يد أحد المتطرفين اليهود علامة
واضحة على مدى التنافر القائم بين مختلف الأطراف في مجتمع الكراهية اليهودي
في فلسطين المغتصبة؛ ولهذا فليس من المستغرب تركيز (أيهود باراك) في
برنامجه الانتخابي على شعار إعادة اللّحمة إلى (المجتمع الإسرائيلي) بعد أن فرقتهم
سياسات الليكود؛ ولهذا سُمي التحالف بين حزب العمل وحركتي (غيشر وميماد)
التي قادها في الانتخابات بقائمة: (إسرائيل واحدة) .
إن من يتابع الانتخابات اليهودية تتكشف أمامه جوانب من شخصية اليهودي
النمطية، ويتبين مقدار النجاح والإخفاق في محاولة جمع شتات اليهود في مجتمع
متجانس. والذي يهمنا هو توضيح بعض الصور التي انطبعت في الذهن بعد
أسابيع من المتابعة للنشاط الانتخابي في (إسرائيل) وإليك بعضها:
أولاً: التغطية الإعلامية:
استغل اليهود نفوذهم الإعلامي في إبراز ديمقراطية النظام في (إسرائيل)
وتفرده في المنطقة، وبالغوا في متابعة العملية الانتخابية حتى تخال نفسك تتابع
الانتخابات الأمريكية. ومن الغريب أن هناك شبه إجماع على الوقوف ضد نتنياهو
حتى إنه اشتكى من الحملة الإعلامية ضده، ومما لا شك فيه أن للإعلام دوراً مهماً
في إسقاط شخص نتنياهو ثم الليكود.
وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أنه على الرغم من غياب الديمقراطية في العالم
العربي فإن الملاحظ هو تعاظم الاهتمام الإعلامي الرسمي فيه بهذه الانتخابات وما
يمكن أن تؤدي إليه!
ثانياً: ظهور الأحزاب الفئوية:
تُعتبر الأحزاب اليهودية الأولى في فلسطين المحتلة امتداداً لأحزاب قائمة في
أوروبا الشرقية وروسيا؛ فمثلاً تشكل حزب العمل الموحد في روسيا عام 1897م،
وحزب مرزاحي في المجر عام 1902م، وحزب اغودات (إسرائيل) عام 1912م
وكانت الحركة الصهيونية تشجع قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم. وقد
نص عليه برنامج قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم، وقد ذكره برنامج
مؤتمر بال 1897م، وهكذا بلغ عدد الأحزاب عام 1948م (12) حزباً ارتفع بعد
عام واحد فقط إلى (24) حزباً، ووصلت القوائم الحزبية وغير الحزبية إلي (31)
قائمة في عام 1981م؛ ومن الملاحظ سيطرة اليهود الغربيين (الأشكناز) على
النشاط السياسي؛ فهم زعماء جميع الأحزاب وينظرون إلى أنفسهم أنهم بناة الدولة،
ولا يخفي بعضهم الضيق من اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين يُتهمون بالتخلف؛
وبالمقابل فإن اليهود الشرقيين الذين هاجروا بعد قيام الدولة يحسون بالغبن وبالتحيز
ضدهم، وأن نسبتهم في المناصب القيادية لا تكاد تذكر مقارنة مع عددهم الذي
يتجاوز نصف عدد اليهود مع تزايد النسبة نظراً لتناسلهم السريع مقارنة مع
الأشكناز الذين يرون في هجرة الروس الحل الوحيد لمعالجة هذا الخلل مما أوجد
حالة من التنافر الشديد بين اليهود الشرقيين - ويمثلهم حزب شاس - والمهاجرين
الروس - ويمثلهم حزب المهاجرين الجدد (يرائيل بعاليه) .
لقد تمكن حزب شاس من استقطاب اليهود الشرقيين؛ ولا أدل على ذلك من
ارتفاع عدد نوابه من 10 نواب عام 1996م إلى 17 نائباً في هذه الانتخابات وحل
في المرتبة الثالثة بفارق بسيط بعد الليكود، وكان هذا الحزب متحالفاً مع الليكود
ومسيطراً على وزارة الداخلية التي استغلها في تقديم الخدمات لأتباعه مع محاربة
المهاجرين الروس وذلك بالتشكيك في يهوديتهم وحرمانهم من الامتيازات، واتهامهم
بأنهم وراء تجارة المخدرات والجنس ونشرها في المجتمع؛ ولهذا فإن المهاجرين
الروس يهاجمون شاس ويطالب حزبُهم بوزارة الداخلية لخدمة قاعدتهم الانتخابية.
فهل يأتي اليوم الذي يجد فيه المهاجرون الأوائل من الأشكناز أنفسهم مضطرين إلى
تشكيل حزب خاص بهم من أجل الحفاظ على مصالحهم؟
ثالثاً: من الذي سقط: الليكود أم نتنياهو؟
لا شك أن لنتنياهو دوراً كبيراً في سقوط تجمع الليكود وحلفائه؛ فقد أجمعت
الدوائر الداخلية والخارجية على وجوب إزاحة نتنياهو؛ إذ لم يعد وجوده يُحتمل؛
فقد ساءت العلاقة بينه وبين اللوبي اليهودي المتنفذ في أمريكا، وكان مصدر حرج
كبير للزعماء العرب المتعاملين مع (إسرائيل) . ولا ننسى كيف أغضب أقرب
الأصدقاء العرب عندما نفذ الموساد بأمر منه عملية اغتيال خالد مشعل التي لم
يفلحوا بها في عمان؛ أما داخل حزبه فقد خرج ثلاثة من أقطابه وأكثرهم شعبية
وهم (دان مريدور، وإسحاق مردخاي، وبني بيجن) بسبب خلافاتهم الشخصية مع
نتنياهو، وانضموا للمعارضة وساهموا في إسقاطه. وقيادات حزب العمل أيضاً
يعترفون بهذه الحقيقة؛ فمثلاً يقول غوري برعام: (يجب ألا نضلل أنفسنا؛ لقد
كانت نتيجة الانتخابات بمثابة حجب ثقة عن نتنياهو وليس تأييداً ليهود باراك) .
وكان انسحاب المرشحين لصالح باراك آخر ضربة توجه لنتنياهو.
وقد استقال نتنياهو من الليكود وسيترك البرلمان (الكنيست) ويسافر إلى
أمريكا مما يعني نهاية مستقبله السياسي.
رابعاً: باراك في الانتخابات:
قامت حملة العمل الانتخابية على ثلاث ركائز أساسية تتلخص فيما يلي:
1- أن الانتعاش الاقتصادي في عهد رابين وبيريز انقلب إلى ضائقة بسبب
سياسات نتنياهو وتعطيله عملية التطبيع مع العرب مما أفقد (إسرائيل) كلاً من
الاستثمارات الأجنبية والأسواق العربية المنتظرة في حال نجاح ما يسمى بعملية
السلام.
2- أنه لا توجد فروق في المواقف السياسية وبخاصة في المسار التفاوضي
مع الفلسطينيين، وأن باراك قادر على ضمان تحقيق المصالح الاستراتيجية
والأمنية بصورة أفضل من نتنياهو. وكما يقول أحد منظّري اليمين في (إسرائيل)
البروفيسور (يهوشع بورات) في معرض تسويغه تأييد باراك: (إنني على يقين أن
ما يحققه نتنياهو بثمن كبير تدفعه دولة (إسرائيل) يحققه باراك وأكثر منه دون أن
نخسر شيئاً يُذكر) . وكان يهود باراك يكرر كثيراً أن المرء يحتاج إلى ميكروسكوب
لكي يدرك الفروق الأيديولوجية بين حزبي العمل والليكود.
3- التركيز من ناحية على عيوب نتنياهو الشخصية: وكانت وسائل الإعلام
تبرز أن نتنياهو كان كاذباً ومستعداً لعمل أي شيء من أجل تحقيق مصالحه
الشخصية، وأنه يدبر الدسائس حتى لأقرب الناس إليه، وأخيراً فإنه لا يستطيع
ادعاء الطهر بعد اعترافه بالخيانة الزوجية، ومن ناحية أخرى فقد قدم باراك نفسه
بوصفه الضابط الذي حصل على أكبر قدر من الأوسمة تقديراً لعملياته ضد
الفلسطينيين، وأبرز شهادات قادة سابقين في الجيش والمخابرات يشيدون فيها
بتجربته قائداً، ويثنون على صفاته الشخصية، وكما يصف نفسه في كرّاسٍ
انتخابيّ مكتوب بالروسية وموجه للمهاجرين الروس الجدد ويحمل عنوان: (أيهود
باراك الجندي رقم واحد في إسرائيل) . تحدث فيه عن عمليات قادها باراك؛ منها:
عملية اغتيال قادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1973م، وهم كمال
ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار؛ حيث يقول: (لقد اطلقت النار على رؤوسهم، وقد تطاير بياض عيونهم على قبعتي) ومنها أيضاً: عملية اغتيال (أبو جهاد) ،
وقصف مقر المنظمة في تونس، والتخطيط لتدمير المفاعل النووي العراقي، وكما
يقول أحد الصحفيين الإسرائيليين المعارضين لهذا النهج فإن باراك يعرض نفسه
على أنه (مقاول قاتل) .
خامساً: باراك رئيساً للوزراء:
لقد صَدَمَ باراك في أول تصريحاته بعد الفوز المتفائلين من العرب عندما
أطلق لاءات تؤكد ثوابت دولة اليهود، والتي تتلخص فيما يلي:
- أن القدس هي العاصمة الأبدية والوحيدة لدولة (إسرائيل) والشعب اليهودي. ولتجاوز اتفاقية أوسلو حول الوضع النهائي للقدس اتفق حزب العمل مع السلطة
على إطلاق تسمية القدس على ضاحية أبو ديس؛ أما القدس الشرقية والغربية فتبقى
تحت السيادة (الإسرائيلية) لأن اسمها أورشليم!
- لا وجود لجيش عربي على الضفة الغربية لنهر الأردن.
- عدم إزالة مستوطنات يهودية قائمة في الضفة الغربية؛ بل توسيع
المستوطنات القائمة.
- رفض إعادة اللاجئين الفلسطينيين المشردين مطلقاً.
إن حكومته ستعمل - كما يقول - من أجل سن ميثاق بين اليهود المتدينين
والعلمانيين؛ ولهذا فإن فكرة تشكيل حكومة موسعة لا يُستثنى فيها أحد تسيطر عليه، وقد تباحث مع كثير من الأحزاب الممثلة في الكنيست من أقصى اليمين حتى
أقصى اليسار؛ فهو بالإضافة إلى محادثاته مع حلفاء العمل التقليديين من اليسار
والوسط فقد تباحث مع رئيس الليكود الجديد (شارون) الذي لم يخفِ باراك إعجابه
الشديد بنهجه العسكري، وتحاور مع حزب شاس ومع نقيضه حزب شيتوي الذي
يسعى لإخراج الأحزاب الدينية من الحياة السياسية وقد واجه مشكلات كبيرة في
محاولته؛ فلكل شروطه التي تصل إلى اشتراط استبعاد أحزاب أخرى منافسة مما
اضطر باراك للتهديد بالعدول عن هذا النهج والعودة إلى خيار الاقتصار على
الأحزاب اليسارية والعربية؛ ولكن رئيس الدولة ضغط عليه للاستمرار.
والذي يبدو من الاستقراء أنه سواء تكونت حكومة موسعة أم لا؛ فإن النظام
السياسي وصل إلى درجة من التفتت بحيث يصعب ثبات أي حكومة؛ فبعض
الأحزاب إذا خرج من الحكومة فإنه يعارض مشاريع الحكومة، وإذا دخلها فإن سيفه
المصلت هو تهديده بالخروج منها إذا لم تحقق مطالبه؛ ولهذا فهناك خوف دائم شبيه
بحال الحكومات الإيطالية غير المستقرة.
وأخيراً فإن فترة باراك لن تختلف كثيراً عن فترة نتنياهو؛ فهما يمثلان جيلاً
واحداً هو ثمرة الاحتلال من المولودين داخل فلسطين ممن خلف الجيل السابق الذي
عاصر بناء الدولة مما يمكننا أن نطلق على هذه المرحلة: الطور الثاني الذي تستقر
فيه الدولة وتحس بالأمن مما يعجل بظهور التناقضات الداخلية؛ وصدق الله تعالى
حيث يقول في كتابه العزيز: [بَاًسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر: 14] .(147/4)
كلمة صغيرة
ماذا بعد إفلاس الخطاب العلماني؟ !
ظاهرة الزندقة من الظواهر القديمة التي تتجدد وتتلون، وتلبس لكل عصر
لبوسه. وفي هذا العصر نشطت حركة الزندقة في مناح شتى من أخطرها الهجوم
على الشريعة الإسلامية، والجرأة في نقد النصوص الشرعية، والعبث في تأويلها
وتبديلها عن مواضعها؛ فصار التراث الإسلامي حمى مستباحا يلغ فيه كل مفسد
بحجة (البحث العلمي) (وحرية الرأي!) وأصبح الهجوم على الأصولية والتطرف
سبيلا للهجوم على ثوابت الأمة ومسلماتها الشرعية، حتى قال قائلهم: (إن الثابت
الوحيد هو حرية النقد) . وقال آخر مبينا استراتيجية في التصدي للمد الإسلامي:
(من أهم عناصر الحل: إزالة حاجز الخوف الذي لا يجعلنا نفصح بوضوح عن
موقفنا بكاملها تجاه هذا التيار المتطرف، إن بعضنا يخشى استخدام كلمة العلمانية،
وهي ليست مخيفة، يجب نكتب بوضوح مثلا في مسألة صلاحية الشريعة
الإسلامية لكل زمان ومكان، أي أن نقول: إنه ليس هناك في أمور البشر ما يسمى
قاعدة من هذا النوع.)
إن تشنج التيار العلماني واضطرابه في نقد التيار الإسلامي يدل على تنامي
الصحوة الإسلامية من جهة، وعلى إفلاس الاتجاه العلماني من جهة أخرى.
ولكن السؤال الكبير هو: هل يستطيع الخطاب الإسلامي المعاصر أن يقف
بثبات أمام هذا الكم الهائل من الانحراف؟ ! وهل يرتقي الخطاب كي يكون أكثر
عمقا وأصالة؟ وهل يتضح وتتسع آفاقه ليملك القدرة على مخاطبة الأمة باعتزاز
واتزان بعيدا عن الغلو والميوعة؟
نحسب أن هذا هو التحدي الكبير الذي يجب أن يتبنى رايته العلماء
والمفكرون ورجالات الدعوة الإسلامية، [ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي
عزيز] [الحج: 40] .(147/1)
الافتتاحية
اللغة والفكر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته وسلم، وبعد:
فلا شك أن اللغة وعاء الفكر؛ ولذا كانت عناية السلف عظيمة بالحفاظ على
لغة القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، وازداد حرصهم ذلك بعد دخول الأعاجم
في دين الله وإقبالهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان منهم
من لا يعرف الألفاظ في أصل اللغة ولا قانونها، كما كان منهم وهذا هو الغالب
والأخطر من لا يعرف مراد الشارع بالألفاظ؛ لأنه لا يعرف سنته في الخطاب ولا
يحيط بجميع النصوص الوارجة في الموضوع محل الفهم أو البحث.
ومن جهة أخرى اهتم بعض أهل البدع باللغة العربية، فبرز منهم أكثر من
عالم لغوي؛ لأن الوجوه اللغوية كانت طريقهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه
وبابهم إلى التأويل عندما أعياهم الاستدلال على بدعهم بنصوص ثابتة في القرآن
والسنة، فأخذوا يبحثون في ضعيف اللغة وشاذها ومرجوحها عما يشوشون به على
الأصول الصحيحة التي لم تستسغها عقولها أو أهواؤهم، حتى شاع بين بعض
النحاة قولهم: (إن نزل رغيف من السماء مكتوب عليه حرام، قلنا لغيرنا) ، دلالة
على مقدرتهم في صرف أوضح الكلام وأشده صراحة إلى معنى آخر غير المعنى
الظاهر.
وعندما انفتح الفكر الإسلامي على فلسفات الأمم الأخرى ونتاجهم العقلي دخلت
على المسلمين أفكار جديدة عبر ألفاظ عربية أخذت مفاهيم محدثة أضيفت على
المعنى اللغوي الأصلي أو انحرفت به، كالجوهر والفرد والمحدث والقديم ...
وهكذا رأينا أن المعركة الفكرية بين أهل السنة وسائر الفرق كانت معركة لغوية في
جانب كبير منها.
وبالأداة نفسها (اللغة) نفشت مفاهيم جديدة كالعلمانية والوطنية والقومية
والتقدمية والرجعية في عقول المسلمين العرب في العقود المتأخرة؛ فلقد كان من
رواد النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي
بعض المتضلعين في اللغة والباحثين في علومها من النصارى وأصحاب الزيغ من
تلاميذ المستشرقين، أمثال: بطرس وسليم البستاني، وناصيف وإبراهيم اليازجي، ولويس شيخو، ولويس معلوف.. بل حاول بعضهم كس هذا الوعاء الفكري تماما
من خلال دعوات مشبوهة إلى استبدال العامية بالفصحى في لغة الكتابة كما رأينا
عند أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل كما يسميه العلمانيون) ، أو استبدال الحروف
اللاتينية بالحروف العربية كما رأينا عند سلامة موسى، وهذا ما فعله أتاتورك لقطع
صلة تركيا بالعروبة والإسلام.
وإضافة إلى الأهداف السابق ذكرها للاهتمام باللغة ظهر في هذه المرحلة
الزمنية وما بعدها التوجه إى الطعن في الإسلام من خلال أبحاث لغوية، كما في
كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وعند أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله في
كتاب: (الفن القصصي في القرآن الكريم) ثم في كتابات التلاميذ المعاصرين أمثال
سيد حامد النساج، ونصر أبو زيد.. وغيرهم.
كما ظهر التوجه أيضا إلى امتلاك ناصية الأشكال التعبيرية الجديدة: كالمقال، والقصة، والرواية، والمسرحية لاستخدامها أداة لإيصال الأفكار الجديدة؛ فلمعت
أسماء: كفرح أنطون، وجوجي زيدان، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب
محفوظ. وبتحويل أعمال أمثال هؤلاء إلى أعمال فنية (إذاعية وسينيمائية
وتلفزيونية) انتشرت الأفكار التي أرادوا الترويج لها على نطاق واسع بين عوام
الأمة وخاصتهم.
وما زال هذا الأسلوب (استخدام اللغة لتقرير أفكار مستهدفة) متبعا ومؤثرا
حتى وقتنا الراهن، ومن الأمثلة الحية على ذلك: معالجة الأستاذ حسين معلوم
لمفاهيم القومية والحكم والتقدم على صفحات جريدة الحياة [1] .
وإذا كان المقام لا يتسع هنا لمناقشة جميع ما ورد في هذه المقالات فإنه لا
يسعنا إلا أن نشير إلى مأخذين على مقال واحد هو مقال: الإسلام والقومية:
أولا: انطلق الكاتب في قبول فكرة القومية المعاصرة من التحليل اللغوي
والاستعمال القرآني لمادة قوم، مما جعله يعد القوم بطونا وعائلات، وتارة شعب
مصر، وطورا الملة الموسوية، وهذا كله حق، ولكنه ليس كل الحق في الموضوع
الذي يعالجه؛ فإن الدعوة إلى القومية في منشئها وحاضرها لم تهدف إلى الاقتصار
على هذا المعنى اللغوي فقط، ولكنها أرادت جعل القومية رابطة يجتمع عليها
مجموعة من البشر تذوب فيها جميع الروابط الأخرى ومنها الدينية بحيث تعلو
القومية وتقدم عليها وكأنها عقيدة أخرى، فإذا قدمنا عليها أي ولاء آخر كالإسلام
مثلا لم يصبح لهذه القومية أي معنى عندهم، وهذا ليس كلامنا ولكنه تقرير روادها
أنفسهم. يقول الدكتور نبيه أمين فارس: (لقد غرس هؤلاء (الرواد الأوائل) بذرة
القومية والوطنية، وبعثوا حركة مستوحاة من تاريخ العرب ومآثرهم تستهدف مثلا
قومية بدلا من المثل الدينية والطائفية) [2] ، وهكذا فإن القومية عند دعاتها تجمع
بالإخاء المسلم مع النصراني واليهودي أو مع البوذي والهندوسي إذا كانوا يعيشون
في إطار واحد لقوم أو قطر، ولكنها تفرقه عن أخيه المسلم وقد يعاديه إذا كان من
قوم آخرين.
ثانيا: يقرر الكاتب أن الفكرة هي ابنة واقعها الاجتماعي (وهذا كلام صحيح
في العموم، ولكننا نعجب أنه لم يطبق ذلك على فكرة نشوء القومية ذاتها، بل ذهب
عند تطبيقها إلى فكرة أخرى مترتبه عليها هي كون القومية نوع من أنواع العصبية
المرفوضة في الإسلام) ، فهو يرى أن هذه الفكرة الأخيرة سكنت الفكر الإسلامي
عن طريق سيد قطب الذي نقلها بدوره عن أبي الأعلى المودودي رحمهما الله وهذا
الأخير كان متأثرا بواقعه الاجتماعي في الهند؛ حيث كانت فكرة القومية سبيلا
لسيطرة الأغلبية الهندوسية على الأقلية المسلمة هناك (هذا بالإضافة إلى أنه رآها
بمحتواها العلماني أيديولوجية معادية للإسلام) .
وإذا كنا هنا لا نناقش ولا نهتم بضحة دعوى التأثير والتأثر بين المفكرين
الإسلاميين المذكورين فإننا نذكر بأن فكرة القومية بمعناها المضاد للإسلام سكنت
الفكر العربي القومي قبل مولد المودودي وسيد قطب رحمهما الله، بل كان هذا
المعنى مصاحبا لهذه الفكرة منذ مولدها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
الميلادي على يد بعض نصارى الشام أمثال بطرس البستاني وناصيف اليازجي،
وهذه حقيقة يقررها كتاب علمانيون ونصارى قبل أن يقررها الكتاب الإسلاميون،
ومن يراجع على سبيل المثال كتابات ألبرت حوراني وجورج أنطونيوس وساطع
الحصري لا يخالجه شك في ذلك، فلم يكن الواقع الاجتماعي في الهند هو الذي
أعطى هذا التصور عن القومية العربية بل كان تنظير المفكرين القوميين العربي
وخاصة في الشام هو الذي نحا هذا المنحى؛ رغبة في قطع الروابط مع المسلمين
غير العرب (العثمانيين) ؛ حيث كانوا جميعا منضوين تحت لواء دولة واحدة في
إطار الرابطة الإسلامية.
كما أن فكرة القومية بهذا المعنى مضادة بطبيعتها وليس بواقعها فقط للإسلام
الذي جاء فيه: [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] أيا كانت أجناسهم
وقومياتهم، وفيه أيضا: [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد
الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] [المجادلة: 22] .
وبعد: فهل أمثال هذه المقالاتتعد تطبيقا لدعوات تكتيكية صدرت من بعض
القوميين واليساريين للمزاوجة بين الفكر القومي والإسلام، لتجديد الدعوة القومية،
وكسب الشارع العربي والاستفادة من طاقات الإسلاميين ورصيدهم الشعبي؟ إذا
كان الأمر كذلك فالواضح أنهم يريدون أن تكون القوامة في هذا التزاوج للفكر
القومي، وأن تكون اللغة والتاريخ شاهدي زور على ذلك! !
__________
(1) انظر الأعداد 138، 13385، 13412، 13414.
(2) مقدمة كتاب يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية، لجورج أنطونيوس.(147/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أحكام الصيد
عبد الله بن سعد المحارب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فمن نعمة الله تعالى على الإنسانية أنه أنزل دستوراً محكماً يحكم حياتها،
ومنهجاً قويماً ينظم سلوكها شمل في تعاليمه وآدابه مجمل تعاملات الناس بعامة؛
ونظم حياة الإنسان مع نفسه، ومع خالقه، ومع خلقه الإنس وغيرهم نظاماً دقيقاً
شاملاً كاملاً لا يوجد في غيره.
هذه التعاليم وتلك الآداب تتمثل في هدي هذا الدين الإسلامي العظيم بما أنزله
الله علينا في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
لذا كانت تعاليم هذا الدين العظيم أعظم النعم التي يمتن الله تعالى بها على
عباده؛ حيث يقول: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] .
فمن هذه الأحكام التي بينتها لنا شريعتنا الغراء: تعامل الإنسان مع أجناس
الحيوانات على اختلاف أنواعها وألوانها، سواء كان ذاك التعامل بالاستفادة منها في
المعيشة، وطرق الكسب لقوله تعالى:
[والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً] [النحل: 8] . ...
والاستفادة منها بأكل لحومها لقوله تعالى: [فكلوا منها] [الحج: 28] ، أو
كان ذاك التعامل لفوائد أخرى، ولو كان للاستئناس بالنظر إليها والترنم بسماع
صوتها؛ فالله تعالى قرن ركوب الحيوان والاستفادة منه في الآية السابقة بقوله تعالى
[وزينة] ، والذي يفهم من الآية أنه كما أباح لنا الركوب والاستفادة من هذه
الحيوانات أباح لنا اتخاذها زينة؛ وهذا من سعة فضل الله تعالى على خلقه.
والأصل في ذلك أي الاستفادة أن جميع المخلوقات التي يراها الإنسان
ويتعايش معها مخلوقة له، ميسرة له، يقول تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً ... ] [البقرة: 29] ، وهذا في سياق الامتنان على العباد بالإباحة
كما سيأتي.
والكلام في هذا الباب يطول؛ وحسبنا أن نقتصر على جانب منه هو من أهم
فروعه المتفرعة منه وأوْلاها بالاهتمام، لا سيما أن شريحة عريضة من الناس
يعايشونه، ألا وهو: أحكام صيد الحيوان في الشريعة الإسلامية، وهذا الموضوع
في الحقيقة بابه واسع ومسائله متعددة، وسأعرِّج على بعض مسائله الهامة، وألحقها بتنبيهات لطيفة؛ وكل ذلك في إطار الاختصار ليستفيد منها القارئ المبتدئ، ولا يملها المنتهي.
أولاً: تعريف الصيد:
الصيد لغة: هو مصدر صاد يصيد صيداً، ثم أُطلق الصيد على المصيد نفسه، تسمية للمفعول بالمصدر كقوله تعالى: [لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم]
[المائدة: 95] أي المصيد، واستخدم ذلك في أكثر من موضع في القرآن. ومعناه أي الصيد لغة: هو الاقتدار على ما كان
ممتنعاً ولا مالك له [1] .
والصيد شرعاً: هو اقتناص حيوانٍ حلالٍ متوحشٍ طبعاً غير مملوك ولا
مقدور عليه [2] .
فقولنا:
حيوان: يدخل فيه حيوان البر والبحر والحيوانات والطيور، وخرج الآدمي
وما ليس بحيوان.
حلال: خرج به الحيوان الذي لا يحل أكله كالخنزير والسباع، والمستقذرات
من الحيوانات.
متوحش طبعاً: خرج به من الحيوانات الداجنة الأليفة، كبهيمة الأنعام.
غير مملوك: خرج به ما يكون في حوزة الغير.
ولا مقدور عليه: خرج به ما كان في القدرة، سواء قبل إصابته أو بعدها،
فلا يجوز صيده حينئذ، ويكون رميه بالسلاح محرماً، وإن صِيد فلا يجوز أكله،
بل لا بد من تذكيته تذكية شرعية.
ثانياً: حكم الصيد:
للصيد ثلاثة أحكام:
الأول: الإباحة، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، والإجماع؛ فمن الكتاب قوله
تعالى: [قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] [المائدة: 4] ،
وأما السُّنة فوردت أحاديث كثيرة مشتهرة منها حديث عدي بن حاتم، وأبي ثعلبة
الخشني، المتفق عليهما وسيأتي ذكر بعضها في ثنايا البحث.
وأما الإجماع فقد قام على إباحة الصيد [3] ؛ وهذا الحكم هو الأصل؛
فالأصل في الصيد أنه مباح لدفع الحاجة، والانتفاع بلحمه، ويدل عليه قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] [البقرة: 29] ، قال الإمام الشوكاني
عند هذه الآية: (وفيه دليل أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، حتى يقوم
دليل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله تعالى: [جميعا] أقوى دلالة على هذا) [4] ، وقوله تعالى: [خلق لكم] معناه: من أجلكم، كما قاله جماعة من السلف [5] . ...
الثاني: الكراهة. وذلك إذا كان القصد منه التلهي به والمفاخرة، ولأنه
والحالة هذه يشغل الإنسان عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية، ثم هو
يضيع الأوقات ويأخذ بعقل المشتغل به، حتى يشغف به، ومن ثَمَّ يلهيه عن
الواجبات، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدا جفا، ومن تبع الصيد
غفل) [6] .
الثالث: التحريم؛ ويحرم الصيد في حالتين:
الأولى: إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم، وبساتينهم
وأموالهم وأراضيهم، وممتلكاتهم؛ لأن ذلك من الاعتداء على أموال الغير؛ ولأن
المقاصد لها أحكام الوسائل.
الثانية: إذا كان الصيد في الحرم، أو في حال التلبس بالإحرام.
أما الصيد في الحرم فلقوله تعالى: [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً]
[العنكبوت: 67] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفَّر صيدها) [7] وتنفير
الصيد: إزعاجه عن موضعه، وتهييجه. فالنهي عن الصيد يكون من باب أوْلى
في الحرمة.
أما تحريم الصيد في حال الإحرام فلقوله تعالى: [حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُماً] [المائدة: 96] وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وأَنتُمْ حُرُمٌ] [المائدة: 95] [8] .
ثالثاً: شروط حل الصيد (المصيد) :
ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الصيد لا يحل إلا بجملة من الشروط:
الشرط الأول: أن يكون الصائد من أهل الذكاة. فإن كان وثنياً، أو مرتداً
كتارك الصلاة عمداً أو من غير المسلمين وأهل الكتاب لم يُبَحْ صيده؛ لأن الشارع
لم يُبِحْ لنا غير ذبيحة المسلم، أو أهل الكتاب، فكذا في الصيد. أو كان مجنوناً،
أو صغيراً لا يميّز، فلا يحل صيده كذلك؛ لأن الصيد من جملة الأفعال التي تحتاج
إلى نية الفعل، وفاقد العقل ومن لم
يبلغ سن التمييز لا يمكن أن تصح منه النية.
الشرط الثاني: أن يسمي عند إطلاق آلة الصيد، سواء أكانت تلك الآلة
حيواناً جارحاً كالكلب، أو طيراً كالصقر، أو كانت آلة جامدة كالسهم والرمح
والبندقية، أو غيرها من الآلات التي تقتل الصيد بالجرح وتنهر الدم.
وللعلماء رحمهم الله تعالى في حكم التسمية ثلاثة أقوال:
القول الأول: وجوب التسمية على الصيد مطلقاً، فلو ترك التسمية عامداً أو
ناسياً فإن صيده لا يحل، وهذا هو المعتمد عند الحنابلة، وقال به الجماعة من أهل
العلم كالشعبي، وأبي ثور، وداود، ورجحه ابن قدامة [9] ، وهو اختيار شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله [10] .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أ - قوله تعالى: [ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه] [الأنعام: 121] .
ب - قوله تعالى: [فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا ا\سم الله عليه]
[المائدة: 4] .
ووجه الدلالة من الآيتين السابقتين واضح؛ ففي الأولى نُهي عن أكل ما لم
يذكر اسم الله عليه، والنهي يقتضي التحريم. وفي الثانية أمر بالتسمية، والأمر
يقتضي الوجوب، أي: وجوب التسمية.
ج - حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وإذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه فكُلْ. قلت: أرسلُ كلبي فأجد
معه كلباً آخر؟ قال: (لا تأكل؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على
الآخر) [11] .
د - حديث أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله: إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلَّم،
وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلَّم. فأخبرني: ماذا يصح لي؟ قال: (أمَّا ما ذكرت
أنكم بأرض صيد، فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك
المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته
فكل) [12] .
القول الثاني: أن التسمية واجبة مع الذكر، وتسقط مع النسيان، فلو ترك
التسمية عند الصيد عمداً فلا تحل، أما لو تركها سهواً فإن الصيد يحل.
وبهذا قال الحنفية [13] والمالكية [14] وهو رواية عن الإمام أحمد [15]
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أ - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن ناساً قالوا: يا رسول الله! إن
قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ !
قال: (سموا أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر [16] .
وجه الدلالة: لو كانت التسمية واجبة لم يُرخص لهم صلى الله عليه وسلم إلا
مع تحققها. وهذا في التذكية، فيقاس عليها الصيد.
وأجيب: (بأن الحديث يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة فهموا أنها لا بد
منها، وخشوا ألا تكون وُجِدتْ من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بما يخصهم من
التسمية عند الأكل) [17] .
وأجيب أيضاً: (بأنا لو سلمنا لكم ذلك فإن هذا في التذكية لا في الصيد،
وبينهما فارق. قال ابن قدامة رحمه الله:) والفرق بين الصيد والذبيحة: أن الذبح
وقع في محله، فجاز أن يتسامح فيه، بخلاف الصيد ( [18] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه) [19] .
وأجيب: (بأن الحديث يدل على سقوط الإثم عن الناس، لا جعل الموجود
كالمعدوم. بدليل ما لو نسي شرطاً من شروط الصلاة فإن الصلاة حينئذ تبطل، ولا
ينظر في سهوه أو عمده) [20] .
القول الثالث: أن التسمية سنة مؤكدة. وعليه فلو ترك التسمية عند الصيد
عمداً أو سهواً فإن الصيد حلال، وبهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله [21] .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة، منها:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم
يسم) [22] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم حينما سُئل: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى
أن يسمي؟ فقال: (اسم الله في قلب كل مسلم) [23] .
وأجيب عن هذا الأحاديث: (بأن الأول مجمع على ضعفه) [24] . والآخر
ضعيف كذلك؛ لأنه مُرْسَل، فلا تقوم بهما حجة، ولو صحت فهي في الذبيحة
خاص ة لا الصيد.
قال ابن قدامة: (وأما أحاديث أصحاب الشافعي، فلم يذكرها أصحاب السنن
المشهورة، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها؛ لما ذكرنا، مع ما في الصيد من النصوص الخاصة) [25] .
الترجيح: والذي يترجح من هذه الأقوال والله تعالى أعلم هو القول الأول؛
لقوة الأدلة الصحيحة الصريحة في وجوب التسمية.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وهذه نصوص صحيحة لا يُعَرَّج على منْ
خالفها) [26] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا أظهر الأقوال؛ فإن الكتاب
والسنة قد علَّقا الحِلَّ بذكر اسم الله عليه في غير موضع) [27] .
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله عن الصيد الذي لم يسمَّ
عليه؟ فأجاب: (إنها تُرمى ولا تُؤكل) . ونوقش بأن هذا من إضاعة المال،
والشارع نهى عن إضاعة المال؟ فأجاب قائلاً: (جوابنا على ذلك أن نقول: إن
الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ليست بمال؛ لأنها محرمة، وما كان محرماً
فليس بمال، وعلى هذا فلا تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة
المال. بل إن ترك أكلها طاعة لله عز وجل حيث قال تعالى: [ولا تأكلوا مما لم
يذكر ا\سم الله عليه] [الأنعام: 121] [28] .
وقال فضيلة الشيخ د. صالح الفوزان: (فالقرآن والسنة قد علَّقا الحِلَّ بذكر
اسم الله على الذبيحة في غير موضع، ولم يصح ما يخصصها بحالة دون حالة، أو
يصرفها عن الوجوب إلى الاستحباب) [29] .
وبهذا يتبين رجحان وجوب التسمية عند الصيد، وأنه يتوقف عندها الحِل من
عدمه. وإنما بسطت هذه المسألة بأدلتها وردودها، لأهميتها، ولتوقف حل الصيد
عليها؛ ولأنه غالباً ما يسأل الصيادون عنها، وغالباً ما يلتهي عنها من يشتغل
بالصيد.
الشرط الثالث: النية: أي يقصد الصيد: بأن يرسل الجارحة على الصيد أو
يطلق البندقية أو السهم عليه. أما إذا استرسلت الجارحة بنفسها فقتلت فلا تحل،
وكذا لو رمى سهماً عبثاً هكذا، فأصاب صيداً، فإنه لا يحل الصيد حينئذ، لعدم
النية؛ لكن لو لحق به قبل أن يموت وذكاه وسمى عليه فإنه يحل.
الشرط الرابع: أن يكون الجارح معلَّماً. سواء أكان صقراً أم كلباً؛ لقوله
تعالى: [ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ] [المائدة: 4] ؛ ولحديث أبي ثعلبة الخشني السابق رضي الله عنه.
ما يُعرف به المعلَّم من غيره ثلاث:
- إذا أرسله الصياد استرسل.
- وإذا زجره انزجر.
- وإذا أمسك لم يأكل.
ويتكرر منه هذا مرة بعد أخرى، حتى يصير معلماً في حكم العرف [30] .
وقد اختُلف في صيد الكلب الأسود البهيم أي الخالص فالجمهور على حله؛
لعدم الفارق عن غيره من الكلاب. والحنابلة على تحريمه؛ لأن الكلب الأسود
البهيم أُمِرَ بقتله [31] .
الشرط الخامس: ألاَّ يأكل الجارح الكلب أو الصقر من الصيد. فإن أكل لم
يُبَحْ صيده في أصح القولين، وروي هذا عن جمع من الصحابة والتابعين، لقوله
تعالى: [فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه] [المائدة: 4] ، ولحديث
أبي ثعلبة: (إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك.
فقلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل. إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل؛ فإني
أخاف أن يكون أمسكه على نفسه) [32] .
وهذا إذا وجد الصياد صيده ميتاً، أما إن وجده حياً فيه رمق الحياة فسمَّى
وذكَّاه، فحيئذ يجوز الأكل منه.
الشرط السادس: أن تكون آلة الصيد حادة تنهر الدم من أي موضع في
الحيوان ويموت بها، فإن مات خوفاً، أو جزعاً فلا يحل، وإن مات غرقاً بأن سقط
في الماء فينظر في سبب الموت، فإن كان السبب هو الماء فلا يحل، وإن كان
جرحه موجباً بحيث نعلم أن الماء لم يؤثر فيه فإنه حلال، وإن شُكَّ في ذلك فيغلَّب
جانب الحرمة، فلا يجوز أكله لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن وقع في الماء فلا
تأكل) [33] .
ويدل على هذا الشرط ما رواه البخاري عن عباية بن رفاعة عن جده قال: يا
رسول الله! ليس لنا مِدى جمع مُدية وهي السكين فقال: (ما أنهر الدم، وذكر اسم
عليه فَكُلْ، ليس السن والظفر) [34] .
وعلى هذا فلا يجوز أكل ما قُتِلَ بمُثَقَّلٍ أو بمعراض السهم، أو قتلتِ الآلةُ
بثقلها، وبهذا نعلم أنه لا يجوز القتل بما يسمى (بالنباطة) أو (المقلاع) لأنها تقتل
بالثقل [35] .
ولا يجوز كذلك أكل ما لم يخرج منه دم؛ لأنه قُتل بثقل الآلة؛ فإنها من
الموقوذة المحرمة. وأما اشتراط خروج الدم، فللرواية السابقة: (ما أنهر الدم
فكل) .
ولأن الدم المتحجر في الحيوان من جراء قتله بمثقّل يُفسِد الدم، ويكون ضاراً
للإنسان، وإذا خرج الدم المسفوح فإن الجراثيم والميكروبات تخرج منه فيكون
اللحم طبيعياً، وهذا ثابت في الطب الحديث، وهو من أسرار هذا الشريعة،
وحِكَمِها البالغة.
الشرط السابع: أن يكون الصيد مأذوناً في صيده زماناً ومكاناً، فلا يحل صيد
المُحرِم، أو الصيد في الحرم؛ لقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم] [المائدة: 95] .
الشرط الثامن: أن يكون الحيوان مأكول اللحم.
والأصل في جميع الحيوانات برية أو بحرية الحل، إلا ما جاء الشرع
بتحريمه، ومن ذلك الخنزير والحمار والبغل، وكل ذي ناب من السباع:
أي التي تأكل اللحوم كالذئب والأسد والكلب والنمر وغيرها من
المفترسات [36] ؛ وكل ذي مخلب من الطيور كالعقاب والباز والصقر، وكذا ما استخبث من الحيوانات وما استقبح منها كالخنافس والحشرات والوزغ، وهوامّ الأرض، وما كان مضراً كالحيوانات السامة كالحية والعقرب وغيرها. وما عدا هذه الأنواع فإن الأصل فيها الحل.
رابعاً: آداب يجب التحلي بها لمن أراد الصيد:
1- عدم التهاون بالصلوات المفروضة، وأداؤها في وقتها المحدد جماعة إن
كانوا جماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجبة فلا تسقط في أشد الظروف وأقساها: في
حال الحرب، وحال لقاء العدو، فكيف بحال الصيد؟ !
2 - ألاّ يكون الصيدُ شُغْلَ الإنسان الشاغل لمن كان لا يعتمد في رزقه
واكتسابه عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من تبع الصيد غفل) [37] .
3 - ينبغي للإنسان أن يتجنب صيد الحيوانات والطيور المستقرة والثابتة في
مكان، والتي لها صغار تأوي إليها وتطعمها، وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد بن
عثيمين عن صيد الطيور التي تكون حولها صغار، فأجاب حفظه الله: (إذا علمنا
أن هذا الطير المعيَّن له أولاد يضيعون بصيده فإن الأوْلى بل شك ألاّ يُصاد؛ لأنه أخشى أن يكون هذا من جنس فعل المرأة التي كانت لها هرة، فحبستها حتى ماتت جوعاً، فرآها صلى الله عليه وسلم تعذب في النار، إلا إذا كان يعلم أين يكون أولادها، ليذهب إليهم، فيأخذهم فينتفع بهم؛ فإن هذا لا بأس به) [38] .
4 - ينبغي كذلك للصياد أن يتجنب أذية الناس بالمرور في أراضيهم، أو من
بين زروعهم، وأشجارهم وممتلكاتهم؛ فإن الصيد في هذه الحالة يكون محرماً كما
سبق ذكره؛ وذلك لأن فيه أذية للناس، والله تعالى حرم الاعتداء على الناس، وفيه
نوع تمتع بأموال الناس بدون إذن، ومال المسلم لا يحل إلا بطيب نفس منه.
5 - ينبغي للصياد أن يحرص على التسمية وألاّ يتهاون بها؛ لأنه يتوقف
عليها حل الصيد من عدمه. وإني بهذه المناسبة أقترح على كل صياد أراد الصيد
أن يضع ما يذكّره بالتسمية، كأن يجعل لفظه (بسم الله) على البندقية أمام عينه
حينما يستعد للإطلاق؛ ليكون في تلك اللحظة الأخيرة متذكراً، فيسمي ثم يطلق.
6- ينبغي للصياد كذلك أن يكون في صحبته سكين حال الصيد؛ ليجْهز على
الحيوان، أو الطير الذي أصابه بالرمي ولم يمت؛ فإنه لا يحل قتله حين الاقتدار
عليه إلا بالذكاة الشرعية، وهذا من أعظم الأمور التي تحتاج إلى تنبيه؛ حيث إن
كثيراً من الصيادين يجهزون على الصيد وهو بين أيديهم بما معهم من سلاح، وهذا
أمر لا يجوز، ولا يحل أكل الصيد حينئذ، بل لا بد من الذكاة الشرعية، كما مر
معنا.
7 - ينبغي كذلك ألا يكون هذا الصيد هواية فقط، بمعنى: أن يصيد الصياد
لا للأكل بل للتسلية؛ فإن الصيد يكون حراماً، وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد
العثيمين حفظه الله عن صيد الحيوان فقط، ثم ترك الصيد ميتاً بعد ذلك لا يستفيد
منه هو ولا غيره؟ ! فأجاب حفظه الله:
(الصيد لهواً وعبثاً محرم؛ لما في ذلك من اللهو والغفلة عن ذكر الله؛ ولأن
ذلك يوجب ضياع المال في غير فائدة، وقد صرح بعض العلماء بكراهته، ولكن
قواعد الشريعة تقتضي تحريمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة
المال) [39] .
8 - كذلك يباح للصياد إذا بلغ مسافة القصر أن يترخص برخص السفر؛
لأن هذا السفر لأمرٍ مباح، فيقصر الرباعية، ويباح له الفطر في رمضان، وعليه
التأدب بآداب السفر من الأدعية الواردة وغيرها.
9- ينبغي للصياد ألا يخرج للصيد وحده، بل الأوْلى أن يكون في صحبة
أحد من أصحابه، خصوصاً إذا كان محل الصيد بعيداً بحيث يبلغ مسافة القصر؛
لأن الوحدة يحصل فيها أخطار؛ ولأن السفر مفرداً منهي عنه؛ فالمسافر شيطان،
والمسافران شيطانان، والثلاثة ركب، كما ورد في الحديث.
10 - ينبغي كذلك للصيادين أن يتجنبوا عند اجتماعهم المزح بالسلاح؛ وذلك
بأن يرفع أحدهم السلاح على الآخر، أو يرمي من جانبه ليروعه، أو غير ذلك من
أنواع المزح بالسلاح التي تصْدُر أحياناً من الصيادين إذا اجتمعوا، وهذا الفعل
محرم من جهتين: إحداهما: أن حمل السلاح في وجه المسلم حرام كما وردت بذلك
السُّنَّة. ثانياً: أن ضرره واضح للعيان، بل ومتحقق؛ فكثيراً ما نسمع بتلك
القصص الدامية التي راح ضحيتها نفوس بريئة سببها المزح الثقيل الذي ليس في
بابه، وكثيراً ما نسمع بأن أحدهم وجَّه البندقية إلى صاحبه يظنها فارغة فإذا بها
ترميه وتلقيه صريعاً على الأرض؛ فما أحلى الامتثال لأمر الله وأمر رسوله!
وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين عن رفع السلاح على وجه المسلم من
باب المزاح؟ ! فأجاب حفظه الله: (لا يجوز رفع السلاح على المسلم سواء كان
ذلك من باب المزاح، أم من باب الجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يُشِرْ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري
لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار) [40] . وروى مسلم عن أبي
هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن
الملائكة تلعنه حتى ينتهي وإن كان أخاه لأبيه وأمه) [41] .
11 - كذلك ينبغي للصياد أن ينتبه لثيابه وملابسه حال الصلاة؛ خشية أن
يكون أصابها شيء من دم الحيوان أو الطير؛ لأن الدم الذي ينزف من الصيد بعد
رميه نجس، فلا بد من إزالته وتطهيره، ولأن الله تعالى حينما ذكر المحرمات ذكر
منها [أو دما مسفوحا] [الأنعام: 145] وهو الدم المنهمر منه.
12 - كذلك ينبغي ألاَّ يترك السلاح بين الأطفال إذا كان معه أطفال؛ لأن
ذلك قد يسبب أخطاراً ومن ثم يقع في الحرج والإثم من جراء تفريطه فيه.
13- كذلك ينبغي للصياد أن يصطحب معه ما يحفظ به صيده من التعفن؛
فبعض الصيادين ربما يصيد صيداً كثيراً ويتركه في سيارته أو في مكان جلوسه،
فإذا ما جلس مدة فإذا بالصيد يصيبه العفن، فتعافه نفسه فيرميه، وهذا من التفريط
في حفظ المال، وكما سبق معنا في الحديث بأنا قد نُهينا عن إضاعة المال.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً بالاقتداء، والاهتداء بالسنَّة، وأن ينفع بهذه
الأسطر كاتبها وقارئها؛ إنه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر المصباح المنير، ص 135، مادة (صيد) ، وانظر كتاب أحكام الذبائح في الإسلام للدكتور محمد أبو فارس، ص 74.
(2) انظر كشاف القناع للبهوتي، 5/ 185.
(3) انظر كشاف المفتاح، 5/ 185، والمغني، 13/257.
(4) فتح القدير للشوكاني، 1/6.
(5) المرجع السابق.
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في اتباع الصيد، رقم (2788) ، والترمذي في كتاب الفتن باب (بدون تسمية) رقم (2292) ، والنسائي كتاب الصيد باب اتباع الصيد رقم (4788) ، وأحمد في المسند، رقم (3350) ، والحديث حسنه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (1272) .
(7) رواه البخاري، ح/ 1262.
(8) المائدة الآية 95، انظر في هذه الأحكام كشاف القناع، 5/ 185، الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 325، وكتاب الأطعمة والصيد والذبائح للشيخ د صالح الفوزان.
(9) انظر في نسبة ما سبق المغني، 13/258، 259.
(10) انظر الفتاوى، 35/239، فتاوى الصيد لابن عثيمين، وكتاب الأطعمة للشيخ الفوزان.
(11) متفق عليه البخاري كتاب الذبائح إذا وجد مع الصيد كلباً آخر، ومسلم كتاب الصيد باب الصيد بالكلاب المعلمة.
(12) متفق عليه: البخاري كتاب الذبائح، باب صيد القدس، ومسلم كتاب الصيد باب الصيد بالكلاب المعلمة.
(13) انظر بدائع الصنائع للكاساني، 6/2778.
(14) انظر مختصر خليل مع شرحه، 2/ 106.
(15) انظر المغني، 13/ 258.
(16) رواه ابن ماجه، ح/ 3165.
(17) كتاب الأطعمة للشيخ صالح الفوزان، ص 131.
(18) المغني، 13/ 260.
(19) رواه ابن ماجه، ح/ 2035.
(20) انظر المغني، لابن قدامة، 13/260.
(21) انظر المجموع، 9/105، وهو رواية عن الإمام أحمد (المغني، 13 /260) .
(22) أخرجه الدارقطني في كتاب الصيد باب من ترك الصيد، قال الزيلعي عنه: غريب اللفظ وفي معناه أحاديث نصب الراية، 4/182.
(23) الدارقطني في كتاب الصيد، البيهقي كتاب في الصيد باب من ترك التسمية.
(24) انظر كتاب الفوزان، ص 132.
(25) المغني، 13/260.
(26) المغني، 13/ 259.
(27) الفتاوى، 35/239.
(28) الأنعام، آية 121 (فتاوى الصيد للشيخ ابن عثيمين، ص 29، 30) .
(29) كتاب الأطعمة، للشيخ د صالح الفوزان، ص 132.
(30) المغني، 13/262.
(31) انظر المرجع السابق، 13/267.
(32) متفق عليه، سبق تخريجه.
(33) رواه البخاري، ح/ 5062، (انظر كتاب الأطعمة للفوزان) ، ص 188، وفتاوى الصيد لابن عثيمين، ص 130.
(34) انظر البخاري مع الفتح، 12/53.
(35) انظر فتاوى الصيد، لابن عثيمين، ص 41.
(36) ما عدا الضبع؛ فقد جاءت السنة بحله للدليل الخاص.
(37) سبق تخريجه.
(38) فتاوى الصيد، لابن عثيمين، ص 46، 19.
(39) فتاوى الصيد، لابن عثيمين، ص 46، 19.
(40) متفق عليه: البخاري رقم (6661) ، ومسلم رقم (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(41) رواه مسلم برقم (2616) .(147/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الأبعاد التربوية للحج
د. حمدي شعيب
[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ
فِي الحَجِّ] [البقرة: 197] .
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله
ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم
حج مبرور) [1] .
تشكِّل الآية السابقة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملمحاً يفتح
للمسلم باباً عظيماً في الفقه نحن في أمس الحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو فقه ترتيب العقلية المسلمة، أو (فقه الأولويات) ، وهو ما يُعرف بفقه مراتب
الأعمال؛ حيث يتعلم منه المسلم أن للأعمال مراتب متباينة ومتفاضلة في أهميتها
وفي ثوابها وفضلها، وأن لكل عمل وقتاً معيناً، وأولوية متقدمة على سائر الأعمال، وهو ما يُعرف بـ (واجب الوقت) .
وعلى ضوء ذلك يمكن إعادة ترتيب العقل المسلم وصياغته، فيدرك من
خلاله أن فقه الأولويات: هو مراعاة النسب بين الأعمال والتكاليف الشرعية،
والإخلال بها يُحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. والعقيدة في الإسلام مقدمة على
العمل. والأعمال متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وهي تتفاضل عند الله سبحانه وليست على
درجة واحدة؛ فالنافلة لا يجوز
تقديمها على الفريضة، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. ومما ينبغي
أن نعرفه: القضايا التي هي أوْلى بالاهتمام فتُعطى الجهد والوقت أكثر مما يُعطى
غيرها، وأن نعرف أوْلى الأعداء بتوجيه قوانا الضاربة، وتركيز الهجوم عليه،
وأي المعارك أوْلى بالبدء؟
وأجاب ابن القيم رحمه الله عن أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها:
الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟ ثم رجَّح أنه لا يوجد أفضل بإطلاق؛ وإنما
لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له [2] .
ولا ننسى وصيته صلى الله عليه وسلم عندما رتب أولويات الإنفاق، فقال:
(وابدأ بمن تعول) [3] .
وكذلك عندما قص علينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة عدم ترتيب
الأولويات بما حدث لجريج العابد عندما قدَّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل
صالح آخر أرجح؛ حيث قدم الاستمرار في صلاته، ولم يلبِّ نداء أمه ثلاثاً،
فأغضبها، ودعت عليه دعوة استجاب سبحانه لها فيها، وهي أن لا يموت حتى
يرى وجوه المومسات، فاتهمته إحدى البغايا بالزنا والفجور، ولكن الحق سبحانه
أنجاه بتوبته وصلاحه [4] .
والداعية أوْلى الناس بامتلاك تلك العقلية المرتبة، فيعرف حق الوقت، ويفقه
أولوياته، ويربأ بنفسه أن يكون تعامله مع القضايا تعاملاً مختلاً، مثل ذلك السفيه
الذي استجار به غريق فاشترط أولاً أن يستر هذا الغريق المسكين عورته، حتى
ينقذه!
إشارة نبوية:
تنمية روح الجندية والانضباط: وتبدأ هذه الرحلة المباركة من أماكن معينة،
تعرف بالميقات المكاني للحج، وهي خمسة حدود مكانية؛ فعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: (وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة،
ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَمْ. قال: (فهن
لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج، أو العمرة. فمن كان
دونهن فمَهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها) [5] .
ولا يجوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبد الحج أو العمرة، ومن تجاوزها
فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها، وإلا فعليه دم يذبحه ويوزعه على فقراء
الحرم.
من هذه الشعيرة الخاصة يمكننا أن نضع أيدينا على مغزى بعيد لها، وبُعْدٍ
تربوي تستشعره النفس من خلال تدبرها، وهو أن يتعود المسلم دوماً أن لكل عمل
ولكل أمر حدوداً معينة لا يجوز تجاوزها، بل إن تجاوزها قد يكون من الخطورة
بمكان؛ حيث ينعكس أثره على صحة العمل نفسه، وقبوله عند الحق سبحانه.
وهذا المغزى الانضباطي التربوي البعيد يكاد يكون سمة بارزة من سمات
المنهج الإسلامي التي يُربَّى المسلم عليها؛ حيث توجد عنده هذه الروح، وينميها
في حسه، فتعوِّده على حب النظام والانضباط، والطاعة للأوامر، والتزام حدود
كل عمل فلا يتجاوزه، وهي كلها جوانب تندرج تحت صفات الجندية المنشودة.
وكذلك كانت روح كل الشعائر والأعمال الخاصة بركن الحج.
وتدبر كيف أن لهذا الركن العظيم أركاناً أربعة هي: الإحرام، وطواف
الإفاضة، والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة؛ فمن ترك ركناً لم يصح
حجه، ولا يتم إلا به.
وتدبر أيضاً أن لهذا الركن واجبات؛ فمن ترك واجباً فعليه دم لفقراء الحرم.
وهي أيضاً روح كل العبادات والشعائر.
ويمكننا أن نأخذ مثالاً واحداً وهو الصلاة، وكيف أن لها شروطاً، وفرائض،
وسنناً معينة، كلها توقيفية لا يجوز الزيادة عليها. والمقام لا يتسع هنا إلى التفصيل
أكثر من هذه الإشارات.
وكذلك كانت روح علاقات المسلم كلها. فسلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه،
ومع أهله له ضوابط محددة، وهي حقوق في عنقه: (إن لربك عليك حقاً،
ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) [6] .
من هنا نخلص إلى أن الانضباط والتزام حدود الله تعالى من صفات المسلم
الحق.
وعكس هذا هو عدم النظام والتسيب، والمخالفة، والتعدي.
بل إن تلك القضية لها آثار خطيرة داخل النفوس وكذلك داخل الصف.
ولنتدبر هذه النصيحة العظيمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم التي تبرز تلك
الرابطة بين النظام في الظاهر، والنظام في الداخل؛ فما هي إلا إشارة حمراء
تحذر العاملين، وتبين أن الاختلاف الظاهري ينتج اختلافاً بين القلوب. قال صلى
الله عليه وسلم: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) [7] .
والداعية أوْلى بالالتزام بصفات الجندية، وهو اللبيب الذي بالإشارة يفهم؛ فما
بالك إذا كانت تلك الإشارة نبوية واضحة جلية؟
إنذارٌ للنمل!
فضل إعلان الهوية: من عند هذه المواقيت المكانية، وفي أثناء تلك المواقيت
الزمانية يُحْرِم المسلم إذا نوى الحج أو العمرة؛ وذلك بأن يخلع ثيابه التي يلبسها،
ويرتدي ثياب الإحرام، وهي تتكون من رداء وإزار أبيضين نظيفين، أما المرأة
فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة غير ثياب التبرج والزينة، ويستحب للإحرام
الاغتسال والتطيب ونظافة الملبس.
وإذا أحرم المسلم كان عليه أن يرفع صوته بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك
لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) .
ثم يلتزم باجتناب محظورات الإحرام المعروفة.
وبتدبرنا لهذا العمل من أعمال الحج والذي يُصنَّف ركناً من أركانه، وكذلك
واجباً من واجباته، وذلك من الجانب الذي يهمنا هنا وهو البعد التربوي لهذه
الشعيرة، ودورها المهم؛ حيث تستشعر النفس أن هذا العمل يرمز إلى معنى رفيع
وهو قضية جهد الإنسان في التغيير وفعاليته في صنع الأحداث، فشرارة البداية في
التحولات الحضارية، هي محاولة تغيير النفس: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] . [الرعد: 11] .
ومع قناعتنا بأن التغيير المنشود هو التغيير الداخلي أي تغيير النفس والجوهر
الإنساني، ورغم يقيننا بأن الحق سبحانه لا يعامل الناس بظواهرهم: (إن الله لا
ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [8] .
ولكن البعد التربوي للإحرام يوجهنا إلى منحى آخر مهم، وإلى دلالة عظيمة
هي: أن من أراد التغيير الداخلي فلا يهمل التغيير الخارجي؛ فالإنسان كلٌّ لا
يتجزأ، وأي خلل ظاهري له تأثير بعيد داخلياً؛ وذلك كما أشرنا إلى وصية الحبيب
صلى الله عليه وسلم التحذيرية: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) [9] وكذلك كما نهتم
بتسوية الصفوف، خوفاً من تأثيرها على الداخل: (لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله
بين وجوهكم) [10] .
والإحرام رمز للانسلاخ من مرحلة إلى أخرى، ويعتبر عهداً بين المسلم وربه، وتأكيداً على صدق نية التغيير والالتزام بذلك ظاهرياً بلبس الإحرام، وإعلان ذلك
برفع الصوت بالتلبية حتى يعلم الناس جميعاً بهذا الميثاق، وبتوابعه وهي اجتناب
محظوراته، بل إن البعد التربوي لهذه التلبية ودلالاتها نستشعرها من تدبر قوله
صلى الله عليه وسلم:
(ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى تنقطع
الأرض من هنا وهنا يعني عن يمينه وشماله) [11] .
وتدبر ذلك النداء ورفع الصوت بالتلبية وأثره الكوني والباطني، وتواصله مع
ذلك النداء الذي رفعه مؤسس هذا المشروع العظيم الخليل عليه السلام عندما أمره
الحق سبحانه أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم، ووعده بالإجابة: [وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] [الحج:
27] (أي نادِ في الناس بالحج داعياً إياهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك
ببنائه، فذُكِر أنه قال: يا رب كيف أبلغ صوتي ولا ينفذهم؟
فقال: نادِ؛ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه وقيل: على الحجر، وقيل:
على الصفا، وقيل: على أبي قبيس وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً،
فحجوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من
في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب
الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) [12] .
وهو رمز لإعلان الهوية، وما يدل عليه من أن هذا المشروع مشروع كوني
يهش ويبش له كل الخلائق، ويتجاوب معه الوجود كله، ويباركه رب هذه الخلائق
ورب هذا الوجود كله سبحانه.
وهو رمز التميز الذي يفرق بين أصحاب هذا المشروع الرباني العظيم
وأصحاب المشاريع الأرضية المغايرة؛ يفرق بين المشروع الذي يتجاوب له
الوجود وتأنس إليه الفطرة وبين المشاريع الأخرى التي وإن لم تصطدم فهي تتنافر
مع الوجود، وتأنف منها الفطرة الإنسانية.
وهو أيضاً عنوان التحدي الذي يشمخ به أصحاب هذا المشروع على غيرهم
من أصحاب المشاريع المناوئة؛ التحدي بالركون إلى الحق سبحانه، إلى القوة التي
تباركه وتزكيه وتباهي بأصحابه ملائكة السماء؛ حيث روي عنه صلى الله عليه
وسلم أنه خرج على حِلَقٍ من أصحابه، فقال: (ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر
الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله
يباهي بكم الملائكة) [13] .
ومن هنا ندرك كم لهذا العمل العظيم من أعمال الحج من آثار كونية!
وكم له من آثار باطنية تأخذ بتلابيب النفس، ويتراقص لها القلب لهفة وحباً
وشوقاً! وذلك استجابة لدعاء الخليل عليه السلام الذي رفعه ذات يوم من أيام هذا
المشروع العظيم: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ] [إبراهيم: 37] .
