نص شعري
شكوى
عبد الرحمن السنوسي
في وَقَارِ اللَّيلِ وَالجَوُّ تَحَالَكْ ... سَاقَنِي الكَرْبُ إلى أعتَابِ بَابِكْ
شَاكِياً فَرْطَ اهْتِيَاجٍ بِدَمِي ... وَشَبَاباً سَاقَنِي نَحوَ المَهَالِكْ
كُلَّمَا ضَجَّ بِنَفْسِي عَزمُهُ ... فِي عِنَادٍ هَدَّنِي الوَغْدُ حِيَالَكْ
وَسَبَى عَزْمِي وَقَلبِي بِرُؤى ... مِنْ جَمَالٍ آسِرٍ يَغْشَى رِحَابَكْ
وَسُعَارٌ فِي دَمِي ألْهَبَهُ ... صَبْوَةٌ حَرَّى وَأهوَاءٌ حَوَالِكْ
فَسَرَى وَجدُ الهَوَى في خَافِقِي ... مِثل نَارٍ في هَشِيمٍ مُتَهَالكْ
فَإلَى مَن يَا إلَهِي كِلتَنِي ... وَكيَاني كله آثَرَ بَابَكْ
مَا أُرَجِّي لانعِتَاقِي ثِقلَةً ... فَاشْفِ رُوحاً عَلِقَت مِنكَ بِبَابِكْ(141/61)
البيان الأدبي
البيت الكبير
إسلام دعدوشة
ثلاثة.. أربعة.. عشرة عدد خشبات سقف الصالة التي يجلس فيها عماد،
أخذ يكررها ويحصيها مرة بعد مرة، لا يعرف كم مرة عدها وهو في حالة القلق
التي خالجته. ووسط لحظات الترقب والحيرة التي استبدت به؛ ظهر شعر رأسه
القصير من تحت طاقيته البيضاء، وبدت عيناه المنتفختان يكسو بياضهما اللون
الأحمر، انسكبت منهما دمعة رغماً عنه، وانتشر دخان الأرق والقلق الذي يعبق به
البيت، ورقد والده ممدداً على السرير النحاسي العتيق في الحجرة الكبيرة،
والأقارب حوله يحبسون أنفاسهم كلما شهق الرجل شهقة واهنة.
وجلست أخته الكبرى عند رأسه تجفف حبات العرق الذي تصبب بارداً غزيراً، وتردَّد صوته الخافت:
- أريد أش.. أشر.. أشرب.
- اعصر برتقالة يا حسن!
- لا.. أنا أريد ماءً.
كاد قلب عماد يذوب كمداً.. ففي الغرفة المقابلة ترقد زوجه وقد برحت بها
آلام الولادة، تضغط على أسنانها ضغطاً شديداً لتكتم آلامها، ازداد قلب زوجها
خفقاناً وعيناه موزعة زائغة، حائرة بين الغرفة التي يكابد فيها أبوه السكرات،
والحجرة التي ترقد فيها زوجه تعاني الزفرات ترقباً للحظة الولادة، ودنت منه
حماته وهمست:
- كان من الأفضل أن تلد في بيت أمها بدل الحالة التي يعيش فيها البيت هنا.
- من كان يعرف أنه سيحدث ما حدث!
ودخلت قابلة القرية البيت قائلة:
- كيف حال الشيخ المريض الآن؟
- ندعو الله أن يلطف به.
وأسرعت القابلة إلى غرفة زوجه وقد دوَّت صيحات الألم المبرح:
- ماءاً حاراً يا أولاد.. بسرعة.
وأحضرت بعض النسوة الماء الساخن في إناء نحاسي تتصاعد منه أبخرة تكاد
تحرق من شدة غليانه، واستمرت القابلة تصدر أوامرها في حزم، والجميع مذعن
مطيع.
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
أخذ عماد يحوقل ويتلو آيات من القرآن الذي كان قد حفظه في صباه في
الكتّاب، وظل يقرأ حتى وقف عند قوله - تعالى -: [لا يكلف الله نفسا إلا ما
آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا] [الطلاق: 7] حتى خنقته العبرات، والنسوة
يخرجن ويدخلن غرفة زوجه.
- كيف الحال؟ هل آن الأوان؟
الصمت مخيم على المكان، والترقب يضرب بأطنابه، وأنَّات المرأة تكاد
تقطع قلب من تصل إليه؛ لكم جاهد ليتزوجها رغم عدم رضا والديه، استحالت
صالة المنزل إلى ساحة سوداء يتخللها رؤوس نسوة بين جالسة تترقب، ورافعة
يديها إلى السماء تلهج بالدعاء، أخذ يدور في البيت ينظر إلى السقف.. هل يعد
خشبات السقف أم يلهج قلبه بالدعاء أن يعين الله زوجه ويوفقها. ازداد خفقان قلبه،
وهو يدور في البيت في حركة لا إرادية، يذهب ليلقي نظرة على أبيه ثم أخذ يتمتم
بكلمات لا تفهم منها سوى كلمة واحدة.. يا رب.. يا رب.
دوَّت صرخة اهتزت لها جنبات المكان، إنه صوت طفل يبكي، هرول إلى
غرفة الزوجة وهو يردد:
- الحمد لله. الحمد لله ...
وفي الغرفة الكبيرة دوَّى صوت أمه الثكلى، فضم أمه إلى صدره مواسياً
ومسلِّياً لها قائلاً:
- إنه قضاء الله ولا راد لقضائه.
- الحمد لله.. ربنا يبارك فيكم يا ابني.(141/62)
نص شعري
لا تجزعي
علي جبريل أمين
لا تجزعي لا تجزعي؟ إن البلا أن تجزعي!
لا تجزعي يوما ولا تستسلمي أو تخنعي لا تجزعي..
وعلى طريق جهادنا فلتسرعي لا تجزعي..
إني أقول مرددا - كيما تعي -:
لا تجزعي!
أماه إن طال العذاب على فؤادك فاضرعي
ولئن تراقصت الخطوب على ثراك البلقع
ولئن رمى الأعداء عرضك بالسباب المقذع
فاستأنسي بالله! - يا أماه - لكن.. اسمعي:
لا تجزعي!
كم قد جفاك بنوك في ليل الشتاء الأقطع!
بل كم رموا بك في هجير الصيف في مستنقع
ولكم أصابك ما أصابك في الخريف المفزع
وأتى الربيع يقول يا أماه - كيما تمرعي -:
لا تجزعي!
يا ويلهم! قتلوك بالهم الكئيب الأفظ
ذبحوا وريدك وانثنوا يبكون! يا للأدمع
قتل القتيل وكان في يوم الجنازة لا يعي! !
هم مثله.. لكن دماؤك سطرت في المطلع:
لا تجزعي!
قد أظلمت أرجاء دنيانا تؤرق مضجعي
والبدر قطَّب وجهه، والنجم لما يسطع!
تاهت رؤى قلبي وراء الأفق بين الزعزع
لكن تلألأ - فجأة! - نجم.. وسطرها معي:
لا تجزعي!
أماه: هذا جيل صحوتنا فلا تتوجعي
أحفاد خالد والمثنى الشهم وابن الأكوع!
جاؤوك بالقرآن يسقيك الهدى.. فتضلعي
ونشيدهم في ظلمة الليل البهيم المروع:
لا تجزعي!
إيهِ ثَرى البلقان.. إن مكروا فلا تتزعزعي
آه ليالي البؤس.. كوسوفا تئن فأقشعي
يا أرض كوسوفا الحزينة يومهم في مصرع
سنعيدها! وهتافنا يعلو هدير المدفع:
لا تجزعي!
يا أمتي.. صبرا إذا ذرفت دموع المدمع!
يا أمتي اعتصمي بربك ذي الجلالة واركعي
لا تجزعي! وصدى الهتاف مجلجل في الأربع:
لا تجزعي لا تجزعي.. أماه لا! لا تجزعي!(141/64)
نحو تطوير الذات
خطوات في طلب العلم
عبد الله الشرقاوي
ركن جديد يعكس من زاويته ثمرة خبرات وأفكار تفتق عنها العقول وتمنحها
التجارب فتأتي بمثابة مرشد أمين في عملية (تطوير الذات) الملحة في شتى أقطاب
العملية التنموية المتكاملة: الفكرية، والمعرفية، والشخصية، والأخلاقية،
والاجتماعية، والاقتصادية، من خلال نقاط مركزة تصلح لأن تكون محاور لدراسة
مطولة. ونرحب بمشاركات القراء التي تثري هذه الزاوية.
1 - اعلم أن صحة المنطلق هي الأساس للوصول إلى المسار الصحيح في
العلم والتعلم، والقاعدة تقول: (من صحت بدايته استقامت طريقه وصحت نهايته،
ومن فسدت بدايته اعوجَّت طريقه وساءت نهايته) .
2 - تعلّمْ آداب طالب العلم، والتزم بها حتى لا تكون عن أخلاق أهل الإسلام
بمعزل.
ومن هذه الأخلاق:
الإخلاص فلا يكن في قلبك محل يراد به غير الله - تعالى -.
الصدق في النيات والاعتقادات والأقوال والأفعال، فكن صادقاً في انتسابك
للإسلام وطلب العلم.
الجدِّيَّة في الطلب مع حفظ الوقت من الباطل وفضول المباح، مع التوازن في
العلاقات الاجتماعية، وتذكر أن: (من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة) ،
و (بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنّى) .
التكامل والتوازن في: (الأخلاق والصفات، والعلوم، والقول والعمل) .
حسن الخلق في التعامل مع المعلم والزميل، وعامة الناس؛ لأنك تدعو ...
بسلوكك كما تدعو بلسانك.
الربانية؛ أي: كن دائم الصلة بالله ذا قلب حي ذاق حلاوة الإيمان؛ فهو
مطمئن به، ولْتظلَّ قريباً من كل طاعة بعيداً من كل معصية.
اتباع هدي السلف والتمسك بالكتاب والسنة فهماً وتطبيقاً وحكماً عند
الاختلاف.
أن تكون صالحاً في نفسك مصلحاً لغيرك، واقفاً نفسك على خدمة الدين،
يجدك الله تعالى حيث أحب، ويفقدك حيث نهى.
3 - كن متوثّباً للأعالي متشوّقاً للمعالي، ولتكن نفسك توّاقة كلما أدركت
مرتبة تاقت لما فوقها، ولا تقل: (كم ترك الأول للآخر؟) ، ولكن قل كما قال ابن
مالك في التسهيل: (وإذا كانت العلوم مِنَحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير
مستبعد أن يُدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. أعاذنا الله من
حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف) .
4 - أدم النظر في كتب آداب الطلب، فاقرأ - على سبيل المثال - في
الكتب الآتية: (تذكرة السامع والمتكلم - حلية طالب العلم - ثماني قواعد للمتفقهين
- صفحات من صبر العلماء) .
أخي طالب العلم! كيف تحقق أهدافك؟
إذا أردت تحقيق أهدافك فلا بد من تحديدها أولاً، والوسيلة إليها ثانياً،
والسعي إليها ثالثاً.
اجلس لحظة تفكر فيها خالياً مع ربك ذاكراً مستغفراً مستهدياً، ثم تأمّل
شريط حياتك لتعرف أين أصبت وأين أخطأت، فإذا عرفت نفسك وماذا تريد من
هذه الحياة فحاول وضع خطة لتحقق أهدافك، ولا تنس أن تسأل نفسك: (من أنا؟
وما هدفي في الحياة؟ وما الطريق لتحقيق هدفي؟ وما هويتي؟ وهل أنا عبد لله
حقاً؟ وهل حققت مظاهر العبودية لله - تعالى -؟ وهل أسير في طريق الهداية
والرضوان؟ وإن متّ الآن فأين سأكون؟ ما أخطائي؟ وأين يكمن ضعفي؟ وما
الخلل في شخصيتي؟ كيف أجد إيماني وحياة قلبي؟ وهل تتحقق فيّ صفات طالب
العلم؟ وما الصعوبات التي تواجهني؟ وكيف أحقق ما سبق؟ وكيف أتجاوز
العقبات؟ وما برنامجي المقبل لتحقيق كل ذلك؟) .
كرّر الجلسة حتى يتبين لك الطريق وتعرف هدفك.
إذا صعب عليك الأمر فلا بأس أن تجالس أخاً ناصحاً تستهدي برأيه
ومشورته يساعدك على وضع خطتك الطموحة لتحقيق أهدافك وتحديد أولوياتك.
احرص على حسن التخطيط لتضمن أحسن استفادة من الوقت، وتذكر أنك
أيام؛ إذا ذهب يومك ذهب بعضك.
إشارات تربوية:
هذه إشارات وقائية تقيك بإذن الله من الزلل:
استحضر دائماً هدفك الأسمى والوسيلة إليه؛ فمن عرف شرف مطلوبه هان
عليه ما يجد في سبيله. وتذكر قول شيخ الإسلام: (العامة تقول: قيمة كل امرئ
ما يحسن. والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب) .
تذكر الواجبات لتحاسب نفسك: ما مدى إحسانك وإتقانك لها؟
تذكر المنهيات لتحاسب نفسك: ما مدى بعدك عنها؟
حدد حاجاتك العلمية منطلقاً من الكتاب والسنة، وتذكّر قول المقرّي في
قواعده: (والواجب الاشتغال بحفظ الكتاب والسنة وفهمهما والتفقه فيهما، والاعتناء
بكل ما يتوقف عليه المقصود منهما) . فابدأ بالأهم فالمهم، وبالأصل قبل الفرع.
استحضر قِصَر العمر وكثرة المشاغل وعِظَم الهدف، وليكن شعارك:
(الواجبات أكثر من الأوقات) .
وطّن نفسك على الإقلال من المباحات وترك توافه الأمور وسفاسفها؛ فقد
نُهينا عن كثير من الإرفاه. ومن النعم التي كان ينوِّه بها أبو الوفاء ابن عقيل ما
ذكره في قوله: (وعصمني من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي
على العلم وأهله، فما خالطت لعّاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم) ،
وليكن شعارك: (الدنيا ساعة فاجعلها طاعة) .
نوِّع زادك العلمي حتى لا يتسلل إليك الملل والكلل.
ضع أمامك سورة العصر ولا تنسها، وحاول تطبيقها باستمرار.
أزهار تجمّل بها برنامجك!
1 - إحسان تلاوة القرآن تجويداً وترتيلاً.
2 - وِرْد يومي لقراءة القرآن وختمه كل شهر على الأقل.
3 - وِرْد يومي لحفظ القرآن الكريم، مع قراءة تفسير ما تحفظ من تفسير
متوسط الطول.
4 - القراءة في كتاب السنة كمختصر صحيح مسلم أو رياض الصالحين مثلاً.
5 - القراءة في كتاب للسيرة النبوية، أو التربية السلوكية كمختصر منهاج
القاصدين مثلاً.
6 - قسِّم يومك مراعياً تفاضل الساعات في الفضل والبركة على نحوٍ مما يلي:
اجعل لنومك (6) ساعات، ولا ترهق جسدك بالسهر.
اشتغل بالذكر بعد صلاة الفجر، ثم اقرأ وردك من القرآن حتى شروق
الشمس ثم صلّ ركعتين.
اغتنم ما تبقى من الوقت حتى موعد الدراسة بالدرس العلمي، وقدّم ما
يحتاج لفهم وصفاء ذهن.
احرص على القيلولة لتجدد نشاطك باقي اليوم.
وزّع ما بعد صلاة العصر من أيام الأسبوع في قضاء حوائجك وعلاقاتك
الاجتماعية ونشاطاتك غير العلمية، ولا يذهب الوقت كله في ذلك؛ بل خصص
جزءاً منه لبرنامجك العلمي.
استكمل بعد صلاة المغرب ما تبقى من برنامجك، وخصص آخره لتناول
العشاء.
ضع الأعمال القصيرة في الأوقات المحصورة، وأما الأوقات الطويلة
فخصصها للمطالعة والبحث والتفكير. فقراءة حديث من (رياض الصالحين) مع
شرحه من (نزهة المتقين) مثلاً لا يستغرق وقتاً طويلاً فضعه بين العشاءين أو قبل
عمل طويل.
لا تنس أن توتر قبل أن تنام إن كنت لا توتر من آخر الليل.
وصايا عامة:
- حافظ على صحتك العامة، ونوّع طعامك، وتجنب الفضول منه.
- حافظ على صحتك النفسية واطرد القلق والاكتئاب عن نفسك بكثرة الذكر
والعبادة.
- مرّن ذهنك على التفكير حتى لا يصاب بالخمول.
- إذا كان يشق عليك تطبيق برنامجك اليومي فعليك أن تتواصى مع زميل لك
جاد على تنفيذه.
تذكر قول الشاعر:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذُك للعلم قل لي متى؟(141/66)
حوار
المستشرق الروسي د. ليونيد سوكيانن
في حوار مثير مع البيان
(1-2)
السياسة يجب أن تخضع لمعايير الشريعة
وليس العكس
حاوره في الرياض: خالد محمد أبو الفتوح
لماذا هذا الحوار؟
من يملك الحقيقة لا يخشى الحقائق
لعله أول حوار تجريه مجلتكم (البيان) مع شخص غير مسلم، ولعل بعض
قرائنا الأعزاء يستغربون هذه الخطوة؛ ولكن لم الاستغراب وكتاب ربنا - تعالى -
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسير علمائنا ملأى بالحوارات مع الكفار؟ بل مع
الطغاة والفراعنة؟ على أن محاورنا يعلن أنه - رغم عدم إسلامه - نصير للإسلام
وللشريعة الإسلامية، ولم يصل إلى المحادة؛ بل قد يعتبر بعضى القراء آراءه
أفضل من كتير من آراء علمانيين يحملون أسماء إسلامية؛ لذلك لم يكن الحوار معه
للمحاجة والمناظرة، بل كان لاستطلاع الآراء والمواقف واستجلاء الحقائق، فليس
مناسبا لمن يهتم بأمر المسلمين أن يجهل واقعهم في البلاد الأخرى، أو يغفل عن
نظرة الآخرين إلى الإسلام والمسلمين، أو يهمل معرفة كيف يفكر هؤلاء الآخرون، وكيف يتطور هذا التفكير تجاهنا وتجاه العالم؛ بل وتجاه القيم والمبادئ.
وضيفنا في هذا اللقاء هو الدكتور ليونيد سوكيانن أحد أبرز المستشرقين
الروس المهتمين بدراسة الشريعة الإسلامية وواقعها في العالم الإسلامي. درس
الاقتصاد وتخرج في معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية،
متخصص في الدراسات القانونية والتشريعية، وهو حاليا أستاذ في معهد الدولة
والقانون بأكاديمية العلوم الروسية، يتحدث العربية بطلاقة، وله عدة مؤلفات
ونشاط ملموس في وسائل الإعلام الروسية فيما يخص العالم الإسلامي والشريعة
الإسلامية، ويعد أحد المستشارين المهمين في هذا الخصوص هناك..
ولا شك أن المجلة في هذا الحوار - شأن معظم الحوارات - قد تتفق معه في
أمور ذكرها وقد تختلف في أمور أخرى - لعل أبرزها: رأيه في اتفاق النظم
التشريعية في معظم تشريعاتها، ولكننا نورد الحوار بغير تعليق؛ ثقة منا في نضج
قارئ البيان ورفعا لوصاية فكرية كثيرا ما تمارس على شباب الصحوة؛ لأننا نعتقد
أن الحوار الحر من أبرز السبل لإبراز حقيقة الإسلام، وأن: من يملك الحقيقة لا
يخشى الحقائق.
- البيان-
- د. ليونيد سوكيانن: ما الذي دفعكم للاهتمام بالشريعة الإسلامية؟
- كان اختياري لهذا الموضوع عفويا، لأني كنت أدرس اللغة العربية في
معهد العلاقات العربية، وأحببت هذه اللغة من أول درس، وبعد دراسة اللغة
العربية لم أتصور مستقبلي في أي تخصص بعيدا عن اللغة العربية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت من ضمن المواد التي أدرسها في المعهد نفسه بعض
المواد القانونية، وأنا أحببت العلوم القانونية لما فيها من منطق قانوني، ولهذا
شعرت بميول تجاه القانون إضافة إلى اللغة العربية، ونقطة الالتقاء بين اللغة
العربية والعلوم القانونية هي الشريعة الإسلامية، فكان طبعيا أن أدرس الشريعة
الإسلامية. أنا حقوقي ولست مسلما ولست فقيها؛ لذا: فأنا أدرسها دراسة مقارنة
بصفتي حقوقيا قبل كل شيء، ولكني لا أقف عند حدود المقارنة السطحية للشريعة
الإسلامية والنظم القانونية الأخرى، بل أحاول التعمق في دراسة الشريعة الإسلامية
واستيعابها بالرجوع إلى أصولها وأمهات الكتب فيها.
- هل واجهتم مشكلات نتيجة دراستكم للشريعة في بلادكم؟
- بإمكانكم تصور حجم المشاكل التي تواجه باحثا يبدأ دراسة الشريعة
الإسلامية في بداية السبعينات في روسيا، حينئذ كان النظام الشيوعي برئاسة
بريجينيف قائما، ويمكن أن نطلق على هذا النظام بدون مبالغة نظام الإلحاد، وكل
الدراسات المتعلقة بالشريعة والإسلام كانوا يعتبرونها متعلقة ببعض الأوهام، أو كما
كانوا يقولون بـ (أفيون الشعوب) ، وكانت هذه الصفة تلصق بجميع الدراسات
المتعلقة بالإسلام وبالشريعة الإسلامية، بل وبأي دين، ولكن نظرا لبعض العوامل
السياسية الخارجية تهيأت الظروف للاهتمام بمثل هذه الأبحاث؛ فالعلاقات الروسية
مع العالم الإسلامي تطلبت بعض الدراسات المتعلقة بالإسلام بما في ذلك البعد
الشرعي لهذه العلاقات. وبعد مرور سنوات تثار الآن في روسيا قضية الشريعة
الإسلامية ليس باعتبارها موضوعا للدراسات الأكاديمية فحسب، ولكن باعتبارها
قضية عملية واقعية.
- من أي وجه برز أنها قضية علمية؟
- يكفي أن نضرب مثلا بقضية الشيشان؛ فالشيشان لا تزال جمهورية تحت
الاتحاد الروسي؛ وهي مثار فيها قضية تطبيق الشريعة..
- عفواً هذه القضية سوف نتناولها في وقت لاحق..
حتى إذا تركنا جانباً قضية التجربة الشيشانية وهي تستحق المناقشة المفصلة
الخاصة ففي بعض المناطق والجمهوريات الروسية الأخرى كذلك تناقش قضية
الشريعة الإسلامية من منطلق أنها قضية تشريعية عملية، فمثلاً: الآن في جمهورية
تتارستان وهي قلب الأمة الإسلامية في روسيا يناقش قانون حرية المعتقدات الدينية
والمنظمات الدينية، ومشروع هذا القانون ينص على الاعتراف بالأوقاف على
سبيل المثال، وهذا ما أبرز أهمية الدراسات الشرعية الإسلامية في روسيا، وتثار
كذلك في بعض الجمهوريات الأخرى في شمال القوقاز مثل هذه المسائل.
- ولكن د. ليونيد.. هل تظن أنه قد يأتي يوم يطلب فيه النظام الروسي
بعض المساعدة من حضرتكم لاقتباس بعض النظم من الشريعة الإسلامية؟
يجب أن أشكركم على هذا السؤال، هذا السؤال في صلب الموضوع، وكان
ولا يزال يوجه إليَّ كثيراً في روسيا. بصراحة أقول: منذ فترة طويلة من الزمن
وحتى الآن لم أشعر أن معارفي مطلوبة، ليس فقط لزملائي الباحثين ولكن للسياسة
العملية في روسيا، ولكن التغيرات التي طرأت على روسيا في الآونة الأخيرة على
المستوى الثقافي والديني والاقتصادي والسياسي ألزمتنا في روسيا أن نولي موضوع
الشريعة الإسلامية أهمية باعتبارها موضوعاً عملياً، فمنذ أقل من شهرين دُعيت
للمشاركة في عضوية المجلس الاستشاري لوزارة الخارجية الروسية، وعندما
حضرت الجلسة التأسيسية لهذا المجلس استفسرت من نائب وزير الداخلية الروسية: أنت مسؤول عن مكافحة الإجرام الجماعي والمافيا وكذلك الإجرام الاقتصادي،
وتدعوني للمشاركة في هذا المجلس في حين أني متخصص في الشريعة الإسلامية؛
فما هي العلاقة بين مهمتكم وتخصصي؟
قال: عندما دخلنا مناطق شمال القوقاز وهي مناطق مسلمة أصلاً وبدأنا نحقق
في كثير من أصول الجرائم تأكدنا أن هناك علاقة مباشرة بين التقاليد والأعراف
العرقية والطائفية والأحكام الدينية وغيرها وبين مستوى الإجرام، واقتنعنا أننا لا
نستطيع أن نستأصل جذور الإجرام في هذه المناطق دون دراسة عميقة للإسلام
ومعرفة البعد القانوني فيه، وهو الشريعة الإسلامية.
ومن هذا المنطلق نستطيع إذا فكرنا بشكل هادئ وعميق أن نجد كثيراً من نقط
الالتقاء بين مشكلة الأعراق والتقاليد وبين أصول الإجرام الآن في شمال القوقاز..
وهكذا يمكن الاستفادة من هذا التراث الفقهي لاستئصال الإجرام، ولكن طبعاً
لا نستطيع أن نعتبر الشريعة الإسلامية وحدها الوسيلة لحل أي قضية على الرغم
من أهميتها، ولكنها عنصر من العناصر.
وعلى هذا الأساس: لا أستطيع أن أتصور شخصياً مستقبل تطور النظم
التشريعية في روسيا وخاصة في المناطق المسلمة في روسيا بدون الاستفادة من
الشريعة الإسلامية.
- على ذكر الشريعة وتطبيق الشريعة, باعتباركم متخصصاً في الشريعة
الإسلامية، وفي الوقت نفسه لا تنتمي إلى الإسلام، ما هي نظرتكم إلى دعوات
تطبيق الشريعة في هذا العصر؟ .. هناك من يقول: إن الشريعة لا تصلح لجميع
المجتمعات أو لهذا الزمان، ما قولكم من خلال دراستكم للشريعة؟
- طبعاً الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تكون طويلة جداً؛ لأن السؤال نفسه
فيه كثير من الأبعاد والمستويات، وبصراحة القول: الشريعة الإسلامية طوال
القرون من بدايتها وحتى يومنا هذا اكتسبت الكنوز من الفكر القانوني والقواعد
والمبادئ والحلول المختلفة.. هذا النظام ليس نظاماً جامداً، فهو لم يبق على
صورته التي كان عليها في أول نشأته في عصر النبوة، ولكنه دائماً يتطور على
القواعد الأساسية له ويفرِّع عليها، وأنا أفهم نظام الشريعة الإسلامية على أنه ليس
فقط نظاماً إلهياً يعتمد على الوحي فإذا انقطع الوحي توقفت استجاباته ومرونته،
ولكني أستطيع القول: إن لهذا النظام دعامتين: الوحي الإلهي، واجتهاد البشر،
وعن طريق الاجتهاد ساير التشريع الإسلامي الزمن وواكب الظروف المختلفة،
ولذلك: أنا لا أشك في أن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، ولكن مع
ملحوظة مهمة هي أن التشريع الإسلامي تكمن فيه الإمكانات والكفاءات لأن يكون
صالحاً لكل زمان ومكان، أما الاستفادة من هذا الاحتياط والرصيد الكامن فيتوقف
على البشر، على المسلمين أنفسهم، وعلى هذا الأساس: إذا أخفق تطبيق الشريعة
الإسلامية في ناحية من أنحاء العالم فليست الشريعة هي التي أخفقت، ولكن لم تفلح
التجربة المعينة لبعض الذين ربما يطبقونها بشكل خاطئ.
ففي الحقيقة أنا مؤمن بأن المبادئ القانونية الأساسية في الشريعة الإسلامية
مثل مقاصدها وكلياتها تمثل قيماً أبدية خالدة. مثل: لا ضرر ولا ضرار، هذا
المبدأ المستخلص من الحديث النبوي يصلح دون شك لكل مكان وزمان، ولكل
إنسان: مسلماً كان أو غير مسلم؛ مثل هذه المسائل أبدية.. كل نظام قانوني يعتمد
على مثل هذه المبادئ الأساسية.
ومن الضروري هنا ألا نخلط بين السياسة واستعمال الشعارات المتعلقة
بالإسلام أو بالشريعة الغراء وبين الأغراض والأهداف والغايات السياسية التي يمكن
أن تطمح إلى تحقيقها بعض الجهات أو بعض الأفراد لاعتبارات سياسية أو مصالح
شخصية تحت هذا الشعار، والأخطاء أو العواقب السيئة على تطبيق الشريعة
الإسلامية يجب أن نُحمِّلها الذين يستعملونها استعمالاً غير صحيح؛ وليس على
الشريعة الإسلامية؛ فهم لا يستعملونها لأنها قيمة في ذاتها؛ ولكن باعتبارهم لها
وسيلة.. والدين أو الشريعة لا ينبغي أن تكون وسيلة، رغم أنها إطار قانوني يمكن
من خلاله أن تُحلَّ كثير من القضايا؛ ولكن ينبغي أن يكون هذا على أساس المبادئ
والقواعد الأساسية الراسخة.
وأشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي أننا إذا ظننا أن التشريع الإسلامي يكتفي
بقطع يد السارق أو رجم الزاني أو منع شرب الخمور وتحريم لحم الخنزير أو إباحة
تعدد الزوجات ... وإهمال الأبعاد الأخرى رغم أهمية هذه الأحكام الجزئية نكون
مخطئين، فإذا كان هذا النظام شاملاً فضروري أن يكون الموقف منه شاملاً أيضاً
لكل هذا النظام؛ فالسياسة يجب أن تخضع لهذه المعايير وليست هذه المعايير هي
التي تستعمل لتعليل بعض الممارسات السياسية لبعض الجهات؛ فهذه مشكلة.
- من خلال دراستكم للشريعة دراسة مقارنة مع التشريعات الأخرى، ما هي
أهم التمايزات التي لاحظتموها في الشريعة الإسلامية وتفترق عن النظم التشريعية
الأخرى؟
- إذا رغبتم في جوابي الصريح كل الصراحة، فأنا كثيراً عندما أطلع على
المراجع بما فيها المراجع التي كتبها الفقهاء المسلمون أقرأ الفقرات الخاصة
بالفوارق بين النظم، أنا أفضل أن أقف أمام التشابه والاشتراك أكثر بكثير من
الفوارق؛ لأن رأيي الشخصي أن نقاط التشابه والاشتراك أكثر بكثير من الفوارق
.. الفوارق موجودة، وهي جلية وواضحة، ولكن هذه الفوارق: عددها، وطبيعتها
يجب ألا تطغى على نقاط التشابه؛ مما يُمكِّن من الحوار والتفاعل والتواصل بين
الأنظمة القانونية المختلفة من غير وجود تمييز قاطع بين النظم، وهذا يساعد على
نمو العلاقات الخارجية والتعاون في مجالات كالتجارة ...
- ولكن إذا تحدثنا عن نقاط الاتفاق، فقد يكون عموم نقاط الاتفاق صحيحاً،
إلا أننا عند الدخول في هذه النقاط نجد التفاصيل مختلفة كثيراً، فمثلاً: إذا قلنا: إن
جميع النظم القانونية تحرص على العدل وعلى احترام الإنسان باعتباره قيمةً في حد
ذاته.. فإننا نجد أن صورة العدل تختلف في هذا النظام عن ذاك.. كيفية احترام
الإنسان هنا تختلف عما هناك.. أشياء كثيرة عند الدخول في التفاصيل تجعل من
هذه النقاط مجرد لافتات عريضة؛ فما رأيكم؟
- نعم.. أنا يمكن أن أشاركك الرأي جزئياً فقط في هذا المعنى، فأنتم ضربتم
مثالاً على حقوق الإنسان أو مكانة الفرد أو الإنسان في هذا النظام.. صحيح أن كل
نظام قانوني يدعي أنه يقدس الإنسان باعتباره قيمة، ولكن كيفية تحقيق هذا المبدأ
تختلف، ولكني مقتنع أنه حتى في هذا المجال تتجاوز نقاط الاتفاق نقاط الفوارق،
مثلاً: إذا اطلعنا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقارنَّا بين هذا الإعلان
ووثيقة حقوق الإنسان التي صدرت عن المؤتمر الإسلامي في أغسطس عام 1990م
نجد أن نقاط الاتفاق أكبر بكثير من الفوارق.. الفوارق موجودة ولا أهملها، ولكن
موقفي الأساس وفكرتي الأساسية ألا نبالغ في هذه الفوارق، فإذا ركزنا على
الفوارق فستكون الخطوة التالية هي التمييز، ليس بين الأحكام القانونية، بل في
القيم الإنسانية والمجتمعات والحضارات والثقافات والشعوب والأديان وغيرها.. أنا
أفضل أن أركز على النقاط الأخرى، نقاط التشابه والاتفاق بين الأنظمة، لماذا؟
ربما هناك بعض الأسباب الذاتية لمثل هذا الموقف؛ لأن عندنا في روسيا كنا ولا
نزال نشعر بهذه الآثار حتى الآن.. الرؤية الخاصة بالإسلام هناك أن الإسلام نظام
رجعي، والشريعة ليست بقانون؛ بل هي خليط من أحكام دينية وأحكام قانونية غير
متطورة تماماً، فيها تسويغ العنف وخرق حقوق الإنسان وعدم المساواة بين حقوق
الرجل وحقوق المرأة.. وغير ذلك، إذن: عندما بَدَأْتُ دراسة الشريعة الإسلامية
واجهتُ وما أزال مثل هذه التصورات والمفاهيم عن الشريعة الإسلامية، فمثل هذه
الصورة المزيفة غير الصحيحة عن الإسلام دفعني لأن أبرز البعد الآخر: أن هذا
النظام متطور وراقٍ، هذا النظام صالح لكثير من البيئات؛ بل لمعظمها؛ بل جميع
البيئات الاجتماعية والجغرافية، وطبعاً هذا يتطلب استخلاص القواعد الكلية،
والتمييز بينها وبين الجزئيات التي قد تلائم زماناً ولا تلائم أحوالاً أخرى، فالقواعد
الكلية هي الثوابت، والجزئيات تصنف على أنها متغيرات؛ لأنها تتغير بتغير
الزمان والمكان.
وعلى هذا الأساس: نجد أنه يمكن استفادة الأنظمة القانونية بعضها من بعض، فمثلاً فكرة صياغة القانون في مواد مأخوذ من نظم قانونية غير إسلامية، وعلى
هذا يمكن الاستفادة من مكتسبات النظم القانونية الأخرى.
- هناك نقطة مهمة جداً يا دكتور ليونيد في هذا الموضوع يتطرق إليها كثير
من الباحثين، وهي مصدر التشريع في كلا النظامين. تعلمون أن المصدر في
التشريع الإسلامي ليس إلى مجلس شعب أو برلمان.. إلخ، قد يصوغ البرلمان
القانون، ويجتهد في مناسبته للواقع؛ ولكن لا ينشئ القانون أصلاً، بينما في
الأنظمة الأخرى تقوم كل الأنظمة على حق الشعوب في التشريع من الأصل، وهذا
بعض الباحثين إلى الربط بين الحكم الثيوقراطي وهذا النظام الإسلامي في التشريع
.. فما رأيكم في هذه النقطة الجوهرية؟
إذا أخذنا هذه النقطة مثالاً، فيجب أن ندرسها دراسة مفصلة. صحيح أنه في
بعض الأحيان يقال: إن مصدر التشريع الإسلامي مصدر إلهي: الوحي وليس
البشر، أما الأنظمة الأخرى فمصدرها نشاطات البرلمان والهيئات البشرية، هذا
من حيث المبدأ صحيح، ولكن إذا استمررنا في التفكير في هذا الفارق فسنتوصل
إلى بعض النتائج التي ربما تختلف إلى حد ما عن نقطة الانطلاق الأولى، وهي أن
التشريع الإسلامي نفسه على الرغم من أن مصدره الوحي الإلهي فهو لا يقتصر
على نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية؛ بل يعتمد كذلك على الأدلة الأخرى، منها: الأدلة العقلية إلى جانب الأدلة النقلية، مع إقرارنا بأن العبادات منصوص
عليها في القرآن والسنة، أما المعاملات، وهذا هو مجال المقارنة، ففي هذا
المجال نجد أن الأحكام القانونية القرآنية محدودة جداً. مثلاً: البيع أربع آيات فقط؛ أما الباقي فهو من نتاج الاجتهاد، والاجتهاد إنتاج بشري؛ فالفقهاء هم الذين
صاغوا هذه الأحكام، طبعاً في حدود القواعد العامة للشريعة، وعلى هذا الأساس
هم لم ينشئوه وإنما استنبطوه؛ ولكن في النهاية هم بشر.
إذا رجعنا إلى المُشرِّع الوضعي فهل يمكن القول: إنه لا يتقيد بأي شيء عند
إصدار القانون؟ لا.. هناك كذلك بعض القيود. ما هذه القيود؟ قبل كل شيء القيم
السائدة في المجتمع. ومعروف أن الإنجيل أثَّر تأثيراً عميقاً جداً على الفكر القانوني
الأوروبي: القانون الجنائي الذي يعاقب على الزنا، ويعاقب على السرقة، وكثير
من الجرائم الأخرى مصدره كذلك - إلى حد ما - إلهي حتى في دول أوروبية؛
فالقيم الأخلاقية والدينية تلعب دوراً كذلك في القانون الوضعي، ربما ليس الدور
نفسه؛ ولكن لن تجد هنالك البشر الذي يجلس ويفكر ويخرج القوانين من رأسه،
هو كذلك يتقيد، والمجتمعات غير المسلمة عندها كذلك الأخلاق والقيم الأخلاقية
والدينية التي ربما لا تظهر بشكل مباشر. أنا لا أهمل ولا أنسى الفوارق بينها وبين
الشريعة الإسلامية باعتبار أن مصدرها الوحي الإلهي؛ ولكن كذلك من الضروري
أن نتذكر هذه النقطة أيضاً في التشريعات الأخرى.
هناك شيء آخر أود التنبيه إليه: أمس استعرت أحد الكتب المعاصرة المؤلَّفة
في الشريعة الإسلامية، وفيه فصل خاص للمقارنة بين القانون الروماني والشريعة
الإسلامية، هذا الموضوع قديم جداً: هل اقتبست الشريعة الإسلامية من القانون
الروماني أم لا؟ سأقول لك شيئاً ربما يعرضني لنقد بعض القراء؛ ولكن صدقني
أنا أعرف جيداً الفكر القانوني الغربي؛ ليس هنالك الآن من الباحثين الغربيين من
يلتزم بفكرة أن التشريع الإسلامي أُخذ من القانون الروماني، هذا كان في القرن
التاسع عشر، كانت الفكرة موجودة عند بعض الباحثين الغربيين؛ الآن الفكر
القانوني الغربي يعترف بدون أي قيود ولا شروط أن التشريع الإسلامي نظام
قانوني مستقل، لم يتأثر بالقانون الروماني. ما أريد الإشارة إليه أنه حتى كتابات
وخواطر الفقهاء المسلمين يوجد بها كثير من النقاط المتشابهة، وهذا يعود إلى أن
العقل الإنساني كان يبحث ويجد الحلول المتشابهة. الفقهاء والمجتهدون المسلمون
عندما كانوا يستنبطون أحكاماً عن طريق المصالح وغيرها، والفقهاء غير المسلمين
في المناطق الأخرى البعيدة تماماً عندما كانوا يبحثون الأحكام كانوا ينظرون كذلك
إلى المصالح، والمصالح للناس في كثير من الأحيان متشابهة تقريباً، ولا شك أن
هناك اختلافاً في أشكالها وصيغها، ولكن المضمون والطبيعة تتفق في معظم
الأحوال.
وأخيراً
لو سمحتم عندنا الآن في روسيا ينتهي العمل من مشروع مهم جداً،
وهو إصدار موسوعة الفكر القانوني العالمي (خمسة مجلدات) يحتوي كل مجلد على
(600) أو (700) صفحة، بُحثت فيها الأفكار القانونية من مصر القديمة حتى
عصرنا الحاضر، وأنا رئيس التحرير للمجلد الأول، وهو يحتوي على: نماذج
من الفكر القانوني في مصر الفرعونية، واليونان القديمة، والقانون الروماني،
والفكر الياباني، والفكر الصيني القديم والفكر المنغولي، والفكر الإيراني قبل
دخول الإسلام.
أنا حقوقي دكتور في الحقوق منذ أكثر من عشر سنوات تعرفت عن قرب
على نماذج الأفكار القانونية المختارة من هذه الحضارات والثقافات المختلفة،
استغربت! ليس هناك فوارق كبيرة بين هذه الأفكار؛ ولكنَّ هناك تشابهاً بينها،
كنت أتصور أن هناك اختلافاً كبيراً بين القانون الروماني والقانون الياباني أو الفكر
القانوني الصيني والإسلامي؛ ولكن لم أجد ما توقعت. وهذا شيء غريب جداً!
- قبل أن نترك هذه النقطة، هناك إشارة يسيرة إلى موضوع تغيُّر القيم: هذا
أمر في الإسلام يختلف عن بقية الحضارات والتشريعات؛ فمثلاً: الآن في بعض
الدول الأوروبية شرَّعوا إباحة زواج الشواذ، وأصبح شيئاً مشروعاً وقانونياً..
فالقيم في بعض المجتمعات والأنظمة تكون متحركة ومتغيرة كثيراً، وهذا يوجِد
كثيراً من الفروق بين الأنظمة القانونية. فما رأيكم؟
نعم.. الآن يشاهد العالم على قولكم تغير القيم، والظواهر التي نتعامل معها
الآن ظواهر طبيعية وعملية، وكانت تعتبر منذ عدة سنوات خيالية وغير ممكنة،
مثل هذه الأشكال من الزواج غير الطبيعي المقننة في بعض البلدان الأوروبية، مثل
المخدرات، وللأسف الشديد! المخدرات ليست موجودة فقط في الغرب؛ ولكنها
أيضاً في الشرق، بل في الشرق الإسلامي؛ بل في كثير من الأحيان تكون هي
المصدر..
- ولكن ما تزال تعتبر فيها جريمة..
نعم.. صحيح، أنا معكم، بصراحة أنا بصفتي إنساناً لا أستطيع أن أقبل
مثل هذه القيم الجديدة، وهي ليست في الحقيقة قيماً. طبعاً عندي بعض الأسباب
والدوافع التي دعت إلى تقنين مثل هذه التشريعات الخاصة في هذا المجال، تغيير
القيم موجود ونحن نشاهده في العالم كله؛ ولكن في الوقت نفسه مثل هذه الحركة
(حركة تغير القيم) وأنا لا أتكلم عن تغير القيم الرديئة الرجعية التي كانت موجودة
في الماضي لتحل محلها القيم الصحيحة فهو تغير مطلوب ولكن هناك تغيرات
أخرى في الإنسانية.. في بعض الأحيان هذه التغييرات لهذه القيم كل واحد يلاحظها: في التلفزيون، في الإعلام؛ ولكن هناك القيم الأخرى الجيدة التي لم تكن موجودة
في الماضي. على سبيل المثال: في أوروبا في بداية هذا القرن؛ بل قبل الحرب
العالمية الثانية كانت الحرب أسلوباً شرعياً لحل النزاعات الدولية قبل الأمم المتحدة. ...
الآن: أي حرب تعتبر ممنوعة تماماً؛ فهذا تغيُّر في القيم.. حقوق الإنسان: نحن وقفنا أمام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية في ذلك، هل هذا أتى بقيم جديدة لرفع مستوى الإنسان؟ بدون شك هناك قيم جديدة كحماية البيئة؛ من أجل ذلك عندما ننظر إلى جانب تحرك القيم نحو الأسوأ يجب أن ننظر إلى الحركة الأخرى، الحياة ليست أسود وأبيض، الحياة صورة ملونة؛ وعلى هذا الأساس أقول: نعم مثل هذا التغير في القيم موجود في روسيا أيضاً.. المخدرات مثلاً أصبح تناولها في بعض المدن شيئاً عادياً جداً. مشكلة كبيرة! فكيف نواجهها؟ نواجهها بالتربية، بالعناية، بزرع القيم، وبسلوكنا أنفسنا.
- ولكننا نتحدث بخصوص مبادئ قانونية ولا نتحدث بخصوص تدين عام أو
إنجازات بشرية عامة، ألا ترى أن هذا الكلام عام ويبعد بعض الشيء عن المبادئ
القانونية وأثر تغير القيم فيها؟
نعم.. تغير القيم والمبادئ! .. كما يقال: لا جديد تحت الشمس، كل هذه
القضايا كانت موجودة في الإنسانية سابقاً، ربما تتذكر والدك يقول: ما هذا الجيل
الناشئ؟ كان آباؤنا يعيشون حياة أخلاقية مختلفة وملتزمين أخلاقياً، وبعد ذلك يمكن
أن تقول أنت الكلام نفسه لابنك أو ابنتك.. هذه قضية عامة في كل مجال..
الفوارق بين الأجيال.. ولكن من الضروري أن نميز دائماً بين الثوابت والمتغيرات، القواعد العامة الراسخة الأبدية والجزئيات.. ما هي الأخلاق؟ الأخلاق يجب أن
تكون قيماً ومعايير. ومنطقياً لا يمكن أن تكون الأخلاق سيئة؛ فإذا كانت سيئة فهي
ليست بأخلاق. الأخلاق بمعنى القيم هي المعايير التي تقاس عليها معاملات الإنسان
وسلوكه، والأخلاق هذه كانت موجودة ومعروفة وليست كالاختراعات: احترام
الإنسان، احترام الوالدين، عدم إلحاق الأذى بالغير، وحب الخير للإنسان،
والحفاظ على حياته وعرضه وماله ونفسه؛ ولكن هذا داخل في الصراع بين الشر
والخير.. دائماً هذا الصراع موجود؛ ولكن الصورة تختلف. طيب! لم يكن مثل
هذا الشكل من الزواج موجوداً في القرون الوسطى؛ ولكن كانت هناك ذبائح طائفية
ودينية موجودة، الحملات الصليبية كانت موجودة، وكان هناك الكثير من الضحايا
في هذه الحروب وغيرها.. كان الإنسان يموت جوعاً ويموت مرضاً، وعلى هذا
الأساس: فالصراع كان موجوداً بين الشر والخير، ولكن تختلف الأشكال.
- د. ليونيد سوكيانن: لو تكلمنا عن الاستشراق، فهل تعتبر مدرسة
الاستشراق الروسية مجرد امتداد للاستشراق الأوروبي عموماً؟
لا.. علم الاستشراق الروسي له تاريخه وتقاليده وجذوره البعيدة، كان علم
الاستشراق الروسي ولا يزال يعكس خصوصيات روسيا التي تميزها عن الدول
الأوروبية، روسيا دولة أوروبية؛ ولكنها ليست كأي دولة أوروبية أخرى، هي
دولة آسيوية أوروبية، المسلمون في روسيا جزء من مقومات الشعب الروسي،
عمر الإسلام في روسيا ألف عام، بينما المسلمون في أوروبا أو في أمريكا من
المهاجرين الذين لا يتعدون الجيلين في أحسن الأحوال.
كل هذا كان ينعكس على علم الاستشراق الروسي، فهو بالطبع له علاقات
قوية ومباشرة مع علم الاستشراق الأوروبي الغربي، هذا صحيح؛ لأن ثقافة
المثقفين والعلماء الروس في معظم الأحيان أوروبية، ولكن نظراً للاعتبارات
والخصوصيات المميزة للوضع الروسي السابق ذكرها إضافة إلى العلاقات
الخارجية لروسيا المختلفة عن علاقات غرب أوروبا.. كل هذا كان يؤثر على علم
الاستشراق.
وعلم الاستشراق الروسي كان متطوراً لا بأس به، وكان مُعتَرفاً به من قِبَل
أوروبا، وحتى الآن أنا أعتبر علم الاستشراق الروسي علماً متطوراً على الرغم من
كثير من الصعوبات التي تواجه. هذا العلم في الوقت الراهن تأثر كثيراً بسبب
الظروف العامة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في روسيا؛ فهي
بالطبع تؤثر على مستوى الدراسات العلمية بما في ذلك مجال الدراسات
الاستشراقية.
وبصورة مركَّزة أقول: إن علم الاستشراق الروسي له روابط مع أوروبا؛
وله خصائص مميزة في هذا العلم بالذات.
- مثل أي شيء؟
قبل كل شيء كان هذا العلم عاطفياً لا يعتبر الإسلام والشرق موضوعاً
مقتصراً على الدراسة، بينما في أوروبا هذا موضوع للدراسة فقط؛ أما في روسيا
فكان موضوعاً وجزءاً من العالم الخارجي للباحث نفسه؛ فهو يعيش في هذا العالم؛
لأنه يعيش في دولة شبه غربية شبه أوروبية شبه شرقية. علم الاستشراق
الأوروبي كان يدرس غيرَه بينما علم الاستشراق الروسي كان يدرس غيره وذاته في
الوقت نفسه؛ مما ينعكس على الاستنتاجات والمواقف والأفكار والتيارات واختيار
الموضوعات لهذه الدراسة إلى حد كبير.
- هل تغيرت أهداف الاستشراق الروسي أو وسائله أو مناهجه من روسيا
القيصرية إلى الشيوعية إلى المعاصرة؟
نعم! في روسيا القيصرية كان يمكن التمييز بين الاتجاهين الرئيسين لعلم
الاستشراق: الاتجاه الأكاديمي العلمي البحت الموضوعي المنصف المحايد،
والاتجاه الآخر الذي كان يخدم السياسة القيصرية في المناطق الشرقية المسلمة في
آسيا الوسطى مثلاً، وهذا لا يعني تلقائياً أن هذا الاتجاه كان هو السائد أو كان غير
علمي. أضرب لكم مثالاً: في روسيا القيصرية صدر كثير من الكتب في الشريعة
الإسلامية مترجمة من اللغات المختلفة التركية أو الفارسية أو الإنجليزية التي كانت
واسطة عن اللغة العربية. ما هي الأغراض والدوافع لهذه الأعمال؟ أَطَّلِعُ الآن
على بعض الكتب التي صدرت في طشقند قبل الثورة، أجد مثلاً كتاب (هداية
المرغيناني) ، وهو من أهم المراجع في المذهب الحنفي، معروف ومحترم جداً في
آسيا الوسطى، وهذا الكتاب صدر تحت رعاية الجنرال المحافظ، إذن هو الممثل
لقيصر هناك، نجد أنه يقول بشكل مباشر في المقدمة: إنه لأغراض السياسة
الاستعمارية للقيصر من الضروري أن نعرف أعراف وتقاليد الرعية والشعوب
القاطنة. اعتراف مباشر بهذه الأغراض؛ ولكن النتيجة: اختيار المرجع الصحيح
وترجمته ترجمة جيدة.
بعد الثورة البلشفية بقيت بعض الدراسات الاستشراقية العلمية وكانت موجودة
حتى في ذروة النظام الشيوعي، ربما كانت محدودة ضيقة تتأثر بالأفكار السائدة في
المجتمع السوفييتي في تلك الآونة، ولكنها كانت علمية؛ بمعنى أن لها قيمة علمية؛
ولكن إلى جانب ذلك برز بعد الثورة الاتجاه الآخر: الاتجاه غير العلمي الذي يقوم
على خدمة الفكر الشيوعي فقط.
أضرب لكم مثالاً شخصياً بسيطاً: في أواخر الثمانينات بعد بداية
البروسترويكا ولكننا كنا ما نزال نعيش في ظل الأفكار الشيوعية ذهبت إلى دوشنبيه
بجمهورية طاجيكستان (الآن جمهورية مستقلة) وألقيت محاضرة في كلية الحقوق
بالجامعة الطاجيكية عن الشريعة الإسلامية، موقفي من الشريعة واضح لكم: كيف
أستعرض هذه الشريعة ثقافةً قانونيةً متطورةً ذات إمكانات بلا حدود وقيم ومبادئ
قانونية في غاية التطور. بعد أن انتهيت من المحاضرة قام أحد الأساتذة الطاجيك
المسلمين مسلمين طبعاً اسماً؛ ولكن من الذين نشؤوا في هذا المجتمع، وأنا من
موسكو ولست مسلماً قال هذا البروفيسور: نحن الآن نستضيف الدكتور البروفيسور
من موسكو، وهو يدعونا لدراسة علمية موضوعية للتشريع الإسلامي، نحن عندنا
موقف يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك، نحن لا ندرس الشريعة الإسلامية؛ ولكن
نحن ننتقدها، وأنا استفسرت: هل أنت يمكن أن تنتقدها قبل دراستها؟ حتى إذا
كنت تريد نقد أي ظاهرة فقبل كل شيء من الضروري علمياً لإنجاح نقدها أن
تدرسها. هذا كان مثالاً لأهداف علم الاستشراق في روسيا الشيوعية؛ ولكن من
الضروري ألا ننسى أنه كانت حتى في تلك الآونة توجد دراسات جيدة جداً، إلى
جانب هذه الدراسات الدعائية التي كانت تخدم التيار الفكري الشيوعي وتخضع له.
أما الآن: فالمشكلة عندنا أنه ليس هناك أي توجه ولا أي ضوابط، وأيضاً
ليس هناك أي قيود ولا شروط؛ فالحرية كاملة، وهذا شيء جيد للإبداع العلمي؛
فالإبداع العلمي يثريه حرية الرأي واختلاف وجهات النظر، هذا من ناحية؛ ولكن
من ناحية ثانية: عدم وجود ضوابط أو اتجاهات معينة يسير عليها البحث العلمي قد
يكون مضراً له؛ كالسفينة إذا كانت مربوطة من جميع جوانبها فإنها تقف، ولكن
إذا ألقيناها في البحر دون أي خارطة أو ضوابط فإنها تغرق آجلاً أم عاجلاً؛ فكلا
الطرفين غير مقبول؛ ولكن المشكلة الأساسية في علم الاستشراق الحالي ليست في
المجال الواسع للخيار والحرية. المشكلة التي تؤثر الآن تأثيراً مباشراً على
الاستشراق الروسي تكمن في الظروف الصعبة جداً للباحثين وبقاء مثل هذا العلم من
خلال اعتباره علماً.
- هل نعتبر أن الاستشراق الروسي يغرق الآن؟
نعم.. نعم..
- إذن: ما سبل إنقاذه في رأيكم؟
هناك عدة سبل، أول شيء: الاعتماد على الذات، ثم روح الإبداع،
وإخلاص الباحثين أنفسهم لموضوع بحثهم، ولكن هذه العوامل وحدها غير كافية،
من الضروري تأييد البحث العلمي ودعمه من الاتجاهات المختلفة، وقبل كل شيء
يجب أن تدعم الدولة جميع البحوث العلمية بما في ذلك الأبحاث والدراسات
الاستشراقية؛ للأسف الشديد! ميزانية الحكومة الآن ضعيفة، ليست كافية لمعاشات
كبار السن، فكيف بالنسبة للمنح الدراسية، ومن الصعب أن نأتي في هذه الظروف
ونطلب من الحكومة دعم الدراسات الاستشراقية، فمن الضروري أن ندرس كيفية
استعمال إمكانات القطاع الخاص والأهلي والخيري والشركات التجارية لدعم
الدراسات العلمية عامة والاستشراقية خاصة، وهذه أيضاً مهمة صعبة؛ لماذا؟ لأنا
نحن العلماء الباحثين لم نتعود أن نبحث عن هذا الدعم من هذه الجهات، نحن
تعودنا على تأليف الأبحاث والتعامل مع المراجع أو ترجمتها، ولكن البحث عن هذا
الدعم يتطلب بعض الكفاءات والإمكانات الأخرى، ومثل هذه المؤسسات التي يمكن
أن تتولى هذه الرسالة التنظيمية غير موجودة للأسف الشديد!
هناك الأساليب الأخرى: أساليب اللجوء إلى دعم هذه الدراسات من بعض
المؤسسات أو الأجهزة خارج روسيا التي يمكن أن تأخذ موقفاً إيجابياً من هذه
الدراسات للأهداف الحضارية والثقافية والعلمية، وبصراحة: بعض المؤسسات
الخارجية تدعم الآن الدراسات الأكاديمية في روسيا بما في ذلك إلى حد محدود جداً
الدراسات الاستشراقية.
بالنسبة لعلم الاستشراق ربما لا يستفيد من هذا الدعم مثل القطاعات الأخرى
للعلوم، فالعلوم الأخرى: كالفيزياء، والرياضيات، وغيرها من العلوم التجريبية،
هناك دوافع للاهتمام بها، أما بالنسبة للاستشراق فنحن نشعر بنوع من الدعم؛
ولكن مع الأسف الشديد! هو دعم محدود جداً، وليس كافياً للحفاظ على هذا التراث
العلمي.
النقطة ولو سمحتم أن أركز الاهتمام على هذه النقطة.. أنا باعتباري مستشرقاً
متخصصاً في الدراسات الإسلامية والشرعية كثيراً ما ألتقي مع زملائي المسلمين
من البلدان العربية سواء في المؤسسات الحكومية أو الأهلية والشعبية أو غيرها
وأتفاهم معهم بشكل كامل، وكثيراً ما أشعر باهتمامهم بحال المسلمين والإسلام في
روسيا، وكثيراً ما ألمس أن مثل هذا الاهتمام مخلص ينطلق من الصدق وحسن
النية والرغبة في المساعدة لحال المسلمين، وفي الحقيقة نحن نُسَرُّ بمثل هذا الدعم.
مثلاً: مساجد تبنى، معاني القرآن الكريم باللغة الروسية تترجم وتطبع
وتوزع، الطلاب الروس الدارسون في الجامعات الإسلامية بالعشرات، فهذا كله من الدعم للإسلام والمسلمين في روسيا، ونحن نقدر هذا الدعم تقديراً كبيراً؛ ولكن هناك نقطة مهمة: إذا سمعت أي أحد يقول إنه يهتم بصدق وإخلاص بحال المسلمين ووضع الإسلام في روسيا ويرغب في أن تكون هذه الحال أفضل، وفي الوقت نفسه لا يعي أهمية العناية بالدراسات الأكاديمية العلمية، فمعنى ذلك: أنه ربما لا يفهم فهماً صحيحاً الصورة الموضوعية الحقيقية للإسلام في روسيا.
تفصيل ذلك أقوله لكم: الآن عندما نريد حل القضايا الأساسية للمسلمين في
روسيا بعد المرحلة الأولى للصحوة الإسلامية.. نحن مررنا بهذه المرحلة بسرعة،
الآن المساجد موجودة، المصحف الشريف موجود يباع ويوزع مجاناً في كل مكان،
عدد الحجاج في عهد الشيوعية كان سنوياً ربما (5) أو (10) أشخاص، الآن (20)
ألف، ولكن بعد هذه المرحلة التي مررنا بها بسرعة نحن نواجه المرحلة الجديدة
اللاحقة لتطوير وتغيير أحوال المسلمين نحو الأفضل، وهذه المرحلة ستتوقف قبل
كل شيء على معاملة المجتمع غير المسلم للإسلام والمسلمين، وتتوقف على كون
الإسلام وثقافته ومنجزات حضارته جزءاً من الثقافة الروسية العامة.
فكرتي أننا لا نستطيع أن نقصر الجهود داخل المسلمين، لا نستطيع أن نرفع
مستواهم والمجتمع الروسي لا يقبلهم على سبيل المثال أو عنده صورة مشوهة عن
الإسلام، لا نستطيع أن نرفع مستوى المسلمين دون استصدار القرارات السياسية
والتشريعية بحق المسلمين. من يتخذ مثل هذه القرارات؟ المسلمون؟ .. لا،
السلطات الرسمية هي التي تتخذها: البرلمان، الحكومة، الوزارات. وعلى هذا
الأساس: من الضروري أن نتعامل مع هذه الهيئات إقناعاً لها بضرورة حل هذه
القضايا لمصلحة المجتمع الروسي كله؛ فمن يمكن أن يحمل هذه الرسالة في روسيا؟ للأسف الشديد! الكفاءات والمؤهلات الضرورية لمثل هذه الرسالة غير موجودة
عند المسلمين في روسيا.. العلماء والباحثون هم الذين في إمكانهم أن يعملوا على
أن يكون التراث الإسلامي جزءاً من الثقافة الروسية.
أضرب لكم مثالاً شخصياً بسيطاً: عندنا في كليات الحقوق الروسية يوجد
مقرر تاريخ الفكر القانوني العالمي، منذ سنتين صدر الكتاب الدراسي المقرر
ولأول مرة في تاريخ روسيا يحتوي على الباب الخاص للفكر القانوني الإسلامي،
أنا ألفته وهذا إسهامي اليسير جداً، فإذا كان هناك أي فقيه مسلم يمكن أن يقوم بذلك
فأهلاً وسهلاً، ربما كانت هذه النقطة بسيطة ولكنها تعكس الصورة العامة بأن
الخطوات اللاحقة لرفع المستوى ومعالجة قضايا المسلمين في روسيا تتوقف على
كون الإسلام والثقافة الإسلامية يمثلان عنصراً وجزءاً لا يتجزأ من الحضارة
والثقافة الروسية بمجملها؛ كي يقترب المجتمع الروسي بتدرج ويتعرف على
منجزاتهما ومكتسباتهما، ليس المجتمع بفئاته فقط؛ بل أيضاً الأجهزة الحكومية
الرسمية، وهذا ربما أهم.
فبدون المستشرقين وبدون العلماء الباحثين إذا خفتم من كلمة مستشرقين لا
يستطيع غيرهم حل مثل هذه القضايا للأسف! فرأيي الشخصي وربما أكون مخطئاً
فيه وأنا أتحمل المسؤولية عنه: أنه بدلاً من منح بعثات لمئة طالب مسلم روسي
مثلاً لأي كلية إسلامية في أي دولة عربية أو مسلمة، ربما يكون الأفضل تأهيل
تسعين فقط، والمخصصات التي كانت ستنفق على العشرة الآخرين يتم تخصيصها
لدعم الدراسات، والنتيجة ستكون أكثر فاعلية بلا شك، أنا مقتنع بذلك؛ لأن عندي
إحصائيات ودراسات عن ذلك، عندي اقتناع كامل بهذا. الخرِّيج في أي كلية هل
يمكن أن ينشر المقالات رأساً في الصحف والمجلات في روسيا لتوعية أو تثقيف
الرأي العام الروسي؟ لا.. أنا وزملائي نقدر على ذلك؛ ولكن ليس عندنا الوقت
الذي نخصصه لهذه العملية، نحن نتحرك باستمرار ليل نهار لكسب عيشنا..
إذا كان هناك اهتمام مخلص بقضية المسلمين فربما تكون هنالك إمكانية
الاستفادة من المخصصات نفسها ولكن بفاعلية أكثر ومردود أكبر عندما توجه إلى
هذا الاتجاه.
- لو قلنا إن الاستشراق عموماً سواءً الروسي أو غيره، كان له في بداية
النشأة كما تفضلتم ارتباطات استعمارية.. الآن وقد تغير الشكل القديم للسيطرة على
الأقل، فهل تطور الاستشراق بتطور أشكال السيطرة؟
شكراً على هذا السؤال المصيب.. نعم! بصراحة بالنسبة للحالة الراهنة لعلِّي
لا أستطيع أن أعطيكم رؤية شاملة لمجالات الاستشراق بشكل عام، أما بالنسبة
لمجال الدراسات الشرعية فأنا أعرف الحقيقة جيداً عن علم الاستشراق الأوروبي أو
الغربي، أنا اشتركت في ندوتين: مؤتمرين دوليين بخصوص الشريعة الإسلامية،
أولهما: انعقد سنة 1994م بهولندا بمدينة ليدن، والثاني: انعقد عام 1997م في
غرناطة بالأندلس (إسبانيا) ، وعندي صورة كاملة لمستوى دراسات الشريعة
الإسلامية في البلدان الغربية؛ فقد اشترك في المؤتمر الأول والثاني في حدود (40)
باحثاً أكاديمياً من معظم البلدان الغربية.. مستوى رفيع جداً، متطور للغاية، أنا
استغربت، لم أتصور مثل هذا المستوى: الرجوع إلى آلاف المراجع، عندهم
الإمكانات، في كندا في أمريكا في بريطانيا في فرنسا في هولندا، عندهم تقاليد،
عندهم التراث.. كثير من العرب يعملون هنالك، يقومون بالدراسات الاستشراقية،
وليس العرب وحدهم، ولكن أيضاً هناك شباب أصحاب مستوى رفيع جداً. على
هذا الأساس أقول: الأغراض الاستعمارية كانت وما زالت باقية وموجودة في علم
الاستشراق؛ ولكن صدقني! العلماء الجادون لا يعرفون حتى أسماء هؤلاء الذين
ينشرون المقالات الدعائية الاستعمارية، أبداً، إطلاقاً، في العلم الجاد لا توجد مثل
هذه الأسماء، في العلم الجاد يعرف كل واحد منهم زملاءه فيه، أما أسماء الذين
ينشرون المقالات السطحية أو الدعائية للأغراض السياسية لتأمين السيطرة الفكرية
وغيرها، فهؤلاء ليسوا علماء.
ولكن عموماً: هذا الاتجاه موجود، عند الاطلاع على الصحف والمجلات
العامة غير الأكاديمية الجامعية نجد بعض المقالات والمنشورات ذات الطابع الدعائي
المحض مكتوبة للأغراض السياسية البحتة دون شك ونجد هذه المقالات موجودة في
الصحف الروسية، وهنا أذكر نقطة مهمة جداً: هؤلاء في كثير من الأحيان لا
يوقعون على هذه المقالات بأسمائهم الحقيقية.
النقطة المهمة التالية: في بعض الأحيان يركز بعض زملائي الباحثين
والعلماء والفقهاء على الدور الاستعماري لعلم الاستشراق الغربي وهذا التركيز
صحيح من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يحجب هذا التركيز البعد الآخر.. أنا
مقتنع شخصياً بالاستنتاج التالي: إذا كان العالم الغربي غير المسلم بما في ذلك
روسيا يعرف شيئاً مَّا موضوعياً حقيقياً عن الإسلام فالفضل يعود إلى علم
الاستشراق، ليس إلى المؤلفين أو العلماء المسلمين، هذه حقيقة أكيدة أدافع عنها في
أي محكمة! .. نعم هناك صورة مزيفة؛ ولكن إذا كانت هناك دراسات منصفة؛
فمن يؤلفها؟ للأسف الشديد! العلماء المسلمون يقتصرون على المجتمع المسلم
والقارئ المسلم ولا يتوجهون إلى المجتمع غير المسلم، وإذا كان طلاب كليات
الحقوق الروسية يعرفون شيئاً ما عن الشريعة الإسلامية فقد أخذوها من الكتاب
الدراسي في تاريخ الفكر القانوني العالمي، وللأسف الشديد! في بعض الأحيان
تترجم بعض الكتب وبعض المراجع من العربية إلى الروسية وتنشر وتوزع بعد
ذلك في روسيا، وتكون النتيجة نظراً للخطأ في اختيار الكتب المترجمة أو لكون
الترجمة ضعيفة جداً.. تكون النتائج لهذا النشاط معاكسة للأهداف الدافعة لها،
وعندي نماذج في مكتبي بعمادة كلية البحث العلمي.. أنا لا أقيِّم المضمون ولكن
الترجمة الروسية لا أجد أي سطر بدون أخطاء.. ما هو الانطباع لأي قارئ يطلع
على هذه الكتب؟ .. سلبي طبعاً.(141/70)
الإسلام لعصرنا
ليسوا عقلانيين.. وإنما هم أهل أهواء
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
شاع في عصرنا اصطلاح (العقلانيين) وصفاً لأصحاب المناهج المنحرفة
عن المنهج الصحيح لفهم الدين وتفسير نصوصه واستخلاص النتائج منها. وهذا
مصطلح غير سديد.
أولاً: لأن فيه اعترافاً ضمنياً بأن العقل يمكن أن يكون مخالفاً للشرع؛ هذا
مع أن المستعملين لهذا الاصطلاح يؤمنون بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول. فلماذا إذن نستعمل اصطلاحاً يتضمن تقريراً لأمر ننكره؟
ثانياً: لأننا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن
إنساناً ضل بسبب عقله، وإنما نجد أن الضالين هم الذين لا يعقلون ولا يتدبرون
ولا يتفكرون ولا ينظرون، وأن المهتدين هم أصحاب العقول وأولو الألباب: [أولئك
الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب] [الزمر: 18] .
ثالثاً: لأن هنالك فرقاً بين العقل والهوى؛ فالإنسان يضل بهواه لا بعقله،
ولذلك كان السلف يسمون المعتزلة وأمثالهم أهل الأهواء لا العقلانيين كما يسميهم
الآن بعض المعاصرين تقليداً لبعض المستشرقين.
رابعاً: ولأن هنالك فرقاً بين الرأي والعقل، فما كل رأي هو على مقتضى
العقل حتى لو كان صاحبه مجرداً عن الهوى، وإنما الرأي رأيان: رأي صائب
فهو موافق للعقل ضرورة، ورأي غالط فلا يمكن أن يكون من مستلزمات العقل.
خامساً: لأن وصف أمثال هؤلاء بالعقلانيين فيه فتنة لهم؛ فقد يزيد أحدهم
غروراً فيذهب يقول متباهياً: أجل نحن العقلانيون، نحن المفكرون، وما أنتم إلا
حشوية جامدون مرددون لما لا تفقهون.
سادساً: لأن أئمة أهل السنة من أمثال أبي سعيد الدارمي وابن تيمية لم يكتفوا
بالكلام المجمل في أن المذهب الحق هو الموافق للعقل؛ بل بينوا ذلك بياناً مفصلاً
شافياً، كما ساقوا البراهين العقلية الدالة على مخالفة أهل الأهواء لمقتضيات العقل،
ودللوا على أن ما ادعوا بأنه عقليات إنما هو جهليات، ما أنزل الله بها من سلطان
عقلي ولا شرعي.
سابعاً: لأن كل أمر من أمور الدين يمكن أن يُستدل عليه بدليل عقلي!
أكرر: (كل أمر) سواء كان في الاعتقاد أو في العبادات أو في المعاملات،
وسواء كان في أصول الدين أو في الفروع الفقهية. وعليه فإن العقلانيين حقاً هم
أصحاب المنهج الحق، مذهب أهل السنة والجماعة.
إن الاقتناع بالدليل العقلي يعتمد على أمرين: أولهما: أن يكون المخاطَب
عاقلاً، فإذا لم يكن كذلك فلا سبيل إلى مجادلته أو إقناعه، وثانيهما: أن تكون
مقدماته صحيحة مؤدية إلى النتيجة المبتغاة. لكن المقدمات منها ما هو بيِّن بنفسه
يدرك العاقل صحته ببداهة عقله، ومنها ما يعتمد هو نفسه على دليل آخر. وهذا
هو الذي يحدد طول دليلك أو قصره مع من تخاطب. قد يسلِّم من تخاطب بأول
مقدمة من دليلك فيكون الدليل قصيراً، وقد يحتاج إلى أن تدلل له على صحة بعض
مقدماتك، إذا كان لا يسلِّم بها فيكون الدليل طويلاً. فمن الأدلة القرآنية القصيرة
جداً دليل على وجود الخالق يقوم على مقدمتين بدهيتين لدى كل عاقل، ولا يماري
فيهما إلا مكابر. وهما: أنه لا شيء يأتي من العدم المحض، ولا شيء يخلق نفسه: [أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون] [الطور: 35] ؛ لكن هب إنساناً زعم أن البعث أمر مستحيل كما كان بعض منكريه من العرب يدعون. ستقول له ما قرر القرآن: إن الذي خلقه أول مرة قادر على إعادته؛ لكن هذا الدليل يعتمد على تسليمه بأن الله - تعالى - هو الذي خلقه. فإذا أنكر ذلك احتجت لأن تبرهن له على وجود الخالق. قد تقول: هذه أمثلة بدهية واضحة؛ لكن ما كل مسائل الدين كذلك؛ بل منها ما نسلم به مجرد تسليم!
وأقول: لكن التسليم نفسه هو مقتضى العقل؛ فكيف يكون ذلك؟
وعلى أي شيء تبني تسليمك بأن المغرب ثلاث ركعات مثلاً؟ إنك تبنيه على
أن هذا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم. لكنك لو شئت لمددت حجتك فقلت: والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ فكل ما أمر به فهو من أمر
الله، والله - تعالى - لا يقرر إلا حقاً، ولا يأمر إلا بخير: [وتمت كلمت ربك
صدقا وعدلا] [الأنعام: 115] . إن كل عاقل يسمع ما تقول يدرك أن مقدماتك التي ذكرت تؤدي إلى وجوب التسليم بأن المغرب ثلاث ركعات. أقول: إذا كان عاقلاً منصفاً فسيرى هذا حتى لو لم يكن يؤمن بما تؤمن به من مقدمات. وأما إذا أراد أن يسلِّم بما سلمت به فسيسألك الدليلَ على صحة بعض مقدماتك. كأن يقول لك: ما الدليل على أن الرسول قال ما نسبتَ إليه؟ أو: ما الدليل على أن محمداً رسول الله؟ وهكذا وكل هذه أسئلة عليها أدلة عقلية إن علمتها ذكرتها لصاحبك، وإن لم تعلمها أحلته على من هو خبير بها.
قد تقول: لكن هب أن صاحبي قال: إنه لا يريد دليلاً يقوم على مثل هذه
المقدمات الدينية؛ بل يريد دليلاً مباشراً!
فأقول: إن صاحبك لا يكون إذن عاقلاً. إن النتائج إنما تبنى على المقدمات
التي تناسبها، والتي من شأنها أن تؤدي إليها، فإذا كان مسلِّماً بها سلَّم بالنتيجة،
وإذا لم يكن مسلِّماً بها كان من حقه أن يطلب الدليل على صحتها. ليس له إلا هذا.
قل لصاحبك هذا: ما الدليل على أن 4 × 5 =20؟ فإذا بدأ يقول لك إن 4
× 5 معناها 4 + 4 + 4 + 4 + 4 فقل له: أنا لا أريد دليلاً مبنياً على الجمع، بل
دليلاً مباشراً. سيقول لك: فكرة الضرب مبنية على فكرة الجمع، وإذا كنت لا
تعرف الأخيرة ولا تسلم بها فلا يمكن أن أعطيك دليلاً على الأولى. وكذلك الأمر
بالنسبة لعدد ركعات المغرب؛ فإن الدليل عليها مبني على التسليم بأن محمداً رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الإيمان بالله.
ذلك هو موقفنا من العقل. فما موقف أصحاب الأهواء؟
لقد أجاب أئمة أهل السنة عن هذا السؤال بكثير من التفصيل فيما يتعلق
بأصحاب الأهواء في عصرهم، وبقي علينا نحن أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة لمن
في عصرنا، ولا نكتفي بوصفهم بالعقلانيين للأسباب التي ذكرتها. وقد أبلى بعض
مفكرينا المعاصرين في هذا بلاء حسناً، وكنتُ قد رددتُ في مقال سابق في هذه
الزاوية على مفهوم بعضهم الغالط لقاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وربما
تعرضتُ في مقالات لاحقة إلى بعض دعاواهم ومبادئهم الأخرى إن شاء الله تعالى
وإذا كان لبعض إخواننا القراء من اقتراحات في هذا المجال فأرجو أن لا يبخلوا
علينا بها، ولهم منا الشكر، ومن الله الأجر إن شاء الله.(141/82)
وقفات
ضيق الأفق
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من الأدواء الفكرية المنتشرة عند كثير من الناس: ضيق الأفق، والنظر إلى
المسائل المختلفة بسطحية مفرطة؛ فكم ينقبض صدر المرء حينما يرى من بعض
الناس أن القضايا المصيرية العظيمة في مسيرة الأمة تؤخذ بعين الغفلة والسذاجة
وقلة الفهم والبصيرة!
ومن أبرز أسباب ضيق الأفق:
1 - الجهل وقلَّة البضاعة؛ فكم جرَّ الجهل على أصحابه من المهالك والمفاسد! والجهل دركات بعضها أسوأ من بعض، وكلما ازداد المرء جهلاً ازداد تهالكاً
وانحرافاً، وهل رأيت جاهلاً يقوى على إدراك حقائق الأشياء ومقاصدها، أو يقدر
على قراءة الواقع واستشراف المستقبل؟ ! !
2 - قلة الفهم والوعي؛ وهما أمران زائدان على مجرَّد الجهل، فرب
صاحب علْمٍ لا يفيده علمه كبيرَ فائدةٍ بسبب ضعف فهمه وعسر إدراكه؛ لأنَّه وقف
عند حروف الألفاظ، ولم ينفذ إلى معانيها ومراميها. والفهم بضاعة نادرة لا يؤتاها
إلا أصحاب العقل الراسخ والبصر النافذ. وصاحب الفهم يفتح الله عليه من إدراك
النصوص والوقائع ما لا يخطر على بال غيره. قال ابن القيم - رحمه الله -: ...
(ربّ شخص يفهم من النص حكماً أو حكميْن، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين) [1] .
3 - الرتابة في التفكير ورؤية المسائل، والاعتماد على المألوف المعتاد فقط، وهذا بالتأكيد يجعل الإنسان أسيراً في بيت مغلق، كما يجعله في عزلة فكرية
يحبس فيها عقله، فلا يقوى على النظر والإبداع والتجديد.
4 - التقليد الأعمى الذي يسد منافذ التفكير، ويجعل المرء مجرد تابع لغيره،
فلا يستطيع أن يبني رأيه وفكره بناءً صحياً متجرداً؛ ولهذا تجد أنَّ المقلد لشيخ أو
لمذهب أو لطائفة من أكثر الناس ضيقاً في الأفق؛ وذلك لأنه لم ينظر إلا من نافذة
واحدة، ولم يفكر إلا من زاوية محدودة، وتراه يتنقل بين سراديب ضيقة تنتهي به
أخيراً إلى بلادة ذهنية تعصف بتفكيره وتجعله أحياناً يقتنع بالشيء ونقيضه في آن
واحد..!
5 - الاكتفاء بالنظر إلى ظواهر الأمور المجردة، والتعلق بقشورها القريبة،
دون النفاذ إلى أعماقها، أو النظر إلى أبعادها ومقاصدها، ويؤدي ذلك إلى الاغترار
بالشكل والبهرج على حساب الحقائق والمضامين، مما يحجب الرؤية بغمامة معتمة
تطغى على البصيرة، وكم من الأشياء من حولنا نراها في مظهرها الخارجي رؤية
معينة؛ ولكننا إذا تجاوزنا ذلك إلى دواخلها، وأزلنا القشرة الرقيقة التي تحيط بها
تبينت لنا صورة أخرى مختلفة وبعيدة كل البعد عن الصورة الأولى.
وانظر إلى صفة المنافقين في القرآن: [وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن
يقولوا تسمع لقولهم ... ] [المنافقون: 4] ، فهل تكفي هذه الصفة الظاهرية
لأجسامهم وأقوالهم في إعطاء تصور صحيح متكامل عن هؤلاء القوم؟ ! بالتأكيد لا
تكفي؛ فالقرآن يوضح حقيقة هذا المظهر: [ ... هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى
يؤفكون] [المنافقون: 4] .
ونظير ذلك أيضاً: الاغترار بالكم على حساب الكيف، وانظر مثلاً إلى قول
الله تعالى: [ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا] [التوبة: 25] ،
ثم قارن ذلك بقوله تعالى: [إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين]
[الأنفال: 65] ، ويتضح من ذلك أن معاني الأمور ومقاصدها الصحيحة تتجلى
في حقائقها ومعادنها الأصيلة.
وليس المقصود هنا أن الشكل الظاهري أو الكم مرفوضان كلية؛ ولكن
المقصود التحذير من الاكتفاء بهما، أو الوقوف عند حدودهما فحسب.
6 - النظرة الجزئية الضيقة التي تختزل المسائل الكبيرة إلى إطار محدود
صغير، مما يؤدي - بالتأكيد - إلى تكوُّن تصور هزيل مبتور لا يمثل إلا جزءاً
يسيراً من الحقيقة؛ بل قد يؤدي هذا التصور إلى تشويه الحقيقة بسبب نقصها
وافتقارها للنظرة الشمولية المتكاملة.
7 - الخلط في تقدير المصالح والمفاسد، والجهل في ترتيب الأولويات، مما
قد يؤدي إلى التعلق بالمصلحة القريبة العاجلة، وإن ترتب عليها مفاسد كبيرة في
العاجل أو الآجل، أو يؤدي إلى تقديم المصالح المفضولة على حساب المصالح
الفاضلة.
__________
(1) مفتاح دار السعادة: (1/60) .(141/84)
المسلمون والعالم
الفاتيكان والقضية الفلسطينية
تهويد (الكاثوليكية) إرضاءً لإسرائيل..!
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سلطان
كانت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي أسسها الألماني (مارتن لوثر)
في القرن السادس عشر أول حركة اضطلعت باستكشاف الأفكار الصهيونية المتعلقة
باستعادة ما يسمى: (الأمة اليهودية) واستعادة فلسطين (وطناً لليهود) ؛ إذ كان
لوثر أول من دعا عام 1523م في بداية حياته إلى دراسة اللغة العبرية، وركز
على دور التوراة في الحياة المسيحية، وفضل المبادئ اليهودية البسيطة على
تعقيدات اللاهوت الكاثوليكي، حتى وُصفت حركته بأنها (بعث عبري) أو ... (يهودي) [1] تولدت عنه وجهة نظر جديدة عن الماضي والحاضر اليهودي وعن ...
مستقبله بشكل خاص، مهدت الرأي العام الغربي خاصة في إنجلترا، ثم في
الولايات المتحدة فيما بعد إلى أن يقبل التفسير اليهودي للعهد القديم، خاصة التفسير
القائل بارتباط زمن نهاية العالم بعودة المسيح الثانية، وأن هذه العودة مرتبطة
بمُقدمة تشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين [2] .
وإذا كان (لوثر) قد عبَّر في المرحلة الأخيرة من حياته عن كرهه لليهود،
وألَّف عام 1544 كتابه (فيما يتعلق باليهود وأكاذيبهم) وطالب بطردهم من إنجلترا
فإن هذا المطلب كان الهدف منه وكما كشف ذلك لوثر نفسه هو حثهم على العودة
إلى ما أسماه (أرضهم يهودا فلسطين) [3] ولقد اعتذر أتباعه بعد مرور نحو
(400) عام على ما ورد في مؤلفاته الأخيرة من تعبيرات (فظة وقذرة) بشأن
اليهود، وذلك عندما اجتمع الاتحاد العالمي للوثريين في 11-7-1983م، في
مؤتمر عقد في (استوكهولم) في السويد، وأعلن الحاضرون عن (عدم التزامهم
بكل ما صدر من لوثر بشأن اليهود) وفي الشهر نفسه عقد نحو 1100 شخص
يمثلون أكثر من 2.7 مليون لوثري أمريكي (رؤساء الكنيسة اللوثرية الأمريكية) ...
مؤتمراً في مدينة (سانت لويس) وأعلنوا عن أسف اللوثريين وعدم علاقتهم
بالملاحظات المتطرفة التي سبق لمارتن لوثر أن أبداها تجاه اليهود [4] .
وإذا كانت الكنيسة البروتستانتية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة
الأمريكية لا زالت على موقفها المؤيد لمخططات اليهود في فلسطين بدعوى أنها
إحدى علامات قرب العودة الثانية للمسيح؛ فإن الفكر الكاثوليكي التقليدي قبل عهد
الإصلاح الديني لم يكن فيه أدنى مكان لاحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين، أو
لأية فكرة عن وجود (أمة يهودية) وكان يُعتقد أن الفقرات الواردة في التوراة
وبخاصة في العهد القديم التي تشير إلى عودة اليهودة إلى (وطنهم) لا تنطبق على
اليهود؛ بل على الكنيسة المسيحية مجازاً.
أما اليهود فإنهم طبقاً للعقيدة الكاثوليكية الرسمية اقترفوا إثماً فطردهم الله من
فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم
الله ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى (الأمة اليهودية) إلى الأبد، ولذلك فليس
لليهود مستقبل قومي جماعي؛ ولكن باعتبارهم أفراداً، كما يعتقد الكاثوليكيون
يستطيعون أن يجدوا الخلاص الروحي (بارتدادهم إلى المسيحية) .
أما النبوءات المتعلقة بعودة اليهود فإنها كانت تُؤَوَّلُ على أنها عودة
الإسرائيليين من المنفى في بابل، وأنه تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد
حين أعادهم (قورش) إلى فلسطين [5] .
ولذلك ظل التناقض قائماً بين الحركة الصهيونية منذ مؤتمر (بازل) عام
1897م والعقيدة الكاثوليكية بمركزها الديني في الفاتيكان.
وقد أكد على ذلك البابا (بيوس العاشر) في لقائه مع الزعيم الصهيوني
(هرتزل) عام 1904م؛ حيث أعلن البابا معارضته للحركة الصهيونية ولهجرة
اليهود إلى فلسطين، ثم اعترضت الكنيسة الكاثوليكية على وعد بلفور عام 1917م.
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وبسبب الدعاية الصهيونية حول ما
يسمى: (معاناة اليهود خلال الحكم النازي) تعاطف بعض الكاثوليك مع الفكرة ... الصهيونية؛ إلا أن موقف الفاتيكان انحسر في الإعلان عن تأييد مسألة (تدويل القدس) ، وفق الخطة التي أقرتها الأمم المتحدة حول فلسطين عام 1947م، وكان موقف الفاتيكان من قيام (إسرائيل) عام 1948م هو الحياد؛ أي (لا اعتراف ولا إدانة) مع تزايد الاهتمام بتدويل القدس ومسألة اللاجئين العرب [6] وفي
عام 1985م، وبعد تولي البولندي (وتيلا) كرسي البابوية تحت اسم (البابا يوحنا بولس الثاني) بثلاث سنوات شرع الفاتيكان في تقديم مجموعة من التنازلات إزاء اليهود، اعتبرت تمهيداً لتخليه عن القضية الفلسطينية وتوطئة لدخوله في ... مصالحة روحية وسياسية مع اليهود؛ حيث فاجأ بابا الفاتيكان العالم بتبرئة اليهود من خطيئة تعذيب وصلب وقتل السيد المسيح عليه السلام، كما يعتقد المسيحيون، وذلك من خلال وثيقة أقرها الفاتيكان؛ حيث دعت الوثيقة إلى ما أسمته بـ ... (تصحيح علاقة) المسيحيين واليهود، والعمل على إعادة النظر في التراث ... الكنسي نفسه، وتعديل ما يمكن تعديله بقصد نزع كل ما يؤدي إلى تكوين وعي معاد لليهود داخل الكنيسة الكاثوليكية.
ولتمثيل الحوار المسيحي الكاثوليكي اليهودي، ولنزع كل ما هو (معاد)
لليهود أنجز البابا خطوة مهمة بزيارة المعبد اليهودي (سينفوغا) في العاصمة روما،
وطالب بإعادة تفسير العلاقة المسيحية اليهودية بدءًا من إعادة دراسة الكتاب المقدس
والعهد القديم والطقوس والشعائر والصلوات والتراتيل التي تمارس داخل الكنائس
بقصد إعادة تأويلها بما يفيد تبرئة اليهود من (خطيئة قتل المسيح وصلبه) وإعادة
صيغة التراث الكاثوليكي، والكتاب المقدس بما يناسب النظر إلى اليهود نظرة
جديدة (أكثر تفهماً وتسامحاً) والتأكيد على الأصول المشتركة للدينيْن، وعلى
الأصل اليهودي للسيد المسيح [7] ولم يكن إصدار تلك الوثيقة الفاتيكانية خطوة
أخيرة، بل تبعتها خطوات لاحقة في الإطار نفسه؛ حيث اعترف الفاتيكان عام
1993م بالكيان الصهيوني.
وفي نوفمبر من عام 1997م وفي إطار استعداداته لاحتفالات الألفية الثالثة
عقد الفاتيكان مؤتمراً حضره (60) شخصية من أبرز رجال الكنائس العالمية لتدشين
مجموعة من الاقتراحات تمهيداً لصدورها في وثيقة تحت عنوان: (جذور معاداة
اليهود في الأوساط المسيحية) وصف البابا بولس الثاني الهدف منها بأنه (إجراء
عملية ترتيب وتنظيف للذاكرة المسيحية من الشوائب والأفكار المعادية للشعب
اليهودي) ، وفي 12-3-1998م، وقَّع بابا الفاتيكان على وثيقة باسم: (نحن
نتذكر) وصادق الفاتيكان على محتوياتها رسمياً يوم 16-3-1998م ووصفها البابا
بأنها: (طلب غفران للأخطاء التي ارتكبها بعض المسيحيين في حق اليهود) ...
ووصفها الكاردينال (إدوارد كاسيدس) رئيس لجنة العلاقات اليهودية المسيحية
بأنها: (إقرار بالشعور بالندم، واعتراف بالخطيئة التي ارتكبها بعض المسيحيين في حق اليهود) [8] .
وأعلن الفاتيكان (أن توبة المسيحيين تجاه اليهود يجب أن تكون فردية
وجذرية وشاملة، وأنه لا تكفي التصريحات الصحافية والمراجعات النقدية لمحو
خطايا الماضي التي أدت إلى المحرقة النازية) [9] .
وصرح أحد أعضاء لجنة الصياغة لهذه الوثيقة لصحيفة الفاتيكان الرسمية
(المراقب الروماني) أن الفاتيكان سيراجع ويعدِّل عدة نصوص دينية في العهد الجديد
لتحاملها على اليهود، كما سيتم تعديل في إنجيلي متَّى وبولس وقصة الحواريين
برمتها إرضاءًا: لليهود. والأخطر من ذلك أن المؤتمر المشار إليه سابقاً أشار إلى
أن المسيحيين واليهود يتقاسمان الاعتقاد في (الإله يهوه الرب اليهودي) وأن المسيح
والحواريين وُلدوا يهوداً وعاشوا على ارتباط عضوي بالكنيس اليهودي.
ولعل (الفاتيكان) بتلك (الوثيقة) قد خطا خطوات واسعة نحو (تهويد ... ... الكاثوليكية) ، بعد (تهويد البروتستانتية) على يد (لوثر) في القرن السادس عشر؛ إذ إن الاعتذار الفاتيكاني الأخير، دعا المسيحيين صراحة إلى مد جسور التواصل مع تعاليم العهد القديم، وألح على التعاطي مع اليهودية السياسية الراهنة، كوريثة روحية للسامية، ودعا أيضاً إلى إنهاء الفصل الذي طالما أجرته ... الكاثوليكية بين التاريخ الديني اليهودي القديم واليهود الحاليين، مما يجعل
فكرة (الحلم اليهودي) أو (العودة إلى أرض الميعاد فلسطين) من ثوابت ... التعينات العقدية الكاثوليكية في المستقبل؛ ولذلك لم تكن مصادفة بريئة أن يبرم الفاتيكان في نوفمبر 1997م وهو التوقيت نفسه لانعقاد مؤتمره الذي ناقش فيه وثيقة الاعتذار لليهود اتفاقاً لأول مرة مع الكيان الصهيوني يمنح الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها في القدس وضعاً قانونياً واستقلالاً إدارياً في الداخل؛ غير أن الاتفاق قضى بتطبيق القانون الإسرائيلي في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالعالم الخارجي، وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً من قِبَلِ الفاتيكان بأن مدينة القدس هي (عاصمة ... الكيان الصهيوني) .
ويبقى أن نشير إلى أن الوثيقة الفاتيكانية، قد جاءت استجابة للتيار الأساس
السائد في العالم الغربي الآن، والذي يزداد يوماً بعد يوم ولعاً بفكرة (الصدام
الحضاري) وأن الإسلام هو (العدو) البديل للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
__________
(1) جاء هذا الوصف لحركة (مارتن لوثر) في كتاب CULTURE AND ANDRCHY لـ (ماثيو آرنولد) ، ط/1965م، ص172.
(2) راجع: د يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية، تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، بيروت، ط/ 1990م ص23، 24.
(3) ريجينا شريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي ترجمة: أحمد عبد الله عبد العزيز، ط الكويت 1985م، ص47.
(4) يوسف الحسن، مرجع سابق، يراجع أيضا الواشنطن بوست، عدد 16 يوليو 1983م.
(5) راجع: التأثير اليهودي في حركة الإصلاح المسيحية، لمؤلفه لويس، أي نيومان ط نيويورك 1966م.
(6) راجع، رضا هلال، المسيحية الصهيونية تتقدم، هل تخضع الفاتيكان لأورشليم، الأهرام المصرية، 10/11/1997م.
(7) الحياة اللندنية، 5/11/1997م.
(8) الأهرام، مصدر السابق.
(9) الحياة، مصدر سابق.(141/86)
المسلمون والعالم
معركة الإسلام في إندونيسيا
في مواجهة هجمات التبشير النصراني
توفيق محمد علوان
الإسلام في إندونيسيا يخوض معركة فاصلة في مواجهة شرسة مع شراذم
المبشرين النصارى، مدعومة بكل التأييد السياسي والمعنوي والمادي من دول
الغرب على اختلاف مشاربها، وفي فترة وجودي في إندونيسيا، وبحكم عملي
أستاذاً للتفسير في الجامعة الإسلامية الحكومية هناك، فقد تبينت لي كثير من
الحقائق المفزعة، والتي أرى لزاماً عليَّ تبليغها لتكون في عنق من بلغته أمانة
يُسأل عنها يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
إن الإسلام الذي اكتسح إندونيسيا في وقت بالغ القِصَر ببركة القرآن العظيم،
وتصديقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل
والنهار) [1] ، إنما يواجه في هذا الجيل حرباً طاحنة تهدف في الدرجة الأولى إلى زعزعة سيطرته الكاملة على دولة هي أكثر دول الإسلام قاطبة من جهة تعداد سكانه؛ فإن حشداً من المسلمين يبلغ مائتي مليون نسمة يجتمعون في هذا الركن من العالم، والذي علم النصارى أنه ناءٍ فركزوا دعايتهم على أطرافه لتقطيع أوصاله؛ حيث علموا أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية.
وبعد بحث عميق ودقيق وجدنا أن الأسباب الكامنة وراء ذلك هي ما يلي:
أولاً: الأسباب الجغرافية:
1 - السبب الأول: تتكون إندونيسيا من ما يقارب 17000 جزيرة تترامى
في مناطق شاسعة تملأ المساحة بين قارتي آسيا وأستراليا مما يجعل الأسفار الداخلية
حتى بالطائرات الحديثة ربما يستغرق أياماً. إن الجزر التي انقطعت بها السبل ولا
وسيلة فاعلة لها للاتصال مع إخوانها تنهار مناعتها؛ حيث الشعور بالعزلة والانفراد، وكذلك يصير من العسير إنقاذها حال تعرضها إلى خطر داهم يهدد دينها الذي هو
عصمة أمرها.
ومن هنا فإن المبشرين بما لديهم من قدرة فائقة على الخداع والمكر قد أدركوا
هذه النقطة البالغة الأهمية، فركزوا حملتهم بهذا الإصرار على إندونيسيا دون
سواها من دول العالم الإسلامي؛ حيث لم يوجد مَثَلٌ لهذه الحملة وبهذا الحجم إلا في
بعض الدول المغمورة في مجاهل إفريقيا.
2 - السبب الثاني: هو قرب إندونيسيا نسبياً من أمريكا واستراليا والفلبين؛
حيث لا يفصل بينها وبينهم إلا بحار يمكن قطعها مباشرة ودون أية عوائق جغرافية
وسياسية يمكن أن تمنع الوصول إليها. ومن المعلوم أن المرض إنما يصيب العضو
الأقرب له في حالة انعدام وسائل المناعة والدفاع، وإن أوروبا وأمريكا هما اللتان
تتوليان كِبْر الحملة الصليبية التبشيرية؛ حيث يمكن للمبشرين منهما دون عائق
يُذكر الوصول بإمكاناتهم المادية والمعنوية لافتراس ما يستطيعون من جَهَلَةِ المسلمين.
ثانياً: الأسباب التاريخية:
إن إندونيسيا شأنها شأن غيرها من دول العالم الإسلامي قد تعرضت لحملة
عسكرية استعمارية جبارة أدت إلى السيطرة على مقدراتها وامتصاص دمائها
وسحب بريق الحياة من جنباتها، وإن الأفعى المتوحشة التي قامت بهذا الدور باسم
الاستعمار في هذه البقعة من العالم الإسلامي هي هولندا التي اقتحمت إندونيسيا
بالقوة بعد اقتحام البرتغال وأسبانيا لها، وكذلك إنجلترا بصورة مؤقتة، وقد ساعدت
هذه الدول بغير هوادة عمليةَ التنصير التي جرت على قدم وساق زاعمة أن دعوتها
هي دعوة سلمية وادعة بينما تلجأ إلى أشد التدابير فظاظة وضراوة عند الضرورة.
ولكي يُفهم ما نعنيه من ذلك نضرب مثالاً واحداً: إن محافظة تيمور الشرقية
هي منطقة إندونيسية من الرأس إلى القدم، ومع أن إندونيسيا قد حصلت على
استقلالها جميعها في عام 1945م، فإن القوات البرتغالية عادت مهرولة إلى تيمور
الشرقية متشبثة بها؛ فبقيت وحدها دون إندونيسيا تحت الاحتلال الصليبي
البرتغالي، ولقد حاول الأهالي المقاومة بما لديهم؛ ولكن القوة كانت غير متكافئة، وبقي الأمر على هذا الوضع الشاذ، والذي يسمح باستقلال دولة بكاملها إلا ما يقل عن نصف بالمائة من سكانها حتى عام 1974م، حين وافق البرتغاليون لأول مرة على (حق تقرير المصير لشعب تيمور) ، ولكنهم خلَّفوا وراءهم حكومة ذات أقلية شعبية مما أدى إلى نشوب حرب أهلية لم تلبث أن انتهت باتحاد الأحزاب كلها في تيمور من أجل الانضمام إلى إندونيسيا.
وفي يوم 31-5-1976م وتحت ضغط المقاومة تم إجراء استفتاء عام قرر
فيه أهالي تيمور الانضمام إلى إندونيسيا، وأعلنت النتيجة رسمياً في 15-7-
1976م، وبناء عليه عادت لتصير المحافظة رقم 27 في إندونيسيا مثل أخواتها.
وإنما سردت هذه النُبذة المختصرة عن تاريخ تيمور بالذات ليعلم الذي لا
دراية له بالأمر الدور الرهيب في التنصير المدعم بالقوة المسلحة، ليس في القرنين
: السادس عشر، والسابع عشر، وإنما في أواخر القرن العشرين. إن تاريخ
المستعمر الهولندي والأسباني والبرتغالي والإنجليزي قد قام على دعامة التفرقة
والتنصير، وحماية ذلك الهدف باستخدام أشد وسائل القمع ضراوة وعنفاً.
ثالثاً: الأسباب الثقافية:
لقد تبين بعد دراسة متأنية أن عمليات التبشير تبلغ أشدها حيث تستشري
الجهالة والعماية، وبحيث يعيش الناس حياة أقرب لحياة الحيوان؛ ففي بعض
حالاتهم يعيشون عراة كما ولدتهم أمهاتهم رجالاً ونساءًا في غابات نائية وجزر
متفرقة، تفترسهم الأزمات والمجاعات والأمراض مع الجهل المطبق بالإسلام، وإن
كانوا يُحْسَبون من الناحية الإحصائية في عداد المسلمين، فيمكن من غير جهد
وبحفنات قليلة من الأرز أو الذرة تحويلهم إلى قطعان تسير وراء المنصِّرين الذين
يتيهون فخراً بهذا النصر العقائدي.
رابعاً: الأسباب السياسية:
إن سياسة الحكومة الإندونيسية تقوم على عدم التمييز بين الإسلام وغيره من
الديانات، ومن ذلك: منح إجازة رسمية للبوذيين والهندوسيين في أعيادهم على
ندرتهم جداً في إندونيسيا، وأما أعياد المسيحيين فتدق لها الطبول وتتوقف الأعمال
وتتم الدعاية الصاخبة لها في كافة القنوات المرئية والمسموعة والمقروءة حتى يظن
الجاهل أن البلاد كلها من المسيحيين برغم أنهم أقلية نادرة. إن هذه الدعاية تعطي
صورة غير واقعية عن قوة التبشير وكفاءته، بل إن الدولة تسلك طريقاً غير عادلة
بين المسلمين والنصارى في مساعداتها الخاصة بالعبادات، كما نورده بأدق وأحدث
الإحصائيات الآتية:
حقائق مؤسفة بالأرقام:
في عام 1996 - 1997م: قدمت الحكومة مساعدات مالية لأهل الديانات
المختلفة لأجل بناء دور العبادات الخاصة بها في جميع أنحاء البلاد، وهي كما يلي:
- مساعدة للمسلمين لبناء 2300 مسجد.
- مساعدة للنصارى البروتستانت لبناء 102 كنيسة.
- مساعدة للنصارى الكاثوليك لبناء 202 كنيسة.
- مساعدة للهندوس والبوذيين لبناء 146 معبداً، مع 54 داراً للعبادة.
جملة ما بنته الدولة بنفسها من دور العبادة حتى السنة الثالثة من الدورة
الرئاسية السادسة من فترة حكم سوهارتو (قرابة أربعين سنة) هو (669700) دار
عبادة مقسمة كما يلي:
1 - 597500 مسجد.
2 - 30700 كنيسة بروتستانتية.
3 - 13700 كنيسة كاثوليكية.
4 - 23800 معبد.
5 - 4000 مكان صغير للعبادة.
توزيع الكتب الدينية:
في عام 1996 1997م: قامت الحكومة الإندونيسية بطباعة وتوزيع عدد
(814900) نسخة من الكتب المقدسة مقسمة كما يلي:
1 - 650600 نسخة من القرآن الكريم.
2 - 46800 إنجيل لطائفة البروتستانت.
3 - 50500 إنجيل لطائفة الروم الكاثوليك.
4 - 40000 من الكتاب المقدس لطائفة الهندوس.
5 - 2700 تريبيتاكاسي (كتاب البوذيين) .
وحتى السنة الثالثة من الفترة الرئاسية السادسة لحكم سوهارتو (قرابة أربعين
سنة) ، كانت جملة الكتب المقدسة المطبوعة بمساعدة الحكومة 2. 4 مليون كتاب
مقدس مقسمة كما يلي:
1 - 1. 9 مليون نسخة من القرآن الكريم.
2 - 173800 إنجيل لطائفة البروتستانت.
3 - 163500 إنجيل لطائفة الكاثوليك.
4 - 124500 كتاب مقدس للهندوس.
5 - 78000 كتاب مقدس للبوذيين.
هذا إلى جانب إطلاق حرية الطباعة والنشر كاملة لجميع الطوائف، وبما
يتاح لكل طائفة من إمكانات ذاتية أو ما يمكنها الحصول عليه من إمكانات بوسائلها
المختلفة.
تحليل الإحصاءات المذكورة والتعليق عليها:
بالنظر إلى الإحصاءات المذكورة (وهي إحصاءات حكومية، وبغضِّ النظر
عن نصيبها من الحقيقة) فإننا نجد أنفسنا في حالة ظلم صارخ على المسلمين، وذلك
بناء على تحليل النتائج السابقة واستخلاص النتائج اللازمة منها؛ ذلك أن المال
الذي تدفعه الحكومة لطبع الكتب وبناء أماكن العبادة لغير المسلمين إنما يتحصل من
أموال المسلمين التي تستوفيها الحكومة منهم طوعاً أو كرهاً.
وبحسب الإحصاء المذكور فإن عام 1996 1997م وحده قد شهد بناء عدد
كلي للمساجد هو 2300 مسجد في جميع أنحاء إندونيسيا، بينما شهد نفس العام بناء
كنائس عددها: 303 كنيسة (كاثوليك وبروتستانت) ، 200 معبد وغيره، أي إن
دور العبادة غير الإسلامية في جملتها هي: (503) ، ويتبين منه أن نسبة المساجد
(الإسلام) إلى نسبة الكنائس والمعابد (غير الإسلام) هي: 4.5 - 1، وبه يظهر
أن نسبة دور العبادة غير الإسلامية تبلغ 20 - 25%، فإذا علمنا أن عدد السكان
في إندونيسيا هو (مائتا مليون) بحسب الإحصاءات الحكومية أيضاً منهم 15 - 20
مليوناً (على أقصى التقديرات النصرانية كما سيرد بتفاصيله في موضعه إن شاء
الله) ديانات غير إسلامية (غالبيتهم من النصارى البروتستانت والروم الكاثوليك)
فتكون نسبة النصارى إلى المسلمين على أقصى الفروض أقل من 1-10 بينما
مساعداتهم المالية وميزانياتهم من الحكومة لبناء دور العبادة وللطباعة والنشر وغير
ذلك في جملتها تصل إلى 40% من جملة المساعدات الحكومية إذا علمنا ذلك أدركنا
أن هذا العدد القليل من النصارى إنما يحصل على مال المسلمين لبناء الكنائس
وتمهيد السبل للمبشرين حتى يعيثوا فساداً في أراضي المسلمين بأموال المسلمين.
كذلك يلاحظ أن هذه النسبة الكبيرة من الإنفاق على النصارى من أموال
المسلمين إنما تركزت في السنوات الأخيرة، وخاصة عام 1996 1997م، مما
يدل على تنامي النفوذ النصراني على المستوى السياسي بما يضمن هذه المصالح
النصرانية.
إن أموال المسلمين إنما دفعها المسلمون لحماية دينهم وتقوية عقائدهم، لا
لحماية ديانات النصارى والبوذيين والهندوس، وتثبيت عقائدهم، هذا إذا كان
المسلمون في حالة من المنعة والقوة، فكيف والنصارى يتلقون نسبة من الدعم
المالي من كافة دول الأغنياء من الغرب مما هو ظاهر ومعلوم، فضلاً عن الدعم
العسكري من دول الاستعمار الآتية لامتصاص دماء المسلمين وبذلها للنصارى.
إن التبشير في إندونيسيا إنما يتقوى ويستشري اعتماداً على المساعدات المالية
غير المحصورة من العالم النصراني، علاوة على المساعدات المعلنة من الحكومة
التي يفترض أنها تمثل المسلمين وعقائدهم، إنها الأسباب السياسية التي تضمن
وتمكِّن النفوذ النصراني، سواء بضغط السياسة الخارجية، كما خُطط لفصل تيمور
الشرقية عن إندونيسيا، وهي القضية التي شغلت بال سكرتير عام الأمم المتحدة
الحالي (كوفي عنان) رغم الأحداث الجسام التي تنتاب العالم عامة والعالم الإسلامي
خاصة. كل هذا لم يشغل سكرتير عام الأمم المتحدة عن القضية الهائلة الخطيرة:
قضية فصل تيمور الشرقية عن إندونيسيا لتكون شوكة جديدة مسمومة تضاف إلى
غيرها من الأشواك التي ما زالت تدمى لها أطراف الجسد الإسلامي المثخن بالجراح. لقد كانت محاولات فصل تيمور عن الوطن الإندونيسي الأم تجري على قدم وساق
وجنباً إلى جنب مع تركيز نفوذ النصارى في جميع أنحاء مراكز التأثير في البلاد.
يتبين لنا ذلك بيسر من حجم المطبوعات غير الإسلامية التي طبعت على نفقة
المسلمين؛ ففي عام 1997م وحده كانت جملة المطبوعات النصرانية والبوذية
والهندوسية 25% من جملة الميزانية فيما تمثل نسبتهم مجتمعين أقل من 10% من
تعداد السكان (هذا في حالة التسليم بصدق الأرقام التي تهيمن عليها الحكومة محاباة
للنصارى رغبة ورهبة) .
وباختصار فإن ربع الميزانية يعطى للأقلية، أما الفترة الماضية (حوالي
أربعين عاماً) فقد ظلت نفس النسبة قائمة: 1.9 مليون مصحف إلى 528800
كتاب دين غير إسلامي، (أي نسبة 25% تقريباً) ، وهي نسبة مجحفة وظالمة
للمسلمين في حالة السماح للنصارى بطبعها من نفقتهم الخاصة؛ والمسلمون هم
الذين يدفعون النفقات. هذا في حالة المسالمة والموادعة فكيف بالحرب المعلنة
صريحةً داميةً من المستعمرين منذ ثلاثمائة عام للتمكين للنصرانية؟ وكيف بحرب
التبشير على كافة القنوات التي يبصرها ويعلمها كل من عاش على أرض إندونيسيا؟ إن الأسباب السياسية - داخلياً وخارجياً - ضالعة في الكارثة العقدية التي حوَّلت
10% من سكان أكبر دولة إسلامية من جهة تعداد السكان إلى النصرانية. نسأل الله
أن يحفظ الإسلام في إندونيسيا المسلمة وفي كل بقاع العالم، وأن يرد كيد أعدائه
إلى نحورهم. آمين.
__________
(1) رواه أحمد في المسند، ح (16509) .(141/90)
المسلمون والعالم
المجاعة الفكرية في إفريقيا
الحسن عمر الفاروق جارا
قد لا نحتاج إلاَّ إلى جهد قليل ليتبين لنا أن الدول المتنافسة على إفريقيا قد
وضعت القضاء على الوجود الثقافي على رأس القائمة التي تضم أهدافها
الاستراتيجية - عندما شرعت في احتلال المناطق الإسلامية - لأن ذلك الوجود
الثقافي هو الدرع الواقي للشعوب المسلمة.
وكانت الدول المتنافسة تعي وتدرك الدور الخطير والحيوي الذي يمكن أن
تلعبه قنوات التواصل الممتدة بين منطقة غربي القارة، ودول شمال إفريقيا التي
يُنظر إليها على أنها المعبر الذي بواسطته وصلت حركة المد الإسلامي منطقة
جنوب القارة.
وبناء على هذا التحليل كانت أولى الخطوات هي سد المنفذ الجنوبي الذي
يمثل بوابة ثقافية مهمة بالنسبة لغرب إفريقيا، وذلك إذا نظرنا إلى الموضوع في
ضوء العلاقات الثقافية النشطة التي كانت قائمة بين المنطقتين كما سبق ذكره وإلى
هذه الحقيقة أشار الدكتور عبد الله عبد الرزاق عندما قال: (كانت الموجة
الاستعمارية تتركز في المقام الأول على المسلمين في شمال القارة، باعتبارهم
الحصن الحصين، والدرع المتين الذي يدافع عن الإسلام وعن المسلمين ... ) [1] .
فالعنصر الثقافي في كل الأحوال يبقى عاملاً حاسماً؛ حيث لعب دوراً مزدوجاً
تَمَثَّلَ في كونه رأس الحربة التي وظَّفها الاستعمار بشكل كبير بغية إيجاد موطئ قدم
له في ربوع هذه البلاد، والتوغل في النسيج الاجتماعي لمسلمي غرب إفريقيا،
محطِّماً أسسهم الحضارية.
إن الأداة التي استخدمها الاستعمار لاختراق المنطقة كانت تتمثل في المحاور
الثلاثة:
- الكنيسة. - المدرسة. - الجيش.
وكانت المدرسة أكثر الثلاثة خطورة، باعتبارها الوسيلة التي أبقت على
الوجود الاستعماري حتى وقت رحيله؛ بينما كان دور الجيش ينحصر في التركيع
الآنيِّ [2] ، ثم كان العنصر الثقافي هو الأداة التي استُخدمت مرة أخرى عند
الرحيل للمحافظة على الولاء، ولرعاية المصالح عندما أصبح من المتعذر الإبقاء
على الوجود المادي المباشر؛ وفي الجانب المقابل وعى المسلمون في وقت مبكر
جداً خطورة الهجمة الثقافية التي كانت تستهدف في المقام الأول كيانهم الحضاري.
ووُلد ذلك الوعيُ الإيجابي الذي تزايد نضجاً مع مرور الزمن وشراسةِ الهجمة؛
ليكون رد فعلٍ عملي على تلك الهجمة.
وقبل تناوُل الأثر الثقافي لتنافُس الدول الكبرى في الحقبتين الأولى والثانية،
ينبغي أن نوضح أن هذا الأثر قد تتفاوت درجات عمقه من مجتمع لآخر؛ تبعاً
لظروف خاصة، ولعوامل معينة، مثل: درجة الوعي الشعبي، أو وجود زعامات
قومية ذات ولاء للوطن، ثم طبيعة القوة الأجنبية المسيطرة ... كما قد يكون هذا
التأثير في بعض جوانبه في حالة من التمدد مما يجعل عملية تتبعه مهمة لا تتسم
بالسهولة، وذلك تبعاً للنظرية القائلة بأن منطقة غرب إفريقيا مرشحة لمزيد من
التنافس، مما يعني صوراً أخرى من التأثير الخارجي، وتنبني هذه النظرية - التي
ترشح المنطقة لأن تشهد مزيداً من التنافس مما يستتبع مزيداً من التوتر، وصوراً
أخرى من الآثار السلبية - على مؤشرات كثيرة منها:
- أن المنطقة تختزن أرصدة جيدة من ثروات باطن الأرض.
- الوضع الاستراتيجي الذي يزداد أهمية في ضوء المستجدات العالمية.
حركة الوعي الديني التي تستقطب قطاعاً عريضاً من الشباب المثقف عبر
المؤسسات الأكاديمية ذات الجذور الغربية بشكل خاص.
ونستطيع حصر برنامج التخريب الثقافي الذي تبنته الدول المستعمرة
والمهيمنة، في المحاور الرئيسة الآتية:
نسف أسس المؤسسات (المجالس العلمية والثقافية) التي كانت قائمة وتؤدي
دوراً فكرياً واجتماعياً متميزاً، وذلك باعتبارها مصدر الإشعاع الثقافي الوحيد الذي
كان في أيدي المجتمعات المسلمة بالمنطقة عن طريق تخريج الأئمة والقضاة
والمثقفين، وكان مشروع التخريب الذي تم إعداده يتكون من شقين:
الشق الأول: الحيلولة دون نمو وتطور هذه المؤسسات على المستويين:
الكمي، والكيفي، بمعنى الحد من انتشارها، وممارسة ضغط نفسي ومادي على
القائمين عليها من أجل جعل المستوى العلمي يتجه نحو الانحدار تمهيداً للقضاء
عليها عن طريق سد المنافذ العلمية والمصادر الثقافية كما سيتضح لاحقاً.
الشق الثاني: السعي الجادّ إلى جعل المدرسة الاستعمارية التي كانت ذات
مضمون تنصيري صِرف تحل محل المؤسسات الإسلامية الثقافية (المجالس) لأنهم
كانوا يشعرون تجاه هذه الأخيرة بقلق كبير من جراء نفوذها الاجتماعي، ودورها
في خلق الوعي الجماهيري، وصَقل الرؤية الوطنية التي تنادي بالمقاومة ورفض
الهيمنة الخارجية، وفي هذا الإطار جاءت فكرة تأسيس المدارس الثلاثة المعروفة:
تمبكتو (بمالي) ، وبُتَلْميت (بموريتانيا) ، وسان لويس (في السنغال) .
ولقد كان لهذه المدارس أثر سيئ على مستقبل الثقافة الإسلامية في المنطقة؛
يستنتج ذلك من الاستراتيجية التي تم رسمها، والأهداف التي سعت إلى تحقيقها:
عندما بدأت المدرسة الفرنسية تأخذ طابعها النهائي في إفريقيا الغربية كان في تلك
البلاد عدد كبير من المدارس العربية التي تأسست في الماضي، وبعضها كان له
شهرة كبيرة وقديمة مثل مدرستي: تمبكتو - وجنى، اللتين بلغتا مرتبة الجامعات
في أيام الأسكيين على الخصوص؛ ولم يكن من صالح الاستعمار الفرنسي إغلاق
تلك المدارس التي أُنشئ لها فروع في عديد من الجهات، كما لم يكن من صالحه
أبداً تركها تؤدي دورها كما كانت تعمل في الماضي [3] .
وأما المخطط الذي وضع لتسير عليه هذه المدارس لتصل إلى النتيجة التي
تخدم مصالح المستعمر فقد ارتكز على المحاور الثلاثة الآتية:
المحور الأول: تغيير برنامج هذه المدارس تغييراً نهائياً: فلا تصبح جامعات
إسلامية، وإنما مدارس فرنسية عربية، يغلب فيها اللسان الفرنسي والعلوم الفرنسية
أكثر فأكثر، وذلك على حساب اللغة العربية، والعلوم العربية (الثقافة الإسلامية) .
المحور الثاني: فرض حصار ثقافي شامل على المنطقة: وسارت هذه الخطة
في خط موازٍ لخطة تخريب المؤسسات الثقافية الإسلامية؛ لأنها هي المكملة لها؛
وتمثل الحصار في سدِّ تلك القنوات التي كانت بمنزلة روافد ثقافية تمد الحركة
الثقافية في المنطقة بما تحتاج إليه من مصادر؛ وكان من بين الوسائل العلمية التي
استخدمت: فتح مكاتب للمراقبة بحيث يجب أن تمر من خلالها كل المطبوعات
التي يتم إدخالها إلى المنطقة، وكان الذين يشرفون على جهاز المراقبة غالباً ما
يكونون من اليهود؛ وفي خطوة مرادفة تم السماح بدخول نوعٍ معين من الكتب
لاستغلال ما تحمله من أفكار وآراء تتعارض مع الخط الإسلامي الأصيل الذي
يرفض الخضوع للهيمنة الخارجية التي تحمل في نظر مسلمي المنطقة - وفي
الحقيقة كذلك - طابع الكفر وتريد فرضه عليهم بالقوة [4] .
ويلخص أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي موقفهم بشكل لا لبس فيه عندما
يصرح بقوله: (نحن لا نعترف في غرب إفريقيا إلا بثقافة واحدة، وهي
ثقافتنا) [5] .
المحور الثالث: يتمثل في ضرب اللغة العربية باعتبارها وسيلة فعالة في
المعركة الثقافية الدائرة بين الجانبين: (فلقد بدأ الصراع بين الثقافتين: العربية
(الإسلامية) ، والأوروبية (الاستعمارية) في القارة الإفريقية غير العربية (غرب
إفريقيا خصوصاً) ، وكان محل التنازع (اللغة) التي هي وسيلة نقل الثقافة؛ فلقد أثر
الاستعمار تأثيراً كبيراً على ثقافات الشعوب التي يحتل أراضيها قبل أن تنال هذه
الشعوب استقلالها، ولجأ إلى نوعية من الأساليب الثقافية لفرض نفوذه على
المناطق التي يتحكم في مصيرها، ثم اتبعت فرنسا سياسات الدمج والاستيعاب على
المستويين اللغوي والثقافي) [6] .
ولقد لخص الحاكم الفرنسي لمنطقة غرب إفريقيا سياسته تجاه اللغة العربية
عندما قال بالحرف الواحد: (نحن نريد أن نبعد التشجيع على استخدام اللغة
العربية) [7] ويجدر هنا تسجيل الملاحظات الآتية عن وضعية اللغة العربية:
1 - إن اللغة العربية كانت اللغة الحية المكتوبة الوحيدة التي كانت تعرفها
المنطقة يوم حل بها الاستعمار، وبذلك كانت إلى جانب كونها الأداة الثقافية الوحيدة
لغة الإدارة والوسيلة الوحيدة في مجال التبادل الاقتصادي حتى لغير المسلمين.
2 - بحكم المركز المتميز الذي كانت تحتله اللغة العربية اضطر الاستعمار
إلى استعمالها من خلال استراتيجية ذكية استهدفت الاستفادة منها لتثبيت أركان
وجوده مع وضع خطة للقضاء عليها تدريجياً.
3 - تحمل اللغة العربية بالنسبة لسكان المنطقة بما فيهم غير المسلمين سجلاً
تاريخياً ضافياً، يتصف بالحيوية ويشمل الفترتين: ما قبل الاستعمار وما بعده،
ويمثل مصدراً تاريخياً فريداً [8] .
لهذا كله كان من الأمور الجوهرية أن يتم توجيه ضربة قاضية للغة العربية،
وزحزحتها عن مكانتها العالية في النفوس، وفي الواقع العملي؛ لكن ذلك لا يكون
ارتجالاً، إنما يتم وفق خطوات محسوبة بدقة كما يقول جورج هاردي J.
Hardie: (وبكلمة واحدة: فإن اللغة العربية لم يصبح لها من ذلك التاريخ في
برنامج المدارس الفرنسية العربية (E. F. A) أكثر من الدور والمكانة التي
تحتلها اللغات الأجنبية في الثانويات الفرنسية) [9] .
ولتكون سياسة ضرب اللغة العربية في المنطقة نافذة تم العمل على ناحيتين
أساسيتين:
أولاً: تهميش أصحاب الثقافة الإسلامية ذات الجذور العربية (اللغة) ووضعهم
في حالة مادية متدنية ومزرية داخل مجتمعهم حتى يردع ذلك من تسول له نفسه تعلم
اللغة العربية [10] . وتكاملت هذه السياسة مع غيرها من الخطط التي تهدف كلها
في النهاية إلى نسف دعائم الثقافة الإسلامية في المنطقة مستهدفة الوجود الإسلامي
بشكل عام على المدى البعيد.
وكما كان متوقعاً فإن الاستعمار اكتشف حقيقة مهمة، وهي مدى شدة ارتباط
الثقافة الإسلامية، وتعلق مسلمي غرب إفريقيا برافدها الأصلي (اللغة العربية)
فكان لا مفر من اللجوء إلى القوة والقانون معاً، فبدأت حملة سن التشريعات التي
تسعى إلى جعل سياسة الحصار الثقافي أمراً واقعاً، فإن تغلب المسلمون على
الألاعيب الاستعمارية أرغموا على الرضوخ لقوة القانون أو لقانون القوة.
يقول فروليش FROLECH: (الرخصة التي كان يخضع لها أولئك الذين
يرشحون لفتح مدرسة عربية مرفوضة أحياناً ... ) [11] .
ثانياً: محاولة تحديد حركة الابتعاث تمهيداً لإيقافها نهائياً؛ ففي العقود الثلاثة
الأخيرة من الوجود الاستعماري في المنطقة نشطت حركة الابتعاث إلى البلدان
الإسلامية لطلب العلم بعد أن كان هذا النوع من الرحلات الثقافية ينحصر في دائرة
المنطقة المحيطة بموريتانيا والسنغال ومالي، وكان الشباب يسعى إلى الوصول إلى
التعليم النظامي الذي يقتصر داخل المنطقة على المؤسسات التعليمية الغربية.
ويضاف إلى ذلك أن وطأة التضييق على المؤسسات التقليدية بدأت تشتد؛
فكان لا بد من البحث عن مُتنفس جديد، وهنا سارع الاستعمار مرة أخرى إلى
محاولة سد هذه القناة التي كان يرى فيها الخطر الداهم، وخاصة في ضوء تلك
الحركة الثقافية التي كانت تزداد قوة وتقوم على دعامتين:
- الدعامة الأولى: عودة إلى أصول الإسلام وتبنيه باعتباره مشروعاً
حضارياً في كلٍ من المشرق العربي والشمال الإفريقي.
- الدعامة الثانية: تزعم الاتجاه الذي يرى في الاستعمار والدول الغربية
عموماً مصدر الشرور التي كان يُعاني منها العالم الإسلامي، وخاصة مسلمي منطقة
غرب إفريقيا، ومن ثَمَّ انطلق في تعامله معه من مبدأ الرفض الصارخ، وما يتبع
ذلك من صور المقاومة.
وفي الحقيقة فإن طبيعة المشكلة كانت تقتضي التركيز على التخريب الثقافي
الذي مارسته الدول الأوروبية بشكل عام دون مراعاة للفواصل والخصوصيات التي
تتميز بها كل من الحقبتين: الأولى: الاستعمار المباشر. والأخرى: ما يطلق عليه
بعض الكتاب الذين عالجوا المسألة: حقبة التنافس؛ وذلك نظراً لأن بعض شركاء
الاستعمار لا يزالون أطرافاً في اللعبة وبشكل أخص (فرنسا) .
وأما إذا حصرنا الحديث في إطار الحقبة الثانية (التنافس) فيمكننا أن نجد
صورة الموقف على النحو الآتي:
- رأينا فيما سبق أن التغير الجذري في الإشكالية هو نزول قوى جديدة لتحتل
الساحة وتكاد تهيمن عليها في بعض أجزاء المنطقة، مما يجعل البعض يتصور أن
التنافس قد انحصر داخل قطب ثنائي هو الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي،
ويمكن اعتبار الولايات المتحدة إلى حد ما امتداداً للثقافة الإنجليزية التي كانت
بريطانيا تمثلها، ثم بدأ ظلها ينحسر رويداً رويداً، بينما مثَّل الاتحاد السوفييتي -
آنئذٍ - ثقلاً جديداً وخطاً منفصلاً، وعاملَ تنافسٍ خطير في مواجهة المعسكر الغربي
عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً.