لذا فهو إعلان مادي بالالتزام بعهد الانسلاخ، والتحول من الماضي بكل
سلبياته والدخول إلى المستقبل المنشود من خلال بوابة الحاضر.
والدعاة العاملون يعون جيداً مغزى هذا العمل، ودلالاته الكثيرة، وأهمية تلك
النقلة، والعبور من مرحلة التفلُّت إلى مرحلة العمل من أجل أداء هذه الشعيرة
الإسلامية الكبرى.
لبنة التربية:
عند هذه المواقيت المكانية، وأثناء المواقيت الزمانية للحج يبدأ المسلم رحلته
المباركة، ويحدد نيته فيختار أحد الأنساك الثلاثة: إما التمتع، أو الإفراد، أو
القِران.
وكذلك عندما ينهي رحلته يكون على أحد الخيارين: إما التعجل في نهاية
اليوم الثاني عشر وقبل غروب شمسه، أو أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر.
وبتدبر هذه الخيارات سواء في بداية الرحلة أو في نهايتها التي بينها الرسول
صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أي من الأئمة، وكذلك في اختلاف الفقهاء في
أفضلية أي من الأنساك على غيرها، وبتدبر هذه الرحمة الإلهية في قوله سبحانه:
[فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ
واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [البقرة: 203] ، وبالنظرة الشمولية العامة،
والغوص في المغزى البعيد للنصوص، وعدم قصرها على موضوع الحج، بل
بالتوسع في معناها البعيد، ومن هذا المنطلق المنهجي نجد أن هذه النظرة لهذه
الركيزة القائمة على تدبر الخيارات في رحلة الحاج تفتح باباً عظيماً في المنهج،
وتكشف أضواءاً على قضيةٍ طالما شغلت الكثيرين في مختلف العصور؛ ألا وهي
(قضية تعدد الصواب) ، وهي من أهم جوانب إعادة صياغة العقلية المسلمة
وركائزها التي ندعو إليها ليزيد رصيدنا من هذه العقليات التي تفقه وتعي (فقه
الموازنات) أو فقه
الترجيح، وهو الفقه الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية) .
ولا ننسى الفقه الآخر المرتبط بهذا الفقه ويلازمه وقد يتداخل معه؛ ألا وهو
(فقه الأولويات) .
فعلى أساس هذين الفقهين يتم الترجيح والموازنة بين الاختيارات على أساس
الأصوب والأوْلى.
وفي النهاية نخلص إلى أن ذلك من علامات سعة المنهج ومرونة الشريعة،
وكذلك من علامات نضج حاملي هذا المنهج وثقتهم في سمو فكرتهم التي يدعون
إليها وعلوها، وهي أيضاً دلالة بارزة على سعة أفق دعاة مشروعه الحضاري.
وإذا كان لهذه القضايا أهميتها في الماضي فإن هذه الأهمية تتضاعف في حلقة
الصراع والتدافع الحضاري المعاصرة أمام تيارات ومشاريع مناوئة يُلقي حاملوها
بالتهم جزافاً على حاملي المشروع الحضاري الإسلامي، ويتهمونهم بالجمود
والتحجر وأحادية النظرة.
آلامٌ ... وآمال:
ضرورة إيجاد محور تغييري واحد: ثم يبدأ الحاج طوافه، فيبدؤه باستلام
الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبِّله، فإن لم يتيسر تقبيله قبَّل يده إن استلمه بها، فإن
لم يتيسر ذلك، فإنه يستقبله ويشير إليه بيده إشارة ولا يقبِّلها، قائلاً: بسم الله والله
أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءاً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم.
ثم يستلم الركن اليماني بيمناه، ويكمل سبعة أشواط مع مراعاة سُنَّتَيْ
الاضطباع والرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى.
وحول هذا الركن من أركان الحج، ومن خلال تأملاتنا التي تدور من الجانب
الذي يعنينا في هذه الدراسة وهو البعد التربوي له نجد أننا أمام عدة قضايا مهمة:
أولها: عندما يرنو المسلم إلى هذه الأعداد الغفيرة من كل جنس ولون، ومن
كل أرض وصقع، ومن كل لسان ولغة، وكيف توحدت في زيها، وفي خطواتها
ونداءاتها.
لذا فإننا نؤكد أن هذا الدين هو الفكرة الموثوق بها والوحيدة المرشحة من قِبَلِ
الحق سبحانه ركيزةً لتجميع الأمة كل الأمة بعد إخفاق الأفكار الأخرى التي
استوردت على أيدي حفنة من بني جلدتنا، فكانت كالنباتات الشيطانية الغريبة على
تربتنا.
ثانيها: أهمية وجود القضية المحورية التي لا بد منها لإيقاظ الأمة كل الأمة
لتكون مشعلاً يبث الحماسة، وعاملاً يحرك مشاعر الجميع سواء الفرد أو الأمة.
فبرغم توحد اللباس والخطوات والكلمات لهذه الجموع الغفيرة إلا أن المشكلة
هي وجود القضية أو الفكرة التي توحد اهتمامات الأمة، وتحرك جماهير الشارع.
ولقد حاول المخلصون مراراً أن يوجدوا المشروع الذي يجمع شمل الأمة،
والذي يشعل حماس أبناء الأمة؛ فإن أمة لا يجمعها قضية خطيرة ومصيرية مثل
ضياع أوَّل قبلتيها ومعراج رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم وموطن مقدسات كل
الرسالات السماوية فلن تجمعها قضايا أخرى.
وللأسف يغفل كثير من أبناء الأمة الإسلامية عن هذه القضية التي لا يختلف
عليها اثنان لتعبئة الأمة حوله، ولتوجيه الأنظار للخطر المحدق بالجميع، ومن
أجل مناهضة المشروع الصهيوني الغربي الذي يهدد كل الأمة.
أما بالنسبة للفرد المسلم فالكل يطوف ظاهرياً حول محور واحد، والكل يردد
الكلمات نفسها، والكل يسكب عبراته، ولكن كلٌ يبكي على ليلاه، حقاً: (إنما
الأعمال بالنيات) [14] .
ثالثها: أهمية التنظيم؛ وهو ما يُعرف بفقه تنسيق الجهود وتوفير الطاقات،
وتوظيف الإمكانات. وهذه القضية تبدو واضحة في كل أعمال الحج؛ ففي وقت
معين وفي أماكن معينة تسير هذه الجموع المليونية في سلاسة وفي يسر وفي نظام
عجيب ومعجز، وما كان هذا ليتأتى إلا بالتنظيم الجيد والدقيق الذي وضعه صلى
الله عليه وسلم عندما حج سنة عشر من الهجرة، وتبعه المسلمون حتى يومنا هذا
دون تبديل أو تحريف.
رابعها: عندما ينظر الداعية إلى هذه الجموع المليونية نظرة ذات بُعد كمي؛
فيملأ جوانحه الأمل، ويتذكر مؤسس هذا المشروع العظيم؛ يتذكر الخليل عليه
السلام وهو يقف وحيداً، ويؤذن بالحج كما أمره الحق سبحانه (نادِ وعلينا البلاغ) ، فتكون النتيجة هي هذه الجموع التي لا تُحصى، والتي تأتي من كل حدب
وصوب، حتى قيام الساعة،
مشاة وراكبين، وكلهم شوق وبقلوب تهوي إلى هذا المكان الطاهر.
وهذا ما يؤكد أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود؛ فالداعية عليه البلاغ، والحق سبحانه يرعى النتائج بعد ذلك، ويبارك في الأجر العظيم الذي ينتظر
الداعية عند القيام بوظيفته البلاغية.
وكذلك حَمَلَةُ الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، لقد
كلفهم الحق سبحانه بوظيفة، أو دور معين، ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء
تلك الوظيفة.
ولا نريد أن نكرر هنا ما أكدنا عليه ووضحناه آنفاً، ولكننا نذكِّر الداعية أن
يفقه وظيفته من حيث ماهيتها، ومنهجية تنفيذها، والأجر المترتب عليها، وكيفية
تلقي التكاليف، وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة،
وضرورة أن يصل إلى درجة البلاغ المبين للفكرة، ثم وهذا هو الأهم عليه أن
يستشعر هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر، ودور المدد الرباني في تنفيذ
جمع شمل الأمة المنشود، وكيف أن هذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل
للعاملين، وهو العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع
المغايرة.
خامسها: عندما يُتْبِع الداعية هذه النظرة، بنظرة أخرى ذات بُعدٍ نوعي؛
فيملأ قلبه الأسى عندما يتأمل ذلك الفارق الشاسع بين ثقل تلك الأعداد القليلة التي
كانت تطوف معه صلى الله عليه وسلم وأثرها في صنع أحداث الكون حولها،
ودورها في صنع حركة التاريخ، وبين ثقل هذه الجموع المعاصرة، وهم يطوفون
الطواف نفسه، ويرددون الكلمات نفسها، ولكن أصابهم مرض العصر، مرض
الغثائية، أو الإمَّعية، وكيف تداعت عليهم أرذل الأمم، فشتتت جموعهم،
وأصبحوا على هامش الأحداث.
وهي مرحلة القصعة التي حذر منها صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى
الأمم عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ !
قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور
عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما
الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [15] .
ويعود الداعية بعد تدبره لهذا الملمح التربوي، إلى نظرة واقعية يراجع بها
منهجيته، فيدرك أهمية التركيز على التربية، ويهتم بالتقييم النوعي لثماره، ولا
يغتر بالتجمعات الغثائية القطيعية.
سادسها: عندما يستلم المسلم الحجر الأسود، تعاوده السكينة، ويطمع في
وعده صلى الله عليه وسلم: (إن مسحهما يحطَّان الخطايا حطّاً) [16] .
سابعها: عندما يتأمل الداعية مشروعية سُنَّة الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى، ويدرك مغزى حرصه صلى الله عليه وسلم أن يكون سلوك المسلمين وحركتهم
بمنهجهم عنواناً يرد كيد الأعداء، ويطمس الشبهات، ويزيل الإشاعات التي رددتها
يهود حول حُمَّى يثرب التي أصابت المسلمين.
ثم يأسى على واقع أمته وكيف أن مجرد تلك الإشاعات حول الوهن الصحي
الظاهري الذي زعموا أنه أصاب الصحابة رضوان الله عليهم قد استحالت إلى
حقيقة مُرَّة وهو إصابة مسلمي عصرنا بوهن أخطر، وهو الوهن الباطني،
والهزيمة الداخلية النفسية.
ومن خلال تلك القضايا التي ذكرنا طرفاً منها يتبين للداعية مدى أهمية
المشاركة في جولة التدافع الحضارية المعاصرة، وذلك بحمل المشروع الحضاري
الإسلامي؛ فبه وبه وحده تستطيع أمتنا أن تجابه المشروع الصهيوني الغربي.
فهو المشروع الذي به تتوحد اهتمامات الأمة وجهودها، فيكون تمحورها
وطوافها حول محور تغييري واحد، وذلك للخروج من مرحلة القصعة؛ فلعل هذه
المشاركة تزيل الوهن والغثائية، وتُري أعداء الأمة من المشاركين معنى القوة
والعزة.
ساعة ... وساعة:
تنمية خُلق التيسير: بعد إتمام الطواف، وقبل أن يبدأ السعي، يُسن للحاج أن
يصلي ركعتين جاعلاً مقام إبراهيم عليه السلام بينه وبين الكعبة ولو بَعُدَ، وإن لم
يتيسر له صلَّى في أي موضع، ويُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة
(الكافرون) ، وفي الثانية (الإخلاص) .
بعد ذلك يُستحب له أن يذهب إلى زمزم ويشرب منها، ويصب على رأسه،
وإن تيسر له رجع وكبَّر واستلم الحجر الأسود.
ولو تدبرنا نوعية تلك السنن وموضعها لوجدناها تتكرر بصفات أخرى طوال
رحلة الحج، ونجدها أيضاً تفصل بين كل عملين شاقين.
أو بمعنى آخر كأنها لحظات لالتقاط الأنفاس قبل الشروع في الأعمال التي
تتطلب جهداً ومشقة.
وتدبر جلسات الاستراحة الإيمانية المتعددة تلك، والتي تأتي على هيئات
مختلفة عملاً ووقتاً مثل يوم التروية قبل الخروج إلى عرفة، والمبيت بالمزدلفة قبل
أعمال يوم النحر الشاقة من رمي ونحر وحلق وطواف.
وهذا الملمح التربوي يفتح باباً عظيماً في المنهج، ويدلنا على سمة عظيمة
من سمات ذلك المشروع الحضاري، وهو مراعاة الطبيعة البشرية، ومراعاة
قدرات المشاركين في حمله، وكذلك يدل على يسر هذا المنهج وواقعيته وملاءمته
للجميع.
وتدبر كيف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد راعى قدرات أصحابه
رضوان الله عليهم، فجعل ذروة سنام الدين وهو الجهاد درجات ومراتب، فلم يُحرَم
أحد من شرف القيام به، حتى وإن قصرت همته، وضعفت قدراته، بل وإن
اعترف بها؛ وذلك لأن الجهاد هو سبيل الأمة ومصدر عزها، ولا بد من أن
يشارك الجميع في الركب؛ لذا صُنِّف الحج على أنه جهاد الضعفاء، فعن الحسن
بن علي رضي الله عنهما قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني جبان، إني ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إلى جهادٍ لا شوكة فيه:
الحج) [17] .
وكان منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسطية، بمراعاة الفطرة الإنسانية،
وحدود الاستطاعة البشرية: (مَهْ، عليكم بما تُطيقون، فوالله! لا يملُ الله حتى
تملوا) [18] .
وذلك روح الدين، وأساس القاعدة الربانية التي يقوم عليها المنهج الإسلامي:
[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] .
ويخرج الداعية من هذه الركيزة، بأن يراعي الطبيعة البشرية، وقدرات
المشاركين، ويوظف كلاًّ في مكانه، ولا يُشعر أحداً بأفضلية مكانته على الآخر.
وإن كان الركب يحتاج إلى طلائع قوية، ودعائم صلبة تتحمل التبعات فإن
الصف أيضاً يضم بجانب هؤلاء الرواحل آخرين من أنصاف الرواحل، والأقل
منهم درجة، أو درجات، ولكل قدراته وطاقته التي توضع في عين الاعتبار،
ولكل دوره الذي لا يستطيع أحد غيره القيام به، ولكل ثغره الذي لا يستطيع أن
يحرسه غيره، بل ولكل فضله ومكانته التي لا يمكن لأحد بخسها.
وعلى الداعية كذلك ألا يهمل فترات الترويح على النفس، ولكن بشرط أن
تنضبط بشرعيتها مع الأهداف والغايات الربانية للمسيرة؛ فهو المجاهد الذي لا
ينسى قضيته حتى وإن استراح لبعض الوقت، وكذلك يجب ألا تطول فترات
الراحة المباحة والاستجمام البريء فتنسيه مهمته.
وهو من باب الوسطية؛ أو التوازن والاعتدال، كما في نصيحته صلى الله
عليه وسلم: (يا حنظلة! ساعةً وساعةً) [19] .
الشقائق:
دور المرأة في المشروع الحضاري: بعد ذلك يتجه الحاج إلى المسعى، فإذا
دنا من الصفا تلا قوله سبحانه: [إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ومَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]
[البقرة: 158] ، ثم
يقول: (نبدأ بما بدأ به الله) . ثم يبدأ من الصفا فيرتقي ثم ينظر إلى الكعبة،
فيكبر ويوحد، ويدعو ثلاثاً من خيري الدنيا والآخرة، ثم يبدأ السعي متجهاً إلى
المروة ويذكر الله عز وجل ويدعو وهو يمشي. ويركض هرولة بين الميلين. ثم
يمشي حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع كما صنع على الصفا. ثم يعود إلى
الصفا ويكرر ذلك سبعاً.
وعندما نتأمل هذا العمل العظيم من أركان الحج أو واجباته وذلك من زاوية
بحثنا المتواضع، ومغزاه التربوي من حيث دلالاته باعتباره ركيزة من ركائز
المشروع الحضاري فإننا نرى بدايةً أنه قد شُرع للأمة كما في قوله صلى الله عليه
وسلم: (اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي) [20] ، شُرع ليربط الأمة بتاريخها
الناصع، ويذكر الأمة بجذورها،
وأصالتها تذكرة دائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يذكرها بتلك
التجربة العظيمة، والجهد الشاق الذي قامت به هاجر الصابرة المؤمنة المثابرة،
عليها السلام وهي تبحث عن الماء لرضيعها ولها بعد أن نفد الماء الذي كان معها،
و (عطشت، وعطش ابنها أي انقطع لبنها فعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى
أي يبكي ويتقلب، وفي رواية: يتلبط أي يتمرغ ويضرب الأرض برجليه، وفي
أخرى: يتلمظ أي يخرج لسانه فيبل به شفتيه وكانت سنه حينئذ سنتين، فانطلقت
كراهيةَ أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه،
ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى
إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، أي قميصها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليه، فنظرت: هل ترى أحداً،
فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فذلك سعي الناس بينهما. فلما أشرفت على
المروة سمعت صوتاً؛ فقالت: صهٍ تريد نفسها ثم تسمَّعت، فسمعت أيضاً! فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ، أي ساعدني لأني سمعتك فإذا هي بالمَلَكِ أي
جبريل عليه السلام عند ماء زمزم فبحث بعَقبهِ أي عظم مؤخر القدم أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء) [21] .
وبتدبر هذه التجربة العظيمة نستطيع أن نتلمس بعض الملامح التربوية حول
بعض القضايا الفرعية، ثم حول القضية العظيمة والمغزى الرفيع الذي نخلص إليه
وذلك في الحلقة التالية إن شاء الله.
__________
(1) رواه البخاري، 2/ 164.
(2) مدارج السالكين: ابن القيم، 1/ 85 90.
(3) رواه البخاري، ح/ 1337.
(4) قصة جريج العابد رواها البخاري، ح/ 2302، ومسلم، ح/ 4625.
(5) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/5.
(6) رواه الترمذي، ح/ 2337.
(7) رواه مسلم، ح/ 654.
(8) رواه مسلم، ح/ 4650.
(9) رواه مسلم، ح/ 654.
(10) رواه البخاري، ح/ 676.
(11) رواه ابن خزيمة، ح/ 2634 بسند صحيح.
(12) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 226.
(13) رواه مسلم، ح/ 4869.
(14) رواه البخاري حديث رقم 1.
(15) رواه أبو داود، ح/ 3745.
(16) رواه أحمد، ح/ 5442.
(17) رواه الطبراني في المعجم الكبير، ح/ 2910 ورواته ثقات.
(18) رواه البخاري 1/ 101 باب أحب الدين إلى الله أدومه.
(19) رواه مسلم، ح/ 4937.
(20) المنهاج في يوميات الحاج: خالد بن عبد الله الناصر، 35.
(21) رواه البخاري، ح/ 3113.(147/16)
تأملات دعوية
حدثوا الناس بما يعرفون
محمد بن عبد الله الدويش
إن ثمرة دعوتنا للناس وخطابنا لهم تتحقق حين يفهمون الخطاب ويعقلونه، ثم
يتحول الأمر إلى سلوك عملي واستجابة.
وما لم يكن الخطاب مناسباً للناس تبلُغُه عقولهم وتدركه أفهامهم فلن يتحقق
المقصود منه.
لذا صح عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدِّثوا الناس بما يعرفون؛
أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟) [1] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا
تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) [2] .
وتحديث الناس بما يعرفون له جانبان:
الأول: يتعلق بأسلوب الخطاب؛ وذلك بأن يُخاطب الناس بلغة سهلة واضحة، وأن يبتعد المتحدث عن التقعُّر والتكلُّف والبحث عن الألفاظ الغريبة، وقد ذم
النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك فقال: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من
الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها) [3] .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ...
(الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) [4] ... ...
قال الترمذي: والعي قلة الكلام، والبذاء: هو الفحش في الكلام، والبيان: هو
كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسعون في الكلام ويتفصحون
فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله.
وأحياناً يدفع التكلف صاحبه إلى هجر المصطلحات الشرعية، والبحث عن
مصطلحات حادثة.
الثاني: يتعلق بمضمون الخطاب، فليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما
يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل سواء أكانت من
المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية.
وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبي يختلف باختلاف الناس،
وهو في دائرة العامة أوسع منه في دائرة طلبة العلم.
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم إمام الدعاة وقائدهم حين يأتيه رجل يسأله
عما يدعو إليه، أو يسأله عما يجب عليه أن يفعله، يجيبه النبي صلى الله عليه
وسلم بالجمل الثابتة الظاهرة من دعوته صلى الله عليه وسلم: توحيد الله تبارك
وتعالى، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، الصوم، الحج، صلة الأرحام، كسر الأوثان
... إلخ، ولم يَدْعُ النبي صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء إلى مسائل فرعية أو
خفية.
ومن ذلك ترك تحديث الناس بما يُشكِلُ عليهم فهمُه، أو يُخشى أن ينزلوه على
غير تنزيله ويتأولوه على غير تأويله. قال الحافظ ابن حجر في شرحه لخبر علي
رضي الله عنه: (وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي
ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في
الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من
الفتن، ونحوه عن حذيفة. وعن الحسن
أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان
يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي) [5] .
فحري بالدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يتدارسوا هذه الآداب، ويعتنوا
برعايتها وتطبيقها.
__________
(1) رواه البخاري (127) .
(2) رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
(3) رواه أحمد (6507) ، وأبو داود (5005) ، والترمذي (2853) .
(4) رواه أحمد (21809) ، والترمذي (2027) .
(5) فتح الباري، ج 1، ص 272.(147/26)
قضايا دعوية
فتنة مسايرة الواقع
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته
الدنيا؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد
ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه عز وجل
في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق
بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت
فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله
عز وجل وعصمه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس
فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات،
ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من
الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى:
[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ] [إبراهيم: 27] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية: (تحت هذه الآية كنز
عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه
فقد حرم) [1] .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى:
ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [] الإسراء: 74 [فسواه من الناس
أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده
التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في
الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذاً بالله تعالى؛ وذلك كما هو الحال
في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من
مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم
السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا
بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض
بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله عز وجل عن
قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم:] مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [
] المؤمنون: 24 [.
وقال تعالى عن قوم هود:] قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا ... [] الأعراف: 70 [، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح:] قَالُوا يَا
صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... [
] هود: 62 [.
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون:] قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا [] يونس: 78 [، وقال عن مشركي قريش:
] وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... [
] البقرة: 170 [والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء
ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين
زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم
للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم
وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم
ببطلان ما هم عليه، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله تعالى شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه
وسلم: (من التمس رضا الله في سخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس،
ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) ] 2 [.
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب
على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في
سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ
ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (فكذلك صاحب الهوى إذا
ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن
خالفه) ] 3 [.
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم
بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص
في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة
الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: (لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا) ] 4 [. قال الشارح في تحفة الأحوذي: (الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان) .
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا
من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين
وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي
على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل
هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) ] 5 [.
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر
الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما
ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن من ورائكم أيام
الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً
يعملون مثل عمله وزادني غيره قال:
يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم) ] 6 [.
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص
بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛
وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء
والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات
والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك
بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط
غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم
أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن
الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة
ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته
بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات
وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء
والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى
لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء
الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك
أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر
وصابر واستعان بالله عز وجل. وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل
العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته
في مرضاة النفس والناس فيقول: (وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة،
ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق
في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن
لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من
أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي
ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة
لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول
الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل
العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك
الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها.
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع
أن ذلك مما يثاب المرء عليه، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من
الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛
بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير
محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال
والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله
عليه وأسخط عليه الناس) ] 7 [.
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا
يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى
الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على
رضاهم.
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى
مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي
به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين
يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس
فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه] 8 [.
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش
لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا
رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه
ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر
اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات
المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من
الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما
السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما
أبرئ نفسي.
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون
وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد
ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية
المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام
الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار
أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء
الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر
ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين؛
حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم
مما ملكت اليمين، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ،
وإذا نُصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن
الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم
وجيرانهم! !
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد
كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير
ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره
من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من
حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا
عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح
والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح
والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة
في الملابس والمآكل ... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من
يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء
وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل
القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة
تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه
الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة
موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر
نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها
المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت
الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب
الظلال رحمه الله تعالى: (هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في
حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها
على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم
واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها:
أزياء الصباح، وأزياء بعد
الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء
المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ: من
الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه
شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون
أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون
لتدمير البشرية كلها ليحكموها!) ] 9 [.
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل
بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن
مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون
الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع
في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن
ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين
إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن،
ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس
على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات
الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع،
ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع
الحرج أو الأخذ بالرخص ... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس
والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من
أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم
بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً) ] 10 [ويقول أيضاً: (إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها) ] 11 [.
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه
يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها
صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن
القيم رحمه الله تعالى: (يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل
على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك) ] 12 [.
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما
يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون
على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر
لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد
يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض
التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة! ! وليس المقام هنا مقام
الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها
ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة
حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبيه صلى الله
عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى:
] وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
(73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ
وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً [] الإسراء: 73 - 75 [.
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها:
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في
مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله،
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول
صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه
تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة
المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً
منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع
أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة
وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن
حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان
لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي
الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!] 13 [.
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء
المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول] 14 [ولكن يكفي أن
نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب
العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى
صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب
العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من
شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد
أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء
أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى
على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد
الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية
ورفض التقليد! ! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: (هي التأقلم مع
المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته
وجماعيته بها في دائرة التصور البشري) ] 15 [.
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في
ميادين الفقه فيقول: (لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ
الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من
النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية
المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق! !
إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه.
ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد
الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا
المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى
محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد
الزوجات، يقول محمد عمارة: (إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري
والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية) والترابي يقصر الحجاب
على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال
والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
5 - أحكام أهل الذمة:
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي
الآن لا تناسب عصرنا! !) ] 16 [.
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: (إن مزاعم
التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني
تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى) .
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير
المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها
لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة
وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين
الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر] 17 [.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية
أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة
على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى
فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه
الآثار ما يلي:
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان
الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه
كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما
سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه
فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس
المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها
ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين
من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛
وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب
ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها،
ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى] 18 [: (وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد
تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال
تعالى:] ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66)
وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً [ ...
] النساء: 66 - 68 [وقال تعالى:] والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [] العنكبوت: 69 [وقال تعالى:] والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [] محمد: 4 - 6 [، وقال
تعالى:] ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى [] الروم: 10 [، وقال تعالى: ...
] كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [] المائدة: 15، 16 [، وقال تعالى:] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ [] الحديد: 28 [، وقال تعالى:
] وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [] الأعراف: 154 [. ...
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال:
(ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية
الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً لا يملك أن
يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى
الوراء) .
الآثار الدعوية:
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه
وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف
يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟ ! وكلما كثر المسايرون كثر
اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة:
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز
وجل وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم:] «ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ
تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [] الإسراء: 74 [فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله
عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل:
] ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [] النساء: 66 [فذكر
سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل
الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في
الثبات فيقول: (فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت.
ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت
الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن
فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال تعالى:] ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق
والصدق) ] 19 [.
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في
الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم،
واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك
مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة
والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند
بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين
المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي
دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى. وينبغي على طالب العلم الشرعي
والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم
والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس
وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن
السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس
بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
__________
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 43 (باختصار) .
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار) .
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18) الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.(147/28)
دراسات تربوية
من أسباب تساقط الشباب
أحمد العميرة
تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية الدعوة وفضلها؛ فلن أستطرد
في ذلك، وما دامت هذه الطاعة قد انتسبت إلى الإيمان فإنها معرضة لما يتعرض له
الإيمان من الزيادة والنقص؛ فالإيمان يزيد وينقص كما هو معلوم، وأصبحت
الدعوة باعتبارها من الإيمان ككل عمل إيماني يعلو فيصل الأوج والذروة أحياناً،
اعتقاداً وحماساً، وينحدر متضائلاً تارة أخرى، والفائز الذي لا يغالي عند
التعالي، ولا يسرف عند الهبوط، وذلك بأن يلزم هدي السنة النبوية الشريفة، كما ... قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شِرَّة ولكل شرة فترة؛ فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى) [1] ، وفي لفظ آخر: (ومن كانت شرته إلى سنتي ... فقد اهتدى) [2] .
ولعلنا نختصر أكثر فنقول: إن ما نريد طرحه نستطيع أن نسميه بـ
(التساقط) ، ويجب أن نفرق بين عدة مصطلحات قد يحصل الخلط بينها (الردة ثم
الانحراف والانتكاسة ثم الفتور ثم ضعف الإيمان ثم القعود عن الدعوة) والأخير هو
الذي نسميه: (التساقط في طريق الشاب) .
الأسباب:
1- عدم إخلاص النية لله، قال تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ] . [البينة: 5] .
2- تخويف أعداء الله للعبد بقطع المعاش أو الفصل من الوظيفة ونحوها.
قال تعالى: [إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] [آل عمران: 175] .
3- خذلان أهل الحق والخير ممن كان يُؤمَّل فيهم نصرة الدعوة. قال الشاعر
وما أحسن ما قال:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
4- قراءة الواقع قراءة سلبية تؤدي بالداعية للإحباط واليأس، فيترك طريق
الدعوة.
5- عدم القناعة الكافية بطريق الدعوة.
6- تعلق قلب الداعية بالدنيا وكراهية الموت.
7- الانفتاح على الأعمال التجارية والدنيوية دون الالتزام بوسائلها الشرعية.
8- الأمراض النفسية كالعجب والغرور والحسد وغيرها.
9- الحيل النفسية وهي كثيرة، منها: احتقار الداعية لنفسه، أو الخوف
الموهوم، أو الخجل المذموم أو غيرها.
10- فقدان التربية الذاتية الجادة؛ فمجرد الابتعاد عن وسط من الأوساط قد
يكون كفيلاً بأن يرجع الداعية الضعيف عما كان عليه من العمل الدعوي.
11- غياب الأهداف الرئيسة للدعوة الإسلامية في هذا الوقت عن ذهن الشاب
المسلم كالرجوع بالأمة الإسلامية إلى عزها ومكانتها، وإعادة حكم الله في الأرض،
ونشر العقيدة الصحيحة، إضافة إلى الحرص على هداية الناس.
12 - تسرب فكرة (طلب العلم أولاً ولفترة معينة، ثم الانتقال إلى الدعوة إلى
الله) ولم يبيِّن لنا أصحاب هذه الفكرة: إلى متى يطلبون العلم؟ وما هو الحد الذي
إذا وصلوه سينتقلون منه إلى الدعوة إلى الله؟ وأصحاب هذه الفكرة بلا شك لم
يستوعبوا طبيعة هذا الدين منذ أن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (بلِّغوا عني ولو آية) [3] .
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من علم لا ينفع؛ فقد ورد ذلك في
حديث زيد بن أرقم وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله
عنهم: (اللهم أعوذ بك من علم لا ينفع) [4]
وعن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سلوا علماً نافعاً،
وتعوَّذوا بالله من علم لا ينفع) [5] ، وعن سلمان رضي الله عنه قال: (علم لا
يُقَالُ به ككنز لا ينفق منه) [6] ، وحين سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما بال الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر؟ نزل قول الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ
البِرَّ مَنِ اتَّقَى وأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] [البقرة: 189] ، وحين سأل رجل النبي
صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له: (ماذا أعددتَ لها؟) [7] . ...
فماذا تعني بالله عليكم الاستعاذة من علم لا ينفع، والتوجيه إلى السؤال العملي
الجاد؟ أليس يعني أن العلم ما لم يَقُدْ صاحبه إلى نتيجة عملية يعتبر من العبث، بل
مما يُستعاذ منه؟ فحري بطلبة العلم أن يتربوا ويُرَبُّوا على أن لا يكون شحذ الذهن
بالمعلومات هو الهدف النهائي والغاية القصوى، بل يكون التعلم للعمل والدعوة إليه، وأن يدركوا أن مجرد التعلم والانشغال به لا يغني عن تصحيح النية وإخلاصها لله
وحده، إذاً فلا علم بلا دعوة، ولا دعوة بلا علم، وهذا هو دين الله، وعلى من
يعترض علينا أن يأتي ببينة سليمة من سيرة السلف تشهد لكلامه.
13 - جهل الواقع والبعد عن فقهه ومعرفته فلا يستطيع التعرف على
مشكلات مجتمعه وواقعه ويؤدي ذلك به إلى ترك الدعوة أو الضعف عنها.
14 - تأثير التفرق والاختلاف بين الدعاة والجماعات الإسلامية على الداعية، فيؤدي به ذلك إلى اجتناب طريق الدعوة قال تعالى: [ «ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] .
15- قلة العلم وقلة التأصيل الشرعي للقضايا والمسائل الحادثة والنوازل؛
فهذا بدوره يُضعف الداعية عن المضي قدماً في دعوته.
16 - الإغراق في الجدل مع أصحاب الأهواء وإضاعة الوقت في ذلك، فهذا
مما يضعف الهمة ويغفل عن جوانب أخرى كثيرة، وقد يتأثر بهم ويسقط معهم.
17 - عدم فقه المصالح والمفاسد وإدراك ظروف المرحلة التي تعيشها الدعوة، فيقدم المفضول على الفاضل، وهكذا.
18 - عدم الصبر عند وقوع الابتلاء والأذى في سبيل الله.
19 - عدم التعود على إنكار المنكر والنفرة منه ومجابهته، فيألف المنكر مما
يسبب له التساقط والنكوص.
20- التنازل عن أمور لا يجوز شرعاً التنازل عنها من الدعوة، فتقوده
السلسلة من التنازلات إلى النكوص والتراجع.
21 -عدم التدرج في الدعوة؛ فيبدأ بأعمال غير مؤهَّل لها، فيصاب بشيء
من الضعف نتيجةً لذلك.
22 - عدم الانضباط مع الصحبة الصالحة التي هي الزاد للداعية في طريقه، وانعدام الاستشارة في الأعمال الدعوية أو قلتها.
23 - الارتباط بصحبة بطَّالة أو مثبِّطة ذات اهتمامات دنيئة مما يضعف عزم
الداعية.
24 - استعجال الثمرة واعتقاد قربها.
25 - ضعف اليقين بنصر الله لعباده المؤمنين قال تعالى: [إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] .
26 - عدم الاعتراف بالأخطاء، وعدم تقبل النصيحة.
27 - ارتكاب المعاصي والاستهانة بالصغائر من الذنوب.
28 - قلة الاهتمام بالجانب العبادي لدى الداعية كقيام الليل والأذكار اليومية.
29 - ترك الدعاء الذي هو سلاح المؤمن.
30 - ضعف شخصية الداعية فيسهل التأثير عليها بأي شيء.
31 - عدم التنظيم للعمل الدعوي، وقلة التخطيط السليم.
32 - التحريش بين الدعاة، وتحريض بعضهم على بعض.
33 - تغير المجتمع أو الوسط الذي يعيش فيه وقد كان زاداً على الاستمرار
في الدعوة.
34 - العاطفة الزائدة والحماس المفرط الذي قد يؤدي للغلو في أمور كثيرة،
وبعد فترة يجد نفسه متراجعاً عن كل عمل دعوي.
كانت تلك أبرز أسباب التساقط اجتهدت فيها بالاختصار والدمج بين سببين في
سبب واحد، وعدم التكرار في الصيغة النهائية لها.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق في الدارين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) مسند الإمام أحمد، ح/ 6473.
(2) المصدر السابق.
(3) رواه البخاري، ح/ 3202.
(4) رواه مسلم، ح/ 4899.
(5) رواه ابن ماجة، ح/ 3833.
(6) رواه الدارمي، ح/ 554.
(7) رواه البخاري، ح/ 3412.(147/38)
فتاوى أعلام الموقعين
الحكم بغير ما أنزل الله
سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
(رحمه الله)
الحكم بغير ما أنزل الله تعالى من النوازل التي عمّت وطمت، وكثر الخوض
فيها ما بين غالٍ متشدد، ومفرِّط مداهن، والحق وسط بين الأمرين، وقد كتب
سماحة العلاَّمة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى جواباً محققاً في هذه
المسألة، فبيّن أحوال الحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى وأحكامهم إجمالاً، وحالة
المشرّعين للقوانين تفصيلاً، وفي هذا
العدد ننشر هذه الفتيا لأهميتها ومتانتها:
قال الله تعالى: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
يَاأَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً] [النساء: 58، 59] .
- أمر الله جل شأنه جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من أمانة إلى أهلها
أياً كانت تلك الأمانة، فعمَّ سبحانه بأمره كلَّ مكلف وكلَّ أمانة، سواء كان ما ورد
في نزول الآية صحيحاً أم غير صحيح؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب.
ثم أوصى سبحانه من وُكلَ إليه الحكمُ في خصومة أو الفصل بين الناس في
أمرٍ مَّا أن يحكم بينهم بالعدل سواء كان مُحكَّماً، أو وَليَّ أمر عام، أو خاص، ولا
عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذلك الهدى، والنور، والصراط المستقيم.
ثم أثنى سبحانه على ما أسداه إلى عباده من الموعظة إغراءاً لهم بالقيام بحقها، والوقوف عند حدودها.
وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله؛ من كمال السمع والبصر، ترغيباً
في امتثال أمره رجاء ثوابه، وتحذيراً من مخالفة شرعه خوفاً من عقابه.
ثم أمر تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مطلقاً؛
لأن الوحي كله حق، وأمر بطاعة أولي الأمر فيما وضح أمره من المعروف؛ لأنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في
ذلك.
فإذا اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع في بيان الحق، والفصل فيما
اختلف فيه إلى الكتاب والسنة. لقوله سبحانه: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء: 59] .
وقوله: [ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى: 10] .
وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة. فإن الرجوع إليهما عند الحيرة أو
النزاع خيرٌ عاقبةً وأحسنُ مآلاً؛ وهذا إنما يكون فيما فيه مجال للنظر والاجتهاد.
فمن بذل جهده ونظر في أدلة الشرع، وأخذ بأسباب الوصول إلى الحق فهو:
- مأجورٌ أجرين إن أصاب حكم الله.
- ومعذورٌ مأجورٌ أجراً واحداً إن أخطأه.
- وله أن يعمل بذلك في نفسه، وأن يَحْكُمَ به بين الناس، ويُعَلِّمَه الناس مع
بيان وجهة نظره المستمدة من أدلة الشرع على كلتا الحالتين بناءاً على
قاعدة: (التيسير ودفع الحرج) وعملاً بقوله تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]
[التغابن: 16] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما
استطعتم) [1] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله
أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد) [2] .
حالات الحاكمين بغير ما أنزل الله:
الأولى: مَنْ لم يبذل جهده في ذلك، ولم يسأل أهلَ العلم؛ وَعَبَدَ اللهَ على غير
بصيرة، أو حكَمَ بين الناس في خصومة؛ فهو آثمٌ ضالٌّ، مستحقُّ العذاب إن لم
يتب ويتغمده الله برحمته، قال الله تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء: 36] .
الثانية: مَنْ عَلِمَ الحقَّ ورضيَ بحكم الله؛ لكن غلبه هواه أحياناً فعمل في
نفسه، أو حكمَ بين الناس في بعض المسائل أو القضايا على خلاف ما علمه من
الشرع لعصبية أو لرشوة مثلاً فهو آثم، لكنه غير كافر كفراً يُخرِج من الإسلام إذا
كان معترفاً بأنه أساء، ولم ينتقص شرع الله، ولم يسئ الظن به، بل يحِزُّ في
نفسه ما صدر منه، ويرى أن الخير والصلاح في العمل بحكم الله تعالى.
روى الحاكم عن بُريْدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاضٍ عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاضٍ عرف الحق فجار متعمداً أو قضى بغير علم؛ فهما في
النار) [3] .
الثالثة: من كان منتسباً للإسلام عالماً بأحكامه، ثم وضع للناس أحكاماً،
وهيأ لهم نظماً؛ ليعملوا بها ويتحاكموا إليها وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام فهو
كافر خارج من ملة الإسلام. وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك،
ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو
يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام.
وكذا من يتولى الحكم بها، وطبقها في القضايا، ومن أطاعهم في التحاكم إليها
باختياره مع علمه بمخالفتها للإسلام؛ فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم
الله.
لكن بعضهم يضع تشريعاً يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه
وبيّنة. وبعضهم بالأمر بتطبيقه، أو حمل الأمة على العمل به، أو وَلِيَ الحكم به
بين الناس أو نفَّذ الحكم بمقتضاه.
وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم ما لم يأذن به الله ولم ينزِّل به
سلطاناً.
فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله، وصَدَّقَ عليهم إبليسُ ظنَّهُ فاتبعوه،
وكانوا شركاء في الزيغ والإلحاد والكفر والطغيان ولا ينفعهم علمهم بشرع الله
واعتقادهم ما فيه مع إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه بتشريع من عند أنفسهم،
وتطبيقه، والتحاكم إليه، كما لم ينفع إبليسَ علمُه بالحق واعتقاده إياه مع إعراضه
عنه، وعدم الاستسلام والانقياد إليه، وبهذا قد اتخذوا هواهم إلهاً؛ فصدق فيهم:
قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] ... [الجاثية: 23] .
وقوله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] ...
[الشورى: 21] ، وقوله: [إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] [المائدة: 44] . الآيات. إلى قوله سبحانه:
[وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ ... ] [المائدة: 48] . إلى قوله: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] . [المائدة: 50] . وقوله سبحانه: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً....] [النساء: 60، 61] . إلى قوله:
[فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
إن هؤلاء قد صدوا عن تحكيم شرع الله انتقاصاً له، وإساءةً للظن بربهم الذي
شرعه لهم، وابتغاءَ الكمال فيما سوَّلته لهم أنفسهم وأوحى به إليهم شياطينهم.
وكان لسان حالهم يقول: إن شريعة الكتاب والسنة نزلت لزمان غير زماننا؛
لتعالج مشاكل قوم تختلف أحوالهم عن أحوالنا، وقد يُجدي في إصلاحهم ما لا
يناسب أهلَ زماننا؛ فلكل عصر شأنه، ولِكُلِّ قومٍ حكم يتفق مع عروفهم ونوع
حضارتهم وثقافتهم.
فكانوا كمن أمر الله رسوله أن ينكر عليهم ويسكتهم بقوله: [أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي
حَكَماً وهُوَ الَذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً ... ] [الأنعام: 114] إلى قوله:
[وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ]
[الأنعام: 115] .
وكانوا ممن حقت عليهم كلمة العذاب وحكم الله عليهم بأن لا خلاق لهم في
الآخرة بقوله: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] [آل عمران: 85] .
لقد استهوى الشيطان هؤلاء المغرورين فزَيَّنَ لهم أن يَسُنُّوا قوانينَ من عند
أنفسهم ليتحاكموا إليها، ويَفْصلوا بها في خصوماتهم، وسوَّل لهم أن يسُنُّوا قواعد
بمحض تفكيرهم القاصر وهواهم الجائر لينظموا بها اقتصادهم وسائر معاملاتهم
محادةً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتقاصاً لتشريعه؛ زعماً منهم
أن تشريع الله لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم، ولا يكفل لهم مصالحهم، ولا يعالج ما جَدَّ من مشاكلهم؛ حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحي في المعاملات وكثرت المشكلات؛ فلا بد لتنظيم المعاملات والفصل في الخصومات من قواعد جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر والواقفون على أحوال أهله المطلعون على المشاكل العارفون بأسبابها وطرق حلها؛ لتكون مستمدةً من واقع الحياة؛ فتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم.
فهؤلاء قد طغى عليهم الغرور المكروه فركبوا رؤوسهم، ولم يَقْدُروا عقولهم
قدرها، ولم ينزلوها منزلتها، ولم يَقْدُروا الله حَقَّ قدره، ولم يعرفوا حقيقة شرعه
ولا طريق تطبيق منهاجه وأحكامه، ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علماً؛
فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال وكثرة المشاكل وأنه أنزل شريعة عامة
شاملة وقواعد كلية مُحْكَمة، وقدَّرها بكامل علمه وبالغ حكمته؛ فأحسن تقديرها،
وجعلها صالحة لكُلِّ زمان ومكان؛ فمهما اختلفت الطبائع والحضارات وتباينت
الظروف والأحوال فهي صالحة لتنظيم معاملات العباد، وتبادل المنافع بينهم،
والفصل في خصوماتهم، وحل مشاكلهم وصلاح جميع شؤونهم في عباداتهم
ومعاملاتهم.
إن العقول التي منحها الله عباده ليعرفوه بها، وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلى ما
فيه سعادتهم في العاجل والآجل قد اتخذوا منها خصماً لدوداً لله، فأنكر (أحدهم)
حكمته وحسن تدبيره وتقديره، وضاق صدره ذرعاً بتشريعه، وأساء الظن به
فانتقصه وردّه، وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون؛ لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت
عليهم معالم الحق والعدل.
فكانوا من الأخسرين أعمالاً [الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً] . [الكهف: 104] .
وكانوا ممن [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
البَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبِئْسَ القَرَارُ] . [إبراهيم: 28، 29] .
إن الله سبحانه كثيراً مَّا يُذَكِّرُ أناساً في القرآن أحوالَ المعتدين الهالكين،
ويحثهم على أن يسيروا في الأرض؛ لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش
وحضارة وبسطة في العلم نظر عظة واعتبار، ليتنكبوا طريقهم اتقاءاً لسوء
مصيرهم، ولفت النظر في بعض السور إلى جريمة الغرور الفكري؛ لشدة خطره، وبيّن أنه الفتنة الكبرى التي دفعوا بها في صدور الرسل وردوا بها دعوتهم،
ليعرفنا بقصور عقول البشر أنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل، وليحذرنا من
خطر الغرور الفكري الذي هلك به من قاوم المرسلين.
قال تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وأَشَدَّ قُوَّةً وآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وحْدَهُ وكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ
(84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخَسِرَ
هُنَالِكَ الكَافِرُونَ] [غافر: 82 - 85] .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 6744.
(2) رواه البخاري، ح/ 6805.
(3) رواه الترمذي، ح/ 1244.(147/42)
البيان الأدبي
الهَجْمةُ على اللُّغةِ العربيّةِ
إبراهيم بن سعد الحقيل
توطئة:
تنبَّه المستعمر الصَّليبي بعد طرده من ديار الإسلام بل وبعد نقل المعركة إلى
عقر داره في أوروبا إلى أهمية الدين الإسلامي وأثرهِ في بقاء المسلمين أقوياء،
فبدؤوا في غزوٍ فكري يحاول هدم أُسسِ الإسلام في نفوسِ المسلمين، وشنوا
حملات مختلفة في جميع الميادين، فشكَّكوا في المسلَّمات الدينيّة، ونبشوا آثار الأمم
الكافرة التي أزال الله بالإسلام دولهم وحضاراتهم، وشوهوا تاريخ الإسلام وسِيَر
قدواته، وكانت الهجمة مركزةً على لغة الإسلام ولغة رسول الإسلام صلى الله عليه
وسلم؛ لقطع حبال الاتصال بين حاضر المسلمين وماضيهم، ولجعل القرآن الكريم
غريباً على آذانهم، وكذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتراث المسلمين
المتنوع.
فجردوا اللغة العربية من رداءِ القدسية، وحاولوا فصل اللغة العربية عن
الإسلام.
يقول طه حسين: (إن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين يُؤْمَنون وحدهم
عليها، ويقومون وحدهم دونها، ولكنها ملكٌ للذين يتكلمونها جميعاً، وكلُّ فردٍ من
هؤلاء الناس حرٌّ في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك ... ) [1] .
وإذا فقدت اللغة العربية هذا الرداء المقدس، وفقدت أهميتها الدينيّة سارت إلى
ما سارت إليه اللغات البائدة.
وقد غفل من حارب اللغة العربية عن حياطة الله عز وجل لها بالقرآن الكريم! واتخذ الهجوم على اللغة العربية لتدميرها عدة محاور هي:
المحور الأول: الدعوة إلى العامية: نرى أوروبا مقسمة إلى دول كثيرة لا تزيد مساحة أكبرها عن نصف مليون كم2، لكل بلدٍ لغته وتاريخه، وكذلك كادوا للمسلمين فطُبق التقسيم السياسي، وحاولوا حتى الآن تطبيق التقسيم اللغوي والتاريخي، فروَّجوا هذه الدعوة لينعزل كل جزءٍ من العرب في محيطهم بلغتهم العامية وتاريخهم الوثني القديم، وليصبحوا أُمماً شتى.
كان المعجَبُ بالغرب رفاعةُ رافع الطَّهْطَاوي الذي أُرسل إماماً لأول بعثةٍ
علميّةٍ إلى الغرب أولَ من دعا إلى استعمال العامية وتدوين قواعد لها.
قال في كتاب أصدره عام 1868م أسماه [2] : (أنوارُ توفيق الجليل من أخبار
توثيق بني إسماعيل) : إنَّ اللغة المتداوَلة المُسمَّاة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهمُ
في المعاملات السائرة لا مانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ وتصنف بها كتب
المنافع العمومية، والمصالح البلدية.. اهـ.
ثم خرج علينا مندسٌّ من المستشرقين عاش في مصر مديراً لدار الكتب
المصرية اسمه: (ولهلم سبيتا) بكتاب أسماه: (قواعد اللغة العامية في مصر) عام
1888م، وذكر أنه قد جازف بذلك العمل لحبه لمصر وللمصريين [3] .
وأسرع صاحب صحيفة المقتطف فارس نمر فقرَّظ لهذه الدعوة، ودعا إلى
تدريس العلوم وكتابتها باللغة التي يتكلم بها الناس [4] .
وبعد دخول المستعمر أصبحت المقتطف مداحة له، وأسرع الإنجليز
ففرضوا الإنجليزية لغة التعليم، وأصبحت لغة رسمية، وأغلقوا مدرسة الألسن،
ووجهوا جميع البعثات إلى بلادهم فقط.
وذرَّ قرنُ (كارل فولرس) فكتب كتاباً اسماهُ: (اللهجة العامية في مصر) ،
وكان لـ (ولكوكس) رأي مشابه بل وصفيق؛ فقد قال في محاضرةٍ له: إن ما يعيق
المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى ... وما أوقفني هذا الموقف إلا حُبي
لخدمةِ الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف. وأعلن في آخر المحاضرة عن
مسابقة للخطابة بالعامية، ومن تكون خطبته جيدة ناجحةً فله أربع جنيهات.
كان ذلك عام 1893.
ومن العجب أن (ولكوكس) هذا كان يصدرُ مجلة اسمها: (الأزهر) ، وكان
يدعو إلى العامية من خلالها [5] .
وخرج نفر كثيرٌ من هؤلاء يدعون إلى كل ما فيه هدم لأسس الإسلام في
نفوس المسلمين، وكان منهم: (سلدان ولمور) الذي كتب عام 1901م كتاب:
(العربية المحلية في مصر) ، قال فيه: ومن الحكمة أن ندع جانباً كل حكم خاطئ
وُجِّه إلى العامية، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد [6] .
وأسرع فارس نمر صاحب المقتطف يقرِّظ لهذا الكتاب.
ووضع (ولمور) كتاباً آخر عام 1910م، سمَّاه: (لغة القاهرة) ، وجاء
مضمونه كسابقه.
لم يكن هذا الوباء في مصر وحدها؛ فهذا (إسكندر معلوف) [7] اللبناني أنفق
وقته في ضبط أحوال العامية وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم؛ لأنَّه
وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ونحا ابنه عيسى نحوهُ فيقول: إنَّ
اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفنا رغم أنَّهُ من الممكن اتخاذُ
أيِّ لهجةٍ عاميةٍ لغةً للكتابة؛ لأنها ستكون أسهل على المتكلمين بالعربية كافة.
ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها.
وهذا أعدُّهُ أعظم خطوةٍ نحو النجاح، وهو غاية أملي [8] .
ومن العجب أنَّ من يدعو إلى العامية عضو في مجمع اللغة العربية؛ فأيُّ
خير يُرجى من هذا المجمع وهذا من أعضائه؟ ونعود إلى مصر فنجد (سلامة
موسى) [9] يقول في كتابه: (البلاغة العصرية) : (إنها تبعثر وطنيتنا يقصد بذلك
الفصحى وتجعلها شائعةً في القوميَّة العربية) .
ويقول عن أستاذه أحمد لطفي السيد مفسد الجيل: وقام على أثره مُنشئ
الوطنية المصرية الحديثة، فأشار باستعمال اللغة العامية، وبيّن أنَّ ما يشغل بال
(ولكوكس) بل ويقلقه هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها.
وأحمد لطفي السيد هذا تولى رئاسة مجمع اللغة العربية؛ فأيُّ مجمع هذا؟
وينعق الشاعر العراقي الهالك جميل صدفي الزهاوي فيقول [10] : فتَّشْتُ طويلاً
عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أولهما: الحجاب الذي عدَّدتُ في مقالي
الأول مضاره، والثاني: هو كون المسلمين ولا سيما العرب منهم يكتبون بلغةٍ غير
التي يحكونها.
ونعود إلى مصر فإذا بـ (لويس عوض) [11] الصليبي الشيوعي يدعو إلى
العامية ويصنف كتاباً يهديه إلى (كريستوفر سكيف) الجاسوس الإنجليزي ويكتب
ديوانه (بلوتو لاند) عام 1947م الذي دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى
الكتابة بالعامية [12] .
وكان للمغرب العربي نصيب من هذه الدعوة؛ فقد أصبحت اللغة العربية لغة
ثانية بعد الفرنسية لغة المستعمر، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغربية
الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية،
وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال
إفريقيا [13] .
وقد وضع علماء الاستعمار من المستشرقين كتباً في قواعد اللهجات
الأمازيغية لتزاحم العربية، يقول (شحادة الخوري) : شعر المستعمر باستحالة اقتلاع
اللغة العربية من أرض الجزائر وغرس اللغة الفرنسية مكانها، فلجؤوا إلى وسيلةٍ
مُساعدةٍ أخرى وهي الإيحاء لأكبر عددٍ من أبناء الجزائر بأن اللغة العربية ليست
لغة أصليَّة في الجزائر، وإنما اللغة الأصلية لسكان الجزائر هي اللغة البَرْبريَّة لغة
الأمازيغ، وقد تطوع الفرنسيون لوضع أبجدية لها كيما يمكن كتابتها [14] .
ونعود إلى الشام ولبنان خاصة؛ ف (مارون غصن) أصدر كتاباً قال
فيه [15] : إنَّ كل لغةٍ سائرةٌ إلى الفناء؛ لأن الشعب كله متعلقٌ كل التعلق بلغة آبائه وأجداده، وما هذه اللغة إلا العامية، وأتبع ذلك بإصدار كتاب بالعامية عنوانه: (في متلوها لكتاب) عام 1930م.
ويتمنى (مارون غصن) أن يرى عاملاً عسكرياً سياسياً يفرض اللغة
العامِّية [16] .
وقد تزامن مع هذه الدعوة إصدار جرائد ومجلات وكتب باللهجات العامية،
فقد صدرت سبع عشرة جريدة ومجلة عامية بحلول عام 1900م [17] ، كما تحول
المسرح من الفصحى إلى العامية مما دعا المنفلوطي إلى تسميته بـ (الملاعب
الهزلية) [18] كما تسابق المستشرقون على إصدار دراسات عن اللهجات العامية
مثل دراسة (نللينو) عن عامية مصر، و (سيانكو فسكي) عن عامية المغرب
وتونس، و (إلياس برازين) عن عامية حلب، و (ليوريال) عن عامية الجزائر،
وغيرها [19] .
المحور الثاني: الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية: هذه الدعوة مرتبطةٌ
بالدعوة السابقة؛ حيث أخذ الهجوم على الفصحى [20] بالتدرج وتوحيد الجهود،
وقد بدأ بذلك (سلدان ولمور) في كتابه: (العربية المحلية [21] المصرية) ، وهدَّد
بأن العرب إن لم يفعلوا ذلك فإن لغة الحديث والكتابة ستنقرض، وستحل محلها لغة
أجنبية.
ويخرج علينا عضو في مجمع اللغة العربية ليكمل جوقة المحاربين للغة
القرآن من مجمعها، وكان الأوْلى أن يُسمَّى: (مجمع محاربة اللغة العربية) .
هذا العضو هو (عبد العزيز فهمي) [22] ؛ فقد دعا عام 1913م لكتابة
العربية بالحروف اللاتينية، وأصدر كتاباً يوضح فيه طريقته، جاء فيه بالعجب
العجاب؛ فقد جمعَ نماذجَ للكتابة، أُرسلت له ممن هب ودب يكتبها ويكتب تحتها
ترجمتها بالحروف العربية، ويقول ناشر الكتاب: (ونجحت التجربة في تركيا وهم
يقرؤون اللغة التركية بالحروف اللاتينية، ولكنَّ أصحاب الآراء المتحجِّرة رموهُ
بالكفر والزندقة) [23] .
وقرأت أنه رجع عن دعوته تلك [24] .
ويستلم منه الراية (سلامة موسى) القبطي [25] ليتبرأ من آثار العرب
تاريخياً ولغوياً، ويدعو إلى ما دعا إليه المارقون قبله بشدةٍ وحماسةٍ.
وطبق بعض المارقين ذلك النهج، فولدت محاولاتهم ميّتةً.
مثل: (رفائيل نخلة اليَسُوعيّ) في كتاب أسماه: (قواعد اللهجة اللبنانية
والسورية) ، مكتوب بالحروف اللاتينية، وطبعته المطبعة اليسوعيّة.
وأما (أنيس فريحة الخوري) فلا يرضى بأن تكون العامية اللغة المعتمدة بل
يدعو إلى كتابتها بالحروف اللاتينية لتكون لغة رسمية للعرب [26] ؛ لأن الحرف
العربي لا يصلح لتدوين اللهجة العامية ويقبلُ اقتراح عبد العزيز فهمي؛ لأنَّهُ يَضْبطُ
لفظة اللغة مرةً واحدة لجميع الناس.
والمُتسمِّي بـ (أدونيس) طبق ما يريد أستاذه (أنيس فريحة) فأصدر في عام
1961م ديواناً اسماه (ياره) كتب بالحروف اللاتينية [27] .
أما (انستاس الكرملي) الذي يُسميه الجهال: (الأب) فقد كان ماكراً في
دعوته؛ حيث ابتدع طريقة للكتابة تحوي في تضاعيفها حروفاً لاتينية [28] ، وذلك
في مجلته: (لغة العرب) ، وكان يهاجم الداعين إلى استبدال الحرف العربي
بحرف لاتيني، فهو يذرُّ رماداً في العيون لكي لا تراه ولا تنتبه لعمله، ولكنها رأته
وأبطلت ما يصبو إليه.
أما مجمع اللغة العربية فقد انشغل ثلاث سنوات يدرس اقتراح كتابة العربية
بحروفٍ لاتينيةٍ [29] استجابة لثلةٍ من أعضائه المارقين! ألم أقل: إنه مجمع
محاربة اللغة العربية؟ !
المحور الثالث: الدعوة لإصلاح اللغة العربية: لو كانت تلك الدعوات قُصد منها إصلاحٌ وإيضاح كما فعل المتقدمون منهم وكثيرٌ من المحدثين لكان ذلك صواباً، ولكنَّ النيَّة السيئةَ هي مطيَّةُ القوم. ولكي يَصِلُوا إلى مرادهم وصموا العربية بالجمود والتعقيد والصعوبة.
وكل من ذكرنا سابقاً وكثير من مثلهم قالوا ذلك.
وكانت تلك الدعوات غطاءاً للهدم؛ فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب مثل
(قاسم أمين) عام 1912 [30] ؛ حيث دعا إلى تسكين أواخر الكلمات عوضاً عن
الإعراب.
قال (سلامة موسى) [31] : والتأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس
حديثاً؛ إذ يرجع إلى ما قبل ثلاثين عاماً حين نعى (قاسم أمين) على اللغة العربية
صعوبتها، وقال كلمته المشهورة: إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم ونحن نفهم لكي
نقرأ.
فانظر إلى ترابط الهدم؛ إذ يتحدث عن إفساد المرأة ثم يدعو إلى إفساد
العربية.
ولمثل دعوته في ترك الإعراب دعا (عبد العزيز فهمي) [32] وتبعهما
كثيرون مثل: (يوسف الخال) [33] الذي دعا إلى تحطيم بنيان اللغة والتخلص من
العبء الثقيل وهو الإعراب، وكثيرون سواه دعوا إلى ذلك، ومن آخرهم أستاذ
بجامعة الملك سعود بكلية الآداب عندما عرفتُ ما يدعو إليه في إلغاء الإعرا [34] ... تذكرت ما كان يقوله لنا ونحن طلبة عنده من أنَّ عيبه عدم استطاعته إيصال
ما يريد لطلابه لضعف لغته.
وكانت لغته ضعيفة، ولسانه مطبوعاً على العامية لا يستطيع الفكاك منها.
ومنهم من دعا إلى إصلاح قواعد الكتابة مثل: (أحمد لطفي السيد) [35] ...
الذي يقول: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين، ثم دعا إلى
قواعدَ جديدةٍ ابتكرها مزهواً بذلك كأنه أبو الأسود أو الخليل رحمهما الله.
كما كان لـ (أنستاس الكرملي) رأي ماكر في إصلاح الكتابة العربية دسَّ فيه
حروفاً لاتينية أوضحناه آنفاً.
أما (أنيس فريحة) فقد أصدر عام 1966م كتاباً أسماهُ: (في اللغة العربية
وبعض مشكلاتها) [36] أهداه إلى كل معلِّم يدرّسُ العربية رونقه بحديثٍ في أوله
عن مزايا العربية، ثم رنَّقهُ [37] بوصم العربية بالعجز عن اللحاق بالعلوم والفنون، وجعل هجاءها من مشاكلها، ودعا إلى تيسير ذلك، وأخذ يحيي اقتراحاتٍ بائدةً
لإصلاح ذلك.
كما تأفف من مشكلات القواعد النحوية، واشتكى من الصرف ودعا في ثناياه
إلى العامية! فماذا أبقى فريحة الخوري؟ وزعم (مارون غصن) وهو ممن يُدعون
بـ (الأبّ) أنَّ اللغة العربية ضعيفة في كل شيءٍ؛ ولذلك هبَّ مسارعاً لتسهيل هذه
اللغة فوضع كتاباً اسماه: (نحو عربية ميسرة) [38] عام 1955م، وكتب مقالاً
عنوانه: (هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر؟) ، سخر فيه من قواعد
العربية، ودعا إلى تركها [39] .
أما صاحب فجر الإسلام (أحمد أمين) فقد دعا إلى إصلاحٍ في متن
العربية [40] وانطلقت دعوته تلك من منبر مجمع اللغة العربية؛ فهو أحد أعضائه.
وكل من تحدث عن الإصلاح يلوك مقولة ملْكية الجميع للغة ويتهمون كل
مدافع عنها بأنه ممن يدَّعِي مُلْكَ اللغة؛ كما ذكرنا قول طه حسين آنفاً.
المحور الرابع: إفساد الذوق السليم: لما عجز المستعمر وعجز ربائبه
وأذنابه عن فرض العامية وكَلّت أقلامُهم في الدعوة إلى الحروف اللاتينية، وماتت
تجاربهم في مهدِها، ولم يستطيعوا جرَّ العرب لتحطيم العربية بدعوى الإصلاح،
عند ذلك لجؤوا إلى إفساد الذوق السليم لكي يعدمَ العربي ذوقه التي اعتاد عليه في
الاستمتاع بما كتب به كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتراثه الأصيل، وحاضرهُ الزاخر.
فانفتح الباب على كل عربي قارئ للآداب بمذاهب لا يعرف منها إلا اسمها
سلخت من بلاد الغرب وزُجَّ بها في ساحة العربيةِ وطُوِّعت وسائل الإعلام المختلفة
لكي تمتلئ بهذه المذاهب التي تهدمُ الدينَ وتحاربُ العربيةَ وتُفِسدُ الأخلاق.
وترجمت كتب النقد الغربي لكي يُطبَّق على أدبنا.
وأصبح لزاماً على الدارس في كثيرٍ من أقسام العربية في الجامعات أن
يدرس هذا الأدب وهذا النقد، ولقد درستُ النقد الأدبي الغربي في المرحلةِ الجامعيةِ
ولكنهم سمَّوه: (النقد الأدبي الحديث) .
ودُعم كل ناعق بهذه الخزعبلات، فامتلأت الجرائد والمجلات وأرفف
المكتبات بها، وخرج علينا في جميع وسائل الإعلام دعاة الحداثة وهم شرذمة قليلة، ودعوا إلى تحطيم الشعر.
يقول (لويس عوض) [41] : (حطِّمُوا الشعر؛ لقد مات الشعر العربي عام
1933م، مات بموت أحمد شوقي) . فصار الشعرُ طلاسم وأحاجي لا يفهمها حتى
كاتبها. لكي يعدم الشاب النماذج التي يحاكيها.
يقول الدكتور (عمر موسى باشا) [42] : إنَّ مفهوم الحداثة في الأدب يعني
حريَّة الأديب فيما يختص باستخدام اللغة، وأنَّ للأديب الحرية الكاملة في استخدام
اللغة العامية المحلية، ونحن نعترض على إطلاق هذه الحرِّية ما دامت تُصدِّع
صرح اللغة العربية.
كما شجعت الآداب الشعبية لإفساد الذوق وحرف الناس عن أدبهم الفصيح،
ولكي تسيطر العامية على الناس.
يقول الدكتور: (محمد محمد حسين) رحمه الله عن هذا الأدب: هو امتداد
للدعوة إلى استبدال اللهجات المحلِّية العامِّية مكان اللغة الفصحى) [43] .
وأجزم أولاً أنَّ تدوينها والاهتمامَ بها ليتعلَّقَ الناس ويفسدَ ذوقهم ويعتادوها،
ويعدموا النموذج الأصيل.
يقول أنور الجندي [44] : حاول الداعون بها أن يَوجِّهوا العنايةَ إلى الجمالِ
الفنِّي الذي تمثلهُ الأمثالُ والقصصُ والأغاني التي يتداولها العامة، وقد دوَّنوا ما لم
يكن مدوناً، فلما برزت الدعوة إلى العناية بالفنون الشعبية تمسَّح الداعون بهذه
الدعوة بين العرب زاعمين أنَّ إهمال هذا اللون من الفنون ترفُّعٌ عن العناية
بالطبقاتِ الفقيرةِ الكادحةِ، وما يتصل بها من شؤون.
الخاتمة: بعد أن رصدنا رصداً سريعاً جوانب من هذه الهجمة نستخلص منها:
1 - كانت بدايةُ الهجمة بالمستشرقين تحت ظلال المستعمر، ثم نقلت إلى
بني جلدتنا ليكون لما يقولون قبول أكثر.
2 - جُلُّ من هاجم العربية بأي شكل هم من المستشرقين وغير المسلمين
مثل: موسى سلامة، ولويس عوض، وعيسى معلوف وابنه إسكندر، ورفائيل
نخلة، ومارون غصن، وأنيس فريحة، والكرملي وغيرهم، ومن هاجم العربية
من غيرهم فهو من المارقين الذين تحلَّلوا من الإسلام مثل: قاسم أمين، وأحمد
لطفي السيد، وطه حسين، وأشباههم.
3 - اتخذ الهجومُ التدرجَ دعوةً إلى العامية ثم الحرف اللاتيني؛ فلما لم
ينجحوا في ذلك دَعَوْا إلى إصلاح العربية؛ والقصدُ هو الإفساد؛ فلما سقطت
دعوتهم فُتِحَ البابُ لإفساد الذوق السليم، وشُجعت الآداب العامية.
4 - جوبهت تلك الدعوات الهدامة بردود ومعارك كتابية أرجعتها خائبة،
كما أعرض العامة عنها ولم يعيروها أذناً صاغية، وكان تطبيقها حِكراً على
الناعقين بها.
5 - ساعدت تلك الهجمة في بث الروح والحياة في نفوس أهل العربية،
فخرج شعراء كبار مثل: البارودي، وشوقي، وحافظ، والرصافي، وكُتَّاب كبار
كالرافعي، والمنفلوطي، وباكثير، وغيرهم.
والله ولي التوفيق
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات طه حسين، علم التربية، 290.
(2) الصراع بين القديم والجديد في الأدب الغربي، للكتاني، ج 2، 758، والاتجاهات الوطنية في الشعر العربي المعاصر، لمحمد محمد حسين، ج2، 359.
(3) تيارات مسمومة ومذاهب هدامة، لأنور الجندي، 127، والاتجاهات الوطنية، ج 2، 360، ولماذا يزيفون التاريخ، لإسماعيل الكيلاني 316 317.
(4) الاتجاهات الوطنية، ج 2، 360، ولماذا يزيفون التاريخ، 317.
(5) الصراع بين القديم والجديد، ج2، 761، ولماذا يزيفون التاريخ، 317.
(6) الاتجاهات الوطنية، ج2، 360، ولماذا يزيفون التاريخ، 317.
(7) الاتجاهات الوطنية، ج2، 363.
(8) الاتجاهات الوطنية، ج2، 363، ولماذا يزيفون التاريخ، 318.
(9) الفصحى لغة القرآن، لأنور الجندي، 127، والاتجاهات الوطنية، 1، 372، ولماذا يزيفون التاريخ، 319.
(10) تيارات مسمومة ونظريات هدامة، 196.
(11) لماذا يزيفون التاريخ، 324.
(12) لماذا يزيفون التاريخ، 320، ومجلة الآداب عدد 1، 2 / 1999م، ص 101.
(13) الاتجاهات الوطنية، ج، 365، ولماذا يزيفون التاريخ، 323.
(14) القضية اللغوية في الجزائر وانتصار اللغة العربية، 18/19.
(15) لماذا يزيفون التاريخ، 324.
(16) المصدر السابق، 325، واتجاهات البحث اللغوي الحديث في العالم العربي لبنان للدكتور رياض قاسم، 388، وذكر كثيراً من آراء غصن.
(17) الفصحى لغة القرآن، 127.
(18) الاتجاهات الوطنية، ج2، 361.
(19) ذكر كثيراً منها أنور الجندي في كتابه: الفصحى لغة القرآن، 127.
(20) الاتجاهات الوطنية، ج2، 360، ولماذا يزيفون التاريخ، 317.
(21) الاتجاهات الوطنية، ج2، 363، ولماذا يزيفون التاريخ، 318.
(22) طبعة 1994م، وهي ليست الأولى بالتأكيد.
(23) مجلة الآداب 1، 2 / 1999م، ص 101.
(24) الاتجاهات الوطنية، ج2 365.
(25) لماذا يزيفون التاريخ، 323.
(26) اتجاهات البحث اللغوي الحديث 394/ 395.
(27) لماذا يزيفون التاريخ 324، واتجاهات البحث اللغوي الحديث ودرس مضمون الكتاب هذا
407/ 411.
(28) الاتجاهات الوطنية، ج2، 377، وذكر بعض الردود عليه.
(29) المصدر السابق، ج2، 363 ولم تكن اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية أحسن حالاً من المجمع؛ فقد احتضنت فريحة وألقى محاضرات في مراكزها عن اللهجات وأساليب دراستها عام 1955م، وسارعت إلى طباعة تلك المحاضرات، الاتجاهات الوطنية، ج2 364.
(30) الاتجاهات الوطنية، ج2، 372، وتيارات مسمومة، 273.
(31) الاتجاهات الوطنية، ج2، 372.
(32) مجلة الآداب عدد 1، 2 / 1999م، ص 101.
(33) تيارات مسمومة، 272.
(34) اقرأ ما كتبه د حسن الهويمل في جريدة الرياض بتاريخ، 3/3/ 1420هـ.
(35) الاتجاهات الوطنية، ج2، 369.
(36) طبع أكثر من مرة.
(37) رنَّقَه: كدَّره ورَنَقَ بمعنى صفا، وكدِر؛ فهو من ألفاظ الأضداد.
(38) لماذا يزيفون التاريخ 325.
(39) المصدر السابق، 325.
(40) الاتجاهات الوطنية، ج2، 369.
(41) تيارات مسمومة، 201.
(42) المصدر السابق، 272.
(43) المصدر السابق، 250.
(44) المصدر السابق، 256.(147/46)
البيان الأدبي
وصول
د. محمد زين العابدين
مشى وحده حتى تعبت قدماه.. فالشلة لن تجتمع اليوم بسبب هذه الريح
العاصفة القارسة البرودة؛ خاصة أن السماء ازدحمت فيها السحب الداكنة نذيراً
بإشاعة الفوضى في أي برنامج.. كل واحد منهم اختبأ في بيته، وادخر طاقته ليوم
آخر ذي جو أصفى.. أما هو فلم يستطع أن يمكث في بيته؛ فهو يحب الحياة حتى
النخاع، ولا يتصور نفسه إلا طائراً بين أفيائها يتنسم عبير الزهر الناضر تارة، أو
يلتهم الثمر الناضج أخرى؛ حسب الظروف! ! التعب ازداد حدة ولم يعد قادراً على
مواصلة السير.
أتمنى أن أجلس، ولكن أين؟ آه.. ها هو ذا مقهى على الضفة المقابلة من
الشارع.
حاول العبور لكنه لم يستطع بسبب سرعة السيارات وكثافة المارة.. سار
على حافة الشارع متحيناً الفرصة للعبور حتى وصل النقطة المواجهة للمقهى،
وانتظر.. لكن الانتظار طال وتضاعف معه تعبه وضجره اللذان زحفا إليه كما
تزحف جيوش النمل الأبيض على جذوع الأشجار ...
صوت حشرجة معدنية عالية انبعث فجأة من مكان ما فوق رأسه.. استطاع
أن ينتفض على الرغم من إعيائه الشديد.. رفع نظره فرأى مكبراً للصوت فوق
مئذنة لمسجد.. تعجب لوجود مسجد في هذا الشارع؛ فقد سار فيه مراراً ولم يلحظ
المسجد أبداً.. المنظر في الداخل يبعث على الارتياح، والفرش على الأرض
تغري ساقيه المتعبتين.
لماذا لا أدخل لأجلس قليلاً؛ فالجلوس هنا أكثر راحة من المقهى، كما أنه لا
يكلف شيئاً..؟ ابتسم وهو يخلع حذاءه؛ فهو لا يتذكر متى كانت آخر مرة دخل
فيها مسجداً..! في محراب المسجد يجلس أحد الشيوخ يبدو أنه على وشك البدء
في حديث مَّا.. استند إلى الحائط في نهاية المسجد، ومد رجليه.. انتشرت الراحة
في جسده المنهك، وانتشت عضلاته المتعبة، وجال فكره بعيداً في الزمان والمكان
يخطط جداوله للأيام القادمة، وكيف سيكون العبُّ من ملذات الحياة. يجب ألا
يتكرر هذا الموقف السخيف ثانية؛ فهو من أنصار استثمار الشباب حتى الثمالة..
انتفض فجأة بسبب ارتفاع شديد في صوت الشيخ.. نظر حوله.. لقد امتلأ المسجد
وغص بالحضور.. عدل من جلسته وثنى رجليه.. كان المتحدث يقول: الموت
سهم فارق قوسه، ولا تعلم متى يصل إليك وهو لا يخطئ هدفه أبداً، جحظت عيناه، تدلى فكه، اندفع الدم الأحمر إلى وجهه؛ كأنه تلقى عليه صفعة قوية: الموت! !
يا لها من كلمة! إنه لا يريد أن يموت وأمامه الكثير ليفعله.. توترت أعصابه.. لم
يعد يستطيع الجلوس.. أحس بالرغبة في تدخين سيجارة.. هب واقفاً بشكل أفزع
الجالسين بجواره، وتخطى النفر القليل بينه وبين الباب بشكل عصبي، وما أن
خرج للشارع حتى ملأ صدره من هوائه المشبع بالغبار وعادم السيارات فزاده غيظاً
واختناقاً.. ذلك السهم أمَا من سبيل لتفاديه؟ ! متى سيأتي؟ وهل يمكن تضليله؟
تزاحمت الأسئلة واللعنات في عقله، واكفهرَّ صدره متحدياً الجو من حوله، ومبرزاً
قدرة البشر الفذة على الإحساس بالضيق.. مشى على غير هدى.. قادته قدماه إلى
البيت.. منزل كبير وطوابق عديدة وهو يحتل قمته. أجل إنه دائماً في القمة! !
صعد إلى غرفته فوق السطح.. دخل.. ندم على العودة، حاول الخروج.. ولكن
إعياءه الشديد أجبره على الجلوس على الفراش.. خلع حذاءه بطريقة لا شعورية..
ضجة على السطح المقابل.. إنهما صبيَّان يصوِّبان بقوس ونشَّاب على أهداف
وضعاها على السور القصير في نهاية السطح.
اللعنة.. اللعنة.. سهام مرة أخرى، كان الهدف مواجهاً للشباك؛ بحيث يمكن
أن تدخل السهام لو كانت بالقوة الكافية لعبور الشارع.. ضاعف ذلك ضيقه إلى حد
الجنون.. صاح فيهما لكي يبتعدا، فسخرا منه.. ماذا يفعل لهذه الشياطين الصغيرة؟ لا شيء بيده.. استسلم للصفاقة الصغيرة ونام على السرير؛ لكنه لم يستطع؛ فقد
اصطدم سهم بالحائط خارج الشباك بشكل أفزعه.. ماذا لو دخل أحد هذه السهام إلى
الغرفة وأصابه؟ إنها خشبية وغير مدببة بما فيه الكفاية، لكنها قوية.. ماذا لو
أصابت عنقه؟ !
أقلقته هذه الأفكار جداً؛ فوقف في منتصف الحجرة حائراً تتقافز نظراته يمنة
ويسرة.. في النهاية تقدم إلى الشباك وأغلقه.. دقائق.. فتحه! ! لم يستطع أن
يعيش داخل علبة مغلقة، لا بد من منفذ على الدنيا، إن الشباك هو أهم شيء في
هذه الغرفة، لقد فضلها على عديدات غيرها أكبر وأرخص؛ لأنها تفتقر إلى مثله،
تمدد على السرير ثانية لكن صوت العفاريت على السطح المقابل دفعه إلى القيام،
جال بعينيه في وكره مرة ثانية.. وقع نظره على الدولاب الضخم الذي ورثه عن
أبيه.. إنه يقف شامخاً كسائر أهل جيله مزهواً بصلابة خشبه ومتانته وكأنه يقول: أنا أقوى من الزمن.. خطرت بباله فكرة مجنونة لذَّت له فقام لينفذها على الفور:
جمع ملابسه القليلة في الرف الصغير أعلى الدولاب، حمل اللحاف وبسط نصفه
في أرض الدولاب، ثم نام فيه وغطى جسمه بالباقي، كان الدولاب بجوار الشباك
وفي غرفة صغيرة، كان أحد المصراعين لا يفتح تماماً.. السماء فوق رأسه قاتمة
تتصارع فيها وحوش رمادية ضخمة أو لعلها تتقافز مرحة سعيدة بالإحساس
بالامتلاء بعد وجبة برنامج يومه الدسم الذي التهمته؛ وتركته خاوي الوفاض..
نظر إلى السحب بغيظ وحقد:
الشؤم على هذا الشتاء وعلى هذه الشيطنة التي تستطيع اللعب في طقس كهذا.. استسلم جسمه للدفء والراحة، وعقله لسبات عميق.. اشتد الهواء في الخارج
فأغلق مصراع الدولاب وأحكم غلقه تماماً.. أجفله الصوت؛ لكن السبات الذي
يسيطر على عقله والظلمة منعاه من إدراك حقيقة الموقف.. على كلٍ ليس هناك ما
يُخْشَى؛ فعند اللزوم يكفي أن يضرب المصراع بيده فيفتحه.. لا مشكلة.. الصبيَّان
ما زالا يلعبان، ازدادت حدود الشيطنة وسئما الأهداف السهلة.. اقترح أحدهما
التصويب لإدخال السهام خلال مقابض دولاب الجار المشاكس.. صوَّبا كثيراً لكن
السهام لم تصل بسبب الريح.. تضاعفت الحماسة والرغبة لقهر هذا الهدف
المتحدي. إنهما ماهران جداً.. تراهنا؛ وانطلقا يبحثان عن الأسهم المناسبة، ثم
رجعا وبدآ في المحاولة من جديد؛ لكن بلا جدوى.. انتهت السهام؛ لكن أحدهما
قرر استخدام سلاحه الأخير.. أخرج سيخاً حديدياً ووضعه في النشَّاب، وصوبه
جيداً وأطلقه.. إنه ولد ماهر ماهر، لقد دخل سهمه من مقبض الدولاب الأول، ثم
الثاني، ثم توقف، لقد أصبح القضيب الحديدي مزلاجاً على باب الدولاب. وعلى
السطح المقابل تقافز الصبيَّان وهما يصيحان جذلين: لقد وصل السهم.. لقد وصل
السهم.(147/54)
البيان الأدبي
متى ينتهي العدوان على بنت عدنان
شادي السيد أحمد عبد الله
إنّ الله - تعالى - أنزل القرآن عربياً لا عُجْمة فيه، بمعنى: أنه جارٍ في
ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب [1] ، قال الله - عز وجل -:
[إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الزخرف: 3] . وَمن أحبَّ اللهَ
أحبَّ رسولَه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومَن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العربَ أحبَّ اللغة العربية التي بها نزل أفضلُ الكتب على أفضل العَجَمِ
والعَرَبِ [2] . ومعلوم أنّ (تعلّم العربية وتعليمها) فرض على الكفاية، وكان
السلف يُؤدّبون أولادهم على توقِّي اللحن؛ فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر
استحباب أن نحفظ القانون العربيّ، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة
فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناسُ على لحنهم كان
نقصاً وعيباً؛ فكيف إذا جاء قومٌ إلى الألسنة العربية المستقيمة والأوزان القويمة
فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للّسان، الناقلة عن العربية العرباء
إلى أنواع الهذيان الذي لا يهذي به إلا قومٌ من الأعاجم الطماطم الصميان؟ ! ! [3] .
وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة) [4] .
قال ابن فارس: (وقد كان الناسُ قديماً يجتنبون اللَّحْن فيما يكتبون أو يقرؤون
اجتنابهم بعضَ الذنوب، فأمّا الآن فقد تجوّزوا حتى إنّ المُحدّث يُحدّث فيلحن،
والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب؛ وإنما نحن محدّثون
وفقهاء، فهما يُسَرَّانِ بما يُسَاءُ به اللبيب) [5] .
ولا يخفى أن اللسانَ العربيَّ شعارُ الإسلام وأهله، واللغاتُ من أعظم شعائر
الأمم التي يتميّزون بها [6] .
فما أجْدَرَ هذا اللسانَ بأنْ يُعتَنقَ ضَمّاً والتزاماً، كالأَحِبَّةِ لدى التوديعِ، ويُكْرَمَ
بنقل الخُطُواتِ على آثاره حالةَ التشييع [7] .
وما أكثر ما يجري من العدوان على هذا اللسان الذي وَسِع الدين والقرآن من
أولئك الذين يَهْرِفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفعلون! فكثُر اللَّحْنُ مِن
الخواصِ قبل العوامّ، وطغت الهُجْنَةُ حتى ضجَّتِ الهوامُّ! ! وسأضربُ مثالاً من
هذا الرُّكام، وأزيح عنه اللِّثام: فما مِن كاتبٍ، ولا شاعرٍ، ولا خطيب، ولا أديبٍ - إلا مَن رحم ربي - إلا ويستخدم كلمة (بَسِيط) بمعنى: قليل، أو هَيِّن، أو يسير ... إلخ؛ فيقول: هذا شيء بسيط (بمعنى قليل) ، ورجل بسيط (بمعنى مُغفَّل، أو طيب القلب) وهذا الاستخدام غير صحيح؛ فقد وردتْ مشتقات هذه الكلمة في خمس وعشرين آية، وجاءت على هذا النحو في القرآن الكريم: بَسَطَ - بَسَطْتَ - تَبْسُطْها - يَبْسُطُ - يَبْسُطُه - يَبْسُطُوا - بَاسِط - بَاسِطُوا - البَسْط - بِسَاطاً - بَسْطَة - مَبْسُوطَتَان [8] ؛ وليس فيها كلها معنى قليل، أو هَيِّن، أو
مُغفّل ... إلخ.
قال الفيروز آبادي: (بَسَطَهُ: نشره، وبَسَطَ يده: مَدَّهَا، وفلاناً: سَرَّه،
والمكانُ القومَ: وَسعَهم، واللهُ فلاناً عليَّ: فَضَّلَهُ، والعُذْرَ: قَبِلَهُ. واللهُ يَبْسُطُ
الرزقَ: يُوسِّعُه، والبِسَاطُ: ما بُسِطَ، والبَسِيطُ: المنبسط بلسانه، وأُذُن بَسْطَاء:
عظيمة عريضة، وانْبَسَطَ النهارُ: امتدَّ وطال، والبَسْطَةُ: الفضيلة، والبَسْطَة في
العلم: التوسُّع، وفي الجسم: الطول والكمال، والمَبْسَطُ: المُتَّسَعُ) [9] .
هذا: وإنني قد بسطتُ الكلام في هذا المقال، للتنبيه وضرب المثال؛ لصون
اللسان عن الزلل في لغة القرآن، ودعوة لنبذ سقيم الكلام والأوزان، بعد أن
(ازدادت المِحْنَةُ في هُجْنَةِ اللسانِ العربي، وطغت مولدات التغريب على لغة القرآن، ... فَعَظُمَ العُدْوان على بنت عدنان، وندر الآخذون بالثأر الموقظون لأمتهم عن تغريب اللسان) [10] . ورغم ذلك:
فإن العلماء في لغة العرب - شكر الله سعيهم - قد بذلوا جهوداً مكثفة في القديم والحديث، فأنشؤوا سدوداً منيعة وحصوناً حصينة للغة القرآن عن عوادي الهُجْنة والدخيل، ويظهر ذلك في المجامع وهي كُثر، وفي كتب الملاحن وهي أكثر، فدبّ يراعهم، وسالتْ سوابق أقلامهم، وانتشرت سوابح أفكارهم في نقض الدخيل، ونفي المقرف والهجين، فحمى الله - سبحانه - اللغة حماية
لكتابه [11] .
فهل إلى إصلاح لغتنا مِن سبيل؟ !
أفليس حراماً أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللَّسَن والبيان ويلحنوا
فيها؟ أليس حراماً أن يكون فينا من الخوارج على لغتنا من ينصر العاميّة المسيخة
أو يكتب بها؟ أليس حراماً أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية: الفرنسية، والإنكليزية ننطق بها تظرّفاً أو تحذلقاً، وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها
وتقوم مقامها؟ !
فيا أيها العرب لغتَكم. لغتَكم يا أيها العرب؛ تعلّموها وحافظوا عليها
وانشروها) [12] .
فهل مِن ملبٍّ للنداء؟ ! وهل مِن مجيبٍ للدعاء؟ !
__________
(1) الاعتصام: الشاطبي، 2/541.
(2) فقه اللغة وسر العربية: الثعالبي، ص 19.
(3) الفتاوى: ابن تيمية، 32/252.
(4) الجامع: الخطيب، 2/25.
(5) التعالم وأثره على الفكر والكتاب: بكر أبو زيد، ص 80 (ضمن المجموعة العلمية) .
(6) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص 203.
(7) القاموس المحيط: الفيروز آبادي، ص 29.
(8) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد، ص 151.
(9) القاموس المحيط، ص 659، وانظر كذلك: معجم الأخطاء الشائعة: محمد العدناني، ص 37، صون اللسان: محمد الحسيني، ص 26.
(10) تغريب الألقاب العلمية: بكر بن عبد الله أبو زيد، ص 307 (ضمن المجموعة العلمية) .
(11) معجم المناهي اللفظية: بكر بن عبد الله أبو زيد، ص 419.
(12) فكر ومباحث: علي الطنطاوي، ص 10.(147/56)
نص شعري
إنسان عيني
مشاعر أم نحو طفلها
د. سعاد محمود نحلة
هو زينة الدنيا وبسمتها به ... هو حبة القلب ارتوت برضابِهِ
طفلي صباحة صبحنا ونسيمه ... عصفورنا الشادي برطب عِذابِهِ
هو نعمة الرحمن تغدو بيننا ... هو عزمنا في عنفوان شبابِهِ
شادٍ تحاكيه البلابلُ غيرةً ... ويشنِّف الآذانَ سحرُ جوابِهِ
غضٌ نضيرٌ كالندَى في رقةٍ ... تغدو الوداعة كلُّها من بابِهِ
ألْقَى الحياةَ بخيرِها وشرورها ... فيهونُ ما ألقاه عند خطابِهِ
ويضمنا مرحُ الطفولةِ ساعةً ... أَنْسَى الحياةَ بها على أبوابِهِ
ألهُو وأركضُ مثلَه في نشوةٍ ... وكأنني يا صحبُ من أصحابهِ
وتُغرِّدُ الضحكاتُ من أعماقِنا ... يروي فؤادينا الصفا بلبابهِ [1]
هو قطعةٌ مني من القلبِ الذي ... أنَّى يسيرُ يسيرُ في أعقابهِ
فإذا بكى مُتضرراً من شوكةٍ ... ذابَ الفؤادُ تساؤلاً: ماذا بِهِ؟
وتمنَّت العينُ التي هو نورُها ... أن يحتويها الشوكُ قبل إهابِهِ
إنسانُ عيني، مهجتي، ريْحانتي ... عمري الذي أحياه من أسبابهِ
رباه! هذا عُمرنا وشبابُنا ... آمالُنا، أحلامُنا تحيا بِهِ
فأَنِر له الأيامَ من أيامِنا ... واحفظه من شرِّ الزمانِ ونابِهِ
واجعلني يا رب الفداءَ لدمعةٍ ... إن ساقها ألمٌ إلى أهدابِهِ
هذا دعاءُ الوالدين تَضرُّعا ... بارك لنا اللهم في أعقابهِ
__________
(1) اللباب: المختار الخالص من كل شيء.(147/58)
نص شعري
الهمجي
أحمد حسبو
بالأمس للسودان صدّرتَ الفناءْ
ونزلتَ في الخرطوم شُؤما
وقطرتَ لُؤْما
وصببتَ حِقداً أسوداً فوق (الشفاء)
ويداك يا للعار حطمتا الدواء
****
واليوم عُدتَ إلى العِراق
بُركان حقدٍ ثائرٍ يَرمي
بدانات النفاق
الشعب ضاق به الخناق
ودمٌ يراق
والطفلُ يَسألُ أمّهُ: هل من فواق؟ !
أمّاه: قد سرقوا الحليب
زرعوا على دربي النحيب
ناديت، لكن من يجيب؟ !
أين العرب؟ !
أين الأخوة والنسب؟ !
أين القريب؟ !
وطني سليب
يومي سليب
وغدي يُحاك له الردى
بيد الصليب
****
يا مجرماً حتى النخاع
(مونيكا) مزقت القناع
والحُلم ضاع
وغدوت من سقط المتاع
ألأجل إلهاء الأراذلِ والرعاع
تلهو بشعبٍ من جياع؟ !
... ****
يا مسرفاً بغياً وليس يحفل بالقيم
كلاَّ، ولم يَكُ محترم
يا مُغرماً بمجازر ونزيف دم
تحت العيون الزرق حقد مضطرم
مستنقعٌ من خسَّة يعلوه ثغر مبتسم
... ****
أتظنُّ أنك مُنقذٌ للكوكب الأرضي جاء؟ !
أو أنت شُرطيُّ العباد وكُلُّهم
رهنُ الإشارة
كَذِبٌ، هُراء
محضُ ادّعاء
لو كان في الدنيا عدالة
أو كان فيها الحق فوق ضفافها
يُلقي ظلاله
أو رَقَّ فيها الأقوياء لبائِسٍ
يرثُون حالَه
لتوجَّهت لبني قُريظة ثعلبَ الصحراء
تُسْمِعُهَا الرسالة
لكنها سوق العمالة
سوقُ النفاق مع الدياثة والنذالة
لكن وعد الله آتٍ لا محالة
فالنصر منتظرٌ رجالَه
سَيَبِينُ ركبٌ المخلصينَ من الحُثالة
وسَيَعرفُ الناسُ الدقيقَ من النُخالة(147/59)
وقفات
هكذا ندعوهم إلى التعصب..!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
نعتب كثيراً على بعض إخواننا، ونتهمهم أحياناً بالتعصب والحزبية والجرأة
في ردّ الحق، والتكلف في التماس المعاذير والمسوغات لأنفسهم.
وقد يكون بعض ذلك العتب حقاً، وقد يكون المرء مبالغاً في توصيفه وبيانه
أحياناً، ولكن ألم نسأل أنفسنا يوماً: ما أسباب ذلك..؟ ! وهل لنا دور في ترسيخه
وإثارته..؟ !
إنَّ الحق ولله الحمد واضح بيِّن، ولكن قد تخفى بعض معالمه على بعض
الناس، وقد تلتبس بعض فصوله على آخرين، وهذه سُنَّة قديمة لا يسلم منها كثير
من الناس، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيِّن، والحرام
بيِّن، وبينهما أمور مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس) [1] .
وقد يسعى أحدنا إلى بيان الحق وإبراز دلائله وبراهينه، ويرد على مخالفيه
ويفنِّد حججهم ومآخذهم في تبنِّيه، ولكنه يستعلي عليهم، ويُسفِّه آراءهم، ويزدري
اجتهادهم، وقد يتعرض لأشياخهم وأئمتهم بالهمز واللمز، ويخلط كلامه بشيء من
السخرية والاستخفاف والتعيير. وربما ظنَّ المرء أنه نصر الحق بذلك، وأقام
الحجة على المخالفين، ولم يصبح أمامهم إلا قبول رأيه والتراجع عن آرائهم،
ولكنه يفاجأ بأنَّهم لم يحفلوا برأيه، ولم يتراجعوا عن مواقفهم، فيعمد إلى اتهامهم
بالتعصب والحزبية، وقد يتشنج في نقدهم وبيان أخطائهم، ونسي أن: (الحق
يُصرع إذا عُمِد إلى إظهاره بالسباب والشتائم) [2] .
إن أسلوب الاستخفاف بالمخالف والقسوة المفرطة في تعنيفه وتخطئته قد
يستفزه، ويستثيره للمعاندة، ويجره للمكابرة والتعصب، وقد تأخذه العزة بالإثم؛
فيزداد إصراره وتمسكه برأيه واعتداده بطريقته ومنهجه، وقديماً قال الغزالي:
(أكثر الجهالات إنَّما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من أهل الحق أظهروا
الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير
والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم
الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) [3] .
وقال الإمام الشاطبي: (الطعنُ في مساق الترجيح يبين العناد أي يثيره من
أهل المذهب المطعون عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه؛ لأن الذي غُضَّ من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه
ويظهر محاسنه، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء
بالتزام المذهب وإن كان مرجوحاً؛ فإن الترجيح لم يحصل) [4] .
إننا بهذا الأسلوب نضع سياجاً متيناً، ونحفر خندقاً عميقاً يحول بيننا وبين
إخواننا ممَّن نرجو استقامتهم وصلاحهم على الطريق؛ وبيان الحق من أوجب
الواجبات، ولا يجوز السكوت عنه على حساب أحدٍ كائناً من كان، ولكن الهدف
من بيانه هو نصح الأمة، والرغبة الصادقة في صلاحها ونجاتها، والواجب أن
يتلمس المرء أسلم السبل التي توصل إلى المقصود؛ ولهذا لمَّا أمر الله تعالى نبيه
محمداً صلى الله عليه وسلم بالبلاغ أمره بأن يكون بلاغاً مبيناً، فقال عز وجل:
[فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ] [النحل: 82] . ولهذا كان من شمائل
النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه رؤوف رحيم، قال الله تعالى: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ...
[آل عمران: 159] . وانظر إلى ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد فتناوله الناس وفي رواية للبخاري: فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، وهَريقوا على بوله سَجْلاً من ماء؛ فإنَّما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين) [5] ، ونظائر هذا الأدب النبوي الرفيع كثيرة جداً، وها هي ذي عائشة رضي الله عنها تصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً جامعاً فتقول: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحِّشاً، ولا سَخَّاباً في
الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) [6] .
__________
(1) أخرجه: البخاري في الإيمان (1/126) رقم (52) ، ومسلم في المساقاة (3/1219) رقم (1599) .
(2) من كلام القاسمي، عن كتاب: (جمال الدين القاسمي) (ص 43) تأليف ظافر القاسمي.
(3) الاعتصام للشاطبي (2/230) .
(4) الموافقات (4/263 264) .
(5) أخرجه: البخاري في الوضوء (1/323) رقم (220) ، وفي الأدب
(10/252) رقم (6128) .
(6) أخرجه: أحمد (6/174، 236، 246) ، والترمذي في البر والصلة (4/369) ، وقال:
حسن صحيح وإسناده صحيح.(147/60)
مراجعات في السيرة والتاريخ
أصول وضوابط في دراسة السيرة
النبوية الشريفة
عبد اللطيف بن محمد الحسن
يكفي دلالة على القناعة بأهمية دراسة السيرة تلك الكتابات المتكاثرة التي
تحاول الإفادة من السيرة بأكثر من صورة. ولِمَا لمنهج الكاتب من تأثير في كتاباته
فإن من المهم السعي إلى تحديد أطر منهجية ضابطة للدراسة والكتابة. وهذه محاولة
لرسم بعض المعالم والضوابط أرجو بها النفع، وأن تتبعها دراسات أكثر نضجاً من
ذوي الاهتمام والاختصاص [1] .
أولاً: فهم حقيقة الإسلام ومنهجه المتكامل:
يكتسب هذا القيد مكانته من جهة عجز من يفتقده عن قراءة أحداث السيرة
قراءة موضوعية تمكنه من سلامة فهم الأحداث، وتقصِّي أسبابها، ومعرفة دوافعها، وتفسيرها بما يتفق مع روح الإسلام. فمن المهم (أن يُعنى بالجانب التشريعي
الذي يحتكم إليه المجتمع، وتوضح الضوابط الخلقية والقانونية التي تحكم حركة
الأفراد والمجتمعات، ولا يمكن الفصل بين الجانب السياسي والعسكري، والجانب
الخلقي والتشريعي، خاصة في
القرون الأولى من تاريخ الإسلام؛ حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة تشابكاً وثيقاً بحيث يصعب فهم حركة
التاريخ في تلك المرحلة دون فهم روح الإسلام ومبادئه) [2] .
إزاء هذا الضابط نرى أنفسنا أمام خطرين اثنين:
أولهما: افتقاد بعض الباحثين والدارسين إلى المرجعية الشرعية.
وثانيهما: قراءة السيرة بأنظمة معرفية أخرى: رأسمالية، واشتراكية،
وعلمانية، وقومية من الخارج، ومحاولة تقطيعها والانتقاء من أحداثها، وفصلها
عن نسقها المعرفي وسياقها ومناسباتها [3] .
ونظير هذا: قراءة السيرة بخلفية بدعية صوفية أو رافضية.. ونحوها؛
فالرافضة مثلاً: يحللون أحداث السيرة تحليلاً يتسق مع انحرافاتهم العقدية!
ثانياً: ترك المنطق التسويغي:
ينبغي أن تنطلق دراسة السيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحكم
والسيادة، وأن الله لا يقبل ديناً سواه، وأنه لا يفهم إلا من خلال دراسة السيرة.
ولذا وجب البعد عن الروح الانهزامية في تحرير السيرة وتحليلها، وخاصة
في الجهاد.
ومن المواضيع التي ينهزم أمامها التسويغيون ولا يجدون لها مسوِّغاً على حد
زعمهم مسألة قتل يهود بني قريظة لما قبلوا حكم سعد بن معاذ فيهم وكان حليفهم في
الجاهلية فحكم فيهم بحكم الله: أن يقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم! هنا
يصعب الموقف على من في قلبه انهزامية، فيسعى للتشكيك في ثبوت القصة.
وهي ثابتة بلا شك [4] .
ثالثاً: اعتبار القرآن الكريم مصدراً أولاً في تلقي السيرة وفهمها:
لدراسة السيرة من خلال كتاب الله ميزات عدة، منها:
- أن مدارسته عبادة عظيمة.
- اشتمال القرآن على إشارات تفصيلية لا توجد في مصدر آخر، كما في
أحداث زواج زينب رضي الله عنها.
- دقة وصفه للأحداث والشخوص، حتى يصور نبضات القلب، وتقاسيم
الوجه، وخلجات الفؤاد، وهذه خصيصة تنقل القارئ إلى جو الحدث ليعيش فيه.
- تركيزه على خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مثل: كونه بشراً،
وأن رسالته عامة، وأنه خاتم النبيين. ومنها: ربطه بين قصة الحدث وسيره وبين
العقيدة والإيمان والقضاء والقدر.
- بيانه حكمة الحدث ونتائجه وحكمة الله في تقديره، وهو الدرس التربوي
المطلوب [5] .
وبدراسة السيرة من القرآن يتحول الحدث من قصة في زمان ومكان معينين
إلى درس كبير متكامل يتعدى ظروفهما.. يُتلى إلى قيام الساعة [6] .
إن من يعيش السيرة من خلال القرآن وصحيح السنة لا تعود السيرة في حسه
مجرد أحداث ووقائع، وإنما تصير شيئاً تتنامى معه مشاعره الإيمانية تجاه الجماعة
المؤمنة، ووعيه الإيماني بالسنن الربانية [7] . ومع أهمية هذا النوع من الدراسة
فإنه لم يلق بعدُ اهتماماً يتناسب معه [8] .
رابعاً: تمحيص الصحيح من الأخبار فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة:
الناس في اشتراط تمييز الصحيح من الضعيف في روايات السيرة على قولين
مشهورين:
الأول: مَنْ لم يشترط التمحيص وأجاز إيراد كل مرويات السيرة، واحتج
بأن كَتَبَة السيرة لم يعتمدوه ولم يحرصوا عليه. واستدلوا بما اشتهر عن الإمام أحمد
رحمه الله أنه قال: (ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم،
والتفسير) [9] . ويمكن نقاش دليلهم
واستدلالهم من أوجه [10] :
أ- أن ثبوت هذه المقولة عن الإمام أحمد موضع نظر [11] ، ومن ذا الذي
يقول: إنه لا يثبت شيء في مغازي المسلمين؟ فأين ما في الصحاح والسنن،
وأين ما ذكره الإمام أحمد نفسه في مسنده؟
ب - وفي حال ثبوت الرواية فإنه لم يقل: لم يصح فيها شيء، ولكن قال:
ليس لها أصول. وقوله: ثلاثة كُتُبٍ يدل على أن مراده: (كتب مخصوصة في
هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصَّاص فيها) [12] .
ج - أنه حتى لو نفى الصحة عنها فإن نفيها لا ينفي الحُسْن، ولا يستلزم
الضعف أو الوضع.
د - يحمل قوله على الحال الغالب؛ فإن هذه الفنون غالب رواياتها ليس لها
أسانيد متصلة [13] .
أما القول الثاني: فيمثله د. أكرم العمري؛ حيث يقول: (المطلوب اعتماد
الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحسنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة
التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام ... وعند التعارض
يقدم الأقوى دائماً.. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة
منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق
بجانب عقدي أو شرعي؛ لأن القاعدة: (التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو
الشريعة) [14] . ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة مليء بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام؛ فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على إثر الفتوح.
أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران: كتخطيط المدن، وزيادة الأبنية،
وشق الترع.. أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على
شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها) [15] .
وهذا هو المنهج المعتبر عند الأئمة المحققين، يشهد به صنيع الذهبي في
(تاريخ الإسلام) ، وابن سيد الناس في (عيون الأثر) ، [16] وابن حجر في
(الفتح) [17] ، وكذلك ابن القيم وابن كثير.
أما ما يؤخذ من الروايات التاريخية فهو ما اتفق عليه الإخباريون [18] . أما
اشتراط الصحة في كل خبر تاريخي والذي مشى عليه بعض المؤلفين في السيرة
فاختزلوا كثيراً من أحداثها فإن ذلك يترتب عليه تضييع ثروة علمية كبرى، وإهدار
الاستفادة منها في مجالات تربوية وإدارية.. ونحوها؛ حيث تضعف الثقة في كل
ما استنبط منها [19] .
يبقى: كيف تدوّن السيرة على ضوء المنهج السابق: هل تذكر كل الأحاديث
بنصوصها، أم يجمع بين الروايات في سياق واحد؟
الظاهر: هو الطريق الثاني؛ تحاشياً لتشوش القارئ، وتشتت ذهنه بانقطاع
الأحداث، وتكرر بعضها، وعدم وضوح صورة متسلسلة متكاملة للسيرة، ثم إنه
صنيع الزهري في روايته لحادثة الإفك التي رواها مسلم عنه [20] .
خامساً: معرفة حدود العقل في قبول النصوص وردها:
يرى العديد من الدارسين وخاصة من المستشرقين أن علماء المسلمين أهملوا
نقد المتون، وأن ذلك لغياب عقليتهم النقدية. وهذا مردود، وهذه بعض أمثلة
لمحاكمات تاريخية مستندة إلى نقد المتن:
1- رفض ابن حزم العدد المذكور عن عدد جند المسلمين في أُحُد؛ بناء على
محاكمة المتن وفق أقيسة عقلية بحتة.
2- قدّم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة خلافاً
للأكثرين الذين جعلوها في السنة السادسة؛ لاشتراك سعد بن معاذ فيها، وهو
متوفى عقب بني قريظة وهي في السنة الرابعة. وتابعه على تقديم تاريخها ابن
القيم والذهبي.
3- أخّر البخاري غزوة ذات الرقاع إلى ما بعد خيبر؛ نظراً لاشتراك أبي
موسى الأشعري وأبي هريرة فيها، وقد قدما بعد خيبر، وتابعه على تأخيرها ابن
القيم وابن كثير وابن حجر، خلافاً لرأي ابن إسحاق والواقدي في تقديمها.
4- الخلاف حول تشريع صلاة الخوف معظمه مبني على محاكمة المتن.
والأمثلة كثيرة؛ ولكن من المهم أن يقال: إن حفظ الروايات قد استنفد طاقة
الأوائل، وأتى بعدهم من لخّص وذيّل عليها وانتقى منها، وهذا عمل نقدي. وفي
مؤلفات متأخرة تَبْرُزُ محاكمات دقيقة للمتون، كما في: البداية والنهاية، وفتح
الباري، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال ابن تيمية رحمه الله: (الأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط
لها، لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل، ومنها ما يعرف كذبه بالعادة، ومنها ما
يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح، ومنها ما يعرف كذبه بطرق
أخرى) [21] .
كما يحسب في عداد تقويم العقلية النقدية لدى المسلمين خدمتهم لنصوص
أحاديث الأحكام خدمة بالغة، وجهودهم في كتب أصول الفقه التي تنبئ عن عقلية
فذة. وإذا علمنا أن للمؤرخين القدامى كتباً في فنون أخرى لم يجز لنا أن نتهمهم
بإهمال المتون، كما يجب مراعاة عنصر الزمن، فلا تقوّم جهودهم بمقاييس
أنجزها التقدم العلمي اليوم؛ لئلا يُغمطوا حقهم.
على أن علم مصطلح الحديث قد اشتمل على مباحث تشكل الجانب النظري
لنقد المتون، ولكن القصور حصل في تطبيق ذلك على الرواية التاريخية، فلم تحظ
بما حظيت به الأحاديث النبوية من العناية [22] .
لقد انزلق المطالبون بنقد المتون؛ حيث أجروا أحكام العقل في المتون الثابتة، وجعلوا ذلك أساساً للرد والقبول، وذلك أمر تتفاوت فيه العقول، وإنما يجيء
الإشكال من جهة قصور العقل عن إدراك الخطاب للتوفيق بينه وبين النصوص
الأخرى.
وربما يُثبت من لم يلتزم منهج المحدثين حديثاً واهياً لصحة معناه، وقد يردُّ
رواية الشيخين لظنه تعارضها مع مبادئ الإسلام وقواعده، وهذا تحكيم ضعيف
للعقل [23] .
ومما وقعوا فيه خلال دراسة السيرة نفي المعجزات الثابتة بالنقل الصحيح،
وهو في حقيقته انصياع للفكر المادي والفلسفات الوضعية، مع أن المسلم لا بد له
من الاعتزاز الذي يحقق له الاستقلال التام في النظر والبحث العلمي [24] .
سادساً: فهم العربية ومعرفة أساليبها:
(امتاز التأليف في العصور الأولى بقوة الأسلوب وفحولة المعاني وجزالة
الألفاظ وإشراق الديباجة والتزام أساليب العرب ومذاهبهم في البيان) [25] فدعت
الحاجة لدارس السيرة إلى حسن فهم العربية وأساليبها؛ ليحسن التعامل مع روايات
السيرة؛ إذ المطلوب في فهمها والاستنباط منها أن يتم وفق قواعد العربية وأساليبها
دون تعسف أو تمحُّل في التفسير [26] .
سابعاً: الالتزام بالمصطلحات الشرعية:
قسم الله تبارك وتعالى الناس ثلاثة أقسام: مؤمناً، وكافراً، ومنافقاً كما في
صدر سورة البقرة وجعلهم حزبين: أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فالواجب
الالتزام بهذه التسميات، وعدم العدول عنها إلى مثل: يميني، يساري [27] ،
ليبرالي ... إلا عند الحاجة للتعريف باتجاهات بعض الأفراد الذين يترتب على
معرفة ذلك منهم مصلحة، مع الحرص على التحديد ما أمكن.
وفائدة التحديد في تقليل التمييع والتضليل الذي يسعى إليه المفسدون
وأشياعهم؛ حيث يحرصون على التعمية وتجاهل الأسماء الشرعية التي يترتب عليها أحكام، وتستلزم ولاءاً أو براءً.
ثامناً: صدق العاطفة:
من أسس الكتابة في السيرة ودراستها توفر المحبة الصادقة لصاحبها صلى الله
عليه وسلم والعاطفة الحية التي تُشعر بمدى الارتباط الحقيقي قلباً وقالباً، والتفاعل
الحقيقي مع أحداث سيرته [28] .
ولقد عبر الشيخ محمد الغزالي عن عاطفته الجياشة فقال في مقدمة فقه
السيرة [29] : (إنني أكتب في السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن
سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست كما قلت مؤرخاً محايداً مبتوت الصلة بمن يكتب عنه) .
ودراسة السيرة تعبُّداً لله وتقرباً إليه تنمي ذلك الحب، وتسقي تلك العاطفة.
تاسعاً: الوفاء بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم دون غلو ولا جفاء:
ينأى عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف الأمة في دراسة السيرة
فريقان [30] :
1 - قوم قصَّروا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وما يجب له من الإجلال
والتوقير والتعظيم، فدرسوا سيرته كما يدرسون سائر الشخصيات الأخرى،
فنظروا لجوانب العظمة البشرية والقيادة والعبقرية والبطولة والملك والإصلاح
الاجتماعي، مغفلين الجانب الأعلى في حياته، وهو تشرفه بوحي الله عز وجل
وختم النبوة والرسالة. ولهؤلاء يحسن سياق خبر أبي سفيان يوم فتح مكة؛ حيث
قال للعباس لما رأى كتائب الصحابة
رضي الله عنهم: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم لعظيماً، فقال العباس:
ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذاً [31] .
2 - وآخرون بالغوا في التعظيم وغلوا في منزلة الرسول صلى الله عليه
وسلم، فلم يَرُقْ لهم وصفه بالبشرية، بل ربما خطر لبعضهم أنه ضرب من الجفاء! مع أن كونه صلى الله عليه وسلم بشراً عبداً لله عز وجل من مسلَّمات العقيدة،
وخلافه ضرب من الضلال؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما
أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [32] .
فالحق وسط بين الطرفين؛ ولدراسة السيرة انطلاقاً من ذلك أثر كبير في
العقيدة والعبادة والسلوك والدعوة والتأسي والاقتداء.
عاشراً: تحديد هدف الكتابة والشريحة المخاطبة بها:
على كاتب السيرة معرفة الشريحة المراد مخاطبتها، وفهم الأسلوب المناسب
الذي تؤدى به.
وعليه كذلك أن يعيِّن غرضه من الكتابة، وماذا يريد من: معالجة جديدة، أو
طرح للأحداث بأسلوب جديد، أو تعليل لقضايا منغلقة، أو تركيز على أحداث
أغفلها الكُتَّاب [33] .
فمثلاً المرحلة المكية مرحلة تربوية خصبة كتبت فيها كثير من الكتابات، ولا
تزال بحاجة إلى بسط في بعض جوانبها وزواياها، ومن ذلك:
1- موقف الجاهلية من الدعوة والمؤمنين بها؛ فأعداء الدعوة ليسوا قريشاً
وحدهم، بل كل الجاهلية.. ثقيف وهوازن وغيرهما. وإنما برزت قريش؛ لأنهم
عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربون، ولكن تخصيصهم بالحديث يوحي بمحلية
الدعوة، وهو خطأ جسيم.
2- موقف المؤمنين من الاضطهاد، بالمقارنة بين حالهم قبل الإسلام وبعده،
وكيف صنعهم الإسلام حتى هان على المؤمنين من العقوبات ما كان أخفه هو غاية
التهديد في الجاهلية كالطرد من القبيلة مثلاً.
3 - الدور التربوي العظيم لدار الأرقم مدرسة المؤمنين السابقين الأولين،
والمؤسف أن الأخبار عنها قليلة، مع أنها تميزت بإعطاء منهج تربوي
متكامل [34] . ولعل من الكتب المفيدة في دراسة المرحلة المكية: في ظلال القرآن، لسيد قطب رحمه الله [35] .
حادي عشر: العناية بتحليل الأحداث والتعليق والموازنة:
بذل العلماء المتقدمون جهوداً مضنية في حفظ العلم وروايته أشغلتهم في بعض
الأحيان عن العناية بتحليل الأخبار ودراستها والنظر في أسباب الأحداث وملابساتها. ...
وفي عصور الضعف لم يأخذ جانب التحليل والدراسة حقه؛ (بسبب النظرة
التجزيئية للقضايا، والسطحية في التعامل مع الروايات، وعدم وضوح التصور
الإسلامي لحركة التاريخ ودور الفرد والجماعة، والعلاقة الجدلية بين القدر والحرية
وقانون السببية في الربط بين المقدمات والنتائج.
فضلاً عن أن الكتب التاريخية القديمة لا تمدنا بمنحى واضح في التحليل
والتصور الكلي؛ بسبب اعتمادها على سرد الروايات فقط؛ إذ قلَّما يشير المؤرخ
الإسلامي القديم إلى السنن والنواميس والقوانين الاجتماعية التي تحكم حركة
التاريخ، رغم أن القرآن الكريم لفت نظر المسلمين إلى ذلك كله بوضوح، بل إن
أحداً من مؤرخي الإسلام لم يحاول إعادة صياغة النظرة القرآنية للتاريخ وتقديم الوقائع والتطبيقات والشواهد القرآنية عليها بشكل نظريات كلية حتى وقت متأخر عندما كتب ابن خلدون مقدمته) [36] .
ولغياب النظرة التحليلية في دراسة السيرة فقد غلب عليها الطابع التسجيلي
السردي الذي يحاول إثبات الوقائع ووصف تطور الأحداث وتقرير النتائج دون
الالتفات إلى المقدمات ومحاولة اكتشاف المنهج الذي يُسَيِّرها. ومع أن الدراسات
شملت وصفاً دقيقاً لكل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وكل ما يتصل
به.. إلا أن الحديث عن المعجزات والمؤيدات الغيبية كان على حساب سنن عالم الشهادة التي يتحرك في إطارها ويصنع الأحداث ويحقق النتائج [37] .
(الحق أن المحدَثين في باب التحليل والتعليق والموازنة بين المواقف قد
أرْبوا على المتقدمين، وأكسبوا السيرة جدة ورواءاً، وقد تفاوتوا في ذلك على
حسب تفاوتهم في المراتب، وسعة العلم والأفق، والاطلاع على سير
الآخرين) [38] . ولكن غالب هذه الدراسات قد ركز على جانب إثبات النبوة، وإبراز الخصائص. وهو أمر له مسوِّغه الظرفي في الصراع مع المخالفين. واهتم جزء آخر باستخراج الأحكام والتوجيهات والفوائد، واهتم آخرون بالتفسير الحركي لتسويغ بعض مواقف الحركة الإسلامية المعاصرة.
ثاني عشر: الاهتمام بتحرير المنهج النبوي في سائر المجالات:
بقيت العناية بالمنهج قليلة، مع أنه بإمكان النظرة الشمولية لهذه الجهود
العلمية الضخمة الآنفة الذكر أن تستخلص البنية الهيكلية العامة للمنهج النبوي في
نواحيه المختلفة [39] .
نعم.. إن استخلاص المنهج مطلب ضروري، بيد أنه ليس بالأمر اليسير،
خلافاً لما قد يتوهمه بعضهم حين ظنوا أن (المنهج النبوي) على طرف الثمام، وأن
نظرة عجلى على السيرة العطرة، أو جزء من السنة المطهرة، أو انتقاء مقاطع من
هنا أو هناك كافية للإحاطة بهذا المنهج الفذ، وبناء حتميات تاريخية على تلك
الأفهام العجلة. وتصوُّر بعضٍ أن
بالإمكان إعادة إنتاج العهدين المكي والمدني، أو تمثيلهما في أي واقع يُعَدُّ
مجازفة كبيرة ...
إن المنهج حين يطلق في إطار معرفي إنما يراد به قانون ناظم ضابط يقنن
الفكر ويضبط المعرفة التي إن لم يضبطها المنهج فقد تتحول إلى مجرد خطرات
انتقائية مهما كانت أهميتها لا يمكن تحويلها إلى ضوابط فكرية وقوانين معرفية تنتج
الأفكار وتولد المعارف وتضبط حركاتها وتميز بينها؛ فبالمنهج يمكن أن نحَدد
طبيعة المعرفة وقيمتها وحقل عملها واتجاهها وكيفية البناء عليها والتوليد منها ...
إن أي فكر تتضارب مقولاته وتتناقض لا يعتبر فكراً منهجياً حتى لو تمكن
أصحابه من تقديم مختلف التأويلات التوفيقية: كالتأويل، والمقاربة، والتلفيق،
وغيرها. ولذلك فإن إطلاق مصطلح: (منهج النبي صلى الله عليه وسلم) و (المنهج
الإسلامي) على ما يصل الباحثون إليه باجتهاد شخصي أو فردي لا بد أن يُحتاط فيه، كأن يقال: على ما نراه، أو على ما توصلنا إليه ... الخ) [40] .
مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى قراءة السيرة ودراستها دراسة
استراتيجية في مختلف الحالات الاجتماعية والتربوية والعلمية والإدارية والسياسية
والاقتصادية والحركية والأمنية والثقافية.. ففي السيرة بيان لجميع الحالات أو
أصولها؛ خلافاً لصنيع بعض كُتَّاب السيرة حين يصورون حياة النبي صلى الله
عليه وسلم على أنها صراع وحروب وغزوات وسرايا، ويغفلون عن الجوانب
الأخرى [41] .
لكن المطلوب: دقة تحليل الواقع المعاش من خلال متخصصين، لا
متحمسين فقط، ثم دراسة السيرة وتحليلها، ثم تحديد مواقع الاقتداء من مسيرة
السيرة، أو اكتشاف المرحلة من السيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفيته من خلال
ظروف الحال نفسه [42] .
ثالث عشر: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسي:
من العبث اعتبار سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لمجرد التسلية وإبراز
عظمة الرجال؛ بل إن سيرته هداية للناس، وترجمة عملية لدين الله عز وجل
وتصور للإسلام يتجسد في حياة صاحب الرسالة، تطبيقاً للمبادئ والقواعد والأحكام
النظرية [43] . ولذا قال الزهري: (في علم المغازي علم الآخرة والأولى) [44] .
لمَّا وعى الصحابة وسلف الأمة هذا الغرض اكتسبت السيرة في حياتهم مكانة
علمية تليق بها وبهم. قال علي بن الحسين: (كنا نتعلم مغازي رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما نتعلم السورة من القرآن) [45] ؛ لأنه لا غنى لمن يريد الاقتداء
به عن معرفة سيرته. والاقتداء أساس الاهتداء [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] [46] .
ولكن كيف نتعامل مع السيرة في هذه المرحلة المتغيرة، وكيف يكون الاقتداء؟ ...
الواقع يتغير، ووسائلنا في العمل والاقتداء وقراءة القيم لا تتغير، والسيرة
اتخذت لكل حالة ما يناسبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر
حين أكرهه المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير:
(إن عادوا فعد) [47] .
آية التأسي نزلت في غزوة الأحزاب لتبين أن تمام الاقتداء إنما يكون في شدة
البأس والضيق وفوات الدنيا لمن تعلق بالآخرة، فلا يكون الاقتداء في اليسر دون
العسر، ولا في الحاجيات والتحسينيات دون الضروريات من مقاصد الشريعة،
وليس المقصود التقليل من شأن الاقتداء في العادات؛ فذلك مهم في صياغة
الشخصية المتكاملة.
نزلت آية الأحزاب وقد بلغت القلوب الحناجر، وحين استنجد الصحابة
بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما واجهتهم الصخرة الكبيرة حاول تفتيتها بالمعول
طبقاً للسنن الجارية مؤملاً النصر [48] .
(فقيمة الاقتداء وعطاؤه وعظيم ثوابه عندما يكون في العزائم والقضايا
الكبيرة التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج
في الدنيا، ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط،
ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إلى إبصار العواقب والمآلات.. ذلك أن
مظنة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء الله واليوم الآخر واستمرار الذكر الذي يجلِّي
هذه الحقيقة، ويؤكد حضورها واستمرارها: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] ) [49] .
ولكل مخلص أن يتساءل: ما نصيب السيرة النبوية في المناهج التربوية اليوم؟ وما أثر معرفتها في سلوك العاملين في ميادين الدعوة والتربية والتعليم؟
رابع عشر: معرفة مواضع الاقتداء من فعله صلى الله عليه وسلم:
معرفة أحوال أفعاله صلى الله عليه وسلم وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس
السيرة.
وفعله صلى الله عليه وسلم لا يخلو إما أن يكون صدر منه بمحض الجِبِلَّة، أو
بمحض التشريع، وهذا قد يكون عامّاً للأمة، وقد يكون خاصّاً به صلى الله عليه
وسلم، فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأفعال الجِبِلّية: كالقيام والقعود والأكل والشرب، فهذا القسم
مباح؛ لأن ذلك لم يقصد به التشريع ولم نتعبد به، ولذلك نسب إلى الجِبِلَّة، وهي
الخِلْقة.
القسم الثاني: الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم التي ثبت بالدليل
اختصاصه بها كالجمع بين تسع نسوة؛ فهذا القسم يحرم فيه التأسي به.
القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصلاة والحج، فحكم هذا القسم تابع لما بيَّنه؛ فإن كان المبيَّن واجباً كان الفعل المبيِّن له واجباً، وإن كان مندوباً فمندوب) [50] .
خامس عشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع:
الدراسة المفيدة للسيرة تحصل حين تُدرَس على أنها سنن ربانية يمكن أن
تتكرر كلما تكررت ظروفها، ولا تتحقق أبداً حين ننظر للسيرة على أنها مجرد
أحداث مفردة قائمة بذاتها حدثت زمن البعثة النبوية ... بل هي آيات وعبر في
شؤون الحياة كلها، وإلا ضاع رصيدها وقوتها الدافعة لأجيال المسلمين؛ فهي تربط
المسلم بالسنن الربانية، وتربط قلبه بالله تعالى [51] .