وبالرجوع مرة أخرى إلى مرحلة التكالب ابتداء من مؤتمر برلين (B.
CONERENCE) بغية فهم التركيبة الجديدة التي ولدت في حقبة التنافس التي
ليست في الواقع إلا نتيجة مباشرة لحقبة الاستعمار المباشر بمراحله المختلفة، نجد
النتيجة المحزنة بالنسبة لإفريقيا عموماً وجزئها الغربي خصوصاً، والتي تمخض
عنها المؤتمر عندما تم تقاسم المنطقة على طريقة توزيع التركة، بعد جرد
الموجودات. ويتضح أن الجغرافية السياسية للمنطقة تشكلت من جديد بصورة
تجعل ثلاث لغات عالمية: (الفرنسية - الإنجليزية - البرتغالية) تحمل ثقافات
مختلفة وتنطلق من أسس فكرية متباينة بالرغم من القاسم الديني المشترك، وتتحرك
داخل منطقة لا يتجاوز قطرها بضعة آلاف من الكيلومترات المربعة، وكان مستوى
التواصل بين شعوبها يكاد يصل إلى درجة الشعب الواحد، كما نرى الوضع في
مثلث: (غينيا بيساو - وجامبيا - والسنغال) .
لكن مأساة مسلمي المنطقة لم تكن لتنتهي عند هذا الحد، وإنما جاءت
الشيوعية لتحل محل الثقافة البرتغالية والفرنسية في كل من غينيا بيساو، وغينيا
كوناكري، وإلى درجة ما في جمهورية مالي عقائدياً واستراتيجياً مع بقاء اللغتين
البرتغالية والفرنسية محلهما، مما ولَّد مزيداً من التنافس والتمزق الثقافييْن في
صفوف المسلمين بشكل أخص.
وفي حقبة التنافس عملت الدول المشتركة في اللعبة في اتجاهات رئيسة أربعة
يمكن توضيحها في الآتي:
1 - ما يمكن أن يوصف بـ (التصدير الثقافي) ، وهو ما يعني إغراق
المنطقة بصور مختلفة من الدعاية الثقافية القائمة على الترويج، ويكاد الاتجاه
الأمريكي يهيمن على الموقف في هذا الجانب، ويمكن إعطاء المثال على ذلك:
التعدد الكبير في الأفلام الأمريكية التي تقدمها التلفزيونات في المنطقة في بلد
فرنكوفوني مثل: غينيا وغيرها، وهكذا أصبحت دعاية (السوبرمان) الأمريكي
تلقى صدى واسعاً في أوساط الشباب المسلم، وتؤثر في سلوكه بشكل ظاهر،
ويضاف إلى ذلك الموسيقى الأمريكية (أنغام الديسكو) إلى جانب تداول بعض
المصطلحات الأمريكية ذات الدلالات الخطيرة بين الشباب والتي خلطوها باللغة
التي يتحدثون بها سواء كانت فرنسية أو محلية [12] .
ويضاف إلى ذلك موجات القنوات التلفزيونية التي بدأت تغزو الفضاء
الإعلامي في المنطقة والتي للجانب الفرنسي منها نصيب الأسد منها (قناة أوريزون
Canal Horizon: قناة بليس (أي +) Canal Plus t.f.5.
2 - تشكيل منابر ثقافية (روابط) ذات مضمون حضاري، وأهداف سياسية
وعلى الأخص: رابطة الدول الناطقة باللغة الإنجليزية (الكومنولث) [13] ثم جاءت: مجموعة الدول الناطقة باللغة الفرنسية (الفرنكوفونية Francophone) [14]
رداً على هذا التحدي، ورأت الولايات المتحدة بدورها في هذه الخطوة خطراً يجب
احتواؤه، فتبنت أسلوباً مماثلاً تمثَّل في اللقاء الذي جمع عدداً كبيراً من الدول
الإفريقية والأفارقة الأمريكيين، وتم عقد اللقاء الأول بساحل العاج عام 1992م.
ثم نُظِّم الملتقى الثاني بجمهورية الجابون في صيف 1993م، ولوحظ
الاهتمام الكبير والدعاية الواسعة اللذين حظي بهما الملتقى سواء من جانب الإدارة
الأمريكية وهو ما بينه مستوى الوفد الممثل لها، أو من قِبَلِ الصحافة العالمية التي
غطت فعاليات الملتقى، وفي ذلك الملتقى حُدّد موعد اللقاء الثالث الذي قُرِّر أن يتم
في لاغوس بنجيريا عام 1995م [15] .
ونشير هنا إلى الدور الخطير الذي تلعبه: Association
collaboration cltrlle et TECHNIQUE (A. C. C. T) وكالة
التعاون الثقافي والفني التابعة للفرنكوفونية [16] .
3 - الابتعاث: ولقد استفاد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي عموماً يومئذٍ
من هذه السياسة التي نشطت بشكل ملفت للنظر خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، وكذلك تميز الخط اليساري بالتغلغل إلى حد ما داخل الوسط الشعبي عن طريق:
- استغلال الطبقة المتوسطة التي تضم المدرسين وصغار الموظفين التي
كانت على اتصال مباشر بالجماهير نتيجة وجودها في الأرياف والقرى.
- توظيف الفنون الشعبية، كالأغاني الفولكلورية، والمسرحيات، وكان لهذه
الوسيلة أثر كبير في جعل الشباب ينتقد بعض المعتقدات الدينية باسم الثقافة -
كوضع المرأة والمساواة والحرية.
4 - ربط الدعم الاقتصادي والتنموي بالمصالح الثقافية، ويشتد التنافس في
هذا المجال بشكل فريد بين الولايات المتحدة وفرنسا، حتى إن الأمريكيين
ليضطرون - نتيجة الثقل الذي تمثله (الفرنكوفونية) في غرب إفريقيا [17] أن
يلجؤوا إلى اللغات واللهجات المحلية ويتبنوا البرامج لدعمها للحد من النفوذ الفرنسي؛ ثم لتحقيق هدف تنصيري في الوقت ذاته. وتجدر الإشارة إلى الدور الذي تلعبه
كل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (U. S. A. I. D) International. Development؛ وفيالق السلام الأمريكية (CORPS DE PAIX) في
دول غرب إفريقيا، وقد تم إنشاؤها أساساً عام 1961م للعمل في مجال التعليم
والتدريب في دول ما وراء البحار؛ وفي هذا المجال أيضاً لم يتخلف الاتحاد
السوفييتي عن منافستها، وقد أراد أن يستغل بيعه صفقة الأسلحة لنيجيريا، فأرسل
آلاف الطرود الملأى بالكتب العربية التي تم توزيعها بواسطة (جمعية الصداقة
الروسية - النيجيرية) ومن بينها كتاب بعنوان: (الإسلام، نشوءه ومستقبله) الذي
ألفه الملحق الروسي (ي. كليموتنش) وطبع في موسكو عام 1968م، وفيه شتم
وإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد لاقى استنكاراً واسعاً من رجال العلم
والثقافة في نيجيريا، لما تضمنه من أفكار هدامة [18] .
ويمكننا رسم صورة للنتائج المباشرة التي تمخض عنها هذا التنافس على
الوضعية الثقافية لمسلمي منطقة غرب إفريقيا:
- الحصار الفكري والمصادرة الثقافية اللذيْن أديا إلى ضياع قطاع عريض من
الشباب المسلم الذي تغربت أخلاقه، وسلوكياته ونظرته إلى المجتمع من حوله؛ ثم
لما تسلم السلطة قاد سفينة المجتمع بعيداً عن المحيط الإسلامي الذي يمثل إطاره
الصحيح.
- التبعية الثقافية التي أصبحت واقعاً لا مفر منه؛ فالشاب المسلم في المنطقة
يخرج من عداد المثقفين ما لم يتحدث بإحدى اللغات الأجنبية.
- نشوء ما يمكن أن نسميه بثقافة (الدجل) التي انتشرت بفعل الحصار
الفكري الذي استمر لفترة طويلة، تم فيها نشر عدد كبير من الكتب التي تعتبر ذات
مفعول ثقافي مخدر؛ من ذلك: كتب الشعوذة، والطلاسم، والفكر الصوفي
المتطرف.
- تواري اللغة العربية عن الساحة الثقافية، لصالح اللغات الأخرى مما أدى
إلى خلل ثقافي كبير في أوساط المسلمين، باعتبارهم الضحايا المستهدفين من
المؤامرة؛ وذلك لأن اللغة العربية أصبحت في ذيل القائمة التي تضم اللغات
الأجنبية، كما أشار إلى ذلك جورج هاردي.
- تفشي الأمية، وانتشارها بمعدلات وبائية بين صفوف المسلمين، مقارنة
مع الأقليات المسيحية التي فتحت لها المدارس التنصيرية أبوابها، في حين تم
تدمير المؤسسات التعليمية الإسلامية، أو تفريغها من محتواها.
ويمكن هنا إعطاء هذا النموذج الذي له دلالة كبرى:
- في سنة 1960م تم القيام باستفتاء في المناطق الريفية بالمنطقة، فوجد أن
نسبة 25% من السكان يعرفون القراءة والكتابة بالعربية، ولكن ما إن جاءت سنة
1968م، حتى انقلب الوضع نتيجة أن المتعلم باللغة العربية لم يعد يعتبر مثقفاً.
ولقد استفاد أعداء المسلمين من رفض المدارس التنصيرية والعلمانية لمن
يعرفون اللغة العربية لفترة طويلة، وامتدت هذه النظرة الرافضة حتى نهاية
الستينات، وبداية السبعينات في مناطق كثيرة.
وما كان ذلك إلا لقطع الروابط الثقافية والروحية التي كانت تربط المسلمين
في المنطقة بإخوانهم خارجها. وكان ذلك هدفاً رئيساً لاستراتيجية الحصار الثقافي،
وتشجيع دائرة الانحرافات العقائدية وتوسعتها على المستوى الشعبي، وقد أدى ذلك
إلى انتشار موجة من الإلحاد بين الشباب المسلم الذي دخل الجامعات والمعاهد العليا
التي كان للفكر الماركسي في فترة الستينات والسبعينات شبه الهيمنة المطلقة عليها.
__________
(1) إبراهيم، عبد الله عبد الرزاق، المسلمون والاستعمار الأوروبي لإفريقيا، ص10.
(2) باه، محمد سعيد، اللغة العربية والصراع الحضاري، (مخطوط، ص 27) .
(3) زبادية، عبد القادر، العلاقات العربية الإفريقية، دراسة تاريخية ص 433 وما بعدها.
(4) سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص 90.
(5) سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص86 بتصرف.
(6) سليم، رجاء إبراهيم، التبادل الطلابي بين مصر والدول الإفريقية، ص 28-29 عن: لويس عوض، الاستعمار الجديد ص232،.
(7) باه، محمد سعيد، اللغة العربية والصراع الحضاري (مخطوط، ص 13) .
(8) باه، محمد سعيد، ص 2 بتصرف.
(9) زبادية، عبد القادر، العلاقات العربية الإفريقية، ص434.
(10) باه، محمد سعيد اللغة العربية والصراع الحضاري، ص 4-5.
(11) سيلا، عبد القادر، المسلمون في السنغال، ص 89.
(12) أنغام الديسكو، أفلام رامبوا، وسوبرمان.
(13) الكومنولث البريطاني: يضم واحدا وعشرين دولة إفريقية بجانب دول أخرى غير إفريقية ناطقة باللغة الإنجليزية وتعتبر اللغة الإنجليزية أكثر اللغات الأوروبية انتشارا بها، حيث كانت مستعمرات إنجليزية، وتضم قرابة نصف سكان القارة الإفريقية، وبعد حصول هذه الدول على استقلالها كان الاهتمام الرئيسي لبريطانيا هو العمل على تدعيم علاقات قوية بينها وبين هذه الدول التي كانت مستعمرات لها، وكان إحدى هذه الوسائل الكومنولث البريطاني انظر Claude, Phillips, The African Political Dictionnary, Ibid, 173.
(14) دول الفرنكوفونية: تضم أربعا وعشرين دولة إفريقية كانت مستعمرات فرنسية وتنتشر بها اللغة الفرنسية وتعتبر اللغة الرسمية بجانب لغة أو اثنين في بعض هذه الدول، وتضم ثلث سكان القارة الإفريقية.
(15) انظر تفاصيل هذه القمة في: AFRICA INTERNATIONAL, (N 263) Juillet - Aout, (Article) Black Connection En Couleur وكانت القمة الثالثة بلاغوس نيجيريا عام 1995م أما الأولى فكانت بأبيدجان وأما الثانية فكانت بليبرفيل.
(16) استقينا هذه المعلومات من خطة بحث لمحمد سعيد باه بعنوان: (الفرنكوفونية: منبر سياسي جديد، أم هجمة حضارية) .
(17) سليم، رجاء إبراهيم، التبادل الطلابي بين مصر والدول الإفريقية، ص 29 عن: Claude, Phillips The African Polit ical Dictionnary P Ibid pp 180-181.
(18) خليل، عماد الدين، مأساتنا في إفريقيا، الحصار القاسي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1401هـ، 1981م، ص100-101.(141/96)
المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000
ألِهذا يهيِّئون العالم؟ !
عبد العزيز كامل
بعد أن وصلت سلسلة مقالات (حمى سنة 2000) إلى هذه الحلقة. رأت أسرة
تحرير (البيان) أن يضيف الكاتب إليها ما لم يكن له متسع في الحلقات السابقة،
لتتحول السلسلة بعد ذلك إلى كتاب بالعنوان نفسه (حمى سنة 2000) ، يصدر قريباً
إن شاء الله.
(إنني مؤمن من كل قلبي أن الله يرعى أناساً مثلي ومثلكم لإعداد العالم لعودة
ملك الملوك وسيد الأسياد) .
بهذه العبارة اختصر الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) الإطار العقدي
الذي يحكم تفكير كثير من قادة السياسة والفكر والدين في الغرب، وسواء كان
هؤلاء الزعماء من اليهود أو من النصارى؛ فإن القاسم المشترك بين اهتماماتهم هو
(التهيئة) ؛ نعم التهيئة والإعداد لقدوم المنتظَر الموعود!
ولو كانت هذه العبارة التي قالها ريجان [1] قد صدرت من واعظ في كنيسة
أو حاخام في كنيس لقلنا: إنها من العبارات التي تصوغها العواطف في لحظات
الانفعال الروحي، أو الافتعال الحماسي؛ ولكن العبارة صدرت من شخص كان هو
الرجل الأول في العالم منذ عقد واحد من الزمن. إن العالم يعيش منذ قرن كامل في
ظل سيطرة تلك القوى التي تؤمن كما يؤمن ريجان بأنها تُعِدُّ العالم لمقدم المسيح.
وإذا كان أمثال ريجان يُعِدُّون العالم كما يقولون لاستقبال المسيح الذي يؤمن
به النصارى، فإن القوى التي أوصلت ريجان وأشباهه إلى الحكم تعمل هي
الأخرى لإعداد العالم لمقدم مسيح آخر؛ فلليهود أيضاً مسيحهم المنتظر الذي
يجتهدون في هذا العصر لتجهيز الدنيا لاستقباله.
الألفية وعقيدة الإعداد:
وإيمان أهل الديانتين بأن هناك منتظراً وشيك القدوم وأنه لا بد من التهيئة لهذا
القدوم هذا الإيمان يرجع إلى عقيدة مشتركة بينهم تعرف بـ (العقيدة الألفية) وهي
ترجمة لكلمة (Millenarianist) ومعناها: محتوى الألف، وهي في الأصل عقيدة
يهودية يؤمن أصحابها بأنه على رأس كل ألف لا بد أن يشهد العالم أحداثاً كبرى،
وستظل تتتابع حتى تجيء الألف الأخيرة التي يأتي بصحبتها (الملك الألفي) الذي
يحكم العالم كله بعد فترة من الاضطرابات والحروب والفتن؛ فالمسيح سيعود حسب
معتقد اليهود قبل يوم السبت، أي: قبل اليوم السابع الذي يعني الألف السابعة من
عمر الدنيا، وجماعات اليهود تعتقد أننا نقترب منها وهذا يعني كما يقول (إيمانويل
هيمان) أننا دخلنا مرحلة الاضطرابات السابقة على عودة المسيح [2] .
وقد انتقلت تلك العقيدة إلى النصارى بحكم إيمانهم بالتوراة التي جاء الإنجيل
ليكملها فقط، ومما يدل على عمق إيمان النصارى بالعقيدة الألفية أنهم قد أصابتهم
الحمى الألفية على رأس الألف الأولى، وظهر أثر ذلك في الحملات الصليبية
الشرسة التي اندفعوا بها نحو الشرق للاستيلاء على القدس عاصمة المبعوث الألفي، ولما لم يظهر، ولم يَعُدْ استأنفوا الانتظار للألف التي تليها.
اليهود والملك المنتظر:
قد يظن ظان أن الكلام عن العقائد الألفية والدورات السبعة للدنيا يقتصر على
اهتمامات الشريحة الموغلة في التديُّن فقط من اليهود؛ وهذا الظن غير صحيح؛
بل الصحيح أن معظم ساسة اليهود يعتبرون دولة إسرائيل حجر الأساس في مملكة
الألف الأخيرة، هذا على المستوى الرسمي والدولي؛ ويدل على ذلك أبلغ دلالة أن
الشعار الرسمي لدولة اليهود منذ قامت هو (الشمعدان) ذو الفروع السبعة التي
يتوسطها الفرع السابع المنفرد الذي يرمز لـ (إسرائيل) في ألفيتها السابعة! أي:
إن دولة (إسرائيل) بمعنى آخر هي الدولة التي ستمتد لتتحول إلى المملكة التي
ستحكم العالم من القدس تحت قيادة ملك السلام المنحدر من نسل داود.
وقد استمد اليهود معتقدهم في مجيء ملكهم المنتظر من النص الآتي من
التوراة التي في أيديهم: (ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا أورشليم، هو ذا
ملكك يأتي إليك، وهو عادل ومنصور، وديع وراكب حمار، وعلى جحش ابن
أتان!) [3] .
ويطلقون على هذا الملك: (الماشيِّح) وهو اسم عبري مشتق من (مشح) أي
مُسح بالزيت المقدس، وهم يعتقدون بمقتضى التوراة أيضاً أن ذلك الملك سوف
يجمع بقية اليهود المشتتين في أنحاء العالم بعد أن يهتف له اليهود الذين عادوا
بالفعل إلى القدس.
وهذا الترقب الحالم يفعل فعله في نفوس اليهود كلما تفاعل حدث أو جدَّ جديد
يشعرهم بقرب المجيء. ويذكر مؤلف كتاب (الأصولية اليهودية) : أنه قابل أحد
الحاخامات اليهود وتحادثا عن شأن المسيح المنتظر فقال له الحاخام: (نحن بالتأكيد
على مشارف عهد مجيء المسيح المنتظر، والتوراة تؤكد ذلك؛ ففي الإصحاح
الثلاثين من سفر التثنية نجد هذا النص: (فإن ردَّدت في قلبك بين جميع الأمم
الذين طردك الرب إلهُك إليهم ورجعت إلى الرب إلهِك وسمعت لصوته حسب كل ما
أنا أوصيك به اليوم أنت وبنوك، يرد الرب إلهك سبيلك ويرحمك ويعود فيجمعك
من جميع الشعوب الذين شردك إليهم الرب إلهك) . وهذه العودة للدين هي التي
يتوقع الحاخامات أنها ستتضاعف كلما اقتربت (الأيام الأخيرة) وسوف تكون سبباً
في مزيد من الفوضى في العالم) .
يقول الحاخام (موشى كوفمان) : (إن دولة (إسرائيل) ليست هي التي ستعلن
نهاية العالم، وإنما عودة قطاع عريض من الشباب اليهودي إلى الدين هي التي
ستؤدي إلى ذلك) [4] !
إن تلك الأجيال التي بدأت تأخذ مكانها بل تفرض نفسها في المجتمع اليهودي
هي كتائب من حَمَلَة التوراة ودارسي التلمود الذين يتقربون اليوم إلى الله بتقريب
يوم مجيء المسيح، وكيف لا يفعلون ذلك والتلمود الذي يؤمنون به يقول: (يجب
على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة في الأرض المقدسة لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائياً باقي الأمم يجب لاحظ أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقي ويحقق النصر القريب) ؟ ! ويستحث
التلمود أتباعه على العمل لإخراج المسيح: (اطلبوا المسيح بإخلاص وهو
سيستجيب ويجيء) [5] .
والتلمود الذي يُعَدُّ شريعة شفوية عند اليهود في مقابل الشريعة المكتوبة التي
تمثلها التوراة يعج بالخرافات والأساطير التي تدور حول محور واحد وهو:
(المسيح المنتظر) .
يقول الدكتور جوزيف باركلي بعد دراسته لكتاب التلمود: (إن قضية المسيح
هي أهم قضايا اليهود فيه) [6] ومع ذلك فإن تلك الخرافات والأساطير هي الدين
الذي يدين به اليهود ويتفانون في خدمته في وقت لا يبذل المنتسبون للدين الحق
عُشر معشار ما يبذله اليهود.
خذ مثالاً على تلك الخرافات الدينية المنتظرة، والتي يتوق لها اليهود: يقول
التلمود: (حين يأتي المسيح تطرح الأرض فطيراً وملابس من الصوف وقمحاً حبه
بقدر كلاوي الثيران الكبيرة) (أرض إسرائيل ستنبت الخبز والأقمشة من أجود أنواع
الصوف، وستنبت القمح في لبنان عالياً مثل أشجار النخيل وَسَيَهُبُّ هواء يجعله
دقيقاً فاخراً) [7] !
وقد يتصور البعض أن هذا المعتقد قد نُسي وطمرته القرون منذ أن وُضِعَ
التلمود منذ آلاف السنين؛ ولكن مصادر اليهود المعاصرة تدل على أن ذلك المعتقد
لا يزال حياً، ويأتي على رأس تلك المصادر: (بروتوكولات حكماء صهيون) . فقد
تحدثت أيضاً عن المنتظر الموعود؛ ولكن على طريقتها التخطيطية التدبيرية
المبرمجة، ومما جاء فيها: (إن حكومتنا ستحيل مظهر الثقة الأبوية في شخص
مَلِكنا وستعتده أمتنا ورعايانا فوق الأب الذي يُعنى بسد كل حاجاتهم ويرعى أعمالهم
ويرتب جميع معاملات رعاياه بعضهم مع بعض، وبهذا سينفذ الإحساس بتوقير
الملك بعمق بالغ في الأمة، حتى لن تستطيع أن تقدم غير عنايته وتوجيهه. إنهم لا
يستطيعون أن يعيشوا في سلام إلا به، وسيعرفون في النهاية أنه حاكمهم
الأوتوقراطي المطلق) [8] ، (ويوم يضع ملك إسرائيل على رأسه المقدس التاج
الذي أهدته له كل أوروبا سيصير البطيرك لكل العالم) [9] ، (إن ملك إسرائيل
سيصير البابا الحق للعالم: بطريرك الكنيس الدولي) [10] ، (إن ملكنا سيكون
مختاراً من عند الله، ومُعَيَّناً من أعلى كي يدمر كل الأفكار التي تغري بها الغريزة
لا العقل، إن هذه الأفكار قد دمرت كل النظم الاجتماعية مؤدية بذلك إلى حكم ملك
إسرائيل، ولكن عملها سيكون قد انتهى حين يبدأ ملكنا، وحينئذ يجب علينا أن
نكنسها بعيداً حتى لا يبقى أي قذر في طريق ملكنا، وحينئذ سنكون قادرين على أن
نصرخ في الأمم: صلوا لله واركعوا أمام ذلك الملك الذي يحمل آية التقدير الأزلي
للعالم، والذي يقود الله ذاته نجمه، فلن يكون أحد آخر إلا هو نفسه قادراً على أن
يجعل الإنسانية حرة من كل خطيئة) [11] ، (وفي البروتوكول الرابع والعشرين
وهو الأخير من البروتوكولات المترجمة، يقول المتحدث فيه: (والآن سأعالج
الأسلوب الذي تُفدى به دولة الملك داود حتى تستمر إلى اليوم الآخر) ثم تختم
البروتوكولات حديثها بهذه العبارة:
(إن قطب العالم في شخص الحاكم العالمي الخارج من بذرة إسرائيل ليطرح
كل الأهواء الشخصية من أجل مصلحة شعبه، إن ملكنا يجب أن يكون مثال
الجبروت) . توقيع ممثلي صهيون من الدرجة الثالثة والثلاثين [12] .
والتهيئة لمجيء المسيح ليست مما يتعارض مع (العلمانية) الإسرائيلية التي
تحتفظ بطابع خاص يميزها عن كل العلمانيات، وخاصة العلمانيات العربية؛
فالعلمانيون اليهود كانوا دائماً خدماً لدولة (إسرائيل) الدينية، ولكن احترام
التخصص والكفاءة هو الذي دفع بالشخصيات (العلمانية) إلى مِقْوَد القيادة في عقود
التأسيس الأولى فيما عُرف باتفاق: (الوضع الراهن) [13] ؛ فهي مرحلة ستعود
بعدها القيادة للدينيين بعد أن يستكملوا تأهيلهم ويبنوا كوادرهم.
يقول الفيلسوف الأرثوذكسي اليهودي (آفراهام رافينسكي) من الجامعة العبرية
في القدس: (قبل 1967م كان الصهيونيون العلمانيون هم الذين في السلطة،
وكانت تتكون منهم الطبقة السياسية الحاكمة، وكانوا على رأس الجيش، أما
الأرثوذكس فكانوا حراس الشريعة والتوراة، ولكن الاستيلاء على حائط المبكى
جعل الدينيين هم حَمَلَة العَلَم لصهيونية تضمن استمرارها المستوطنات
الدينية) [14] .
والمتدينون الفعليون [15] هم الذين يأخذون الآن وضع الجاهزية الوجدانية
الروحية لتصديق أي تطور يبشر بقرب المجيء المترقب؛ بل لتصديق أية فكرة
(جريئة) بشأن المسيح، ولو كانت فكرة الادعاء بظهوره بالفعل؛ فمنذ سنوات قليلة
جداً، وبالتحديد في عام 1994م، توفي حاخام يهودي كان قد التف حوله الآلاف
من اليهود بعد أن ادعى أنه هو المسيح المنتظر! !
وملخص قصة هذا الرجل: أن جماعة دينية يهودية تطلق على نفسها اسم
حبد [16] دخلت الانتخابات الإسرائيلية عام 1988م، تأييداً لحركة (أجودات
إسرائيل) الدينية، وقد ارتفع عدد نوابها في البرلمان مما مكنها من تأسيس حزب
جديد هو: (هيجيل هاتوراة) ، ومع انخراطها في السياسة، أخذت حركة (حبد) أو
اللوبافيتس اتجاهاً يبشر بعودة المسيح القريبة، وأعطى حاخام الحركة نفسه الحق
في الاشتراك في كل الحملات الانتخابية الإسرائيلية للتركيز على القضية الأساسية
وهي قرب مجيء المسيح وضرورة تجهيز الأرض اليهودية لاستقباله.
وحيث أعلنت تلك الحركة عن قرب مجيء المسيح فقد أصبح أتباعها ينظرون
إلى أنفسهم أنهم جنود جيش المسيح المنتظر في جميع أنحاء العالم، وأعلنوا أنهم
سيركزون جهودهم للإسراع بمجيء المسيح مخلِّص الإنسانية، وانطلق شباب منهم
لابسين السواد للانتشار بدعوتهم في نيويورك، ولندن، وباريس، وكذلك في مدريد
وجنيف، ويركزون خلال ذلك على غزو أحياء اليهود لدفعهم بقوة للعودة للدين
والتوبة التي ستسرِّع لحظة الرؤية السامية للجميع! ووسط أجواء محمومة بالتبشير
بالعودة إذا بشيطان إنسي منهم يظهر فيهم، ويطرح نفسه على أنه المسيح! إنه
الحاخام (مناحيم شنيرسون) ذلك الرجل المبهم الذي استطاع أن يسترعي أنظار
العميان، ويستجلب رضا المغضوب عليهم بثقافته التوراتية العميقة، وعبقريته
العلمية المتنوعة، ومنطقه المقنع، وحماسه المبهر، ومهارته في فك الألغاز
والأحاجي بين سطور الأساطير، إضافة إلى مركزه العلمي الأكاديمي المشيد فوق
هرم من شهادات الدكتوراه، مما صنع منه في نظر آلاف الأتباع (الرجل
الأسطورة) .
وبدأ رعاع اليهود ينسجون حول الرجل أقاصيص الكرامات وأساطير
المعجزات مما جعل مقره في مدينة بروكلين قبلة يؤمها المريدون اليهود من كل
أنحاء العالم! ومع بداية التسعينات كثر أتباعه المصدقون بأنه هو المسيح، ولم يشأ
الخبيث أن ينفي عن نفسه هذه الصفة؛ بل شجع من ينظرون إليه هذه النظرة، بل
حاول تأكيدها بنسبته إلى الجيل السابع (المقدس) من مؤسس حركة (حبد) والجيل
السابع مفضل دائماً عند اليهود، واستغل صفة أخرى وُجدت فيه ليزيد أتباعه فتنة،
وهي دعواه أنه من نسل داود!
ولكن الرجل الذي دعا نفسه ودعاه أتباعه بـ (المخلِّص) قد خلُص إليه الموت
قبل أن يخلِّص أحداً مما أذهل أتباعه المهووسين به، ودفع بعضهم إلى الاعتقاد أنه
هو المسيح القادر على أن يعود مرة أخرى ليظهر أمام العالم بملابسه البيضاء؛
ليكون ذلك أدعى للتصديق به! [17] .
إن العبرة المستمدة من هذه الأهزولة اليهودية الحادثة منذ سنوات قليلة هي أن
أتباع المسيح اليهودي المنتظر موجودون الآن قبل أن يخرج إليهم وهم على أتم
الاستعداد لتجييش الآلاف بل الملايين حوله إذا ما صرخ فيهم الشيطان بأنه قد خرج!
إن الجماعات الدينية التي تمتلئ بها الساحة الإسرائيلية اليوم [18] ، والتي
تحرص كل الحكومات على استرضائها وشراء أصواتها ليست فيما بينها على وفاق
أو اتفاق في مجمل قضايا الاهتمام الديني، ومن ضمنها مسألة انتظار
المسيح؛ فالأمر بينهم كما قال الله سبحانه: [تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى]
[الحشر: 14] ؛ فهم يختلفون في ترتيب العلامات التي ستسبق مجيء المسيح، ويختلفون في موعد عودته وفي مدة لبثه، ولكن الشيء المتفق عليه من الجميع هو تجاوز تلك الخلافات والقفز فوقها إلى صيغة موحدة تضمن الحد الأدنى من الوحدة في العمل لتهيئة الشعب اليهودي لمجيء المسيح [19] ، وليكن بعد ذلك ما يكون.
يقول إيمانويل هيمان: (كل التيارات الأرثوذكسية المختلفة، تتبع طريقا
سيؤدي بها في المستقبل إلى أرضية مشتركة، ألا وهي: اقتناعها جميعاًِ بقرب
مجيء المسيح المنتظر، فإذا كان المُخَلِّص على وشك الظهور؛ فإن كل التناقضات
الظاهرية تكون مُبَرَّرَةً؛ لأنها تهيئ العالم والأرض المقدسة لاستقبال مبعوث
الله) [20] .
القوى السرية ومساعي التهيئة:
إذا كانت تهيئة العالم لمجيء المسيح قضية محورية لدى الجماعات الدينية
العاملة في العلن داخل الأرض المقدسة فإن القوى اليهودية السرية التي تعتبر العالم
كله ساحة لنشاطاتها كانت تعمل بدأب ولا تزال للغاية نفسها؛ ولكن على طريقتها
هي: طريقة المؤامرات، والثورات، والمخططات الطويلة والقصيرة والمتوسطة
المدى، وقد مر ذكر بعض نصوص البروتوكولات الصريحة في ذلك؛ فطوال
القرن المنصرم وربما قبله لم تكف تلك القوى عن اختراقاتها للمعسكرات الدولية
والتغلغل فيها شرقاً وغرباً بغرض فرض السيطرة اليهودية على الاقتصاد العالمي
والإعلام العالمي والسياسة العالمية والمؤسسات الدولية، ويكابر الحقيقة ويعاندها من
ينكر النجاح الكبير الذي أحرزه اليهود في ذلك.
يقول (وليام كار) في مؤلفه الشهير: (أحجار على رقعة الشطرنج) : (إن
اليهود اختاروا فلسطين لتكون المركز الجغرافي المناسب لخطتهم العامة في السيطرة
على العالم وتنصيب أميرهم أمير السلام ملكاً على العالم) ويقول: (إن هذه القوى
تستعمل الأموال الكثيرة التي في حوزتها لشراء المراكز الحساسة بهدف خلق
النزاعات بين الأمم من أجل الوصول إلى خطتهم بعيدة المدى والتي تهدف إلى
الإعداد لمجيء مسيح اليهود) [21] هذا في العقود الماضية من القرن المنصرم،
أما في القرن الحادي والعشرين، فإن الهدف هو (إنجاز) المزيد من النبوءات
وتحقيق المزيد من الأساطير، ما دامت الساحة خالية. يقول إيمانويل هيمان: (إن
الهدف الكبير ليهودية القرن الواحد والعشرين سيكون محاولة اختراع المستقبل مع
استمرار الإخلاص للماضي) [22] .
هذا عن الهدف الكبير لليهود، فماذا عن الهدف الكبير للنصارى، وما
المستقبل الذي يُعِدُّون له؟ !
النصارى والمسيح المنتظر!
إذا كان عهد اليهود بانتظار مسيحهم قد طال بطول زمن التوراة، فإن انتظار
النصارى لمسيحهم ظل مستمراً منذ زمن الإنجيل.
يقول وول ديورانت في كتابه المشهور: (قصة الحضارة) : (كان ثمة عقيدة
مشتركة وحدت الجماعات المسيحية المنتشرة في أنحاء العالم، وهي: أن المسيح
ابن الله، وأنه سيعود لإقامة مملكته على الأرض وأن كل من يؤمن به سينال النعيم
المقيم في الدار الآخرة) [23] .
والجماعات النصرانية التي وحدت بينها تلك العقيدة كما قال ديورانت لم تكتف
بالاعتقاد، بل لم تقف عند حد الانتظار، وإنما تفاعلت مع ذلك المعتقد مُحاوِلةً
تحقيق علاماته واستدعاء مقدماته؛ فالطوائف الرئيسة من أصحاب تلك الديانة وهم
الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت جميعهم يؤمنون بعودة المسيح ثانية، ويتوقع
الكثيرون منهم منذ قرن كامل مجيئه على رأس الألفية التي نحن مقدمون عليها، بعد
أن خابت آمالهم في مجيئه على رأس الألفية الأولى.
ولقد تواطأت التوراة والإنجيل معاً ليكوِّنا عند النصارى خاصة البروتستانت
عقيدة لا تتزحزح عن عودة المسيح ابن مريم إلى الأرض في آخر الزمان، وعلى
رأس ألفية، وزاد النصارى على ذلك في معتقدهم أن اليهود الذين سيكونون قد
تجمعوا في القدس قبل عودة عيسى عليه السلام سيتنصَّرون فور عودته. تقول
الكاتبة الأمريكية (لي أوبرين) : (إن المذاهب اللاهوتية لكثرة من البروتستانت
تصف إنشاء دولة إسرائيل بأنه تحقيق لنبوءة توراتية، وهي تذهب أيضاً إلى أن
تجمع اليهود هو مجرد تمهيد لتنصيرهم قبل المجيء الثاني للمسيح) [24] .
وعندما انعقد المجمع العالمي للكنائس النصرانية في (أفناتون) عام 1954م،
قدمت له اللجنة المختصة ببحث علاقة اليهود بالكنيسة تقريراً جاء فيه: (إن
الرجاء المسيحي بالمجيء الثاني للمسيح لا يمكن بحثه عبر فصله عن رجاء شعب
إسرائيل الذي لا نراه بوضوح فقط في كتاب العهد القديم؛ بل فيما نراه من عون
إلهي دائم لهذا الشعب، ولا نرتاح قبل أن يقبل شعب الله المختار المسيح بصفة ملك)
وأصدر الأساقفة المجتمعون في ذلك المؤتمر البيان الآتي: (إننا نؤمن أن الله اختار إسرائيل الشعب المختار لكي يتابع الخلاص للبشرية، ومهما كان موقفنا فلا نتمكن من نكران أننا أغصان قد تطعمت على الشجرة القديمة (إسرائيل) ؛ ولذلك فإن شعب العهد الجديد لا يمكن أن ينفصل عن شعب العهد القديم.. إن انتظارنا لمجيء المسيح الثاني يعني أملنا القريب في اعتناق الشعب اليهودي للمسيحية، وفي محبتنا الكاملة لهذا الشعب المختار) [25] .
ماذا تخفي هذه المحبة؟ !
يعجب الإنسان عندما يكتشف أن تلك المشاعر الدينية الحميمة من النصارى
تجاه اليهود، هي مشاعر في حقيقتها مزيفة أو مصلحية على أقل تقدير فيبدو أن
نصارى الغرب قد درجوا على تقديم المصلحة في كل شيء حتى في الدين؛ فاليهود
عندهم هم القنطرة التي سيعبرون فوقها نحو أمجاد الأيام الأخيرة، فلن يأتي المسيح
ولن يقيم مملكة الرب (النصرانية) إلا بعد أن يُعاد اليهود إلى فلسطين ويسكنوا
القدس ويبنوا الهيكل. ثم ماذا.. ثم يخرج مسيحهم المنتظر (أي مسيح اليهود)
ليعيث في الأرض فساداً ويملأها كفراً وإجراماً، ثم يأتي عيسى عليه السلام ليذبحه
ويقتل ثلثي اليهود ويبقى ثلث يتوجب تنصيرهم! !
فهل يؤمن النصارى بمسيح آخر سيأتي في وقت مجيء المسيح ابن مريم؟
نعم! إنهم يؤمنون بذلك.. ويسمون ذلك المسيح (Anti - chrest) أي ضد
المسيح، أو (المسيح الدجال) ! !
النصارى والمسيح الدجال:
يعتقد النصارى خاصة البروتستانت أن هناك عدواً كافراً طاغياً قاسياً سيخرج
قبيل عودة عيسى عليه السلام، وأنه سوف يكون من اليهود؛ فأمه أمرأة يهودية
وستلتهم جيوشه العالم بعد أن يخرج من شمال إسرائيل، أو بالتحديد من سوريا من
قبيلة (دان) . ويؤمنون أيضاً أنه سيبدأ بدعوى الصلاح وينتحل شخصية المسيح
المخلِّص، ثم لا يلبث أن يتحول إلى دعوى الربوبية التي سيتبعه عليها أكثر الناس
نظراً للخوارق التي ستُجرى على يديه، والتي سيقلد بها أفعال الإله في الإحياء
والإماتة وإنزال المطر وإنبات الزرع.. إلخ، ويؤمنون أيضاً، بأنه سيعتلي منبر
الهيكل بعد إعادة بنائه، وسيهدم مقر البابوية في روما، وسيضطهد (المؤمنين)
ويضيق عليهم حتى يبلغ البؤس مداه، وعند ذلك يتدخل الإله، وينزل المسيح ابن
مريم لينقذ بقايا المؤمنين بعد أن يقتل المسيح الدجال، ويقاتل أتباعه من اليهود وقوم
(يأجوج ومأجوج) ، ويتفرغ بعد ذلك لإقامة مملكة الرب التي سيسودها السلام.
فاليهود على هذا شر لا بد منه، والدجال قدر لا بد من مواجهته، وهذا
الدجال الذي تؤمن النصارى بحتمية خروجه، قد وردت بشأنه الأخبار في
مصادرهم؛ ففي الإنجيل - في رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي - هذا النص: ... (لا يخدعنكم أحد على طريقة ما؛ لأنه لا بد أن يسبق الارتداد أولاً، ويظهر إنسان
الخطيئة ابن الهلاك؛ حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله) [26]
والنص هنا يذكر الارتداد، فلا بد إذن أن تكون ردة، ولكن ردة مَنْ؟ وعن ماذا؟ !
إن النصارى أنفسهم يتقاذفون اليوم التهم بهذه الردة التي يقول الإنجيل إنها لا
بد أن تسبق أولاً، ولهذا فهم يتبادلون التكفير بين طوائفهم بحيث إن كل طائفة تتهم
الأخرى بأنها ستكون من أنصار الـ (إنتي كريست) أو الدجال عدو المسيح؛
فالنصارى الشرقيون العرب مثلاً وأكثرهم من الأرثوذكس يعتقدون أن طوائف
الكاثوليك الغربيين هم نصارى بالاسم فقط، وأنهم سيكونون مع الدجال ومع أعداء
المسيح. يقول القس (هنري ايرنسايد) في تفسيره لسفر دانيال: (مما لا شك فيه
أن المسيحية المرتدة سيعاد توحيدها، ولكن هذا الاتحاد سيكون خالياً من تعاليم
المسيح، ستتحد جميع الأنظمة المرتدة [27] ، ستستعيد الكنيسة البابوية نفوذها
وسلطانها، وستشكل جميع كنائسها هيئة عظيمة واحدة تضم جميع أجزاء
النصرانية.. هذه الكنائس ستكون مستمدة قوتها من البابوية، وستكون خادمة للوحش أي المسيح الدجال) .
والغريب أن البروتستانت ينظرون أيضاً إلى كاثوليك أوروبا هذه النظرة، فهم
يؤمنون أن (الوحش) الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا يعني أنه سيكون هناك اتحاد
قوي من عشر دول أوروبية سوف تنهض في الأيام الأخيرة، وأن قيام المجموعة
الأوروبية المكونة من عشر دول هي تحقيق لهذه النبوءة، وهذا في نظرهم دليل
على أننا نعيش فعلاً الأيام الأخيرة؛ لأن هذه القوى الأوروبية العشرة قائمة الآن
وستكون معادية للمسيح؛ لأنها ستكون مرتدة عن المسيحية التي بشر بها! ! [28] .
ومع اتهام طوائف النصارى بعضهم بعضاً بأنهم أتباع الدجال عندما يخرج
فإنهم يُجمعون على أن اليهود هم طليعة أنصاره، ورأس حربته، وهم الذين
سيقودون معسكر أعداء المسيح.
يقول مفسر سفر دانيال: (سينصِّب المسيح الدجال نفسه الإله الوحيد الجدير
بالعبادة، وله سيبدي المسيحيون المرتدون ولاءًا مطلقاً، وسينتحل لنفسه أمام اليهود
صفة مسيحهم الموعود به منذ عهد بعيد على ألسنة الأنبياء، ويقبل اليهود ادعاءاته
ويقولون: هذا هو حقاً المسيح الذي طالما انتظرناه، وهذا هو الذي يتكلم كتابنا
المقدس عنه) [29] .
إن المرء ليعجب أن يكون هذا حديث نصارى عن نصارى، أو حديث
نصارى عن يهود، ولكن العجب يزول عندما نتذكر قول الله - تعالى-: [ومن
الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة
والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون] [المائدة: 14] ،
وقال - تعالى -: [وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى
ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب] [ {البقرة: 113} ] .
إن من حقنا أن نعجب، ومن حقنا أن نتساءل: إذا كانت كل طائفة تدعي أن
المخلِّص منها وأنهم أتباعه وأنصاره، وتدعي في مبغضيها أنهم أتباع الدجال
وأنصاره، فمن إذن هم الأتباع الحقيقيون للدجال الذي يتبرأ منه الجميع الآن، فإذا
جاء كانوا أول المسارعين لنصرته والإيمان به؟ !
لمن سيخرج الدجال؟
نحن لا نشك أن اليهود بمجموعهم سيكونون طليعة أنصار الدجال؛ فهو منهم
وإليهم، وخاصة يهود الشرق الذين سيخرج فيهم [30] .
أما النصارى، فعلى رغم أنهم يزعمون أنهم سيكونون في جيوش المسيح
الحق ضد المسيح الدجال؛ فالله يعلم أنهم بجميع طوائفهم هم الذين هيؤوا أنفسهم
بأنفسهم لكي يكونوا أول المصدقين بِدَعِيٍّ من البشر يدَّعي الألوهية. أليسوا هم
الذين اعتنقوا عقيدة (المسيح الإله القادر على كل شيء) ؟ ! والمسيح الدجال سيقول: أنا المسيح الإله القادر على كل شيء!
فما الذي سيكون مستغرباً في دعوة الدجال على مسامع النصارى الذين لا
يستهجنون ولا يستبعدون أن يتجسد الإله في صورة إنسان! وخاصة أنه يمنعهم
ومعهم اليهود من مشاركته في فرض السيطرة النهائية على العالم باعتبارهم أتباعه.
إن النصارى اليوم على اختلاف طوائفهم يشكلون ما يقرب من ثلث سكان
العالم، ويعلم الله كم سيبلغون إذا خرج فيهم من يهيئون الدنيا لمقدمه ظناً منهم أنهم
يهيئونها للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام، إن هؤلاء مع مسيحيتهم كفار بنبوءة
عيسى وعبوديته، ولهذا سيسارعون بتصديق من يقول إنه هو المسيح الإله!
ولهذا فإن الله تعالى سوف يزيل هذه الغمة بإنزال عيسى نفسه، لإقامة الحجة
على الناس وعندها سيسقط في أيدي من ضلوا وأضلوا كثيراً من البشر عبر القرون
مدعين أنه إله أو ابن إله، وسيدفعون دفعاً إلى الإيمان بأن عيسى نبي الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه، ليس بإله ولا ابن إله، إنما هو كما قال الله عنه: ... [إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل] [الزخرف: 59] ، وعند
نزوله سيرون ذلك رأي العين، ويسمعون منه كلامه الفصل كما قال سبحانه: ... [وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا]
[النساء: 159] .
أما بقية القطعان البشرية الوثنية من ملايين البوذيين والهندوس والملحدين
واللادينيين ونحوهم، فإنه لا حجاب بينهم وبين الإيمان بالدجال إذا خرج وقال لهم: إني أنا الإله؛ فهؤلاء وهؤلاء لن تزيدهم عقائدهم الوثنية التي تؤله الأحجار
والأشجار والأنهار والأبقار إلا فتنة بالبشر المخلوق للفتنة إذا جاء وقال لهم: إني
أنا الإله، وشرع يجذب أبصارهم بالخوارق، وأسماعهم بالشبهات، وبطونهم
وفروجهم بالشهوات!
نحن نؤمن أيضاً أن المسيح ابن مريم سيعود، ونؤمن معهم أن الدجال
سيخرج [31] ، ولكن شتان بين إيمان وإيمان [32] وبين عودة وعودة؛ فإيماننا:
أن عودة عيسى عليه السلام هي القدر الإلهي الحكيم الذي سيضع النهاية للاختلاف
الذي عم الأمم حوله، ولا يمكن أن ينتهي ذلك الاختلاف في شأنه إلا بعودته. يقول
ابن كثير رحمه الله: (إن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض، ويؤمن به أهل
الكتاب الذين اختلفوا فيه اختلافاً بيناً، فمن مدعٍ إلهيته كالنصارى، ومن قال فيه
قولاً عظيماً أنه ولد ريبة وهم اليهود، فإذا أنزل قبل يوم القيامة تحقق كل من
الفريقين كذب نفسه فيما يدعيه من الافتراء) [33] .
أما الدجال، فلا نشك في خروجه، وإن كنا لا نعلم موعده، ولكن مقصودنا
هنا التنبيه على أن اليهود والنصارى يستعدون لخروجه، ومع ذلك فهو مسيح
الضلالة الذي تُعَاقَبُ به أمَّتا الضلالة الذين تكبروا عن الإيمان بمحمد سيد الرسل
عليه صلوات الله وسلامه وفضلوا أن يبقوا على ديانات منسوخة لم تلبث أن تحولت
إلى ديانات ممسوخة بالافتراء على الله والكذب على أنبياء الله، يقول ابن تيمية
رحمه الله: (اليهود يتأولون البشارة بالمسيح على أنه ليس هو عيسى بن مريم،
بل هو آخر ينتظرونه، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال؛ فإنه الذي
يتبعه اليهود ويخرج معه سبعون ألف مطيلس [34] من يهود أصبهان) [35] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: (فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء
من عند الله بالهدى ودين الحق الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم
العذراء البتول، والنصارى إنما يؤمنون بمسيح دعا إلى عبادة نفسه وأمه، وأنه
ثالث ثلاثة، وأنه الله أو ابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان له
وجود [36] فإن المسيح الكذاب (الذي ينتظره النصارى) يزعم أنه الله، والنصارى في الحقيقة أتباع هذا المسيح، كما أن اليهود إنما ينتظرون خروج مسيح، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به، فعوضهم الشيطان من الإيمان به بعد مجيئه انتظاراً للمسيح الدجال.. وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل) [37] .
الانتظار الانتظار إذن.. هو الموقف الراهن، ومع ازدياد الهوس الألفي
باقتراب المسيح المخلِّص، تتكثف الدعوات من خلال نشرات دورية تنقل عبر
شبكات الإنترنت، فتبث الأحاديث المثيرة عن أحداث آخر الزمان.
ومن أغرب المواقع المصابة بـ (الفيروس الألفي) موقع بعنوان: (كاميرا
المسيح) وهو موقع مسلط من خلال كاميرا فيديو تبث صورة حية على مدار الساعة
على البوابة الشرقية في القدس القديمة (الباب الذهبي) حيث يؤمن الإنجيليون بأنها
ستكون موقع ظهور المسيح عند عودته الثانية إلى الأرض، وقد وضعت تلك
الكاميرا إحدى الجمعيات الدينية البريطانية وأخفوها في مكان سري قريب من
البوابة، والغريب أن الجمعية وضعت الكاميرا بإذن خاص من بلدية القدس،
وباتفاق مع اللجنة المسؤولة عن احتفالات بيت لحم 2000! إن وضع الكاميرا الآن، يدل حسب قول المشرفة على مشروع الكاميرا (كريستين دارج) أن المسيح قد
اقتربت عودته، سواء هذا العام، أو الذي بعده) ! ! (الشرق الأوسط -6-1999م) .
إن اليهود والنصارى يتعجلون اليوم أَمْر الساعة أكثر من أي يوم مضى، ولا
ندري ما هي الخطط المخبأة وراء تلك العجلة، ولا ندري أيضاً الأقدار وراء تلك
الخطط. إن أهل الإيمان الحق ليسوا على عجلة من أمرهم في شيء؛ وهم يعلمون
أن الله لا يعجل بعجلة الناس، ويعلمون أن أمر الساعة شيء عظيم، ولهذا فهم لا
يتعجلونها ولا يتعجلون أماراتها؛ لأنهم يخشون الابتلاء والفتنة ولا يعرف أحدهم
هل ينجو في أيام (الفتن والملاحم) فيكون من المهتدين، أم يسقط في الفتنة إذا
اشرأبت له فيكون من الهالكين؟ وما نحن وأهل الكتاب والساعة إلا كما قال الله عز
وجل: [يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها
الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد] [الشورى: 18] .
فاللهم اهدنا إلى سواء الصراط ونجنا من سبل الهلاك.
[اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين] [الفاتحة: 6 - 7] .
__________
(1) قال ريجان هذه العبارة في لقاء خاص دعا إليه كلا من: جيمي بيكر، والقس جيمي سواجارت، وجيري فالويل، والقس مايك إيفنز اليهودي المتنصر والصديق الحميم لجورج بوش، والذي كان لا يبتعد عنه في لحظات التحدي وكان هذا اللقاء بالبيت الأبيض عام 1985م انظر: النبوءة والسياسة ص 194.
(2) كتاب (الأصولية اليهودية) تأليف إيمانويل هيمان، ص91، الهيئة العامة المصرية.
(3) سفر زكريا، 1/9.
(4) الأصولية اليهودية، ص 112.
(5) نقلا عن الخلفية التوراتية للمؤلف الأمريكي، ص 89.
(6) التلمود تاريخه وتعاليمه، لظفر الدين خان، ص 58.
(7) التلمود تاريخه وتعاليمه، ص 60.
(8) البرتوكول الخامس عشر، ص 163.
(9) المصدر نفسه ص 163.
(10) البرتوكول الثالث والعشرون، ص 188.
(11) البروتوكول الرابع والعشرون، ص 187.
(12) البروتوكول الرابع والعشرون، ص 188.
(13) اتفاق الوضع الراهن هن: اتفاق أبرم عام 1947م يضع حدودا فاصلة بني الأدوار المعطاة للعلمانيين والأدوار والصلاحيات والامتيازات المعطاة للدينيين بحيث يمنع هذا الاتفاق التداخل في الاختصاصات بين الفريقين.
(14) الأصولية اليهودية، ص 134.
(15) نسبة المتدينين من مجموع عدد السكان تبلغ الربع، وإذا أضيفت إليها نسبة التقليديين المستعدين للتدين فإنها تصل إلى 58%.
(16) هو اسم متخذ من الحروف الأولى لكلمات (الحكمة والذكاء والمعرفة) باللغة العبرية ويطلق عليها أيضا جماعة (اللوبافتش) نسبة إلى مدينة صغيرة في روسيا البيضاء نشأت فيها الحركة.
(17) راجع فصل (دبابات الإيمان) من كتاب الأصولية اليهودية.
(18) 120 جماعة.
(19) هناك جماعة تتصدى لذلك العمل اسمها: (جمعية العمل من أجل مجيء المسيح) .
(20) الأصولية اليهودية، ص 225.
(21) أحجار على رقعة الشطرنج، تأليف (وليام كار) ص 332، دار النفائس.
(22) الأصولية اليهودية، ص 224.
(23) قصة الحضارة، تأليف وول ديورانت، ج3، ص290.
(24) المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل، تأليف لي أوبرين، ص 286.
(25) مجلة الأمل، العدد 104، 1982م.
(26) رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي (الإصحاح الثاني /3) .
(27) تفسير سفر دانيال، ص 61.
(28) انظر النبوءة والسياسة، ص 43.
(29) تفسير سفر دانيال، ص 134.
(30) من الغريب أن يهود إيران لم يهاجروا حتى الآن إلى (إسرائيل) فهل يعتبرون أنفسهم رصيدا مدخرا ليوم المجيء؟ .
(31) والأحاديث بذلك متواترة كما أخبر بذلك أهل الشأن.
(32) لعل الله تعالى ييسر في سلسلة أخرى معالجة بعض الموضوعات التي ذكرت في هذه الحلقات من وجهة شرعية إسلامية علمية، بعد أن كثر اللغط واختلطت الأمور على كثير من الناس في معرفة الحقيقة بين ما يقوله أهل الكتاب وما يذكر في مصادرنا الإسلامية والمؤلفات المعاصرة التي تدور حولها.
(33) البداية والنهاية لابن كثير.
(34) الطيلسان هو رداء الصلاة عند اليهود ويطلق عليه العبرية (طاليت) وهو يشبه في رسمه وألوانه العلم الإسرائيلي اليوم.
(35) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ج1، ص177.
(36) أي لو كان لمسيح النصارى بهذا الوصف وجود.
(37) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية، ص 65.(141/104)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
الأحقاد الهندية في كشمير
قال الدكتور يونس النجرامي عميد كلية اللغة العربية بالهند: إن العمليات
الوحشية للجيش الهندي في ولاية جامو وكشمير المسلمة من يناير 1990م، حتى
نهاية 1998م، أدت إلى استشهاد (59170) من مسلمي كشمير، رجالاً ونساءاً
وأطفالاً، وعدد الشهداء من القادة السياسيين (315) ، ومن العلماء والمشايخ (335) ، والجرحى من الرجال والنساء والأطفال (75020) ، والمسجونون من الشباب
المسلم في السجون الهندية (5000) ، والمسجونون رجالاً ونساء في ولاية جامو
وكشمير (70600) ، وعدد المسلمين الذين أُحرقوا أحياء في بيوتهم (620) ،
والمهاجرون الذين هاجروا من كشمير المحتلة، والمصابون على الحدود (37000) ، والنساء المسلمات اللاتي انتهكت أعراضهن (4014) ، والنساء اللاتي وُجدت
جثثهن في نهر جهلم (1417) والمصاحف والكتب الدينية التي أحرقت (28500) ،
والمسلمات الشابات اللاتي استشهدن بسبب هتك أعراضهن (407) ، والمساجد التي
دمرت أو أحرقت (81) ، والبيوت والدكاكين والمستشفيات والمدارس التي أحرقت
(30039) ، والأنعام التي أحرقت حية (2642) ، والقوارب السكنية في بحيرة
(دل) في سرينجار التي أحرقت (553) .
[مجلة الإصلاح، العدد: (410) ]
أخوة الدين
قال ثلاثة من أعضاء الكونجرس الأمريكي أثناء زيارة لمناطق يسيطر عليها
المتمردون في جنوب السودان إنهم سيبذلون جهودهم من أجل الحصول على
مساعدة مالية لـ (الجيش الشعبي لتحرير السودان) بقيادة العقيد جون قرنق،
وأوضح رئيس الوفد السناتور الجمهوري (سام براونباك) في ختام زيارة للمنطقة
التي يسيطر عليها (الجيش الشعبي) استمرت يومين: (يجب حمل الخرطوم على
وقف قصف الأهداف المدنية) .
واتهم أعضاء الكونجرس الخرطوم بـ (ممارسة إرهاب الدولة) في الخارج
وارتكاب فظائع ضد السكان في الجنوب، وقال براونباك: (لا أرى سبباً للخجل
إزاء الحكومة السودانية، إنها نظام إرهابي، وهذا أسوأ وضع إنساني في العالم) ،
وقال الأعضاء الثلاثة: إن الولايات المتحدة لها مصالح استراتيجية مهمة في
السودان أكثر مما لها في كوسوفو، وإن الأزمة الإنسانية تتطلب دعماً نشطاً لـ
(الجيش الشعبي) وحلفائه في (التجمع الوطني الديموقراطي المعارض) .
[جريدة الحياة، العدد: (13240) ]
مسلمات للبيع! !
أكدت سليمة ساروار، رئيسة جمعية تنمية المجتمع في بنجلاديش، أن
الفتيات اللواتي يسافرن إلى الهند من أجل العمل وإعالة عائلاتهن الفقيرة، غالباً ما
يخدعن ويتم الإيقاع بهن وبيعهن للدعارة أو الاسترقاق، وقد أشارت التقارير الأمنية
أن عملاء تجار الجنس الهنود يشترون الفتاة البنجلاديشية بمبلغ 185 دولاراً
أمريكياً فقط، أو أقل، وأن الأسباب التي تدفع البنجلاديشيات للتدفق على الهند
تكمن في الظروف الاقتصادية السيئة، والفقر الشديد، وتعدد الزوجات والطلاق،
وتعذيب الزوجات للحصول على المهر، وسوء المعاملة في المنزل.
[مجلة الجديدة، العدد: (677) ]
المحنة المنسية
أكدت سليمة ساروار، رئيسة جمعية تنمية المجتمع في بنجلاديش، أن
الفتيات اللواتي يسافرن إلى الهند من أجل العمل وإعالة عائلاتهن الفقيرة، غالباً ما
يخدعن ويتم الإيقاع بهن وبيعهن للدعارة أو الاسترقاق، وقد أشارت التقارير الأمنية
أن عملاء تجار الجنس الهنود يشترون الفتاة البنجلاديشية بمبلغ 185 دولاراً
أمريكياً فقط، أو أقل، وأن الأسباب التي تدفع البنجلاديشيات للتدفق على الهند
تكمن في الظروف الاقتصادية السيئة، والفقر الشديد، وتعدد الزوجات والطلاق،
وتعذيب الزوجات للحصول على المهر، وسوء المعاملة في المنزل.
[مجلة الجديدة، العدد: (677) ]
ومن يعتني بالفقراء..؟ !
1 - ينشغل المجلس الأوروبي الذي اشتهر بدفاعه عن حقوق الإنسان هذه
الأيام بحقوق الإوز. فقد طالب المجلس المزارعين الأوروبيين بتوفير أقفاص
واسعة للإوز تسمح لها بأن تحرك أجنحتها بحرية في الهواء حتى تكون (على
طبيعتها) .
وتستهدف الأحكام الأوروبية الجديدة بشكل خاص الإوز الذي يكدسه مربوه في
أقفاص ضيقة لتغذيته مع منع حركته بغرض تسمينه واستخدام أكباده في صناعة
معجون الكبد المربح.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7513) ]
2 - (سافر وتمتع بإجازتك ولا تشغل فكرك؛ فإننا سوف نعتني بكلبك أثناء
غيابك على أيدي أخصائيين ذوي خبرة) هذه صيغة الإعلان الذي وزعه منتجع
خاص بالكلاب في دبي يستقبل نزلاءه مقابل 50 درهماً (نحو 13 دولاراً أمريكياً)
لليلة الواحدة ويقدم القائمون عليه خدمة تسلُّم الكلاب من أصحابها قبل السفر
وإعادتها إليهم بعد انتهاء إجازاتهم.
ويقدم المنتجع، الذي يسمى: (بت لاند) أو (أرض الحيوانات الأليفة)
خدماته للحيوانات المنزلية الأليفة الأخرى مثل القطط والطيور والزواحف
والحيوانات الفرائية، كما يقدم استشارات خاصة لحل مشاكلها في المنازل أيضاً.
وتشتمل التسهيلات المتوفرة في المنتجع على مناطق مكيفة الهواء وإشراف
بيطري على مدار الساعة ووجبات طعام محضرة حسب رغبة النزلاء (بناء على
طلب أصحابها) ، وتستخدم في المنتجع المياه المعدنية المعبأة في زجاجات ويتضمن
حمامات لتنظيف الكلاب ومعالجتها ضد الحشرات والطفيليات ومراوح شفط لتجديد
هواء الحجرات، بل تتمتع الحيوانات التي تحل في المنتجع بمشاهدة التلفزيون
والألعاب كي لا تشعر بالضجر والوحدة جراء غياب أصحابها عنها!
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7526) ](141/116)
في دائرة الضوء
التدين في المجتمع الأمريكي
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني
والتدين في أمريكا قديم، صَاحَبَ الدولة منذ نشأتها؛ فكثير من المهاجرين
القدماء جاؤوا بعقائدهم معهم، وحاولوا المحافظة عليها وزراعتها في العالم الجديد.
يقول (ريتشارد لينجمن) : (كان جميع الراكبين على ظهر السفينة (مي فلاور) حين
وصول المهاجرين إلى بلايموث في 1620م قد وقَّعوا ميثاقاً اتفقوا فيه على طاعة
قوانين المجتمع والطقوس الدينية) (لينجمن، 1989، 96) . ويقول في مكان
آخر: (كان هناك العديد من المناقشات الدينية العنيفة، وكان لدى المتزمتين احترام عميق للكلمة الحرفية في الإنجيل، وكان الوعاظ يلقون خطباً دينية تستغرق ساعات، وكان هناك دائماً أقلية متأهبة تجلس على مقاعد القضاء القاسية متحمسة للنقد والتعليق، وقد كانت تندلع الخلافات الدينية بتكرار؛ مما أدى إلى انقسام المجتمع إلى مجموعات متعارضة، ويمكن للنزاع أن يتشكل احتجاجاً على تفسيرات الكاهن للكتاب المقدس) (المصدر السابق: 98) .
واعتقد كثير من الأمريكيين لمدة قرن بعد إعلان الدستور أنهم يعيشون في
دولة نصرانية، ولمزيد من التحديد: في دولة بروتستانتية (Sarna 3711992) . ومن جهة أخرى وافقت المحكمة العليا (The Spreme Cort) في عام 1892 م على أن أمريكا أمة نصرانية، والقاضي الذي كتب ذلك القرار ديفيد برور، D.
Breer وهو ابن لأحد دعاة النصرانية، دافع عن وجهة نظره في محاضرة
منشورة عنوانها: (الولايات المتحدة أمة نصرانية) 1905م، ولقد عارض اليهود
هذه الفكرة وحاربوها بشدة؛ ولكن نجاحهم كان محدوداً (Ibid 372) .
أما المفهوم التقريبي الذي يرى أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية) والذي يشير
إلى القيم والمعتقدات المشتركة بين اليهود والنصارى فلم يتشكل إلا في القرن
العشرين، ويرى (مارك سلك، (M. Silk أن استعمال هذا المفهوم بدأ في
الثلاثينات من هذا القرن، ويرى أنه استعمل لمحاربة الفاشية؛ فالفاشيون كانوا
يعتبرون أنفسهم نصارى، ولهذا استخدم الفريق المعادي مصطلح (يهودي نصراني)
ليفرقوا بين أنفسهم وبين الفاشيين. وبمرور الزمن أصبح هذا المفهوم يعكس القيم
الغربية المشتركة، (Silk 1988) .
وفي عام 1920م اجتمع قادة البروتستانت والكاثوليك واليهود والتمسوا من
الشعب الأمريكي المساعدة في دعم الحرية الدينية وتجنيبها التعصب والعنصرية
والتَّزمُّت، وبعد سنوات أُسس المؤتمر الوطني لليهود والنصارى (National
Conference of Jes and Christians NCJC) ، ويشترك في رئاسته
ثلاثة أشخاص: بروتستانتي، وكاثوليكي، ويهودي، وينظم المؤتمر كثيراً من
اللقاءات والبرامج المشتركة، ودُعِم هذا المفهوم بعدد من الكتابات أشهرها: كتاب
ظهر في عام 1955م كتبه يهودي اسمه (ول هربرج، (W. Herberg يذكر فيه
أن أمريكا أصبحت بوتقة انصهار ثلاثية؛ إشارةً إلى الأديان الثلاثة: الكاثوليكية،
والبروتستانتية، واليهودية، ومن يخرج عن أحدها فلا يعتبر أمريكياً (Sarna
1992 373-374) .
وواجه مفهوم (اليهودية النصرانية) ومفهوم (البروتستانتية الكاثوليكية اليهودية)
الكثير من الصعوبات بسبب تزايد الأديان التي لا تدخل تحت هاتين المظلتين،
ويأتي الإسلام في مقدمة تلك الأديان، وهو أحد أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا.
هذا وقد وجد عالما الاجتماع (ويد روف، ووليم مكيني (W. C. Roof W.
Mckinney في عام 1985م أن غير اليهود وغير النصارى في المجتمع الأمريكي
يشكلون ضعف عدد اليهود، وهناك شخص واحد من كل عشرة أمريكيين لا يؤمن
بدين، وهذا يعني أن هناك على الأقل 13% من الأمريكيين لا تنطبق عليهم معايير
التدين الأمريكية، وهذا يمثل تضاعفاً في النسبة بمقدار أربع مرات في ثلاثين سنة
فقط، وتتوفر أسباب كثيرة للإيمان بأن هذه النسبة سوف تتزايد بسرعة في
المستقبل. (Roof Mckinney 1987 17)
وفي الأربعينات والخمسينات من القرن الميلادي الحالي وكما يقول (نيل
هاريس) : ظلت روح التَّزمُّت الديني قوية وفقاً للعديد من الفنانين والنقاد الذين
اعترفوا بأنه كانت هناك رقابة شديدة وصارمة على المواد التي تستثير الجنس،
وبعض الأعمال الأدبية المهمة لم يمكن نشرها بسبب مقاييس الرقابة الصارمة،
واستمر سماع الشكوى من قلة الاحتشام وفقدان الاحترام التي لاحظها كثير من
علماء الاجتماع في ذلك الوقت (هاريس، 1989: 155) . ويؤكد هذه الملاحظة
(نورمان كوروين) في بحثه عن (الترفيه ووسائل الإعلام) حيث يقول: (ولم تكن
أمريكا اليافعة بهذا التحرر؛ لأن الدراما ولوقت طويل تعتبر من قِبَلِ المتزمتين
الذين ازدهروا في بوسطن وفيلادلفيا طريقاً سريعاً إلى جهنم، وفرض قانون طبق
في بنسلفانيا في هذه الفترة غرامة 500 دولار لأي فرد يُقدِّم أو ُيمثِّل في مسرحية)
(كوروين، 1989م: 200) وكان يُنظر للمسرح في أواسط القرن الماضي على
أنه مدرسة للرذيلة والفساد، والذي يمر الآلاف من خلاله إلى أحضان الحماقة
واللهو والإسراف والخلاعة والخزي والدمار، وكثير من أصدقاء الرئيس (لنكولن)
كانوا يتمنون لو أنه قُتل في أي مكان غير المسرح (المصدر السابق: 203) .
ولا صحة لما يدعيه الأمريكيون من فصل الدين عن الدولة؛ فكثير من
رؤسائهم كان له اهتمامات دينية؛ بل إن الدين يؤثر في سياساتهم وقراراتهم، وكان
(جورج واشنطون) يرى أن (الدين والمعنوية) دعامتان توأمان للمجتمع تقف عليهما
الشخصية والحضارة، وكان (فرانكلين) يحترم ما تحمله الكنائس بإجماع (مارتي،
1989م، 333) ، وكان الرئيس (ريجان) يؤمن بنبوءات الكتاب المقدس، وكان
يستخدم بعض المفاهيم والمصطلحات الدينية في خطبه وتصريحاته، وكان يُنظر
للرئيس (كارتر) على أنه من المتدينين والمحافظين، ومعظم الرؤساء يذهبون إلى
الكنائس في أيام الأحد، ويشهدون الاحتفالات الدينية.
ومما يميز أمريكا عن كثير من البلدان الغربية الأخرى أن أمريكا توفر حرية
التدين للجميع، وبدون قيود أو حدود، ما لم يهدد ذلك الأمن الوطني، فبإمكان
الشخص أنه يدعي أنه نبي، وأن يكون له أتباعه وجماعته الدينية، وأن يعبد ما
شاء من الآلهة: الأصنام المادية والمعنوية، ولن يتعرض له أحد بالعقاب أو
المساءلة، وهذا ما أسماه عالم الاجتماع (توماس لكمان) : (الخصوصية في التدين) ، وهذه الظاهرة واضحة لكل من يزور أمريكا ويعيش بين ظهراني أهلها، ويذكر
(مارتن مارتي) أن المظهر الأكثر تميزاً في الديانة الأمريكية هو (تعدد المعتقدات)
والتحولات الدينية وتعدد الأشكال؛ فأحد الكتب السنوية يعدد في أمريكا أكثر من
(220) مائتين وعشرين تسمية للطوائف الدينية، وموسوعة حديثة لم تجد صعوبة
في ذكر (1200) ألف ومائتي مجموعة دينية في أمريكا (مارتي، 1989م: 327) .
ويواصل (مارتي) حديثه عن ظاهرة التدين في المجتمع الأمريكي فيقول: ...
(ويشاهد المستطلعون والسياسيون الحقيقة بأن الأمريكيين يريدون أن يكونوا متدينين أو أن يفكروا في أنفسهم باعتبارهم أمةً (تحت رعاية الرب) فهم يرون الديانة
بطريقة ما مفيدة للحضارة والشخصية الخاصة والمدنية.. وكلا القطاعين العام
والخاص أشارا إلى تقديرهم للقوة الدينية في أمريكا؛ ففي خلال ازدهار العقارات
في منتصف القرن أصبح من خواص السماسرة الإعلان عن الأحياء الجديدة،
والمناطق الجديدة، واحتوائها ليس فقط على المدارس؛ ولكن مع وفرة بالكنائس
أيضاً (المصدر السابق: 325 - 326) .
ويرى (كيال) أن الاستيعاب في المجتمع الأمريكي يعني أن يدخل المهاجر في
أحد الأديان الثلاثة: البروتستانتية، أو الكاثوليكية، أو اليهودية، (كيال، 1985:
91) . ويجد القادم إلى أمريكا جهوداً مكثفة - وخاصة من الفرق النصرانية - في
جذب القادمين الجدد إلى أمريكا إلى مذاهبهم؛ فتكثر المنشورات، وتكثر الزيارات
الشخصية إلى المنازل في محاولات جادة لإقناع الآخرين إلى الانضمام إلى المذهب
الذي يؤمنون به.
ويمكن من كل ما تقدم أن نخلص إلى أن المجتمع الأمريكي مجتمع متدين في
مجمله، وينتمي غالبية السكان إلى مذاهب وفرق دينية مختلفة.
وإذا كان المفهوم التقريبي الذي يرى أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية) بدأ
استعماله في الثلاثينات من هذا القرن فإن هناك مفهوماً جديداً بدأ يتشكل الآن وهو
أن أمريكا دولة (يهودية نصرانية إسلامية) فالإسلام ينتشر بسرعة كبيرة هناك،
وسوف يصبح في المستقبل القريب الديانة الثانية بعد النصرانية، والعقلاء من
الأمريكيين يسعون إلى ترسيخ هذا المفهوم؛ لأن فيه مصلحة للبلاد، فسوف يؤدي
إلى مزيد من الأمن والاستقرار فيها، وسوف يساعد على مد مزيد من الجسور بين
الأمة الأمريكية والأمة الإسلامية التي يشكل سكانها ربع سكان العالم تقريباً، وإذا
كان هناك فئة سوف تقف ضد هذا المفهوم فهم اليهود الذين يودون أن يتفردوا
بالعلاقة مع الشعب الأمريكي؛ ليستمروا في استخدام قدراته وإمكاناته ضد العرب
والمسلمين.(141/120)
المنتدى
الباز والرحيل المُرُّ
فارس المحمد البراك
إن من أعظم المصائب وأشدها وقعاً فقْدَ العلماء المصلحين؛ فقد قال -
تعالى -: [وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون] [يونس: 46] ، [أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب] [الرعد: 41] قال ابن عباس:
خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وكذا قال مجاهد أيضاً: هو موت
العلماء، وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز
أبي القاسم المصري الواعظ: حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق، أنشدنا
أبو بكر الآجري بمكة قال: أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها ... متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها ... وإن أبى عاد في أكنافها التلف
فلقد رُزئت الأمة الإسلامية في جميع أقطار العالم بفقد فذٍ من أفذاذها ورجل
من رجالها ومنارة من منارات العلم، وإمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر،
المجاهد في سبيل الحق ونشر الدين، ألا وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله
بن باز - رحمه الله -.
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذٍ ... يموت بموته خلق كثير
إلاَّ أن ما يعزينا فيه أن العلماء وإن غابت شخوصهم فآثارهم موجودة؛ فحياة
العلماء حياة للأمة؛ فهم ورثة الأنبياء. كان - رحمه الله - تقياً ورِعاً زاهداً كريماً، وكان محباً للمساكين وَقاضياً للحوائج، وأحسبه ممن وُضِع له القبول في الأرض.
انظر يا أخي الحبيب! إنه منظر عظيم حين توالَى الناس، واكتظت الشوارع
بالأنفاس، وشهدت بكةُ مشهداً عظيماً من أجل الصلاة عليه، إنه مشهد سطَّر له
التاريخ ودخل بأوسع أبوابه، فلم يأت ذلك إلا بعلمه ومكارم أخلاقه ومن ثم وضع
له القبول في الأرض؛ فلا تجد عاميّاً ولا متعلماً إلا يعرفه، ولا صغيراً ولا كبيراً
إلا ويبكي لفراقه، ولكنْ إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما
يرضي ربَّنا، وإنا لفراقك لمحزونون.
ختاماً أردد شعر فضيلة الشيخ سعود الشريم:
ربّ العباد ألا فاجعل منازله ... علو الجنان له قصر به نهر
واجعل مقاعده تروي مراقده ... ومدّ ملحده فيما حوى البصر
إنَّ العزاء لبيت الباز في علمٍ ... عُوضتموا خلفاً والله فاصطبروا
فرحم الله شيخنا رحمة واسعة، وأسأل الله أن يكتبه في عليين.(141/123)
المنتدى
فاضت العينان
علي بن حسن بن علي الرديني
قلمي يَئِنُّ وجرحه ما زالا ... والحبر فجَّر هاهنا شلالا
فاضت قرائحه وحار بأمره ... ورمى بأوراقي وسَلَّ سؤالا
جاءت مع الغسق البهيم مقولة ... دارت وسارت فنّدت أقوالا
عبد العزيز الباز في الدنيا غدا ... كالبدر في أفق السماء تلالا
سيف توارى برقه في غمده ... بعد العراك وبعدما قد صالا
حمل المشاعل في السواري وابتغى ... رفع الظلام فأفحم الضُّلالا
من لي بجامعة تسير بهمّةٍ ... في ذي الديار جنوبها وشمالا
زهد وعلم كيف لا؟ وتواضع ... وسماحة ومناقب تتوالى
سرت الفتاوى من لسانك بلسماً ... لما أتاك السُّؤْلُ ينشد حالا
هذي الرياض بدت تُرى في حلة ... بيضاء لما أوقف الترحالا
لكنها بكت الحبيب؛ لأنه ... قصد الحجاز لكي يرى الأحوالا
كل المشارق والمغارب قد بدت ... خرساء عند سماعها الزلزالا
نشكو إلى المولى مصاباً هزّنا ... ودهى الدنا نشكو إليه تعالى
طلابه زواره أحبابه ... نحو المطاف توافدوا أرتالا
في العدل واروه التراب لبرزخٍ ... نرجو الإله له الجنان مآلا
يا ربنا الرحمن إني سائل ... إياك سؤلاً أبتغيه نوالا
في جنة الخلد اجتماعاً دائماً ... بالشيخ لا نبغي له إبدالا(141/124)
المنتدى
دموع على فقيد الأمة
محمد بن إبراهيم الشيبان
القلب يبكي ودمع العين هتّانُ وخيّمت في ربانا اليوم أحزانُ
قالوا (ابن باز) هوى في الأرض كوكبه جلّ المصاب فذا أمرٌ له شانُ سعون عاماً قضاها في مجاهدةٍ ... فما استكان ولم ينهدَّ بنيانُ
مضى وخلّف ذكراً عاطراً وله في كل مسألة رأيٌ وتبيانُ
همٌّ طواني فبات القلب منكسراً مما ألمّ، وملء القلب أشجانُ
إن كان جسمك واراه التراب أسيً ... فإن أجفاننا للروح أكفانُ
ما زال ذكرك عطراً في مجالسنا والشعر في ذكرك الميمون يزدانُ
إن تاه بالزهد قوم مُدّعون له فأنت للزهد والإصلاح عنوانُ
شمختَ بالحق تُعلي من مكانته لم يثنِ عزمك مفتونٌ وفتانُ
تلك الملايين تبكي حرقةً وجوى يبكي الأحبةَ أصحابٌ وخلانُ
سبحانك الله! نرضى ما قضيت به ... بذاك يأمرنا دين وإيمانُ
فنحن نعلم أن الدار فانيةٌ وليس يخلد فوق الأرض إنسانُ
ونسأل الله أن يجزيك مغفرةً ورحمةً، وبدار الخلد رضوانُ(141/126)
ردود
الأخ: عبد العزيز العبيسي: نشكر لك ثناءك على مجلتك، ونبادلك حباً بحب. وعن المعلومات عن الإنترنت فهي كثيرة جداً ومتوفرة في كتب ومجلات، يمكن
الحصول عليها بيسر من الأسواق.
الأخ: ماجد بن إبراهيم الماجد: اقترح أن تخصص زاوية للشباب وهمومهم، وهو اقتراح جيد ونحن بقدر الإمكان نتعرض لقضايا الشباب لأهميتها، وفقك الله
لكل خير.
الأخت: أم عمار البراهيم: أرسلت ملاحظات حول اللوحات الإعلانية
المنشورة في الطرق وذكرت بعضاً من مخالفاتها الشرعية، فجزاها الله خيراً على
متابعاتها وغيرتها.
الأخ: خميس بن عبد الرحمن الزهراني: أرسل يقترح أن يكون لون
أرضية المجلة فاتحاً حتى يتمكن من قراءته، وهذه الملاحظة ستكون محل عنايتنا
إن شاء الله.
الأخ: فهد الموسى: وصلتنا مشاركتكم: وقفة تأمل، وتحتاج إلى اختصار
مع إعادة الصياغة ونرحب بك مشاركاً في مجلتك.
الإخوة والأخوات: مصعب السحيباني، وليد الرحيمي، صالح محمد
الوهيبي، عبد الله محمد الربيعي، عمر الرماش، الربيع مليجي، جمال الدين
الديب، منصور الزغيبي، خالد الحمودي، أم حمزة: وصلتنا مشاركاتكم الطيبة،
وسعدنا بتواصلكم الطيب مع مجلتكم، ونتمنى دوام التواصل، وتمنياتنا لكم بالتوفيق
في مرات قادمة، وجزاكم الله خيراً.
الإخوة: أحمد أشرف أمين، عبد الله التميمي، مسلم ناصح، د. مهدي علي قاضي، بدر السحيل، أحمد مسفر العتيبي، عمر الرماش (مرض قسوة القلوب) عبد الرحمن الأحمد، عبد العزيز اللاحم، عبد الله عياد العنزي: سعدنا كثيراً بمشاركاتكم، ويسعدنا كذلك دوام تواصلكم ودوام مشاركتكم ونفيدكم بأن مشاركاتكم ستنشر إن شاء الله في المنتدى.
الإخوة: سليمان الطفيل، فرست مرعي الدهوكي، إسماعيل بن عتيق،
عبد الكريم الشهري، سالم فرج سعد، ياسين طه الشرجبي، أسيد عبد الرحمن الأثري: وصلتنا مشاركاتكم وأسعدتنا، فجزاكم الله خيراً، وسوف تنشر هذه المشاركات إن شاء الله في وقت لاحق.(141/127)
الورقة الأخيرة
كيف نبرئ الذمة؟
عادل بن أحمد الماجد
لا زالت مشاعر الغضب حارة في قلوب المؤمنين على أولئك الذين سقطت
في عصرهم (الأندلس) كيف فرّطوا بها بعد ثمانية قرون ... وأين كان ساستهم؟
وأين كان علماؤهم..؟ أين المصلحون فيهم والمجاهدون؟ بل أين الشعب كله؟ لِمَ
رضوا بالتفرق والتطاحن؟ لِمَ سكتوا على موالاة الكفر؟ لِمَ لم يستنفروا الأمة للجهاد؟ ومئات الأسئلة نود أن نسألها أولئك، ومئات أخرى من التهم ستوجه إليهم دون
سماع لردودهم على التهم؛ لأنه لا رد لهم؛ فقد أفضوا إلى بارئهم الذي لا تزول
عنده قدم قبل السؤال.
ويشتعل الغضب مرة أخرى عند تذكر (سقوط بغداد) على أيدي التتار بفصول
مسرحية غريبة فيها من الذل والخذلان ما يتقطع له القلب.
كيف ذل المسلم للتتري حتى لا يقاوم قبل أن يُقتل؟ وكيف رضوا بحياة
الرقص والغناء والخنا؟ أين كان العلماء والمصلحون مرة أخرى؟ !
لِمَ سكت (أهل السنة) حين كان رجال من فرق الضلال يشغلون المناصب
الحساسة في دولتهم، ولِمَ لم يحذروا من ذلك؟ ! لِمَ لم يفضحوا أولئك المرتزقة؟
وثالثة عند سقوط الدولة العثمانية؛ إذ يزفر القلب بآلاف التساؤلات عن دور
العلماء والمصلحين والصالحين والأمة جميعاً!
ونُحاكم أولئك: لِمَ لم يقضوا على مظاهر الشرك والدجل، ولِمَ لم يحذِّروا من
الصوفية التي تفتك بالأمة حينئذ؟ أين هم من سليمان القانوني وغيره عندما
استحدث القانون الفرنسي بدل الشريعة؟ أين كانوا من اليهود والنصارى الذين
عاثوا بقصور الخلفاء فساداً؟ أين هم يومئذٍ من مقاومة الإنجليز والألمان
والهولنديين والإيطاليين وهم يستولون على أرض المسلمين منطقة بعد أخرى؟
وفي فورة الغضب نتذكر آحاد الناس الذين نقل التاريخ احتجاجهم ولو شعراً
كأبي البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ ... فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ
ومن رثاء بغداد:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ... ألم تكوني يوماً قرة العين
ونتذكر أن آلافاً آخرين كانوا منكِرين في صمت، وكارهين في سكوت - عفا
الله عنهم -.
واليوم.. نعم اليوم تجتمع مآسي الأمة وتزداد وتتنوع: فالشرك في الأمة كثير: من عبادة القبور والطواف حولها، ومن دعاء الأولياء من دون الله، ومن شرك
الأدباء والمفكرين باعتقاد المذاهب الكفرية والدعوة إليها في وسائل النشر والإعلام
المختلفة، ومن تغيير القوانين في بلاد المسلمين ومحاربة الشرع علناً من دون
تورية.
ومظاهر موالاة الكفر وأهله ومعاداة الإسلام وأهله لا حاجة لبرهان عليها
يعرفها الصغير قبل الكبير! !
ويموت آلاف المسلمين جوعاً وحرباً فلا ناصر ولا مُطْعِمَ غير جمعيات
الصليب، وجهود إسلامية صغيرة.
ويتفشى الجهل بالدين في الأمة حتى لا يحسن الملايين منهم الصلاة؛ بل
الشهادتين، ثم لا يجدوا معلماً ولا مفقهاً!
واقتصاد العالم يزداد ثراءً؛ والمسلمون يزدادون فقراً، رغم أن أرضهم هي
الذهب والفضة والخصوبة والزراعة، والأعداد الكثيرة والاستثمار الأفضل؛ ولكن
الكافر يأخذ ما يريد من فوق أيدينا لنشتريه بدراهمنا المعدودة من تحت رجليه!
ثم تنظر إعلام المسلمين فترى أشكالاً من الكفر والمجون والدجل، والدعوة
إلى السفور والتبرج والفسق من الدين والسخرية بأهله.
وأمام هذا الواقع أين الغضب؟ وهل سنرضى أن تغضب علينا الأجيال إلى
يوم الدين؟ ! أم إن الغضب عليهم والعذر لنا، ومشكلات الأمة هي من صنيع السابقين ويجب على اللاحقين حلها ولنا التأفف والحوقلة؟
لا نشك في أن ملايين المسلمين لا يريدون هذا الواقع، ولا يرضونه؛ ولو
قُدِّر أن أُعدَّت عريضة إبراء ذمة لتجاوز العدد عشرات الملايين؛ ولكن أين هؤلاء
الملايين من التغيير والإصلاح؟ ! إن هذا العدد أكبر بأضعاف المرات من الأعداد
التي بَنَتِ الأمةَ خلال الألف الهجرية الأولى مجتمعةً.
فهل نترك للتاريخ ما تبرأ به الذمة؟ وهل يكفي قصيدة شعرية أو خطبة
عصماء مؤثرة؟ !(141/128)
جمادى الآخرة - 1420هـ
أكتوبر - 1999م
(السنة: 14)(142/)
المنتدى
سيد العصر
محمد بن عائض القرني
أي سهم غرسته في فؤداي ... حين ناديت أيهذا المنادي!
مات رمز الهداة.. رحماك ربي ... لمصاب يعبث في الأكباد!
مات (ابن باز) مات؛ من كان براً ... هكذا الموت دونما ميعاد
كان رمزاً ومرجعاً وإماماً ... كان طوداً لدحر أهل العناد
كان حراً برأيه مستمداً ... نيِّرَ الفكر من إمام الرشاد [1]
لم يكن همُّه من العيش إلا ... دحرَ فسق ونشرَ رأي سداد
قوله الفصل، كيف لا وهو يمضي ... في سنى (أحمد) وفي نور (صاد) ؟ !
كان غيثاً على قلوب الحيارى ... ورشاداً لراغبٍ في الرشاد
كان نهراً من المكارم سحاً ... بأياد فريدة في الأيادي
هو بحر من الفضائل ير ... توي من نميره كل صادي
داره مرتع العُفاة فمن ذا ... بعده آذن لهم بارتياد؟
كيف ننسى مجالس الذكر؟ كانت ... جنة الروح قبل يوم المعاد!
كنت مهوى قلوبنا ودليلاً ... لخطانا بقربنا والبعاد
تجمع الشمل في الحياة فلما ... مِتَّ ضمت يداك كل الأيادي
طاب حياً وطاب بالموت نفساً ... حين ناداه للقاء المنادي
فإلى الله سيره وإليه ... كان مأواه بعد طول الجهاد
رب فاخلف على العباد بخير ... في الملمات والخطوب الشداد
__________
(1) صلى الله عليه وسلم.(142/125)
كلمة صغيرة
من ينقذ السودان
ظلت مشكلة الجنوب السوداني شوكة مؤلمة تواجه كافة الحكومات السودانية
منذ عهد الاستقلال، ولعل من أهم إنجازات الحكومة الحالية أنها استطاعت أن
توقف المدّ الجنوبي نسبياً مقارنة بالحكومات السابقة ولكن ممَّا يجب التنبه له كثيراً
أنَّ غزواً مضاداً من النصارى الجنوبيين للشمال السوداني بدأ يظهر بشكل جلي في
السنوات الأخيرة، دون أن تتخذ إجراءات حاسمة لصدّه أو التقليل من آثاره، وقد
تمثل ذلك في أمور منها:
أولاً: هجرة كثير من الجنوبيين إلى الشمال السوداني، خاصة حول العاصمة
الخرطوم، بحجة الفرار من الحرب الدائرة في الجنوب، ويقدر عددهم بأربعة
ملايين جنوبي، وكوًَّن هؤلاء المهاجرون طوقاً محكماً يحيط بالعاصمة، وهذا سوف
يؤدي بالتأكيد إلى إحداث خلخلة في التوازن السكاني دينياً وعرقياً، كما أنَّ هؤلاء
المهاجرين يمثلون قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ويمكن أن يسببوا
تهديداً حقيقياً للعاصمة، خاصة أن نسبة النمو السكاني للقبائل الجنوبية يصل إلى 8.7 %، بينما نسبة النمو في القبائل العربية المسلمة 2. 1% فقط، وفي ظل
غياب البرامج التعليمية والدعوية الرسمية والأهلية الموجهة إلى هؤلاء يتبيَّن لنا
عمق الخطر على المدى البعيد.
ثانياً: هجمة كبيرة للمنظمات الكنسية والتنصيرية التي بدأت تعمل في
أوساط الجنوبيين خاصة، كما تعمل في أوساط المسلمين الشماليين، مستغلة الفقر
الشديد الذي يضرب بأطنابه في مختلف أنحاء السودان، وأمام الهجمة الإعلامية
على الحكومة السودانية التي تتهمها بالإرهاب والتطرف! خطت الحكومة خطوات
غير مسبوقة لنفي التهمة، وأظهرت التسامح مع بعض المنظمات النصرانية،
وأزاحت من طريقها كثيراً من العقبات مما أدى إلى زيادة ملحوظة في النشاط
التنصيري.
وقد بلغ عدد المنظمات النصرانية تسعاً وثلاثين منظمة، هذا بالإضافة إلى
بعض المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها التي أصبحت معقلاً من معاقل
التنصير! وأما عدد الكنائس في السودان فقد تجاوز 1438 كنيسة حتى عام 1997
م منها 400 كنيسة في ولاية الخرطوم وحدها، ويعمل في هذه الكنائس 500
قسيس أجنبي، فضلاً عن المنصِّرين الذين يعملون في المنظمات التنصيرية بل إن
هذا العدد في تزايد مستمر؛ حيث يوجد في العاصمة ثلاثة معاهد للاَّهوت تُخرِّج
أعداداً كبيرة من القساوسة كل عام من السودانيين وغير السودانيين.
إنها مشكلة حقيقية تواجه السودان، نرجو ألا تكون منسية من الجهات
الرسمية والجمعيات الخيرية والدعوية الإسلامية.(142/1)
الافتتاحية
وجاءت الهجمة على الأخلاق.. ثم ماذا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما
بعد:
فإن تراجع الهجمة العقدية على مستوى الساحة العالمية أمر مشاهد ومحسوس
بعد أن فقدت الدعوات العقدية الغربية من نازية وشيوعية واشتراكية بريقها،
وأصبحت الساحة رهينة للعبة السوق التي تتدثر بالليبرالية رداء حين تقدم الى
مستهلكي الأفكار- مع ما تقدمه من بضائع - تحت لافتة خادعة تسمى (العولمة) .
وهذه العولمة هي - باختصار-: افتراس المنتصر المتوحش لضحاياه الأقل شراسة
وقدرة على البقاء؛ حين تضمن للقوي تصدير سلعته وخدماته وأفكاره بحجة حرية
السوق وحرية المعتقد وحرية الثقافة، وليت هذه الثقافة أو تلك الحرية تكون أصيلة
أو حقيقية وهي ليست كذلك؛ فمع مرور الوقت يتضح جليا أن العولمة لا تحوي
فكرا متكاملا أو عقيدة منطقية بقدر ما تمثل مجموعة من القيم الغربية السلوكية الفجة
تختفي وراء شعار فضفاض يطالب بالحرية الدينية للنصارى في بلاد الإسلام،
بينما يمنع ارتداء غطاء الرأس للمسلمة في دياره، أو يرفض الاعتراف بالجاليات
المسلمة التي تشكل في الدول الغربية الرئيسة الجالية الثانية بعد النصارى، ويسلبهم
حقوقهم المدنية، أو يشن عليهم حربا قذرة، وكل ذلك ضمن القانون القابل للتمدد
والانكماش حسب معتقد المتهم ودينه! !
يصنف بعض المفكرين وأصحاب الرأي المرحلة التالية لانهيار الإمبراطورية
السوفييتية وانعكاس هذا الانهيار على الساحة العربية والإسلامية إلى مراحل رئيسة
ثلاث تبدأ بحرب الخليج وما أفرزته تلك الحرب من عملية سلام زائف تم تمريره
عبر شعارات براقة (الشرق أوسطية) سرعان ما أدت إلى مرحلة الهوان الحالية
التي تتحدى حكومة الصهاينة من خلالها شعوب الجوار وحكوماتها والعواصم الدولية
دون أن تتصور وجود مقاومة لغطرستها عدا تلك المشاعر المتأججة في الصدور
وهذه العقيدة التي يشكل معتنقوها آخر حائط صد في وجه الطوفان
الأمريكي / الصهيوني.
لم يبق بالفعل سوى الإسلام عقيدة ومنهجا على الساحة العربية يمنحها شيئاً
من الصمود وقليلا من المقاومة بمقاييس المادة والنزال الدنيوي. لقد استطاعت تلك
القوى من خلال التحالف البشع مع دولة اليهود أن تجرم أي نشاط إسلامي سياسي
على مستوى المنطقة عموما، وذلك تحت شعار محاربة الإهاب، وأصبح أمام
المسلم طريق واحد إذا ما هو فكر في ممارسة واجبه الشرعي في الحفاظ على
هويته وكيانه أو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استطاعت
تلك القوى أن تضعه في لائحة التجريم والملاحقة إلى جانب جريمة ترويج
المخدرات! !
وإن كان أعداء الإسلام قد صرحوا منذ البداية أن الإسلام دين عنف، متخلف، وغير حضاري، وأن القضاء عليه مطلب ضروري من أجل أن تنعم البشرية
بحياة هانئة بعيدة عن القلق والاضطراب، وإن كان الأعداء الوقحون قد كشفوا ما
في صدورهم فإن فئة أخرى تشاركهم نمط الحقد نفسه والضغينة نفسها غلفت هذا
العداء بشعار تجفيف المنابع، وخرجت بنظربة كرتونية تربط بين عود الأراك
وفوهة الكلاشنكوف، ووصلت إلى علاقة طردية بين أداء الصلاة وتهديد قداسة
أصنام العلمانية، وبين ظهور شعر العارضين وانفجارات أوكلاهوما وانخفاض
مستوى أسعار النفط!
أصبحت الأصولية والإسلام الإرهابي والظلام وغيرها من عبارات، العهر
الفكري هي (النظرية) التي تفسر كل ما أصاب الأمة وشعوبها من إحباط وخيبة
وأنماط تخلف وفساد وتحلل، بل إن أحط الفئات خلقا وسيرة خرجت للجماهير
العربية بنظرية: أن محاربة (طيور الظلام) لا تتم إلا من خلال نشر أوكار
الدعارة، ونشر الثقافة الجنسية الفاجرة حتى يتعرف الإرهابيون والمخدوعون
بالإسلام أن هناك حياة أنقى من التزام شرع الله تتمثل في الخنا والفجور والذوبان
في مجتمع العولمة وانسلاخ الذات!
إن سياسة تجفيف المنابع كشفت بلا مواربة أن الحرب الآن على الإسلام
باعتباره عقيدة وشريعة وسلوكا؛ فبعد أن حُد من الجانب الاحتسابي الذي يظهر
وجهة النظر الإسلامية في القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى فإن الدور الآن
على الجوانب الاجتماعية التي تحكم علاقات وسلوكيات المسلمين. إنها حرب غير
أخلاقية لمحاصرة الجوانب الأخلاقية من قيم ومبادئ ومثل وممارسات يومية،
وأخطر ما استخدم في هذه الحرب هو الخطاب الإعلامي المتفسخ، وتوظيف انفجار
الثورة الإعلامية وتقنية الاتصالات ببث الرسائل التافهة، وترسيخ العولمة بنكهة
الكوكاكولا والهامبورجر بترجمة عربية رديئة تجعل من المطربات والمطربين
والراقصات ولاعبي الكرة (نجوم) المرحلة و (منظري) العولمة اليعربية.
وتغذى القوم - بحكم خلو الساحة من حق المقاومة - بوقود الدعم الكبير حتى
بدءوا يحتفلون مباهين بأن بلدا عربيا لا يتجاوز سكانه بضع ملايين أخذ يقدم لكل
1000 مواطن مطربا آو مطربة في الوقت الذي تبلغ نسبة الأطباء لكل مواطن في
هذا البلد نسبة مخجلة لا تجعل المقارنة في صالح حزب تجفيف المنابع! !
إن ما يحصل الآن من انفجار فضائي وإعلامي هو مؤشر لحالة السعار التي
تريد أن تقضي على مظاهر التميز، بل الوجود؛ بحجة اللحاق بالركب العالمي،
وهو ركب تتركه اليوم الأمم التي تحترم نفسها ولا تضع حاضرها ومستقبلها لعبة
تتسلى به الأفاعي الدولية!
وبحجم الهجمة فإن دعاة الإسلام ورموزه لم يستوعبوا بعد حجم التأثير وقوة
الغزو الخبيث الذي ينطق بلساننا ويتخفى بأسمائنا. وأمام تلك الهجمة فدعاة الإسلام
أقسام:
- قسم لا زال يقاوم الهجمة المحدثة بأساليب قديمة وخطوات لا تناسب
الظروف الحالية، وهو - على كل حال - مخلص في هدفه مستقيم على منهجه!
- وقسم يحاول أن يقاوم الهجمة بأدواتها الماكرة وذلك من خلال تحديث أسلحة
المعركة وتطوير وسائل حماية الشعوب من مكر الليل والنهار وهو - على كل حال
- ضعيف في قدراته مجتهد في وسائله ملتزم بمنهجية واضحة..
- وقسم ثالث يحاول أن يصد الهجمة وقد أصابته بحالة من الذهول حتى غدا
الدخول في المعركة هدفا بحد ذاته وإثبات وجود الصوت المسلم مطلبا تهون أمامه
الثوابت ولا ينضبط حينها بقيد شرعي أو ضابط منهجي..
- وصنف رابع تحتار أن تصفه: هل هو عدو لك أم متعاطف معك! ؟ !
أعماله وقود لتسعير الشهوة وتجديد وسائل اقتلاع الأخلاق، وكلامه البارد يتحدث
عن توقير القيم وسيلة للدعوة، ولا تدري أي دعوة تلك أمام ذلك التناقض المريب؟
إن الهجمة الفضائية الشهوانية المستعرة اليوم التي تتعرض لها أجيالنا بخاصة
تتطلب من الدعاة والمصلحين والأفراد والجماعات وقفات عدة:
- وقفة لتقويم رسالة العدو ورصدها وتحليلها وتأثيرها على فئات المجتمع
الأقل إدراكا ومناعة، كما تقتضي مراجعة أساليبنا في الوصول إلى الواقع المسلم
بأصوات جديدة وقوالب جذابة تجتذب الفئات المستلبة بالبريق الخادع كما تقتضي
دعم البرامج
الدعوية التي أثبت نجاحها لفئات معينة مع العمل على دعمها وتطويرها رغم
أنها وسائل تقليدية إلا أنها تبقى قوية فاعلة أمام أخطر التحديات حين يقدم الإسلام
للمسلم البسيط الذي تجرد من الإسلام قطعة قطعة وأصبح مولودا ممسسوخا لا يمت
للإسلام بصلة سوى بعض الأماني الكاذبة والرؤى الضبابية في صدور أولئك الذين
يعتقدون أنما الأعمال بالنيات وكفى! فيقدمون أبشع وأحط الأعمال التي تفسد أمجاد
شعوب استنادا إلى نوايا في صدورهم لا تؤثر في الواقع؛ بل إنها تقدم أعذارا
لأسراب الهالكين بأن القائمين على هذا الفساد والفجور هم من أصحاب النيات
الطيبة، وبعض هؤلاء قد يتمادى فيهاجم أولئك القابضين على دينهم المتصدين
للهجمة الإعلامية الفاسدة بوسائل نظيفة تتهمهم بأنهم (رجعيون) لا يفهمون لغة
العصر ولا يفقهون عناصر الرسالة الإعلامية التي يجب أن لا تفرق بين الوسائل
الإسلامية وسواها إلا من خلال المضمون أما الشكل، فلا ضير أن لا يكون إسلاميا
أو أخلاقيا، لأن علينا أن نثق بنيات وأسماء هؤلاء الرموز العقلانيين الذين لهم
وحدهم حق التنظير والتفكير وتوزيع الخطأ والصواب (يمنة ويسرة) حتى في أدق
الأمور الشرعية وأكثرها حاجة لعالم بصير بالقواعد والنصوص والواقع!
إن من حقنا على أولئك المجتهدين - وقد أثمرت اجتهاداتهم أخطاء شرعية
ومواجع واقعية - أن نقول لهم: إن الهجمة على أهل الإسلام ودينهم ورموزهم
أكبر من أن ينضم إليها أولئك الذين كان ينتظر منهم أن يعتلوا المنابر لا أن يشاركوا
في تلك (المواخير) التي تجمع بين التحدث عن الإسلام ومهاجمته واتهامه بأقصى
التهم في الوقت ذاته.
والله نسأل أن يجعل لأمتنا من أمرها رشدا، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا
اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.(142/4)
دراسات في العقيدة والشريعة
الإسلام والمجتمعات الإقليمية الدولية
د. عثمان جمعة ضميرية
مقدمة:
(خلق الله تعالى الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا،
فيرجع كل منهم إلى قبيلته كما يرجع إلى الشعب الذي تتفرع عنه القبيلة؛ لأن
الشعوب أعم من القبائل، فقال الله تعالى [يّا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم] [الحجرات: 13]
فكان هذا تنبيهاً على أن الجميع في الشرف بالنسبة إلى آدم وحواء عليهما
السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية؛ وهي. طاعة الله، ومتابعة رسوله
صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقال نتناول نظرةَ الإسلام إلى العالم مقارنةً بنظرة الغربيين، ثم
تعريفَ دار الإسلام ودار الحرب باعتبارهما مجتمَعَيْن دوليَّيْن، ثم نوضح أساسَ
هذا التقسيم للعالم، وشرعيَّتَهُ، والردَّ على الشبهاتِ التي أُثيرت حياله.
أولاً: نظرة الغربيين إلى العالم:
ابتدع العالم الغربي على مر القرون عديداً من الوسائل لتقسيم الجنس البشري؛ فقد قسم اليونانيون العالم إلى: يونانيين، وبرابرة، كما قسم اليهود العالم إلى: يهود، وأمم أخرى. وفي فترة متأخرة ابتكر اليونانيون أيضاً تصنيفاً جغرافياً يظهر فيه العالم على أنه مكوَّنٌ من قارات هي: قارتهم أوروبا، وآسيا التي تقع على الجانب المواجه لبحر إيجه، وخلف الشاطئ الإيجي عند نهاية المنطقة التي أطلق عليها اسم آسيا الصغرى كانت تبدو آسيا الكبرى. ولقد كان اسم آسيا يعطي امتداداً أوسع، وبمرور الوقت تم تجزئة آسيا (اللا أوروبية) إلى أقسام.
أما الجزء الذي يقع على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط فقد أُطلق عليه
أسماء يونانية لاتينية جديدة؛ إذ أُطلق عليه أولاً: ليبيا، وفيما بعد أطلق عليه:
إفريقيا.
أما بالنسبة للأوروبيين فإن العالم خلال فترة العصور الوسطى كان مقسَّماً بين
المسيحيين والوثنيين، ثم بعد ذلك بين الممالك المسيحية والملكية. ولقد تبنَّى العالم
الحديث مفهوم دولة الشعب على أنه تصنيف أساسٌ مُحدِّد للهوية والولاء [1] .
ثانياً: أساس تقسيم العالم في الإسلام:
ألمحنا فيما سبق إلى أن الإسلامَ دعوةٌ عامةٌ موجهة للناس كافةً، وأنَّ أحكامه
تخاطب الناس جميعاً، لا يختصُّ بها قومٌ دون قومٍ، ولا جنسٌ دون جنسٍ، ولا
إقليمٌ دون إقليم، وبذلك تهدف الشريعةُ الإسلامية إلى تكوين مجتمع إنساني واحدٍ
يخضع لنظامٍ واحد. لكن لمَّا لم تمتدَّ الشريعةُ وأحكامها إلى كافة أرجاء العالم، ولم
تكن لها السيادة الفعلية على العالم كله، فقد قضتْ ظروف المكانِ والواقعِ أن لا
تُطبَّق الشريعة إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد،
فكانت - من حيث الواقع - إقليمية تطبَّق على البلاد التي تخضع لسلطة المسلمين.
وقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار فأوجدوا تقسيماً للعالم كله ينطوي على
قسمين اثنين لا ثالث لهما:
الأول: يشمل كل بلاد الإسلام، ويسمى (دار الإسلام) .
والثاني: يشمل كل البلاد الأخرى، ويسمى (دار الحرب) ؛ لأن القسم الأول
يجب فيه تطبيقُ الشريعة الإسلامية، أما القسم الثاني فلا يجب فيه تطبيقها؛ لعدم
إمكان هذا التطبيق [2] .
وعلى هذا فإن كلمة (الدار) في الفقه الإسلامي تطلق على الإقليم الذي يشكِّل
عنصراً من عناصر الدولة في القانون الدستوري والقانون الدولي؛ فالدولة بالتعبير
المعاصر يطلق عليها الفقهاء اسم: (الدار) [3] ، والدولة المسلمة يطلقون عليها
اسم: (دار الإسلام) في مقابل: (دار الحرب) .
وفي هذا يقول العلاَّمة ابن عابدين: (المراد بالدار الإقليم المختصّ بقهر ملك
إسلام أو كفر ... فليس المراد دار السكنى) [4] .
ثالثاً: دار الإسلام:
دار الإسلام هي البلاد التي تكون تحت سلطة المسلمين، وتظهر فيها أحكام
الإسلام ويَأْمَنُ فيها المسلمون، ويستوي أن يكون سكانها المقيمون على أرضها كلُّهم
من المسلمين أو من غير المسلمين الخاضعين لسلطة الدولة الإسلامية (الذميين) أو
من المسلمين وغير المسلمين.
وظهورُ أحكامِ الإسلام يعني: أن تكون هي الغالبة التي تعلو على غيرها،
فتكون لها السيادة والهيمنة؛ لأن أصل مادة الكلمة (ظهر) تفيد معنى المعونة والعلوِّ
والظَّفَرِ. وبهذا يظهر أن بعض البلاد الأوروبية التي يقيمُ فيها المسلمون صلاةَ
الجمعة والأعياد، ويعلنون فيها إسلامهم، وهم في أمْنٍ مِنْ أن يُفْتَنوا في دينهم لا
تعتبر دار إسلام؛ لأن السلطان فيها ليس للمسلمين، والأحكام لا تنفذ هناك بقوة
المسلمين، وهذه المعاني في معنى دار الإسلام (الدولة الإسلامية بالمفهوم المعاصر) هي ما يؤخذ من تعريف الفقهاء لها، كقول الإمام السَّرَخْسِيّ: (إن دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك: أن يأمن فيه المسلمون) . ... وكذلك قال أبو يَعْلَى الفرَّاء الحنبليّ: (هي كلُّ دارٍ كانت الغَلَبةُ فيها لأحكامِ
الإسلامِ دون أحكام الكفر) .
رابعاً: دار الحرب:
أما دار الحرب: فهي البلاد التي ظهرت فيها أحكام الشرك عند غَلَبَة أهل
الحرب عليها. فالموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون على أنفسهم، ولا تجري فيه
أحكام الإسلام هو من جملة دار الحرب.
ولذلك جاء تعريفها عند بعض الفقهاء بأنها (ما يجري فيه أمر رئيس الكفار
من البلاد. أو هي ما خافوا فيه من الكافرين) .
وعرَّفها بعض فقهاء الحنابلة فقال: هي ما غلب عليها أحكام الكفر. وقالوا: الحربي منسوب إلى الحرب وهو القتال والتباعد والبغضاء أيضاً، ودار الحرب هي دار التباعد والبغضاء؛ فالحربيُّ سمي بذلك بالاعتبار الثاني.
وليس من غرضنا هنا أن نقف طويلاً عند تعريفات الفقهاء لكل من الدَّارَيْن،
فحَسْبُنَا هذه الإشارات التي تجمع ما اتفقوا عليه في ذلك [5] .
خامساً: مناط الحكم على الدار:
يمكن أن نخرج من استقراء آراء الفقهاء في معنى دار الإسلام ودار الحرب
بخلاصة جامعة في العلَّة التي بُنِي عليها تقسيمُ العالم إلى دار إسلام ودار كفر هي
مناط الحكم [6] على الدار ووصفها بإحدى الصفتين.
فقد أصبح ظاهراً جلياً أن هذا المناط هو. غلبة الأحكام وظهورها بحيث
تكون لها السيادة، فإذا كانت الغلبة والسيادة لأحكام الإسلام فالبلاد دار إسلام، وإذا
كانت الغلبة والسيادة لأحكام الكفر فهي دار حرب أو كفر. ولا فرق بين دار الكفر
ودار الحرب، ولم يكن سبب التسمية بدار الحرب هو حالة وقوع الحرب فعلاً؛ بل
تسمى بذلك ولو لم تكنْ حربٌ فعلية، باعتبار ما بينهما من تباعد، ولذلك يسمونها
دار كفر أو دار شرك أو دار حرب، ويعنون بها حقيقة واحدة.
وهذا المعنى نصَّ عليه جمهور الفقهاء فيما نقلناه عنهم في تعريف الدار،
ومن ذلك قول السَّرَخْسِيّ: (إن الدار إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة
والغَلَبة) [7] . وهو الذي بسطه الكَاسَانِيُّ فقال: (فإذا ظهرت أحكام الكفر في د ار فقد صارت دار كفر، وتصير الدار دار كفر بظهور أحكام الكفر) [8] . ولم يعتبروا وقوع حالة الحرب لتصحَّ التسمية بذلك، ولهذا قال الحنابلة. (الحربيُّ منسوب إلى الحرب وهو القتال، والتباعد والبغضاء أيضاً، ودار الحرب. أي دار التباعد والبغضاء، فالحربي سمي بذلك بالاعتبار الثاني أي التباعد والبغضاء) [9] .
سادساً: رأْي بعض المعاصرين في تقسيم العالم:
عمد بعض الكاتبين المعاصرين إلى مهاجمة تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار
حرب. وكان أول من اتجه هذا الاتجاه هم غير المسلمين؛ حيث اعتبره بعضهم
ناشئاً عن تصور يتطابق مع نزعةٍ تميل إلى السيطرة العالمية، لا ينسجم مع مبدأ
المساواة القانونية بين الأمم، ثم قال: وفي وقت كانت هذه الفكرة مرفوضة من
أولئك الذين دخل الإسلام معهم في صراع نَجَمَ التقسيمُ الأساس للعالم إلى (دار
الإسلام) و (دار الحرب) ، مع ما يتفرع عنه من تقسيم قابل للتطبيق في القانون
الداخلي وفي الخارج على السواء، ألا وهو: تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار على
أنه لا بد من القول بأن هذا التصور لم يكن متَّسقاً مع الإسلام، وإن كان منسجماً
تماماً مع أفكار العصر الذي أنتجه. وقد انتهت هذه الثنائية الواضحة بالانفجار على
المستوى الدولي، وتمثلت برد فعل ضد مفهوم الإمبراطورية النصرانية آنذاك،
وارثة فكرة السلم الروماني [10] .
ثم عمق هذا الاتجاه بعضُ الكُتَّاب المسلمين المعاصرين وحاولوا دعمه ببعض
التعليلات وبأقوال الفقهاء. ويمكن أن نوجز خلاصة رأيهم في تقسيم الدنيا إلى
دارين بما يلي في نقاط متتابعة.
1- إن هذا التقسيم مبني على أساس الواقع لا على أساس الشرع، وهو من
محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري.
2- إنه تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب، فهو ينتهي بانتهاء الحرب
والأسباب التي دعت إليه، ودار الحرب هي التي لم تكن في حالة سلم مع الدولة
الإسلامية. وهذا أمر عارض يبقى بقيام حالة الحرب.
3- إن الدنيا - بحسب الأصل - هي دار واحدة، كما هو رأي الشافعي؛
ولذلك قال الشافعي مع جمهور الفقهاء: إن الحدود تجب على المسلم أينما وقع سببها.
4- أما الحنفية فإنهم اعتبروا أن الدنيا داران؛ ولذا لم يوجبوا إقامة الحدود
على المسلم في دار الحرب.
5- إن الأحكام التي اختلفت بسبب وصف الدار إنما كانت أثراً من آثار
الحرب الدائرة بين المسلمين وغيرهم، أو بسبب مجرد قيام حالة الحرب [11] .
6- والخلاصة في رأيهم: (أن أساس اختلاف الدارين هو انقطاع العصمة،
وأن مناط الاختلاف هو الأمن والفزع كما بينه أبو حنيفة؛ فالدار الأجنبية أو دار
الحرب. هي التي لم تكن في حالة سلم مع الدولة الإسلامية، وهذا أمر عارض
يبقى بقيام حالة الحرب وينتهي بانتهائها) .
ثم ينتهي إلى النتيجة التي يريد تقريرها فيقول: (وبذلك يلتقي القانون الدولي
والشريعة الإسلامية في اعتبار أن الدنيا دار واحدة، وأن الحرب أمر عارض يقيم
حالة عداء مؤقت بين بلدين، فإذا ما انتهت الحرب زالت معها هذه الحالة، وحينئذ
يتضح لكل إنسان أن كلمة (الحربي) - بحسب اصطلاح الفقهاء المسلمين - لا يلزم
أن ترادف كلمة (عدو) دائماً) [12] .
سابعاً: شرعية التقسيم والرد على المنكرين:
تلكم هي خلاصة القول في رأيهم في تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار
الحرب، لم يكن لنا فيها أي إضافة أو نقص، وإنما جعلناها مرتَّبة متسلسلة لنعود
إليها بإبداء بعض الملاحظات حيالها، لنرى مدى دلالتها على ما يريدون الوصول
إليه أو عدم الدلالة على ذلك.
1- إن هذا التقسيم الذي وضعه الفقهاء للعالم تقسيم أصيل وإن لم يجرِ به
الاصطلاح في عهده صلى الله عليه وسلم؛ فهو لم يكن ابتداعاً ابتدعه الفقهاء، بل
إن أصوله في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، شأنه في ذلك شأن كثير من
التقسيمات في الفقه الإسلامي.
ففي القرآن الكريم نجد تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار، ولكل من هذين
القسمين بلاد أو دار تجمعهم، كقوله تعالى. [والَّذين تبوَّءوا الدار والإيمان من
قبلهم يحبون من هاجر إليهم] [الحشر: 9] وقوله [سأريكم دار الفاسقين]
[الأعراف: 145] ، وقوله [تمتعوا في داركم ثلاثة أيام] [هود: 65] وغيرها
من الآيات كثير.
وفي السُّنَّةِ النبوية وفي الآثار عن الصحابة جاء هذا المعنى واضحاً باسم دار
الشرك ودار السُّنَّة، ودار الإسلام، ودار الهجرة، وهذه الثلاثة الأخيرة تعني حقيقة
واحدة، وتنوعت فيها التسمية بتنوع الوصف. وهذه طائفة من الأحاديث والآثار
في ذلك:
- عن جابر بن زيد قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا من المهاجرين؛ لأنهم هجروا
المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون؛ لأن المدينة كانت دار شرك، فجاءوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة) [13] .
- وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمَّر أميراً على
جيش أو سرية أوصاه، ثم قال: (وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهُمْ إلى ثلاث
خصال، فَأَيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام، فإن
أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهُمْ إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين
... ) [14] . فالدار الأولى هي دار المشركين، والثانية هي دار المهاجرين وهي
دار الإسلام، التي جاءت في رواية الإمام محمد بن الحسن للحديث بلفظ، فقال: ... (وادعوهم إلى التحول إلى دار الإسلام) .
- وعن سليمان بن بريدة أن عمر رضي الله عنه بعث سلمة بن قيس على
جيش فقال: (فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال. ادعوهم
إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة ... ) [15] .
- وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر
بن الخطاب: يا أمير المؤمنين: إن الموسم (أي: الحج) يجمع رعاع الناس
وغوغاءهم، وإني أرى أن تمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة
والسُّنَّة [16] .
- وفي كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلتُ لهم: أيما شيخٍ ضَعُفَ
عن العمل، أو أصابته آفة، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دِينِه يتصدقون عليه
طرحت جزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعيالُه ما أقام بدار الهجرة ودار
الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين
النفقة على عيالهم) [17] .
(ففي هذه الأحاديث والآثار وفي غيرها أيضاً جاء اسم (دار الهجرة) و (دار
الإسلام) ، و (دار السنَّة) ، و (دار الشرك) كما رأينا، فقد كانت هذه المسميات
موجودة منذ عهد الرسول. وعهد الصحابة، وحتى لو لم تستعمل مصطلحاً شائعاً
مشتهراً، فإن الأحكام التي طبقها الفقه بعد ذلك على الوحدة التي سماها (دار
الإسلام) ، والأخرى التي سماها (دار الحرب) كانت موجودة في عهده صلى الله
عليه وسلم، واستمد الفقه منها تقنينه لما أُطلق عليه كلٌّ من الاسمين، فلا دلالة إذن
للقول بأن هذه التسمية طارئة مستحدثة، ولا سند للقول بعدم شرعية تقسيم العالم
إلى دار إسلام ودار حرب) [18] .
2- ومن استقراء أقوال الفقهاء في تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب
يظهر أنه لا علاقة لحال الحرب بأصل التقسيم؛ إذ هو كما سبق عند جمهور الفقهاء
مبني على سيادة الأحكام، ولذلك فإن بناء التقسيم على أصل العلاقات سلماً أو حرباً
فيه عكس للقضية؛ فإن العلاقات إنما تتحدد بناءًا على وصف الدار وموقف أهلها
من الإسلام ودعوته؛ ولذلك فإن (تقسيم الدور الأصلية ثابت عند الفقهاء ومحل
إجماع، وليس له علاقة بقضية الحرب والسلم حتى يمكن أن تتغير الأوصاف؛ فإن
الأوصاف الأصلية وهي: دار الإسلام، ودار الكفر لا تزال ما دام هناك مسلمون
وهناك كفار، فلا يجوز أن تُخلط هذه المفاهيم بعضها ببعض) [19] .
3- وأما أن الدنيا دار واحدة عند الشافعي كما نقله الدّبُوسِيّ عنه واحتج به
بعض المعاصرين فهذا من حيث الأحكام التي وقع الخلاف فيها بينه وبين الحنفية؛
فهي دار واحدة من حيث التزام المسلم بالأحكام أينما كان، ويوضح هذا ويؤكده أن
الشافعية يقسمون الديار إلى: دار إسلام، ودار كفر، ويقولون بوجوب الهجرة
أحياناً من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأحياناً باستحبابها حسب حاله، ويتحدثون
عن مسائل اختلاف الدارين وأنه لا يؤثر في الأحكام، وعلى هذا فالتقسيم عندهم
متفق عليه، وكتبهم كلُّها شاهدة بذلك.
4- أما اختلاف بعض الأحكام بين دار الإسلام ودار الحرب عند القائلين بذلك
كالحنفية فلا علاقة له بقيام الحرب كما هو ظاهر واضح؛ فإن الحنفية لما قالوا
بامتناع تطبيق العقوبة على المسلم الذي ارتكب موجبها وهو في دار الحرب، عللوا
ذلك بأنه لا ولاية للحاكم المسلم على دار الحرب، وتطبيق العقوبة يقتضي الولاية،
فلما وقعت الجريمة غيرَ موجِبَةٍ للعقوبة وقتَها لم تجبِ العقوبةُ بعد عودته؛ لأنها
وقعت أصلاً غَيْرَ موجِبة.
5- ويزكِّي هذا الذي تقدم ويؤيده أن رأي الحنفية في درء الحد عن المسلم
الذي ارتكب ما يوجب العقوبة في دار الحرب لا يختلف باختلاف حال الحرب
وحال السلم والأمن أو الموادعة؛ فهو قد يكون آمناً عندهم بعقد الأمان ولا يؤثر ذلك
على درء الحد، بل غالباً ما لا يكون دخوله إلا بأمان، وعندئذ يظهر أن اختلاف
الأحكام لم يكن بسبب قيام حالة الحرب، وإنما بسبب عدم الولاية والسلطة.
6- أما توفر الأمن والسلام فإنه لا يؤثر في التقسيم أيضاً؛ إذ قد يكون المسلم
آمناً في دارهم بعقد أمان، ومع ذلك فإن دارهم دار كفر وحرب، ولا فرق في
التسمية، وإن كان بعضهم قد جعلها دار كفر لا دار حرب اسماً.
واشتراط الإمام أبي حنيفة الأمان للمسلمين لتكون الدار دار إسلام، لا ينصبُّ
على أصل وصف الدار وتقسيم العالم إلى دارين، وإنما هو في شروط تغير صفة
الدار من دار إسلام إلى دار كفر؛ حيث قال: لا تصبح دار كفر إلا بالشروط
الثلاثة مجتمعة؛ فإذا بقي المسلمون آمنين بالأمان الأول لم تصر الدار دار حرب؛
فهما قضيتان مختلفتان لا يجوز الخلط بينهما، ولا يدل رأيه على ما أراده
المعاصرون أو فهموه من رأيه في ذلك.
7- أما أن كلمة (الحربي) فلا يلزم أن ترادف كلمة (عدو) كما انتهى إليه
بعض المعاصرين فهذا كلام عجيب غريب، يصادم آيات القرآن الكريم ومدلولات
اللغة العربية؛ فإن الحربي عدو للمسلمين، وعدو المسلمين محارب لهم حقيقة أو
حكماً؛ ولذلك فإن محاولة تأويل النصوص وتمييع الأحكام من أجل أن نظهر أمام
أعدائنا من الكفار بأننا أصدقاء لهم، هذا كله يتناقض مع أحكام الدين، وهو في
الوقت نفسه لا يقنع أولئك القوم، ويعرفون أنه مجاملة أو انهزامية فحسب؛ فهم قد
(درسوا قضية ديار الحرب وديار الإسلام، وكيف يقسم الفقهاء المسلمون الدار إلى
دارين، وهل لدى المسلمين استعداد لأن يتنازلوا عن هذه القسمة ويعترفوا بالنظام
العالمي الجديد؟) [20] .
والأمر الذي ينبغي أن يكون واضحاً هو أنه (لا مكان لما يسمى بالنظام
العالمي الجديد أمام القسمة الثابتة التي تجعل للمسلمين دارهم وشريعتهم وولاءهم
وتميزهم وتوجههم) [21] .
وقد ألمحنا في مناسبات سابقة إلى خطورة المنهج التسويغي في البحث
ومحاولة التقريب ولو بالتعسُّف والتَّمَحُّل بين القانون والشريعة، هذه المحاولة التي
تنم عنها النتيجة التي وصل بعضهم إليها فقال: (وبذلك يلتقي القانون الدولي
والشريعة الإسلامية في اعتبار أن الدنيا دار واحدة) .