إن كل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن الاستفادة من السيرة في صياغة
مناهجها وحل مشكلاتها هي بعيدة عن الاقتداء؛ لأن الواجب تجريد السيرة من قيد
الزمان والمكان لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته. وهذا النوع من الدراسات قليل
جداً؛ إذ جلّ الدراسات لا تعبر عن عصر مؤلفها، ولا تخدم احتياجات واقعه، ولا
تطرق مشكلاته.
قد تكون المشكلة كامنة أحياناً في غياب المقاصد الحقيقية التي تمثل معاني
الخلود عند دارسي السيرة أي قدرتها على التعامل مع جميع الظروف مما جعلها عند
كثيرين تاريخاً لا مصدراً للاهتداء والتشريع.
وهي لا شك تاريخ، ولكنها تاريخٌ وحاضر ومستقبل: تاريخٌ زماناً ومكاناً،
وحاضرٌ عطاءً ومصدراً للتشريع، ومستقبلٌ رؤية ًواستشرافاً.
وإذا كان التاريخ مصدراً للدرس والعبرة فالسيرة أوْلى؛ لأنها فترة مسددة
بالوحي، وحقبة بيان عملي للدين.
لقد سبب غياب هذا المنطلق إغراقاً في الفقه النظري سواء الذي يسير خلف
المجتمع، أو البعيد عن واقعه كما سبب تراجعاً في الفقه التطبيقي (فقه التنزيل)
فصارت مشكلات المسلمين تنشد الحل المستورد.
إن مما يؤكد أهمية الانطلاق من ذلك المنطلق حين التعامل مع السيرة ما يشير
إليه ترتيب سور القرآن وآياته والسيرة بيان عملي للقرآن فلم يجئ ترتيبه حسب
نزوله زماناً ومكاناً؛ لئلا يبقى المتأسي أسير الزمان والمكان الماضيين، بل ليبقى
مسخِّراً للزمن متحكِّماً فيه يستطيع تحديد الموقع المناسب للاقتداء من خلال قيم
القرآن الكريم ومسيرة السيرة
بحسب الظروف والإمكانات وطبيعة أقدار التدين التي تحدد مكان الاقتداء من
السيرة ... هذا وإلا بقيت السيرة في خانة التبرك والفخر تصاغ في شكل موالد
وموائد تشيع فيها البدعة، وتضيع فيها السنَّة، وتضيع معها الأوقات [52] .
وفي سيرة سلفنا إضاءات للمستنيرين بنورها، فهذا أبو بكر الصديق رضي
الله عنه يقاتل مانعي الزكاة، ويقول لعمر بن الخطاب لما حاول تأجيل قتالهم:
(أجبَّار في الجاهلية، وخوَّار في الإسلام؟ ! إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أَوَ
ينقص وأنا حي؟ !) [53] ، فلم يتقيد بقيد الزمان، وهو ما قبل فرضية الزكاة في ...
صدر الدعوة. ولذا فإن من الخطأ أن نريد إعادة مراحل السيرة التي كانت قبل
اكتمال شرائع الإسلام، فنكتفي ببعضها ردحاً من الزمن، ونحمل الناس على شيء
من الدين مرحلة من الزمن [54] فذلك (تبسيط شديد للأمور من ناحية، وتجاوز ...
لتحليل ومعرفة أهم الأبعاد التي غابت عن محاولات التغيير، وأدت إلى
تراجعها) [55] .
ولكي يتضح جانب التبسيط فإنه يُرّدُّ على من أراد تقييد الإفادة من السيرة
بالزمان بتقييدها بالمكان! فهل يطيقه؟ ولا بد أن نلاحظ حال الإفادة من معطيات
السيرة أنه لا يمكن أن تُنتِج الوسائلُ والتصرفات التي استعملها رسول الله صلى الله
عليه وسلم النتائج نفسها إذا استعملها سواه؛ لاختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي والتسديد من الله عز وجل [56] .
ولذا، فإنه تبقى للسيرة النبوية صفة المعيارية الخالدة في الإطار العملي
التطبيقي، وليس ذلك أبداً لممارسات أحد غيره كائناً من كان، فلا يجوز إسقاط
السيرة على تصرفات بعض الأفراد أو الجماعات لتسويغ بعض الممارسات
وإكسابها المشروعية، سواء قبل التصرف أو بعده، وسواء في ذلك القراءات
الحركية أو العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو التربوية ما دامت فصّلت حوادثها
على تصرفات معينة، والتي لا يمكن أبداً أن تكون معياراً، بل هي في الحقيقة
صفحة من التاريخ تفيد الدرس والعبرة [57] .
وفي الختام: لعل فيما سبق من الضوابط محاولة لرسم معالم في كتابة السيرة
ودراستها؛ والمرجو أن تبعث لدى المهتمين المبادرة بنقدها وتقويمها، والسعي
لتحرير منهج علمي متين في دراسة سيرة الهادي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) طالعت مقدمات عدد من كتب السيرة، حيث لم أجد دراسة مفردة، وقبيل الانتهاء من كتابة الموضوع وجدت مقدمة في السيرة اشتملت على جملة من الضوابط المهمة أملاها د عبد الرحمن المحمود في بعض دروسه العلمية فاستفدت منها كثيراً.
(2) د أكرم ضياء العمري، في السيرة النبوية الصحيحة: 1/18.
(3) انظر: مقدمة عمر عبيد حسنة لكتاب: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحماية والحذر،
ص 25، 26.
(4) مقدمة في السيرة، د المحمود والقصة أخرجها مسلم، ح/ 1766.
(5) انظر: كيف نكتب التاريخ الإسلامي، محمد قطب 81.
(6) مقدمة في السيرة النبوية، د عبد الرحمن المحمود (مخطوط) .
(7) انظر: كيف نكتب التاريخ الإسلامي، لمحمد قطب: 81.
(8) كتاب: السيرة في القرآن، لمحمد عزة دروزة، في مجلدين كبيرين، وحيد في بابه، ولا يخلو من ملاحظات، فلا يزال المجال شاغراً.
(9) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع، الجزء الثامن (2/ 224) .
(10) انظر: السنة ومكانتها في التشريع، للسباعي: 344.
(11) في إسنادها: محمد بن سعيد الحراني، قال ابن حجر: شيخ (التقريب: 848) ، وقال النسائي: لا أدري ما هو (التهذيب 5/113) (فروايته لا يحتج بها، وإنما تكتب للاعتبار، وذلك إشعار ضعف) (مرويات غزوة بدر، باوزير: 34) .
(12) الجامع للخطيب 2/224.
(13) انظر: فتاوى ابن تيمية: 13/346، والبرهان للزركشي: 2/ 651، والإتقان للسيوطي:
2/228.
(14) ولا يفهم من هذا رد أحاديث الآحاد في باب الاعتقاد فهو خلاف منهج أهل السنة، مقدمة في السيرة، د المحمود.
(15) السيرة، للعمري: 1/40، وانظر التزامه هذا المنهج في مقدمته، ص 19.
(16) السابق: 1/41.
(17) انظر: تحقيق مواقف الصحابة، لأمحزون: 1/98 - 100.
(18) العمري، مصدر سابق: 1/20.
(19) التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د عبد العزيز الحميدي، 1/ 28- 35.
(20) انظر: صحيح مسلم، ح/ 2770، شرح النووي، 17/156.
(21) منهاج السنة النبوية، 8/105، ولابن تيمية قاعدة للتمييز بين الصدق والكذب في المنقولات في غاية الأهمية تجدها في منهاج السنة، 7/34 43، 7/ 419 479، وقد أنشأ (صادق عرجون) في كتابه: (خالد بن الوليد) نموذجاً محسوساً لمنهج النقد التاريخي جدير بالمطالعة وقد ناقش فيه عدداً من الحوادث التي اضطربت فيها الروايات والآراء مناقشة عقلية، وحاكمها محاكمة دقيقة انظر مثلاً: ص: 265 - 279.
(22) د العمري: 1/12 17.
(23) ولقد رد الغزالي في (فقه السيرة ص: 10) رواية البخاري في أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق وهم غارُّون، بناءاً على أنه لا تجوز مباغته العدو إلا بعد إنذاره، مع أنه يجوز ذلك مع من بلغتهم الدعوة انظر: مناقشة لطيفة لرأيه في: أضواء على دراسة السيرة، للشامي: 44-46.
(24) د العمري، مصدر سابق: 1/17.
(25) أبو شهبة، في السيرة النبوية: 1/26.
(26) انظر: صنيع د العمري في السيرة: 1/20.
(27) مقدمة في السيرة، د المحمود.
(28) انظر أضواء، للشامي، 36.
(29) فقه السيرة، ص 5.
(30) انظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدخل لدراسة السيرة النبوية، د/ محمد الغمراوي، ص 15.
(31) ذكره ابن حجر في المطالب العالية المسندة: 4/420 (ح 4303) وقال: هذا حديث صحيح.
(32) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، ح/ 3445، (فتح 6/ 551) .
(33) انظر أضواء، للشامي: 36، 37.
(34) انظر: محمد قطب، مصدر سابق: 59 72.
(35) انظر: الشامي: مصدر سابق: 39.
(36) د العمري، في السيرة: 1/14 -15.
(37) الطيب برغوث، في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة: 45.
(38) محمد أبو شهبة، السيرة النبوية: 1/17.
(39) انظر: الطيب برغوث، مصدر سابق.
(40) طه جابر العلواني، في مقدمته للسابق: 36- 37.
(41) من المحاولات الجيدة في هذا الصدد: كتاب منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة، للطيب برغوث، وكتاب في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحماية والحذر، د إبراهيم علي.
(42) انظر: عمر حسنة، مصدر سابق: 27.
(43) د محمد سعيد البوطي، في فقه السيرة: 21، 41.
(44) أخرجه الخطيب في الجامع، الجزء الثامن: 2/ 252.
(45) المصدر السابق.
(46) انظر كلاماً قيماً لابن القيم في زاد المعاد، 4/ 69 70.
(47) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 358، وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي، 8/208، وابن سعد في الطبقات، 3/249.
(48) كما في الحديث الذي رواه البخاري، ح 4101 (الفتح 7/456) .
(49) عمر عبيد حسنة، مصدر سابق: 29- 32.
(50) معالم أصول الفقه عند أهل السنة، محمد الجيزاني: 127- 132 وفي تفصيل الموضوع رسالة قيمة في أفعال الرسول، د محمد الأشقر وانظر: أفعال الرسول، للعروسي.
(51) انظر: كيف نكتب التاريخ الإسلامي، محمد قطب: 81.
(52) انظر: عمر عبيد حسنة، مصدر سابق: 21- 23، 28- 29.
(53) ذكره أحمد بن عبد الله الطبري في الرياض النضرة في مناقب العشرة، 2/45، 1/451، وقال: (خرجه النسائي بهذا اللفظ، ومعناه في الصحيحين) ، ولم أقف عليه.
(54) مقدمة في السيرة، د المحمود.
(55) طه العلواني، مصدر سابق، 27، 28.
(56) انظر: السابق، 26.
(57) انظر: عمر عبيد حسنة، مصدر سابق: 24 25.(147/62)
حوار
حوارمع د. سليمان الخطيب
أجرى الحوار: وائل عبد الغني
نبذة عن الضيف:
* العمل: في (قسم الفلسفة الإسلامية) جامعة المنيا، ومعار إلى جامعة الملك
خالد بأبها: (فرع جامعة الإمام محمد بن سعود سابقاً) .
* حاضَر في عدد من الجامعات العربية: كجامعة الإمام عبد القادر بالجزائر، وجامعة صنعاء باليمن.
أهم المؤلفات:
- أسس مفهوم الحضارة في الإسلام (رسالة ماجستير) .
- فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي (رسالة دكتوراه) .
- التغريب والمأزق الحضاري.
- الدين والحضارة في فكر الطهطاوي (دراسة نقدية) .
- فكرة التاريخ بين السخاوي والكافيجي.
- مفهوم التاريخ عند المقريزي.
نرحب بضيفنا الكريم، ونستهل هذا الحوار بعد حمد الله والصلاة والسلام
على رسوله ومصطفاه بسؤال:
حول أهمية الجانب الحضاري للإسلام في هذا العصر، ولماذا هو حتى
الآن مجرد فكرة؟
تفعيل دور الجانب الحضاري للإسلام أصبح لازمة لا بد أن نتوقف عندها
كثيراً ونحن في سياق إعادة صياغة أدواتنا ووسائلنا الفكرية؛ ونظراً لأن الحضارة
فكر جامع يعبر عن شخصية، وهوية، وكلٌّ لا يتجزأ له خصوصيته؛ فلا بد من
أن نستجليها في كافة مناحي فكرنا ووسائلنا ومناشطنا، ولأن الفعل الحضاري
الإسلامي فعل تعبدي وليس ترفاً فكرياً، وليس ثقافة يمكن اختزالها أو أخذ بعضها وترك بعض، ولا يخضع للنسبية الفكرية التي تميز الخطاب الغربي؛ ولكنه فعل نابع من شمولية الإسلام، وإنسانيته، وعالميته، وعمقه، وتوازنه؛ لأن الخطاب القرآني لا يغيِّب عنصراً من عناصر النشاط الإنساني، بل هو متميز بأنه يرعى النمو الإنساني على كل المستويات:
الروحية، والأخلاقية، والطبيعية، والعلمية.
ونظراً للفوضى المنهجية التي تسيطر على مجمل الإطار الدعوي والفكري
الإسلامي المعاصر، والتي من أهم جوانبها غياب وحدة الهدف ووحدة المنطلق وهو
ما يعني تشرذم الجهود وتبعثرها وعدم تراكم الجهود وبنائيتها وفق شمولية الكتاب
والسنة نظراً لكل ذلك تبرز أهمية هذا الجانب.
والمشكلة في بعض جزئياتها تكمن في أن بعض من يتصدى لطرح قضية
الإسلام لم يدرك شموليته وتوازنه؛ فاختزله في محيط اهتماماته هو، بينما نحَّت
الهزيمة النفسية والفكرية بعضاً آخر فرأى الإسلام محصوراً في زوايا التعبد.
ولكن المتأمل للقرآن والسنة يجد أنهما حثا على الفعل الحضاري واعتبراه
فعلاً تعبدياً عن طريق مصطلحات التسخير والاستخلاف والتمكين، وهذا ليس
بمعزل عن الواقع؛ فقد أقام الإسلام حضارة اعترف بها القاصي والداني وقدمت
للغرب بواكير نهضته، ونحن بأمس الحاجة اليوم إلى إعادة التوازن لهذا الجانب
بين تعاليمَ تحث عليه وتجربة تاريخية تملك مصداقيتها، وبين خواء سياسي وفكري
وحضاري.
هذا يدفعنا للسؤال عن دور العقول المفكرة في الأمة: كيف توجَّه؟
وكيف تمارس فاعليتها في بناء كيان حضاريٍّ عصريٍّ له خصوصياته؟
لا بد من إعادة النظر في الأدوات والأساليب المستخدمة لتبليغ الخطاب
الإسلامي في واقع الأمة المعاصر سواء كان ذلك من خلال المؤسسات التربوية
والجامعية أو المراكز البحثية أو الإعلام بصوره المختلفة.
الخطاب الدعوي يغلب فيه الجانب الوعظي على الجانب العلمي، وهذا يعكس
جانباً من الضعف الإبداعي لعقولنا المفكرة التي تملك بمنهجها الصافي لو أرادت أن
تقود حضارة العصر برغم تحديها التقني ومنهجيتها الصارمة وروحها الممنطقة.
ولكن هل من نماذج للأدوات والأساليب التي يمكن أن تُفَعِّل الدور
الحضاري للأمة؟
أولاً: لا بد من ضبط منهجي للمرجعية الحضارية من حيث الأصول
والثوابت التي تمكن العقل المسلم من الاندفاع نحو التأثير والبناء متجاوزاً المفاهيم
المتجزئة والجهود المبعثرة.
- ثم ترسيخ المفهوم التعبدي للفعل الحضاري بمعنى: أن بناء الحضارة فعلٌ
تعبديٌّ وليس مجرد ترف فكري، أو مجرد خيار؛ بحيث يصبح العقل المسلم
يتعامل مع الطرح الحضاري على أنه لازمة عقدية تفرض نفسها على الشخصية
المسلمة؛ لأن الإسلام جاء من خلال منهجه وضوابطه ليحث المسلم على اقتحام
الدائرة الحضارية والتفاعل معها وفق ثوابته بكل ما أوتي من أدوات قد سُخِّرت له
ليبدع من خلالها، ولم يجئ ليقود المسلم عبر مواقع السلب والفرار من العالم وهو
الدين الخالد المهيمن!
- مسألة التراث وتوظيفه توظيفاً عصرياً والالتحام به والاستفادة من الجهود
والدراسات الواعية التي ورثناها عن علمائنا أمثال ابن خلدون.
- الاهتمام بالثقافة الإسلامية المعاصرة مُمَثَّلةً في جهود كثير من العلماء
والمفكرين المسلمين الذين طرحوا قضية الإسلام من خلال البعد الحضاري، أمثال
مالك بن نبي الذي أنشأ مدرسة فكرية واعية قدمت الإسلام مشروعاً حضارياً متكاملاً
وحللت النفسية الغربية بوصفها نمطاً استعمارياً مواجهاً للخصوصية الإسلامية.
- بيان أهمية التنشئة الفكرية والحضارية للأجيال المعاصرة التي تساهم في
صياغة العقلية الحضارية للأجيال القادمة.
- توجيه الأبحاث والدراسات في الجامعات الإسلامية والعربية إلى التركيز
على شمولية الإسلام، والتركيز على فعالية العقيدة الإسلامية ودورها في تحريك
المسلم ودفعه إلى مزيد من الإنجاز، والتركيز أيضاً على الأبعاد العلمية في قضية
التوظيف الحضاري للعقيدة الإسلامية إذا جاز التعبير.
- ثم يأتي دور الإعلام الإسلامي والدوريات الإسلامية في تجاوز فكر
الانكسار والهزيمة النفسية، وتقديم الإسلام خياراً حضارياً أوحد للأمة في مقابل
المرجعية الغربية التي ينطلق منها الخطاب التغريبي اليوم.
وأين دور الصحوة باعتبارها أحد أهم روافد الأصالة والقوة الذاتية للأمة في
بحثها الحضاري؟ وهل من دور زائد تلقيه أمانة الريادة التي تتحملها في عنقها؟
دور الصحوة يتمثل في عدة محاور مثل:
- التكوين الشرعي الواعي لمهام وضوابط الخطاب الإسلامي، وعدم قصره
على منحنى معين؛ كأن يركز بعض الدعاة على المجال التاريخي أو الثقافي الذهني
أو غير ذلك، ولكن لا بد من استحضار المنهج المتكامل والنظرة الشمولية المرتبطة
بوحدة المنطلق ووحدة الهدف في ظل التحديات التي تواجهها الأمة اليوم،
واستجماع القوى المنهجية والأدوات التي تجعل الصحوة على مستوى التحدي الذي
يواجه الأمة.
- وهناك محور ثان هو: مراجعة الكيان الإسلامي في ذاته، وما فيه من
مشكلات ومعوقات تحول دون توحده تحت شعار: (أمة إسلامية واحدة) وإعلان
الحرب التي لا هوادة فيها على التفكير القُطْري، والقومي، والنعرات العنصرية
والعصبية؛ بحيث ينطلق المسلم من رحابة عالمية الرسالة.
- ومحور ثالث: يتعلق بفهم الآخر من حيث التركيز والوعي بأدوات الغرب
في الهيمنة ووسائل الاختراق وصور الهيمنة، وتحديد الإسلام ومحاولة القضاء على
الكيان الإسلامي المعاصر.
هل يمكن تصوُّر الارتقاء الحضاري دون وجود كيان سياسي يحمي هذا
الارتقاء؟
يمكننا أن نفرق بين الحضارة الإسلامية في كيانها السياسي، والحضارة في
قواعدها الجمالية والشعبية؛ فلو تأملنا تاريخ الحضارة الإسلامية من حيث صور
وأشكال التآمر التي اعترضت حضارتنا الإسلامية بدءاً من تحديات المشركين لدعوة
الرسول صلى الله عليه وسلم ووصولاً إلى العنصرية الغربية والنظام العالمي الجديد
لوجدنا أن الكيان الحضاري في شكله السياسي قد تمزق مراراً، ولم يمنع ذلك من
تواصل الأمة وارتباطها
بشريعتها على مستوى الجماهير، وقد برز هنا دور العلماء الذين قدموا
صورة ناصعة للتمسك بالإسلام والذب عن هوية الأمة بالرغم من عسف الحكام في
بعض الأزمان، ومع أن الإسلام اليوم ليس له كيان يمكن اعتباره مسؤولاً عن
حركة الأمة إلا أن الصحوة تمتد عبر هذا الفراغ، والمد الإسلامي في يقظة مستمرة، وفي كل يوم يحرز موقعاً جديداً بفضل الله أولاً، ثم للحمية الإيمانية التي تسري
في الأمة، والأرضية الإسلامية المتمكنة من القواعد الشعبية والجماهيرية التي لا
يمكن إغفالها في المشروع الإسلامي المعاصر؛ فتجربة الجزائر مثال لذلك،
والتجربة التركية مثال آخر على أن العمل الإسلامي يمكنه أن ينطلق ويمتد حضارياً
حتى في غياب الكيان السياسي.
العلاقة مع الآخر أصبحت تتمحور حول مفاهيم وشعارات مثل:
التعايش، والزمالة، والصراع، والتفاعل، والانكفاء حتى أصبح يمثل تشتتاً
للمثقف بالذات فما هي أصح الصور لعلاقتنا مع الآخر، أعني: الغرب؟
نحن أمام صورتين لهذه العلاقة عبر عشرات التجارب: إما تفاعل مع الغير، أو استلاب الغير. وباستقراء تاريخ الحضارة الإسلامية التي انفتحت وامتدت من
الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً، ومن الشمال الأوروبي إلى الجنوب الإفريقي
بصورة لم تشهدها أي حضارة أخرى نجد أن المسلمين احتكوا بتصورات وأفكار
ومذاهب وديانات وتقاليد وعادات مثلت
ركاماً ضخماً وفق ضوابط التفاعل والاحتواء وليس الاستلاب؛ لأن الإسلام
استوعب مجمل الخطاب الإنساني في معرفته.. في تقاليده.. في نظمه.. استوعبها
وحللها وتعرف عليها بعمق ووعي، ولفظ ما يتنافى مع عقيدته ومع خصوصيته،
واستفاد استفادة أكيدة من تراكم الخبرات الحضارية في تلك المجتمعات. هذه
المعادلة التي يمكن صياغتها في الحفاظ
على الهوية في إطار عوالم متغيرة وحضارات مختلفة اكتسحها الإسلام بقوة
سلطانه، وسيطر عليها.
هذه المعادلة تمت في تاريخنا وكان للحضارة الإسلامية تميزها وخصوصيتها، ونحن الآن في أمسِّ الحاجة إلى خطاب فكري واعٍ يُحسِن التعامل مع الآخر من
منطلق التفاعل دون أن يعني التخلي عن هويتنا أو شعورنا بالدونية.
ولكن كيف يمكن التفاعل مع الغرب وفكره قائم على اكتساح كل ما أمامه من
حضارات وكيانات ومصادرتها؟
أنا أعني التفاعل المدروس والمضبوط بضوابطنا وبتاريخنا الذي يحفظ هويتنا
ويراهن على ما عند الآخر من تقدم تقني ومعرفي نافع.
الأمة الإسلامية أمة ممتدة عبر الزمان والمكان؛ لذلك لا يمكن اعتبار ما يمر
بها اليوم سقوطاً حضارياً، كما يطرد ذلك في الدول والشعوب، فماذا يمكن أن
نسمي حالتنا الراهنة؟
هذه الحالة عبر عنها بعضٌ بالانحطاط؛ ولعل الأنسب أن نعبر عنها
بالانكسار؛ فما زالت هناك من عوامل القوة والبناء في الأمة ما يؤهلها ولو بعد
حين للنهوض، والإسلام ما زال يملك حضوراً عالمياً وإنسانياً لا تخفى معالمه،
وليس أدل على ذلك من حالة الخوف والقلق التي تنتاب العقلية الأوروبية من المد
الإسلامي.
هذا رغم تراكم النكبات على الأمة ورغم ما أصاب المسلم من إحباط حضاري، وفتور أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الجامع: (توشك أن تتداعى
عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) [1] .
وأشار في نهاية الحديث إلى ما سيصيب المسلم من عقلية الوهن الذي هو
تعبير عن الخَوَر النفسي والهزيمة أمام الآخر، وهذا لا يتأتى إلا عندما يضعف
الجهاز المناعي في الجسد الإسلامي.
أما تقوية هذا الجهاز فمُعَلَّقة بأخلاقيات التغيير الذاتي وفق مفهوم قوله تعالى:
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] فالحالة الإسلامية
تشتمل على منهج قائم وثابت وصالح، ولكن القضية هي الإنسان الذي هو محور
الفاعلية في حركة الحضارة.
ومع ما مرت به الحضارة الإسلامية من منحنيات الانكسار؛ فما أن تهب
رياح التغيير الإيمانية من الداخل إلا وتجد الوثبة الحضارية تعود بالأمة إلى أرقى
مما كانت عليه، ولهذا أقول: إن حصار المسلم يبدأ من داخله وليس من خارجه.
أسلمة المعرفة درجة على سلَّم الارتقاء الحضاري: ما ضرورتها؟ وما
إمكانها؟ وكيف تكون؟
في إطار الثوريات المعاصرة للعقل المسلم تفرض هذه القضية نفسها على
العمل الفكري والعلمي الإسلامي؛ لأن هناك اتهاماً موجهاً للعقل المسلم أنه عقل تابع
وعقل عنعنات وعقل شعائر ولا علاقة له بالتنظيم المعرفي ولا بالقدرة المنهجية
على صياغة الأفكار ومواجهة الزخم المعرفي المثار في الواقع المعاصر.
ومن هنا يصبح لزاماً على العقل المسلم أن يتسلح بمنهجية إسلامية واعية في
رصد الإنتاج العلمي المعرفي الإنساني، ومحاولة تقديم الرؤى الإسلامية حول هذه
المعارف من منظور شرعي للاستفادة منها والإضافة الذاتية إليها.
وإذا كانت جل العلوم التي تدرس في جامعاتنا مؤسسة على المرجعية الغربية
فإن هذا يمثل كارثة أمام نهوضنا من جديد.
ونحن لدينا في تراثنا المعرفي الضخم بدائل منهجية يمكن التأسيس عليها بما
يتوافق مع خصوصيتنا؛ فعلم الاجتماع على سبيل المثال يمتلك منظومة إسلامية
متكاملة في علاقة الفرد بالمجتمع على مستوى الكتاب والسنة وعلى المستوى
المعرفي التراثي مذخورة في جهود عشرات الأسماء من علمائنا، منهم: المقدسي،
وابن خلدون، والغزالي، والماوردي، وابن حزم. وقِسْ على ذلك في العلوم
الأخرى.
ننتقل إلى المحور الثاني وهو يدور حول الفكر الغربي والأزمة التي يمر بها، والتي تتزايد أرقامها ودلائلها يوماً بعد يوم، ونبدأ بسؤال:
إلى أي حد يشعر الغرب بهذه الأزمة؟
أزمة الغرب واضحة على صعيد العنصر الزماني على المدى البعيد
والقريب. هذه الأزمة ولدت مع بواكير الثورة على الكنيسة في مطالع عصر
النهضة التي حملت الأزمة في ثناياها، فكانت النهضة خلافاً لكل ما يقال عن عصر
التنوير أزمة جديدة؛ لأن المجتمع الحديث هناك تأسس على أخلاقية الصراع التي
ترسخت في العقل الأوروبي وترجمها رموز العمل العقلاني والفلسفي والأدبي
والعلمي في أعمالهم، وتطور الصراع ليصبح بين عناصر الأمة المختلفة بل ومع
تاريخها وخصوصيتها ودينها وعقيدتها
وانتمائها، وآل الأمر إلى طرح المذهبية العنصرية التي تمحور فيها الغرب
نحو ذاته، وكانت النتيجة طرح النسبية البشرية مقياساً.
وقد رصدت معالم هذه الأزمة منذ ثلاثينيات هذا القرن في كتابات الغربيين،
وكان أولهم وأبرزهم (أوزول شبنجلر) الذي وضع موسوعته:
(Decline of the west) : أو (تدهور الحضارة الغربية) التي تبرز
أزمة الإنسان الغربي وتحللها تحليلاً دقيقاً وموضوعياً.
ثم جاءت بعده عدة كتابات منها: كتابات (توينبي المؤرخ الإنجليزي) وهو
شاهد عيان على تشريح أزمة الغرب، وكذلك (بترم سروكين) الروسي المتأمرك،
وكذلك (ألكسيس كارليل) ، و (ألبرت شفيدزر) الذي نحا باللائمة في البعد المادي
على الغرب وغياب البعد الإنساني، ونذكر أيضاً الأديب الإنجليزي (كولن ...
ويلسون) في كتابه: (اللامنتمي وما بعد اللامنتمي) ، وأعتقد أن هذه الكتابات وغيرها رصدت الظاهرة مبكراً، والغرب اليوم لم يكن في يوم من أيامه أشد شعوراً بالأزمة وخوفاً من المستقبل منه اليوم.
وما هي مظاهرالأزمة في الواقع المشاهد؟
مظاهر الأزمة واضحة لكل إنسان مسلم تبدأ من عنصرية الغرب تجاه
الشعوب الأخرى، ونقف عند قضية الاستعمار الذي يعتبره مالك بن نبي (أكبر سبة
في جبين الإنسانية) ؛ لأنه يستبيح لنفسه حقوق الآخرين وكرامات الشعوب
وخصوصياتها، ويحاول أن يحقر الذوات الأخرى؛ هذا النمط لا يمكن أن يقدر أو
يحترم.
هذا بالإضافة إلى الخواء الأخلاقي، والانحرافات السلوكية، والتحلل القيمي، والنسبية الأخلاقية التي بلغت حداً يدعو كل عاقل إلى التريث في الترويج لثقافة
تقوم على الصراع والعنصرية.
أما الشعارات التي يرفعها مثل: (إنسانية، إخاء، مساواة) فهي دليل عن
أزمة سابقة ولاحقة:
سابقة: لأنها دلالة على وحشية الإنسان الغربي فيما قبل الشعارات.
ولاحقة: لما نراه من عدم مصداقية في التعامل مع الأقليات المسلمة هناك
ومحاربة للمشاريع النهضوية هنا.
يضاف إلى ذلك أن الفكر الغربي عاد أدراجه من جديد للتبشير بما بعد
العلمانية، فعادت الدلالات الدينية من جديد، بعدما أخفق المشروع العلماني في حل
المشاكل الإنسانية بشتى أبعادها هناك. ومن أبرز مظاهر هذه الأزمة: أن الغرب
الذي يسعى في تصدير كل شيء إلينا يسعى جاهداً أيضاً إلى استيراد العقول المبدعة
من الخارج؛ فالمدينة التي خرَّجت
أمثال: شبنجلر، وماركس، وسلوكين، وشبدزر، وديكارت وسبينوزا،
ونيتشه، وأمثال هؤلاء ممن يفتخر بهم الغربيون، كل هذه النماذج أصبحت خواء
لا تجد عشر معشارها، ولا تجد تواصلاً للفكر الغربي رغم وجود المؤسسات
العلمية المتخصصة؛ وهذا شاهد قوي على أن القدرة الإبداعية كيفما كان مسارها
في اضمحلال مستمر. ولك أن تتأمل في
أبسط الصور في مجال الفن التشكيلي في مجال الأدب.. في الشعر.. في
الرواية.. ستجد خواءاً ضخماً.
وما هي انعكاسات هذا الخواء وهذا الإفلاس على المشروع العلماني عندنا؟
انعكاسات ذلك لدى الخطاب العلماني العربي واضحة تماماً في أنك حين تقرأ
لرموز التغريب في واقعنا الفكري المعاصر وتقارن دلالات الخطاب الذي يقدمه
وأدواته المنهجية تتعجب؛ حيث لا تجد فارقاً كبيراً بين مجمل هذه الأدوات من
حيث منطلقاتها وغايتها وبين ما قدمه أسلافهم من أمثال سلامة موسى، وشبلي
شميل، وفرح أنطون، وقاسم أمين، وطه حسين، وهذا أكبر دليل على أن
المرجعية الغربية مرجعية جامدة تقف عند
حدود الإيمان بالإنسان والنزعة الآلية. وبذلك لم يستطع الخطاب العلماني أن
يحل المشكلات؛ بل زادت بطريقة فلكية، فهو لم يستطع أن يلغي التبعية بل رسخ
لها، ولم يستطع أن يوحد الأمة بل زادها فرقة.
بعض الناس يسوّق للتعددية الغربية ويراها عنصراً راشداً لا بد من الأخذ به! فهل التعددية بصورتها المعروفة إيجابية تقتفى؟
التعددية الغربية دليل مرض؛ لأنه لا يمكن أن يصبح الإنسان حقلاً للتجارب
في مجال القيم والأخلاقيات والعقائد. الإنسان في الغرب أصبح عرضة للنسبية
الفكرية والأخلاقية، أصبح مقياساً لما يوجد من القيم والأفكار ومقياساً لما لا يوجد
من هذه القيم والأفكار! وعند فقدان المرجعية الثابتة تصبح الأمور كلها نسبية
والآراء كلها متكافئة، وهذا الأمر لا يناسب منهجيتنا وثوابتنا.
سؤال أخير: كيف نواجه الخطاب العلماني؟
إذا ما تتبعنا الإنتاج الفكري للخطاب العلماني في العالم العربي نجده تفريخاً
يومياً لعناصر جديدة وفاعلة: هناك دور للنشر، ومؤسسات علمية، ومؤسسات
ثقافية تسعى لضرب كل ما يرتبط بالخصوصية الإسلامية!
إذن لا بد من إيجاد مؤسسات إسلامية واعية بهذه القضية، ولا بد من رصد
رموز العمل التغريبي والعلماني في العالم الإسلامي، ولا بد من تنظيم معرفي دقيق
لاختراق نصوص هذه الأعمال والرد عليها من منظور موضوعي يفضح عمالة
هؤلاء ويبرز خواء المنهج والمرجعية التي يعتمدون عليها وأنها منهجية خائنة للأمة
ولتراثها وهويتها، ومنهجية تتسم بالفقر
الشديد واللؤم المعنوي في العمالة لكيانات لن تمكنها في يوم من الأيام أن تكون
ندّاً لها أو مساوية في القوة أو في الحضارة.
__________
(1) رواه أبو داود، ح/ 3745.(147/74)
المسلمون والعالم
الشيشان.. آلام، وآمال
د. سامي محمد صالح الدلال
إن ما يربطنا بالشيشان هو رابطة العقيدة التي لن تنفصل أو تهون بل هي
باقية إلى قيام الساعة، بماذا يقابل الله المسلمون الذين أيدوا الروس في حرب الشيشان
سواء بالقول أو الفعل أو السكوت؟
إن أحداث الشيشان واحدة من نوازل القدر يختبر الله بها عباده جميعاً،
فلينظر كل امرئ ما يتعلق به من هذا الاختبار: مساءلته نفسه، وعرض خوالجها
على ضوء الكشف القرآني والسنن النبوي. والقصد من كل ذلك أن يتوصل إلى
أفضل الأجوبة التي تضمن له اجتياز الاختبار بأحسن تقدير وأرفع درجة. ...
وعلى اعتبار أهمية بلوغ ذلك فإن المسلم جدير به أن يجتهد في استحضار ما
له علاقة بهذه القضية من أسئلة، من مثل:
1 - هل أنا مَعْنيٌّ بأحداث الشيشان؟
2 - ما هي الرابطة التي تربطني بمسلمي الشيشان؟
3 - هل يجب عليَّ شرعاً أن أقف معهم وأدعمهم؟
4 - كيف أستطيع القيام بواجبي إزاءهم؟
5 - ما هدف الروس من تأكيد احتلالهم للشيشان، وما هي دوافعهم؟
6 - ماذا تريد روسيا بعد الشيشان؟
7 - لماذا يقف العالم متفرجاً على ما يحدث في الشيشان؟
8 - هل سينتصر الشيشانيون؟ وهل لي دور في ذلك؟
9 - هل أنا مؤهل لاجتياز محطة المساءلة عن الشيشان في الآخرة؟
فلو أردنا تحري الصواب في الإجابة عن تلك الأسئلة فلعلنا نضعها بين
يدي القارئ على الوجه الآتي:
هل أنا مَعْنيٌّ بأحداث الشيشان؟
نعم بالتأكيد! إنني معْنيٌّ بأحداث الشيشان من زوايا عديدة لا تتعلق برابطة
العقيدة الإسلامية فحسب، بل لأن تلك الأحداث تأتي في سياقات دولية مفصلية لها
الأثر البالغ على الوجود الإسلامي برمته؛ إذ إن إتاحة الفرصة للروس للانفراد
بمسلمي الشيشان دون أن تحرك الدول الإسلامية ساكناً يعطي الضوء الأخضر لدول
الكفر من يهود ونصارى أن
تكشر عن أنيابها لتفترس الكيانات الإسلامية المبعثرة هنا وهناك على خارطة
العالم؛ إذ إن هذه الأحداث تثبت لتلك الدول الكافرة بأنها لن تجد معارضة حقيقية
وجادة ومؤثرة إزاء أي فعل تقوم به ضد الكيانات الإسلامية الضعيفة أو المستضعفة، خاصة أن مسألة الشيشان لم تكن مسألة منفردة بمعزل عما قبلها، بل جاءت في
إطار مسلسل البوسنة وكوسوفا وتيمور الشرقية؛ وهذا يعزز النظرية التي ذكرتها.
وأنا مَعْني بالشيشان باعتبارها دولة مسلمة من دول القوقاز وقع عليها
الاحتلال الروسي عبر طوفان من المآسي والمحن التي ولَّدها النظام الشيوعي أيام
ستالين وما كان قبله وما جاء بعده.
إن التوجه الاستقلالي للشيشان كان لا بد أن يفتح الباب على مصراعيه نحو
استقلال دول القوقاز لترى النور بعد الظلام الحالك الذي خيم على ربوعها منذ
عشرات السنين. فلو أن تلك الدول كتب لها أن تنضم فيما بعد في دولة قوقازية
إسلامية واحدة لأفضى ذلك إلى أن يشكل فتحاً وعضداً كبيراً للقوى الإسلامية في
القارة الآسيوية، كما أنه سيشكل رافداً قوياً للحركات الإسلامية في الجمهوريات
الإسلامية التي استقلت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ حيث ستكون تلك الحكومات
مدعومة من قِبَلِ أفغانستان وربما باكستان، ثم من دولة القوقاز الإسلامية مما
سيؤول في النهاية إلى تمكُّن تلك الحركات الإسلامية من السيطرة على مقاليد الحكم
في تلك الدول.
أضف إلى ذلك فإن للشيشان امتدادات عرقية وقبلية في كل من سوريا
والأردن، وهي دول في مواجهة (إسرائيل) ، ولا يخفى ما لذلك من دلالات تتعلق
بما سيكون لإقامة دولة إسلامية في القوقاز من أثر على الصراع مع (إسرائيل) .
فإن كان اليهود والنصارى معنيين بأحداث الشيشان فلا بد للمسلم من باب
أوْلى أن يكون معنياً بها وأشد تفاعلاً معها.
ماذا يربطني بمسلمي الشيشان؟ !
لقد جعل الإسلام الأمة الإسلامية كياناً واحداً ولُحمة متصلة، قال تعالى:
[إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ، وجعل لكل مسلم حقاً على أخيه المسلم
حيثما وجد، ف (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا
يحقره) [1] ، وفي الصحيحين: (المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يخذله، ولا
يسلمه) [2] . وفيهما أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً! قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه
من الظلم فذلك نصرك إياه) [3] .
وأخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على
رؤوس الأشهاد يوم القيامة) [4] وهو ضعيف لكن يشهد له حديث أنس رضي الله
عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نصر أخاه بظهر الغيب نصره
الله في الدنيا والآخرة) [5] وهو في صحيح الجامع الصغير.
إن ترابط المسلمين فيما بينهم كترابط أعضاء الجسد الواحد، ما أن يقع ضيم
أو تحل نازلة بأحدهم إلا كأنها أصابت جميع المسلمين، فيحنو بعضهم على بعض،
ويرحم بعضهم بعضاً، فيهبُّون هبة رجل واحد فزعةً [6] لبعضهم بعضاً ونصراً
لهم. وما لنا ألا يكون هذا حالنا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى) [7] ؟ وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون كرجل وا حد: إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله) [8] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه
بعضاً) [9] . ومن أجل هذا فقد ترتبت حقوق عظيمة لكل مسلم على إخوانه المسلمين أينما كانوا.
وها هم إخواننا في الشيشان قد داهمهم الروس وهم نصارى أرثوذكس من
البر والجو، مستخدمين جميع أنواع الأسلحة وأشدها تدميراً وأوسعها إهلاكاً،
فأحدثوا فيهم الفتك والقتل والهتك والتشريد.
إن ذلك كله يلهب شعور جميع المسلمين بقوة رابطتهم بمسلمي الشيشان
ويؤجج في نفوسهم ضرورة نصرتهم.
إن الرابطة التي تربط كل مسلم في أنحاء الأرض بمسلمي الشيشان هي
رابطة الدين، رابطة العقيدة، إنها رابطة الإسلام، تلك الرابطة لا تنفصم ولا
تنقطع ولا تهون، بل هي باقية إن شاء الله أبد الدهر إلى قيام الساعة.
نصرة الشيشان واجب شرعي:
قال تعالى: [وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] [الأنفال: 72] . وقال تعالى: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] [التوبة: 71] ، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ والْمُنَافِقِينَ
واغْلُظْ عَلَيْهِمْ] [الأنفال: 73] ، وقال تعالى: [الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ
بَعْضٍ] [التوبة: 67] .
إن هذه الآيات تبين طبيعة المعركة ومعالم حدودها ومساحة حركتها. إنها
تقول: إن الواجب الشرعي هو تناصر المسلمين في كل أنحاء الأرض، وأن يتولى
بعضهم بعضاً؛ كما أن الكافرين والمنافقين يتولى بعضهم بعضاً.
فعلى كل مسلم أن يلبي دعوة إخوانه في الشيشان بنصرتهم، كلٌّ بما يستطيع؛ فمن استطاع الوصول إليهم ليقاتل معهم فليفعل، ومن استطاع نصرهم بالكلمة
قولاً أو كتابة عبر الكاسيت أو الفيديو أو الرائي أو الصحيفة، أو أي واسطة أخرى
فليفعل، ومن استطاع تمويلهم بماله الخاص أو بجمعه وإرساله إليهم فليفعل، ومن استطاع الدفاع عنهم بنشر قضيتهم بين الأمم فليفعل. ولا أقل من أن يشترك جميع المسلمين في كل الأرض في دعاء الله لينصرهم على أعدائهم الروس، ويصبِّرهم ويثبتهم ويرفع المحنة والشدة عنهم، وأن يتقبل شهداءهم ويشفي جرحاهم
ومرضاهم، وأن يجعل الدائرة لهم ويخرجهم من هذه المعركة الضروس مرتفعة بالإسلام رؤوسهم، نابضة بالذكر لله والثناء عليه قلوبهم، حامدة له وشاكرة ألسنتهم، ساجدة لجلاله جباههم.
وقد وقفت على فتوى عظيمة للعالم الشيخ الجليل عبد الله بن عبد الرحمن بن
جبرين أصدرها بتاريخ 16/7/1420هـ ذكر فيها أهمية مناصرة مسلمي الشيشان، وقال حفظه الله: يجب على المسلمين:
أولاً: الدعاء لإخوانهم في تلك البلاد بالنصر والتمكين والتأييد ورد كيد
الكائدين.
ثانياً: إمدادهم بالأسلحة والقوة الحسية التي يكافحون بها ويقاتلون من قاتلهم.
ثالثاً: تقويتهم بالأموال، فهم بأمسِّ الحاجة إلى القوت والغذاء والكسوة، وكل
ما يتقوُّون به ... إلخ الفتوى.
هل أستطيع القيام بواجبي نحو الشيشان؟
نعم! أستطيع القيام بواجبي إزاء المسلمين في الشيشان؛ وذلك في إطار
مفهوم قوله تعالى: [أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] [البقرة: 286] ،
وفي إطار قوله تعالى: [وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ]
[الأنفال: 72] .
وسأذكر هنا ما يمكن أن يقدمه المسلمون لمسلمي الشيشان؛ وكلٌّ يغرف من
ذلك بقدر مِغرفته:
1- الدعاء لهم في صلاة الفريضة. والقنوت مشروع في الفرائض عند
حدوث النوازل. وكذلك الدعاء لهم في صلاة قيام الليل وصلوات السنن والنوافل
وخاصة في الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء.
2 - تعريف المسلمين بقضيتهم من خلال خطب الجمعة والمنتديات ومجالس
البيوت، وعن طريق تداول أخبارهم في محيط الأسرة، وجعل ذلك مادة اهتمام
الأمهات والأبناء الأقارب.
3 - استغلال الوسائل الإعلامية المتاحة لتعريف العالم بما يقع على مسلمي
الشيشان من ظلم وقهر واضطهاد وتقتيل وتشريد وتهجير وبطش من قِبَلِ الجحافل
الروسية الهمجية.
ومن أهم تلك الوسائل الإعلامية:
الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون (سواء عبر القنوات العادية أو المحطات
الفضائية) والإنترنت. ومن خلال أشرطة الكاسيت والفيديو.
4- طباعة كتيبات صغيرة تشرح مأساة إخواننا مسلمي الشيشان وتسلط
الأضواء على أبعادها الدينية والإنسانية والسياسية. ثم توزع هذه الكتيبات مجاناً في
أوسع نطاق بكافة اللغات العالمية المشهورة.
5- الدعوة إلى التبرع لصالح مسلمي الشيشان بقصد تغطية احتياجاتهم
الجهادية والمدنية.
6- إن الجهاد بالنفس في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام؛ فمن استطاع
الجهاد بنفسه في أراضي الشيشان فليفعل، ومن لم يستطع فليجهز من يستطيع ولا
يجد ما يعينه على ذلك؛ فإنه (مَنْ جَهَّزَ غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف
غازياً في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا) [10] ، وفي رواية عنه أخرجها ابن
ماجه بسند صحيح: (من جهَّز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن
ينقص من أجر الغازي شيئاً) [11] .
7- إمدادهم بالسلاح بكافة أنواعه المتاحة، وهذا الأمر وإن كان متعذراً على
الأفراد القيام به، فإن الحكومات في البلاد الإسلامية قادرة عليه لو أرادت.
8 - الضغط على الحكومة الروسية بكافة الوسائل لحملها على إيقاف حربها
الهمجية إزاء الشيشان وعلى الانسحاب من الأراضي الشيشانية والاعتراف
بالشيشان دولة مستقلة وتعويضها عما ألحقته بها من خسائر فادحة في الأنفس
والأموال والممتلكات. ومن وسائل الضغط على الحكومة الروسية ما يلي:
1- إرسال رسائل الشجب والاستنكار لأفعالها الشنيعة في الشيشان، ويتم ذلك
شعبياً من خلال إيصال تلك الرسائل إلى جميع السفارات الروسية في جميع أنحاء
العالم. على ما يقوم به الروس من ممارسات وحشية في الأراضي الشيشانية.
2- الضغط على كافة دول العالم ومختلف المحافل الدولية لتقوم بواجبها في
الوقوف مع الشعب الشيشاني الذي يتعرض للإبادة الشاملة، ذلك بالضغط على
الحكومة الروسية بكافة السبل، والتأكيد على أن فارق القوة المادية بين الطرفين
يجعل أداة القمع والبطش من طرف واحد دون أن يكون للطرف الثاني إمكانية
المقاومة الفاعلة.
3 - لا بد لدول العالم أن تقف موقفاً مع العدالة التي تقتضي الضغط على
الحكومة الروسية لمنح الشيشان استقلالها، هذا إن كان للعدالة معنى لدى تلك الدول!
4 - إن من أمضى ما يمكن أن يحمل الروس على إعادة تقييم حملتهم الظالمة
على الشيشان هو استخدام أسلوب الضغط الاقتصادي وذلك بوقف المساعدات
الاقتصادية الدولية عنهم، وتجميد أرصدتهم في الخارج أو حجزها لإيفاء ما عليها
من ديون مستحقة، وبإيقاف استيراد الأسلحة منهم. وأما الضغط السياسي فبالتهديد
بتعليق العلاقات الدبلوماسية
معها أو بتخفيض درجتها أو بتقليل عدد العاملين في السفارات الروسية. إنني
أعلم تماماً أن هذه الدعوة قد لا تجد أي أذن صاغية، وذلك لخضوع العلاقات
الدولية عموماً إلى معادلة (الغاية تسوِّغ الواسطة) ، وأن المصالح الدولية مقدمة على
المصالح الإنسانية والمفاهيم
القيمية؛ إلا أنه لا بد من تسجيل هذه الدعوة لإقامة الحجة على جميع الذين
خذلوا مسلمي الشيشان وناصروا عدوهم الذي يفتك بهم.
ما هي أهداف احتلال الروس للشيشان ودوافعه؟
إن دوافع احتلال الروس لأراضي الشيشان متعددة الاتجاهات، ونجملها فيما
يلي:
1 - لقد تعرض الروس إلى هزيمة قاسية على يد مسلمي الشيشان عام
1996م عندما قام الروس باجتياح أراضي الشيشان في ذلك العام واحتلوا العاصمة
غروزني ثم لم يُبقوا فيها حجراً على حجر. ولكن الله تعالى نصر مسلمي الشيشان
عليهم رغم فارق القوة الهائل عدداً وعدة. لقد مرَّغ المقاتلون الشيشان أنوف
العسكريين وسياسيي الكرملين في أوحال الذلة والصغار، وألحقوا بهم هزيمة
تاريخية وقف لها جميع العالم مدهوشاً. وإن من أهم أهداف هذه الحملة الروسية
الحالية على الشيشان هو رد اعتبار الكرملين على المستوى السياسي والعسكري،
والثأر من الهزيمة السابقة.
2 - إن الحملة الروسية الحالية تشكل غطاءاً للتنافس السياسي بين مختلف
الفرقاء والفصائل والأحزاب الروسية للانتخابات القادمة للبرلمان ولرئاسة الدولة.
إن إصرار رئيس الوزراء الحالي بوتين ورئيس الدولة بالنيابة على متابعة حملة
الإبادة في الشيشان ما هو إلا ورقة قوية يمسك بها في يده لأجل انتخابه خلفاً ليلتسين. وكل فريق له حساباته؛ فالسياسيون لهم حساباتهم والعسكريون لهم حساباتهم،
والجميع يعتقد أن تحقيق حساباته بشكل إيجابي يمر عبر أراضي الشيشان تدميراً
وتقتيلاً وتهجيراً.
3 - إن روسيا تريد إبقاء خضوع مناطق القوقاز لها وتحت سيادتها كيما
تتمكن من مواصلة سرقة خيراتها الوفيرة. سواء منها البترولية أو الزراعية الكثيرة
والمنوعة التي تشتهر بها حقول (غروزني) العاصمة [12] . إن إصرار روسيا
على خوض هذه الحرب الشيشانية يعكس مدى التدهور الاقتصادي الذي حل بها
والذي تريد تعويض بعضه من ثروات تلك البلاد الغنية.
4 - إن الحكومة الروسية تريد من خلال حربها الشرسة في الشيشان إيصال
رسالة لكافة المناطق التي غالبيتها من المسلمين والتي تخضع للاستعمار الروسي
مفادها: أن الحكومة الروسية جادة في استخدام الحديد والنار لإبقاء تلك المناطق
الإسلامية تحت سطوتها واستعمارها.
5 - إن روسيا من منظار صليبي أرثوذكسي بحت تعتقد أن المنظور البعيد
إذا كان يحمل في طياته قيام دولة إسلامية تجمع شتات المسلمين في تلك المناطق
الآسيوية، فإنه من الواجب إيقاف ذلك الاحتمال ابتداءاً من بواكيره وعدم الانتظار
إلى مستقبل الأيام؛ فلربما لا يمكن عندها فعل شيء ذي قيمة يوقف إمكانية ذلك
التوحيد؛ حيث إن روسيا ترى أن قيام مثل تلك الدولة يشكل خطراً بالغاً عليها. إن ذلك ربما كان صحيحاً إلا أن روسيا تريد أن تستعمل هذه الورقة وتسويقها داخلياً وخارجياً على أمل إقناع العالم بمسوغات الفظائع التي تقوم بها الآن.
6 - إن للأعمال الحربية التي تقوم بها القوات الروسية حالياً في الشيشان
أهدافاً أخرى تتعلق بتجديد حيوية ذلك الجيش وتجريب أسلحته الجديدة السرية للتأكد
من كفاءتها؛ إضافة إلى اعتبار تلك الحرب نوعاً من التدريبات الحية والقاسية التي
يختبر القادة الروس من خلالها قدراتهم العسكرية والفنية وكفاءة خططهم الحربية.
7 - لقد استطاع الغرب أن يحيِّد روسيا في حرب كوسوفا ولم تتمكن الحكومة
الروسية من نجدة حليفتها يوغسلافيا مما أفقد حلفاء روسيا الثقة بقدرتها على الوقوف
معهم حال الأزمات. إن الموقف الروسي الضعيف في حرب كوسوفا ترك انطباعاً
دولياً يوحي بالعجز الروسي عن التحرك في حال حدوث أزمات دولية. وتعتبر
الحكومة الروسية أنه قد
حان الوقت لتبديد هذه التصورات التي خلَّفتها حرب كوسوفا وذلك من خلال
إثبات قدراتها على التحرك العسكري على نطاق واسع. وكان غزوها الثاني
للشيشان تعبيراً عن هذه الفكرة إضافة إلى أنها قد ضمنت عدم تدخل حلف الأطلسي
في هذه الحرب، مثلما لم تتدخل روسيا عسكرياً في حرب البلقان، ولكن علينا أن
نلاحظ الفرق بين الحالتين.
تلك هي بعض أهم أهداف الغزو الروسي للشيشان، إلا أن المراقب المحايد
يستطيع القول بثقة: إن روسيا لن تُفلح في تحقيق أي من تلك الأهداف؛ حيث إن
معطيات الواقع تؤكد ذلك.
لماذا يقف العالم متفرجاً على أحداث الشيشان؟
لقد بات من نافلة القول أن جميع دول العالم تقيس كافة الأمور من منظور
مصالحها الخاصة، سواء كانت مصالح عقدية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، أما القضايا الإنسانية فهي لا تعدو أن تتخذ أحياناً واجهات يُتترس بها للوصول إلى
تلك المصالح. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تكيل الدول والتحالفات مواقفها بمكاييل
متعددة قد يغلب عليها التناقض. وهاك هذه الأمثلة:
كوسوفا إقليم مسلم تحتله يوغسلافيا، وعندما تشكل فيه جيش تحرير كوسوفا
وبدأت فيه بوادر نزعة الاستقلال عن يوغسلافيا تدخل الغرب (أمريكا وحلفاؤها
الأوروبيون) لإجهاض هذه النزعة من خلال السيناريو الذي تم في ذلك الإقليم،
والذي انتهى ببقاء إقليم كوسوفا تابعاً ليوغسلافيا ضمن إطار الحكم الذاتي لكن تحت
مظلة استعمار دولي متعدد الجنسيات، بما فيها روسيا، ثم تم حلُّ جيش تحرير
كوسوفا، وهكذا بات من الصعب أو من المستحيل أن يفكر مسلمو ذلك الإقليم في
الاستقلال في ظل المعطيات القائمة.
تيمور الشرقية جزء لا يتجزأ من إندونيسيا، ومعظم سكانه من النصارى
الذين طالبوا بالاستقلال، فتدخلت الأمم المتحدة وأجرت استفتاءاً في الإقليم،
فصوَّتت الغالبية على الاستقلال. اجتمع مجلس الأمن وأعطى إنذاراً للقوات
الإندونيسية بالانسحاب من الإقليم خلال 48 ساعة، وهكذا حصل. وجاءت القوات
الدولية وتسلمت الإقليم وبقيت فيه لحمايته من أي احتمال للتدخل العسكري الإندونيسي في المستقبل.
ولتفويت هذا الاحتمال صوَّت البرلمان الإندونيسي على استقلال تيمور
الشرقية، لكن القوات الدولية ستبقى مرابطة فيه. فما مسوِّغ بقائها؟ !
والسؤال هو: لماذا لم يَدْعُ مجلس الأمن للاستفتاء على استقلال كوسوفا؟ ولو
تم ذلك وكانت النتيجة بالإيجاب فهل يفرض مجلس الأمن بالقوة ذلك الاستقلال؛
خاصة وقد أصبح ذلك الإقليم تحت احتلال القوات الدولية بعد انسحاب القوات
اليوغسلافية تماماً منه؟ السبب واضح؛ فانسحاب القوات الإندونيسية من تيمور
الشرقية يؤدي إلى قيام دولة نصرانية في ذلك الموقع المهم من العالم وهو مطلب
الغرب ومبتغاه، وأما انسحاب القوات اليوغسلافية من كوسوفا دون أن تحتله
القوات الدولية فسوف يؤدي إلى قيام دولة مسلمة في قلب أوروبا وهذا مرفوض
عندهم تماماً.
إذاً المصالح العقدية هي التي دعت الأمم المتحدة الخاضعة لليهود والنصارى
إلى مواقفها المتناقضة.
الشيشان جمهورية إسلامية فرضت استقلالها عن روسيا بعد أن هزمت
الجيش الروسي عام 1996م، ورغم ذلك رفض العالم الاعتراف بها، ولم يتعامل
معها؛ لأنها من وجهة نظره تابعة لروسيا. الآن تدخلت روسيا عسكرياً في هذه
الجمهورية المسلمة؛ فلماذا لا يتدخل مجلس الأمن كما تدخل في موضوع تيمور
الشرقية ويطلب إجراء استفتاء على الاستقلال، ثم يفرض ما تتضمنه نتيجة
الاستفتاء بالقوة من خلال قوات دولية؟ !
نعم! كان من الممكن أن يتم هذا فيما لو كان سكان جمهورية الشيشان
نصارى أو يهود. وقد فعلها الغرب عندما دعم استقلال أستونيا ولاتفيا وليتوانيا عن
الاتحاد السوفييتي؛ حيث إن سكانها نصارى.
وقد أشرت بالتفصيل لهذا الموضوع في كتابي: (انهيار الشيوعية) .
قد يقال: إن الغرب لا يستطيع التعامل مع روسيا وهي ثاني أعظم دولة
نووية في العالم كما يتعامل مع إندونيسيا أو يوغسلافيا؛ حيث إن موازين القوى لها
أثر في المواقف الدولية والعالمية! أقول: نعم! ولكن بإمكان أمريكا وحلفائها أن
يتخذوا إجراءات مؤثرة تؤدي إلى وقف الحملة الروسية على الشيشان، ولكن الواقع
أن تلك الدول تؤيد في الباطن تلك الحملة؛ إذ هي أيضاً تتخوف من استقلال
الشيشان تحت المظلة الإسلامية مع ما يعنيه ذلك من أثر هذا الاستقلال على باقي
الجمهوريات الإسلامية الأخرى الخاضعة للحكم الروسي، وقد فصلت ذلك سابقاً.
فلو كانت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا جادة في وقف الحملة الروسية المدمرة
على أرض الشيشان وشعبها المسلم لكان بإمكانها أن تقوم بالإجراءات التالية:
1 - وقف دعم صندوق النقد الدولي لروسيا والبالغ 4. 5 مليار دولار.
2 - تطبيق عقوبات اقتصادية بحق روسيا.
2 - تبني قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف التدخل الروسي في الشيشان
وسحب قواتها منها.
4 - تقليص التبادل الدبلوماسي مع روسيا وتخفيضه.
5 - شن حملة دولية لفضح الممارسات الروسية البشعة في الشيشان.
6 - إيقاف تبادل الزيارات الثقافية والفنية والرياضية مع روسيا.
وهناك إجراءات أخرى قد تكون أكثر صرامة، ولكنها يمكن أن تؤدي إلى
توتر الموقف الدولي أو خروجه عن السيطرة.
إننا إلى الآن لم نرَ أي إجراء فعال قام به الغرب ضد روسيا بشأن تدخلها
السافر في الشيشان سوى بعض الاحتجاجات غير المؤثرة والتي تطلق عادة
للاستهلاك المحلي أو الدولي.
لكننا إن نكن نعجب فإننا نعجب من مواقف بعض الدول الإسلامية التي أيدت
التدخل الروسي في الشيشان إما بالقول والدعم الإعلامي، وإما بالسكوت عما
يحصل في تلك البلاد الإسلامية الشيشانية المغلوبة على أمرها. لقد كان بالإمكان
تقديم الدعم لدولة الشيشان المستقلة منذ عام 1996م بالاعتراف باستقلالها، ولكن
للأسف لم يتم شيء من ذلك،
فكأن شأن الشيشان مع الدول الإسلامية كشأن الطائر الذي يغرد في غير
سربه! !
وقبل أن أغادر هذه المحطة فإنني أتساءل: أين منظومة الأطباء بلا حدود
التي حصلت على جائزة نوبل؟ وأين الهلال الأحمر والصليب الأحمر وجمعيات
حقوق الإنسان؟ أقول: أين هؤلاء وأمثالهم مما يحدث في الشيشان؟ لماذا يقف
الجميع متفرجاً، بل بعضهم قد يكون مصفقاً؟ !
إن هذه المواقف السلبية تجاه مسلمي الشيشان تبين حقيقة الدوافع والمنطلقات
التي تنطلق منها تلك المنظمات، فهي إما نصرانية غربية، فموقفها معروف، وإما
منظمات إسلامية لكنها تدور في الفلك السياسي للأنظمة الساكتة. ونقول لهؤلاء:
إن لم تحرككم الدوافع الدينية الإسلامية فلا أقل من أن تحرككم الدوافع الإنسانية، أم
ترانا كما قال
القائل:
لقد أسمعتَ لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي!
هل سينتصر الشيشانيون؟ !
إن قضية انتصار الشيشان تخضع إلى عوامل عدة، يمكن إجمالها في ثلاثة
هي:
1 - العامل الذاتي.
2 - العامل الروسي.
3 - العامل الدولي.
فأما العامل الذاتي: فأساسه العقدي يعتمد على قدر الباعث الإسلامي في هذه
المواجهة. ولا شك أن الشيشانيين يعلمون أن المحور الحقيقي لهذه الحرب هو
المحور العقدي. فإذا أخلص الشيشانيون جهادهم لله تعالى وجعلوا قتالهم في سبيله
ولإعلاء كلمته وإعزاز دينه وتنفيذ شريعته فإن الله تعالى ناصرهم لا محالة؛ فهو
سبحانه القائل:
[إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] . والقائل: [وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] [الروم: 47] . وكي يتحقق النصر لا بد من إخلاص
نية الجهاد لله تعالى والأخذ بالأسباب المادية المقدور عليها والاعتصام بالصبر مع
الثبات عند اللقاء.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] . [آل عمران: 200] .
ولذلك نوصي بشدة أن تأتلف كلمة المقاتلين جميعاً من المنضوين تحت سلطة
الدولة الشيشانية أو الآخرين الذين مع شامل باسييف وخطَّاب، ولا بد أن تكون
قيادتهم موحدة وجهودهم متحدة.
ومن أهم ما نحث عليه بشدة هو أن تتوجه قلوب الشيشانيين إلى الله تعالى
وحده، فيبتهلون إليه ويكثرون من الدعاء مع الإلحاح على ربهم أن يتولى أمرهم
وأن يظهرهم على عدوهم اقتداءاً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لربه
جل وعلا يوم بدر.
وأما العامل الروسي فيتشكل من عدة عناصر:
الصراع السياسي داخل الكرملين والبرلمان (الدوما) :
إن هذا الصراع لا يزال يزداد تأججاً يوماً بعد يوم؛ حيث إن يلتسين قد فقد
كثيراً من قدرته القيادية قبل تقديمه استقالته، وزمام الأمور ليس متركزاً في
شخصية بعينها، رغم أن فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الحالي ورئيس الدولة
بالنيابة هو الشخصية الطافية على السطح، إلا أن تحت الأكمة كثيراً من الخلافات
والاضطرابات. ولذلك فإن عدم وجود القيادة السياسية الحاسمة سينعكس سلباً على
توجيه دفة الحرب الشيشانية مما يعزز قدرات المجاهدين الشيشان على الصمود
والتحوُّل إلى الهجوم.
الصراع داخل المؤسسة العسكرية:
إن هذا الصراع محتدم بين مختلف القيادات المشاركة في الحرب الشيشانية؛
حيث إن المخططين العسكريين للعملية الشيشانية واقعون في ارتباك شديد بسبب
عدم قدرة القوات في الجبهات الأمامية على تنفيذ المهام الموكولة إليهم، مما أحدث
أزمة ثقة بين القيادات المخططة والقيادات المنفذة.
وستُظهر الأيام القادمة هذه الخلافات على السطح، وسيتبلور ذلك من خلال ما
سنراه من إحالة عدد كبير من كبار الجنرالات إلى التقاعد، أو ربما إحالتهم إلى
المحاكمة بسبب التقاعس أو الإهمال أو الهروب من ساحات المعارك.
ولا شك أن الخلافات داخل المؤسسة العسكرية الروسية يصب في النهاية في
صالح المجاهدين الشيشان.
الصراع بين المؤسستين السياسية والعسكرية:
إن هذا الصراع بدأ يحتدم منذ الآن؛ حيث إن المؤسسة السياسية قد لاحظت
أن الحسم في الشيشان لصالح روسيا ليس مؤكداً، إضافة إلى ظهور بوادر التراجع
في القرار السياسي، في حين أن المؤسسة العسكرية تصر على المضي قدماً في
حرب الشيشان إلى النهاية. والنهاية عندهم هي إعادة احتلال الشيشان والقضاء
على قياداتها السياسية والعسكرية، والإبادة الجماعية لشعبها المسلم.
وقد هدد كبار القادة العسكريين بما فيهم وزير الدفاع بالاستقالة إن تدخلت
القيادة السياسية لوقف القتال أو الحد من اندفاعه.
الجانب النفسي:
إن معنويات العسكريين الروس بدأت في التداعي بسبب شراسة المواجهة التي
يلاقونها من المجاهدين الشيشان، مما عرقل تماماً الخطط الموضوعة
لاحتلال تلك البلاد، خاصة أن الشتاء على الأبواب وأن بعض تشكيلات
الجيش الروسي من المتطوعين المرتزقة غير القادرين على الصمود والقتال لفترة
طويلة.
لقد اعتقدت القيادة الروسية بمؤسستيها السياسية والعسكرية أن حسم موضوع
الشيشان سيتم سريعاً جداً ولن يستغرق إلا بضعة أسابيع في أبعد التقديرات، ولكن
جاءت الوقائع على خلاف ذلك، وهذا الذي حدا بالقيادة العسكرية إلى تكثيف قصفها
بالطائرات وراجمات الصواريخ وقذائف المدفعية واستخدام أشد الأسلحة فتكاً، مع
توجيه كل ذلك إلى البنية التحتية الشيشانية وإلى جميع المدنيين العزل من السلاح
بغية ممارسة أشد أنواع الضغط على المجاهدين الشيشان كيما يلقوا سلاحهم حفاظاً
على استبقاء أهلهم وممتلكاتهم. إلا أن جميع هذه التقديرات الروسية ذهبت أدراج
الرياح، وأطاح بها صمود المجاهدين الشيشان وبسالتهم في القتال.
الجانب الاقتصادي:
إن روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وهي تعاني من أزمات اقتصادية
شديدة، مما أدى إلى إيقاف العمل في عدد من المشاريع الإنمائية وتأخر الحكومة عن دفع الرواتب سواءاً للموظفين المدنيين أو المجندين العسكريين.
إن الحرب الشيشانية لن تستطيع الحكومة الروسية الاستمرار في تمويل
تكاليفها، وستضطر إلى إيقاف الرواتب وكثير من مشاريعها الاقتصادية؛ فهي بين
فكي كماشة، فإما أن توقف هجومها على الشيشان، وإما أن تنزلق اقتصادياً إلى
قعر الهاوية، مما سيعزز دور المافيا وأعوانها، أو تعوِّم نفسها من خلال حصولها
على تمويلات سرية من الدول التي تهاجمها في العلن، وأقصد بها الدول الغربية
وأمريكا، أو تمويلات أخرى من (إسرائيل) .
الجانب الاجتماعي:
إن الجانب الاجتماعي سيتأثر بمجموعة عوامل من أهمها عاملان:
الأول: الأزمة الاقتصادية التي ذكرتها وهذه ستؤدي إلى حرب أهلية أو
اجتياح جماهيري لمؤسسات الدولة ودخول روسيا في فوضى عارمة لا يضبطها
ضابط.
الثاني: أن أسراب التوابيت للقتلى الروس في الجبهات القتالية ستنساح إلى
جميع المدن الروسية بدون استثناء، وسيكون همّ الجموع الجماهيرية في صبيحة
كل يوم هو استقبال توابييت جديدة والتي تحوي داخلها أشلاءاً ممزقة ستمزق
نفوسهم ثم تمزق دولتهم إن شاء الله تعالى.
إن هذه الحال ستؤدي إلى فقدان الآباء والأبناء والإخوة، مما سيفكك الأسر
الروسية ويبعثر اجتماعها ويرمي كل يوم إلى قارعة الطريق بأعداد غفيرة من
الأطفال الذين لا عائل لهم يكونون فيما بعد قنبلة اجتماعية موقوتة ستأتي لدى
انفجارها والذي سيكون قريباً جداً
إن شاء الله على الأخضر واليابس.
فخلاصة القول أن العامل الروسي يدفع روسيا إلى خسارة هذه الحرب ويقوي
من عوامل انتصار المجاهدين الشيشان. وهذا ما ستثبته الأيام بإذن الله، وإن كان
الثمن صعباً جداً.
وأما العامل الدولي: فإنه لا يصب الآن من الناحية الظاهرية في صالح
روسيا؛ حيث إن أنباء المذابح التي يقترفها الروس ضد الشيشان جماعياً قد ملأت
الآفاق وهذا قد دفع دول العالم أجمعين نحو زاوية حرجة، ومع تتالي الأيام
والأسابيع أصبح من المؤكد أن يقول العالم شيئاً مَّا بشأن تلك المذابح الهمجية.
واشرأبت أعناق دول العالم الثالث نحو أمريكا وأوروبا تنتظر منهم موقفاً كي يقوموا هم بدورهم بصياغة مواقفهم على أساس ذلك الموقف الغربي. ومن المفارقة أن يجتمع مجلس الأمن بأعضائه جميعاً ويطالب الطالْبان بتسليم رجل واحد هو (أسامة بن لادن) ولا يجتمع ليطالب روسيا برفع يدها عن قتل شعب بأكمله.
إننا لا نتوقع موقفاً حاسماً في إطار العامل الدولي، ولكن الدفة في هذا العامل
من حيث العموم تميل شيئاً ما لصالح الشيشان لا من حيث الحصول على الاستقلال، ولكن من حيث إيقاف المجازر البشعة التي تقترفها الجيوش الروسية الجرارة، أو
ربما مجرد الحد من تلك المجازر فقط لا غير.
الشيشان ومساءلة الآخرة:
(المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم) [13] . إن الدفاع عن
حرمات المسلمين والوقوف معهم في المحن واجب شرعي. ولا يجوز للمسلم أن
يسلم أخاه المسلم لأعدائه من الكفار والمنافقين. ونحن في موقف المساءلة يوم
القيامة سنُسأل: ماذا فعلنا لنصرة إخواننا مسلمي الشيشان عندما أهريقت دماؤهم
واستبيحت أعراضهم وأتلفت ممتلكاتهم وشردوا في
كل صقع ومزقوا شذر مذر؟
ماذا فعلنا لنصرتهم عندما أرهقهم الخوف وغطتهم الثلوج وأفناهم الجوع؟
ماذا فعلنا لنصرتهم وقد لفتهم الأحزان وتعالت منهم الآهات وتألمت لأجلهم
الآلام! !
ماذا فعلنا لنصرتهم وقد خرجوا من ديارهم هائمين على وجوههم لا يلوون
على شيء، يتساقطون على الطرقات موتى لا يجدون من يدفنهم؟ ! هل نصرناهم
بالأنفس؟ !
هل نصرناهم بالمال؟ ! هل نصرناهم بالدعاء؟ !
هل نصرناهم بالدفاع عنهم في المحافل داخلياً وخارجياً؟ !
هل حاولنا أن نستشعر في نفوسنا ما يشعرون هم به حقيقة وواقعاً؟ !
أين علماء أمة المليار مما يجري في بلاد الشيشان؟ !
صرخة مدوية أصرخ بها في آفاق كل العالم، لعل المسلمين يسمعونها: أن
هلموا لنجدة إخوانكم في الشيشان، وامتطوا صهوات التضحية والفداء.
إن هذه الأمة لا تحيا إلا بالجهاد، فعندما تركته ماتت أو أوشكت. إن المجد
لا يرتقيه الخائرون والمتقاعسون، بل يرتقيه المجاهدون والمضحون.
إن المسلم الحق له في قلبه عينان: عين على الدنيا، وعين على الآخرة؛
فكأنما يبصرهما جميعاً في آن واحد، فيجعل دنياه حرث آخرته.
فهل نجعل من نصرنا لإخواننا المسلمين في الشيشان وفي كل مكان زاداً لنا
عند لقاء ربنا؟ !
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 4650.
(2) رواه البخاري، ح/ 6437.
(3) رواه البخاري، ح/ 2263.
(4) رواه أحمد، ح/ 16028، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، ح/ 5554.
(5) رواه البيهقي في السنن الكبرى، ح/ 16462.
(6) فزعة: إغاثة.
(7) رواه مسلم، ح/ 4685، 4686.
(8) رواه مسلم، ح/ 4685، 4686.
(9) رواه البخاري، ح/ 459.
(10) رواه البخاري، ح/ 2631.
(11) رواه ابن ماجة، ح/ 2749.
(12) موسوعة العالم الإسلامي، 1 / 225.
(13) رواه أبو داود والنسائي، ح/ 4665.(147/82)
المسلمون والعالم
إفريقيا.. استقلال أم استغلال؟
الحسن عمر الفاروق جارا
النسبة الأعلى من الشعوب الإفريقية لم تتأثر بموجات الغزو الثقافي الأوربي،
ولا تزال تحمل حنيناً للإسلام 80% من دول إفريقيا تظهر في قائمة الدول الفقيرة
بالرغم من أنها من
أغنى القارات مؤتمر برلين الجائر زرع ألغام الحدود السياسية في إفريقيا منذ
قرن، ولا تزال تتفجر لليوم بين حين وآخر كان وجود الاستعمار بأجلى صوره،
وأقصى أنواعه الاستغلالية واتجاهه نحو تنصير شعوب القارة الإفريقية دافعاً بشكل
كبير لظهور الميول الاستقلالية لدى كثير من شعوبها، ومعها نشأت اتجاهات الكفاح
المسلح من أجل تقرير المصير.
ثم تطورت تلك الحركات من المراحل السلمية حيث استخدام الإعلام والمحافل
الدولية إلى العنف بعد إحكام السيطرة، واستخدام السلاح والقوة؛ فرصد الغرب
الاستعماري تلك الحركات، وتدارك الميول الجديدة في إفريقيا التي باتت هي
الاتجاه السائد، وبسبب التطورات التي حدثت في العالم، رأى الاستعمار أنه من
الأفضل لمصالحه أن يلتقي مع تلك الاتجاهات وهي لا تزال ضعيفة وفي بداياتها
غير المتطورة؛ بدلاً من أن يصطدم بها ويساعد بذلك على بلورتها في اتجاهات
خطيرة عليه في المستقبل، كخلق حالة من النهوض واليقظة، تتوسع لتشمل إفريقيا
كلها [1] .
بل أدرك الغرب عن كثب أن حالة كهذه لن يكون المرفوض فيها هو الوجود
الاستعماري فحسب؛ بل يقود ذلك إلى رفض أفكاره، وما تتضمنه من نظرة أداء
(رسالة الرجل الأبيض) في توعية الرجل الأسود وتحضيره (حسب زعمهم) والتي
معناها: النظر إلى المستعمرات على أنها أقاليم منتجة لصالح الرجل الأبيض، وقد
أوجدت تلك السياسة الاستعمارية ردود أفعال قسمت السكان في البلدان الإفريقية إلى
فئات ثلاث:
الفئة الأولى: وتضم جماهير كل الشعب من الذين وقفوا على الحياد بحكم
عوامل موضوعية أهمها: عدم القدرة على استيعاب حقيقة ما يجري حولها، وذلك
باعتبار أن الغالبية العظمى كانوا ولا يزالون في عداد الأميين.
الفئة الثانية: وهي التي قبلت فكرة الدمج وتحمست لها لأسباب مختلفة: إما
بفعل العامل الثقافي، أو نتيجة للسياسة التي ابتدعها الاستعمار؛ تطبيقاً للمبدأ ...
التقليدي: (فرّق تسد) ، كما نجد المثال على ذلك فيما عرف بنظام المناطق ... الأربعة في السنغال، ويعني منح الجنسية الفرنسية بصورة تلقائية لكل من يولد في المدن الأربعة الآتية: سان لويس روفِسْك غوري داكار.
الفئة الثالثة: وتضم الثائرين بدوافع وطنية الذين رأوا في الاستعمار شراً
مستطيراً يجب محاربته، فوضعوا تصورهم موضع التنفيذ، ونظموا حركات
المقاومة المسلحة. وكانت المحصلة نمو الأفكار التي يسميها الإعلام الغربي بـ
(الأفكار المتطرفة) . وهذه الفئة هي التي جابهت الاستعمار منذ البداية، وسعت
جادة للحيلولة دون تحقيق التكالب الغربي، وعملت لتوحيد أبنائها، وإيجاد التغيير
الجذري لرفض ثقافة الغرب ونظرياته، ثم إخراجه، ولكن تم قمعها بشراسة من
المستعمر.
وقد مثلت تلك الحالة عملية انفصال عميق بينه وبين إفريقيا امتدت لأجل
طويل.
يضاف إلى ذلك وصول بعض الأفارقة إلى مستوى ثقافي عال، فتفتحت
عيونهم على الأوضاع في بلادهم، وانتبهوا إلى ضرورة أداء واجبهم نحوها، ثم
الاحتكاك الثقافي والحضاري بين الأفارقة وغيرهم أثناء الحروب التي فرضت
عليهم أن يشاركوا في تحمل ويلاتها دون أن يجنوا ثمار تلك التضحيات، إلا أنها
ساعدت على تبلور الوعي السياسي عندهم.
وأكثر من ذلك؛ فالمؤتمرات الإفريقية الآسيوية التي عقدت بعد الحرب
العالمية الثانية بالذات، والتي أظهرت لشعوب القارتين وحدة الأهداف ووحدة
المصير هذه العوامل ساهمت بشكل فعال وأيقظت روح التحرر والمقاومة والسعي
إلى تقرير المصير لدى الأفارقة؛ ولم يستطع الاستعمار إزاء ذلك أن يستمر في
فرض سيطرته على شعوب القارة ودولها، بل أيقن أن الاستقلال أصبح وشيكاً
وأكيداً بعد الحرب العالمية الثانية.
ففي عام (1957م) أصبحت (غانا) أول دولة مستعمرة في غرب إفريقيا
تحصل على استقلالها. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام (1975م) تم استقلال جميع
الدول المستعمرة في غرب إفريقيا وتحررت من السيطرة الأجنبية شكلياً؛ وبقيت
رهن إرادة سيطرة الأجنبي في مؤسساتها باستثناء عدد قليل نسبياً وسمي عام
(1975م) عام إفريقيا.
المشكلات الإفريقية:
يتضح أثر السياسات الاستعمارية فيما عانته ولا زالت تعانيه الدول الإفريقية
من مشكلات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية. وقد برزت مشكلات الحدود على
قمة المشكلات الإفريقية، وفيما يلي عرض لأهم هذه المشكلات:
1 - مشكلات الحدود السياسية:
عندما نالت الدول الإفريقية استقلالها لم يكن أمامها مفر من أن تقبل بحقيقة
الحدود السياسية المصطنعة. وترجع هذه المشكلة إلى الأسس غير المنطقية التي
خططت على أساسها الحدود بين مناطق النفوذ الأوروبي في القارة؛ وفي الواقع
فإن دول غرب إفريقيا من أكثر دول القارة الإفريقية تأثراً بعملية التجزئة التي
اتبعتها القوى الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا؛ حيث قامت بتقسيم القارة إلى
وحدات استعمارية متعددة تصل إلى إحدى وأربعين وحدة سياسية، وقد بدأت في
تقسيم تلك الوحدات نفسها على أسس عرقية وقبلية، وكان ذلك واضحاً تماماً في
غرب إفريقيا الفرنسية A. O. F منذ أن أصدرت فرنسا قانون عام
(1956م) (1) (Lois Cadre) ، الذي نص على اختيار (جمعية وطنية
إقليمية منتخبة) ... مما ساعد على إيجاد سلسلة من الدول الضعيفة، بدلاً من توحيد
الإقليم في اتحاد فدرالي قوي قد يناوئ السياسة الفرنسية في المنطقة ... ولم يكن من
المستبعد عودة القوى الإصلاحية التي تبدو غائبة عن الساحة، وعن مجريات
الأمور السياسية إن هي
أفسحت المجال لقيام مثل هذه الاتحادات ... لذا ضغطت فرنسا على داهومي
(بنين حالياً) ، وبوركينا فاسو للانسحاب من الاتحاد الفيدرالي المشار إليه الذي كان
من شأنه أن يكلف فرنسا في المستقبل ثمناً باهظاً، وجاءت الوحدات السياسية مثقلة
بالمشاكل التي ستكلل مسيرتها وتتغير بسببها جهود التغيير والإصلاح؛ وتتضح هذه
الحقيقة أيضاً إذا نظرنا إلى هذه الوحدات نظرة فاحصة ثم إلى خريطة القارة قبل
عام (1884 1885م) فقد تم رسم هذه الحدود بشكل يتنافى تماماً مع الوضع
الطبيعي لأي تقسيم سياسي. فنجد مثلاً (غامبيا) التي رفضت سياسة الاستيعاب
تعتبر جزءاً من جمهورية (السنغال) فهي تقع في وسط السنغال. بجانب ذلك نجد
(توجو Togo لاند) ، وحدة اصطناعية، فأهلها يشبهون سكان البلاد المجاورة
(غانا بنين) ، وأقسامها الجغرافية هي أقسام جيرانها [2] فشعب (الأيوي مينا
Minai) الساحلي كان قبل التحرر موزعاً بين النفوذ البريطاني (غانا) ، وفي توجو
الفرنسية، وفي جزء من داهومي، مع فروق جوهرية في الخلفيات الحضارية،
وقد انتهى الأمر بعد عهد التحرر إلى تكوين جمهورية غانا، وجمهورية توجو،
وبنين. وإلى جانب هذا تكمن المشكلة القبلية في كثير من الوحدات السياسية،
(كالهوسا) في شمال نيجيريا؛ حيث ينتشر أفرادها بين نيجيريا والنيجر
والكاميرون.
ولقد برزت مشكلات الحدود بصورة واضحة فيما يلي:
نزاع دائم بين الكاميرون ونيجيريا على الحدود بسبب الخلاف على تحديد
مناطق التنقيب عن البترول.
مشكلات الحدود بين مالي، وبوركينا فاسو، (والجزائر، والنيجر، وليبيا)
التي أدت إلى الاقتتال بين مالي، وبوركينا فاسو عام 1983م.
مشكلة الحدود بين موريتانيا، والسنغال؛ حيث نشبت في نيسان (1989م)
مشكلة حادة بينهما، بدأت بأحداث بسيطة في المنطقة الجمركية على نهر السنغال،
وانتهت إلى اشتعال فتيل القتال بين الموريتانيين البيض، وأبناء الجالية السنغالية
في البلاد، وبين الزنوج (الموريتانيين السود) أنفسهم.
وستظل مشكلات الحدود الإفريقية هذه بشكلها الراهن إلى أجل يصعب التكهن
به، وهي من الآثار السياسية التي تعاني منها القارة منذ استقلالها إلى اليوم، وهي
ثمرة مؤتمر برلين الجائر (1884 - 1885م) .
2 - مشكلات اقتصادية:
من المشكلات الحادة التي تواجه دول إفريقيا دون استثناء مشكلة التخلف
الاقتصادي منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن؛ إذ كان للاستعمار الغربي وخاصة
الفرنسي نفوذ واسع النطاق في مختلف بلدان القارة.
فقد خلفت السيطرة الاستعمارية بشكل عام وراءها أوضاعاً اقتصادية متخلفة
جعلت الدول الإفريقية تواجه صعوبات جمة في سبيل تنمية مواردها ورفع مستوى
معيشة شعوبها بمعدلات سريعة؛ ذلك لأن البنية التحتية للاقتصاديات الوطنية كان
قد تم اقتلاع أسسها، بالإضافة إلى نهب الموارد التي كانت ستمثل دعماً مهماً للنظم التي ستقوم مستقبلاً لبناء الاقتصاد الوطني بشكل قوي.
وقد أدى النمط الاقتصادي الذي أرسته فرنسا وإنجلترا في المنطقة إلى جعل
مستعمراتها مرتبطة بها على وجه الخصوص بروابط اقتصادية وثيقة من الصعب
التغلب عليها.
فبعد أن تم تقسيم إفريقيا لمناطق نفوذ بين الدول الأوروبية في مؤتمر برلين،
خرجت هذه الدول بعد عصر الاستعمار، وهي تعاني من نتائج السيطرة الأجنبية
على مواردها الاقتصادية، واستنزافها لصالح الدول المستعمرة، والتي تتمثل في
قلة الخبرة الفنية، وعدم توافر رؤوس الأموال الوطنية، وسوء استغلال الثروة
القومية، وارتباط الاقتصاد الإفريقي باقتصاديات الدول الاستعمارية، وقصور
وسائل النقل والمواصلات.
وبالرغم من أن القارة الإفريقية تعد من أغنى قارات العالم، بالنظر لثرواتها
الطبيعية وموارد القوى الموجودة فيها، إلا أن 80% من الدول الإفريقية تظهر في
ذيل القوائم العالمية الخاصة بثلاثة عشر مؤشراً للرفاهية الاجتماعية.
وقد قال الرئيس د. نكروما في كتابه: (الاستعمار الجديد La nouvélle
colonisation) (أرضنا غنية، ولكن منتجاتها التي تأتي من فوق تربتها ومن
تحتها لا تعمل على إثراء الإفريقيين أنفسهم، بل جماعات وأفراد آخرين يعملون
على أن تظل القارة في حالة فقر ... ) [3] .
وإذا دققنا النظر في الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول نجد أن مشكلاتها تزداد
حدَّة بسبب محدودية الاستفادة من مواردها الطبيعية؛ فنجد أن ميراث الماضي ما
زال يؤثر على القاعدة الاقتصادية مما نتج عنه اقتصاد متخلف، ومستوى صناعي
وتكنولوجي متأخر.
هذا بالإضافة إلى نقص في البنية الأساسية، والخدمات الرئيسة، وصغر
حجم السوق المحلية. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى الاعتماد الكبير على
الاستيراد؛ نظراً لمحدودية الإنتاج الصناعي في هذه الدول، وافتقارها إلى المهارة
الفنية التي تجعلها تحافظ على مقدرة فنية عالية، والاعتماد على رأس المال
الأجنبي، والتكنولوجيا الأجنبية.
إن ميراث العهد الاستعماري ميراث ثقيل على كاهل الدول الإفريقية المستقلة
بلا جدال، وسيبقى لفترة طويلة عاملاً مؤثراً في توجيه العلاقات الثقافية
والاجتماعية بين دول القارة، وتمكين القوى الخارجية من التدخل في قضايا المنطقة
الداخلية ... وليس من شك كذلك في أن الدول الإفريقية ستحتاج إلى فترة طويلة
للتخلص بشكل نهائي أو جزئي من تلك التركة، لكن هذا العمل يبقى ضرورياً لكي تشهد القارة مستقبلاً ما يرشحها لأن تقوم بوظيفة جوهرية تتحقق فيه آمال وتطلعات شعوبها.
وإلى جانب التخلف الاقتصادي مثلاً ترى هناك جانب الاستقلال الوطني الذي
له ارتباط وثيق وصلة عميقة بمسيرة هذا التقدم الاقتصادي ...
فالباحثون في الشؤون الإفريقية يرون أن العبرة ليست في الواقع بإعلان
استقلال هذه البلاد، ورحيل المستعمر؛ بل بتصحيح العلاقات التي تربط المستعمر
السابق بالشعوب الإفريقية، هذه العلاقات التي جعلت هذه الشعوب أسواقاً للسلع
الأوروبية، وجعلت أوروبا السوق الوحيد لمنتجات هذه الشعوب وثرواتها
المعدنية [4] .
ولعل موازين مدفوعات، وإحصائيات التبادل التجاري في الدول الإفريقية توضح إلى أي مدى ارتبطت هذه الدول بالدول الأوروبية.
ولأن إفريقيا من أكثر القارات تأثراً بعملية التجزئة التي اتبعها المستعمر؛
حيث قام كما أسلفنا بتقسيم القارة إلى إحدى وأربعين وحدة سياسية، ثم قام بالتعاون
مع الفئات التي استلمت زمام الحكم في الدول المستقلة بعملية خطيرة قديماً وحديثاً
للحيلولة دون توحيدها
لتكوين وحدة سياسية واقتصادية.. هذه العملية نفذها الغرب عن وعي،
وتعاونت معه تلك الفئات الإفريقية في الغالب دون وعي، ويحاول الفكر الغربي
وأعوانه إعطاء هذا الوضع طابع التحرر والموقف الإنساني؛ وهو في الحقيقة أبعد
ما يكون عن ذلك؛ فهو صادر عن الموقف الاستعماري ذاته ولخدمة المصالح
الأنانية ذاتها ... ولا يعدو هذا التسويغ أن يكون أسلوباً لمواجهة الظروف المستجدة
نحو الوحدة ... وإلا فالاستعمار بقي كما هو ولم يتغير مضموناً.
وإن كانت الحاجة ملحة إلى إحداث تغيير شامل في الأوضاع القائمة في القارة
بدءاً بتحرير كل المنطقة من الهيمنة الخارجية التي اختلفت شكلاً عن الأسلوب
الاستعماري المباشر، واتفقت معه موضوعاً، فإن الضرورة تلح كذلك على أن يتم
تهيئة المناخ للإنسان الإفريقي، ليصبح قادراً على التخلص من السلبيات الاجتماعية
والاقتصادية والتعليمية التي تعاني منها الدول الإفريقية.
وإذا كانت معظم هذه الأمراض الفكرية والنفسية ترجع جذورها إلى الطريقة
الاستعمارية التي كانت تسعى إلى خلق مثل هذه العقلية في المنطقة، والتي تتجاوب
مع متطلبات بقائها في القارة؛ فإن هذا لا يدعونا إلى إلقاء التبعة على الماضي فقط، ... ولن يعفى أبناء إفريقيا من المسؤولية.
وهذا التغيير لا يحدثه التعلم، ولا زيادة الدخل، أو الصحة، بل الأمر متعلق
بالسلوك والأخلاق، والشخصية الإنسانية من جميع النواحي في قرار المواطن؛
وليس هذا مستحيلاً في الحياة البشرية؛ فقد أحدث الإسلام ذلك في رعيله الأول،
حتى جمع الجباة أيام عمر بن عبد العزيز الزكاة والصدقة في إفريقيا ولم يجدوا من
يأخذها.
فالأوضاع السلبية المترسبة من آثار الاستعمار في إفريقيا الغربية تنتظر نفوساً
تؤمن بالمساواة وتنبذ القبلية والأنانية والطمع، وتأخذ بيد الجميع إلى السعادة
والرفاهية، في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لكن نجاح هذه العملية
المبدئية لن يتم إلا عندما توجد القيادة التي تمثل النموذج الذي ينظر إليه العامة،
فيعجبون به فيسيرون على خطاه.
3 - مشكلات اجتماعية وسياسية:
إذا اتجهنا نحو القضايا والمشكلات الاجتماعية، وهي غالباً ما تكون مرتبطة
ارتباطاً وثيقاً بالقضايا والمشكلات الاقتصادية، وجدنا أن الأغلبية الساحقة من
الحكام الأفارقة تدرك حق الإدراك أنها عاجزة عن إحداث تغيير جوهري في
الظروف التي ما زالت مجتمعاتها فيها بعيدة عن إمكانية الاكتفاء الذاتي، كمشكلة
القضاء على الجوع، أو تقديم الخدمات الطبية والتعليمية الشاملة ... إلخ، ناهيك
عن جملة قضايا البيئة، مما ينعكس سلباً على الأوضاع الاجتماعية في إفريقيا كلها.
والذي تجدر الإشارة إليه هنا أننا نرى أنه بالرغم من الأزمات الاقتصادية
الحادة التي تعاني منها الدول الإفريقية؛ فإنها تتمادى في اقتطاع مبالغ هائلة
للحصول على الأسلحة في حين تعمل الدول المتقدمة على تقليل نسبة الإنفاق على
التسلح وزيادة نسبة الإنفاق على نواحي الرفاهية الأخرى مثل الصحة والتعليم،
وليس أدل على ذلك من دولة عظمى مثل: الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بتخفيض نسبة الإنفاق على التسلح ورفعت نسبة الإنفاق على التعليم والصحة؛ ففي خطة الموازنة لعام 1995م التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون تم تخفيض موازنة الدفاع بنسبة 3% عن موازنة عام 1994م بينما تم رفع موازنة التعليم بنسبة 5% وموازنة الأمن الاجتماعي بنسبة 5% [5] .
وإذا كانت الدول المتقدمة تعمل على تصريف هذه الأسلحة إلى الدول النامية
بأي ثمن كان؛ فمعظم أقطار دول غرب إفريقيا تغالي في تخصيص الإنفاق
الحكومي على الدفاع على حساب التزاماتها نحو رفع مستوى الخدمات الاجتماعية؛
فاقتطاع جزء من تلك النفقات يمكن أن يوجه لإنتاج الغذاء اللازم للسكان.
وقراءة سريعة للائحة المساعدات العسكرية الغربية للدول الإفريقية تجعل
الباحث يميل إلى ترجيح الرأي القائل بفساد الحكم والحكام، واختلاسهم لموازنات
الدول ووضعها في حساباتهم الخاصة في البنوك الأجنبية، سواء كان ذلك بإيعاز من
الخارج أو لقلة إدراكهم وشعورهم بالمصلحة العامة. وإن كان يصعب إثبات ذلك،
إلا أن ما يتم نشره من أرقام عن ثروة بعض الحكام بعد خروجهم من الحكم يرجح
هذا القول.
فالتحيز إلى جانب الإنفاق العسكري لا يمثل هذه المبالغ، ولا يمكن تسويغه
بحجة الحفاظ على الأرض؛ فالحفاظ على المجتمع مطلوب أيضاً ومن شأنه التقليل
من النفقات العسكرية لأداء خدمات الدولة الأخرى التي تعتبر ضرورية كالصحة
والتعليم ... فالخطر الأكبر الذي يهدد العديد من هذه الدول اليوم لم يعد افتقارها إلى
الأمن الكافي (طبعاً باستثناء بعض دول المنطقة) ولا مواجهة عدو أو معتدٍ خارجي، ولا حتى القضاء على العناصر التي تزعم أنها تهدد الوحدة الوطنية أو أمن الدولة؛ بل إن أشد ما يهدد هذه الدول في المجال الاجتماعي هو المجاعة التي تنذر بإبادة
السكان.
وتزداد خطورة الوضع الاجتماعي خصوصاً في منطقة جنوب الصحراء؛
حيث تذكر الإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي أن معدل نمو إجمالي ... الناتج القومي للمنطقة في الفترة من: (1985 - 1990م) ، يتراوح ما بين (1% و1.1 %) ، وهو معدل منخفض للغاية، وعلى المدى الطويل فإن نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي لعام (2000م) ، سيقدر بـ (218 -311 دولاراً ... سنوياً) ، بالنسبة لمعظم البلدان الإفريقية ذات الدخل المنخفض [6] ، ويوضح الدكتور عصام الدين جلال انعكاسات هذا الوضع بأن هذه المنطقة تحتل مركزاً متأخراً في مجال التنمية التي هي إحدى ركائز التقدم الاجتماعي؛ يضاف إلى ذلك ثلاثة من المؤشرات الرئيسة للتنمية وهي: نصيب الفرد في إجمالي الناتج القومي معدل القراءة والكتابة ثم متوسط العمر المتوقع.
إن إفريقيا وهي تواجه مشكلة الجفاف المتزايد، تقف دولها اليوم عاجزة أمام
التزايد السكاني في القارة، وهي غير قادرة على توفير الطعام اللازم لمواطنيها،
بل إن التزايد السكاني يحد كل يوم من نصيب الفرد في الموارد الغذائية المتاحة،
فيؤدي ذلك إلى مزيد من التعقيد للمشكلات، كما يسهم عدم الاستقرار السياسي إلى
حد كبير في ازدياد مشكلات هذه الدول؛ فكثرة التغيير في أنظمة الحكم، وتوالي
الانقلابات العسكرية في القارة، لها عواقب وخيمة على الدول الإفريقية، خاصة أن
الحكومات الجديدة قلَّما تبذل جهداً كافياً من أجل التوفيق والمصالحة بين الأطراف
المتنازعة [7] ، بل ترفض الحل الوسط وكل
ما من شأنه أن يكون لصالح البلد؛ وهذا ما حدث في زائير مثلاً عام
1991، وتكرر في عام 1993م؛ إذ رفض الرئيس موبوتو (MOBOUTO)
الانصياع لإرادة الشعب وذلك بدعم من فرنسا وبلجيكا ... وهي المشكلة عينها
القائمة في توجو في حكومة الرئيس أباديما نياسبي.
وهناك أيضاً مشكلة تدخُّل الحكام في تزوير أو إلغاء الانتخابات، كما جرى
في الانتخابات التي جرت في مالي (في مايو/ أيار 1992م) وفي توجو ونيجيريا.
ويجدر هنا أن نشير إلى ما تواجهه غالبية الدول الإفريقية من مشكلات عرقية
وقبلية، وقد برزت هذه المشكلات بشكل خاص في كل من سيراليون ونيجيريا.
4 - مشكلات تعليمية:
الموضوع الذي يطرح نفسه دائماً وبإلحاح في عرضنا للمشكلات الإفريقية بعد
الاستقلال هو أن الأوضاع الإفريقية التي تشكلت بعد الانسحاب الاستعماري هي
نفسها الأوضاع الموجودة الآن كما أسلفنا.. ويتأكد هذا الواقع أكثر فأكثر في
المجالات التعليمية، والثقافية. فبعد أن تم التكالب والسيطرة الأوروبية على هذه
الدول كانت المحصلة النهائية هي فرض ثقافة موحدة على هذه الدول، شأنها في
ذلك شأن الأوضاع السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، وبالرغم من أن أثر هذا
الفرض ودرجته قد اختلفت من بلد إلى آخر، ومن نوع حكم استعماري لآخر؛ إلا
أن العناصر الأساسية بقيت قائمة ومنسجمة؛ ذلك أن تلك الدول تنهل من الحضارة
ذاتها، ومن معين الثقافة نفسها، ولكن الذي يجب ألا ننساه في الوقت ذاته تلك
المبالغات في تعميم تأثير تلك الثقافات على دنيا سكان القارة من بعض الكتاب في
الشؤون الإفريقية؛ فبالرغم من تطابق التجربة التي خاضتها المجتمعات الإفريقية
في كل مكان؛ يبقى تأثير الثقافات الأوروبية وأفكارها عشية الاستقلال مقصوراً
على جزء صغير من السكان في أي بلد، وهي المجموعة الصغيرة التي وجدت
هويتها مع القيم الثقافية للنظم الاستعمارية والتي تدّعي بأنها (النخبة التي قبلت
الإيديولوجية الغربية، واندمجت مع سياسة الاستيعاب) .
أما الجماهير الريفية والتي نكاد نجزم أنها مسلمة في أكثر المناطق فقد رفضت
الاستيعاب وقاومته، وهي تشكل (80%) من السكان الإفريقيين الذين لم تمسهم تلك
المؤثرات الغربية الأوروبية [8] .
فتأثير الثقافات الغربية الوافدة على مستوى القارة الإفريقية غير متوازن؛ فمن
البلدان من استجاب نسبياً لهذه الثقافات، ومنها من حاربها وقاومها مقاومة شديدة،
وفي شرق إفريقيا وغربها؛ حيث دخل الإسلام ولعب دوراً هاماً؛ إذ استطاع
المسلمون أن يغيروا الكثير من
المفاهيم القديمة لتحل محلها المفاهيم الإسلامية والقيم الروحية التي من شأنها
أن تسمو بالإنسان، وترفع من شأنه ومستواه في عدة مجالات؛ لذلك فإنه عندما
وفدت الثقافات الغربية، والتيارات الفكرية الأخرى لم يكن من السهل عليها أن تجد
الطريق ممهداً أمامها كي تؤثر على هؤلاء الذين عرفوا المنهج الإسلامي والتربية
الإسلامية الصحيحة، فقاوموا كل تيار وافدٍ عليهم، وظل الإسلام ينتشر في ربوع
القارة، ولكن ذلك لا يعني أن غيرهم لم يتأثروا بالأفكار الغربية وقيمها وثقافتها فيما
بعد بشكل مطلق؛ ذلك لأن المستعمر استعمل شتى الوسائل والطرق والأساليب
المتنوعة لفرض قيمه الثقافية والفكرية، ولم يجد المسلمون بُدّاً من التأثُّر بالواقع المفروض، فانخرطوا مع تلك القيم، وقبلوا الثقافة طوعاً أو كرهاً كأمر واقع، ولم يحسنوا التعامل معها فانعكست النتائج عليهم سلباً، وأثرت في سلوك كثير منهم من حيث الوعي، وما عادوا يحملون من الفكر الإسلامي الصحيح إلا قليلاً، وأصبح حالهم كحال غيرهم من مجتمعات دول العالم الإسلامي؛ وهذا الواقع يستلزم اتخاذ خطوات جادة ومدروسة.
__________
(1) مقدمة في الصحافة الإفريقية عواطف عبد الرحمن سلسلة كتب إفريقيا ص 92 97.
(2) راجع بنود ذلك القانون وتفاصيله في كتاب (إفريقيا فصول من الماضي والحاضر) ، لطاهر أحمد ص 200، 204.
(3) إفريقيا والعلاقات الدولية، عبد العزيز رفاعي، ص 233 237، دار الثقافة بالقاهرة وانظر: (إفريقيا دراسة في شخصية القارة وشخصية الأقاليم) لمحمد عبد الغني سعودي.
(4) (الاستعمار الجديد آخر الإمبريالية) لكوامي نكروما، ترجمة: عبد الحميد بدوي، القاهرة، دار القاهرة للطباعة والنشر 1966م، ص 15.
(5) فهيئة الطاقة الذرية الفرنسية مثلاً تسيطر على معظم إنتاج (اليورانيوم) في النيجر؛ فعلى هذه الدول على الأقل تصحيح علاقاتها مع الدول الأوروبية؛ لأن قطعها في ناحية من النواحي يعني استعجال موتها وزوالها في ظل الأوضاع الدولية المتغيرة، وفي ظل الأنظمة السياسية القائمة فيها فعلى سبيل المثال يلاحظ مدى انخفاض المساعدات الأوروبية لهذه الدولة وتحويلها إلى أوروبا الشرقية، بل لم يكن أحد يتوقع تخلي فرنسا بهذه السرعة عن مجموعة منطقة (CAF) بعد ضغوط أمريكية متكررة، فانخفضت قيمة (السيفا) في 11 يناير 1993م ولا أحد يتكهّن بالإجراءات التي ستتبع هذا الانخفاض، ولا ماذا تنوي هذه الدول فعله إزاء اقتصادياتها مستقبلاً فالأوروبيون يؤكدون عزمهم على عدم تحمل أي مسؤولية تجاه هذه القارة واسترعى ذلك انتباه السيد ميشيل كمدسوس المدير العام لصندوق النقد الدولي وأكد بأن إفريقيا (قارة ضائعة) انظر: لوموند ديبلوماتك العدد 62H، مايو/أيار 1994م، السنة الثالثة ص 8.
(6) The Washington Post , February, 8, 4991, P 1.
(7) عصام الدين جلال التنمية التكنولوجية كقاعدة أساسية للتحرر والأمن الإفريقي، السياسة الدولية، العدد 79 يناير 1985م، ص 96 عبد المنعم المشاط، دراسة أصول ظاهرة التخلف في العالم الإسلامي، السياسة الدولية، العدد 99 يناير 1990م، ص 640 وما بعدها.
(8) ياني أويس، الأمن الإفريقي آثار القيود الاجتماعية والاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، السياسة الدولية، العدد 79 يناير 1985، ص 89 90.
(9) عاطف محمود عمر، العلاقات الثقافية بين مصر والدول الإفريقية، المرجع السابق، ص 13 14.(147/94)
المسلمون والعالم
المسلمون في حوض البحر الكاريبي
محمد عبد الجبار
المسلمون فئات يعمل كثير منها لقوميته أكثر من دينه فهذا سر ضعفهم
الأحوال الشخصية بين المسلمين لا سيما الجيل الجديد لا تحترم قيم الإسلام، ومن
هنا نشأ الاضطراب الاجتماعي بينهم يمكن تقسيم أقاليم حوض الكاريبي إلى ثلاث
فئات رئيسة حسب قوتها العددية، وتطورها التنظيمي، وحال المجتمع المسلم فيها: ...
الفئة الأولى تشمل: ترينداد وغويانا، والمسلمون هنا منظَّمون ويمثلون
مظهراً للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
الفئة الثانية وتشمل: الأقاليم التي ظهر فيها الإسلام بطريقة طبيعية خلال
العقدين الماضيين؛ ويتنامى فيها عدد المسلمين تدريجياً وهي:
جمايكا، باربادوس، جرينادا.
الفئة الثالثة تشمل: أقاليم فيها تنظيم للمسلمين الجدد، وفيها مؤسسات إسلامية
قد تكون موقعاً واحداً في كل من: دومينكا، سينت لوسيا، سنت فنسنت، برمودا،
انتيجوا برمودا، جزر العذراء البريطانية، مونتيسرات.
ويتناول هذا المقال بالتفصيل الفئتين: الأولى، والثانية.
- ترينداد وتوباغو:
تتكون جمهورية ترينداد وتوباغو من: ترينداد والجزر الواقعة في أقصى
جنوب الكاريبي، والمناخ هنا استوائي، وفصل الجفاف يمتد من يناير إلى مايو،
أما اللغة الرسمية فهي الإنجليزية وهي الغالبة، بينما هناك من يتحدثون الفرنسية
والأسبانية والهندية والصينية.
نبذة حول تاريخها الحديث:
استعمر الأسبانيون ترينداد عام 1532م؛ ولكنهم تخلوا عنها للإنجليز في عام
1802م. وقد جرى ترحيل الأفارقة إلى الجزيرة ليعملوا رقيقاً حتى عام 1834م؛
حيث أُلغي نظام الرق، وقد أدى نقص العمالة إلى وصول أعداد كبيرة من الهنود
والصينيين المهاجرين عمالاً بعقود لأجل محدد خلال القرن التاسع عشر.
في عام 1888م انضمت إليها جزيرة توباغو التي كان قد جرى تسليمها
للإنجليز عام 1814م، وأصبحتا وحدة سياسية وإدارية واحدة، وظلت المنطقة
مستعمرة بريطانية حتى الاستقلال في 31/8/1962م، وكان أول حزب سياسي
جرى تأسيسه هو (حركة الشعب الوطنية) PNM وكان ذلك في عام 1956م على
يد مؤسسه د. إريك ويليامز، وقد نجح الحزب في الفوز بعضوية المجلس
التشريعي في سبتمبر 1956م، وأصبح د. ويليامز الوزيرَ الأول للمستعمرة في أكتوبر 1956. وفي عام 1958 أصبح الإقليم عضواً في اتحاد الهند الغربية الذي جرى تأسيسه، وفي العام التالي حصل على الحكم الذاتي الكامل؛ حيث أصبح د. (ويليامز) رئيساً، وفي عام 1967م أصبحت ترينداد وتوباغو أول عضو من الكومنولث في منظمة الدول الأمريكية، وقد أدت السياسات الاقتصادية الصارمة لخلفه (جورة شامبرز) إلى عدم الاستقرار في البلاد، ومن بين تلك الاضطرابات إضراب عمال مصفاة البترول في مايو 1984م.
وفي الانتخابات التالية في عام 1986م فاز الحزب الآخر NAR؛ حيث
حصل على 66% من مجموع الأصوات وعلى 33 مقعداً من أصل 36 من مقاعد
مجلس النواب، وتم تعين روبنس رئيساً للوزراء، وفي مارس 1987م تولى
القاضي السابق (نور حسن علي) الرئاسة بعد تقاعد السيد إليس كلارك.
في 27 يوليو 1990م حاول بعض أعضاء (جماعة المسلمين) وهي جماعة
صغيرة يقودها ياسين أبو بكر الاستيلاء على السلطة فدمروا رئاسة الشرطة في
العاصمة، واستولوا على مبنى البرلمان وتلفاز الدولة، وحجزوا 45 شخصاً رهائن
من بينهم رئيس الوزراء روبنسن وبعض الوزراء وكانت مطالبهم هي استقالة
رئيس الوزراء، وإجراء الانتخابات خلال 90 يوماً، ومنح العفو للذين قاموا
بالمحاولة الانقلابية.
وفي أول أغسطس 1990م استسلم أصحاب المحاولة دون شرط، ورُفض
العفو الذي منحه لهم رئيس مجلس الشيوخ (جوزيف أمانويل كارتر) بوصفه رئيس
الدولة بحجة أن ذلك العفو جرى تحت التهديد. وأدين (أبو بكر) وزملاؤه بالخيانة
العظمى؛ حيث كان قد قُتل حوالي 30 شخصاً، وأصيب حوالي 500 شخص
خلال تلك الأيام الخمسة.
وفي الانتخابات التي جرت في ديسمبر 1995م فاز حزب المؤتمر الوطني
الموحد، والمسلمون الذين فازوا في الانتخابات المذكورة هم: د. رضا محمد، د.
فؤاد خان، رزاق علي، د. حمزة رفيق، وقد حصلوا جميعاً على مقاعد وزارية
عدا د. فؤاد خان. وكانت رئاسة الوزارة للسيد بانداد.
حال المسلمين اليوم:
يعيش المسلمون في بيئة مختلطة لا في مجتمعات خاصة بهم، ويشكلون
حوالي 6 أو 8% من إجمالي عدد السكان الذين بلغ تعدادهم مليوناً ومائتي ألف
نسمة سنة 1401هـ 1981م.
وصل المسلمون الأفارقة إلى ترينداد وتوباغو قبل الهنود المسلمين بحوالي
قرن من الزمان، وعلى أي حال، فإن عدد المسلمين الهنود يفوق عدد المسلمين
الأفارقة في الوقت الحالي بنسبة 20: 1.
وحرية ممارسة الإسلام منصوص عليها في الدستور، وتمنح القوانين السارية
الحق للمسلمين في ممارسة أسلوبهم في الزواج، والمنظمات الإسلامية تشملها
القوانين السارية، وتجد مجالس المدارس الإسلامية الدعم الحكومي؛ كما أن
المسلمين أنفسهم يحتلون مواقع مهمة في الحكومة والجامعة والقضاء.
ومن الوزراء المسلمين: السيد كمال الدين محمد، والسيدة موريل فاطمة
دوناوا ماك ويفدسون، صافي شاه، شمس الدين محمد، كما أن حفيظة خان كانت
عضواً في البرلمان. كما عمل يوسف جمال رحمه الله مدعياً عاماً. وهناك أسماء
أخرى كثيرة عملت في وظائف حكومية في البرلمان الذي كان يرأسه لمدة 15
عاماً. د. وحيد علي وقد ترأس الحكومة في عدد من المناسبات.
وفي الوقت الحاضر يتولى القاضي شفيع شاهد، والقاضي كليم رزاق،
والقاضي زينول حسين، والقاضي مصطفى إبراهيم عضوية محكمة الاستئناف،
وهناك غيرهم في الهيئة القضائية، أما الرئيس الحالي لجمهورية ترينداد وتوباغو
هو القاضي حسن علي.
ومنذ الستينيات ومع افتتاح الجامعة كان حضور المسلمين واضحاً كبقية
الأديان، وهناك حوالي 200 طالب من المسلمين في الجامعة، وللأساتذة المسلمين
دور واضح في الجامعة ومن بينهم د. نظير مصطفى (الرئيس الحالي لاتحاد
مسلمي ترينداد) . وهناك الجمعية الإسلامية في الجامعة وقد أنشئت عام 1969م،
وهي جمعية نشطة للغاية؛ حيث تجتمع أسبوعياً. وبالإضافة إلى صلاة الجمعة
فهناك دروس إسلامية ومحاضرات عامة، واحتفال بالتخرج، وعرض المطبوعات
الإسلامية في مكتبة الجامعة خلال شهر رمضان على الأخص، ويرتبط كل العاملين
في الدولة أو القضاء أو الجامعة بالعمل الإسلامي سواء على مستوى المؤسسات أو
المنظمات أو الجماعات المحلية أو على المستوى التنظيمي. ويدل هذا على حرص
المسلمين على مكانتهم؛ حيث يظهر صوتهم في تسيير شؤون البلاد.
حرية التعبير:
أول محاولة لإذاعة إسلامية قامت بها (رابطة البعثات الإسلامية) التي
تأسست في أوائل الستينيات بقيادة محمد قمر الدين حسين، ويوسف متشل، ولم تكن
توجد موارد لتغطية نفقات البث في إذاعة ترينداد ولو لمدة نصف ساعة (75
دولار) ، فتقدمت امرأة مسلمة مسنة بتبرع ساعد على ذلك، وكان للبرنامج صدى
طيب في ترينداد والكاريبي عموماً، واستمرت الدعوة لعدد من السنوات في شهر
رمضان عبر التلفزيون والراديو وكذلك في مناسبات مثل: عيد الفطر، وعيد
الأضحى. وفي الوقت الحاضر يوجد 6 برامج إسلامية تُبَثُّ أسبوعياً عبر الإذاعة
ينظمها عدد من المنظمات الإسلامية ويرعاها رجال أعمال مسلمون، وتشمل
قراءات من القرآن الكريم مع ترجمة لمعانيه، إضافة إلى برامج دعوية وبعض
الأناشيد.
وهناك فرصة لنشر الآراء الإسلامية عبر الصحف وإن كانت مثل غيرها في
جميع وسائل الإعلام نادراً ما تظهر دون تحرير. ووسيلة الإعلام الوحيدة التي
يملكها المسلمون هي: (اقرأ برودكشنز Iqra productions) التي أسستها
فاضلة خان وزبار بخش عام 1988م.
ومنذ عام 1987م يظهر صباح كل سبت (أضواء على الإسلام) وهو برنامج
مدته نصف ساعة، وتواصل ذلك حتى يوليو 1991م، وهي وسيلة إعلانية
إلكترونية، وكان رجال الأعمال يتبرعون للبرنامج، وكثير من المنظمات الإسلامية
ظهرت في مجال إنتاج اللوحات، وقد بلغت قيمة الإعلانات 3000 دولار للبرنامج
الواحد مما قاد إلى نجاح ملحوظ.
وقد تم تسجيل البرنامج على شرائط بواسطة تلفزيون ترينداد وتوباغو وهي
مؤسسة غير إسلامية وعلى أي حال فقد استطاع المسلمون بعد تجميع الأموال شراء
معداتهم الخاصة بهم بقيمة 70.000 دولار وأسسوا الأستديو الخاص بهم. وقد
توقفت البرامج التلفزيونية مؤقتاً بسبب التمويل.
وهناك حاجة إلى موظفين دائمين؛ لأن المتطوعين يعملون نصف دوام، وكل
الأعمال تحتاج إلى دوام كامل لتحقيق الأهداف، والبرنامج يواصل تسجيل تاريخ
الإسلام في الجزيرة من الأشخاص كبار السن وهو عمل قائم بذاته ونأمل أن يعود
عمل البرنامج على الهواء، وقد علمت من الأخ ميرزا أنهم تبنوا المشروع لإعادته
لسيرته الأولى. وتحتكر إحدى الجماعات الهندية المسلمة المعروفة برنامجاً إذاعياً
وتلفزيونياً في ترينداد وتوباغو؛ ولكن الهدف الرئيس على الرغم من أن البرنامج
يبدأ بآيات قرآنية ليس نشر الإسلام بل توحيد الهنود من مسلمين وهندوس، وهو
برنامج جاذب للشباب من الجنسين ويلقى رواجاً رغم أنه ومع الأسف يضعف
الروح الإسلامية فيهم.
النساء في ترينداد حصلن على التعليم الأكاديمي بعد تأخر طويل، وقد تأثرن
بطريقة الطهي الهندية وحتى الملابس الهندية، ولكن من خرجت منهن للعمل بدأت
تترك الملابس الطويلة وتلبس كما يلبس الغربيون، وإن كانت الروح الإسلامية قد
عادت مرة أخرى، وعادت النساء إلى الزيِّ الإسلامي.
الزواج وتعدد الزوجات:
كان الآباء يتولون تزويج ذريتهم لسنوات مضت؛ ولكنْ تأثراً بالنمط
الأمريكي فقد أصبح الاختيار ملكاً للمعنييْن بعد أن يلتقيا ويقررا ذلك، وهكذا نجد
بعض التقاليد الغربية قد تسللت إلى المجتمع المسلم خصوصاً بين المتعلمين. ولكن
لا تزال الأسرة والبنات اللائي يلبسن الحجاب ينظرن إلى اللقاءات خارج الأسرة
بأنها سلوك غير إسلامي، ولا يزال بعض الأزواج الجدد يسكنون في منزل الأسرة
حتى يجد المتزوِّجون عملاً وتتحسن
ظروفهم الاقتصادية فيستقلون بمنازل تخصهم. وقد يكون أوضح ما يُظهر
عدم الطبقية في المجتمع المسلم هو الزواج؛ حيث إن الأغنياء يوافقون على زواج
بناتهم من أبناء الأسر الفقيرة إذا كان الزوج يتمتع بشخصية جيدة ويمارس الإسلام.
وحتى عام 1963م لم يكن المهر يزيد عن 250 دولار، ولكنه في الوقت
الحاضر وصل إلى أضعاف مضاعفة، ويظل الوضع يعتمد على الحالة الاقتصادية
للزوج، ويوجد تعدد الزوجات في أوساط (جماعة المسلمين) .
الطلاق:
يُمارَسُ الطلاق عبر (محكمة طلاق المسلمين) التي أنشئت عام 1961م،
وهي تمارس توجيه النصح وتقديم الاستشارات وتنفيذ الطلاق، ولكن مسائل النفقة
وما إلى ذلك من توزيع للممتلكات أو نحوه فيتم على مستوى المحكمة العليا حسب
القانون المدني. أما التزام الزوجين بالوفاء بالمتطلبات الشرعية فهي تعتمد كثيراً
على مدى اتباعهما للمبادئ الإسلامية.
وتفيد (محكمة طلاق المسلمين) أنها تعالج حوالي 20 حالة في كل شهر،
ولكنها تؤكد أيضاً أن 90% من الزيجات غير الناجحة هي بسبب زواج بين
مسلمين وغير مسلمين؛ حيث تنشأ النزاعات بسبب المخدرات أو الكحول،
ويستوي الرجل والمرأة في طلب الطلاق.
وتتكون هذه المحكمة من: رئيسٍ، ومحامٍ (مدعٍ عام) ، وسكرتير، وعضوين
يوضحان الحكم الإسلامي في الموضوع المعروض.
المشكلات الاجتماعية:
تنشأ معظم المشكلات الاجتماعية بسبب المخدرات والكحول والعري
والسلوكيات الإجرامية، ويتعرض المسلمون لمثالب المجتمع الذي تتفشى فيه هذه
الأشياء، وبفضل من الله أخذ الوعي ينتشر بين المسلمين، ولا يعني هذا عدم
تأثرهم؛ فمنهم كثير يصيبهم ما يصيب الآخرين؛ ولكن لا توجد إحصائية تقول
بأنهم أكثر من غيرهم. ويساهم وجود المنظمات الإسلامية في الجزيرتين في شغل
أوقات الشباب مما يساعد على ابتعادهم عن هذه
الأجواء بدرجة كبيرة.
المجتمع الإفريقي المسلم:
معظم الأفارقة هنا يعتبرون أنفسهم (عائدين) للإسلام باعتباره دين أجدادهم
أو دينهم في الصغر. وكانت توجد شكوكٌ بينهم وبين المسلمين الهنود لظن الآخرين
أن الأفارقة يدخلون الإسلام بغرض الزواج من بناتهم أو طمعاً في ثرواتهم، ويعود
هذا إلى الجهل وعدم الإلمام بتعاليم الإسلام والفهم الصحيح للدين. أما الآن فقد
تلاشت إلى درجة كبيرة هذه الشكوك، وبدا واضحاً الاندماج بين المسلمين.
ويعود الوضع الاقتصادي المتردي للأفارقة المسلمين لأسباب طردهم من
عائلاتهم، وللأسف، فإنه لا يوجد صندوق أو آلية اقتصادية تساعدهم على الاعتماد
على أنفسهم حتى لا يعودوا إلى الجاهلية، وكثير من هؤلاء وبسبب جهلهم يعتقدون
أن الإسلام هو الشيوعية وأن ما عند المسلمين يجب أن يكون مشاعاً بين الجميع،
فإذا توافرت وسيلة لدعمهم بالتعليم أو توفير فرص العمل لهم فإن ذلك الجهل سوف
يزول إن شاء الله ويفهمون الإسلام على حقيقته.
ظهرت جماعة (أمة الإسلام) في عقد الستينيات والتي تحولت إلى (المجتمع
العالمي المسلم) بقيادة إليجا محمد في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تركز
على الحقوق المدنية، وقد ظهر لها فرع في لافانتيل ترينداد وكانت دعوة عرقية
أكثر من أن تكون دينية، وانضم إليها السود المطالبون بالحرية، ثم تطور الأمر
إلى صراع على السلطة انقسمت بموجبه الجماعة إلى: أوزكانوك أآرت (جماعة
المسلمين) و (جماعة المؤمنين) .
إن إظهار الإسلام (الهندي) قاد تلقائياً إلى شعور بالعزلة لدى المسلمين
الأفارقة؛ لأن البرامج في الإذاعة تقدم على أنها برامج هندية مما جعل الإسلام
يعرف (بالهندي) .
وعلى أي حال فإن في ترينداد أكبر جالية مسلمة في الكاريبي، وأكبر
المنظمات والهيئات والمؤسسات الإسلامية والجماعات التي أثرت على حياة المجتمع
المسلم بدرجة جيدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين الجمعيات الخيرية الإسلامية الكثيرة من فتح
مشاريع تنمية وتوعية للمسلمين في هذه المناطق؟ فهم أحوج ما يكونون لها حتى لا
تتلاشى دعوة الإسلام القائمة بالجهود الفردية المحدودة التي يُخشى أن تموت بموت
المتابعين لها إلا أن يشاء الله غير ذلك.(147/102)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
نار الحقد في.. نيا كروم
لقد جرت سنة الله تعالى أن الصراع قائم والخلاف دائم بين أهل الحق
وأنصار الباطل الذين ما فتئوا يوجهون سهامهم لحرب أهل الإسلام باذلين الغالي
والنفي مستخدمين في ذلك شتى الحيل والأساليب.