ثامناً: دار العهد والموادعة:
ألمحنا فيما سبق إلى اتفاق العلماء على أن البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام
وتخضع للسيادة الإسلامية تكون دار إسلام. وهذا يشمل ما إذا أسلم أهل البلاد
وأقاموا بدارهم، وما إذا فتحت البلاد عنوة وأجرى المسلمون فيها أحكام الإسلام،
وما إذا دخل أهل البلاد في ذمة المسلمين وخضعوا لأحكام المسلمين؛ فإن أهل الذمة
من أهل دار الإسلام، ويشمل أيضاً البلاد التي فتحت صلحاً على أن تكون الأرض
للمسلمين ويُقَرَّ أهلها فيها ويوضع عليهم الخراج، وما عدا ذلك من البلاد فهي دار
كفر أو حرب.
واتفقوا أيضاً على تقسيم العالم أو الديار إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما، هما.
دار الإسلام، ودار الحرب، ولا دار لغيرهما [22] .
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام. أن دار الحرب تقسم إلى قسمين. دار
حرب لا يوجد بيننا وبينها معاهدة أو موادعة وميثاق، ودار حرب بيننا وبينهم
موادعة ومعاهدة، وهذه يجعلها الإمام محمد ابن الحسن الشيباني وغيره من الفقهاء
رحمهم الله من جملة دار الحرب، ويجعلها بعض الكاتبين المعاصرين داراً مستقلة
يسميها دار العهد [23] .
تاسعاً: رأي الإمام الشيباني:
تناول الإمام محمد بن الحسن الموادعة والمعاهدة في أبواب كثيرة [24] ،
وتحدث عن أهل الموادعة، وأن دار الموادعة ليست داراً مستقلة، بل هي دار
حرب، وبنى على ذلك مسائل فقهية كثيرة، وجاء تعليلها عند السرخسي بأن دار
الموادعة دار حرب.
قال الإمام محمد بن الحسن: (لو أن أهل دار من دور الحرب وادَعوا
المسلمين على أن يؤدوا إليهم كل سنة خراجاً، أو شيئاً معلوماً في كل سنة على أن
لا يُجْرِيَ المسلمون عليهم أحكام الإسلام، ولا يكونوا ذمَّة لهم، ثم إن رجلاً منهم
خرج إلى دار الإسلام بأموال كثيرة على تلك الموادعة فهو آمِنٌ) .
(ويعلل السَّرَخْسِيُّ ذلك بأن هذا الرجل الذي خرج إلى دار الإسلام حربيٌّ
على حاله إلا أنه آمِنٌ، ولم يَصِرْ ذمِّياً؛ لأن حكم المسلمين غير جارٍ على أهل
الموادعة ولم تصرِ الدارُ دارَ إسلامٍ بتلك الموادعة؛ لعدم جريان حكم الإسلام،
فكانت دار حرب) [25] .
ويقول الإمام محمد أيضاً: (لو أن رجلاً من الموادعين قتل رجلاً منهم في
دار الموادعة لم يكن عليه القصاص، ولو قتل مستأمِنٌ مستأمَناً في دارنا يجب عليه
القصاص) .
ويعلِّل السرخسي ذلك فيقول: (لأن أهل الموادعة لم يلتزموا شيئاً من حكم
الإسلام، فإنهم وَادَعُونَا على أن لا تجري عليهم أحكامُنا، فكانت دارهم دار حرب
على حالها) [26] .
ويقول أيضاً: (لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب وإن
كانوا موادعين حين لم ينقادوا لحكم الإسلام، ألا ترى أنهم بعد مضي مدة الموادعة
يعودون حرباً للمسلمين؟) [27] .
__________
(1) انظر اكتشاف المسلمين لأوروبا، تأليف برنارد لويس، ص 69.
(2) انظر (التشريع الجنائي الإسلامي) عبد القادر عودة: 1/274- 275، (مبادئ القانون الدولي العام) ، ص 51، (المجتمعات الإقليمية الدولية) ، ص 25 كلاهما للدكتور محمد حافظ غانم، (مصنفة النظم الإسلامية) د مصطفى كمال وصفي، ص 285، 286 وهذه القسمة الثنائية للمجتمعات أو الدور (دار حرب، ودار إسلام) هي التي قال بها العلماء، فقد نصوا على أن الدار لا تخلو من أن تكون دار كفر أو دار إسلام، ولا دار لغيرهما انظر (المعتمد في أصول الدين) لأبي يعلى الفراء، ص 276، (الآداب الشرعية) لابن مفلح: 1/213.
(3) الدال والواو والراء: أصل واحد يدل على إحداق الشيء بالشيء من حواليه يقال: دار يدور دوراناً والدار: المنزل المسكون؛ اعتباراً بدورانها الذي لها بالحائط، وتسمى البلدة داراً، وتسمى الدنيا داراً والآخرة داراً، إشارة إلى المقرين والدار أيضاً: القبيلة، وهي كذلك: المحل يجمع البناء والساحة ودار الإسلام: بلاد المسلمين وبهذه المعاني أو أكثرها وردت كلمة (الدار) في القرآن الكريم والحديث الشريف والجمع: ديار، ودور، وأدوُر، وديارة انظر (الصحاح) : 2/659-660، (معجم مقاييس اللغة) : 2/311، (مفردات القرآن) ، ص 174، (لسان العرب) : 4/295-300، (القاموس المحيط) : 2/229- 231، (المصباح المنير) : 1/202-203، (التوقيف على مهمات التعاريف) ، ص 332، (المعجم الوسيط) : 1/202-203.
(4) حاشية ابن عابدين: 4/166.
(5) انظر بالتفصيل: (أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني دراسة مقارنة) : 1/317-326.
(6) المناط في اللغة: اسم مكان من الإناطة، وهي التعليق والإلصاق يقال: نُطْتُ الحَبْل بالوتد أنُوطُه نَوْطا: علقته وعند الأصوليين: المناط: هو علة الحكم أي العلة التي يرتب عليها الحكم أو يربط بها وجوداً وعدماً وعبر عن هذه العلة بالمناط من باب المجاز اللغوي؛ لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المُحَسّ الذي تعلق بغيره، فهو من باب تشبيه الأشياء المعنوية بالمحسَّة وصار ذلك عرفاً في اصطلاح الفقهاء والأصوليين بحيث لا يفهم عند الإطلاق غيره انظر (الصحاح) للجوهري: 3/1165، (لسان العرب) : 7/471-420، (ميزان الأصول) للسمرقندي، ص 579-580، (كشف الأسرار) للبزدوي: 3/184- 188، (شرح تنقيح الفصول) للقرافي، ص 388، (المستصفى) للغزالي: 2/ 230، (شرح الكوكب المنير) لابن النجار: 4/199-200، (شرح مراقي السعود) للشنقيطي، ص 190.
(7) (المبسوط) للسرخسي: 10/114.
(8) (بدائع الصنائع) للكاساني: 9/4375، وانظر: (أحكام الديار) ، د عابد محمد السفياني، ص 15 وما بعدها.
(9) (المطلع على أبواب المقنع) للبعلي، ص 226.
(10) انظر: (من أجل نظرية في القانون الدولي) لإدمون رباط، ترجمة الدكتور إبراهيم عوض، ص 30، 31 وهو بحث بالفرنسية منشور في (المجلة المصرية للقانون الدولي) عام (1950م) ، ص 1-23.
(11) انظر (العلاقات الدولية في الإسلام) لأبي زهرة، ص 51، وبحثه عن (نظرية الحرب) ، ص 14 15 منشور بالمجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد الرابع عشر، 1958 ففيهما تقرير أن التقسيم كان بحكم الواقع لا بحكم الشرع، أما سائر النقاط الأخرى أعلاه فهي خلاصة رأي أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي في كتابيه (آثار الحرب) ، ص 181 و 194 195 و (العلاقات الدولية في الإسلام) ، ص 109 و 113 116.
(12) (آثار الحرب في الفقه) ، ص 195 196، (العلاقات الدولية) ، ص 116 ويلاحظ أن فقهاء القانون الدولي كان لهم نظرة لهذا التقسيم تتسم بالدقة، فوصفوا هذا المصطلح بأن فيه سهولة ويسراً وضبطاً انظر (أحكام القانون الدولي) ، د حامد سلطان، ص 115.
(13) أخرجه النسائي في كتاب البيعة، باب تفسير الهجرة: 7/144 145.
(14) أخرجه مسلم في الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء، 3/1357، ومحمد بن الحسن في (الأصل) ، ص 93، وفي (الآثار) ، ص 189 بلفظ (وادعوهم إلى التحول إلى دار الإسلام) وهذا نصٌ صريح في تسميتها دار إسلام.
(15) رواه أبو يوسف في (الخراج) ، ص 210.
(16) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي وأصحابه المدينة: 7/7/264.
(17) رواه أبو يوسف في (الخراج) ، ص 155 156، وانظر (الأموال) لأبي عبيد، ص 98، (مجموعة الوثائق السياسية) د محمد حميد الله، ص 381.
(18) انظر (مصنفة النظم الإسلامية) د مصطفى كمال وصفي، ص 289.
(19) (مجلة مجمع الفقه الإسلامي) العدد السابع، الجزء الرابع، 1412 هـ، من مداخلة للدكتور عابد السفياني.
(20) المصدر السابق، ص 280 من مداخلة للدكتور طه جابر العلواني.
(21) المصدر نفسه، ص 294 من مداخلة الدكتور عابد السفياني.
(22) انظر: (المعتمد في أصول الدين) لأبي يعلى، ص 276، (أحكام أهل الذمة) لابن القيم: 1/475-476، (الآداب الشرعية) لابن مفلح: 1/213.
(23) انظر (منهج الإسلام في الحرب والسلام) عثمان جمعة ضميرية، ص 58.
(24) انظر (المعاهدات الدولية) ، ص 27 وما بعدها، عثمان جمعة ضميرية.
(25) (السير الكبير) مع شرح السرخسي: 5/2157، 2165.
(26) المصدر نفسه 5/1857 و 1893.
(27) (شرح السير الصغير) ضمن المبسوط للسرخسي 10/88-89 و 97.(142/8)
دراسات في العقيدة والشريعة
من القواعد الفقهية
(1-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
بعد أن دُونت كثير من المسائل الفقهية والقواعد الأصولية، اعتنى الفقهاء
بتدوين فن آخر نشأ بعد ذلك، وهو ما عرف بالقواعد الفقهية.
والقاعدة الفقهية: (حكم شرعي في قضية أغلبية يتعرف منها أحكام ما دخل
تحتها) أو يقال: (هي أصل فقهي كلي يتضمن أحكاماً تشريعية عامة، من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه) [1] نحو قاعدة: (الأمور بمقاصدها) ، و (اليقين لا يزول بالشك) ، و (الضرر يُزال) ، و (العادة ... محكمة) ، و (المشقة تجلب التيسير) ، وهذه هي القواعد الفقهية الكلية الخمس الكبرى، ودونها من القواعد الفقهية كثير.
ونظراً للأهمية الكبيرة التي تمتاز بها هذه القواعد، فقد أحببت الوقوف مع
بعضها، ممهداً لذلك بمباحث مهمة، من فوائد دراستها، وبيان مصادرها،
ويحتوي هذا المقال عدداً من القواعد الكلية مع الإشارة إلى أصلها الذي بُنيت عليه،
ثم ذِكْر لبعض فروعها، والتي هي بمثابة التمثيل لها ببعض المسائل الفقهية،
وليس المقصود حصرها، ولكن ذكر القدر الذي تُفهم به القاعدة، ثم تكون الاستفادة
منها بتخريج بقية المسائل المندرجة تحتها عليها، وإلحاقها بها، ولكي تتحقق الفائدة
من عرض هذه القواعد فإني أحاول تقريب أمثلتها ما أمكنني ذلك لتكون ألصق
بواقعنا المعاش، وهذا ضابط في اختياري هذه القواعد، والضابط الآخر هو التزام
صحة القاعدة وثبوتها. واللهَ أسأل السداد والنفع.
فوائد دراسة القواعد الفقهية:
وتظهر أهمية دراسة القواعد الفقهية من خلال معرفة مهمتها في الفقه وفائدتها
في فهم المسائل وحفظها، ويمكن تسجيل فوائدها في الأمور الآتية.
1- أن دراسة القواعد الفقهية وحفظها أيسر طريق لمعرفة أحكام المسائل
الجزئية وتذكُّرِها؛ لأن من الصعب حفظ حكم كل جزئية على حدة، بينما يسهل
حفظ القواعد، وفهم كيفية التفريع عليها، ومعرفة مستثنياتها، قال القرافي: (ومن
ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات) . [2]
2- أن دراسة الجزئيات بمعزل عن القواعد الفقهية الجامعة لها قد تُوقِِعُ في
بعض الخطأ والخلط والاضطراب؛ لعدم الرابط الجامع، قال القرافي: (ومن جعلَ
يُخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع
واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت) . [3]
3- أن دراستها تربي الملكة الفقهية، وتنمي القدرة على إلحاق المسائل
وتخريج الفروع لمعرفة أحكامها، قال السيوطي: (اعلم أن فن الأشباه والنظائر،
الذي تدخل فيه القواعد الفقهية، فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه،
ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج،
ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي
على مر الزمان) . [4]
4 -أن دراستها مما يعين على معرفة مقاصد الشريعة، بشكل قد لا يتيسر من
خلال دراسة الجزئيات؛ حيث إن دارس الفقه قد لا يتفطن لها، بخلاف ما لو درس
قاعدة (المشقة تجلب التيسير) ، فإنه يظهر له أن من مقاصد الشريعة: التيسير
على المكلفين، وكذا لو درس قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ، فإنه يتبين له أن من
مقاصد الشريعة: دفع الضرر ورفعه ... وهكذا [5] .
5- أن دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها تربِّي عند الباحث ملكة المقارنة بين
المذاهب المختلفة، وتوضح له وجهاً من وجوه الاختلاف وأسبابه بين المذاهب؛
وذلك لأن القواعد الفقهية في أكثرها موضع اتفاق بين الأئمة المجتهدين، ومواضع
الخلاف فيها قليلة، فتظهر الفائدة من دراسة هذا القليل وتأمله؛ حيث إنه سبب من
أسباب الاختلاف.
6- أن دراستها وإبرازها (تُظهر مدى استيعاب الفقه الإسلامي للأحكام،
ومراعاته للحقوق والواجبات، وتُسهِّل على غير المختصين بالفقه الاطلاع على
محاسن هذا الدين، وتُبطِل دعوى من ينتقصون الفقه الإسلامي، ويتهمونه بأنه إنما
يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية) [6]
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في منظومته في القواعد مبيناً بعض فوائد
دراستها:
فاحرص على فهمك القواعد ... جامعة المسائل الشوارد
فترتقي في العلم خير مرتقى ... وتقتفي درب الذي قد وُفِّقَا [7]
مصادر القواعد الفقهية:
تعد القواعد الفقهية وليدة الأدلة الشرعية والحجج الفقهية؛ إذ هي مؤسَّسَةٌ
على ثوابت، مبنية على دعائم قوية، وغالبها مأخوذ من دلالات النصوص
التشريعية العامة المعللة، ومنها ما هي من حيث ذاتها نصوص شرعية ثم جرت
مجرى القواعد عند الفقهاء، مثل: (لا ضرر ولا ضرار) ، و (البينة على
المدعي، واليمين على من أنكر) ، و (الخراج بالضمان) ، و (جناية العجماء جبار) .
إذن: فالقواعد الفقهية إما أن يكون مصدرها النصوص الشرعية، أو يكون
غير النصوص، وهو أنواع:
فمنها: قواعد مصدرها الإجماع، كقاعدة: (لا اجتهاد مع النص) ، ومنها:
قواعد أوردها الفقهاء،والمجتهدون مستنبطين إياها من أحكام الشرع العامة،
ومستدلين لها بنصوص تشملها من الكتاب والسنة والإجماع ومعقول النصوص.
(وقرين هذه قواعد أوردوها في مقام الاستدلال القياسي الفقهي؛ حيث
تعتبر تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية ومسالك الاستدلال القياسي عليها أعظم
دليل لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها عند استقرار المذاهب الفقهية) . [8]
لذا كان من الأهمية بمكان: مراعاة دليل القاعدة، وصحة تقعيدها. على أن
القواعد الفقهية الكبرى قد جاوزت القنطرة، وكذا غالب القواعد الكلية، وإنما هناك
بعض القواعد اليسيرة التي قد تبنى على عدد من الفروع الفقهية في مذهب معين،
وقد يكون الراجح ثبوتها أو عكسه، لكون هذا المذهب في تلك المسألة راجحاً أو
مرجوحاً.
هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؟
هذه المسألة حساسة ومهمة، وعليها تنبني كثير من الأحكام، والراجح فيها
أنه لا يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؛ وذلك أن
القاعدة مستثناة، وصفتها عدم الشمول، ونحن مطالبون بأن نستدل بدليل ثابت
صفته الشمول والدقة.
(نعم! إن لبعض القواعد صفة أخرى كأن تكون معبرة عن قاعدة أصولية،
أو كونها حديثاً ثابتاً؛ فهنا نستند إلى صفتها، كأن تكون دليلاً قرآنياً أو سنة نبوية
أو قاعدة أصولية؛ فيكون الاستدلال في حقيقة الأمر بالآية أو الحديث أو القاعدة
الأصولية الثابتة لا بالقاعدة الفقهية) [9] .
قاعدة (الخروج من الخلاف مستحب)
إنه لا إنكار في الاجتهادات، وإن الأمة يسع بعضها بعضاً فيما يسوغ فيه
الخلاف، ولكن يجب أن لا ننسى أن الاختلافات العلمية تثير جدلاً أحياناً، وربما
تؤثر في الألفة والتقارب، ولما كان قطع النزاع في الاجتهادات أمراً صعباً، وكان
الخلاف شراً.. جاءت هذه القاعدة لتقرر أن الخروج من الخلاف مستحب مع
مراعاة شروطه [10] . وهذا تأكيد على أن التقارب هو الأصل، ولذا حرص
الإسلام على تسوية الصفوف في الصلاة؛ لئلا تختلف القلوب في الباطن (لا
تختلفوا فتختلف قلوبكم) [11] .
ولهذه القاعدة سندها الشرعي، فهي ضرب من الورع المشروع، والاحتياط
في الدين، وترك الشبهات، ليسلم للمرء دينه وعرضه.
وقد ندب النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى ترك الشبهات، كما في حديث
النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-يقول: (إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات
وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل
ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) [12] .
بل إن أكثر مسالك الورع داخلة في هذه القاعدة. وقد قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (يا أبا هريرة: كن ورعاً تكن أعبد الناس) [13] قال يونس بن
عبيد: (الورع: الخروج من كل شبهة) ، وقال بعض الصحابة: (كنا ندع سبعين
باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام) وهو أمر ميسور لصاحب النية
والهمة. قال سفيان الثوري: (ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك
فاتركه) [14] .
ومن الشبهات التي يحيك في النفس أمرها ما اختلف أهل العلم في حله
وتحريمه من طعام كالخيل، أو شراب كبعض الأنبذة، أو لباس كجلود السباع، أو
مكسب كالتورُّق، سواء كان سبب الاختلاف تعارض الأدلة الشرعية، أو كون
المسألة من مسائل الاجتهاد لا نص صريحاً فيها، فهذه وأشباهها مما يستحب
الخروج من الخلاف فيها.
ويكون الخروج من الخلاف بفعل ما اختلفوا في وجوبه، وترك ما اختلفوا في
حرمته.
ضوابط الاحتياط والخروج من الخلاف:
هذا الباب قد يكون مزلقاً خطيراً، وباباً يولَج منه إلى الابتداع في الدين، أو
التضييق على الناس، وسلب خاصية التيسير ورفع الحرج في كثير من الأحكام،
خاصة في الصورة الأولى؛ لذلك فإن القول بالاحتياط والأخذ به يحتاج إلى عدة
ضوابط هي:
1- أن يكون مأخذ المخالف - في المسألة التي نريد الخروج منها قوياً، فإذا
كان ضعيفاً فلا يؤبه به، كقول ابن حزم بوجوب الفطر على المسافر، فلا يقال
بأفضلية الفطر مطلقاً مراعاة لخلافه، بل الأفضل هو الأيسر.
2- أن القول المعتبر في مشروعية الخروج من الخلاف في مسألة ما هو قول
العالم القادر على الموازنة بين الأقوال.
3- هذا العالم ليس له أن يفتي الناس بالاحتياط في كل مسألة، بل الواجب
عليه الفتوى بما يدين لله به أنه الحق، وهو ما أداه إليه علمه بالدليل واجتهاده في
المسائل، ولا يفتي بالاحتياط إلا حين يتساوى القولان عنده في المسألة؛ فهناك
فرق بين فتواه وعمله لنفسه؛ فإن الشأن في عمله لنفسه أوسع؛ فله أن يحتاط لنفسه
في كثير مما لا يسعه أن يفتي به الناس.
4- أن لا تؤدي مراعاة الخروج من الخلاف إلى ترك سنة ثابتة، أو خرق
إجماع، فمثلاً لو قيل ببطلان الصلاة برفع اليدين لم نعبأ بهذا الخلاف؛ لمعارضته
للأحاديث الثابتة.
5- أن لا تؤدي المراعاة إلى المنع من الاستكثار من عبادة ثابتة، فلا ينبغي
ترك الاعتمار مراعاة لكراهة المالكية تكرار العمرة في السنة الواحدة، وكراهة
الحنفية اعتمار المقيم بمكة في أشهر الحج، فلا تنبغي هذه المراعاة؛ لكونها يُفَوَّت
بها خير كثير ثبت فضله بلا تقييد.
6- ألا تُوقِعَ المراعاةُ في خلاف آخر، فنحتاج إلى الخروج منه، فيلزم الدوْر.
أمثلة للقاعدة:
- استحباب تبييت نية صوم النفل من الليل؛ لأن التبييت واجب عند المالكية، غير واجب عند غيرهم.
- استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة والوضوء، باعتبار
وجوبها عند بعض العلماء.
- استحباب الدلك في الطهارة، واستيعاب الرأس بالمسح، وغسل المني
بالماء، والترتيب في قضاء الصلوات، واجتناب استقبال القبلة واستدبارها عند
قضاء الحاجة - مع وجود ساتر - كل ذلك خروجاً مِن خلاف مَنْ أوجب
الجميع [15] .
- استحباب الشرب جالساً، خروجاً من خلاف من أوجب الجلوس، واعتبر
الوقوف خاصاً بالنبي [16] .
- ترك أكل اللحوم المستوردة حين اشتباه حالها؛ نظراً لاختلاف أهل العلم
فيها.
- ترك الأخذ من الزكاة حين يشتبه حال الآخذ: هل هو من أهلها أم لا؟
كمن لديه فضل مال وعليه حاجات واختلف أهل العلم في حاله، فيكون الأفضل
الترك.
- ترك الأخذ من الأوقاف الموقوفة على أصحاب أوصاف معينة كالفقهاء أو
القراء؛ فهناك المتمكنون والمبتدئون، فقد يشتبه حال الرجل؛ فيختلف فيه أهل
العلم بناء على اشتباه حاله.
قاعدة (إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَب الحرامُ الحلالَ)
وأصل هذه القاعدة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن
والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات أو مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام،
كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى
الله محارمه» [17] .
كما أن حديث عدي بن حاتم يعتبر أصلاً لهذه القاعدة. قال: قلت يا رسول
الله! أُرسِلُ كلبي وأُسَمِّي، فأجد معه على الصيد كلباً آخر لم أُسَمِّ عليه، ولا
أدري أيهما آخذ؟ قال: «لا تأكل، إنما سميت على كلبك، ولم تُسَمِّ على
الآخر» [18]- فنهاه عن أكل الصيد؛ لاحتمال أن يكون الكلب الآخر الذي لم يُسَمِّ عليه هو الذي قتل الصيد، وهذا فيه أمر باجتناب ما اختلط فيه الحلال بالحرام.
ومن الأمثلة على القاعدة:
- إذا صُبَّ ماء نجس على ماء طاهر أكثر منه في إناء فإنه ينجس.
- إذا اشتبهت امرأته بامرأة أجنبية، حرمتا عليه حتى يميز امرأته من غيرها.
- إذا ربح مالاً من تجارة فيها ربا وغش وخديعة حرم عليه الربح كله إذا لم
يمكن تمييز الحلال من الحرام.
قاعدة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)
وفي معنى هذه القاعدة، يقول - تعالى -[إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل] [النساء: 58] .
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن
رعيته» [19] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية
فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة» [20] .
ومن فروع هذه القاعدة:
إذا لم يوجد ولي للقتيل فالسلطان وليه، ولكن ليس له العفو عن القصاص
مجاناً؛ لأنه خلاف المصلحة، بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص، أو في
الدية أخذها [21] .
قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور:
أصل هذه القاعدة قول الله - تعالى -[فاتقوا الله ما استطعتم]
[التغابن: 16] وما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» [22] .
ومن فروعها:
- إذا كان مقطوع بعض الأعضاء يجب عليه غسل ما بقي جزماً.
- إذا عجز عن ستر حميع العورة فعليه ستر القدر الممكن.
- القادر على بعض الفاتحة يأتي به بلا خلاف.
- من بجسده جرح يمنعه استيعاب الماء فعليه غسل الصحيح مع المسح على
المكان الذي لم يغسله، أو التيمم عليه [23] .
قاعدة: العبادات كلها لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، وقبل الوجوب، أو قبل شرط الوجوب:
من فروعها:
- الطهارة سبب وجوبها: الحدث. وشرط الوجوب: إرادة فعل العبادة
المشترط لها الطهارة، فلا يجوز تقديمها على الحدث، ويجوز تقديمها على العبادة،
ولو بالزمن الطويل بعد الحدث.
- زكاة المال يجوز تقديمها من أول الحوْل بعد كمال النصاب، ولا تجزئ
قبل كمال النصاب؛ لأنه سبب الوجوب.
- كفارة اليمين يجوز تقديمها على الحنْث - وهو فعل خلاف ما حلف عليه -، بعد عقد اليمين - وهو سبب وجوب الكفارة -، مالية كانت أو بدنية.
ويترتب على هذه القاعدة قاعدة:
إذا عجَّل عبادة قبل وقت الوجوب، ثم تغير الحال بحيث لو فعل المعجل في
وقت الوجوب لم يجزئه، فهل تجزئه؟ أم لا؟ هذا على قسمين:
1 - أن يتبين الخلل في العبادة نفسها؛ بأن يظهر بأن الواجب غير المعجل،
ومن صوره:
إذا كفَّر بالصوم قبل الحنث ثم حنث وهو موسر - يستطيع الإطعام أو الكسوة
أو العتق كفارة ليمينه - أو صام المتمتع، ثم قدر على الهدي، لعل الصحيح أنه
يجزئه لبراءة ذمته بفعله الأول.
- وفي العبادات المالية: لو زكى قبل الحول ثم نمى المال، فإنه يجزئه ما
أخرجه، ويلزمه أن يخرج عن الزيادة.
2 - أن يتبين الخلل في شرط العبادة - والصحيح أنه يجزئه - ومن صوره:
- إذا عجل الزكاة إلى فقير مسلم، ثم كفر أو استغنى قبل الحول.
- إذا جمع بين صلاتين جمع تقديم بتيمم ثم وجد الماء في وقت الثانية.
- إذا جمع مع القصر مسافراً ثم قدم في الوقت الثانية.
قاعدة: (إذا فعل عبادة في وقت وجوبها، يظن أنها الواجبة عليه، ثم تبين أن الواجب كان غيرها، فإنه يجزئه) ولها صور:
- إذا أناب العاجز عن نفسه من يحج عنه، ثم برئ: أجزأه.
- إذا كفَّر العاجز عن الصوم، للإياس من برئه، ثم عوفي، لم يلزمه
القضاء.
- إذا صلى الظهر لعذر عن الجمعة، ثم زال العذر قبل تجميع الإمام لم تلزمه
الإعادة.
ويلتحق بها ما إذا خفي الاطلاع على خلل الشرط ثم تبين، فإنه يغتفر - في
الأصح - ومن ذلك.
- إذا أدى الزكاة إلى من يظنه فقيراً فبان أنه غني فإنها تسقط.
- إذا صلى المسافر بالاجتهاد إلى القبلة، ثم تبين الخطأ فإنه لا إعادة عليه.
قاعدة: (من تلبس بعبادة ثم وجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشروع لكان هو الواجب دون ما تلبس به، هل يلزمه الانتقال إليه أم يمضي ويجزئه؟) هذا على ضربين:
الأول: أن يكون المتلبَّس به رخصة عامة شُرِعت تيسيراً، فلا يجب عليه
الانتقال للأصل، كالمتمتع إذا شرع في الصيام، ثم وجد هدياً، لم يجب عليه
الرجوع إلى الهدى.
الثاني: أن يكون المتلبَّس به إنما شُرِعَ ضرورة للعجز عن الأصل وتعذُّره
بالكلية فهذا يلزمه الانتقال للأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التلبس بالبدل.
ومثاله: ما لو عدم الماء، فشرع في التيمم، ثم وجد الماء فإنه يجب عليه استعماله، ولا يجزئه التيمم.
وهناك أمثلة مترددة بين الضربين:
منها: من شرع في صيام كفارة ظِهار أو يمين أو غيرهما، ثم وجد الرقبة.
ومنها: المتيمم إذا شرع في الصلاة ثم وجد الماء.
__________
(1) تعريف علي الندوي، في القواعد الفقهية، ص43-45.
(2) الفروق: 1/3.
(3) المصدر السابق.
(4) الأشباه والنظائر: 6.
(5) انظر: القواعد للندوي: 289-292.
(6) الوجيز، للبورنو: 23.
(7) رسالة في القواعد الفقهية: 10.
(8) الوجيز في القواعد الفقهية، للبورنو، ص 30-37.
(9) انظر القواعد الفقهية، ص 293.
(10) انظر: قواعد فقهية لترشيد الصحوة الإسلامية، ص 55-80.
(11) أخرجه مسلم، ح432.
(12) أخرجه البخاري، ح52، ومسلم، ح1599.
(13) أخرجه ابن ماجه، ح4217، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح 7833.
(14) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم: 2/22، 23.
(15) انظر: القواعد، للندوي، ص 336 342، والأشباه والنظائر السيوطي، ص 136.
(16) وللقول بالاستحباب في مثل هذه المسألة - التي اختلف فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله - مأخذ آخر، هو اعتبار فعله - وهو هنا شربه قائماً - قرينة صارفة للنهي عن التحريم إلى الكراهة وعلى هذا الوجه لا تصلح المسألة مثالاً لهذه القاعدة؛ لأنه حينئذ لا خلاف.
(17) أخرجه مسلم، ح1599.
(18) أخرجه البخاري، ح2054.
(19) أخرجه البخاري، ح7137.
(20) أخرجه البخاري، ح7150.
(21) انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي: 121.
(22) أخرجه البخاري، ح7288، ومسلم، ح1337، واللفظ له.
(23) انظر في هذه القواعد الثلاث: القواعد للندوي، ومجلة البيان 50/28.(142/18)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإجماع.. حقيقته وحجيته
(2-2)
محمد عبد العزيز الخضيري
تطرق الكاتب في الحلقة الأولى إلى تعريف الإجماع، ووقف عند حدوده
ومكانته، ثم ساق الأدلة على حجيته، ويواصل في هذه الحلقة بقية عناصره:
البيان
أقسام الإجماع:
يُقسِّم الأصوليون الإجماع أقساماً متعددة باعتبارات مختلفة [1] :
1 - باعتبار ذاته: ينقسم إلى إجماع صريح، وإجماع سكوتي، وسيأتي
تعريفهما.
2 - وباعتبار أهله: ينقسم إلى إجماع عامة، وإجماع خاصة. والمراد
بإجماع العامة: هو المعلوم من الدين بالضرورة؛ فإن هذا ينقله عامة المسلمين
وخاصتهم، أما غيره فينقله الخاصة، وهم أهل العلم.
3 - وباعتبار عصره: ينقسم إلى إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -
وإجماع غيرهم.
4 - وباعتبار نقله إلينا: ينقسم إلى إجماع يُنقل بطريق التواتر، وإجماع
يُنقل بطريق الآحاد.
5 - وباعتبار قوته: ينقسم إلى إجماع قطعي، وإجماع ظني. فالقطعي مثل: المعلوم من الدين بالضرورة. والظني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن
فيه اتفاق الكل.
وسأقتصر في هذه المقالة على بحث قِسْمَيِ الإجماع باعتبار ذاته؛ لأهميته:
القسم الأول:
الإجماع الصريح: هو عبارة عن اتفاق كل مجتهدي الأمة المحمدية في عصر
من العصور على حكم شرعي لواقعة، بأن يبدي كل واحد منهم رأيه صراحةً، أو
يبين بعضُهم الحكم قولاً، ويفعل البقية على وفق ذلك القول؛ فهذا حجة قاطعة بلا
نزاع [2] ، وقد تقدمت الأدلة على ذلك.
وجمهور الأصوليين على أن المجتهدين إذا اتفقوا في الفعل بما يدل على حكمه
- وهو ما يسميه بعضهم الإجماعَ الفعليَّ الصريح - فهو حجة أيضاً، قياساً على
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالوا: إن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوتها
للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان فعلُه حجةً فكذلك اتفاقهم في الفعل حجة.
القسم الثاني:
الإجماع السكوتي: وهو أن يعمل بعض المجتهدين عملاً، أو يبدي رأياً في
مسألة اجتهادية، قبل استقرار المذاهب فيها، ويسكت باقي المجتهدين عن إبداء
رأيه بالموافقة أو بالمخالفة - بعد علمهم - سكوتاً مجرداً عن أمارات الرضا
والسخط، مع مضي زمن يكفي للبحث والنظر [3] .
ومثله الإجماع الاستقرائي، وهو: (أن تُستَقْرأ أقوال العلماء في مسألة، فلا
يُعلم خلاف فيها [4] .
وهذا يعني أنه لا يُسمى إجماعاً سكوتياً إلا ما توافر فيه الشروط الآتية [5] :
الأول: أن يظهر القول أو الفعل وينتشر، حتى لا يخفى على الساكت.
الثاني: أن تمضي مدةُ التأمل والنظر في حكم الحادثة؛ لينقطع احتمال أنهم
سكتوا في مهلة النظر.
وتختلف المدة باختلاف الحوادث؛ ففي بعضها تكفي المدة القصيرة، وفي
بعضها لا بد من مدة طويلة.
الثالث: ألا تظهر من المجتهد أمارة إنكار مع القدرة عليه.
الرابع: أن يكون السكوت مجرداً عن علامات الرضا والسخط؛ لأنه إن وجد
ما يدل على الرِّضا كان من قبيل الإجماع الصريح؛ لأنه بمنزلة قولهم: رضينا
بهذا القول، وإن وجد ما يدل على السخط لم يكن إجماعاً أصلاً.
الخامس: أن يكون السكوت قبل المذاهب؛ لأنه إن كان بعدها لم يدل على
موافقتهم؛ لأن الظاهر أنهم سكتوا اعتماداً على معرفة مذهبهم في تلك المسألة من
قبل، كما إذا سكت الحنفي عن قولٍ للشافعية؛ فإن سكوته لا يعد موافقة؛ للعلم
بخلافه ومذهبه في ذلك.
السادس: أن تكون المسألة اجتهادية تكليفية؛ لأنها إن كانت قطعية كان
السكوتُ فيها غير دال على الرضا بذلك؛ لما هو معلوم فيها من حكم؛ لأن الظاهر
أنهم سكتوا اكتفاءً بما علم الناس فيها من حق، وإن كانت غير تكليفية كانت خارجة
عن محل النزاع؛ لأن ما ليس تكليفياً ليس ديناً، والإجماع لا يكون إجماعاً يحتج
به إلا في الأمور الدينية، كما لو قيل: أبو هريرة - رضي الله عنه - أفضل من
أنس - رضي الله عنه - أو العكس، فالسكوت في هذا لا يدل على شيء؛ إذ ليس
فيه تكليف، فلا يلزم النظر ولا الإنكار.
حجية الإجماع السكوتي:
اختلف العلماء في الإجماع السكوتي، وجمهور العلماء على القول بحجيته،
على خلاف بينهم: هل هو حجة قاطعة أو ظنية؟
وسبب الخلاف: هو أن السكوت محتمِلٌ للرضا وعدمه، فمن رجَّح جانب
الرضا وجزم به قال: إنه حجة قاطعة، ومن رجَّح جانب الرضا ولم يجزم به قال: إنه حجة ظنية، ومن رجح جانب المخالفة قال: إنه لا يكون حجة [6] .
تحرير محل النزاع:
أولاً: لا خلاف بين العلماء القائلين بحجية الإجماع في أن الإجماع السكوتي
حجة فيما تعم به البلوى، إذا اشتهر الحكم المجمَع عليه، وتكرر السكوت من
مجتهدي عصر الإجماع؛ لأن السكوت مرة بعد أخرى يحصِّلُ علماً ضرورياً
بالرضا بذلك القول، كما أن العادة تحيل السكوت في كل مرة من غير رضا به.
ثانياً: لا خلاف بين العلماء أنه ليس بحجة، إذا حصل السكوت بعد استقرار
المذاهب.
ثالثاً: إذن فمحل النزاع فيما إذا كان السكوت في غير ما تعمُّ به البلوى، ولم
يكن هناك مانع من إبداء الرأي، وكان السكوت قبل استقرار المذاهب، ومضت
مدةٌ تكفي للنظر والتأمل بعد الفتوى أو القضاء، وكانت المسألة اجتهادية تكليفية [7] .
ومن أدلة الجمهور [8] على حجية الإجماع السكوتي [9] :
أولاً: أنه لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من كل واحد منهم لأدَّى إلى ألا
ينعقد الإجماع أبداً؛ لتعذر اجتماع أهل العصر على قول يُسمع منهم، والمتعذر
معفو عنه بالنص، قال الله - سبحانه -: [ «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ] [الحج: 87] والمعتادُ في كل عصر أن يتولَّى الكبار الفتوى، ويسلِّم الباقون لهم. ...
ثانياً: أنه قد وقع الإجماع على أن السكوت معتبر في المسائل الاعتقادية (أي
يعتبر رضا، فلا يحل السكوت على باطل) ، فيقاس عليها المسائل الاجتهادية؛ لأن
الحق في الموضعين واحد.
ثالثاً: أن السكوت من بعض المجتهدين على حكم شرعي أفتى به آخرون من
المجتهدين بعد مضي مدة التأمل، وتوفر باقي الشروط دليلٌ على موافقة الساكتين
ورضاهم؛ لأن السكوت منهم حال المخالفة سكوت على مُنْكَرِ فيكون حراماً، وهذا
ممتنع وقوعه من العدل.
وقفة لا بد منها:
إن المتأمل فيما ينقله ويحتج به عامة العلماء سلفاً وخلفاً من مفسرين وفقهاء
وغيرهم من مسائل الإجماع يجد غالبه من قبيل الإجماع السكوتي أو الاستقرائي،
باستثناء المسائل المجمع عليها مما هو من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة. أما
الإجماع الذي يذكره الأصوليون بشروطه المعروفة في كتب الأصول، فإنه إجماع
صحيح؛ لكنه نادر الوقوع، إن لم يكن عديمَ الوجود؛ وذلك لما تضمنه من شروط
يستحيل معها وقوع الإجماع؛ لصعوبة تحققها مجتمعة، ويفضي إلى عدم الانتفاع
بأصل الإجماع نفسه، هذا فضلاً عن كونه يفتح باباً لضعاف النفوس الذين يريدون
هدمَ أصل الإجماع، وإغلاق بابه، بأن يطبقوا تلك الشروط التي ذكرها الأصوليون
على ما يُحكى من الإجماع، فلا تنطبق عليه، فيعودوا على جملة عظيمة من
المسائل المجمع عليها بالنقض.
يقول الأستاذ الأشقر: (فتح القولُ بهذا النوع من الإجماع - يعني الإجماع
الذي يذكره الأصوليون - بابَ شرٍّ على المسلمين؛ فبعض ضعاف النفوس الذين
يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم يجادلون وينازعون في قضايا مسلَّمة عند
جمهور الأمة، وعندما يواجَهون ويحاوَرون يقولون: إن هذه المسائل خلافية ليس
فيها إجماع، أثبتوا أن جميع علماء الأمة ذهبت هذا المذهب، أو قالت بهذا القول! ! فإذا لم نستطع إثبات ذلك جعل هؤلاء عدم قدرتنا على تلبية طلبهم ذريعةً لمخالفتهم
ما سار عليه جمهور علماء الأمة، كما هو حادث في هذه الأيام) [10] .
شروط الإجماع:
ذكر العلماء شروطاً كثيرة في الإجماع والمجمعين، وسأقتصر في هذه المقالة
على أهم تلك الشروط [11] .
الشرط الأول: أن يكون الإجماع عن مستند:
المستند: هو الدليل الذي يعتمد عليه المجتهدون فيما أجمعوا عليه. والمراد
أن يكون لدى المجمعين دليل قد اعتمدوا عليه في إجماعهم، وهذا قول جمهور
العلماء، بل قال الآمدي: (اتفق الجميع على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن
مأخذ ومستند يوجب اجتماعها، خلافاً لطائفة شاذة) .
ومن أدلتهم:
أن الحكم في الدين بدون مستند خطأ؛ لكونه قولاً في الدين بغير علم، والأمة
يمتنع إجماعها على الخطأ، فيكون قولهم دائماً عن دليل، وهو المطلوب.
ويتصل باشتراط المستند للإجماع مسألتان:
المسألة الأولى: نوع الدليل الذي يكون مُستنداً للإجماع.
من العلماء من يرى أنه لا يكون مستند الإجماع إلا الكتاب والسنة.
ومنهم من يرى أن الإجماع يمكن أن يستند إلى الاجتهاد أو القياس.
وقد انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية للقول الأول، فقال: (كلُّ ما أجمع عليه
المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالمخالف لهم
مخالفٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن المخالف للرسول صلى الله عليه
وسلم مخالف لله - تعالى -، لكن هذا يقتضي أن كل ما أُجمِعَ عليه قد بيَّنَهُ الرسول
صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قطُّ مسألةٌ مجمَع عليها إلا
وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يخفى ذلك على بعض الناس،
ويعلَم الإجماع فيستدل به، كما أنه يَسْتَدِلُّ بالنص من لم يعرف دلالة النص) إلى أن
قال: (ولا يوجد مسألة متفق عليها إلا وفيها نص) [12] .
ثم ذكر بعض الأمثلة التي قيل عنها: إن مستند الإجماع فيها الاجتهاد أو
القياس، وبين النص الذي خفي عمَّن زعم ذلك [13] .
ثم قال: (وعلى هذا فالمسائل المجمَعُ عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم
يعرفوا فيها نصاً، فقالوا: باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند
غيرهم) .
ويقول: (استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من
العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة) [14] .
وهذا الخلاف يمكن إرجاعه إلى اللفظ؛ لأن كلاً من الفريقين أخبر بحاله؛ إذ
كلٌّ منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم؛ فأحد الفريقين يستند إلى الاجتهاد؛ لأنه لا
يدري النص، والآخر يحيل ذلك على النصوص العامة. وعلى كلٍّ فالجميع متفقون
على ضرورة استناد الإجماع إلى دليل، وهذا الدليل قد يجعله بعضهم اجتهاداً
ويجعله الآخرون نصاً [15] .
المسألة الثانية: الاستغناء بنقل الإجماع عن نقل دليله:
إذا ثبت نقلُ الإجماع فإنه يمكن الاستغناء به عن دليله؛ لأنه قد ثبت أن
العلماء لا يُجمِعون إلا عن دليل؛ فإذا حُفظ الإجماع ونُسي الدليل أو لم يُعرف فإن
ذلك لا يقدح في الإجماع الثابت.
الشرط الثاني: أن يكون المجمعون من العلماء المجتهدين:
ويكفي في ذلك الاجتهادُ الجزئي؛ لأن اشتراط الاجتهاد المطلق في أهل
الإجماع يؤدي إلى تعذُّر الإجماع؛ لكون المجتهدِ المطلق نادر الوجود.
والمعتبر في كل المسألة: من له فيها أثرٌ من أهل العلم المجتهدين.
قال ابن قدامة: (ومن يَعرِفُ من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم، كأهل
الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب، فهو كالعامي لا يُعتدُّ بخلافه؛ فإن كل أحد
عامِّيٌّ بالنسبة إلى ما لم يُحصِّل علمَه، وإن حصَّل علماً سواه) [16] .
الشرط الثالث: أن يكون الإجماع صادراً من جميع مجتهدي العصر:
ومعنى ذلك: أنه إذا خالف واحد أو اثنان، فإن قول الباقين لا يعتبر إجماعاً،
وهذا قول جمهور العلماء، خلافاً لمن اعتد بقول الأكثر فجعله إجماعاً، كأبي
الحسين الخياط - من المعتزلة - وابن جرير الطبري، وأبي بكر الجصاص،
وبعض المعتزلة، ورُوي عن الإمام أحمد، لكن الصحيح عنه موافقة الجمهور.
ومن الأدلة على ذلك:
الأول: أن المُتمَسَّكَ به في كون الإجماع حجة إنما هو النصوص الدالة على
عصمة الأمة، ولفظ الأمة إنما يطلق حقيقةً على الجميع، وقول الأكثر ليس قولاً
للجميع، بل هو قول مختلف فيه، وقد قال الله - جلَّ وتقدَّس -: [فَإن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ] [النساء: 95] .
الثاني: وقوع اتفاق الأكثر في زمن الصحابة مع مخالفة الأقل لهم؛ فقد
سوَّغوا لهم الاجتهادَ بلا نكير، فلو كان اتفاق الأكثر إجماعاً يلزم غيرهم أن يأخذوا
به لأنكروا عليهم.
وبعد: فإن ما تقدم من نصرة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لا يعدو أن
يكون تضعيفاً للقول بأن قول الأكثر إجماعٌ يجب اتباعه، وهذا لا يعني ألا يُلتفَت
إلى قول الأكثر، بل إن اتباع الأكثر هو الأوْلى إذا لم يظهر أن الحق مع الأقل.
الشرط الرابع: أن يكون المجمِعون أحياءاً موجودين:
أما الأموات فلا يعتبر قولهم، وكذلك الذين لم يوجدوا بعدُ، أو وُجِدوا ولم
يبلغوا درجة الاجتهاد حال انعقاد الإجماع؛ فالقاعدة أن المستقبَل لا يُنظر، كما أن
الماضي لا يُعتبر.
فالمعتبَرُ في كل إجماع أهلُ عصره من المجتهدين الأحياء الموجودين،
ويدخل في ذلك: الحاضرُ منهم والغائبُ؛ لأن الإجماع قول مجتهدي الأمة في
عصر من العصور.
أما اعتبار جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور فغيرُ ممكن؛ لأن ذلك
يؤدي إلى ألا تجتمع الأمة، ولا يُنتفع بالإجماع.
ويتصل بهذا الشرط مسألة اشتراط انقراض عصر المجمِعين أي: هل يشترط
لصحة الإجماع أن ينقرض عصر المجمعين بموتهم أو بمرور زمن طويل على
إجماعهم؟
ذهب الجمهور إلى عدم اشتراط انقراض العصر لصحة الإجماع، بل المعتبر
في إجماع مجتهدي العصر الواحد اتفاقهم ولو في لحظة واحدة.
قال الغزالي - رحمه الله -: (إذا اتفقت كلمة الأمة - ولو لحظة - انعقد
الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ) [17] .
ومن أدلتهم على ذلك:
الأول: أن الأدلة السمعية توجب حجيةَ الإجماع بمجرد اتفاق مجتهدي عصر
ولو في لحظة؛ إذ الحجية تترتب على الاتفاق نفسه؛ لأنه مناط العصمة؛
فالاشتراط لا موجب له، بل الأدلة توجب خلافه.
الثاني: أن الحكم الثابت بالإجماع كالحكم الثابت بالنص؛ فكما أن الثابت
بالنص لا يختص بوقت دون وقت، فكذلك الثابت بالإجماع.
الثالث: أنه لو اشترط انقراض العصر لم يثبت الإجماع أصلاً؛ وذلك أنه
كلما ولد إنسان وبلغ رتبة الاجتهاد، وقد بقي واحد من المجتهدين المجمعين السابقين
له، فإنه يلزم - بناءًا على شرط الانقراض - اعتبار قول هذا المجتهد اللاحق في
ذلك الإجماع المتقدم، ولَمَّا كانت الولادة باقية فلا ينتهي تلاحق المجتهدين، وعليه
فلا يتحقق الإجماع.
هذا ولا شك أن الداعي إلى اشتراط الانقراض عند القائلين به هو زيادةُ
التثبت في نسبة قول المجمعين إليهم، وشدةُ استقرار أهل المذاهب على مذاهبهم،
وهذا الأمر - وهو التثبت - حاصل في الإجماع الصريح، ولو في لحظة واحدة؛
لأن الظاهر من حال المجمِعين ألاَّ يصدرَ القولُ عنهم دون بحث ونظر؛ فإذا ثبت
أنهم قالوا في مسألةٍ مَّا بقولٍ علمنا قطعاً أنهم غير مترددين في قولهم.
لكن يبقى النظر في الإجماع السكوتي؛ لأنه لا تُعلم أقوالُ الساكتين من
المجتهدين، ولا موقفهم من القول الذي يُحكى الإجماع عليه إلا بعد مُضي مدة
طويلة يُعرف بها أن القول بلغهم، ونظروا فيه، ولم ينكروه - مع زوال ما يمنع
إنكارَهم له -؛ ولذلك رأى بعض العلماء أن انقراض العصر شرط لصحة الإجماع
السكوتي لهذه العلة، وحكى بعضهم أنه لا خلاف في ذلك. وهذا قول قوي في
المسألة.
الشرط الخامس: أن يكون المجمعون عدولاً:
العدالة في اللغة: الاستقامة والاعتدال.
وفي الاصطلاح: مَلَكَةٌ راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى
والمروءة.
وقد اختلف العلماء في اشتراط العدالة في المجمعين، والجمهور على القول
بالاشتراط.
وعليه؛ فلا يتوقف الإجماع ولا حجيته على موافقة غير العدل - مبتدِعاً كان
أو فاسقاً - إذا بلغَ رتبةَ الاجتهاد، ولا تضرُّ مخالفته.
وقد عزا ابن بَرْهان هذا القول إلى كافة الفقهاء والمتكلمين.
وقد استدلوا على ذلك بأن الأدلة الدالة على حُجِّية الإجماع تتضمن العدالة،
وبخاصة قول الله - تعالى -: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً] [البقرة: 341] إذ
الوسطُ: العدل.
ولأن غيرَ العَدْل أوجب الله التوقف في أخباره بقوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا] [الحجرات: 6] ، واجتهاده إخبارٌ بأن
رأيه (كذا) ، فيجب التوقف في قوله.
ومقتضى قول الجمهور عدمُ الاعتداد بقول المبتدع مطلقاً؛ ولذا فصَّل بعض
العلماء في هذا فقالوا: إن كانت البدعة مكفرة فلا شكَّ في عدم اعتبار قوله، وحكى
بعضهم نفي الخلاف في هذا.
وإن كانت البدعة غير مكفِّرة، فإن كان داعياً: فقال بعضهم: لا يُعْتَدُّ بقول
الداعي مطلقاً، وقال آخرون: بل لا يعتد بقوله في أمر البدعة التي يدعو إليها،
ويعتبر قوله فيما سوى ذلك.
وإن لم يكن داعياً إلى بدعته: فأكثرهم على اعتبار قوله، والاعتداد بمخالفته
مطلقاً، وقيل: بل يُعتدُّ بقوله في غير بدعته [18] ، والله أعلم.
حكم إجماع الصحابة على قولٍ مما اختلفوا فيه:
اتفاق الصحابة على أحد أقوالهم، إما أن يكون قبل استقرار الخلاف بينهم -
بأن قصر الزمن بين الاختلاف والاتفاق - وإما أن يكون بعد استقرار الخلاف؛
فهنا مسألتان:
المسألة الأولى: اتفاقهم على أحد أقوالهم قبل استقرار الخلاف [19] .
فقد حكى الشيرازي: أنه يزيل الخلاف ويصيِّر المسألة إجماعية، بلا خلاف.
المسألة الثانية: اتفاقهم بعد استقرار الخلاف بينهم.
وجمهور الأصوليين على أنه يجوز اتفاقهم مطلقاً [20] .
ودليلهم على ذلك:
جواز اطلاعهم على مستند فيرجعون إليه جميعاً، وبذلك يكون لا عبرة
باستقرار الخلاف بينهم؛ حيث وجد ما يحملهم على الرجوع.
ومن أمثلة ذلك: ما رُوي أن علياً وابن عباس - رضي الله عنهما - كانا
يقولان بحِلِّ الْمُِتْعة، ثم رجعا بعد ما رُوي لهما ما يدل على تحريم ذلك [21] ،
وكذلك ما روي من رجوع ابن عباس - رضي الله عنه - في مسألة ربا الفضل،
لما روي له الحديث في ذلك [22] .
فدل ذلك على أن الرجوع - لأجل مستند ظهر بعد استقرار الخلاف - جائزٌ
لا شيء فيه.
حكم إجماع التابعين على أحد قَوْلَيِ الصحابة:
لا يخرج اتفاقهم عن أن يكون قبل استقرار الخلاف أو بعده.
فإن كان قبل استقرار الخلاف فجائز كما تقدم.
وأمَّا إن كان بعد استقرار الخلاف بين الصحابة ففيه خلاف بين الأصوليين،
والجمهور على المنع من الإجماع [23] ، فإذا أجمع التابعون على أحد قولي
الصحابة لم يَزُلْ بذلك خلافُ الصحابة، ويجوز لتابِعِي التابعين الأخذ بكلٍّ من قولي
الصحابة، وهذا ما لم يرجع الصحابي عن قوله، أو تظهر مخالفته لنصٍّ صحيح
صريح في المسألة.
وبهذا قال الإمام أحمد، والأشعري، والقاضي أبو يعلى، والغزالي، وإمام
الحرمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية. وقال الشيرازي: (وهو قول عامة أصحابنا
- يعني الشافعية) [24] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنهم - يعني السلف - أفضلُ ممن بعدهم،
ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خيرٌ وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع
غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا
يخرج عنهم؛ فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من
أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه) [25] .
ومن أدلتهم على ذلك:
أن أهل العصر قد اتفقوا ضمناً على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، فلو
قلنا بأن إجماع التابعين حجة، لترتب عليه أن الحق محصور فيما أجمعوا عليه،
والقول بهذا فيه مخالفة للإجماع السابق المتضمن جواز الأخذ بكل من القولين.
وعليه؛ فمن ادعى وقوع إجماع في مسألة اختلف فيها الصحابة فلا يخلو ذلك
من أحد ثلاثة أمور:
الأول: أن الخلاف الذي وقع بين الصحابة لم يستقر بينهم، وما دام كذلك فإن
الإجماع صحيح كما تقدم؛ إذ الممتنع هو وقوع الإجماع على مسألة استقر فيها
الخلاف بين الصحابة.
الثاني: أن المسألة التي اختلف فيها الصحابة غير المسألة التي أجمع عليها
المتأخرون؛ لأن اختلاف الزمان قد يؤدي إلى تغير في صورة المسألة وبعض
أوصافها، مما يجعل حقيقة المسألتين عند إمعان النظر مختلفة، فيكون من حق من
جاء بعد الصحابة الإجماع على تلك المسألة.
الثالث: أن تكون دعوى الإجماع غير صحيحة [26] .
ويتصل بهذه المسألة: ما إذا نقل عالمٌ الإجماع ونقل غيره الخلاف سواء سمى
المخالف أم لم يُسمه؛ فإنه لا يقبل قول مدعي الإجماع [27] ، وهذا رأي شيخ
الإسلام ابن تيمية [28] ، وقد أيده بالأمور الآتية:
الأول: أن ناقل الإجماع نافٍ للخلاف، وناقل النزاع مثبت له، والمثبت
مقدَّم على النافي.
الثاني: أنه إذا كان ناقلُ النزاع يمكن أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف، إما لضعف الإسناد، وإما لعدم الدلالة، فإمكان الغلط من ناقل الإجماع أوْلى
وأحرى.
الثالث: أن عدم علم الناقل للإجماع بالخلاف ليس علماً بعدم الخلاف.
وعليه، فمتى نقل عالمٌ الإجماع، ونقل آخر النزاع، ولم يثبت واحدٌ منهما،
فلا يجوز أن يُحتج بالإجماع.
وإذا استوى الطرفان - نَقْلُ الإجماع والنزاع - عند المجتهد فلم يترجَّح لديه
أحدهما، لزمه التوقف، فليس له أن يقدمه على النص، ولا يُقدَّم النص عليه؛
لعدم رجحان أحدهما عنده.
حكم إحداث قول زائد على أقوال الصحابة:
يرى جمهور العلماء أنه لا يجوز إحداث قول زائد على ما اختلف عليه
الصحابة؛ لأن في ذلك نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عنه، وخلوِّ الأرض
من قائم لله بالحجة، وأنه لم يبقَ من أهل العصر أحد على الحق، وهذا كله من
الباطل.
وما يقال في الأحكام يقال أيضاً في تفسير القرآن وشرح الحديث؛ فإن
المفسرين من الصحابة إذا اختلفوا على قولين أو أكثر في تأويل آية؛ فإن ذلك
إجماعٌ منهم على أن الحق محصور فيها لا يتجاوزها، فلا يجوز لمن بعدهم
الخروج عن أقوالهم، أو الزيادة عليها؛ لأن ذلك يتضمن أن الصحابة لم يفهموا
القرآن، وأنهم كانوا ضالين جميعاً عن الحق في معرفة تأويله، وذلك باطل
قطعاً [29] .
قال ابن القيم - رحمه الله -: (إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي
كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو
تكون أقوالُ السلف المخالفة له خطأ! ! ولا يشك عاقل أنه أوْلى بالغلط والخطأ من
قول السلف) [30] .
وقال الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله -: (ولا يجوز إحداث تأويل في
آية أو سُنَّة لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن
أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) .
إلا أن يكون المراد من إحداث تأويل لم يقل به الصحابة: إيرادَ معنى تحتمله
الآية لم يتعرض له الصحابة، أو كان من قِبَلِ الاستنباط من دلالة الآية؛ فإن مثل
هذا لا يقتصر على قوم، أو أهل عصر بعينهم، بل هو باق مستمر؛ إذ القرآن
مَعِينٌ ثَرٌّ لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي دلالاته ومعانيه؛ ولذلك نرى أهل العلم
يرجعون إلى القرآن الكريم للاستدلال به على معرفة حكم ما يستجد من النوازل
على مرور الأعصار.
قال الإسنوي فيما إذا أحدث أهل العصر الثاني تأويلاً آخر للدليل لم يذكره
أهل العصر الذي قبلهم: (جاز على الصحيح، ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين؛
لأن الناس لم يزالوا على ذلك في كل عصر من غير إنكار، فكان ذلك
إجماعاً) [31] .
وكذلك إذا كان المرادُ من إحداث تأويل زائد للآية على ما فهمه السلف: إيراد
معنى تحتمله الآية أو الحديث من غير حكم بأنه المراد؛ إذ ليس فيه نسبة الأمة إلى
تضييع الحق، والغفلة عن الصواب، والإجماع على الخطأ، فالمحذور هو أن
تكون الأمة قد قالت: إن هذه الآية أو الحديث لا يُراد بهما إلا هذا المعنى وهذا
المعنى، فيكون القول الثالث تجويزاً لخفاء مراد الله عن كافة الأمة، وهذا ممتنع
قطعاً [32] .
وعدم جواز إحداث قول ثالث مشروط بأن يكون الخلاف قد استقر [33] .
أما إحداث دليل لم يستدل به السابقون، فإن هذا جائز سائغ؛ لأن الاطلاع
على جميع الأدلة ليس شرطاً في معرفة الحق، بل يكفي لمعرفة الحق في مسألة أو
تأويلٍ بعضُ أدلته بل دليل واحد، ولا يتضمن إحداثُ دليل جديد - بحالٍ - نسبةَ
الأمة إلى تضييع الحق، بخلاف مسألة إحداث قول ثالث في المسألة.
وجمهور الأصوليين على أنه متى اختلف أهل عصر في مسألة على قولين أو
أكثر، فإنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر خارج عن أقوالهم، كالذي تقدم
تقريره في اختلاف الصحابة، وأنه لا يجوز لمن بعدهم الزيادة على أقوالهم [34] .
ومن أدلتهم على ذلك:
أن القول الآخر - عند القائلين بجوازه - إما أن يكون ناشئاً عن دليل أو عن
غير دليل، فإن كان عن غير دليل امتنع قبولهُ، وإن كان عن دليل لزم منه وصفُ
الأمة بتضييع الحق والغفلة عنه، وأدى لزاماً إلى القول بخلو العصر عن قائم لله
بالحجة؛ وهذا كلُّه باطل.
ولأن اختلاف الأمة في مسألة على قولين أو أكثر مع عدم التجاوز عنهما
إجماعٌ منها من جهة المعنى على المنع من إحداث قول آخر؛ قالوا: لأن كل طائفة
توجب الأخذ بقولها، أو بقول مخالفها، وتحرِّم الأخذ بغير ذلك.
وقد فصَّل جماعةٌ من الأصوليين القول في المسألة، على نحو لا يعتبر
إسقاطاً لقول الجمهور، بل فيه الجمعُ بين قول المانعين والمجيزين؛ فهو أشبه أن
يكون خارجاً عن محل النزاع، فقالوا: إن القول الحادث إن لزم منه رفع القولين لم
يجز إحداثه، وإلا جاز، وقد روي هذا التفصيل عن الشافعي، ورجحه جماعةٌ من
الأصوليين، منهم: ابن الحاجب، والرازي، والآمدي، وغيرهم.
الأحكام المترتبة على الإجماع:
إذا صحَّ الإجماعُ ترتبت عليه جُملةٌ من الأحكام، وهذا بيانُ أهمها:
الأول: وجوب اتباعه وحُرمة مخالفته [35] ، وهذا معنى كونه حجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام،
لم يكن لأحدٍ أن يخرج عن إجماعهم) [36] .
ويترتب على هذا الحكم: أنه لا يجوز للمجمِعين مخالفة ما أجمعوا عليه،
وأنه لا يجوز لمن يأتي بعدهم أن يخالفهم.
الثاني: أن هذا الإجماع حق وصواب، ولا يكون خطأ، ويترتب على هذا
الحكم ما يأتي:
أولاً: لا يمكن أن يقع إجماعٌ على خلاف نص أبداً، ومن ادَّعى وقوع ذلك،
فإما أن تكون دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة،
ومخالفة النصِّ ضلالةٌ، وإما أن يكون النص - الذي يُدَّعى مخالفةُ الإجماع له -
منسوخاً، فكان إجماع الأمة مستنداً إلى نص ناسخ له. قال ابن القيم: (ومحال أن
تجتمع الأمة على خلاف نص إلا أن يكون له نص آخرُ ينسخهُ) [37] .
ثانياً: ولا يمكن أيضاً أن يقع إجماع خلاف إجماع سابق؛ فمن ادعى ذلك فلا
بد أن يكون أحد الإجماعين باطلاً؛ لأن ذلك يستلزم تعارضَ دليلين قطعيين، وهو
ممتنع.
ثالثاً: ولا يمكن للأمة تضييع نص تحتاج إليه [38] ، بل هي معصومة عن
ذلك، وكونُ بعض المجتهدين يجهل بعض النصوص أمرٌ وارد، بل كثيرُ الوقوع،
لكن يستحيل أن تجهل الأمة كلُّها نصاً تحتاج إليه، أو تغفل عن نقله.
قال الشافعي - رحمه الله -: (سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم، وقد
تَعزُب عن بعضهم) [39] .
رابعاً: حرمة الاجتهاد [40] ، فمتى ثبت الإجماع وجب اتباعه؛ لأنه لا بد
أن يستند إلى نص، ووجود النص وحده مُسقط للاجتهاد، فإذا انضم إلى النص
الإجماع سقط الاجتهاد من باب أوْلى.
الثالث: حُكم مُنكِر الحكم المجمَع عليه:
إن كان الإجماع على أمر معلوم من الدين بالضرورة فإن مخالفه يكفر بلا شك.
قال المحلي: (جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، كوجوب
الصلاة والصوم، وحرمة الزنا والخمر كافرٌ قطعاً؛ لأن جَحْدَه يستلزم تكذيب النبي
صلى الله عليه وسلم) [41] .
وأما إن كان الإجماع على غير ذلك فقد اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في حكم
جاحده أو خارقه. قال الآمدي: (مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير
موجب للتكفير) [42] .
والسبب في خلافهم: هو اختلافهم في حقيقة الإجماع، وشروطه وما يتصل
بذلك.
قال الغزالي - رحمه الله -: (فإن قيل: هل تُكَفِّرون خارِقَ الإجماع؟ قلنا:
لا؛ لأن النزاع قد كَثُر في أصل الإجماع لأهل الإسلام، والفقهاء إذا أطلقوا التكفير
لخارق الإجماع أرادوا به إجماعاً يستند إلى أصل مقطوع به من نص أو خبر
متواتر) [43] .
وقد اشتدَّ نكيرُ العلماء على من أطلق القول بتكفير خارق الإجماع دون قيود أو
ضوابط. قال أبو المعالي الجويني: (فَشَا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر، وهذا باطل قطعاً) [44] .
وفي غضون خلاف العلماء في كفر جاحد الحكم المجمَع عليه أو خارق
الإجماع، يجدُ الباحث أن الأئمة يحكمون بكفر من يخرق الإجماع إذا انطبقت عليه
جملة من الضوابط التي وضعوها لذلك.
ومن ذلك: ما ذكره الجويني في كفر (من اعترف وأقر بصدق المجمِعين في
النقل، ثم أنكر ما أجمعوا عليه) [45] ، والسر في ذلك كما يقول - رحمه الله -
أن (هذا التكذيب آيلٌ إلى الشارع - عليه السلام - ومن كذَّب الشارع كفر) [46] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفرُ مخالفهُ كما
يكفر مخالفُ النصِّ بتركه، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره) [47] .
هذا خاتمة ما أردت بيانه في هذا الأصل العظيم والدليل الكبير من أدلة
الشريعة، والذي وقع بالتهاون في معرفته وبيان حقيقته خلط كبير في قضايا كثيرة، فالله المستعان.
__________
(1) انظر: منهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه، ص 197 وما بعدها.
(2) انظر: الفقيه والمتفقه، 1/170، ومجموع الفتاوى، 19/267، 268.
(3) انظر: الفقيه والمتفقه، 1/170.
(4) مجموع الفتاوى، 19/267.
(5) انظر: في هذه القيود، البحر المحيط، 4/503، وما بعدها، وتيسير التحرير، 3/246.
(6) الفتاوى لشيخ الإسلام، 19/668.
(7) انظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، ص 31، 32، 33.
(8) قال بحجية الإجماع السكوتي: أكثر الحنفية، وأكثر المالكية، وحكي عن الشافعي وأكثر أصحابه، وأحمد وأصحابه، وجماعة من أهل الأصول، قال الرافعي: وهو مذهب الجمهور.
(9) انظر في ذكر الأدلة: العدة 4/1172، والتبصرة، ص291، وأصول السرخسي، 1/303 وما بعدها، والمستصفى 1/191، والمعتمد، 2/539، وشرح الكوكب المنير، 2/255، والإجماع مصدر ثالث، ص 138، وحجية الإجماع، ص 359 وما بعدها.
(10) نظرة في الإجماع الأصولي، ص 91.
(11) انظر في هذه الشروط وأدلتها: جماع العلم للشافعي، ص 51، والفقيه والمتفقه، 1/169، والإحكام للآمدي، 1/261، وإرشاد الفحول، ص 70 وغيرها، ومنهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه، ص 210.
(12) الفتاوى، 19/194، وما بعدها.
(13) مثلوا لذلك بمسألة: جواز المضاربة بالإجماع، وقالوا: إنه لا نص فيها، وبين شيخ الإسلام بأن المضاربة كانت مشهورة في الجاهلية، وأنه ما زال الناس يتعاملون بها، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يفعلون ذلك وأقرهم عليه، وإقراره سُنَّة.
(14) الفتاوى، 19/194، 195، 196.
(15) انظر: منهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه، ص 214.
(16) روضة الناظر، 1/350.
(17) المستصفى، 1/192.
(18) انظر هذا التفصيل: في أصول السرخسي، 1/311، ونزهة الخاطر العاطر، 1/353، وإرشاد الفحول، ص 71، وحجية الإجماع، ص 297، وما بعدها.
(19) انظر في المسألة وأدلتها: اللمع، ص 49، والمسودة، ص 324.
(20) انظر في المسألة وأدلتها، وحجية الإجماع، ص205.
(21) انظر في المسألة: رسالة (تحريم نكاح المتعة) لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وكتاب نكاح المتعة عبر التاريخ لعطية محمد سالم.
(22) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، 11/24.
(23) انظر في المسألة وأدلتها: العدة لأبي يعلى، 4/1105.
(24) التبصرة للشيرازي، ص 378.
(25) الفتاوى، 31/24.
(26) انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/173، ومنهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه، ص 219، 393.
(27) وغني عن البيان أن يقال: إن تصور هذه المسألة إنما يكون فيما يُدَّعى من الإجماعات السكوتية أو الاستقرائية، وهي أن يقوم عالم باستقراء أقوال أهل العلم في مسألة ما ثم يحكي الإجماع الذي حقيقته عدم العلم بالمخالف، فإن مثل هذا الاستقراء - خصوصاً إذا كان من عالم قليل العناية بأقوال السلف - يكون ناقصاً، فيسهل نقضه من غيره.
(28) مجموع الفتاوى، 19/271، وأصول الفقه، وابن تيمية، 1/330، 331.
(29) انظر في هذه المسألة: الرسالة للشافعي، ص 596، والفقيه والمتفقه، 1/173، ومجموع الفتاوى، 13 59، 60.
(30) مختصر الصواعق المرسلة، 2/128.
(31) نهاية السول من شرح منهاج الأصول للإسنوي، 3/322.
(32) انظر: مجموع الفتاوى، 13/59، 60.
(33) إرشاد الفحول، ص 77.
(34) انظر في هذه المسألة، اللمع، ص 49، والمستصفى، 1/191.
(35) انظر: الرسالة للشافعي، ص 472، والأحكام للآمدي، 1/283، ومنهج أهل السنة والجماعة في تحرير أصول الفقه، ص 115.
(36) مجموع الفتاوى، 20/10.
(37) إعلام الموقعين، 1/367.
(38) انظر: مجموع الفتاوى، 19/201.
(39) الرسالة، ص 472.
(40) انظر: الفقيه والمتفقه، 1/172، والصواعق المرسلة 3/384.
(41) حاشية المحلي على جمع الجوامع، 1/211.
(42) الإحكام للآمدي، 1/282.
(43) المنخول للغزالي، ص 309.
(44) البرهان، 1/724.
(45) المرجع السابق.
(46) المرجع السابق، وقد وضع الجويني ضابطاً للقول بالتكفير في هذا المجال فقال: (والقول الضابط فيه: أن من أنكر طريقاً في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكراً للشرع، وإنكار جزئه كإنكار كله) .
(47) مجموع الفتاوى، 19/270.(142/26)
تأملات دعوية
لو أقسم على الله لأبره
محمد بن عبد الله الدويش
إن لله عباداً اختصهم - تبارك وتعالى - بمنزلة وفضيلة ليست لغيرهم من
الناس، ومن هؤلاء من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: «رُبَّ أشعثَ
مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [1] ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا
أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر» [2] .
وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الضعفاء وشأنهم، فقال لسعد بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - حين رأى أن له فضلاً على من دونه: «هل
تُنصَرون وترزقون إلا بضعفائكم» [3] ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ...
آخر: «ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم» [4] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذَن له، وإن شَفَعَ لم يشفَّع» [5] .
وتفاضُلُ الناس إنما هو بمعيار واحد وميزان واحد هو التقوى، فأكرمهم عند
الله أتقاهم.
هذه الحقائق البدهية والمسلَّمات التي يعيها كل مسلم مهما كانت ثقافته وعلمه
قد تغيب عن بعضنا بفعل مؤثرات أخرى.
ومن ذلك: أن أرباب الأعمال، بل والدعاة إلى الله يعتنون بفئات معينة من
الناس؛ فصاحب الذكاء، والرجل القيادي، وصاحب الشخصية الجذابة ... يجدون
من التقدير والاعتبار لدى هؤلاء ما لا يجده غيرهم، ويبحثون عنهم ويعتنون بهم؛
لأنهم هم المؤهَّلون لتولي الأعمال والمسؤوليات، ويرى هؤلاء أن الرجل الصالح
مهما بلغ من التقى والزهد والعبادة ما لم يكن يحمل مواصفات القيادية فليس هو
المؤهل لتولي المسؤولية.
وهذا أمر لا نزاع فيه؛ فقد قال - تعالى - على لسان ابنة شعيب: [إن خير
من استأجرت القوي الأمين] [القصص: 26] .
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر - رضي الله عنه -: «يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم» ومع ذلك قال عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجةً من أبي ذر» [6] .
وحين نفرق بين تأهيل شخص لتولي مسؤولية، أو الاعتناء بتربيته ورعايته
وإعداده، وبين المحبة والولاء واعتقاد الفضيلة، فإننا نقف موقف الاعتدال في
التعامل مع هذه القضية، ونضع النصوص الشرعية في موضعها.
كما لا يسوغ أن يدعونا شعورنا بكون فلان أوْلى بهذه المسؤولية إلى التقليل
من شأن الآخر، فضلاً عن أن ننظر بازدراء أو استخفاف لمن نعتقد أنَّا قد فُضِّلنا
عليه بالعقل والإدراك؛ فهذا مزلق خطير، وهو من باب غمط الناس وازدارئهم،
ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
بل والصحوة اليوم تحتاج لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لا يأبه لهم
الناس، ولو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء؛ فلعلها تُنصر وتُوفق بدعائهم وصدقهم مع
الله - تعالى -.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يرزقنا البصيرة والفقه في الدين، وأن يجعلنا
من عباده المتقين، إنه سميع مجيب
__________
(1) رواه مسلم، ح2622.
(2) رواه البخاري، ح4918، ومسلم، ح2853.
(3) رواه البخاري، ح2896.
(4) رواه أحمد، ح21224، وأبو داود، ح2594، والترمذي، ح 1702، والنسائي، ح3179.
(5) رواه البخاري، ح2887.
(6) رواه أحمد، ح6593، والترمذي، ح3802، وابن ماجه، ح156.(142/38)
دراسات تربوية
القناعة
مفهومها.. منافعها.. الطريق إليها
(2-2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
استعرض الكاتب في الحلقة الأولى مفهوم القناعة وأهم فوائدها وآثارها، ثم
عرج على صور من قناعته صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب وكذا أهل
بيته. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بقية الموضوع. البيان
صور من قناعة الصحابة والسلف الصالح:
وسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابتُه الكرام - رضي الله
عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما
فُتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة
في سبيل الله - تعالى - وهذه نماذج من عيشهم وقناعتهم.
أ- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (رأيت سبعين من أهل الصفة
ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ
نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته) [1] .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قوله: (لقد رأيت سبعين من
أصحاب الصفة) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين [2] .
ب - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (من حدثكم أنا كنا نشبع من
التمر فقد كذبكم، فلما افتتح صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر
والوَدَك) [3] .
ثم فتح الله على المسلمين وأصبح المال العظيم يرسل إلى عائشة رضي الله
عنها فبقيت على قناعتها وزهدها وأخذت تفرق المال على محتاجيه؛ فقد بعث إليها
معاوية رضي الله عنه بمئة ألف درهم. قال عروة ابن الزبير: فوالله ما أمستْ
حتى فرَّقتْها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً! فقالت: ألا قلتِ
لي؟ [4] لقد نسيت نفسها رضي الله عنها، وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها
بعد وفاة رسول الله. وعن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في
غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري
لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتني لفعلت [5] . فهل تقتدي نساء
المسلمين بعائشة رضي الله عنها بدلاً من سَرَف الإنفاق على النفس وحظوظها
واللباس والزينة؟ !
ج - وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه
بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟
شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغازي حسنة وفتوحاً عظاماً! قال:
يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، حين فارقنا عهد إلينا قال: (ليَكْفِ اليوم
منكم كزاد الراكب) فهذا الذي أجزعني، فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر
ديناراً، وفي رواية: خمسة عشر درهماً [6] .
د - وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - رحمه الله تعالى - يعزم عليه إلا
رفع إليه حوائجه فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها
قبلت، وما أمسك منها عني قنعت [7] .
أسباب تحول دون القناعة:
ذكر الماوردي - رحمه الله تعالى - الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية،
وتدعو إلى طلب الزيادة، وهي - على سبيل الاختصار-:
1- منازعة الشهوات التي لا تُنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته
الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتناهٍ، فيصير ذلك
ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناهٍ، ومن لم يَتَنَاهَ طلبه استدام كدَّه وتعبه،
فلم يفِ الْتذاذُه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من
ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة
التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكفُّ
عنه بقناعة.
2- أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير، ويتقرب بها
في جهات البر، ويصطنع بها المعروف، ويغيث بها الملهوف؛ فهذا أعذر،
وبالحمد أحرى وأجدر متى ما اتقى الحرام والشبهات وأنفق في وجوه البر؛ لأن
المال آلة المكارم، وعون على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان. قال قيس بن سعد: اللهم
ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لِمَ تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني
عنها. وقال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرميْن: الدِّين والعِرض.
3- أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدّخرها لولده، ويخلِّفها لورثته، مع
شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، إشفاقاً عليهم من كدح الطلب
وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها قد استحق اللوم من وجوه لا
تخفى على ذي لب، منها:
أ - سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.
ب - الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.
ج - ما حُرِم من منافع ماله وسُلِب من وفور حاله، وقد قيل: إنما مالك لك
أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة.
د - ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده، حتى صار ساعياً محروماً، ... وجاهداً مذموماً.
هـ - ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه. وقد
حُكي أن هشام بن عبد الملك لما ثَقُلَ بكى ولده عليه، فقال لهم: جاد لكم هشام
بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ
حال هشام إن لم يغفر الله له! وقال رجل للحسن - رحمه الله تعالى -: إني أخاف
الموت وأكرهه، فقال: إنك خلَّفت مالك، ولو قدَّمتَه لسرَّك اللحاق به.
4- أن يجمع المال ويطلب المكاثرة، استحلاءً لجمعه، وشغفاً باحتجانه؛
فهذا أسوأ الناس حالاً فيه، وأشدهم حرماناً له، قد توجهت إليه سائر الملاوم. وفي
مثله قال الله - تعالى -[والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم] [التوبة: 34] [8] .
السبيل إلى القناعة:
1- تقوية الإيمان بالله - تعالى -، وترويض القلب على القناعة والغنى؛
فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى
بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض
ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله.
2- اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، كما في حديث ابن
مسعود - رضي الله عنه - وفيه: (ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر
بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..) [9] . فالعبد مأمور
بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
3- تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق
والاكتساب. يقول عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتُهن مساءً
لم أبال على ما أُمسي، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على ما أُصبح: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ] [فاطر: 2] ،
وقوله تعالى: [وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]
[يونس: 107] ، وقوله تعالى: [ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ] [هود: 6] ، وقوله - تعالى [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] [الطلاق: 7] [10] .
4- معرفة حكمة الله - سبحانه وتعالى - في تفاوت الأرزاق والمراتب بين
العباد، حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم
بعضهم بعضاً قال - تعالى [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً
ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] [الزخرف: 32] ، وقال - تعالى -[وهُوَ الَذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ]
[الأنعام: 165] .
5- الإكثار من سؤال الله - سبحانه وتعالى - القناعة، والإلحاح بالدعاء في
ذلك؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس قناعة وزهداً ورضىً
وأقواهم إيماناً ويقيناً، كان يسأل ربه القناعة؛ فعن ابن عباس: رضي الله عنهما -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو: (اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك
لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير) [11] ولأجل قناعته صلى الله عليه
وسلم، فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال -
عليه الصلاة والسلام -: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) [12] .
6- العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة
وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسباباً؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة،
وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو
غير ذلك وأكثر منه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه.
7- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو
فوقك فيها؛ ولذا قال النبي (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو
فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله) [13] . وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة
والسلام: (إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في
المال والحسب) [14] .
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه
في أشياء؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذباً
ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تعذيباً، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟ إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم
تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك
كله وهو لم ينل بعض ما نلت [15] ؟ !
8- قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل
منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثاراً للباقية على العاجلة، وعلى رأسهم
محمد صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم
الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم،
وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغِّبه في الآخرة،
وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة.
9- العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب
والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول
قدما عبد حتى يُسأل: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل فيه، وعن ماله من
أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه) [16] فمشكلة المال أن الحساب عليه
من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة وعاقبته
وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً.
ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع؛ وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتاً
طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء، وحساب الآخرة
أعسر، والوقوف فيها أطول.
ولينظر أيضاً إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه
وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ
على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً، ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر
ماله أو أُقيل من منصبه، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه! نسأل
الله العافية.
10- النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة، فالغني
لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له، وإن
كان يملكه، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من
الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً منه،
وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو
مائة ثوب فليبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار
فيسكنها في وقت واحد؟ ! لا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً
أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص،
ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداً
أو مضطجعاً. فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟ ! وقد فهم هذا المعنى
حكيم هذه الأمة أبو الدرداء - رضي الله عنه - حينما قال: أهل الأموال يأكلون
ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول
أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء، وقال أيضاً: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم
حينئذ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء: يحبوننا على الدِّين، ويعادوننا على
الدنيا [17] .
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية. قال عبد الله بن الشخير - رضي الله
عنه -: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ]
[التكاثر: 1] ، يقول: (يقول ابن آدم - مالي، مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟) [18] .
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش
أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه؛
لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك، لكنه
سيحاسب عن كل ما يملك.
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر،
ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم، وكم من رجال
نشؤوا على فرش الحرير، وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا
أعناق الرجال، وتعبَّدوا الأحرار، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب
عض الأرض، ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع، وآخرون قاسوا
المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام، فما ماتوا حتى
ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس، وسيسوِّي
الموت بين الأحياء جميعاً: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك
والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير
بفقره، ولا يبطر غني بغناه [19] ، وما أجمل القناعة! فمن التزمها نال السعادة،
وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها! حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى،
ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد، وحلت الألفة والمودة؛ إذ أكثر
أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين
في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حينما قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما
بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) [20] ،
فهل من مدَّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب
إلى قلبه فتفسده؟ (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة 442.
(2) فتح الباري 1/639.
(3) أخرجه ابن حبان 684 والوَدَك: دسم اللحم.
(4) أخرجه أبو نعيم 2/47 والحاكم 4/13.
(5) أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/67، وأبو نعيم في الحلية 2/47.
(6) أخرجه الطبراني في الكبير والرواية الثانية له 6182 وأبو نعيم في الحلية 1/197وصححه ابن حبان 706.
(7) الإحياء 3/239،، والقناعة لابن السني 43 عن نضرة النعيم3173.
(8) مختصراً من أدب الدنيا والدين 317-324.
(9) أخرجه أحمد 1/382، والبخاري في بدء الخلق، وفي أحاديث الأنبياء وفي التوحيد 7453 ومسلم في القدر 2643 وغيرهم.
(10) عيون الأخبار لابن قتيبة 3/206.
(11) أخرجه السهمي في تاريخ جرجان برقم 50 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/356.
(12) أخرجه البخاري في الرقاق 6460، ومسلم في الزكاة 1055، والترمذي 2362 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(13) أخرجه البخاري في الرقاق 6490، ومسلم واللفظ له 2963.
(14) هذه الرواية لابن حبان في صحيحه714.
(15) مع الناس للشيخ علي الطنطاوي 58.
(16) أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح (2419) .
(17) سير أعلام النبلاء (2/350 351) .
(18) أخرجه مسلم في الزهد 2958.
(19) باختصار وتصرف يسير من: مع الناس 61.
(20) أخرجه البخاري في الرقاق 6425، ومسلم 2961.(142/40)
قضايا دعوية
السلعة الغالية.. وثمنها الغالي
عبد العزيز الجليل
لا شك في أن غاية ما يرجوه المسلم من عبادته لربه - سبحانه - في هذه
الدنيا هو الفوز برضوانه - تعالى - وجنته، والنجاة من سخطه والنار. ومن
علامة توفيق الله - سبحانه - لعبده المؤمن أن يدله ويوفقه لأقرب الطرق وآكدها
لتحصيل هذه الغاية العظيمة، ولا شك في أن الطريق إلى ذلك هي طاعته -
سبحانه - بإخلاص ومتابعة وترك معاصيه.
بإخلاصٍ ومتابعةٍ: هذا على وجه الإجمال. أما على وجه التفصيل
والمفاضلة بين الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله - عز وجل - وأرضاها له فإن
المستقرئ لكتاب الله - عز وجل - وما ورد فيه من صفات أهل جنته ورحمته
ورضوانه ليجد شيئاً عجيباً جديراً بالتأمل والتدبر؛ ذلك أن جُلَّ ما ورد من الآيات
التي يذكر فيها - سبحانه - ما أعد لأوليائه في الجنة والرضوان يسبقها في العادة
صفات الموعودين بذلك.
وبالتأمل في أوصافهم تلك نجدها تتحدث في الغالب عن المجاهدين
والمهاجرين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصابرين على المحن
والابتلاءات في طريق الدعوة إلى الله. والآيات في ذلك كثيرة أذكر منها على سبيل
المثال - لا الحصر - ما يلي:
1 - قوله - تعالى -: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 218] .
2 - قوله - تعالى -: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] . [البقرة: 214] .
3 - قوله - تعالى -: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ
جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: 142] .
4 - قوله - تعالى -: [ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] [آل عمران: 157] .
5 - قوله - تعالى -: [ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ
أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ. الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] .
[آل عمران: 169 - 174] .
6 - قوله - تعالى -: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأُوذُوا فِي
سَبِيلِي وقَاتَلُوا وقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ولأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] . [آل عمران: 195] .
7 - قوله - تعالى -: [والَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ]
[الأنفال: 74] .
8 - قوله - تعالى -: [الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ
مِّنْهُ ورِضْوَانٍ وجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ] [التوبة: 20 - 22] .
9 - قوله - تعالى -: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ
ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
10 - قوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم
مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الصف: 10، 11] .
11 - قوله - تعالى -: [إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ
لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ
والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ
العَظِيمُ] [التوبة: 111] .
والآيات في هذا كثيرة؛ فهل من مشمِّر وبائع نفسه ابتغاء مرضاة الله وجنته؟(142/46)
حوار
المستشرق الروسي د. ليونيد سوكيانن
في حوار مثير مع البيان
(2 - 2)
في الاستشراق تيارات تخدم الأهداف الاستعمارية
حاوره في الرياض: خالد محمد أبو الفتوح
تطرق الحوار في الحلقة السابقة إلى الحديث عن الشريعة الإسلامية وطبيعتها
والعلاقة بينها وبين الواقع الروسي وأوجه الاختلاف أو الاتفاق بينها وبين النظم
القانونية الأخرى، ثم تناول الحوار تاريخ الاستشراق الروسي وأهدافه وواقعه
المعاصر.. وفي هذه الحلقة يستكمل الحديث عن الاستشراق، ويتطرق إلى
موضوعات أخرى. ونود لفت نظر القارئ إلى أن الحوار أجري منذ شهر ذي
القعدة 1419هـ وتأجل نشره لظروف فنية خاصة بطبيعة النشر في المجلة، لذا:
سيجد القارئ أن بعض الأحداث والشخصيات قد تغيرت، كالحديث عن الحرب
الكوسوفية أو عن بريماكوف باعتباره رئيساً لوزراء روسيا.
- البيان -
- تطوُّرُ الاستشراق المعاصر يجرنا إلى الحديث عن علاقة الاستشراق
بالصحوة الإسلامية: هناك دراسات كثيرة خصوصاً في فرنسا وفي أمريكا لمتابعة
الصحوة الإسلامية، وبعض الباحثين يقولون: إن الاستشراق الآن يتركز بصورة
كبيرة على ما يخص هذه الصحوة، فما رأيكم في هذا الكلام؟
أنا أقترح أن نناقش هذا الموضوع على ضوء النموذج الروسي عندنا: هل
هناك علاقة بين الصحوة الإسلامية وعلم الاستشراق؟ نعم، توجد علاقة مباشرة،
وقد صدرت أبحاث كثيرة - بعضها لا بأس به - تعكس الصحوة الإسلامية وتحلل
نتائجها وأسبابها وآفاقها المستقبلية. إذا سألتم عن موقفي من هذه الدراسات فأنا
لست من أنصار الدراسات التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالصحوة الإسلامية؛ على
الرغم - طبعاً - من وجود بعض المؤلفين ذوي الخبرة والقلم السيَّال وغالباً ما يكون
سطحياً الذين يرسمون صورة كما يرونها: أسماء المنظمات، أسماء الأشخاص،
الأرقام، الإحصائيات، هذه دراسات قيِّمة ومفيدة في بعض الأحيان، ولكنها تبتعد
عن إيضاح الإسلام باعتباره نظاماً وديانة، عندما أقول كلمة (الإسلام) وأنا نادراً ما
أقول هذه الكلمة؛ لأن كلمة (الإسلام) و (الشريعة) كلمة تستحق ألا تتكرر عفوياً
عندما أقول (الإسلام) و (الشريعة) .. ما هي المترادفات؟ هل مرادف الإسلام:
الحزب السياسي، أو الحركة السياسية، على الرغم من وجود السياسة في الإسلام؟ لا، ولكن قبل كل شيء يترادف مع الإسلام: الروح، الأخلاق، الضمير،
المعتقدات، الدنيا، الآخرة.. للأسف الشديد نحن نبالغ في تحليل الإسلام من خلال
هذه الحركات والتيارات والمنظمات والأصولية والراديكالية ... إلخ، وذلك إيماناً
بأن الإسلام - قبل كل شيء - ديانة وروح، وأخلاق وقيم، ومصير للحياة،
وهدف ومحتوى حياة الإنسان.. عندنا مفكر روسي قانوني كان يقول: لا تبحثوا
عن الجديد، ابحثوا عن الخالد، الأبدي، الباحث يجب أن يبحث قبل كل شيء عن
الثوابت.
وعلى هذا الأساس: إذا قصدنا العلاقة بين الاستشراق والصحوة الإسلامية -
بمعنى ردود الفعل لهذه الصحوة - وانعكاساتها في المؤلفات والأبحاث.. فإن هذا
الانعكاس موجود، ولكني لست من أنصار هذا الأسلوب في الكتابة عن الإسلام
والشريعة رغم اعترافي بوجود مثل هذا الاتجاه.
يوجد البعد الآخر للعلاقة بين الصحوة الإسلامية والدراسات الاستشراقية،
البعد الذي تناولناه، إذا كانت الصحوة الإسلامية التي نشاهدها الآن تدخل المرحلة
الجديدة وتهدف إلى رفع مستوى المسلمين وثقافتهم وإدخال منجزات الثقافة الإسلامية
إلى المجتمع الروسي بمختلف جوانبه، في البرامج الدراسية وغيرها، وإذا كانت
الدراسات الاستشراقية تسهم في هذه العملية وتساعد في تحقيقها - وهذا شيء
ضروري؛ لأنه ليست هناك جهات أخرى يمكن أن تقوم بهذه المهمة - ففي هذه
الحالة يجب أن تكون مثل هذه العلاقة بين الصحوة الإسلامية والدراسات الإسلامية
موجودة. وعلى هذا الأساس: يمكن أن نميز بين الأبعاد المختلفة للعلاقة بين
الصحوة الإسلامية وعلم الاستشراق. ولكني لست من أنصار نظرية هنتنجتون
حول تصادم الحضارات، لا، أنا لا أؤمن بأن أمامنا خطراً ولا أفكر بتصادم
الحضارات.. الفوارق موجودة؛ ولكن المصالح المشتركة أكبر، المصالح
المشتركة بين الحضارات تتجاوز هذه العداوة الثنائية في بعض الأحيان.
إذن لماذا في رأيكم تظهر مثل هذه الدعوات، ولماذا الترهيب من الصحوة
الإسلامية بالذات رغم أن هناك تياراً عاماً في العالم كله يدعو إلى الرجوع للدين
عموماً؟ لماذا التخويف من الإسلام خصوصاً والتركيز عليه وحده؟
أقول لك الأسباب: السبب الأول: أنا أعتقد أن هناك بعض التيارات في علم
الاستشراق تخدم الأغراض السياسية الاستراتيجية، وهي تخدم هذه السياسة
الاستراتيجية للسيطرة على الحضارات والشعوب الأخرى، وطبعاً هي تسوِّغ مثل
هذا الاتجاه وتقول: إن هذا العالم الإسلامي عدوُّنا، ومن الضروري أن نعد أنفسنا
للقتال ضده ومكافحة هذه القيم، وتقول أيضاً: إن هذا العالم يكبر، وعدد سكانه
يزداد باستمرار، وبعد (10) سنوات ستكون غالبية العالم مسلمين، ومن الضروري
أن نوقف ذلك بأي طريقة من الطرق.
هناك سبب آخر: وهو ينطلق من العالم الإسلامي نفسه، فنحن لا نستطيع أن
نهمل وننكر وجود الأحداث والتيارات والنداءات والشعارات والأهداف والإجراءات
التي تعلل مثل هذه الصورة للإسلام.. هناك الرهائن، هناك الاقتتال، هناك خطف
الطائرات، هناك الحوادث المؤسفة جداً.. أنا لا أتناول أسبابها، هذا شيء آخر،
ولكن الصورة الظاهرية التي تربط الإرهاب بالمسلمين موجودة.. أكرر مرة أخرى: لا أتدخل الآن في الأسباب، ربما هناك رد فعل شرعي على كثير من الأمور..
نعم.. صحيح، ولكن أنا - فقط - أؤكد على حقيقة أن مثل هذه الأشياء موجودة.
عندنا - مثلاً - بعض الأحزاب السياسية أو المنظمات الإسلامية ذات الطابع
السياسي تقول في برامجها المكتوبة والمنشورة: علينا أن نخضع فقط لإرادة الله -
تعالى - ولن نخضع لأي قوانين وأي دستور إطلاقاً، ولا نعترف بأي سلطة دنيوية
.. فكيف يمكن للقارئ غير المسلم أن يقيِّم مثل هذه الشعارات؟ وكيف يتفهمها؟
النتيجة حتماً ستكون سلبية.. يمكن المناداة بالقيم الإسلامية، ولكن كيف يمكن تفهم
المناداة بإسقاط النظام والدستور وعدم احترام القوانين؟ لا توجد أي دولة يمكن أن
تقبل مثل هذه الشعارات.
د. سوكيانن، رأينا بعض الحوادث الإرهابية الأخرى مثل: حادث
أوكلاهوما، أو الحوادث التي نفذتها جماعة الحقيقة المطلقة باليابان، أو بعض
الجرائم التي قام بها مستوطنون يهود، ومع ذلك تعامل معها الإعلام العالمي بصورة
جرائم محدودة، ولم تأخذ البعد العام، ولم يقولوا: الأصولية المسيحية، أو
الأصولية اليهودية.. إلخ، ولم يهاجموها؛ فهناك أيضاً أفعال في الطرف الآخر قد
تُجَرَّم ويُنظر إليها على أنها أعمال عنف وإرهاب! ولكن لا تتجاوز قدرها على أنها
جريمة؛ بينما في الحالة الإسلامية نرى خلاف ذلك؛ فقد لا تثبت الجريمة أصلاً
ويُهاجَم الإسلام والمسلمون والصحوة الإسلامية ابتداءً.
نعم.. الرد في رأيي بسيط على هذا السؤال: إنها السيطرة الإعلامية الغربية
على العالم، هذه حقيقة؛ إنك إذا ذهبت لأي دولة لتشاهد البرامج التلفزيونية، وإذا
فتحنا أي قناة عفوياً فمن بين (10) برامج ستكون (9) أفلام أمريكية أو برامج
مستوردة عموماً. هناك سيطرة كاملة على الشبكة الإعلامية في العالم، وهي تؤثر
تأثيراً مباشراً دون أي شك، حتى الصحفيون المخلصون المنصفون الذين لا توجد
لديهم أي مواقف سلبية مسبقة نحو الإسلام يتأثرون بهذه الصورة. أنا كثيراً ما ألتقي
مع الصحافيين في روسيا ويقولون لي بعد الحوار معهم: كيف يا ليونيد؟ لم
نتصور أن الإسلام كما تقول! لم نتصور أن الشريعة هكذا! .
إذن: السيطرة الاستعمارية الغربية على العالم كله، بل العالم الإسلامي
بالذات، لها أثر كبير دون شك. إلى جانب ذلك يمكن القول: إن المسلمين أنفسهم
في بعض الأحيان لا يستعملون كل قدراتهم لإزالة ذلك؛ مثلاً: من ينشر المقالات
الأساسية في الصحف الروسية لتصحيح صورة الإسلام؟ الباحثون الأكاديميون
وليس المسلمين، ولا يساهم المسلمون في ذلك.
أنا من أنصار الإسلام والشريعة منذ زمن بعيد، ولكن أنا أحمِّل المسلمين
أنفسهم جزءاً من المسؤولية عن هذه الصورة المشوهة دون شك، هم يكتفون
بالشكوى، ولكن أين الجهود؟ قد يقولون: لن تنشر مقالاتنا، ولكن الحقيقة أنه كما
إن عندنا صحفاً موالية للغرب ولليهود؛ فإنه توجد في الوقت نفسه صحف كثيرة
موالية للديمقراطية، وأنا عندما أكتب أي مقالة فإنها تنشر فوراً، ولم أقل كلمة ضد
الإسلام إطلاقاً؛ بالعكس أنا متهم دائماً بالدفاع عن الإسلام أكثر من المطلوب، ومع
ذلك تنشر مقالاتي، والمسلمون عندنا في روسيا يشْكون فقط. طبعاً أنا أعرف أنه
قد لا تتوفر لديهم الكفاءات المؤهلة للكتابة؛ ولكن قد تتوفر لديهم الإمكانات المادية،
عندنا كثير من رجال الأعمال المسلمين، لماذا لا يقتربون من المتخصصين
والأكاديميين ويطلبون منهم تخصيص بعض أوقاتهم لكتابة مقالات وأبحاث
موضوعية حقيقية عن الإسلام ويساعدونهم مادياً لتحقيق هذا الهدف؟ .. وهذه
الصورة ينبغي ألا تكون في روسيا فقط.. هل يمكن القول: إن كل المفكرين
والمثقفين ورجال الأعمال المسلمين القاطنين في العالم الإسلامي والمسلمين عموماً
استعملوا كل إمكاناتهم لإزالة مثل هذه الصورة، ولاستعراض حقيقة الإسلام؟ أنا لا
أقتنع بأنهم قاموا بذلك.
الحديث عن السيطرة الإعلامية يجرنا إلى الحديث عما يسمى بـ (العولمة
الثقافية) .. كيف ترون مستقبلها؟ وكيف ترون تأثيرها على الثقافات المحلية؟
العولمة الثقافية ظاهرة موضوعية لعالمنا الراهن بدون شك.. كلمة (العولمة)
تتكرر الآن في جميع أنحاء العالم، ولهذه الظاهرة العالمية أبعاد مختلفة، بعضها
إيجابية والأخرى سلبية؛ الأبعاد الإيجابية واضحة كل الوضوح: التقارب والتسامح
والتحاور بين الحضارات والثقافات، وهذا شيء جيد، ليس فقط لتعرِّف الناس
بعضهم ببعض، ولكن لإزالة كثير من العداوات المتبادلة بين الدول والشعوب،
وهو تلقائي لا نستطيع إيقافه؛ فالعولمة ليست قرار أحد الأفراد كان يفكر وأصدر
قراراً: غداً سنبدأ العولمة! هذه ظاهرة طبيعية لحياتنا؛ فالتقارب والتواصل
التجاري والمعلوماتي وغيره يؤدي تلقائياً إلى العولمة، ويستفيد من هذه العولمة
كثير من الباحثين والعلماء؛ بل تستطيع بعض بلاد المسلمين الاستفادة من العولمة
الثقافية والإنترنت وغيرها أكثر من روسيا؛ نظراً لتوفر الإمكانات المادية في
بعض البلاد العربية.
ولكن إلى جانب ذلك توجد أيضاً الجوانب السلبية، وهي متعلقة بالسيطرة
الإعلامية التي أصولها تقنية قبل كل شيء، مما يؤدي إلى السيطرة الفكرية
والثقافية. فمن النتائج والآثار لهذه العولمة السلبية: فرض الثقافة الواحدة على
الثقافات الأخرى، أنا لا أقصد فقط سيطرة الثقافة الغربية على العالم الإسلامي،
ولكن أقصد سيطرة أي ثقافة، فإذا افترضنا الصورة المعاكسة وكانت الثقافة
الإسلامية هي التي ستسيطر أنا أيضاً سأرفض ذلك، فكل واحد يجب أن يكون له
حقه في اختيار نمط حياته ومعتقداته. ولكن العولمة تعد من خصائص عالمنا
الراهن، يجب نقل التيار الفلسفي إلى العلوم الحديثة العالمية؛ الفلاسفة هم الذين
يفكرون في خصوصيات عالمنا الراهن، وهم يميزون بعض الخصائص لحضارة
العالم المعاصر بخمسة أو ستة مميزات: منها: الثورة المعلوماتية وتبادل المعلومات، مما يرتبط إلى حد بعيد مع العولمة الثقافية، هناك القضايا الخاصة بحماية البيئة،
هذه القضية لم تكن موجودة في أي مراحل الإنسانية، ومن الخصوصيات المميزة
لعالمنا الراهن وربما يكون هذا لأول وهلة غريباً: التسامح، والتعددية، التعددية
في كل شيء، في الأفكار، في الأشكال، في الثقافات، في الحضارات، والعالم
الغربي يتميز بهذين التيارين، من ناحية: السيطرة والضغط الثقافي الغربي على
باقي العالم، وفي الوقت نفسه التسامح الموجود في المجتمع الغربي نفسه، في
واشنطن عاصمة أمريكا، أمام البيت الأبيض هناك المسجد، هناك الكنيسة
المسيحية، هناك المعبد البوذي.
- ولكن اسمح لي يا دكتور في هذه النقطة بالذات.. صحيح هناك مظاهر
للتعدد والتسامح في المجتمع الغربي، ولكن في الوقت نفسه نجد على سبيل المثال
في فرنسا التي خرجت منها شعارات (الحرية والإخاء والمساواة.. إلخ) نجد أنهم لا
يقبلون تلميذات لمجرد ارتدائهن حجاباً، فكيف يتفق ذلك مع التسامح والتعددية؟
نعم! هذا صحيح، ولكن لكل مثال يمكن ضرب المثال المقابل، أقول لكم إن
الخميني قائد الثورة الإيرانية كان يعيش في باريس وكان يزاول نشاطاته منها
ويحرك هذه الثورة من فرنسا، والعالم كله يعرف ذلك..
- عفواً، قد نتفق في ظل الاختلافات التي نستعرضها أن هناك تسامحاً في
المجال الشخصي الذي يخص التعبد والشعائر، ولكن ليس هناك تسامح في النظام
الاجتماعي العام، بمعنى أن النظام الاجتماعي يفرض نفسه على الجميع.
طبعاً.. كل شخص يتأثر بالمجتمع وبالبيئة المحيطة حوله في كثير من
الأمور، وربما حتى في الدولة الواحدة توجد بعض مناطق بها تميزات، وبالنسبة
للتلميذات المسلمات في فرنسا: أنا أعرف هذه الصورة، ولكن إذا ذهبت أيضاً إلى
بعض العواصم العربية تجد الأوروبيات يلبسن ملابس محتشمة تتماشى مع تقاليد
هذه المجتمعات، وهذا ليس خيارهن، بل يتأثرن بالمجتمع المحيط.. هذا جزء من
إجابتي على سؤالكم، وعلى هذا الأساس من الضروري ألا ننسى كذلك مثل هذه
الأشياء..
- نعم، ولكن هذا المثال وذاك يقول إن التعددية محدودة ...
ليست محدودة، هي واسعة، حتى هذا الحوار الذي يدور بيننا يدل على أن
التعددية لا بأس بها وموجودة، طبعاً كل شيء في العالم نسبي، لا توجد أشياء
مطلقة في هذا العالم، ولكن قياساً على ظروف العالم منذ قرن ومنذ عشرات السنين: التعددية والتسامح في نمو، هل يمكن القول: إنه في بداية هذا القرن كانت
التعددية أوسع من ذلك؟ لا.. إذن ينبغي ألا نقيس التعددية على مثال في أذهاننا،
من الضروري أن نقيسها على الواقع العملي، كيف كان العالم يعيش منذ عشر
سنوات، منذ نصف قرن، منذ قرن، قرنين؟ هناك حركة وتطور وتقدم، ليس
تقدماً تصاعدياً دائماً ولكن قد تعتريه بعض الصعوبات والعوائق، ولكن عموماً:
الحركة موجودة بدون أي شك في هذا الاتجاه..
- ننتقل إلى موضوع آخر، نتحدث عن روسيا: تعرضتم لصورة الإسلام
في روسيا، وأنها قد تكون مشوهة، وتعرضتم لأسباب وجود هذه الصورة، سواء
من المسلمين أنفسهم أو من خارجهم، هل تعتقدون أن الأحداث السياسية الأخيرة
كالحرب السوفييتية الأفغانية أو الحرب الشيشانية أثرت على هذه الصورة للإسلام
عند المواطن الروسي؟
بالنسبة للحرب السوفييتية الأفغانية: لا أعتقد أن هناك الآثار الملحوظة على
مستوى صورة الإسلام في الرأي العام؛ لأن هذه الحرب لا تعد في رأي الشعب
الروسي حرباً ذات علاقة مع العالم الإسلامي، إطلاقاً.. حركة الطالبان حركة
جديدة، ظهرت بعد توقف الحرب، وأنا لم ألتق أي فرد من الشعب الروسي
ووجدته يربط هذه الحرب بالإسلام ولا كان يحلل هذه الحرب من زاوية الصراع
الديني.
بالنسبة للحرب الشيشانية: فالصورة تختلف: في بداية هذه الحرب لم يلاحَظ
العامل الإسلامي إطلاقاً، ولا بـ (1%) ، أنا مقتنع بذلك، فلم يذكر هذا العامل.
بدأ ذكر اسم الإسلام والعالم الإسلامي والتعاون مع العالم الإسلامي أو وجود من
يسمونهم بالمرتزقة من بعض البلدان الإسلامية، بدأ تداول كل ذلك بعد مرور أشهر
بل سنوات من بداية هذه الحرب؛ فما هو سبب دخول الإسلام عاملاً في هذه
الحرب؟ على ما أعتقد هناك عدة أسباب: السبب الأول: يعود إلى السياسة
الفيدرالية للسلطات الروسية. لا نناقش الآن بداية هذه الحرب؛ ولكن في رأيي
الشخصي أنه اتخذت خطوات خاطئة كثيرة أدت إلى تهيئة الظروف المناسبة لبلورة
العامل الإسلامي في هذه الحرب؛ فمثلاً: بعض الإعلانات التي ألقيت في بداية هذه
الحرب تحمل رفضاً كاملاً لوجود العامل الديني أو الطائفي في هذا الصراع، وكان
التركيز في بعض وسائل الإعلام على عدم وجود أي علاقة لهذا العامل.. ولكن
المجتمع الروسي تعوَّد على تبني رد الفعل المعاكس للبيانات والتصريحات الرسمية. مثلاً: إذا أدلى وزير المالية الروسي بتصريح للإذاعة أو التلفزيون نافياً اتخاذ
قرارات بتغيير قيمة العملة، فإن المواطن الروسي يفهم ذلك على أنه - عاجلاً أم
آجلاً - ستتخذ مثل هذه القرارات.. وعلى هذا أعطى التركيز المستمر على أن
هناك بعض القوى التي تحاول إدخال العامل الديني وتحوِّل هذا الصراع السياسي
إلى صراع طائفي ديني، ونفي ذلك أدى إلى إدخال هذا العامل بالفعل. هذا من
جانب السلطات الفيدرالية.
أما من جانب الشيشان: فإنه عندما بدأت هذه الحرب، اكتسبت وبسرعة
صفة الحرب في سبيل الاستقلال باعتبارها حرباً ضد الاستعمار، فكان من الواجب
البحث عن كل العوامل التي تساعد على تعبئة الشعب كله نحو هذا الهدف. ما هي
الشعارات القوية في مثل هذه الظروف التي تحقق هذا الهدف؟ الإسلام كان أقرب
وسيلة لتعبئة صفوف المجاهدين أو المقاتلين أو غيرهم، هذا إضافة إلى الأخطاء
السياسية والعسكرية للسلطات الروسية التي أثرت تأثيراً سلبياً على سمعة روسيا
والجندي الروسي في الشيشان.. الشيشان الآن يقولون: إنهم انتصروا في الحرب
ضد روسيا.. وهذا شيء غير صحيح، من المستحيل الانتصار على الجيش
الروسي من قِبَلِ الجيش الشيشاني، الجيش الروسي يملك عسكرياً من الإمكانات
والقدرات أن يصل إلى نقاط بعيدة حتى خارج حدوده، وهذا الإخفاق في الشيشان
ليس هزيمة عسكرية إطلاقاً، بل هزيمة سياسية.
وكذلك هناك العامل الخارجي: الشيشان في ذروة الحرب كانوا يزورون
كثيراً من البلدان الإسلامية طلباً لدعمها وتأييدها؛ فتحت أي شعار تدعمهم؟ الإسلام
بالطبع.. أخفقوا في بعض الأماكن في الحصول على هذا الدعم المادي أو المعنوي، ولكن نجحوا مع بعض البلدان، وبعض الأفراد، وبعض القادة.
على هذا الأساس: كانت الظروف موضوعية للصدام بين روسيا والمنطقة
المناضلة في سبيل استقلالها، بين الاستعمار والشعب الذي يناضل في سبيل حريته، كانت هذه هي الصورة الظاهرة لهذه الحرب، وإلى جانب ذلك ظهرت السلطة
الروسية بمثابة سلطة عدوانية، والسلطة الشيشانية بمثابة سلطة مدافعة عن حريتها
واستقلالها. خطوة بسيطة: هذه السلطة المسيحية، وهذه الإسلامية. وحتماً آجلاً
أو عاجلاً كان سيظهر هذا العامل في الشيشان رغم أن بذور الإسلام وأصوله في
الشيشان سطحية. الشيشان آخر منطقة في شمال القوقاز اعتنقت الإسلام، واعتناق
الإسلام في المجتمع الشيشاني سطحي.. ما يسود في الشيشان ليس الإسلام الصحيح، بل الأعراف والتقاليد والطرق الصوفية، وحتى الطرق الصوفية التي في
الشيشان بعيدة جداً عن الإسلام، بل هناك شك في مدى إسلاميتها في رأيي
الشخصي.
ولكن سياسياً ودعائياً وفكرياً لا يزال الإسلام شعاراً وصيغة وشكلاً يلعب حتى
الآن دوراً هناك.
نحن نعود إلى بداية حديثنا: أننظر إلى الإسلام باعتباره قيمة أم باعتباره
أسلوباً؟ غايةً أم وسيلةً؟ الإسلام في الشيشان الآن - للأسف الشديد - ليس إلا
وسيلة، وهو وسيلة في الصراع داخل الشيشان أكثر منه في الصراع بين الشيشان
وروسيا. الإسلام الآن يستعمل سلاحاً بين مسعدوف رئيس الشيشان والمعارضة له، هم يتصارعون، وكل واحد يلجأ إلى حجة الإسلام..
- قبل أن نترك هذه النقطة، هل يعني هذا أنكم ترون الدعوات المثارة
لتطبيق الشريعة في الشيشان مجرد مزايدات؟
يجب أن نميز بين عدة أبعاد لهذه الحقيقة، وقد سبق لي أن كتبت بعض
المقالات في الصحف الروسية قائلاً: إن الطموح نحو تطبيق الشريعة الإسلامية من
المستحيل أن يكون خاطئاً في المجتمع المسلم، كل مجتمع مسلم يطمح نحو تطبيق
الشريعة الإسلامية، ولا نستطيع القول إن مثل هذه المناداة خاطئة، هذا شيء
طبيعي، أما ما يمكن أن يكون خاطئاً فهو أسلوب أو كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية؛ والتجارب الملموسة لتطبيق قانون العقوبات الشيشاني الجديد تقول ذلك؛ فهذا
القانون هو مجرد ترجمة حرفية لقانون العقوبات السوداني، وعندما استفسرت من
الشيشانيين: لماذا اقتبستم قانون العقوبات السوداني والشيشان من الشوافع بينما
قانون السودان مالكي؟ قالوا: وهل هناك فوارق؟ ما معنى المذهب الشافعي
والمالكي؟
ومما يدل على أنه ترجمة حرفية أضرب لكم مثالاً مدهشاً: عندي نسخة لهذا
القانون الشيشاني، وهو ترجمة روسية ضعيفة، ولكن مما يدل أن هذه الترجمة
حرفية أنني قابلته بالقانون الجنائي السوداني فوجدته ترجمة حرفية إلا فرقاً واحداً:
الغرامة (الدية) تقدر في السودان بالإبل وفي الشيشان بالبقر؛ لأنه لا توجد في
الشيشان إبل، بل توجد مادة في القانون الشيشاني نسيت رقمها تحدد الغرامة المالية
وتقدرها بالجنيهات، والجنيهات موجودة في السودان ولا توجد في الشيشان..
كيف يمكن استيراد قانون وزرعه في بيئة مختلفة وتطبيقه على هذا النحو،
هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج جيدة؟
- كيف ترون مستقبل هذه التجربة في ضوء: الوضع الاجتماعي الشيشاني
وخصوصاً مع عدم وجود علماء أو فقهاء كما أشرتم من قبل لاستصدار وتطبيق هذه
القوانين، وأيضاً في ضوء الوضع القانوني الشيشاني بالنسبة لروسيا، وفي ضوء
الواقع الإقليمي، كيف ترون مستقبل هذه التجربة؟
المستقبل غامض في رأيي، ليس فقط على مستوى العلاقات بين الشيشان
والسلطات الفيدرالية، ولكن بالنسبة لمستقبل الشيشان نفسها، أنا لا أستطيع أن
أتصور هذا المستقبل، ولكني أراه غامضاً للأسف الشديد.
ولو سمحت أن أعود إلى موضوع تخصصي، بالنسبة للتشريع الإسلامي أو
الإسلام في الشيشان أوضح لكم أمراً: منذ شهر تقريباً عندما تفاقمت هذه
الصراعات والتنافس بين مسعدوف والمعارضة، وبدأت المعارضة تطالب باستقالة
الرئيس وحل البرلمان وإنشاء مجلس الشورى بدلاً منه، تحت شعار تطبيق أحكام
الشريعة الإسلامية، ورداً على ذلك استبقهم مسعدوف وأصدر قراراً بتشكيل مجلس
الشورى وتكليف البرلمان بإعداد الدستور الجديد خلال شهرين على أساس القرآن
الكريم والسنة النبوية.. كيف يمكن خلال شهرين؟ ! أي مُلِمٍّ بالشريعة الإسلامية
يعرف أنه من غير الممكن إنجاز تلك المهمة خلال شهرين؛ فهي تحتاج لسنوات،
ولكن مسعدوف أعلن أنه خلال شهرين ينتهي من هذه المهمة، وأعلن في الشيشان
الحكم الإسلامي، فما معنى ذلك؟ !
من جهة أخرى: المعارضة تقول: إنه إذا أعلن الحكم الإسلامي يجب أن
نحل البرلمان ونلغي الدستور ونستبدل مجلس الشورى بالبرلمان.. لماذا؟ هل
الحكم الإسلامي يمنع وجود البرلمان بصفته هيئة استشارية جماعية؟ .. لا، هل
الحكم الإسلامي يمنع منصب رئيس الجمهورية؟ أبداً!
على هذا الأساس: لا الرئيس ولا المعارضة يعرفون معنى الحكم الإسلامي
وكيفية تطبيقه، ولكن كل واحد ينافس الآخر في كسب عامل الشريعة إلى جانبه.
المعارضة هي التي بادرت إلى ذلك، ومسعدوف رد على ذلك مُجْبَراً، فهذا ليس
خياره، ولكن المعارضة كانت تضغط على الرئيس تحت شعار تطبيق الشريعة
كسباً للدعم الشعبي، فهل يرد مسعدوف بقوله: أنا أرفض تطبيق الشريعة؟ هذا
يعد انتحاراً سياسياً منه، فهو أُجبر على الرد على ذلك باتخاذ هذه الخطوات، وهذا
إن دل على شيء فيدل مرة أخرى على استعمال الشريعة في الشيشان وسيلة وليس
غاية.
في ظل هذه الظروف يبرز سؤال: ما هي الآثار المترتبة على إعلان الحكم
الإسلامي، وتشكيل مجلس الشورى، وتكليف البرلمان بصياغة الدستور على أسس
شرعية؟ ما هي آثار ذلك على العلاقات بين الشيشان وروسيا؟ هناك بعض
التعليقات التي كانت تقول: إن مثل هذه الإعلانات للحكم الإسلامي غايتها إلى
جانب الغايات الأخرى الابتعاد النهائي عن روسيا؛ لأن روسيا لن تعترف إطلاقاً
بهذا الحكم الإسلامي.. عميد معهدنا معهد الدولة والقانون طلب مني تحرير تقرير
علمي والاستنتاجات لهذا الأمر، أنا كتبت أن مثل هذه الإعلانات بالحكم لا تضيف
شيئاً جديداً على العلاقات الموجودة الآن مع روسيا، الشيشان الآن لا تخضع
للدستور والقوانين الروسية، السلطات الرسمية الروسية لا تسيطر على الأمور
هناك، فقط الإعلانات وحدها لا تضيف جديداً إلى هذه الصورة، ويجب ألا تمنع
مثل هذه الشعارات استمرار الحوار بين السلطات الروسية والسلطة الرسمية في
الشيشان (مسعدوف نفسه) ؛ لأنه ربما يكون من أغراض المعارضة باتخاذها هذه
الخطوات وضع الحواجز في العلاقات بين مسعدوف وموسكو توقعاً لرفض موسكو
أي إعلان للحكم الإسلامي، أنا قلت: لا، أبداً، بالعكس، من الضروري معاملة
هذه الإعلانات معاملة ذكية معقولة، ليس بقطع العلاقات مع الشيشان، ولكن
بالعكس: إدخال هذا الموضوع إلى جانب كثير من الموضوعات التي يتم مناقشتها
الآن، إدخال موضوع الشريعة والإسلام عنصراً مكوناً للحوار بين موسكو
ومسعدوف؛ دعماً لمواقف القوى المعتدلة، وقبل كل شيء مسعدوف نفسه: دعمه
في الصراع ضد المعارضة المتطرفة، على الرغم من أن قبول فكرة هذا الحوار
صعبة جداً، بل فُرَصُه محدودة للغاية للأسف الشديد؛ ربما تكون أفضل في ظل
رئاسة بريماكوف للحكومة، ولكن للأسف ما زال الحوار محدوداً جداً.
ورأيي الشخصي أنه من الضروري ألا نقطع هذا الحوار، بل على العكس:
نطوره ونحركه ونثريه، وإلى جانب مناقشة الموضوعات السابقة نناقش الشريعة
ومحاولة إيجاد الحلول الوسط بالنسبة لهذه الأمور.
السؤال المحوري الأساس الآن: هل في السلطات الروسية المهارات
والكفاءات والذكاء الكافي لذلك؟ وهل في السلطات الرسمية الشيشانية كذلك
الكفاءات نفسها لإجراء الحوار الهادئ للتوصل إلى الحلول الوسط المقبولة؟ يجب
عدم الخوف من أي إعلانات؛ لأن إعلان الحكم الإسلامي وحده بدون التفاصيل
والتطبيق العملي لا يعني شيئاً.
وإعداد الدستور على أساس القرآن الكريم وحده! بصراحة بالنسبة لسلطة
الدولة في القرآن الكريم ثلاث أو أربع آيات فقط: مبدأ الشورى، مبدأ العدل، مبدأ
المساواة، وطاعة أولي الأمر.. فقط، هل من الممكن الاعتماد على هذه الآيات
الأربع فقط بدون الاجتهاد، بدون تفصيل لصياغة الدستور، هذا الأمر يتطلب
الخلفية والمقدمات والكليات والمقاصد.
- المقصود طبعاً بالقرآن ما يحتويه أيضاً من قواعد كلية أساسية سواء في
الكتاب أو السنة، وليس النصوص المحددة فقط.
صحيح، ولكن صياغة الدستور على هذا الأساس..! طيب..! !
إذا شطبنا بعض المواد فيمكن أن نعتبر الدستور الروسي دستوراً يستجيب
لنظام الحكم الإسلامي، هل تتصور أن الفارق المبدئي..؟ ! ! عندي مشاريع
الدستور الإسلامي المصاغة في جامعة الأزهر وفي كثير من الجهات الأخرى،
المشاريع مصاغة وموجودة في كتاب منشور، إذا اطلعنا عليها نجد نظاماً عادياً،
نظام رئاسة وبرلمان..
المستقبل بصراحة لا أراه بوضوح لا للعلاقات ولا للشيشان نفسها، أنا خائف! إن شاء الله لا يكون ذلك، ولكن خائف من أن تتحول الشيشان إلى مثال ...
أفغانستان، هذا احتمال موجود، والجميع يعرفون مشكلة أفغانستان، ولا نرى نهاية
لها..
- أخيراً: بالنسبة للوضع الروسي، نرى هناك كما ينقل الإعلام صراعاً
بين ثلاثة تيارات في روسيا: التيار القومي، والتيار الشيوعي، واللوبي
الصهيوني الذي يمثله بيريزوفسكي، ما مستقبل روسيا في ضوء هذا الصراع؟
أولاً: بالنسبة للتمييز بين هذه التيارات الثلاثة، ذكرتم التيار القومي
والشيوعي والصهيوني، وعندما ذكرت هذه التيارات كنت أفكر وبرزت في مخيلتي
صور لرجال السياسة الأساسيين في روسيا، وكنت أضع كل واحد في تيار من هذه
التيارات، ولكن يبقى خارج هذه التيارات الثلاثة كثير من أصحاب النفوذ السياسي.
- مثل بريماكوف مثلاً؟
بريماكوف، هل هو قومي؟ هل هو شيوعي؟ أو صهيوني..؟
- أنا أعتبره من خارج التيارات الثلاثة، ولكن في الوقت نفسه: النفوذ
والتأثير واضحٌ أنه لهذه التيارات الثلاثة..
بصراحة القول: أنا لا أربط مستقبل روسيا بالتيار الشيوعي رغم أن
الشيوعيين عندهم نفوذ عميق جداً، عندهم أغلبية نسبية في البرلمان، والأزمة
المستمرة في روسيا تلعب لمصلحتهم دون أي شك؛ لأنه في ظل هذه الأزمة
بإمكانهم تحقيق مكاسب أكثر وأكثر في أسواق الناخبين.
بالنسبة للتيار القومي، هو موجود، ولكن داخله تيارات فرعية كثيرة، بل
في بعض الأحيان تتنافس فيما بينها بشدة، والتيار القومي موجود ولكن احتمال
فوزه في الانتخابات البرلمانية لا أثق فيه، سيكون له تمثيل في البرلمان ولكن لا
أعتقد أنه سيحقق أغلبية.
الشيوعيون كذلك، أنا لا أعتقد أنهم سيحصلون - ربما - على أكثر من
(30 %) ، وهذا ليس بكاف لتشكيل الحكومة، ولكن بالطبع يعتبر ثقلاً.
المشكلة الأساسية أن كل القوى الأخرى متفرقة تتصارع فيما بينها.
- لم نتحدث عن النفوذ الصهيوني..