لكن لا بد لأهل الحق من تعاون وتآزر وتكاتف حتى يتحقق موعودهم
ويحصلوا على مجدهم. وكان من آخر ما شهدنا من هذه الصراعات والابتلاءات ما
وقع لإخواننا المسلمين في دولة غانا منطقة نيا كروم من اعتداء غاشم آثم من قبل
النصارى المعتدين الذين تمالأت معهم حكومة عابثة أغرتهم بترويع الآمنين وهتك
ستور المظلومين. تقع مدينة نياكروم في الإقليم الأوسط لدولة غانا، وهي تبعد
حوالي 60كم عن العاصمة أكرا.
يقطن هذه المدينة 3000 نسمة من المسلمين، وأكثرية السكان من النصارى
والوثنيين البالغ تعدادهم 18.000 نسمة.
ومن عادة الحكومة أن تنظم منافسات رياضية بين مختلف المدارس يشارك
فيها طلاب جميع المراحل. وفي عصر يوم الجمعة الموافق 4/8/1420 هـ
أقيمت منافسة رياضية بين مدرسة المسلمين ومدرسة الكنيسة، فتفوق المسلمون في
هذه المنافسة، فاشتعلت قلوب الكفار حنقا وغيظا، واستغلوا هذه الفرصة وجعلوها
بداية الشرارة لإيذاء المسلمين إضافة إلى ما يبطنونه من عداوة وشر، وإلا فالحدث
أقل من عادي في أي منافسة بين طلاب المدارس، لكنه الكفر الظالم والحقد الأعمى.
وفي ليلة السبت أضمر الخبثاء الشر والسوء وتواطؤوا على الفساد ودبروا
أمرهم وأجمعوا شركاءهم، فاشتروا كميات كبيرة من البترول ووضعوها في قوارير
وجوالين وقرعوا طبول الحرب بأمر ملكهم الظالم استعدادا للهجوم الصباحي،
فاجتمع الأوغاد وشنوا هجمة بربرية على الآمنين في البيوت والعاكفين في المساجد
وكانوا مدججين بالسلاح الناري والأبيض حاملين قوارير البترول، وقاموا بتهديم
البيوت المتاجر وأحرقوها بالنار بما فيها ومن فيها، كما بلغ الكيد مداه والسيل زباه
عندما قاموا بتحريق وتمزيق المصاحف وهدم المساجد ودنسوا حرمة المساجد
برجيعهم. مزقهم الله وشردهم.
مكتب المنتدى الإسلامي غانا
وأخرى في كشمير
أعلنت لجنة تقصي الحقائق حول أوضاع حقوق الإنسان في كشمير التابعة
للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن القوات الهندية قتلت 65 ألف مدني بين عامي
1990م و1998م وأجبرت كثيرين من السكان والأهالي على النزوح والهجرة من
ديارهم، مصيفة أن هذه القوات أقامت كذلك 63 مركزا للتعذيب، وأن الجيش
الهندي يمارس أسوأ ألوان التعذيب ضد المدنيين في كشمير.
مجلة المجتمع العدد: 1381
إن تنصروا الله
نحن نملك سلاحا لا تملكه الدول الكبرى، وهذا السلاح هو الإيمان بالله جبار
السموات والأرض، وهذا السلاح كاف لحسم المعركة إذا بذلنا ما نستطيع من
أسباب القوة المادية والله يقول [إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف
من الملائكة مردفين] [الأنفال: 9] ويقول [ولله جنود السموات والأرض]
[الفتح: 4] ويقول [وما يعلم جنود ربك إلا هو] [المدثر: 31] ، ومع قلة عددنا في ميدان المعركة إلا أننا واثقون من وعد الله [كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين] [البقرة: 249] فحينما يأذن الله بهزيمة الروس سنهزمهم ولو كانوا أكثر عددا من ذلك.
القائد الشيشاني، شامل باساييف،
جريدة الشعب، العدد 1422
قول معروف خير من.. الأذى
إنني أوكد أن هذه الحرب في الشيشان ليست حربا دينية، فالسبب الرئيس
لهذه الحرب هو خط النفط من باكو إلى ميناء نوفورسيسك الذي يمر عبر جورجيا،
حيث يتم نقله إلى الغرب بواسطة الناقلات. كما أن هناك أسبابا مساعدة تتمثل
برغبة بعض الجهات السياسية المتنفذة داخل وخارج روسيا بإبقاء التوتر في روسيا
وإشاعة عدم الاستقرار فيها. فهناك الملياردير اليهودي الذي يحمل الجنسية
المزدوجة (روسية إسرائيلية) وهو بيروزيفسكي الذي يمد باسييف بالمال لإشعال
الصراع، وهناك رئيس جورجيا شيفارد نادزه الذي يعمل على تدريب المسلحين في
معسكر على الحدود (الأذربيجانية الشيشانية) المشتركة للقيام بعمليات ضد روسيا.
الشيخ محمد علي خوض، مساعد المفتي الأعلى لروسيا،
جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7680
أصحاب الفضيلة
قال نائب حزب الفضيلة الإسلامي التركي باش أكمز: (كنا نردد حتى الأمس
القريب: الموت لأمريكا.. الموت ل (إسرائيل) ، ولكننا نجد اليوم بأن منظمة
التحرير الفلسطينة التي حاربت إسرائيل عشرين عاما عدت اليوم لتقبل بالتعايش
سلميا مع الإسرائيليين. ولذلك فإنني أعلن من هنا بأن حزب الفضيلة قد تخلى عن
سياسة معاداة إسرائيل) .
وعلق نائب آخر للحزب وهو ساجد غونباي، فقال: أما علاقاتنا مع:
إسرائيل فستكون علاقة الند بالند. وإن حزبنا ليس ضد اليهود، حتى إن ستة
أعضاء من حزبنا قد انضموا إلى مجموعة الصداقة الإسرائيلية التركية البرلمانية
المؤلفة من 70 عضوا، كإعلان عن زوال حقدنا على إسرائيل.
وكان زعيم المعرضة رجائي فوطان قد أكد عشية زيارته إلى واشنطن في
بداية نوفمبر 1999 بأن حزبه ليس معاديا ل (إسرائيل) وإنما يحبذ إقامة العلاقات
التجارية والاقتصادية معها، كما أنه سوف يجتمع باللوبي اليهودي في واشنطن،
من أجل تطوير العلاقات معه.
جريدة الشرق الأوسط، العدد 7689
اللهم لا تجعله رئيسا! !
عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة، سأعطي رئيس وزراء إسرائيل إيهود
باراك كل الدعم لينفذ سياسته، فهذا الرجل قائد كبير وجدي، ويستحق كل دعم.
هذا ما قاله جورج بوش الابن نجل الرئيس الأمريكي السابق في تصريح نشرته
صحيفة هآرتس الإسرائيلية وقال بوش: بلادكم رائعة، إنها الدولة الديمقراطية
الوحيدة في الشرق الأوسط، وسأعمل على تعزيز العلاقة معها وتعزيز أمنها؛ فهذا
فيه مصلحة عليا للولايات المتحدة! !
جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7655
وما هي من الظالمين ببعيد
قدر مسؤولو الجفع المدني في فنزويلا عدد القتلى بنحو 30 ألفا وعدد المنازل
التي تهدمت بنحو 23 ألفا وعدد المشردين بنحو 140 ألفا في واحدة من أسوأ
الكوارث التي تشهدها أمريكا اللاتينية.
ودفن معظم الضحايا تحت أطنان من الأوحال والصخور انحدرت من سفوح
سلسلة جبال أفيلا مع هطول أمطار غزيرة على ساحل فنزويلا المطل على البحر
الكاريبي، وأدت السيول والأوحال وفيضانات الأنهار إلى دفن مدن بأكملها تحت
الوحل والحجارة والأنقاض. وقال مسؤولون حكوميون: إن إعادة الإعمار ستتكلف
مليارات الدولارات وستستغرق عدة سنوات.
إن المساحة التي ضربتها الفيضانات تقارب 45 ألف كيلو مترا مربعا (نحو
أربعة أضعاف مساحة لبنان) وإن شكل السواحل تغير في أماكن كثيرة وإن سيل
الوحول والصخور العملاقة المنحدرة من الجبال اندفع على امتداد الشواطئ بعمق
يراوح بين 200 و 300 متر داخل البحر.
وأضاف أن هناك نهرا بعرض ثلاثة كيلو مترات تقريبا وطول ثمانية كيلو
مترات في منطقة كواليه السكنية السابقة مليء بالصخور العملاقة وكتل الأحجار
والوحول. وقال: لا أذكر أني رأيت في حياتي كتلا صخرية وصخورا منفردة بهذا
الحجم الهائل. وكلها قد اقتلعتها السيول الطاحنة التي غيرت معالم كثير من المناطق
في شكل مذهل.
جريدة الحياة، العدد: 13439
يسارعون فيهم
ذكرت مصادر اقتصادية أن عددا من الأثرياء العرب بدؤوا يقومون باستثمار
جزء من أموالهمداخل الكيان الصهيوني. وأشارت المصادر إلى أن قيمة الأراضي
والعقارات التي يتملكها أثرياء عرب في إسرائيل تبلغ حاليا نحو مليار ونصف
المليار دولار.
وأكدت المعلومات أن هذه الحركة ما زالت حتى الآن تأخذ طابع السرية حيث
يقوم الأثرياء العرب بتوكيل ببعض الشخصيات المعروفة في أوروبا للقيام بهذه
المهمة وذلك خوفا على استثماراتهم في البلدان العربية.
وتقول المصادر: إن اتفاقا تم بين الحكومة الإسرائيلية وهؤلاء المستثمرين
وافقت بمقتضاه الحكومة الإسرائيلية على منح العديد من المزايا الاقتصادية
والضريبية لهؤلاء المستثمرين العرب. وأشارت المصادر إلى أن هؤلاء
المستثمرين أغلبهم من دول الخليج العربي بالإضافة إلى بعض الأثرياء المصريين
والأردنيين. وتتوقع المصادر أن يتم الكشف عن استثمارات عربية تزيد قيمتها
على 3.5 مليار دولار في إسرائيل في أعقاب إقامة العلاقات الدبلوماسية بين
إسرائيل وبعض الدول التي ينتمي إليها المستثمرون العرب.
جريدة الأسبوع، العدد148
يمدونهم في الغي
قال جون قرنق: إن موافقة الكونجرس الأمريكي على مشروع قانون بإرسال
معونات غذائية إلى الجيش الشعبي لتحرير السودان ستعزز قدراته العسكرية من
خلال إتاحة الفرصة أمام القادة لحشد أعداد أكبر من المقاتلين. وأضاف في مقابلة:
سنتمكن من تركيز أعداد أكثر في وحدات أكبر، فالتركيز من مبادئ الحرب؛ إذا
ركزت قوتك البشرية أو النيرانية فستحقق نتائج أفضل.
وكان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قد وقع على المشروع الذي مرره
الكونجرس قانونا.
جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7682
ويأتيك بالأنباء هارب
اعتبر الناطق باسم حركة الضباط الأحرار الكولونيل ت. علي المنشق عن
الجيش الجزائري في مقابلة نشرتها صحيفة لوموند أن من بين ال1300 إسلامي
التائبين الذين سلموا أنفسهم إلى السلطات أكثر من 700 ضابط اخترقوا صفوف
الجماعات المسلحة.
وأفاد الضابط الذي التقته لوموند في ضاحية مدينة أوروبية كبيرة أن من أصل
1300 إرهابي سلموا أنفسهم حتى الآن في إطار قانون الوئام المدني يمكنني أن
أؤكد لكم أن أكثر من 700 منهم ضباط اخترقوا صفوف الجماعات الإسلامية،
وتلقوا الأوامر بالعودة إلى ثكناتهم.
وجدد اتهاماته للجيش الجزائري الذي تعتبره حركة الضباط الأحرار مسؤولا
عن جزء من أعمال العنف في الجزائر.
وقال هذا الضابط: يتم توقيف إرهابيين إسلاميين خلال عمليات التمشيط التي
تقوم بها قوات الأمن ويتم احتجازهم وتعذيبهم ثم يجري إلحاقهم بوحدات الكوماندوز
التابعة للجيش ويكلفون عمليات ذبح في مسقط رأسهم، وأؤكد لكم أنهم تحت التهديد
عندما يطلب منهم القيام بعمليات ذبح فإنهم يذعنون.
وأفاد الكولونيل ب. علي أيضا أن وحدة خاصة من الجيش يطلق عليها اسم
وحدة 192 ترمز إلى تاريخ كانون الثاني يناير 1992م عندما ألغى الجيش
الانتخابات التشريعية شكلت لإقناع العسكريين الذين يعارضون سياسة الجنرالات
الجزائريين، ويبدو أن هذه الوحدة التي وصفتها صحيفة لوموند بأنها كتيبة الموت
تضم نحو 200 عنصر. وأوضح الكولونيل ب. علي أن عددا من أعضاء حركة
الضباط الأحرار أعدموا في الجزائر بسبب انتمائهم إلى هذه الحركة لا سيما في
منطقة القبائل.
جريدة الحياة، العدد: 13411
حلم علماني
كان حلما شبه طوباوي أن يتفق العرب على العمل معا في إعداد كتب إبداعية
معاصرة وتمويلها وتوزيعها مجانا في المنطقة العربية بكاملها. الخطوات الأولى
كانت صعبة وشاقة، أما اليوم وبعد مرور أربعة أعوام عامين في التحضير،
وعامين في الإنتاج فبوسعنا القول: صار للعرب تحت رعاية منظمة اليونسكو
صرح مشترك اسمه كتاب في جريدة المشروع تمرين وحدوي ثقافي، من الطراز
الأول، منذ 24 شهرا يقرأ العرب في الأربعاء الأول من كل شهر كتابا مجانيا
بمعية كبريات الصحف العربية، كل في بلده، حيث يوزع شهريا أكثر من مليونين
ونصف مليون كتاب مخرجة بشكل جديد ومزينة برسوم كبار الفنانين. وقد بلغت
أعداد هذه الكتب الموزعة أرقاما مذهلة: خمسين مليون كتاب موزع حتى الآن.
إن نجاح هذه التجربة يشكل أساسا لمنطلق ثقافي على أبواب الألفية الثالثة
نحن بأمس الحاجة إليه، وهو كسر الحواجز أمام وصول الكتاب العربي إلى قرائه
، والوقوف بوجه حالة الانحسار والتردي في العلاقة مع الكتاب. فقد وصلت أرقام
الإحصاءات إلى درجة كارثية: ما يستهلكه العالم العربي بأجمعه من ورق لصناعة
الكتب لا يوازي ما تستهلكه دار نشر فرنسية كبيرة، وأكبر روائي عربي حائز
نوبل لا يبيع أكثر من خمسة آلاف نسخة من الرواية الواحدة.
وحين نعرف أن كتاب في جريدة يوزع كل شهر مليونين ونصف مليون كتاب
نفهم معنى هذه الإنجاز وخطورته.
شوقي عبد الأمير مدير مشروع (كتاب في جريدة)
مجلة الوسط، العدد: 411(147/108)
قضايا ثقافية
موقف العصرانيين من الفقه وأصوله
(2-2)
محمد حامد الناصر
في الحلقة الأولى أشار الكاتب إلى جرأة العصرانيين على الفقه والفقهاء، ثم
فضح شذوذاتهم في هذا الميدان وذكر منها: تحليلهم ربا البنوك، وإلغاء أحكام أهل
الذمة، وإصرارهم على امتهان المرأة بدعوى تحريرها وخلص الكاتب إلى حقيقة
العصرانيين العلمانية مدللاً على ذلك بمحاولاتهم تنحية الشريعة وتأييد سقوط
الخلافة؛ بل ودعوتهم الصريحة إلى علمانية الحكم. ويتابع الكاتب في هذه الحلقة
كشف النقاب عن أولئك النفر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
تزوير التاريخ وتمجيد الشخصيات المنحرفة (عند العصرانيين) :
وهذا أغرب مواقف العصرانيين، ويكاد الإنسان ألاَّ يصدق ما سطرته
أقلامهم، وما بثوه في كتبهم. لقد كان العبث في التاريخ الإسلامي هدفاً من أهداف هذه المدرسة، ولم تقف عملية التزوير عند عصر دون عصر، ولا عهد دون عهد؛ بل شملت كافة عصور الإسلام بلا استثناء.
فحروب الردة لم تكن برأي بعضهم حروباً دينية، وما كانت حرب عليٍّ مع
خصومه حرباً دينية، وإنما كانت حرباً في سبيل الأمر، أي في سبيل الرئاسة
والإمامة [1] .
أما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقرر عمارة أنه العلماني
الأول في الإسلام (فقد كان رائد التمييز بين السياسة والدين، مع معارضة جمهور
الصحابة له، وقد بنى الدولة الإسلامية على هذا التمييز) [2] .
ويزعم حسين أحمد أمين أن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله
عنه حذف من القرآن (500 آية) تطعن في بني أمية وتذم أبا سفيان [3] .
ويزعم الدكتور محمد عمارة أن (معركة بدر كانت بين الرسول صلى ... الله عليه وسلم وأصحابه، وبين الارستقراطية الملكية وحلفائها) ! [4] .
أما الفتوحات الإسلامية التي شهد الأعداء قبل الأصدقاء بعدالة أصحابها
ورحمتهم، ونبل دوافعهم في نشر الدعوة الإسلامية فللعصرانيين فيها رأي آخر؛
فالدكتور عبد المنعم ماجد يعجب من توهم بعض المستشرقين الذين يرون أن العرب
المسلمين فتحوا البلدان بدافع إسلامي ويقول: (لا نوافق بعض المستشرقين في
قولهم: إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني؛ فمن غير المعقول
أن يخرج البدوي وهو الذي لا يهتم بالدين لينشر الإسلام) [5] .
فلمصلحة مَنْ هذا الافتراء؟ ! لقد أصبح الدكتور مستشرقاً أكثر من أساتذته،
يغير الحقائق ويفتري لمصلحة أعداء أمته!
ويعتبر حسين أحمد أمين: أن الفتوحات الإسلامية هي نوع من الاستعمار،
كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين فيقول: (وقد يحتج بعض المسلمين بأن
الاستعمار الإسلامي (! !) لدولة أسبانيا كان بنّاءاً وفي خدمة التمدين والعمران،
ولم يتخذ شكل النهب والسلب الذي اتخذه الاستعمار الأوروبي لدول آسيوية
وإفريقية؛ غير أن الاستعمار الأوروبي لأمريكا الشمالية وأستراليا كان هو الآخر
بنَّاءاً، وفي خدمة التمدين والعمران، في حين لم يجلب الاستعمار العثماني (! !) للبلقان غير الخراب) [6] .
ولست أدري كيف يستوي عند مسلم نشرُ دين الله وإقامة العدل بأروع صوره
بين البشر مع غزو الأوروبيين الذي قام على النهب واستنزاف ثروات الشعوب؟ !
لكنها نفوس هانت على أصحابها فمسخت لخدمة أسيادها.
ويحاول المستنيرون الجدد طمس معالم الصفحات المضيئة من تاريخنا
الإسلامي من منطلق دوافع قومية، ومن ذلك فتوحات العثمانيين، وانتصار
المماليك، وحتى انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين حاولوا الغمز من
صاحبه البطل المجاهد رحمه الله.
فالدكتور محمد جابر الأنصاري يحرص على تجريد العثمانيين من كل فضيلة
حتى غدوا في نظره (جماعة من الهمج المتوحشين الذين دمروا الحضارة العربية
الزاهية) [7] .
ويتابع الدكتور محمد عمارة صاحبه فيصف الفتح العثماني بأنه: (طوفان
الدمار التركي، وأرتال الجيش العثماني الذي لف العالم بردائه الأسود أكثر من
أربعة قرون) [8] .
فهل يعتبر هذا الهجوم على العثمانيين جزاء إيقافهم الزحف الأوروبي على
ديار العرب عدة قرون؟ وهل هذه مكافأة للجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية؟ !
حتى السلطان صلاح الدين الأيوبي لم يسلم من أذى هؤلاء القوم - كما تقدم -
إذ يصفه الدكتور محمد عمارة بأنه (القائد الإقطاعي البارز) ! وهذا افتراء مشين
وغير مسؤول. قال ابن الأثير عنه: (توفي ولم يخلف في خزائنه غير دينار واحد
وأربعين درهماً) وقال العماد الكاتب: (ولم يترك داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا
شيئاً من الأملاك) [9] ، أهكذا يكون الإقطاع في نظر العصرانيين؟ ! !
كما يأسف الدكتور لانتصار المسلمين في الحروب الصليبية؛ لأنها أعادت
الحيوية للإقطاع العربي (فلقد كانت الحروب الصليبية مرحلة من الأحداث الكبرى
التي أتاحت للإقطاع العربي فترة من استرداد الحيوية والنشاط) [10] .
وهو يتبرأ كذلك من النصر الذي حققه المماليك المسلمون على المغول التتار؛
لأنهم غرباء عنا حضارياً وتاريخياً، ولأنهم لم يكونوا من العرب [11] ، ثم يقول:
(ولكن القوى التي أحرزت هذا الانتصار العسكري كانت في الأساس مؤلفة من جند
المماليك، ومن ثم فقد كانت قوة غريبة قومياً وحضارياً عن الأمة والشعب والتراث
والتاريخ) [12] .
وما أدري مَنْ هو الغريب ثقافياً وحضارياً عن تاريخ الأمة: أهؤلاء الذين
يحققون أهداف رجال التنصير والاستشراق وأعداء الأمة، أم أولئك الذين طردوا
الصليبيين والمغول عن بلادنا تحت رايات الجهاد في سبيل الله؟ ! لقد اختلت
الموازين، واضطربت المعايير عند هؤلاء الناس.
هذه نماذج فقط من تحامل العصرانيين على تاريخنا الناصع، والمجال لا
يتسع لذكر المزيد؛ إذ زَوَّروا حقائق فتوحات المسلمين للعراق والشام من منظور
قومي، وادعوا أن نصارى العرب ساعدوا الفاتحين المسلمين؛ خلافاً لحقائق
التاريخ لدى مؤرِّخينا الثقات.
تمجيد الفِرَق والحركات المنحرفة:
لقد تابع بعض العصرانيين سادتهم من المستشرقين في تمجيد الحركات الهدامة
والفرق الضالة التي ظهرت في تاريخ المسلمين فقد مجَّدوا الخوارج، واعتبروا أنهم
حزب العدالة والجمهورية والقيم الثورية التي جاء بها الإسلام، - رغم أنهم كلاب
جهنم وقد مرقوا من الدين، كما ذكرت ذلك الأحاديث الصحيحة واعتبروا أن
القرامطة (هم الجناح اليساري في الحركة الشيعية، بل كانوا حركة ثورية ضد
الإقطاع) كما يرى الدكتور محمد عمارة [13] .
والقرامطة هم الذين احتلوا مكة المكرمة وقتلوا الحُجَّاج آنذاك، ورموا جثثهم
في بئر زمزم، ونهبوا حلي الكعبة، واقتلعوا الحجر الأسود وبقي عندهم أكثر من
عشرين سنة.
وقد مجد العصرانيون المعتزلة، وأعجبوا بمنطقهم وفلسفتهم، كما أعجبوا
بالقدرية والشيعة، ويرى الدكتور محمد عمارة أن ثورات الخوارج والمعتزلة
والشيعة كانت بسبب الظلم الاجتماعي ونبذ بني أمية لمبدأ الشورى [14] .
وقد سبقهم بذلك المستشرق (بروكلمان) في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية)
فهو يُعلي من شأن القرامطة وثورة الزنج إلى جانب افترائه على الصحابة افتراءاً
عجيباً.
ومجدوا الدولة العبيدية: إذ خصص الدكتور محمد عمارة كتاباً كاملاً في
تمجيد هذه الدولة الرافضية الإسماعيلية بعنوان: (عندما أصبحت مصر
عربية) [15] . واعتبر أن تولِّيها على مصر اكتمال لعروبتها! !
قال المؤرخ ابن كثير رحمه الله في هذه الدولة: (كان الخلفاء الفاطميون من
أغنى الخلفاء وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم
البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد)
وقال عن أول ملوكهم المهدي: (كان حدَّاداً من سلمية اسمه عبيد، وكان يهودياً،
فدخل بلاد المغرب وكان يسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي،
وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض) [16] .
وقال ابن تيمية رحمه الله: (هم من أفسق الناس ومن أكفر الناس) [17] .
فأي جناية يقوم بها العصرانيون في تمجيد هؤلاء الضالين الذين يكفِّرهم علماء
المسلمين؟ ! حتى ثورة الزنج التي التهمت البصرة يمجدونها، ويرون أنها ثورة
رائدة!
ثورة الزنج: هي من الثورات الطائشة التي اهتم بدراستها المستشرقون
كعادتهم في تمجيد التيارات الحاقدة في تاريخنا، وقد خصص الدكتور محمد عمارة
مبحثاً كاملاً من كتابه: (الإسلام والثورة) للحديث عن ثورة الزنج، وكان مما ...
قاله: (كان قائد هذه الثورة شاعراً وعالماً، وهو ثائر عربي وعلوي، وأغلب قوادها كانوا عرباً) [18] ، ويقول: (هذه الثورة قد بدأت في سلطة عربية ضد سلطة المماليك الترك الذين كانوا يفرضون طغيانهم على خلفاء بني العباس وخلافتهم في بغداد) [19] وقد كتب الأستاذ محمد جمال رسالة بعنوان (الفتنة السوداء) يقول فيها ما موجزه [20] : (لقد سماه المؤرخون (صاحب الزنج) وهو رجل فارسي الأصل، محتال خبيث، اصطنع لنفسه نسباً إلى آل البيت) . ...
قال ابن كثير: (ولم يكن صادقاً، وإنما كان أجيراً عند بني عبد القيس،
واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأصله من قرى الري) وكان يقول
لأصحابه: (لقد عُرضت عليَّ النبوة، فخفت ألا أقوم بأعبائها، فلم أقبلها) .
قال الأستاذ محمد جمال في ختام بحثه القيم عن هذه الفتنة: (هذه يا أخي
القارئ حقيقة ما يسميه بعض من يزوِّر الحقائق بـ (ثورة الزنج التحررية) نقلت
لك أخبارها بأمانة من أوثق كتب التاريخ الإسلامي) [21] .
تمجيد الشخصيات المنحرفة: وهذا أمر غريب يلفت النظر؛ إذ لم يترك
العصرانيون شخصية خبيثة في معتقدها، منحرفة في مسلكها إلا حاولوا تمجيدها،
فمجدوا غلاة الصوفية كابن عربي والحلاج وأمثالهما، ومدحوا أصحاب الحركات
الباطنية كإخوان الصفا والحشاشين والقرامطة. ومعلوم أن المستشرق (ماسينيون)
قد اهتم ببعث التراث الصوفي الفلسفي كالحلاج وكتابه الطواسين، واهتم بابن
سبعين وبمذهب الباطنية [22] .
وكثيراً ما أشاد محمد عمارة وأمثاله بالتصوف الفلسفي، رغم خروج أصحابه
على الشريعة. يقول: (وأصحاب هذا النهج لا يقفون عند حدود الشريعة كما
حددها الفقهاء، ومن هنا جاء الصراع بين الصوفية والفقهاء، لكن تاريخ هذا
الصراع يشهد بأن الفقهاء كانوا أضيق أفقاً، كما كانوا أدوات للسلطة الحاكمة على
عكس الفلاسفة الصوفيين؟ !) [23] وقال: (ابن عربي في التصوف الفلسفي قمة
القمم، لا في حضارتنا العربية الإسلامية فقط، بل وعلى النطاق الإنساني، وهو
بمقياس (السلفية المحافظة) أو (الفقهاء) وثنيٌّ زنديق) [24] .
وفلاسفة الصوفية قالوا بوحدة الوجود، وتعطيل الشريعة، ورفع التكاليف
عنهم، وكان لهم تأثير سلبي على الحياة الاجتماعية في القرن السابع الهجري وما
تلاه.
ويمجد العصرانيون انحرافات المعتزلة ورجالاتهم.
فها هو عمارة يشيد بقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (فهو أعظم
أئمة المعتزلة في عصره، وقد قاد الصحوة الاعتزالية في عصر اضطهاد المعتزلة، فقد بلغت الدولة العباسية في ذلك الاضطهاد إلى حد تحريم فكر المعتزلة بمرسوم
هو أشبه ما يكون بمراسيم الحرمان الكنسية أيام الخليفة القادر) [25] .
كما يمجد عمرو بن عبيد: (فهو زاهد المعتزلة وناسكهم وعالمهم وقائدهم وقد
ساهم في الثورة ضد بني أمية) [26] .
وبينما يمدح حسين أحمد أمين يزيد بن أبي سفيان صاحب الحَرَّة الذي استباح
مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمجد الحجاج بن يوسف الثقفي الذي حاصر
مكة وقتل ابن الزبير وضرب الكعبة بالمنجنيق
ويقول: (إنه أعظم الإداريين في تاريخ العالم) [27] على حين نراه يصب
جام غضبه على الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيرى أنه ساهم
بجهله في الشؤون السياسية في تدهور أحوال الدولة الأموية ثم سقوطها ثم يقول: ... (ولم تجلب سياسته المالية والإدارية غير خراب الدولة) [28] .
هكذا تكون الموضوعية والأمانة في دراسة التاريخ الإسلامي عند دعاة
التغريب! !
ويشيد الدكتور عمارة بالجوانب المظلمة من مسيرة جمال الدين الأفغاني،
كتنظيم (جمعية العروة الوثقى) السرية، وبمبادئها المليئة بالإشارات والرموز
السرية، ويتحدث عن تأسيسه محفلاً وطنياً شرقياً وعلاقاته مع المحفل الفرنسي
الماسوني؛ فاستمع إليه وهو يقول: (من مجموعة الأوراق والوثائق والمراسلات
التي بقيت من آثار هذا التنظيم نضع يدنا على خبرة في العمل السياسي والتنظيمي بلغت درجة عالية من النضج والعبقرية، وهذه خبرات نعتقد أن لها صلات وثيقة بتراث العرب والمسلمين في التنظيم السري منذ جمعيات المعتزلة، وإخوان الصفا القرامطة والحشاشين) [29] .
كما يمجد العصرانيون الشيخ علي عبد الرازق على خدماته الرائعة لهدم
الشريعة على طريقة الكنائس النصرانية، في كتابه: (الإسلام وأصول الحكم) .
يقول محمد عمارة: تتفق آراء كثير من المفكرين على اعتبار كتاب الشيخ علي عبد
الرازق (الإسلام وأصول الحكم) أهم الكتب التي صدرت منذ بداية النهضة العربية
الحديثة؛ لأنه يمثل موقفاً شجاعاً من شيخ واجه الملك وعلماء الدين الدائرين في
فلك الملك، ولقد كان الشيخ من تلامذة مدرسة الإمام محمد عبده، وتأثير فكر ... الإمام المعادي للسلطة الدينية واضح تماماً في منطلقات علي عبد الرازق) [30] .
والحقيقة أن واضع الكتاب الأصلي مستشرق يهودي محترف هو ... (مرجليوت) أهداه للشيخ خلال دراسته في لندن، وأن علي عبد الرازق كان ينتمي إلى أسرة عريقة في خدمة المستعمر الإنجليزي [31] .
وهكذا وقف العصرانيون في صف أعدائنا في قضايا الحكم والتشريع وفي
موقفهم من السنة النبوية وتراث الأمة وتاريخها فأصبحوا تياراً خطيراً ينخر في
جسم الأمة، ويشكك في أصول فكرها وعقيدتها وتاريخها باسم
الإسلام والتجديد والاستنارة وتحكيم العقول! ! ليوقعوا شباب الأمة في
متاهات لا نهاية لها [والله غالب على أمره] [يوسف: 21] والحمد لله رب
العالمين.
__________
(1) ، (2) انظر المعتزلة وأصول الحكم، محمد عمارة، ص 348.
(3) إسلام آخر زمن، منذر الأسعد، ص 58، طبعة 1987م.
(4) فجر اليقظة القومية: محمد عمارة، ص 103.
(5) التاريخ السياسي للدولة العربية، ج 1، 163، مطبعة الأنجلو المصرية.
(6) دليل المسلم الحزين: حسين أحمد أمين، ص 172، طبعة مدبولي، 1971م.
(7) نظرة في الجذور: الدوحة القطرية، العدد: 101، شهر رجب 1404 هـ.
(8) فجر اليقظة العربية: ص 362، محمد عمارة، يشاركه في هذا الرأي الدكتور خالص جلبي في كتابه: النقد الذاتي (ص 200 212) .
(9) البداية والنهاية لابن كثير، ج 13، ص 4 5، والكامل، ج 9، ص 225، 226.
(10) فجر اليقظة العربية، ص 228.
(11) غزو من الداخل: جمال سلطان، ص 24 25.
(12) تيارات اليقظة الإسلامية، محمد عمارة، ص 8.
(13) انظر: فجر اليقظة القومية: محمد عمارة، ص 140 154، وانظر غزو من الداخل، ص 26، جمال سلطان.
(14) ينظر: التراث في ضوء العقل، محمد عمارة، ص 163.
(15) عندما أصبحت مصر عربية، محمد عمارة، طبعة بيروت، 1974م.
(16) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 12، ص 267.
(17) الفتاوى: 35/127.
(18) الإسلام والثورة: محمد عمارة، ص 260.
(19) التراث في ضوء العقل: ص 219، محمد عمارة، دار الوحدة، بيروت، 1980م.
(20) ينظر: محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة لسليمان بن صالح الخراشي، ص 673 675.
(21) ينظر: محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة لسليمان بن صالح الخراشي، ص 673 675.
(22) ينظر: العصرانيون، ص 106 وما بعدها.
(23، 24) التراث في ضوء العقل، ص 291، 296.
(25) التراث في ضوء العقل: محمد عمارة، ص 109، 110.
(26) المرجع السابق، ص 27 40.
(27، 28) ينظر: دليل المسلم الحزين، ص 169، 203، وإسلام آخر زمن، منذر الأسعد، ص 69، 70.
(29) الأعمال الكاملة لمحمد عبده، ج 1/ 35، 129، تأليف محمد عمارة، بيروت، 1978م.
(30) التراث في ضوء العقل: ص 301، 302، محمد عمارة.
(31) ينظر: الإسلام والخلافة، د ضياء الدين الريس، ص 166، 185.(147/112)
في دائرة الضوء
الجميع تحت المجهر
دور التمويل الأجنبي في توجيه الجمعيات الأهلية
د.أحمد إبراهيم خضر
أقحم المثقفون العرب على الساحة العربية والإسلامية منذ مطلع السبعينيات
مصطلح (المجتمع المدني) . ويعرِّف د. سعد الدين إبراهيم (وهو شخصية
معروفة بتوجهاتها العلمانية الصريحة وبموالاتها لأمريكا وزياراتها لإسرائيل)
المجتمع المدني بأنه: (مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام
بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتآخي
والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف، وتشمل تنظيمات المجتمع المدني كلاًّ
من الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية، أي: كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو إرثي) [1] .
والذي يهمنا هنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن مفهوم (المجتمع المدني) دخيل على تراث الفكر العربي
والإسلامي، وأنه ينتمي إلى (فضاء) ثقافي وحضاري غربي، وأنه نشأ في بيئة
أوروبية وفي ظروف تاريخية ومعطيات سياسية واقتصادية اجتماعية معينة ترتبط
بها، بالإضافة إلى ارتباطه الوثيق بالرأسمالية والمجتمع الرأسمالي. ويسعى رهط
من المثقفين العرب إلى تأصيل هذا المفهوم، وإعادة صياغته وتحديد مدلولاته
النظرية والعملية، ثم إدماجه في الثقافة العربية الإسلامية اعتقاداً منهم بأن هذا
سيساهم في تكريس ما أسموه بـ (القطيعة متعددة الوجوه مع عالم العصور ...
الوسطى) [2] إشارة منهم إلى الإسلام والفكر الإسلامي بوجه أو بآخر.
الأمر الثاني: أن الرؤية الإسلامية ورؤية المجتمع المدني في نظرهم
متناقضتان؛ فالمجتمع المدني عند هؤلاء مجتمع عقلاني يحل مشاكله حسب قوانين
وضعية، وتحاول فئاته الاجتماعية التوفيق بين مصالحها ومصالح المجتمع.
مرجعيته تجارب المجتمع التي قننها في صورة نصوص تسهر على تطبيقها سلطة
وثيقة الصلة بالدولة وإن أظهرت أنها تختلف معها. أما المجتمع الإسلامي كما يرى
الجنحاني فإنه يستمد شرعيته من (السماء) ومرجعيته نصوص ترتكز على ما يسميه: (تجارب تاريخية) مرّ عليها أكثر من أربعة عشر قرناً نموذجاً أعلى، ومثالاً يحتذى ليس في مستوى القيم والإفادة من الإيجابي فيها فحسب بل في مستوى الممارسة اليومية وتسيير شؤون المجتمع [3] .
الأمر الثالث: أن الواقع الفعلي للجمعيات الأهلية التطوعية وغير الحكومية
التي هي عماد المجتمع المدني يُبَيِّن أنها تُمَوَّل من الخارج، وأن دور معظمها ليس
إلا كالمجهر الذي يكشف كل ما تحته من أحوال المجتمع وظروفه الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، وأن مثقفي المجتمع المدني يلهثون وراء هذا التمويل
ويقدمون لمموليهم التقارير التي يطلبونها، وأن الهدف النهائي لهذه العملية هو خدمة
مصالح الشركات متعددة الجنسيات وتدعيم عمليات التطبيع مع (إسرائيل) وهذا
موضوعنا في هذه المقالة.
تعبير (الجميع تحت المجهر ولا أحد خارجه) تعبير استخدمته الباحثة (سناء
المصري) ذات الباع الطويل والخبرة الدقيقة في العمل مع هذه المنظمات غير
الحكومية، والنسائية منها على وجه الخصوص.
ولما اختلفت مع رفيقاتها على مسألة التمويل، كشفت لنا هذا الحجاب الذي
كان مضروباً على ما يجري داخل هذه الجمعيات [4] .
كتبت (سناء المصري) عن خيانة المثقفين وسقوطهم في بئر التمويل الساخن
الذي تصب فيه الأموال الأمريكية والأوروبية وحتى اليابانية وتدفع به إلى
الجمعيات والمنظمات غير الحكومية أو ما يسمى بالجمعيات الأهلية في مصر.
فعلى سبيل المثال: دفعت هيئة المعونة الأمريكية عام 1991م مبلغ عشرين
مليون دولار لدعم هذه الجمعيات والمنظمات، وكانت قد تبنت قبلها مشروعاً ثلاثي
المراحل بدأ من عام 1987م وحتى عام 1990م بحجم تمويل قدره خمسة وعشرون
مليون دولار لدعم المنظمات العاملة في مجال التنمية المحلية استفادت منه 2019
جمعية أهلية، وكذلك فعلت هيئة المعونة الكندية والاتحاد الأوروبي وغيره من الجهات الدولية.
حددت (سناء المصري) ما يقرب من عشرين منظمة دولية بعضها يتبع
الحكومات مباشرة ويتبع بعضها الآخر الأحزاب الحاكمة، أشهرها منظمة (فورد)
وغيرها من المنظمات ذات السمعة العالمية في زعزعة بنية بلدان العالم الثالث
وتهيئتها لما يسمى بالنظام العالمي الجديد أو السطوة الأمريكية الجديدة، ومن
المنظمات الممولة للجمعيات الأهلية: (سيدا) الكندية، و (سيدا) السويدية، ... ... و (دانيدا) الدانماركية، و (فينيدا) الفنلندية، والمعونة الأسترالية، ومؤسسة (إسرائيل) الجديدة في نيويورك؛ هذا إلى جانب المنظمات والحكومات الأخرى مثل ألمانيا واليابان.
وتعمل الجمعيات الأهلية في مجالات: حقوق الإنسان رفع الوعي القانوني
بناء الديمقراطية ومراقبة الانتخابات المجال العمالي والنقابي الوحدة الوطنية السينما
والفيديو والورش المسرحية.
والهدف الأساس الذي يسعى إليه نشطاء هذه الجمعيات هو أن يكون العمل
العام والتطوعي سبيلاً لتحقيق الثراء والصعود الاجتماعي والإحساس بالغنى
والتعالي والنجومية الشخصية وحيازة السيارات والشقق الفاخرة، واغتنام فرص
السفر للخارج والإقامة في فنادق خمس النجوم؛ خاصة أن الممولين يدفعون رواتب
ويقدمون منحاً هائلة تصل إلى ألوف الدولارات؛ وسرعان ما يتجه بعضهم إلى تكوين جمعيات جديدة بمجرد أن يدرك سهولة التمويل؛ حيث يكفيه أن يطلب سجل الممولين فتنهمر عليه أوراق التعريف بهم، وطرق الاتصال بل وكيفية التعاون معهم؛ بالإضافة إلى الإرشادات الكثيرة للحصول على التمويل.
والتمويل هو العصا السحرية التي اخترقت تقوقعات شلل المثقفين وعاطلي
السياسة وهي التي حولت الكثيرين ممن كانوا يقفون في صفوف المعارضة من
شيوعيين وناصريين، أو يساريين عموماً، وكانت دعايتهم تدور حول الوطن
والاستقلال والعدالة الاجتماعية، وتهاجم (إسرائيل) والرأسمالية والامبريالية
والتدخل الأجنبي والفوارق الطبقية حولتهم إلى نشطين مخلصين يدافعون عن
العولمة والتطبيع مع (إسرائيل) . إن بضعة آلاف من
الدولارات حوَّلتهم إلى خبراء كرَّسوا جهودهم لخدمة المؤسسات الرأسمالية
الضخمة عابرة القارات ومتعددة الجنسيات ولخدمة جهود التطبيع مع (إسرائيل)
على حد قول (سناء المصري) .
وبالتمويل تقدم هذه الجمعيات تقارير سياسية وأخباراً إلى الخارج عبر أجهزة
الفاكس، ولهذا يسميها بعضٌ بـ (منظمات الفاكس والطيران) .
وبالتمويل تُؤَسس المراكز العمالية والقانونية في مناطق العمال لدراسة الحالة
الراهنة للطبقة العاملة، وتراقب الجمعيات أنشطة العمال وانتخاباتهم ونقاباتهم
وقوانينهم، ونواياهم السرية والعلنية، وتعمل على تفتيت الاتحاد العام وإنشاء
النقابات الموازية.
وبالتمويل ترفع جمعياتٌ شعار الوحدة الوطنية في الوقت الذي تسارع فيه إلى
تضخيم الأحداث، وتطلب حماية الأقليات المضطهدة بعد أن تكون قد جذَّرت روح
التعصب والنزاعات الطائفية إلى حد تكوين ميليشيات محلية، فتسقط البلاد في
الحرب الأهلية والمذابح الجماعية كما حدث في بعض البلدان.
وبالتمويل تتفرغ جمعياتٌ لشؤون المرأة وتعزف على وتر الأحوال الشخصية
وختان الإناث في خطب متكررة ومؤتمرات متتالية بالداخل والخارج.
وبالتمويل تقوم جمعياتٌ بدور المرابي القديم فتقدم للفقراء قروضاً لا تحل لهم
مشاكلهم المادية بقدر ما تضاعف ديونهم وتثقل كاهلهم بمشاكل إضافية ونسبة فوائد
تصل إلى 18%، 19% من أصل القرض.
وبالتمويل تصور جمعياتٌ آلاف أفلام الفيديو عن كل شيء في البلاد وترسل
إلى الخارج بحجة عمل المونتاج لها، ولا تعود مرة أخرى.
وبالتمويل أمكن تجنيد الأكاديميين والأساتذة والباحثين وضم بعضهم إلى
مؤسسات استشارية دولية كانت مهمة بعضها إعادة الهيكلة الاقتصادية للبلاد
كمؤسسة (كيمونكس أوف واشنطن) التي يعتبر (جيرالد مار) أكبر مساهميها الذي
قال يوماً: (كنت أريد من بين أمور أخرى العثور على سبيل يمكنني من تأسيس
وكالة مخابرات مركزية خاصة بي) .
وهكذا تفشى مرض التمويل، فأصبحت التقارير تصب مباشرة في المؤسسات
الدولية مهما اختلفت مسمياتها لتغطي كافة المجالات من حقوق الإنسان إلى الصحة
والمرأة، والأقليات والنقابات؛ وبهذا تمكنت الجهات الأجنبية عن طريق هذه
الجمعيات من اختراق البلاد.
الهدف إذن هو الاختراق المعرفي الذي تظل مفاتيحه في أيدٍ غير معلومة في
الخارج، وبالتراكم المعرفي يتكون لدى هذه الجمعيات صمام أمن مباشر لتفريغ
البلاد من احتمالات الثورات والتمردات الشعبية ثم العمل على إدماج البلاد في
السوق الرأسمالي وإخضاعها للإرادة الكاملة للشركات الرأسمالية.
تحدثت (سناء المصري) بجرأة ملفتة للنظر عن مثلث (الجمعيات الأهلية
الحكومة الممول الأجنبي) وعن العلاقة بين أطراف هذا المثلث؛ إذ تشكل هذه
العلاقة لُعْبة متعددة المستويات داخلياً وخارجياً يلعبها الجميع بوضوح ومكاشفة مع
محاولة كل طرف انتزاع أقصى ما يمكن من الأطراف الأخرى.
وينغمس النشطاء المحليون في شباك العلاقات الدولية واستجلاب المال
الأجنبي تحت غطاء العمل العام، ويدخلون في سباق تكوين الجمعيات، وبعضهم
يخرق القانون وتعلم الحكومة ذلك لكنها كما ترى (سناء المصري) تتغاضى عن
ذلك بمحض إرادتها إرضاءاً للدول الأجنبية، بل إنها وبذاتها تشكل القنطرة التي
يعبر بها المال الأجنبي إلى هذه الجمعيات.
وبوضوح شديد تقول (سناء المصري) : إن الحكومة تحرك هذه الجمعيات
في قالب مرسوم؛ فإذا خرج النشطاء عن هذا القالب بادرت باستخدام حق الإغلاق
والمصادرة أو التضييق عليهم، ومن جهة أخرى فإنها تسعد بتسريح هذا القطيع
السياسي الذي كان مقلقاً لها في الماضي القريب لجمع المعونات والمنح من الخارج
وإغراقه في تطلعاته للثروة والصعود الاجتماعي، وتلعب الجمعيات في المساحة المرسومة لها، ولا تخرج عن حدودها أبداً؛ بل إنها تمد يدها وتتعاون مع الحكومة في كثير من الأحيان.
وإن استطاعت الجمعيات الإفلات من قبضة الدولة وقعت في يد الحكومات
الأجنبية المانحة التي تعرف كيف تقبض على عنق عميلها عن طريق تقسيم المنحة
وليس بتقديمها دفعة واحدة، ويعلم الممول الأجنبي أن عملاءه ليسوا شرفاء أو
أطهاراً دائماً؛ وكثيراً ما تحدث أزمة ثقة بين الطرفين لكن المانح يغض الطرف
عن ذلك؛ فأهدافه تتعدى المساعدة في تنفيذ مشروع بعينه إلى توثيق العلاقة مع
الأشخاص القائمين على هذه الجمعيات
أو تحقيق أغراض أخرى يعرفها الطرفان ويتواطآن على تنفيذها، علاوة عن
أن كل ذلك ليس إلا جزءاً من أبعاد اللعبة التي تحركها كلها خيوط الممول الأجنبي
بهيئاته ومخططيه الدوليين الأكاديميين النشطين في الدراسات الاستراتيجية وعملائه
في العالم العربي أو ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط.
ليس هذا إلا قليلاً من كثير تحدثت عنه (سناء المصري) ، ولا زال الأمر
يحتاج إلى مزيد من الرصد والجهد في الكشف عن هوة (المجتمع المدني) ، تلك
الهوة التي يسعون إلى إسقاط مجتمعاتنا الإسلامية فيها؛ اعتقاداً منهم أنها السبيل ...
الأمثل لمواجهة المد الإسلامي بحركته وفكره وآثاره بالإضافة إلى استمرار هيمنتهم
السياسية والاقتصادية والثقافية وتأكيدها.
__________
(1) منيرة أحمد فخرو، موقع الحركات النسوية في مؤسسات المجتمع المدني في البحرين والكويت، والإمارات، عالم الفكر، المجلد 27، العدد 3، يناير/مارس 1999م، ص 126.
(2) كريم أبو حلاوة، إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني، المصدر السابق، ص 9.
(3) الحبيب الجنحاني، المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، المصدر السابق، ص 41.
(4) سناء المصري، تمويل وتطبيع، قصة الجمعيات غير الحكومية، سينا للنشر، الطبعة الأولى، 1998م، القاهرة، ص 9 49.(147/118)
دراسات إعلامية
الفضائيات وشبكة الإنترنت
د.وحيد المصري
من الأمور التي أصبح مسلَّماً بها الزيادة المطَّردة في عدد القنوات الفضائية
المرئية والتي يعاد بثها عبر العديد من الأقمار الصناعية المنتشرة في الفضاء
الخارجي لتغطي الكرة الأرضية بكامل مدنها وقراها، وغاباتها وصحاريها ومياهها! وليس مبالغاً فيه أن هناك عشرات من القنوات الفضائية العربية وغيرها يمكن
استقبالها بسهولة في الوطن العربي. كما أن انتشار شبكة الإنترنت ووصولها بكم
هائل من المعلومات العلمية والتجارية والثقافية وتبادل المعلومات ورسائل البريد
الإلكترونية وشراء السلع والتواصل بينها وبين القنوات الفضائية يسَّر المتابعة الآنية
للحدث والبرامج والمسلسلات والأفلام وغيرها من غث وسمين؛ مما يستوجب
العمل الجاد لتطويع هاتين التقنيتين في خدمة هذا الدين في كل بقاع الأرض، وبهذا
انحسرت قدرات الدول على التحكم ومراقبة ما يستقبل في أراضيها ومياهها بدرجة
كبيرة جداً، وخصوصاً أن تقنيات الاتصال المباشر بالأقمار الصناعية في طريقها
لأن تصبح متيسرة، كما تيسر ما قبلها من تقنيات كان يُعتقد ألا تتيسر؛ وبهذا تكون
الحكومات شبه فاقدة للسيطرة على ما يقرؤه ويسمعه ويشاهده مواطنوها.
إن تقنية استقبال البث المرئي المباشر عبر الأقمار الصناعية أو ما يعرف
بالفضائيات أصبح أكثر سهولة وأرخص ثمناً عما كان عليه قبل سنوات قليلة مضت، وفي متناول جميع الفئات حتى الفقيرة منها في الوطن العربي والإسلامي؛ وذلك
على العكس من تقنية الإنترنت التي ما زالت حكراً على الطبقة المثقفة القادرة على
فهم رموزها والتخاطب بلغتها، وإن كان هذا في طريقه إلى الزوال أيضاً.
كل ما سبق شجع الحكومات على توصيل رسالتها السياسية والاقتصادية
والتعليمية والاجتماعية لمواطنيها وغيرهم بطريقة سهلة، وذلك بإنشاء قنوات
فضائية ومواقع وصفحات على شبكة الإنترنت، كما شجع أيضاً المستثمرين
باختلاف أفكارهم وتوجهاتهم على زيادة دخلهم عن طريق بث مستمر لبرامج
ومواضيع مختلفة غالبيتها تدغدغ العاطفة فارغة من الهدف الجاد أو الترفيه البريء
باستثناء مجموعة هادفة ومفيدة أقل من أصابع اليد الواحدة.
ثم ظهر ما يعرف بـ (الباقات الفضائية) التي تبث مجموعة كبيرة منتقاة من
القنوات العربية والأجنبية في حزمة واحدة بتقنيات رقمية حديثة لا تحتاج إلا
للاقطات صغيرة جداً ومفتاح لشفراتها.
وللأسف؛ فإن جل القنوات الفضائية غير الحكومية من عربية وأجنبية يقوم
عليها أناس هدفهم في الغالب ينحصر في الكسب المادي البحت ولو كان ذلك عن
طريق إفساد الأسرة والمجتمع. ودأبت هذه القنوات على استقطاب المشاهدين ببث
المسلسلات والأفلام شبه الإباحية، سواء أكانت في لغتها أو في التساهل في درجة
التعري مع اللقطات الجنسية الساقطة، بل تمادت وقامت بتعريب حوارات [1]
مسلسلات الخيانات الزوجية الأجنبية والترويج للزنا والخمور، واعتبارها جزءاً من
الحياة العصرية التي يجب أن تقبل بها الأسرة والمجتمع المسلم الحديث.
إن أخطر ما جاء به تعريب المسلسلات والأفلام الأجنبية هو إدمان أفراد
الأسرة إلا من شاء الله وخصوصاً العجائز والنساء صباحاً ومساءاً متابعة قصص
الغرام والغزل، والتعرف على الخمور وكيفية شربها، كما بدا تأثيرها واضحاً على
أداء العديد من الرجال والنساء من طلاب وموظفين بسبب السهر على متابعة الأفلام
والأغاني الماجنة. هناك أيضاً الاتصالات المباشرة بين المشاهدين ومقدِّمات
البرامج الكاسيات العاريات المائلات المميلات اللواتي رؤوسهن كأسنمة البخت
(مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم) ، والاستماع لمحاورة واحدة بين
مشاهد أو مشاهدة توضح فساد القلب والقالب، والأموال الهائلة المهدرة في
المكالمات التي تكسبها شركات الهاتف الأجنبية، ولا ننسى في هذا المقام التعدي
السافر على الإسلام وشرائعه كالتعددية في الزواج بالاستهزاء والرفض ووصمها
بالرجعية.
السؤال الملحّ في هذا المقام: ما العمل؟
العمل الأول الذي يتبادر للذهن هو إنشاء قناة بل قنوات إسلامية بديلة تخاطب
الأسرة المسلمة بطريقة عصرية جذابة، وتلبي حاجات جميع أفرادها من برامج
عقدية وفقهية واجتماعية جادة، وترفيهية بريئة، وبرامج وثائقية وتاريخية وعلمية، مع الاهتمام بالطفل المسلم بصورة خاصة، وانتقاء فترات البث المناسبة للمنطقة
المقصودة حتى تتم الفائدة المرجوة. كما يجب تشجيع الاستثمار في هذا الجانب من
قِبَلِ المفكرين والدعاة المسلمين في أوساط التجار وأصحاب الثروات من المسلمين
الغيورين الخيرين منهم.
ونظراً لأن الأموال اللازمة لتمويل إنشاء قناة تلفزيونية فضائية باهظة لا يقدر
عليها العديد من أثرياء المسلمين مجتمعين، يمكن أن يكون هناك طريق آخر تقوم
به المنظمات والهيئات الإسلامية وذلك بإنشاء شركات مساهمة تتولى هذه المهمة،
والمتتبع لبعض البرامج الإسلامية القليلة في الفضائيات العربية الجادة في اختيارها
العلماء والمفكرين ثم استضافتهم على الهواء مباشرة، كيف تنهال عليها الاتصالات
من كل حدب وصوب بما يبشر بالرغبة الجادة عند فئات كبيرة من المجتمعات
المسلمة في الوطن العربي والإسلامي في الغرب للتعرف على أحكام دينها ومعرفة
شؤون حياتها بما يتوافق مع الشرع، والرغبة الجادة من الآباء بإيجاد بديل هادف
لأبنائهم وبناتهم يمكن الثقة به. كما أنه يوضح في الوقت نفسه إخفاق البرامج
الإسلامية التي تحاول بعض الفضائيات استخدامها لتمييع الدين وخلط الفاسد
بالصالح.
كذلك يجب العمل على التعامل مع شبكة الإنترنت وتوظيفها لخدمة هذا الدين، وفي هذا الجانب هناك جهد جبار تقوم به بعض الهيئات والجماعات المسلمة
خصوصاً في الغرب أدى في كثير من الأحيان إلى فهم وتعامل أحسن للدين
الإسلامي. وهذا لا يمنع من إنشاء المزيد من المواقع الإسلامية لتفهيم الدين
الصحيح والإجابة بطريقة متفاعلة وغير جامدة على استفسارات المتصفحين لها،
خصوصاً إذا نظرنا إلى أن هناك الآلاف من المواقع التنصيرية واليهودية وغيرها
من الديانات الوثنية والشركية ومواقع تشويه الدين الإسلامي الحنيف.
العمل الآخر هو حث الآباء والأمهات على مقاطعة القنوات الفاسدة والإباحية
وغيرها، ومنع أبنائهم من الاتصال بها، وهو عمل شاق يحتاج إلى العزيمة وإلى
تَبَنٍّ واضح من راعي كل أسرة وكل مفكر وعالم. كذلك يجب البدء في توجيه
التجار والمنتجين بعدم شرعية كسبهم عن طريق ترويج سلعهم بالإعلان في قنوات
الهدم والإفساد، ويجب أن لا نستهين بهذه المهمة؛ حيث إن امتناع تجار بلد عربي
واحد عن التعامل مع تلك القنوات قد يؤدي إلى إفلاس حقيقي لها.
__________
(1) وهو ما يسمى بـ (الدبلجة) .(147/122)
متابعات
وكرم الله المرأة
عبد العزيز بن إبراهيم الحصين
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه مناقشة لما تضمنه مقال: (وخلق الله المرأة) لتركي الحمد في (جريدة
الشرق الأوسط) ، العدد (7460) ، بتاريخ (2/5/1999) من أفكار ومناهج
وأساليب في الاستدلال والاستنباط والتحليل، وسيكون فيها أي المناقشة قدر كبير
من الصراحة أرجو ألا تزعجه؛ فلست أقصد بذلك الإساءة إليه، ولا القدح في
شخصه؛ فلست أعرفه، ولا أعرف أباه، ولم يكن بيني وبينه في يوم من الأيام معاملة في درهم ولا دينار، ولا في غيرهما، بل لم تقع عيني عليه، ولم تسمع أذني صوته، بل حتى لم أكن أقرأ له شيئاً، ولم أقرأ له غير هذا المقال، ومقالين آخرين أظن أو ثلاثة، فليس بيني وبينه إلا القلم والقرطاس، والكلمات والأفكار، والاشتراك في العقل، وحرية البحث والنظر، الحرية التي تنبعث مضبوطة بضوابط الشرع والعلم والعدل، متجردة عن كل مؤثر يعبث بهذه الحرية،
أو يجزئها، أو يبعثرها، أو يحيد بها عن المنهج السوي والصراط المستقيم،
ومشتركاً معه أيضاً في الإسلام الذي انتسب إليه بقوله: (أما بالنسبة لنا نحن
المسلمين) .
لقد جمع تركي الحمد في مقاله كل ما استطاع من مقدمات يرى أنها منطقية
وبراهين عقلية وشرعية؛ ليصل إلى نتيجتين إحداهما تتفرع عن الأخرى، فأما
الكبرى منهما: فهي مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة المساواة المطلقة فيما عدا
الاختلاف الطبيعي البيولوجي الذي لا يؤثر على مبدأ المساواة المطلقة، وفيما عدا
الاختلاف في درجة التقوى. وأما الصغرى منهما المتفرعة عن الأولى فهي مسألة
سفر المرأة وحدها بلا محرم، أو خلوتها بالرجال الأجانب وحدها؛ لأن معنى ذلك
عدم ائتمانها على نفسها، وفي ذلك تناقض مع مبدأ ائتمانها على ما هو أكبر من
نفسها، وخدش لمبدأ المساواة، وهذا يفضي إلى مناقضة ما يقتضيه مفهوم المواطَنة، وشرعية الأمور؛ إذ يقرر كل منهما مبدأ المساواة المطلقة بين جناحي الإنسان.
ومع أهمية مناقشة تلك النتائج التي توصَّل إليها، وبيان خطئه فيها؛ إلا أنني
لن أتعرض لها هنا إلا من باب ضرب المثال، وإنما المقصود بهذا المقال مناقشة
تلك المقدمات التي استنبطها وصاغها؛ ليصل بها إلى نتيجته، والأسلوب والمنهج
اللذين سار عليهما، وما اشتملا عليه من مغالطات فكرية، ومناقضات عقلية،
وأخطاء شرعية، وكأنه قد استقر في ذهنه مبدأ معين، أو فكرة معينة؛ فصار يحشد لها ما استطاع من كلام يظنه حججاً وبراهين؛ ليقنع بها الآخرين، غير عابئ بما تقتضيه أصول التفكير، ومناهج الاستدلال، وقواعد الاستنباط، ومبادئ احترام آراء الآخرين، وعقولهم.
1 - مارس تركي الحمد في مقاله وللأسف إرهاباً فكرياً، وعقلياً، ما كنت
أظن عاقلاً يحترم عقول الآخرين وفكرهم يفعله، لقد توارى خلف كلمات فضفاضة
واسعة تحتمل عدداً من المعاني، بعضها حسن، وبعضها قبيح، وهذه الكلمات
يتبادر من بعضها إلى الذهن معنى حسن وجميل؛ كالمساواة، والتكامل الوظيفي،
والمواطَنة، وشرعية الأمور، ومنطقية
السلوك، وبعضها الآخر يتبادر إلى الذهن منها معنى سيئ ينفِّر السامع منها؛
فلا يحب الاتصاف بها، بقدر ما يحب الاتصاف بالأولى؛ كالعادات والتقاليد
المهيمنة في مجتمع ما، والحشْوية، والمجسِّمة، والابتداع وفق معايير اجتماعية
موضوعة، أو مصنوعة، والهوى، والتشدد، والموقف المتعالي من المرأة، ثم
ربط بين هذه الكلمات وبين ما توصل إليه بالسلب والإيجاب؛ بحيث من أقر بالنتائج التي توصل إليها استحق أن يوصف بالكلمات التي ظاهرها الحُسن، ومن لم يقر بما توصل إليه فهو موصوف بالكلمات التي ظاهرها غير حَسَن! ولا شك أن مثل هذا الأسلوب يضرب حاجزاً متيناً كحاجز الأسلاك الشائكة بين الإنسان وبين استعماله الحر لعقله وفكره، وانطلاقه نحو أفق واسع في المحاورة والنقد والاختيار؛ إذ يبقى الارتباط في ذهنه بين هذه الكلمات والنتيجة، فإن أقر بها انهالت عليه الكلمات التي ظاهرها الحُسن؛ فيفرح ويبتهج ويسر، وإن خالف في النتيجة انهالت عليه الكلمات التي ظاهرها غير حَسَن؛ فيخاف ويرهب، ويتراجع ويتقهقر.
لقد كان كفار قريش يمارسون الأسلوب نفسه؛ حين وصفوا محمداً صلى الله
عليه وسلم وأصحابه بأنهم صابئون مخالفون لدين الآباء والأجداد، وأن محمداً
ساحر وكاهن وشاعر؛ فقد كان ذلك مانعاً لبعض عقلائهم وكبرائهم فضلاً عمن
دونهم من اتباع الحق؛ مخافة أن يوصف بتلك الألقاب، كما حصل للوليد ابن
المغيرة، وغيره.
2 - وأمر آخر يتعلق بمنهج الاستدلال، وطرائق الاستنباط؛ فإن مما لا
يخالف فيه عاقل أن للاستدلال والاستنباط قواعد وأسساً ومناهج لا يختلف عليها
عقلاء الأرض كلهم، وإن اختلفوا في الفروع والأمثلة، بحسب اختلاف كل بيئة
ولغة ودين، وما دمنا نتحدث باللغة العربية، وننتمي إلى دين الإسلام، ونناقش
فيما أظن مسألة دينية، فلا بد أن نكون محكومين في استنباطنا واستدلالنا بالقواعد
المقررة، والمناهج المسلَّمة التي اتفق عليها علماء المسلمين، والاتفاق على هذه
القواعد مما تقتضيه سلامة الفكر، ومنهجية البحث، وصحة العقل؛ إذ ضياع ذلك
أو العبث به معناه ضياع الحق، واضطراب الفكر، وتناقض الآراء، وهذا هو
التناقض الذي أبدى تركي الحمد استياءه منه.
وتركي الحمد قد ضرب في مقاله بهذه الأسس والمناهج والقواعد عرض
الحائط متخذاً أسلوباً خاصاً، ومنهجاً منفرداً يستنبط به، ثم يقرر النتيجة به؛ فوقع
في التناقض؛ إذ يستدل بالشيء تارة، ولا يستدل به أخرى، ويعتقد الشيء تارة،
ولا يعتقده أخرى؛ فأوقعنا في الحيرة من أمره؛ إذ صرنا نتساءل: ما الحامل له
على ذلك؟ ! أهو الجهل؟ فما ينبغي لجاهل أن يتصدر أعمدة الصحف، ثم
يخاطب جمهوراً عريضاً بمقالات كثيرة في مواضيع شتى، أم التجاهل، وإرادة
إقناع الناس برأي لا يستطيع أن يسلك في إثباته ما تعارف عليه العقلاء، واتفق
على سلامته وصحته العلماء؟ !
وهذان أمران أحلاهما مر، وهما داءان، ولكل منهما دواؤه: فالأول دواؤه
التعلم، والثاني دواؤه الموعظة والتذكير، ثم التوبة والإنابة، والتجرد للحق لا
لغيره.
3 - إن من العدل ألا يكتب الإنسان ولا يتكلم في موضوع معين إلا بعد أن
يكون قد أحاط به، وعلم دقائقه وتفاصيله، وما له أثر فيه مما لا أثر له فيه؛ هذا
إذا أراد أن يحكم على شيء فيه بأنه حق أو باطل، أو صواب أو خطأ، وهذا مما
لا يخالف فيه عاقل؛ إذ لا يسوغ لمن أحاط بطرف من علم أن يتكلم فيه تكلم الناقد
الخبير الذي يصحح ويزيف،
ويحسِّن ويقبِّح، ويصوِّب ويخطِّئ؛ فضلاً عن الجاهل له؛ ومثال ذلك: من
تعلَّم بعض كلمات اللغة الإنجليزية، واستطاع أن ينطق بها مركباً بعضها على
بعض تركيباً ركيكاً، ثم عمد إلى قصيدة كتبها شاعر قدير من شعراء الإنجليز كتبها
قبل مائتي سنة ليترجمها، أو ينقد اللغة التي استخدمها، والتراكيب التي استعملها،
أو يحلل معانيها، ويصوغ أفكارها ومقاصدها بأسلوبه هو وفهمه لها، مع أنه لا
يحيط بلغة القوم وما فيها من دقيق الإشارات، وجميل الألفاظ والكلمات؛ فهذا
مخطئ بفعله لا محالة، وأحكامه إلى الخطأ أقرب منها إلى الصواب؛ لأنه لا يملك
أسس النقد، ولا قواعد الحكم بالتصحيح والتصويب والتحسين، والتزييف
والتخطئة والتقبيح، ومثله أيضاً من عرف بعض قواعد النحو والصرف، وبعض
أساليب البلاغة والبيان، فقام يُخطِّئ فلاناً، ويصوِّب الآخر، أو يقول: هذا أفصح
من ذاك؛ فإنه مخطئ بفعله هذا، وظالم لنفسه وللعلم وأهله؛ لأن مثل ذلك لا يطيقه إلا من أحاط بالعلم؛ فعرف حَسَنه من قبيحه، وصوابه من خطئه؛ ليكون حكمه إلى الصواب أقرب، ومن الخطأ أبعد، وقُلْ مثل ذلك في سائر العلوم والمعارف.
وعلم الشريعة هو أعظم هذه العلوم، والمتكلِّم فيه مبلِّغ عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم المبلِّغ عن الله؛ فلا يحق لأحد أن يتكلم فيه إلا بعلم، أما الجاهل،
ومن علم بعض العلم وجهل كثيراً منه فلا يحق له أن يتكلم إلا تكلُّم السائل المتعلم
الذي يطلب كلام أهل العلم والمعرفة.
وتركي الحمد في مقاله هذا جعل من نفسه حاكماً ومفتياً، وعالماً بالأصول
والحديث، فحكم على بعض الأحاديث، وبين أن مصدرها من كُتُب الإسرائيليات،
وناقش أوجه الاستدلال، وزيَّف بعضها، وصوَّب بعضها الآخر، وأصدر أحكاماً
فقهية، وقرر قواعد أصولية في مبدأ التعارض والترجيح، وكل ما فعله إنما دل به
على جهله المركَّب بعلم الشريعة، ولا يشفع له أنه من المسلمين، أو أنه قرأ كتب
الجاحظ أن يصعد إلى منصب لا يوصَل إليه إلا بعد اتباع مناهج وطرائق في طلب
العلم، والنظر، والبحث والقراءة، كأي علم آخر.
هذه الملاحظات الثلاث هي التي بدت لي أثناء قراءة هذا المقال، وهي
تنصبُّ على المنهج والأسلوب، وطريقة التفكير، والاستدلال والاستنباط، ولا
تناقش النتيجة؛ لأن المنهج إذا كان خطأً فلا يُمدح صاحبه إن أصاب، وإن أخطأ
فالذم ليس لخطئه في النتيجة بل لخطئه في المنهج الذي أداه لمثل هذه النتيجة، كمن
رمى وهو ليس برامٍ، فربما أصاب؛ فيقال: رميةٌ من غيرِ رامٍ، وربما أخطأ وهو
الأكثر فيقال: لم يتعلم الرماية.
ثم لا تعجل عليَّ أيها القارئ؛ فإني قائل لك: إن كل ما وصفتُ به تركي
الحمد من العبث في المصطلحات، واستغلال معانيها الحسنة في بث معاني ليست
حسنة، والخلط في مناهج الاستنباط والاستدلال، والتكلم بغير علم إنما هي دعاوى
لا تثبت إلا بإقامة الدليل على صدقها، لكن كلامي السابق يشتمل على شقين، إن
سلمت لي بأحدهما؛ فلك أن تتابع بعد ذلك.
أما الشق الأول: فهو أني ذكرت ثلاثة مبادئ، لا يختلف عليها عقلاء البشر، وهي:
أولاً: تحديد المصطلحات وبيان المراد منها، وعدم التعمية فيها، حتى تكون
واضحة بينة، وألا يربط بينها وبين معاني معينة ربطاً تحكمياً لا يقبل النقاش
والجدال.
ثانياً: أن للاستدلال والاستنباط قواعد ومناهج متفقاً عليها لا بد من التزامها
لإصدار الأحكام الصادقة السليمة.
ثالثاً: أن من أراد أن يتكلم في علم من العلوم كلام الناقد البصير الذي يُصدِر
الأحكام ويجادل في جزئيات العلم، وفروعه، ونتائجه، وأصوله فلا بد أن يكون
محيطاً بهذا العلم، متبعاً طرائق أهله ومناهجههم في تعلمه، سالكاً سبيلهم، سائراً
على قواعدهم وأصولهم. هذا عن الشق الأول.
أما الثاني: فهو أني حكمت على تركي الحمد بأنه خالف هذه المبادئ كلها،
وأتى بما ينقاضها؛ فإن سلَّمْتَ بالشق الأول فلك أن تسأل عن الأمور التي دلتني
على الحكم في الشق الثاني، وإن لم تسلم بالشق الأول فليس لك حاجة في أن تتابع، ولا أن تسأل.
وها أنا ذاكر كل ما يؤيد الحكم الذي حكمتُ به عليه:
1- قال: (وذلك في تحوير للعبارة الواردة في العهد القديم ... والتي تقول
بأن الله خلق الإنسان على صورته، أي أن الله ذكر..) .
والسؤال هنا: هل قوله: (أي أن الله ذكر) إنشاء منه هو؟ أو من كلام
العهد القديم؟ وأي الأمرين كان فظاهرٌ من العبارة تسليمُ تركي الحمد بها، وإذا كان
كذلك فهل الضمير في (صورته) عائد إلى الله، أو إلى الإنسان؟ وإذا كان عائداً
إلى الله؛ فهل يدل على أن الله ذكر؟ وما وجه الدلالة هنا؟ إذ لا يبدو أي وجه من
التلازم بين خلق الله الإنسان على صورته، وبين الذكورة والأنوثة.
2- قال: (فإننا نجد بعض الكتب التراثية القديمة، والتي ألفها من أسماهم
الجاحظ بالحَشْوية، وأسماهم آخرون بالمُجَسِّمة والمُشَبِّهة ونحو ذلك؛ تأخذ بمقولة:
إن الله خلق آدم على صورته، في تأثر واضح بالإسرائيليات، وروايات كعب
الأحبار، ووهب بن منبه) .
وهنا وقفات:
أ - في كلامه ألفاظ فيها إيهام، وهي: الكتب التراثية القديمة، الحَشْوية،
والمجسِّمة، والمشبِّهة، فما المراد بالكتب التراثية القديمة؟ وهل يدخل فيها كتب
الحديث التي جمعها علماء الإسلام، وفيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله
وأفعاله؟ ومَنْ هم المجسمة والحشوية والمشبهة؟
هل يراد بهم مثبتو أسماء الرب وصفاته على الوجه اللائق به، والذين يقبلون
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا صح سندها ومتنها، سواء كانت متواترة أو
آحاداً؟ أو يراد غير هؤلاء؟ لم يبين تركي الحمد ذلك!
فإن هذا من التخفي وراء الكلمات، والتلاعب بالمصطلحات.
ب - الجاحظ معتزلي، بل هو من أئمة الاعتزال، وله مذهب مستقل يعرف
باسمه، والمعتزلة من الذين ينفون صفات الله تعالى، ومعلوم أن نفاة الصفات
يسمون مثبتي الصفات: مجسِّمة، وحَشْوية، ومشبِّهة؛ فهل ننفي صفات الله تعالى
لكي لا نتصف بهذه الكلمات التي أطلقها الجاحظ وغيره؟ أو نبحث عن الحق
ونتمسك به؟ ولا علينا وُصِفْنا بمثل ذلك أم لم نوصَف؛ فالحق أحق أن يُتَّبَعَ!
ج - سمَّى تركي الحمد (إن الله خلق آدم على صورته) مقولة، والأخذ بها
تأثراً بالإسرائيليات، مع أن هذا اللفظ قطعة من حديث رواه البخاري في كتاب
الاستئذان (رقم 6227) ، ومسلم في كتاب الجنة (رقم 2841) بلفظ: (خلق الله آدم
على صورته) ، ورواه مسلم أيضاً في كتاب البر والصلة والآداب (رقم 2612)
بلفظ: (وإذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته) .
وظاهر كلام تركي الحمد أنه ينكر أن يكون هذا اللفظ من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم، ثم إنه يلزم عنده من هذا اللفظ أن الله ذَكَرٌ، وهو في هذا لا يخلو من
أمور:
الأول: أن يكون قد اطلع على هذه الأحاديث، ودرس أسانيدها؛ فتوصل إلى
أنها ضعيفة، وأنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وأن
القائلين بهذا القول إنما هم متأثرون بالإسرائيليات، وروايات كعب الأحبار،
ووهب بن منبه.
الثاني: أن يكون قد اطلع على هذه الأحاديث، وعرف كلام أهل العلم فيها؛
لكنه بعد دراسة هذه الأقوال تبين له خطأ هذه المقولة، حتى وإن كان الذي قالها هو
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يلزم منها من أن الله ذكر.
الثالث: أنه لم يطلع على شيء من ذلك أصلاً، ولكنه ثبت في ذهنه شيء
معين، ورأى في كلام أصحاب الكتب التراثية القديمة، كالجاحظ مثلاً ما يؤيد
رأيه؛ فقال به.
الرابع: وقد يكون شيء غير ما ذكر، الله يعلمه.
والمقصود من هذا كله أنه قد وقع في أمور أولها: الجهل بدلالات الألفاظ.
وثانيها: استعمال المصطلحات والكلمات الموهمة. وثالثها: رد سنة النبي
صلى الله عليه وسلم، ووصفها بأنها من الإسرائيليات. ورابعها:
الجرأة على التكلم في علم لا يحيط به، ولا يعرف منه إلا ما ذكره الجاحظ
من أسماء كالحشوية والمجسمة والمشبهة.
3 - قال: (مبدع الخلق ... يقرر أن الإنسان عبارة عن ذكر وأنثى، وليس
ذكراً فقط، وأن الأفضل عند الله هو الأتقى، وليس الذكر أو الأنثى؛ وبالتالي هي
المساواة المطلقة بين جناحي الإنسان فيما عدا ذلك من معيار..) .
وهنا وقفات أيضاً:
الأولى: أن الله خلق آدم أولاً، ثم خلق منه زوجه، ومن هذا الزوج بث
رجالاً كثيراً ونساءاً؛ فالمرأة مخلوقة من الرجل الأول، يدل على ذلك قوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً ونِسَاءً] [النساء: 1] .
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى فرق بين الذكر والأنثى في أمور، وساوى
بينهما في أمور، ولم نرَ آية في كتاب الله تأمر بالمساواة المطلقة، أو تدل عليها،
بل قد كلف الله الرجل بالجهاد باليد دون المرأة، وألزم الرجل بالإنفاق على زوجه
وأولاده دون المرأة، وألزمه بحضور الجُمَع والجماعات دون المرأة، وجعل نصيب
الرجل في الميراث أعلى من نصيب المرأة عند الإرث بالتعصيب، وأمر المرأة بالحجاب وعدم إبداء الزينة دون الرجل، وغير ذلك كثير مما تختص به المرأة دون الرجل، أو الرجل دون المرأة، وساوى بينهما في أمور كثيرة أيضاً، فكيف يسوغ القول بأن الله يقرر مبدأ المساواة المطلقة؟ ! وهل يسلِّم تركي الحمد بمثل هذه الأمور الثابتة في كتاب الله؟ أم أنه لا يسلِّم بها لمناقضتها مبدأ المساواة المطلقة؟ !
الثالثة: أن الاستدلال بالآيات الدالة على أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى
على مبدأ المساواة المطلقة خطأ في الاستدلال؛ فإن هذه الآيات تقرر مبدأ من مبادئ
المجتمع الإنساني، وأنه لا يقوم إلا على الزوجية، لكن ليس في ذلك ما يدل على
وجود مبدأ المساواة لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاماً، كما إذا قيل: إن اليوم الكامل
لا يمكن وجوده إلا
بالليل والنهار، فإن كل عاقل لا يفهم من ذلك مبدأ المساواة المطلقة بين الليل
والنهار؛ فلليل خصائص ومزايا لا توجد في النهار، وكذا العكس، والناس يفرِّقون
بينهما بحسب فائدة كل منهما، فكذلك الرجل والمرأة هما معاً يشكلان المجتمع، ولا
قوام للمجتمع إلا بهما، لكن لكل منهما خصائص ووظائف يمتاز بها عن الآخر.
4 - قال: (كون المرأة تختلف عن الرجل في وظائفها البيولوجية مثلاً، أو
أن الرجل يختلف عن المرأة في ذلك لا يعني ميزة لأحدهما على الآخر بقدر ما
يعني التكامل الوظيفي بين جناحي الإنسان كي يكون إنساناً كاملاً) .
ثم قال: (أن يختلف هذا الجناح عن ذاك الجناح مسألة طبيعية، بل
ضرورية من أجل التكامل وأداء الوظيفة الطبيعية، ولكن ذلك الاختلاف لا يعني
ميزة لأحدهما على الآخر، أو فضلاً طبيعياً لهذا على تلك، أو لهذه على ذاك) .
إذاً هما مختلفان، والاختلاف في الوظائف البيولوجية يعني الاختلاف في
الوظائف الاجتماعية، وهذا ينفي مبدأ المساواة المطلقة؛ لأن المساواة تارة تكون
عدلاً، وتارة تكون ظلماً، فمن ساوى بين الغني والفقير، والعالم والجاهل،
والقوي والضعيف، والعامل والخامل في الواجبات والوظائف والحقوق فقد أخطأ
وأوقع الظلم على أحد الفرقاء، وأما إذا ساوى بينهم في العدل والإنصاف، بحيث لا يُظلَمُ أحد من حقه شيئاً؛ فقد أحسن.
ثم إنه مع اعترافه بالاختلاف إلا أنه ينفي التمايز بينهما، ويثبت المساواة،
مع أن الله نفى المساواة، وأثبت الاختلاف، وفاضل بين الذكر والأنثى؛ فقال
تعالى: [وليس الذكر كالأنثى] [آل عمران: 36] وقال أيضاً: [ولا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ] [النساء: 32] ، وقال: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] [النساء: 34] وقال: [ «ولَهُنَّ مِثْلُ الَذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [البقرة: 228] وهو مع هذا
التفضيل أمر بالعدل، والإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه، ونهى عن هضم
الحقوق والإساءة إلى الآخرين.
5 - قال: (الاختلاف الذي يستند إليه الإنسان في تفضيل الأنثى على الذكر
في عالم الحيوان مثلاً هو ذاته الذي يجعله يقلل من شأن الأنثى في المجتمع
الإنساني؛ ليس لأن الذكر أفضل من الأنثى، أو أن الأنثى أفضل من الذكر
بالطبيعة وبداية الخلق؛ بل هي مجرد معايير مرتبطة بشكل التركيبة الاجتماعية
المهيمنة، وليست مرتبطة بالطبيعة المجردة لذات الكائن أو الشيء أو العلاقة) .
وأقول: إن تفضيل أحد الجنسين على الآخر لا يلزم منه التقليل من شأن
الآخر، بل لكل منهما شأنه الخاص به، الذي يميزه عن غيره. وتفضيل الأنثى
على الذكر في عالم الحيوان يستند إلى اختلاف وظائفهما، وما يُجنى من كل منهما
من فوائد، وهذا التفضيل لم يضعه الإنسان لمجرد معايير مرتبطة بشكل التركيبة
الاجتماعية المهيمنة، بل استناداً إلى طبيعة كل منهما، وما خلق الله لكل منهما من
عناصر، وحدد لهما من وظائف.
وتركي الحمد هنا يريد من كل ذلك أن يثبت لنا أن طبيعة كل من الذكر
والأنثى وبداية خلقهما ليس فيها أي تفضيل بينهما، بل هما سواء، والاختلاف في
الوظائف البيولوجية إنما هو ضرورة للتكامل الوظيفي، ولكن لا يلزم منه التمايز،
ولا التفاضل، بل ليس بينهما إلا المساواة المطلقة، وكل محاولة للتمييز والمفاضلة إنما منشؤها معايير اصطنعها الإنسان، أو كانت نتيجة المداومة على عادة معينة..
وكل هذا في الحقيقة مناقض للشرع والعقل:
أما الشرع: فلِمَا سبق من أن الله فاضل بين الذكر والأنثى، والمفاضلة هنا
بين الجنسين، وليس بين الأفراد، فجنس الرجال يفضُل جنس النساء، أما في
الأفراد فقد يوجد من النساء من يفوق الرجال، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأما العقل: فإن وجود الاختلاف بين طبيعة جنسين مثلاً ينفي وجود المساواة
بينهما. نعم! ربما استويا في أمور، لكن أن يكونا على السواء في كل شيء؛ فهذا
مما ينافي العقل.
ويصر تركي الحمد على أن المفاضلة تعني التقليل من شأن الأنثى؛ فيقول:
(وإذا كانت المفاضلة بين الرجل والمرأة، والتقليل من شأنها بالنتيجة النهائية) ،
وهذا ليس بصحيح؛ فليس من لوازم المفاضلة التقليل من الشأن، أو الحط من
القيمة، أوالتحقير في الوظيفة.
فللمرأة وظيفتها، وقيمتها، ومكانتها، واستقلاليتها، لكن كل ذلك محكوم
بنظام الشرع. نعم! ربما حملت المفاضلة بعض الناس على التقليل من شأن المرأة، والحط من مكانتها، واحتقار آرائها وأعمالها، وهذا تصرف خاطئ، إلا أن
معالجته لا تتم بادعاء أمر يناقض الشرع والعقل، بل بفك الارتباط بين المفاضلة
وبين التقليل من الشأن والاحتقار والازدراء.
6 - قال بعد أن ذكر وضع المرأة في عهد قساوسة القرون الوسطى:
(واختلف الإسلام منذ فجره الأول عن كل ذلك بإقرار مبدأ المساواة بين
الرجل والمرأة في كل شأن إنساني؛ فهن شقائق الرجال، وبعضهم لبعض أزواج،
والجميع مكلفون التكليف ذاته، ويشملهم الخطاب، وما يضمنه من ثواب وعقاب) .
ثم قال: (الأمور انقلبت منذ عصور الانحطاط؛ فأصبحنا اليوم نفعل ما كانوا
يفعلونه بالأمس، ويفعلون هم اليوم ما كنا نحن نفعل بالأمس، أو ما نحن مأمورون
فيه على الدوام من فعل وعمل؛ وفقاً للدين الذي نعتنق، ووفقاً لكلمات الخالق التي
لم يعتَرِها التحريف منذ أن أوحيت إلى خاتم الأنبياء والمرسلين) .
ادَّعى تركي الحمد هنا أن الإسلام أقر مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في كل
شأن إنساني، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كانوا يعاملون المرأة
ويتعاملون معها كما يتعامل معها الغرب الآن، واستدل على ذلك بحديث: (النساء
شقائق الرجال) [1] ، وأن بعضهم لبعض أزواج، وأن التكليف شامل لهم معاً،
والخطاب موجه لهم معاً، ثم بعد أن استراح إلى ذلك ادعى أننا اليوم نتعامل مع
المرأة كما تعامل معها أهل القرون الوسطى من النصارى، وأن النصارى يتعاملون
معها الآن ويعاملونها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يفعلون، وفي
هذا عدد من المغالطات:
أ - الدعوى أخص من الدليل؛ بمعنى أن الدليل عامٌّ، والدعوى خاصة،
ومعلوم أن الأعم لا يستلزم الأخص، فإذا قلت: في البيت إنسان؛ فلا يلزم من ذلك
أن يكون الموجود زيداً، فقد يكون زيداً، وقد يكون غيره، فإذا أراد أحد أن يثبت
وجود زيد لثبوت وجود إنسان فهو مخطئ في الاستدلال، وهذا ما حدث هنا؛
فكون النساء شقائق الرجال، وأنهن خوطبن بالخطاب نفسه، ويلزمهن التكليف ذاته، ومعرضات للثواب والعقاب لا يدل ذلك على المساواة في كل شأن إنساني. نعم!
هو يدل على المساواة في أمور لا في كل الأمور، وقد ثبت أن الشارع نفى
المساواة المطلقة بينهما، كما سبق.
ب - ولخطئه في الاستدلال أخطأ فيما تفرع عنه؛ حيث فهم من هذه الأدلة
المساواة المطلقة التي يمارسها الغرب الآن، وهذا ما دفعه للقول بأنهم يفعلون ما
يجب أن نفعله نحن، أو ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يفعلونه
بالأمس، قبل عصور الانحطاط، وفي هذا مغالطة خطيرة؛ إذ ما يفعله الغرب هو
مساواة مطلقة، لكن ليس هو ما فعله الإسلام
بالمرأة عينه، ولا ما أمرنا الله أن نفعله، بل الله نفى المساواة المطلقة، وكل
مسلم عاقل يدرك أن ما يحدث في الغرب هو ظلم للمرأة، واستغلال بشع لأنوثتها،
وإبراز لمفاتنها، ومحاسنها؛ لتكون دعاية تُسَوَّق بها السلع، أو شبكة يصاد بها
أهل الأهواء والشهوات. لقد حقق الغرب للمرأة بعض حقوقها المهضومة، لكنه
أهدر من كرامتها، وأضاع من حقوقها أضعاف أضعاف ما حققه لها، فحمَّلها فوق
طاقتها، وكلفها بما ليس من خصائصها، وشغلها عن مهمتها ووظيفتها الحقيقية
بأمور لا تعود عليها إلا بالشقاء والنصَب التي ظاهرها السعادة، وباطنها التعاسة،
أخرجوها لتطبخ للرجال بدل أن تطبخ لزوجها وولدها، ولتخدم الرجال في مكاتبهم
وأماكن عملهم بدل أن تخدم زوجها وولدها؛ فأهملت بيتها وأسرتها، وأضاعت مكانتها، وأنزلت من قيمتها وقدرها.
وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط قبل بضعة أشهر إحصائية عن كثرة إيذاء
المدراء لسكرتيراتهم بالتحرش والمضايقة الجنسية، وسوء استغلال هؤلاء لحاجة
المرأة للعمل، وضعفها وعدم قدرتها على دفعهم، ونشرت أيضاً قبل ذلك إحصائية
تبين أن المدارس التي مُنِعَ فيها الاختلاط كان التحصيل العلمي فيها أكثر من
المدارس التي فيها اختلاط، ونشرت أيضاً أن وزارة الدفاع الأمريكية أصدرت عدداً
من القرارات تتضمن منع خلوة الرجل بالمرأة، وما ذاك إلا لشدة ما عانوا من سوء الاختلاط والتبرج؛ فهل الله الحكيم العليم البر الرحيم يأمر بأن نُخرِج المرأة من بيتها لتسير على خُطا المرأة الغربية الكافرة؟ ! ألا يعقل تركي الحمد ما يقول؟ ! ! هل يجوز أن يُنسب مثل هذا لدين الإسلام؛ وبهذا التعميم الذي ينكره الجاهل فضلاً عن العالم؟ ! ! ثم ما هي الأفعال التي نمارسها اليوم تجاه المرأة وتشبه تصرفات نصارى القرون الوسطى؟ ! لم يذكر لنا مثالاً على ذلك، إلا بأن قال: إن أهل العادات يحمِّلون المرأة الجانب الأكبر من التكاليف بأمرها بالحجاب والستر، ومنعها من الاختلاط بالأجانب، والسفر إلا مع ذي محرم؛ فمن الذي أمر بكل
ذلك؟ ! فهل يريد تركي الحمد أن يهدم الدين باسم الدين؟ ! وما معنى الإسلام؟ ! وما معنى أن يكون الرجل من المسلمين ثم يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويفهم الإسلام بحسب ما يمليه عليه الهوى والرغبة؟ ! ! ربما أساء بعض الرجال في استعمال حقوقهم؛ فمنعوا المرأة حقوقها، وساموها سوء العذاب، وخالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فهل الحل بأن نأمر المرأة بأن تسيء هي أيضاً استخدام حقوقها، وتتمرد على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ونزعم أن الإسلام جاء بالمساواة المطلقة بينها وبين الرجل؟ ! كلا؛ فليس هذا صنيع العقلاء، وإنما الحل يتمثل بإحياء أثر الدين في النفوس، وتطبيق أحكام الشرع تطبيقاً يمنع الظلم ويرفعه.
7 - ثم مثَّل بمثال على الموازنة في كلمات الخالق بين جناحي المجتمع في
الأوامر والنواهي، وما فعله بعض أهل العادات والتقاليد والهوى والمصلحة من
تحميل المرأة القدر الأكبر من هذه التكاليف، وغض الطرف عن الرجل، فقال: ... (يقول الباري في محكم كتابه: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ
أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتُوبُوا إلَى اللَّهِ
جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [النور: 30، 31] . نجد هنا أمراً ربانياً
بمسلك من مسالك الفضيلة، والخطاب فيه موجه إلى الذكر والأنثى، على السواء
وفق معادلة متكافئة الجانبين، ولكن في كثير من الأحيان إن لم يكن في أغلب
الأحيان وفي الواقع والسلوك الاجتماعي المعاش نجد أن هناك تشديداً
على المرأة حتى فيما هو مرخص فيه في [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا] فلا يتسامح حتى مع ما ظهر منها، أو [ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ] ومع أن الخمار معروف لغة، والجيب معروف لغة، ولكن الوجه يدخل في القضية، وعلى الجانب الآخر نجد هناك من التسامح مع الرجل في هذا المجال حتى فيما هو مشدد فيه [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] وغير ذلك من سلوكيات بما يجرح مبدأ المساواة الأولى) .
لنتأمل المثال الذي ذكره: لقد اشتملت الآية في جانب الرجال على أمرين:
غض البصر، وحفظ الفرج، واشتملت الآية في جانب النساء على هذين الأمرين،
ولم تقف عند هذا، بل زادت بذكر تكاليف للمرأة خاصة بها، لا يشاركها فيها
الرجل؛ فأين المعادلة المتكافئة بين الجانبين؟ !
فإذا اختلف العلماء في الوجه هل هو مما يجوز إظهاره، أو مما لا يجوز؛
فهل يكون في ذلك تحميل للمرأة القدر الأكبر من التكاليف، وغض الطرف عن
الرجل؟ ! وهل في هذا جرح لمبدأ المساواة الأولى؟ ! إن كان ذلك فالآية هي التي
جرحت هذا المبدأ؛ حيث كلفت المرأة أن تخفي زينتها عن الأجانب بينما لم تكلف
الرجل بذلك.
حينما نقول: يجوز للرجل أن لا يغض طرفه، ولا يحفظ فرجه، ولا يجوز
للمرأة ذلك؛ نكون حينئذ قد تسامحنا مع الرجل، وحمَّلنا النصوص فوق ما تحتمل،
وظاهر كلام تركي الحمد فيه إشارة إلى هذا، لكني لا أعلم عالماً من علماء
المسلمين يقول بمثل ذلك إلا أن يكون في مخيلة تركي الحمد نفسه؛ فهذا مما لا
أعلمه. أما أن يكون في الخلاف في وجه المرأة: هل هو عورة، أو ليس بعورة؟
تحميل للنصوص ما لا تحتمل وتحميل للمرأة القدر الأكبر من الأوامر والنواهي فهذا
جهل بحقيقة الخلاف ودلالات الألفاظ، وتحميل للكلام فوق ما يحتمله، وأعجب
شيء وأقبحه أن يكون جهل امرئ من الناس حاكماً على آراء الآخرين واستنباطاتهم.
ثم.. لِمَ هذا الربط بين القول بأن وجه المرأة عورة، وبين العادات والتقاليد؟ !
8 - قال: (المواطَنة ابتداءاً تفترض المساواة بين المنتمين إلى بلد واحد) .
يقال في هذا مثل ما قيل في قوله: (إن الإسلام أقر مبدأ المساواة المطلقة) ،
فالمواطنة تفترض العدل بين الناس، ومن العدل أن تساوي حين تكون المساواة
عدلاً، وأن تفرق وتمايز وتفاضل حين يكون ذلك عدلاً، ولا أظن أن تركي الحمد
نفسه يرضى أن يُساوَى في كل شيء بجاهل لا يقرأ ولا يكتب، بل لكل واحد منهما
من الحقوق، وعلى كل واحد منهما من الواجبات بحسب ما عندهما من العلم،
والمؤهل، والكفاءة، وحسن العمل.
لكن تركي الحمد من أول مقاله إلى آخره يريد أن يثبت هذا المصطلح:
(المساواة المطلقة) ليمرر من تحته ما شاء من أفكار وآراء.
9 - قال: (ورغم أن أوامر كثيرة بالنسبة للمرأة كانت خاصة بنساء النبي
الأكرم صلى الله عليه وسلم: [يا نساء النبي ... ] [الأحزاب: 32] إلا أن
البعض يعممها على غيرهن من النساء) .
في هذا الكلام عدد من الملاحظات:
أ - ليس كثير من الأوامر بالنسبة للمرأة خاصاً بنساء النبي صلى الله عليه
وسلم كما ادعى هنا، بل هذه الأوامر التي يزعم أنها خاصة بنساء النبي صلى الله
عليه وسلم وصُدِّرت بـ[يا نساء النبي] وجدت في سورة واحدة، في آيات
معدودة منها، وما عدا ذلك، فمِن أول القرآن إلى آخره وهو كثير كله عام لجميع
النساء.
ب - اختلف العلماء في الخطاب الموجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم:
هل هو خاص بهن، أو عامٌّ لجميع النساء؟ والقائل بالقول الثاني لم يكن الحامل له
على القول بذلك الهوى والمصلحة والعادات والتقاليد كما يذكر تركي الحمد، بل
استدل بأدلة صحيحة صريحة، منها: أن من الأساليب العربية توجيه الخطاب إلى
واحد، مع إرادة غيره ممن هو دونه، أو فوقه، كقوله تعالى: [يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء ... ] [الطلاق: 1] الآية، وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ولا تُطِعِ
الكَافِرِينَ والْمُنَافِقِينَ] [الأحزاب: 1] الآية، وقوله [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً] [النحل: 123] الآية، وقوله: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا]
[الروم: 30] الآية، وغير ذلك من الآيات؛ لكن تركي الحمد جهل ذلك؛ فلم
يذكره، أو تجاهله؛ فطواه، وكلاهما أمران قبيحان.
ج - قوله: (إلا أن البعض يعممها) فيه تجهيل وحط من مقدار القائل بهذا
القول، والعدل والإنصاف يقتضي المساواة بين أهل الأقوال بذكر آرائهم دون حط
من مقدارهم، أو الاستهزاء بهم.
10 - قال: (عندما تكون المرأة ذات عقل راجح، ومشهوداً لها بذلك، ومع
ذلك لا تؤتمَن على نفسها في سفر، أو غيره مثلاً مع أنها مؤتمَنة على ما هو أكبر
من ذلك، كأن تكون أستاذة جامعية، أو مربية جيل، أو امرأة أعمال فإن في ذلك
جرحاً ليس لمفهوم المواطَنة وممارستها فقط التي تفترض مساواة في الحقوق
والواجبات، بل وفي منطقية السلوك برمته؛ إذ كيف تؤتَمَن على جيل بأكمله مثلاً، أو ثروة عريضة، ولا تؤتمن على ذاتها؟ فإما أن تكون غير أمينة، أو حتى
قاصر غير قادرة على تمييز الحق من الباطل؛ وذاك مما يناقض التكليف الإلهي
ذاته القائم على كمال العقل؛ فلا تؤتمن بالتالي على شيء على وجه الإطلاق، وإما
أن تكون أمينة وغير قاصر؛ فتؤتمن على كل شيء، وأول ذلك كله أن تؤتمن على
ذاتها المباشرة، ولا وسط بين الطرفين في هذه المسألة، هذا إذا كان مفهوم
المواطنة وشرعية الأمور ومنطقيتها هي معيار الحكم وفيصله بطبيعة الحال) .
إن كل ما سبق من مقدمات تركي، واستدلالاته لتثبيت مبدأ المساواة المطلقة
إنما يراد به الوصول إلى هذه النتيجة، وهي نسف مسألة منع المرأة من السفر
وحدها، وتحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية بلا محرم، مع تغطية المرأة وجهها
الذي سبق الحديث عنه، وقد حاول أن يحشد ما استطاع من كلمات: كمفهوم
المواطنة، وممارستها، ومنطقية السلوك،
وشرعية الأمور ومنطقيتها، والتناقض؛ ليحاصر فكر القارئ وعقله،
ويجعله يسلِّم بما توصل إليه.
ويمكن تلخيص ما ذكره في نقطتين:
أولاهما: تصويرُه أن منع المرأة من السفر وحدها، ومنعها من الخلوة
بالرجال الأجانب تخوين لها، وإسقاط لمبدأ الأمانة على نفسها، هذا مع أنها مؤتمنة
على ما هو أكبر من ذلك، وهذا كما يتصور الحمد تناقض؛ فإما أن تؤتمن على كل
شيء، أو لا تؤتمن على شيء، ولا وسط بين الطرفين عنده.
ثانيهما: أن ذلك بحسب ما توهم مناقضة لمبدأ المساواة، وكل ما ناقض مبدأ
المساواة فهو باطل.
وفي هذا رد لنصوص الكتاب والسنة، واتهامها بأنها متناقضة، وعبث
بمعانيها، وفهمها فهماً قاصراً، دون ضابط ولا منهج مستقيم، اتباعاً للهوى
والرغبة، وقد قال الله تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
مُّبِينًا] [الأحزاب: 36] .
وأول سؤال هنا: من الذي منع المرأة أن تسافر بلا محرم، وحرم على
الرجل أن يختلي بالمرأة الأجنبية، وحرم على المرأة كذلك الخلوة بالرجل
الأجنبي؟ ! أليس الله الذي حرم ذلك؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافرِ المرأةُ إلا مع ذي محرم، ولا يدخلْ عليها رجل إلا ومعها مَحْرَم) [1] ، وقد قال الله تعالى: [ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] [الحشر: 7] ؛ ... فلِمَ الاعتراض؟ !
وسؤال ثان: ما الحكمة التي لأجلها كانت تلك الأحكام؟ وما هي عادة الشرع
في إصدار الأحكام وربطها بعللها؟
وسؤال ثالث: من هو المؤهَّل لاستنباط الأحكام والعلل من كلام الشارع؟
وهل لذلك ضوابط، أم هو مباح لكل متكلم؟
وسؤال رابع: هل مَنْعُ المرأة من السفر وحدها تخوينٌ لها، وعدم ائتمان لها
على نفسها؟ ! فالرجل ممنوع من الخلوة بالأجنبية أيضاً؛ فهل ذلك عدم ائتمان له
أيضاً على نفسه؟
وسؤال خامس: هل من ائتمن على شيءٍ مَّا ائتمن على كل شيء؟ وكذا
ضده؟
وسؤال سادس: ما التناقض؟ وما حقيقته؟
وسؤال سابع: هل المساواة المطلقة على اسمها ليس لها ضابط ولا حد، أو
أن لها حدوداً، وضوابط؟ وإذا كان الجواب بنعم؛ فما هي؟ ومن الذي يحددها
ويضبطها؟
كل هذه الأسئلة لا بد من الإجابة عنها بجواب مقنع حتى يتضح الأمر،
ويظهر الحق من الباطل؛ إذ الحق مقصود كل عاقل، أما التعمية في الكلام،
والتكلُّم بمجمل من القول يحتمل حقاً وباطلاً، وإصدار أحكام قطعية دون بحث
ونظر وتأمل وتفكر، والحكم على كلام الشارع بأنه متناقض فهذا لا يزيد الأمور إلا
اضطراباً، ولا يُعرَف به الحق من الباطل.
وأخيراً:
فإنه لا يحق لكاتب يمسك قلماً ليخط به حديثاً في موضوعٍ مَّا إلا بعد
أن يلم بأطراف الموضوع إلماماً يميز به الخطأ من الصواب، ويمتلك الآلة التي
تمكنه من إدراك الحقائق على الوجه الصحيح، ويكون مقصده إيضاح الحق،
وإيصاله إلى القارئ؛ إذ إن حَمْلَ القلم أمانة، والتفريط فيها خيانة للأمة بجميع
طبقاتها وفئاتها.
وقد حاولت الاختصار مع أن الحديث قد طال، لكن المقام مقام خطير،
والإيضاح فيه مطلوب؛ لأن المنهج إذا فسد وأصابه الخلل والاضطراب أدى ذلك
إلى نتائج وخيمة لا تحمد عقباها، وأرجو من الله أن يقع هذا الحديث موقعه، وأن
ينفع به.
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 1862، ومسلم، ح/1341.(147/124)
بأقلامهن
هجرة العقول الإسلامية
بدرية محمد
إن عنوان هذا المقال يثير الكتثير من الحزن والكمد على عقولٍ ذهبت وجعلت
من دول الغرب مقراً لها، ولكن في بداية حديثنا نود أن نبحر في قواميس اللغة
حتى نعرف معاً معنى كلمة هجرة.
ففي القاموس الوسيط يقول المؤلف: إن المُهَاجِر: الذي هاجر مع النبي،
والمهاجَر موضع المهاجرة والمَهْجَر: المكان الذي يهاجر إليه، ولكن إذا انتهينا من
معنى هذه الكلمة الصغيرة فإنا نود أن نعرف كيف تكون الهجرة وما هي أسبابها؟ !
فالهجرة في هذا الوقت تلعب دوراً كبيراً في تعزيز الاقتصاد الغربي، وكثير
من المهاجرين هم من المسلمين، والهجرة التي أعنيها: هي هجرة المفكرين
المسلمين إلى بلاد الغرب لمزاولة الأعمال مثل: التطبيب والهندسة وغيرها من
الأعمال الهامة التي تشكِّل في بلاد المسلمين فجوة كبيرة، ونحن ما نزال في حاجة
إلى الغربيين في كثير من الاختصاصات؛ لكن نحن نستورد منهم العقول الساذجة
التي لا تحمل أي معنى أو ثقافة أو أي معلومة هامة؛ لكنها تدعي ذلك، ومما يدل
على قولي أنه في أحد المستشفيات في هذه البلاد الإسلامية الواسعة كان هناك
طبيبان أمريكيان جاءا على أنهما في اختصاص القلب، وفي أول يوم سوف
يجريان عملية جراحية؛ ولكن بدأا يتحدثان؛ فقال أحدهما للآخر: كيف سنجري
العملية ونحن لا نعرف شيئاً؟ فقال الآخر: وما الذي يشغلك؟ نحن جئنا
لنجري العمليات وكأننا في محطة تجارب. وكان المريض عجوزاً فظنا أنه لا يفهم
اللغة الإنجليزية، فقفز هذا العجوز، وأخبر مدير المستشفى بذلك، وتم طرد هذين
الطبيبين.
والمشكلة هنا هي أنَّ علماءنا ومفكرينا الأفذاذ هم الذين يجلسون في بلاد
الغرب بينما العقول الخاوية هي التي تستوردها بلادنا فتأخذ الخبرة، وتدرس أحوال
المنطقة، وتدعو إلى النصرانية كما قالت (إيراهاريسن) تنصح طبيباً ذاهباً بمهمة
تنصيرية: (يجب أن تنتهز الفرصة لتصل إلى آذان المسلمين وقلوبهم فتكون لهم
بالإنجيل. إياك أنه تضيِّع التطبيب في المستوصفات والمستشفيات؛ فإنه أثمن تلك
الفرص على الإطلاق، ولعل الشيطان يريد أن يفتنك فيقول لك: إن واجبك
التطبيب فقط لا التبشير فلا تسمع منه) [1] .
ولكنْ هناك أسباب لهذه الهجرة: فمنها أسبابٌ سياسية، ومنها أسبابٌ مادية،
ومنها أسبابٌ اجتماعية.
والمشكلة التي يعاني منها العالم الإسلامي وخصوصاً العربي المضايقات التي
تحدث للعلماء والمفكرين فيلجؤون إلى بلاد الغرب حتى يمارسوا حرياتهم، لكن هذه
المشاكل التي تحدث لهم في بلادهم التي تدَّعي الإسلام هي في الحقيقة التي لا تخفى
على الكثير علمانية قد لبست جلد الأغنام وهي ذئاب بشرية مخيفة.
والسبب الثاني الماديات التي سلبت عقول البشر وأسرت أفئدة الناس وجعلتهم
يفكرون فيها صباح مساء؛ فهم يستقبلون المهاجرين إليهم ويمنحونهم جنسية الدولة، فإلى الله المشتكى!! ! ففي الدول الغربية يرفهون ترفيهاً كبيراً وتُغدَق عليهم ...
الأموال؛ فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ ! هل يذهبون إلى بلادهم لينال بعضاً منهم
الفقرُ ويعاني بعضهم الآخر من عدم التشجيع العلمي الذي ينمي أفكارهم ويزيد
مخترعاتهم؟ ! فكان طبيعياً لما وقع من ضعف علمي أن يهاجر العقل الواعي
المسلم من بيئته التي لا يوجد بها أدنى احتفال حقيقي بالعلوم إلى الغرب الذي فتح
أبوابه لكل قادم. (ويعاني العالم الإسلامي في هذا العصر من نزيف يكاد ينخره وهو نزيف العقول الإسلامية المهاجرة التي تضم كفاءات علمية وأكاديمية أصبح العالم الغربي يعتمد عليها في بناء حضاراته) [2] .
يقول الأستاذ الدكتور (محمد علي موسى) : (إن عدد الأطباء المسلمين
الموجودين في باريس وحدها أكثر من الأطباء الموجودين على التراب الجزائري،
والباكستانيون بالذات بالآلاف في لندن حتى إن أكبر طبيب في تخصص القلب
والشرايين باكستاني وهو مقيم في لندن، وقد التقت به ذات يوم هيئة الإذاعة
البريطانية. ويشير تقرير رسمي للحكومة الباكستانية عام 1979م إلى دراسة قام بها اثنان من الأساتذة إلى أنه في اليوم التالي لإعلان نتائج كليات الطب في باكستان تقدم 90% من الخريجين بطلب إلى السفارة الأمريكية والبريطانية للهجرة.
أما الدراسة التي أُعدت عن مصر وهي دراسة محدودة بالنسبة لبلدٍ واحد مسلم: منذ سنة (1970م) وعلى مدار عشر سنوات امتنع (950) ممن حصلوا على
الدكتوراه من العودة إلى مصر، وحينما نترجم هذه الدراسة إلى أرقام تصبح مصر
كأنها هي التي تعطي معونة إلى أمريكا. ويبلغ عدد المسلمين المهاجرين من
مهندسين وخبراء وأطباء في أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا 100 ألف عالم من
أصحاب الكفاءات العالية، ولو أن كل واحد منهم أنتج بحثاً على مدار العام لأصبح في عالمنا الإسلامي مائة ألف بحث؛ فكم من مشكلة تحلها هذه البحوث! وكم من إبداع يبدعه هؤلاء الباحثون!
لقد شهد الغربيون بهذه الظاهرة: ظاهرة هجرة العقول الإسلامية؛ ... فهذا رئيس جامعة كورنيل الأمريكية يصرح أمام الكونجرس بأن المهاجرين المسلمين من الأطباء وفَّرُوا على الولايات المتحدة إنشاء 30 كلية طب سنوياً [3] . وليس ذلك في مجال الطب فحسب بل في مجالات الصناعة كذلك؛ فمثلاً في مصنع (جمسي) الأمريكي يعمل 24 ألف يمني في هذا المصنع في الولايات المتحدة.
وأذكر كذلك إحدى المرات حين كنا ننصت إلى محاضرة لأحد الأساتذة ... خلال الشبكة المرئية أنه قال: إن غالبية الباحثين والعلماء المفكرين في الغرب هم الباكستانيون والهنود والمصريون المسلمون الذين يبحثون ويُجربون في المختبرات. ومن سعة مكر الغرب ودهائهم أن إحدى الطبيبات السعوديات وتُدعى سامية قُتلت في الولايات المتحدة الأمريكية على إثر اختراع جهاز يتمكن من إزالة سرطان المخ؛ لأن صاحب العمارة طلب منها أن تبيعه هذا الجهاز بأي ثمن تريد فرفضت. إذن ما هي الفائدة التي تجعلنا نبعث أبناءنا إلى الغرب كي يجلسوا هناك وينالوا الجنسيات أو يُقتلوا؟ ! لكن السؤال الذي يُبْرز نفسه على ساحة الواقع، ويضع أمامه العديد من علامات الاستفهام هو: هل نحن المسلمين بنينا حضارة الغرب في البداية ونبنيها في الوقت الحاضر؟ ! !
__________
(1) الغارة على العالم الإسلامي.
(2) قلاع المسلمين مهددة من الداخل.
(3) المصدر السابق.(147/136)
المنتدى
نعم.. كانوا كِبَاراً في كل شيء
طارق محمد العمودي
ما أن نتصفح سير أسلافنا، وخاصة أهل القرون الثلاثة الفاضلة حتى نرى ما
يُتعجب منه.
لقد كانوا كباراً في كل شيء.. في عبادتهم لله تعالى، والمنقول عنهم في ذلك
معروف عجيب، وفي خوفهم من الله تعالى وخشوعهم له، في تربيتهم لأبنائهم،
وفي تربيتهم الذاتية لأنفسهم، وفي معاملاتهم مع العباد وكذا مع غير المسلمين،
وفي فعل الخيرات واستغلال مواسم العمر.
ولو حلفت بالله العظيم أنهم قد أعجزوا من بعدهم لم أكن حانثاً.
ووصل الأمر بهم أنهم كانوا كباراً حتى فيما يتمنونه؛ فلم يتركوا لحب الدنيا
منفذاً لدى أمنياتهم.
وما ذلك إلا لعلمهم بأنَّ التمنّي يدل على الهمّ الذي يحمله الإنسان، ومن أجله
يصل إلى الغاية المنشودة.
فانظر رحمك الله إلى ما يتمناه الكثير منا في زماننا هذا. لا تجد في كثير
منها إلا أمنيات شكلية، مادية بحتة، تقليدية منبهرة بالغرب، تتصدر لدى الكثير
منا دعاءه لله تعالى ويشفعها بعد ذلك على استحياء منه بنصرة هذا الدين وإخواننا
المسلمين في كل مكان! ! فكنا بذلك صِغَاراً، فهُنَّا على الله عز وجل، فَصغَّرَنا في
عيون أعدائنا من إخوان القردة وأكلة الخنزير، والجزاء من جنس العمل، وما ربك
بظلام للعبيد.
ولقد تفطَّن لهذا الأمر الحافظ المؤدِّب ابن أبي الدنيا رحمه الله، فألف كتاباً
عظيماً مشوقاً في بابه سماه: (كتاب المتمنين) ساق فيه بأسانيده عن سلفنا الصالح
ما كان يتمناه الواحد منهم، فأودع فيه ما يدهش القارئ والسامع معاً، فأحسن في
جمعه، ولا أعلم من صنف في موضوعه مثله.
وأسوق إليك بعضاً من أمنيات المتمنين من سلفنا لشحذ الهمم والاقتداء بهم كي
نكون كباراً مثلهم: - لما طُعن عمر رضي الله عنه قال له ابن عباس: أبشر
بالجنة. قال:
والله! لو أنَّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هوْل ما أمامي قبل أن أعلم ما
الخبر [1] .
- وهو القائل رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر. فضرب
بذلك مثالاً للتقدير والاحترام [2] .
- وهو القائل لجلسائه: تمنوا. فتمنّى كل واحد منهم شيئاً، فقال عمر:
أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة ابن الجراح [3] .
فانظر إلى ما تمناه هنا ولم يُعِرْ للذهب والفضة اهتماماً، واختار بدلاً عنهما
مثل (أمين الأمة) يكونون ولاة حق وعدل على رعيته.
- وتمنى أبو عبيدة فقال: يا ليتني كبش فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحَسَوْا
مَرَقي [4] .
- وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: يا ليتني إذا متُّ كنت
نسياً منسياً [5] .
- وقال مالك بن دينار: وددت أنَّ الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لي:
يا مالك! فأقول: لبيك، فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي
عني، فيقول: يا مالك كن اليوم تراباً [6] .
- وقال يزيد الرقاشي: يا ليتني لم أُخلق، وليتني إذْ خُلقتُ لم أُوقَف، وليتني
إذ وقفت لم أحاسب، وليتني إذ حوسبت لم أُناقش [7] .
- وخطب الحجاج بن يوسف فقال: أما بعد؛ فإن الله قد كفانا مؤنة الدنيا،
وأمرنا بطلب الآخرة، فليت الله كفانا مؤنة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا؛ فقال الحسن
البصري عندما بلغه كلامه: ضالة مؤمن عند فاسق، فلنأخذها! [8] .
وأقول: إذا كان الحجاج مع فسقه بهذا الوعي فهو أفضل بكثير من عقلاء
زماننا قطعاً.
- وقيل لعيسى بن وردان: ما غاية شهوتك من الدنيا؟ فبكى ثم قال: أشتهي
أن ينفرج لي عن صدري، فأنظر إلى قلبي ماذا صنع القرآن فيه وما نكأ [9] ؟
- وكان ابن عمر يتمنى لو أنَّ له مثل أُحُد ذهباً، فيحصي عدده ويؤدي
زكاته [10] .
ونسأل الله التوفيق في القول والعمل.
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص 28، وابن أبي شيبة في المصنف، 13/280
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص 57.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص 38، وأبو نعيم في الحلية، 1/102.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص 30، وأحمد في الزهد، 2/141، والبيهقي في شعب الإيمان، 1/ 486.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 32، وأحمد في الزهد، 2/ 145 (6، 7، 8، 9، 10) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 35، 36، 40، 49، 52.(147/138)
المنتدى
ولدي الحبيب
مشبب بن أحمد القحطاني
كم حملتك كرهاً ووضعتك كرها، وتحمّلت آلام المخاض لأُقلِّدك تاج آبائك
فأنت سليل المجد عنوان الفداء.
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
لم أزل أعقد فيك أمجاداً وأحلاماً عِراضاً وأمنياتٍ؛ فآباؤك صنعوا مجدك
البرّاق ومن يشابه أباه فما ظلم.
مرّت عليَّ سنوات وقرون كنتُ فيها الملكة تحت حماية الشرفاء أتيهُ سعادةً
وفخراً؛ فأنا بين بُناة المجد آساد الشّرى لم يجُلْ في خاطري تبدُّل الحال؛ لأن
أصل المجد ثابت وفرعه في السماء، وإن كنتُ قد سمعت عن ريح عاد ولكنني لم
أرَها.
كانت المنابر يا ولدي ترتعد خوفاً عندما يغشاها الأبطال آباؤك ورجع الصّدى
يذوب فَرَقاً من جَهْوَريِّ الصوتِ قويِّ الكلمةِ واثقِ النفس ورائعِ القيادة.
وكانت الجموع تحتشد تحت المنابر طاعة وإذعاناً لمن صنعوا ملحمة البطولة
وحملوا لواء الفداء؛ ولاريب أن المنابر من ميراث آبائك وأجدادك لا يَشْركهم فيها
أحد عندما كان الدّين همَّهم ونشر العقيدة دَيْدَنَهم والفتوحات هدفهم والجهاد هو
الترياق لهم والبلسم الشافي لأحوالهم.
وها أنت اليوم تهيم في ذنوبك وما بعته بالأمس لا يمكن أن يُهدى إليك اليوم،
ولا يليق بالتاج أن يبقى على رأسك. وأنت الآن بين خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تبقى ذليلاً مهاناً ترتعد فرائصك من مغتصبي أمجادك.
وإما أن تعود كما كان آباؤك، وتبني مجدك المهدّم.
وليست على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدَّما
وهل نمت قرير العين وقد جُرِّدت من كل شيء وأصبحت غريباً أصوليّاً
مُتطرّفاً رجعيّاً لا تليق بك الحضارة؛ لأنك من الدول النامية؟
وبعدُ يا ولدي:
فإنني أرى أن كثرة الجراح لا بد أن توقظك يوماً مَّا من سُباتك، وتكالبُ
الأعداء عليك لا بد أن يُحدث لك يقظة هائلة تقلب فيها الموازين الفاسدة، وتعيد
الحق لأهله.
ولأنني أمك الرَّؤُوم عليك فإن أمنياتي بعودتك كبيرة، ولا زلتُ أرقب تلك
اللحظة عندما ترفع رأسك من الهوان وتعود إلى طبيعتك الأصيلة ومجدك الأخّاذ.(147/139)
المنتدى
تعقيب
الجوهرة سعد المطرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
فلقد شهدتُ انبثاق فجر وتابعتُها منذ وطئت قدماها الساحة الإعلامية فوجدت
فيها غذاءاً فكرياً صافياً: ارتقاءاً بالفهم، وتنقية للذهن، واتباعاً للكتاب والسنة،
وسيراً على نهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
كنت أقرؤها من الغلاف إلى الغلاف حتى وإن أخذ مني ذلك وقتاً طويلاً؛ فلا
بأس (فهي المجلة الوحيدة التي تمدني بالتصور الصحيح للأوضاع في بعض البلاد
الإسلامية) فكل باب من أبوابها يحوي علماً قيماً وكنزاً ثميناً، وكان خط سيرها
مستقيماً لا تحيد عنه على مدى الأربعة عشر عاماً الماضية، فلا أذكر أنني خلال
تلك السنوات قرأت فيها طرحاً شاذاً أو فكرة غير سليمة أو حتى مسألة مشتبهة،
وأنَّى لها ذلك ومنهجها الكتاب والسنة؟ ! !
ولكن في عدد رجب 1420هـ اصطدمت برأيين غريبين في مقالين اثنين ...
يمس كل منهما قضية ساخنة من قضايا عالمنا الإسلامي المتشابكة:
الأول: قراءات هادئة في القنوات الفضائية عبد العزيز الخضر.
الثاني: الأطروحات الدعوية الموجهة للمرأة المسلمة.. وقفة ودعوة للمراجعة - فاطمة البطاح.
حيث قلل الكاتب عبد العزيز الخضر من أهمية أسلوب الوعظ، والتحذير
والتحريم بالنسبة لمضار الفضائيات، وهوّن من تأثيرها على الأطفال بدعوته إلى
تركهم يشاهدون الشخصيات الكرتونية والبرامج المخصصة لهم حتى يشاركوا
أصدقاءهم في المدرسة الحديث عنها، ثم هوّل من تأثير عدم المشاركة على
نفسياتهم.
ثم تساءل: (هل الطفل لديه القدرة على فهم الإشكالية بصورة طبيعية
وموضوعية من الناحية الدينية؟) .
وأقول: ولِمَ لا؟ فحين يتربى الطفل على قواعد سليمة ويعرف الحلال من
الحرام، ويُبيَّن له مقدار السم المدسوس في هذه الوجبات الشهية، ويُعطى تصوراً
مبسَّطاً عن الغزو الفكري ودور وسائل الإعلام في ذلك، ثم تشبع حاجاته النفسية
لمثل هذه الأشياء عن طريق ألعاب الكمبيوتر الخالية من المحاذير وأشرطة الفيديو
النافعة أو على الأقل غير الضارة؟ فإن في هذا إن شاء الله غنية عن الحرام.
ثم ما المانع من هجر القنوات هجراً كاملاً؟ ! أليس الدين يحثنا على البعد
عن الفتن، خاصة لمن لا يجد في نفسه القدرة والكفاءة على مجابهة المتغيرات مع
الثبات على دينه؟ فالناس لا يزالون مختلفين في هذه القدرات.
وكما قرأنا في (العدد نفسه ص 78) فإن هناك دعوة في بلاد الغرب لترك
التلفزيون وهجره وإخراجه من البيت لما وجدوا له من آثار سلبية (! !) فلماذا نبدأ
من حيث بدؤوا؟ !
والحل الذي طرحه الكاتب حل مثالي! ! بالرغم من أنه عاب على أصحاب
الحلول المثالية في جزء من مقاله! ! فهل جميع المربين على قدر من الفهم
والإدراك، وقدرة على التوجيه والنصح والإقناع؟ ! !
وهل جميع المتلقين بهذا المستوى الراقي من القدرة على تمييز الطيب من
الخبيث أو هجر السيِّئ ومقاطعته وتشجيع الحسن ودعمه؟ !
إن هم إلا قليل في وسط تموج فيه الكثرة الكاثرة! ! !
وأين الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء وصديق السوء و.... وغيرها
مما له أثر كبير وظاهر على المتلقي؟ !
وفي مقال الأخت فاطمة: عابت أيضاً على الحلول المثالية المتفق على
صحتها وعلى جاهزيتها للعرض، ويبدو أن هذه المثالية هي المنتقاة من الكتاب
والسنة، وضربت مثلاً على ذلك بقرار المرأة في بيتها وقالت: (إنه معالجة مثالية
مغرقة في الحيطة والحذر للتخلص من بعض المزالق التي قد تعترض المرأة عند
خروجها) .
أليس هذا كلاماً عائماً يوحي بالتقليل من أهمية قرار المرأة في بيتها وأنه حلٌّ
لم يعد صالحاً لهذا الزمن؟ هذا ما فهمته أنا على الأقل.
إن قرار المرأة في بيتها (وإن كانت داعية) هو وحي سماوي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد يعلم ما يصلح شأن هذه الأمة في
أول أمرها وآخره.
أليس في قرار المرأة في بيتها حل لكثير من المشكلات المعاصرة التي
تعترضها؟ ولا تنسي أنه خطاب لأمهات المؤمنين، وفيهن الفقيهة العالمة والداعية
الحكيمة التي لو كانت في هذا الزمن لقيل: لماذا تجلس في بيتها وتحرم الناس من
علمها وفقهها؟ أتمنى ألا تعمينا بعض الهالات الإعلامية الكبيرة عن مسلَّمات في
ديننا لن يصلح شأننا إلا بها.
أنا أؤيدك في بقية مقالك لكنني واجهت إشكالاً في هذه النقطة عجزت عن
توجيهه.
أتمنى ألا أكون قد أسأت الفهم للكاتبين جزاهما الله خيراً وغفر لنا ولهما،
وللبيان مني ألف شكر ودعاء خالص بالتوفيق والسداد، آمين.(147/140)
المنتدى
لا جديد
نجاح عبد القادرو سرور
لا جديدْ..