بالنسبة للتيار الصهيوني: بصراحة القول - وهذه ملاحظة شخصية -: أنا
أفضل التسمية الأخرى وليس ربط هذا التيار بالصهيونية.. الأصل اليهودي
لبيريزوفسكي وحده غير كافٍ؛ هذا لا يدل على أنه إذا كان أحد الأشخاص أصله
يهودي فهو صهيوني؛ بحيث نقول: النفوذ الصهيوني، إطلاقاً، وأنا لا أعتقد أنه
يوجد عندنا في الحقيقة تيار صهيوني قوي، ربما أنا مخطئ، أنا أعرف أن هناك
آراء أخرى، ولكن هذا رأيي الشخصي، لا أعتقد أن هناك تياراً صهيونياً بالمعنى
الصحيح للكلمة، بالمعنى العلمي للصهيونية.. النفوذ اليهودي موجود، عندنا
أصحاب البنوك، ولكن أصحاب البنوك اليهود يتصارعون فيما بينهم أكثر من
صراع أي روسي مع اليهود؛ لأن كل مصرفي عنده مصالحه المصرفية الخاصة
تسود على أي عواطف.
بيريزوفسكي.. إذا رغبت موقفي الشخصي من بيريزوفسكي: أنا لا أعادي
بيريزوفسكي بشكل عام، أنا أعترف بكفاءته الجيدة جداً، هو عنده كفاءات إدارية
واقتصادية وحوارية جيدة جداً، هو شخصية ذكية، عنده إمكانات، عنده نفوذ، ولا
يعني ذلك أنه يستفيد من هذا النفوذ لشيء شخصي، ولكن من الطبيعي أن يستعمل
هذه الإمكانات، وهذا النفوذ حسبما يرى، هذا رأيي الشخصي.
أنا لا أثق أن تياراً من هذه التيارات الثلاثة أو ربما تيارات أخرى تساويها في
القوة أو تقل عنها ستفوز في الانتخابات، بمعنى الحصول على غالبية الأصوات،
ستكون الصورة في هيكلة البرلمان الروسي متشابهة تقريباً للصورة الحالية، هناك
الشيوعيون، هناك القوميون، هناك كذلك تيار آخر يتبلور الآن، التيار الذي يمثل
مراكز القوى في الأقاليم المختلفة خارج موسكو، هذا التيار يطمح الآن إلى تجميع
جهوده في كتلة واحدة، وإذا نجح في ذلك وتجاوز بعض التنافسات الشخصية،
فسيكون هذا التيار قوياً جداً، وهو ليس قومياً ولا شيوعياً ولا صهيونياً، بل هو
يمثل مصالح الوحدات الإقليمية، والمنتجين، وبعض الفئات البعيدة عن العاصمة.. للأسف مثل هذا التيار غير متبلور عندنا.
والمستقبل في روسيا الآن يتوقف على الأشهر القليلة القادمة لتحقيق برنامج
بريماكوف، إذا نجح بريماكوف في بعض الإصلاحات التي بدأت ببطء واعترضتها
صعوبات وبعض المعوقات فهذا سيكون ضد الشيوعية، ربما سيدعم بعض
الحركات الأخرى، أما إذا أخفق بريماكوف في هذه الإصلاحات فستكون فرصة
فوز الشيوعيين في الانتخابات قوية.
نحن الآن في شهر مارس، والانتخابات البرلمانية في نهاية هذا العام (1999م) ، وفي رأيي أنه بعد الصيف تقريباً ستكون أرضية الاستنتاجات أكثر دقة وأكثر
وضوحاً، وإذا سألتني لصالح من ستصوِّت في الانتخابات البرلمانية القادمة فليس
عندي جواب الآن، أنا لن أصوِّت لصالح الحزب الشيوعي ولا للقوميين.. ولكن
ليس هناك خيار حالي، وعلى هذا الأساس فالناس في بعض الأحيان لا يصوتون
لصالح، بل يصوتون ضد.
لكن عفواً د. ليونيد.. ما فائدة تمثيل تيارات قوية للأقاليم أو المنتجين أو
القطاع الخاص، ويستطيع الرئيس مثلاً أن يحل البرلمان كما فعل سابقاً أو يستطيع
أن يعطي رئيس الوزراء إجازة ليتصرف هو، فقد تكون هناك قوى انتخابية ولكن
ليس لها تأثير فعلي كما هو حادث بالنسبة للتيارات التي نتحدث عنها..
نعم.. القضية الأساسية الآن أنه ليس عندنا جهاز لآلية السلطة الراسخة
المتطورة المتبلورة ذات التقاليد والأصول، إذا كان النظام الاقتصادي عندنا يعاني
من آثار الانتقال من مرحلة إلى أخرى؛ فإن الشيء نفسه يحدث على المستوى
السياسي، وهذا بخلاف دول أخرى كبريطانيا مثلاً؛ حيث كل شيء واضح، هناك
حزبان رئيسان ويبقى الخيار فقط: هل هذا الحزب سيبقى، أم سيحل الآخر محله
بعد الانتخابات؟ الشيء نفسه في أمريكا؛ إذ لا تؤثر مثل هذه التغييرات على
الحالة الاقتصادية أو السياسية إلا تأثيرات محدودة ومتوقعة، أما في روسيا وفي
ظل ظروف عدم تبلور مثل هذه الثقافة السياسية البرلمانية واضطراب العلاقات بين
القوى وعدم ترسيخ العلاقات المبدئية بين الرئيس والسلطة التشريعية والحكومة..
فإننا لا نستطيع أن نتصور كيف سيكون الوضع في البلاد بعد عدة أشهر، وليس
في العقود القادمة.
بالنسبة لحل البرلمان.. في رأيي وقوع هذا الاحتمال ضعيف جداً مستقبلاً،
بل ربما يكون صفراً. لن يُحل البرلمان بمعنى حله دستورياً، هذا ليس في مصلحة
أي أحد ولا حتى الرئيس، وذلك على الرغم من وجود صراع كلامي بينهم،
ولكنهم جميعاً يعرفون أن حل البرلمان ليس في مصلحة أي واحد منهم.
وأيضاً يجب ألا نهمل مشكلة وضع الرئيس؛ فحالته الصحية ليست بجيدة
وذلك معروف للجميع، ومن الصعب تصور مدى تأثيره العملي على السياسة ودوره
فيها الآن.. ولكن في النهاية أقول: روسيا بلاد العجائب!
ما أثر هذا الصراع بين القوى على العلاقات مع العالم العربي والإسلامي؟
فمثلاً: هل له أثر على مشكلة كوسوفا؟
أنا لا أرى الآثار العميقة لهذا الصراع على العلاقات مع العالم العربي
والإسلامي؛ لأن عندنا مواقف قريبة تقريباً لهذه التيارات من قضية مثل هذه. هذه
التيارات تختلف وتتصارع حول المشكلات الداخلية في روسيا، أما بالنسبة لقضية
يوغسلافيا فكانت مواقفها قريبة جداً، ومواقفها معروفة: أول شيء: رفض التدخل
العسكري لحلف الناتو في يوغسلافيا، وإيجاد الحلول السلمية السياسية، وهذه
النقطة مُجمع عليها من كافة القوى تقريباً، وعند تصويت البرلمان حول هذه النقطة
كان من بين حوالي (450) نائباً ثلاثة أو أربعة فقط لهم مواقف مختلفة، الرأي
المتفق عليه: رفض التدخل العسكري للناتو؛ لأن هذا التدخل من وجهة نظرنا لن
يحل المشكلة، ومن ناحية ثانية: لا نستطيع أن نسمح لكتلة عسكرية إقليمية أن
تقرر مصير شعب أو تحل محل قانون العالم، هذا من صلاحية الأمم المتحدة
ومجلس الأمن وليس للقوة والجبروت العسكري، هذا الموقف مجمع عليه من كافة
القوى.
النقطة الثانية: طبعاً التأييد العلني والمباشر في بعض الأحيان وفي أحيان
أخرى المتخفي أو المتحفظ ليوغسلافيا تحت شعارات أن يوغسلافيا دولة مسيحية،
بل أرثوذوكسية، وفي بعض الأحيان يقول الشيوعيون: إخواننا في يوغسلافيا..
عندكم تميزون بين الدول العربية والأجنبية، ومثل هذا التمييز موجود في روسيا
أيضاً، ويظهر في صورة مطالبة بالدعم المباشر، وفي بعض الأحيان تطالب بعض
التيارات مثل جيرونوفسكي بإرسال الجنود الروس والجيش لتأييد يوغسلافيا
عسكرياً.
ولكن كيف يقول الشيوعيون: إخواننا في يوغسلافيا، وهم حسب معتقداتهم
ليس لهم دين، ثم يؤيدونهم بدعوى الأرثوذوكسية؟
الآن هم يعترفون بالدين باعتباره ثقافةً وقيماً أخلاقية، ولكنهم لا يزورون
الكنائس، في هذا المجال حدث تغير كبير جداً من الشيوعية السابقة إلى برنامج
الحزب الشيوعي الراهن عندنا في روسيا.
يعني أصبحت الأرثوذوكسية كأنها قومية.
هناك بعض الملامح تشير نحو تحول المسيحية إلى نوع من القومية؛ فمثل
هذه الملامح موجودة على الرغم من أن نتائج هذا التحول قد لا تكون إيجابية في
رأيي، ولكن من الضروري الاعتراف بوجود مثل هذه الملامح بالتحول التدريجي
للمسيحية إلى أن تكون قومية.
حتى على نطاق الشيوعيين؟
نعم.. حتى على هذا النطاق، ولكن الشيوعيين لا يلعبون دوراً محركاً في
هذه التحولات؛ فهناك بعض القوى الأخرى التي تلعب ذلك الدور، كالقوميين،
وكذلك السلطات الرسمية، فينبغي على الشخصيات الرسمية التي يعلن دستورها
أنها منفصلة عن الدين أن ينفصلوا عن المشاركة في الشعائر الدينية، باعتبارهم
مواطنين يمكن أن يقوموا بهذه الشعائر، ولكن عندما يكونون رسميين يجب ألا
يشاركوا، فإذا كنتُ مثلاً رئيساً لهذه الدولة فلا ينبغي أن أزور كنيسة ولا مسجداً إذا
كان الدستور يقول إن الدولة منفصلة عن الدين، ومن ثَمَّ تنفصل عنه هيئة الدولة
وعلى ذلك: ينبغي ألا أدخل مسجداً ولا كنيسة، أو إذا دخلت كنيسة فعليَّ أن أدخل
المسجد والمعبد البوذي والكنيس اليهودي على حد سواء دون تمييز، والأفضل
الامتناع عن ذلك. يمكن أن نهنئ بالمناسبات الدينية أصحاب كل دين ولكن دون
المشاركة الشخصية، هذا إذا كانت الدولة علمانية، ولكن في بعض الأحيان تحدث
تجاوزات لهذه الحدود عندنا.(142/48)
الانفراط العظيم
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
ليس من العقلانية ولا من الأمانة نسيان المشكلات الكبرى لدى الغرب في
خضم الدعوة للاقتداء به والسير على منواله
الانفراط العظيم: اسم كتاب جديد لعالم الاجتماع والمفكر الأمريكي فرانسيس
فوكوياما [1] الذي كان قد ذاع صيته بعد أن أصدر كتابه: (نهاية التاريخ) الذي كان
قد زعم فيه أن النظام الغربي: الليبرالي في السياسة، والرأسمالي في الاقتصاد هما
وحدهما النظامان اللذان يتناسبان مع الفطرة الإنسانية؛ لأنهما اللذان يحققان ما في
تلك الفطرة من نشْدَانٍ للكرامة؛ فهما يمثلان لذلك نهاية التاريخ في هذا المجال،
أعني مجال النظم السياسية والاقتصادية، وأن هذا هو الذي يفسر سير العالم كله
نحوهما [2] . لكن فوكوياما كتب في هذا العام - بعد عشر سنوات من صدور كتابه
ذاك - مقالاً تراجع فيه عن تلك الفكرة، وعزا تراجعه إلى أن فكرة الكتاب كانت
قائمة على افتراض الثبات في الفطرة الإنسانية، وأن تتبعه للتطورات التي حدثت
في علم الأحياء في هذه السنوات العشر، ولا سيما في مجال هندسة الجينات،
أقنعته بأن العلم الطبيعي يمكن أن يغير الطبيعة البشرية! وإذا كانت الطبيعة
البشرية متغيرة فإن النظم السياسية والاقتصادية المناسبة لها ستكون أيضاً متغيرة.
ولا يدري المرء: أيعجب أكثر من فكرة الكتاب الأولى، أم من السبب الذي دعاه
للتراجع عنها؟
أما في هذا الكتاب الجديد فإن الكاتب يناقش قضية من أخطر القضايا التي لا
تقتصر أهميتها على المجتمعات الغربية التي هي موضوع الكتاب؛ بل تهم أو
ينبغي أن تهم كل المعنيين بقضايا القيم الخلقية، وصلتها بالفطرة، وبما يحدث في
المجتمع من تغيرات تقنية. إن دعاة التغريب في بلادنا ينظرون إلى الغرب نظرة
مثالية تغض الطرف عن كل ما يحدث فيه من مشكلات؛ لأنهم يخشون أن تكون
معرفة تلك المشكلات صادة للناس عن السير في طريقه الذي هو مبتغاهم. وهذا -
كما ترى - ليس من العقلانية، بل ولا من الأمانة في شيء. إن غاية المواطن
الأمين ينبغي أن تكون السعي لمصلحة بلده. والسعي للمصلحة يدخل فيه التحذير
من الطرق التي تؤدي إلى الضرر؛ لكن إذا كان المستغربون عندنا يحاولون إخفاء
هذه الحقائق، فما هكذا يفعل عقلاء المفكرين الغربيين الحريصين على مصالح
مجتمعاتهم وأقوامهم.
إننا في العالم الإسلامي - كما هو الحال في بقية العالم - نسير في طريق
الغرب في كثير من نواحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء بضغط
من الغرب نفسه، أو بتشجيع من أولئك المستغربين المبهورين به، أو لأسباب
أخرى. فالاهتمام بما يحدث في الغرب من مشكلات هو إذن اهتمام بمستقبلنا؛
لأن مشكلات الغرب الآنية هي مشكلاتنا المستقبلية إذا ظللنا نسير في طريقه غير
معتبرين بمزالقه.
وإذا أردنا الاعتبار فإن مما يساعدنا عليه كثيراً هو الحقائق التي ينشرها
علماء الغرب ومفكروه أنفسهم. لكن استفادتنا من الحقائق لا تعني بالضرورة قبولنا
لتفسيراتهم لها، ولا للحلول التي يقترحونها. نعم! قد نستفيد من تفسيراتهم ومن
حلولهم؛ لكن يجب أن نفكر لأنفسنا فنجتهد في التفسير والحل مسترشدين بديننا
ومعتبرين بما حدث لنا ولغيرنا في تاريخهم وتاريخنا، والكتاب الذي بين أيدينا من
الكتب النافعة في هذا المجال.
يبدأ الكتاب بإعطائنا ملخصاً للحقائق الإحصائية لما أسماه بالانفراط العظيم في
مجال القيم الخلقية فيقول:
ازدياد في الجريمة وفي تفكك النظام الاجتماعي جعل أواسط المدن في أغنى
البلاد على وجه الأرض أماكن لا تكاد سكن. التدهور في علاقات القربى
باعتبارها مؤسسة اجتماعية ظلت قائمة منذ أكثر من مئتي عام [3] ازداد زيادة
كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين في كل البلدان الغربية الصناعية.
انحط معدل الإنجاب في معظم الدول الأوروبية وفي اليابان إلى درجة من الدنو
يجعلها عرضة لتناقص عدد سكانها في القرن القادم إذا لم تكن هنالك هجرة إليها،
قلَّ الزواج وقلَّ الإنجاب، وتفاقمت معدلات الطلاق، بلغت نسبة الأولاد غير
الشرعيين الثلث في الولايات المتحدة والنصف في الدول الاسكندنافية. وأخيراً فإن
الثقة في المؤسسات ظلت تتناقص تناقصاً كبيراً لمدة أربعين عاماً. في الخمسينات
عبَّر أغلبية الناس في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن ثقتهم في حكوماتهم وفي
زملائهم؛ لكن أقلية ضئيلة هي التي عبَّرت عن مثل هذه الثقة في التسعينات.
تغيرت اهتمامات الناس بشؤون بعضهم بعضاً، ومع أنه لا يوجد دليل على تناقص
في الصلات بين الناس؛ إلا أن العلاقات بينهم صارت أقل دوماً، وأقل جاذبية،
ومع عدد أقل من الناس [4] .
يقول الكاتب: إن هذا التدهور في العلاقات الاجتماعية في هذه البلدان الغربية
الصناعية في الفترة ما بين أواسط الستينات إلى أوائل التسعينات كان مواكباً لانتقالٍ
في هذه البلاد من العصر الصناعي إلى العصر الذي سمي بما بعد الصناعي تارة،
وبعصر المعلومات أخرى.
فهل هناك من علاقة سببية بين ذلك التدهور وهذا التطور؟
يجيب بأنه يفترض هذا، ويقول: إن تدهوراً كهذا أعقب الثورة الصناعية في
الغرب.
ما الحل إذن؟ يجيب بأنه ليس في الدين كما يظن المحافظون.
فِيمَ إذن؟ هنا يعود الكاتب إلى فكرة الفطرة البشرية، فيقول: إن البشر هم
بطبعهم مخلوقات اجتماعية تهديهم أعظم نوازعهم وغرائزهم أصالة إلى أن يُنشِئوا
قواعد خلقية تربط بينهم فتحيلهم إلى مجتمعات. وهم كذلك عقلاء، وعقلانيتهم
تجعلهم يُحْدِثون طرقاً للتعاون التلقائي بينهم.
سنكتفي الآن بهذا التلخيص لفكرة الكتاب، ثم نعود لمناقشته في حلقات قادمة
بإذن الله.
لكن يحسن أن نبدأ قبل ذلك ببيان السبب الذي يدعو أمثال هؤلاء الكتاب
الاجتماعيين إلى العناية بقضايا القيم الخلقية الآن. لقد كان الرأي الشائع عند أمثال
هؤلاء العلماء، والذي ما زال كذلك عند عامة المثقفين الغربيين، أن القيم أمور
نسبية، وأنها تختلف لذلك من ثقافة إلى أخرى، ومن زمان إلى زمان. وأن كلاً
منها مقبول في إطار الثقافة التي توجد فيها، والزمان أو المكان الذي توجد فيه؛ فلا
مجال إذن للحكم عليها بالخيرية أو الشرية، ولا خوف إذن من تغيرها وتبدلها. ثم
إنه تبين لبعض علماء الاجتماع والاقتصاد أن الصورة ليست كما يرسمها هذا الرأي
الشائع؛ بل إن هنالك قيماً لا بد منها لكل مجتمع بشري. لماذا؟ لأن الناس إذا
اجتمعوا فإنما يجتمعون ليتعاونوا على تحقيق مصالحهم؛ لكن هذا التعاون لا يتأتى
إلا بالتزام المجتمع ببعض القيم الخلقية: قيم الصدق في القول، والوفاء بالعهد،
وحسن تبادل المنافع، وتوفر الثقة التي يقول فوكوياما عنها: إنها بمثابة الشحم
الذي يجعل عجلة التجمعات والمنظمات البشرية تجري بطريقة أكثر كفاءة؛ فالقيم
هذه ليست - إذن - أموراً نسبية ولا (مجرد قيود تحكمية على الاختيارات الفردية؛ بل هي شرط سابق لأي عمل تحكمي)
إنه لا بد لكل مجتمع من نظام سياسي ونظام اقتصادي، لكن النظم السياسية
والاقتصادية لا تعمل ولا تنجح إلا في مجتمع متماسك. ولكي يتماسك المجتمع فإنه
بحاجة إلى تلك القيم التي صار الاقتصاديون وعلماء الاجتماع يطلقون عليها اسم:
الرأسمال الاجتماعي.
__________
(1) Fukuyama, Francis The Great Disruption: human nature and the reconstruction of social order, The Free Press, New York, 1999 والمؤلف هو الآن أستاذ السياسات العامة بجامعة جورج ميسن بولاية فرجينيا، وقد عمل قبل ذلك بوزارة الخارجية الأمريكية.
(2) ذكر المؤلف في كتابه ذاك بأن المسلمين هم الوحيدون الذين ما يزالون يعتقدون أن عندهم بديلاً أحسن.
(3) لعله يعني في الولايات المتحدة.
(4) انظر: ص 4 من الكتاب.(142/60)
وقفات
عندما عرفت قدري!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
حدثني صاحبي قائلاً: كنت في رحلة دعوية إلى الحدود البرية بين دولتي
السنغال وموريتانيا؛ حيث يوجد عدد كبير من اللاجئين النازحين من موريتانيا.
كان الطريق وعراً موحشاً أصابنا فيه شدة وتعب، قطعنا فيه المفازة بعد المفازة،
ولا نرى أمامنا إلا أمواجاً من السراب، تزيد من هَمِّ الإنسان وتطلعه إلى النهاية.
لا نصل إلى قرية من القرى المتناثرة هنا وهناك إلا نجد من يحذرنا من قُطَّاع
الطرق ولصوص الصحراء. تسع ساعات مرت وكأنها لا تريد أن تنتهي، ثم يسَّر
الله لنا الوصول إلى مواقع اللاجئين وقد أسدل الليل ظلامه.
وجدت صاحبي قد أعدَّ لنا خيمة وضع فيها فراشاً بالياً هيأه لنومي، ولكن ما
أجمله من فراش بعد أن هدَّ منا السفر ما هدّ. ألقيت بنفسي على الفراش من شدة
التعب، ثم رحت أتأمل رحلتي هذه. أتدري ما الذي خطر في نفسي؟ !
شعرت بشيء من الاعتزاز والفخر، بل أحسست بالعجب والاستعلاء! فمن
ذا الذي سبقني إلى هذا المكان؟ ! ومن ذا الذي يصنع ما صنعت؟ ! ومن ذا الذي
يستطيع أن يتحتمل هذه المتاعب؟ ! وما زال الشيطان ينفخ في قلبي حتى كدت
أتيه كبراً وغروراً - والعياذ بالله - إلا أن الله رحمني فنامت عيني، ورحت أغط
في سبات عميق.
خرجنا في الصباح الباكر نتجول في أنحاء المنطقة، حتى وصلنا إلى بئر
يبعد حوالي كيلو متراً واحد عن منازل اللاجئين يروي منه الناس ويستقون، فرأيت
مجموعة من النساء يحملن على رؤوسهن قدور الماء، ولفت انتباهي امرأة بيضاء
من بين هؤلاء النسوة، كنت أظنها - بادي الرأي - واحدة من نساء اللاجئين
مصابة بالجذام المنتشر بين بعض الناس هناك، لكني فوجئت بأنها منصِّرة: شابة
في الثلاثينيات من عمرها من أقاصي شمال أوروبا، من النرويج! !
قال لي مرافقي: منذ ستة أشهر وهي مع نسائنا، تلبس لباسنا، وتأكل طعامنا، وترافقنا في أعمالنا، جاءت إلينا وهي تعرف لغتنا القبلية وبعض عاداتنا. في
بعض نهارها تداوي المرضى من النساء والأطفال، ومعها صاحبتها تعلمهن
الخياطة وبعض الأعمال اليدوية، وفي أول الليل تجتمع بعض الفتيات يتجاذبن
معها أطراف الحديث، وتعلمهن قواعد القراءة والكتابة، وقد خصصت لهن بعض
الليالي لتعليم الرقص. أحبها الناس كباراً وصغاراً لتواضعها وخدماتها التي لا
تنقطع؛ فكم من يتيم مسحت على رأسه! وكم من مريض خففت من ألمه!
عجبت - والله - أشد العجب من هذه المرأة، فما الذي دعاها إلى هذه القفار
النائية وهي على ضلالها؟ ! وما الذي دفعها لتترك حضارة أوروبا ومروجها
الخضراء؟ ! وما الذي قوَّى عزمها على البقاء مع هؤلاء العجزة المحاويج وهي في
قمة شبابها؟ !
تسابقت هذه الأسئلة إلى خاطري، ثم تذكرت ما كنت أفكر فيه ليلتي السابقة،
لقد شعرتُ بالتعاظم والعُجْب لليلة واحدة قضيتها في هذا المكان، أما الآن وبعد أن
رأيت هذه المنصِّرة تصاغرتُ نفسي، وأحسست بمهانتي وضعفي؛ فهذه المنصِّرة
المضلِّلة تقدِّم كل هذا العمل بكل جَلَدٍ وصبر، وهي على الباطل، وأما أنا فسرعان
ما انتفشتُ لعمل يسيرٍ لا أدري: أيكتب في الصالحين أم لا! ! ولا أقول هذا
إعجاباً بهذه المرأة، أو أنها في محل القدوة - عياذاً بالله - لكني أعجب كيف يصبر
هؤلاء القوم على نشر باطلهم، ويعجز بعضنا، أو تصيبه السآمة والملل منذ بداية
الطريق!
لقد هزني هذا الموقف هزاً عظيماً، ورأيت كم يضحي هؤلاء الضُّلاَّل لنشر
ضلالهم، وأيقنت بأننا - معاشرَ الدعاة - أحوج ما نكون إلى الإخلاص والاحتساب، أحوج ما نكون إلى البذل والتضحية، وبقدر انتصارنا على أنفسنا وإحساسنا
بمسؤوليتنا الدعوية، فإن الله تعالى سيبارك في أعمالنا. قال الله تعالى: [إن
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ]
[النساء: 104] .(142/64)
صهلة الإباء
محمد الخزمري
يقول لي صاحب: أين الحبيب ...
... ... ... ... ... وهل هزت رياح الهوى في القلب أشجارا؟
أقبل إلى لذة طابت موائدها ...
... ... ... ... ... واكتب على صفحة الأشواق تذكارا
حطم قيودا وقم للحسن منطلقاً ...
... واعزف على رقصة الغزلان قيثارا
فقلت: كلا، ولن يسري الهوى بدمي
... ... ... ... ... شيدت بيني وبين الفحش أسوارا
وما أزال بدرع الدين متشحاً ...
ولم أكن في سماء الزيغ طيارا
ولم أكن راتعا في الوحل منتشياً
ولم أكن في ديار الفحش ديارا
ولم أبع لغرام زائف شرفا ...
ولم أكن بحكايا الحب ثرثارا
يا صاحبي! العشق أسقام وتهلكة ...
ولم يزل بصروح الطهر دمارا
وتسلب العقل بعد القلب نقمته ...
إني أخاف على العشاق أخطارا
طرقت باب الرزايا فانبرى قلمي ...
من حبره تصرخ الأوزان إنذارا
تبغي الهوى، أم تريد الرشد، أيهما؟
فلا تكن في اختيار الحق محتارا
مجنون ليلى رأى في العشق راحته ...
فراح يجمع فوق البيد أصفارا!
قارورة العشق سجن إن سقطت بها ...
غطاؤها لم يهب رمحا ومنقارا
وسوف ينفك إن وجهت قافلة ...
نحو الإله وسال الدمع مدرارا
بدل رماد الخنا للبر مزرعة ...
واحفر لسقيا حقول الخير آبارا
فهل تطيق مع الغسلين مسغبة ...
إذا التهمت على دنياك أوزارا
هذا الزمان عجوز قد فتنت بها ...
ونمت في لؤلؤ الأثواب شخارا
فافرد شراعاً وسافر في مدى ألق ...
من الصلاح ليغدو الشوك أزهارا(142/66)
أتاتوركيٌّ يُقَرِّرُ مُتّهَماً..!
د. محمد بن ظافر الشهري
ألا يا أيها الصّابي ... أقر قبيل إغضابي
بأنك ترفعُ الإسلام ... فوق هدى حمورابي
وترفضُ أن يُساسَ الناسُ ... وفق شريعة الغاب
وأنت أبٌ لطالبةٍ ... قد استترت بجلباب
ولستَ بحالقٍ ذقناً ... ولا مرخ لأثواب
فتلك جرائمٌ جُنِيَت ... بكل برود أعصاب
وكل جريمة تكفي ... لتجعل منك إرهابي(142/67)
رسالة إلى كوفي عنان
عبد العزيز عبد الله الحميضي
الشرق مذ فقد الأمانْ ... يرنو إلى كوفي عنانْ!
إذ لم يعد في وسعه ... إلا التذلل والهوانْ
وقبول ما حكمت به ... نزوات هاتيك اللجان
ويحاً له ما باله ... فقد الهوية والكيان؟ !
من بعدما شابت ليا ... ليه وزال العنفوان
وبكت عليه عيوننا ... دمعاً غزيراً كالجمان
ويحاً له ما باله ... دوماً يُروَّع بالشنان؟ !
ويحاً له كيف استكان ... وما استقر على مكان؟ !
وهو الذي يعنو له ... من قبلُ ذان الخافقان
حتى إذا جمع الورى ... لقتاله خسر الرهان
وبدا يقول على لسان ... ذوي الفصاحة والبيان
لمفوض ليست له ... في حل أزمته يدان
بُوركت يا بطل الوغى ... من فارس ملك العنان
لولاك يا كوفي لما ... بقي العراق على الزمان
ولما نضونا عن شعاع ... الصبح ثوب الطيلسان
ولعنّ يومٌ يا ... عنان على البرية أَرْوَنَان [1]
ولأصبحت بغداد في ... ظل الطغام الأمركان
ولخضب الغرب الأثيم ... أديمها بالأرجوان
__________
(1) يوم أرْوَنان: شديد.(142/68)
دموع القريض [1]
أيمن إبراهيم شحاتة
قد صار عيشُ الناس عيشَ متاعِ ... وغدا البيانُ مشتت الأتباعِ
شَغل الورى أمرُ المعاش فلم يعد ... صوغ القريض يروق للأسماعِ
حُرِمَ القوافيَ، بل تقطَّع أسطراً ... فَقَدَ البحورَ، وعَجَّ بالأنْواعِ
ما بين (حرٍ) لا أكاد أُسيغُه ... جمِّ المثالب، مُبهمِ الأوضاعِ
أو (مُرْسَلٍ) ما كان شعراً، إنَّما ... هو أقرب الأشياء للأسجاعِ
سمُّوه شعراً إن أردتم بيد أنْ ... نِي لن يخط الترهاتِ يراعي
فبحور شعري لجةٌ أرتادها ... بلباب فكري، وهو خيْر شراعِ
ومشاعري تبْرٌ يُزيِّن حِليتي ... وبريقُها ما كان برقَ خداع
الشعرُ نبعٌ لا يجف مَعِينُه ... لا يرتضي بضحالة الإبداعِ
لو أن صوغ الشعر سهلٌ في الورى ... لغدا القليلُ العلمِ خيرَ صَناعِ [2]
__________
(1) القريض: الشعر.
(2) وقد عارضت فيها قصيدة لشوقي وإن اختلف الموضوع.(142/69)
المسلمون والعالم
السلاح النووي الصهيوني
تهديد مستمر ولكن!
باسل يوسف النيرب
عن مصدر رسمي أمريكي:
لدى العدو الصهيوني أسلحة أكثر تطوراً مما هو في أمريكا.
التعاون النووي بين اليهود والهندوس منذ أكثر من عقدين من الزمان.
كشف الجاسوس الصيهوني بولارد أن هناك أهدافاً عربية تجسستْ واشنطن
عليها لصالح تل أبيب.
مدخل:
تعود بدايات الاهتمام الإسرائيلي بالتسلح النووي إلى عام 1948م، حين
هاجر إلى إسرائيل علماء من الدول الأوروبية، وكان على رأسهم أرنست دييد
بيرجمان الذي أصبح فيما بعد مدير لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية، وبعد ثلاثة
أشهر من قيام إسرائيل أصبحت مؤسسة الطاقة الذرية حقيقة واقعة تشرف عليها
وزارة الدفاع فرع البحث والتخطيط لاكتشاف مصادر اليورانيوم في صحراء النقب
بدأت أنشطة البحث والتطوير في معهد وايزمن لاستخراج اليورانيوم من خامات
الفوسفات، وأقامت وحدة لإنتاج الماء الثقيل، وكان لفرنسا اليد العليا في تطوير
قدرات إسرائيل النووية بعد أن ساهم عملاء إسرائيل من اليهود الشرقيين في شمال
إفريقيا بتزويد فرنسا بمعلومات هامة عن مستعمراتها في تلك المناطق، وأدت
حرب السويس 1956م، إلى زيادة علاقات التعاون بين البلدين مما سهل على
إسرائيل الطلب من الجانب الفرنسي تزويدهم بالمعلومات عن المفاعلات النووية
غير أن الذي دفع إسرائيل إلى هذا الطلب الموقف الكندي من الهند، ومساعدتها
على بناء مفاعل نووي متوسط، وفي الوقت نفسه كان شمعون بيريز الذي أوجد
فكرة السلاح النووي في إسرائيل مساعداً لرئيس الوزراء دييد بن غوريون ووزيراً
للدفاع، وقام مع العالم النووي بيرجمان بمقابلة أعضاء لجنة الطاقة النووية الفرنسية، وتم التفاهم على أن تقوم فرنسا بتقديم مفاعل نووي لـ إسرائيل في أيلول 1967م.
مع انتهاء حرب السويس عقد اجتماع سري بين وزيرة الخارجية غولدا مائير
وشمعون بيريز، وبين وزير الخارجية ووزير الدفاع الفرنسي كريستيان بينو،
وموريس بورجيه مانوري، وقد تم الاتفاق في النهاية على أن تدعم فرنسا المشروع
النووي الإسرائيلي من خلال تطويرِ رادعٍ نووي.
ساعد الاقترابَ الفرنسي الإسرائيلي ابتعادُ فرنسا عن حلف شمال الأطلسي في
عام 1960م مما ساهم في بناء مفاعل ديمونا وحيازة إسرائيل تقنيةَ السلاح النووي
والإمكانات والمواد اللازمة حتى أصبحت إسرائيل خلال مدة بسيطة قوة نووية في
الشرق الأوسط [1]
بُني المفاعل سراً تحت الأرض في ديمونا بصحراء النقب، وبناه المقاولون
الذين بنوا مفاعل ماركول الفرنسي، ثم قامت إسرائيل بشراء الماء الثقيل من
النرويج التي باعتها 20 طناً سنة 1959م، ومع وضوح النوايا الإسرائيلية وخاصة
أن منطقة النقب كانت تعج بالعلماء والمهندسين، ورغم معرفة وكالة الاستخبارات
الأمريكية أن هذا البناء عبارة عن مفاعل نووي مع ذلك كله ادعت إسرائيل بأن
البناء عبارة عن مصنع تسليح ومصنع مغنسيوم.
وفي عام 1956م حذر عالمان أمريكيان (أ. رابي وجيروم ويستل) الحكومة
الإسرائيلية من قيامها بتطوير أسلحتها النووية؛ لأن ذلك سيكون خطراً شاملاً تضع
إسرائيل نفسها فيه إذا اتخذت أية خطوات نحو إنتاج أسلحة نووية في منطقة الشرق
الأوسط.
وأما الضغوطات التي وجهتها حكومة ديغول لإيقاف بناء المفاعل في ديمونا؛
فقد أدَّتْ إلى تعهد إسرائيل بعدم إنتاج أسلحة نووية، إلا أن العمل في الإنتاج
النووي استمر؛ ولكن مع الرفض الإسرائيلي لأي مراقبة على المفاعلات النووية
ولتحسين صورة إسرائيل أمام العالم قبلت الحكومة الإسرائيلية التفتيش على الأسلحة
النووية من قِبَلِ الولايات المتحدة فقط، وشمل التفتيش المباني التي فوق الأرض،
وبدأ التفتيش في عام 1962م، واستمر لخمس سنوات فقط.
انتهى العمل من بناء منشآت ديمونا النووية بين عامي 1964 1965م،
وتؤكد الدلائل أن إسرائيل امتلكت أول قنبلة نووية في نهاية عام 1966، وكان
لديها قنبلتان ذريتان عند اندلاع حرب 1967، وعند نشوب حرب 1973م، كان
لديها عشرون رأساً نووياً مركَّبة على صواريخ يريجو 1 [2] .
يعرف عن منطقة ديمونا أنها منطقة شديدة الصرامة من الناحية الأمنية؛
فقد أسقطت أجهزة الدفاع المحيطة بمنطقة المفاعل طائرة ميراج إسرائيلية؛ لأنها
حلَّقت خطأً فوق المنطقة عام 1967م.
لم يكن السلاح النووي الإسرائيلي بعيداً عن حرب 1973م، فقد تناولت
الكتابات العربية حجم العمليات العسكرية عند العرب والقوة النووية الإسرائيلية،
وأكد بعض الباحثين مخاوف العرب لو أن جيوشهم قامت بمهاجمة صلب دولة
إسرائيل، فإنها ستدمر ترسانتها النووية؛ مما أسهم في وضع أهداف محددة للعرب.
هذا وقد أشارت مجلة التايم الأمريكية إلى الاستخدام الإسرائيلي للسلاح
النووي في 12 إبريل 1976م في تقرير بعنوان: (كيف حصلت إسرائيل على
السلاح النووي؟) جاء فيه إن إسرائيل وخلال الأيام الأولى من الحرب أعدت
أسلحتها النووية (13) قنبلة من طراز ناجازاكي حُملت على قاذفات إف وبعض
الصواريخ أرض أرض للاستخدام الفعلي، ولكن موشي ديان وفي مذكراته نفى
بشدة أن هذا قد حدث.
وتشير معظم المصادر تقريباً إلى أنه في مساء 8 أكتوبر وخلال اجتماع عقده
مجلس الوزراء الإسرائيلي عقب عودة وزير الدفاع الإسرائيلي من جولة على
جبهات القتال أن التأهب تم مساء يوم 7 أكتوبر لظروف خاصة باحتمالات تطور
القتال على الجبهة المصرية، وتقرر أن تستخدم إسرائيل أسلحتها النووية في إطار
حرب محدودة وليست فقط أسلحة ملاذ أخير.
ومن الاحتمالات التي أخذها القادة العسكريون الإسرائيليون بعين الاعتبار
احتمال تعرض الجيش الإسرائيلي للإبادة على إحدى جبهات القتال، على افتراض
أن إسرائيل كانت تعلم أنه ليس من أهداف الحرب الدخول إلى عمقها، ولكنَّ التهديد
النووي جاء لوقف تقدم العرب.
وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على أن إسرائيل لم تضع في حساباتها
استخدام السلاح النووي في الحرب؛ لأن حدود الحرب لم تتجاوز خط حرب
1967م، وربما كان الهدف الضغط واستعجال وصول المساعدات الأمريكية التي
تأخرت بسبب سرعة الضربة العسكرية؛ ولكن السلاح النووي الإسرائيلي لم يكن
بعيداً عن حرب السادس من أكتوبر 1973م على أية حال.
الكشف عن السلاح:
اللافت للنظر في موضوع السلاح النووي الإسرائيلي أن إسرائيل لم تنفِ ولم
تؤكد امتلاكها للسلاح النووي، كما أنها لم توقع اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وحتى عام 1986م نشرت صحيفة الصنداي تايمز البريطانية بعض الصور التي
زودها بها عالم الذرة الإسرائيلي مردخاي فانانو للمفاعل النووي الإسرائيلي تحت
الأرض، ونظراً لحجم المعلومات التي كشفتها الصحيفة فقد توصل الخبراء إلى أن
المفاعل ينتج سنوياً 88 رطلاً من البلوتونيوم، إضافة إلى أن إسرائيل تمتلك ما بين
150-200 قنبلة نووية، وأن طاقة المفاعل زيدت من 26 ميغاوات إلى 150
ميغاوات، كما قوبل الكشف عن السلاح النووي الإسرائيلي بصمت الولايات
المتحدة الأمريكية التي كانت ضد امتلاك أسلحة الدمار الشامل لكل من الهند وكوريا
الشمالية وباكستان، مع العلم أن المخابرات المركزية الأمريكية تملك الأدلة على
امتلاك إسرائيل للسلاح النووي.
(حظيت الأسلحة النووية الإسرائيلية بالمظلة الأمريكية، ويسجل موقف
الرئيس كندي الذي خطب بعد تفجير الاتحاد السوييتي قنبلة نووية مبيناً حجم
الأخطار التي قد تتسبب في العالم من خلال انتشار الأسلحة النووية الآن؛ فإن عدد
الدول التي ستملك هذا السلاح عام 1970م قد يصل إلى عشر دول، وفي عام
1975م ما بين 15 إلى 20 دولة؛ وهذا أكبر خطر يواجه العالم [3] .
إن مبدأ الازدواجية في التعامل مع هذا الموضوع والكيل بمكيالين ساعد
إسرائيل على البقاء خارج دائرة الرقابة؛ فقد صرح مساعد وزير الخارجية
الأمريكي الأسبق ريتشارد مورفي أنه لن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط ما لم
تتم السيطرة على أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وفي مقدمتها الأسلحة النووية
الإسرائيلية، ويندرج هذا التصريح في إطار المجاملة؛ فكل الشواهد تشير إلى
الموقف الأمريكي والدولي المتراخي إزاء الأسلحة النووية الإسرائيلية، ويمكن
مشاهدة الإخفاق في السياسة الخارجية الأمريكية من خلال الموقف العربي إبان
المؤتمر الاقتصادي الرابع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المنعقد في قطر
يوم 18/11/1997م، بعد إخفاق الولايات المتحدة في الضغط على إسرائيل لقبول
التفتيش على الأسلحة النووية.
وهناك شاهد آخر على سياسة الازدواجية هو الموقف الأمريكي من ضرب
المفاعل النووي العراقي 1981م، والموقف الأمريكي بإصدار قرار 678 الذي منح
لجنة خاصة من الأمم المتحدة مراقبة قدرات العراق النووية والكيمياوية والبيولوجية
والبالستية؛ مع أن العراق عضو في معاهدة عدم الانتشار النووي، وأصدرت
الولايات المتحدة وبالتعاون مع مجلس الأمن تصريحاً يتضمن أن انتشار أسلحة
تدمير شامل يشكل تهديداً للسلام والأمن الدولي، مما سمح هذا النص بإعطاء
الشرعية على استخدام القوة وتطبيقها على الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم
المتحدة، وفي الوقت نفسه طالب الرئيس الأمريكي جورج بوش أن يكون مجلس
الأمن هو الطرف الرئيس والأساس لعدم الانتشار النووي ويكون في الوقت نفسه
مركز القرار لتقديم العون مباشرة إلى كل بلد عضو في معاهدة عدم الانتشار النووي.
كما صرح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في هذا المجال أن الولايات
المتحدة في موقف ضعيف؛ فعلق بعد التفجيرات النووية التي أجرتها الهند أن
الولايات المتحدة في موقف ضعيف نظراً لرفض واشنطن تقليص ترساناتها النووية
إضافة إلى أنه من الصعب أن نقول للهند ألا تمتلك أسلحة نووية، نحن نحتفظ بنحو
8000 سلاح نووي، ونحن غير مستعدين لخفضها.
لعب شمعون بيريز دوراً كبيراً في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي وتطويره، وقد أنشأ جهازاً اسمه «لاكام» أي: مكتب الارتباط العلمي خُصِّص لشراء ما
يحتاجه العلماء وبأي وسيلة، كما أوجد ملحقين علميين في السفارات الإسرائيلية
المنتشرة في دول العالم وفي أواخر الثمانينات قام عدد كبير من العلماء الإسرائيليين
العاملين في البرامج النووية الإسرائيلية التابعة لمعاهد ومراكز التخنيون وناحال
سوريك وديمونا بزيارة مختبرات لوس ألاموس وليفومور الأمريكية، واستطاعوا
جمع المعلومات الخاصة بعمليات الانشطار الإلكترومغناطيسية التي استخدموها فيما
بعد بتخصيب اليورانيوم.
كما أن رئيس مجموعة علماء الكيمياء الكهربائي الإسرائيلي أمضى ستة
أسابيع في مختبر لوس ألاموس بهدف الاطلاع وإجراء البحوث في هذا المجال،
ثم عاد يطبق خبراته في عملية تصنيع اليورانيوم كما أمضى العالم الإسرائيلي يهوذا
باتروم وهو أحد مصممي القنبلة النووية الإسرائيلية أمضى خلال الفترة 1985-
1990م مدة 57 أسبوعاً في مختبرات لوس ألاموس، ورافقته زوجته إيليا، وهي
المسؤولة عن تطوير الصاروخ بريجو، ويعتقد أن بانزون والعالم الإسرائيلي يهوذا
غاني تمكنا من الوصول إلى حواسيب كرادي التي تُجري آلاف الملايين للعمليات
الحسابية المعقدة والهامة جداً في التقنية النووية بالإضافة إلى تصميم مفجرات
السلاح النووي والتأثيرات في التفجيرات النووية أما إيليا فقامت بأبحاث عن
هدرجة السوائل في الأنابيب وشراء بعض الأجهزة من حواسيب كونتام 111 وهي
من الحواسيب المتقدمة، ومع نهاية عام 1992م كانت إسرائيل تمتلك 200 قنبلة
نووية [4] .
جاء في تقرير صادر عن معهد دراسة التحليل الدفاعي الأمريكي في إبريل
1987م، أن لدى إسرائيل بعض الأسلحة الأكثر تطوراً من مثيلها في الولايات
المتحدة، إضافة إلى أن قدرة مركز سوريك على دعم الدفاع الاستراتيجي والتقنيات
النووية توازي تقريباً قدرات المراكز الأمريكية، وأن الإسرائيليين يقومون بتطوير
مجموعة من الرموز والقواعد ستمكنهم من صنع قنبلة هيدروجينية.
المفاعل حالياً وما أثير حوله مؤخراً:
نشرت الصحف الإسرائيلية طلباً تقدم به النائب العربي في الكنيست
الإسرائيلي عبد الوهاب دراوشة لعقد مؤتمر دولي عاجل، لبحث موضوع كارثة قد
تصيب المفاعل النووي الإسرائيلي من جراء مرور 35 عاماً على إنشاء المفاعل
دون رقابة دورية وصيانة، وثبت أن المفاعل يعاني من اهتراء وتشقق، وقد أكد
ذلك علماء إسرائيليون ضمن برنامج بثه التلفزيون الإسرائيلي أعربوا فيه عن
تخوفهم من زلزال قد يضرب المنطقة ويؤدي إلى تسرب الإشعاعات النووية وكانت
إيران تقدمت بطلب إلى الهيئة الدولية للطاقة النووية لإخضاع المفاعل للمراقبة
خاصة أن موقعه قريب من الأخدود السوري - الإفريقي، وأن حدوث زلازل في
المنطقة بقوة 6 درجات قد يؤدي إلى تسرب إشعاعي من المفاعل.
يعتبر مفاعل ديمونا من النوع الحراري، ويتكون من: قلب المفاعل - وهو
الجزء الذي توجد فيه قضبان الوقود النووي - والمهدئ وهو من الجرافيت،
وعاكس النترونات - وهي من مادة توضع حول الوقود لمنع هروب النترونات إلى
خارج قلب المفاعل - ويبلغ عدد قطع الجرانيت الموجودة في المفاعل 14902
قطعة، وهي من الأجزاء المهمة في المفاعل، والتي تشيخ وتعرض المفاعل
للكوارث.
يقوم نظام التبريد الموجود في المفاعل على سحب الحرارة الناتجة عن
انشطار داخل قلب المفاعل باستمرار ليحافظ على درجة حرارة ثابتة بقلب المفاعل، وقد يتم عن طريق تمرير المادة المبردة إلى داخل قلب المفاعل؛ فيكتسب الطاقة
الحرارية من الوقود، ويتم استخدام هذه الحرارة في توليد البخار مباشرة إلى قلب
المفاعل أو عن طريق مبادلات حرارية مصممة لهذا الغرض، ويستخدم الماء الثقيل
في تبريد المفاعل، أما الطاقة الممتصة فتستخدم في إدارة التوربينات، وقضبان
التحكم وهي للتحكم في معدل التفاعل الانشطاري وفي قدرة التفاعل؛ وذلك عن
طريق امتصاص النترونات بواسطة قضبان من مادة الكاديوم أو البورون، ويتم
التحكم من خلال إدخال القضبان وإخراجها كلياً أو جزئياً إلى قلب المفاعل.
يحيط بقلب المفاعل درع من الصلب يعمل وعاءًا لاحتواء المفاعل ودوائر
التبريد فيه، إضافة إلى درع خرساني يحيط بالمفاعل من جميع جوانبه بسمك
مترين ليتحمل كل الكوارث المحتملة، ولمنع نفاذ الإشعاعات الذرية إلى الوسط
الخارجي.
مفاعل ناحال سوريك:
يقع هذا المفاعل بالقرب من البحر الأبيض المتوسط، وقد أنشئ عام 1960م، ويعمل بالوقود وهو مزيج من اليورانيوم والكربون، ويبرد بالماء العادي، وتبلغ
طاقاته التزويدية من 1- 5 ميغاواط الهدف المعلن من المفاعل هو تحضير النظائر
المشعة بطرق آمنة وتطوير البحث في هذا المجال، كما استعمل المفاعل لاكتساب
الخبرات العلمية وخصوصاً في مجال فصل اليورانيوم وتنقيته من الوقود المحترق
باستخدام المذيبات العضوية أو المبادلات الأيونية.
تقوم المفاعلات النووية الإسرائيلية بتحلية مياه البحر، وقد أقيمت محطات
لهذا الغرض، إضافة إلى أن الإسرائيليين طوروا وحدات لتحلية مياه البحر بطاقة
عشرة ملايين جالون يومياً، وقد جرى بناء أول محطة طاقة نووية في النقب إضافة
إلى خطط لبناء أربعة محطات نووية أخرى ستكون جاهزة مع نهاية القرن الحالي،
ويذهب رئيس الجمعية النووية الإسرائيلية شمعون يفتاح إلى أن لدى إسرائيل من
الكوادر العلمية والفنية ما يؤهلها لبناء قرابة 60% من المفاعل.
استخدمت التقنيات النووية في مجالات التعقيم وعمليات الحفر الهيدروجينية
وتلوين الماس، وقد أُسست شركة سورفان التي تركز نشاطاتها في تطوير
التطبيقات بالأشعة المؤينة، التي نجحت في إنتاج أشعة أليكس للتحكم في تدفق
السوائل بالجسم، وجهاز فليكس بلو للتحكم في تدفق السوائل لأوقات وبكميات
محددة سلفاً، كما تستخدم الشركة ساعاتها الإلكترونية وجهاز أشعة كوبالت 60 الذي
يعد من أحدث الأجهزة في العالم لإنتاج أشعة غاما، وتستخدم هذه الأجهزة في تعقيم
البلاستيك، والأدوات الطبية، ومواد التضميد، وزجاجات بلاستيك للأدوية،
وآلات فحص، وأدوات جراحة، وملاءات المستشفيات، وملابس غرف العمليات.
الذرائع الإسرائيلية:
في مناخ السلم الذي يدور الحديث عنه منذ توقيع اتفاق أوسلو وتوقيع معاهدة
السلام الأردنية الإسرائيلية واتفاق طابا ثم انعقاد بعض المباحثات على الجانب
السوري صرح شمعون بيريز في كانون الأول 1995م، قائلاً إن إسرائيل مستعدة
للتخلي عن الخيار النووي بعد إحلال سلام شامل في الشرق الأوسط، فإن أعطونا
السلام فسوف نتخلى عن ذلك الخيار، وإن الدولة العبرية مستعدة للمشاركة في
عملية نزع السلاح في الشرق الأوسط بعد مرور سنتين على إحلال سلام شامل مع
الدول العربية شرط أن يطبق هذا القرار على إيران.
وفي هذا السياق لا بد من ذكر ما نشر في صحيفة الأندبنت البريطانية
وبصدر الصفحة الأولى التي تضمنت مواقع انتشار أكثر من مائة صاروخ إسرائيلي
موجه نحو الدول العربية، وجاء في التعليق على الخارطة أن إسرائيل تمارس
الضغوط على إدارة الرئيس بيل كلينتون لتمارس الضغط على موسكو لوقف
مساعداتها لكل من الدول العربية، وإيران إن الخيار النووي الإسرائيلي - كما
يزعم شمعون بيريز - ذريعة للوصول إلى السلام، وليس إلى ما وصلت إليه
هيروشيما.
فطالما أن الخيار النووي الإسرائيلي خيار دائم في كافة الحروب فإن التسلح
النووي الإسرائيلي يهدف إلى ردع الهجمات التقليدية وغير التقليدية التي من الممكن
أن تقوم بها الدول العربية وغير العربية، كما هي محاولة سباق الضربات النووية
قبل أي هجوم قد تتعرض له إسرائيل، لتشكل هذه الضربات محاولات إجهاض أي
هجوم نووي محتمل، كما أن الهدف الإسرائيلي هو للاستخدام ضد الحرب النووية، ويبقى خيار شمشون الانتحاري وارداً على طاولة البحث في المؤسسة العسكرية
الإسرائيلية.
العلاقات الإسرائيلية مع الهند:
تتناول التقارير الإعلامية العلاقات الإسرائيلية الهندية في مجال التسليح
النووي؛ فالتعاون قائم منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتم خلال هذه الفترة تبادل
الخبراء النوويين بين البلدين.
نشرت صحيفة الواشنطن بوست تقريراً عن التعاون العسكري بين البلدين،
أشار إلى أن برهاما تشاليني البروفيسور والباحث في معهد نيودلهي كتب أن الهند
وإسرائيل تقيمان تعاوناً في قضايا الدفاع وخاصة في الموضوع التقني الذي عُبِّر عنه
بزيارة قائد الجيش الهندي إلى إسرائيل وتبادل الخبراء [5] .
من الناحية الرسمية الهندية والإسرائيلية فإن هناك مصلحة مشتركة لإقامة
تعاون عسكري بين البلدين حسب النموذج التركي الإسرائيلي الذي بات يغير
موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.
فالتعاطف الهندي مع إسرائيل ليس وليد هذه الأيام، بل الهند سمحت للخبراء
الإسرائيليين بالعمل في أراضيها وإن كانت معظم الصفقات التي تمت كانت تتسرب
أنباؤها من مصادر إعلامية غير إسرائيلية أو هندية؛ فهذا الصمت والتكتم عن
العلاقات بين البلدين يدل على مدى الحساسية الكبيرة التي تغطي الموضوع
وبخاصة في المجال الأمني؛ علاوة على مشاريع بناء سفن حربية ودورية من نوع
ديورا وسوبر ديورا وتزويدها بطائرات بدون طيار من نوع هارفي التي تتحطم
داخل أهداف إشعاعية مثل أجهزة الرادار، وبيع الهند صاروخ براك)
ومجال آخر للتعاون والتشجيع كان في زيارة رئيس الأركان الهندي الجنرال
فوردفار كاش صليك الذي زار إسرائيل ضيفاً على الجيش الإسرائيلي، وتجول في
مواقع الصناعات الأمنية مبدياً اهتمامه بتحسين الطائرات الحربية والطائرات
بدون طيار واستخدام أشعة الليزر، إضافة إلى ابتياع أجهزة اتصال إسرائيلية تبلغ
قيمتها 100 مليون دولار، وتحسين دبابات تي 72.
وقد قفز حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 650 مليون دولار خلال
السنوات الخمس الأخيرة، ولم يشمل هذا الرقم الصادرات الأمنية.
الهند داخلياً وكما أسلفت هي مع إقامة علاقات وتعاون أمن مع إسرائيل؛
فرئيس الحزب الوطني كريشنا أدفاني أكد خلال جولاته الانتخابية أن حزبه سيكون
على استعداد للتعاون مع إسرائيل في مجال السلاح النووي، وكان قد زار إسرائيل
بعد إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين في آذار 1992م وهو واحد من الشخصيات
البارزة الثلاث كوزير الداخلية وقوى الأمن ورئيس الحكومة والجدير بالذكر أن ما
يحدد خطاب الحكومة الهندية هو وزير الداخلية ورئيس الحكومة.
وقد نشرت الواشنطن تايمز تقريراً للبروفيسور تشاليني عن العلاقات الهندية
الإسرائيلية أكد فيه على أن العلاقات بقيت سرية حسب طلب الهند التي تعد ثاني
أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان المسلمين، وأكثر من مليون هندي يعملون
في العالم العربي، إضافة إلى أن إيران ودول الخليج العربي هما المزودان
الوحيدان للهند بالنفط.
العلاقات مع جنوب إفريقيا:
كشفت المصادر الصحفية الإسرائيلية أن إسرائيل ساعدت جنوب إفريقيا على
تطوير سلاحها النووي في بداية الثمانينات؛ وكانت الصحف الإسرائيلية قد أجرت
مقابلة مع وزير الخارجية وقائد هيئة الأركان لقوات جنوب إفريقيا بين عامي
1980-1985م، إضافة إلى أن جنوب إفريقيا أجرت تجربتها النووية الأولى عام
1979م جنوب المحيط الأطلسي في جزر الأمير إدوارد، واعترفت بأن إسرائيل
اشترت من جنوب إفريقيا 550 طناً من اليورانيوم.
ألقت رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بنظير بوتو خطاباً أمام البرلمان في
مايو 1991م، أكدت فيه أن ياسر عرفات كشف لها بأن إسرائيل تخطط لتدمير
المنشآت النووية الباكستانية، وبعد شهر من ذلك اختطفت جماعة إسلامية باكستانية
إسرائيليين كانوا يتنزهون في كشمير.
اعتمدت الصحف الباكستانية على مجموعة من التقارير الأجنبية، كما وصل
تحذير إلى السلاح الجوي الباكستاني من احتمال قيام الطيران الإسرائيلي بضرب
المفاعل النووي؛ ولذلك نقلت القيادة العامة مباشرة طائرات إلى قاعدة سرور في
كراتشي، مما دل على أن عملية النقل عبارة عن رسالة إلى الهند، وسيكون الرد
بضرب المفاعل النووي الهندي في قاعدة بومباي الهندية، وفي الوقت نفسه أكدت
الصحف الباكستانية أن الولايات المتحدة وراء تسريب الإشاعة.
أمراض الشيخوخة:
كشف صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية وجود ترسانة نووية إسرائيلية
مخزَّنة في كفار زاخاريا مع بعض الرؤوس الحربية تطلق من صواريخ أريحا 2،
وكشفت مصادر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن نظام التوجيه لصواريخ أريحا 2
يحتوي على تصورات لبعض الأهداف والمراكز السكانية والصناعية في كل من
ليبيا، سوريا، العراق، إيران، وحقول النفط في المملكة العربية السعودية
ومدينتي الظهران والرياض، وكان الجاسوس جوثان بولارد قد كشف أن الكثير من
الأهداف في الدول العربية تجسست عليها واشنطن لصالح تل أبيب [6] .
إن العمر الافتراضي للمفاعل النووي حوالي 15 سنة، ويجري بعد ذلك
تجديدٌ لمعظم أجزاء المفاعل، ويتم التأكد من صلاحية الجسم الخرساني المحيط
بالمفاعل والتفتيش على قطع الجرافيت وسلامتها واستبدال التالف منها، عدا
قياسات دورية لمستوى الإشعاع في المنطقة في الجو والبحر وتحت سطح الأرض.
وفي ضوء معلومات كشفتها الصحف العبرية عن حجم امتلاك إسرائيل
للسلاح النووي؛ فقد أوردت صحيفة يديعوت أحرونوت بعض المطالب لإيقاف
العمل في مفاعل ديمونا خاصة أن عمره الآن حوالي 35 عاماً، وطالبت بإخضاعه
للتفتيش من قِبَلِ الهيئة الدولية للطاقة النووية للتأكد من سلامته، وهو الأمر
المرفوض إسرائيلياً.
ومع ذلك يبدو خطر تعرض المفاعل إلى الدمار وارداً خاصة بعد أن عمل تلك
الفترة وفي طاقته القصوى والشاهد في ذلك حجم الترسانة النووية الإسرائيلية؛ فقد
يصل مدى تأثر المنطقة من جراء الانفجار أو التشقق إلى دائرة نصف قطرها 50
كم تصيب الإنسان والحيوان والنبات بشكل مباشر أما التأثيرات الضارة على البيئة
والناتجة عن الإشعاعات فتصل إلى دائرة نصف قطرها 100 كم؛ إذ تتلوث المياه
الجوفية والبحار والأراضي؛ وهذا حسب اتجاهات الرياح.
لقد أصيبت سياسة الغموض النووية الإسرائيلية بالانكسار، وخاصة بعد أن
كشف مردخاي فانانو صوراً لمواقع ديمونا، وتؤكد تقارير معهد جافي للدراسات
الاستراتيجية في إسرائيل أن ما كشف عنه فانانو أضر بسياسة إسرائيل النووية
بنسبة 80%، وإذا كشف عن 20% الباقية فسيعرض المعونة التي تحصل عليها
إسرائيل من الولايات المتحدة ومقدارها ثلاثة بلايين دولار سنوياً للخطر، وربما
تضر بالجهود التي تحول دون امتلاك العرب وإيران للقنبلة النووية.
ويؤكد عضو الشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي أنه كلما ازددتَ
غموضاً كلما كانت قدرتك على الردع أفضل، وعندما تزداد الضغوط على الزعماء
الإسرائيليين فإنهم يكررون مقولة صيغت بدقة وهي أن إسرائيل ليست أول من
أدخل السلاح النووي إلى المنطقة؛ فما زال الموضوع النووي عند الإسرائيليين
محاطاً بهالة من الغموض، ولغزاً لم تفك عقده؛ فبواسطة هذه الأسلحة حصلت
إسرائيل على التفوق النوعي.
وفي المقابل زادت احتمالات الانفجار في المنطقة بعد تصاعد الحديث مجدداً
عن القدرات النووية الإسرائيلية، كما أن الخوف الإسرائيلي من القنبلة الإسلامية
والتقارب العربي الإيراني يشكلان عاملاً آخر من جملة المخاوف الإسرائيلية التي
تشكل تهديداً لهم، فضلاً عن الوعد الإلهي بتدميرهم على يد الفئة المسلمة التي ما
زالت إسرائيل تخشاها إلى الآن؛ بل وتحرض أعداء الصحوة ضدهم.
__________
(1) جريدة الأردن، 13/7/1998م، أين العرب من الاستراتيجية النووية، العدد (118) .
(2) جريدة الدستور، الملف النووي في العالم، 18/6/1998م.
(3) جريدة الدستور، المرجع السابق.
(4) نزار الريس، العلم والتكنولوجيا في إسرائيل دليل إسرائيل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،
ص (232) .
(5) جريدة هآرتس 4/6/1998، أمنون برزيلاني، العلاقات العسكرية والأمنية بين إسرائيل والهند
لم تتجاوز بعد إطار العهود والتعهدات.
(6) جريدة الأردن، المرجع السابق.(142/70)
حزب الله رؤية مغايرة
أصول وجذور
عبد المنعم شفيق
(المديح) الإعلامي الضخم كان سبباً في رسم صورة خيالية عن حزب الله
كيف ولماذا تم (التحول) من (الانتظار) إلى قوافل (الثوار) ؟
(الوهابيون رجس من عمل الشيطان، سننتقم من الوهابيين، لن تمر هذه
الجريمة دون عقاب كانت هذه عبارات مكتوبة ومحمولة على لافتات في تظاهرة
أخرجها (حزب الله) في الجنوب اللبناني عقب اتفاق الطائف الذي كان من أسباب
وقف الحرب الأهلية التي كانت تدور في لبنان.
في المظاهرات تخرج الكلمات دائماً من القلب، منطوقة أو مكتوبة.
على جانب آخر كانت هناك كلمات أخرى خرجت من القلب كذلك ترسم
صورة أخرى مغايرة.
فيقول أخو العشيرة عن الحزب: إنهم صفوة الصفوة، وطليعة الأمة،
ومرشدوها، وباعثو دينها وحضارتها ومجدها، ومعلموها، ورساليوها،
وأنبياؤها) [1] إن المقاومة الإسلامية في لبنان تمثل لنا ضوءاً باهراً في الأفق المعتم، وصوتاً جسوراً وسط معزوفة الانكسار، وقامة سامقة تصاغر إلى جوارها دعاة
الانبطاح والهرولة، إنهم يدافعون بهذا الدور البطولي الذي يقومون به عن شرف
الأمة العربية وعن الأمل في أعماق كل واحد فينا، إنهم يرفعون رؤوسنا عالياً
ويرصِّعون جبين أمتنا [2] .
إن حزب الله يقوم بدور رائد في إيقاظ الأمة وتقديم الدليل على قدرتها لصد
العدوان [3] .
فالمقاومة الإسلامية لحزب الله واحدة من أبرز معالم نهضة الأمة وأكبر دليل
على حيويتها [4] .
لماذا حظيت المقاومة الإسلامية في لبنان بهذا القدر الهائل من التضامن
الشعبي العربي والإسلامي؛ بل من كل المستضعفين في العالم؟ وهل يتحول
الطرح السياسي والحضاري لتلك المقاومة إلى أيديولوجية للمحرومين في كل مكان
في العالم في مواجهة النمط الحضاري والقيمي الغربي الذي يهدد العالم بأسره؟ لماذا
نجحت المقاومة اللبنانية في أن تصبح طليعة لكل قوى التحرر العربي على اختلاف
مشاربها الدينية والطائفية والسياسية والطبقية؟ ! وبصيغة أخرى: لماذا نجحت
المقاومة اللبنانية في الخروج من مأزق الطائفية الضيق إلى رمز للتحرر لكل إنسان
مسلماً كان أم مسيحياً عربياً أم عالمياً، أبيض أو أسود؟ لماذا كانت المقاومة
وحزب الله بالتحديد هي الجزء الحي في النسيج العربي الذي اهترأت الكثير من
أجزائه وأطره الفكرية والتنظيمية؟ [5]
صورتان متناقضتان تثيران أسئلة كثيرة عن قصة الحقيقة، ولا يُخفي بعض
الناس شدة الحيرة التي تنتابه مع هذه الصور المتباينة الشديدة التنافر؛ فبين مُسلَّمات
عقدية راسخة، وأصول مستقرة، وبين واقع ضاغط على الفكر والشعور،
تضطرب الرؤى وتحار العقول.
وحزب الله في لبنان جزء من قصة طويلة وصراع مرير، والحديث عنه
وعن حقيقته وأهدافه أمر ضروري في وقت بدأ فيه تحول كبير في دور الحزب،
بعد أن تحقق جزء كبير من أهدافه، وكذلك في وقت بدأت فيه (عودة الروح)
لمسار السلام السوري واللبناني، والذي يمثل (حزب الله) ورقة تفاوضية هامة فيه؛ بيد أن المسألة متشعبة شديدة التعقيد فرضتها عوامل شتى؛ لذا كان من المهم استعراض التفاصيل وتفاصيلها.
لبنان أي أرض أي دولة؟
لن نذهب في التاريخ بعيداً، وإنما سنذكر صورة منه، أو نتيجة لصراعه
وأحواله في لبنان، فقد قامت الدولة اللبنانية على ركيزة أساسية هي (الطائفية) ،
وولد الاستقلال والميثاق في أحضانها، وورث الاستقلال نهجاً يجسد التفسخ الوطني
في إطار علاقات سياسية تعمل على إبقاء هذا الأمر واستمراريته.
هذا النهج السياسي وقف عائقاً أمام تطوير الواقع الطائفي ومحاولة تجاوزه،
وحمل الاستقلال معه كل أمراض التخلف والتعصب والتفرقة؛ لأن أبطاله لم يعملوا
على استئصال الرواسب وإقامة الوطن على قاعدة الانتماء إليه؛ بل اكتفوا بوحدتهم
الفوقية وتركوا التشتت الطائفي في القاعدة؛ فقام لبنان على قاعدة تعدد الطوائف
المتعايشة على أرض واحدة تقتسم المغانم فيما بينها.
إن الاستقلال والدستور قد قاما على ركيزتين أساسيتين هما. تجميع الطوائف
وتجميع المناطق؛ وشتان ما بين التجميع والانصهار. لقد استبدلت الوحدة الوطنية
كما هو الحال في الدول الأخرى بوحدة الطوائف المتعايشة، ورعت دولة الاستقلال
المؤسسات الطائفية لتوسع نشاطاتها ولتزيد من انقسام المواطنين.
ففي الحقل التربوي بقي لكل طائفة مؤسساتها التربوية لتلقن المواطنين ثقافات
مختلفة، وعلى الصعيد التنظيمي السياسي صار لبعض الطوائف مجالس مِلّية
تحولت إلى مؤسسات سياسية تسهم في السلطة بدرجة أو بأخرى.
وعلى الصعيد السكاني بقيت المدن الكبرى ذات طابَع طائفي؛ وعلى الرغم
من احتوائها على اختلاط سكاني من مختلف الطوائف إلا أنها تمتعت بغالبية سكانية
من طائفة معينة، أو تضمنت أحياء سكانية لكل طائفة، أو لكل مذهب حي يجمع
أبناء المذهب نفسه، وهذا الأمر قد سهَّل فيما بعد الانقسام الجغرافي؛ حيث هجَّرت
كل منطقة الأقليات الموجودة فيها من الطوائف الأخرى؛ مما جعل السلطة عبارة
عن حكم بين مختلف الأطراف (الطوائف) لا سلطة دولة بيدها المبادرة والقرار
الذي تستطيع فرضه على الجميع.
في لبنان ازدواجية سلطوية. قامت سلطة الدولة وتساكنت جنباً إلى جنب مع
سلطة الطائفة، وكثيراً ما أذعنت سلطة الدولة إلى سلطة الطائفة البارعة في
توظيف التمايزات الدينية لأغراض سياسية.
والطائفة هنا تلعب دور الحزب السياسي المُدافِع عن مصالح الأفراد، وتحل
مشكلة انتماء الفرد طالما أنه لا توجد أطر أخرى أكثر فعالية لتنظيم حياته وضمان
توازنه المادي والنفسي، وهكذا يندفع الفرد إلى أحضان الطائفة؛ فالتخلي عنها يبدو
كأنه ضياع لآلية التضامن الأسري والعائلي إذا لم يسنده ظهور مؤسسات تضامن
جماعي نقابي ومدني أعلى، كما يعني العزلة للأفراد، ويعني الاغتراب النفسي
والاجتماعي كذلك.
لقد عجزت الدولة اللبنانية عن بناء الإطار الفكري والسياسي والإداري
والاقتصادي الذي يوحد الأمة ويبني إجماعاً؛ إنها لم تمتلك رسالة اجتماعية تسمح
لها بأن تكون دولة الأمة لا دولة الجماعات وبدلاً من أن ترتفع باعتبارها مؤسسة
سياسية وسلطة. فوق التمايزات والتناقضات انخرطت هي نفسها بفعل طبيعة بنيتها
وتركيبتها العصبية في التناقضات التي أخذت تمزقها، أو بالأحرى تبرز تمزقها
الداخلي المستور بأيديولوجيا الوفاق والتعايش.
لقد اعترفت الدولة القانونية في لبنان بتعدد القوى السياسية، ومنحتها حق
التنافس الحر حتى بلغ حد الفوضى المسلحة؛ فالتدريب والتسلح غير المشروع،
وقيادة الجيوش غير النظامية، وتخريج دفعات من الميليشيات اللبنانية كان يتم في
احتفالات علنية تنقلها الصحف اليومية تحت سمع الدولة وبصرها.
إن نشوب الحرب بهذه الضراوة والشراسة، وقدرتها على الاستمرار لأعوام
طويلة ما كان يمكنها لولا وجود ميليشيات قد أنشئت أصلاً لأن لها دوراً يُنتظر أن
تلعبه.
وإثر الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين داخل الأراضي
اللبنانية منحتهم الدولة حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات الخارجية عليهم بدلاً
من أن تكون هي المسؤولة عن حماية كل من يقطن داخل حدودها سواء بالطرق
السلمية أو بالقوة؛ فالدولة عادة كل دولة تقدم نفسها مركز استقطابٍ وحيد لممارسة
العنف القانوني في المجتمع؛ فعنف الدولة له أساليبه. أي قانونيته. لكن الدولة
اللبنانية بتركيبتها الضعيفة سلطوياً قد سمحت لنباتات العنف اللاشرعي أي الخارج
عن إطار الدولة أن تنمو على جوانبها، ومهدت للاحتراب بين اللبنانيين عندما
وقفت شاهد زور من استعداداتهم للحرب، وهي بتركيبتها الطائفية الحساسة لم
تستطع التعامل مع القضية الفلسطينية كما تعاملت معها سائر الدول العربية، فمهّدت
بذلك لحرب الآخرين على الأرض اللبنانية.
حتى الأحزاب التي تؤكد أنها غير طائفية من حيث المبدأ والغاية، وتلك التي
ترفع شعار العلمنة والديموقراطية والمساواة لا تفلت من فخ الطائفية إلا قليلاً.
والظاهرة البارزة التي نشأت في ظل الحرب هي تعدد الأحزاب والمنظمات
والحركات بشكل لم يسبق له مثيل. واللافت للنظر أن إمعان الأحزاب والمنظمات
في تحديد هويتها الطائفية ربما كان لاستقطاب أكبر عدد من الأتباع أو لإبراز
خصوصيتها.
وفي جميع الأحوال انخرطت تلك الأحزاب في لعبة الطائفية نفسها التي
استخدمها الإقطاع السياسي لإحكام سيطرته وتثبيت مواقعه. أما الأحزاب العلمانية
فإن كلاً منها قد اتخذ صبغة القطاع الطائفي الكانتون الذي يوجد داخل حدوده.
وحددت الأحزاب والميليشيات مناطق نفوذ لها، وأخذت تثبت مواقعها داخلها؛ واعتباراً من عام 1984م أخذت الخطوط الفاصلة بين مناطق النفوذ تتضح؛ ففي
بيروت وضواحيها وفي جزء من جنوب لبنان هناك سيطرة لقوات أمل الشيعية
وحلفائها، وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض مناطق البقاع والهرمل هناك
سيطرة لقوات حزب الله الشيعية، وفي بيروت الشرقية وضواحيها وبعض مناطق
الجبل هناك سيطرة للقوات اللبنانية المارونية على جزء منها، وسيطرة فئة من
الجيش اللبناني على الجزء الآخر في عام 1990م، وفي الشوف سيطرة لقوات
الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزية وحلفائها، وفي الشمال سيطرة لقوات المرَدة
المارونية المعادية للقوات اللبنانية، وفي أقصى الجنوب هناك الحزام الأمني الذي
صنعته إسرائيل بينها وبين جنوب لبنان، يسيطر عليه (جيش لبنان الجنوبي)
المدعوم من قِبَلِ إسرائيل.
فماذا بقي للدولة وسط هذه. البانوراما السلطوية. حتى تسيطر عليه؟
من جهة أخرى، شكلت الطائفية أفق الدولة اللبنانية الذي استوحت منه
تصوراتها للمجتمع والكون ونمط الوجود، وللتنظيم الاجتماعي، والتوزيع
البيروقراطي، كي تجند لا جيشاً عقلانياً عسكرياً واحداً وجيشاً مدنياً منظماً واحداً
البيروقراطيين وموظفي الدولة بل جيوشاً طائفية مرتهنة لجماعاتها المتنطعة
والمتوجهة عقلياً وعاطفياً نحو الذات الطائفية المنغلقة.
(ثم بدأ طرح إلغاء الطائفية السياسية؛ لأنها سبب البلاء، ولأنها تمنع
الانصهار الوطني، وتحقيق المواطنة الحقة. والمطالبون بإلغاء الطائفية السياسية
أغلبهم في مواقع طائفية بعضها شديد العصبية؛ فالأحزاب المطالبة بإلغاء الطائفية
أحزاب طائفية بتركيبتها، وبدهي أن المطلب الصادر من موقع طائفي هو طائفي
أياً كان التعبير اللفظي عنه، ومطلب إلغاء الطائفية يعني تحديداً: استبدال
ديمقراطية عددية تعني سيطرة على الحكم والإدارة بحكم العدد أو بحكم ما يظن من
غلبة عددية بالديمقراطية الإصلاحية المركبة المعقدة أساساً للعيش المشترك
اللبناني. [6]
هذا الواقع المأزوم والمَرَضِي مثَّل مرتعاً خصباً لأحلام كل طائفة في السيطرة
وفي لبنان خصوصاً لا تمثل قوة الطائفة إلا بمددها الخارجي وتبعيتها الدينية
والسياسية والمالية. وكانت الطائفة الشيعية التي يمثلها (حزب الله) سياسياً
وعسكرياً موضوع حديثنا من تلك الطوائف التي أرادت أو بالأصح أريد منها أن
تحقق الحلم بتكوين دولة تقوم على تبني المذهب الجعفري الاثني عشري منهجاً
ونظاماً؛ فلبنان أريد به أن يكون. إما دولة نصرانية عربية بميول غربية وسط
تجمع مسلم ضخم، وإما دولة شيعية عربية بميول فارسية وسط تجمع سني ضخم
كذلك.
والدولة الأولى: النصرانية لعل لها حديثاً آخر، أما المراد الآخر فلا بد من
الوقوف فيه أولاً على بعض المرتكزات؛ حتى تتضح الصورة من بداياتها وصولاً
إلى منتهاها.
لبنان وإيران قصة العلاقة:
حين استولى الصفويون على حكم إيران، في مطلع القرن السادس عشر،
وجعلوا من التشيع الإمامي دين الدولة والأمة، وحصنوا إيران به بإزاء الفتح
العثماني (التركي السني) كان التشيع يذوي ويتلاشى، إنْ في مدارس النجف أو
في مدارس خراسان، فعمد الشاه إسماعيل إلى استقدام علماء من جبل عامل جنوب
لبنان لتدريس الفقه الإمامي، فكان منهم: (بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن
عبد الصمد، 953-1031هـ) الذي أصبح شيخ الإسلام في أصفهان في عهد
الشاه عباس الكبير، والمحقق الكركي علي بن الحسين ابن عبد العالي العاملي،
ت940هـ - 1533م الذي قَدِم النجف ثم رحل إلى بلاد العجم لترويج المذهب،
والسلطان حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي الذي مكنه من إقامة الدين وترويج الأحكام، وكان يُرغِّب عامة الناس في تعلم شرائع الدين ومراسم الإسلام، ويحثهم على ذلك
بطريق الالتزام، وكان أن جعل في كل بلدة وقرية إماماً يصلي بالناس ويعلمهم
شرائع الدين، وبالغ في ترويج مذهب الإمامية؛ بحيث لقبه بعضهم بمخترع مذهب
الشيعة. [7]
ومنطقة جبل عامل أو عاملة في قلب جنوب لبنان كانت أهم مرجعية شيعية
في العالم بين القرنين الميلاديين الرابع عشر والسادس عشر، ومع بداية هذا
التعاون مع الدولة الصفوية أُبيد الآلاف من السُنّة من العامة والعلماء؛ ففي تبريز
العاصمة وحدها كان السُنّة فيها لا يقلون عن 65% من السكان، وقد قتل منهم في
يوم واحد 40ألف سني! ! كما أُجبر الألوف على التحول القسري إلى مذهب
الإمامية [8] كما كانت هناك مؤامرات عديدة وتعاون مع قوى غربية على إسقاط
الدولة العثمانية، وهي من الأمور غير الخافية عبر التاريخ [9] .
وقد استهوت التجربة الصفوية الشيعية (المضطهدين) في العراق وجبل
عامل جنوب لبنان والبحرين، وذهب العلماء بالخصوص ليدعموا تأسيس الدولة
الشيعية (الصفوية) الوليدة [10] .
ونستطيع أن نتجاوز حقبة زمنية بعيدة حتى نصل إلى صورة قريبة تبين تلك
العلاقة الحميمة والوطيدة التي يحاول نفر من الناس فصلها وتزييف الواقع ووقائعه.
فقد قيل لـ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله: إن دور حزبه لن ينتهي؛ لأنه حزب مستورد من الخارج، (سوريا أو إيران) فقال: لنكن واضحين ونحكي
الحقائق: الفكر الذي ينتمي إليه (حزب الله) هو الفكر الإسلامي، وهذا الفكر لم
يأت من (موسكو) أيام الاشتراكية ولا من (لندن وباريس) ولا حتى من
(واشنطن) في زمن الليبرالية، هو فكر الأمة التي ينتمي إليها لبنان، إذن نحن لم نستورد فكراً، وإذا كان من يقول: إن الفكر إيراني. أقول له: إن هذه مغالطة؛ لأن الفكتر في إيران هو الفكر الإسلامي الذي أخذه المسلمون إلى إيران، وحتى هذا الفكر خاص بعلماء جبل عامل. اللبنانيون هم الذين كان لهم التأثير الكبير في إيران على المستوى الحضاري والديني في القرون السابقة؛ أين هو الاستيراد؟ هذا الحزب كوادره وقياداته وشهداؤه لبنانيون [11] .
وفي إحدى الاحتفالات التأبينية التي تقام في لبنان قال إمام جمعة مسجد الإمام
المهدي الشيخ حسن طراد: إن إيران ولبنان شعب واحد وبلد واحد، وكما قال أحد
العلماء الأعلام: إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً
وعسكرياً [12] .
وفي مناسبة تأبينية أخرى قال الناطق باسم حزب الله ذاك الوقت إبراهيم
الأمين: نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في
إيران [13] .
ويقول محمد حسين فضل الله المرشد الروحي لحزب الله: إن علاقة قديمة مع
قادة إيران الإسلامية بدأت قبل قيام الجمهورية الإسلامية، إنها علاقة صداقة وثقة
متبادلة، ورأيي ينسجم مع الفكر الإيراني ويسير في نفس سياسته [14] .
ويقول حسن نصر الله: إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام والدولة
التي تناصر المسلمين والعرب. وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون، ولنا صداقات مع
أركانه ونتواصل معه، كما إن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني
والشرعي لكفاحنا ونضالنا [15] .
ويُؤَمِّن على كلام أمين الحزب مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون
العربية والإفريقية، د. محمد صدر فيقول: إن السيد حسن نصر الله يتمتع بشعبية
واسعة في إيران كما تربطنا به علاقات ممتازة [16] .
وقد حذر علي خامنئي مرشد الثورة من إضعاف المقاومة الإسلامية وقال: إنه
يجب التيقظ ومنع الأعداء من ذلك، إن شعلة المقاومة يجب أن لا تنطفئ؛ لأن
أولئك الأبطال واجب على إيران مساعدتهم [17] .
فهكذا يتبين الترابط المتكامل بين إيران الثورة وحزب الله وشيعة لبنان، فقد
أصبحت إيران الأم الرؤوم والمحضن الدافئ والمرعى الخصيب والنموذج الذي
يتطلع إليه عموم الشيعة؛ فهي القبلة الدينية والسياسية لهم.
المنتظرون إلى متى! ؟
نتعرض هنا لقضية مهمة حول (التبديل) الكبير الذي حدث في عقيدة ومنهج
الشيعة الاثني عشرية والذي حوَّلهم من طائفة على هامش التاريخ بفعل (نظرية
الانتظار) ، بعد دخول محمد بن حسن العسكري السرداب وغيابه على حد قولهم
إلى طائفة ثورية تريد تغيير العالم كله ومواجهة قوى الاستكبار في العالم وإنارته
بالإسلام (الصحيح) ، وتطهير الأرض من رجس يهود! ! وقد كان لحزب الله
نصيب وافر من هذه الشعارات الرنانة والمواجهة المدَّعاة.
وتقوم نظرية (الانتظار والتَّقِيَّة) على تحريم الثورة والإمامة والجهاد وإقامة
الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة؛ فقد تأثر الفكر
السياسي الشيعي تأثراً كبيراً بنظرية وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري
داخل السرداب، واتسم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة؛ وذلك لأن هذه النظرية قد
انبثقت من رحم النظرية الإمامية التي تحتم وجود إمام معصوم معيَّن مِنْ قِبَلِ الله،
ولا تجيز للأمة أن تعيِّن إماماً أو تنتخبه؛ لأنه يجب أن يكون معصوماً، وهي لا
تعرف المعصوم الذي ينحصر تعيينه من قِبَلِ الله؛ ولذلك اضطر الإماميون إلى
افتراض الإمام الثاني عشر، بالرغم من عدم وجود أدلة علمية كافية على وجوده.
وقد كان من الطبيعي أن يترتب على ذلك القول بانتظار الإمام الغائب، تحريم
العمل السياسي، أو السعي لإقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، وهذا ما حدث
بالفعل؛ حيث أحجم النواب الخاصون بالإمام عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة
الغيبة الصغرى، ولم يفكروا بأية حركة ثورية، في الوقت الذي كان فيه الشيعة
الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولاً في اليمن وشمالي إفريقيا وطبرستان.
لقد كانت نظرية انتظار الإمام الغائب بمعناها السلبي المطلق تشكل الوجه
الآخر للإيمان بوجود الإمام المعصوم، ولازمة من لوازمها؛ ولذلك فقد اتخذ
المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفاً سلبياً من مسألة إقامة الدولة في عصر
الغيبة، وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي الغائب.
وقد نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل أعمال أمتي
انتظار فرج الله عز وجل. يعنون به خروج الغائب المنتظر، وجعلوا الانتظار
أحب الأعمال إلى الله، والمنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان [18] .
وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري، وسيطرتها
على الدولة العباسية، فإن العلماء الإماميين ظلوا متمسكين بنظرية الانتظار وتحريم
العمل السياسي، وقد قال محمد بن أبي زينب النعماني (توفي سنة 340هـ) في
كتابه الغيبة: (إن أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره، لا من خلقه
ولا باختيارهم؛ فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ورد مورد
الظالمين والمنافقين الحالِّين في ناره) .
(كل راية تُرفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله) .
(كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة) .
(واللهِ لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من
وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به) [19] .
وجاء في كتاب بحار الأنوار عن المفضل بن عمر ابن الصادق أنه قال:
يامفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع والمبايَع
له) [20] .
وكما أثَّرت قضية الإمامة والولاية فكذلك أَثَّرتْ نظرية (الانتظار) على
موضوع حديثنا، العمل الثوري (الجهاد) فتعطل، وكان مُحرَّماً.
وقد نتج عن الالتزام بنظرية الانتظار، وتفسير شرط الإمام المُجمَع عليه في
وجوب الجهاد أنه الإمام المعصوم أن تَعَطَّلَ الجهاد في عصر الغيبة؛ فقد اشترط
الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط في وجوب الجهاد اشترط ظهور الإمام العادل
الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه، أو حضور مَنْ
نصَّبه الإمام للقيام بأمر المسلمين، وقال بعدم جواز مجاهدة العدو متى لم يكن الإمام
ظاهراً، ولا مَنْ نصَّبه الإمام حاضراً، وقال: (إن الجهاد مع أئمة الجور أو من
غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، وإن أصاب لم يؤجر وإن أصيب كان
مأثوماً) .
واعتبر ابن إدريس: (أن الجهاد مع الأئمة الجُوّار أو من غير إمام خطأ
يستحق فاعله به الإثم، إن أصاب لم يؤجر وإن أُصيب كان مأثوماً) ، وقال: (إن
المرابطة فيها فضل كبير إذا كان هناك إمام عادل ولا يجوز مجاهدة العدو من دون
ظهور الإمام) .
وصرح يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع بحرمة الجهاد من دون إذن إمام
الأصل، و (أن وجوبه مشروط بحضور الإمام داعياً إليه أو من يأمره) .
وبالرغم من قيام الدولة الشيعية الصفوية تحت رعاية المحقق الكركي الشيخ
علي بن الحسين، فإنه رفض تعديل الحكم في عصر الغيبة، وحصر في كتاب
(جامع المقاصد في شرح القواعد) وجوب الجهاد بشرط الإمام أو نائبه، وفسَّر
المراد بالنائب بـ (نائبه المنصوص بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه، لا
مطلقاً) .
وأغفل الشيخ بهاء الدين العاملي بحث الجهاد في كتابه: (جوامع عباسي)
وفسر سبيل الله في عصر الغيبة ببناء الجسور والمساجد والمدارس.
ولا يذكر أحدٌ من العلماء المعاصرين - كالكبايكاني والشاهرودي والخونساري
والخوئي والقمي والشريعتمداري الذين يعلقون على العروة الوثقى - لا يذكرون
شيئاً عن الجهاد أو تفسير كلمة سبيل الله به.
ومن هنا - وإذا استثنينا عدداً محدوداً جداً من الفقهاء الذين شككوا في تحريم
الجهاد، وربطه بالإمام العادل المعصوم - يكاد يكون إجماع الفقهاء الإمامية عبر
التاريخ ينعقد على تحريم الجهاد، بمعنى الدعوة للإسلام والقتال من أجل ذلك،
وخاصة لدى العلماء الأوائل منهم [21]
وقد قال الخميني: (في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر عجل الله
فرجه الشريف يقوم نوابه وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في
إجراء السياسات وسائر ما للإمام عليه السلام إلا البدأة بالجهاد [22] .
فهكذا كانت هذه النظرية (العقدية) والسياسية عائقاً كبيراً أمام الشيعة الإمامية
في الانطلاق إلى تحقيق عقيدة الثأر الكربلائية، والانتقام ممن قتل الحسين -
رضي الله عنه - وإن كان هذا الموقف ظاهرياً يُخفي خلفه أحلاماً توسعية
فارسية [23] ؛ فقد بدأ الانقلاب على البدعة ببدع أخرى؛ ولكنها هذه المرة تساعد على الخروج من هذه الشرنقة القاتلة التي وضعوا أنفسهم فيها بعد أن ضاقت عليهم بدعتهم وقال قائلهم: اللهم طال الانتظار وشمت بنا الفجار وصعب علينا الانتظار [24] .
الأطوار المنسوخة [*] :
والمنهج الشيعي مر بأطوار يختلف بعضها عن بعض بشكل كبير؛ فبعد وفاة
الإمام الحادي عشر الحسن العسكري بغير ولد اضطرب الشيعة وتفرق جمعهم؛
لأنهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين لهم بلا إمام؛ لأنه هو الحجة على أهل الأرض،
وبالإمام عندهم بقاء الكون؛ إذ (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) وهو أمان
الناس (ولو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله)
ولكن الإمام مات بلا عقب، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث، فتحيرت فرق
الشيعة واختلفت، فادعت طائفة منهم أن الحسن له ولد غائب حفاظاً على المكاسب
الأدبية والمادية، وأن له نواباً هم الواسطة بينه وبين الناس، وكانوا أربعة، وكانوا
يجمعون الأموال من الناس لإيصالها لهذا الغائب، وكانت لهم الطاعة، فلهم ما
للإمام، ولقولهم صفة القداسة والعصمة، وهم مخولون كذلك بالتشريع، ثم كان أن
توفي رابع النواب، ولم يوص بنائب خامس بعده، وأخرجوا مرسوماً موقعاً من
الإمام الغائب يقول فيه. (أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم
حجتي عليكم، وأنا حجة الله) .
فانتهت بذلك ما تسمى الغيبة الصغرى وبدأ تطور جديد بتفويض أمر النيابة
عن الإمام المنتظر إلى رواة حديثهم وواضعي أخبارهم بعد النواب، وقد أفاد هذا
التطور الشيعة في تخفيف التنافس على منصب البابية وبدأت الغيبة الكبرى [25] .
وكل هذا العنت كان لربط الناس بأحلام مستمرة عن قيام دولة شيعية، وكلما
اقتربت مرحلة التخدير النفسي من النهاية، بدأ تطور آخر وأحلام أخرى حتى لا
يتفلت الناس من هذه البدع وإن كان هذا قد حدث بالفعل مع نهاية كل مرحلة وبداية
كل تطور جديد.
وكانت نظرية (ولاية الفقيه) التي تنازل فيها الفكر الإمامي عن شرط
العصمة والنص في الإمام، وسمح بالنيابة الواقعية للفقهاء عن الإمام، والتي تسمح
لهم بممارسة القضاء وتوجب التقاضي إليهم، وهو ما كان محرماً عندهم من قبل،
وفتح باب الاجتهاد الذي كان محرماً كذلك، والقول بالقياس، وانسحبت أشكال
التطور أو (التبديل) على كافة محرمات (نظرية الانتظار) كالعمل المسلح
(الثورة) والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة ... الجمعة؛ فقد طالت غيبة الإمام وتوالت القرون دون أن يظهر، والشيعة محرومون من دولة شرعية حسب اعتقادهم، فبدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي تداعب أفكار المتأخرين؛ فهذا الخميني يقول: (قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا ... المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، فهل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ القوانين التي صدع بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وجهد في نشرها، وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان كل ذلك لمدة محدودة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ.
ثم يقول: (إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل
الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها
وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف) [26] .
ويقول: (وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام حال
غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر؛
فإذا أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة منقطعة
النظير) [27] .
وإذا كانت حكومة الآيات والفقهاء لا مثيل لها في العدل كما يقول فما حاجتهم
بخروج المنتظر إذاً؟
وهو يرى أن ولاية الفقيه الشيعي كولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: (فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً ومن بعده كان الإمام ولياً، ومعنى
ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع) ثم يقول: نفس هذه الولاية
والحاكمية موجودة لدى الفقيه، بفارق واحد هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين
لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم؛ لأن الفقهاء في الولاية متساوون من
ناحية الأهلية) [28] .
(وإن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تؤهلهم للنيابة
عن الإمام المعصوم) [29] .
هذا الانقلاب يعتبر نسخاً لكل ما انبنى عليه دين الإمامية، أو على حد قول
من قال: إن الخميني أخرج (المهدي المنتظر) عند الروافض [30]
من الانتظار إلى الثوار:
والفكر السياسي الإمامي هو فكر ثوري بطبيعته، وانتقامي من نشأته إلى
منتهاه، وكما يقول قائلهم. الشيعة هم التيار الثوري على مدار تاريخ المسلمين،
لديهم عقدة ذنب متأصلة منذ مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء على
يد زبانية يزيد بن معاوية ثاني حكام الدولة الأموية، عقدة سببها أنهم تخلوا عن
الحسين الذي خرج يطلب الإمارة، وخذلوه؛ بل وسلمه نفر منهم إلى عدوه اللدود،
ليمثل بجثته ويسبي أهله وذويه، وقد أتاح لهم الزمن (عدواً جديداً) ! ! يعوضون
في جهاده وقتاله والثأر منه ما اقترفوه في كربلاء؛ وبالفعل هم يقاتلون بكل الهموم
والآلام والأحزان والاضطهاد الذي جثم على صدورهم طيلة ما يقرب من 1300
سنة، يجاهدون ضده بعقيدة متماسكة وشعار حاد (كل يوم عاشوراء وكل أرض
كربلاء) ، وإذا لم تكن الدماء قد جرت في كربلاء دفاعاً عن الحسين، فلتَسِلْ أنهاراً
يغسلون بها العار عن الأرض ويستعيضون بها عن الشرف الضائع [31] .
وتمت المبالغة في تحويل نظرية: (الانتظار) السلبية إلى نظرية ثورية،
كما قال عبد الهادي الفضلي: إن الذي يُفاد من الروايات في هذا المجال هو أن
المراد من الانتظار هو وجوب التمهيد والتوطئة بظهور الإمام المنتظر. وإن
التوطئة لظهور الإمام المنتظر تكون بالعمل السياسي عن طريق إنارة الوعي
السياسي والقيام بالثورة المسلحة! ! [32] .
وإن كانت الدولة النبوية في المدينة التي أقامها المصطفى صلى الله عليه وسلم
هي أمنية الأماني التي يُسعى لتحقيقها باعتبارها أنموذجاً ومثالاًَ يُقتفى أثره ويُرجى
الوصول إلى صورته فإن هذا النموذج لم يكن هو المثال والهدف الذي يسعى إليه
الإمامية؛ بل كان مثالهم دائماً وحتى يظهر مهديهم المنتظر هذه (المصيبة)
الكربلائية التي هي دائماً ماثلة أمامهم.
(فالأمة الحسينية أمة متصلة قوام اتصالها بـ (المصائب) المتعاقبة عليها،
ومواقف الثورة الكربلائية التي لم تنقطع، هناك تدرك تماماً أنك تعرفهم فرداً فرداً
منذ آلاف السنين، قاتلت معهم وقاتلوا معك، واستشهدتم سوياً في كربلاء، هناك
تدرك تماماً أن المهدي ليس بعيداً وأنه في مكان ما على الجبهة) [33] .
وإذا غدا استمرار الثورة ودوامها من بعد حدوثها إنجاز الثورة الأعظم أوجب
تجديد الإعجاز كل يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يُرتب تجديد
الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي، إلا
إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين
الاضمحلال والضعف. ولا يتم ذلك إلا بالإقامة على الحرب وفي الحرب. وينبغي
لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة، ولو طالت قروناً؛ لأنها تؤذن بتجديد العالم
كله، وبطيِّ صفحة الزمان [34] .
فلم تكن الحرب بضواحي البصرة وعلى ساحل شط العرب إلا مقدمة حروب
كثيرة أوكلت إليها القيادات الخمينية الشابة التمهيد لـ (فَرَج) المهدي صاحب
الزمان من غيبته الكبرى، ولبسطه راية العدل على (الأرض) كلها، وتوريثه ملك
الأرض للمستضعفين [35] .
وهذا المفهوم الثوري المستمر كان له في الحركة السياسية الشيعية اللبنانية ...
نصيب وافر؛ فقد ترجمه خطباء الحركة الخمينية بلبنان وينقلونه إلى (اللبنانية) ،
أو الكلام السياسي اللبناني، بعبارة (الحالة الجهادية) أو (الثورية أو الإسلامية) ،
وهي تعني الخروج من كل أشكال الإدارة التي تمتُّ بصلة إلى الدولة ومؤسساتها
وقوانينها عامة، وإلى كيانها الحقوقي خاصة. لذا يحرص أبناء (حزب الله) على
استمرار التشرذم والتجاذب والتخبط حرصهم على حدقات عيونهم. ويرفعون هذه
الحال إلى مرتبة المثال.
ويخاطب محمد حسين فضل الله جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان
قائلاً: وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل؛ لنكون مجتمع حرب! ! ويضيف
الخطيب: إن الحرب هذه (مفروضة) ، شأن كل الحروب التي يحل خوضها
للإماميين، ولا يحل لهم خوض غيرها [36] ، والحرب (المفروضة) هي النظير
الإيراني لحرب التطويق السو. ياتية. فكلُّ ما يوقف توسع أصحاب مجتمع الحرب
عدوانٌ عليهم.
بين بداية القرن ونهايته:
كانت الحالة الدينية السياسية الشيعية في بداية هذا القرن الميلادي حالة
منكمشة إلى حد ما، وكان هناك تهميش واضح للشيعة باعتبارهم (طائفة) ، وكان
ذلك التهميش الذي عاناه (جبل عامل) والشيعة عامة خلال فترة الانتداب على
لبنان، وفترة بناء الدولة والاستقلال حال دون احتلال مواقع في الدولة تسمح أو تدفع بالمشاركة في سباق ادعاء رموز تاريخية مؤسسة لها من الطائفة
الشيعية [37] .
وعلى مستوى الحالة الدينية، فقد ضعف دور العلماء وعزف الشيعة اللبنانيون
عن العمامة أي طلب العلم الشيعي الديني وانزوى المسجد، وقد شهد أحدهم على
هذا الواقع فقال: فهذه القرى العاملية لا تذكر اسم الله تعالى في ليل ولا نهار،
برغم سخاء المهاجرين على بناء المساجد وكان يوجد وقتها 1920 1930م ما يزيد
على الأربعمائة مسجد بين مسجد كبير وصغير [38] .
وتزامنت هذه الحالة الرثة والهامشية مع تغيرات عالمية ضخمة، فكان سقوط
الخلافة العثمانية، وبدايات الدعوة إلى القومية العربية عقب الدعوة الطورانية
التركية، والحرب العالمية الأولى، ثم كانت الدولة البهلوية (العلمانية) وكانت هذه
الظروف وغيرها مجتمعة أدت إلى أن كانت بدايات النهضة الحديثة للشيعة الإمامية
التي انتهت في 1979م، بقيام الجمهورية الإسلامية ورغبة في قيام جمهوريات
أخرى على غرار المثال الأم.
وبين هذه النهضة في بداية القرن وقيام الدولة وسعيها إلى إنشاء دول أخرى،
خاصة في لبنان كانت هناك جهود كبيرة لذلك، وكان (حزب الله) مرحلة من
مراحل ينبغي أن نقف عليها.
أما كيف كانت بدايات النهضة السياسية والدينية الشيعية اللبنانية على يد
موسى الصدر وفضل الله وغيرهما؟ وكيف أصبحت (الطائفة) الشيعية رقماً مهماً
في الحسابات اللبنانية؟ وكيف صنعوا (قوافل الانتحاريين) ؟ فهذا وغيره موضوع
حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.
__________
(1) وضاح شرارة دولة حزب الله، ص: 339 دار النهار، بيروت، ط/1 /1996م.
(2) فهمي هويدي، جريدة الأهرام 30/3/1999م.
(3) د حلمي القاعود جريدة الشعب، 9/3/1999م.
(4) مجدي أحمد حسين، وانتصرت المقاومة، ص 7، مركز يافا للدراسات والأبحاث، القاهرة،
ط/1/1966م.
(5) د محمد مورو، الجهاد في سبيل الله، حزب الله نموذجاً، ص 62، مركز يافا للدراسات والأبحاث، القاهرة، ط/1/1966م.
(6) انظر: د فاطمة بدوي، الحرب، المجتمع والمعرفة، الحرب الأهلية وتغير البنى الاجتماعية والعقلية في لبنان، ص 99 118، دار الطليعة، بيروت، ط/1/1994م وانظر: ألبير منصور، الانقلاب على الطائف، ص 51 57، دار الجديد، بيروت، ط/1/1993م.
(7) وضاح شرارة، دولة حزب الله، ص 31 32، وانظر: أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 378 385، دار الجديد، بيروت، ط/1/ 1998م، وانظر: تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، ترجمة نصير مروة، ص: 162، دار الساقي، ط/2/1996م.
(8) انظر: تاريخ الصفويين وحضارتهم، بديع جمعة أحمد الخولي، ص 55، دار الرائد العربي، وأحمد الكاتب، مصدر سابق، ص 378، وعبد الله الغريب، وجاء دور المجوس، ط/6/1408هـ.
(9) انظر: محمد العبدة، مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية، ص 77، 125، وانظر: د وجيه كوثراني، المسألة الثقافية في لبنان، الخطاب السياسي والتاريخ، ص 83 88، منشورات بحسون الثقافية ط/1/1404هـ.
(10) أحمد الكاتب، مصدر سابق، ص 379.
(11) مجلة المقاومة، العدد 40، ص 29، وهي مجلة شهرية تصدر في مصر، تعنى بشؤون وأخبار حزب الله، يصدرها د رفعت سيد أحمد مركز يافا للدراسات والأبحاث.
(12) جريدة النهار اللبنانية11/12/1986م.
(13) جريدة النهار 5/3/1987م.
(14) حلقات الإسلام والكونجرس، الحلقة 38، ص: 46 د أحمد إبراهيم خضر، نشرت في مجلة المجتمع الكويتية، العدد 955.
(15) مجلة المقاومة، العدد 27، ص 15 16.
(16) جريدة الشرق الأوسط، عدد (7482) 9/2/1420هـ 24/5/ 1999م.
(17) جريدة الحياة، العدد (13252) ، 6/3/1420هـ 20/6/1999م.
(18) بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي ج/52/122.
(19) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 271 272.
(20) المصدر السابق، ص 276، وراجع د موسى الموسوي، الشيعة والتصحيح، ص: 9 50، 61 65/1408هـ.
(21) انظر: أحمد الكاتب، مصدر سابق، ص 292 299.
(22) تحرير الوسيلة للخميني، ج/1/482.
(23) انظر: عبد المنعم شفيق، ويل للعرب (مغزى التقارب الإيراني مع الغرب والعرب) ، ص: 108- 131، مكتب الطيب، القاهرة، ط/1/1420هـ.
(24) انظر: د ناصر عبد الله القفاري، أصول مذهب الشيعة، ج/ 2/847، 892 897، ... ط/1/1414هـ.
(25) انظر: د ناصر عبد الله القفاري، أصول مذهب الشيعة، ج/ 2/847، 892- 897،
ط/1/1414هـ.
(*) شهدت الساحة الشيعية اللبنانية أنماطاً من هذا النسخ، فقد نسخت حركة أمل، حركة المحرومين، ثم جاءت أمل الإسلامية لتنسخ بشكل جزئي حركة أمل، ثم جاء حزب الله لينسخ ما سبق، كل ذلك في فترة زمنية لا تجاوز عشر سنوات، وهذا ما سنراه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
(26) الحكومة الإسلامية، ص 26 27.
(27) المصدر السابق، ص 48 49.
(28) المصدر السابق، ص 51.
(29) المصدر السابق، ص 113.
(30) د ناصر القفاري، أصول مذهب الشيعة، ج3، ص 1169.
(31) مجلة المقاومة، العدد (35) ، ص 16.
(32) في انتظار الأمام/ص: 57، 67.
(33) دولة حزب الله، ص 287.
(34) المصدر السابق، ص 276.
(35) المصدر السابق، ص 231.
(36) جريدة النهار، 14/5/1986م.
(37) انظر: د وجيه كوثراني، مصدر سابق، ص 79.
(38) دولة حزب الله، ص 177.
(**) حدثت بعض الأخطاء المطبعية في هذه المقالة بالطبعة السعودية؛ لذلك تم إعادة نشرها في العدد 143 بذات الطبعة، بينما خلت بقية الطبعات من الخطأ؛ لذا لزم التنويه.(142/80)
رؤية في مخططات التقسيم في الشرق الأوسط
العراق.. البداية
حسن الرشيدي
(المعارضة الشيعية في العراق ترفض التعاون مع أمريكا ظاهراً؛ وتتعاون
معها باطناً؛ أليس هذا هو التقية عينها.
(هكذا خطط الغرب لإسقاط صدام؛ ولكن هل ستنجح الخطة؟ !)
(خط وهمي في البداية، ثم يزداد الإلحاح ويسقط الخط الوهمي على
الأرض ويشتد الضغط؛ وإذا الخط الذي وقع على الأرض يتحول إلى رسم، ثم إذا
الرسم يتحول إلى شرخ يظهر في البداية مثل شعرة، ثم يجري تعميقه إلى فَلْق
وإلى كسر.)
هكذا وبهذا الأسلوب يراد تمرير مخططات الغرب في المنطقة، وإعادة رسم
خريطة جديدة للشرق الأوسط تثبت فيها (أمريكا) هيمنتها على العالم وتحقق من
خلالها مصالحها الاستراتيجية المعلنة.
ومن المعروف أن هذه المنطقة بشكلها الحالي قد رسمت في وقت سابق وفي
ظروف مغايرة؛ حيث كانت موازين القوى مختلفة والصراع الدولي له أطرافه
وأقطابه. وثمة مؤشرات تدل على أن هناك اتجاهاً لإحداث تغييرات استراتيجية في
هذه المنطقة.
والسؤال الآن: ما هي هذه المؤشرات؟ وما كنه هذه التغييرات التي تُراد
للمنطقة؟
أولاً: المؤشرات:
1- الزيارات المتكررة التي يقوم بها مارتن إنديك مساعد وزيرة الخارجية
الأمريكية وويليام كوهين وزير الدفاع الأمريكي إلى دول المنطقة، ورغم أن
الأهداف المعلنة لهذه الزيارات - إن أُعلن عنها - لا تعبر غالباً عن الحقيقية ولا
عن فحوى المحادثات التي تُجرى؛ ولكن يمكن استنتاج ما يدور خلال المباحثات
من خلال بعض التصريحات التي يحاول أصحابها التملص من المواقف الأمريكية
حتى ولو اقتصر الأمر على الأقوال وليس الأفعال.
وفي هذا السياق نجد أن تصريحات المسؤولين في بعض الدول التي سبق أن
هاجمت النظام العراقي عادت تعلن تمسكها بوحدة العراق كتصريحات محمد بن
راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، ووزير دفاع الإمارات الذي (خرج مباشرة بعد
اجتماعه مع المبعوث الأمريكي مارتن إنديك ليحذر من أن ما تخطط له أمريكا تحت
لافتة إسقاط النظام العراقي سيقود إلى تقسيم العراق وتفجير حرب أهلية [1] .
2- عدم رد (إسرائيل) على العمليات الأخيرة من حزب الله في الجنوب اللبناني ...
رغم أن الانتخابات الإسرائيلية كانت آنذاك على الأبواب، والفرصة كانت أمام
نتنياهو ليعزز من شعبيته أمام الناخب الإسرائيلي المتعطش لدماء العرب عبر عملية
أشبه بمذبحة قانا التي قام بها بيريز في الجنوب اللبناني قبل الانتخابات السابقة؛
ولكن نتنياهو لم يفعل، ولم يرد على الاستفزاز مما يعزز الأنباء التي تحدثت عن
ضغوط أمريكية مدروسة على نتنياهو انتظاراً لأهداف إسرائيلية ستتحقق بأيد
أمريكية وثمار سيجنيها الشعب اليهودي أكثر فائدةً من عمليات عسكرية في لبنان لا
يكاد يحصد اليهود منها نتائج ذات بال.
3- اعتقال أوجلان: تحدثت الأنباء عن مشاركة أمريكية يهودية في عملية
الاعتقال تلك عن طريق أجهزة المخابرات الأمريكية في كلتا الدولتين ويعزز من
هذه الفرضية أن اعتقاله تم في نيروبي وهي معقل المخابرات الأمريكية
والإسرائيلية في المنطقة ? ويمكن اعتبار أن أوروبا قد شاركت بدور في عملية
الاعتقال عبر رفضها الدؤوب استضافته على أراضيها مما يدفع المرء إلى التساؤل
عن هذا التوافق بين هذه الدول في خطفها لأوجلان رغم اختلافها في كثير من
السياسات؛ ولكن ماذا تجني أمريكا و (إسرائيل) من هذا الاعتقال.
نعتقد أن هناك عدة أهداف من وراء هذا الاعتقال.
أولاً: تقديم خدمة لتركيا نظير ما تقوم به لصالح أمريكا، ولعل زيارة طارق
عزيز لتركيا ثم تصريحات أجاويد رئيس وزراء تركيا التي تشكك في جدوى
الهجمات الجوية الأمريكية ضد العراق خاصة أن الطائرات تطلع من قاعدة أنجرليك
التركية، ثم تراجع عن تصريحاته بعد اعتقال أوجلان الذي اعتبر فيها أن على
العراق الالتزام بالشرعية الدولية، والمقصود بها شرعية الهجمات الأمريكية.
هذا التراجع يقدم مؤشراً على موافقة تركيا على عملٍ مَّا في شمال العراق
تقوم به أمريكا؛ وقد تواردت أنباء في الفترة الأخيرة عن) موافقة تركيا على
عرض أمريكي يسمح بقيام دولة فيدرالية (كردية - تركمانية) في شمال العراق
توضع تحت وصاية تركيا) [2] . لقد نجحت أمريكا في تبديد الخوف التركي
التقليدي من تغيير الحدود في العراق المجاور.
ثانياً: تسببت عملية اعتقال أوجلان في قيام مظاهرات كبيرة للأكراد في
أوروبا ومصادمات مع الشرطة هناك، وتناقلت أجهزة الإعلام المرئية صور
الشباب الكردي الذي يتسابق على حرق نفسه احتجاجاً على الظلم الذي يحيط
بالأكراد مما جعل قضية الأكراد تقفز إلى الواجهة العالمية وينطبع في ذهن الرأي
العام العالمي وجود شعب وقضية يدافع عنها مما يمهد الأجواء لقبول وضعٍ مَّا جديد
للأكراد في المنطقة.
4- اغتيال الصدر: يأتي اغتيال محمد صادق الصدر ليشكل منعطفاً جديداً
في البلبلة داخل العراق، والصدر ينحدر من أسرة ذات مكانة دينية شيعية، ويحتل
مكاناً بارزاً في سلم المرجعيات الدينية، وله شبكة واسعة من المقلدين وبنية
مؤسساتية راسخة قوامها مئات من الجوامع وما يسمى الحسينيات وهي شبكة
تكتسب أهميتها من عوامل:
أولها: أنها تمثل هوية شيعية دفاعية في وجه سلطة عاتية.
والثاني: أنها تمثل أداة حماية وخدمات في ظروف الحصار المريعة [3] .
ومحمد الصدر هذا يعتبر مثالاً لعالم الشيعة الذي يجيد التقيَّة ويتلون حسب
الظروف خدمة لطائفته الضالة؛ ففي أثناء ثورة الشيعة على صدام بعد حرب
الخليج في مارس 1991م أصدر بياناً بارك فيه هذه الثورة وحض الثائرين على
مواصلة الجهاد - على حد زعمه - وبعد الانتفاضة اعتقله جهاز الأمن العراقي
وواجهه ببيانه فاعتذر وتذرع بأنه كتبه تحت تهديد السلاح، فقبلت السلطة اعتذاره
ظاهرياً على أن يظهر عبر التلفزيون وهو يدين الانتفاضة [4] ويبدو أن الصدر قد
خضع لاعتبارات تكتيكية؛ إذ كان ينوي من ورائها بناء قاعدته الجماهيرية لتحقيق
هدفه المتمثل في الإطاحة بالنظام، وإقامة جمهورية شيعية مكانها؛ لذلك ظل يحافظ
على روابط مع النظام في بغداد لتمرير بعض المعاملات الرسمية، ومنها: تمديد
إقامات الطلاب الأجانب في الحوزات الشيعية، إعفاء بعض العراقيين الطلاب في
الحوزة العلمية من الخدمة العسكرية، الحصول على إجازات طباعة الكتب الدينية،
وما إلى ذلك [5] .
ولكن في الآونة الأخيرة - ولسبب لا يبدو مفهوماً لأول وهلة - بدأ الصدر
ينتقد النظام انتقاداً لاذعاً وخاصة في خطب الجمعة التي هي معطلة - حسب ما
يعتقدونه في مذهبهم [*]- ثم بدأ المسؤولون العراقيون يُملون عليه شروطهم
الخاصة بالدعاء لصدام حسين؛ لكن الصدر رفض ذلك. وفي شهر صفر الماضي
أفتى الصدر بوجوب الذهاب مشياً إلى كربلاء وهو الأمر الذي تقمعه السلطة [6]
لقد قام الرجل بجهد دؤوب في الاستغاثة والتحريض في خطب الجمعة التي كان
يحضرها أكثر من مائة ألف شيعي في بعض التقديرات، ويبدو أن جهة استخباريةً
مَّا قد شجعته على هذا العمل ترقباً لعملية كبرى قريبة يخطط لها أن تجري في
العراق، ولكن صدام - وفقاً لسياسة الوتر المشدود الذي يتبعها - استبق الأحداث؛
ولعل استعراض علماء الشيعة الذين يبدو أن صدام قد قتلهم في الثمانية أشهر
الأخيرة: مرتضى البرجردي، وعلي الغروي، ومحمد أمين زين الدين [7] يظهر
لنا أن هؤلاء لم يتحركوا لإثارة الشيعة وقيادتهم ضد صدام فجأة؛ ولكنهم تورطوا
في ذلك عندما شعروا أو أشعرهم طرفٌ مَّا أن الأوان قد حان لتمزيق العراق.
5- الدور الشيعي المشبوه الذي يقوم به باقر الحكيم زعيم ما يسمى بالمجلس
الأعلى للثورة؛ فقد أعلن رفضه قبول مساعدات أمريكية؛ ولكن مصادر صحفية
أفادت (أنه تلقى مساعدات من الولايات المتحدة، واستُقبل في الكويت أثر عملية
ثعلب الصحراء وتلقى مساعدة قدرها (125) مليون دولار، ثم قابل كبار المسؤولين
الكويتيين للتنسيق، ثم حملته طائرة أمريكية خاصة إلى إيران) .
(الخليج 23/1/ 1999م)
(وقد اعترف مسؤول أمريكي مؤخراً بوجود اتصالات مع المعارضةالشيعية في جنوب العراق) [8] .
6- تواصل الهجمات الجوية الأمريكية: فمنذ عملية ثعلب الصحراء (نفذت
أمريكا 3224 غارة على العراق حتى نهاية فبراير 1999م [9] .
7- تهميش دور مجلس الأمن: تعمدت أمريكا أثناء عملية ثعلب الصحراء
تسريب أنباء تجسس المفتشين على المقرات الأمنية العراقية عبر الصحف
والمجلات ذات الصلة الوثيقة بالمخابرات الأمريكية؛ مما جعل رجوعهم مرة أخرى
أشبه بالمستحيل، ولقد تعمدت أمريكا هذا الموقف لإثبات الهيمنة وإفهتام العالم أجمع
أن الشرق الأوسط بصفة خاصة قد أصبح محمية أمريكية تتصرف فيه كيفما تشاء
دون الرجوع إلى أحد حتى ولو كانت شرعية دولية مزيفة.
8- صفقة السلاح الأمريكية لمصر: فبعد انتهاء زيارة كوهين الأخيرة لمصر
(أعلن عن موافقة بلاده على صفقة عسكرية ضخمة لمصر بقيمة 3. 2 مليار
دولار لتزويدها بنحو 24 طائرة مقاتلة من طراز إف 16 ودبابات حديثة) [10]
ولم تظهر تفاصيل المقابل الذي تريده أمريكا لقاء هذه الصفقة، والمرجَّح أن يكون
أحد جوانبه السكوت عن الترتيب الذي تنويه أمريكا في العراق.
ثانياً: التغيرات المحتملة:
من الملاحظ أنه يوجد شبه تعتيم إعلامي غربي وسياج لحجب جزء كبير من
المعلومات والحقائق الخاصة بالعالم الإسلامي وما يتعلق به من أسرار وقضايا،
ولعل المقصود من هذا عبر أجهزة الإعلام التي يسيطر عليها اليهود منع المسلمين
من الوصول إلى الحقائق واستشراف المستقبل والاطلاع على المخططات التي تُكاد
لهم، وأمر آخر أن الغرب منذ القدم قد اعتاد على إطلاق مسميات لأفعاله غير
مسماها الحقيقي وذلك للتمويه والتغطية ظناً منه أن العرب والمسلمين اعتادوا على
السطحية والخداع؛ لذلك يجب في البداية رصد الأهداف الأمريكية بالنسبة لمنطقتنا
حتى يتسنَّى تحديد آليات تنفيذ هذه الأهداف.
أهدافهم في الشرق الأوسط:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور أمريكا قوةً عالمية على الساحة بدأت
الأطماع الأمريكية تظهر في منطقة الشرق الأوسط، وتبلورت أهداف أمريكا في
هذه المنطقة في عدة أهداف رئيسة:
الأول: تأييد (إسرائيل) ودعم أهدافها في المنطقة لتحقيق غايات الحلم
اليهودي في المنطقة. والحديث عن التحيز الأمريكي لـ (إسرائيل) بات حديثاً
مكرراً ومعروفاً خاصة عند فهمه في ضوء النشاط البروتستانتي المحموم لتهيئة
الظروف المناسبة لعودة المسيح وإقامة الهيكل في مكان المسجد الأقصى نفسه؛
حتى إنه من الثابت تاريخياً أن هؤلاء البروتستانت كانوا يدعون إلى إنشاء وطن
لليهود على أرض فلسطين في القرن الثامن عشر في حين أن اليهود أنفسهم كانوا
يرفضون هذه الفكرة حينها [11] .
ثانيا: ضمان استمرار تدفق منابع النفط? يمثل النفط العربي نقطتين حيويتين
بالنسبة لأمريكا من زاويتين:
الأولى: أنه يشكل أكبر احتياطي من النفط في العالم فإن (أكبر مخزون للنفط
في العالم هو منطقة الخليج عامة والمملكة العربية السعودية خاصة؛ حيث لا يقل
هذا الاحتياطي عن 60% من الاحتياطي العالمي كله، وإذا استمر الإنتاج في معدله
الحالي فإن المخزون السعودي من المتوقع أن يستمر 125 سنة، والكويت 144
سنة، والعراق 98 سنة، والإمارات 120 سنة) في الوقت الذي بدأت فيه
الاحتياطات العالمية في النفاد.
الثانية: أنه يُستخدم ورقة في يد أمريكا لإخضاع الدول الصناعية الكبرى التي
تعتمد في اقتصادياتها على النفط العربي للدخول في حظيرة السياسات الأمريكية،
ومن هذه الدول: اليابان، والصين، وغيرهما.
ثالثاً: إثبات الهيمنة والزعامة الأمريكية: لا شك أن منطقة الشرق الأوسط
ذات موقع استراتيجي مؤثر في العالم كله، كما أنها مهد الديانات السماوية، وتعج
بمختلف القوميات والأديان والأعراق؛ فضلاً على أنها محط أطماع الإمبراطوريات
والممالك منذ القدم، والسيطرة عليها تتطلب قوة غير عادية؛ ولذلك فإن الذي يحقق
الهيمنة عليها فكأنه قد سيطر على العالم كله.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة ظهرت أمريكا قوةً وحيدة
مهيمنة؛ ولكن هذه الزعامة كانت تبدو غير مكتملة، ويتخللها الكثير من نقاط
الضعف، وتعرضت الهيبة الأمريكية لبعض الهزات والسقوط في العديد من الأماكن
كان آخرها في أزمة الحصار الأمريكي على العراق في يناير عام 1998م، بعدها
سارع خبراء السياسة الأمريكيون بصفة خاصة ومن يدور في فلكهم من البريطانيين
ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في العكوف على وضع الحلول والخطط
الاستراتيجية التي تمكن الغرب بزعامة أمريكا من تثبيت هيمنتها، ووضعت عدة
سيناريوهات لتنفيذها في المنطقة.
إن أمريكا يهمها هذه الفرضيات:
الأولى: إعادة ترتيب هيكل النظام الدولي بحيث تثبت نفسها على قمة هذا
النظام.
والثانية: التحكم في إدارة الصراع والتفاعل وضبط الأزمات الناشئة بين
وحدات هذا النظام.
أما الثالثة: فهي تحطيم أي قوة تقف في وجه هذه الهيمنة؛ ففي عدد مجلة
التايم الأمريكية (فبراير 1999م) (أطلقت تسمية: صبيان العالم المشاكسين أو
أوغاد العالم الذين يهددون مصالح الغرب وقيمه وطريقته في الحياة الذين يجب
إخضاعهم لتهديد حقيقي لإيقافهم عند حدهم) [12] .
ويعتبر الشرق الأوسط مكاناً مناسباً لضبط هذه الأمور، ثم تجيء منطقة
البلقان في المرتبة الثانية باعتبارها منطقة تظهر فيها أمريكا وتثبت هذه الفرضيات.
ورأى أغلب المحللين ضرورة تفتيت العالم العربي وإعادة رسم خرائط جديدة
له؛ ليسهل السيطرة عليه وتحقيق الأهداف الغربية، وتلاقت هذه الأهداف مع
الرغبات الإسرائيلية، وكان العراق هو البداية.
في التاسع عشر من ديسمبر الماضي نشرت صحيفة الصانداي تليجراف أي
قبل أن يتوقف العدوان البريطاني الأمريكي الأخير على العراق مقالاً مهماً:
يقول كاتبا المقال وهما آلان كلارك ? وزير الدفاع البريطاني في الفترة
1989-1992م - وديفيد ديفيس - وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية من
1995-1997م إن كل سبل واستراتيجيات التعامل مع العراق أخفقت سواء تلك
التي تمَّتْ في إطار الأمم المتحدة أو التي اتبعتها أمريكا وبريطانيا، وهذا كله لا
جدوى منه، ولن يحقق هدف الإطاحة بالنظام العراقي؛ فما العمل إذن؟
يطرح المقال تصوراً محدداً وواضحاً غاية الوضوح يعبر عنه عنوانه: (الآن
استولوا على الجنوب) .
إن أفضل خيار أمامنا هو ما وصفه شارل ديجول ذات مرة بقطع الذراع،
ويعني هذا: اقتطاع جزء من أراضي العراق، وإقامة دولة خليجية تكون تحت
حماية الولايات المتحدة في البداية، ثم على المدى البعيد تحت حماية الأمم المتحدة
والدول العربية، ويجب أن تشمل هذه الأراضي المقتطعة من العراق (البصرة)
التي هي المدينة الثانية في العراق بمواردها الغنية من النفط والبتروكيماويات
والصناعات الغذائية والإنشائية وميناء (أم قصر) الميناء المجاور لها، ويجب كذلك
أن تشمل الجزء العراقي من شط العرب الاستراتيجي كما يجب أن تشمل الأراضي
الزراعية الخصبة في محافظة البصرة.
بالنسبة لصدام سيكون مثل هذا الحل قاتلاً له؛ حيث سيمثل ضربة قاصمة
لمركز قوته؛ وذلك بفقدانه شريانه البحري الحيوي الوحيد؛ مما سيجعله معتمداً
بشكل كلي على الأردن، وعلى هذه الدولة الجديدة في تجارته، وليس هناك من
جدوى لفكرة أن وحدة أراضي العراق وسلامتها مهمة جداً ليكون ثقلاً موازياً لإيران؛ فالدولتان ضالعتان في مؤامرة لإحباط محاولات الغرب منع أسلحة الدمار
الشامل) [13] .