ما يزال الغصنُ يبكي
منذ ماتَ الإخضرارْ
ما يزالُ الليلُ يجري
ثم يبحثُ.. دون جدوى.. عن نهارْ
ما تزالُ الأمةُ الخرساءُ تقتاتُ السكوتْ
ما يزالُ الحقُّ في أرضي يموتْ
منذ أن قام العساكرُ
قيَّدوها بالحديدْ
لا جديدْ..
ما يزال الحزنُ يُعْلي صوْتَه.. في جَلْجَلَةْ
ثم أرضُ المجدِ كالصحراءِ.. أمْستْ قاحِلةْ
ليس ينبتُ في بلادي
أيُّ نبتٍ للجمالْ
نبْتُها شوْكٌ.. وآلامٌ.. وحزنٌ.. واقتتالْ
طيرُها.. قد صار في عصر الأشاوس لا يطيرْ
صار يحيا.. في السلاسل.. كالعبيدْ
لا جديدْ..
كلُّ تقليدٍ جميلٍ في بلادي.. أعدموهْ
إنّ بيتي.. كل يومٍ.. كل يوم هدّموه
إن صوتي.. كل يوم.. كل يوم أخرسوه
إن قُوتي.. إن أرضي وسمائي
إن مائي.. وهوائي.. ودوائي
كل يومٍ.. كل يومٍ.. سمَّموهْ
يوم هبّت في بلادي
رِيحُ أنفاس اليهودِ كالصديدْ
لا جديدْ..
ما يزال السُّكْرُ في عمق الليالي
ثم أمواجٌ.. من البحر المحرّم.. والضلالِ
قد توالتْ
أغرقتْ فينا الحلالْ
والمساجدُ تشتكينا
أين محرابي.. إمامي.. والصفوفْ؟ ؟
لا زهورَ أينعت.. في بلادي.. لا قطوف
والأسنّةُ قد توالتْ
من قريبٍ.. من بعيدْ
لا جديدْ..
منذ صادقنا عدوّاً
يطعنُ الأحلامَ طعنَا
يشعل النيرانَ في الأحلام حِقدَا
صَبَّ فيها الغدرَ صبَّا
جُرحُ أحلامي يسيل
كلما التأمت جراحٌ
شق جرحاً من جديدْ
لا جديدْ..
منذ نور المجد.. فينا.. قد خَبَا
ماتت الآمال فينا.. والجمالْ
اكتستْ بالحزن أرضي.. وسمائي.. والرُّبَا(147/140)
المنتدى
أنبأني طبيب الساعة
(خاطرة أدبية)
بوطيبة فيصل
على صدري وضع الطبيب السماعة، وأخذ يبحث عن همس بكل براعة،
فأنبأني بعد أن رفع السماعة بأني ميت بكل فظاعة.
فقلت له: وما سر موتي يا طبيب!
فأجابني بشجاعة: قد غاب فؤادك من صدرك وضاع! ؟ فراعني أني سأبقى
يتيم العواطف، وما أهمني بأني سأشل في كل الوظائف، وأن عقلي سيمشي
كالزواحف، وأني سأمضي حيث تقضي العواصف؛ فأنا لست واجفاً من كل
المواقف؛ لأني عارف بأني لست بخائف من كل المعارف، لذلك سألت الطبيب
حفيّاً بأن يطلب لي قلباً اصطناعياً، واشترطت أن يكون صاحبه غريباً، وأن أعمل
العملية حالياً؛ فالوقت لا يكفي كي أفكر مليّاً.
وبعد ساعات أفقت من ساعة الحلم، ووجدتني أنبض في كل جزء من جسمي، ... ووجدتني أستطعم نشوة التخدير في نومي. أدركت حينها بأن قلبي صار ...
(أتوماتيكياً) مثل فمي، وأدركت بعد ذاك أني قد نسيت عنواني واسمي؛ فعزيت
نفسي في نفسي من شر نفسي، ورأيتني أفسد الأرض بفأسي، وأبحث من شدة
اليأس عن رمسي؛ فإذا بهمس يناجيني في بأسي: أفق.. فقبرك يضيق من شدة
اللمس، وإذا بالهمس يؤذيني كالرعد.
أيها العربي المسلم لا تسلم من قلب الحقود، وألقه؛ فقلبك مرهون بوعد. إن
صح منك الوعد صح لك منا المجد من أول عقد لأول اللحد أو آخر العهد.(147/142)
الورقة الأخيرة
رب ضارة نافعة
إسماعيل بن سعد بن عتيق
لقد كادت أن تنكشف شمس كوسوفا، وعلا سماءها قتر، بل ريح صر زج
بها الغرب في حلبة الحروب لتحقيق أغراضهم البعيدة ومراميهم التي تهدف إلى
إزالة معالم الإسلام من بلدان البلقان، وإن كان في الظاهر نَجْدةًَ ونُصْرَةً تحدوها
الإنسانية وتدعو إليها الوثائق الأوروبية بما يسمى بالحلف الأطلسي أو الناتو. لقد
تحقق الضرر وانكشف الستر، وأعطى الغرب العالم الإسلامي درساً لا يُنسى؛ ولكنه درس من وراء حجاب يستره دهاء السياسة ومكر الغرب وأعوانه؛ فنقول: (رب ضارة نافعة) . لقد هرع المسلمون لرفع الأكف بالضراعة إلى رب الأرض والسماء أن يرفع عن إخوانهم الحزن والأسى، فكانت رابطة دينية وعروة روحانية تربط الشرق بالغرب يدفعها الإيمان بالأخوة الإسلامية بمثل قوله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] . وقوله عليه الصلاة والسلام: ... (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [1] .
عرف الناس كوسوفا ودول البلقان وكانت من قبل ضمن يوغسلافيا الشيوعية
النصرانية، فكان في هذا الإعلام الذي تابعته الصحافة الإسلامية وانطلقت به
حناجر الخطباء وأئمة المساجد ما يعرِّف الناس بإخوانهم ويدعوهم إلى البذل
والعطاء، ولقد جاد من جاد بإنفاق ماله في سبيل نصرة إخوانه، بل وغامر من
غامر في التوجه إلى مواقع الحرب ومنطلقات الصواريخ ليستقبلوا إخوانهم
المشردين بالغوث والنجدة وتخفيف مصابهم. ونقول مرة أخرى: (رب ضارة
نافعة) فقد تبين للعالم الإسلامي مدى مكر أولئك، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما
يشعرون.
وإننا لنذكِّر المسلمين بمبدأ الولاء والبراء الذي حدده القرآن، وطبقه محمد
صلى الله عليه وسلم وصحبه، ونذكِّر أفراد المسلمين وجماعاتهم بأن الكفر ملة
واحدة، وأن الولاء والبراء من أصول هذا الدين وقواعده العظام لقوله تعالى: [لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] [المجادلة: 22] . وقوله تعالى: ... [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] [آل عمران: 118] .
وإن صور الولاء متعددة الأشكال متنوعة الأطراف؛ فهناك الولاء بالكلمة،
والولاء بالمحبة، والولاء بالإعجاب، والولاء بالهيبة والاحترام، والولاء بالتحدث. لقد عد بعض العلماء مناولة القلم أو المحبرة للكافر نوعاً من أنواع الولاء، وإذا
كان المستعمر الغربي القديم قد انحسرت سلطته المباشرة على العالم الإسلامي فإنه
لازال يهيمن على المسلمين إدارةً وفكراً وقوةً عسكرية بحكم ما أُعطوا من أسباب
القوة ومظاهر التمكين؛ فهل يستطيع العالم الإسلامي أن يُنقِذ نفسه، وتعود له
القيادة على مقومات حياته؟ وبهذه المناسبة أذكر حالتين لزعماء ساسة: أحدهما
مسلم، والآخر هندوكي.
فأما المسلم: فهو جمال الدين الأفغاني حين أُعد له مهرجان خطابي في الهند
ظناً من الناس أنه سيتكلم ويأتي بكل معجزة من أجل الاستقلال ومحاربة الإنجليز،
فصعد جمال الدين المنبر وحيَّا الجماهير ثم قال: (كم عدد الإنجليز؟ فعدُّوهم
بالملايين، ثم قال: وكم سكان الهند؟ فعدوهم بمئات الملايين، فقال: لو كنتم ذباباً
لآذيتموهم) ثم نزل عن منصة الخطابة وقد أحدث هذا القول دوياً وحماساً في كراهة
الإنجليز وردد الناس: لو كنا ذباباً لآذيناهم.
أما الموقف الثاني: فهو للزعيم الهندي غاندي حينما ذهب لعصبة الأمم ومعه
مغزله وعنزه، وقد صعد المنبر وقال لهم: (لا نستطيع أن نقاوم الغرب، بل ولا
نقاوم الإنجليز، بل ولا دولة أقل منهم في أوروبا؛ لكنني سأعتمد على مغزلي،
وأنسج من صوف هذه الماعز ثوباً، وأشرب من لبنها ولا حاجة لي في مصانع
الغرب ومنتجاتها، ولو أُهديت لي أو بُذلت بالمجان)
وعاد إلى الهند وهو يعلن هذا المبدأ: مبدأ الولاء للصناعة الهندية، ومبدأ
البراء من الصناعة الأوروبية؛ فكانت المصانع الإنجليزية في الهند تغلق كل يوم
فلا تُطلب بضائعها ولا تلقى مشجعاً لها، وبهذا ارتفع كابوس الإنجليز عن الهند بعد
استعمار زاد على 300 عام.
فهل لنا أن نعيد الصورتين: صورة القدوة على أننا بشر نحب ونبغض،
ونوالي ونعادي، ونتحكم في مواردنا؟ وهل لنا أن نقول لمن عاش في ترف
منتجات الغرب من مراكب فارهة ومظاهر خداعة: اتق الله في مالك ولا تنفقه إلا
فيما دعت الحاجة إليه؟ ونكرر: (رب ضارة نافعة) .
لقد عرف المسلمون حق المعرفة أنه لا مناص من اللقاء والمصارعة لتيارات
أجنبية متى أخذ المسلمون حرياتهم وانطلقوا يعلنون عن مبادئهم؛ فإن الحياة صراع، وهي من حكمة الباري تبارك وتعالى إذ يقول: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: 40] .
كرروها معي: (رب ضارة نافعة) . وفَّق الله الجميع لما فيه خير أمتنا،
وألهمنا رشدنا، ووقانا شر أنفسنا، وصلى الله على محمد وآله وصحابته.
__________
(1) رواه مسلم، ح/ 4685.(147/143)
ذو الحجة - 1420هـ
أبريل - 2000م
(السنة: 14)(148/)
كلمة صغيرة
دعوة التوحيد في الحج
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على النبي الكريم محمد، وعلى آله
وصحبه ذوي السؤدد، وبعد:
انقضى شطر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في في إقامة العقيدة، حتى
استقر التوحيد في النفوس، وتوجهت القلوب إلى خالقها، واستعدت لتلقي أوامر
الشريعة وإقامتها عن طواعية ومحبة للآمر - عز وجل - مهما كانت التكاليف
والأعباء؛ ولذا كان من أول ما نزل من القرآن - كما أخبرت عائشة رضي الله
عنها - سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى،
الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا
ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا.
[رواه البخاري، ح/ 4993] . ولا يسبقن إلى فهم أحد أن الاهتمام بالعقيدة
يستدعي تقديم فروعها الجزئية على أصول الدين العملية، ولئن وقع من ذلك شيء
فإنما مرده خطأ الأفراد الذي لا يحسب على المنهج.
وفي ظلال أيام الحج تحث فريضة الحج خطاها مقبلة حاطة في ثنايا مشاعرها
دعوة متجددة إلى إحياء الإيمان وتصحيح العقيدة، نلمح ذلك في آيات الحج؛ حيث
الدعوة إلى الحنيفية ونبذ الأوثان، والأمر بتعظيم شعائر الله وحرماته، وتحقيق
التقوى في النفوس، كما نرى في أعمال الحج من تلبية وتهليل وذكر، إلى تذكير
بالموت والبعث. ومهما تلمس العلماء من حكم الحج وأسراره فليس أبلغ من حكمة
تحقيق الخضوع والاستسلام لله - سبحانة وتعالى -.
فريضة هذا شأنها مع أصل الأصول.. ترى كيف ينبغي أن يكون حال الدعاة
معها في ذلك الجمع الكبير؛ حيث تقاطر الناس من أرجاء المعمورة، يحدوهم
الشوق، وتدفعهم الرغبة، وقد انقطعوا لأداء النسك، وتفرغوا قبله وبعده أياما؟
تلك - والله - سانحة ما كانت لولا رحمة الله ومنته، فما أحراها بالاغتنام
لإقامة أساس الدين!(148/1)
الافتتاحية
التلاعب بالأحكام الشرعية إلى متى
الحمد لله القائل: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا
يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما] [النساء: 65] . وبعد:
فلقد مرت في الآونة الأخيرة معركة ساخنة في بعض الدول العربية بخصوص
ما دعي بتقنين جديد للأحوال الشخصية. تلك التشريعات المتعلقة بالشوون الأسرية
من زواج وطلاق وخلع. وهي ليست مشكلة خاصة ببلد بعينه بقدر ما هي مشكلة
عامة لها ما بعدها، لا سيما ونحن في عصر العولمة، والأحوال الشخصية هي ما
بقي من الأحكام الشرعية الإسلامية في قوانين أكثر الدول العربية والإسلامية،
والتي لم يجرؤ الاستعمار الأجنبي الذي مر بتلك الدول أن يمسها بسوء إدراكا منه
للمواقف الصارمة والرافضة التي تنشأ عن المساس بتلك الأحكام، وكان من
مصلحته تجنبها، لكن تلامذة الاستعمار وأذنابه وخريجي المدارس الأجنبية - ومن
خلال ما يعملونه لتغريب بلدانهم وفرنجة مجتمعاتهم - تسلطوا على تلك الأحكام
وحاولوا العبث بها حتى مسخت تماما في تركيا على يد أتاتورك، ومثله أو قريب
منه في تونس على يد (أبو رقيبة) ، حيث نقلت جل القوانين الأجنبية في سياساتهم
العلمانية المعروفة. والحقيقة أن هذه التصرفات الحمقاء ليست أخذا بالمساواة
والعدالة والحرية، ولا تطويرا لمجتمعاتهم وإخراجها من ضغوط الماضي - كما
يدعونه بمناسبة وبغير مناسبة -، وإنما وراء ذلك حقائق معروفة منها:
1- عدم إيمانهم بالإسلام منهجا للحياة، فأحكامه - كما يدعون - لا تتناسب
والعصر؛ وهذا ناقض من نواقض الإسلام.
2- الهزيمة النفسية من الداخل، والتي وصفها العلامة ابن خلدون بقوله:
(إن المغلوب أبدا مولع بتقليد الغالب) فكيف يكون المنهزمون نفسيا هم قادة الأمة
وموجهوها؟ !
3- أنهم ينقادون وبكل ذلة للأوامر الخارجية التي تطالبهم بإقرار ما تدعو إليه
القوانين الدولية التي تتضمن المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، والتي أكدتها
المؤتمرات الدولية المعروفة مثل: (مؤتمر المرأة في بكين) و (مؤتمر السكان
بالقاهرة) .
4- للجمعيات النسائية في كثير من الدول العربية علاقات وثيقة بتلك الجهات
الأجنبية، فهي تدعمها ماليا ومعنويا وإعلاميا، ولها ضغوطها عبر الأحزاب
ووسائل الإعلام منذ عهد الاستعمار البغيض وحتى الآن، لترسيخ الاتجاهات
العلمانية في مجتععنا الإسلامي الكبير. وحقيقة أكثر هذه الجمعيات النسائية معروفة
للجميع، وقد ألفت عنها دراسات وابحاث مطبوعة ومتداولة لا يتسع المجال لعرض
حقيقتها [1] ، فمنذ (نازلي فاضل، وهدى شعراوي) إلى (نوال السعداوي) وهذه
الجمعيات تؤدي رسالتها تلك بكل جرأة.
ومعلوم للجميع أن الأحوال الشخصية هي جزء من الفقه الإسلامي الذي قنن
العلاقات الأسرية، ومحاولات زعزعة هذه الأحكام وإضعافها وتفريغها من
مضامينها استجابة للضغوط الاجتماعية والدولية لم تكن جديدة؛ فقد دعا لذلك أعداء
الإسلام قديما وحديثا، وجرت في مصر محاولات من هذا القبيل، ولا يغيب عن
الذهن تعديلات 1977م المعروفة بمشروع: (جيهان السادات) في هذا المجال،
والذي نقده العلماء والمفكرون، وتم إسقاطه بعد فشله في أداء ما وضع له، بل لقد
أحدث من السلبيات الكثير مما دل على انحرافه عن الصواب.
وجاء حديثا (مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية) الأخير في مصر والذى
تعرض لنقد كثير من علماء الإسلام في مصر، وقدم اعتراض حمل توقيع 22
شخصية من أساتذة الأزهر وعلمائه الذين أكدوا في بيانهم أن الشريعة المطهرة هي
أمر الله، وأمره - سبحانه - تجب طاعته وتحرم مخالفته، وحقيقة الإيمان بالله أن
يذعن المؤمن لأوامر الله ونواهيه.. وشريعة الله في مكانها فوق إرادات البشر
ومشيئاتهم، فهى حاكمة على غيرها، وكل ما عداها تحت هيمنتها وسلطانها حتى
ابتليت الأمة بالاستعمار الذي عمل على هدم مقوماتها ونقض دعائم قوتها حتى لا
تستيقظ وتنهض في مواجهته؛ فهو يعلم سلفا نتائج بقاء الأمة معتصمة بدينها
ومهتدية بهدي شريعتها ...
ثم إن هذا القانون يحمل بين ثنياه مظاهر اضطرابه؛ حيث تضمن من
المخالفات ما يلي: 1- في حالة الخلع يباح للزوجة الحصول على الطلاق إذا أقرت
أمام المحكمة باستحالة الحياه مع زوجها وتنازلها عن حقوقها المالية الشرعية،
وردها ما حصلت عليه من مهر إلى زوجها، ويكون القاضي ملزماً الحكم بالتطليق.
فيلاحظ أن التعديل أعطى المرأة الحق في الخلع بينما منطوق الآية في
الموضوع يحتم الاتفاق بين الزوجين على ذلك. يقول الله - تعالى-: [فإن أرادا
فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما] [البقرة: 233] ألا يجر ذلك
فئات من النساء على هدم بيوتهن بأيديهن؟ !
2- السماح للزوجة بالسفر من دون الحصول على إذن الزوج؛ وذلك في
حال حصولها على ترخيص بذلك من المحكمة. فأين العصمة التي للزوج - ما لم
يشترط -؟ وأين تحريم سفر المرأة بلا محرم؟
3- الاعتراف بالطلاق رسميا في حالات الزواج العرفي؛ فكيف تعطى
الشرعية لمثل هذا الزواج القائم على عدة مخالفات شرعية؛ وهذه - المسائل -
وإن زعم أنها لصالح المرأة - واجهت معارضة شديدة أدت إلى تعديلات محدده
وافق بموجبها عليه كل من: فضيلة شيخ الأزهر، وفضيلة المفتي.
ومع تقديرنا لوجهة نظر كل من الشيخين الفاضلين إلا أننا نحذر من الأخطار
المترتبة على مثل تلك القوانين المستوردة وما تؤدي إليه من سلبيات اجتماعية لا
تخفى؛ فعلى كل امرأة مسلمة تخشى الله ألا تنخدع بمثل هذه الدعايات المكشوفة،
وعليها الحذر من أن تنقاد لها لما فيها من مخالفات ومحاذير.
ونذكر كل المسلمين: علماء، ودعاة، ومفكرين، وإعلاميين بما يلي:
أولاً: أن الأحكام الشرعية ليست مجالا مفتوحا لكل من هب ودب من صحافة
وبرلمانيين وحزبيين ممن قد لا يفقه في الشرع المطهر شيئاً، ومن ثم فلا مجال
لأمثال هؤلاء بمناقشة ما ليس من اختصاصهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ثانيا: أن المجتمعات الإسلامية لها خصوصيتها ولها تميزها، وهي بحكم
إسلامها وإيمانها بدينها تقبل أحكام الشرع المطهر بكل رحابة صدر، ومحاولة
تسميم أفكار الرأي العام من قبل الإعلام والجمعيات النسائية المشبوهة بطرح
زبالات الأفكار الأجنبية، وطلب نقلها لمجتمعاتنا هي ظاهرة يحرص أعداء الإسلام
على إقرارها وتمريرها منذ سنين طويلة؛ وكلما رفض أعيدت من جديد، وترفض
لما تحمله من أخطاء معروف للجميع، ولما فيها من تضليل للأمة، والانحراف بها
عن الصراط المستقيم لمصالح أجنبية وأهواء شخصية.
ثالثا: استغل أعداء الإسلام ضعف كثير من الدول الإسلامية واحتياجها
لمساعداتهم بالضغط عليها لقبول علمنة المجتمعات وتطبيق القوانين الأجنبية التي
تصادم شريعتنا السمحة بدعوى أنها من (حقوق الإنسان المقررة دوليا ومن مظاهر
الالتزام بتحرير إلاقتصاد) فلنحذر السقوط في هذه المكائد. فالواجب على الأمة
جمعاء أن تقف بكل شجاعة ضد أي ضغوط خارجية - وبخاصة فيما يتعلق
بالمساومة على دينها وقيمها وشريعتها - لما في ذلك من مصادمة للشرع المطهر،
وما يؤدي إليه من زعزعة لدعائم المجتمع وزلزلة لقواعده، وهذا بدوره يؤدي إلى
ضعف الأمة والقضاء على سر قوتها، وهو تمسكها بدينها، واعتزازها بشخصيتها
الإسلامية.
رابعا: إن محاولات التغيير في تشريعات الأحوال الشخصية ليس في مصر
وحدها؛ بل في المغرب - كذلك حوار دائر بين الحكومة والعلماء والمفكرين
والجمعيات النسائية حول تقنين دور المرأة في التنمية.
وسبق للبيان أن تطرقت لهذا الموضوع في العدد (144) ، حيث سلطت
الأضواء عليه، وفي هذا العدد مقال أخر حول الموضوع نفسه. ونرجو الله أن
يوفق أهل الشأن في المغرب لتحقيق ما يخدم المصلحة العامة ولا يصادم الشرع
المطهر.
وأخيرا:
فقد أجمع علماء الإسلام قديما وحديثا على أن الحكم بما أنزل الله فرض على
الحاكم وعلى المحكوم عليهم جميعا القبول به، وأن التحاكم إلى الطاغوت (غير
شرع الله) محرم ومخرج من الملة وصدق الله العظيم القائل: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى
الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً]
[النساء: 60] .
__________
(1) انظر إلى موسوعة (عودة الحجاب) للأستاذ محمد بن إسماعيل المقدم، ورسالة: (الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية) للأستاذ محمد فهمي عبد الوهاب، والمؤامرة على المرأة المسلمة، تاريخ ووثائق، د السيد أحمد فرج.(148/4)
دراسات في العقيدة والشريعة
حقيقة شركات التأمين [1]
د. سليمان بن إبراهيم بن ثنيان [2]
قلة من الناس هم أولئك الذين يعرفون شركات التأمين على حقيقتها،
ويطَّلعون على خباياها وأسرارها. ويُرجِع الباحثون ذلك إلى أمور عدة أهمها: الدعاية التي تُظهِر شركات التأمين على غير حقيقتها؛ حيث تظهرها للناس حسب ما يحبون ويرغبون ويتمنون أن تكون عليه، وتخفي عنهم حقيقتها وواقع أمرها الذي لو عرفه الناس لربما نفروا منها، ولما استجابوا لها، كما يقول باحث التأمين الألماني ديترميز. هذا أمر، وهناك أمر آخر أعجب منه وأغرب، أمر أدهش كبار الباحثين وحيَّرهم، وهو: أن مجمل الناس لا يهتمون بمعرفة التأمين على حقيقته، ولا معرفة الشركات القائمة عليه رغم ارتباط الناس به وبشركاته، ورغم ما يدفعون من أموال طائلة إلى صناديق هذه الشركات.
هذه الظاهرة العجيبة لم يجد لها كثير من الباحثين حلاً أو تفسيراً معقولاً. ولكن المتمعنين في حقيقة التأمين يردُّون ذلك إلى ما يحتويه التأمين من تعقيدات مقصودة في الغالب وإلى ما يكتنف شركاته من عدم الوضوح في المنهج والسلوك في أعمالها وتعاملها.
كما يردُّون ذلك أيضاً إلى عدم اقتناع الناس بالتأمين أصلاً أو بوجود حاجة إليه؛ حيث ثبت بالاستطلاع الإحصائي الدقيق أنه لا يُقْدِم كثير من الناس على التأمين بدافع الحاجة والاقتناع، وإنما يُقدِمون عليه بدافع الدعاية الواسعة إليه بدافع التقليد، كما يقول هنز ديترمير.
وقد أجريتُ استطلاعاً عاماً في مدن ألمانية مثل: فرانكفورت، وكلونيا،
وميونيخ، وشتوت قارت حول ما يدفع الناس إلى التأمين فوجدت أن ما يقرب
من 58 % ممن وُجِّه إليهم السؤال لا جواب لديهم سوى قولهم: كذا أو مثل الناس، أو نحو ذلك.
وتتضح لنا حقيقة شركات التأمين، وطبيعة تفكيرها، وتعاملها من خلال
الأمور الهامة الآتية:
أولاً: شروط شركات التأمين:
ليس لشركة في العالم ماضية وحاضرة ما لشركات التأمين من شروط عامة
وخاصة، ظاهرة وخفية. وإن أخص ما تختص به هذه الشروط الصفة التعسفية، مما اضطر كل دولة في العالم أن تفرض رقابة خاصة على شركات التأمين لديها لتخفف شروطها على المواطنين.
وشروط شركات التأمين متنوعة: فمنها ما يخص القسط، ومنها ما يخص
مبلغ التأمين، ومنها ما يخص الخطر المؤمَّن ضده، ومنها ما يخص التعويض عن الحادث، ومنها العام الذي تشترك فيه جميع شركات التأمين، ومنها الخاص بشركة معينة، ومنها الظاهر الذي يعلمه أكثر الناس، ومنها الخفي الذي لا تعلمه إلا الخاصة من أصحاب الخبرة والممارسة كما يقول صاحب كتاب: (الأمن الخادع) برند كرشنر. وإن من أبرز الشروط الخاصة بالتأمين ما يسمى بشرط الحلول. ومقتضاه: أن تحل شركة التأمين محل المؤمن له في مطالبة الغير بما تسبب من أضرار بممتلكات المؤمَّن له لحسابها الخاص، وأن يسقط حق المؤمَّن له في طالبة المتسبب، وبهذا قد تأخذ شركة التأمين من المتسبب أكثر مما تدفعه تعويضاَ مؤمَّن له، وذلك حينما يكون التلف أكبر من مبلغ التأمين، بل إنها قد تأخذ العوض كاملاً من المتسبب وتحرم المؤمن له من أي تعويض. كما أنه ليس للمؤمَّن له حق في
أخذ ما يزيد على مقدار تعويض الضرر الذي لحق به. ومنها سقوط حق
المطالبة بمبلغ التأمين في الظروف غير العادية كالحروب، والزلازل، والاضطرابات العامة. وشروط شركات التأمين كلها شروط إذعان، أي أنه على المؤمَّن له قبولها دون مناقشة، كما أن هذه الشروط تحمي شركات التأمين؛ حيث تُحكِم القبضة على المؤمَّن لهم في الانتظام في دفع القسط، في الوقت الذي تضع فيه العراقيل دون حصولهم على مبلغ التأمين، كما يقول خبير التأمين هنز ديترمير. ثانياً: أهداف شركات التأمين:
لا تهتم شركات التأمين بشيء يضاهي اهتمامها بالربح؛ لذا نجد تركيزها
الشديد عند التخطيط ووضع نظامها الأساس ينصبُّ على الأخذ بكل وسيلة تجلب الربح وتجنِّب الخسارة؛ بغضِّ النظر عما قد تسببه هذه الوسائل من إحراجات، أو معارضة للدين أو الخلق أو السلوك الحسن. ويشاهد ذلك جلياً فيما تنطوي عليه شروطها من تعسف واستغلال، وخاصة في التأمينات التي تفرضها بعض الدول على مواطنيها.
كما يشاهد ذلك جلياً أيضاً في استثماراتها الربوية لما تجمعه من أقساط دون المساهمة في أي مشروع خيري.
كل هذه مؤشرات إلى أنه ليس لها هدف في التعاون وخدمة الناس، وإن ألح
بعض دعاتها في إقناع الناس بذلك، وإنما هدفها المحقق المعلوم هو الربح والثراء السريع على حساب المؤمَّن لهم، كما يقول أنتون أندرياس في كتابه (فخ التأمين) .
ثالثاً: عقود التأمين بين الظن والحقيقة:
يعتقد كثير من الناس أن من وقَّع عقداً مع إحدى شركات التأمين ضد حادث
معين فقد أمِنَ شر هذا الحادث، ونسي همه إلى الأبد. وهذا خطأ فاحش وفهم قاصر لحقيقة عقود التأمين؛ فعقود التأمين ليست إلا أوراقاً عارية تهددها سهام موجهة يندر أن لا تصاب بأحدها. هذه السهام المعروفة بنظام شركات التأمين، بشروطها ورجالها المأمورين المدافعين عنها من التابعين، والموالين، والمقررين، والمستشارين، والمحامين، والأطباء، والخبراء، وغيرهم من المختصين في حماية شركات التأمين، وإبطال أي دعوى تقام ضدها. نعم! تلك الشركات ستمالت واشترت بالمادة ذمم كثير من أولئك الناس الذين يتولون التحقيق في
الحوادث، وتقويمها، وبيان وجهة القانون فيها، وما يترتب عليها من
مسؤوليات وتعويضات.
إنه ليس شيء أيسر على شركات التأمين من إيجاد السبب لإبطال عقد من
العقود، والتحلل من التزاماته؛ فالظروف غير العادية حسب نظامها تجعلها في حل
من جميع التزاماتها، وزيادة الخطر من مبطلات الالتزام ما لم يزد المؤمن له في قيمة القسط.
والإخلال بشرط من شروطها مهما خفي أمره يعتبر لديها من أهم المحللات.
وقد وضعت شروطها وأحكمتها بحيث لا يأتي بها كاملة إلا قلة من الناس، فيندر أن يسلم أحد من المؤمن لهم من شر هذه الشروط التي تجد شركات التأمين فيها أعظم مجال لتصيُّد الثغرات والتحلل من الالتزامات.
والحاصل أن شركات التأمين تعقد الكثير، ولا تفي إلا بالقليل، كما يقول
صاحب كتاب (الأمن الخادع) . وكما يقول خبير التأمين الألماني أنتون جوها: إنه طبقاً لإحصائيات المكتب الفيدرالي الألماني فقد وقع في عام 1984م مليونا حادث عمل كلها مؤمَّن ضدها، ولم تعوض شركات التأمين منها إلا 2.9 % فقط.
بهذا نرى أن شركات التأمين لها عقود وشروط لا تلتزم بشيءٍ منها إلا وهي
راغمة، ومن يستطيع أن يرغم جيوشها الجرارة من المحامين والعملاء والقضاة وسائر المنتفعين؟ ! .
آثار التأمين في حياة الناس:
قد يعتقد بعض من لا يعرف حقيقة التأمين، وخاصة أولئك الذين يصغون
أسماعهم لما تروِّجه شركات التأمين من دعاية جذابة، ويقرءون ما تنشره أقلام ... أتباعها من مؤلفين وصحفيين وغيرهم قد يعتقد أولئك أن التأمين خير لا شر فيه. ولكن الأمر عند من يعرف حقيقة التأمين يختلف؛ فإن كانت للتأمين بعض المحاسن، فمساوئه تطغى على كل أثر حسن وسأبيِّن ذلك من خلال بيان إيجابيات التأمين، وسلبياته، والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات من واقع الحياة.
الآثار الإيجابية في التأمين:
يقول أصحاب التأمين: إن من إيجابياته الأمور الآتية:
1 - تكوين رءوس الأموال:
يُجْمِعُ رجال الأعمال والمال على أن أعظم سبب لتكوين رؤوس الأموال التي
عرفها العالم في القديم والحديث نظام التأمين؛ ذلك أنه ما من شيء يُتَصَوَّر في حياة من يأخذون بالتأمين إلا وللتأمين فيه حظ وافر ونصيب جزل، سواء كان ذلك مقابل تأمين الأنفس أو الأموال أو الممتلكات أو الحقوق أو مجرد الآمال والأحلام؛ حتى إن الفرد والجماعة والدولة في العصر الحديث يخصصون بنداً ضخماً في ميزانياتهم السنوية لتكلفة التأمين، ويُعِدُّون لذلك العدة الصعبة، بل إن الأمر قد بلغ أن التكلفة التأمينية أجَّلت بعض المشاريع؛ وذلك لأن التأمينات لا تقف عند حد؛ فبقدر ما تنتجه قريحة أصحاب التأمين من تصنيع للأخطار بقدر ما تمتد يد التامين لتحصيل الأموال. ولدى شركات التأمين موهبة فائقة في تجسيم الأخطار، وإبرازها، وتقريبها من الناس. فأيسر الأخطار وأندرها بل وبعيدُ التصور منها تنفخ فيه شركات التأمين حتى تجعله الشبح المخيف الذي لا يصح تجاهله، والذي ينبغي الإسراع إلى فعل ما يقي منه ويدفعه. وبهذا انهالت على أصحاب التأمين الأموال الطائلة والثروات الفاحشة. ويقول أصحاب التأمين: إن هذه الثروات
مفيدة للناس؛ حيث إنها تستخدم وتستثمر في المشاريع العامة المفيدة للجميع،
كما يقولون: إنها مفيدة للدولة؛ حيث إنها سندها عند الأزمات الاقتصادية، كما
يقرر ذلك خبير التأمين (هنز مير) .
2 - المحافظة على عناصر الإنتاج:
إذا احترق المصنع، أو انفجر، أو تهدَّم، أو مرض العامل، أو توفي أو
تعطل، ولم يكن ما يعوض ذلك أو يصلحه فإنه قد تنحط عناصر الإنتاج البشرية والآلية، فيضعف إنتاجها أو يتوقف. ويقول أصحاب التأمين: إنه بالتأمين يستطاع منع ذلك، فلا تضعف عناصر الإنتاج، ولا تتوقف؛ ذلك أنه إذا احترق المصنع أو انفجر، أو تهدم فإن شركات التأمين تعوض أصحاب المصانع بدفع قيمة التأمين الذي يستطاع به إعادة بناء هذا المصنع. وإذا مرض العامل فإنها عالجه، وإذا تعطل تعوضه، وإذا توفي تصرف لأسرته. ويعدون ذلك حسنة من حسنات التأمين وواحدة من إيجابياته.
3 - التحكم في التوازن الاقتصادي:
تعاني كثير من الدول وخاصة الصناعية منها من عدم التوازن الاقتصادي بين
العرض والطلب؛ فقد تكثر النقود في أيدي الناس مع قلة السلع المعروضة في الأسواق، فيرتبك الاقتصاد، وهو ما يعرف بحالة التضخم. وقد تكثر السلع المعروضة في الأسواق مع قلة النقود في أيدي الناس فتبور السلع، وهو ما يعرف بالكساد. ويعتبر الاقتصاديون كلا هاتين الحالتين الاقتصاديتين غير صحيتين.
ويقول رجال التأمين: إنه يمكن بالتأمين تفادي هاتين الحالتين المضرتين
بالاقتصاد؛ فإنه يمكن في حالة التضخم الاقتصادي التوسع في التأمينات الإجبارية لتعم أكثر قدر ممكن من الناس، وخاصة التأمينات الاجتماعية، وبذلك يمكن سحب قدر كبير مما في أيدي الناس من النقود، فتقل القدرة الشرائية، فيتزن العرض والطلب. وفي حالة الكساد يمكن للدولة أن تزيد من مخصصات المرضى، العاطلين عن العمل، ونحوهم، فتكثر النقود في أيدي الناس، فتزيد القدرة الشرائية، ويزول الكساد، ويعتبرون ذلك إحدى إيجابيات التأمين؛ كما يقول خبير لتأمين بول برس في كتابه: (أثر التأمين في الاقتصاد القومي) .
4 - اتقاء الأخطار:
ترغب شركات التأمين في عدم حلول المصائب والأحداث في الأمور المؤمَّن
ضدها حتى لا تضطر إلى دفع مبلغ التأمين الذي تعهدت به، ولذا فهي تضغط على المؤمَّن لهم وتشدد عليهم ليجتنبوا الأخطار ويبذلوا الجهد في المحافظة على الأموال المؤمن عليها؛ ويقول أصحاب التأمين إن ذلك يؤدي إلى المحافظة على قوة الاقتصاد للبلد؛ فهو من إيجابيات التأمين كما يقول بول برس.
5 - زيادة الائتمان:
لا توافق المصارف ولا أصحاب الأموال على إقراض أحد الناس قرضاً ربوياً
ما لم يوثق هذا القرض بوثيقة ائتمان تضمن لهم حقوقهم، وهو ما يعرف بالرهن. وهم لا يقبلون هذه الرهون ما لم تكن مؤمنة ضد الفناء والهلاك. لذا فأصحاب الأموال يطالبون من يقرضونهم قروضاً ربوية بتوثيق ديونهم برهون معينة من عقار وغيره، ويطالبونهم أيضاً بالتأمين على وثائق الائتمان هذه، حتى إذا هلكت العين المرهونة قام التأمين مقامها.
ويقول أصحاب التأمين: إن ذلك ينشط التجارة ويخدم الاقتصاد؛ فهو كما
يرون من إيجابيات التأمين.
6 - بث الأمن والطمأنينة:
يذكر رجال التأمين أن التأمين يجلب الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء
للجميع؛ فأصحاب المصانع مطمئنون إلى سير مصانعهم ونجاحها، وأصحاب الأموال واثقون من سلامة أموالهم، وأصحاب البيع والشراء والتعامل مع البضائع مطمئنون إلى سلامة بضائعهم، وكذلك رجال الأعمال والموظفون والعمال، وغيرهم ممن يتعامل مع التأمين جميعهم يتاجر ويعمل بهدوء نفس وأمن واستقرار. ويعدون ذلك من إيجابيات التأمين. (مبادئ التأمين) .
آثار التأمين السلبية:
يقرر أصحاب البصيرة في حقيقة التأمين أن للتأمين سلبيات ومساوئ كبيرة
وكثيرة، ويحسبون من أخطرها وأضرها بالناس الأمور الآتية:
أولاً: الوقوع فيما حرمه الله تعالى:
ليس شيء في الدنيا أضر بالإنسان من معصية الله تعالى ومعصية رسوله؛
ذلك أن أثر هذه المعصية لا يقف عند حد حساً ولا معنى؛ فهو نزع للخير والبركة في الدنيا، وذل وهوان وعذاب شديد في الآخرة. وليس شيء كذلك إلا معصية الله تعالى.
وإذا كان التأمين يقوم على الربا والقمار وغيرها مما حرمه الله سبحانه وتعالى كما يثبته علماء الشريعة؛ فهو معصية لله ولرسوله، وهو الخطر الذي يهون دونه أي خطر.
ثانياً: التأمين خسارة اقتصادية:
إن الكثرة الكاثرة هي الجماعة الخاسرة في عملية التأمين، والقلة النادرة هي
الفئة الرابحة؛ فإنَّ قدْراً لا يستهان به من أموال الأفراد والجماعات والجهات
والدول يُرمى به في صناديق التأمين في العالم دون سبب حقيقي لهذا التصرف. والجميع خاسرون لهذه الأموال دون فائدة ظاهرة ملموسة، ولا يستثنى من هؤلاء سوى قلة نادرة لا تُعَدُّ شيئاً إلى جانب الأعداد الهائلة من المؤمَّن لهم، هذه القلة النادرة هم أولئك الذين يقع لهم الحادث المؤمن ضده ممن تدفع لهم شركات التأمين التعويضات، ولا فائدة لهم في ذلك إلا إذا جاوزت تكاليف الحادث ما دفعوه من أقساط مع اعتبار زمن استثمار هذه الأقساط لو لم يدفعوها، واستثمروها بأنفسهم حتى ذلك الحين. وأكثر من يقع لهم الحادث يكادون ألاَّ يذكروا بالنسبة لمجموع المؤمن لهم؛ فالرابحون الحقيقيون من وراء خسارة المجموع في عملية التأمين قلة من الناس تكاد تُعد على الأصابع أولئك هم قادة التأمين في العالم. لذا فخسارة الأمة بالتأمين باهظة، وهي عامة شاملة، وتعتبر من أنكى الخسائر الاقتصادية التي منيت بها الشعوب في العصور المتأخرة، وأشدها غبناً؛ فإن مجموع المؤمن لهم بمثابة الشاة الحلوب التي لا تعلف إلا بجزء يسير من قيمة لبنها؛ فهي الخسارة
الجلية الواضحة كالشمس في رابعة النهار مهما تستَّر عليها المستفيدون المستغلون
لمصائب الناس.
ولزيادة الوضوح والتيسير في فهم هذه العملية الخاسرة وضعتُ معادلة
رياضية عرضتها على عدد من الاقتصاديين الغربيين، وخاصة من كان منهم وثيق الصلة بالتأمين، ولم يستطع أحد منهم أن يردها، أو أن يدافع عن التأمين إلا بقوله: (إنه ضرورة بالنسبة لنا) ، أي بالنسبة للغرب، لتقطُّع الصلة فيما بينهم.
ويقول منطوق هذه المعادلة الرياضية: إن مجموع ما يدفعه المؤمَّن لهم = أرباح الشركة + جميع مصاريفها + ما يعاد للمؤمن لهم عند الحادث.
ويتبين من هذه المعادلة الرياضية الرهيبة مدى الخسارة العظمى التي تُمْنَى بها
الأمة من جرَّاء التأمين؛ فمعلوم أن أرباح شركات التأمين لا تضاهيها أرباح؛ حتى إنها لتكفي لإقامة دول كاملة، ومصاريفها أدهى وأمرُّ؛ فهي تشمل جميع ما تبذله من عطاء سخي لمديريها، ووسطائها، وموظفيها، وسماسرتها، وبائعي الذمم من عملائها الذين لهم علاقة بتقدير الحوادث ونتائجها، ومختلف صورها. كما تشمل جميع ضرائب الدولة المفروضة عليها، وإيجارات مكاتبها الفخمة، ومنشآتها المتنوعة، وتكلفة مبانيها الشاهقة، ودعاياتها الواسعة، إلى غير ذلك مما لا يحصى من النفقات الباهظة. كل ذلك تستنزفه من جيوب المؤمن لهم دون مقابل. أما ما تعيده إلى المؤمن لهم في حالة وقوع الحادث فهو نزر يسير لا يكاد يذكر بالنسبة للأرباح والمصروفات. يقول خبير التأمين (ملتون آرثر) : إن نسبة ما يعاد إلى المؤمن لهم في التأمين على الحياة 1.3 % من قيمة الأقساط [3] . وما مثل ... المؤمن لهم في هذه العملية الخاسرة إلا كمن يبيع ماله بجزء يسير منه. ثم إن
ما تدفعه شركات التأمين إلى المؤمن لهم من هذا النزر اليسير لا تدفعه إلا بمرارة؛
حيث تضع العقبات لتحول دون صرفه؛ فهي تُنصِّب أمهر المحامين، وتشتري ذمم القضاة من القانونيين، وتضع الشروط الخفية المعقدة التي لا يكاد يسلم من شرورها أحد.
هذه حقيقة التأمين الاقتصادية المرة، وواقعه الخفي، فهل يقول عاقل عارف
بحقيقة لتأمين ناصح لأمته إن التأمين مصلحة اقتصادية؟ !
ثالثاً: إنهاك الاقتصاد بنزيف الأموال خارج البلاد:
تنقسم دول العالم بالنسبة إلى التأمين إلى فئتين:
فئة مصدِّرة للتأمين، وفئة مستوردة. ولا شك أن الرابحة في هذه العملية هي
المصدرة، وأن الخاسرة هي المستوردة؛ وذلك أن المصدر لهذه البضاعة لا يصدر ما ينفع الناس، وإنما ما يسلبهم أموالهم في لعبة معروف فيها سلفاً من الرابح ومن الخاسر، وهي ما يعرف بلعبة الذئب مع الغنم. إن الدول المصدرة للتأمين تأخذ الكثير ولا ترد منه إلا النزر اليسير. تلك الدول التي تمتلك شركات التأمين الكبرى، وخاصة منها شركات إعادة التأمين التي تصب أموال العالم في مشارق الأرض ومغاربها في أحواضها. إن التأمين بما فيه إعادة التأمين إنهاك للاقتصاد العالمي، وخاصة الدول الفقيرة منه؛ حيث تسحب به الدول القوية المصدرة للتأمين مبالغ طائلة من ثروة الدول الفقيرة مما يربك ميزانية مدفوعاتها [4] .
رابعاً: عجز بعض المشاريع عن القيام بسبب الكلفة التأمينية:
تمنع أكثر دول العالم من إقامة أي مشروع صناعي أو تجاري، أو غيره مما
ما لم يؤمن عليه صاحبه مسبقاً. وقد تكون التكلفة التأمينية من الجسامة بحيث تكون عبئاً ثقيلاً على مثل هذه المشاريع، وخاصة الصغيرة منها؛ بل إنها تحول دون قيامها اصلاً. وهذه حقيقة في الدول التأمينية على وجه الخصوص. وقد أجريتُ في مصر مقابلة مع عدد من الأشخاص من أصحاب المهارات الخاصة في الحرف والصناعات والكفاءات المتميزة ممن كان بإمكانهم إقامة معامل إنتاج ذات قدرات محدودة تقضي حاجات كثير من الناس وتثري الإنتاج الفني، وكان سؤالي يتوجه حول السبب في عدم إقامتهم لمثل هذه المشاريع، فكانت إجابة حوالي 55% منهم بأن المانع هو ارتفاع نفقة الإنشاء وخاصة التأمين. ويصرح حوالي 45% بأنه ما منعه إلا تكلفة التأمين، ويقول بعضهم: إنه قد أنشأ شيئاً من ذلك فأجهضه التأمين واضطره إلى توقيفه. وتسمع كثيراً لهجة مستنكرة تقول: ما ندري: هل نشتغل لتحصيل لقمة العيش، أو لشركات التأمين؟ !
خامساً: الإغراء بإتلاف الأموال عدواناً:
يتعمد بعض المؤمن لهم إتلاف ماله المؤمن عليه بحريق، أو غيره ليحصل
على مبلغ التأمين، وخاصة إذا كانت البضاعة المؤمن عليها كاسدة في الأسواق، أو فات وقتها، أو اكتشف فيها عيباً. وقد لا يتلفها فعلاً، ولكنه يصرِّفها، ويصطنع تلفها بحريق أو نحوه بما يوافق شروط استحقاق مبلغ التأمين، ويتم ذلك بإغراء الاستفادة من مبلغ التأمين، وخاصة إذا كان الشخص قد دفع مبالغ كبيرة لشركة التأمين دون أن يستفيد منها شيئاً، فيقدم على هذا العدوان بدافع التشفي. وهذه الحوادث مشهورة ومنتشرة في بلاد التأمين أجمع، وهي أشد ما تخشاه شركات التأمين، وتشدد في التحقيق منه عند وقوع الحادث ومثل هذا التصرف خسارة على اقتصاد الأمة، وعدوان بغير حق، وهي إحدى سلبيات التأمين.
سادساً: تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس:
عرف الإنسان منذ قديم الزمان أن تكدس الأموال وتجمعها في أيدي قلة من
الناس أمر خطير ينتج عنه كثير من الشرور والتسلطات والآثار السيئة، ويعبَّر عن ذلك في العصور المتأخرة بنظام الطبقات في المجتمع. وقد أجمع علماء الإصلاح الاجتماعي على أنه لا شيء أسوأ على الأمم من انقسام مجتمعها إلى طبقات الأغنياء والفقراء. وأن من الآثار السيئة لتكدس الأموال في أيدي قلة من الناس تسلطهم وتحكمهم في مصير الكثرة، وتسخيرهم لخدمتهم بغير حق، وتوجيه أمور الأمة في جميع جوانبها وفقاً لمصالحهم. وقد نهى الإسلام عن تكدس المال في أيدي فئة قليلة تفسد في الأرض وتتعالى على الناس؛ والتأمين بجميع أنواعه هو الركن الركين لمثل هذا التكدس المشين.
سابعاً: التسبب في كثير من الجرائم:
بسبب إغراء المال والطمع في الحصول على مبالغ التأمين يُقْدِمُ عدد من
المؤمن لهم بهذه المبالغ، أو المستحقين لها بعد أصحابها على ارتكاب جرائم شنيعة مروعة من القتل والبتر والتصرفات المنكرة النابية عن أدنى شعور بالرحمة والشفقة واعتبار الآخرين: فهذا يفجر الطائرة بمن فيها في الجو، ليقتل أمه لكي يحصل على تأمينها، وهذا يخنق أباه، وهذا يغرق الباخرة بمن فيها ليحصل على التأمين الكبير لبضاعته، وهذه تسقي زوجها السم ثم ولدها لتستأثر بمبلغ التأمين؛ وهذا يقتل زوجته للغرض نفسه، وهكذا سلاسل الجرائم المنكرة التي لا يعرفها عصر غير عصر التأمين.
هذا وإن جرائم التأمين من أفظع الجرائم التي عرفتها البشرية وأشدها وحشية
منذ فجر التاريخ؛ ذلك أن هذه الجرائم تستهدف أكثر ما تستهدف الأقرباء؛ فقد أخرج الباحث (شيفر ماكس) بحثاً علمياً دقيقاً رتب فيه جرائم التأمين حسب ما رصدته ملفات مخابرات الشرطة الدولية ودراساتها، ودفاتر الضبط في محاكم العالم فوجد أنه يأتي في المرتبة الأولى من جرائم القتل بسبب إغراء التأمين قتل الزوجة لزوجها، ويأتي في المرتبة الثانية قتل الزوج لزوجته، وفي المرتبة الثالثة يأتي قتل سائر الأقرباء من أم وأب وغيرهم، وفي المرتبة الرابعة قتل الأولاد من قِبَل والديهم، ولا يأتي قتل الأجانب إلا في المرتبة الخامسة. وإنه لمنتهى العجب أن يكون التأمين الذي يقصد به اتقاء الأخطار ورفعها أعظم سبب لأفظع الأخطار وأشنعها!
وليس أدل على ذلك من أن (جاك جراهام) وهو أحد مجرمي التأمين وضع في
طرد الهدايا الذي حملته أمه معها في الطائرة لغماً هائلاً مزق أمه أشلاءاً، ودمر الطائرة بمن فيها في الجو. وأن (ألفريدي تلتمان) قتلت زوجها بالسم، ثم ابنها تخلصاً منهما لتنفرد بمبلغ التأمين من بعدهما. وأن (جوفياني فينا رولي) قتل زوجته بالخدعة شر قتلة.
وأن (جوليان هرفي) قتل بالرصاص جميع من كان على ظهر إحدى البواخر بمن فيهم زوجته، ثم أغرق الباخرة لكي يحصل على تأمين زوجته الضخم. قصص وقصص تكاد ألاَّ يصدقها العقل. هذه حقيقة التأمين.
ثامناً: إبطال حقوق الآخرين:
تستخدم شركات التأمين أعداداً كبيرة من أشهر المحامين في العالم ليتولوا
الدفاع بالحق أو الباطل لإبطال حجج خصومها من المؤمَّن لهم، وهي لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تستميل بالمال الأطباء المقررين، وقضاة المحاكم القانونيين وكل من له أثر في تقرير الحوادث. إنها تفعل ذلك لإيجاد أي ثغرة تخرج معها من المسئولية، فتتحلل من دفع مبالغ التأمين المستحقة بوقوع الحادث المؤمن ضده. وما أيسر إيجاد الثغرات، وخاصة مع شروطها المعقدة الخفية التي يصعب الإلمام بها على كثير من الناس، فضلاً عن الإتيان بها على الوجه المطلوب.
تاسعًا: إفساد الذمم:
من شروط شركات التأمين شرط يقول: «إنه لا يحق للمؤمن له الذي يقع له
الحادث مع غيره أن يعترف بخطئه للآخر مهما كان الخطأ، وإلا فإن الشركة بريئة من التزاماتها بدفع أي مستحقات تترتب على الحادث. ليس هذا فقط بل عليه أن ينكر خطأه، ولو أمام المحكمة، وحتى لو كان خطؤه لا يحتمل الإنكار.
وبهذا الشرط يدفع نظام التأمين المتعاملين معه إلى الكذب وإفساد الذمم، ويملأ
المحاكم بالقضايا التي تشغلها الدهر، ولا تنتهي إلا إلى حلول مجحفة تحصل بها
شركات التأمين على أموال المؤمن لهم بالباطل دون أن تدفع لهم ما يقابلها من
تعويضات عند الأحداث [3] .
عاشراً: ضياع المحافظة الفردية على الممتلكات:
يتسبب التأمين في وقوع كثير من الإهمال لدى المؤمن لهم الذين لا يعتنون
ولا يحافظون على أموالهم وممتلكاتهم كمحافظتهم على أموالهم غير المؤمن عليها، بل قد يصل الأمر بهم إلى حد الرغبة في تلف بعض الأعيان المؤمن عليها طمعاً في مبلغ تأمينها الذي قد يفوق قيمتها. وإن عدم العناية وترك المحافظة على الممتلكات والأموال ضد الأخطار من أفراد المجتمع خسارة عظيمة على الأمة؛ لأن قوة المحافظة الفردية لا تعوضها أي قوة محافظة أخرى مهما بلغت. والخسارة الناتجة عن الإهمال لا تضر بالفرد وحده، ولا بالجماعة، ولا بالشركة المعوضة وحدها، وإنما يمتد ضررها ليشمل أبعد من ذلك؛ حيث يضر بكامل اقتصاد الأمة؛ لأن اقتصاد الأمة هو مجموع اقتصاد أفرادها. وعليه، فعدم المبالاة وترك
الحراسة الفردية المشددة على الأموال والممتلكات بسبب التأمين إهدار لأعظم
أسباب الأمن والسلامة، وإغراء بارتكاب الجرائم والنهب والاختلاس، وتعطيل لغريزة الوقاية التي خلقها الله في الإنسان.
الحادي عشر: تخويف الناس والتغرير بهم:
إذا كان السبب والأصل الذي دفع الناس إلى الأخذ بالتأمين هو الخوف من
المستقبل المجهول، وعدم ثقتهم في مواجهة الأحداث بأنفسهم؛ فإن شركات التأمين قد استغلت هذا الدافع أسوأ استغلال، فجسمت أمامهم المخاطر، وعظَّمت في أعينهم الأحداث، وحفَّت الحياة بألوان من المفاجآت والتوقعات غير السارة، وربت الناس على عدم قدرة الفرد أو الجماعة على مواجهة هذا المستقبل المكفهر بأنفسهم، بل إن الأمر قد بلغ بها أن أخافت الدول نفسها، وزينت لها وللناس اللجوء إلى شركات التأمين التي جعلتها أمامهم هي وحدها القادرة على مواجهة هذه الأمور العظام، وعلى التصدي لتجنيب الناس أضرار الكوارث ومساوئ الأحداث؛ فهي وإن كانت تسمى شركات التأمين إلا أنها تخيف الناس وترعبهم وتدمر ثقتهم بأنفسهم أولاً، ثم تدعوهم ثانياً إلى تأمين أنفسهم ضد ما أخافتهم منه؛ وهذا هو المرتكز والمبدأ الأول في سياستها الدعائية، وهو مبدأ تغرير وخداع لا يقره دين، ولا عقل ولا خلق (كرشنر، هنز ملر، كابل) .
الثاني عشر: سلب الناس القدرة على مواجهة الحياة:
يؤدي ارتماء الناس في أحضان التأمين، وهروبهم من تحمل مسؤوليات
الحياة إلى سلبهم القدرة على مجابهة أدنى المخاطر وتحمل أقل المفاجآت، والحياة كلها مسؤوليات وكلها مفاجآت. ومن الذي يستطيع أن يؤمن نفسه ضد جميع أخطارها وتقلباتها؟ ثم ما هو طعم الحياة وأين لذتها لمن لا يصادمها ويكابدها، ويخوض غمارها بنفسه؟ وأين إشباع غريزة حب التغلب والانتصار التي خلقها الله في الإنسان؟ ولكن ليس الأمر مجرد حرمان من إشباع الغرائز وتحقيق الملذات، وإنما هو الخطر من فقدان تحمل الحياة أصلاً؛ وخاصة في هذا العصر الذي دين أهله وتعقدت حياتهم، وطغى الشر فيه على الخير.
الثالث عشر: ضياع الروابط وتفكك المجتمع:
يحتاج الإنسان في حياته إلى الآخرين، وخاصة إلى أقاربه وذويه. وتشتد
هذه الحاجة كلما حل العوز، أو وقعت كارثة، أو خوف. لذا فقد ساد الناس منذ العصور الأولى الالتفاف والائتلاف، وقام بينهم التعاون والتناصر وإغاثة المعوزين والمحتاجين، وتكونت بذلك الروابط الأسرية، وتكافل المجتمع، وقامت الألفة والمحبة بين الجميع، فكانت الأسرة التي هي وحدة العائلة ونواة المجتمع قوية متماسكة لا تهتز، وكذلك المجتمع.
ولما حل الخراب بالأسر وبدأ التفكك في المجتمع جاؤوا بالتأمين ليحل محل الأسرة ويعوض الناس عما فقدوه، ويغني الفرد بزعمهم عن الآخرين، ولجؤوا إليه في كل أمر كانوا يرجونه من الأسرة، فضاعت بذلك الأسرة، وتهدم بناء المجتمع، ولم يعوض التأمين الناس عما فقدوه، وإنما زاد الطين بلة، فقطع ما تبقى من روابط، وباعد بين الناس وأسرهم، فوقف كل فرد وحيداً بعيداً منقطعاً، لا مغيث له ولا معين [6] .
موازنة بين الإيجابيات والسلبيات من واقع الحياة:
بالموازنة بين السلبيات والإيجابيات في جوانب ثلاثة هامة، وهي: الجانب
الديني، والاجتماعي، والاقتصادي يتبين لنا الفرق الهائل بين خير التأمين
وشره:
أ - الجانب الديني:
لم أرَ من أهل العلم من قال: إن للتأمين إيجابيات في الدِّين. وأما سلبياته في
هذا الجانب فقد قال أهل العلم المعتد بقولهم في بلاد المسلمين: إن التأمين محرم بجميع أنواعه؛ وذلك لأنه لا يقوم إلا على الربا، والقمار، والغرر، وغير ذلك، كما هو موضح في موضعه.
وإذا لم تكن للتأمين إيجابيات في الدين، وقد قال أهل العلم بتحريمه، فلا
مجال للموازنة بين الإيجابيات والسلبيات في هذا الجانب.
ب - الجانب الاجتماعي:
إن كان بعض أصحاب التأمين يعدون من إيجابياته تحقيق الأمن والاطمئنان
في المجتمع، كما سبق ذكره؛ فلو سلمنا لهم بذلك فرضاً فإن تسلُّط فئة قليلة من أثرياء التأمين في المجتمع وتحكُّمهم، وانتشار الجرائم بالتأمين، وإفساد ذمم الناس، وأكل أموال الناس بالباطل، وإشاعة الخوف من المستقبل، وسلب الناس القدرة على مواجهة الحياة بأنفسهم، وقتل الروابط الأسرية، وتفكُّك المجتمع بالتعاملات التأمينية تقضي على هذه الدعوى غير المحققة.
ج - الجانب الاقتصادي:
يقولون: إن من إيجابيات التأمين أنه يساعد على تكوين رؤوس الأموال،
والمحافظة على عناصر الإنتاج، والتحكم في التوازن الاقتصادي، ويعدون من سلبياته أنه خسارة اقتصادية وقعت في شعوب العصور المتأخرة، وإنهاك للاقتصاد الوطني بنزيف ثروات البلاد إلى الخارج، ويحول دون قيام الصناعات الخاصة والمشاريع، وهو مغرٍ بإتلاف الأموال عدواناً، وتكديس لأموال الفقراء بأيدي قلة من الأغنياء، وضياع للمحافظة الفردية على الممتلكات. وبهذا يتبين طغيان السلبيات على الإيجابيات، وتهافت دعوى المحافظة على عناصر الإنتاج وهي جوانب اسمها وسمعتها أكبر من حقيقتها، ويمكن أن يستعاض عنها بالتأمين
الذاتي، وهو أن يخصص صاحب المشروع أو نحوه مبلغاً من المال، وهو ما يسمى
احتياطي الحوادث، ويستثمر هذا الاحتياطي، وقد عُمِلَ بهذا في بعض
المصانع الأمريكية والأوروبية فنجحوا نجاحاً كبيراً، ووفروا أموالاً طائلة كانت تذهب عليهم هباء في صناديق التأمين.
وفي ختام هذا المقال أسجل هذا الاستطلاع في الرأي العام الذي قمت به في
مصر، وألمانيا، وأوروبا، وأمريكا، وكانت نتيجته ما يلي: 55% تقريباً بعد التوعية والتثقيف لبعض الفئات منهم يقولون: إن شر التأمين يغلب خيره.
و25% يقولون: إنه شر لا خير فيه.
و15% يقولون: إن خيره يساوي شره.
و5% فقط هم الذين يُغَلِّبون خيره على شره.
__________
(1) ينشر هذا المقال في الوقت نفسه في مجلة (الجمعة) باللغة الإنجليزية الصادرة عن المنتدى الإسلامي.
(2) عضو هيئة التدريس في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، وهو أستاذ متخصص في التأمين.
(3) انظر: كيف تسرقك وثائقك في التأمين على الحياة ص 45 - 57.
(4) مبادئ التأمين، للهانس، ص 39 - 40.
(5) انظر: نظام التأمين لمحمد السيد، والأمين الخادع، لكرشنر.
(6) توجيه التأمين على الحياة، وكيف تسرقك شركات التأمين على الحياة - والتركنتون.(148/8)