في 16سبتمبر الماضي، استدعت لجنة الأمن القومي في مجلس النواب
الأمريكي خبيراً مهمّاً في شؤون المنطقة ليدلي بشهادته حول الموقف من العراق
والسياسة التي يجب أن تتبعها أمريكا. الخبير هو بول ولفرتيز عميد كلية بول نتيز
للدراسات الدولية في جامعة جون هوبكنز. قال الرجل: إن أساس استراتيجيتنا هو
إقامة منطقة محررة في جنوب العراق شبيهة بما فعلته أمريكا في الشمال. إن إقامة
هذه المنطقة المحررة سوف يحقق ما يلي:
- سوف يتيح المجال لتشكيل حكومة مؤقتة للعراق الحر ?المعارضة? تبدأ في
تنظيم صفوفها وتروِّج لبرنامجها السياسي حول مستقبل العراق، وتسعى لكسب
اعتراف دولي.
- سوف يتيح لهذه الحكومة السيطرة على أكبر حقل نفطي في العراق
واستغلاله مما سيوفر لها موارد مالية ضخمة لتمويل العمليات العسكرية والسياسية.
- سيتيح إقامة منطقة آمنة تشجع وحدات من الجيش العراقي على أن تنضم
إلى قوات المعارضة مما سيجعل من الممكن تحرير مزيد من الأراضي تدريجياً.
في عدد شهر فبراير من مجلة فورين أفيرز أو الشؤون الخارجية نشر ثلاثة
من الخبراء الأمريكيين دراسة تناقش ? هل يمكن إسقاط صدام حسين؟ وكيف؟
ناقش الخبراء التفاصيل الآتية:
- الدعوة إلى اقتطاع المناطق الجنوبية في العراق الواقعة غرب الفرات
وإعلانها عراقاً محرراً.
- إقامة حكومة في الشمال وفي الجنوب والاعتراف بها حكومةً شرعية
للعراق.
- رفع العقوبات الاقتصادية عن مناطق الشمال والجنوب، ومنح هذه
الحكومة الشرعية الأرصدة العراقية المجمدة في الخارج.
- مساعدة المعارضة العراقية على تجنيد وتسليح ما بين 10-20 ألف فرد،
وإقامة منطقة آمنة لهذا الغرض في الدول المجاورة للعراق في البداية إن أمكن،
وفي داخل العراق بعد ذلك.
- تحت حماية القوة الجوية الأمريكية المباشرة يمكن تشجيع قوات المعارضة
هذه على شن حرب على غرار ما فعله المجاهدون الأفغان أو الكونترا في نيكاراجوا، وتشجيعها على القيام بعمليات تخريب للمواقع والمنشآت العامة [14] .
(ويبقى السؤال: ما دامت الأساطيل الأطلسية موجودة في مياه الخليج
تفرض الحصار على العراق؛ وما دامت (إسرائيل) تحتفظ بتفوقها العسكري
والتقني والسياسي فلماذا الترتيبات الجديدة في المنطقة؟ وما حاجة التحالف
البروتستانتي اليهودي لإعادة تقسيم المنطقة وتغيير الحدود؟
الجواب: أن أمريكا لا تأمن أي تغيُّرات فجائية يمكن أن تحدث في المنطقة،
وأن يستيقظ المارد النائم وأن يصحو من سباته، ونعني به الجهاد في نفوس شعوب
المنطقة والمرجح أنه سيظهر؛ بل كل العلامات والإرهاصات تؤيد ذلك؛ ولهذا لا
بد من تفتيت هذه الكيانات إلى مناطق أصغر وحيز أضيق (كونتونات) حتى عندما
تستيقظ الشعوب على صيحات الجهاد ونداء الإسلام تجد من الصعب عليها القيام من
جديد، ويسهل ضربها؛ بل تظل تحيا في نزاعات وصراعات فيما بينها، كما أن
القطاع الضعيف هذا لا يستطيع أن يقوى على امتلاك سلاح بيولوجي أو كيميائي
فضلاً عن تطويره، وبذلك يكون التحالف البروتستانتي اليهودي قد نجح في كسر
شوكة أي مقاومة محتملة، ومهَّد الأجواء لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل.
لا شك أنه يمكن اعتبار تقسيم المنطقة وتفتيتها أحد الخيارات المطروحة؛ ولا
يقتصر الأمر على العراق وحده، ولكن السودان بات على وشك الاعتراف بفصل
الجنوب عنه؛ نتيجة للضغوط الدولية وبخاصة الأمريكية، وكذلك مصر؛ فالكيان
القبطي هناك أضحى له حزب - وإن لم يعلن - له مخططاته وبرامجه لإقامة دولة
قبطية نصرانية، وبقية دول المنطقة تعج بالأقليات والطوائف التي ستنتهز الفرصة
المناسبة لتعلن عن نفسها كيانات مستقلة.
إنه التقسيم ... الحلم اليهودي منذ فترة طويلة؛ ولطالما صُنعت خرائط
وجُهزت الرسوم وحُضِّرت الأذهان لتقبُّله؛ ولم يبق غير التنفيذ، والأيام المقبلة
تحمل في طياتها الكثير? والله أعلم.
__________
(1) الاتحاد، 21/2/1999م.
(2) السفير اللبنانية، 25/2/1999م.
(3) الحياة، 15/3/1999م
(4) القدس، 24/2/1999م.
(5) القدس، 24/2/1999م.
(6) القدس، 24/2/1999م.
(*) كانت صلاة الجمعة معطلة لدى الشيعة بدعوى أنه لا يوجد حاكم مسلم يدينون له عدا فئة من الشيعة في العراق كانوا يؤدون الجمعة وهم (جماعة الخالصي) ، ثم سمح بالجمعة بعد إعلان ذلك من قبل (الخميني) بعد ثورته عام 1979.
(7) السفير اللبنانية، 23/2/1999م.
(8) الاتحاد، 17/2/1999م.
(9) العرب اللندنية، 4/3/1999م.
(10) جريدة الأهرام، 26/3/1999م.
(11) يراجع هذا الموضوع بتوسع في الكتاب الهام: (الحملة الصليبية الثامنة، أسباب التحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل) تأليف العاصي الطويل.
(12) العرب اللندنية، 12/3/1999م.
(13) جريدة الخليج، 21/3/1999م.
(14) جريدة الخليج، 26/3/1999م (أمريكا) .(142/92)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
المتقربون إلى اليهود
1- قال مسؤولون أمريكيون: إن الرئيس بيل كلينتون رفض التحدث في
جلسة افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ لأنها تتزامن مع يوم عطلة عيد
الغفران اليهودي، وقالوا: إن الرئيس شدد على أن عيد الغفران من أقدس الأعياد
اليهودية بالنسبة لمدينة نيويورك " مكان إلقاء الخطاب " وأن ذلك سيكون له أثر
سلبي على السكان.
(جريدة الخليج، العدد: 73770)
2- عرض الرئيس التركي سليمان ديميريل على إسرائيل إمدادها بملايين
الأتار المكعبة من الياه التركية سنويا، في الوقتا الذي أهدى فيه للفلسطينيين ثلاث
سجادات! ! ورحبت إسرائيل بالعرض التركي السخي الذي يحل مشكلة كبيرة
للدولة العبرية.
(جريدة الحياة، العدد: 13278)
3- اقترحت شركة إيرباص لصناعة الطائرات على شركة العال الإسرائيلية
توريد طائرات للشركة مقام بها كنيس يهودي يضم عشرة مقاعد وقوسا دوارا يمكن
المصلين من الاتجاه إلى القدس من أي مكان تكون فيه الطائرة.
(جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7543)
صبر جميل والله المستعان
لست متحجرا في أفكاري لقضية أو لأخرى، نحن نطور مواقفنا حسب تطور
الأوضاع ولو كان الإسرائيليون في وضع الفلسطينيين الآن لوقفت الجزائر إلى
جانبهم، لكن لا زلت أترقب تطور الأحجاث، وأنتظر بصبر جميل، ولن أغض
بصري عما هو واقع ومفروض على الجميع، فأنا لست من دعاة الحرب أو التوتر
من أجل التوتر.
(الرئيس الجزائري بوتفليقة،
جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7537)
ما زال التجفيف مستمر
1- اتخذت تركيا خطوة جديدة في محاربتها للتوجهات الإسلامية لدى
مواطنيها، بعد أن أقر البرلمان قيودا وشروطا خاصة للالتحاق بدور تعليم القرآن
الكريم في البلاد بحصر الالتحاق بها في تلاميذ السنة الخامسة من المرحلة الابتدائية، عندما يبلغ التلميذ الثانية عشرة من عمره، وهو ما لم يكن محددا في السابق.
(جريدة الخليج، العدد: 7370)
2- قررت وزارة الداخلية الماليزية عدم السماح لأي حزب يضم اسمه كلمة
الإسلام.
(جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7556)
لن نعجب
قال مسؤول فلسطيني: إن تاريخ الاتصاللات الإسرائيلية العربية لم يكتب
بعد، وإن نشره مستقبلا سيثير ذهول القراء العرب.
(مجلة الوسط، العدد: 392)
جيء بهم لفيفا
1- ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست أن إسرائيل استقدمت حوالي 1400
يهودي أثيوبي، ويذكر أن غالية اليهود الأثيوبيين الذين يبلغ عددهم 70 ألفا هاجروا
إلى إسرائيل في عمليتي موسى 1985 وسليمان 1991م.
(جريدة الرياض، العدد: 11359)
2- قال المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل: إن هجرة اليهود الروس
إلى إسرائيل زادت زيادة كبيرة في النصف الأول من عام 1999م، وأضاف
المكتب أن 12190 يهوديا من روسيا قدموا إلى إسر\ئيل بزيادة نسبتها 130%
مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.
(جريدة الخليج، العدد: 7376)
3-أكد مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن عدد المستوطنين اليهود
القاطنين في المستوطنات القائمة في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع
غزة سجل خلال العالم الماضي 1998م ارتفاعا تراوحت نسبته بين 8 12%،
وطبقا لمعطيات مكتب الإحصاء الحكومي فقد بلغ عدد المستوطنين اليهود الذين
كانوا يعيشون في الضفة الغربية مع نهاية العام الفائت 166 ألفا و100 مستوطن،
وهذا يشكل زيادة بنسبة 6 7% مقارنة مع نهاية عام 1997م، وبلغ عدد
المستوطنين الذين أقاموا في قطاع غزة مع نهاية العام الماضي 6400 مستوطن
وهو ما يشكل حسب معطيات المصدر ذاته زياة بنسبة 12% بالمقارنة مع عدد
المستوطنين الذين أقاموا في قطاع غزة حتى نهاية عام 1997م السابق.
وعلقت مصادر مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة
بقولها: إن أرقام مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي هذه ليت دقيقة، وأشارت
إلى أن عدد المستوطنين اليهود القاطنين في مستوطنات الضفة والقطاع سيصل
خلال صيف العام الحالي إلى نحو 200 ألف مستوطن. يشار إلى أن هذه
الإحصاءات والأرقام لا تشمل حوالي 150ألف مستوطن يهودي يقيمون في
المستوطنات التي أقامتها إسرائيل في مدينة القدس العربية المحتلة وضواحيها بعد
حرب عام 1967م.
(جريدة الخليج، العدد: 7336)
العرق دساس
1- إننا نتطلع إلى اليهوم الذي تصبح فيه القدس موطنا لسفارة الولايات
المتحدة ودول أخرى، إن القدس توحدت مجددا بعد حرب 1967م، ن ذلك يجب
أن لا يتغير، وأعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تقف إلى جانب إسرائيل كما
يفعل أي صديق حميم.
(هيلاري كلينتون،
جريدة الحياة، العدد: 13291)
2- كتبت مجلية فوروارد اليهودية الأسبوعية الصادرة في نيويورك أن
هيلاري كلينتون لها صلة قرابة باليهود تعود إلى جدتها، كما اعتنقت إحدى خالاتها
اليهودية.
(جريدة الحياة، العدد: 13300)
اللهم رجلا كصلاح الدين
يرى يعكوف احمئير، الكاتب ومقدم البرامج ف التلفزيون الإسرائيلي في
إحدى مقالاته أن إحياء ذكرى معركة حطين إنما يخلد في نفوس العرب ونشئهم عدم
تقبل دولة إسرائيل، والحديث عن الحروب الصليبية وحطين إنما يغذي الصراع
ويشعل جذوته بكثير من اللهب، والبروفيسور يهشوع بورات المؤرخ الإسرائيلي
يتفق مع كل ما جاء به احمئير ويطالب بأن يحال بين الطلاب العرب وبين تعلم
سيرة صلاح الدين الأيوبي الذي يقول عنه بورات: إنه أصبح رمزا للإباء
الإسلامي وقائدا لا يقبل الجور الذي يلحق بأمته، صلاح الدين يمثل الطراز النادر
من القادة الذين لا يقبلون التعايش مع الغزاة.
(صالح النعامي، الشرق الأوسط، العدد: 7557)
دور مهم
إن المنظمة (الأمم المتحدة) سبق أن شهدت مراحل تهميش على غرار ما دث
أثناء الحرب الباردة، ولكن الأمم المتحدة هي المنتدى الوحيد الذي يقدم إمكانية
للدول الصغيرة والدول النامية لإسماع صوتها والتعبير عن تطلعاتها ومطالبها
وإحباطاتها، وإن تعزيز الأمم المتحدة سيسمح للدول الصغيرة والمجموعات المهمشة
في المجتمع الدولي سواء كانوا من الأطفال أم النساء بالحصول على حماية واهتمام.
(بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة،
جريدة الشرق الأوسط، العدد: 752)
غربة الحداثة
أقيمت ندوة لمناقشة كتاب شعر الحداثة في مصر.. الابتداءات.. الانحرافات.. الأزمة، ورغم أن الندوة تناقش قضيية الشعر الحداثي في مصر، وهي من
القضايا التي تشغل الوسط الثقافي، إلا أن الندوة تخلف عن حضورها معظم
المحاضرين والجماهير أيضا، وبعد طول انتظار بدأت الندوة بأحد عشر حاضرا
وصحفيا وعامل بوفيه.
(جريدة الأسبوع، العدد: (124))
أموالهم ردت إليهم
أفاد مسؤولو مجموعة السبع أن عدد الدول المؤهلة للاستفادة من تخفيف
الديون في النظام الجديد سيرتفع من 29إلى 36 دولة وأنه قد يتم تخفيض ديون
حجمها 80 مليار دولار تقريبا أو شطبها بالكامل، وقال الوزراء: إنهم وافقوا على
تمويل الخطة جزئيا من خلال بيع بعض احتياطات صندوق النقد الدولي من الذهب، وستتكلف الخطة 27 مليار دولار لو تم حسابها على أنها مبلغ سيقدم دفعة واحدة
إلى الدول المستفيدة من البرنامج.
(جريدة الخليج، العدد: 7329)
يورثها من يشاء
قال بابا الفاتيكان: إن أوربا يجب أن تكون خالصة للنصرانية، وأن تبنى
على القيم النصرانية.
كرر البابا هذه المقولة ثلاث مرات خلال زرارته الأخيرة لموطنه بولندا
متجاهلا بذلك حقيقة أن أوربا ليست مقصورة على النصارى وحدهم؛ إذ يعيش بها
ما يقرب من 25 مليون مسلم.
(مجلة المجتمع، العدد1356)
الأيام دول ياأولبرايت
قالت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت: إننا في الوقت الحالي حقا
لا يمكن الاستغناء عنا في السياسات العالمية فبدوننا لا شيء يسير.
(جريدة الخليج، العدد: 7371)
حرصا أمر خوفا
تعهد قادة القارة الإفريقية في القمة الخامسة والثلاثين التي عقدت في الجزائر
بدفن الانقلابات، وعدم الاعتراف بأي حكم في القارة يصل إلى السلطة بانقلاب
عسكري مستقبلا.
(مجلة الوسط، العدد: 390)
تكاليف حب الاستطلاع
قرر الكونجرس الأمريكي إضافة مبلغ 1. 5 مليار دولار إلى موازنات 13
وكالة استخبارات أمريكية وذلك لأغراض التجسس والتنصت على المكالمات
الهاتفية واعتراض رسائل الفاكس والبرقيات.
(مجلة الوسط، العدد: 390)
مرصد الأرقام
- يبلغ عدد سكان مستوطنة كريات أربع خمسة آلاف مستوطن يحصلون على
مياه توازي ما يحصل عليه 170 ألف عربي.
(جريدة الخليج، عدد: 7370)
- ارتفعت الديون الخارجية لدول جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا بدرجة
مذهلة من ثلاثة بلايين دولار في عام 1962م إلى 250 بليون دولار الآن.
(جريدة فينانشيال تايمز البريطانية (مترجم))
- بلغ عدد النزاعات الداخلية والثنائية في إفريقيا إلى 27 نزاعا، كما بلغ
عدد اللاجئين إلى 6 ملايين لاجئ بسبب هذه النزاعات، ويوجد 120 ألف شاب
دون 18 سنة في هذه النزاعات، فضلا عن المصابين بمرض الإيدز الذين تناهز
نسبتهم 60% من مجموع المصابين في العالم.
(مجلة الوسط، العدد: 390)
- ذكر تقرير قدمته وزارتا الدفاع والخارجية إلى الكونجرس أن واشنطن
باعت أسلحة بقيمة 40 مليار دولار أمريكي إلى 165 دولة العام الماضي.
(جريدة الخليج، العدد: 7364)
- يبلغ حجم الماء المهدر في الدول العربية سنويا ما يقارب 155 بليون متر
مكعب.
(جريدة الحياة، العدد: 13299)
- في تقرير للأمم المتحدة خاص بشؤون الأطفال ذكر أ، هناك مليوني طفل
قتلوا خلال العقد الأخير نتيجة النزاعات المسلحة في كافة أنحاء العالم، كما أن
نصف اللاجئين ال13 مليونا في العالم هم من الأطفال.
(جريدة الرياض، العدد: 1136)
- تتجاوز الثروة المجمعة لأغنى ثلاثة أشخاص في العالم مجمل الناتج
الإجمالي لمجموعة الدول الأقل فقرا والتي تضم 600 مليون شخص.
- شراء جهاز كمبيوتر يكلف ما يعادل دخل مواطن بنجلاديش ف ثماني
سنوات، وهو ما يعادل دخل شهر واحد لأمريكي.
- تعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم؛ حيث ارتفعت إلى نسبة
1: 47 عام 1997م مقابل 1: 30 في العام 1960م.
(جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7532)
- ذكر رئيس الإدارة المدنية المؤقتة للأمم المتحدة ف كوسوفا أن المقابر
الجماعية المنتشرة في الإقليم تضم نحو 11 ألف جثة.
(جريدة الأنباء، العدد: 8338)
- توجد في إسرائيل 16 مدينة وبلدة تحمل لقب منكوبة بالبطالة لكن اللافت
للنظر أن أكثر من 80% منها عربية.
(جريدة الشرق الأوسط، العدد: 7551)
- لن يتمكن 130 مليون طفل في سن الدراسة الابتدائية من الحصول على
التعليم الأساسي؛ لأنهم يعيشون في فقر أكثر حدة، وصحة أكثر تدنيا.
(جريدة الجيل، العدد: 13285)
- وافق مجلس النواب الأمريكي على تخصيص 1. 4 مليون دولار لحماية
السفارات الأمريكية من الإرهاب الدولي.
(جريدة الحياة، العدد: 13285)(142/100)
الكنائس الشرقية ساندت الصليبيين
في غزو المشرق الإسلامي
فرست مرعي إسماعيل
بدأت بعض الدراسات والبحوث في قسم من الجامعات ومراكز البحوث
العربية تضفي نوعاً من الشفافية والمصداقية على أهل الذمة من النصارى
(النصارى الوطنيين حسب المصطلح التنويري الجديد!) الذين عاشوا في كنف
الدولة الإسلامية أيام الحروب الصليبية وقبلها، وكيف أن النصارى بشتى طوائفهم
من أرثوذكس وسريان ونساطرة وموارنة وأرمن تعرضوا مثلما تعرض المسلمون
إلى ويلات الغزو الصليبي الغربي، وأنهم لم يساعدوا إخوانهم في العقيدة النصرانية
الصليبيين الغربيين أتباع الكنيسة الكاثوليكية - بقدر ما وقفوا ضدهم خلال محاولتهم
السيطرة على المشرق الإسلامي واسترجاع ما يعتقدون أنه القبر المقدس للمسيح -
عليه السلام - من أيدي البرابرة المسلمين - حسب زعمهم - على أساس وجود
خلافات عقائدية وتاريخية وقومية بين الجانبين، وأنهم - أي النصارى - تمتعوا
في ظل الدولة الإسلامية بالحرية والعدالة أكثر مما تمتعوا بها خلال حكم إخوانهم في
العقيدة الإمبراطورية البيزنطية التي أذاقتهم الويل والثبور لخروجهم على تعليمات
الكنيسة الجامعة وأنهم أصبحوا مهرطقين [1] .
هذه الدراسات والبحوث في حقيقة الأمر كانت واقعة تحت التأثير التغريبي
للدراسات التنصيرية الاستشراقية من جهة، وتحت الضغط السياسي والإعلامي للمد
القومي العلماني الذي ساد الساحة العربية بعد منتصف القرن العشرين بقليل من جهة
أخرى؛ مع مراعاة اعتبار أن أغلب رواد الفكر القومي العلماني والاشتراكي كانوا
من النصارى:
(ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث) ، (أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي
السوري) ، (جورج حبش أحد مؤسسي حركة القوميين العرب) ، (نايف حواتمة
زعيم الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين!) ، (قسطنطين زريق أستاذ
العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية ببيروت) وغيرهم كثير.
وبعد أن تبوَّأ بعض هؤلاء وتلامذتهم كراسي الأستاذية في كثير من الجامعات
العربية بدؤوا عملية تغيير منظمة ومبرمجة في العلوم الاجتماعية عامة والتاريخية
خاصةً، إضافة إلى أن وزارات الثقافة العربية والتعليم العالي في الدول ذات
الأنظمة الاشتراكية الراديكالية قامت بالعملية نفسها ولكن على نطاق واسع لكي
تواكب تغييراتُها المرحلةَ العربية الثورية! مرحلة الإنجازات القومية الاشتراكية
التي أهدتها للجماهير العربية المغلوبة على أمرها والتي طالما صفقت لها كثيراً،
مثل نكسة الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961م، ونكسة حزيران عام 1967م، وغيرها كثير!
واستناداً إلى هذه المتغيرات تم إحلال مصطلحات بديلة لكي يتربى عليها
النشء الجديد ابتداءًا من رياض الأطفال وانتهاءً بالدراسات العليا في الجامعات
ومراكز الدراسات؛ حيث تم إلغاء مصطلحات: الجهاد، الحروب الصليبية، الفتح
الإسلامي، الشريعة الإسلامية، أهل الذمة، الجزية..، وحلت محلها
مصطلحات: الصراع العربي الفرنجي، تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب،
تحرير الأرض العربية، نشر قيم السماء، النصارى الوطنيين، الضرائب [2] .
وعلى أي حال فإن الجامعات الأمريكية ومراكز الدراسات الأوروبية لا زالت
تستعمل مصطلحات الحروب الصليبية والجهاد المقدس! ومما يؤسف له أن هذه
المصطلحات التنويرية العصرانية! لا زالت تستعمل في كثير من أروقة الجامعات
الأوروبية حتى اليوم بالرغم من اعتراف دهاقنة الفكر القومي والماركسي بإخفاق
مشروعهم الثوري الاشتراكي على جميع الأصعدة: السياسية والعسكرية
والاجتماعية والثقافية والتربوية.
فالصراع في واقع الأمر لم يكن بين العرب والفرنجة بقدر ما كان صراعاً بين
القوى النصرانية بشقيها: الغربي، والشرقي من جرمان ولاتين ونورمان وإغريق
وسلاف، إضافة إلى مساعدة النصارى من أهل الذمة لهم بشتى فرقهم، وبين القوى
الإسلامية: من تركمان، وسلاجقة، وكرد، وعرب، وفرس.
واستناداً إلى مجريات الصراع الإسلامي النصراني في زمن الحروب
الصليبية التي استغرقت قرنين من الزمان يستطيع الباحث أن يؤكد أن أغلب قادة
حركة الجهاد الإسلامي ضد الحملات الصليبية كانوا من المسلمين غير العرب أمثال: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود (تركمان) ، صلاح الدين الأيوبي (كردي) ، ... بيبرس البندقداري، الناصر قلاوون، الأشرف خليل (مماليك) . ...
وكانت مجلة البيان قد نشرت في عددها 138 في يونيو (حزيران) 1999م
مقالاً تحت عنوان: (صراع بين كنيستين.. الخلفية الدينية لضرب الصرب) ،
وبالرغم من أهمية المقال في هذه الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية وشعب
كوسوفا يتعرض إلى أكبر عملية إبادة دينية وعرقية تحت سمع وبصر العالم
الأوروبي المتحضر! إلا أنه لا يخلو من معلومات جانبت الصواب في عدة مواضع:
أولاً: في الصفحة 77 جاء ما يلي: (وخلال الفتح الإسلامي كانت القرى
الأرثوذكسية تنضم إلى الجيوش الإسلامية نكاية بالكاثوليك الذين أذاقوا الأرثوذكس
ويلات العذاب ... ) [3] والصحيح أنه أثناء عمليات الفتح الإسلامي لبلاد الشام
كانت القوى السريانية (اليعقوبية) المنوفستيين تُبدي فرحها بهزيمة الدولة البيزنطية
صاحبة المذهب الملكاني (مذهب الملك) أو مذهب الطبقيين، ولم يكن مصطلح
الأرثوذكسية - الذي يعني الطريق المستقيم - قد شاع آنذاك وإنما ظهر إلى الوجود
في أعقاب الانفصال الكبير بين الكنيستين: الغربية التي سميت بالكاثوليكية - أي
الأغلبية - والشرقية التي سميت بالكنيسة اليونانية أو كنيسة الروم الأرثوذكس؛ لذا
كان أنصار الكنيسة السريانية والقبطية يُعتَبرون هراطقة من وجهة نظر الكنيسة
الرومانية التي أطلق عليها العرب المسلمون تسمية الكنيسة الملَكية نسبةً إلى ملك
القسطنطينية.
ثانياً: جاء في الصفحة نفسها: (بينما تم فتح مصر بسلاسة عجيبة؛ لأن
أقباط مصر كانوا واقعين تحت ظلم الكاثوليك حتى أعلنت كنيسة مصر انفصالها عن
كنيسة روما) [4] والصحيح أن المصريين أو الأقباط كانوا واقعين تحت ظلم الدولة
البيزنطية وليس الكاثوليك، والكنيسة المصرية أعلنت انفصالها عن كنيسة
القسطنطينية وكنيسة روما في آنٍ واحدٍ؛ حيث جاء في كتاب تاريخ الأمة القبطية
ما نصه: (ولما طرق مسامع المصريين ما لحق ببطرِيَرْكِهم) ديسقورس (من
الحرمان والعزل هاجوا وغضبوا، واتفقوا على عدم الاعتراف بقرار المجمع الذي
أصدر هذا الحكم، وأعلنوا رضاهم ببقاء بطريركهم رئيساً عليهم، ولو أنه محروم
مشجوب، وأن إيمانه ومعتقده هو عين إيمانهم ومعتقدهم، ولو خالفه فيها جميع
حكام القسطنطينية وبطاركة رومية) [5] .
ثالثاً: جاء في الصفحة نفسها: (ولما جمعت أوروبا الغربية (ذات الجمهور
الكاثوليكي) قواها لغزو الأرض الإسلامية فيما يعرف بالحروب الصليبية لم تساندها
الكنيسة الشرقية، وتكرر الغزو دون أثر للأرثوذكس؛ لأن الكنيستين كل واحدة
منهما تكفِّر الأخرى) [6] ، والصحيح أن الكنيسة الشرقية كانت مشرفة على
الكنائس التي تضمها الإمبراطورية البيزنطية التي عاصمتها القسطنطينية، وكان
للدولة البيزنطية القِدْح المعلَّى في دعم الصليبيين مادياً ومعنوياً؛ بل يستطيع الباحث
القول دون موارية: إن استنجاد البيزنطيين بالعالم الأوروبي - خوفاً من الخطر
السلجوقي بعد معركة (ملاذ كرد) الفاصلة التي خسروها وأسر امبراطورهم
رومانوس الرابع - كان السبب الحقيقي للدعوة التي قام بها البابا أدريان الثاني عام
1095م للقيام بحرب صليبية لإنقاذ الأماكن المقدسة النصرانية - كما زعموا - من
أيدي البرابرة المسلمين! [7] .
وتأكيداً على التعاون الذي جرى بين الإمبراطورية البيزنطية - التي تعتبر
الرأس الأعلى للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية - وبين ملوك وزعماء الغرب الأوروبي
ندرج أدناه نص رسالة وجهها الإمبراطور البيزنطي القسيس كومنين الأول إلى
روبرت الأول إمبراطور الأراضي الواطئة (هولندة الحالية) حوالي سنة 1088م:
(من إمبراطور القسطنطينية إلى السيد الأجلِّ اللورد روبرت أمير الأراضي
الواطئة، وإلى جميع كبار رجال المملكة المؤمنين بالعقيدة المسيحية، وإلى رجال
الدين والدنيا: تحية وسلاماً.. أيها السيد العظيم حامي العقيدة المسيحية: أود أن
احيطك علماً بما وصل إليه تهديد البجاناكية والأتراك للإمبراطورية الإغريقية
المسيحية المقدسة؛ فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في
أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها
ضد المسيحيين الإغريق؛ فضلاً عن السخرية والتحقير! فإنهم يذبحون الأطفال
والشباب داخل أماكن التعميد؛ حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك
المسيح.
لقد استولى أولئك القوم على كل البلاد الواقعة بين بيت المقدس وبلاد الإغريق؛ إذ امتُلكت بلاد اليونان كلها، بما في ذلك أجزاؤها العليا ... لذا: أستحلفك بمحبة
الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق يد العون
والمساعدة، وذلك بتقديم جميع الجنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن
العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك.
وبناءً على ذلك يجب أن تحاربوا بكل ما أوتيتم من قوة وشجاعة قبل سقوط
القسطنطينية، وستُسعدون ويكون لكم في السماء أجراً عظيماً (كذا) ومن الأفضل أن
تكون القسطنطينية في حوزتكم وليست في قبضة الأتراك ... ) [8] .
ومن الجدير ذكره أنه كان للنصارى المستقرين داخل حدود الدولة الإسلامية
دور خياني كبير في فتح أبواب الوطن الإسلامي أمام جحافل الصليبيين بالرغم من
المعاملة الحسنة التي لاقوها من المسلمين أمراءَ وشعوباً؛ فقد ساعد الأرمنُ
النصارى الذين كانوا يتركزون في شرق آسيا الصغرى وشمال الجزيرة الفراتية -
ساعدوا الصليبيين في احتلال عدة مدن وإنشاء أول إمارة صليبية على يد الأمير
البولوني بلدوين؛ حيث فتح الملك الأرمني طوروس بن هيثوم أبواب الرها ورحب
به؛ ودخل بلدوين المدينة واستقبل استقبال الفاتحين وسط ترحيب أهلها وحاكمها
ورجال الدين الأرمن فيها واغتباطهم البالغ بذلك [9] .
وعندما حاصر الصليبيون مدينة انطاكية استنجد أميرها باغي سيان بالقوى
الإسلامية القريبة والبعيدة للعمل على إنقاذ أنطاكية والوقوف كتلة واحدة أمام الخطر
الصليبي الذي يهدد الجميع، فاجتمعت له قوات إسلامية كثيرة عند بلدة حارم إلى
الشرق من أنطاكية، وكانت خطة المجاهدين المسلمين في هذه المرحلة أن يهاجموا
هذه الجيوش الصليبية المحيطة بأنطاكية فجأة، وفي الوقت نفسه يخرج الجيش
الذي يقوده أمير انطاكية باغي سيان من أنطاكية، مما يجعل الصليبيين بين فكي
كماشة، غير أن النصارى في حلب وحارم - خاصة السريان والأرمن - أبلغوا
الصليبيين بهذه الخطة، فلما اشتبك الفريقان حلت الهزيمة بالمسلمين قبل أن ينفذوا
خطتهم، واستولى الصليبيون على حارم بمساعدة أهلها السريان والأرمن [10] .
ولما طال حصار انطاكية من قِبَلِ الصليبيين، وضاقت بهم الحال استقر رأي
قادتهم على أن يقوم أحدهم بالاستيلاء بالقوة على أحد حصونها الواقع على ناحية
نهر العاصي، وتقرر أن يحاصر كل قائد منهم هذا الحصن مدة أسبوع بالتتابع؛
وكان على الحصن أحد القادة من قِبَل الأمير باغي سيان، يُدعى فيروز، وكان
فيروز هذا قد اعتنق الإسلام ونال ثقة باغي سيان، فعهد إليه باغي سيان بحراسة
أحد أبواب المدينة في الجبهة الجنوبية، ولم يلبث هذا الأرمني - النصراني الأصل- أن غلبت عليه روح الخيانة، فاتصل ببعض الأرمن الذين كانوا متعاونين مع
الصليبيين وتوسطهم لمراسلة القائد الصليبي بوهيمند، وأنه مستعد لتسليم انطاكية
إن أمَّنوه وأعطوه ما أراد، فراسله الصليبيون وتوثقت عرى الصداقة بينه وبين
القائد بوهيمند بعد أن أغراه بالأموال والحظوة إذا اعتنق النصرانية مرة ثانية،
فوثق فيروز بقوله، واتفق معه على أن يفتح له أحد الأبراج التي يتولى حراستها،
ومنحه مالاً كثيراً، واحتفظ بوهيمند لنفسه بسر هذه المؤامرة عن أصحابه، فلما
كانت نوبته في محاصرة البرج المذكور فتح له فيروز شباكه ليلاً، فدخل
الصليبيون منه وهدموا جزءاً من السور ودخلوا البلد ودوَّت الصيحة في أحياء
المدينة ورفع بوهيمند رايته على نقطة مواجهة لقلعة انطاكية، وقتل الصليبيون في
اليوم التالي من صادفوه بالمدينة من المسلمين وسبوا من النساء والأطفال عدداً لا
يُحصى [11] .
وبناءً على ما تقدم يستطيع القارئ الحصيف أن يخرج بنتيجة وهي أن جميع
الفرق والكنائس النصرانية: من كاثوليكية، وأرثوذكسية، وبروتسانتية، وكنائس
المشرق من سريان ومارون ونساطرة يتوحدون عندما يجابهون عثرة في وجه
أطماعهم كالإسلام، أو عندما يقومون بغزو ديار الإسلام وهذا لا ينفي وجود
خلافات عميقة فيما بينهم حتى إنَّ مذاهبهم أصبح يُطلق عليها اصطلاح الدين:
كالدين الكاثوليكي، والدين البروتستانتي [12] .
__________
(1) الهرطقة: مصطلح نصراني يقابل الكفر عند الإسلام، وهو كل رأي يخالف رأي الكنيسة ولو كان صحيحاً.
(2) وهذا ما حدا بعض الكتاب إلى كتابة أبحاث ودراسات تنكر مصطلح الجهاد وتؤول مضامينه؛ لكي تخمد جذوة الجهاد إلى الأبد عند جيل الصحوة الإسلامية، وعملهم في واقع الأمر يتطابق من حيث المبدأ مع ما عمله عميل الإنكليز غلام ميرزا القادياني الذي أنكر فريضة الجهاد ضد المحتلين الإنكليز إبان احتلالهم لشبه القارة الهندية.
(3) عادل أحمد الماجد، صراع بين كنيستين، مجلة البيان العدد 138 في يونيو 1999م، ص 77.
(4) المرجع السابق، ص 77.
(5) محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، ص 108 نقلاً عن تاريخ الأمة القبطية للقس سليم سليمان.
(6) عادل أحمد الماجد، صراع بين كنيستين، ص 77.
(7) محمد ماهر حمادة، وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم الإسلامي، ص 25- 26.
(8) جوزيف نسيم يوسف، العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية الأولى، ص 307- 309 المقصود بالبجاناكية: عنصر تركي عبروا نهر الدانوب وتغلغلوا في جنوب الإمبراطورية البيزنطية ويسمون أيضاً البتشينج Pechongo، أما الأتراك فيقصد بهم هنا السلاجقة.
(9) سعيد عاشور، الحركة الصليبية، ج 1، ص 180- 181.
(10) ابن النديم، تاريخ حلب حوادث سنة 491 هـ، المقصود بالسريان هنا اتباع الكنيسة السريانية اليعقوبية، أي بعبارة أخرى: أصحاب مذهب الطبقية الواحدة للسيد المسيح (المنوفستين) ، ويشاركهم الأرمن، الأقباط المصريين المذهب نفسه لذا اعتبروا هراطقة من وجهة نظر الكنيسة الجامعة في مجمع مقدونية الذي عقد عام 451 م.
(11) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج/10، ص 174- 175، حسن حبشي، أعمال الفرنجة، ص 64- 70.
(12) لكي يكون القارئ المسلم على بينة فإن قصف طائرات حلف الناتو ليوغسلافيا مدة 78 يوماً أدى إلى خسارة الجيش اليوغسلافي 400 قتيل باعتراف رئيس النظام نفسه ميلوسيفيتش، في حين أنه في غارة أمريكية واحدة على ملجأ العامرية في بغداد خسر العراقيون المدنيون المسلمون 400 ضحية، ولا حاجة هنا للتعليق أكثر من ذلك، إضافة إلى ذلك أن طائرات الناتو قصفت بالخطأ! ؟ مناطق يسكنها ألبان كوسوفا وكانت ضحاياهم أكثر من قتلى الصرب أنفسهم.(142/104)
الاستلهام الإبداعي
لمفهوم التكريم الإنساني
د. أحمد عطية السعودي
ينعم الإنسان في الإسلام بمكانة لا نظير لها في الديانات والفلسفات والمذاهب
التي تدّعي حماية حقوقه، وصون كرامته، وإعلاء شانه.
لقد خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان متميزاً ومتفرداً في تكوينه وتركيبه
وتكليفه، وجعله جِبلَّة من الروح والعقل والجسم.
[وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ (28)
فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [الحجر: 28، 29] . فهو
قبضة من طين الأرض تتمثل فيها عناصر الأرض الماديّة ورغائبها وضروراتها،
ونفخة من روح الله تتمثل فيها إشراقة الروح الصّافية وقوّة الوعي المدركة وقدرة
النفس المريدة [1] .
وهذا الكيان المؤلف من قبضة الطين ونفخة الروح يمتزج امتزاجاً عجيباً،
ويرتبط ببعضه ارتباطاً وثيقاً، فتصدر عنه الأفعال بإرادة اللهومشيئته الذي ألهمه
الاستعداد الفطريّ لعبادته وحدَه، والقيام بمسؤولية الخلافة، وكرّمه وشرّفه ورزقه،
وسخّر له ما في السموات والأرض وفضّله على كثير من الخلق: [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً] [الإسراء: 70] .
مظاهر التكريم الإنساني:
ومظاهر هذا التكريم والتشريف كثيرة لا تُحصى، عظيمة لا توصف؛ لما
فيهامن لطائف التدبير، ودقائق التقدير، وبدائع الخلق والتكوين، وعجائب الإحكام
والإنشاء، وروائع الكمال والجلال.
ومن ذلك التكريم:
1 - تميّز الإنسان بالعنصر الرّوحي:
فقد أودع الله - سبحانه - بين جنبي الإنسان قبساً علوياً منه ونفخة روحيّة
إلهية جعلت الملائكة تنحني له إجلالاً وإكباراً لأمر الله - جلّت قدرته -: [إذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ (71) فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] [ص: 71، 72] .
وهذه النفخة الروحيّة ليست خاصّة بآدم أبي البشر؛ بل هي في بنيه ونسله،
وهذا التكريم لشخص - آدم عليه السلام - هو تكريم للنوع الإنساني في
شخصه [2] ، قال - تعالى -: [ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] [السجدة: 8، 9] .
والروح سرّ الحياة في الإنسان قد اختصّ الله - سبحانه - بعلمها، وصارت
معرفتها أمراً محيّراً للبشرية منذ أقدم العصور؛ فلم يستطع أحد، ولن يستطيع أن
يعرف كنهها أو يجلو سراًّ من أسرارها؛ لأنها من أمر الله: [ويَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: 85] .
2 - خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم:
خلق الله - جل شأنه - الإنسان في أجمل صورة، وأحسن تقويم، وأعدل
قوام؛ إذ جعل الله بقدرته وتدبيره الطين بشراً مدركاً مفكراً سميعاً بصيراً، وخلق
له زوجه، وجعله متناسلاً، وجعل نسله من ماءٍ مهين، وخلقه في أطوار عجيبة
من غير حول له ولا قوة: [ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ
عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (14) ثُمَّ
إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ] [المؤمنون: 12 - 16] .
وخلق له الأعضاء والحواس، وجعل له الرأس والوجه واللسان والأسنان
والفم والحلق والحنجرة، والأظفار واليدين والرجلين، والبطن والصدر والظهر،
واللحم والجلد، والدّم والأعصاب والعروق، وجعل له الأجهزة الكثيرة التي تعمل
في تناسق وانتظام بوظائف مختلفة.
وخلق الإنسان قائماً منتصباً معتدلاً غير مكبوب على وجهه، ولا مُلقى
على ظهره ليباشر أعماله بيديه وجوارحه: [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ] ...
[الانفطار: 6 - 8] .
وجعل حياته في مراحل متعاقبة من طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة،
وفترات ضعف وقوّة، وجعل له أجلاً مسمًّى: [هَوَ الَذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن
نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ومِنكُم مَّن
يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ ولِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [غافر: 67] .
[الله الَذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] [الروم: 54] .
وأبحاث العلم الحديث تؤكّد أن أصل الإنسان ومعدنه الأساس من طينة
الأرض، وأنّ الإنسان لو أعيد إلى عناصره الأولية لكان أشبه بمنجم صغير يشترك
في تركيبه (22) عنصراً تتوزّع بشكل رئيس على:
1 - أوكسجين (O) ، وهيدروجين (H) على شكل ماء بنسبة 65 - 70%
من وزن الجسم.
2 - كربون (C) ، وهيدروجين (H) وأوكسجين (O) وتشكّل أساس
المركبات من سكريات ودسم، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.
3 - مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:
أ - سبع مواد هي: الكلور (CL) ، والكبريت (S) ، والفسفور (P) ،
والمغنيزيوم (Mg) ، والكلس (CA) ، والبوتاسيوم (K) ، والصوديوم (NA) وهي
تشكل 60 - 80% من المواد الجافة.
ب - سبع مواد أخرى بنسبة أقل هي: الحديد (FE) ، والنحاس (CU) ،
واليود (I) ، والمنغنيز (MN) ، والكوبالت (CO) ، والتوتياء (ZN) ، والمولبيديوم
(MO) .
ج - وستة عناصر بشكل زهيد: الفلور (F) ، والألمنيوم (AL) ، والبورون
(B) ، والسيلينيوم (SE) ، والكادميوم (CA) ، والكروم (CR) [3] .
وهذه بعض الحقائق الموجزة المجملة التي وقف عليها العلم الحديث في خلق
الإنسان وما فيه من الآيات البينات ليزداد تبصرة ومعرفة بنفسه [4] :
- الدماغ: وجد فيه ثلاثة عشر مليار خلية عصبية، ومائة ألف مليارخلية
دبقية استنادية تشكل سداًّ منيعاً لحراسة الخلايا العصبية من التأثر بأية مادة،
ويحتاج الدماغ يومياً إلى كمية من الدم لا تقل عن ألف لتر!
- العين: وجد في العين الواحدة نحو مائة وأربعين مليون مستقبل حساس
للضوء، ويخرج من العين نصف مليون ليف عصبي ينقل الصورة بشكل ملون،
ويتم تنظيف العين عن طريق إفراز الغدد الدمعية سوائل مالحة تُدِرُّ حسب الحاجة
إليها!
- الأذن: وهي أهم من العين لوظائفها الكثيرة التي يُعتمد عليها فيتوجيه
النطق، والبصر، والحركة والتوازن، والانتباه من النوم، والتعلم والتربية. وقد
ورد السمع مقدماً على البصر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم [5] . ويوجد في
الأذن نحو ثلاثين ألف خلية سمعية، وتفرز الغدد السمعية سائلاً لزجاً مراًّ لحماية
الأذن وتنظيفها من الغبار!
- الأنف: يستطيع أن يميز نحو أربعة آلاف رائحة مختلفة: منها الكريهة
ومنها الطيبة.
- اللسان: يوجد فيه تسعة آلاف خلية ذوقية لتمييز الطعم الحلو والحامض
والمر والمالح.
- المعدة: فيها خمسة وثلاثون مليون غدة معقدة التركيب لأجل الإفراز!
- القلب: عضلة تزن نحو ثلاثمائة وخمسة وعشرين غراماً، وتعمل على
ضخ الدم عبر مائة ألف كيلو متراً من الأوعية الدموية يومياً!
- يستهلك الجسم من خلاياه نحو مائة وخمسة وعشرين مليون خلية في الثانية
الواحدة. ويتشكل العدد نفسه في الثانية الواحدة.
- وجد تحت سطح الجلد بين خمسة إلى خمسة عشر مليون مكيّف لحرارة
البدن!
- يتنفس الإنسان كل يوم نحو خمسة وعشرين ألف مرة يسحب فيها مائة
وثمانين متراً مكعباً من الهواء يتسرب منها نحو ستة أمتار ونصف من الأوكسجين
للدم!
- وفي بنان الإنسان سر وإعجاز؛ إذ لا يمكن للبصمة أن تتطابق أو تتماثل
في شخصين في العالم حتى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة.
وصدق الله العظيم: [أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ] [القيامة: 3، 4] .
وسبحان الله الذي قدر فهدى، والذي خلق فأتقن، وصوَّر فأحسن: [رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: 191] .
3 - تكريم الإنسان بالعقل والإدراك:
العقل هو أشرف ما في الإنسان، وهو موضع الحكمة، ومعدن العلم، ومنهلا
لتدبير، ومناط الأمر والنهي، والحركة والتحكم.
وهو الذي يقود الجسم، ويضبط الجوارح، ويمده بالإحساس والحيوية،
ويعينه على التمييز بين النفع والضرر، والتفريق بين الحسن والخبيث، وإدراك ما
لا يدرك بالبصر:
-[قُلْ هُوَ الَذِي أَنشَأَكُمْ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا
تَشْكُرُونَ] [الملك: 23] .
-[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] [الحج: 46] .
والعقل - على لطافته من حيث الخلق - أقوى قوة على سطح الأرض،
وأنفع قوة، وأخطر قوة، ولا قيمة للإنسان إلا برجاحة عقله؛ لأنه الميزان
الحساس الذي يفرق بين الخير والشر، ويختار لصاحبه الأحسن من كل شيء
والأفضل من كل خُلق [6] .
4 - تكريم الإنسان بالعلم والتعلم:
زود الخالق - جل وعلا - الإنسان بملكة العلم والتعلم، وعلمه القدرة على
معرفة الأشياء والحقائق، وفهم الأسرار والدقائق، وجلب المنافع والمصالح،
واستخراج ما في الأرض من خيرات وكنوز وذخائر، واستكشاف مجاهيلها
وخفاياها، واستنباط سننها وقوانينها: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ
الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ] [العلق: 1 - 5] .
5 - تكريم الإنسان بالإرادة والاختيار:
وذلك بما أودع فيه الخالقُ - جل جلاله - من الإرادة والاختيار، والاستعداد
للعبادة، واكتساب الخير والشر، والقدرة على توجيه الإرادة في الجوارح، والتحكم
بالأعمال والأفعال وتقبل الخُلق القويم، والخلق الذميم، وفعل الخيرات والمنكرات
: [هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ
مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِراً وإمَّا
كَفُوراً] [الإنسان: 1 - 3] .
6 - استخلاف الإنسان في الأرض:
ومن تكريم الله ونعمته على الإنسان أن جعله سيداً للكون، خليفة في الأرض
يعمرها ويصلحها، ويعبد الله - تعالى - فيها على بصيرة من شريعة الله وسننه
الكونية، فإذا أحسن وعمل صالحاً ظفر بالنعيم المقيم، وإذا أساء وأعرض كان
مصيره إلى نار الجحيم: [وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] .
[الأنعام: 165] .
7 - تسخير الكون للإنسان:
وقد هيأ الله - سبحانه - للإنسان في الأرض مستقراً ومتاعاً، وسخر له كل
شيء في السموات والأرض: من نجوم وكواكب، وبحار وأنهار، وسهول وجبال، وأودية وقفار، ونبات وحيوان، وليل ونهار، وهواء وغذاء: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وسَخَّرَ
لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ (33) وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وإن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ
لا تُحْصُوهَا إنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ] إبراهيم: 32 -43 [.
الأديب المسلم وأصالة التكريم الإنساني:
إن التكريم الإلهي للإنسان يشمل جميع البشر من لدن آدم - عليه السلام-
وحتى آخر مخلوق تقوم عليه الساعة.
والإنسان المسلم هو أكثر الناس تنعماً بهذا التكريم؛ لأنه يقوم بمقتضياته،
ويدرك حدوده وأبعاده وفيض نعمائه.
والأديب المسلم هو أكثر الناس تمتعاً بروائع التكريم؛ وعجائبه، وإحساساً
بلطائف الصنع ودقائقه، واستغراقاً في أداء شكره وتأمل أسراره، يستمد منه
أصالته برؤية الإنسان السويّ، وبصيرة المسلم الصالح، وريشة الأديب المبدع.
ويصدر عنه في نظرته لنفسه، ونظرته لبني جنسه وذلك في جوانب مهمة:
1 - لقد أنعم الله - سبحانه - عليه بنعمة البيان ليميزه عن سواه من الكائنات، ويعبّر به عما في ضميره، ويفهم عن غيره ما في نفسه، ويخرج به المعاني في
ألفاظ حسنة رائقة، وتراكيب منسجمة متوازنة، وأفكار منظمة متسقة، ويستجلي
الدقائق المستترة، واللطائف المستكنّة.
وقد جُعل له هذا البيان وسيلة للإدراك والتفكير، والحركة والتدبير والاتصال
والتواصل، والإقناع والتأثير، والإعراب عن المشاعر والأحاسيس، وعما يعتمل
في الفؤاد من خلجات وسوانح، وخواطروفواتح. قال - تعالى -:] الرَّحْمَنُ (1)
عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ [] الرحمن: 1 - 4 [.
والأديب المسلم يسخر هذه الملكة البيانية في صيانة لسانه وتحلية جنانه
بالفضائل والمكرمات، واجتناب البذاء والفحش والسوء، كما يسخره فيتعلم الكتاب
العزيز وتعليمه، والوقوف على مواطن البلاغة والإعجاز فيه، وفي حب اللغة
العربية وتعلمها وتعليمها، والمساهمة في نشرها، والوقوف في وجه الأعداء
المتربصين بها، كما يسخره في الدعوة إلى الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر.
2 - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم الذي خلقه الله في أحسن تقويم،
وأكمل هيئة، وأعظم كيان، أن يحافظ على هذا التكريم، والخلق القويم؛ بأن يُسلم
وجهه وقلبه لله رب العالمين، ويعمل الصالحات، ليظل كريماً طيباً مشرَّفاً عند الله، وليؤتى أجراً عظيماً:] وَالتِّينِ والزَّيْتُونِ (1) وطُورِ سِينِينَ (2) وهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ
(3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إلاَّ الَذِينَ
آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [.
] التين: 4 - 6 [.
3 - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم بالعقل والإدراك والعلم أن يدرك وجود
بارئه، وروعة مصوِّره، وعظمة خالقه.
وأن يسخِّر علمه في معرفة الله - تبارك وتعالى - وخشيته والاهتداء إليه،
ويخضع لحكمه وأمره، ويتقرب إليه بالمعرفة المستنيرة والعمل الصادق.
4 - ومن واجب الأديب المسلم المكرَّم بالإرادة والاختيار أن يختار طريق
الإيمان ويتَّبع سبيل الحق، ويوجه إرادته وطاقته إلى الخير والفضيلة، وأن يعبد
ربه كما علمه، ويُخلص له في الإسرار والإعلان، ويرجوه في الشدة والرخاء،
ويطيعه في المنشط والمكره، ويعظمه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
وأن يتزود من دنياه الزائلة لآخرته الباقية، ويدين نفسه، ويخالف هواها،
ويعد ليوم الحساب:] ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ مَآباً [] النبأ: 39 [.
5 - ومن واجب الأديب المسلم المكرم بالنعم الجزيلة والعطاء الوفير أنيشكر
الله - تعالى - على نعمه وخلقه، وأفضاله وآياته؛ بأن يحمده ويثني عليه، ويديم
ذكره، ويعرف قدره، ويصرف نعمه فيما ينفعويفيد:] واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [
] النحل: 78 [.
6 - ومن واجب الأديب المسلم أن يجاهد نفسه ليردها إلى الطريق السوي،
والهدي النبوي الذي لا يضل من تمسك به ولا يخيب من سار عليه.
ومن كل ذلك سيجد الأديب المسلم حلاوة الإيمان، وسعادة الاطمئنان،
ورسوخ الهداية، والفوز في النهاية:] فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ [] آل عمران: 185 [.
__________
(1) انظر: محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، ص 33.
(2) انظر: د يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، ص 57.
(3) انظر: د عبد الحميد دياب، د أحمد قرقوز، مع الطب في القرآن الكريم، ص 27، 37.
(4) انظر: د خالص جلبي، الطب محراب الإيمان، ج1، ص 95 وما بعدها، د عبد الحميد
دياب، د أحمد قرقوز، مع الطب في القرآن الكريم، ص 93 34، د السيد الجميلي، الإعجاز
الطبي في القرآن، 34 - 96.
(5) انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة سمع، 853.
(6) انظر: د محمد فائز المط، من كنوز الإسلام، ص 218-220.(142/110)
البيروقراطية
سامي تيسير سلمان
مصطلح يعبر عن سلوك ومدرسة إدارية في آن واحد. يرجع تاريخ هذا
المصطلح إلى الإغريق؛ حيث استُقي من كلمة (Kratia) التي تعني القوة، ثم
تحولت إلى الفرنسية واستقت منها مصطلح (Bureaucracy) المتداول حالياً
والذي يتكون من جزأين: الأول (Bureau) يعني المكتب (أي المنضدة) والثاني
(Carcy) ويقصد به الحكم. وعليه فيمكن فهم أصل كلمة البيروقراطية على أنها
حكم المكتب، أو الحكم عن طريق المكتب [1] .
لقد كان الفرنسيون أول من استخدم كلمة بيروقراطية وكان ذلك في القرن
الثامن عشر الميلادي، ثم تداولها الألمان، وعرفت هناك بـ (Burokratie) .
وفي منتصف القرن الثامن عشر وصلت إلى الساحة الأكاديمية عبر علماء الاجتماع
الذي منه ولد علم الإدارة آنذاك، وأصبحت مدرسة إدارية منظِّرة لها سماتها
وأهميتها، واعتبرت أول نموذج متكامل للمنظمات، والأساس الأول لنظرية
التنظيم العالمي، وسمي عالم الاجتماع الألماني الذي شارك في هذه الصياغة ماكس
فيبر بأبي البيروقراطية.
لقد كان للفترة التي عاشها ماكس فيبر (1864 1920م) الأثر الأكبر في
التأثير على صياغة هذه المدرسة؛ فقد تزامنت مع نهاية عصر الإقطاع والتحلل من
النظم التي سخرت العبيد للعمل في المزارع إلى نظام الأجور وظهور المصنع
والآلة وبداية العلاقة الحقيقية بين الرئيس والمرؤوس والحاجة إلى التخصص في
أنماط العمل وغيرها من متطلبات عصر الآلة ولم تكن هذه الملابسات في المصنع
فقط؛ بل شملت الاستقلال السياسي وظهور الدول الحديثة وتشكُّل أجهزة الحكومات
التي أُنيط بها عبء التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واعتُبر آنذاك أن
الاعتماد على دور الحكومات والحاجة إلى السلطة والمركزية في اتخاذ القرار
ضرورة للقيام بهذا الدور؛ إذ إن القطاع الخاص لم يكن قد قدَّم تجربة تذكر في
مجال التغيير والتنمية.
لقد ساهمت هذه الملامح وغيرها في صياغة المدرسة الإدارية الأولى التي
نادت بما يلي:
1 - التحديد الدقيق والتعريف الجديد للسلطة الرأسية الهرمية.
2 - تقييم العمل على أساس مبدأ التخصص وتحديد المسؤوليات.
3 - وجود نظام واضح للقوانين والأنظمة الخاصة بحقوق وواجبات
الموظفين.
4 - وجود نظام إجرائي دقيق لمعالجة الحالات الإدارية.
5 - العلاقة بين العاملين علاقة عملية موضوعية، ولا دور للعلاقات
الشخصية.
6 - اختيار المتقدمين للعمل وترقية الموظفين ومكافأتهم على أساس الكفاءة
والمعرفة فقط.
كان لهذه المدرسة مؤسسون تجدر الإشارة إليهم:
ريتشارد هول R. Hall، فريدريك Fredrik، بارسون Parsons،
برجر Berger. وغيرهم.
وكان من وصف هذه المدرسة بخصائص ثلاث، وعرفت بذلك حتى يومنا:
(هيدي Heedy 1984م:
1 - الهرم الوظيفي (السلطة الإدارية والهيكل الهرمي) .
2 - التخصص (تقسيم العمل) .
3 - التأهيل أو الكفاية، (اختيار الأشخاص المؤهلين) [2] .
لقد تربعت هذه المدرسة حقبة طويلة من الزمان وكانت الدول النامية تستقي
التجربة من الدول المتقدمة الغربية التي تأسست فيها البيروقراطية ابتداءًا، وكان
لها بعض المزايا التي نتجت من تطبيقاتها وهي: تحديد المسؤوليات، ووجود
أنظمة سير العمل والمعاملات، وتحديد الصلاحيات بيد الطبقات العليا من التنظيم
وعدم السماح بالتسيب والمرونة في اتخاذ القرار حرصاً على ضبط الأمور،
وسيطرة القانون لا البشر العاملين، وغيرها من ملامح الإدارة البيروقراطية. كل
هذا وغيره من الملامح والسمات جعل هذه المدرسة تُعرَف عبر السنوات بما يسمى: (نظام المركزية في الأعمال الرسمية) إشارة إلى انتشارها في الدوائر الحكومية.
وليس من الغريب أن تجد في معجم ومصطلحات الاقتصاد والمال وإدارة الأعمال
هذا التعريف لمصطلح البيروقراطية Bureqacrcy: «نظام يعتمد المركزية في
الأعمال الحكومية الرسمية، ويقر التدرُّج الطويل في السلطة والمسؤولية وتعدد
الأقسام في الدائرة الواحدة وارتباطها برئيس واحد» [3] .
وبعد هذه المقدمة؛ هل يمكن أن نصل إلى خلاصة لهذا المصطلح؟ أحسب
أن هذا المصطلح يصف بالعموم مدرسة إدارية استطاعت أن تطبع المنظمة أو
الجهاز بالآتي: (تنظيم رسمي يرتكز على التنظيم الهرمي للسلطة، وعلى قوانين
وقواعد دقيقة لإجراءات العمل وعلاقات الأفراد العاملين) .
لقد كان لهذه المدرسة عيوب عدة يراها أصحاب المدرسة الإدارية الحديثة؛
فما هي هذه العيوب؟ وبماذا ينادي أصحابها؟ وهذا - حقيقةً هو ما يعنينا من طرح
هذا المصطلح.
عيوب البيروقراطية:
1 - عدم الاهتمام بتنمية الفرد وتطوير الشخصية الإنسانية الناضجة.
2 - عدم إعطاء أي اعتبار للتنظيم غير الرسمي، وعدم القدرة على معالجة
المشاكل الطارئة وغير المتوقعة.
3 - عدم استثمار الطاقات البشرية التي تعمل في الجهاز البيروقراطي
استثماراً جيداً بسبب انتفاء الثقة والاعتماد على القوانين والعلاقات غير الإنسانية،
والخوف من الوقوع في الخطأ والانتقام ... إلخ.
4 - لا يتضمن النموذج البيروقراطي وسائل كفيلة بحل الخلافات والنزاعات
بين المراتب المختلفة أو بين المجموعات الوظيفية المتباينة.
5 - عدم قدرة التنظيم البيروقراطي على استيعاب التكنولوجيا الحديثة
والفنيين والعلماء.
6 - قِدَمُ نظم الرقابة والسلطة التي نص عليها التنظيم، وكونها نظماً مُستهلَكَة.
7 - عدم توفير العملية القضائية الكافية.
8 - عدم توفر قنوات سليمة للاتصال داخل المنظمة نظراً للتنظيم الهرمي
(الهيراركي) .
9 - المساهمة في تطور نمط موحد علماً بأن البيروقراطية ذات توجه جماعي.
10 - تدعو إلى الآلية في العمل والكسل والخمول بسبب سيطرة القوانين
والنظم وعدم توفر الأجواء المناسبة للابتكار والإبداع [4] .
وقبل شروعنا في الحديث عن الوجه الآخر للبيروقراطية وبما ينادي به
أصحابها لا بد من الإشارة إلى أن مدرسة البيروقراطية لم تبق على الساحة الإدارية
بمفردها، ولم تكن وحدها في الستينيات والسبعينيات؛ بل قدَّم اليابانيون مدرسة
التنظيم المصفوف، وقدَّم الأمريكيون الشبكات الإدارية.
وليس المجال هنا للحديث عن المدارس الإدارية والحقبة الزمنية التي مرت
بها وحتى تاريخه؛ إلا أن من المهم الإشارة إلى شعارات الإدارة الحديثة التي نادت
بثورة إدارية تدعو إلى التحرر من شبح البيروقراطية، ونادت بإدارة متحررة بعيدة
عن الهرم الإداري.
يحضرني في هذا المجال كتابان جيدان كلاهما بعيد عن الرغبة الشديدة إلى
تأكيد الحاجة للتحرر من قيود البيروقراطية، وكلاهما يصف الدوافع بعد أن ظهرت
آثار العيوب التي لخصناها سابقاً جلية على مدى العشرين عاماً السابقة.
وليس هذا فحسب؛ بل إن مستجدات اليوم من التغيرات جذرية سريعة
ومتتابعة على جميع الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ بما في ذلك
ثورة المعلومات والتقدم التكنولوجي الهائل في عالم الاتصالات وما يسمى اليوم بـ
(العولمة) كلها شكلت عوامل رئيسة في إعادة صياغة النظم الإدارية لتصبح أكثر
مرونة وتحرراً، وبعيدة عن ملامح البيروقراطية التي يعبر عنها اليوم بالإدارة
البائدة [5] .
إذاً: ماذا لدى أصحاب الإدارة الحديثة؟ أختصر ذلك بالعناوين الآتية:
1 - البساطة تكسب:
شعار جديد ينادي بالأخذ بالبساطة؛ فالبعد عن تعقيدات ومتاهات الإدارة
البروقراطية أظهرت الدراسات أنه يمكن أن يعاد تبسيط بناء الإدارات ومهامها
والإجراءات المطلوبة لإنجاز العمل مما يؤدي إلى تخفيض في التكاليف وسرعة في
الإنجاز وجودة في الخدمة. لقد نجحت أجهزة حكومية وشركات كبيرة في إعادة
دراسة عملياتها، وأثبتت الإجراءات المرنة واللامركزية أن البساطة تكسب.
2 - الإدارة المتحررة نهاية الهرم الإداري في التسعين:
يقول مؤلف كتاب هذا عنوانه [6] : (كلما زادت الصناديق والنظم
والإجراءات الإدارية وعلت الهياكل التنظيمية في الشركة، كلما مالت ثقافتها إلى
التقليد وقيادتها إلى السيطرة وأداؤها إلى التباطؤ.
إن ما تدعو إليه الإدارة المتحررة هو البعد عن المستويات الإدارية المتعددة
واستبدالها بفِرَق عملٍ متجانسة تدرك هاجس السرعة وتدعو إلى الإبدع والتجديد) .
إن المسؤولية هنا مرتبطة بالصلاحية؛ ولكنها بِيَدِ فريق لا فرد واحد أو أفراد؛ كلٌ في دائرته بعيداً عن الآخرين. لقد نادت الإدارة الحديثة بوضع مزيد من
السلطة أسفل الهرم الإداري حرصاً على تمكين الأفراد الذين يقدمون الخدمة
ويباشرون العمل اليوم بمزيد من القدرة على اتخاذ القرار وقد كان لذلك الأثر الناجح؛ حيث قام مثل هذا الدور بتحفيز العاملين على العمل وحب الابتكار وسرعة الأداء
وهو ما يتطلبه واقع اليوم.
__________
(1) نقل الفهم من كتاب الإدارة: المفاهيم الأسس والمهام، دار العلوم للطباعة والنشر، 1403هـ، ص 28، للأستاذ إبراهيم المنيف.
(2) خلاصة ترجمات وقراءات في كتب الإدارة الغربية.
(3) إعداد المحامي نبيه العطاس، مكتبة لبنان.
(4) البيروقراطية والتنمية.
(5) الهرم الخلاق (من مبادئ الإدارة البائدة إلى المبادئ الجديدة والسائدة) تأليف ريتشردنولان وديفيد كروسون، عنوان كتاب جيد تحدث عن هذا التعريف بشكل مطول.
(6) توم بتيرز.(142/118)
أبو جهل نموذج للهمة العالية
ولكن في الاتجاه المعاكس
عبد الله إبراهيم الملا
حديثي ليس عن أبي بكر ولا عن عمر؛ ولكنه عن أبي جهل. نعم عن ذلك
الرجل الهمهيم ولكن في الشر والفساد، الذكي ولكن في الكيد للحق وأهله، القوي
ولكن على أولياء الله وحزبه. نعم سوف أروي مواقف لهذا الرجل وأقص بعضاً من
سيرته، وسوف أقف مع موقفين له، لنتبين مدى قوته وبأسه وعظيم كيده؛ فكان
بحق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبو جهل فرعون هذه الأمة) [رواه
أحمد، ح/3814] :
الوقفة الأولى: يرويها لنا المغيرة بن شعبة فيقول: أول مرة لقيت فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم إني كنت أمشي مع أبي جهل في أحد أسوقة مكة، فلقينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هيه يا أبا الحكم! أما آن لك أن تجيب داعي
الله ورسوله؟ هلم إلى دعوة الله! فقال أبو جهل: يا محمد! هل تريد أن نشهد أنك
قد بلَّغت؟ فإنك قد بلَّغت. والله! لو أعلم أن الذي معك حق ما تبعته. قال المغيرة: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضيت مع أبي جهل، فقال لي
أبوجهل: يا مغيرة! والله إني لأعلم أن الذي معه الحق. إنا تنافسنا وعبد مناف الشرف، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم. قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم. قالوا: فينا السقاية. قلنا: نعم. ثم أطعموا فأطعمنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاكَّت الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمن أين نأتي بهذه؟ لا والله! لا نؤمن به ولا نصدقه أبداً.
الوقفة الثانية: لما انتهت معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه فوجده عبد الله بن مسعود -
رضي الله عنه - وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز
رأسه وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال أبو جهل: أخبرني: لمن الدائرة
اليوم؟ قال: لله ورسوله. وبعد أن دار بينهما الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء
به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذا رأس عدو الله أبي
جهل. فقال: آلله الذي لا إله إلا هو؟ فرددها ثلاثاً ثم قال: الله أكبر. الحمد لله
صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. انطلقْ أرِنيه. فانطلقنا فأريته
إياه فقال: هذا فرعون هذه الأمة.
ففي الوقفة الأولى نرى أن الرجل يعلم علماً يقيناً أنه يتصدى للحق وينصر
الباطل، إنه يعلم أن الذي يدعوه إليه رسول الله هو الحق المبين، فلم يكن الذي
رده عن الإسلام هو الجهل أو الشك في الرسالة؛ ولكنه العناد والحسد. ومن هنا
انطلق أبو جهل بكل قوته وفكره وذكائه يعادي الدين وأهله ويحارب الله ورسوله،
واستمر على هذا المبدأ طوال حياته مستخدماً كل حيله ودافعاً بماله وصحته بل
وأخلاقه فداءاً للعداء لهذا الدين. فمرة يدفع المال لمن يؤذي النبي صلى الله عليه
وسلم، ومرة أخرى يتعرى من كل معاني الرجولة التي كان يتحلى بها الرجل
العربي فيقتل امرأة لأنها قالت: لا إله إلا الله، والعرب كانوا يأنفون من خصام
المرأة فضلاً عن قتالها، ولكن أبا جهل نسي كل هذه المعاني؛ لأن فكره وعقله
وجميع جوارحه مشغولة عن كل ذلك بالعداء والكيد والحرب لهذا الدين، وينجح في
كل هذه الأمور التي كان يصبو إليها؛ ولكن الله ناصر حزبه ودينه.
وتأتي غزوة بدر التي كانت فيها نهاية الطاغية أبي جهل؛ لقد كان في هذه
المعركة كالأسد يجول بين الصفوف ويحمس جنده على القتال؛ وهو الرجل الكبير
في قومه القوي الفارس الشجاع. ولكن الله أذل أنفه وأخزاه أمام قومه فيقتله أصغر
القوم معاذ ومعوّذ ابنا عفراء، ويقضي عليه راعي الغنم عبد الله بن مسعود. وفي
آخر لحظات حياته وهو يلفظ أنفاسه لم يرجع عن مبدئه وهو المبدأ الباطل وهو
الذي يعلم الحق، هكذا كانت نهاية أبي جهل. أفلا يكون لك أيها المسلم درس في
سيرة هذا الرجل الذي أفنى عمره كله، وضحى بكل ما يملك مقابل مبدئه وديانته،
وهو لا يجهل بطلان ما يعمل وما يصنع، إنه لحري بك أن تنهج هذا النهج وأنت
الذي تسير على الحق وتعلمه، إنه لحري بك أن تقدم كل ما تملك مقابل هذا المبدأ
وهذا الدين حتى تموت عليه صامداً قوياً كما كان أبو جهل؛ ولكنك تفرح بهذه
النهاية التي مردُّها إلى الجنات والنعيم ونهاية أبي جهل وأمثاله إلى النيران والجحيم
قال - تعالى -: [ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] [النساء: 104] .(142/119)
مصابيح الدجى
عبد العزيز بن عبد الله العزاز
الأرض أخفت نورها وسناها ... وبكت من الأدنى إلى أقصاها
ما الأمر ما الخطب الجسيم ويا ترى؟ ! ... ماذا أصاب نفوسنا ودهاها؟
هذا ابن باز ذو السماحة والندى ... ربَّى فأسمى الروح إذ رباها
هو للعلوم منابر ومنائر ... ما كان أحسن نورها وضياها!
علم وفضل غامر وكرامة ... كم نعمة للناس قد أسداها
يا ساعياً في العلم بين بحاره ... فسبرت منها غورها ومداها
يا من ملأت قلوبنا بمحبة ... قد كنت من بين الورى ولاها
يا من تفارقنا بشاشة وجهه بصفائها ونقائها ... وشذاها
يا آمراً بالعرف تحمل همَّه تنهى عن الآثام لا ترضاها
أوقفت علمانيَّة خدَّاعة ... فكففت عنا سُمَّها وأذاها
ووهبت نفسك للإله إنابة ... لما كبحت جماحها وهواها
ودعوت حين دعوت قومك مخلصاً لا تبتغي مالاً بها أو جاها
يا أيها الفذ الوحيد بعصره نقّى الفؤاد ونفسه زكاها
هو همة هو قمة هو أمة نال الفضائل كلها وحواها
سَقَت السحائبُ مُرْوِيَاتٍ قبره وهمت بوافر ودقها ونداها
وجزى الإله صنيعه خير الجزا جنات عدن ما ألذ جناها!(142/120)
إن في الأخلاق نصراً
محمد عبد السلام الباشا
نحن أسرى للمآسي ... كم نعاني من ضرر
بأسنا فينا شديدٌ ... ما اتقينا بالحذر
والأعادي كم تمنتْ ... أنْ تُغطينا الحفر
إنَّ إسرائيلَ حَقد ... حلَّ فينا واستقر
صار يستعلي علينا ... في الأماسي والسحر
طفلُ لبنان اشتكى بل ... كمْ يُلاقي مِنْ كَدر
ضاعت الأخلاقُ فينا ... والتجني قد حضر
صارتِ الأخلاقُ تبكي ... كلُّنا لامَ القدر
قد أرى في الناسِ ذلاً ... قد تمادى وانتشر
لو رجعنا للسجايا ... قد أعادتْ ما انحسر
لا تكنْ إلا مع الأخلا ... ق تبني ما انكسر
إن في الأخلاقِ نصراً ... نالَهُ مَنْ قَدْ صَبَر
لو رجعنا نبتغي العل ... ياءَ لا نخشى الخطر
وانتظرنا الخيرَ يبدو ... سافراً فيه العبر
عيبُنا فينا فكنْ في ال ... حربِ عنوانَ الظفر
واستعنْ بالله دوماً ... لا تكنْ أعمى البصر
هكذا الأجدادُ كانتْ ... عندما طالَ الشجر
أنْ أرى أمجادنا عزاً ... بأوطاني ازدهر
حينها تبدو المعاني ... في التهاني والسّمَر(142/121)
الآيات القرآنية أسمى من الأهداف الإعلانية
حمدي محمد الهلال
ضمن السلسلة اللامتناهية من الأساليب الدعائية، طالعتُ مؤخراً أسلوباً جديداً
ومبتكراً، ربما يشكل سابقة خطيرة في هذا المجال، فقد صدَّرت إحدى الصحف
العربية في إحدى صفحاتها إعلاناً مؤطراً احتل مساحة إعلانية كبيرة تساوي الربع
الأخير من الصفحة، كان استهلال الإعلان مكتوباً كما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم: [إنا فتحنا لك فتحا مبينا] صدق الله العظيم، ثم
تعاقبت بقية كلمات الإعلان بخط أعرض قليلاً: ترقبوا بمشيئة الله - تعالى -
الافتتاح الكبير لقصر الـ (....) للأثاث، وتلتها مجموعة من الكلمات المتراقصة
الأخرى: أحدث التصميمات العالمية.. مودرن.. استيل.. من أفضل الخامات
الطبيعية ... إلخ.
المتفحص لهذا الإعلان سيجد فيه استغلالاً صارخاً لكلمات الله - عز وجل -
ومحاولة سافرة لاستخدام الآيات القرآنية في أغراض دعائية أراد المعلن من خلالها
مخاطبة مشاعر الجمهور ووجدانه، مستغلاً العوامل الدينية التي تلعب دوراً كبيراً
في توجيه سلوك الفرد وحثه على قبول فكرةٍ مَّا بمجرد الإيحاء له أنها دينية تخدم
دينه الإسلامي وعقيدته الحنيفة، وتم الربط بين الفتح المبين الذي ورد ذكره في
كتاب الله - عز وجل - وبين افتتاح محل الأثاث المعلن عنه.(142/122)
الفتور.. لماذا! ؟
أم عبد الله - الرياض
عندما تسمو الأهداف يسري في الجسد حماس لا ينطفئ ونشاط لا يخبو؛ لأن
الأهداف السامية ترقى بك في درجات الهمة العالية والرفعة درجةً درجة تجعلك
دائماً تتطلع إلى الأعلى؛ فحينما يضطلع الداعية همَّ الدعوة ويكون هدفه الأسمى
رضى الله فإن نشاطه وحماسه لا يخبو، وسيجد في نفسه شعوراً بالتقصير تجاه
الدعوة يدفعه إلى استنفار كل طاقاته وإمكاناته المادية والمعنوية، فتجده يجود بماله
وبدمه وبوقته في سبيل الدعوة إلى الله متدرعاً بالصبر مبتغياً ما عند الله غير آبه
ولا مُكترث لما قد يحدث له أو ما قد يفوته من حظوظ الدنيا، تجده في عمله في
غاية السعادة بالرغم من الصعاب أو العوائق أو المثبطات التي تواجهه في ليله
ونهاره، والتي قد تجعله أحياناً حبيساً، أو أن تكبل دعوته وتقطع وسائلها؛ بل
تكون هذه الصعاب شاحذة لهمته، لا يعرف الملل ولا الإدلال بالعمل إليه طريقاً،
ويظل نور ذلك الهدف السامي يبعث في جوانحه أملاً ببلوغ الخير للناس وإن طال
الزمن محسناً الظن بالله: [ «ولا تيأسوا من روح الله] [يوسف: 87] . أمَّا ذلك
الصنف من الذين أحبوا الدعوة ومنحوها كثيراً من إمكاناتهم ثم بعد فترة بدأ الفتور
يدب في أوصالهم، وضعفت الهمة وفقد الحماس للدعوة؛ فهل كانت أهدافهم سامية
أم أن سلوك طريق الدعوة كان يحقق لهم بعض الشعور بالرضى، أي إنهم يبحثون
عن أنفسهم من خلال العمل للدعوة؛ فهذا الصنف يدب الملل في أوصاله إن لم يجد
ما كان يحلم به، أو ما كان ينتظره من الناس، أو إن عرضت له بعض المثبطات، أو شعر بما يهدد أسباب معيشته أو راحته، أو إذا تعرض للنقد؛ لأنه باحث عن
نفسه في كل حركاته بالرغم من أنه يشعر في نفسه أنه يخدم الدعوة في سبيل الله،
لكن إحساسه بمصلحته أعظم من شعوره تجاه الدعوة، فتضيع جهوده التي يعتقدها
في الدعوة في ثنايا البحث عن مصلحته الشخصية، فلا غرابة أن يرى التخاذل بعد
الجهد والعمل؛ لأن الهدف هو وقود الحركة، فكلما كان الهدف سامياً كلما كان وقود
العمل يتجدد ولا ينضب، وكذلك كلما كان الهدف دنيوياً فإن الوقود سوف يكون
زائفاً، فلا يستمر الحماس ويذبل العمل ويقف السائر على درب الدعوة في الطريق. هذا إن لم تصحح الأهداف والنوايا: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم] [الرعد: 11] .(142/123)
النجم والأشباح
أحمد عبد الله محمد العاطفي
(حَدَث) :
يتدفق ضوء النجم
يكشف عن وجه الليل الكالح
... يفضح سِرَّهْ!
تجتمع الأشباح ...
تبحث أمر النجم الساطعْ
من يَئِدُ النجم؟ !
من يُغْمِضُ عين الصحراءْ؟ ! ...
... ... ***
(استشراف) :
لو حبس النجم بسجن الليل ...
لو لُفِّعَ أغلالاً وقيوداً
لو صودر كُلُّ ثمينْ
فالنجم له قلب يخفق! !
وسيرسل حُزَم الضوء ...
... تخترق الأغلالَ
تمزق شِدْق الصمت المزعومْ!
وستروي بَذْر النصرْ..
في رَحِمِ الصحراء المُحْرِقْ! !
فوليد الصحراء أصيل ... فوليد الصحراء أصيل
... ***
(أَمَلْ) :
تنفك قيود النجم
يعلو في أفق الصحراء
تلتفُّ على النجم نجوم ...
تكثر.. تكثر
تصبح شمساً! !
تبزغ شمس الصحراءْ
تسكبُ شلالَ ضياءْ
وتمزِّق أروقة الليل..
كي تبقى للعالم دوماً..
نبعَ صفاء! !(142/124)
استئناف التوبة بعد الطاعة
وشكر الله على توفيقه لأدائها
تركي بن سعيد الزهراني
مهما اجتهد العبد في أداء العبادة فلن يوفيها حقها؛ لذلك جاء في الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يُنجي أحداً منكم عملُه. قالوا: ولا أنت
يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة. سددوا وقاربوا واغدوا
وروحوا، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا) [1] .
فلا بد أن يختلج العبادة خلل ويعتريها نقص تختلف وتتفاوت مراتبه.
والاختلاف والخلل حسب الأشخاص واجتهادهم في أدائها. والخلل قد يكون مفسداً
للعمل من أصله كما قال الله - عز وجل - في عمل المشركين: [وقدمنا إلى ما
عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا] [الفرقان: 23] ، أو يكون الخلل في العمل
نفسه إذا لم يكن موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه
وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) [2] .
وهذان الأصلان هما شرطا قبول العمل؛ فالخلل في الأول مفسد لجميع
الأعمال، والخلل في الثاني مفسد للعمل نفسه.
ومن الأعمال ما يسقط عنها بعض الخلل بما يجبره كسجود السهو في الصلاة، أو القضاء في الصيام، أو الدم في بعض أعمال الحج.
فلا يسلم أحد من خلل يعتري أداء العبادة، أو إتمامها بكاملها في أقل الأحوال؛ فهو إذن بحاجة إلى أمرين:
الأول: أن يستغفر الله فيسأله الغفران مما أخل أو أنقص في عمله؛ فلا بد له
هنا من استئناف التوبة.
الثاني: أن يذكر الله - عز وجل - شكراً على ما أنعم به عليه من تمام
العبادة.
قال ابن القيم - رحمه الله -: (ومنزلة التوبة والاستغفار أول المنازل
وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك، ولا يزال فيها إلى الممات، وإن
ارتحل إلى منزل آخر ارتحل بها واستصحبها معه ونزل بها) [3] .
__________
(1) رواه البخاري، ح/3646، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل.
(2) رواه مسلم، ح/8171، كتاب الاعتصام، باب إذا اجتهد الحاكم.
(3) تهذيب مدارج السالكين، ص 121.(142/125)
يا قوم أجيبوا تفلحوا
ماجد بن عيد الحربي
سرني ما تناقلته وكالات الأنباء بشأن القرارالذي اتخذ من قبل نقابتَيِ،
الصيادلة في كل من مصر والأردن القاضي بمقاطعة الأدوية المصنعة في أمريكا
وبريطانيا، ومبعث سروري لا يكمن في كون القرار المذكور سيلحق الضرر
المطلوب باقتصاد هاتين الدولتين؛ فكلنا يعلم أن هذا القرار وحده لا يكفي لتحقيق
طموحات الأمة بردع غطرسة أعدائها وإضعاف هيمنتهم على بلدان المسلمين؛ فكما
هو معروف أن أمريكا - على سبيل المثال - لا تمثل الأدوية من تجارتها في البلاد
الإسلامية أكثر من واحد بالألف، وهذه النسبة أعتقد أنها لن تحدث أي ضرر قد
يؤدي إلى تغيير سياستها مع المسلمين؛ ولكن مبعث سروري وسرور كل مواطن
تهمه مصلحة أمته وكرامتها هو أن هذا القرار صدر عن دوائر فاعلة - أعني
النقابات الممثلة للأمة بكل شرائحها التخصصية - فهذه النقابات تقيس نبض الشارع
الإسلامي، وتعبر عما يفكر به المواطن، وتتخذ القرارات المناسبة لصيانة مصالح
الأمة، بعيداً عن مراكز السلطة.
فمن المؤكد أنه لو التزمت جماهير الأمة بما التزم به الإخوة في نقابتي
الصيادلة في القاهرة وعمان وقاطعت جميع المنتوجات الأمريكية للمسنا أثر ذلك
على سياسة الدولة الأقوى في العالم، ومن بديهيات الأمور أن يأتي عظماؤها إلى
بلادنا وهم أذلة، ووقتها نستطيع أن نملي عليهم ما نرغب إلغاءه من بنود معاهداتهم
الظالمة مثلما أتى زعماء قريش إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه تعديل
بنود الحديبية، فدعونا نفترض أن ستمائة مليون مسلم قاطعوا المنتوجات الأمريكية
وهذا العدد يمثل نصف تعداد المسلمين ونفترض أيضاً أن متوسط ما يتبضع به كل
فرد يعادل دولاراً واحداً في اليوم لوجدنا بالنهاية أن أمريكا تخسر في تجارتها
الخارجية مع المسلمين ما قيمته مائتان وتسعة تريليون دولار بالسنة. قطعاً لن
تتحمل الإدارة الأمريكية هذه الخسارة وسوف تضحي بجميع الامتيازات التي
حصلت عليها من أمتنا أيام تخاذلها؛ لأنها ستعلم وقتها أننا أمة تستطيع أن تدافع
عن حقوقها وتعتز بانتمائها لدينها.(142/126)
الهروب إلى الأمام
د. شاكر عبد الرحمن السروي
إنّ مما نعانيه على نطاق واسع في عالمنا الإسلامي اليوم هو ظاهرة لوم
الآخر وتحميله المسؤولية تجاه ما يصيبنا وما يحدث من حولنا في محاولة يائسة
للهرب من مواجهة الحقائق، فلا تحلُّ بنا مصيبة أو تنزل بنا كارثة حتى نسارع
إلى كيل السباب والشتائم لأعدائنا، رافعين أكف الضراعة مستجيرين بربنا أن
يمحق عدونا، وأن يرفع رايتنا، وأن يعز ديننا.
وإلى هنا تقف بنا ردة الفعل لنبقى في عالم التيه، ندور في حلقة مفرغة،
ننتظر قارعة أخرى لنعيد الكرّة تلو الكرّة، كرّات تُورث الحسرة وتسكب العبرة من
كل قلبٍ فَقِهٍ فَطِنٍ.
ومما لا شك فيه أن حتمية الصراع بين دين الحق (دين الإسلام) وبين غيره
من الأديان والمشارب والأفكار قائم، وأن كيدهم لهذا الدين وأهله واقع مُشاهَد.
إلا أن الغرابة تكمن في نسياننا أو تناسينا دورنا السلبي وخللنا الذاتي في
حدوث تلك المصائب والأخطاء، ومن ثَمَّ تعميقها والعمل - بقصد أو بدون قصد -
على استفحال أمرها.
إنّ مبدأ لوم النفس والسعي للتعرف على أخطائها - في محاولة لتجاوز
العوامل الداخلية لأسباب النكسات - هو أمر قد قررته الشريعة الإسلامية منذ أوائل
العهد الإسلامي، وذلك يوم أن نزل القرآن مخاطباً جيل الصحابة بعد أن أصيبوا في
أحد: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
لقد صارت ظاهرة الهروب من مواجهة الواقع ومحاولة التملص من تبعاته من
الانتشار والتنوع بحيث صار من اللازمة على العلماء والدعاة وقادة الأمة أن يسعوا
في علاجها، ويعملوا على إزالة موجباتها من عقول أفراد الأمة على اختلاف
مستوياتهم.
إن الاستمرار في هذه السلبية - المغلّفة - هي غاية ما يتمناه أعداؤنا؛ بل وما
يسعون لتأصيله في واقعنا؛ لنبقى أسراء القولة المشهورة: (ليس في الإمكان أحسن
مما كان) .
إن مشروع إحياء موات الأمة وإيقاظها من سباتها يستلزم بعث روح الشجاعة
في أفرادها على مواجهة ذواتهم وتقويم أحوالهم لتشخيص أدوائهم حتى يتسنى لهم
بعد ذلك التداوي والعلاج، قال الله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
إن الأمة إن فعلت ذلك فإنها ستكون أقدر على الانتصاب من ضجعتها،
والانطلاق بسرعة هاربةً من وهدتها؛ ولكنْ - هذه المرة - قُدماً إلى الأمام.(142/127)
رجب - 1420هـ
نوفمبر - 1999م
(السنة: 14)(143/)
كلمة صغيرة
نظرة في دمعة
إن من دواعي سرور القائمين على البيان تفاعل قراؤها مع ما ينشر فيها
وتواصلهم مع مجلتهم، أيا كان هذا التفاعل والتواصل، بالإعجاب والتعضيد أم
بالنقض والتوجيه؛ فالكلمة الباردة وحدهها هي التي لا تلقى تفاعلا من قرائها،
وتمر على بصره ولا تحرك بصيرته.
ومن هذا التفاعل ما وصلنا من ردود أفعال حول ملف القبور والأضرحة الذي
نشر على صفحات العددين (131، 132) ، ثم نشر موسعا لاحقا في كتاب من
إصدارات المنتدى الإسلامي بعنوان: (دمعة على التوحيد) ، وقد لاقى الكتاب
بحمد الله استحسانا وقبولا من كثير من القراء، كما استقبله بعضهم بشيء من
الفضول وأحيانا التوجس ليس اعتراضا على ما فيه وتفنيدا لما احتواه، لكن
لاعتبارات أخرى تتعلق بطبيعة الموضوع محل النقاش، وإلى هؤلاء الأخوة
العاتبين نقول بعد شكرهم على إيجابيتهم وتفاعلهم:
إن موضوع الكتاب لا يمس مشكلة تاريخية مضت وانقضت، بل ما زال لها
امتدادها وانتشارها في العالم الإسلامي، وكونهم لا يعايشون هذه المشكلة في واقعهم
فإن هذا لا ينفي وجودها المستفحل في أماكن عديدة على امتداد العالم الإسلامي.
إن موضوع الكتاب يعالج مسألة تمس أصل الدين الذي ينجو به المسلم، ولا
يستوي ذلك بالطبع مع مناقشة مسألة فرعية أو فضيلة من فضائل الأعمال، ونظن
أن المسلمين لا يختلفون على أن تحقيق التوحيد والبرءة من الشرك لا ينبغي تأجيله
أو التغاضي عنه.
والكتاب رغم كونه يركز على التعرض لقسم من أقسام التوحيد وما يضاده،
إلا أنه لم يغفل الإشارة إلى الأقسام الأخرى والتنبيه على الارتباط بين أقسام التوحيد
كله، كما أنه لا مانع من وجود نوع من التخصص العلمي والدعوي في تناول
بعض القضايا ضمن نظرة شاملة متكاملة.
صحيح أن كثير من العلماء تناول هذا الموضوع قديما وحديثا، ولكن هذا لا
يمنع تناوله مجددا، ولو لم تجد هيئة التحرير أن في الملف ثم الكتاب جديدا تقدمه
للقارئ لما أقدمت على نشره.
وأخيرا فإننا في حاجة إلى العمل المتكامل والجهود المتضافرة؛ حتى تكون
نهضتنا منقوصة أو مبتورة، وهذا ما تحاول البيان العمل على تحقيقه.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى(143/1)
الافتتاحية
اقترب الفجر
لا شك أن المحن التي تمر بالمسلمين اليوم شديدة، إلا أن انعدام الرؤية
لانجلائها أشد على النفوس من المحنة ذاتها؛ فالمرء قد يسعه الصبر في المحنة،
ويعينه على الثبات علمه أن للمحنة نهاية قريبة، أمَّا إن خفيت النهاية، فهنا قد
يعبث اليأس بالصبر، ويحل القنوط.
وقد لا تحتاج محن المسلمين إلى مزيد توصيف وتكييف أو حتى تزييف
يبعدها عن حقيقتها.
وواقع الأمة مليء بالشواهد والفواجع بما لا يحتاج إلى مزيد بيان في التفصيل.
فأعظم محنة يمر بها المسلمون اليوم هي تنحية شرع الله - تعالى - عن
الحياة: في الحكم والتشريع، والقضاء، والمعاملات، والسلوك، ولعل هذه المحنة
هي ما انفردت به أمتنا في عصرنا الراهن، دون عصور إسلامية سبقت؛ فكم
مرت بأمة الإسلام محن وشدائد! إلا أنهم كانوا يستظلون بحكم الله، وإن اعترى
تطبيقه بعض القصور في بعض العصور.
ثم تأتي الغربة على أهل الدين شديدة قاسية وهم بين ظهراني قومهم
وعشيرتهم؛ فبعد غربة الدين في الحياة تأتي غربة أهله بارتضائهم له منهجاً للحياة
وسلوكاً ينير دروبهم، وهو ما يتعارض مع واقع قطاع كبير من الأمة، وهنا منشأ
الغربة.
وكان من لوازم تلك الغربة أن نشأت عنها محنة أخرى تابعة لها هي محنة
الابتلاء الشديد الواقع على الدعاة بمختلف صنوفه وصوره حتى طال كثيراً على
السالكين طريق الدعوة، وكم هو مؤلم انتفاش الباطل وأهله وتقلبهم في البلاد! حقاً
إنه مؤلم للنفوس الأبية، المستمدة قوتها من خضوعها لرب العزة.
وتبع الدعاة ما هو أشد من ذلك عليهم، وهو لزوم الصمت والتوقف عن
العمل لنصرة هذا الدين، مجبرين لا مختارين، مهادنين ومهدئين، وهو ما يصعب
على أُناس كانت حركتهم للدعوة وقود حياتهم وماءها وهواءها.
وإن توسعت بنا دائرة المحن، فسوف توصلنا إلى آلام الأمة من مشارقها إلى
مغاربها؛ فهذا العزوف الشديد عن الدين والانخراط في تيار الغواية قد ضم قطاعاً
كبيراً من المسلمين عاشوا على هامش الحياة.
وقطاع آخر وقع عليهم البلاء الشديد من قتل وتشريد وانتهاك حرمات مما
يدمي القلوب ويدمع العيون، ويملأ النفوس ألماً يزيد من لأوائها، مع قلة الناصر
وهول المصيبة.
ثم تأتي إحدى المحن الكبار بغياب عدد كبير من مصابيح الضياء، أعلام
الهدى، أئمة الدين، العلماء العاملين، الذين يُؤْذِن موتهم بقبض العلم ونشر الجهل، فكان في موتهم مصيبتان:
الأولى: فقدهم بعلمهم وعملهم وبركتهم على الأمة.
الثانية: إرهاص بالمحنة التي تليهم، محنة الرؤوس الجُهَّال في كثير من
البلدان.
ولو تتبعنا محن الأمة لطال بنا المقام والكلام والآلام، وهذه الصورة القاتمة
ينظر إليها بعض الناس ويتساءل: متى نصر الله؟ ولا شك أن شدة المحنة تصيب
قطاعاً كبيراً من عامة الأمة باليأس والقنوط لضعف اليقين بوعد الله.
وحينما يبلغ القنوط واليأس مبلغه، ينتكس بعض الناس على عقبيه شاكّاً في
موعود الله الحق.
ألا وإن في هذه الشدة الشديدة للمحنة منحاً كثيرة من الله - تعالى - لا تخفى؛
ولكن ما ينبغي النظر إليه هو أن المحنة دائماً في رحمها الفَرَجُ والنصر - بإذن الله- فقد روى الطبري عن قتادة أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
يا أمير المؤمنين أجدبت الأرض، وقحط المطر، وقنط الناس! قال: إذن مطرتم
ثم تلا قول الله - تعالى -: [وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر
رحمته] [الشورى: 28] [1] .
وكان قبل ذلك يأس الرسل الذي حكاه الله - تعالى - في سورة يوسف مثالاً
على أن الفَرَجَ من لوازم المحنة: [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا
جاءهم نصرنا] [يوسف: 110] .
وإن كانت شدة المحن لتنسي ما وراءها من الفرج والفرح، وأن العاقبة إلى
خير.
وكم من حادثة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
إن هذه النظرة " الأَمَلِيَّة " الموقنة بصدق وعد الله لهي من مخففات المحن،
وهي بلسم ليأسٍ يراود النفس عند شدة الآلام، كما أنه يلزم عدم اعتبار العامل
الزمني الدنيوي مقياساً لزمن الانفراج.
وقد ذكَّر الله - تعالى - نبيه وصحابته بذلك في قوله: [أم حسبتم أن
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب]
[البقرة: 214] .
وعن أبي رزين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضحك ربنا من
قُنوط عباده وقرب غِيَره، قلت: يا رسول الله! أوَ يضحك الرب؟ قال نعم! قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً [2] .
وذات يوم قال ولد لوالده: يا أبةِ! اشتدت ظلمة الليل. قال: يا بني! اقترب
الفجر.
__________
(1) تفسير الطبري، ج/21، ص 537.
(2) ابن ماجه، ح/177.(143/94)
إشراقات قرآنية
وقفات مع قوله - تعالى -: (ألهاكم التكاثر)
د. عبد الرحمن آل عثمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
وبعد:
الوقفة الأولى [1] :
الإلهاء: الصرف إلى اللهو، من (لها) إذا غفل.
وكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك.
يُقال: لها بالشيء: أي: اشتغل به، ولها عنه: إذا انصرف عنه.
وهو: صرف الهمِّ بما لا يحسن أن يُصرف به من الإعراض عن الحق،
والاشتغال بالمتع العاجلة عن الدار الباقية، والميل عن الجد إلى الهزل.
وبالجملة: فكل باطل شغل عن الخير وعما يعني فهو لهو.
وبهذا تعلم أن كل ما أشغل المرء عما يعنيه ويهمه فهو لهوٌ؛ وعليه فهو ملازم
للغفلة - وقد فسره بعضهم بها - وإن كان شائعاً في كل شاغل.
وقيده بعضهم بالشاغل الذي يسر المرء، وهو قريب من اللعب.
الوقفة الثانية:
قرن الله بين اللهو واللعب في آيات من كتابه كقوله: [وما الحياة الدنيا إلا
لعب ولهو] [الأنعام: 32] .
وقوله: [وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب] [العنكبوت: 64] .
وقوله: [إنما الحياة الدنيا لعب ولهو] [محمد: 36] .
وقوله: [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة] [الحديد: 20] .
وقوله: [وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا] [الأنعام: 70] .
وقوله: [الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا]
[الأعراف: 51] .
والعطف يقتضي المغايرة، وقد تعرَّض العلماء لبيان الفرق بين اللهو
واللعب [2] .
فقال بعضهم: اللهو: صرف الهم بما لا يحسن أن يُصرف به.
واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يُطلب به.
وقيل: اللهو: الاستمتاع بلذات الدنيا.
واللعب: العبث.
وقيل: اللهو: الميل عن الجد إلى الهزل.
واللعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع.
وقيل: اللهو: الإعراض عن الحق.
واللعب: الإقبال على الباطل.
وقال العسكري: (الفرق بين اللهو واللعب: أنه لا لهو إلا لعب، وقد يكون
لعب ليس بلهو؛ لأن اللعب يكون للتأديب ... ولا يقال لذلك لهو، وإنما اللهو لعب
لا يعقب نفعاً، وسُمي لهواً؛ لأنه يشغل عما يعني، من قولهم: ألهاني الشيء، أي: شغلني، ومنه قوله - تعالى -: [ألهاكم التكاثر] [التكاثر: 1] ) اهـ[3] .
ومن تأمل هذه الأقوال تبين له مدى التقارب بين معنى اللهو واللعب، ولعل
من أحسن الفروقات بينهما ما ذكره الحافظ شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - من
أن اللهو للقلب، واللعب للجوارح، قال: (ولهذا يجمع بينهما) اهـ[4] .
الوقفة الثالثة [5] :
قوله: ألهاكم أبلغ في الذم مما لو قال: (شغلكم) لعدم التلازم بين اللهو
والاشتغال؛ ذلك أن الإنسان قد يشتغل بالشيء بجوارحه وقلبه غير لاه به. بينما
اللهو ذهول وإعراض.
الوقفة الرابعة [6] :
اللهو عن الشيء: إن كان بقصد فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد -
كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة: (إنها ألهتني عن صلاتي) [7]- كان
صاحبه معذوراً، وهو نوع من النسيان.
الوقفة الخامسة [8] :
التكاثر: التباهي بالكثرة من المال والجاه والولد وغير ذلك مما سيأتي. فهو
تفاعل من الكثرة.
والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون بين اثنين فأكثر، فيكون من باب المُفَاعَلَة.
الثاني: أن يكون من فاعل واحد لكن على سبيل التَكَلُّف، تقول: تحاملت
على كذا، وتباعدت عن كذا، وتعاميت عن الأمر وتغافلت عنه.
الثالث: أن يُراد به مطلق الفعل، كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت
عنه.
والتكاثر هنا يحتمل الوجهين الأولين: فيحتمل أن يكون التكاثر بمعنى
المفاعلة؛ لأنه تم من اثنين يقول كل واحد منها لصاحبه: [أنا أكثر منك مالا
وأعز نفرا] [الكهف: 34] ، ويحتمل تكلُّفَ الكثرة وتطلُّبَها؛ فإن الحريص - مثلاً- يتكلف جميع عمره تكثير ماله.
الوقفة السادسة [9] :
لم يعين - سبحانه وتعالى - المُكَاثَر به، بل ترك ذكره؛ إما لأن المذموم هو
نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثَر به، كما يقال: شغلك اللعب واللهو. ولم يذكر ما
يلعب ويلهو به.
وإما لإرادة العموم؛ لأن حذف المقتضي يدل عليه كما تقرر في عِلْمَيِ
الأصول والبيان [10] .
ولا يخفى أن العموم والإطلاق أبلغ في الذم؛ لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب؛ فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مما يتكاثر به المتكاثرون ويفتخر به المفتخرون
من الأموال والأولاد والخدم والجاه والأعوان وغير ذلك مما يُقصد بالمكاثرة، وليس
المقصود منه وجه الله كما سنبين في:
الوقفة السابعة:
يدخل تحت العموم المشار إليه كل ما يتكثَّر به العبد أو يكاثر به غيره سوى
طاعة الله، قال ابن القيم - رحمه الله -: (التكاثر في كل شيء؛ فكل من شغله
وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية؛
فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال أو بالجاه، ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم، فيجمع
العلم تكاثراً أو تفاخراً، وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه
جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر
بأسبابها) [11] .
ومعلوم أن التكاثر والتفاخر إنما يكون بالأمور التي يُتوسل بها إلى تحقيق
السعادة مطلقاً، سواء كانت عاجلة أم آجلة، وسنقصر الحديث في هذه الوقفة على
السعادة العاجلة، لأنها المقصودة في التكاثر المذموم. أما المطلوبات التي يتهافت
عليها المتهافتون توسلاً إلى السعادة القريبة الفانية فهي نوعان:
الأول: مطلوبات مادية من الأموال والمراكب والأثاث والرياش والدور
والبساتين والغراس والخدم والأولاد وألوان الملبوسات والمطعومات، وكذا التكاثر
في الكتب والتصانيف على حساب التحقيق فيها. وغير ذلك مما لا يُقصد به وجه
الله؛ فالتكاثر به مذموم، وهذا النوع ذمه ظاهر لا يخفى.
الثاني: مطلوبات معنوية، وذلك يشمل العلم الذي لا يُبتغى به وجه الله، كما
يشمل ما يلحق بالعلم مما لا ينبني عليه اعتقاد ولا عمل كالمسائل الفرضية، وتكثير
الأقوال من غير حاجة، وقطع الأوقات في الوقوف عند الأمثلة والتعريفات أو ما
يُعرف بالخلاف الصوري، وكذا التكثُّر بالمسائل وتفريعها وتوليدها، وكمن يترك
المهم من التفسير ويشتغل بالأقوال الشاذة، أو يترك المهم من الفقه ويشتغل بنوادر
الفروع وعلل النحو وغيرها. أو يتكثر بالتخريجات أو الطرق للحديث الصحيح
الذي لا يحتاج إلى هذه الطرق الزائدة أو الشواهد، ومثل هذا يُقال في كثرة العزو
إلى الكتب المصنفة مع كون الحديث مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما.
ومن لطيف ما ورد في هذا المعنى ما أخرجه ابن عبد البر - رحمه الله - في
جامعه (2-1034) عن حمزة الكناني - رحمه الله - قال: (خَرَّجت حديثاً واحداً
عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق - شك
الراوي - قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك، قال:
فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكريا! خَرَّجتُ
حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال: فسكت عني
ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر.
وقد ساق الشاطبي - رحمه الله - هذه الحكاية في الموافقات [12] وعقبها
بقوله: (وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كافٍ في
المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً) .
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن قوماً أكثروا جمع الحديث ولم يكن
مقصدهم صحيحاً ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق؛ وإنما كان
مرادهم العوالي والغرائب، فطافوا البلدان ليقول أحدهم: لقيت فلاناً، ولي من
الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري ... وهذا كله من
الإخلاص بمعزل؛ وإنما مقصدهم الرئاسة والمباهاة، ولذلك يتبعون شاذ الحديث
وغريبه) اهـ[13] .
ومما يدخل في هذا اللون من التكاثر المذموم: التكاثر بالجاه والشهرة
والرئاسات وثناء الخلق! !
قال الإمام الزهري - رحمه الله -: (ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في
الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال فإذا نُوزِعَ الرياسة حامى
عليها وعادى) [14] ! !
فكما أن المال: ملك الأعيان المنتفع بها فإن الجاه ملك القلوب المطلوب
تعظيمها وطاعتها والتصرف فيها من تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، وهو اعتقاد
القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة أو نسب أو
قوة أو إعانة أو حسن صورة أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالاً؛ فبقدر ما يعتقدون
له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره [15] .
والحقيقة أن هذا اللون من المكاثرة أشد فتكاً وأعظم خطراً من المكاثرة
بالأموال والأولاد مما يدخل تحت النوع الأول؛ ذلك (أن أكثر الناس إنما هلكوا
لخوف مذمة الناس وحب مدحهم؛ فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضى
الناس رجاء المدح وخوفاً من الذم؛ وذلك من المهلكات) [16] .
ولا يخفى أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة
الخلق مشغوفاً بالتردد إليهم والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما
يعظِّم منزلته عندهم ويقتنص به قلوبهم! ! وهذا جذر النفاق وأصل الفساد [17] ؛
لأنه يحمل صاحبه على تقديم رضا الخلق على رضا الرب مما يؤدي إلى رقة الدين
والعياذ بالله، فتجده إن أفتى الناس مال مع أهوائهم، وإن صلى إماماً لهم تلاعب
بالصلاة مجاراة لأذواقهم من إخلال بالمواقيت، أو في الصفة؛ لا سيما في التراويح
والقيام؛ حيث ترى أعاجيب متنوعة: من مقتصر على آية واحدة بعد الفاتحة في
كل ركعة، ومن محوِّل الدعاء في القنوت إلى موعظة، ومن متكلف للبكاء [18] ،
ومن مصلٍّ بهم في كل يوم بعدد مغاير في الركعات لليوم الذي قبله (حسب الطلب) ، ومن متكلف في الدعاء موافقة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى [19] ...
وغير ذلك مما قد يُبتلى به العبد مكاثرة في المأمومين أو غير ذلك مما يدخل في
عموم قوله: ألهاكم التكاثر وإنما لكل امرئ ما نوى.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (ومنهم - أي العلماء وطلاب العلم - من
يفرح بكثرة الأتباع، ويلبِّس عليه إبليس أن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما
مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر، وينكشف هذا بأنه لو انقطع بعضهم
إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه! ! وما هذه صفة المخلص في
التعليم) اهـ[20] .
وقد كان السلف الصالح يَتَوَقَّوْن هذه المزالق أشد التوقي، ويتحاشَوْن الوقوع
فيها؛ فعن سليمان ابن حنظلة قال: أتينا أُبي بن كعب - رضي الله عنه - لنتحدث
إليه، فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه، فرهقنا عمر، فتبعه فضربه بالدرة! ! قال:
فاتقاه بذراعيه. فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع؟ ! قال: أوَ ما ترى؟ ! فتنة
للتابع مذلة للمتبوع [21] .
ولما مشوا خلف علي - رضي الله عنه - قال: (عني خَفْقَ نعالكم؛ فإنها
مفسدة لقلوب نوْكَى الرجال) [22] .
وخرج ابن مسعود - رضي الله عنه - من منزله فتبعه جماعة فالتفت إليهم
وقال: علامَ تتبعوني؟ فواللهِ لو تعلمون ما أُغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان.
وفي بعض الروايات: ارجعوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وكان أبو العالية - رحمه الله - إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام! !
وكان خالد بن معدان - رحمه الله - إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة
الشهرة.
وقال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب السختياني لحاجة فلا يدعني أمشي معه،
ويخرج من ها هنا وها هنا لكي لا يُفطن له [23] . وكان الإمام أحمد - رحمه الله
- إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد، وكان يقول: أشتهي مكاناً لا يكون فيه
أحد من الناس [24] .
وكان يقول: (طوبى لمن أخمل الله ذكره) [25] .
وعن الحسن - رحمه الله -: (لا تغرنك كثرة من ترى حولك؛ فإنك تموت
وحدك، وتُبعث وحدك وتحاسب وحدك) .
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (لو رأيت رجلاً اجتمع الناس
حوله لقلت: هذا مجنون! ! من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يُجوِّد كلامه
لهم؟) [26] .
وقال الأعمش: (جهدنا بإبراهيم حتى نجلسه إلى سارية فأبى) [27] . وكان
الحارث بن قيس الجعفي يجلس إليه الرجل والرجلان فيحدثهما فإذا كثروا قام
وتركهم [28] .
وكان محمد بن سيرين إذا مشى معه الرجل قام فقال: ألك حاجة؟ فإن كانت
له حاجة قضاها، وإن عاد يمشي معه قام فقال: ألك حاجة؟ ! [29] وقال إبراهيم
النخعي: إياكم أن تُوطَأ أعقابُكم [30] .
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلنا لعلقمة: لو صليت في المسجد وجلسنا
معك فتُسأل؟ ! قال: أكره أن يُقال: هذا علقمة [31] .
وقال حماد بن زيد: كنت أمشي مع أيوب السختياني فيأخذ في طرق إني
لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس أن يُقال: هذا أيوب [32] . وأخبار
السلف في هذا كثيرة لا يسع المقام الاستطراد فيها بأكثر من هذا، وإنما أختم لك
بهذا الخبر: قال عبد الرحمن بن مهدي: كنت أجلس يوم الجمعة، فإذا كثر الناس
فرحت، وإذا قلوا حزنت. فسألت بشر بن منصور، فقال: هذا مجلس سوء فلا
تعدْ إليه، فما عدت إليه! ! [33] .
الوقفة الثامنة [34] :
علق الله - تعالى - الذم في الآية على التكاثر الملهي عن التزود للآخرة،
لكن لو حصلت الكثرة من غير تكاثر لم تضر، وقد كان بعض الصحابة أهل كثرة
في المال أو الولد، ولم تضرهم لكونها حاصلة من غير تكاثر كما لا يخفى.
الوقفة التاسعة:
بما مضى تبين أن الذم في الآية واقع على التكاثر في متاع الدنيا الزائل
ولذَّاتها الفانية. أما التكاثر بأسباب السعادة الأخروية فهو مطلوب شرعاً [35] :
[وفي ذلك فليتنافس المتنافسون] [المطففين: 26] وعليه فالتكاثر من حيث تعلُّق الذم
والحمد قسمان: محمود، ومذموم.
(فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه،
وتكمل به وتزكو، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكاثرها غيرها في ذلك، وينافسها
في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.
وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم؛ فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله وعن الدار
الآخرة، وهو جارٌّ إلى غاية القلة، فعاقبة هذا التكاثر: قلٌّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يُذكِّر بالله وبنعمه، وعاقبته
الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى، وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى
غيره أفضل منه قولاً، وأحسن منه عملاً، وأغزر منه علماً، وإذا رأى غيره أكثر
منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو
قادر على المكاثرة بها، وليس هذا التكاثر مذموماً، ولا قادحاً في إخلاص العبد،
بل هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج - رضي الله عنهم - في تصاولهم بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته
ونصرته.
وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر - رضي الله عنهما - فلما تبين لعمر
مدى سبق أبي بكر له قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبداً) [36] .
فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه -
عز وجل -. أما التكاثر بما يفنى فهو تكاثر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع
الإنسان من الاشتغال بتحصيل السعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويصرفه
عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد في نفسه وصفاء الفطرة والعقل
والكمالات المعنوية الباقية [37] .
الوقفة العاشرة [38] :
قوله: ألهاكم التكاثر خبر يتضمن تقريعاً وتوبيخاً وتحسراً.
الوقفة الحادية عشرة:
(ألهاكم التكاثر خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء
والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور
لمن ألهاه.
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن
في تناول الذم له من حيث هو إنسان، كقوله: [وكان الإنسان عجولا]
[الإسراء: 11] ، [وكان الإنسان كفورا] [الإسراء: 67] ، [إن الإنسان لربه لكنود] [العاديات: 6] ، [وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا] [الأحزاب: 72] ، ... [إن الإنسان لكفور] [الحج: 66] ، ونظائره كثيرة.
فالإنسان - أيُّ إنسانٍ - هو عارٍ عن كل خير من العلم النافع، والعمل
الصالح، وإنما الله - سبحانه - هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه، وليس له ذلك
من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل،
وكل علم وعدل وخير فيه فمِنْ ربه، لا من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته
التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريداً
للآخرة مؤثراً لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو مُلْتَهٍ بالتكاثر في
الدنيا ولا بد) [39] .
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة (كتاب اللام، باب اللام والهاء وما يثالثهما) ، ص939، المفردات للراغب (مادة لهو) 748، تفسير القرطبي 6/414، الفوائد لابن القيم، ص32، أنوار التنزيل
2/618، الكليات، ص778، 799، روح المعاني 30/286.
(2) انظر: الفروق اللغوية، للعسكري، ص210، الفوائد لابن القيم، ص 32، الكليات،
ص799.
(3) الفروق اللغوية ص 210
(4) الفوائد، ص32.
(5) الفوائد، ص32.
(6) الفوائد، ص32.
(7) البخاري، 2/575، ومسلم 2/192 من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8) انظر: التفسير الكبير 32/75، الفوائد، ص 32، أنوار التنزيل2/ 618.
(9) انظر: عدة الصابرين 183184، الفوائد، ص32، فتح البيان، لصديق خان 10/435، تفسير السعدي 8/262.
(10) شرح الكوكب المنير 3/197، قواعد التفسير2/597.
(11) عدة الصابرين، 172.
(12) الموافقات: 1/114.
(13) تلبيس إبليس، 116.
(14) السير، 7/262.
(15) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص 211.
(16) ما بين الأقواس () من مختصر منهاج القاصدين، ص 212.
(17) انظر المصدر السابق، ص 211.
(18) كان أبو وائل رحمه الله إذا صلى في بيته نشج نشيجا لو جعلت له الدنيا على أن يفعله واحد يراه ما فعله، وكان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قام.
(19) تنبيه: الرواية التي فيها سرد هذه الأسماء لا تصح؛ والله أعلم.
(20) تلبيس إبليس، 131.
(21) سنن الدارمي، 1/132.
(22) سنن الدارمي، 1/134 والنوكي: جمع أنوك وهو الأحمق، (لسان العرب) .
(23) السير، 6/22.
(24) المصدر السابق، 11/226.
(25) المصدر السابق، 11/207.
(26) السير، 8/383.
(27) سنن الدارمي، 1/132.
(28) سنن الدارمي، 1/132.
(29) سنن الدارمي، 1/132.
(30) سنن الدارمي، 1/132.
(31) السير، 4/58.
(32) المصدر السابق، 6/22.
(33) المصدر السابق، 9/196.
(34) انظر: عدة الصابرين، 191193.
(35) انظر: القرطبي 6/414.
(36) ما بين الأقواس () من كلام ابن القيم في عدة الصابرين ص191- 193.
(37) انظر التفسير الكبير 32/76، لباب التأويل، 4/285، محاسن التأويل، 17/242.
(38) انظر: المحرر الوجيز، 16/358.
(39) ما بين الأقواس () من كلام ابن القيم في عدة الصابرين ص 183- 194.(143/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أعياد الكفار وموقف المسلم منها
(1/ 2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت الدنيا، واتباع فئام من الأمة
المحمدية أهلَ الباطل في باطلهم من يهود ونصارى ومجوس وعباد أوثان وغيرهم، وبقاء طائفة على الحق رغم الضغوط والمضايقات، كل ذلك سنن كونية مقدرة
مكتوبة، ولا يعني ذلك الاستسلام وسلوك سبيل الضالين؛ لأن الذي أخبرنا بوقوع
ذلك لا محالة حذَّرنا من هذا السبيل، وأمرنا بالثبات على الدين مهما كثر الزائغون، وقوي المنحرفون، وأخبرنا أن السعيد من ثبت على الحق مهما كانت الصوارف
عنه، في زمن للعامل فيه مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمل الصحابة -
رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله
عنه -[1] .
ولسوف يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقوام ينحرفون عن الحق
صوب الباطل يغيرون ويبدلون، وعقوبتهم أنهم سيُحجزون عن الحوض حينما يَرِده
الذين استقاموا ويشربون منه كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (أنا فرطكم على
الحوض؛ وليُرفعن إليَّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني
فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وفي رواية:
(فأقول: سحقاً لمن بدَّل بعدي) [2] .
ومن أعظم مظاهر التغيير والتبديل، والتنكر لدين محمد صلى الله عليه وسلم
اتِّباع أعداء الله - تعالى - في كل كبيرة وصغيرة، باسم الرقي والتقدم، والحضارة
والتطور، وتحت شعارات التعايش السلمي والأخوة الإنسانية، والنظام العالمي
الجديد والعولمة والكونية، وغيرها من الشعارات البراقة الخادعة. وإن المسلم
الغيور ليلحظ هذا الداء الوبيل في جماهير الأمة إلا من رحم الله - تعالى - حتى
تبعوهم وقلدوهم في شعائر دينهم وأخص عاداتهم وتقاليدهم كالأعياد التي هي من
جملة الشرائع والمناهج. والله - تعالى - يقول: [ولا تتبع أهواءهم عما جاءك
من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا] [المائدة: 48] ، ويقول تعالى: [لكل
أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه] [الحج: 67] أي: عيداً يختصون به.
وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله - تعالى - خاصة
النصارى في أعيادهم الكبرى كعيد ميلاد المسيح - عليه الصلاة والسلام -
(الكريسمس) وعيد رأس السنة الميلادية، ويحضرون احتفالات النصارى بها في
بلادهم؛ بل نقلها بعضهم إلى بلاد المسلمين - والعياذ بالله - فإن البلية الكبرى
والطامة العظمى ما يجري من استعدادات عالمية وعلى مستوى الدول النصرانية
الكبرى للاحتفال بنهاية الألفية الثانية والدخول في الألفية الثالثة لميلاد المسيح ابن
مريم - عليه الصلاة والسلام -. وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في
كل رأس سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية قرن ميلادي (القرن العشرين) ؛
بل بنهاية ألف ميلادية هي الثانية؟ إنه حدث ضخم تستعد له الأمم النصرانية بما
يناسب حجمه وضخامته.
إن هذا الحدث النصراني لن يكون الاحتفال بليلة رأس السنة فيه كما هو
المعتاد في بلاد النصارى فحسب وفي قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل الاستعدادات جارية
ليكون مركز الاحتفال الرئيس (بيت لحم) موضع مولد المسيح - عليه الصلاة
والسلام - وسينتقل إليها أئمة النصارى السياسيون والدينيون: الإنجيليون منهم
والمعتدلون؛ بل والعلمانيون لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط الصحافة
العالمية في الحديث عنها كلما اقترب الحدث يوماً بعد يوم، ويتوقع أن يحضرها
أكثر من ثلاثة ملايين من البشر في (بيت لحم) يؤمهم البابا يوحنا بولس الثاني،
وستشارك بعض الدول الإسلامية المجاورة في هذه التظاهرة العالمية على اعتبار أن
بعض شعائر العيد النصراني يقع في أراضيها وهو موقع تعميد المسيح - عليه
الصلاة والسلام - حيث عمده يوحنا المعمدان (يحيى عليه الصلاة والسلام) في نهر
الأردن، بل إن كثيراً من المسلمين سيشاركون في تلك الاحتفالات على اعتبار أنها
مناسبة عالمية تهم سكان الأرض كلهم، وما علم هؤلاء أن الاحتفال بهذه الألفية هو
احتفال بعيد ديني نصراني (عيد ميلاد المسيح وعيد رأس السنة الميلادية) وأن
المشاركة فيه مشاركة في شعيرة من شعائر دينهم، والفرح به فرح بشعائر الكفر
وظهوره وعلوه، وفي ذلك من الخطر على عقيدة المسلم وإيمانه ما فيه؛ حيث إن
(من تشبه بقوم فهو منهم) [3] كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكيف بمن شاركهم في شعائر دينهم؟ ! وذلك يحتم علينا الوقوف على حكم أعياد
الكفار، وما يجب على المسلم تجاهها، وكيفية مخالفتهم التي هي أصل من أصول
ديننا الحنيف، بَلْهَ التعرف على أنواع أعيادهم وشعائرهم فيها بقصد تجنبها والحذر
والتحذير منها.
لماذا علينا أن نعرف أعياد الكفار؟ !
من المتفق عليه أن المسلم لا يعنيه التعرف على أحوال الكفار، ولا يهمه
معرفة شعائرهم وعاداتهم - ما لم يُرِدْ دعوتهم إلى الإسلام - إلا إذا كانت شعائرهم
تتسرب إلى جهلة المسلمين فيقعون في شيء منها عن قصد أو غير قصد، فحينئذ
لا بد من معرفتها لاتقائها، والحذر من الوقوع في شيء منها، وفي العصور
المتأخرة يتأكد ذلك للأسباب الآتية:
1 - كثرة الاختلاط بالكفار سواء بذهاب المسلم إلى بلادهم للدراسة أو
السياحة أوالتجارة أو غير ذلك، فيرى أولئك الذاهبون إليهم بعض شعائرهم وقد
يُعجبون بها، ومن ثم يتَّبعونهم فيها، لا سيما مع هزيمتهم النفسية، ونظرتهم إلى
الكافرين بإعجاب شديد يسلب إرادتهم، ويفسد قلوبهم ويضعف الدين فيها، ومن
ذلك أن كثيراً من المثقفين المغتربين يصف الكفرة بالرقي والتقدم والحضارة حتى
في عاداتهم وأعمالهم المعتادة، أو كان ذلك عن طريق إظهار تلك الأعياد في البلاد
الإسلامية من طوائف وأقليات أخرى غير مسلمة فيتأثر بها جهلة المسلمين في تلك
البلاد.
2 - وزاد الأمرَ خطورةً البثُّ الإعلامي الذي به يمكن نقل كل شيء بالصوت
والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها، وما من شك في أن وسائل إعلام
الكفار أقوى وأقدر على نقل شعائرهم إلى المسلمين دون العكس؛ حيث أصبحت
كثير من القنوات الفضائية تنقل شعائر أعياد الآخرين خاصة أعياد الأمة النصرانية، واستفحل الخطر أكثر وأكثر حينما تبنت بعض الأنظمة العلمانية في البلاد
الإسلامية كثيراً من الاحتفالات بشعائر الكفرة والمبتدعة وأعيادهم، وينقل ذلك عبر
الفضائيات العربية إلى العالم؛ فيغتر بذلك بعض المسلمين بسبب صدوره من بلاد
إسلامية.
3 - قد عانى المسلمون على مدى تاريخهم من تأثُّر بعضهم بشعائر غيرهم
من جراء الاختلاط بهم مما جعل كثيراً من أئمة الإسلام يحذرون عوام المسلمين من
تقليد غيرهم في أعيادهم وشعائرهم؛ منهم - على سبيل المثال -: شيخ الإسلام
ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والحافظان: الذهبي، وابن كثير، وهم قد
عاشوا عصراً واحداً كثر فيه اختلاط المسلمين بغيرهم خاصة بالنصارى، وتأثر
جهلتهم ببعض شعائر دينهم خاصة أعيادهم، ولهذا أكثر الكلامَ عن ذلك هؤلاء
العلماء في تضاعيف مصنفاتهم، وبعضهم أفرد لذلك كتاباً خاصاً، كابن تيمية في
كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) أو الذهبي في رسالته:
(تشبيه الخسيس بأهل الخميس) ، وغيرهم.
ولقد أطال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في ذكر أعيادهم وأعمالهم فيها،
وبين مدى تأثر جهلة المسلمين بها، ووصف أعيادهم وأنواعها وما يجري فيها من
شعائر وعادات مما يستغني عن معرفته المسلمون، إلا أن الحاجة دعت إلى ذلك
بسبب اتباع كثير من المسلمين أهل الكتاب في تلك الشعائر.
وقد بيّن شيخ الإسلام أعيادهم وعرضها في مقام التحذير؛ حيث يقول -
رحمه الله تعالى - بعد أن أفاض في الحديث عنها: (وغرضنا لا يتوقف على
معرفة تفاصيل باطلهم؛ ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح
والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما
نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملة ولا
تفصيلاً لم يتمكن من قَصْدِ اجتنابه. والمعرفة الجُمَلية كافية بخلاف الواجبات) [4] ، وقال أيضاً: (وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من ...
المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو
وأهله، ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه
وأصله مأخوذ عنهم) [5] .
4 - أن بعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض
خصائص عيدهم القديم، ويشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم كما في دورة
الألعاب الأولمبية التي أصلها عيد عند اليونان ثم عند الرومان ثم عند النصارى،
وكالمهرجانات التي تقام للتسوق أو الثقافة أو غير ذلك مع أن أصل المهرجان عيد
من أعياد الفرس، وأكثر من يقيمون تلك الاجتماعات ويسمونها (مهرجانات)
يجهلون ذلك.
5- معرفة الشر سبب لاتقائه واجتنابه، وقد قال حذيفة - رضي الله عنه -:
(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن ...
الشر مخافةَ أن يدركني) [6] ومن المعلوم أن الشر العظيم والداء الوبيل أن يقع
المسلم في شيء من شعائر الذين كفروا دون علمه أن ذلك من شعائرهم وأخص
عاداتهم التي أُمرنا بمجانبتها والحذر منها؛ لأنها رجس وضلال.
6 - كثرة الدعاوي وقوة الأصوات المنافقة التي تريد للأمة الخروج عن
أصالتها، والقضاء على هويتها، والانصهار في مناهج الكفرة، واتباعهم حذو القذة
بالقذة تحت شعارات: الإنسانية والعولمة والكونية والانفتاح على الآخر وتلقِّي
ثقافته، مما حتَّم معرفة ما عند هذا الآخر - الكافر - من ضلال وانحراف لفضحه
وبيان عواره وكشف التزوير وتمزيق الأغلفة الجميلة التي تغلف بها تلك الدعاوى
القبيحة [ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة] [الأنفال: 42]
ولكي تقوم الحجة على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يغتروا وينخدعوا.
أعياد الفراعنة:
من أعياد الفراعنة: عيد شم النسيم [7] وهو لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً أو
تزلفاً لمن كانوا يُعبدون من دون الله - تعالى - وقد ذكر الشيخ محفوظ ما يقع فيه -
في زمنه - من المخازي والفجور مما يندى له الجبين؛ حيث تمتلئ فيه المزارع
والخلوات بجماعات الفجار وفاسدي الأخلاق، ينزحون جماعات شيباً وشباناً ونساءً
إلى البساتين والأنهار لارتكاب الزنا وشرب المسكرات، يظنون أن ذلك اليوم
أبيحت فيه جميع الخبائث لهم.
ومن أوهامهم فيه: وضع البصل تحت رأس النائم وتعليقه على الأبواب
زاعمين أنه يُذهب عنهم الكسل والوخم. وهو معدود في أعياد الفراعنة وقيل:
أحدثه الأقباط، ولا مانع أنه لكليهما وأنه انتقل من أولئك إلى هؤلاء، ولا زال كثير
من أهل مصر - خاصة الأقباط - يحتفلون به ويشاركهم فيه كثير من المسلمين،
وفي الآونة الأخيرة كتب عنه عدد من الكتاب العلمانيين داعين إلى أن يكون عيداً
رسمياً إحياءً لتراث الفراعنة في الوقت الذي يصفون فيه شعائر الإسلام بالتخلف
والرجعية والردة الحضارية.
أعياد اليونان:
أَشْهُر السنة عند اليونان كثيرة وكانت تسمى بأسماء أعيادهم، وكانت نفقات
أعيادهم يتحملها الأغنياء منهم، وعامة أعيادهم لها صلات بشعائر دينهم الوثني
المبني على تعدد الآلهة عندهم، وقد كثرت أعيادهم جداً بغية التخفف بتلك الأعياد
من متاعب الحياة الرتيبة، وبلغ من كثرتها أنه ما خلا شهر من أشهرهم من عيد أو
أعياد عدا شهر واحد عندهم هو شهر (ممكتريون) [8] .
واتسمت أعيادهم بالفحش والعهر والسكر وإطلاق العنان لغرائزهم الحيوانية
تفعل ما تشاء، كما كان فيها شيء كثير من خرافاتهم وضلالهم: كزعم تحضير
أرواح الأموات ثم إرجاعها أو طردها مرة أخرى بعد انتهاء العيد، وأهم أعيادهم:
عيد الأولمبياد أو العيد الأولمبي ويقام في (إليس) وينعقد كل أربع سنوات،
وكان الأولمبياد الأول المعترف به سنة (776 ق م) وهذا الأولمبياد من أكبر
أعيادهم وتجمعاتهم الموسمية، ومنذ ذلك التاريخ كان يطلق على تلك الألعاب
(الأولمبياد) ، وكان لها صبغة وطنية، ومضامين قومية حتى قيل: إن اليونان
كانت تفتخر بانتصاراتها الأولمبية أكثر من افتخارها بانتصاراتها في المعارك
الحربية؛ فهو أكبر عيد في عالم الإغريق آنذاك [9] .
ولا تزال هذه الألعاب تقام وترعاها الأمم النصرانية بتسميتها القديمة نفسها
وشعائرها الموروثة من إشعال الشعلة الأولمبية من أثينا ونقلها إلى البلد المنظم
للدورة ونحو ذلك؛ ومع بالغ الأسف فإن كثيراً من المسلمين يشاركون فيها،
ويفاخرون بتلك المشاركات، ويجهل كثيرون منهم أن أصلها عيد من أعياد الكفار
الكبرى وأيام مقدسة في دينهم الوثني؛ فنعوذ بالله من الزيغ والضلال والتقليد
الأعمى.
وكان لليونان أيضاً أعياد عظيمة كأعياد الجامعة الهيلينية، وعيد الجامعة
الأيونية وغيرها [10] .
أعياد الرومان:
من أكثر الأمم أعياداً الرومان؛ حيث كان عندهم في السنة أكثر من مائة يوم
مقدس يعتبرونها أعياداً، من بينها اليوم الأول من كل شهر، وخصصت بعض هذه
الأعياد لتقديس الموتى، وأرواح العالم السفلي، وكان يقصد بكثير من أعيادهم وما
يقام فيها من احتفالات استرخاء الموتى وإقصاء غضبهم - حسب زعمهم.
ومن المعلوم أن الإمبراطورية الرومانية سادت بعد اليونان؛ فورثت كثيراً من
شعائر اليونان وعاداتهم وأعيادهم.
ومن أشهر أعيادهم:
عيد الحب: يحتفلون به في يوم (14) فبراير من كل سنة تعبيراً عما
يعتقدونه في دينهم الوثني أنه تعبير عن الحب الإلهي، وأحدث هذا العيد قبل ما
يزيد على (1700 عام) في وقت كانت الوثنية هي السائدة عند الرومان، وقد
أعدمت دولتهم أيام وثنيتها القديس (فالنتين) الذي اعتنق النصرانية بعد أن كان وثنياً، فلما اعتنق الرومان النصرانية جعلوا يوم إعدامه مناسبة للاحتفال بشهداء الحب،
ولا زال الاحتفال بهذا العيد قائماً في أمريكا وأوروبا لإعلان مشاعر الصداقة،
ولتجديد عهد الحب بين المتزوجين والمحبين، وأصبح لهذا العيد اهتمامه الاجتماعي
والاقتصادي.
ويبدو أن عيداً آخر نشأ من مفهوم هذا العيد ذلك هو عيد الزوجين أو
الصديقين المتحابين يحتفل به الزوجان في يوم ذكرى زواجهما من كل عام لتأكيد
المحبة بينهما، وانتقلت هذه العادة إلى المسلمين بسبب المخالطة حتى صار
الزوجان يحتفلان بليلة زواجهما احتفالاً خاصاً في كثير من بلاد المسلمين؛ تشبهاً
بالكفار؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أعياد اليهود:
1- عيد رأس السنة العبرية ويسمونه عيد (هيشا) وهو أول يوم من تشرين
الأول، ويزعمون أنه اليوم الذي فُدِيَ فيه الذبيح إسحاق عليه السلام، - حسب
معتقدهم الخاطئ؛ لأن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق - وهذا العيد هو بمنزلة عيد
الأضحى عند المسلمين.
2 - عيد صوماريا أو الكيبور وهو عندهم يوم الغفران.
3 - عيد المظلل أو الظلل أو المظال يوم (15 تشرين) يستظلون فيه
بأغصان الشجر ويسمونه أيضاً: عيد صوم مريم العذراء.
4 - عيد الفطير وهو عيد الفصح يوم (15 نيسان) وهو بمناسبة ذكرى
هروب بني إسرائيل من الاستعباد في مصر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد،
وقصة هذا العيد مروية في الإصحاح الثاني عشر من التوراة - سِفْر الخروج -
ومدته ثمانية أيام يحتفلون به في فلسطين المحتلة، واليهود الإصلاحيون يحتفلون به
في أقطارهم لمدة سبعة أيام، ولهم فيه احتفال يسمى (السيدار) وفيه تُقرأ قصة
هروب بني إسرائيل من كتاب اسمه: (الحقادا) ويأكلون فيه خبزاً غير مخمر،
على اعتبار أن بني إسرائيل لما هربوا أكلوه؛ إذ لم يكن عندهم وقت لتخميره، ولا
يزال اليهود يأكلونه إلى اليوم في هذا العيد.
5 - عيد الأسابيع أو (العنصرة) أو (الخطاب) ويزعمون أنه اليوم الذي كلم
الله - تعالى - فيه موسى - عليه الصلاة والسلام -.
6 - يوم التكفير في الشهر العاشر من السنة اليهودية: ينقطع الشخص تسعة
أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة.
7 - الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد؛ حيث كانت تنفخ
الأبواق في بيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجاً به.
8 - عيد اليوبيل وهو المنصوص عليه في سِفْر اللاويين.
ولهم أعياد أخرى من أشهرها: عيد الفوز أو (البوريم) وعيد الحنكة ويسمى
(التبريك) [11] .
أعياد النصارى:
1 - عيد القيامة ويسمى عيد الفصح، وهو أهم أعياد النصارى السنوية،
ويسبقه الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً قبل أَحَد الفصح، وهذا العيد يحتفون
في ذكراه بعودة المسيح - عليه السلام - أو قيامته بعد صلبه وهو بعد يومين من
موته - على حد زعمهم - وهو خاتمة شرائع وشعائر متنوعة هي:
أ - بداية الصوم الكبير وهو أربعون يوماً قبل أحد الفصح، ويبدؤون الصوم
بأربعاء يسمونه أربعاء الرماد؛ حيث يضعون الرماد على جباه الحاضرين ويرددون: (من التراب نبدأ وإليه نعود) .
ب - ثم بعده خمسون يوماً تنتهي بعيد الخمسين أو العنصرة.
ج - أسبوع الآلام وهو آخر أسبوع في فترة الصوم، ويشير إلى الأحداث
التي قادت إلى موت عيسى - عليه السلام - وقيامته - كما يزعمون.
د - أحد السعف وهو يوم الأحد الذي يسبق الفصح، وهو إحياء ذكرى دخول
المسيح بيت المقدس ظافراً.
هـ - خميس العهد أو الصعود ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله
وسجنه.
و الجمعة الحزينة وهي السابقة لعيد الفصح وتشير إلى موت المسيح على
الصليب - حسب زعمهم.
ز - سبت النور وهو الذي يسبق عيد الفصح، ويشير إلى موت المسيح،
وهو يوم الانتظار وترقب قيام المسيح أحد عيد الفصح. وتنتهي احتفالات عيد
الفصح بيوم الصعود أو خميس الصعود؛ حيث تتلى قصة رفع المسيح إلى السماء
في كل الكنائس، ولهم فيه احتفالات ومهرجانات مختلفة باختلاف المذاهب والبلاد
النصرانية، ويسمون خميسه وجمعته السابقة له الخميس الكبير، والجمعة الكبيرة،
كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -[12] وهو الخميس
المقصود برسالة الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - (تشبيه الخسيس بأهل
الخميس) ، وهذا الخميس هو آخر يوم صومهم ويسمونه أيضاً خميس المائدة أو عيد
المائدة وهو المذكور في سورة المائدة في قوله - تعالى -: [قال عيسى ابن مريم
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ... ]
[المائدة: 114] .
وكان لهم من الأعمال الغريبة في هذه الأعياد شيء كثير، ذَكَرَهُ كثير من
المؤرخين، فمن ذلك جمع ورق الشجر وتنقيعه والاغتسال به والاكتحال، وكان
أقباط مصر يغتسلون في بعض أيامه في النيل ويزعمون أن في ذلك رقية ونشرة.
ويوم الفصح عندهم هو يوم الفطر من صومهم الأكبر، ويزعمون أن المسيح -
عليه السلام - قام فيه بعد الصلبوت بثلاثة أيام وخلص آدم من الجحيم، إلى غير
ذلك من خرافاتهم. وقد ذكر شمس الدين الدمشقي الذهبي أن أهل حماة يعطلون فيه
أعمالهم لمدة ستة أيام، ويصبغون البيض، ويعملون الكعك، وذكر ألواناً من الفساد
والاختلاط الذي يجري فيه آنذاك، وذكر أن المسلمين يشاركون فيه وأن أعدادهم
تفوق أعداد النصارى - والعياذ بالله [13] .
وذكر ابن الحاج: أنهم يجاهرون بالفواحش والقمار ولا أحد ينكر عليهم [14] ولعل هذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى إنكار ما رآه من
المسلمين من تقليد النصارى في أعيادهم وشعائرهم؛ فإنه ذكر شيئاً كثيراً من ذلك
في كتابه القيم الاقتضاء، وكذلك ألف الذهبي رسالته آنفة الذكر.
ويحتفل به عامة النصارى إلى اليوم في أول أَحد بعد كمال الهلال من فصل
الربيع في الفترة ما بين (22 مارس و 25 إبريل) والكنائس الشرقية الأرثوذكسية
تتأخر عن بقية النصارى في الاحتفال به وهو بشعائره وصيامه وأيامه فصلٌ كامل
من السنة النصرانية [15] .
2 - عيد ميلاد المسيح - عليه السلام - وعند الأوروبيين يسمى عيد
الكريسمس وهو يوم (25 ديسمبر) عند عامة النصارى، وعند الأقباط يوافق يوم
(29 كيهك) والاحتفال به قديم ومذكور في كتب التاريخ قال المقريزي: وأدركنا
الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر جليلاً تباع فيه الشموع المزهرة وكانوا
يسمونها الفوانيس [16] .
ومناسبة هذا العيد عند النصارى تجديد ذكرى مولد المسيح - عليه السلام -
كل عام، ولهم فيه شعائر وعبادات؛ حيث يذهبون إلى الكنيسة ويقيمون الصلوات
الخاصة. وقصة عيد الميلاد مذكورة في أناجيلهم (لوقا) و (متَّى) وأول احتفال به
كان عام 336م، وقد تأثر بالشعائر الوثنية؛ حيث كان الرومان يحتفلون بإله
الضوء وإله الحصاد، ولما أصبحت الديانة الرسمية للرومان النصرانية صار
الميلاد من أهم احتفالاتهم في أوروبا، وأصبح القديس (نيكولاس) رمزاً لتقديم
الهدايا في العيد من دول أوروبا، ثم حل البابا (نويل) محل القديس (نيكولاس)
رمزاً لتقديم الهدايا خاصة للأطفال [17] . وقد تأثر كثير من المسلمين في مختلف
البلاد بتلك الشعائر والطقوس؛ حيث تنتشر هدايا البابا (نويل) المعروفة في المتاجر
والمحلات التي يملكها في كثير من الأحيان مسلمون، وكم من بيت دخلته تلك
الهدايا، وكم من طفل مسلم يعرف البابا (نويل) وهداياه! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وللنصارى في هذا العيد شعائر منها: أن نصارى فلسطين وما جاورها
يجتمعون ليلة عيد الميلاد في (بيت لحم) المدينة التي ولد فيها المسيح - عليه
الصلاة والسلام - لإقامة قداس منتصف الليل، ومن شعائرهم: احتفالهم بأقرب يوم
أحد ليوم (30 نوفمبر) وهو عيد القديس (أندراوس) وهو أول أيام القدوم - قدوم
عيسى عليه السلام - ويصل العيد ذروته بإحياء قداس منتصف الليل؛ حيث تزين
الكنائس ويغني الناس أغاني عيد الميلاد وينتهي موسم العيد في (6 يناير) .
وبعضهم يحرق كتلة من جذع شجرة عيد ميلاد المسيح، ثم يحتفظون بالجزء غير
المحروق، ويعتقدون أن ذلك الحرق يجلب الحظ، وهذا الاعتقاد سائد في بريطانيا
وفرنسا والدول الاسكندنافية [18] .
3 - عيد الغطاس: وهو يوم (19 يناير) وعند الأقباط يوم (11 من شهر
طوبة) وأصله عندهم أن يحيى بن زكريا - عليهما الصلاة والسلام - والمعروف
عندهم بيوحنا المعمدان عمّد المسيح ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - في نهر
الأردن، وعندما غسله اتصلت به روح القدس، فصار النصارى لأجل ذلك
يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم [19] ، وقد ذكر
المسعودي أن لهذا العيد - في وقته - شأناً عظيماً بمصر، يحضره آلاف النصارى
والمسلمين، ويغطسون في نهر النيل ويزعمون أنه أمان من المرض ونشرة
للدواء [20] . وعلى هذا المفهوم تحتفل به الكنائس الأرثوذكسية، وأما الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية فلهم مفهوم آخر في الاحتفال به، وهو إحياء ذكرى تقديس الرضيع المسيح - عليه الصلاة والسلام - على يد الرجال الثلاثة الذين قدموا من الشرق.
وأصل كلمة (غطاس) إغريقية وهي تعني الظهور، وهو مصطلح ديني
مشتق من ظهور كائن غير مرئي، وقد جاء في التوراة أن الله - تعالى - تجلى
لموسى - عليه الصلاة والسلام - على هيئة أجمة محترقة [21]- تعالى الله عن
قولهم علواً كبيراً.
4 - عيد رأس السنة الميلادية: وللاحتفال به شأن عظيم في هذه الأزمنة؛
حيث تحتفل به الدول النصرانية وبعض الدول الإسلامية، وتنقل تلك الاحتفالات
بالصوت والصورة الحية من شتى بقاع الأرض، وتتصدر احتفالاته الصفحات
الأولى من الصحف والمجلات، وتستحوذ على معظم نشرات الأخبار والبرامج التي
تبث في الفضائيات، وصار من الظواهر الملحوظة سفر كثير من المسلمين الذين لا
تقام تلك الاحتفالات النصرانية في بلادهم إلى بلاد النصارى لحضورها والاستمتاع
بما فيها من شهوات محرمة غافلين عن إثم الارتكاس في شعائر الذين كفروا.
وللنصارى في ليلة رأس السنة (31 ديسمبر) اعتقادات باطلة، وخرافات
كسائر أعيادهم المليئة بذلك، وهذه الاعتقادات تصدر عن صُنّاع الحضارة الحديثة
وممن يوصفون بأنهم متحضرون ممن يريد المنافقون من بني قومنا اتباعهم حذو
القذة بالقذة حتى في شعائرهم وخرافاتهم لكي نضمن مواقعنا في مصافِّ أهل التقدم
والحضارة، وحتى يرضى عنها أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء! !
ومن اعتقاداتهم تلك: أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف
تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإذا كان عازباً فسيكون أول من يتزوج من بين
رفاقه في تلك السهرة، ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن
يحمل المرء هدية، وكنسُ الغبار إلى الخارج يوم رأس السنة يُكنس معه الحظ
السعيد، وغسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم، والحرص على بقاء
النار مشتعلة طوال ليلة رأس السنة يحمل الحظ السعيد.... إلخ تلك
الخرافات [22] .
ولهم أعياد سوى تلك: منها ما هو قديم، ومنها ما هو محدث، وأعياد
أخذوها عمن سبقهم من اليونان والرومان، وأعياد كانت في دينهم ثم اندثرت، ومن
هذه الأعياد ما هو كبير مهم لديهم، ومنها ما هو صغير تقتصر أهميته على بعض
كنائسهم أو بعض مذاهبهم.
ولكل أصحاب مذهب منهم أعياد تخصهم وتخص كنائسهم ورهبانهم
وقساوستهم لا يعترف بها أهل المذاهب الأخرى، فالبروتستانت لا يؤمنون بأعياد
الكنائس الأخرى [23] ، ولكنهم يتفقون على الأعياد الكبرى كعيد الفصح والميلاد
ورأس السنة والغطاس وإن اختلفوا في شعائرها ومراسم الاحتفال بها، أو في بعض
أسبابها وتفاصيلها، أو في زمانها ومكانها.
أعياد الفرس:
1 - عيد النيروز: ومعنى النيروز: الجديد، وهو ستة أيام؛ حيث كانوا في
عهد الأكاسرة يقضون حاجات الناس في الأيام الخمسة الأولى، وأما اليوم السادس
فيجعلونه لأنفسهم وخواصهم ومجالس أنسهم، ويسمونه النيروز الكبير، وهو أعظم
أعيادهم [24] .
وذكر أصحاب الأوائل أن أول من اتخذ النيروز حمشيد الملك، وفي زمانه
بعث هود - عليه السلام - وكان الدين قد تغيّر، ولما ملك حمشيد جدّد الدين وأظهر
العدل، فسُمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزاً، فلما بلغ من عمره
سبعمائة سنة ولم يمرض ولم يوجعه رأسه تجبر وطغى، فاتخذ شكلاً على صورته
وأرسلها إلى الممالك ليعظموها، فتعبَّدها العوام، واتخذوا على مثالها الأصنام،
فهجم عليه الضحاك العلواني من العمالقة باليمن فقتله كما في التواريخ [25] . ومن
الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله فيه النور. ويعتبر النيروز
عيد رأس السنة الفارسية الشمسية ويوافق الحادي والعشرين من شهر مارس من
السنة الميلادية [26] ، وكان من عادة عوامهم إيقاد النار في ليلته ورش الماء في
صبيحته.
ويحتفل بعيد النيروز أيضاً البهائيون، وذلك في ختام صيامهم الذي مدته 19
يوماً وذلك في (21 آذار) [27] والنيروز، أيضاً أول يوم من السنة عند
القبط ويسمى عندهم عيد شم النسيم ومدته عندهم ستة أيام أيضاً تبدأ
من (6 حزيران) [28] . وقد مضى ذكر شم النسيم عند الفراعنة فلا يمنع أن يكون الأقباط أخذوه من تراث الفراعنة وآثارهم، ولا سيما أن الجميع في مصر.
2 - عيد المهرجان: كلمة (مهرجان) مركبة من (المهر) ومعناه: الوفاء،
(جان) : السلطان، ومعنى الكلمة: سلطان الوفاء، وأصل هذا العيد: ابتهاج
بظهور (أفريدون) على الضحاك العلواني الذي قتل (حمشيد) الملك صاحب عيد
النيروز، وقيل: بل هو احتفال بالاعتدال الخريفي، ولا يمنع أن يكون أصله ما
ذكر أولاً لكنه وافق الاعتدال الخريفي فاستمر فيه. والاحتفال به يكون يوم (26 من
تشرين الأول من شهور السريان) وهو كسابقه ستة أيام أيضاً، والسادس منها
المهرجان الكبير، وكانوا يتهادون فيه وفي النيروز المسك والعنبر والعود الهندي
والزعفران والكافور [29] ، وأول من رسم هدايا هذين العيدين في الإسلام الحجاج
بن يوسف الثقفي، واستمر إلى أن رفعه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -
رحمه الله تعالى -[30] .
ومن عظيم ما ابتلي به المسلمون استخدام لفظ (المهرجان) على كثير من
الاجتماعات والاحتفالات والتظاهرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ بل وحتى
الدعوية فيقال: مهرجان الثقافة، ومهرجان التسوق، ومهرجان الكتب، ومهرجان
الدعوة، وما إلى ذلك مما نرى دعاياته ونسمع عباراته كثيراً يتصدرها هذا
المصطلح الوثني (المهرجان) الذي هو عيد عَبَدَة النار.
ولهذا فإن إطلاق هذا الشعار الفارسي الوثني على اجتماعات المسلمين من
مواطن النهي الجلي [31] يجب اجتنابه والنهي عن استعماله، وفي المباح من
الألفاظ غنية عنه، واللغة العربية أغنى اللغات لفظاً ومعنى.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4341) ، والترمذي (3060) وابن ماجه (4014) .
(2) أخرجه البخاري (6576) ومسلم (2297) .
(3) أخرجه أحمد 2/50 وأبو داود 4021.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/475.
(5) السابق 1/476.
(6) أخرجه البخاري في الفتن (11/30) ومسلم في الإمارة 1847.
(7) الإبداع في مضار الابتداع 275-276 و436 ومجلة الأزهر 10/ 1149.
(8) قصة الحضارة لديورانت 6/361.
(9) المنهل 525/105.
(10) قصة الحضارة 6/361.
(11) أعياد اليهود في موسوعة المذاهب والأديان المعاصرة1/504 واليوبيل10 ومجلة المنارعدد 7، ص102، ومجلة الاجتهاد عدد 20، ص357، ومجلة الإسلام عدد 43، ص23، ومجلة المنهل عدد 525، ص106.
(12) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/473) وانظر أيضا الأمر بالاتباع للسيوطي (141) .
(13) انظر نخبة الدهر للذهبي (280) والبدء والتاريخ المقدسي (4/47) .
(14) المدخل 1/309.
(15) انظر تاريخ ابن الوردي 1/80، والكامل 1/125، وتاريخ الطبري 1/735، وابن خلدون
2/147، ومجلة المشرق الكاثوليكية عدد 4 ص 241 253، والموسوعة العربية العالمية
16/709، والموسوعة العربية الميسرة 2/ 1247.
(16) الخطط 1/495.
(17) الموسوعة العربية العالمية 16/711.
(18) السابق 16/712.
(19) مجلة الإسلام عدد 43ص 24.
(20) مروج الذهب 1/357.
(21) الموسوعة العربية العالمية 16/709، والموسوعة العربية الميسرة 2/ 1247.
(22) مجلة الاستجابة 4 29.
(23) موسوعة المذاهب والأديان المعاصرة 2/632.
(24) مجلة الأزهر عدد 10ص 1485.
(25) شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد للسفاريني 1/578.
(26) حاشية الحلو والتركي على المغني لابن قدامة 4/428.
(27) موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة 1/415.
(28) عيد اليوبيل بدعة في الإسلام، 15.
(29) شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد 1/578، ومجلة المنار عدد 6ص 99، وحاشية المغني
4/428، والأزهر.
(30) المنار عدد 6 ص 100.
(31) معجم المناهي اللفظية.(143/14)
دراسات في الشريعة والعقيدة
من القواعد الفقهية
(2-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
في الحلقة الأولى أشار الكاتب إلى أهمية القواعد الفقهية، وعلاقة الأحكام
الجزئية بها، ثم شرع يعرض بعضاً منها ممثلاً بما يندرج تحتها من أحكام فقهية.
ويستكمل الكاتب في هذه الحلقة عرض بقية مختاراته من هذه القواعد وبعض ما
ينبثق عنها من أحكام وقواعد فرعية، وقد أخذ على نفسه ابتداءً ألا يعرض إلا
للصحيح الثابت.
- البيان -
قاعدة: (لا عبرة بالظن البَيّن خَطَؤهُ) :
الظن هو: إدراك الاحتمال الراجح الذي ظهر رجحانه على نقيضه بدليل
معتبر. فإذا ازداد قوة حتى أصبح خلافه موهوماً فهو غالب الظن.
معنى القاعدة: البناء على الظن صحيح؛ إذ هو أعلى مرتبة من الشك؛ فهو
أقرب إلى اليقين. والأحكام الشرعية في غالبها مبنية على الظن، لكن قد يظهر
خطأ ذلك الظن، ويتبين أنه خلاف الواقع، وحينئذ فإنه لا يجوز البناء عليه،
لنزوله عن المرتبة المعتبرة، وبذلك ينتقض كل ما بني عليه من أحكام.
وهذه القاعدة فرع من القاعدة الكلية الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك) . ووجه
العلاقة بينهما أن القاعدة الكبرى تفيد أن الإنسان لا بد أن يبني أحكامه على اليقين،
وهو الأمر المجزوم به، أو ما يقوم مقامه شرعاً وهو الظن الصحيح. أما الظن
الخطأ فهو الذي تتحدث عنه هذه القاعدة [1] .
من فروع القاعدة:
- إذا توضأ بماء ظنه طهوراً، فبان أنه نجس بطلت طهارته، ولا عبرة
بظنه: كونه طهوراً.
- إذا صلى يظن الوقت دخل، فظهر خلافه، لم تصح صلاته.
- إذا حج إنسان بولده يظنه بالغاً، والحال خلافه، لم تسقط عنه الفريضة.
- لو صلى يظن نفسه متطهراً، ثم تبين له أنه محدث، فإنه لا عبرة بظنه
الطهارة، ولا تصح صلاته.
- إذا كان صائماً فأكل يظن الشمس قد غربت، ولم تغرب بعد؛ فلا عبرة
بظنه، وعليه القضاء.
- لو وجد في بيته أو مركبه مالاً ظنه له، فاستهلكه، فبان أنه لغيره، لزمه
العوض.
ومن الصور المستثناة من القاعدة:
- لو صلى خلف من يظنه متطهراً، فبان أنه محدث: صحت صلاته.
قاعدة: (الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته) :
هذه القاعدة أيضاً من القواعد المندرجة تحت القاعدة الكبرى: (اليقين لا يزول
بالشك) ، ومعناها: أنه إذا وجد أمراً ما حادثاً، وأمكن أن يكون وقته قريباً أو بعيداً، ولا بيِّنة، فإن القاعدة هي أن وقته المعتبر هو القريب؛ لأنه هو المتيقن، والبعيد
مشكوك فيه.
من فروع القاعدة:
- لو رأى في ثوبه منياً، يعلم أنه من أثر احتلام، ولم يذكر احتلاماً، فإنه
يُرجعه إلى آخر نومة نامها، ويعيد الصلوات التي صلاها بعد تلك النومة.
- لو ضرب إنسان بطن حامل فوضعت جنينها حياً، وبقي زمناً بلا ألم، ثم
مات، فإن موته يُنسب إلى سبب آخر بعد الضرب، بخلاف ما لو وضعته ميتاً،
أو حياً متألماً حتى مات، فإنه يُنسب إلى ضربه لها، فتجب فيه دية كاملة [2] .
قاعدة: (إذا اجتمع أمران من جنس واحد متفقا المقصد دخل أحدهما في الآخر
غالباً) [3] :
من فروع القاعدة:
- إذا حلف عدة أيْمان على أمر واحد دخل بعضها في بعض في الكفارة،
وأجزأته كفارةٌ واحدةٌ، أما إذا حلف على أكثر من شيء فقد اختلف القصد، فيجب
عليه كفارات بعدد الأيْمان. وكذلك إذا حلف على أمر ثم حنث وكفّر عنه، ثم حلف
عليه ثانية، وحنث: وجب عليه كفارة ثانية؛ لأن الكفارة يجب أن تكون بعد
الحلف.
- إذا فعل عدة محظورات في الإحرام من جنس واحد، كأن قص أكثر من
ظفر، فتكفيه فدية واحدة، ولكن إذا اختلف الجنس تعددت الفدية، كما لو قص
ظفراً وشعراً وغطى رأسه عمداً.
- لو كرر آية فيها سجدة، أو آيات فيها سجدات - للتعليم مثلاً كتطبيق
التجويد - كفاه عنها سجدة واحدة.
وقد عبر ابن رجب عن القاعدة بقوله: (إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد، في وقت واحد، متفقتا المقصد، ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا
عن طريق التبعية للأخرى في الوقت.. تداخلت أفعالهما، واكتفى فيها بفعل
واحد) [4] . وجعلها على ضربين:
أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً، ويشترط أن ينويهما
جميعاً. وله صور عدة منها:
- القارن يكفيه لحجه وعمرته سعي واحد، وطواف واحد.
- إذا اغتسل الجنب اغتسالاً نوى به الطهارتين: حصلتا له.
- المرأة إذا حاضت، وكانت جُنُباً كفاها عن حيضها وجنابتها غسل واحد.
الثاني: أن يحصل له إحدى العبادتين بنيتها، وتسقط عنه الأخرى. وله عدة
صور منها:
- إذا دخل المسجد وصلى فريضة أو راتبة، دخلت فيها تحية المسجد.
- إذا طاف الحاج عند خروجه من مكة طوافاً ينوي به الإفاضة والوداع أجزأه.
- لو صلى فريضة أو نافلة بعد الطواف: كفته عن الركعتين - على قول.
- طواف العمرة يجزئ عن طواف القدوم الذي هو سنة.
- إذا اجتمع العيد مع الجمعة في يومها فأيهما قدم في الفعل أولاً سقط به
الثاني [5] .
قاعدة: (التابع تابع) :
وعبر عنها بعض العلماء بقوله: (يثبت تَبَعاً ما لا يثبت استقلالاً) ، ومعنى
القاعدة: أن بعض المسائل يختلف حكمها في حال الانفراد، عن حكمها في حال
التبع لغيرها؛ فلها حكم إذا انفردت، ولها حكم آخر إذا اتبعت غيرها [6] .
ويستدل لهذه القاعدة بالنهي عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وهو الحمل في بطن
أمه [7] . ولكن يجوز بيعه مع أمه تبعاً لها، ويجوز أن يكون له أثر في الثمن، فثبت له تبعاً ما لم يثبت له استقلالاً.
ومن أمثلة القاعدة: الصلاة لا تدخلها النيابة، ولكن بالنظر إلى أنها تابع للحج
كما في ركعتي الطواف فإنها تدخلها النيابة بهذا الاعتبار وهو التبع للنيابة في الحج.
ومن أمثلتها: شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز
استقلالاً، ويجوز تبعاً لشد الرحال لزيارة المسجد النبوي، بأن ينويهما معاً كما
صرح به بعض أهل العلم.
ويدخل تحت هذه القاعدة قواعد، منها:
1 - التابع لا يفرد بالحكم، ما لم يصر مقصوداً، كالمفتاح يجوز بيعه دون القفل؛ لكونه صار مقصوداً بذاته، وكذا عجلة السيارة، وسائر قطع التبديل فيها، ونحو ذلك.
2 - التابع يسقط بسقوط المتبوع، كمثل من فاتته صلاة في أيام الجنون - وقلنا بعدم القضاء - فإن س'ننها الرواتب تسقط تبعاً. وكالشروط المشترطة في عقد البيع أو النكاح تسقط ببطلانه.
3 - التابع لا يُقدم على المتبوع، كالمأموم مع إمامه لا يجوز له تقدمه في المكان
أو الأفعال.
4 - يُغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.
ومن فروعها: سجود التلاوة في الصلاة يجوز على الراحلة تبعاً للصلاة،
واختلف فيه استقلالاً.
ومنها: وقوع الطلاق لا يثبت بشهادة امرأة، ولكنه يقع إذا شهدت المرأة
بالرضاع.
ومنها: ثبوت النسب: يثبت تبعاً لثبوت الولادة على الفراش بشهادة النساء،
مع أن قولهن غير مقبول في النسب.
5 - من مَلَك شيئاً مَلَك ما هو من ضروراته: كمن اشترى سيارة ملك
عجلاتها، وعجلتها الاحتياطية وأدوات الإصلاح الموجودة فيها، ومن اشترى بيتاً
أو استأجره ملك الانتفاع بأبوابه ونوافذه وبقية منافعه.
قاعدة: (ما حرم استعماله حرم اتخاذه، وما حرم أخذه حرم إعطاؤه، وما حرم فعله حرم طلبه) :
هذه القواعد الثلاث متقاربة المعنى، وكلها تفيد سد أبواب الحرام: استعمالاً
واتخاذاً، وأخذاً وإعطاء، وفعلاً وطلباً [8] .
فالشيء الذي حرم الشرع استعماله - كآلات اللهو مثلاً - أو حرم أكله أو
شربه فإنه لا يجوز اتخاذه؛ لئلا يكون اتخاذه وسيلة وذريعة إلى استعماله. وكذلك
الشيء الذي منع الشرع من أخذه والاستفادة منه - كالربا مثلاً - فإنه يمنع من
إعطائه للغير وتقديمه له، سواء كان على سبيل المنحة ابتداءاً، أم على سبيل
المقابلة، لما في ذلك من الدعوة إلى المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون
المعطي شريك الفاعل، وقد نهى الله - تبارك وتعالى - عن المعاونة على المحرم
أياً كانت صورة ذلك التعاون، فقال - تعالى -: [وتعاونوا على البر والتقوى ولا
تعاونوا على الإثم والعدوان] [المائدة: 2] .
وأيضاً ما حرم الشرع فعله - كالرشوة مثلاً، وشرب الخمر والزنا - فإن
طلب ذلك الفعل محرم أيضاً؛ إذ الحرام لا يجوز فعله، ولا الأمر بفعله.
وهذه القواعد لا إشكال في صحتها لمن عرف عمومات نصوص الشريعة،
ومقاصدها، ومع ذلك فقد ورد من الأدلة ما يؤيدها، ويشهد لها، كحديث: (لعنت
الخمر على عشرة أوجه: بعينها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها،
وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها) [9] ، وحديث: (لعن
الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها) [10] ، وحديث لَعْن آكل
الربا وموكله [11] .
أمثلة على القواعد الثلاث تباعاً:
- على القاعدة الأولى: حرم الشارع اتخاذ آلات الملاهي، وأواني الذهب
والفضة، والكلب لغير الصيد أو الحراسة، والخنزير، والفواسق، والخمر،
والحرير، والحلي للرجال، وكل ذلك لئلا يجر الاتخاذ إلى الاستعمال.
- وعلى القاعدة الثانية: حرم أخذ الربا، والرشوة، وأجرة النائحة،
والمطرب، ومهر البغي (الفاجرة) ، وحلوان الكاهن (المنجِّم، ومدعي علم الغيب)
... والصدقة للقوي المكتسب، والعقل يدل على أن الأخذ لا يكون إلا من معطٍ؛
فتحريم الأخذ تحريم للإعطاء.
- وعلى القاعدة الثالثة: يحرم طلب شرب الخمر، والزنا، والقتل وكل ما حرم الله فعله.
وللقاعدة استثناءات [12] :
- منها: جواز إعطاء الرشوة، لمن لا يستطيع أخذ حقه إلا بها، والإثم على
الآخذ.
- منها: جواز الاستقراض بالربا في حالة الاضطرار مع حرمة أخذه على
الآخذ [13] . ...
قاعدة: (الإيثار في القُرَبِ مكروه، وفي غيرها محبوب) :
الإيثار نوعان: إيثار في الحظوظ الدنيوية، كالإيثار بطعام أو شراب أو
لباس أو مركب، فهذا مطلوب محمود، قال - عز وجل -: [ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة] [الحشر: 9] ، وقد يصل إلى الإيثار بالنفس
والحياة، وهو داخل تحت قاعدة: الأمور بمقاصدها.
والنوع الثاني: إيثار في الطاعات والقُرْبَاتِ، وهذا يختلف حكمه باختلاف
حكم الأمر المؤْثَر فيه، فقد يكون حراماً، أو مكروهاً، أو خلاف الأوْلى.
فيكون حراماً إذا أدى إلى ترك واجب، مثل ما إذا آثر غيره بماء الطهارة؛
حيث لا يوجد غيره، أو ساتر العورة، أو آثره بمكان في جماعة، ويترتب عليه
تأخيره للصلاة، أو آثره بمكان يسمع فيه خطبة الجمعة، بحيث تفوته هو.
ويكون مكروهاً إذا أدى إلى ترك سنة، أو فعل مكروه.
ومثال ما أدى إلى ترك سنة: إيثاره لغيره بالصف الأول، أو الأذان، أو
القراءة على الشيخ، أو إيثاره بقلم أو ورق يكتب فيه درساً يفوت، أو مكان يسمع
فيه خطبة العيد، بحيث لا يسمعها هو.
ومثال ما أدى إلى فعل مكروه: أن يؤثره بإناء الشرب؛ بحيث لا يمكنه أن
يشرب هو إلا قائماً - من صنبور الماء مثلاً -.
ويكون خلاف الأَوْلى إذا أدى إلى ارتكاب خلاف الأَوْلى، كمن آثر غيره
بمكانه - الأقرب للإمام - في نفس الصف، أو قدمه على نفسه في القراءة على
الشيخ، وقد يقال في هذه المرتبة والتي قبلها بمشروعية الإيثار أو استحبابه بحسب
ما يترتب عليه من دفع مفسدة، أو تحقيق مصلحة أرجح.
سبب كون الإيثار بالطاعات مكروهاً:
قد تشتبه هذه المسألة بمسألة: (إهداء ثواب الطاعات للأموات) ، وهي محل
خلاف؛ فالحنفية والشافعية قالوا بجواز إهداء ثواب جميع الطاعات قياساً على ما
ورد فيه النص، وجعلوا ما ورد في النص مثالاً يصلح القياس عليه، أما المالكية
والحنابلة فقصروا الأمر على ورود النص من الحج والعمرة والأضحية والصدقة
بخلاف بقية الطاعات - ولعله الراجح والله أعلم -.
والمقصود: أنه إذا كان الإيثار بالثواب - الذي هو غاية العمل - جائزاً،
فلماذا يمنع الإيثار بالقُرَبِ - وهي سبب الثواب -؟ ولماذا لا يمنع الإيثار بالثواب؟
وقد أجاب ابن القيم على هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة هي في الحقيقة أوجه
الفرق بين الصورتين، ويتضح من خلالها سبب كراهة الإيثار بالقُرَب والطاعات،
فقال:
(أحدها: أنَّ حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة؛ لجواز أن يرتد
الحي فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها وهذا قد أمن بالموت.
فإن قيل: والمهدَى إليه أيضاً قد لا يكون مات على الإسلام باطناً فلا ينتفع بما
يُهدَى إليه! وهذا سؤال في غاية البطلان؛ فإنَّ الإهداء له من جنس الصلاة عليه،
والاستغفار له والدعاء له، فإن كان أهلاً انتفع به، وإلا انتفع به الدَّاعي وحده.
الجواب الثاني: أن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها والتأخر عن
فعلها، ولو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء
ثوابها؛ فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به، أو ينفع به أخاه المسلم،
فبينهما فرق ظاهر.
الجواب الثالث: أن الله - سبحانه وتعالى - يُحبُّ المبادرة والمسارعة إلى
خدمته والتنافس فيها؛ فإنَّ ذلك أبلغ في العبودية؛ فإن الملوك تحب المسارعة
والمنافسة في طاعتها وخدمتها؛ فالإيثار بذلك منافٍ لمقصود العبودية؛ فإنَّ الله -
سبحانه - أمر عبده بهذه القربة إما إيجاباً وإما استجاباً، فإذا آثر بها ترك ما أمره
وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمره به طاعة وقربة، ثم أرسل ثوابه إلى أخيه
المسلم.
وقد قال - تعالي -: [سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض
السماء والأرض] [الحديد: 21] ، وقال: [فاستبقوا الخيرات] [البقرة: 148] ، ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق والمسارعة.
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يسابق بعضهم بعضاً بالقرب، ولا
يُؤْثِرُ الرجل منهم غيره بها. قال عمر - رضي الله عنه -: والله ما سابقني أبو
بكر - رضي الله عنه - إلى خير إلا سبقني إليه، حتى قال: والله لا أسابقك إلى
خير أبداً.
وقد قال - تعالى -: [وفي ذلك فليتنافس المتنافسون] [المطففين: 26]
يقال: نافست في الشيء إذا رغبتُ فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم: شيء
نفيس، أي هو أهل أن يُتنافس فيه ويُرغب فيه، وهذا كله ضد الإيثار والرغبة
عنه) [14] .
وقد نقل عن بعض العلماء قوله: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء
الطهارة، ولا بستر العورة، ولا بالصف الأول؛ لأن الغرض بالعبادات التعظيم
والإجلال لله - سبحانه وتعالى - فمن آثر به غيره فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه،
فيصير بمثابة من أمره سيده بأمر فتركه، وقال لغيره: قم به؛ فإن هذا يُستقبح عند
الناس بتباعده من إجلال الآمر وقربه [15] .
قاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) :
ومعنى هذا أنه: إذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم،
كالسفر أو المرض علة لجواز الفطر فإذا حصل السفر أو المرض جاز الفطر، وإذا
لم يحصل لم يجز.
وحتى تتم الاستفادة من القاعدة على الوجه الصحيح فإنه لا بد من بيان لمعنى
العلة، وشروطها، والطُرُق التي يتوصل بها إلى معرفتها.
هناك فرق بين العلة والحكمة: فإن الحكمة هي المصلحة التي قصد الشرع
تحقيقها بتشريعه الحكم من جلب مصلحة للخلق أو دفع مفسدة عنهم، كما تقول مثلاً: الحكمة من تشريع القصاص: حفظ الحياة، ومن حِكَم تشريع الحج: شهود
المنافع ... وهكذا.
وأما العلة فيعرفها الأصوليون بأنها: الوصف الظاهر المنضبط الذي بُني
عليه الحكم، ورُبط به وجوداً وعدماً؛ لأنه مظنة تحقيق المصلحة المقصودة من
تشريع الحكم، والغالب هو تحققها، وإن تخلفت فعلى وجه الندرة، والعبرة بالغالب
لا بالنادر.
ثم إن ربط الأحكام بالعلل يؤدي إلى استقامة التكليف وضبط الأحكام واطرادها، واستقرار أوامر التشريع العامة ووضوحها، وهذه فوائد عظام لا يؤثر فيها فوات
الحكمة في بعض الجزئيات والوقائع في بعض الأحيان؛ ذلك لأن الحكمة تكون
أحياناً وصفاً غير منضبط، أي يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، ولا يمكن بناء
الحكم عليه؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب والفوضى في الأحكام، وتكثر الادعاءات
للتحلل من الأحكام.
ومثال ذلك: مسألة الفطر في رمضان، ربطها الشارع بالسفر أو المرض؛
لأنه مظنة المشقة، ولم يربطه بالمشقة؛ لأنه أمر يختلف باختلاف الناس وتقديرهم، والغالب في المشقة الحاصلة من غير السفر والمرض أنها محتملة؛ فاتضح أن
ربط الحكمة بالعلة يحقق الحكمة غالباً.
ولهذه العلة شروط عدة:
1 - أن تكون العلة وصفاً ظاهراً، كعلة الإسكار في الخمر؛ فهي أمر ظاهر
مُدْرَكٌ.
2 - أن تكون وصفاً منضبطاً لا تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال كالسفر
والمرض، بخلاف المشقة.
3 - أن تكون وصفاً مناسباً للحكم؛ بحيث يكون ربط الحكم به مظنة تحقق
حكمة الحكم؛ فالسفر في رمضان وصف مناسب للحكْم بإباحة الإفطار؛ لأنه بهذا
الربط يغلب تحقق حكمة الحكْم، أي دفع المشقة.
ومعرفة علة الحكم تكون بالنص الدال عليها، أو بالإجماع، أو بنظر المجتهد
بالسبر والتقسيم، أو بتنقيح المناط.
وتطبيقات هذه القاعدة كثيرة جداً:
فمن أمثلتها: أن التكليف علة لوجوب العبادات - على المكلف - وصحة
العقود في المعاملات، ووجوب الحدود والعقوبات كلها؛ فهذه كلها معلقة بالتكليف
تثبت بوجوده، وتنتفي بعدمه.
ومنها: أن إسكار الخمر علة لتحريمها ونجاستها - عند الجمهور - فإذا زال
إسكارها بتحولها خلاً زال تحريمها.
ومنها: أن حصول الضرورة علة لإباحة المحظور: يباح بتحققها، ويحرم
بانتفائها.
ومنها: أن الإغماء والنوم والجنون أسباب لزوال التكليف وعدم نفوذ
التصرف، فإذا زالت حصل التكليف ونفذ التصرف، وكلما عادت هي أو بعضها
زال التكليف بزوال علته، وهي العقل الذي يزول بهذه الأمور.
وجميع شروط الأحكام داخلة تحت هذا الأصل، فإذا تحققت الشروط - وهي
علة ثبوت الحكم - ثبت الحكم، فإذا زالت أو بعضها زال الحكم [16] .
قاعدة: (إعمال الكلام أوْلى من إهماله) :
تظهر أهمية هذه القاعدة بمعرفة مرتبتها؛ فهي:
أولاً: محل اتفاق بين العلماء.
وثانياً: تتعلق ببعض المسائل الأصولية المتعلقة بالخطابات الشرعية، من
كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وثالثاً: أنها تتعلق بالكلام الصادر عن المكلِّف من حيث كونه يجب صونه
عن الإهمال والإلغاء؛ فهي إذن تتعلق بتصرفات المكلَّف القولية كلها وتصحيحها.
معنى القاعدة:
إعمال الكلام: أي إعطاؤه حكماً مفيداً حسب مقتضاه اللغوي.
وإهماله يعني: عدم ترتب ثمرة عملية عليه بإلغاء مقتضاه ومضمونه، فلا
يترتب عليه حكم.
أصل القاعدة:
يدل لها دليل عقلي صحيح وهو: أن إهمال الكلام يؤدي إلى أن يكون الكلام
لغواً، وكلام الإنسان العاقل يصان عن اللغو ما أمكن ذلك؛ إذ الأصل فيه أن يكون
له معنى يقتضيه اللفظ.
من فروع القاعدة:
- إن أوقف داراً على أولاده، وليس له إلا أولاد أولاد فإنه ينصرف إليهم؛
لئلا يهمل كلامه.
- من حلف ألا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو نحوه مما
يخرج منها، فإنه يحنث؛ لأن النخلة لا يمكن أكل عينها، فحُمل كلامه على ما
يخرج منها.
- وإذا حلف لا يأكل من القدر شيئاً، حمل على ما يطبخ فيه؛ حيث لا يمكن
حمله على عين القدر.
ويتفرع على هذه القاعدة عدة قواعد ترسم كيفية إعمال الكلام الذي أوجبته
القاعدة، وتبين الطرق الراجحة المعقولة فيه.
الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة:
المراد بالقاعدة: أن الراجح عند السامع أن يحمل كلام المتكلم على معناه
الحقيقي.
والحقيقة في الاصطلاح هي: اللفظ المستعمل في المعنى الذي وضع له في
أصل اللغة. كلفظ السماء لكل ما علا وارتفع، ولفظ الجنة للبستان كثيف الأشجار،
ولفظ النور للنور المعروف.
والمجاز معناه: اللفظ المستعمل في غير المعنى الأصلي الذي وضع له في
أصل اللغة لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كاستعمال لفظ النور للعلم أو
الإسلام، وكاستعمال لفظ الأسد للقوي الشجاع. ويشترط فيه: وجود علاقة بين
المعنى الأصلي، والمعنى المنقول إليه، كما يشترط وجود قرينة تدل على إرادة
المتكلم للمعنى المجازي دون الحقيقي.
فمعنى القاعدة إذن: أن إعمال كلام المتكلم (الشارع، أو المكلف العاقل) إنما
يكون بحمل ألفاظه على معانيها الحقيقية، عند الخلو من القرائن التي ترجح إرادة
المجاز.
ومن أمثلة القاعدة:
- ما لو أوقف شيئاً على أولاده، دخل فيهم الذكور والإناث؛ لأن لفظ الولد
يشملهم حقيقة. وإذا قال شخص لآخر: وهبتك هذا الشيء، لم يحق له المطالبة
بالثمن زعماً أنه أراد البيع؛ لأن الهبة تمليك بلا عوض،
وإرادة البيع بها مجاز.
الثانية: إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز:
فيشترط في الحمل على المعنى المجازي وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى
الحقيقي، كاستحالة الحقيقة، أو تعذرها، أو يكون المعنى الحقيقي مهجوراً شرعاً
أو عرفاً. - كما سبق في بعض الأمثلة على القاعدة الأصلية -.
الثالثة: إذا تعذر إعمال الكلام يهمل:
ومن أسباب إهمال الكلام وإلغائه:
1 - تعذر إرادة كل من المعنيين الحقيقي والمجازي جميعاً.
2 - أن يكون اللفظ مشتركاً بين معنيين، ولا يوجد مرجِّح لأحدهما على
الآخر.
3 - تعذر صحة الكلام شرعاً.
4 - أن يكذبه الظاهر، كمن ادعى على رجل أنه قتل شخصاً، فإذا هو حي.
5 - أن يكون فيه مصادمة للشرع، كمن أقر بأن أخته ترث ضعفي حصته
من تركة أبيه.
الرابعة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله:
لأنه إذا لم يعتبر كله، أهمل الكلام وصار لاغياً؛ حيث إنه لا يقبل التجزئة.
ومن أمثلتها: إذا طهرت المرأة من حيضها، أو نفاسها ولم يبق من وقت
الصلاة إلا مقدار ما يمكنها من الاغتسال والتحريمة للصلاة فإنه يلزمها صلاة ذلك
الوقت؛ لأن الواجب لا يتبعَّض. وكذلك الكافر إذا أسلم آخر الوقت.
ومنها: إن تنازل الشريك عن جزء من حق الشفعة سقط كله.
ومنها: أن يوجب على نفسه ركعة، فإنه يصلي ركعتين؛ لأن ذلك لا
يتبعض.
ومنها: لو عفا عن جزء من القصاص، سقط كله وانتقل إلى الدية، ولذا فإن
الورثة إذا عفا أحدهم عن حقه من القصاص، انتقل منه إلى الدية، وليس لبقية
الورثة القصاص من القاتل.
الخامسة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة:
من فروعها:
- إذا وكَّل شخصاً بشراء سيارة - ولم يقيدها بوصف أو لون - فاشتراها له
حمراء أو زرقاء، فقال: أردت بيضاء، فإنه يلزم بما اشتراه الوكيل؛ لأن كلامه
مطلق، فيجري على إطلاقه.
- إذا أجّر شخصاً، أو أعاره شيئاً، فإنه يسوغ للمستأجر أو المستعير جميع
وجوه الانتفاع، بالحدود المعتادة، فلا يتقيد الانتفاع بها بوقت أو مكان أو استعمال
مما ليس عليه دليل.
وتقييد الكلام يكون بأحد أمرين:
1 - النص: وهو اللفظ الدال على القيد، كأن يقول: بِع بمائة؛ فلا يسوغ
له البيع بأقل مما حدد له.
أو يقول: خذ السيارة - عارية - لتركبها، لكن لا تحمل فيها متاعاً، فينتفع
كما حدد له.
2 - الدلالة: وهي نوعان:
أ - حالية: كما لو وكَّل طالب علم شرعي شخصاً آخر لشراء كتب، فإنه
ينصرف إلى شراء كتب العلم الشرعي، لا الطب ولا الكيمياء كما تنبئ حاله عنه.
ب - عرفية: ومثالها: لو أعاره كتاباً، كان له القراءة فيه والنسخ منه،
وتصويره ما لم يتضرر الكتاب بخلاف الكتابة فيه وعلى هوامشة ... ، كما هو العرف السائد.
السادسة: التأسيس أوْلى من التأكيد:
التأسيس: إفادة معنى جديد. والتأكيد: تقوية معنى سابق.
فإذا احتمل كلامٌ معنيين: أحدهما تأكيد لسابق، والآخر تأسيس لمعنى جديد
كان حمله على التأسيس أوْلى من حمله على التوكيد؛ لأن التأسيس يضيف معنى
جديداً.
ومن أمثلة ذلك:
- من حلف يمينين: ألاَّ يأكل من بيت فلان، فإن نوى بالثاني التأكيد للأول،
فعليه كفارة واحدة، وأما إن نوى يميناً آخر، أو نوى التشديد على نفسه فعليه
كفارتان، وكذا إذا لم ينوِ شيئاً فعليه كفارة يمينين؛ لأن التأسيس أوْلى من التأكيد.
- وكذلك الحكم في الطلاق إذا كرره.
السابعة: الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر:
- هذه القاعدة تجري في سائر عقود المبادلة كالبيع والإجارة والنكاح؛ حيث
يشترط لصحتها معرفة البدلين، وانتفاء الجهالة، وذلك يكون بتمييز الشيء عن
غيره بجنسه ونوعه وصفته، ... فإذا كان هذا الشيء حاضراً فالعبرة لتعريفه
بالإشارة؛ لأن التعريف بها أقوى من التعريف بالوصف، وأما إذا كان هذا الشيء
غائباً، فإن العبرة بذكر أوصافه؛ إذ لا تمكن الإشارة إليه.
من فروعها:
- إذا قال: بعتك هذه السيارة البيضاء - وأشار إلى سيارة سوداء - وقَبِلَ
المشتري، تم البيع؛ لأن وصفها بالبياض لغو، لأجل أنها حاضرة أمامه يراها،
بخلاف ما لو باعه سيارة بيضاء وهي غائبة؛ فإن للمشتري خيار الفسخ.
- إذا قال: زوجتك ابنتي هذه الطويلة، والزوج يعرف أنها قصيرة، وقَبِلَ،
تم النكاح ولا فسخ له، بخلاف ما لو لم يكن يعرف أنها قصيرة.
- إذا قال: أجَّرتك هذه الدار الجديدة بحديقتها - مع أنها لا حديقة لها -
والمشتري يراها ويعرف ذلك، تم التأجير، ولا خيار للمستأجر، بخلاف ما لو
وصف له داراً جديدة وذكر له أن فيها حديقة فإن للمستأجر فسخ العقد إذا تخلف
الوصف.
الثامنة: السؤال معاد في الجواب، أو كالمعاد في الجواب:
فمن سئل: هل لفلان عليك دين؟ فقال: نعم، أو سئل: ألم تسرق كذا؟
فقال: بلى ... فإنه يكون إقراراً منه، كأنه قال: نعم لفلان عليَّ دين، وبلى
سرقت كذا ...
وقد يكون المراد بالسؤال أعم من الاستخبار والاستفهام، فيشمل الإخبار
والإنشاء، كمن قيل له: باع فلان دارك، فقال: رضيت، صح البيع، واعتبر
قوله إذناً، وكما في سائر العقود من الإيجاب والقبول، كما لو قال لآخر: بعتك هذا، فقال قبلت، أو نعم، تم البيع أو قال الولي: زوجتك فلانة، فقال: قبلت، تم
العقد [17] .
__________
(1) انظر: الأ شباه والنظائر، للسيوطي: ص157، وابن نجيم: 188، والوجيز للبورنو: 210.
(2) انظر: القواعد الفقهية، ص353، 354.
(3) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 126 - 128، ابن نجيم، ص 148- 149، ورسالة السعدي، ص32 ومبحث التداخل مبحث كبير مهم من مباحث الفقه، له ضوابطه وحالاته، ينظر فيه: التداخل بين الأحكام، للخشلان، والتداخل وأثره، لمحمد منصور.
(4) انظر: القواعد: 23.
(5) واختلف في سقوطه عن الإمام والأفضل للمأموم أن يشهد الصلاتين، وإذا شهد العيد ولم يشهد الجمعة فأنه يصلي الظهر في وقتها.
(6) انظر: رسالة السعدي: 22، والقواعد، لابن رجب: 298.
(7) الحديث أخرجه البخاري، ح/2143، ومسلم، ح/ 1514.
(8) انظر: الوجيز: 387.
(9) أخرجه ابن ماجه، ح/3380، وانظر صحيح ابن ماجه، ح/2725.
(10) أخرجه مسلم، ح/1582.
(11) أخرجه البخاري، والزرقا: 215.
(12) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: 150، وابن نجيم: 183، والوجيز: 387، والزرقا 215.
(13) ولابد من التنبيه على أمرين بالنسبة لهذه الصورة لكثرة وقوعها: الأول: أن وصول التعامل بين المسلمين إلى هذا الحد، منذر خطر عظيم؛ إذ هو دليل على زوال الرحمة والتعاون، وتغلغل حب الدنيا في القلوب، حبا مقدما على حب الله، وتعظيم نواهيه الثاني: أن الضرورة تقدر بمقدرها، وليس كل ما يظنه الناس ضرورة يكون كذلك، فليس من الضرورة الاقتراض لسفر مباح فضلا عن محرم أو تجديد أثاث أو مركب فإذا تحققت الضرورة جاز الأخذ على قدر الحاجة.
(14) الروح، لابن القيم، ص322323.
(15) وهو منسوب إلى العز بن السلام، انظر: أشباه السيوطي: 116، والوجيز: 162.
(16) انظر: قواعد الأحكام، للعز: 2/190191، ورسالة السعدي: 3031، والوجيز في أصول الفقه، لزيدان: 200 وما بعدها، والقواعد للندوي: 388.
(17) انظر: أشباه السيوطي: 128، وابن نجيم: 150، والوجيز: 314، والقواعد للندوي: 355.(143/24)
تأملات دعوية
التربية الأسرية مطلب ملحٌّ
محمد بن عبد الله الدويش
لقد أسهم انفتاح العالم الإسلامي اليوم على المجتمعات الأخرى في انتشار
ألوان من المؤثرات والمغريات، ولم يعد البيت ذاك الحصن الذي يتحكم راعيه فيما
يدخله ويخرج منه؛ بل أصبح معرضاً متنوعاً لما ينتجه العالم بأسره من نتاج فكري، أو مادي لا يخلو هو الآخر من أبعادٍ فكرية، مما يفرض تحديات تربوية أكبر،
ويزيد من عبء أولئك الذين يعنون بتربية أبنائهم ورعايتهم.
وفي المقابل أفرزت التغيرات الاجتماعية نتائج أسهمت في تقليص دور
الأسرة؛ فالأسرة التي كانت تسكن في بيت صغير يجتمع أفرادها فيه ويتحلقون
ساعات عدة ويتبادلون ألوان الحديث تفرقوا في منزل شاسع يحتاجون معه لأجهزة
اتصال داخلية.
واستولت أجهزة الإعلام على جزء لا يستهان به من وقت الأسرة، حتى
الوقت الذي يتناولون فيه الطعام أو الشاي، صاروا ينصتون فيه لما تبثه تلك
الوسائل.
وأدى الاعتماد على السائقين والخدم إلى تبديد جزء من الوقت الذي يقضيه
الأولاد مع آبائهم وأمهاتهم.
كل تلك المؤثرات أدت إلى تضاؤل وقت الأسرة ودورها، وصار من
المألوف أن نرى هوة واسعة بين سلوك الآباء والأبناء.
وهذا يدعو إلى إعادة النظر في دور الأسرة ومهمتها، وهل الأسرة المسلمة
اليوم تترك أثرها في رعاية أبنائها؟
إننا نحتاج إلى أن يعتني الدعاة بأُسرهم، ويوفروا لهم جزءاً من أوقاتهم، ولا
يسوغ أن تكون أسرهم ضحية لبرامجهم وانشغالاتهم الدعوية، ولا بد أن يفكروا
بجد في تخصيص أوقات يشاركون فيها أبناءهم ويعايشونهم.
ونحتاج إلى أن نعيد النظر في كثير مما أفرزته التغيرات الاجتماعية، وألا
نستسلم ونستجيب لها بغض النظر عن آثارها؛ بل نقبل منها ونرفض وَفْقَ ما
يحقق مصالحنا الشرعية، ويدرأ عنا المفاسد.
ونحتاج إلى أن يتعاون الدعاة فيما بينهم، من خلال تنظيم برامج وزيارات
أسرية مشتركة؛ فهم يعيشون واقعاً متقارباً، وتطلعات واحدة، وأن يتعاونوا من
خلال مقترحات وبرامج متبادلة.
ونحتاج إلى ترتيب برامج وأنشطة على مستوى الأسر والعائلات، وأن تدعم
هذه اللقاءات ويُسعى لإحيائها.
ونحتاج إلى بذل جهود واقتراح أفكار وبرامج تسهم في تطوير دور الأسرة
التربوي، ولعل مثل هذه الدراسات العلمية أوْلى بالاعتناء من كثير مما يطرح في
الساحة من نتاج مكرر أو لا يرقى إلى مستوى النشر.
ونحتاج قبل ذلك كله إلى تصحيح الفهم حول الدور التربوي للأسرة الذي
صار يقتصر - لدى فئة كبيرة من الناس - على الحماية والرقابة والأمر والنهي
فقط، كما ينبغي أن يكون للأسرة دور في تربية النفوس على الإيمان والتقوى،
وأن تعمر بذكر الله وما يرقق القلوب، وها هي قصة لقمان وحواره مع ابنه تبقى
قدوة للناس أجمع، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يولي هذا الجانب أهميته،
فيُعنى بتربية مَنْ تحتَ يديه وتوجيههم؛ فعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما -
قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: (اللهم
اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) [1] .
ومن بعده سار السلف على هذا المنوال؛ فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه -ضي الله عنهما- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء
الكلمات كما تُعلَّمُ الكتابة: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن،
وأعوذ بك من أن نُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب
القبر) [2] .
__________
(1) رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) ، والنسائي (1745) ، وأحمد (1720) .
(2) رواه البخاري (6390) .(143/34)
دراسات تربوية
صفات المربي دراسة تحليلية
(1-2)
أحمد فهمي
إن تأمُّل تاريخ الدعوة يخبرنا أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب
طريقاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم.
وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين - من الناحية العملية -: منهج
واضح شامل (يمثل الشق النظري) ، ومربٍ كفء (يمثل الشق العملي) ، وأن
جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين
الركنين، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصف
قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه النصف
الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق.
فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي. وبادئ ذي
بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه
الصفات، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل.
1 - العوامل المؤثرة على المتربي:
وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في
مختلف جوانبه.
أهم هذه العوامل: المجتمع الذي يعيش فيه، ويخضع لقواعده ونظمه،
وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام، وكل ذلك
يحتوي - غالباً - على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل
نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه.
وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل: الحالة الأسرية، والاقتصادية،
والثقافية، والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
وأيضاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة
والدعوة؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه.
وهذه العوامل - مع اختلافها - يجمعها: أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم
بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب، لوجدنا
أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة.
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد،
ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن
الاختلال والعشوائية.
ولهذا نقول: إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربياً؛ فللمربي صفات تتناسب
مع الدور الذي يقوم به.
2 - المربي والداعية والقائد:
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة، ومن ثَمَّ يخلطون بين
الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها. ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن
مبدأ (كُلُّه خيرٌ) ، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير
في الأوساط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار.
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة، ينبغي أن تلزمه صفات
ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل: الإخلاص، والعلم، والحكمة،
ونحوها، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر
مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل، وهذه المستويات والصفات
الإضافية هي موضوعنا لا غير.
ونستطيع أن نقول: إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وعملهم نحو تحقيق
الأهداف الموضوعة، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على
تحقيق تلك الأهداف، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار
واحد.
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج
انتقائه من بين الصحابة لأدوار تربوية أو قيادية، فهو صلى الله عليه وسلم قد
رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى
الإسلام ما استطاع، ثم كان ينتقي أشخاصاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول
- مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة، واختياره معاذ بن جبل
وإرساله إلى اليمن، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه، ونعرف
أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما.
فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً،
مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - لقيادة
بعض السرايا، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما.
3 - المربي بين التساهل والمبالغة:
هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية:
الأول: يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، ولزوم تحققها
فيه بمستويات عالية، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي
الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى أنه يكاد ألاَّ يكون هناك تربية ولا
مربون، وإنما هو العبث وسد الخانات، ثم تبقى هذه المواصفات المثالية طي
الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة.
الثاني: يقوم على التساهل في صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل
أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات
الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى.
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي.
فالاتجاه الأول يتجاهل أن (المثاليات تتفرق في نفوس شتى، ولا تجتمع في
نفس واحدة كل المثاليات) [1] ، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و (إنما
الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [2] كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لكل
من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل، وهذا ما حذرنا منه
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله - إذ لما استَعْمَل على الجزيرة
وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران - رحمه الله - صعب على ميمون أن
يحاكي الوضع المثالي هناك، فكتب إلى عمر يستعفيه: كلفتني ما لا أطيق. فكتب
إليه عمر: اجْبِ من الخراج الطيب، واقضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر
فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا [3] .
ولذلك؛ فمهمة الصورة المثالية إذن: العلاج من الانحرافات على ضوئها،
وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولاً، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل
انتكاس، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال [4] .
أما الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار: (الجُود بالموجود) فيفوته أن اعتبار
احتياجات العمل الدعوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في
التصور يتبعه خلل في العمل؛ إذ إن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية
مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النموذج المثالي استرشادياً، والنموذج الواقعي
المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به، فماذا نفعل؟
والجواب: أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران:
الأول: صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً.
الثاني: أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف
الظروف والبيئة الدعوية - يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج
الانفتاحي وبين النموذج المعتدل.
وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر، كما قرر
الإمام مالك - رحمه الله -: (لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من
كان أعلم منه) [5] ، ثم يأتي بعده التفاعل والارتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب
الخبرة والتمرس في العمل التربوي.
والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي: وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد
على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على
ذكر فضل الصفات وأهميتها، نتجاوز ذلك إلى تحديدٍ أدق لمعنى تلك الصفات
تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي.
الصفات الأساسية للمربي: وهذه الصفات المختارة - والتي هي من
مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي - يمكن تقسيمها وترتيبها - وفق ابتداء
تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: مقومات البدء والانطلاق، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى
القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني) .
الثانية: مقومات الإتقان، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع
مستوى الأداء التربوي) .
الثالثة: مقومات الاستمرار، (الصبر على.... و....... و......) .
أولاً: مقومات البدء والانطلاق:
الصفة الأولى: العلم: ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ
واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما
نقصده من وصف المربي بالعلم، وهي:
1 - المنهجية في تحصيل العلم: وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له
بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه، إلا أنه ينبغي أن يحرص على
تعويض ذلك بأمرين:
الأول: الشمول والتوازن في طلب العلم: وذلك بأن يحرص أن يكون له في
كل مجال طلب، وفي كل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله
التربوي، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة، أو أن يتعمق في
مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما
يُحصِّل بما يعمل.
الثاني: الضبط العلمي: ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال
لقائليها أو مواضعها أو مظانها، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف،
وإتقان لفظ النص، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك، وقبيح بالمربي أن تكثر
على لسانه عبارات مثل: أظن أن قائله فلان، أو أظنه صحيحاً، أو ما معناه،
ونحوه.. فإنه إن كان (نصف العلم: لا أدري) ، ف (نصف الجهل: يُقال،
وأظن) [6] .
واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم
نسبياً، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير
القراءات متشعب الاهتمامات العلمية.
وقد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً،
فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة: الإملاء،
العرض، المقابلة، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون.
كما أن عدم الضبط يعني كثرة الخطأ، أي: تلقين المتربين معلومات أو
أفكاراً خاطئة يحملونها، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة؛ بل قد
ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عليه مما يعني توارث الأخطاء. أسند الخطيب عن
الرحبي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحَّان لحَّان
آخر، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، صار الحديث بالفارسية [7] .
2 - التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه
وتربية الناس عليه: فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط
الاختلافات، ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها
الألفاظ وتدعو إليها؛ بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات
والإشراقات، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانية من اتباع طريقة السلف في حفظ
العلم عن طريق العمل به؛ فذلك مما يفتح على طالبه باباً عظيماً من فوائد العلم
وإشراقاته إن عَلم فعمل؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: (كنا نستعين
على حفظ الحديث بالعمل به) [8] .
3 - التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي.
فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في
المراجعة والطلب، فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: (لا
يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو
أجهل ما يكون) [9] .
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمرار التعلم يغفل عن أن عمله
ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي
يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن
مهدي: (إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار: إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق) [10] .
فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم، ثم يصل بعدها إلى مرحلة
التحضير بالقطعة أو بالطلب، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار، وقد يشعر المتربي
بأن مربيه قد فرغ جرابه، مع ما في ذلك من أثر سيئ.
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم
ومذاكرتهم العلم، وبين تعليمهم إياه، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه
الله -: (كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته،
سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من
هو مثله في العلم، ذاكره ودارسه) [11] .
4 - وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه:
قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة
والوقار [12] .
فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به، مما يوفر
على المربي جهداً كبيراً، ويُقرِّب له التوفيق من عمله. قال أحمد بن سنان: (كان
عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبْرى قلم، ولا يقوم أحد كأنما
على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس
نعليه ودخل) [13] فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه
الحال؟ !
وفي المقابل: حين دخل - رحمه الله - على الوليد بن يزيد - وهو خليفة -
فقال له الوليد: يا ربيعة! حدثنا! قال: ما أحدِّثُ شيئاً. فلما خرج من عنده قال:
ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية: حدثنا يا
ربيعة! [14] .
الصفة الثانية: حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الهَدْي الصالح،
والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) [15] .
فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به
ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.
والسمت والهَدْي متقاربا المعنى؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل
الخير [16] ، والهدي هو الطريقة أو السيرة [17] ، وهدي الرجل سيرته العامة ... والخاصة وحاله وأخلاقه [18] .
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة
وحركات وسكنات ونحوه، ولا يتسع المجال - بالطبع - لاستعراض تفاصيل ذلك، ولكن لكل علم مظانه [19] .
والمراد: أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب؛
إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به [20] ، وإذا كان
مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالاً كبيراً لتبادل الطباع والأخلاق؛ إذ الطبع لص
- كما يقولون - يسرق من غيره؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر
الاحترام والاعتراف بالفضل.
ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن
مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن
يُمسك في إحدى يديه قلماً، وفي الأخرى ممحاة، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته
يسراه، (ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على
أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد) [21] .
ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير التربوي نقول: إن الخطاب التربوي
يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور:
الأول: الكلام النظري ونعني به: بيان الأمر مع الثواب أو العقاب.
الثاني: حكاية الفعل ونعني به: ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً
أو تاريخياً.
الثالث: رؤية الفعل (عمل المربي) ونعني به: التنفيذ العملي الذاتي لما سبق
فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً.
ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل،
لوجدنا أن ثالثتها (رؤية الفعل) أشد أثراً وأبقى.
فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام؛ ولكنه استعداد مؤقت في
الغالب، ولذلك يلزمه التكرار. وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن
أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي.
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى
القاع وتسكن بلا حراك، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل.
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك:
في صلح الحديبية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب
(يعني الصلح) قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم
سلمة - رضي الله عنها - فأخبرها الخبر، فقالت له: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم
كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا
فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً [22] .
نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم
يترجم إلى عمل، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ؛
فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها
وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية، وبدونها
يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان.
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:
1 - توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير
مباشر - بالمحاكاة والتقليد.
عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر
فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه [23] .
2 - تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول
إليها، وبذل الجهد في ذلك؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صارت
لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها؛ فهذا عبد الله ابن عون - رحمه الله -
من أعلام السلف، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته. عن معاذ قال:
حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ
عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه [24] ، وورد
مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.
3 - يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً،
فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية
راشدة.
قال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله
ولم يسمع كلامه [25] .
4 - اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، كان أبو
العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة، وكان
الناس يسمعون كلامه. قال الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد الزعفراني وأظهر
خلق القرآن سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح
إلى بُخارى [26] .
ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا
ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب
بركة علمه مني [27] .
كيف يُكتسب السمت الحسن؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:
1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت
فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [28] .
2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف - رحمهم الله
- منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال
الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين [29] ،
ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ
من علمه [30] .
3 - الاطلاع على حكايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء
أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم [31] .
4 - لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء
ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه
مع أهل العلم [32] .
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى
اليوم [33] .
5 - التنفيذ الفوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب
العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره [34] .
6 - مجاهدة النفس وتعويدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر
يوقه) [35] .
وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.
7 - معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا
يفلح [36] .
وقال ابن وهب: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني،
فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛ فمِنْ حُبِّ
الدراهم تركت الغيبة [37] .
الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربوي، أو ما له تعلق غير مباشر به،
ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:
الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم
وصفاتهم.
ومصادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد
مباشرة، كلٌّ بحسب حاله من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه
السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جمع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها
من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضوعات، وفي الجلوس مع الكبراء
في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون للأمور المحافظون
على تكثير الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم [38] .
وعن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: كان يقال: جالس الكبراءَ،
وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء [39] .
وأيضاً يمكن استمداد هذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ
القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال السخاوي: (من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب
الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر
ولا غمر) [40] .
الثاني: الثقافة العامة، بمعنى: الاطلاع السريع على العلوم الأساسية
الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:
1- معرفة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها؟ يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول: (وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس) [41] .
2 - توسيع المدارك وتعميق الأفهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها
أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى القياس المستقيم، وربط الأسباب
بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على
مختلف العلوم كلاماً نفيساً: (ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم
الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح
الذهن والإدراك) [42] .
3 - زيادة قدرة المربي على التحدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي
يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يحتاج إلى التواصل معها بكفاءة،
والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم ليس فيه إلا محطة
واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛
فاحتمال غلقه غير وارد.
4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من
فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم
وتصرفاتهم.
أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التربوية - فلا غنى عنها للمربي؛
فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف منهج التربية وما يتضمنه
من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف
على ذلك بوصفه إما كلاماً نظرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو
نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:
الأول: الكتب (المصادر المقروءة) : وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ
والمفاهيم التربوية، وكذا التجارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد
يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب
العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مستقيم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، ومن
العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تلك التجارب؛
خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد
أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا
استفاد منه شيئاً [43] .
الثاني: السماع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من
تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى
المربين.
والممارسة تعني: أن ينتفع المربي من تجربته الذاتية في العمل التربوي،
فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُستجد من أعماله اللاحقة، وكما قيل:
من التوفيق حفظ التجربة.
الصفة الرابعة: العمق الإيماني:
ونعني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه
وقربه من الله - عز وجل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله،
والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة
مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فيه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد
كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب
إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب السامعين. قال الحسن وقد سمع
متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو
بقلبي [44] .
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه -
سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه
بعدت عنه القلوب.
ومن أروع المشاهد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على
التربية، ذلك المشهد الذي رسمه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -
يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما
هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً
وطمأنينة [45] .
__________
(1) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، ص379.
(2) البخاري، ح/6498، ومسلم، ح/2547.
(3) البداية والنهاية لابن كثير، ج/9/317.
(4) دراسات في النفس الإنسانية، ص382.
(5) حلية الأولياء، ج/6/316.
(6) حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص45.
(7) المصدر السابق، ص59.
(8) اقتضاء العلم العمل، ص90.
(9) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ص28.
(10) النظم التعليمية عند المحدثين، المكي أقلانية، ص93.
(11) المصدر السابق، ص82.
(12) التذكرة، ص16.
(13) سير أعلام النبلاء، ج9، ص201.
(14) الجامع لآداب الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، ج/1/336.
(15) صحيح الأدب المفرد، ص294.
(16) القاموس المحيط، ص197.
(17) المصدر السابق، ص1734.
(18) الإعلام، ص139.
(19) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل: (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ورسالة تقرير ميداني، لمحمد الراشد) .
(20) القاموس المحيط، ص1706.
(21) فضائح الفتن، ص5.
(22) تفسير ابن كثير، ج4، ص198.
(23) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742.
(24) سير أعلام النبلاء، ج6، ص366.
(25) رسالة للمحاسبي، ص: 60.
(26) سير أعلام النبلاء، ج14، ص394.
(27) لباب الآداب، ص: 227.
(28) البخاري، ح/520، ومسلم، ح/1599.
(29) الأعلام، ص143.
(30) سير أعلام النبلاء، ج 14، ص35.
(31) التذكرة، ص50.
(32) حلية الأولياء، ج14، ص35.
(33) الإعلام، ص206.
(34) شعب الإيمان للبيهقي، ج2/291.
(35) حسن صحيح الجامع للألباني، ص461، ج1.
(36) الفتح الرباني، ص22.
(37) سير أعلام النبلاء، ج/9/228.
(38) فيض القدير للمناوي، ج/3/220.
(39) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج/1/126.
(40) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ السخاوي.
(41) مفتاح دار السعادة، ج/1/295.
(42) الفتاوي، ج9/128.
(43) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، عبد الفتاح أبو غدة، ص1.
(44) البيان والتبيين للجاحظ، ص59.
(45) الوابل الصيب، ص 45.(143/36)
قضايا دعوية
العمل المؤسسي ...
معناه، ومقومات نجاحه
عبد الحكيم بن محمد بلال
لعل من أخطر ما تعانيه الأمة الإسلامية: غياب الروح الجماعية.
ولقد انعكس هذا الواقع على الفكر - كما للأخير انعكاس عليه - فصار من
عللنا الفكرية: ممارسة التفكير بطريقة فردية، ومنها أيضاً: نمو التفكير في شؤون
الفرد على حساب التفكير بشؤون المجتمع. وعليه: فإن الفقه المتعلق بشئون الفرد
وحركته وحقوقه وواجباته ظل أكثر نمواً من الفقه الذي يهم الجماعة، ففُصِّلت
الفروض العينية، وبقيت الفروض الكفائية - والتي تصير عينية بالتقصير فيها -
بقيت عند بعضهم عائمة، كمسألة: كفاية الأمة في كل جوانبها، وكمسألة: أهل
الحل والعقد، وبيان تشكيلهم، ودورهم.. وبقيت الدراسات التي تتناول أبنية
المجتمعات الإسلامية التاريخية ومشكلاتها وأطوارها محدودة؛ ونتيجة لذلك فقد
رأينا سجل التاريخ حافلاً بالمآثر الفردية ضامراً في الأعمال الجماعية.
والسبب أن الوعي المدني لم يتم تنظيمه بشكل كافٍ، فهو بحاجة إلى
المؤسسات المختلفة [1] .
ولقد تأصلت فكرة الفردية اليوم، ثم تأزم الموقف حين ورث كثير من الدعاة
إلى الله-تعالى- ذلك المرض من أمراض التخلف الحضاري، فلا تزال ترى اليوم
كثيراً من التجمعات الإسلامية محكومة بعقلية الفرد، تعيش مركزية القرار، رغم
ازدياد التحديات، وتوالي المحن، وتفاعل الأزمات.
ولئن كان بعض الدعاة في العقود الماضية يسعون إلى مجرد الانتشار الأفقي
للدعوة، فإنه لا يقبل من أحد اليوم التفكير بعقلية تلك المرحلة؛ فلقد صارت
الصحوة اليوم معادلة صعبة في الموازين العالمية، والخطر الأوحد أمام الأنظمة
الغربية، بل نستطيع القول: إن كثرة الأتباع غير الواعين أصبح يمثل هاجساً
للدعاة والمصلحين أنفسهم.
وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم. كما أنه من الضروري
العناية بتنمية الفكر الجماعي، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب
القوة والتحدي في هذا الزمان، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت
الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد؛ فالولايات المتحدة
الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً هائلاً من
المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير أفراد
حكوماتها إلا من منطلق جماعي.
وفي هذه المقالة: محاولة لتأصيل الفكر الجماعي، وبيان معنى العمل
المؤسسي، وتحديد المراد به، ثم عرض شيء من مزاياه وفوائده، وبعض أسباب
تقصير الدعاة في الأخذ به، ثم ذكر مقومات نجاحه. وما هذا الطرح إلا إثارة
للموضوع؛ ليأخذ طريقه إلى حوار جاد [2] .
نحو وعي أعمق للروح الجماعية:
إن تغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس، ومن عناصر
ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها:
مفهوم الفرد، والجماعة، وهو - بحمد الله - مفهوم في غاية الوضوح.
إن الفرد هو العنصر الأساس في بناء الأمة، ولكن شرط قيامه بدوره الأكمل
هو تعاونه مع بقية أفراد الأمة.
والأمة التي يتعاون أفرادها هي أمة الريادة؛ لأن تعاونهم يضيف كل فرد إلى
الآخر إضافة كيفية لا كمية، ومن ثم تتوحد الأفكار والممارسات من أجل تحقيق
رسالة الأمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي صحابته على الروح
الجماعية، روح الأمة، كما ضرب مثلاً - للمجتمع - بقوم أقلَّتهم سفينة، إن أراد
أحدهم خرقها وجب على الجميع الأخذ على يده، وإلا غرقوا جميعاً [3] ؛
فالمسؤولية في بلوغ الريادة تقع على الأمة جميعاً في مقابل أمة الكفر.
والعودة بالناس إلى روح الأمة يستدعي إجراءات، أولها: فك الارتباط القائم
بين العمل الإسلامي والأُطُر الحزبية الضيقة [4] ؛ ليتقبل العمل الإسلامي
الاستراتيجية الصائبة الموصلة إلى الهدف، سواء انبعثت من داخله أو خارجه.
وهذا يجرنا إلى الإجراء الثاني المتمثل في تنمية الصفات التي تحقق التفاعل
بين الأفراد وتعميقها، كالأخوة، والشورى، والتواصي بالحق وبالصبر، والعطاء
المتبادل، والقدرة على التجميع، مع موالاة الأمة، لا الحزب.
ولا بد في ذلك من تحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية،
وهذه مهمة التربية المتوازنة التي لا تحيل الأفراد أصفاراً، وأيضاً لا تنمي فيهم
الفردية الجامحة، بل توفر لهم المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم، مع اختيار
أساليب العمل التي تحول دون التسلط، وتنمي المبادرات الذاتية، وترسخ الشورى.
ويكفل كلَّ ذلك إجراءٌ ثالثٌ يحوِّل العمل من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار
وتطبيقه ومراقبة تنفيذه إلى أسلوب المشاركة التي تُحسِّن الأداء وتنمي الشخصية،
فيلتقي نموها مع روح الفرد التي أثمرها التعاون فيزداد التفاعل وتتكامل الجهود.
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني كلٌ منهما: (التعاون) و (العلمية)
أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم؛ فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما ... هو التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة
الله، وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية [5] .
تعريف العمل المؤسسي:
كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل، لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبرى وفرق عمل وإدارات متخصصة: علمية،
ودعوية، واجتماعية؛ بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة
اختصاصها ... يعتبر عملاً مؤسسياً.
وليس المراد بالعمل المؤسسي العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي؛ إذ
مجرد التجمع على العمل، وممارسته من خلال مجلس إدارة، أو جمعية أو مؤسسة
لا يجعله مؤسسياً، فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح
ومجالس وجمعيات عمومية إنما تمارس العمل الفردي؛ لأنها مرهونة بشخص منها
فهو صاحب القرار [6] ، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل
المؤسسي.
مزاياه وفوائده [7] :
1 - تحقيق مبدأ التعاون والجماعية الذي هو من أسمى مقاصد الشريعة.
2 - تضييق الفجوة بين عمل الدعاة، وردم الهوة بينهم بتحقيق ذلك المبدأ،
وتأسيس الأعمال المشتركة بينهم؛ فإن ذلك يقلل التصادم والنزاع، وهي الطريقة
المتبعة بين الدول في تأسيس اللجان والمجالس المشتركة، وهو ما لم يشعر بعض
الدعاة بأهميته وضرورته بعد [8] .
3 - تحقيق التكامل في العمل، وذلك في عمل الفرد عزيز، فكثيراً مما
يحصل من القصور في عمل الفرد يتلاشى في عمل المؤسسة؛ إذ المفترض حدوث
التكامل باجتماع الجهود، والمواهب، والخبرات، والتجارب، والعلوم، مع التزام
الشورى، والتجرد للحق.
وأيضاً: فإن العمل الفردي يصطبغ بصبغة الفرد، بينما المفترض أن يخلو
العمل المؤسسي من ذلك [9] .
4 - الاستقرار النسبي للعمل، بينما يخضع العمل الفردي للتغير كثيراً - قوة
وضعفاً أو مضموناً واتجاهاً - بتغير الأفراد، أو اختلاف قناعاتهم.
5 - القرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية؛ حيث يسود الحوار
الذي يَفْرض قيامُه وضعَ معايير محددة وموضوعية للقرارات تنمو مع نمو الحوار،
في حين ينبني العمل الفردي على قناعة صاحبه.
6 - دفع العمل نحو الوسطية والتوازن؛ إذ اجتماع الأفراد المختلفين في
الأفكار والاتجاهات والقدرات يدفع عجلة العمل نحو الوسط، أما الفرد فلو توسط
في أمر فلربما تطرف - إفراطاً أو تفريطاً - في آخر.
7 - توظيف كافة الجهود البشرية، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية؛
وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والعمل والإسهام في صنع القرار،
بينما هي في العمل الفردي أدوات تنفيذية رهن إشارة القائم بالعمل، ويوم أن
أعرض المسلمون عن هذا العمل خسروا كثيراً من الطاقات العلمية والعملية، فانفرد
أصحابها بالعمل، أو فتروا عنه [10] .
8- ضمان استمرارية العمل - بإذن الله تعالى - لعدم توقفه على فرد يعتريه
الضعف والنقص والفتور، ويوحشه طول الطريق وشدة العنت وكثرة الأذى.
وللمثال: فقد كان من أقوى أسباب استمرار التعليم قوياً في الدولة الإسلامية -
حتى في عصور الضعف السياسي -: قيامه على المؤسسات العلمية القوية التي
تمدها الأوقاف، كما تمد سائر الجهود الدعوية والإغاثية - التي لم يُتجرأ عليها إلا
في العصر الحديث - واليوم نرى استمرار المؤسسات الغربية قوية تساندها
جمعيات كثيرة [11] .
9- عموم نفعه للمسلمين؛ لعدم ارتباطه بشخصية مؤسسه، وهذا بدوره ينمي
الروح الجماعية الفاعلة، ويحيي الانتماء الحقيقي للأمة، وهذا مكمن قوتها.
10- مواجهة تحديات الواقع بما يناسبها؛ فإن الأمة اليوم يواجهها تحدٍّ من
داخلها، في كيفية تطبيق منهج أهل السنة مع الاستفادة من منجزات العصر، دون
التنازل عن المبادئ [12] ، كما يواجهها تحدٍّ من خارجها مؤسسي منظم؛ والقيام
لهذا وذاك فرض كفاية لا ينهض به مجرد أفراد لا ينظمهم عمل مؤسسي، كما لا
ينهض أفراد الناس لتحدي العمل المؤسسي في مجالات الحياة الاقتصادية، أو
السياسية، أو الإعلامية، أو غيرها.
11- الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات التراكمية، بعد دراستها وتقويمها
بدقة وإنصاف وحيادية، وبذلك يتجنب العمل تكرار البدايات من الصفر الذي يعني
تبديد الجهود والعبث بالثروات.
لماذا الإحجام عن العمل المؤسسي؟
ولسائل أن يقول: عَمَلٌ بهذه المزايا ما الذي حدا بالأمة اليوم أن تحجم عنه؟
ويجاب: بأن للأمر خلفيات وأسباباً، منها:
1 - طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة عامة، وعدم ترسخ العمل
المؤسسي في حياتها؛ لما اعتراها من بُعد عن الدين أدى إلى تأصل الفردية،
وضعف الروح الجماعية، والحوار والمناقشة والمشاركة، ولما حلّ بها من تخلف
حضاري أقعدها عن الأخذ بأسباب الفاعلية والنجاح، فأصابها التأخر وتبدد الطاقات.
2 - ضعف الملكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي،
بسبب إهمال العلوم الإنسانية التي أفاد منها الغرب، وهذا مما ورثه العاملون عن
مجتمعاتهم. وقد أدى هذا الضعف إلى الجهل بالعمل المؤسسي ومقوماته وأسباب
نجاحه فتلاشت الخطط، وأغلقت دراسة الأهداف وإقامة المشاريع، وصار العمل
مجرد ردود أفعال غير مدروسة أو عواطف غير موجهة [13] .
3 - حاجة الدعوة إلى الانتشار، مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة؛ مما حدا
بكثير من الدعاة إلى التركيز على الكم لا الكيف، والغفلة عن قدرة العمل المؤسسي
على الموازنة بين الكم والكيف، وتحقيق أكبر قدر منهما.
4 - الخلط بين العمل الجماعي والمؤسسي، والظن بأن مجرد قيام الجماعة
يعني عملاً مؤسسياً، في حين أن كثيراً من التجمعات والمؤسسات لا يصدق عليها
حقيقة هذا الوصف؛ لانعدام الشورى، والمركزية في اتخاذ القرار.
5 - الشبهات العارضة التي يتذرع بها المانعون من العمل الجماعي، بحجة
بدعيته؛ فأحجموا بذلك عن العمل المؤسسي انطلاقاً من هذه الشبهة.
6 - حداثة العمل الإسلامي المعاصر، فإنه إذا ما قورن عمره بعمر
المؤسسات الغربية بان قصيراً جداً. يقال هذا لئلا تُهضم الحقوق، ولكي نقترب
بالحديث من الإنصاف لهذه الصحوة المباركة؛ حيث نرى بوادر الاهتمام بالمجالات
الإدارية أكثر من ذي قبل.
لكي ينجح العمل المؤسسي:
للتربية الإيمانية المتكاملة أكبر الأثر في بناء الطاقات، وتنميتها، واستثمارها
استثماراً مناسباً، وهذا عماد العمل المؤسسي، ويمكن تفصيل المقومات اللازمة
لنجاحه على النحو الآتي:
1 - توفر القناعة الكافية بهذا الأسلوب من العمل؛ بإدراك ضرورته،
وخاصة في زمن القوة، وبمعرفة مزاياه وثمراته، وفهم مقومات نجاحه للوصول
به إلى المستوى المطلوب.
2 - صدور القرارات عن مجالس الإدارة، أو اللجان ذات الصلاحية،
حرصاً على خروجها من أدنى مستوى ممكن، لتكون أقرب إلى الواقعية وقابلية
التنفيذ، ولا يجوز أن يكون المصدر هو الفرد أو المدير؛ فإنه يستمد صلاحياته -
هو أيضاً - من المجالس، لا العكس، ويجب أن تملك المجالس واللجان صلاحية
مراجعة قرارات المديرين ونقضها.
3 - أن تكون مجالس الإدارة أو اللجان غير محصورة في بيئة واحدة
محكومة بأطر تنشئة وتربية وتفكير محددة مما يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار،
فوجود أفراد من بيئات مختلفة ضمن هذه المجالس يثري العمل المؤسسي بتوسيع
أنماط التفكير وتعديد طرق التنفيذ [14] .
4 - أن تسود لغة الحوار، حتى تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار، وأيضاً
حتى يخضع الرأي الشخصي لرأي المجموعة.
ويذكر هنا بالمناسبة: نزول النبي صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه في
أحد، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم، مع ميله للبقاء في المدينة، وتأييد رؤياه
لرأيه [15] ، وبعدما حصل ما حصل لم يصدر منه لَوْم لأولئك المقترحين للخروج.
5 - تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً
مرجعياً لهم، توجه خطة العمل، وتناسب المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة.
6 - التسامي عن الخلافات الشخصية، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة
الشخصية، وهذا يتم بتحسين الاتصال والتواصل بين أفراد المؤسسة بعضهم مع
بعض، وبينهم وبين سائر العاملين في الحقل الإسلامي.
وهذا أساس قوي للنجاح؛ ففي استفتاء لعدد من القياديين الناجحين اتضح أن
الصفة المشتركة بينهم هي القدرة على التعامل مع الآخرين [16] ، ولن يتم ذلك
لأحد ما لم تتربَّ أنفسنا على العدل والإنصاف، ومعرفة ما لدى الآخرين من حق،
ومحاولة فهم نفسياتهم من خلال نظرتهم هم لأنفسهم، لا من خلال نظرتنا نحن.
7 - الاعتدال في النظرة للأشخاص؛ فإنه في حين يصل الأمر لدى
المنحرفين عن أهل السنة والجماعة في نظرتهم للأشخاص إلى حد الغلو والتقديس،
فإنَّا نجده عند بعض أهل السنة - الذين سلموا من الغلو - بالغاً إضفاء هالة على
بعض الأشخاص تؤثر في مدى استعدادهم لمناقشة رأيهم، أو احتمال رفضه مع
بقاء الاحترام الشخصي، وهؤلاء يشكلون ضغطاً على العمل المؤسسي وتوجيهاً
غير مباشر للآراء [17] .
وكأن هذا ما أراده عمر - رضي الله عنه - حين عزل خالد بن الوليد -
رضي الله عنه - خشية تعلق الناس به، وربطهم النصر بقيادته [18] .
8 - إتقان التخطيط، وتحديد الأهداف لتنفيذها، وتوزيع الأدوار، وهذا
يتطلب مستوى جيداً في إعداد القادة والمسؤولين، وتدريب العاملين مع الاستفادة من
كل الإمكانات، وتوظيف جميع الطاقات، بعد التعرف عليها جيداً [19] .
والمهم هو التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس والخطوط
العامة، دون الانهماك في المسائل الإجرائية، والتي قد لا تحتاج إلا لمجرد قرار
إداري أو إجراء تقليدي، ودون المسائل التي يكثر الجدل والخلاف حولها.
ولضبط الخطط، وإتقان تنفيذها، وبلوغ الأهداف، يراعى الآتي:
أ - الأناة في التخطيط، والحماسة في التنفيذ [20] ؛ فالأول: لمراعاة
القدرات والإمكانات، ومعرفة التحديات وحسن تقدير العواقب، وتحاشي مخاطر
السرعة، والثاني: لاستباق الخيرات، وكسب الزمان، واغتنام الهمة، ومبادرة
العزيمة.
ب - أهمية قيام المؤسسات بأداء أعمالها بأساليب علمية حكيمة تكفل
استمرارها وأداءها لعملها على الوجه المطلوب، وحتى لا تتعرض لكيد الكائدين
وأساليب المغرضين، ولا ينبغي أن يكون أهل النفاق أكثر حنكة منا؛ فكم نالوا
أهدافهم من جمعياتهم وأعمالهم حتى بلغوا مناهم [21] . اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا
من شر أنفسنا [22] .
__________
(1) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار، ص 39.
(2) بعد إعداد هذه المقالة اطلعت على رسالة قيمة لما تطبع بعد بعنوان: العمل المؤسسي الإسلامي ودوره في التغيير الشمولي، د سامي الدلال جزاه الله خيرا.
(3) انظر الحديث في البخاري، كتاب الشركة، باب (6) ، 3/11.
(4) التي تحبس صاحبها في بوتقة ضيقة، فيحصر ولاءه في الحزب، ولايعرف الدعوة إلا بمفاهيمه، بغض النظر عن مدى التوافق مع الشريعة.
(5) انظر: مقالا بعنوان: روح الفريق والمبادرات الذاتية، لمحمد بدري، في مجلة البيان، العدد83، ص42.
(6) انظر: مقالا لعبد الله المسلم، مجلة البيان، العدد: 118، ص18.
(7) انظر: مقال: لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 117، ص 38.
(8) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار، ص 238.
(9) انظر: العمل الجماعي، د عبد الوهاب الديلمي، ص 35.
(10) انظر: خواطر في الدعوة، محمد العبدة، ص165.
(11) انظر: خواطر في الدعوة، ص147.
(12) انظر: خواطر في الدعوة، ص37.
(13) انظر: البيان، العدد: 110، ص4.
(14) الفكرة مقتبسة من: المسار، لمحمد الراشد، ص6266، فليراجع.
(15) كما في مسند أحمد: 3/351، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي، ص269.
(16) انظر: دليل التدريب القيادي، ص142.
(17) انظر: مقالأ لعبد الله المسلم، في مجلة البيان، العدد: 118، ص 18.
(18) راجع البداية والنهاية، 8/115، وقد يوجه الأمر توجيها آخر، انظره في الفتاوي لابن تيمية: 28/256.
(19) انظر: مشكلات وحلول، للبلالي، ص183، ودليل التدريب القيادي، ص137 وما بعدها، والمسار للراشد، ص166167.
(20) انظر: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د بكار، ص162.
(21) انظر مقالا لعبد القادر حامد، البيان، العدد: 31، ص96.
(22) الموضوع بحاجة ماسة إلى إثراء، ويمكن الاستفادة فيه من كتب الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة، مثل: الخطوات الذكية، الإدارة بضمير، (مترجمة) ، وتنظيم العمل الإداري في النظام الإسلامي، د محمد الأغبش.(143/46)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منَّا في إطلاع
قراء على ما يتسير لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة لقارئها
سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر، والله الموفق.
* التعليقات الرضية على الروضة الندية، للإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني، دار ابن عفان، القاهرة، 1420هـ.
تعليقات لطيفة أثبتها - حفظه الله - أثناء تدريس الكتاب، ولكنها لم تستوعب
كل ما ينبغي التعليق عليه، فضلاً عن تغيُّر الاجتهاد في عدد منها، وهي ما بين
شرح لغريب أو مصطلح، أو تخريج ونقد، أو مناقشة وتعقب، أو ذكر قاعدة، أو
اختيار وترجيح.
* مجموع فتاوى وبحوث، للشيخ عبد الله بن منيع، دار العاصمة، 1420هـ.
المؤلف فقيه أصولي، عضو في اللجنة الدائمة للإفتاء، وقد جمع في كتابه
عدداً كبيراً من بحوثه العلمية، وفتاواه الشرعية، وأحاديثه الإذاعية فجاءت متنوعة
وشاملة لأبواب عديدة في العقيدة والشريعة والأخلاق، فجاءت حديقة غنَّاء تسر
الناظر، وتفيد المُطالع.
* الحكم بغير ما أنزل الله: أحواله، وأحكامه، د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، دار طيبة، 1420هـ.
بيّن المؤلف منزلة تحكيم الشريعة في العقيدة، وأورد الأدلة على وجوبه،
وبين أحوال الحكم بغير ما أنزل الله ومتى يكون كفراً أكبر أو أصغر، وأورد نماذج
لمواقف العلماء من المبدلين لشرع الله، مع تحرير مسائل الموضوع والرد على
الشبهات فيه.
دراسة متميزة، حسبها أنها بينت خطورة الأمر، وحذرت من الإعراض عن
شريعة الله - عز وجل - أما التطبيق على الواقع فيحتاج إلى توفر شروط وانتفاء
موانع.
* حول التربية والتعليم، د. عبد الكريم بكار، دار المسلم، الرياض 1420 هـ، (492 صفحة بالفهارس) .
هذا الكتاب هو الخامس والأخير من السلسلة القيمة: (المسلمون بين التحدي
والمواجهة) التي تهدف لإيجاد (فهم أعمق للواقع الإسلامي) ؛ (من أجل انطلاقة
حضارية شاملة) ، و (للنهوض بالعمل الدعوي) في الطريق إلى (التنمية المتكاملة)
أسعد الله القلوب بتحققها آمين.
الكتاب يتحدث حول جوهر التربية وأهميتها، ويورد مبادئ وأساليب وأهدافاً
تربوية، ويثنِّي بالحديث حول التعلم والتعليم والمعلم، ويخص بالذكر التعليم
الشرعي والتعليم الجامعي.
تجد في الكتاب بياناً لواقع التربية والتعليم، وتحديداً للمشكلة، ووصفاً للعلاج؛ ففي الكتاب: طرح متميز، ومعالجة جادة، وأفكار رائدة.
* الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة، د. عبد الله بن محمد حسن السعيدي، رسالة دكتوراه، دار طيبة، 1420هـ.
دراسة علمية رصينة، تتكون من شقين، أولهما: تجلية ما يثار حول ربا
القروض - الذي هو أساس العمل المصرفي - من شكوك وشبهات وتأويلات،
بقصد إخراجه من إطار الربا، أو تسويغه على الأقل. وثانيهما: بيان المعاملات
المصرفية التي ابتكرتها المصارف وسيلة لنشر الربا، كبطاقات الائتمان، وفتح
الاعتماد البسيط، والمستندي، والكمبيالة ... بذكر جوانبها المصرفية والشرعية.
وتبعهما بابان آخران، الأول: لبيان كيفية التصرف في المال الحرام، وحكم
العمل والإيداع في البنوك الربوية، والثاني: لبيان مؤسسات العمل المصرفي
التجاري - المروِّج للربا - والإسلامي - البديل المقبول.
* أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، دراسة فقهية مقارنة، د. عثمان جمعة ضميرية، رسالة علمية لنيل العالمية (الدكتوراه) ، من الأزهر، نشر: دار المعالي، 1419هـ، الأردن.
عنيت الرسالة ببيان أثر الإمام محمد في العلاقات الدولية في السلم والحرب،
فكان البحث ذا شقين: الأول: مفهوم العلاقات الدولية وتطورها، والعلاقة بين
المسلمين وغير المسلمين، والمعاهدات الدولية، والسفارة والسفراء. الثاني:
تعريف الجهاد ومشروعيته، وقواعد السياسة الحربية، والقواعد العليا في قانون
القتال، وآثار الحرب.
في البحث تجلية وتغطية موفقة لمجهود الإمام محمد في إرساء قواعد وأصول
ما عرف بـ (القانون الدولي) ، تلك الظاهرة الحديثة ذات الجذور الموغلة في القِدَم، والذي صار علماً مستقلاً حديثاً مرتبطاً بالدول النصرانية الأوربية التي تحول
تعصبها ضد المسلمين قانوناً دولياً!
* قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، دراسة أصولية في ضوء المقاصد الشرعية، تأليف: د. مصطفى بن كرامة الله مخدوم، رسالة
دكتوراه من الجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، نشر دار إشبيليا، الرياض، 1420هـ.
اشتملت الدراسة على خمسة أبواب: التعريفات، والمقدمات، والتقسيمات،
وأحكام الوسائل، ثم القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالوسائل خاصة وبيان وجه
علاقتها، كقاعدة: سد الذرائع، ومقدمة الواجب، والاستصلاح، والاحتياط، ومن
تعجل شيئاً قبل أوانه، كما ذكر البدع والأسباب والحيل، وبيّن علاقة كل منها
بالوسائل.
تميزت معالجة الباحث للموضوع بالمزاوجة بين علمي الفقه وأصوله وبين
سائر العلوم الأخرى، وخرجت الرسالة تؤكد ثبات الشريعة وشمولها، من خلال
موضوع ذي صلة بعلوم وأبواب شتى.
* الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، عهد نور الدين، وصلاح الدين، دراسة مقارنة مع الواقع المعاصر، للأستاذ محمد حامد الناصر، نشر مكتبة الكوثر 1419هـ، الرياض.
تحدث المؤلف فيه عن أن التاريخ مرآة الشعوب، وحقل تجارب الأمم، وما
من شك في أن استقراء التاريخ واستنطاقه يساعد على تحديد مساراتنا الحالية
والمستقبلية.
* فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، دراسة دعوية للأحاديث من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، 1420هـ.
دراسة تأصيلية في علم فقه الدعوة، مادتها من حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، تبين المنهج الدعوي النبوي المتعلق بالداعية والمدعو وموضوع الدعوة
ووسائلها وأساليبها.
* العلو للعلي الغفار وإيضاح صحيح الأخبار من سقيمها، جمع الإمام الذهبي، دراسة وتحقيق وتعليق: عبد الله بن صالح البراك، دار الوطن، الرياض، 1420هـ.
الكتاب موسوعة فذة في مسألة زلت فيها أقدام، جمع فيها الذهبي أقوال عدد
كبير من الأئمة في إثباتهم كمال علو الله - تعالى - وفوقيته مع إثبات معية الله
وقربه من عباده - عز وجل -. وللذهبي كتاب آخر صدر هذا العام أيضاً بعنوان
(العرش) وهو سابق في تأليفه على كتاب العلو وأخصر منه، حققه د. محمد بن خليفة التميمي.
أما الدراسة فمختصرة وجيزة، وأما التحقيق فقد توسع المحقق في خدمة
الآثار ودراسة أسانيدها دراسة مطولة.(143/52)
حوار
د. محمد حرب في حوار مع (البيان)
تشويه تاريخ العثمانيين..
تشويه لجزء من تاريخ الإسلام
أجرى الحوار:وائل عبد الغني
السيرة الذاتية:
حاصل على دكتوراه في التاريخ العثماني من جامعة استانبول.
أستاذ التاريخ التركي بجامعة عين شمس.
رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالَم التركي والبلقان.
عضو فخري في مجلس العلماء بأكاديمية العلوم في قازاقستان.
من مؤلفاته:
- مذكرات السلطان عبد الحميد.
- المسلمون في آسيا الوسطى.
- دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية.
- يهود الدونمة.
1- في البداية: أنتم متخصصون في العالَم التركي والتاريخ العثماني، ولكننا
لا نعرف حدود هذا العالم.
العالَم التركي عالم كبير - مثل العالم العربي - له وحدة دينية.. مذهبية..
جغرافية.. عرقية.. لغوية مشتركة؛ فهو عالم يدين بالمذهب السني في عمومه.
يمتد جغرافياً من حدود الصين شرقاً إلى حدود البوسنة والهرسك غرباً مروراً بآسيا
الوسطى والفولجا والقوقاز، وهو من جهة العرق واحد؛ فهو كله من سلالة العرق
التركي، وثقافته واحدة ولغته واحدة في مجمله، هذا العالم يحوي حوالي 250
مليون نسمة.
2- هناك سؤال كثيراً ما يلح على المرء منا: لماذا العثمانيون مكروهون
بشكل ملحوظ لدى بعض الأوساط؟ وهل هناك ما يدعو لكل هذا الكره؟
كلامك هذا ذكَّرني بمقولة أستاذي (نهاد جتين) : (العثمانيون يُشتمون في
كتب التاريخ العربي، وفي كتب التاريخ التركي، وفي كتب التاريخ الإيراني،
وفي كتب التاريخ الأوروبي، وفي كتب التاريخ الروسي) .
وربما نجد ما يسوِّغ هذا الكره لدى الأوروبيين أو الروس أو الشيعة، ولكن
المسوِّغ لدينا - نحن العرب - أو لدى الأتراك غير موضوعي ويجافي الإنصاف؛
لأن الإنصاف يقتضي أن دولة بلغت كل هذا المجد، وتحقق لها كل هذا التمكين
خلال أكثر من ستة قرون من الزمان، وامتدت رقعتها إلى ما لم تصل إليه دولة في
تاريخ الإسلام، وحفلت بما لم تحفل له دولة في التاريخ البشري كله - بعد الدولة
النبوية في المدينة - من حيث القوة والحضارة والعدل، ومع هذا يستحيل أن تكون
بكل هذا السوء! فالغربيون والروس والشيعة قد ورثوا هذا العداء وراثة طبيعية؛
أما العرب والأتراك فقد رضعوه من النظرة الأوروبية.
3 - إذن المسألة مسألة مصادر؛ فأين هي المصادر السليمة؟
المصادر غير متوافرة ليس لعدم وجودها وإنما لأسباب أخرى؛ فقد كان
العثمانيون شديدي الولع بالتاريخ، مهتمين جداً بكتابة تاريخ دولتهم حتى إنه كان
هناك مؤرخ رسمي للدولة له تلاميذه وطريقته في الكتابة، ولكن عدم توافرها ناتج
عن عدم استطاعة الأجيال اليوم التعامل معها وقراءتها؛ لأنها مكتوبة بالحروف
العثمانية التي ألغاها أتاتورك وبدَّلها بالحروف اللاتينية، وبهذا نجد أن الحضارة
العثمانية لم تنل حظها من الدراسة لضخامة التعتيم العلمي والسياسي في الوقت الذي
تُدرس فيه الحضارات القديمة وتُفك رموزها! والأجيال اليوم ظُلمت من هذا الباب. ومن جانب آخر تأثرت بالنظرة الغربية التي نقلتها الدراسات الأكاديمية التي تربى
منظِّروها والمتخصصون فيها في الجامعات الأوروبية مثل أوكسفورد وكمبردج،
وهم لا يعلمون أن هذه الجامعات كانت عبارة عن مدارس أنشئت في الكنائس
لدراسة الحالة العثمانية - بعد أن توالت الهزائم الأوروبية أمام الجيوش العثمانية -
من أجل فتح القلعة من الداخل، وهذه المدارس كان لها رصيدها العدائي لا للدولة
العثمانية فقط وإنما للتاريخ الإسلامي كله، وإذا كانت قد نجحت في تشويه تاريخ
أكثر من ستة قرون من تاريخ هذه الأمة فمعنى ذلك تشويه ما يقارب من نصف
تاريخ الإسلام.
4 - معلوم أن الاشتغال بالتاريخ يورث المشتغل خبرات واسعة، ومعارف
كثيرة؛ وها أنت قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال؛ فما هي أبرز النتائج التي
يمكنك أن تهديها للقارئ؟
يمكنني أن أوجز ذلك في أمرين:
الأول: هو: من أين نستقي تاريخنا الإسلامي؟ أو ما هي مصادر الاطلاع
عليه؟ لا بد أن يكون ذلك من مصادر موثوقة؛ لأن التاريخ الإسلامي على امتداده
وامتلائه بكل عناصر القوة والسمو والإبداع نجد أن معالجاته المتأخرة قد ملأته
بالتشكيك والتشويه، هذه المعالجات تأثرت بمنهجين منحرفين أو بأحدهما وهما:
المنهج الشيعي، والمنهج الأوروبي.
أما الشيعة فبرزوا في تشويه أكمل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة؛
حيث أوّلوا الأحداث تأويلاً شيعياً أضر بعلاقات المسلمين بالمسلمين وأفسدها، وهي
إلى اليوم فاسدة!
وأما الغرب فقد أثَّر ميراث عداوته للإسلام على منهجيته في دراسة تاريخنا
الإسلامي؛ هذه المنهجية هي التي امتدت إلى جامعاتنا وباحثينا، ومن خلالها يُقَدَّم
لنا التاريخ الإسلامي، والعثماني منه بالذات.
ولهذا أقول: إنه متى استطعنا إبعاد أثر الشيعة والغرب على دراسة التاريخ
استقامت كل أمورنا.
أما الأمر الثاني: فهي تجربة شخصية تتعلق بكيفية تقديم التاريخ للناس؛ فقد
وجدت أن التناول الأدبي للتاريخ وقضايا المسلمين يؤثر تأثيراً أقوى مما كنت
أتصور، وأبلغ في إيصال الفكرة للجمهور من الدراسة الأكاديمية والبحثية.
5 - في تاريخ أي دولة هناك نقاط تحوُّلٍ - صعوداً وهبوطاً - أثَّرت في
شكل الدولة وقوتها ووجودها. نريد أن نعرف أبرز هذه النقاط في التاريخ العثماني؟
هذا سؤال يعجبني؛ لأنه يركِّز على أعظم النقاط خطراً في تاريخ الدول
ويضيف إلى حصيلة الباحث تجارب كبيرة وعميقة.
أما بالنسبة للتاريخ العثماني فنجد نقاطاً من هذا النوع مثل:
- هجرة القبائل التركية من وسط آسيا والتحاقهم بالدويلة العثمانية، وقد
استفاد القائد عثمان من هؤلاء المهاجرين في تنظيم إمارته على أساس شرعيٍّ سنِّي.
- توحيد الإمارات العثمانية في الأناضول وجمعها في دولة واحدة مستقلة.
- عبور أورخان بن عثمان إلى أوروبا - وكان ذلك في وقت مبكر من عمر
الدولة - حيث استفاد من اشتداد الصراع الأوروبي - الأوروبي في فرض إثبات
وجودهم على الساحة الأروربية.
- كذلك فتحه لمدينة (أزنيق) التي كانت تحوي المجمع الكنسي الأوروبي،
وتحويل المؤسسات الدينية إلى مدرسة عثمانية.
- ثم فتح سليم الأول للبلاد العربية هذا الفتح الذي تصوِّره لنا الكتب اليوم
على أنه استعمار.
- ثم انتصاره على الشيعة وهي نقطة حيوية في التاريخ العثماني بعد أن
أسس لمبدأ: (حسم الجبهة الداخلية مقدم على فتح جبهات جديدة مع أوروبا) .
كل النقاط السابقة تمثل عناصر تحوُّل نحو القوة.
- أما فتح القسطنطينية فقد كان نقطة تحول في اتجاهين:
إيجاباً: لأن الدولة حققت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحت الباب إلى
قلب أوروبا.
وسلباً: كان في تغيُّر النظام السلطاني بعد محمد الفاتح تأثراً بأوروبا؛ فانعزل
السلطان عن حاشيته؛ حيث كان يجلس خلف ستار يراقب مجلسهم وهم لا يرونه
هذا فضلاً عن انعزاله عن الرعية مما أضعف أثر السلطة وفتح الباب أمام
الانحراف.
- اختراق الشيعة للطريقة البكتاشية التي تربت عليها الانكشارية مما أدى إلى
الانحراف في العقائد والسلوك، وكانت النتيجة هي الانهيار الداخلي للجيش
العثماني.
- موقف السلطان عبد الحميد من اليهود وتضحيته بكرسيه في سبيل الحفاظ
على الأرض الإسلامية.
هذه المواقف مما ينبغي الوقوف عندها وتأملها للاستفادة منها باعتبارها
تجارب يبقى أكثرها في دائرة التأثير حتى اليوم.
6 - بسرعة نقفز من الماضي إلى المستقبل، ونتحول من الإمبراطورية
المسلمة إلى أحد أقاليمها (البلقان) ونسأل عن كوسوفا وعن توقعاتكم؟ [1]
أوروبا لن تسمح باستقلالٍ لألبان كوسوفا، على عكس ما يريدون، وهي
تسعى لتهميش الوجود الإسلامي هناك بأن يبقى المسلمون على الأقل تحت حصار
صربي يمكن أن يضمن عدم التطور نحو الإسلام، وهو الخطر الذي تخشاه أوروبا.
7 - وهل يمكن للبلقان أن تفجر حرباً جديدة، أعني عالمية؟
من الصعب إن لم يكن من المستحيل؛ لأن أوروبا اليوم موحدة وهي تملك
زمام الأمور، وهي تتبنى مبدأ كول: (الثقافة الأوروبية ثقافة نصرانية) .
أوروبا وقفت ضد استقلال البوسنة والهرسك ذات الهوية الإسلامية، وحين
أرادوها دولة أرادوها علمانية، وهي اليوم ضد استقلال كوسوفا؛ لأنها باستقلالها
تشكل مع ألبانيا دولة (ألبانيا الكبرى) . وبالمناسبة فإن عدد الشعب الألباني خارج
أرضه أكبر من عدده في الداخل، وهناك أقاليم ألبانية أخرى تطمح إلى الاستقلال
مثل السنجق ومقدونيا والدول المحيطة بها، وهي حين تتجمع لا بد أن تقيم دولة
إسلامية ممتدة تاريخياً وحضارياً إلى حيث تخاف أوروبا؛ لأنها ذهلت من ظهور
جيل ألباني متمسك بالإسلام رغم النحت الأيديولوجي الذي قام به أنور خوجة.
8 - وكيف ترى مستقبل البوسنة والهرسك؟ وإلامَ يتطلع المسلمون هناك؟
نظام دايتون المطبق الآن نظام غريب وجديد على العالم؛ لأن الحكم يتم
بصورة غير معهودة من قبل؛ إذ تتعاقب الطوائف الثلاث على الحكم: فترة
الرئيس عزت بيجوفيتش الأولى، ثم إلى صربي، وبعده ينتقل الحكم إلى رئيس
كرواتي وهكذا ...
ولهذا يصعب الحكم إلا بعد فترة من استمرار هذا النظام؛ فهل سيستمر أم لا؟ هذا مما يصعب التنبؤ به الآن، خاصة إذا تغير الوضع الأوروبي.
أما تطلعات المسلمين هناك فهي إقامة مجتمع مسلم وليس دولة مسلمة.
التيارات الإسلامية هناك في تنامٍ وهي رغم إيجابيتها قد ورثت نوعاً من التحزب
من تيارات الجهاد التي جاءت من أفغانستان، ومع هذا فعامة الناس يحبون الإسلام، والسلوك العام زاد اقتراباً من الإسلام.
في زيارتي الأخيرة كنت أصلي الفجر في مسجد (الشهداء) بموستار فأشعر
بسعادة غامرة لامتلاء المسجد عن آخره بالمصلين الذين أكثرهم من الشباب.
الجمعيات الخيرية لها دور مشكور في مجال التعليم والتوعية والتأهيل المهني، ومما أثر في نفسي كثيراً ما حكته لي إحدى موظفات جامعة موستار عن المذابح
والجرائم الصربية فلما رأت تأثري قالت لي: نحن لسنا نادمين على ما جرى؛ لأن
هذه الفترة بكل مرارتها أعادتنا إلى شيء جميل جداً اسمه (الإسلام) .
9 - عفواً سأعود للوراء بسؤال عن الفتوحات: في رأيك ما سر بلوغ
العثمانيين كل هذا النجاح في فتوحاتهم التي نجحت في غرس الإسلام ورسوخه في
بلاد مثل البوسنة؛ ورغم رحيل العثمانيين عنها منذ وقت بعيد وتعرُّض المسلمين
هناك للتصفية إلا أنهم ما زالوا على إسلامهم؟
هناك عدة أسباب منها:
أن الدولة كلها كانت تتبنى المذهب السني بالإضافة إلى الإبداع العسكري
المتمثل في إنشاء جيش نظامي متمثل في الانكشارية الذين تربَّوْا على الزهد وحب
الجنة والجهاد في سبيل الله، وبذلك ارتفعت الروح لدى الجنود مما كان يرهب
الجيوش المعادية.
وهناك سبب يمثل بذاته عنصر إبداع قوي، وهو أن الدولة كانت تخطط لفتح
المدن قبل فتحها بسنوات طويلة وتتخذ لذلك ترتيبات من أهمها:
أنها كانت ترسل دعاة مسلمين فرادى وبعض عائلات مسلمة تستوطن تلك
المدن وتقيم الإسلام في ذاتها، وتعامل الناس على أكمل وجه، فكان الناس ينبهرون
بالإسلام مما يعزز من قبول الناس للفتح، ومن أعظم ما رسَّخ للحكم الإسلامي إقامةُ
الدولة للعدل وترك الناس أحراراً، وإيجاد حل للمشاكل المستجدة من خلال ما
يعرف بـ (قانون نامة) ، وهذا كان يدفع الناس إلى ترك حكم الكنائس والتحاكم
إلى المحاكم الإسلامية.
وهناك وثيقة مجرية تشيد بحكم الإسلام. والغريب حقاً أن كثيراً من سكان
المجر والدول المحيطة ما زالوا يحبون العثمانيين ويعتزون بمآثرهم الحضارية التي
ما زالت شاهدة على روح الإسلام التي استقرت في حس تلك الشعوب.
10 - نعود إلى البلقان وأزمته الراهنة: هل هناك بؤر أخرى مرشحة
للانفجار سيأتي دورها؟
المسلمون عرفوا النتيجة مسبقاً، أوروبا تتركهم يقتلون ويقتلون ويقتلون، ولا
تبدأ في حل المشكلة إلا بعد أن تضمن تدمير المسلمين أو تحقيق أدنى الحلول خطراً
على وضعها وحساباتها.
هناك أقليات في السنجق، والجبل الأسود، وفي بلغاريا، ولكن البلغار
سمحوا أخيراً بإقامة حزب لهم، هذا الحزب جاء في المرتبة الثانية في الانتخابات
رغم أن المسلمين هناك من الصعب أن يحلوا مشاكلهم من خلال الديمقراطية.
هناك وجود إسلامي في تراقيا الغربية، وهو إقليم تركي لغة وعرقاً تخلت
عنه تركيا لليونان، المسلمون هناك في حالة صعبة جداً، ويعاملون معاملة مواطنين
من الدرجة الثالثة، الحكومة استولت على أوقافهم، وتمارس ضغطاً عليهم بشكل
واضح، وإن كانوا قد استطاعوا أخيراً أن يوصلوا صوتهم للعالم.
11 - هل لك أن تحدثنا عن جمهوريات آسيا الوسطى، وهل ماتت الشيوعية؟ وماذا كسب المسلمون، وماذا خسروا؟ وكيف ترى الوضع هناك؟
الشيوعية ولَّت؛ ولكن لصالح العلمانية، وإن كان المسلمون كسبوا هناك
الاستقلال والحرية، إلا أنهم ما زالوا تابعين في حساباتهم السياسية لموسكو
واستراتيجياً للولايات المتحدة.
المنطقة هناك واعدة من حيث الطبيعة والسكان؛ بل من حيث الاقتصاد؛
حيث تسمى (خليج المستقبل) .
هناك صراع أيديولوجي، وصراع اقتصادي وسياسي، هناك صراعات
تركية أمريكية إسرائيلية خليجية إيرانية قوية. الكنائس لها أنشطة قوية، وإيران
تلعب دوراً خطيراً، وإن كان المردود ضعيفاً من كليهما، والجامعات الأوروبية تقيم
هناك مؤتمرات سنوية.
إيران تقدم نموذجها الشيعي، ودول الخليج تقدم نموذجها السني، وتركيا
تروِّج لتجربتها العلمانية بتأييد أمريكي.
وإسرائيل تحقق مكاسب اقتصادية، ودبلوماسية قوية بمشاركة أمريكية - ...
تركية. ونتيجة للنفوذ الأمريكي المبكر فقد سارعت الحكومة هناك بإعلان العلمانية على الطريقة التركية.
12 - ولماذا كانت (إسرائيل) أسبق إلى هناك؟
لإخفاق المسلمين والعرب من جهة؛ لأنهم لم يتبنوا استراتيجية ثابتة أو
سياسات قوية لعدم شعورهم من قبلُ باحتياجهم إلى تلك المنطقة في المستقبل.
ومن جهة ثانية: لأن (إسرائيل) نجحت في التسلل إلى هناك؛ لتكسر
الحصار حولها وتقيم علاقات كاملة، هناك سفارات وتمثيل دبلوماسي، هناك تواجد
للخبرة الإسرائيلية، هناك تبادل تجاري، و (إسرائيل) سارعت إلى إقامة خطوط
طيران مباشرة إلى هناك بينما لا يوجد خطوط طيران بين تلك العواصم والعواصم
العربية. وإلى هذا وذاك فإن هذه الدول تتقرب من (إسرائيل) ؛ لأنها أقرب طريق
موصل إلى الولايات المتحدة.
13 - وماذا عن النفوذ الروسي؟
النفوذ الروسي يضعف يوماً بعد يوم في مقابلة ازدياد النزعات العرقية
والوطنية على سبيل المثال: في أوزبكستان تتبنى الحكومة هناك سياسة استقلالية
بتوطين اللغة الرسمية ضمن خطة تمتد حتى عام 2016م؛ لإزالة جميع آثار
الاحتلال الروسي.
14 - وماذا عن إقليم (أبخازيا) ؟
(أبخازيا) هو النطق الأوروبي أما النطق العربي الصحيح هو: (أباظة)
هذا الإقليم المسلم يعاني من تسلط جورجيا النصرانية، ولهذا يجاهد أهله من أجل
الاستقلال، ولكن الوضع مؤرجح نتيجة لضعف الحكومة الجورجية من جهة،
ولضعف إمكانات المسلمين وقياداتهم من جهة أخرى.
15 - اقترنت المقاومة الإسلامية للشيوعيين بمناطق وشخصيات كان أبرزها
الشيشان، وقائدها التاريخي الإمام (شامل) ، وقائدها المتأخر (دوداييف) فإلى أي حد
يُظلل الإسلام التجربة الشيشانية اليوم؟
الشيشان هي الدولة الوحيدة القوقازية ذات الاستقلال الداخلي في روسيا
الاتحادية وتتوق لأن تكون إسلامية 100% شعباً وحكومة، وعندما جاء دوداييف
إلى السلطة استدعى بعض الإسلاميين العرب وقال لهم: أنا لا أفهم الإسلام بالقدر
الكافي؛ لكني أعدكم إذا ما شرحتم لي ما هو الإسلام جيداً أن أطبقه. وكان هذا
إيذاناً بإنشاء معهد الإمام الشافعي لتخريج الدعاة وتأثيره في واقع الحياة هناك،
والمفتي العام لدولة الشيشان جعل مسخادوف عند توليه الرئاسة يقْسم على القرآن
بإسلامية دولة الشيشان. وها هم الداغستانيون قد تحركوا أيضاً للسبب نفسه رغم
تعدد لغات داغستان وأعراقها. ولن يكون عجباً إذا قام شعب أنجوشيا المجاور
للشيشان ولداغستان بنفس العمل: إعلاء الإسلام.
في الحقيقة التجربة الشيشانية تجربة فريدة؛ فبعد فراغ السلطة بمقتل دوداييف
اختلف الناس حول مسخادوف حتى كادت أن تقع فتنة، وهنا بادر شيخ الإسلام في
الشيشان لحل تلك الأزمة، فاشترط على الشعب - قبل الانتخاب - تأييد الرئيس
الذي تختاره الأغلبية على إقامة الإسلام في البلاد، وأقسم الشعب على الولاء له
شرط أن يطبق الإسلام، ولكن مسخادوف باعتباره رئيساً للبلاد لا يُعتبر في أعلى
منصب؛ لأنه عضو في المجلس الرئاسي، هذا المجلس يرأسه شيخ الإسلام - هذا
الرجل عنده أمل في أن يُكتب تاريخ الشيشان بأقلام إسلامية، وأن يُعَد مشروع
تعليمي متكامل باللغة العربية لتعميمه في المدارس الشيشانية.
16- لعلك سبقتنا إلى الكلام عن دور الحركات الإصلاحية والدعاة هناك:
كيف ترى دورهم؟
المؤسسات الإسلامية محجمة عن التعامل مع دول آسيا الوسطى. نعم! هناك
تعامل ولكنه محدود إذا ما قورن بالمؤسسات الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية.
المؤسسات الإسرائيلية هناك واضحة الهوية، وهناك شريك تركي أمريكي
محلي. ولا ننكر الدور المشكور الذي تقوم به بعض المؤسسات الخيرية؛ ولكن
ينبغي أن تتميز الأنشطة ذات التأثير القوي والمردود الفعال وتتلافى سلبيات
التجارب الماضية.
مجال الاستثمار هناك واعد ويحتاج لرؤوس أموال إسلامية ترسخ للتواصل
والانتماء، وعلى المؤسسات الدعوية هناك أن تعي المدخل السيكولوجي لهذه
الشعوب وتصدير احتياجاتها الفعلية؛ فبعض المؤسسات وزعت ما يزيد على ربع
مليون نسخة عربية من أحد كتب العقيدة مع أن هذا الرقم لو وُزع نصفه في تبسيط
المفاهيم الإسلامية باللغات المحلية لرأينا لذلك تأثيراً قوياً.
هناك عقبة قوية تعترض طريق الدعوة هي استعداء بعض الدعاة للحكومات
وللصوفية هناك قبل أن تمهِّد لنفسها الطريق.
وفي رأيي إذا نجح الدعاة في تقديم الإسلام بصورة ميسرة وقوية فلا أستبعد
أن تنطلق الصحوة من هناك.
__________
(1) كان هذا الحوار قبل توقف الحرب في كوسوفا.(143/54)
نص شعري
قالوا: السلام
سليمان محمدي
قفْ في الحياة مجاهداً متصبراً ... أو عشْ ذليلاً تحت أطباق الثرى
لمَّا نظرت لقومنا وسباتهم ... عَصَر الأسى روحي وشِبْتُ لما أرى
وسألت في التاريخ عن أجيالنا ... لِمَ ضيعوا أرضاً وباعوا العسكرا؟
ورنوتُ للأقصى يُضمخه الأسى ... يشكو بنيه من الرجوع القهقرى
وسمعته بل هاجس في خاطري ... قطع الخواطر كي يزيل الأخطرا
وأعاد لي الأملَ الضحوكَ فوارسٌ ... (يا سين أحمد) شمسهم أَسَدُ الشرى
(ياسين) يا رجل المبادئ والنُّهى ... حيثُ المبادئُ قد تُباع وتُشترى
لك في فؤاد المسلمين مكانة ... شمَّاء تُذكي في النفوس تحرراً
أكبرتُ نُبلك حين قالوا: تغتدي ... حراً طليقاً ما تشا متبخترا
لكن لنا شرط. أجبت مقاطعاً: ... سأظل في سجني ولن أتغيرا
لا خير في عيش أظل منعماً ... ويبيت شعبي بائساً متحيرا
لا، لن أخون قضيَّتي في مطمع ... أنا لن أكون بأمتي مستهترا
أبغي العُلا أبغي الفخار لأمتي ... أعظ الأنام معلماً ومحذرا
لما انتصرتَ على العدوِّ وكيده ... هتف الزمانُ مهللاً ومكبرا
خلِّ السلام وخلِّ كل مخرف ... عشق الهوان فحيثما يُجرى جرى
نفخوك يا طبلاً بحكمٍ تافه ... فغدوتَ مشدوهاً ورحْت مصفِّرا
هذا - لعمركم - الصَّغَار بعينه ... حتى الحياء بمقلتيه تحجرا
والمرء يعلو بالهدى، فإذا هوى ... عاش الحياة مطبلاً ومزمرا
قالوا: السلام وجندُوا طاقاتهم ... فغدا السلامُ بأهله متعثرا
قلبوا المبادئ طامسين ضياءها ... كم دنستْ عرضاً وجرَّتْ منكرا
قلبوا الحقائق تاركين عقولهم ... حاشا الحقيقة أن تغيب وتُقْبرا
قل في المناضل: مرعبٌ متوحشٌ ... سمِّ الجبانَ - إذا تشاءُ - غضنفرا
وكذاك (ناتنياه) قل: هو عادل ... يسعى لخير شعوبنا ما قصرا
قل في اللئيم: مفاوض متحضر ... طفل الحجارة سَمِّهِ المتهوِّرا
كم في المحافل من قتيل لسانِه ... كان السكوت دواءَه لو فكرا
لكنْ ستعلن فعلَكم أجيالُكم ... يا ويحَ من باع المبادئ واشترى
الله أكبر في المصاب دواؤنا ... في يوم عشناها تملكْنا الورى
الله أكبر صيحة علوية ... دانت لها فُرْسٌ وهدَّتْ قيصرا
الله أكبر في العدو تدكه ... وتزلزل الباغي وما قد عمَّرا
الله أكبر يا جبالُ فرددي ... هذا النشيدَ وأسمعيه الأعصرُا
الله أكبر بالجهاد حياتنا ... ودمُ الشهادة خيرُ ريح عنْبرا
والروحُ إنْ حنَّتْ لمقدم ربها ... تجد الشهادة مغنماً بل أكبرا(143/60)
نص شعري
كوسوفا الحزينة
عبد الله موسى بن بيلا
أكوسوفَ هل من قبلُ أسعدك الدهرُ؟ وهل كنتِ بستاناً يسيل به النهرُ؟
وهل كنت مثل الطفل يفترُّ ضاحكاً ليبسم في أحشائه الخير والبِشرُ؟
وهل كنتِ قبل اليومِ للشرِّ مرتعاً؟ وهل عاش فيك الضَيْمُ والجَوْر والغدرُ؟
فما كنت إلا روضةً مطمئنةً فزمجر في آفاقها الصربُ والفقرُ
فماذا جنى الإسلام حتى تواطؤوا عليه، فما يُخشى وليس له أمرُ
كأني أرى الإسلام يندب حظَّه ويذكر تاريخاً يزيِّنُهُ النصرُ
ويَلطِمُ وجهاً طالما عزَّ شأنه وطار له صيتٌ وعانقه الفخرُ
فقلت له: كفكف دموعك ... إنَّما صخور البوادي لا يُحرِّكها النقرُ
فلو كان للإسلام عزٌّ ومنعةٌ لما هان يوماً أو تمالكه الذُعرُ
فقد كان طوداً شامخاً لا تهزُّه رياح الأعادي أو تخوِّفه السُّمرُ
وما هان دينُ الله بل هان أهله وذلُّوا ... فما يغني المَقامُ ولا الذِكرُ
فقد عاث فينا الصرب سراً وجهرةً ومُكِّن منَّا الظُلم والبطشُ والأسرُ
أكوسوفَ مهما طال ليلٌ سينجلي ليَنفُر عَنك العسرُ يطرُدُه اليُسرُ
فويلاه يا ويلاه مِن حالِ أمةٍ تَشبَّث فيها الخوفُ والذلُ والعَفْرُ
فكيف لنا صبرٌ وفي القلبِ حُرقةٌ يهون على كتمانها الموت والقبرُ
فمن للثكالى فاضَ دمعُ عيونها ومن لوليدٍ فاض من عينه الجمرُ
فكيف لهم أن يهتكوا عرضَ غادةٍ وحوريةٍ حسناء يحسدها البدرُ
مآسٍ يَعِزُّ الصبر عند وقوعها ويعجز عن وصفٍ لها القولُ والشعرُ
إلى الله نشكو ما ألمَّ بحالنا ونسأله فتحاً فقد نَفِدَ الصبرُ
وما كنت أرجو أن تحين منيَّتي وأرضُ بني الإسلام يغصبها الكفرُ
ولكن إذا شاء القدير مشيئةً فليس لها ردٌّ وليس له قهرُ
سلامٌ على الشهداء في كلِّ مشهَد يردده التاريخ ينشده الدهرُ
سأنظمه كالطيبِ يغسل روحكم عليكم سلامُ الله ما انهمر القطْرُ(143/62)
الإسلام لعصرنا
الانفراط العظيم الأسباب
والآثار
أ. د. جعفر شيخ إدريس
ما زلنا نستعرض بعض ما جاء في كتاب الانفراط العظيم لعالم السياسة
الأمريكي الشهير فوكوياما.
الأسباب:
يبدأ الكاتب في شرحه للأسباب التي أدت إلى ذلك التمزق في المجتمعات
الغربية بمقدمة منهجية معقولة هي أنه ما دامت مظاهر هذا التمزق عامة في كل
الدول الغربية الصناعية، وما دامت قد حدثت مجتمعة، وفي فترة زمنية محددة،
فإن هذا يدعونا لأن نبحث لها عن أسباب في أمر أو أمور مشتركة بين هذه الأقطار، لا في الأسباب الخاصة ببعضها دون بعض.
ويرى تبعاً لذلك أن السبب الأساس لها كان تحولاً ثقافياً، تحولاً قيمياً تمثل في
اشتداد النزعة الفردية، وأن أعظم ما أثرت فيه هذه النزعة الفردية هو العلاقات
بين الجنسين، والأسرة على وجه الخصوص. وأن مظاهر ذلك الانفراط أو التمزق
نشأت كلها تقريباً عن التفكك الذي أصاب الأسرة.
لكنه يعود فيقول: إن القول بأن عزو سبب الانفراط إلى تغير في الثقافة -في
القيم- مصادرة على المطلوب؛ إذ إن السؤال ما يزال باقياً: لماذا حدث هذا التغير
في القيم في كل هذه البلاد المتقدمة صناعياً، وفي فترة معينة من الزمان؟
ويعترف بأن التحولات القيمية لها أسباب كثيرة؛ لكنه يرى أن أهم أسبابها في
هذه الفترة التي يدرسها أمران جاء بهما التطور العلمي، هما: حبوب منع الحمل،
والإجهاض الآمن.
يقول: إن حبوب منع الحمل وتوفُّر الإجهاض أَذِنا للنساء - لأول مرة في
التاريخ - بأن يتعاطين الجنس بلا خوف من العواقب، وأن هذا جعل الذكور
يشعرون بالتحرر من القيم التي كانت تفرض عليهم مسؤولية العناية بالنساء اللاتي
حملن منهم.
ويقول: إن الذي كان يمنع النساء من استبدال زوج يناسبهن مكان الزوج
الذي يعشن معه، ويكتشفن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكُنَّ قادرات على الإنفاق
على أنفسهن بسبب أنهن لم يكن يعملن، فلما عمل النساء وصارت دخولهن تزداد
باطراد وجدن أنه بإمكانهن أن يربين أطفالهن من غير عون من الأزواج، لكن
إنجاب الأطفال يقلل من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تنجب المرأة فإما أن لا
تعمل إطلاقاً، وإما أن تتوقف عن العمل لفترات، فإذا كانت حريصة على العمل
فإنها ستلجأ إلى الحد من الإنجاب، ثم إن قلة الأطفال تزيد بدورها من احتمالات
الطلاق؛ لأن الأطفال هم (الرأسمال المشترك) بين الزوجين. ويقول: إن هناك
دلائل تجريبية كثيرة تؤكد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب
خارج نطاق الزوجية، ثم إن ازدياد معدلات الطلاق يؤدي بدوره إلى عدم ثقة
النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلى تأهيل أنفسهن للعمل، كي يضمَنَّ
مستقبلهن. ثم إن التحول من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات زاد من فرص
النساء في العمل؛ وذلك لأن الأعمال ذوات الرواتب العالية لم تعد تلك التي تحتاج
إلى جهد جسدي لا يقوى عليه إلا الرجال، بل تلك التي تحتاج إلى جهد عقلي،
كالعمل في مجال الحاسوبات، وهو أمر ينافس فيه النساءُ الرجالَ.
الآثار:
يذكرنا الكاتب بما قال في بداية كتابه من أن الجريمة وانهيار الأسرة وتناقص
الثقة هي معايير سلبية لما سمي بالرأسمال الاجتماعي (معايير سلبية بمعنى أن
زيادتها تدل على نقص في رأس المال هذا) ، وكيف أثر ذلك التغيير في القيم على
رأس المال الاجتماعي هذا؟ وكيف أثر في مقدرة الناس على الاجتماع لتحقيق
غايات تعاونية؟ وكيف أثر على مستوى الثقة بينهم؟ يذكر الكاتب آثاراً نوجزها
فيما يلي:
1 - إن نصف السكان في أوروبا واليابان ستكون أعمارهم أكثر من خمسين
عاماً في غضون العقدين القادمين، وسيؤدي هذا - بالإضافة إلى ما يصحبه من
نقص في عدد السكان - إلى نقص في الدخل القومي، ثم يؤدي هذا كله إلى ضعف
هذه الأقطار وقلة تأثيرها على المسرح العالمي.
2 - وأن الدول الاسكندنافية التي هي الأعلى في نسبة التفكك الأسري، هي
الأعلى أيضاً في نسبة التوحد؛ إذ إن خمسين بالمائة من البيوت صارت تتكون من
شخص واحد، بل إنه في مدينة أوسلو (عاصمة السويد) بلغت النسبة خمساً وسبعين
بالمئة!
3 - أثبتت كثير من الدراسات في الولايات المتحدة أن تأثير الأسرة والأقران
على أداء الطلاب أعظم مراراً من كل العوامل التي هي بيد السياسة التعليمية العامة
كرواتب المدرسين، وأحجام الفصول الدراسية، والصرف على التسهيلات
الطلابية؛ لكنه يرى أن النساء لسن هن المسؤولات عن هذا، وأن الحل لا يكون بعدم خروجهن إلى مكان العمل. لكنه يرى في الوقت نفسه أن قائدات الحركة النسوية قد بالغن في إطراء عمل المرأة، وغفلن عن تأثيره على الأطفال، وهو تأثير لازم وواقع، وسيستمر كذلك حتى يتطور العلم فيريحهن من عبء الحمل والإنجاب! !
4- إن ضرر الجريمة لا يقتصر على من يقع ضحية لها، بل يتعداه إلى
المجتمع كله، وذلك أن انتشار الجريمة يقلل من ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعوق
أو يحول دون تعاونهم؛ بل إن الجريمة لتؤدي إلى جعل المجتمع مجتمعاً ذرياً
يحصر كل إنسان فيه اهتمامه في نفسه وفي أقرب الناس إليه. من ذلك - مثلاً -
أن الجيران كانوا يتعاونون جميعاً على تربية أولادهم، وأما الآن - وبعد أن كثر
الاعتداء على الأطفال - فإذا رأى والد شخصاً يؤنب ولده فالاحتمال الأقرب أن
يتصل بالشرطة.
ما المخرَج؟
هل كان الانفراط هذا ضربة لازب؟ هل كان أمراً حتَّمه التطور التقني، أم
أنه كان بملك الناس أن يتفادوه؟ يرى الكاتب أن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس
للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعية تتمثل في أمرين، هما: السياسات العامة (يعني
ذلك التي ترسمها وتنفذها الجهات المسؤولة) ، والثقافة الشائعة بين المواطنين وما
تتضمنه من قيم، ويقول: إن كوريا واليابان وبعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن
تقلل من تأثير التطور التقني بسبب اختلاف ثقافاتها عن الثقافة الشائعة في
المجتمعات الغربية؛ لكنه يرى أن محاولاتهم هذه إن أخرت حصول تلك النتائج
التي حصلت في البلاد الغربية، فلن تستطيع الحيلولة دون وقوعها، ثم يتساءل:
هل معنى ذلك أن المجتمعات الليبرالية المعاصرة صائرة لا محالة إلى مستويات
أدنى فأدنى من الانحطاط الخلقي والفوضى الاجتماعية حتى تنفجر من الداخل؟
يرى أن الأمر ليس ميئوساً منه إلى هذه الدرجة وأن هنالك حلاً. فما هو؟ نجيب
عن هذا في مقالنا القادم - إن شاء الله -.(143/64)
وقفات
أُخَيَّتِي.. كفى عجزاً
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة، لها دور
عظيم في صيانة الأمة وتربيتها وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة. استقامتها
على الحق صيانة للمجتمع كله، وصلاحها وعفتها رعاية للأمة من الانحدار
والتردي في دروب الهوى.
لذا حرص أعداء الله - تعالى - من المستغربين والعلمانيين على انتهاك هذا
الحمى الكريم، واستباحة هذه البيضة العفيفة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم لانتزاع
البقية الباقية من ديانة المرأة وتقواها، وسعوا إلى اختراق إعلامي واسع النطاق
يقوم على تزيين الفواحش، ونشر ثقافة الرذيلة، والمتاجرة بالأعراض، ويهدف
إلى تغيير البنية الاجتماعية والفكرية للأمة المسلمة.
وذلك كله ليس بغريب على الإطلاق؛ فذلك ديدنهم وهجِّيراهم [1] ، ولكن:
ألا يحق لنا أن نتساءل بكل صدق: أين دعاتنا من هذا الحِمَى الكريم؟ ! وأخص
بالذكر هاهنا نساءنا الصالحات؛ فهن أوْلى بذلك من غيرهن.
إنَّ علينا أن نعترف بأن واقعنا الاجتماعي والدعوي أدى إلى إهمال جلي
واضح للدعوة في أوساط النساء، فغلب على صالحاتنا - فضلاً عن عامة نسائنا-
العجز والقعود، وأصبحن يتعذرن بمعاذير واهية يُسوِّغن بها قصورهن وتفريطهن.
نعم.. أُدرك أن العوائق الدعوية التي تواجه المرأة أضخم من تلك التي تواجه
أخاها الرجل، ولكن أيصح أن يكون ذلك حابساً للمرأة عن الإقدام والنهوض؟ !
أيصح أن تغفل المرأة الداعية وتصاب بالوهن والفتور..؟ !
دعينا نتأمل خبر أبي هريرة حينما يحدثنا: (أن امرأة سوداء كانت تقمُّ (وفي
رواية: تلتقط الخرق والعيدان) من المسجد، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم
فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: إنها ماتت. فقال: هلاَّ كنتم آذنتموني؟ قالوا:
ماتت من الليل ودفنت، وكرهنا أن نوقظك - قال: فكأنهم صغروا أمرها - فقال:
دلّوني على قبرها، فدلوه، فأتى قبرها فصلى عليها) [2] .
سبحان الله.. امرأة ربما كان بعض الناس يزدريها وينظر إليها نظرة لا مبالاة
.. ولكنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيزة كريمة يسأل عنها ويصلي
عليها.
قامت هذه المرأة بعمل - قد نظنه يسيراً - ولكنه عند الله - تعالى - عمل
عظيم يستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه.
إنها الفاعلية التي دفعت هذه المرأة لخدمة المسلمين والسعي في حاجتهم..
صورة عظيمة تتجلى فيها صورة المرأة المستضعَفة عند الناس، لكن قلبها عامر
بالطاعة، حفَّزها على البذل والعطاء دون أن تهن أو تضعف.
إنها الفاعلية التي اطمأنت بها ذوات القلوب المرهفة الحية، فقدَّمْنَ ما يَقْوَيْنَ
عليه ابتغاء وجه الله - تعالى - دون أن يشعرن بالاتكالية والاعتماد على الآخرين.
وكم يحز في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من
كل صوب، ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤولية
العظيمة؟ !
فيا - سبحان الله - لمن تتركن الميدان؟ ! ومن تنتظرن أن يقوم بهذا
الدور..؟ !
ألا يكتوي قلبك حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشرت عن أنيابها
الفضائية ومخالبها الصحفية، وراحت تعبث في أخواتك، وتنتهك عفتهن
وكرامتهن؟ !
ألا يتفطر فؤادك وأنت ترين التفسخ والانحلال يستشري في نسائنا، وينتشر
في بيوتنا انتشار النار في الهشيم؟ !
أيطيب لك طعام أو شراب وأنت ترين الفتاة تلو الفتاة وقد رمت بحجابها
وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي ملئت بكل ألوان
الدهاء والفتنة ... ؟ !
يا الله ... ! ! كيف تقوى نفسك على القعود وأنت تملكين - بفضل الله -
القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين ومكائد العابثين ... ؟ !
أيرقأ لك دمع؟ أم هل يسكن لك قلب؟ آلله - تعالى - يرضى لك بذلك..؟ !
أخيتي في الله:
إما أن تتقدمي أنت.. وإلا فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيرك
يكون إقدامهم، ومن أيقنتْ بعظيم مسؤولياتها هانت عليها كل العقبات التي تواجهها
.. ومن صدق الله صدقه.
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رَعْيَها الأسَدُ
__________
(1) الهِجِّيري والهجير , والإهجيري: الدأب والعادة (لسان العرب) .
(2) رواه أحمد/ح /8804.(143/66)
قضية للمناقشة
من سُنَّة الله - عز وجل - في الخلق اختلاف الناس في معارفهم وأفهامهم،
وليس بالضرورة أن يكون هذا الاختلاف محصوراً في دائرة الصواب والخطأ فقط؛
بل قد يكون اختلافاً في التنوع تظهر فيه درجات من الاجتهاد والنظر اقتضاها
اختلاف زاوية النظر والتأمل، أو الاطلاع على دائرة أوسع من العلوم، أو الانفتاح
على أفق أرحب من الفهم والفقه، أو اقتضاها اختلاف النظر إلى المآل والعاقبة
المتوقعيْن للأمر نفسه.
ومن سنة الله - عز وجل - تجدد الحوادث والوقائع في الحياة، ولذا: كان
الاجتهاد المنضبط بالأصول الشرعية أحد مميزات الشريعة الإسلامية السمحة،
ولذلك أيضاً: ظهر الخلاف في النوازل والمستجدات بين أئمة المسلمين بدءًا من
عصر الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - حتى عصرنا الراهن، وهو خلاف
قد يُنظر إليه على أنه ثراء في الرأي وتنوع في الوقائع، بل قد ينظر إليه بعض
أهل العلم على أنه فسحة في العمل ورحمة للخلق!
على أرضية هذه المفاهيم كلها تفتح مجلة البيان باب المناقشة لنازلة جديدة
على المسلمين، ألا وهي مسألة مشاهدة المواد التلفزيونية، سواءًا أكانت عن طريق
البث المباشر أو المشفر أو عن طريق الفيديو أو الإنترنيت أو غيرها من التقنيات،
والبيان تطرح على صفحات هذا العدد مشاركتين قد تبدوان لدى بعض القراء أنهما
تحملان وجهتي نظر مختلفتين، وقد يبدو لقرَّاء آخرين أن كلاَّ منهما يعالج القضية
من زاوية نظر مختلفة وليست متعارضة، وقد يبدو لآخرين أن كلاًّ منهما موجَّه إلى
واقعيْن متغايريْن ووسطيْن مختلفيْن.
وأيًّا كانت نظرة القارئ إلى المقالين فإن تطرحهما وتفتح باب المناقشة حول
الموضوع والاجتهادات فيه.
ولكن عندما نتحدث عن (اجتهادات) فلا يفوتنا أن نتذكر أن الاجتهاد مهما
علا قدر صاحبه فليس له أن يصادم نصاً محكماً، أو هدْياً ثابتاً، فبوسع المجتهدين
علمياً أو فكرياً في قضيةٍ ما أن يعددوا التحليلات والاستنباطات والاستنتاجات؛
ولكن ليس من حق أحد أن يُخضِع مُحكَمات الشريعة للنظر بالرأي؛ فما كان ديناً
وشريعة منذ أن نزل الوحي هو دين وشريعة إلى أن تقوم الساعة، نقول نعم
لاقتحام مشاكل العصر، ولكن بشرط ألا نتقحم المحرمات أو نتخطى الحدود إلى
الشبهات.
التلفاز أو الفيديو أو الإنترنت أو غير ذلك تعرض أشياء على الأسماع
والأبصار والقلوب، وهذه الأشياء التي تُعرض متفاوتة في نفعها وضرها، في
جدها أو هزلها، في عمقها أو سطحيتها؛ ولكن الذي لا ينبغي أن تتفاوت فيه
الأفهام ولا الاجتهادات هو أن تلك الأسماع والأبصار والقلوب هي محل إظهار
العبودية لله في أمره ونهيه: [إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسئولا] [الإسراء: 36] .
ونحن مع أي حل لمعضلة من معضلات العصر بشرط أن لا يحل حراماً، أو
يفتح على المسلمين المزيد من أبواب الفتنة؛ فماذا يفيد المسلم إذا أصلح دنياه وخسر
آخرته؟ وماذا تستفيد الدعوة إن أصلحت شريحة من العامة في مقابل خسارة
الخاصة من المصلحين الذين إذا أُفسدوا أوشك الله أن يعم الجميع بعقاب؟ !
لا شك أن القضية معقدة ومتشابكة، ولها تداخلاتها وتفاعلاتها؛ ولهذا كانت
تلك المبادرة من (البيان) إلى فتح باب النقاش لتفكيك تعقيداتها، وإلقاء الضوء على
أبعادها المختلفة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.(143/68)
دراسات إعلامية
ماذا تعرف عن: العجل الفضي [*]
محمد بن أحمد إسماعيل
أعدها للنشر:إسلام دعدوشة
إن أمتنا - إلا من عصم الله - تعيش اليوم مع التلفاز وتوابعه في محنةٍ لم
تُكْره عليها؛ بل رغبت فيها، واستشرفت لها، وفتحت ذراعيها وتشبثت بأذيالها؛
لأن بعض المسلمين في حالة رغبة فيما يفسد دينهم ويخرب دنياهم وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعاً.
فما أشبه حال المنجذبين نحو التلفاز، والقابعين باستمرار لمتابعة الأطباق
الفضائية، ما أشبه حال هؤلاء بحال الفَراش الذي يتساقط في النار لجهله واعتقاده
النفع في النار المهلكة. لكن: هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في التلفاز؟
وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهاراً عبر البث المباشر؟ ألم يشاهدوا الآثار التي
طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟ ! كلا؛ إنهم على علم،
وربما سمعوا القصص المخجلة، وذاقوا الآثار المدمرة لأجهزة التلفاز؛ لكنهم
مبهورون، أسكرتهم الرغبة، وأعمتهم الشهوة؛ فلم يحركوا ساكناً! ولسوف
نعرض لآثار هذا الكابوس من خلال العناوين الآتية:
الناس على دين التلفزيون:
استولى التلفزيون على زمام التربية والتوجيه حسبما خطط لها وما يبث فيها،
وهجم الفيديو ليهدد الثروات، ويقتل الساعات، ويعرض المحرمات، وأطلت فتنة
البث المباشر لتضييع أوقاتنا، وتعبيدنا لغير ربنا [1] ، واستذلالنا لننضم إلى
القطيع الهائم الذي تردى في هاوية الرذيلة، وغرق في مستنقع الشهوات.
لقد صدرت عشرات الدراسات العلمية الجادة التي تكشف مخاطر التلفاز وآثار
البث المباشر الخطيرة، وحذرت من مسخ هويتنا التي يميعها الغزو الفكري
والثقافي من خلال برامج التلفاز، واللغة المحلية التي يفسدها التلفاز، والذوق
الاجتماعي الذي يشوهه، والروح الاستهلاكية التي يشجعها وقليلة هي الدراسات
التي تتناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام،
والولاء والبراء، والصلاح والفساد.
اعرفْ هذا العدو من نعوته وأسمائه:
نحن لا نعجب أن فُتن بنو إسرائيل (بالعجل الذهبي) وأُشربوا في قلوبهم حبه
كما قال تعالى: [وأشربوا قلوبهم العجل بكفرهم] [البقرة: 93] . لكن نعجب
من مسلمين موحدين حنفاء أشربت قلوبهم حب (العجل الفضي) فقطعوا الساعات
الطوال أمام الشاشة الفضية، عاكفين في محرابه في صمت ومتابعة مستمرة، فلا
يبالون بالصلوات المضيَّعة، وقد شُغِلت عيونهم بمتابعة مشاهد الفسوق والعصيان،
استدبروا قبلة الحنفاء واستقبلوا قبلة العجل الفضي.
أحسب أنه ما دخل بيتاً إلا أذن بخرابه، وإذا اقتناه متدين بدأ العد التنازلي في
التزامه، وإذا اقتناه فاسق مفرط بدأ العد التصاعدي في فسوقه وعصيانه، وبقدر
التصاقه وعكوفه عليه بقدر ما يزيغ عن صراط الله المستقيم، ويذوب في صراط
المغضوب عليهم والضالين. وصدقني أنك لو تأملت أحوال المنتكسين والمتنكبين
الصراط المستقيم، فغالباً ما تجد أن التعلق بالعجل الفضي قاسم مشترك بين أولئك
الناكصين على أعقابهم.
إن التلفزيون وتوابعه قد يكون مدرسة الإجرام [2] ، فمن خلال برامجه التي
تخدم أهدافاً خبيثة محددة صار مدرسة تربي، وأستاذاً غير أمين يدفع بالأجيال إلى
الجريمة والفساد، فيشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة ويقلب القيم رأساً على
عقب، ويدرِّب الصغار على الجريمة والانحراف، وينشئ الأبناء على قبول
الانحراف والتعايش معه، والانخراط في سلك أهله، فيمتصون هذه المفاهيم،
ويستلهمون هذه القيم: يُعَلِّمُهم أن اللصوصية بطولة، والغدر كياسة، والخيانة
فطانة، والعنف هو أقصر الطريق لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر
الوالدين ذل، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة
فن راقٍ رفيع!
لقد اهتم أستاذ الإجرام بأساليب نشر الفساد، وكشف للشباب الساذج والفتيات
البريئات عن طرق الاتصال بين أهل الأهواء، ولقنهن طرق التحايل على الأهل
وخداعهم، وعرض لهم الفواحش بطريقة تحريضية مثيرة.
وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى (أن التلفاز بما يعرضه من أفلام ومناظر
إجرامية أو انحلالية [3] قد يؤدي إلى انحراف كثير من النشء عن طريق ما تخلفه
من خيالات يعيشها. كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين قد تناولتهم تلك الدراسة
أن أحد الأفلام أثارت فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمتهم كيفية ارتكاب
السرقات وتضليل البوليس، وشجعتهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم) .
حتى الفتاة لم تسلم من وسوسته وتأثيره الذي أفسد فطرتها، وشوَّه هويتها،
فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الأسرة. وأما تأثيره على
النشء باغتيال براءتهم ووداعتهم، وإفساد فطرتهم فحدِّث ولا حرج! كيف لا؟ وقد
صار موجهاً في عصر يعيش فيه الأطفال يُتماً تربوياً هو المربي والقائد! فشاع
الاستخفاف بكل القيم، والسخرية بالمثل الروحية، وأشبع الأطفال بالروح
الإجرامية والميول العدوانية.
ففي ولاية (ميامي) هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها
بمؤخرة المسدس، وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماماً مثلما شاهدا
في الأفلام البوليسية [4] .
وفي (واشنطن) قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو
نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وكان
عمر هذا الصغير ست سنوات [5] ! !
ملوّث البيئة الأخلاقية:
إن أثر التلفزيون وتوابعه يكاد يكون من أخطر أنواع التلوث الأخلاقي،
وأعمقها في نفوس البشر خصوصاً الشباب والأطفال. يقول (يوري ديو زيكوف)
أخصائي الاجتماع: (إدمان مشاهدة التلفاز وباء سيكولوجي جديد يعم كوكبنا؛ إنه
إذ يسلِّينا يلوث طبيعتنا السيكولوجية والحِسِّية) [6] .
مخرّب البيوت:
إن التلفاز له دوره في تحطيم الاستقرار الأسري، والتفريق بين المرء
وزوجه؛ فمن وسائله ووسائل توأمه الفيديو في تنغيص الحياة الزوجية ما يلي:
1 - يدفع الزوجات إلى المقارنة بين حياتها ومستواها المعيشي وبين ما تراه
على الشاشة من الكذب والمَشَاهِد، فتنقم على حياتها، وتزدري نعمة الله عليها،
وتجحد فضل زوجها عليها، وتنسى المسكينة أن ما تراه ما هو إلا (تمثيل) . ...
2 - التزوير العاطفي من إبراز الزوجة (التلفزيونية) في غاية الرقة واللطف
في معاملة زوجها التلفزيوني، وإبراز الأخير في صورة العاشق الموله بزوجته،
فتنبعث مشاعر الحسرة والألم من قلب الزوج المشاهد، والزوجة المشاهدة، وينسى
الاثنان أن هؤلاء لا يعرفون حياة (الأسرة) ولا قيمها، وإنما يتقنون فقط ...
تمثيلها [7] !
3 - افتتان المشاهدين والمشاهدات بما يرون من صور؛ حيث قال أحدهم
لمجالسيه وهو يحدق في صورة المذيعة: (بالله عليكم أهذي امرأة، وأم فلان -
يعني زوجته - امرأة؟) [8] .
4 - إشاعة الأفكار الهدامة المعادية للإسلام من خلال التمثيليات والأفلام التي
يكتبها من لا خلاق لهم، فيسوغون الخيانة، وتبرير الفاحشة، ونفث سموم ما
يسمى بالحرية الشخصية بمفهومها الإباحي، وتحريض المرأة على التمرد على أبيها
وزوجها، والتنفير من أحكام الشريعة المطهرة في قضايا: الحجاب، والطلاق
وتعدد الزوجات، ونحوها.
هاتك الأستار:
الإسلام دين الستر، ندبنا إلى ستر العورات الحسية والمعنوية على المستوى
الفردي والجماعي، وحرم الإسلام إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال - تعالى-: [إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا
والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون] [النور: 19] وأحاط الخلوة بين الزوجين
بالسرية والاحتشام والستر، فجاء (هاتك الأسرار) ليمزق الحجب، ويقتحم الأعين
البريئة فيغتال براءتها، ويفسد فطرتها، فيتولى الإلحاح في عرض صور النساء
في أبهى زينة وأكمل فتنة.
وبينما يحرم الإسلام هتك أسرار الزوجية المغيَّبة، إذا بـ (هاتك الأستار)
يحول الغيب شهادة، والخبر معاينة، قال - عليه الصلاة والسلام -: (إن من أشر
الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم
ينشر سرها!) [9] .
إن من أسوأ آثار التلفاز وأضرار توابعه هو خدش الحياء، وتحطيم القيم،
ونشر الرذيلة، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب.
ولا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئاً
عادياً، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية،
إلى غير ذلك من الأحوال، ألا ترى أن السذج صاروا يقبلون أن يحتضن رجل
بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه. وتعجب أن ترى الزوج
المسلم يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه في محراب العجل الفضي وهم يرون ما
يعرضه من مشاهد إباحية، وتسكر أهله تلك المشاهد، ويلذ لزوجته وبناته وأبنائه
هذه المناظر وهو قرير العين، قد استنوق، ثم هو يضحك ملء فيه، وينام ملء
جفنه!
وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان
الفواحش [10] ، والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون ... (التطبيع) مع المعاصي والكبائر والدياثة؟ !
محرقة الحياء:
إن من أخطر مفاسد التلفاز هو القضاء على ذلك الخلق الفطري الأصيل لدى
العذراوات. فجاس الممثلون والفنانات والراقصات خلال تحصيناتنا الأخلاقية
فدمروها تدميراً، وصاروا هم الأساتذة والموجهين و (الأبطال) وكان (إحراق
الحياء) وتبخيره هو أول مقاصد القوم بأبنائنا وفتياتنا.
قال العلاَّمة عبد الله بن حميد: (هل ينتظر من النساء قطرة من الحياء وهن
كل ليلة ينسللن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة على شاشة
التلفاز؛ حيث ترى المرأة بعينيها كيف يعمل العاشق مع معشوقته وما يقع بينهما من
الآثام والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي والشوق المبرح، ترى المرأة هذا
وتسمعه بأذنها، وترى ويرى الرجال الرقص الخليع والمخاصرة وغير ذلك، ولو
أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها لكفى في فسادها أبد الدهر، ولكنها تراه
كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها وهي امرأة ضعيفة.. فما قولك في امرأة هذه
حالتها؟ أيبقى شيء من الحياء والعفة؟ فالنفوس مولعة بالتقليد خصوصاً نفوس
النساء) .
وحينما يُدخِل الأب التلفاز إلى بيته، فإنه يكون قد أحضر لأبنائه وبناته
مدرساً خصوصياً مقيماً في البيت، وهو بارع في تلقينهم فنون العشق والغرام،
وأصول الفسق والفجور، فينشأ الفتيان على الاستهانة بالخلق، والفضيلة،
والشرف، والعفة، وصيانة العرض، فيصور هذه القيم على أنها تافهة لا يتمسك
بها إلا السذج والرجعيون [11] فهل آن لهذا الكابوس أن يرحل عن بيوتنا؟ ألا
فليتذكر أولو الألباب [12] ؛ فإنه من يُعْط ِمن نفسه أسباب الفتنة أولاً، لم ينجُ آخراً
وإن كان جاهداً.
آثاره على الصحة:
للتلفاز وتوابعه آثار ضارة على الصحة الجسمية والنفسية للعاكفين أمامه.
أما أضراره على الصحة البدنية فمنها:
1 - الأمراض التي تنشأ عن ركود الدورة الدموية بسبب تقييد حركة الجسم،
وحرمانه من الرياضة والنشاط العضلي.
2 - الترهل والسمنة التي هي بحق (أم الأمراض) والتي تنشأ نتيجة للطعام
التلفزيوني المتميز بالالتهام السريع، والازدراد النهم لكميات كبيرة من المأكولات
والمسليات.
3 - التعود على السهر أمام الشاشة المرتعشة وما يترتب عليه من:
أ - تضييع صلاة الفجر: إما بالتخلف عن الجماعة، أو بقضائها في غير
وقتها، أو بأدائها في جماعة دون خشوع بسبب الإعياء والنعاس.
ب - التقصير في الواجبات الوظيفية: بالحضور إلى العمل متأخراً وفوت
المحاضرات الأولى على الطلاب، أو جلوسهم على الكراسي كالكراسي.
ج - قلب نظام الفطرة: حيث ينام بالنهار، ويسهر ليلاً مما يترتب عليه
تضييع وقت حيوي ثمين قال - تعالى -: [وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار
معاشا] [النبأ: 10، 11] كما يُحرَمون بركة وقت قال فيه النبي صلى الله عليه
وسلم: (بُورك لأمتي في بكورها) [13] .
4 - أظهرت الفحوص الطبية للأطفال المتقدمين للمدارس المغرمين بالجلوس
الطويل أمام التلفاز إصابتهم بانحناء الظهر وضعف البصر [14] .
5 - الأخطار الناجمة عن التعرض للأشعة الصادرة عن الشاشة التلفزيونية،
وفي دراسة تشير أصابع الاتهام إلى دور التلفاز الفعال في إحداث (السرطان)
مرض العصر الذي حار فيه الأطباء [15] .
وقد وجَّهت صحيفة الأهرام للأمهات الحوامل تحذيراً [16] من الجلوس أمام
التلفزيون كي لا يصاب الجنين بإشعاعاته فقالت: (أكدت نتائج بحث علمي مصري
أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديد الموجودة حولنا في كل مكان ينتج
عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة) [17] .
وينصح الدكتور (محمد منصور) رئيس وحدة بحوث المناعة والطفيليات
بالمركز القومي لتكنولوجيا الإشعاع - ينصح السيدات الحوامل وكذلك الأطفال ... (بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم
البيوت المصرية؛ إذ به مصدر للإشعاع القاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف
الإبصار عند الأطفال إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية ومن ثَمَّ
درجة ملاءمتها لقوة العين) ا. هـ.
وأضاف الدكتور (كروب) قبل موته: (إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع
الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر.. فالعلم بعد
التجارب العديدة يقول: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات
متفاوتة وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون) .
وأيّد كل من د. هاسل، ود. لامب أقوالَ د. كروب. وطالبت مجلة
(الاقتصاد) التي نقلت هذه المعلومات في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وكل أم أن
يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية [18] .
أليس فيما أكدته تلك الدراسات مدعاة إلى إعادة النظر في تلك العلاقة الحميمة
الآثمة بالتلفاز ووليده الخبيث الفيديو؟
وهل يحسب العاقل الذي يتهاون في حفظ نعمة العافية ويفرط فيها أنه غير
مسؤول عن هذا التفريط؟ ألم يسمع لقول الصادق المصدوق: (لا ضرر ولا
ضرار) وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى
يُسأل عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ
أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟) [19] .
ثانياً: أخطاره على الصحة النفسية: يظهر أثر التلفاز وخطره على أهم
شريحتين في الأمة:
وهما: الأطفال وهم مستقبل الأمة، والشباب حاضرها وعدَّتها. فماذا يبقى
للأمة إذا تشرَّب أبناؤها القيم الهابطة، والآفات الفكرية، والعاهات النفسية من
المهد إلى اللحد؟ !
- تكاد الدراسات العلمية التي أجريت لدراسة آثار التلفاز على الصحة النفسية
أن تجمع كلها على أنه يدرب مشاهديه على الكسل الذهني، ويشيع فيهم روح
السلبية، ويجعلهم إمَّعات يميلون مع الريح حيث مالت، وأنه ينفث في روعهم روح
(عدم المسؤولية) والاستسلام، والانهزامية، ويصرفهم عن معالي الأمور،
ويشغلهم عن الأهداف السامية، ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم [20] .
- كما أنه يولد الغلظة في المشاعر، والبلادة في الحس، كما تؤثر
المسلسلات البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية الأطفال [21] ، كما أنه
يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيشوه مفاهيمهم
مبكراً.
- التعود على الضجيج والصخب الذي يضر بحاسة السمع فيسبب كثيراً من
حالات الصداع والاضطرابات العصبية والتوتر.
ومن أضراره النفسية: تعلق قلب الشباب المراهقين بمذيعة أو ممثلة أو مغنية
حسناء، وابتلاؤه بمعصية العشق الذي يتلف الدنيا والدين، والأخطار نفسها يخشى
منها على الفتيات اللائي هن أضعف قلوباً وأسرع استجابة لداعية الهوى.
المخدر الكهربي:
لقد كتب الكثيرون محذرين من إدمان المخدرات والسموم البيضاء، وما أقل
الذين انتبهوا لمخاطر إدمان مشاهدة الفيديو والتلفاز، وها هي وسائل الإعلام تنشر
سموم هذا المخدر العجيب، إنه يعتبر أمضى وسائل تخدير الشعوب.
إن المخدر الكهربائي يعتبر - على حد تعبير (جيري ماندر) (ورقة عمل
جاهزة للطغاة والمستبدين) [22] ، يستعبدون بها رعيتهم عن طريق عزل الناس
عن فهم أنفسهم، وعن ماضيهم وتراثهم، وتقليل العلاقات الشخصية بين الناس،
وفصل عقول الناس عن أجسادهم، ثم إحباط التفكير الحر بكل الوسائل.. بل ربما
زرع (المخدر الكهربي) في نفوسهم أن المخدرات والخمر والتدخين هي الوسيلة
المثلى للهروب من المعاناة. فتراهم يُهرعون إلى التدخين أو الخمر أو المخدرات لا
إلى صلاة الاستخارة أو ذكر الله - عز وجل - وقراءة القرآن والدعاء.
فهو يسرق سمعك وبصرك وفؤادك، ويجوب بك المراقص والمسابح،
والحانات والمسارح، ويطوف بك في المسلسلات والأفلام التي تدور حول قطب
واحد هو قيم الحب والغرام، والعشق والهيام وكأن هذه هي المشكلة اليتيمة التي
تمزق من الأمة الأوصال، وتتفتت في سبيلها أكباد الرجال، فضلاً عن ربات
الحجال!
هكذا يجري قتل الإنسان اليوم: بالمهرجانات، بالرقص الخليع، بالأفلام،
باللهو الماجن، وبالضحك الهستيري يميت القلب مصداق قوله - عليه الصلاة
والسلام -: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) [23] .
وهكذا يجري مسخ الإنسان وتحويله إلى حيوان مستهلك، أو حيوان قاتل، أو
حيوان كاسر، لا فرق [24] .
ومن عقاقير الهلوسة التي يوفرها (المخدر الكهربي) لمدمنيه عقار (المجنونة
المستديرة) التي في سبيلها تُنفق الأموال، وتشد الرحال، وتهدر الأوقات ويتخاصم
الإخوان، وتحترق الأكباد، وتسكب العبرات، وتتعالى الصيحات من الأحشاء
الملتهبة. إن عقار (الهلوسة الكروية) نقل عقول الأمة إلى أقدامها، وتعاطاه
الرجال والنساء، والشباب والشيبة، والمراهقون والأطفال وفي سبيله خُرِّبت
المساجد، وهُجرت حِلَقُ الذكر واشتعلت النزاعات العائلية، وضُيِّعت الواجبات
الدينية والالتزامات الوظيفية.
فمن المسؤول عن هذا (الخبل الكروي) الذي طغى على عقول أكثر الناس
اليوم؟
إنها - بلا شك - (الشاشة المخدرة) التي تذل الناس بهذا العقار، وتستعبدهم
بهذا الإدمان [25] !
إن أمة هذه حالها تحتاج بالضروة إلى تحليل نفسي، وعلاج قلبي، وتحويل
جذري إلى وجهة أخرى نحو معالي الأمور، إنها بحاجة إلى من ينقذها من هذا
(الإدمان) لتقوم من رقدتها، وتفيق من غفلتها، إنها بحاجة إلى أن تعرف أعداءها
الرابضين خلف الشاشة الذين يُهرِّبون من خلالها هذا العقار الخبيث في غير كتمان
وخفاء، بل في وضوح وجلاء، ليصدوهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وليشغلوهم
بهذا اللهو عن حقوقهم وواجباتهم، ليعيشوا انتصارات وهمية، وهزائم خيالية بعيداً
عن واقع الحياة، بعيداً عن الرسالة التي حملتها خير أمة أخرجت للناس.
يا أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي وصلاح الدين إن (البطل) ليس
الذي يتقن اللهو الباطل واللغو الفارغ لتكون راية فريقه العليا، ولكن البطل هو
الذي يعمل بالإسلام، ويغيظ أعداء الله، ويجاهد في سبيل الله لتبقى كلمة الله هي
العليا.
يا أصحاب بدر، والقادسية، وحطين، والقسطنطينية! القدس تستصرخكم،
والأقصى يناديكم، وإخوانكم في العقيدة مشردون في الأرض، وحرمات الله تنتهك، والفقر والجهل والمرض يخيم في أكثر بقاعكم، وأنتم تستغيثون ربكم - بلا حياء- في ساحات اللهو: (يا رب - يا رب) !
هلم نصنع المجد في المساجد، ثم المدارس والجامعات، والمعامل والمصانع
حتى نخرج من وهدة التخلف، ونطهر بلادنا من وحل المعاصي، ومستنقع الفن
العفن.
هيا نمضي إلى الهدف: (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) .
دوره في التغريب:
تطورت أساليب الغزو الفكري وتنوعت طرائقه؛ ففي دراسة أجراها
اليونسكو تذكر: (إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات
التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية
كرسها الزمن) [26] .
وفي تعليقه على دخول البث المباشر إلى تونس قال الأستاذ فهمي هويدي:
(خرج الاستعمار من شوارع تونس عام 1956م ولكنه رجع إليها عام 1989م لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسِرَّة نومنا. رجع ليقضي على الدين واللغة والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب، نتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد لا كاستعمار الأرض وإنما استعمار القلوب، إنه الخطر الذي يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء والأمهات) [27] .
إن أهداف البث المباشر الذي يجوس خلال ديار المسلمين نلخصها في النقاط الآتية:
1 - تسميم الآبار الفكرية التي يستقي منها شباب المسلمين، وإضعاف
مناعتهم عن طريق تسويق القيم والسلوكيات الغربية لتذويب انتمائهم الإسلامي.
2 - تجميل الوجه القبيح للحضارة الغربية، وإخفاء حقيقة هذه المجتمعات
التي وإن تقدمت في الحضارة المادية - فإنها انتكست بالإنسان إلى أحط من مستوى
القردة. يقول حمدي قنديل: (المعروف أن القردة هي التي تقلد الإنسان، ولكن
إنسان العالم الثالث قد اختار أن يقلد قردة أوروبا) [28] .
3 - القضاء على الأخلاق الإسلامية كالحياء والطهارة والعفة عن طريق نشر
الخنا والرذيلة وتزيين السلوك البهيمي للغربيين. ومن ثم لا يتعذر عليك جواب
التساؤلات الآتية:
- لماذا تحرص أمريكا وأوربا - وبخاصة فرنسا - على دعم البث المباشر
في بلاد المسلمين؟
- ولماذا يقدمون هذه الخدمة المجانية وينفقون عليها من أموال شعوبهم
الراضية بذلك؟
ففي الوقت الذي يشجع فيه الغرب البث المباشر إلى بلاد المسلمين تتعالى
صرخات مفكريهم وساستهم شفقاً من الغزو الأمريكي مع انتمائهم إلى ملة واحدة
وحضارة مادية واحدة! [28] .
فهل آن الأوان أن يفر المسلمون من دجال العصر، ويطهروا بيوتهم من هذا
الرجس والنجس، ولا يُفْرِطُوا في الثقة بأنفسهم أنهم لن يتأثروا بفتنته؛ فإن البطولة
ليست أن تتعرض للفتن وتثبت؛ ولكن البطولة هي ألا تتعرض للفتن أصلاً.
آثار التلفاز الاجتماعية والنفسية على الأطفال:
إليك أقدم الآثار المرعبة على أطفالنا من جراء هذه الأجهزة الشيطانية:
1 - يحرم الطفل من التجربة الحياتية الفعلية التي تتطور من خلالها قدراته
إذا شغل بمتابعة التلفاز.
2 - (يحرم الطفل ممارسة اللعب الذي يعتبر ضرورياً للنمو الجسمي
والنفسي فضلاً عن حرمانه من المطالعة والحوار مع والديه) [29] .
3 - التلفاز يعطل خيال الطفل لأنه يستسلم للمناظر والأفكار التي تقدم له دون
أن يشارك فيها، فيغيب حسُّه النقدي وقدرته على التفكير [30] .
4 - يستفرغ طاقات الأطفال الهائلة وقدرتهم على الحفظ في حفظ أغاني
الإعلانات وترديد شعاراتها.
5 - يشبع التلفاز في النشء حب المغامرة، كما ينمي المشاغبة والعدوانية
عن طريق محاكاة الممثلين ويزرع في نفوسهم التمرد على الكبار والتحرر من القيود
الأخلاقية [31] .
6 - يقوم التلفاز والفيديو وكذا البث المباشر - نافذة المجون والضياع -
بإثارة الغرائز البهيمية مبكراً عند الأطفال، وإيقاظ الدوافع الجنسية قبل النضوج
الطبيعي [32] مما ينتج أضراراً عقلية ونفسية وجسدية.
7 - يدعو التلفاز وتوابعه النشء إلى الخمر والتدخين والإدمان ويلقنهم فنون
الغزل والعشق.
8 - للتلفاز دور خطير في إفساد اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وتدعيم
العجمة، وإشاعة اللحن.
9 - تغيير أنماط الحياة - الإفراط في السهر، فأفسد الدنيا والدين كما يرسخ
في الأذهان أن الراقصات والفنانات ونجوم الكرة أهم من العلماء والشيوخ والدعاة
والمبتكرين [33] .
ماذا يقول العقلاء والمنصفون؟
إن أي عاقل يتفكر في أضرار هذه الأجهزة ومفاسدها لا يتردد في اتخاذ
القرار الحاسم بوضع حد لآثارها السلبية وعربدتها الشيطانية في البيوت.
فقد ناشد (هيلموت شميت) مستشار ألمانيا الغربية السابق (الآباء والأمهات
أن يغلقوا أجهزة التلفزيون على الأقل يوماً واحداً خلال الأسبوع، وقد رفض رئيس
جمهورية فنزويلا أن يسمح بإدخال التلفزيون الملون إلى بلاده، زاعماً أنه سيكون
دافعاً جديداً لزيادة الروح الاستهلاكية المحقونة) [34] .
ذهب الكاتب الأمريكي (جيري ماندر) في كتابه (أربع مناقشات لإلغاء
التلفزيون) الذي أودعه خلاصة تجربته في حقل الإعلام إلى القول: (ربما لا
نستطيع أن نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية والقنابل النيوترونية، ولكننا
نستطيع أن نقول (لا) للتلفزيون ونستطيع أن نلقي بأجهزتنا في مقلب الزبالة؛
حيث يجب أن تكون، ولا يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجهاز
من تأثيرات على مشاهديه، هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل لا تنفصل
عن تجربة المشاهدة) [35] .
وأضاف: (إنني لا أتخيل إلا عَالَماً مليئاً بالفائدة عندما أتخيل عَالَماً بدون
تلفزيون، إن ما نفقده سيعوض عنه أكثر بواسطة احتكاك بشري أكبر، وبعث جديد
للبحث والنشاط الذاتي) [36] .
حكى الأستاذ مروان كجك أن صديقاً له زار أستاذه الجامعي في بيته وكان هذا
الأستاذ نصرانياً، فلاحظ الأخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون فسأله عن سبب ذلك
فأجاب: (أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟) [37] .
يقول الكاتب محمد عبد الله السمان مشيراً إلى حلقة تلفزيونية استضيف فيها
بعض طلبة مدرسة معروفة للمتفوقين يقول الكاتب: (كان المتوقع أن تكون الحلقة
إلى آخر دقيقة فيها من الحلقات الجادة التي يتلقى منها سائر الطلبة دروساً في
التفوق. وسأل مقدم البرنامج الطلبة واحداً واحداً عن مثله الأعلى في الحياة،
وكانت الإجابات مذهلة؛ فالمثل الأعلى لدى الطلبة المتفوقين هم على الترتيب
ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي؟ : عبد الحليم حافظ، بليغ حمدي،
نزار قباني، محمد عبد الوهاب، أنيس منصور. قلت تعقيباً على هذه الإجابات:
لم أكن أنتظر من هؤلاء المتفوقين أن يقولوا: إن مثلنا الأعلى هو أبو بكر أو عمر
أو علي أو خالد بن الوليد، بل كنت أتوقع أن يقول واحد منهم: إن مثلي الأعلى
هو: أبي) [38] .
ألم يَأْنِ للبيوت المسلمة الواعية المستنيرة أن لا يدخلها تلفزيون بعد اليوم؛
فهذه الأجهزة لا تساهم في تربية مستقيمة صالحة تعيننا على صياغة رجال الغد،
وأمهات المستقبل (إنني أُطمئن الذين يستعدون للتخلي عن تلك القنوات الفضائية
بأنهم لن يخسروا شيئاً ذال بال) [39] بل ستربح أسرهم كثيراً، فليس من العقل أو
الإنصاف بعد كل هذا احتمال هذا الكم الهائل من الضرر في دين المرء ودنياه مقابل
تلك الفوائد التي لا تكاد تذكر أمام هذا الركام المدمر من البرامج السيئة القصد.
فيا قومنا إن هذه الأجهزة ليست عفوية؛ بل هي أجهزة تربوية وتعليمية بالغة
الخطورة، تعمل على نسف الأسس الصحيحة للتربية السليمة، إنها - والله -
معاول هدم وتدمير للتحصينات الأخلاقية.
يا قومنا إن من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً، وهل إن تحكمت في هذا الجهاز أثناء وجودك فهل تضمن أن تنضبط الأمور عند
غيابك حين يكون الجهاز بين يدي أهلك وأولادك؟ !
فعلى المسلم الحقيقي أن يحتاط لدينه، وعرضه، وتربية أسرته وأولاده، ولا
يتأتى ذلك إلا بإبعاد هذا الخطر الداهم، وهذا الكابوس الجاثم على أنفاس البيت
والأسرة.
وأي خطر على العرض والشرف والأخلاق أكبر وأعظم من البرامج والسموم
التي تنفثها هذه الأجهزة لمسخ هويتنا والقضاء على قيمنا [**] .
نحن لا نرفض التقنية، ولكننا نرفض المحتوى الإعلامي الهدام، وإننا لندعو
الله أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه البشرية أن تفيد من هذه المخترعات الفذة
كالفيديو والتلفاز والكمبيوتر، وأن تقف مع البشرية لا مع أعدائها، ولن يتأتى ذلك
إلا حين تصبح المؤسسات الإعلامية في أيد أمينة شديدة الإحساس بما ينفع ويضر.
__________
(*) أصل هذه الدراسة، محاضرة ألقيت في مصر.
(1) انظر الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، مروان كجك ص66.
(2) راجع: الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، ص32 حيث يقول د ستيفن بانا حبيب بجامعة كولومبيا: إذاكان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
(3) راجع كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، ص 134 لبيان أثر مشاهد العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب.
(4) الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص189 190.
(5) المصدر السابق، ص185.
(6) بصمات على ولدي، ص6 نقلا عن جريدة الأنباء الكويتية، بتاريخ13 /7/198م، مقال حول تأثير التلفزيون على الأسرة.
(7) فهذا الوسط الفني يعتبر أكثر الطبقات شقاء وتفككا وتعرضا للأمراض النفسية والجسمية انظر: الأسرة المسلمة ص217.
(8) الأسرة المسلمة، 164.
(9) رواه من حديث أبي سعيد الخدري ابن أبي شيبة (4/391) ، ومن طريقه مسلم رقم (1437) والإمام أحمد (3/69) بلفظ: إن من أعظم الأمانة عند الله، وانظر فيض القدير (2/539) .
(10) بصمات على ولدي، ص11.
(11) انظر: أبناؤنا بين وسائل الإعلام وأخلاق الإسلام، ص41.
(12) حكم الإسلام في وسائل الإعلام للشيخ عبد الله ناصح علوان، ص 15.
(13) رواه من حديث أبي هريرة الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، (3/10) .
(14) بصمات على ولدي، ص32.
(15) الأسرة المسلمة ص 122، دراسة أجراها د جون على أثر الأشعة على النباتات والفئران.
(16) بتاريخ 17/2/1984م كما في الأسرة المسلمة ص126.
(17) ولهذا أصدرت وزارة العمل في كندا قانونا بإعفاء النساء الحوامل من العمل في أقسام الكمبيوتر طوال فترة الحمل الأسرة المسلمة، ص124.
(18) التلفاز وحكمه في الشريعة الإسلامية، للعلامة عبد الله بن حميد رحمه الله.
(19) رواه عنه الترمذي من حديث أبي برزة (4/612) رقم (2417) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(20) انظر الأسرة المسلمة، ص113 114.
(21) انظر بصمات على ولدي ص 23 24.
(22) أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون، ص 82 83.
(23) سنن ابن ماجه، الزهد 4193.
(24) الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص120 121 بتصرف.
(25) علق مراسل الإذاعة البريطانية على حال إحدى العواصم العربية في سخرية: لو أن عدوا أراد أن يحتل () دون مقاومة تذكر لما وجد أنسب من تلك الليلة.
(26) البث المباشر، ص73 نقلا عن أصوات متعددة، ص 338.
(27) نقلا عن الأهرام، 27/6/1989م.
(28) نقلا عن المنتدى العربي ص 63.
(29) شن وزير الثقافة الفرنسي جاك لانق حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية وقال: إنها أصبحت تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، وشكا رئيس وزراء كندا بيار ترودو من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي، وصرح وزير خارجية كندا عام 1976م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة.
(30) طفلك ليس لك أنت، ص 62.
(31) المصدر السابق ص 62.
(32) التلفزيون بين اهدم والبناء.
(33) راجع كيف تؤثر وسائل الإعلام؟ نقلا عن المنظور الاجتماعي للاتصال الجماهيري، ص 136، وكذا الأسرة المسلمة.
(34) انظر الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ص 238.
(35) الأسرة المسلمة، ص 252.
(36) أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون ص 346 بتصرف.
(37) المصدر السابق، ص348، بتصرف.
(38) الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ص 271 272.
(39) التلفزيون بين الهدم والبناء، ص 50 51 نقلا عن العقيدة والقوة.
(40) من تقديمه لكتاب: أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون لجيري ماندر، ص1112 بتصرف.
(**) لمزيد من المعلوما والحقائق ننصح بالاطلاع على ما يلي: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون بصمات على ولدي التلفزيون بين الهدم والبناء سموم على الهواء، فريد التوني الإنسان حيوان تلفزيوني البث المباشر حقائق وأرقام د ناصر العمر التلفزيون وحكمه في الشريعة الإسلامية، الشيخ عبد الله بن حميد.(143/70)
دراسات إعلامية
قراءات هادئة.. في القنوات الفضائية
عبد العزيز بن محمد الخضر
منذ زمن بعيد وفي السنوات الأولى من هذا القرن، وقبل أن تعرف البشرية
هذا الحجم من التقدم التقني، وقبل أن تظهر مخترعات عديدة كانت هناك قصة من
قصص الخيال العلمي اسمها: (الآلة تتوقف) رسم فيها الكاتب رؤية مستقبلية
يتخيل ويحلم بعالم توجد فيه شبكة إلكترونية يرتبط بها كل فرد؛ حيث يجلس الناس
في غرفهم ويحكمون إغلاقها، ولا تنقطع الصلات بينهم مع أنهم في هذه الغرف
المغلقة! !
شيء غريب أن لم تعد هذه القصة الخيالية غريبة! !
ما زال العالم يتجه إلى مغامرة معرفية غير مسبوقة في التاريخ لها خصائصها
المتجددة، وغير محدودة الأفق، وأصبحت حدود الزمان والمكان متداخلة بسبب
تكنولوجيا المعلومات والطرق السريعة لها؛ حيث تشبه الثوراتُ الدوائرَ؛ إذ ليس
لها بدايات أو نهايات، وهي عبارة عن سيل لا ينقطع من التغيير انطلاقاً من
الماضي الذي يقع خلف حدود الذاكرة وانتهاء بالمستقبل الذي يقع خارج حدود
التصور.
وتبدو ثورة الاتصالات عبارة عن فكرة تحدد كوناً من التغيير الذي انطلقت
حركته بفعل التوسع الإلكتروني للمعرفة البشرية والتجربة البصرية لشعوب العالم
كافة تقريباً ضمن بُعد حدود الزمان والمكان؛ إذ - ولأول مرة في التاريخ - نجد
الغني والفقير، الأمي والمتعلم، عامل المدينة وفلاح الريف يتصلون معاً عبر
صور الحياة العالمية، ومن الجار المحلي إلى أبعد مدينة [1] .
لقد شاء الذي [يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير] [الملك: 14] أن تصل
البشرية إلى هذه المرحلة!
في هذا الوقت: أين هي تصوراتنا المستقبلية ورؤيتنا الاستراتيجية؟ ما هي
طرق التفكير في التعامل مع هذا الواقع الذي يحيط بنا؟ ما هي الأسس العلمية
والمنهجية التي نملكها؟ وما هي الدراسات والتأملات العميقة التي تفكك هذه
الظاهرة؟ وهل آن الأوان لرسم خطوط جديدة في العقل والرؤية للأمور لرفع
قدراتنا على التقييم: أين المصلحة والمفسدة في المدى القريب والبعيد؟
قراءة في المحتوى (تحليل كمي) :
إن هذا التسارع في حركة الاتصالات والبث الفضائي الذي أصاب بالحيرة
عقولاً كبيرة من العلماء والمفكرين، يشير بخطورة الانعزال، وعدم الفهم الواضح
لمحتوى هذه الفضائيات، والتغيرات السلبية والإيجابية التي قد تحدثها، والاكتفاء
بالآراء العامة واجترارها على مدار الأعوام، والشجب العاطفي الذي لن يساهم في
تفعيل جهود المصلحين في التعامل مع هذا الواقع المتغير في كل لحظة.
وهذه محاولة لوضع تصور عام عن هذا المحتوى لبعض أهم القنوات في
العالم العربي، والقيام بتحليل كمي بعيد عن الانتقائية والتصيد للأخطاء، وإنما
بصورة موضوعية تُعَد خطوة رئيسة لفتح آفاق أخرى تساعد على رسم حلول
ومقترحات للتعامل مع هذا الواقع.
وفي هذه الدراسة الموجزة يبدو أن الإحاطة بمضمون جميع القنوات الفضائية
التي تبث في فضاء العالم العربي خارج السيطرة؛ لأنها بدأت بالتكاثر بصورة
ملفتة للنظر، ويصعب استقصاء الكثير منها، وستقتصر هذه الدراسة على أهم هذه
القنوات على قمر عرب سات. ويمكن تقسيم القراءة في المحتوى بما يلي:
أولاً: واقع البث الفضائي:
تطور الاستخدام العربي للاتصالات تطوراً مثيراً خلال السنوات الماضية؛
فبعد إطلاق القمر الصناعي الأول لعرب سات الذي تعاملت معه الدول العربية
بتحفظ شديد في مجال الاستخدام التلفزيوني في البداية تدافعت هذه الدول بعد ذلك
لاستئجار ما بقي من قنوات الجيل الأول، ودفعت مقدماً مقابل استئجار قنوات
الجيل الثاني، ثم دخلت المؤسسات غير الحكومية الحلبة ونافست القنوات
الحكومية [2] وتم بنجاح مؤخراً إطلاق الجيل الثالث لـ (عرب سات 3 - أ) .
وتبث البلدان العربية الآن من خلال (20) قناة فضائية مفتوحة، وقناتين
مشفرتين من داخل البلدان العربية، ومن خلال (4) قنوات مفتوحة و (8) قنوات
مشفرة من خارج البلدان العربية. إضافة إلى قناة واحدة لكل بلد من البلدان الآتية:
المغرب، الجزائر، تونس، السودان، اليمن، عمان، قطر، البحرين، الكويت، الأردن، سورية، موريتانيا، (mbc) . وهناك قناتان لكل من مصر والسعودية
art، ولبنان orbit، وأربع قنوات للإمارات العربية المتحدة، وهناك أقنية مشفرة
لمصر ولبنان، و orbit وشبكة الأخبار العربية ANN (2) .
ويزداد عدد القنوات العربية باستمرار مع دخول بلدان جديدة مجال استئجار
قنوات فضائية أو زيادة بعض البلدان قنواتها، (كما هو الحال في النايل سات)
إضافة إلى أن القنوات القائمة تنحو دائماً إلى زيادة ساعات البث؛ ويبلغ مجموع
البث بالقنوات العربية حوالي 300 ألف ساعة سنويا [3] .
وقد تجنبت معظم الدول العربية اتخاذ موقف محدد إزاء استقبال البث
الفضائي، كما تجنبت معظمها إعلان موقف السماح أو المنع، ولم تحدد موقفاً
واضحاً محدداً من الصحن اللاقط (الدش) ، ولذلك هي لم تمنعه؛ ولكنها لم تسمح به، ومن المؤكد أن هذا الموقف لا يعود إلى (ضعفٍ ما) أو إلى (عجزٍ مَّا) لحسم
الموقف إزاء قضية محددة كهذه بقدر ما يعود إلى اعتبارات متداخلة يفرضها واقع
الحياة [4] .
ويطول المقام لو تم التوسع في إعطاء تفصيلات لواقع البث الفضائي في
الوقت الحاضر، خاصة مع انتشار أقمار متعددة تبث القنوات الروسية والتركية
والأوروبية وقنوات شرق آسيا، إضافة إلى القنوات المشفَّرة. وهذه الدراسة
الموجزة مقتصرة على القنوات التي تشاهدها الأكثرية في مجتمعاتنا.
ثانياً: تحليل كمي:
ما هي المادة التي تشكل مضمون هذه القنوات التي تتسلل إلى عقل المجتمع
الذي يستقبله؟ سؤال يصعب الإحاطة به، وهو يحتاج إلى جهود ضخمة من عدة
باحثين، وسأقدم هنا تصوراً عاماً وموجزاً عن مضمون بعض القنوات التي تحظى
بمتابعة ليست قليلة في العالم العربي.
وقد أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير حول الأسلوب المناسب والموضوعي
لتقييم المضمون لأي قناة، بعيداً عن الآراء الشخصية، بسبب ما يصاحب البث
التلفزيوني من تداخلات ومتغيرات يختلف عن أسلوب التقييم لمجلة أو صحيفة.
ولتقسيم الموضوعات كانت هناك قائمة طويلة لتوزيع البرامج وتصنيفها
لإعطاء تصور مفصل عن المادة التي تُبث، ولكن لكثرة التداخلات وصعوبة
التقسيم من الناحية العملية، ووجود تغيرات متجددة كان التقسيم للبرامج وفقاً لقائمة
الإطار العام الذي توضع فيه، والذي يبدو كافياً في هذه الدراسة لوضع صورة عامة
من قبيل أن تكون خطوة مبدئية ربما تحتاج لتفصيلات أكثر دقة لكافة ما يبث.
والتقسيم الذي تم اختياره يتوزع إلى أربعة فروع رئيسة تضم كافة البرامج:
القسم الأول: يمكن وضعه في خانة البرامج الجادة: ويضم الأخبار والتحاليل
السياسية، والبرامج العلمية والاقتصادية والثقافية والدينية والفكرية، والحوارات
التي تهتم بالقضايا الجوهرية في حياة الشعوب.
القسم الثاني: يشكل البرامج الفنية: ويضم الأفلام والمسلسلات والأغاني
والحوارات الفنية.
القسم الثالث: ما يتعلق بالعائلة مما يخص المرأة والطفل.
القسم الرابع: يلحق بالمنوعات: كالمسابقات والرياضة والسياحة والتسلية.
هذا التقسيم للمحتوى في الحالات العادية، وليس في أوقات المناسبات
كالأعياد والمواسم الدينية.
والنتائج التقريبية التي ظهرت لنا من خلال التحليل الكمي لبعض أهم القنوات
السائدة في فضاء العالم العربي هي ما يلي:
1 - قناة دبي: تمثل البرامج الجادة حوالي 68، 46%، البرامج الفنية
حوالي 96، 35%، البرامج العائلية حوالي 93، 9%، البرامج المنوعة حوالي
31، 8%.
2 - قناة عجمان: تمثل البرامج الجادة حوالي 75، 3%، البرامج الفنية
حوالي 5، 32%، البرامج العائلية حوالي 20% البرامج المنوعة حوالي 75،
43%.
3 - قناة مصر الفضائية: تمثل البرامج الجادة حوالي 16، 24%، البرامج
الفنية حوالي 95، 43%، البرامج العائلية حوالي 125، 13%، البرامج
المنوعة حوالي 76، 18%.
4 - قناة LBC: تمثل البرامج الجادة حوالي 97، 7%، البرامج الفنية
حوالي 3، 44%، البرامج العائلية حوالي 67، 22%، البرامج المنوعة حوالي
05، 25%.
5 - قناة المستقبل: تمثل البرامج الجادة حوالي 67، 7%، البرامج الفنية
حوالي 32، 42%، البرامج العائلية حوالي 5، 28%، البرامج المنوعة حوالي
5، 21%.
6 - قناة mbc: تمثل البرامج الجادة حوالي 23، 18%، البرامج الفنية
حوالي 24، 55%، البرامج العائلية حوالي 9، 9%، البرامج المنوعة حوالي
63، 16%.
7 - قناة الجزيرة: تمثل البرامج الجادة حوالي 57، 90%، البرامج الفنية
حوالي 59، 0%، البرامج العائلية حوالي 59، 0%، البرامج المنوعة حوالي
23، 8%.
8 - قناة الشارقة: تمثل البرامج الجادة حوالي 3، 73%، البرامج الفنية
حوالي 38، 6%، البرامج العائلية حوالي 76، 10%، البرامج المنوعة حوالي
52، 9%.
ثالثاً: تقييم عام للمحتوى الكمي:
قد يكون من الأفضل في التقييم للمحتوى الكمي في البرامج الفضائية أن يكون
من خلال قراءة عمودية تتعمق في أجزائها، ولكن للقراءة الأفقية فوائدها التي ترسم
الصورة العامة لواقع كبير ومتشعب الجوانب.
ومن خلال الاستعراض الموجز لواقع بعض أهم القنوات العربية كانت تلك
أهم محتويات المادة التي تغطي ساعات البث دون وضعها تحت مجهر نقدي علمي
لمحتوياتها، والنتيجة التي يصل إليها الناقد تعتمد على المنهج الذي ينطلق منه
لتقييم مادة البث، وما هي المعايير التي يرجع إليها كمقياس يحكم من خلالها على
نجاح أو إخفاق هذه البرامج، ونتيجة " لم ينجح أحد! " قد تكون طبيعة لأكثر
القنوات لو تم اعتماد معايير ومفاهيم إسلامية دقيقة.
إن القراءة التحليلية المنهجية تحتاج تفصيلات طويلة لا تناسب هذه الدراسة،
ولذا سأكتفي بوضع نقاط عامة وملاحظات تكشف بعض الجوانب حول التحليل
الكمي السابق:
1- بعد سنوات قليلة من بداية البث الفضائي بدأت في الانتشار ظاهرة
القنوات المتخصصة في الأفلام والأغاني والرياضة والأطفال، وهي قنوات مشفَّرة
وبرسوم معينة، وعلى النايل سات توجد باقات من القنوات للتعليم بالمراحل
الابتدائية والإعدادية والثانوي والفني وتعليم اللغات والجامعة، وقنوات متخصصة
بالصحة والأسرة والثقافة، وبدأت مؤخراً القناة الجامعية للتعليم عن بعد لمجموعة
art، وقناة المناهج، وستبدأ قريباً قناة خاصة بالشعر الشعبي، وبدأت أيضاً قناة
اقرأ في البث.
2 - يلاحظ أن القنوات الحكومية التقليدية في العالم العربي لها نمط متشابه
في النسق العام لبرامجها، وهي تتميز بالقطرية باهتماماتها وخطها الإعلامي
الدعائي، والابتعاد عن حاجات الجمهور وواقعه، مما يعفي من الدخول في
تفصيلات هياكلها البرامجية، والاختلاف الذي يجدر ذكره فيما بينها هو في معايير
الرقابة على الأفلام لبعض المشاهد وبعض الأفكار الثقافية والسياسية.
وقد انقطع حبل السرة الذي يربط محطات التلفزيون العربية العامة بالجمهور، وهذا تعبير الشكوى من أحد المسؤولين العرب من كثرة القنوات المتاحة، بل
حتى داخل الأسرة الواحدة تعددت الاتجاهات؛ فلكل واحد منهم قناة خاصة [5] .
3 - هناك أهمية خاصة لمعرفة حجم المشاهدين، ويربط عاد بحصص وحجم
الإعلانات، وتوجد دراسات متعددة في بعض المجلات على مدار السنوات الماضية
حول حجم الإعلان لبعض القنوات، ولكن التغيرات تحدث سنوياً في هذا الشأن،
وقد أشارت مؤخراً مجلة الاقتصاد والأعمال، تحت عنوان: (الإعلام المرئي
والمأزق المخفي) الذي يبدو فيه أن جميع القنوات تعاني من أزمة في هذا الشأن؛
حيث تدنت أسعار الإعلان بصورة كبيرة نظراً للتنافس الشديد، وأيضاً لتدني أسعار
النفط بالفترة الأخيرة؛ حيث أشارت إلى أن حصة الأسد تتوزع على منافسين هم:
mbc، LBC، المستقبل تبالغ كثير من المحطات الفضائية بالتركيز على الترفيه
والإغراءات بالمعنى المبتذل، art، أوربت، شوتايم، الجزيرة، وهناك من
يضيف قناة دبي والفضائية المصرية [6] ويُلاحظ في المستقبل، LBC، حجم
أكثر في الإعلانات لعدة أسباب منها منهجها الإعلامي القائم على إثارة الغرائز. أما
القنوات الإخبارية فلا يمكن لها أن تنافس في الإعلانات التي تخص المرأة والطفل.
4 - إن التحليل الكمي للبرامج من خلال عينة زمنية لمدة أسبوع أو شهر أو
أكثر ربما لا يسعف كثيراً في إيجاد دلالات عميقة ما لم توضع المعطيات ضمن
إطار تحليل النسق من أجل استيعاب الكيفية التي يقوم عليها هذا المضمون أصلاً
وفروعاً [7] ، خاصة أنه يلاحظ عدم وضوح الأهداف والوظائف لدى المحطات،
مما أدى إلى استحالة وضع خطة برامجية شاملة ومتوازية في القنوات الفضائية؛
خطة قادرة على تحديد نسب متوازية لمواد البرامج المختلفة حسب أولويات معروفة
مسبقاً.
لهذا يلاحظ في الدورة البرامجية لقنوات عديدة أن ما يخصص للثقافة - مثلاً- يختلف كلياً بين دورة وأخرى، سواء من حيث الزمن المخصص أو من حيث
المواضيع المطروحة، والأمر نفسه بالنسبة للمواد الأخرى، ويلاحظ أن النسبة
ترتفع أحياناً للمادة وتنخفض أحياناً أخرى دون سبب واضح؛ لذا فإن تذبذب
الأولويات في الدورات البرامجية وعدم تناسب البرامج مع حاجات التنمية واضح؛
وكثيراً ما تلعب المصادفة أو مدى توفر مادة معينة دولاً في زيادة حجم المواد
المخصصة لموضوع ما؛ لذا فهي تتميز بالعشوائية والمصادفة لبعض القنوات،
ومع هذا فالتغيرات ليست كبيرة، والنسق العام للبرامج لقنوات مضت عليها سنوات
عديدة يعطي التوجه والاستراتيجية العامة لهذه القناة أو تلك.
5 - النسب العامة التي سبق استعراضها تشير بوضوح إلى الحضور الكبير
للبرامج الفنية وما يلحق بها من أفلام وأغانٍ ومسلسلات تقترب من نصف ساعات
البث، وهي مؤشر واضح إلى العجز الكبير الذي تعانيه هذه القنوات في إنتاج
برامج متنوعة وجادة تغطي ساعات البث الذي تلتزم بها كل قناة.
وهناك حضور لا بأس به للبرامج الجادة، ويمكن اعتبارها نسبة ضئيلة إذا تم
توزيعها على عدة أنواع من البرامج في الدين والقضايا السياسية والاقتصادية
والثقافية، ويستثنى منها الحضور القوي لقناة الجزيرة باقترابها من أن تكون
إخبارية متخصصة، وما تحويه من مضامين جادة تصل إلى 90%، وقد شكلت
قفزة نوعية كبيرة في عالم الفضائيات العربية أربكت استراتيجيات مستقبلية لدى
قنوات أخرى، وساهمت في تحسن بعض القنوات الأخرى من أجل المنافسة،
والنخبة المثقفة في المجتمع هم أكثر المتابعين لها.
أما البرامج العائلية والخاصة بالمرأة والطفل، والبرامج المنوعة، فلا يبدو
أن هناك إشكالية في الوقت المخصص لها، إلا أن بعض المضامين تحتاج شيئاً من
المراجعة.
6 - تبالغ الكثير من المحطات الفضائية العربية في التركيز على جوانب
الترفيه والتسلية - بالمعنى المبتذل لمفهوم الترفيه - مع التركيز على جانب الأفلام
والمسلسلات وإبراز شخصيات فنية، وبالمقابل يحدث نقص واضح في الاهتمام
بجوانب تهمُّ المواطن العربي بما يتعلق بالتنمية ومشكلاته الحياتية. وفي العالم
النامي تسود عقلية من أصحاب القطاع الخاص في الابتعاد عن الأشياء الجوهرية
والميل إلى القضايا الهامشية، بمعنى أن الهرم مقلوب كما هي عادتنا في كثير من
الأمور!
7- التحليل الكمي ربما يعطي صورة موضوعية بوجه عام، إلا أن تقارب
النسب بين بعض القنوات في هيكلة برامجها، لا يدل على تقارب مضمونها السلبي
أو الإيجابي فيما بينها؛ لأن بعض القنوات كالمستقبل، و LBC غالبية برامجهما
تملك منهجاً تغريبياً واضحاً وبنسبة كبيرة في كافة ما يُبث حتى في البرامج العائلية
والأطفال.
8 - هناك أوقات ميتة تتخلل البث اليومي وأوقات حية يدركها صاحب
الرسالة الإعلامية، لذا تتركز معظم البرامج الرئيسة لكل قناة في الوقت الذهبي،
أما الأوقات الميتة فيتم استغلالها في إعادة البرامج، وبرامج أخرى ليست جماهيرية، والوقت الذهبي يكون عادة فيما بين الساعة السادسة والساعة العاشرة مساء
بتوقيت جرينتش، ويلاحظ أن هذه الفترة الحية كانت تشكو في بدايات نشوء هذه
القنوات في أول التسعينات من طغيان المادة الفنية والترفيهية إلى حد التخمة،
وتدريجاً بدأت تزداد المساحة في هذه الفترة للبرامج الجادة والحوارية؛ نظراً للملل
الذي أصاب المتابع، ولظهور قنوات متخصصة وأخرى جادة مما أشعر بعض
القائمين أن المشاهد لا تستهويه دائماً المواد الهابطة، حتى بدأ يلاحظ أنه - في
وقت واحد - تبث عدة برامج حوارية جادة على الهواء مباشرة في أكثر من قناة.
وهذا التحسن يبقى محدوداً؛ خاصة مع إصرار بعض القنوات على جعل المواد
الدينية دائماً في الأوقات الميتة، واستغلال هذه الفترة الذهبية في عرض برامج
وأفلام تتكئ على إثارة الغرائز.
9 - وجود عدد كبير من البرامج الحوارية المباشرة وغير المباشرة، وهي
تأخذ مساحة واسعة من الوقت يصعب عادة وضع ميزان دقيق لها وتصنيفها من
خلال عينة زمنية محددة؛ لأن البرامج الحوارية قد يكون ضيوفها من أصحاب الفن
من الممثلين والمغنين والعاملين في المجال الفني، أو شخصية سياسية أو عسكرية، أو شخصيات ثقافية أو دينية، إلا أن توجه القناة العام من خلال سنوات عديدة
يعطي مؤشراً على نسبة الضيوف ونوعيتها، ولكن المتابع يجد أن أغلب القنوات
التي يطغى التوجه الفني على برامجها هو التركيز على الضيوف من أهل الفن
بكافة تخصصاتهم، لدرجة أن الشخصية الفنية ربما أُجريت لها مقابلات متعددة في
أكثر من قناة في أوقات متقاربة، ولا تُترك شاردة ولا واردة إلا قيلت في حياة
الفنان، مما يشعر المشاهد بالتشبع حتى لمن يهوى الجانب الفني.
10 - من الأشياء التي لا تخفى على المتابع أن البث الفضائي الأجنبي أكثر
تنظيماً ولا يعمل في فراغ، ولديه حسابات تبعده عن التسلية المجردة لإنجاح
مشاريعه، وهي تمثل أفكار مالكيها من دول أو مؤسسات أو أفراد، ووجود هذا
البث بما يملكه من آليات وتكنولوجيا متقدمة ظاهرة موضوعية نتيجة اختلاف
موازين القوى في العالم لصالح الجانب الغربي.
والبث الأجنبي يحتاج إلى وقفة مستقلة لحصر القنوات الأجنبية التي يصل
بثها إلى المنطقة العربية. ففي عرب سات توجد قناة الـ CNN الأمريكية وهي
قناة إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الأمريكية، وقناة TV5 الفرنسية وهي أيضاً قناة
إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الفرنسية، وللقناتين جمهور محدود من النخب،
ويغلب عليهما البرامج الجادة التي تهتم بالشؤون العالمية.
والقنوات المشفرة التي تعرض الأفلام الأجنبية بدأت تأخذ مساحة متزايدة في
الساحة العربية، وهي تحمل مخاطر تستحق الدراسة خاصة أن بعض هذه القنوات
تقوم بالترجمة إلى اللغة العربية، وهذا يعني أن الخطورة لا تقتصر على المشاهد
الفاضحة وإنما الأفكار والمضامين التي تصل إلى عقل المشاهد البسيط.
لا تكاد تفرق بين الإعلام العربي والغربي لتداخل مفاهيم عدة في ظل غياب
الميزان الأخلاقي.
ومما يؤسف له أنك قد لا تجد فوارق كبيرة بين ما يبثه الإعلام العربي
والإعلام الغربي؛ حيث تداخلت مفاهيم عديدة في ظل غياب الوعي الإسلامي الذي
يحافظ على القيم والأخلاق، وغياب القدرة على إنتاج مواد محلية لتغطي ساعات
البث الذي يزداد بصورة عشوائية؛ حيث تشير أرقام اليونسكو إلى أن المحطات
التلفزيونية في العالم النامي تستورد أكثر من 50% مما تقدمه، وأن أكثر من 75%
من هذه المادة المستوردة من منشأ أمريكي [8] .
وبعيداً عن أدبيات اتهام الآخر فإن الثقافة أصبحت صناعة وسلعة تُنتج وتُباع
وتُشترى ويتم تبادلها، وتسيطر عليها الشركات المتعددة الجنسيات، وتَحوَّل
الجمهور إلى سوق واسعة يجب استثمارها، وظهرت أسواق تجارية لمحاصيل
ثقافية وفيرة وجاهزة، ففي 1991م بلغت قيمة صادرات بريطانيا من المواد الثقافية
25 مليار دولار - المرتبة الثانية في الدخل القومي بعد السياحة - بينما الصناعة
تحتل المرتبة الخامسة. وفي العام ذاته بلغت قيمة الصادرات الأمريكية 60 مليار
دولار، وهو رقم قريب من صادرات السلاح.
11 - مع حقيقة طغيان المواد السطحية في الإعلام العربي، إلا أنه توجد
برامج رصينة وبرامج حوارية ذات فائدة، خاصة أن أغلبها ليست مغلقة، وإنما
أصبحت ندوات مفتوحة للجميع على الهواء مباشرة، وتطرح فيها قضايا هامة
للمجتمع العربي، فلم يعد الضيف الذي يختاره معد البرنامج داخل غرفة مغلقة يقول
ما يريد دون أن يأخذ في حساباته أن التحليل والمعلومة الخاطئة يمكن تعديلها من
أحد المتصلين للمشاركة، فأصبح المشاهد في كل مكان رقيب على ما يقوله
الضيوف في مثل هذه البرامج، وهذه الأنواع من البرامج تجعل التلفزيون يتجه إلى
أن يكون تفاعلياً وليس من طرف واحد.
قراءة في التأثيرات:
ليس من السهل في هذه القراءة الموجزة استعراض النظريات الرئيسة التي
توصلت إليها الدراسات في وسائل الإعلام وتأثيراتها، والتي مرت بثلاث مراحل
خلال هذا القرن؛ حيث (لا توجد نظرية واحدة متفق عليها عن كيفية عمل وسائل
الإعلام وعن تأثرها وتأثيراتها في الأفراد والنظم والمؤسسات الاجتماعية المختلفة؛
وإنما يوجد عدد من النظريات الاجتماعية التي تقدم لنا تصورات مختلفة عن العملية
الإعلامية وآثارها الاجتماعية) [9] .
(ولا يختلف اثنان في أن وسائل الإعلام تقوم بدور رئيس في كثير من
القضايا، غير أننا لا نعرف حتى الآن تفسيراً علمياً كاملاً عن طبيعة تأثيرات
وسائل الإعلام، وعن النظم الاجتماعية العامة من ثقافة وفكر وسلوك ممارَس؛ لأن
طبيعة هذه التأثيرات والنظم لها جذور تاريخية واجتماعية ضاربة في القِدَم. ومما
يقلل من معرفتنا عن تأثيرات وسائل الإعلام أنه من غير المنطقي أن نتحدث عن
وسائل الإعلام وكأنها عنصر فاعل واحد؛ فالحقيقة هي أن العملية الإعلامية تمثل
مجموعة كبيرة ومتنوعة من الرسائل والصور والأفكار التي لا يكون مصدرها
الوسائل الإعلامية ذاتها؛ فمعظم هذه الرسائل والصور والأفكار تنبع من المجتمع
وإليه تعود) .
إنه من المهم أن ندرك (أن مضمون الإعلام ليس له تأثير الحقنة التي يحقن
بها المريض تحت الجلد فتحدث تأثيراتها المباشرة عليه بكل بساطة. وتأثير
التلفزيون هو ثمرة التفاعل الواقعي الحيوي بين خصائص التلفزيون وخصائص
مشاهديه، وليس من الإنصاف والموضوعية العلمية أن ننظر إلى التلفزيون على
أنه السبب الوحيد في الانحراف؛ لأن الانحراف سلوك معقد للغاية ينجم عن
مؤثرات متشابكة لها جذورها في الأسرة والأقران والمدرسة.
__________
(1) مايكل أونيل، طبيعة المعرفة التلفزيونية، ت/د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(2) حسين العودات كيف يمكن أن نجعل القنوات الفضائية العربية أداة للتعريف بالثقافة العربية الإسلامية، المجلة العربية للثقافة، مجلة نصف سنوية العدد 33 جمادى الأولى 1418هـ.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) د أديب خضور، القنوات الفضائية العربية، المكتبة الإعلامية دراسات تلفزيونية.
(6) جريدة الحياة، العدد 123290، 27 أكتوبر 1996م.
(7) مجلة الاقتصاد والأعمال، العدد 231، مارس 1999م.
(8) د زكي الجابر (قراءة في المضمون الثقافي والإعلامي في القنوات العربية) المجلة العربية للثقافة، العدد 33، جمادى الأولى 1418هـ.
(9) د أديب خضور (الدور التثقيفي للتلفزيون) المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(10) دنيس مكويل، الإعلام وتأثيراته، دراسات في بناء النظرية الإعلامية، ت/د عثمان العربي.
(11) د إبراهيم إمام: حول أثر التلفزيون على الأطفال والشباب، جريدة الندوة السعودية، العدد 8903، 21/10/1418.
(12) التلفزيون والأطفال، مجموعة من الباحثين ترجمة وإعداد: د أديب خضور.
(13) بيل جيتس، المعلوماتية بعد الإنترنت (طريق المستقبل) ، الكويت سلسلة عالم المعرفة، رقم 231، ترجمة: عبد السلام رضوان.
(14) كانت الثورة الثقافية الأولى سياسية الثقافة وطرحت مسألة طبقية الثقافة، وكانت الثورة الثقافية الثانية ذات مضمون حقوقي طرحت حق كل فرد في الثقافة، وكانت الثورة الثالثة الثورة العلمية.
(15) مجلة ستالايت، 30يناير 1999م، العدد 282.
(16) د علي جريشة، نحو إعلام إسلامي التلفزيون وثورة الاتصالات، ملحق خاص عن التلفزيون نشرته مجلة الأيكونوميست 12/2/1994م، ت/ د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.(143/80)
المسلون والعالم
ماذا يحدث في داغستان
عثمان أمين عيسى
أصبحت روسيا - بعد سقوط الاتحاد السوفييتي - بلداً مثيراً، وغير مفهوم،
وغدت الدولةالروسية جمهورية محيرة، ليس فقط للذين يعيشون خارجها، أو
للأجانب المقيمين فيها؛ بل كذلك لكثير من أهل روسيا أنفسهم.
والأحداث التي جرت في داغستان مؤخراً تدخل في إطار تلك الأوضاع
المضطربة؛ إذ لا يمكن فهم ما يجري هناك وفي الشيشان دون فهم ما يجري في
روسيا؛ فكلامنا عن أوضاع روسيا مفتاح لفهم كثير مما حدث ويمكن أن يحدث في
داغستان وغيرها من الجمهوريات الإسلامية التي كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي
السابق.
وقبل الخوض في الأوضاع الروسية من حيث تأثرها بالسياسات الخارجية
للدول العربية يحسن بنا أن نلقي نظرة مختصرة على بلاد الداغستان التي تقطنها
أغلبية مسلمة: ما شأن هذه البلاد؟ وأين أصبحت داغستان بين الأمس واليوم؟
تقع داغستان في شمال القوقاز [1] وتبلغ مساحتها حوالي 50 ألف كم مربع،
وعدد سكانها 2 مليون نسمة، 70% منهم يسكنون المناطق الجبلية القروية، 30%
يسكنون المدن، ويمثل المسلمون نسبة 80% من إجمالي عدد السكان معظهم من
السُّنَّة، وتضم داغستان نحو 30 قومية عرقية أبرزها (الأفار) الذين يمثلون ربع
السكان، ثم (الدارغيون) ويمثلون ربع السكان.
دخل الإسلام بلاد الداغستان في عصر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - وظل أهلها يتكلمون اللغة العربية حتى ألغاها الروس وأحلوا بدلاً منها اللغة
الروسية.
وتتسم داغستان بأهمية استراتيجية خاصة؛ لأنها المعبر الذي يتم خلاله نقل
الجزء الأساس من نفط قزوين إلى (نوفور سيسك) الروسي على البحر الأسود عبر
الشيشان وروسيا الجنوبية، وهذا هو (الخط الجنوبي) وهناك خط آخر يمر بشمال
داغستان فالشيشان وصولاً إلى (نوفور سيسك) قادماً من كازاخستان، وكانت
تحصل روسيا على عائدات سنوية من هذا النفظ تصل إلى خمسة مليارات دولار؛
أما الآن ومع تعطل الخط من الشيشان فهي تحصل على أقل من مليار دولار،
وربما تفقد روسيا نهائياً الوصول إلى هذا النفط مع التهديد الذي يواجهها بسبب
خطر استقلال الداغستان.
ومن المعروف أن منطقة قزوين هي أهم ثاني منطقة حاوية للنفط في العالم،
توازي في ذلك منطقة الخليج العربي، بل أحياناً يطلق على منطقة قزوين (الخليج
الثاني) ؛ فاحتياطي النفط في قزوين يبلغ 200 مليار برميل، يساوي أربعة آلاف
مليار دولار.
وكما سبق بيانه فإن فهم أوضاع داغستان مربوط بمعرفة ما يجري في روسيا، من تصارع وتناحر على السلطة بين الأحزاب الروسية المختلفة ودور الروس
المسلمين الذين هم من أهم العناصر المؤثرة والتي تحرص مختلف الاتجاهات
السياسية الروسية للاستفادة من إمكاناتها، ويظهر ذلك من خلال أمرين هامين وهما:
أولاً: أن المسلمين يشاركون في سياسة روسيا من خلال مشاركتهم في
الانتخابات بكل مستوياتها، وعدد المسلمين الروس يبلغ خمسة عشر إلى عشرين
مليون نسمة، وهذا يعني أن عددهم يبلغ 12% من عدد سكان روسيا.
ثانياً: أن السياسة الروسية تستخدم المسلمين لتحقيق بعض ما تريده باستغلالها
لأوضاعهم وحاجاتهم ومطالبهم الأساسية.
وقبل الخوض في بيان طريقة تأثير المسلمين بمختلف قومياتهم في الوضع
السياسي الروسي يجدر بنا تسليط بعض الضوء على وضع القيادة الروسية الحالية
ومقاطع التقاء المصالح بينها وبين الغرب واليهود لنخرج بعد ذلك بفهم واضح
لوضع الداغستان ومن قبلها الشيشان ومن بعدها القوقاز كله.
إن من الواضح أن مرض الرئيس الروسي (بوريس يلتسين) وإصابته بنوع
من عدم التوازن العقلي والنفسي جعل الحديث يكثر في السنة الأخيرة عمن سيخلفه؛ فقد بدأ السياسيون فعلاً بالعمل على إعداد خليفة يلتسين في وقت تنامى فيه
التعاطف الشعبي مع الحزب الشيوعي ورئيسه (زجانوف) أملاً في الخروج بروسيا
من الوضع الاقتصادي المتردي، وإنهاء حالة الفساد المالي الذي استشرى خلال
السنتين الماضيتين، والناجم عن سيطرة مجموعات معينة في نظام يلتسين على
الأموال.
وحتى المحيطون بالرئيس الروسي لهم مخططاتهم للإعداد لمرحلة ما بعد
يلتسين الذي لا يريد أن يتخلى عن الرئاسة بشكل يدعو للاستغراب؛ فكيف لرجل
لا يكاد يمكث خارج المستشفى بضعة شهور أن يظل متشبثاً بكرسي الرئاسة على
هذا النحو، بل يمارس صلاحيات شبه مطلقة في التولية والعزل بمسوغات غير
مفهومة لغير المتابع؟
إن هناك أسباباً يمكن رصدها تقف وراء تمسك يلتسين بالسلطة حتى الرمق
الأخير؛ فمن ذلك: مخاوفه من التعرض للمحاكمة - في ظل نظام رئاسي جديد -
على الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها هو ومقربوه، بل لقد تقدم برلمانيون بالفعل
بطلبات لمحاكمته وهو في منصبه لأسباب عديدة من أبرزها مسؤوليته عن أحداث
الشيشان.
ومن جهة أخرى كان يلتسين والمقربون إليه ينظرون بتوجس للتعاطف
الشعبي المتزايد مع الحزب الشيوعي ورئيسه بعد أن حقق هذا الحزب فوزاً متميزاً
على الأحزاب الأخرى في الانتخابات البرلمانية.
وحتى الأمريكان والأوروبيون يقلقهم هذا، ولا يخفون انزعاجهم من احتمال
أن يُنتخب (زجانوف) رئيس الحزب الشيوعي رئيساً لروسيا، مما يعني عودة
الشيوعية بكل مشاكلها المزعجة للغرب؛ فروسيا لا تزال تملك أسلحة ذرية موجهة
للغرب، وسوق الروس الآن معتمد على منتجات الغرب، مقابل مواد خام أو شبه
مصنعة رخيصة تتدفق على الغرب من روسيا يلتسين بأسعار أقل من الأسعار
العالمية.
ومما يزيد في أهمية بقاء يلتسين في السلطة في نظر الغرب أنه ليس هناك
بديل له؛ لما للرئيس الحالي من شهرة وشعبية نسبية يستطيع بها أن يضبط الأمور
في ذلك البلد الكبير.
ولكل هذا تجمعت رغبات الغرب مع رغبات المحيطين بيلتسين لتتحد في
عمل مشترك يهدف إلى تحقيق خطوتين:
الأولى: الإبقاء على يلتسين رئيساً لروسيا والحيلولة دون إسقاطه حتى إيجاد
البديل المناسب.
الثانية: انتقاء شخص مقرب جداً من يلتسين ممن ينتمي إلى اللوبي اليهودي
ليحل محله ضامناً مصالح الغرب واليهود.
لذا فإنهم بدؤوا يخططون لذلك ويستغلون الأحداث؛ بل يصنعونها لتصب في
تحقيق الأمرين المهمين وهما: إبقاء يلتسين حتى يجهز البديل المناسب لذا فقد
استغل حزب الرئيس ومستشاروه حادثة النائب الداغستاني الذي رُفعت عنه
الحصانة في البرلمان الروسي لزعزعة الوضع في مناطق الداغستان تمهيداً لإعلان
حالة الطوارئ وقطع الطريق على معارضي الرئيس.
والقصة - باختصار - هي أنه منذ أكثر من سنة تقدم المدعي العام لروسيا
بطلب إلى مجلس البرلمان الروسي لرفع الحصانة عن النائب الداغستاني (نادر
حشكلايف) تمهيداً لمحاكمته عن مخالفات قانونية، وبالفعل تم التصويت على رفع
الحصانة ولتقديمه للمحاكمة على معاملات وتصرفات له؛ ولكن النائب الداغستاني
هرب إلى داغستان؛ حيث تتمتع عائلته بوضع عشائري قوي داخلها، واعتقد أنه
أصبح في وضع حماية؛ ولكن السلطات الروسية طلبت من السلطات الداغستانية
أن تقبض عليه وتسلمه ليحاكم في روسيا، فاستجابت السلطة الداغستانية، ولما
حاولت القبض عليه وقعت صدامات عشيرة حشكلايف بالسلطات في داغستان،
وهنا تطور الأمر بصورة غير متوقعة وظهر وجه آخر له - هل هو بتدبير أم لا؟
الله أعلم - حيث بدأ النائب (نادرحشكلايف) يهاجم السلطة الداغستانية باسم الإسلام
متهماً إياها بأنها خارجة عن نهج الإسلام! ودعا إلى تطبيق الشريعة في داغستان،
وتحول نادر حشكلايف النائب في البرلمان الروسي إلى داعية للإسلام! وأصبح من
مناصري الحركة الإسلامية الداغستانية بزعامة الشيخ بهاء الدين الذي يقود مجموعة
من الشباب الصادق في وجهته والصالح في منهجه - نحسبهم كذلك والله حسيبهم -
وهم يُلَقَّبون في الأوساط الداغستانية بـ (الوهابيين) وقد حدثت بينهم وبين
الاتجاهات الصوفية المنحرفة والمتعاونة مع السلطة منازعات كثيرة انتهت بتضييق
الخناق على الشيخ بهاء الدين مما أدى إلى هروبه إلى الشيشان.
وبالمناسبة فإننا نذكر هنا أن الشيخ لم يكن موافقاً على ما كان يدور في
الشيشان أثناء الحرب، وكان يرى أن هذه الحرب ليست دينية، ومع ذلك فقد
شارك طلابه دعاةً أول الأمر، ثم أصبحوا مشاركين بالقتال فيها مع الشيشانيين في
حربهم ضد الروس، ووقفوا بجانب القائد الشيشاني شامل باسييف ولم يحاول
الداغستانيون إظهار دورهم في حرب الشيشان، ولكن السلطة الروسية كانت تعلم
بذلك وتتكتم عليه، وكان هذا من أخطاء المجاهدين الداغستانيين؛ إذ إن عدم ظهور
دورهم في الحرب الشيشانية ساهم في نزع الصبغة الدينية عن تلك الحرب،
وجعلها تبدو وكأنها حرب قومية خالصة.
والشاهد هنا أن الشيخ بهاء الدين هرب إلى الشيشان مؤخراً بعد أن أصبح
مطارداً من السلطة الداغستانية هو وأتباعه والمتعاطفون معه، ومنهم حشكلايف،
وظل في الشهور الأخيرة يعد الرجال والسلاح لمواجهة السلطة في داغستان،
واللافت للنظر هنا أن نشاطات الشيخ بهاء الدين في الإعداد للمواجهة كانت تجري
تحت سمع وبصر السلطة الشيشانية والداغستانية، وقد غضوا جميعاً الطرف عن
النشاط الجهادي الداغستاني لأسباب متباينة. أما السلطة الشيشانية فقد رأت في ذلك
فرصة للقضاء على القائد العسكري الشيشاني (شامل باسييف) وهو رجل ذو ميول
إسلامية وله شعبية واسعة بين الشيشانيين؛ لما له من روح دينية صادقة واتجاه
جهادي، وكان له دوره البارز في الحرب الشيشانية، وقد أصبح شوكة في حلق
النظام الرئاسي في الشيشان بزعامة (مسعادوف) الذي يسير في حكم الشيشان على
طريقة ترقيعية تحاول إرضاء المسلمين وإرضاء الروس.
وأما الروس فقد غضوا الطرف عن نشاطات الشيخ بهاء الدين في مرحلة
الإعداد الأخيرة للاستفادة منها أثناء معركة الرئاسة الروسية - كما مر بنا - لتمديد
فترة بقاء يلتسين وجمع الشعب عليه ومنه جانب آخر فقد غضت السلطة الداغستانية
بدورها الطرف عن ذلك بغرض استدراج الشيخ بهاء الدين إلى معركة غير متكافئة
يلقى فيها نهايته؛ فترتاح من نقطة توتر قوية ومؤثرة على أوضاع القوقاز كله.
إذن، فاستدراج الإسلاميين إلى مواجهته في داغستان كان قاسماً مشتركاً بين
أطراف عديدة، لكل منها أهدافه الخاصة. ويأتي الروس في مقدمة هذه الأطراف،
فكيف حاولت روسيا استغلال نشاط الحركة الإسلامية؟ هنا نرجع إلى الخطتين
اللتين أعدهما يلتسين ورفقاؤه لمعركة الرئاسة:
الخطة الأولى: هي افتعال مشكلة قومية لروسيا، وتصويرها على أنها تهدد
وحدة البلاد، وكان الوضع متوتراً في القوقاز ومرشحاً - بعد تفجيره - ليكون
ممثلاً لهذه المشكلة القومية، لكي تستغل في إعلان حالة الطوارئ أو تأجيل
الانتخابات، أو بأي طريقة أخرى لتصوير الحال على أنها ظرف ضروري وعامل
قهري لبقاء يلتسين في الحكم، وفي الوقت نفسه للتخلص من شامل باسييف أو تقليم
أظافره لمصلحة روسيا ورئيس الشيشان، إضافة إلى إيقاف نشاط الإسلاميين ذوي
المنهج الصحيح في الداغستان لصالح الطوائف الصوفية المتعصبة والسلطات
الداغستانية، مع إظهار هؤلاء الإسلاميين بصورة المنتمين إلى دين عدواني دموي
لا يعرف الرحمة والتسامح!
وللوصول إلى نجاح هذه الخطة حدث ما يلي:
1 - ركز الإعلام الداخلي في روسيا، وتبعاً له الإعلام العالمي على إظهار
القائمين بالجهاد على أنهم متمردون شيشانيون من فصائل شامل باسييف، وأن دَوْرَ
الداغستانيين جزئي محدود، وركز الإعلام كذلك على أن من بين (المتمردين) عرباً
وطاجيك وأفغان، إضافة إلى مجموعات أسامة بن لادن، كل ذلك لإبراز ما يحدث
على أنه بمثابة غزو من خارج داغستان وبمساعدة جهات أجنبية تريد التدخل في
الشؤون الداخلية الداغستانية.
2 - التعتيم الكامل من السلطات الشيشانية والداغستانية والروسية على دور
الشيخ بهاء الدين ومجموعته، مع أنهم هم الأساس في هذه المعارك، وأن شامل
باسييف وغيرهم جاؤوا لنصرتهم فقط - وهذه هي الحقيقة - وللأسف فقد ساهم
الشيخ بهاء الدين في تجسيد هذا التصوير الروسي لدور الشيشانيين في الأحداث
بحرصه على إخفاء دوره، وفات على الشيخ أن إظهار المعركة بهذه الصورة
سيفقده مساندة الداغستانيين؛ لأنهم لا يقبلون بفكرة غزو الشيشان لهم حتى ولو كانوا
مسلمين صادقين؛ فالوعي الديني عند غالبية الناس غائب، حتى إنهم لا يفهمون
قضية حق المسلم على المسلم في النصرة، فيفهمونها على أنها غزو خارجي!
وللأسف فقد اتبع الشيخ بهاء الدين تكتيكاً خطأً مرة أخرى بعمله في الظل مرة
ثانية، وكانت نتائج المعارك تنشر من خلال المكتب الإعلامي للمقاتلين الشيشان في
جروزني وباسمهم، ليؤكد العنصر الشيشاني أنه هو العنصر الأساس في هذه
المعارك وليس الداغستانيين، وكان على الشيخ بهاء الدين ومن معه - إذا كانوا
مصرِّين على القيام بتلك المعارك - أن يعلنوا في بداياتها عن هويتهم وأنهم
داغستانيون، ويبينون الأسباب لذلك والأهداف من وراء القتال، ثم يعلنون انضمام
الشيشانيين لمساعدتهم من خلال منظور الأخوة الإسلامية، وبذلك تنتهي قضية
تصوير هذه المعركة على أنها معركة قومية.
ومن نتائج هذا الخطأ أيضاً، ظهور شامل باسييف في صورة من يقحم نفسه
فيما لا يخصه، وهذا يفقده تعاطف الشيشانيين الذين يمكن أن يستحسنوا قضية إقامة
دولة إسلامية في داغستان ولكنهم لن يحاربوا من أجلها.
3 - كانت الطريقة التي عالجت بها روسيا إدارة هذه المعارك في بدايتها هي
الطريقة نفسها التي عالجت بها معارك الشيشان، وذلك بإسناد مهمة المواجهة إلى
وزارة الداخلية الروسية بدلاً من الجيش؛ مع علم الروس أن شامل عنده أسلحة
ثقيلة من الصواريخ والهاونات والمدرعات وغيرها، وأنهم ليسوا مجرد مجموعة
متمردين يحملون رشاشات يسهل القضاء عليهم بقوات الأمن الداخلي.
وكذلك تعمدت السلطات الروسية إرسال أعداد غير كافية في بداية المواجهة
لإظهار المواجهة في بدايتها على أنها محدودة.
4 - ظهر حرص القيادة الروسية على عدم إنهاء المعارك بسرعة من عدم
سماحها باستخدام الجيش الروسي - بعد انتقال قيادة العمليات إليه - للأسلحة
المتطورة التي يمكن أن تنهي القتال بسرعة، ولكن المطلوب كان إبقاء حالة الحرب
قائمة حتى تستخدم ورقة في المعركة الرئاسية.
وهنا يأتي سؤال مهم وهو: إلى متى تستمر هذه الحرب؟ وهل في
استمرارها مصلحة لمسلمي داغستان؟ أم سيجني الروس والنظامان الشيشاني
والداغستاني منها ما يريدون؟
والإجابة والله أعلم: أن هذه المعارك ستستمر في الغالب إلا إذا تيقن يلتسين
ومجموعته أن ورقة الحرب في القوقاز لن تنفع في معركة الرئاسة، أو إذا غاب
يلتسين نفسه - بموت أو غيره - قبل بداية الانتخابات الرئاسية.
وكذلك سيحرص الرئيس الشيشاني مسعادوف والرئيس الداغستاني على
استثمار هذه الحرب لأقصى درجة لمصالحهما الشخصية، وهنا يبرز سؤال آخر
مهم، وهو: هل يمكن أن يستغل الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هذه
المعارك لمصالح تخصهم؟، والجواب: إن الغرب يريد تفتيت روسيا، ولكنه وإن
كان يرغب في التعجيل بذلك فإنه لا يريد أن يكون ذلك على أيدي الإسلاميين، كما
حدث مع الاتحاد السوفييتي، والغربيون لا يريدون في الوقت نفسه ذهاب يلتسين
الآن دون بروز بديل يضمن مصالحهم، وإلا فإن البديل القوي والجاهز الآن هم
الشيوعيون؛ والغرب وأمريكا لا يريدون للشيوعية أن تعود إلى روسيا، وهذا
سبب إضافي سيجعل موقف الغرب من الحرب منحازاً للطرف الروسي، أو على
الأقل غير مبالٍ بما يحدث في داغستان من أمور تدخل في انتهاكات حقوق الإنسان، والغربيون - إضافة إلى كل هذا - يتخوفون من تحول المسلمين في روسيا إلى
مركز قوة يضاهي أو ينافس اللوبي اليهودي المسيطر هناك سياسياً واقتصادياً؛
ففرصة المسلمين لاحتلال موقع متميز داخل روسيا ليست صغيرة؛ لأن عددهم
داخلها يبلغ أربعة أضعاف عدد اليهود في أمريكا، ونسبتهم في روسيا أكبر من
نسبة اليهود في أمريكا؛ لأن عدد سكان أمريكا يزيد على عدد سكان روسيا بنسبة
50%.
نعود إلى الخطة الثانية والمعدة بصورة متوازنة مع الخطة الأولى وهي أنه
في حال إخفاق حرب القوقاز في تحقيق أهدافها ونتائجها المرجوة لدى الأطراف
المستفيدة منها - وهي بقاء يلتسين أطول فترة ممكنة والتخلص من خصومه
الآخرين أو إضعافهم - فإن هناك خطة بديلة يتضح للمراقب أنها تنتظر التنفيذ،
وتعتمد الخطة البديلة على انتقاء شخص مقرب جداً من يلتسين ممن ينتمون إلى
اللوبي اليهودي، فيسير على منهج يلتسين نفسه. وفي الواقع، فإن تلك الخطة
يمهد لها منذ سنوات، فمنذ عام 1994م عُين أحد الشخصيات من ذوي الميول
اليهودية وهو (لشكوف) عمدة لمدينة موسكو، بمباركة من اللوبي الصهيوني في
الغرب، وقد حقق هذا الشخص إنجازات كثيرة وبارزة في مدينة موسكو جعلته
مشهوراً فيها، إلا أن شهرته لم تتعد العاصمة، وكان ذلك عقبة في سبيل تلميعه
وإبرازه على مستوى روسيا كلها؛ فالصلاحيات الممنوحة له محدودة بحدود المدينة
(موسكو) ، ولم يكن ممكناً إعطاؤه منصباً أكبر في الحكومة حتى لا تنسحب عليه
أخطاؤها، فهو يعد ليُبرَز رجلاً بعيداً عن التورط في أي أخطاء سابقة، ولمزيد من
التقوية لموقع (لشكوف) عندما يأتي دوره يتم بين حين وآخر حرق الرجال الأقوياء
في الحكومة، بتعيينهم في منصب رئاسة الوزراء ثم إقالتهم، ويتم من جهة أخرى
تجسيم وإبراز شخصية لشكوف البديل القوي ليلتسين عندما يرحل، ويجري أيضاً
إظهاره على أنه شخصية مضطهدة من رجالات الحكومة الحالية بما فيهم يلتسين،
مما يضع حوله هالة من التعاطف، مشفوعة بالإعجاب الناشئ عن إصلاحاته في
المدينة الكبرى موسكو، مما يؤهله لإصلاحات أكبر على مستوى روسيا كلها.
وقد بدأ (لشكوف) من الآن في الاستعداد للمرحلة المعد لها، فهو ينفصل عن
حزب الرئيس يلتسين (ييتنا روسيا) ويكوِّن حزباً يسمى (الأم) حتى لا يتحمل
سلبيات الحزب الحاكم، ويحاول في الوقت نفسه جذب شخصيات مرموقة إلى
حزبه من الأحزاب الأخرى.
أما عن علاقة (لشكوف) بما يجري في القوقاز، فيذكر هنا أنه معارض لهذه
الحرب، مع تأكيده على وحدة روسيا وعدم انفصال داغستان أو غيرها عنها، وهو
بذلك يحاول اكتساب مشاعر الشعب، ويسترضي الشيوعيين والقوميين وحتى
الغربيين بانحيازه إلى الموقف الذي يميلون إليه من تلك الحرب.
فهل يتم إخراج (لشكوف) اليهودي الميول من وراء الكواليس إلى واجهة
المسرح السياسي في روسيا؟ وهل يكون لبرزوه دور في تفاعلات حرب القوقاز،
أم سيستمر مسلسل الاستدراج للإسلاميين هناك على يد يلتسين وزمزته؟ !
الله أعلم؛ ولكن الذي يهمنا في هذه الأحداث هو: إلى متى والمسلمون
يُستخدمون أداةً لتحقيق مصالح الآخرين ويُجعلون الطرف الأهون على الجميع
والأقل قيمة؟ ألم يحن الوقت لأن نعرف ما يحاك ضدنا؟ وإلى أي طريق تقاد أمتنا؟ هل نحن بحاجة إلى شواهد أخرى ومآسٍ حتى نعرف موطن أقدامنا؟ إننا -
بصراحة - بحاجة إلى الرجوع إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة
والجهاد لنتلمس منه طريقنا ونعرف عيوبنا ونواقصنا ونسردها كيف لا يكون ذلك
والله - سبحانه وتعالى - يقول: [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان
يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا] [الأحزاب: 21] .
والدعاة - والقادة على وجه الخصوص - بحاجة إلى إعادة النظر في معرفة
سنن الله الشرعية والكونية والتي جعلها الله أسباباً في النصر والفلاح.
إن الفترة المكية جديرة بأن يُعاد دراستها دراسة متأنية وعميقة لنستلهم منها
المنهج ونحدد معالم الطريق الصحيح الذي سيقود - بعون الله - إلى علو الحق
وأهله وزهوق الباطل وجنده وأوليائه.
إننا على يقين بأن مكر الكفار يدور عليهم، وأن كيدهم سيرتد إليهم.
وصدق قاهر الجبارين حيث يقول: [إنهم يكيدون كيدا. وأكيد كيدا. فمهل
الكافرين أمهلهم رويدا] [الطارق: 15-17] .
اللهم نصرَك لإخواننا المستضعفين في داغستان وما حولها؛ إنك على كل
شيء قدير.
__________
(1) القوقاز هي المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود بشمال آسيا.(143/96)
المسلمون والعالم
حزب الله.. رؤية مغايرة! !
(2)
من هامش الحياة إلى نسيجها
عبد المنعم شفيق
(النظام اللبناني غير شرعي ومجرم) و (من الضروري تسلُّم المسلمين
الحكم في لبنان كونهم يشكلون أكثرية الشعب) [1] .
فَتْوَيَانِ: الأولى خمينية، والأخرى خامنئية، وضعتهما الحركة الشيعية في
لبنان في بؤرة القلب وبؤبؤ العين، ورفعتهما إلى مرتبة الهدف الذي يُسعى لتحقيقه.
كما أفتى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، مهدي شمس الدين بذلك
أيضاً حين قال: إن الدولة وجدت نتيجة لعقْدٍ، هذا العقد تبرمه الأكثرية من
المواطنين بإرادتهم الحرة، فينتج عن إبرامه كيان الدولة، ومن المؤكد أن التنازل
عن الهوية الثقافية والدينية ومظاهرها في المؤسسات والقوانين يتنافى مع موجبات
هذا العقد، ولا يؤثر على موجبات هذا العقد موقف الأقلية التي توافق على التنازل
عن هذه الهوية؛ فإن على الأقلية في هذه الحال أن تخضع للأكثرية [2] .
وفي معرض رده على الأسئلة الموجهة إليه في أحد البرامج قال محمد حسين
فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله - هكذا يلقب -: لم يكن هؤلاء الذين حكموا
العالم الإسلامي في الماضي يحكمون باسم الإسلام؛ فنحن لا نعتقد - على سبيل
المثال - أن الحكم العثماني كان عادلاً وحراً وإسلامياً! ! [3] ، [4] .
وهكذا يُخرج الفقهاء الشيعة فتاويهم دون اعتبار لعامل التاريخ أو الجغرافيا
ومن دون تقية كذلك.
ولأثر التبديل فقد احتل الفقهاء والآيات والحجج مكانة عالية بلغت درجة
التقديس، وأضحت الفتاوى الصادرة عنهم، بل حتى الكلام المجرد من القداسة
الدينية، يتمتع بمرتبة القداسة في نفوس أتباعهم.
وكما مر - في الحلقة السابقة - فقد دأب الفكر الإمامي على ربط (الأمة)
الجعفرية برموز غير قابلة للنقد أو التجريح، وأعطاهم - أو أعطوا لأنفسهم -
صلاحيات وصلت إلى خصائص الإمام الغائب المعصوم، المعيَّن من قِبَلِ الله -
تعالى -! !
ولقد تجاوزت هذه الصلاحيات ما كان يتمتع به الشاه المستبد الطاغية
الدكتاتور عميل الإمبريالية والصهيونية! ! فقد أقر مجلس الخبراء الإيراني إعطاء
الولي الفقيه صلاحيات تفوق ما كان مخولاً به للشاه السابق، ونص على ذلك في
المادة (107) [5] والفقرة (110) من الدستور الإيراني [6] .
(الثورة الإسلامية في لبنان) هذه العبارة هي آخر ما تقرؤه على علم (حزب
الله) في لبنان. والثورة بهذا الوصف محاولة استنساخ للثورة الأم في قم وكلتاهما
ثورة آيات، أي أن العلم الديني الإمامي هو أساس التصور والحركة؛ فالثورة -
بحسب المعلن - ثورة دينية: إمامها فقيه، رئيسها فقيه، وزيرها فقيه؛ فالمثال
الذي ينبغي وضعه نصب العين هو إرادة الفقهاء، ولهذا فقد كان للحوزات
والحسينيات دور هام في غرس مفاهيم التقديس، وفي إمداد الثورة بالوقود البشري.
الملالي.. ومدارج المعالي:
مع نهاية الغيبة الصغرى المدَّعاة للمهدي وجد علماء الشيعة أنفسهم في حيرة
شديدة؛ وذلك خوفاً من انكشاف حقيقة أمر الغيبة والمهدي ودعاوى أخرى كثيرة لا
تمتُّ إلى الحق بسند ولا نسب، فأخرجوا مرسوماً منسوباً إلى مهديهم الغائب يقول
فيه: أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم، وأنا
حجة الله. ثم أتبعوه بمرسوم آخر يقول فيه: أما من الفقهاء من كان صائناً لنفسه،
حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً مولاه فللعوام أن يقلدوه [7] .
ولهذا فقد وَسِعَ إمامهم المعاصر أن يقول: إن الفقهاء (هم الحجة على الناس
كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم
فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك، وعلى كلٍ فقد فوَّض الله إليهم جميع ما فوض
إلى (الأنبياء) وائتمنهم على ما ائتمنوا عليه) [8] .
(فإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع
ما كان يليه النبي صلى الله عليه وسلم، ووجب على الناس أن يسمعوا له
ويطيعوا) [9] .
وقد نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وعلماء أمتي كالأنبياء ...
السابقين) [10] بل إنه لم يجد حَرَجاً في أن يقول: (الفقيه الرافضي بمنزلة موسى ...
وعيسى) [11] ! !
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقول أحد المسؤولين الإيرانيين: إن الخميني أعظم
من النبي موسى وهارون [12] . وترتفع وتيرة التجاوزات في إعطاء الصلاحيات
لفقهاء المذهب حين كتب آية الله آزاري قمي يقول: ليس لدى الولي الفقيه أية
مسؤولية أخرى غير إقامة نظام الحكم الإسلامي، حتى لو اضطره ذلك إلى أمر
الناس بالتوقف مؤقتاً عن الصلاة والصيام والحج.. أو حتى الإيمان
بالتوحيد! ! [13] .
ويستمر التضليل بمحاولة الإقناع أن الفقهاء لا دخل لهم في وظائفهم
وخصائصهم؛ بل إن (الفقهاء معينون ضمناً من قِبَل الله) [14] وبذلك تكون سلطة
الفقيه سلطة إلهية.
وبهذه المراسيم والقوانين والتحذيرات والتهديدات أصبحت سلطة الفقهاء فوق
كل السلطات ولا تخضع لأي سلطة كانت، وكما يقول الخميني: وإذا كان
السلاطين على جانب من التدين فما عليهم إلا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن
الفقهاء، وفي هذه الحالة، فالحكام الحقيقيون هم الفقهاء، ويكون السلاطين مجرد
عمال لهم [15] .
ولم يخرج محمد حسين فضل الله عن هذا الخط الساخن الرافع أقدار الفقهاء
إلى منازل النبيين.
حيث يقول: إن رأي الفقيه هو الرأي الذي يعطي الأشياء شرعية بصفته نائباً
عن الإمام، والإمام هو نائب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن النبي صلى الله
عليه وسلم هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، فالإمام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
والفقيه العادل هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [16] .
والواقع أن شرعية كل الأمور تنطلق من إمضاء الفقيه لها، وهذا يعني أن
رئيس الجمهورية لا يستمد سلطانه من الشريعة الإسلامية، أو الدولة الإسلامية -
من انتخاب الناس له - وإنما من إمضاء الفقيه لرئاسته، والأمر ذاته يطبق بالنسبة
للنواب في مجلس الشورى والخبراء في مجلس الخبراء وغيرها من المؤسسات
الدستورية في الدولة [17] .
وقد حرصت السياسة الإيرانية على الاستحواذ الكامل على إعداد (رجال الدين
الشيعة) في لبنان، كما حرصت على إيلائهم دوراً متصدراً في الساحة اللبنانية؛
فهؤلاء وحدهم الذين يُضمَنُ ولاؤهم للقيادة الإيرانية ولسياستها، كما يَظهرون بأنهم
القادرون وحدهم على صبغ المجتمع الشيعي اللبناني بصبغة عميقة تحصنه من
التأثيرات المخالفة للنفوذ الإيراني والمنافسة له. وتتوسل طهران وقم بالتعليم الديني
لتأطير الاجتماع الشيعي اللبناني تأطيراً متيناً، فتحل نخب ثقافية جديدة محل النخب
المدنية التي تدين بعقائد سياسية أخرى، كما حدث بإحلال (حزب الله) محل ...
(أمل) .
وبهذا فقد تحقق نجاح كبير في إنجاز أحد أكبر الأهداف، وهو تأطير (الأمة)
الشيعية بسياج الآيات وتجييشها تحت قيادة واحدة؛ وعليه فلا عجب أن نرى
قوافل متوالية من الشباب الشيعي يضحون بأنفسهم في سبيل طاعة الفقهاء، وهذه
الطاعة والسيطرة المطلقة كانت نتيجة لجهد كبير بذله الفقهاء على مر التاريخ
الإمامي. يقول د. موسى الموسوي معللاً كيفية سيطرة الفقهاء الشيعة على الأمة
الإمامية: لقد استغلّت الزعامات المذهبية والفقهاء عبر التاريخ - ومنذ أن بدأت
تُحكِم علينا الطوق - سذاجتنا - نحن الشيعة الإمامية - وحبَّنا الجارف لأهل بيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدثت في مذهبنا بدعاً وتجاويف وتجاعيد كل
واحدة منها تخدم مصالحهم، وفي الوقت نفسه تضر بنا بل تنسفنا نسفاً. إن كل
واحدة من هذه البدع أُدخلت في عقيدتنا - نحن الشيعة الإمامية - لإحكام طوق
العبودية علينا والتحكم فينا كما يشاء الفقهاء؛ إذن السذاجة وحدها لم تلعب الدور
الكافي، بل استغلال الفقهاء حبَّ الشيعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
مضافاً إليه البدع التي أحدثوها في العقيدة جعلت من الشيعة أداة طيعة للفقهاء،
يضحون في سبيل مآربهم في ساحات الوغى مرة وفي ساحات البلاء مرة أخرى،
ولم يكن الفقهاء وحدهم هم الذين لعبوا هذا الدور الخطير في انحراف الشيعة عن
نهجها الصحيح القويم المتمثل في تبعيتهم لفقه الإمام الصادق، بل كان للفقهاء
أجنحة أخرى استمدّوا قوتهم منها وهم الرواة ورجال الحديث والمفسرون الذين
نسبوا إلى أئمتنا الكرام - زوراً وبهتاناً - روايات وأحاديث كلها تؤيد البدع
والتجاويف والتجاعيد التي أدخلوها في العقيدة الشيعية لصالحهم، وتفسير الآيات
القرآنية حسب أهوائهم بصورة تخدم أهواء الفقهاء، وبهذين الجناحين استطاع
الفقهاء أن يحكموا قيود الاستغلال والاستبداد على أعناق الشيعة عبر التاريخ. كان
فقهاؤنا على علم كامل بالنفسية الشيعية التي كانت مهيأة للخضوع إلى ما يُطلب منها
في عهد الظلام؛ فنصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليهم.
وأعتقد جازماً أن فقهاءنا لم يقصدوا من استعبادنا - نحن الشيعة الإمامية -
بالسيطرة الروحية والفكرية علينا فحسب، بل كانوا يخططون لأمرين كل واحد
منهما أخطر من الآخر: كانوا يخططون للسيطرة على أموال الشيعة، ومن ثم
الاستيلاء على مقاليد الحكم. فأدخل الفقهاء تلك البدعة الكبرى في العقيدة الشيعية،
وفسروا الآية الكريمة التي تقول: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
وللرسول ... ] [ {الأنفال: 41] } ، بأن هذه الآية نزلت في أرباح المكاسب في
حين أن المفسرين وأرباب الأحاديث والفقهاء أجمعوا على أنها نزلت في غنائم
الحرب ولا علاقة لها بأرباح المكاسب، ثم أفتوا بوجوب تسليم هذا الخمس إلى يد
الفقهاء، وأضافوا أن الشيعة إذا لم تسلِّم خمس أرباحها إلى يد المجتهد أو الفقيه فإن
صلاتهم باطلة وصومهم باطل وحجهم باطل ... وهكذا دواليك، وخضعت الشيعة
المسكينة إلى هذه الفتوى التي ما أنزل الله بها من سلطان. وها هم عبر التاريخ
يقدمون إلى الفقهاء خُمس أرباح مكاسبهم، ولم يحدث قط أن نفراً منهم قد سأل
هؤلاء الشركاء الذين لا يشاركون الشيعة في رأس المال ولا في التعب والكد والجهد؛ بل يشاركونهم في الأرباح فقط: من الذي جعلكم شركاء في أرباحنا؟ وما الأدلة
التي تستندون عليها؟ ولماذا نكدح ونكافح نحن، وأنتم قاعدون تجنون ثمار تعبنا؟
لقد خضعت الشيعة لهذه الضريبة الجائرة بلا سؤال ولا ضجر، فاحتلبهم
الفقهاء كما تُحتلب الناقة الطيعة. ولم يقنع الفقهاء بمشاركتهم في أرباح الشيعة، بل
زعموا أنهم ولاة عليهم يجب إطاعتهم، ومن خرج عليهم فقد خرج على الله، ومن
رد عليهم فهو كالراد على الله يجب قتله وقمعه من الوجود. فخضع كثير من الشيعة
لهذه الفاجعة الفكرية وقبلوها وآمنوا بها وضحوا بأنفسهم وأولادهم في سبيل هؤلاء
الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الإلهية وبدون أن يساندهم دليل أو يقف معهم برهان؛
بل إن الذي يدَّعونه لا يتناقض مع عقيدة التوحيد والشريعة الإلهية فحسب، بل
يتناقض مع مبادئ العقل والبدهيات الأولية، حقاًّ إنه من الأمور المحزنة أن تواجه
الشيعة محنة فكرية كهذه، وكثير منهم يؤمنون بها، ويتفانون في سبيلها [18] .
لا عزاء للملة.. ولا للملالي:
قام النائب الشيعي الجنوبي رشيد بيضون يصيح في جلسة البرلمان اللبناني
في 11-5-1944م، مطالباً بمنح الطائفة الشيعية حقوقها قائلاً: امنحوها حقها في
الوظائف، وفي العلوم والمعارف، مدوا الطرقات وسهلوا المواصلات في أرجائها
المحرومة، عززوا فلاحيها وعمالها، تعهدوها بالعناية اللازمة انظروا إليها نظرة
احترام كما تنظرون إلى غيرها [19] . كانت هذه الحال وصفاً لواقع الحياة الشيعية
السياسية في ذلك الوقت، أما في الجانب التعليمي، فبالرغم من هذا الإحكام الشديد
لطوق السيطرة الدينية الشيعية على الناس، إلا أن الوضع الديني والاجتماعي
والتعليمي بلغ في لبنان وضعاً مزرياً، (فهذه القرى العاملية لا يُذكر فيها اسم الله -
تعالى - في ليل ولا نهار، ولا فرق عند أهلها بين رمضان وشوال، أما مكانة عالم
الدين فانحطت إلى أسفل الدركات: فهذا يموت جوعاً ولا يشعر به إنسان، وذاك
تتهجم السفهاء على كرامته، فلا يجد ناصراً ولا معيناً، وآخر يتحزب للبيك
والنائب ليأكل الرغيف) [20] ، وقد دفعت هذه الحال الحاج سليمان البزي - أحد
وجهاء الجنوب - إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي - أشهر علماء العرب في
العراق وقتها - يطلب أحد اثنين: السيد إسماعيل الصدر، أو السيد مهدي الحكيم،
وقَبِلَ الحكيم المجيء على أن يُرسَلَ له مئتا ليرة عثمانية ذهباً.
كما عزف أبناء علماء كبار أمثال: محسن الأمين، وعبد الحسين شرف الدين
وغيرهم عن طلب العلم الإمامي، بل وقد خلع بعضهم العمامة ولم يكمل العلم
الشرعي وانصرف لغيره.
ولا يُخفي جواد مغنية مرارته حين يقول: إن ثلة من خيرة الشباب العاملي
قضوا في طلب العلم والدين سنوات طوالاً، وبعد أن اجتمعت لهم الشروط تحولوا
عنه مغتبطين حين وجدوا الفرصة للتحرر والانطلاق، هذه الظاهرة آيات بينات
على عدم الثقة بمصير العلم ورجال الدين [21] .
وكان طالب العلم في النجف يقيم مدة تؤهله لإصلاح إحدى القارات الخمس،
فإذا عاد إلى بلده لم يحصل له من المال ما يتناوله حارس أو موظف بريد،
فانحطت مكانة عالم الدين الاجتماعية والأدبية انحطاطاً ذريعاً، حتى لقد أخذ بعضهم
على أهل جبل عامل ضنهم على العالم بالرغيف [22] ! !
وقد تسببت هذه الحال في حسرة ومرارة شديدة لدى الشيعة؛ حيث مثلت هذه
الحال حائطاً كبيراً أمام تحقيق الأحلام المنشودة، ولهذا يقول وضاح شرارة: ولا
شك أن انصراف طلبة العلم الديني الإمامي إلى غيره وإحجام وَلَدِ من استووا أعلاماً
على التشيع - ليس في جبل عامل أو لبنان وحده؛ بل في العالم العربي والإسلامي
" الشيعي " كله - عن اقتفاء سنة آبائهم، ظهر ذلك بمظهر تنكب تاريخ برمته،
ولما كانت الجماعة العاملية التي جرى مثقفوها من علماء وأفندية وأساتذة على
تسميتها بـ (الأمة) أناطت بتشيعها وببلائها وبلاء علمائها في حفظ التشيع ورعايته
واستمرارها واستقلالها، وقع انقطاع المنقطعين عن طلب العلم النجفي عليها وعلى
مثقفيها وقوعاً قاسياً وأليماً [23] .
وقد كان من أسباب اضمحلال التعليم الإمامي في لبنان والعزوف عنه أنه كان
يؤخذ على جامعة النجف - إضافة إلى البعد المكاني - انزواؤها وانكفاؤها، وبعدها
عن العالم المحيط بها ومشكلاته وقضاياه، وإذ تركها من تركها منهم أقبل على
السياسة وعلى الحياة السياسية إقبال النهم، وباشرها كتابة ودعاوى وتظاهراً
وتنظيماً، أما من لم يتركها فقدم الدعوة إلى الإصلاح. واعتبر بعضهم أن أصل
البلاء: هو عجز العلماء عن مماشاة العصر، وقال: (تطورت الحياة وجمدنا،
وتكلم العصر وخرسنا، إن على العالم أن يتصل بجميع طبقات الشعب اتصالاً وثيقاً
ويحيط بأحوالها مباشرة، ويسير بحسب التطور مع المحافظة على الدين
الحقيقي) [24] .
وبهذا فقد تمثلت المأساة الإمامية في لبنان في أمور عدة نوجزها بالآتي:
1 - غياب القيادة الدينية التي تمثل مرجعية واعية لتحقيق أحلام الطائفة.
2 - انكفاء العلم الإمامي على نفسه وعدم مواكبته لمتطلبات العصر.
3 - انحطاط مكانة العلم والعلماء بين عامة الناس وخواصهم.
4 - بُعد المدارس الدينية الشيعية الكبرى التي يتطلب شدُّ الرحال إليها
والتحصيلُ العلمي منها مبالغَ مالية كبيرة، وهو ما لم يكن في مستطاع الكثير من
الناس وقتها.
5 - انصراف أبناء العائلات الدينية الكبيرة والمشتهرة بأنها (بيوت علم ودين) عن طلب العلم الإمامي.
وهكذا اكتملت صورة المأساة للواقع الشيعي في لبنان، ولكن مع نهاية
منتصف هذا القرن الميلادي كانت هناك بدايات جديدة لحياة جديدة.
التثوير قبل الثورة:
دفعت هذه المرارة علماء الشيعة إلى النظر بجدية للواقع اللبناني، كما كان
النظر منصرفاً لحال بقية الأمة الشيعية؛ فخلال الفترة السابقة للثورة كانت الأفكار
الثورية حول الحكم تتطور وتفصل في أوساط القوى المعارضة للشاه في عملية
ملحوظة من التفاعل الشيعي الشامل. إن المدارس الدينية مثلت في قم بإيران وفي
النجف بالعراق (وخاصة الأخيرة) دوراً جاذباً ونقطة التقاء للعلماء والفقهاء من
إيران ولبنان والعراق؛ حيث أُرسيت الأسس من أجل رؤية عالمية مماثلة - وإن لم
تكن متطابقة تماماً - وشبكة من الصداقات الشخصية والولاءات السياسية الدينية
التي كان لها أثر هام على المنطقة بأسرها.
إن العلاقة بين الإمام موسى الصدر ورجال الدين الشيعة اللبنانيين الآخرين
والخميني قد ساعدت في تأسيس الروابط التي سهلت فيما بعد دخول إيران الثورية
إلى الساحة اللبنانية، وعلى الرغم من الطبيعة الشيعية الخاصة بمدرسة النجف،
فإن هذه التجمعات ربما تكون قد ساعدت على التخفيف من حدة الطائفية الضيقة
للعقيدة الثورية الجديدة [25] .
وهكذا فقد مثلت المدارس الشيعية الكبرى بؤراً أساسية لتجميع الملالي وتوحيد
الأفكار الثورية، التي كان على رأسها إقامة دولة شيعية كبرى تضم إيران والعراق
ولبنان في بداية الأمر.
وعندما نظر علماء هذه المدارس إلى الحال اللبنانية التي هي أحد أضلاع
مثلث الحلم، كان لا بد من تذليل العقبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الحلم،
وكان التركيز العلاجي متوجه لحل الإشكاليات الخمس السابقة الذكر، وكان ذلك
بسلوك خطين متوازيين في وقت واحد يلتقيان في مرحلة ما؛ فيشكلان نقطة
انطلاقة واحدة، وكان الخطان هما: التثوير السياسي، والتثوير العلمي الديني، ثم
ينتهيان إلى الثورة المسلحة.
التثوير السياسي:
عندما توفي المرجعية العلمية لشيعة لبنان عبد الحسين شرف الدين (ت 1958م) طلب آل شرف الدين من أحد أقربائهم المجيء إلى مدينة صور لخلافة عبد الحسين في هذه المرجعية؛ حيث إنه قد نص على هذا الشخص لخلافته [26] ، وكان جد هذا القادم هو عبد الحسين العاملي من بين مجموعة من علماء جبل
عامل الذين التحقوا ببلاط الدولة الصفوية ليساعدوها في ترسيخ المذهب الشيعي في
إيران. ولد المرجع في قم بإيران عام 1928م، ووافق آية الله محسن الحكيم على
إرساله إلى لبنان [27] ، كما كان والده أحد الآيات الكبار في إيران، وتخرج هذا
(المرجعية العلمية) من جامعة طهران، كلية الحقوق والاقتصاد والسياسة، وبالرغم
من ذلك فقد حصل على لقب (الإمام) .
كان هذا الرجل هو موسى الصدر الذي تربطه صلة مصاهرة مع الخميني؛
فابن الخميني أحمد متزوج من بنت أخت الصدر، وابن أخت الصدر مرتضى
الطبطبائي متزوج من حفيدة الخميني، كما يُذكر أن الصدر تتلمذ على يد الخميني
في قم، وعندما قدم الصدر إلى لبنان وكان ذلك في عام 1958م، وكان عمره آنئذٍ
ثلاثين عاماً فحصل على الجنسية اللبنانية مباشرة بناء على قرار جمهوري أصدره
الرئيس شهاب (1958م 1964م) [28] وكان هذا القرار فريداً من نوعه؛ لأن
إعطاء الجنسية اللبنانية لغير النصارى أمر في غاية المشقة، فكان ذلك القرار
بمثابة التمكين لأقدام الصدر في لبنان.
وكانت شخصية الصدر وبداياته ودوره وتحالفاته مثار كثير من التساؤلات؛
إذ أحاط بها الغموض الشديد وعلامات الاستفهام الكثيرة [29] .
ومما يُعرف عن الشاه محمد رضا بهلوي - وهو شيعي أيضاً - أنه كان يقمع
الحركات الدينية الشيعية داخل إيران، ويدعم توسعها خارجها وقد دعم الشاه حركة
الدعوة التي يقودها (محمد باقر الصدر) في العراق، وموسى الصدر في لبنان [30] .
وقد ذكر شهبور بختيار - الذي قلده الشاه السلطة في إيران حينما تركها - أن
الشاه محمد رضا بهلوي كانت له أحلام توسعية كبيرة، فأرسل موسى الصدر إلى
لبنان من أجل تعزيز مشروع إنشاء دولة شيعية تضم إيران والعراق ولبنان،
ووعده الشاه بخمسمائة ألف دولار مقابل ذلك [31] . واللافت للنظر والذي يؤكد
التواطؤ الواضح لتنفيذ مشروع الدولة الشيعية الكبرى ذلك التوافقُ الزمني للبدايات
في الدول الثلاث؛ فالخميني في إيران، ومحمد باقر الصدر في العراق، وموسى
الصدر في لبنان، فهكذا كانت الأمور مرتبة ومعدة.
والآن نقف على الإنجازات التي حققها موسى الصدر للشيعة في لبنان، فقد
حقق الصدر لشيعة لبنان عدة إنجازات تحولوا بها من هامش الحياة السياسية
اللبنانية إلى نسيجها، بل وإلى عناوين موضوعاتها، وكان من أهم تلك الإنجازات:
1 - تحديث القيادة الشيعية:
آذن النهج الذي نحاه موسى الصدر في بناء القيادة الشيعية في العقد السابع
بتحول كبير في أسلوب هذه القيادة وفي ترتيب معاييرها. فتصدى الشاب ذو
الثلاثين ربيعاً لمثل هذه المهمة: مهمة القيادة من غير ادعاء علم يفوق فيه أقرانه،
ومن غير الإدلال بإجازات ولا بتآليف أو اجتهادات. ولم يعنِ ذلك عزوفاً عن
الخوض في المطالب الدينية.
فهو توسل إلى غاياته بالعمل السياسي الجماهيري، وبتكثير العلاقات ونسج
الروابط التي تجعل منه وسيطاً وطرفاً في شبكة الروابط اللبنانية والإقليمية.
فتوجت مكانته وإمامته فلاحَ نهجه في إظهاره من يتكلم باسمهم بمظهر القوة السياسية
والاجتماعية التي ينبغي احتسابها في المشاريع العامة المختلفة، وانضوى إليه وإلى
حركته معظم العلماء الشيعة اللبنانيين واعتزلته جماعات منهم.
إلا أن الدور السياسي لم يورث مرجعية دينية وفقهية، وقد بدا أن الصدر لا
يوليها اهتماماً كبيراً، برغم حرصه وحرص شرف الدين - الذي قَدَّمَ الصدر ليخلفه
- على تكثير العلماء، وتمهيد سبل إعدادهم. فتصدر الشيعة اللبنانيين تصدراً
متنازعاً رجلُ دين لم يُجمِع أقرانه عليه، ولم يسعَ هو إلى مثل هذا الإجماع. لذا
خلت مسألة المرجعية من كل مضمون، وجلاّ عنها كل إلحاح، فأثر موسى الصدر
في إخلاء مسألة المرجعية من مضمونها وإلحاحها، برغم أن السياسة الخمينية
تنهض في وجه من وجوهها على إنشاء سلك علمي وديني واسع ومتماسك تسوسه
على نحو مركزي [32] .
وبهذا فقد قضى الصدر على الزعامات الشيعية التقليدية التي لم تكن لها
تطلعات ثورية، وارتضت واقع العيش اللبناني، والتمسك بالمكاسب الخاصة دون
النظر لتطلعات وآمال وآلام الأمة الشيعية.
2 - وضوح التميز الطائفي:
اتخذ الصدر لإجلاء صورة الطائفية الشيعية أمرين مهمين:
الأول: تأسيس حركة المحرومين:
أخذت هذه الحركة في بدايتها السمة الاجتماعية، والمناداة بتحسين أحوال
الشيعة في لبنان، وخاصة سكان الجنوب، ووضع لها الصدر شعارات براقة،
كالإيمان بالله والحرية والعدالة الاجتماعية والوطنية وتحرير فلسطين، وأن الحركة
لجميع المحرومين وليست خاصة بالشيعة، فنزعت هذه السياسة مع موسى الصدر
إلى استدراك ما فات الشيعة اللبنانيين من لحمة ومن قوة، وذلك من طريق وصل
ما انقطع بين المقيمين بالأرياف وبين النازلين المدن، وعن طريق تقريب ما تباعد
بين أهل جنوب لبنان وبين أهل بقاعه أو شماله الشرقي، وكان على حركة الصدر
أن تصور الفروق الاجتماعية والثقافية المتعاظمة في صفوف الشيعة في صورة
الأمر الهين والثانوي، ولما كان (كلّ) الشيعة - شأن (كلّ) أو (جميع) أي
جماعة - لا كيان لهم إلا متخيّلاً ومتوهماً ومرموزاً إليه، عمل موسى الصدر على
نصبه وتجسيمه في شارات تقربه من المخيّلات، وتحمله على الحقيقة.
فكانت التظاهرات الكبيرة التي تجمع عشرات الألوف من الناس، وتضمّ
أجنحة الشيعة اللبنانيين، في الجنوب والبقاع، وفي الريف والمدينة، وكان رفع
(الحرمان) شعاراً ليميز الشيعة أنفسهم [33] .
وكان العديد من الشباب الشيعي قد انضم إلى جماعات مختلفة، مثل التنظيم
البعثي الموالي لسوريا والحزب القومي الاجتماعي السوري، وجبهة التحرير
العربية التي يدعمها العراق، وبعض التنظيمات الماركسية المتعددة، ولقد كان من
أسباب هذا الانضواء تحت هذه المذاهب المختلفة خلو الساحة السياسية من حركة
شيعية تجمع هذا الشتات الكبير، كما أن هذه التنظيمات كانت تدفع رواتب مجزية
لأعضائها، وقد كانت الحال الاجتماعية للشيعة شديدة في فقرها.
وعندما أعلن موسى الصدر عن حركة المحرومين، دخلها من دخلها من
هؤلاء بما هم عليه من أفكار هذا الشتات الفكري والمنهجي، وكما ضمت الحركة
تلك التشكيلة المختلفة، ضمت كذلك في ثناياها (الجماعة الإسلامية) أو الخمينية
والإيرانية الولاء لاحقاً، وكانت هذه الأخيرة أكثر الجماعات المنضوية تحت عباءة
الحركة، وقد سعت للاستيلاء على الحركة من داخلها والسيطرة عليها، فكانت
حركة المحرومين هي (العباءة) التي لبستها وتسترت بها قبل أن يحين خلعها
والسفور عن هوية سياسية ومنظمة مستقلة، ويبدو في تلك المرحلة أن الهم الأكبر
كان جمع هذا الشتات الشيعي بأي شكل كان، تحت قيادة جديدة تستطيع المحافظة
على هذا الجمع إلى حين.
وكذلك ذهب الصدر إلى علاج ما يلح عليه أهل الطائفة الشيعية من احتياجهم
إلى مرافق يتوسلون بها إلى ما فاتهم من تحديث التعليم والإعداد المهني والرعاية
الصحية والاجتماعية، فأنشأ مدرسة الخياطة والتفصيل، ومدرسة التمريض،
ومدرسة جبل عامل المهنية التي تخرج منها أهم كوادر المقاومة المسلحة لحركة أمل
فيما بعد، كما شهد بذلك نبيه بري - زعيم الحركة بعد الصدر -[34] كما أنشأ
مبرة الزهراء ومستشفى الزهراء فيما بعد.
الثاني: تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:
جاهد الصدر كثيرا لضم الشتات المبعثر لشيعة لبنان، وما إن بدأ الالتئام حتى
سعى إلى الانفصال التام بالشيعة باعتبارها طائفة مستقلة عن المسلمين (السنة) في
لبنان، فقد كان للمسلمين في لبنان مفت واحد ودار فتوى واحدة، وكان المفتي وقتها
هو الشيخ حسن خالد رحمه الله وادعى الشيعة أن الشيخ حسن خالد رفض التوصل
إلى عمل مشترك معهم [35] ، وفكر الشيعة في إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي
الأعلى عام 1966م ووافق مجلس النواب اللبناني على إنشائه واختير الصدر رئيسا
للمجلس، وبهذا أصبح الشيعة طائفة معترفا بها رسميا في لبنان كالسنة والموارنة.
وأصبح هذا المجلس المرجعية السياسية والدينية الجديدة التي تهتم بكل ما
يتعلق بالشيعة اللبنانيين وبجميع شؤون حياتهم ومماتهم! ! وتحولت المرجعية بهذا
المجلس من مرجعية فردية إلى مرجعية مؤسسية، وإن لم يتم التخلي عن دور
المرجع الشخصي.
إلى هنا سنترك الصدر بهذين الإنجازين وسنعود إليه عندما يلتقي مع محمد
حسين فضل الله في نقطة الانطلاق الثالثة.
التثوير العلمي والديني:
الدور الذي قام به الصدر حل بعض الإشكالات التي تواجه التجمع الشيعي
بأمراضه المزمنة؛ ولكن بقيت بعض الإشكالات الأخرى التي لا يصلح لها الصدر
ولا أمثاله، فبقيت قضية العلم الديني الإمامي: تدريسه، وتطويره، وتقريبه للناس، والترغيب في العودة إلى حِلَقه في الحوزات والحسينيات، ثم ربط ذلك كله
بالهدف الأساس، وهو تحويل المجتمع الشيعي اللبناني إلى مجتمع حرب - على
حد قول فضل الله نفسه - ليمهد للثورة وتحويل لبنان إلى دولة شيعية.
ولد فضل الله في عين عطا بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وتلقى تعليمه في
النجف على يد محمد باقر الصدر ومحسن الحكيم، ويدعي فضل الله دائماً أنه ليس
قائداً لأي حزب أو حركة، ولكنه يتمتع بنفوذ خاص بين جماهير الشيعة، وفضل
الله رجل زئبقي التصورات والأفكار، ويجيد المراوغة الكلامية والتلاعب بالألفاظ،
ولكن يبقى أن كل هذه المؤهلات لا تستطيع الحياد به أو أن يحيد هو بها عن هدفه
الأساس في لبنان، ومن هذه الأفكار التي تبدو متناقضة متنافرة نراه يقول: أنا في
الحقيقة رجل حوار، ولي كتب ومدرسة للحوار، وأطلب من الناس أن يحلو
مشاكلهم عبر الحب والتفاهم وليس عبر استخدام العنف [36] .
وسئل في حوار معه قريب [37] : بالأمس دعوتم إلى التدرب على الحب
(كما تدربنا على السلاح في لبنان) فهل يعني ذلك أن زمن السلاح قد ولى برأيكم؟
فأجاب: ليس من الضروري أن يكون زمن السلاح في المطلق ولى؛ لأن الحياة
تحتاج بحسب طبيعتها إلى حركية السلاح وترتبط بها في الجانب الإيجابي أو
السلبي، لكن المسألة التي أحب أن أؤكد عليها دائماً أن قضية الحب هي قضية
الحياة؛ بحيث إنك عندما تملك السلاح - يجب أن تعيش معنى الحب في حركة
السلاح في يدك؛ بحيث لا تحركه إلا من خلال خدمة الإنسان وخدمة الحياة بدلاً من
أن تحركه لإسقاط الحياة. ومن المؤسف أن الناس لا يتدربون على الحب؛ بل إنهم
يتدربون على البغض والحقد حتى أصبحنا نتحدث عن الحقد المقدس وعن البغض
الإنساني.
هذا الكلام يجب أن نتذكر معه قول فضل الله وهو يخاطب جمهور المصلين
في بلدة النبي عثمان قائلاً: وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل؛ لنكون مجتمع
حرب! ! [38] .
ثم يحاول الهروب من دوره في تعبئة الناس للحرب والتأكيد على دوره في
ذلك في آن واحد بقوله: لا بد للشعب أن يعبر عن نفسه ويأتي التعبير إما عبر
الوسائل التقليدية، أو بغير الوسائل التقليدية؛ ولهذا نجده اختار الهجوم الانتحاري،
وهذا شكل آخر من أشكال الصراع، ويعتقد من يفعل ذلك أنه يصارع إذا حول
نفسه إلى قنبلة حية، ويصارع أيضاً لو كانت هناك بندقية في يده، ولا فرق أن
تموت بقنبلة في يدك أو أن تفجر نفسك، وهذه المفاهيم التي أتحدث عنها مفاهيم
عقلية! ! في مواقف الصراع، أو في الحرب المقدسة، عليك أن تجد أفضل
الوسائل لتحقيق أهدافك، نعم إنني أتحدث عن الشعب الذي يواجه الخطط
الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، لكنني لم أقل لهم على وجه الخصوص: (فجروا
أنفسكم) وقد سمعت من يتهمني بأنني أبارك الهجوم، أنا في الواقع أدعو إلى
الحرية، إنني أدعو إلى التحرر من الاستعمار. إذا كان الاستعمار يظلم الناس فعلى
الناس أن يحاربوه، أما أن نقول: إني أتزعم الناس في أعمال عنف فلا. ثم يلتفت
ويستدير للوجهة الأخرى من سياسته ويقول:
إننا يمكن أن نأتي بالتغيير في لبنان بتعليم الشعب وتنويره داخل المؤسسات
الاجتماعية، وهناك طرق أخرى يمكنك أن تلجأ إليها: أن تبدأ بإقناع الناس، وهي
نفس الطريقة التي يعظ بها المسيحيون، أو يفعلها الماركسيون - حتى لا يكون شاذاً
في عرضه - إنك حين تقنع الأغلبية السائدة بأن تهتدي بالإسلام يكون وقتها لدينا
الظروف السياسية المناسبة، ووقتها تستطيع أن توجد جمهورية إسلامية.
ثم يعرج على الدور الهام للخدمات الاجتماعية الكبيرة التي يقدمونها للناس
بقوله:
إن قوتنا تكمن في قدرتنا على صنع الناس والجماهير، وعلى أن نضع
أوامرنا موضع التنفيذ إنهم ينفذون أوامرنا؛ لأنهم يعرفون أننا أقرب الناس في
تحقيق مطالبهم [39] .
فهذه عجالة من أفكار الرجل التي يُبَيّنُ أهدافها الواقع، كما تَبِينُ مراوغاتها
الفكرية، وقد حقق فضل الله - كالصدر - عدة نجاحات هامة للشيعة في لبنان
نوجزها فيما يلي:
1 - توطين العلم الإمامي:
كانت إحدى الإشكالات الكبرى التي كانت تواجه المجتمع الشيعي اللبناني،
بُعد المدارس الدينية الكبرى، وكثرة المعوقات التي تحول دون الالتحاق بها، وكان
من أكثرها تعويقاً للاتصال بها تلك المعاناة المالية التي لا بد أن يتحملها الطالب
وأهله طوال مدة طلبه للعلم الإمامي، لذا كان الدور الذي أُنيط بـ (فضل الله) عند
عودته من النجف أن ينقل معه هذه المدرسة في صورته وصورة مهدي شمس الدين، وتم اعتماد ذلك على أنه بمثابة السفر إلى النجف أو إلى قم، فأنشأ فضل الله
(المعهد الشرعي الإسلامي) وبدأ التدريس فيه، وأنشأ كذلك جمعية أسرة التآخي
وحسينية الهدى، ثم بدأت المدارس في الانتشار فيما بعد على نحو ما سيأتي.
كما تم اعتماد سياسة تعليمية تسهل الالتحاق بهذه المدارس، وقامت هذه
السياسة الجديدة على:
أ - تكثير المدارس ونشرها في الأرياف الشيعية والضواحي؛ حيث تجتمع
كثرة الشيعة.
ب - إجراء وظيفة أو رواتب للطالب.
ج - قبول الطلبة من غير شرط مدرسي أو شرط يتعلق بالسن [40] .
وقد ساعدت هذه السياسة التعليمية على الخروج من سيطرة الأهل، من
أفكارهم وأموالهم، كما ساعدت كذلك على تكثير سواد الطلبة الجدد.
2 - تطوير العلم الإمامي:
كانت التقليدية والجمود الذي أصاب العلم الإمامي إحدى الإشكالات التي كان
ينبغي التوجه إلى علاجها والتأكيد عليها، وكان مما قاله الخميني في ذلك: قدموا
الإسلام للناس في شكله الحقيقي، حتى لا يتصور شبابنا أن وظيفة رجال الدين أن
يجلسوا في أحد أركان النجف أو قم لتدارس أمور الحيض والنفاس بدلاً من شغل
أنفسهم بالسياسة، ومن ثم يستنتج الشباب أنه يجب فصل الدين عن السياسة [41] .
والمعهد الشرعي الإسلامي سعى إلى إخراج (العلم) الإمامي بلبنان من شرنقة
العائلات الدينية التقليدية، وقصد إلى جلاء صورة جديدة لرجل الدين تميل به عن
صورة (الشحّاذ) ، العاطل عن العمل، أو واعظ الناس (مواعظ تقليدية) ،
ومحدّثهم في الصلاة والصوم، ومرغبهم في الجنة إلى صورة بل إلى حال مختلفة
يصح معها نزوعه إلى دور الولاية العامّة، وإلى محلّ الصدارة في ميادين النظر
والعمل كافة، فأقبل على المعهد الشرعي الإسلامي طلاب حرص بعضهم حرصاً
شديداً على الظهور بمظهر محصّلي العلم (العصري) وعلى النجاح أو التفوق في
مضماره، ورمى الطلاب ومرشدوهم من وراء ذلك إلى رفع ما لحق رجل الدين
التقليدي من ازدراء، وإلى محو وصمة البطالة والفراغ والجهل عنه؛ فلا يؤول
ذلك إلى نفض الغبار عن دوره فحسب، بل تحلّ قوة العلم في دعوته وفي كلامه
ومواقفه، ويشق الطريق أمام المحتذين بمثاله والمقتدين به، فيتكاثر عدد السالكين
طريق علوم الدين.
وجمع طلاب المعهد بين التحصيل الديني وبين أنشطة حياة عادية ووجوهها.
ومثل هذا الجمع ضروري وحيوي للدعوة وحزبها [42] .
وقد صب هذا التطوير للتعليم الديني في مجرى تحقيق الهدف الأساس من
تحويل المجتمع اللبناني الشيعي إلى دولة شيعية قد تتوافق بداياتها مع البدايات
الإيرانية أو تلحق بها فيما بعد فلا تقتصر السياسة على الوجه المتصل بالمدارس
والتدريس، وعلى سلك العلماء وإعدادهم؛ فهي تعد الجسم الديني بغية تأطير
(المجتمع الإسلامي) وقيادة المعقل الشيعي؛ فما العلماء والطلبة من بعدهم وورائهم
إلا المبلغون عن الثورة، وعن مرشدها، ودولتها، وحوزاتها، وقد أوْلى التراث
الشيعي العلماء والمبلغين والدعاة دوراً خطيراً، وأناط بهم نقل العلم الإمامي، أو
الأدلة إليه؛ فكان التشيع الإمامي بين أُولى الفرق التي برعت في إعداد الدعاة
وتنشئتهم ووضع رسوم عملهم.
وكان لا بد لهذا التطوير بعد هذا التأطير للمجتمع الشيعي من أن يصب في
مجرى آخر للالتقاء مع حركة الصدر من أجل الثورة بعد التثوير.
فيقول الشيخ محمد إسماعيل خليق - ممثل الشيخ حسين منتظري في لبنان -: إن الحوزات العلمية على مدى العصور كانت منطلقاً للثورات ضد الظالمين؛
فهي مشعل لانتصار الإسلام والمسلمين في كل العالم، ومعين الطلبة الذين
يشتركون في العمليات الجهادية [43] .
وقد تم التوسل برباط (العلم) الإمامي الذي ينبغي أن يتعالى عن الأقوام
والأهل واللغات، وأن يلحق المدارس الدينية والحوزات بـ (خط الإمام) . وحملة
(العلم) وأصحابه على (العمل) ووحدت بين العمل وبين (الحرب والقتال
والشهادة، وتوّجته بالدم) ، فاستعادت من غير ملل، ولا خشية من التكرار المقارنة
التي عقدها التراث الإمامي بين حبر العلماء وبين دم الشهداء، ومزجت بينهما،
وجعلت مِزَاجهما عنواناً قاطعاً على وحدة " الشخصية الإسلامية " وعلى فرادتها،
فاستحال عالم الدين إلى أحد وجهين متلازمين لكل مناضل إسلامي. أما الوجه
الآخر فهو المقاتل أو المجاهد. فإذا اجتمع العلم والقتال والشهادة في شخص واحد
ارتفع الشخص إلى مرتبة الولاية والمثال، وكما قال أحد شبابهم: لا بد للعلم من
جهاد يكمله ويتكامل معه [44] .
ولهذا فقد افتخر محمد حسين فضل الله بأن هذا الجيل الذي يمثله الآن (حزب
الله) قد تربى على يديه [45] .
وإلى هنا اتفق فضل الله مع الصدر في نقطة الانطلاق التي هي مدار حديثنا
في الحلقة القادمة - إن شاء الله تعالى -.
__________
(1) انظر مقال: صادق الموسوي، مجلة الشراع، 17/5/1993 وانظر: وضاح شرارة، دولة حزب الله، ص342.
(2) د وجيه كوثراني، المسألة الثقافية في لبنان، الخطاب السياسي والتاريخ، ص20- 21.
(3) قراءة في فكر زعيم فكري لبناني، ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي د أحمد إبراهيم خضر، مجلة المجتمع، العدد: 953، ص45.
(4) ورد في الموسوعة العربية العالمية، ج21/71، أن عدد الشيعة في لبنان بلغ عام 1990م مليونا ومائتي ألف نسمة، أي بنسبة 54% من السكان المسلمين الذين يمثلون 62% من سكان لبنان كما تذكر مصادر أخرى أنهم يشكلون 50% من نسبة السكان كما ورد ضمن حلقات الإسلام والكونجرس، مجلة المجتمع العدد928، ص 29، كما أوردت مجلة المجلة في العدد: 795 /13/4/ 1995م أن عدد الشيعة في لبنان يبلغ 42% من مجموع سكان لبنان.
(5) انظر: بهمان بختياري، المؤسسات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ضمن مجموعات أبحاث تحت عنوان إيران والخليج، البحث عن الاستقرار، إعداد جمال سند السويدي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، 1996، ص75.
(6) كينيث كاتزمان، الحرس الثوري الإيراني، نشأته وتكوينه ودوره، ص60، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، 1996.
(7) انظر: أصول مذهب الشيعة للقفاري، ج2/894، وانظر تطور الفكر السياسي الشيعي،
ص419-437.
(8) الحكومة الإسلامية، الخميني، ص80.
(9) المصدر السابق، ص49.
(10) انظر إيران: تحديات العقيدة والثورة، د مهدي شحادة، د جواد بشارة، مركز الدراسات العربي الأوروبي، ط1/1999، ص 19.
(11) الحكومة الإسلامية، ص95.
(12) انظر حجة الإسلام: د موسى الموسوي، الثورة البائسة، ص 147.
(13) انظر: مهدي نور بخش، الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة، ضمن إيران والخليج، البحث عن الاستقرار ص 48.
(14) الحكومة الإسلامية ص 54.
(15) الحكومة الإسلامية ص 54.
(16) محمد حسين فضل الله ولاية الفقيه، ص55.
(17) المصدر السابق ص24.
(18) يا شيعة العالم استيقظوا، لحجة الإسلام موسى الموسوي ص 1620.
(19) التيارات السياسية في لبنان 1943 1952، د حسان حلاق، الدار الجامعية 1988.
(20) محمد جواد مغنية، الوضع الحاضر في جبل عامل، ص58، نقلا عن دولة حزب الله،
ص26.
(21) السابق ص 24-29.
(22) السابق ص 47- 48.
(23) دولة حزب الله ص30-31.
(24) مغنية، مصدر سابق ص43.
(25) سوريا وإيران: تنافس وتعاون، أحمد خالدي، حسين ج أغا، ت/ عدنان حسن، دار الكنوز الأدبية ط1/1997م ص 1920.
(26) دولة حزب الله ص 44.
(27) أوليفيه روا، تجربة الإسلام السياسي ص 178.
(28) يذكر أن الأسرة الشهابية كانت من الأسر الشيعية التي تنصرت.
(29) انظر عبد الله الغريب، وجاء دور المجوس، 409- 423.
(30) تجربة الإسلام السياسي ص 178.
(31) انظر الصدر ودوره في حركة أمل، ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي د أحمد إبراهيم خضر، مجلة المجتمع، العدد: 957، ص 47.
(32) انظر: دولة حزب الله، ص 167- 169.
(33) السابق ص 79- 80.
(34) راجع ذلك في حواره مع مجلة الوسط العدد 275/5/5/1997م.
(35) انظر هذا الكلام وهو لحسين الحسيني ضمن حلقات حازم صاغية التي بعنوان معرفة (بعض) لبنان، طوائف وعائلات، مناطق وأحزابا سياسية، جريدة الحياة، العدد: 13323/19/5/
1420هـ، 30/8/1999م.
(36) حوار نشر ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي أجراه معه د جورج نادر، ونشر تحت عنوان قراءة في فكر زعيم ديني لبناني، الأعداد: 953، 954، 955 من مجلة المجتمع.
(37) جريدة الأنباء الكويتية، العدد: 8364/29/8/1999م.
(38) جريدة النهار اللبنانية، 14/5/1986م.
(39) قراءة في فكر رجل ديني لبناني، مصدر سابق.
(40) انظر دول حزب الله، 135 136، 155 156.
(41) الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة، ص 42.
(42) وضاح شرارة، ص 8889.
(43) جريدة السفير اللبنانية، 12/2/1987م.
(44) انظر وضاح شرارة، ص 162.
(45) انظر حواره مع مجلة: المشاهد السياسي، العدد 168/30/5/1999م.(143/102)
المسلمون والعالم
جنوب السودان
الجذور التاريخية والأبعاد السياسية وآفاق المستقبل
حسن أبو حلو
مدخل:
في 15 أغسطس عام 1955م وبينما السودان يجهز نفسه ويستعد لإعلان
الاستقلال عن الحكم الإنجليزي الذي تم بعد خمسة شهور من هذا التاريخ صدرت
الأوامر لفرقة عسكرية جنوبية بالتوجه شمالاً للاشتراك في احتفالات الاستقلال،
وكانت هذه الفرقة تضم 1700 وضابط تعسكر في مدينة (توريت) ، وكان عليها أن
تسافر إلى جوبا ثم تواصل مسيرتها إلى الخرطوم، وترددت القوة في تنفيذ الأوامر، وعندما طلبت تزويدها بالذخيرة رُفِضَ طلبها؛ فازدادت المخاوف وانطلقت إشاعة: بأن ضابطاً شمالياً أطلق النار على جندي جنوبي فقتله؛ وكانت الشرارة، فهاجم
الجنوبيون مساكن لشماليين، وقتلوا من فيها، ووقعت مذبحة بشعة؛ لتبدأ ما نطلق
عليه: (عمليات تمرد الجنوب على الشمال في السودان) وبذلك ظهرت قضية من
أخطر القضايا التي تواجه عالمنا الإسلامي، وأصبحت خنجراً في ظهر المسلمين
ضمن عشرات الخناجر التي يعاني منها الجسد الإسلامي، وتستنزف قواه وإمكانياته
وتفاعلت الأزمة لتؤثر فيها معطيات كثيرة داخلية وخارجية، وتدخلت فيها قوى
بقصد استثمارها لتحقيق مخططاتها وأهدافها الاستراتيجية، وتعددت أطراف الحرب
وتناقضت وتشابكت مواقفها.
وتتناول هذه الدراسة بُعدين من أبعاد هذه المشكلة هما: التركيبة الداخلية
للشعب السوداني، والدور الأمريكي في زيادة حدة المشكلة.
التركيبة الجغرافية والعرقية واللغوية والدينية للسودان:
يرجع السودان بحدوده الحالية إلى اتفاقية 1899م أو ما يعرف باتفاقية الحكم
الثنائي بين مصر وبريطانيا، ومساحته حوالي 2. 5 مليون كيلو متر مربع؛ أي
أكبر دولة في أفريقيا مساحةً، ويليها الجزائر، وهذه المساحة تبلغ نحو مرتين
ونصف من مساحة مصر، وما يقرب من مساحة أوروبا الغربية.
هذه المساحة الشاسعة للسودان أتاحت لأهله سكنى مناطق متفرقة بصورة
هائلة؛ فنجد - مثلاً - شعب مصر - وهم أكثر من ضِعْفِ سكان السودان -
يعيشون في حوالي خمسة آلاف قرية بينما نجد السودانيين يعيشون في أكثر من
ستين ألف قرية مما زاد من ضَعْف السلطة المركزية وتحكمها على مجمل مساحتها، وهذا الضعف أوجد صعوبة أمام الحكومة في حسم أي تمرد مسلح يقع في
أراضيها وبخاصة المنطقة الجنوبية التي تتركز فيها الغابات والمستنقعات.
ينقسم السودان عموماً إلى إقليمين:
الإقليم الشمالي: ويضم 6 ولايات: الشمالية وعاصمتها الدامر، وكسلا
وعاصمتها كسلا، والنيل الأزرق وعاصمتها وادي مدني، والخرطوم وعاصمتها
الخرطوم، وكردفان وعاصمتها الأبيض، ودارفور وعاصمتها الفاشر.
الإقليم الجنوبي: ويشمل ثلاث ولايات: أعالي النيل وعاصمتها مالكال،
وبحر الغزال وعاصمتها واو، والاستوائية وعاصمتها جوبا.
تبلغ مساحة الجنوب حوالي 650. 000 كيلو متر مربع أي حوالي ربع
مساحة السودان، وفي سنة 1997م كان عدد سكان السودان حوالي 30. 3 مليون
نسمة، بينما كان عدد سكان الجنوب حوالي 7. 2 مليون نسمة أي ربع سكان
السودان تقريباً.
ووفق إحصاء عام 1992م كان عدد المسلمين 83% من مجموع السكان بينما
الوثنيون 14% والنصارى 3%.
أما في الجنوب فتبلغ نسبة الوثنيين 60% والنصارى 17% والمسلمين 23%، أي نسبة المسلمين أكبر من نسبة المسيحيين حتى في الجنوب. ولعل المرء
يندهش ويتعجب من مطالبة الدول المجاورة للسودان والدول الأوربية بدولة
للمسيحيين في الجنوب ونسبتهم الأقل، وتزداد الدهشة والعجب حينما نعلم أن نسبة
البروتستانت في الجنوب من عدد المسيحيين 20% والباقي كاثوليك، بينما نجد أن
الذي يطالب بهذه الدولة المسيحية المزعومة هو مجلس الكنائس العالمي الذي تسيطر
عليه الكنيسة البروتستانتية.
يصل عدد القبائل في السودان إلى 257 قبيلة تندرج تحت عدة قوميات أهمها:
1 - عرب: وهم حوالي 40% ويتركزون في الشمال بصفة خاصة، وأهم
قبائلهم الكبابيش والبقارة.
2 - بجاة: حوالي 12% وتعيش في حوض أركويت في الشرق وهم
يمتازون بالشدة، ويوجد منهم فصيل يسمى مؤتمر البجا يخوض الآن حرباً ضد
الحكومة مطالباً بالانفصال.
3- نوبيون: حوالي 3% وهؤلاء خلاف النوبيين الذين يعيشون في مصر،
وقلة منهم اعتنقت الإسلام وآخرون اعتنقوا المسيحية بفضل البعثات التبشيرية،
وتخوض جماعة منهم - تسمى جبهة تحرير النوبة - قتالاً ضد الحكومة.
4 - الفور: حوالي 12% وهم سكان دارفور غرب السودان وتراجعوا إلى
جبال مرة نتيجة صدامهم بالعرب، واعتنقوا الإسلام وتشبهوا بالعرب في ملابسهم؛
ولكن اللغة العربية لم تتمكن منهم، وقامت أيضاً فيهم حركة تطالب بالحكم الذاتي
وتقاتل الحكومة من أجله.
5 - الزنوج: 30% ويتركزون في الجنوب ويندرجون تحت ثلاث
مجموعات سلالية رئيسة هي: النيليون - النيليون الحاميون - المجموعة السودانية.
وأهم مجموعاتهم هي (النيليون) : وتضم قبائل الدينكا والنوير والشلوك
وغيرها من القبائل الفرعية، ويصل مجموع النيليين إلى حوالي ثلثي سكان
الجنوب، ويتركزون في منطقتي بحر الغزال وأعالي النيل، وتعد قبيلة الدينكا أهم
قبائلهم؛ بل أهم قبائل الجنوب على الإطلاق؛ حيث يزيد عددها وحدها عن ثلث
سكان الجنوب ويعيشون في قسمين: حول بحر الغزال، وحول النيل الأبيض،
ويفصل بينهما جيب كبير تحتله قبائل النوير، وتكثر المستنقعات في هذا الجيب
الذي يعيش فيه قبائل النوير التي تعتبر ثاني أكبر مجموعة نيلية بعد الدينكا؛ حيث
يصل عدد أفرادها إلى نصف الدينكا، ونتيجة للحواجز الطبيعية التي تمثلها
المستنقعات فإن اختراق منطقتهم بواسطة العالم الخارجي كان دائماً أمراً محفوفاً
بالمخاطر، وقد زاد ذلك من عزلتهم ونزوعهم إلى الاستقلال والاعتزاز بالنفس.
أما قبائل الشلوك فهي أصغر قبائل النيليين عدداً؛ ولكنهم أكثر المجموعات النيلية
من حيث تطور نظامهم الاجتماعي والسياسي.
ومن الأهمية بمكان دراسة هذا التنوع العرقي في الجنوب لفهم طبيعة الصراع
هناك، وخاصة فهم الانشقاق الذي حدث في جسد الحركة الشعبية لتحرير السودان
بزعامة (جون جارانج) الفصيل الرئيس الذي يقاتل الحكم منذ 16 عاماً؛ ففي
أغسطس 1991م انشق جناح الناصر بزعامة ريك مشار وهو من قبائل النوير،
ولام أكول وهو من الشلوك عن جون جارانج وهو من قبيلة الدينكا مما يجعل البعد
القبلي ذا أثر كبير في توجهات المشكلة ومسارها.
حقيقة الدور الأمريكي:
كانت أمريكا تدرك أهمية منطقه شرق إفريقيا والقرن الإفريقي؛ فكان (إعلان
دالس) وزير الخارجية الأمريكي في أواخر الخمسينات: (إن اعتبارات الأمن في
منطقة البحر الأحمر هي التي حكمت علينا أن نضم إرتيريا إلى الحبشة) .
ومع نهاية الحرب الباردة بدأ السودان يدخل على الأجندة الأمريكية.
ولكن ما حقيقة الدوافع الأمريكية في النظر إلى السودان؟
يقع السودان في موقع قريب من منطقة القرن الإفريقي، وتمثل هذه المنطقة
أهمية حيوية للتحكم في الملاحة في البحر الأحمر تبعاً لما يلي:
هذا البحر تمر به نسبة كبيرة من تجارة العالم خاصة ناقلات النفط القادمة من
الخليج إلى أوربا وأمريكا. والمعروف أن تدفق البترول والتحكم فيه وفي أسعاره
كان دائماً ورقة ضغط أمريكية على أوربا واليابان والصين تُلوِّح بها في وجه هؤلاء
الكبار الذين يريدون الخروج عن السياسة الأمريكية وأهدافها في العالم، فضلاً عن
أن أمريكا تعد منطقة القرن الإفريقي العمق الاستراتيجي لقواتها الموجودة في
المنطقة.
كما يمثل البحر الأحمر عمقاً حيوياً لـ (إسرائيل) ؛ حيث يطل السودان عليه؛ وأمن (إسرائيل) يعد من أولويات السياسة الأمريكية وأهدافها استراتيجياً.
إن السودان مدخل مهم إلى منطقة البحيرات العظمى؛ حيث قامت أمريكا
بمحاولة ترتيب الأوضاع هناك، فقامت بدعم قبيلة التوتسي التي استولت على
الحكم في زائير (الكونغو) ، وفي تقرير للبنتاجون نشر مؤخراً اعتبر أن منطقة
البحيرات العظمى هي مصدر استراتيجي مهم لا يمكن الاستغناء أو التنازل عنه؛
باعتبار أن هذه المنطقة تمثل حلقة الوصل الرئيسة بين الدول الإفريقية ودول
الشرق الأوسط، إضافة إلى أن من يتحكم في هذه المنطقة سيحدد - إلى حد كبير -
الآثار الاستراتيجية والسياسية لمنطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا، وأكد التقرير أن
النهج الاستقلالي الذي تسعى دول المنطقة إلى تبنيه ممثلاً في السعي إلى إنشاء
السوق الإفريقية المشتركة سوف يؤثر على المصالح الأمريكية، وأن السودان
والحكم الإسلامي فيه سوف يحدث بلبلة في المنطقة، وأن الهدف الأمريكي هو
إحداث تغيير سياسي سريع في السودان وعلمنة الحكم ليرتبط مع بقية دول
البحيرات العظمى في إطار تحالف قوي يضم أوغندة وإثيوبيا وإرتيريا والكونغو
والسودان الجديد، ومن ثم التحكم في منطقة حوض النيل لإخضاع الدول الواقعة
عليه للسياسات الأمريكية.
إيقاف المد الإسلامي وانتشاره في إفريقيا:
فقد صرحت أولبرايت في 5-1-1998م: (لا ينبغي أن تترك هذه المنطقة
(تقصد شرق إفريقيا) دون توجيه استراتيجي أمريكي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج
في مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق الإفريقي) .
وفي حديث لوزير الخارجية السوداني مصطفى إسماعيل نشر مؤخراً قال:
(إن السياسة الأمريكية الآن تحاول أن تصنع عدواً لتخيف به الآخرين، وآلياتها
الإعلامية والسياسية تصب في هذا الاتجاه، ومن ثم فهي تدعو الأطراف الأخرى -
في ضوء ذلك - للاعتماد عليها. وأمريكا تصور السودان الآن على أنه العدو) .
في ضوء هذه الأهداف السابقة بدأت أمريكا في رسم السياسات التي تمكنها من
الوصول إلى هذه الأهداف.
والمتتبع للسياسة الأمريكية في أي بقعة أو بؤرة من بؤر التوتر في العالم
يلحظ خاصية هامة يجب علينا فهمها والاهتمام بها وهي: الاستدراج البطيء
والتعامل الهادئ مع الخصم الممزوج بالتصعيد التدريجي، أي (سياسة الشد
والإرخاء) حتى إذا تهيأت الظروف دفعت الأحداث إلى إحكام الطوق والحصار
العسكري بالأساطيل والجيوش والحلفاء، ثم يتبع بعدها أسلوب ساعة الحسم.
إن عدم فهم هذه الخاصية وإدراكها يوقعنا في الحيرة والاضطراب ووصف
السياسة الأمريكية بالتناقض والارتباك، وهي ليست كذلك في كل وقت؛ ولكن
يحدث أحياناً خلاف بين صانعي القرار الأمريكي حول وصول الوضع إلى ساعة
الحسم وهنا قد يحدث نوع من الاجتهادات المختلفة التي تؤثر بدورها على المواقف
التي تتخذها أمريكا.
ومثال ذلك: ما حدث بالنسبة للسودان في قرار إعادة الدبلوماسيين الأمريكيين
إلى السفارة الأمريكية في الخرطوم، فبعد أسبوع واحد تراجعت الخارجية الأمريكية
عن القرار.
وحديثنا عن السياسة الأمريكية تجاه السودان يسير وفق أربعة محاور: ...
المحور الأول: (سياسة الاسترخاء) ، ومن ذلك:
- صدور تقارير صحفية تفيد اعتزام الإدارة الأمريكية بحث إمكانية إسقاط
النظام السوداني من قائمة الدول الراعية للإرهاب تمهيداً لإتمام الصفقة النفطية بين
الحكومة السودانية ومؤسسة (أوكسيدنتال) النفطية الأمريكية.
- الترحيب الرسمي الأمريكي باتفاق السلام الموقع في 21-4-1997م بين
الحكومة السودانية وست من فصائل المعارضة الجنوبية.
- زيارة وفد أكاديمي أمريكي للسودان، وبحث المشكلات التي تعيق تطوير
علاقاته بالولايات المتحدة.
- إقرار صندوق النقد الدولي اتفاق المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادي
ابتداءًا من أواخر يونيه 1997م.
- إعراب الإدارة الأمريكية عن انزاعجها مما نسب إلى الرئيس الإرتيري
حول وجود مشاركة إرتيرية في القتال الدائر بشرق السودان.
وفي تصريح لمسؤول في مجلس الأمن القومي الأمريكي: " إن أمريكا لا تؤيد
الدعوة لتقسيم السودان، وترغب في أن يحافظ على وحدته ضمن صورته الحالية
المعترف بها من المجموعة الدولية.
السماح للسودان باستيراد المواد الغذائية من الخارج؛ حيث إنها غير مدرجة
في العقوبات.
المحور الثاني: (سياسة الشد) :
- صدور عدة تقارير من وزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي
التي قدمت إلى الكونجرس في الفترة من سبتمبر إلى نوفمبر 1996م والتي أجمعت
على اعتبار السودان بين الدول الأشد خطراً.
- تصريحات مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي في ديسمبر
1996م التي تؤكد أن استراتيجية الإطاحة بالنظام السوداني هي أفضل الخيارات
المتاحة.
- في أواخر عام 1996م صدر إعلان من جماعة التحالف النصراني
وجماعات ضغط أخرى قريبة منها عن رغبتها في إجازة قانون في الكونجرس
يفرض عقوبات سياسية واقتصادية على دول يتهمها التحالف باضطهاد الأقليات
النصرانية، ومنها: مصر، والسودان، والصين، والسعودية، وحيث إن فرض
عقوبات اقتصادية يضر بالمصالح الأمريكية في هذه البلدان فإن السودان أصبح عند
بعض صانعي القرار الأمريكي المثال الأقل تكلفة لبيان اهتمام الإدارة في واشنطن
بالموضوع وترضيته جماعات الضغط المسيحية.
- في 24-11-1997م قررت الولايات المتحدة سحب البعثة الدبلوماسية من
السودان.
- تصريح مادلين أولبرايت أثناء جولتها في المنطقة بأن الولايات المتحدة
تسعى لإسقاط النظام في الخرطوم سلماً أو حرباً.
المحور الثالث: (سياسة إحكام الطوق) :
- في عام 1996م تم تخصيص مبلغ 20 مليون دولار في صورة مساعدات
عسكرية لثلاث دول إفريقية تتعاون لإسقاط النظام السوداني، وهي: إرتيريا،
وأوغندة، وإثيوبيا، وهو ما أكدته السفارة الأمريكية.
- في 15-12-1997م اتهم البشير أمريكا بأنها حرضت حركة التمرد على
إلغاء ما تم التوصل إليه، وألقت بكل مبادئ منظمة الإيغاد في سلة المهملات دعماً
لاستمرار القتال.
- عملت إدارة كلينتون على شق الصف الإفريقي عبر صنع لوبي بين الدول
الموالية لواشنطن يتبنى فكرة إقرار آلية متعلقة بتشكيل قوة عسكرية من هذا اللوبي
تتولى التدخل لفض ما تسميه واشنطن بالصراعات في القارة، وهي الآلية التي
تشرف عليها واشنطن في أوغندة.
- الجولات المتتالية للمسؤولين الأمريكيين في المنطقة بدءاً من كلينتون
ومروراً بأولبرايت وانتهاءًا بسوزان رايس مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية
لشؤون القرن الإفريقي، ويسعى هؤلاء المسؤولون إلى القضاء على أي تعارض
في الأهداف، وإلى تخفيض حدة التنافس بين زعماء المنطقة.
- حاولت أمريكا ترتيب لقاء يجمع بين جارانج والمنشقين عنه في نيويورك؛
ولكن المفاوضات بين الأطراف وصلت إلى طريق مسدود.
المحور الرابع: (مؤشرات لحظة الحسم) :
بعد إتمام الحصار على السودان كان الوضع مهيأ لزحف عسكري من تحالف
المعارضة مدعوماً بجيوش دول الجوار (إثيوبيا، وإرتيريا، وأوغندة) وخاصة بعد
أن أصبحت مصر على الحياد بعد المحاولة التي لم تفلح لاغتيال الرئيس حسني
مبارك في إثيوبيا، والتي اتهمت بها السودان وبدا النظام السوداني شبه معزول،
وظهر أن هذا التوقيت هو الأنسب لتوجيه تلك الضربة القاصمة للنظام؛ ولكن
سرعان ما حدثت تطورات كان من أبرزها: تورط أوغندة في الصراع الذي اندلع
مجدداً في الكونغو، واندلاع قتال ضارٍ بين الحليفين: إثيوبيا وإرتيريا، وتغير
الموقف المصري من النظام السوداني بعد أن أعاد حساباته في الاستراتيجية وأصبح
يقف حجر عثرة في سبيل هذه المخططات.
وهنا بدأت أمريكا تغير من سياساتها تجاه السودان لتبدأ مرحلة جديدة من أهم
خصائصها:
- تقليل الاعتماد على دول الجوار نظراً لتشتتها وتشرذمها.
- محاولة إضعاف الدور المصري في السودان وممارسة الضغوط على النظام
المصري لرفع يده من القضية السودانية.
- تحريك الأساطيل الأمريكية تجاه السودان، واستخدام أساليب القصف
الصاروخي لضرب منشآت حيوية كما حدث في ضرب مصنع الشفاء في الخرطوم.
- إرسال المبعوثين إلى الجنوب كما حدث في زيارة عضوي الكونجرس إلى
المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، ثم عودتهم ومطالبتهم الإدارة الأمريكية
بالتدخل.
- افتعال القضايا التي تستحوذ على اهتمام الرأي العام العالمي، وإلصاق
الاتهامات بحكومة البشير مثل قضايا: المجاعة، وتجارة الرقيق ...
- التحرك نحو إيجاد مناطق معزولة ضد الطيران السوداني على غرار شمال
وجنوب العراق تمهيداً لانفصاله.
- تعيين مبعوث خاص بالسودان، وذلك للتركيز على هذه القضية والدلالة
على أنها بؤرة الاهتمام الأمريكي.
إن الحالة السودانية تشبه من وجوه كثيرة المسألة العراقية بالنسبة للولايات
المتحدة؛ مما جعلها بين خيارين:
1 - الاحتواء: وذلك بجعل السودان في حالة حصار دائم ليساعد ذلك على
انهيار النظام، أو ثورة الشعب عليه.
2 - التفكيك: أي تجزئته إلى دويلات عدة تحت أي صبغة أو مسمى من
المسميات مثل: حق تقرير المصير، أو الكونفدرالية. وقد ذكرت جريدة الأسبوع
المصرية في 22-12-1997م أن أولبرايت استشارت جيمي كارتر الخبير في
الشؤون السودانية، والقرن الإفريقي (الرئيس الأمريكي الأسبق) فأشار بتفتيت
السودان؛ للسيطرة على المنطقة، وإزالة النظم المعادية وبالذات التي لها توجه
إسلامي.
إن الفترة القادمة سوف تشهد تطورات لاحقة في المنطقة خاصة بعد انتهاء
أمريكا من حرب البلقان التي أسفرت عن أطلسة أوروبا ودخولها في الحظيرة
الأمريكية، وباتت منطقة الشرق الأوسط هي الآن المنطقة المرشحة للأطلسة
الأمريكية لتأمين منطقة جنوب البلقان وأوربا، والعراق والسودان هما أكثر دولتين
في المنطقة المرشحة للأطلسة الأمريكية كما فُعِلَ بيوغسلافيا.
ولعل تسارع الحكومة السودانية وحرصها على إجراء المصالحة مع أطراف
المعارضة المختلفة، وتحسين العلاقات مع دول الجوار يوحي بأن الحكومة تريد
استباق الأحداث لإحباط هذه المحاولات.
ولكن العامل الحاسم ليس في يد طرف خارجي أو داخلي ولكنه في الرجوع
إلى الله؛ فبقدر تمسك النظام في السودان بإيمانه بالله واحتكامه إليه يكون ثباته
وصموده أمام أي عدوان أو قوة مهما بلغت هيمنتها وغطرستها: [يريدون أن يطفئوا
نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون] . {التوبة: 32} .
المراجع:
- دراسات في الجغرافية البشرية للسودان، د. عبد العزيز كامل، دار
المعارف مصر.
- حوار حول مشكلة الجنوب السوداني، تحرير عمر مرسي - مركز
المحروسة.
- جنوب السودان وصناعة التآمر ضد ديار المسلمين، د. عبد العظيم الديب، مكتبة السنة.(143/114)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
من أجل عيون (تيمور)
إن أعين العالم تتركز على نقطة صغيرة وعلى معاناة ناس أبرياء فقراء، إن
الولايات المتحدة ستعيد النظر في روابطها الاقتصادية والتجارية مع إندونيسيا، إن
دعمنا لأية مساعدة اقتصادية من الأسرة الدولية مستقبلاً رهن بالطريقة التي تسيطر
بها إندونيسيا على الوضع من الآن فصاعداً.
وإن الحفاظ على إندونيسيا قوية مزدهرة وديمقراطية من مصلحة الجميع.
على الحكومة والعسكريين الإندونيسيين وضع حد لأعمال العنف وإعادة الوضع إلى
ما كان عليه والسماح بعودة اللاجئين إلى ديارهم وتطبيق نتائج الاستفتاء والسماح
لقوة دولية بإعادة الأمن.
{الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون،
جريدة الوطن، العدد: (8470) }
تفسير جديد
س: بم تفسر فضيلتك الوجود الأمريكي والغربي بهذه الكثافة في المنطقة
العربية، وما هي الآثار السلبية لهذا الوجود الأجنبي؟
ج: أخالفكم الرأي، فما نراه في المنطقة العربية ليس كياناً غربياً، ولكنه
لون من ألوان التعامل السياسي والاقتصادي العالمي، وبالقدر نفسه فإن ملايين
العرب والمسلمين يقطنون أوروبا وأمريكا ويزاولون نشاطهم! ! غاية ما في الأمر
أن الوجود الغربي هنا أكثر أثراً وأكثر تنظيماً، وهو لذلك أشد فائدة لأصحابه.
{د. محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر،
جريدة الجيل، العدد: (42) }
الوجه الغربي في كوسوفا
1 - وجه برنار كوشنير المسؤول الإداري للأمم المتحدة في كوسوفا تحذيراً
شديد اللهجة إلى جيش تحرير كوسوفا وقال: لن أسمح في المستقبل أن يحرق
عشرة أو خمسة عشر منزلاً صربياً حتى ولو أدى ذلك إلى الدخول في نزاع مع
جيش تحرير كوسوفا، لقد قلت: إن صبري كاد ينفد، إن الأمن هو أولويتنا؛
ولكن للأسف لسنا قادرين على حماية الصرب 100%، إن الحقد وصل إلى حد
نحن بحاجة فيه إلى وضع شرطي لحراسة كل صربي! ! وهذا مستحيل، نحن في
انتظار تعزيزات يبلغ عددها خمسة آلاف جندي تقريباً، إذا غادر الصرب كوسوفا
فسنكون قد انهزمنا، إن الحرب عندها ستكون من أجل لا شيء.
2 - اعتبر وزير الخارجية الإيطالي لامبرتو ديني أن استقلال كوسوفا يشكل
عامل عدم استقرار لمنطقة البلقان، وقال: إذا بدأنا في إقامة دويلات من مليون أو
مليوني نسمة في البلقان فسيكون لدينا قريباً عشرون دويلة، وإن التحالف الدولي
سيطلب من قواته في الإقليم أن يتحرك بشكل أكثر حزماً لحماية الصرب، وهم
الآن بدورهم ضحايا قسم من ألبان كوسوفا.
{جريدة الخليج، العدد: (7392) }
جمهورية كردية من وراء الكواليس
1 - قال بولنت أجاويد رئيس الوزراء التركي أن ثمة فراغاً سياسياً وأمنياً في
شمال العراق؛ حيث تسعى القوى المحلية والدولية في ملء هذا الفراغ من أجل
تحقيق استراتيجيتها في المنطقة، ولواشنطن سياسة محددة في هذه المنطقة، وربما
تسعى لإقامة دولة كردية. وقد أقدم مسعود البرزاني على اتخاذ علم جمهورية مهاباد
الكردية - التي تأسست عام 1946م - ونشيدها الوطني علماً وشعاراً لنفسه توطئة
لإعلان الجمهورية الكردية، كما يستعد لطبع عملة خاصة بهذه الجمهورية.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7565) }
2 - كما وافق حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني
على تشكيل حزب يهودي يسمى حزب يهود كردستان، وسيكون مقر الحزب الجديد - ويرمز له باسم (حيك) - سيكون بمدينة السليمانية في شمال العراق وستقوم
إسرائيل بدعمه.
{جريدة الخليج، العدد: (7388) }
خذوا حذركم
وضعت (مايكروسوفت كوربوريشن) التابعة للبليونير الأمريكي بل جيتس
لصناعة أجهزة الحاسب الآلي (I. B. M) وضعت باباً سرياً خلفياً في برمجياتها
يمكن من خلاله للاستخبارات الأمريكية أن تتجسس على أجهزة الكمبيوتر التابعة ...
للحكومات ورجال الأعمال والأفراد في أنحاء العالم.
{جريدة الحياة، العدد: (13330) }
أذلة على الكافرين
عرفات شخص مهذب وشهم، وقد درج على أن يناديني (ابن عمي) أينما
التقينا يجعلني دائماً أتقدمه، ويسير هو تسع خطوات خلفي، دائماً أقول له: تقدم؛
ولكنه يرد: أرجوك تفضل! !
{ديفيد ليفي وزير خارجية (إسرائيل) ،
جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7558) }
الخصم والحكم
لا زالت الدول الإسلامية العربية صامتة بشأن الاعتراف بالشيشان حتى
تعترف روسيا، وقد وقعنا وثيقة سلام بيننا وبين الرئيس الروسي عام 1997م،
وبهذه الوثيقة أنهينا حرباً قامت بيننا وبين روسيا قرابة 400 عام، ومع ذلك لم تكن
هذه الوثيقة شافية وكافية لاعتراف الدول الإسلامية والعربية.
{رئيس الشيشان، رسلان مسعادوف،
جريدة الأنباء، العدد: (8345) }
لا بواكي لهم
دخل رجال الشرطة الكينية إلى مسجد أنس بن مالك في ممباسا كينيا في
1- 5-1420هـ، وقتلوا تسعة أشخاص من بينهم إمام المسجد، كما جرحوا خمسة عشر آخرين، وقبل التحقيق صرح وزير أمن الدولة بأن المسلمين هم السبب في هذه الحادثة، ودافع عن الحكومة الكينية.
{مكتب المنتدى الإسلامي في نيروبي كينيا}
الأقربون أولى.. بالملايين! !
قالت مصادر فلسطينية: إن السلطة الفلسطينية أوجدت منذ قيامها عام 1994 م حوالي 400 مليونير معظمهم من موظفي السلطة والمسؤولين الكبار فيها، بينما
غالبية المواطنين تعيش تحت خط الفقر.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7574) }
التأخر إلى متى! ؟
ينبغي أن تكون مواقف اليهود دافعاً لنا على مواصلة الجهاد من أجل تحرير
القدس، والجهاد لا يعني حمل السلاح ومهاجمته المغتصبين والمحتلين، فهذه
مرحلة أخيرة لا ينبغي أن نلجأ إليها إلا عندما تخفق الوسائل الأخرى، والذي أعنيه
الآن هو الجهاد السياسي والاقتصادي.
{د. نصر فريد واصل، مفتي مصر،
جريدة الخليج، العدد: (7397) } .
الموالاة أولى من المعاداة
حصل المخرج السينمائي المصري نبيل عبد العليم السيد فوده على موافقة
الجهات المختصة بتأسيس جمعية للصداقة المصرية - الإسرائيلية.
وقال فوده: إن هدف الجمعية هو (نشر ثقافة السلام ومد جسور الصداقة بين
الشعبين المصري والإسرائيلي) . وضمت لائحة أسماء المؤسسين 29 عضواً.
وتهدف الجمعية إلى مد جسور الصداقة والتعاون بين الشعبين من خلال نشر ثقافة
التسامح والسلام، والدعوة إلى التعاون على أساس الاحترام والثقة بين طرفين
متكافئين، وإزالة العوائق النفسية والحواجز والعقبات التي تعوق حركة النشاط
والتعاون بين البلدين.
{جريدة الحياة، العدد: (13313) }
أنقذوا الفقراء
حسب تقديرات البنك الدولي عام 1995 للفقر الحاد فإن 30% من سكان
جنوب الصحراء الإفريقية يعيشون في فقر مدقع. وكذلك الأمر بالنسبة لـ 29%
من سكان جنوب آسيا و 21% من سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. و12%
من سكان أمريكا اللاتينية. و 9% من سكان شرق آسيا وجنوب شرقها. و 4%
من سكان أوروبا الشرقية.
وبسبب الفقر في عالمنا يموت 1400 طفل دون الخمس سنوات كل ساعة
بسبب سوء التغذية وأمراض الطفولة التي يمكن الوقاية منها، من بينهم 5000
طفل يلاقون حتفهم كل يوم بسبب الجوع وحده. ويموت 20 مليوناً من البشر كل
عام نتيجة سوء التغذية أو الحرمان منها. بينما يعاني غيرهم من أمراض التضخم
والإفراط في الأكل، ويتم إعدام أطنان من الغذاء لأسباب تجارية بهدف زيادة
الكسب.
{جريدة الخليج، العدد: (7384) }
من يشتري روسياً بدولارين! !
كشفت مصادر روسية عن ازدهار ما وصفته بـ (تجارة الرق) بين جنود
القوات الروسية في المناطق المجاورة للشيشان وشمال القوقاز. وقالت: إن آخر
هذه الحوادث جرى في أوسيتيا الشمالية؛ حيث باع الملازم ف. خ تسعة من جنوده
إلى تجار الرق الشيشان بسعر الجملة مقابل خمسين دولاراً للجندي الواحد.
وبلغ الأمر بقائد أحد فصائل من قوات الأمن الداخلي في فلاديقوقاز (عاصمة
أوسيتيا الشمالية) إلى حد بيع جنوده مقابل خمسين روبلاً (أي ما يعادل دولارين
فقط) لقاء الجندي الواحد، وبأحد الرقباء المدمنين إلى حد بيع اثنين من جنوده هما: سيرجي ستيبانوف، والكسندر ليفنتشوك مقابل عشرة جرامات من الهيروين،
ويدعي القادة أن جنودهم هربوا من الوحدات العسكرية، إضافة إلى تأجير بعضهم
للعمل لدى الفلاحين المحليين أو في أعمال البناء مقابل دولار واحد في بعض
الأحيان يومياً.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7584) }
أخلاق القساوسة
ألقت الشرطة النمساوية القبض على قس (33 عاماً) يعمل مدرساً للتربية
الدينية في مدرسة ثانوية بالنمسا العليا متلبساً بجرم بيع صور خليعة لأطفال مأخوذة
من الانترنت وذلك بالتعاون مع شابين آخرين يعملان في شركة كمبيوتر؛ إذ
يقومون باختيار الصور وطبعها ثم بيعها. هذا وقد وجدت الشرطة بحوزة القس -
الذي كان يستخدم الكمبيوتر الخاص بمدرسته - وجدت 130 ألف صورة لصبيان
تتراوح أعمارهم ما بين 4 - 16 عاماً.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7564) }
ويبقى وجه ربك
شهدت العاصمة الرومانية بوخارست مزاداً علنياً فريداً من نوعه عرضت فيه
للبيع مخلفات الزعيم الشيوعي السابق نيكولاي تشاوتشيسكو الذي حكم البلاد بالحديد
والنار لسنوات طويلة حتى الإطاحة به وإعدامه في خضم ارتداد بلدان أوروبا
الشرقية على أنظمتها الشيوعية المستبدة في أواخر الثمانيات.
ومن المقتنيات الثمينة لتشاوتشيسكو التي عرضت في المزاد - إضافة إلى
التحف والسجاجيد والملابس وقطع الأثاث - سيارات قديمة ذات أهمية خاصة
أهداها له زعماء من مختلف بلاد العالم.
{مجلة المجلة، العدد: (1019) }
مرصد الأرقام
- ارتفع عدد محطات الإذاعة والتليفزيون الموجهة التي تبث دعاية أمريكية
باللغتين العربية والفارسية ليصل إلى عشر محطات.
{مجلة الوسط، العدد: (395) }
- تضاعف حجم الاستيطان اليهودي في مدينة القدس أربع مرات منذ تسلم
إيهود باراك مقاليد الحكم عنه في زمن سلفه نتنياهو.
{جريدة الخليج، العدد: (7407) }
- يعاني اللاجئون الفلسطينيون في لبنان أوضاعاً صحية حرجة؛ حيث يوجد
لكل 10 آلاف لاجئ 0. 87 طبيب و 2. 5 ممرض بينما تنص القوانين الدولية
على وجود طبيب لكل ألف نسمة حداً أدنى، ويعاين الطبيب ثمانين مريضاً في
اليوم بمعدل أقل من 4 دقائق للحالة الواحدة.
{جريدة الحياة، العدد: (13324) }
- أظهر تقرير أعدته هيئة الإحصاء الحكومية في روسيا أن ربع الأطفال
يولدون غير شرعيين.
{جريدة الحياة العدد: (13324) {
- ذكرت دراسة رسمية بريطانية أن عدد النساء المجرمات القابعات في
السجون البربطانية تضاعف خلال الأعوام الستة الماضية؛ إذ أصبح خُمس مجموع
المجرمين في السجون من النساء.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7571) }
- بلغ عدد الأسرى في السجون الإسرائيلية حتى نهاية مارس 1998م
(3485) أسيراً، وقد بلغ عدد الأسرى الإداريين طوال سنوات الاحتلال وحتى
وقتنا الحاضر 53 ألف أسير، كما بلغ عدد من توفوا داخل سجون الاحتلال منذ
1967م، وحتى 1-1995م، 168 أسيراً، وجميعهم سقطوا نتيجة التعذيب
والضرب أثناء التحقيق.
{جريدة الخليج، العدد: (7411) }
- خلال الشهور الثمانية الماضية أطلق الطيارون الأمريكيون والبريطانيون
ألفاً ومئة صاروخ على 359 هدفاً عراقياً.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7565) }
- بلغ عدد المساجد التي دمرت في كوسوفا ما يزيد على مئة مسجد، في حين
أصيب نحو 200 مسجد بأضرار.
{جريدة الخليج، العدد: (7391) {(143/122)
قضايا ثقافية
من مواقف طه حسين تجاه
التراث الإسلامي
(1 /2)
خالد بن سعود العصيمي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن أعظم ما تصاب به الأمة أن يكون مصابها بأبنائها؛ إذ يكون وقع ذلك
شديداً عليها؛ لأن الأم الرؤوم لا تنتظر من أبنائها إلا البر والإحسان، فتفاجَأ
بالعقوق والعصيان، ولقد أصيبت الأمة الإسلامية بأبناء لها على مر التاريخ ممن
تنكبوا الطريق، وضلوا سواء السبيل؛ فهذا الجهم بن صفوان يحرِّف الكتاب،
ويلوي عنق النصوص لياً، وهذا - أيضاً - واصل بن عطاء تلميذ الحسن
البصري - رحمه الله - يعتزل حلقته ويعلن بدعة شنعاء يبقى أثرها في الأمة ردحاً
من الزمن، ويظهر ابن الراوندي يلوّح بزندقته في مصنفات، أما أهل الفلسفة
فيدَّعون فيما يدَّعون: أن النبوة اكتساب لا اصطفاء، ويعلن الحلاج الصوفي قوله
بوحدة الوجود.
وهذه السلسلة الخبيثة باعُها في التاريخ طويل، تبدأ بإبليس يوم عصى رب
العالمين ورفض السجود، وتظهر اليوم في مثل سلمان رشدي وحامد نصر أبو زيد
وغيرهم.
وطه حسين أحد عُقَد هذه السلسلة التي كانت غصة في حلق الأمة، ولما كان
أحدَ الذين ذاع صيتهم في هذا العصر، وراجت أفكارهم وآراؤهم، وكانت تلك
الأفكار والآراء ذات صبغة مضللة، ولما كان تلاميذه وتلاميذهم - وما زالوا -
يشيدون به وبهم، فقد رأيت أن أعرض بعض مواقف طه حسين من التراث
الإسلامي ثم أُعقبها بالمناقشة. وليست الكتابة في فكر طه حسين من قبيل الكتابة
عن موضوعات عفا عليها الزمن - كما يظن بعض الناس - لأنه وإن تغير
الأشخاص الذين ينخرون بجسم الأمة ويقوضونها من الداخل، وإن تغيرت أسماؤهم
ولغتهم وأسلوبهم، إلا أن مضامين أفكارهم تتكرر مرة بعد مرة، وحمل المقالات
المتشابهة بعضها على بعض أمر لا يشق على المؤمن الفطن.
أهم مواقفه المعادية للتراث الإسلامي:
أولاً: ادعاؤه بشرية القرآن:
1 - لخطورة التصريح بما يعمل على بثه فإن موقفه من القرآن الكريم كان
متأرجحاً؛ فهو حين يقول في القرآن: إنه (المعجزة الكبرى التي آتاها الله رسوله
الكريم صلى الله عليه وسلم آيةً على صدقه فيما يبلِّغ عن ربه) [1] تجده يشير إلى
التشكيك في إلهية القرآن الكريم بتلميح فاضح؛ إذ يقول: (ليس يعنيني هنا أن
يكون القرآن الكريم قد تأثر بشعر أمية بن أبي الصلت أو لا يكون. ثم يقول: لِمَ لا
يكون أمية بن أبي الصلت قد أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم طالما أن مصادر
أمية ومحمد واحدة وهي قصص اليهود والنصارى؟) [2] .
فهو كي يرد تهمة تأثر القرآن بشعر أمية بن أبي الصلت يأتي بحجة تؤكد
بشرية القرآن، وهي أن مصادر أمية ومصادر محمد صلى الله عليه وسلم في
القرآن واحدة، وهي قصص اليهود والنصارى.
2 - دعا إلى جعل الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم تحت مجهر النقد لكل
من قرأها، فإذا (كان من حق الناس جميعاً أن يقرؤوا الكتب المقدسة ويدرسوها
ويتذوقوا جمالها الفني، فلِمَ لا يكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس
والفهم، ما دام هذا الإعلان لا يمس مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث إنها كتب
مقدسة، فلا يغض منها ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد، وبعبارة
أوضح: لِمَ لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آراءهم في هذه الكتب من حيثُ هي
موضع للبحث الفني والعلمي، بقطع النظر عن مكانتها الدينية؟) [3] .
وقد طبق هذه الفكرة فعلاً مع تلاميذه في كلية الآداب؛ حيث طلب منهم أن
ينقد كل واحد منهم القرآن الكريم، وأن يكشف عن الآيات الضعيفة فيه والآيات
القوية [4] .
بل إن الدكتور طه حسين طبق نموذجاً على الآيات القرآنية يصرح فيه أن في
القرآن أسلوبين مختلفين:
أحدهما: جاف وهو مستمد من البيئة التي نزل فيها القرآن أول ما نزل في
مكة؛ ففي هذا الأسلوب تهديد ووعيد وزجر.
وأسلوب آخر عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتصل
ببيئة اليهود، وهو أسلوب فيه شيء كثير من الليونة والانطلاق [5] .
3 - يتجاوز طه حسين قضية التشكيك، فينكر بعبارة لا التواء فيها إبراهيم
وإسماعيل - عليهما السلام - وقصة مهاجرهما إلى مكة، ويعدُّ هذه أسطورة لفَّقها
العرب بعامة وقريش بخاصة ليحتالوا بها على من عندهم من فرس وروم؛ ليؤكدوا
أن لهم أصلاً قديماً يرتبط بتأسيس إبراهيم وإسماعيل للكعبة، ثم جاء القرآن فصدَّق
هذه الأسطورة؛ ليحتال على اليهود ليؤلف قلوبهم؛ إذ مرجعهم إبراهيم جميعاً [6] .
ونقد الشيخ محمد الخضر حسين منهجه في أفكار هذه القصة بقوله: (ومن
حاول الجهر بإنكار ما تتداول نَقْلَه أمةٌ، ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقاً
عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفاً للمعقول
أو المحسوس أو التاريخ الثابت الصحيح؛ ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه
القصة طريقة نقد التاريخ؛ إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية
تزوجت تقليداً لا يُرى، فحملت بهذا البحث وولدته على غير مثال) [7] .
4 - قلل طه حسين من شأن القرآن حينما قال في (الأيام) [8] : إن نسخة من
ألفية ابن مالك تعدل خمسين نسخة من القرآن الكريم.
ثانياً: جَعْلُهُ السيرة النبوية بمثابة الأسطورة:
كتب (على هامش السيرة) تقليداً لكتاب: (على هامش الكتب القديمة) لجيل
لومتير، وقد صرح بهذا في كتابه: (الإسلام والغرب) بعد سنوات من صدور
(على هامش السيرة) ، وملخص سبب تأليفه له من كلامه: أنه قد ساءه أن يكون
لليونان أساطيرهم، وللرومان أساطيرهم، والناس يقبلون برغبة ملحة على هذه
الأساطير، ثم لا يجد الراغبون في القراءة والمتعة أساطير للعرب يتناقلها الناس،
ولأجل هذا أُلِّف هذا الكتاب، ليكون أسطورة عربية [9] .
ويقول في موضع آخر من كتابه: (وأحب أن يعلم الناس أيضاً أني وسَّعت
على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع ما لم أجد
به بأساً) [10] .
حتى قال صديقه الدكتور محمد حسين هيكل عاتباً عليه صنيعه: (وأستميح
الدكتور طه حسين العذر إن خالفته في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم وعصره
مادة لأدب الأسطورة) [11] .
ثالثاً: التلاعب بالحقائق التاريخية المتعلقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عصره:
1 - أراد أن يثبت أن النبوة كانت اعتقاداً معروفاً في مكة، والناس يتشوَّفون
ظهور النبي، بل إن كل فتى في مكة كان يتطلع ويسعى ليكون صاحب هذا
الفضل [12] ، وفي هذا تجنٍّ على الحقيقة والتاريخ أي تجنٍّ.
2 - ضخَّم الحوادث المتصلة بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
وملأها بالأحاديث الموضوعة؛ حتى ليظن القارئ أن أهل مكة كانوا يعلمون أن
محمداً صلى الله عليه وسلم سيكون نبياً [13] .
وأطال النَّفَس في سرد قصته صلى الله عليه وسلم مع خديجة - رضي الله
عنها - وميسرة والراهب وورقة بن نوفل، وجلَّلها بثوب الأسطورة الذي قدّه أطول
منه، فخلط ما صح من معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بما لم
يصح [14] .
3 - رد أحاديث صحيحة؛ لأنها خالفت هوى في نفسه، فمثلاً يقول: (فلا
حاجة إذن إلى أن نخترع الأحاديث لإثبات ما لا حاجة إلى اتباعه، كالحديث الذي
يروى من أن العباس عرف الموت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان
يعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب [15] ) مع أن الحديث مخرج في صحيح
البخاري [16] .
وردَّ الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه في
مرضه الذي توفي فيه: (ايتوني بصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبداً) [17] .
وردَّ استسقاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالعباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه - وأن هذا تكلُّف مصدره التملق لبني العباس أثناء حكمهم [18] ،
والحديث في صحيح البخاري [19] .
ويسوِّغ ردَّه للأحاديث التي لا توافق هواه بأن (من الواجب على كل مسلم
حين يُروى له الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتاط قبل الأخذ به، وأن
يعرضه على القرآن، فإن كان لا يناقض القرآن في قليل ولا كثير، ولا يناقض
المألوف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمله أخذ به، وإلا وقف فيه) [20] .
ولا شك أن رد السنة الصحيحة بدعوى أنها تخالف القرآن أو السير المألوفة
طريقة غير علمية ولا منضبطة؛ ولهذا جَرَّأَتْ قليلي البضاعة من العلم والموتورين
إلى أن يتكلموا في دين الله، ومنهجُ العلماء الراسخين قبول الروايات الثابتة،
وجمع النصوص الواردة في باب واحد، وبيان المطلق فيها والمقيد، والعام
والخاص، والناسخ والمنسوخ. وكتبُ شروح الأحاديث الجارية على هذا متوافرة.
ولله الحمد.
رابعاً: الطعن في الصحابة الكرام:
1 - وصف طه حسين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالعصبية حينما
أنكر على حسان بن ثابت - رضي الله عنه - إنشاد الشعر في المسجد، فقال
حسان: إليك عني يا ابن الخطاب، فوَ اللهِ لقد كنت أنشد في هذا المكان وفيه مَن
هو خير منك (فيفسرها طه حسين بأن الأنصار كانوا يعتزون بنصرهم للنبي صلى
الله عليه وسلم وانتصافهم من قريش، وعمر كان قرشياً، تكره عصبيته أن تُزدرى
قريش، وتذكر ما أصابها من هزيمة في غزوة بدر [21] . وهذا كذب؛ إذ إن عمر
- رضي الله عنه - كان صاحب الرأي القائل بقتل أسرى بدر، ونزل القرآن
بموافقته.
2 - وتطاول على عثمان - رضي الله عنه - ووصمه بالظلم والطغيان وأنه
ما زال يضرب ابن مسعود حتى كسر أضلاعه [22] .
3 - وكذب على عائشة - رضي الله عنها - وزعم أنها وقفت على جملها
يوم الجمل تخطب الناس وتحثهم على القتال بلسان زلق، ومنطق عذب، وحجة
ظاهرة [23] .
4 - ويتناول خالدَ بن الوليد - رضي الله عنه - من غير استحياء ويصفه
بثلاث من البهتان: فخالد عنيف وفي سيفه رهق؛ لأنه يحب القتل، وخالد يحب
التزوج، وخالد وعشيرته معروفون بالعُجْب والخُيَلاَء [24] .
5 - وشتم طه حسين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -[25] .
6 - جعل طه حسين حَبْرَ هذه الأمة عبدَ الله بن عباس (لصاً) يأخذ ما في
بيت المال في البصرة ويهرب إلى الحجاز [26] .
7 - وصف أصحاب الشورى الذين اجتمعوا ليختاروا خليفة المسلمين بعد
عمر - رضي الله عنه - بإيثار الدنيا ومحبتها [27] ، بل وصف بها جملة
الصحابة الذين كانوا - كما زعم - ينافقون في عهد خلافة عمر - رضي الله عنه -
وأنهم كانوا يظهرون شظف العيش إذا دخلوا عليه، وإذا خلوا إلى أنفسهم عادوا إلى
لين الحياة [28] .
وهذه التهم التي ألصقها طه حسين بالصحابة فرادى وجماعات هي حق
البهتان العظيم الذي لا يمتري فيه أي مسلم.
وهذا البهتان جناية في حق التاريخ الإسلامي، بل في حق التاريخ الإنساني؛
إذ لا يُعرف جيل كجيل الصحابة في كمال الاستعدادات الفطرية ولا في تمام
الصفات الخُلقية التي أهَّلتهم لاصطفاء الله لهم لحمل رسالته إلى العالمين، وليس
وراء تهمة الصحابة ووصمهم بالشنائع إلا إسقاط محبتهم وتوقيرهم من النفوس،
مما يؤدي إلى القدح في عدالتهم، ومن ثَمَّ رد مروياتهم عن النبي صلى الله عليه
وسلم التي هي الدين. وقد تنبه علماء الأمة إلى هذه القضية منذ ظهورها عند بعض
المبتدعة، فصنفوا في فضائل الصحابة، وفي حكم سبهم أو سب أحد منهم [29] .
خامساً: ادعاءاته ضد نظام الخلافة:
1 - زعم أن نظام الخلافة ليس إلهياً (وأن الحكم أيام النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن شرعياً لا رأي للناس فيه؛ وإذا كان الأمر {كذلك} أيام النبي صلى الله
عليه وسلم الذي كان يتنزل عليه الوحي فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه
بعد أن تقطَّع عن الناس خبر السماء) [30] .
2- ونظام الحكم الإسلامي - عنده - يشبه إلى حد بعيد نظام الحكم الروماني
أيام الجمهورية؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه
اختيار المسلمين لخلفائهم [31] .
3 - وليؤكد أن نظام الخلافة ليس إلهياً، وإنما هو نظام إنساني تأثر بالدين،
يذكر أنه قام على عنصرين [32] :
الأول: عنصر معنوي وهو الدين؛ فالخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه
الوحي في كل ما يأتي وما يدع، وهو مقيد بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار
العدل، وهذا العنصر تلاشى - كما يدعي - بمقتل عمر - رضي الله عنه -.
الثاني: الارستقراطية التي ائتلف منها هذا النظام، وقوامها: الاتصال بالنبي
صلى الله عليه وسلم أيام حياته والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد؛ والبلاء في سبيله، واختُص بها الأقربون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
قريش.
4 - حكم على نظام الخلافة في الإسلام بأنه قد أخفق، وأن تجربة الحكم
الإسلامي انتهت أيضاً بالإخفاق، أما نظام الشورى الذي وضعه عمر - رضي الله
عنه - لاختيار الخليفة فلا يخلو - عنده - من نقص، بل من نقصٍ شديد [33] .
سادساً: التعبير عن الفتوح الإسلامية بأنها استعمار:
1 - يقول - مثلاً -: (فلما كان الفتح ورأت جيوش المسلمين الكثير من
حقائق هذه البلاد، ثم استقرت فيها، واستقر المستعمرون العرب فيها كذلك) [34] ، ويقول - أيضاً -: (فلما جاء الإسلام سكت الناس عن الخمر حيناً، صرفهم
عنها الدين، وصرفهم عنها جِد الخلفاء، وصرفهم عنها الفتح والاستعمار) [35] .
2 - وإذا كانت فتوح الأقاليم تُعد - في تعبير طه حسين - استعماراً فإن فتح
مصر عدوان، يقول: (إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من
العدوان جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك
والفرنسيين) [36] .
3 - أما العثمانيون فهم - عند طه حسين - مستعمرون، وهم السبب في
إيقاف سير الحركة العقلية في مصر؛ إذ إن الترك العثمانيين لو لم يوقفوا سير
الحركة العقلية في مصر مدة طويلة لكان الذهن المصري من تلقاء نفسه ملائماً
للأذهان الأوروبية في الأعصر الحديثة [37] .
4 - وفي مقابل ما سبق تجده يصف الإنجليز - المستعمرين الحقيقيين -
بأنهم أصدقاء، ما جاؤوا إلى مصر إلا ليحموا القناة من المعتدين؛ فهو يقول:
(نحن نريد أن نضارع الأمم الأوروبية في قوتها الحربية لنرد عن أنفسنا غارة المغير؛ ولنقول لأصدقائنا الإنجليز بعد أعوام: انصرفوا مشكورين فقد أصبحنا قادرين
على حماية القناة) [38] .
سابعاً: دفاعه عن المتربصين بالإسلام والمسلمين:
1 - تولى طه حسين المحاماة عن الغوغاء الذين أثاروا الفتنة ضد عثمان بن
عفان - رضي الله عنه - إذ إن (الذين ضاقوا بهؤلاء العمال الذين ولاَّهم عثمان
وثاروا عليهم، ونقموا من عثمان توليتهم لم يكونوا مخطئين) [39] .
2 - يبدو تناقضه في شأن عبد الله بن سبأ اليهودي ودوره في أحداث الفتنة،
فيدعي مرة أنه شخصية وهمية منحولة؛ لأنه لم يَرِدْ ذكره في طبقات ابن سعد ولا
في أنساب الأشراف للبلاذري [40] ، ويثبت وجوده مرة ثانية، ويشكك في أمره
ثالثة [41] .
3 - يدافع عن أصحاب عبد الله بن سبأ الذين أثاروا الفتنة في الجمل فيصفهم
بأنهم أنصح الناس لعلي - رضي الله عنه - وأوفاهم بعهده، وأطوعهم لأمره (فلم
يأتمروا ولم يسعوا بالفساد بين الخصمين وإنما سمعوا وأطاعوا وأخلصوا الإخلاص
كله) [42] .
4 - ويدافع عن الزنادقة في عهد بني العباس - قائلاً -: (ومن الخلفاء
العباسيين من غلا في امتحان بعض الناس وأسرف في قتلهم، يأخذ بعضهم بالشبهة
والوشاية وسوء القالة، كالذي صنع المهدي في تتبع الزنادقة) [43] .
ومن هذا القبيل فقد ادعى: (أن سبب قتل الحلاَّج وصلبه ليست زندقته،
وإنما كان اتصال رجال الدين والغلاة منهم في الرأي بالسلطان وسيطرتهم
عليه) [44] .
__________
(1) مرآة الإسلام لطه حسين، 81.
(2) في الأدب الجاهلي، لطه حسين، 145، 147.
(3) في الصيف، لطه حسين، 17.
(4) أنظر: المرجع السابق، 1117، ومحاكمة فكر طه حسين، 166، 167.
(5) أنظر: محاكمة فكر طه حسين، 167.
(6) أنظر: في الشعر الجاهلي، 3741.
(7) نقض كتاب في الشعر الجاهلي، 76,77.
(8) 1/71 ولو ادعى أنه في معرض كلام أدبي، لم يرد الاستهزاء.
(9) أنظر: على هامش السيرة، 1/173، 174، 175.
(10) المرجع السابق، 1/177.
(11) أنظر: محاكمة فكر طه حسين، 184.
(12) أنظر: دارسات في السيرة النبوية، 234.
(13) أنظر مثلا ما يتعلق بقصة ولادته صلى الله عليه وسلم في: على هامش السيرة، 1/273) فقد بالغ جدا فيها مع أنه لم يثبت فيها مع أنه لم يثبت فيها إلا حديث واحد.
(14) أنظر: على هامش السيرة، 2/376400.
(15) الشيخان: 33.
(16) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 5/141.
(17) انظر: مرآة الإسلام، لطه حسين، 73، والحديث في البخاري، كتاب العلم، باب كتابة
العلم، 1/37.
(18) الشيخان، 151.
(19) صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، 2/15.
(20) مرآة الإسلام، 131.
(21) في الأدب الجاهلي، لطه حسين، 122، 123.
(22) انظر: الوعد الحق، لطه حسين، 654.
(23) انظر: الفتنة الكبرى (على وبنوه) : 2/861.
(24) الشيخان: 79، 80.
(25) انظر: الشيخان: 194، والفتنة الكبرى (على وبنوه) ، 2/956.
(26) انظر: الفتنة الكبرى (على بنوه) 2/934، 959.
(27) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان) 1/705.
(28) انظر: الشيخان: 145.
(29) انظر: مثلا، صحيح البخاري: باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 4/189، وسنن الترمذي، 5/606712، وبقية السنن والمسانيد.
(30) الفتنة الكبرى (عثمان) : 1/678 وللرد عليه تنظر: صحيفة المدينة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لتنظيم علاقات الناس في المدينة النبوية، سيرة ابن هشام، 2/501504 ولبيان مفاهيم مبادئ هذه الصحيفة انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية للدكتور أحمد فرج: 55، 56.
(31) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان) : 1/682.
(32) انظر: المرجع السابق، 1/683693.
(33) انظر: الفتنة الكبرى (عثمان) 1/696، 705.
(34) الفتنة الكبرى (علي وبنوه) ، 2/962.
(35) حديث الأربعاء، 2/396.
(36) الفتنة الكبرى (عثمان) ، 1/802.
(37) طه حسين مفكرا: 86، وانظر: مستقبل الثقافة في مصر، 47، 48.
(38) مستقبل الثقافة في مصر، 56.
(39) الفتنة الكبرى (عثمان) 1/802.
(40) انظر: الفتنة الكبرى (علي وبنوه) 2/904 و (عثمان) 1/7759762.
(41) وللرد على المشككين في حقيقة ابن سبأ ودوره في الفتنة، ينظر كتاب (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام) للدكتور سليمان العودة.
(42) الفتنة الكبرى، (علي وبنوه) ، 2/904.
(43) مرآة الإسلام، لطه حسين، 160.
(44) المرجع: السابق، 159.(143/126)
بأقلامهن
الأطروحات الدعوية الموجهة للمرأة المسلمة
وقفة.. ودعوة للمراجعة!
فاطمة بنت عبد الله البطاح
تظهر من حين لآخر بعض الأطروحات الدعوية الموجهة للمرأة المسلمة.. ما
بين مسموعة أو مقروءة.
ولا يسعنا حقيقة إلاّ أن نستبشر بها؛ فهي دلالة لوعي حضاري يؤمن
بضرورة إنماء وعي المرأة وتشكيل فكرها والحفاظ على هويتها وانتمائها! كما لا
يسعنا أيضاً أن نتجاوز عن بعض العثرات المنهجية التي من شأنها أن تقلل من
فاعلية هذه الأطروحات وحجم تأثيرها!
ومن هنا انبثقت فكرة هذه المقالة التي لا ترقى عن كونها إضاءات عابرة
أرجو أن يُكتب لها النفع! وإلا فإن مسؤولية البحث الجاد والمعالجة الرصينة تبقى
معلقة على أعناق الدعاة، ومختبئة في أغماد أقلام ذوي الفكر والرأي! وإنّا لهم
جميعاً لمنتظرات! !
1 - مثالية الحلول:
المراقب لأطروحاتنا الإسلامية الموجهة للمرأة المسلمة سيضع يده على
إشكالية الحلول المثالية الجاهزة التي تُعرض إزاء جملة من قضايا المرأة.
ولو تأملنا في دوافع هذه الحلول المثالية فلن نجدها إلاّ هروباً ذكياً تتكئ عليه
أطروحاتنا لتبتعد عن أجواء القضية وتعقيداتها! ولتعيش تحت وهم تأدية الدور
وإبراء الذمة! خصوصاً أن الحل المثالي يُريح صاحبه من مسؤوليات وتبعات
النظر والتأمل والاجتهاد! ويُؤَمِّن له الراحة والدعة؛ إذ لن تجد من يُعارض
مشروعية الحل المثالي؛ فهو متفَقٌ على صحته! ومتفق أيضاً على جاهزيته
للعرض حتى عند رجل الشارع البسيط الذي لن يجد أدنى صعوبة تذكر في تقديم
قائمة طويلة لحلول مثالية.
أوَ ما ترون أطروحاتنا الدعوية تعرض قرار المرأة في بيتها باعتباره معالجة
مثالية مغرقة في الحيطة والحذر للتخلص من بعض المزالق التي قد تعترض المرأة
عند خروجها!
ويبدو أن هذه الأطروحات لم تنتبه بعدُ إلى أن هذا الحل سيبقى حلاً مؤقتاً لا
يملك القدرة على مقاومة ومنازلة تطورات الحاضر والمستقبل التي يفترض أن
نواجهها ونقتحمها متزودين بثوابت الماضي وقيمه الراسخة! !
وإلاّ فستظل جملةٌ من قضايا المرأة المعاصرة ومشاكلها معلّقةً إلى حين تنزل
الأطروحات الإسلامية من برجها العاجي.. وتلامس جذور القضايا، وتستقرئ
أبعادها؛ حتى لا تفقد ثقة المتلقين بأهليتها لتقديم معالجات اجتهادية ملائمة تساهم في
تغيير شيءٍ من ملامح حاضر المرأة المعاصرة، وفي دفعها خطوةً إلى الأمام، وفي
بناء مستقبلها وتشكيل فكرها ووعيها!
ولن يكون ذاك إلا إذا تخلصت هذه الأطروحات من هروبها التقليدي المثالي
الذي قلَّل من إمكانية بلورة رؤية إسلامية شاملة وواقعية لكل أزمات المرأة
المعاصرة وقضاياها الشائكة!
2 - الاصطدام مع نفسية المرأة وطبيعتها:
يفترض في الطرح الدعوي الموجه للمرأة المسلمة أن يهتم بالاعتبارات
النفسية والفطرية للمرأة والتي هي من الثبات بما لا يجادل فيها إنسان!
إلاّ أن واقعنا الدعوي ما يزال يُعاني من ضمور الإحساس بتأثير هذه
الاعتبارات على تلقي المرأة وتفاعلها، وكذلك إنماء أو إهدار طاقات النهوض لديها!
فالمرأة مثلاً ما تزال تُطالَب بالتعامل العقلاني مع قضية التعدد وفق نظرة
الرجل ومشاعره واحتياجاته هو، لا وفق نظرة نسائية تتوافق مع أنوثة المرأة
وطبيعتها!
وربما سمعت أو قرأت طرحاً دعوياً يُطالب المرأة بأن تتصدر بعاطفتها
وعقلها طابور المؤيدين للتعدد! ! دون مراعاة إنسانية لمشاعر المرأة التي لا تُلام
عليها شرعاً ولا عقلاً؛ فهي مشاعر طبيعية غير مستنكرة!
ما أشد حاجتنا للطرح النابة لقضايا المرأة الذي يراعى فيه نفسية المرأة كما
كان يفعل.
ليس مقبولاً أن يترك الدعاة الحديث عن مشروعية التعدد أو ذكر ما له من
منافع وفوائد بحجة عدم الاصطدام مع المرأة!
كما أنه ليس من موضوعية الطرح أن يكرر الدعاة ثناء عائشة رضي الله
عنها على سودة بنت زمعة رضي الله عنها مستدلين به على أن المأمول من المرأة
أن تتعامل مع التعدد بصورة عقلانية مجردة من العاطفة! بينما يغضون الطرف
عن مواقف حياتية كثيرة نقلتها كتب السير والسنن مارست فيها أرجح نساء
المؤمنين عقلاً وفهماً! مارست ضرباً من ضروب الاعتراض العاطفي لمجرد ذكر
الرسول عليه السلام لزوجته الأولى ورفيقة الدرب الدعويّ الأول خديجة بنت خويلد
رضي الله عنها.
ففي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (اسْتأذنتْ هالة
بنتُ خويلد - أختُ خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَرفَ استئذانَ
خديجة فارْتاح لذلك. فقال: (اللهُمَّ! هالة بنت خويلد) فَغِرتُ فقلتُ: وما تذكرُ من ...
عجوز من عجائزِ قُريشٍ، حمراءَ الشِّدْقين هلكتْ في الدَّهْر فأبدَلك الله خيراً منها) .
كم تحاصرك الدهشة وأنت تتأمل قارئاً اعتراض عائشة الذي لم يكن تلميحاً
نسائياً تستفز فيه زوجة مشاعر زوجها وحسب!
بيد أنه تصريح يبدو لك منه حجم الاندفاع القوي الذي حرم المرأة حتى رهافة
حسها، ورقة لفظها تلك اللحظة!
ولو كانت هذه الكلمات: (عجوز، هلكت، خيراً منها) قيلت عن امرأة حية
يغدو إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويروح، بحيث تشتد وطأة الغيرة بين
المرأتين لتبددت دهشتك! لكن أن تتفوه أم المؤمنين بهذه الكلمات عن امرأة ماتت!
والميت كما تعي عائشة أشد حرمةً من الحي! فإنّ هذا يشير إلى أنها لمست من
الطرف الآخر ليناً وسماحة ورحابة أفق وفهم بعيد وعميق لنفسية المرأة وفطرتها!
ممّا قد يشعرك بحجم الأمن العاطفي الذي كانت عائشة رضي الله عنها تعيش في
ظلاله في بيت الدعوة والعلم والنبوة!
ما أشد حاجتنا لطرح دعوي نابه يؤمن بأن الإفراط في الحديث عن التعدد بلا
حاجة قد يحرم المرأة شيئاً من أمنها النفسي الذي نحتاجه كثيراً لبناء قاعدة الاستقرار
الأسري في مجتمعاتنا الإسلامية!
3- تضخيم دور المرأة:
تضطلع المرأة المسلمة بدور كبير داخل الأسرة، وليس في وسعنا إلاّ أن
نعترف بعظم المسؤوليات التي تتحملها المرأة حيناً.. وتُطَالَب بها أحياناً أخرى!
إلاّ أن الملاحظ على أُطروحاتنا الدعوية الإسلامية تضخيم دور المرأة بصورة
تقذف في ذهن المتلقي شعوراً بأنّ المرأة عنصر مسؤول مسؤولية مباشرة عن نشوء
أيّ مشكلة أُسرية!
(فتأخر الأبناء دراسياً وأخلاقياً، والأزمة المادية، وهروب الرجل المتكرر
من المنزل، و....) عقبات كثيرة تعترض استقرار الأسرة، ويشترك في تكوينها
أطراف وعناصر مختلفة منها: الرجل، المرأة، والمجتمع أيضاً! ومع هذا ما
نزال في أطروحاتنا نشير بأصبع الاتهام للمرأة وحدها! ممّا يعين الطرف الآخر
على التنصل من أدوار خصصت له؛ ويفترض ألاّ يقوم بها أحدٌ غيره!
كما أنّ هذا التضخيم يفقد المرأة المتلقية قدراً من ارتياحها النفسي، وقدراً من
ثقتها بموضوعية الطرح ومصداقية مضامينه.
ليس من الموضوعية في شيء أن ترتفع أصوات بين الحين والآخر تطالب
المرأة المسلمة بأن تكون في أسرتها مربية، ودودة، صابرة، متنازلة،....) !
دون أدنى إشارة منصفة لحالات استثنائية كثيرة يترفع فيها رب الأسرة عن تأدية
أدنى حق من حقوق زوجته عليه!
ولو استفسرت المرأة فلن يكون الرد إلاّ تذكيرًا مجرداً بالصبر والمصابرة!
وبـ (ألاّ تذوق غمضاً حتى يرضى) ! ممّا يشعرك بحجم المسافة الكيفية التي
تفصل واقع المرأة المعاصرة وواقع مثيلتها في صدر الإسلام؛ إذ لو كان المجتمع
النبويّ يحاصر المرأة في زاوية (المسؤول عن استقرار الأسرة أو انهيار بنيانها) ؛
لما امتلكتْ خولة رضي الله عنها قدراً كافياً من الجرأة في تقديم شكواها في زوجها
إلى نبي الرحمة عليه الصلاة السلام!
ولولا ضرورة الإيمان بمدى حاجة المرأة لمنهج دعوي موضوعي يُنصفها
ويدع تحميلها ما لا تحتمل؛ لما أعطى القرآن خولة حقها فنزلت في شأنها آيات
تتلى إلى يوم القيامة: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله
{المجادلة: 1} .
وثمةَ حقيقة لا يسعنا تجاوزها أو إغفالها وهي ضرورة منح المرأة قدراً من
الثقة بالذات والقدرات عن طريق الإشارة إلى جوانب مضيئة في حياتها وفكرها
وسلوكها وهذا مع ما فيه من منافع لا تخفى؛ فقد يكون مدخلاً لبقاً يلزم الدعاة
بالحديث عن المنكرات أو السلبيات التي تنتشر بين النساء ويريدون علاجها! !(143/134)
المنتدى
أين نحن من العالم
ماجد بن عيد الحربي
لفت نظري وأنا أتصفح إحدى المطبوعات المحلية خبر مفاده: أن المجلس
النيابي بإحدى الدول العربية شكل لجنة للتحقيق في مقتل أكثر من خمسة آلاف من
مواطنيهم في دولة عربية أخرى. إلى هذا الحد والخبر طبيعي ولا غبار عليه، إنما
الملفت والمضحك المبكي في آن واحد أن هذه الحادثة مضى عليها حوالي عشر
سنوات لم تبحث خلالها من أي جهة بالدولة صاحبة الشأن، سواءًا كان على
المستوى الرسمي أو الشعبي، وكل ما هنالك أنه ورد ذكر تلك المذبحة على شكل
خبر في بعض الصحف، وقد بادرت الحكومة إلى التعتيم عليه واعتباره من الأخبار
المخلة بالأمن القومي، وبعد مضي عشر سنوات يُبعث الموضوع وتشكل اللجان
النيابية لدراسته تمهيداً للتقدم به للجهة المختصة في الدولة، ومطالبتها بتقديم شكوى
لمجلس الأمن بطلب محاكمة رئيس الدولة التي جرت المذبحة على أرضها بتهمة
ارتكاب جرائم ضد البشرية.
سبحان الله! كل هذه المدة تمضي ولم يُثَرْ موضوع بهذه الأهمية راح ضحيته
خمسة آلاف وستمائة من أفراد الأمة! أين الحكومة المسؤولة عن رعاية مصالح
الأمة؟ أين المجالس النيابية الممثلة للشعب؟ أين منظمات حقوق الإنسان التي لو
قتل كلب في إحدى الدول الغربية لأقامت الدنيا ولم تقعدها حتى يؤخذ بثأر الضحية؟ ولماذا أثير الموضوع في هذا الوقت بالذات؟ هل لأن مجلس النواب استيقظ
ضميره من سباته العميق؟ أم أن السلطة في البلد آلت إلى رجل صالح آلى على
نفسه أن لا يطيب له عيش حتى يقتص لكل مظلوم ويعيد لكل ذي حق حقه؟ أم لأن
جماهير الأمة المغيبة عادت من غيبتها الطويلة، ومارست حقها بالضغط على
الحكومة حتى استجابت لمطالبها؟ قطعاً لا شيء من جميع ما ذكر؛ فالمجالس
النيابية لم تتغير، والسلطة هي السلطة لم تتغير أيضاً، والجماهير لا زالت مغيبة.
وكل ما هنالك أن صاحب السلطة في هذا البلد كانت تربطه علاقة من نوع ما
بصاحب السلطة في البلد الآخر تقتضي التعتيم على الموضوع بغضِّ النظر عن أي
اعتبارات أخرى، حتى ولو كان الأمر يتعلق بقتل هذا العدد من المواطنين ما دامت
مصلحة النظام تقتضي ذلك، أما وقد ساءت علاقة النظامين ببعضهما، وانتهت
مصالحهما المشتركة فلا بد من البحث في الأوراق القديمة والتنقيب عن قضايا تدعم
حجة النظام وتبطل ادعاءات أعدائه، وبهذا تكون قضية ما سمي وقتها بالنعوش
الطائرة تمثل القضية المثالية لخدمة رأس النظام أمام شعبه؛ حيث تظهره بمظهر
البطل الذي لا يفتأ ينافح عن حقوق المواطنين.
إن السكوت على قتل هذا العدد من المواطنين كل هذه المدة ثم استخدامه بعدئذٍ
ورقةً رابحة لمصلحة النظام لا يمكن أن يحدث إلا في نظام الجاهلية القبلية التي
نسأل الله أن يرفعها عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يبدلنا خيراً منها
خلافة إسلامية تسير على نهج الخلافة الراشدة.
وإننا لواثقون من تحقيق هذا الوعد متى أذن الله بذلك.(143/136)
المنتدى
الخيال والأمل
ميسون بنت رشدي عبد الرحمن
ليس للخيال حدود؛ ولكن ماذا يعني الخيال؟ ! بعجالة بسيطة - هو في أحد
جوانبه الأمل والنظرة المستقبلية، هذا هو الخيال، عرفه الرسول صلى الله عليه
وسلم لأصحابه عندما خط في الأرض خطاً ثم رسم مربعاً ورسم داخله أسهماً،
وأخرج الخط خارج المربع فكان المربع أجل الإنسان، والخطوط هي النوازل
يحميه الله منها. أما الخط فهو الخيال الذي يمتد بالإنسان إلى خارج حدود أجله
ومملكته، وكم مات من مات دون أن يحقق هذا الخيال! !
الأمل خيال ونظرة في الأفق البعيد؛ لكن هل يمكن أن يستغل في خدمة
الإسلام؟ !
نرى الأمل ينقسم إلى أنواع حسب آمال الناس وطموحهم؛ فهذا أمله محصور
في شهادة، وذاك في تجارة، وآخر في مهنة وعمارة، وأولئك في المكسب الكثير
والملبس الوفير، وهكذا ... أما المسلم فهو طموح وله خيال وله أمل؛ لكنه ممتد
إلى خارج الأفق البعيد يرسم صورة جمالية له؛ بل لكل من حوله ومن يحمل مثله
اسم مسلم ... إنه يأمل للمسلم مثله ويخطط أن يراه سعيداً ويحب ذلك، يطمح في
سد جوعه وعريه ومرضه وأهم من ذلك جهله وما يعيش فيه من بعد عن الدين
بسبب انشغالنا عنه.
يأمل ويطمح، ويالها من كلمة جميلة لو استغلها المرء في خدمة دينه لتجاوز
حدود الكون وأرجائه مثل إسلامه تماماً لا حدود له، ومثل إخوانه أينما ذكر اسم الله
في بلد عددت ذاك القطر من صلب أوطاني.
خيال المسلم وأمله يسبح في بحر الإسلام وخدمته والتفنن فيما يسعده ويكمله لا
يقتصر على نفسه وأهله؛ بل يتعدى آفاق الكون إلى ما لا نهاية له ولا حدود.
فمتى يصبح الخيال من أجل الإسلام؟ ومتى يكون بلا حدود؟ ومتى تفنى
الأفكار في خدمة الدين؟ ومتى نستغل كل كبيرة وصغيرة من أجل ذلك؟ ! الأمر
ليس ببعيد وما زلنا في الحياة، ولعل نظرة تفاؤل تحل محل نظرة التشاؤم والتبعية، لتشرق شمس الهمة والجد والعمل للإسلام من جديد.(143/137)
المنتدى
ابتلاء ومحاسبة
عبد الكريم علي الشهري
قال تعالى: [أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون]
[العنكبوت: 2] وقال: [ولا تزر وازرة وزر أخرى] [الإسراء: 15] ، ففي
حال سنة الله - عز وجل - القائمة وهي سنة الابتلاء والامتحان هناك تنبيه منه -
جل وعلا - يقرر في النفوس الضعيفة التي لا تجيد فن الانقياد لله والسيطرة على
نفسها تنبيه بأنه ولا تزر وازرة وزر أخرى فالمحاسبة فردية والعقاب لا يتحمله
أحد عن أحد مهما كانت قوة النسب، وأشار إلى أنه [وكلهم آتيه يوم القيامة فردا] ...
[مريم: 95] ، فإذا كان هذا حال الوقوف بين يدي الله - عز وجل - إذاً لا عذر
لمن يتبع غيره في أمر من الأمور، إنما النفس هي المحاور الوحيد أمام رب البرايا- جل وتبارك - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا لا مجال للتهرب فالذي أقَرّ البلاء سنة
على الخلق هو الذي سيحاسب كلاً حسب عمله وصبره وجهاده لنفسه، وليس هناك
مجال للتسويغ أو التجاهل؛ فالقضية جادة غاية الجد.
هناك ابتلاء وامتحان، المؤمن معرَّض له في ماله أو في أهله أو في قلبه
ضريبة للإيمان، وهناك في المقابل حساب فردي دقيق يحتاج إلى استعداد
وإصلاح للقلوب: [يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم]
[الشعراء: 88-89] ، فالقلوب تحتاج إلى تخلية من الأمراض الفتاكة: كالحسد، ... والحب في غير الله - جل وتبارك - وغيرها من الأمراض، ثم تحلية بالإيمان، والإخلاص، وحينها تكمل السعادة وتتحقق، والله! إنه: [ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم] [فصلت: 35] .(143/138)
المنتدى
تبصرة وذكرى
عبد العزيز بن عبد الله العزاز
هدى للمتقين وبيناتُ ... وبشرى للأنام ومعجزاتُ
هو النهج القويم فلا اعوجاج ... هو النور المبين به العظاتُ
هو الحبل المتين به شفاء ... إذا المرء اعترته النائباتُ
هو الذكر الحكيم ومن حكيم ... به قصص الأوائل مشرقاتُ
لنا بالحق أنزله خبير ... به عبَرٌ بحق نيراتُ
كتاب الله تبصرة وذكرى ... تزول له الجبال الراسياتُ
فمن ألقى له قلباً وسمعاً ... فقد كانت له فيه الحياةُ
فرتِّل من كتاب الله آياً ... معانيها الفضائل والسماتُ
ورتل من كتاب الله آياً ... بها العز السني ومكرماتُ
كتاب الله تحكيم وعدل ... بقرع وعيده قُمِعَ الطغاةُ
كتاب الله يا قومي ضياء ... تنير به شموس ساطعاتُ
فيا قومي خذوه أخذ عزم ... ولا تطغوا كما يطغى العصاةُ
قفوا عند الأوامر والنواهي ... ولا تبغوا فتأتي العاقباتُ
إذا ماتت قلوب القوم يوماً ... ففي القرآن للقلب الحياةُ
وإن رمتم لأنفسكم نجاة ... ففي القرآن يا قومُ! النجاةُ(143/139)
المنتدى
الخطيب والمنبر
جابر الراشد الفهيد
لله كم للمنبر في نفوس المسلمين من هيبة وجلالة عظيمة! ما إنْ يتصور
الشخص نفسه خطيباً قد ارتقى المنبر حتى تصيبه قشعريرة تهتز لها جميع أعضائه
وأطرافه.
فالمنبر مرتقيً صعب، وموطئ شريف، ولذلك حق لعبد الملك بن مروان
حينما قيل له: عجَّلَ عليك الشيب، فقال: كيف لا يعجل عليَّ وأنا أعرض عقلي
على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين؟ ! [1] .
لقد كانت علاقتنا مع المنبر قديمة، ولكن ما إن جاء المبعوث عليه الصلاة
والسلام - حتى كان له شأن آخر، حتى يقول عنه أحد علماء الغرب: (ليس
العجيب أن يبعث بعد الأربعين فيكون أفصح فصيح، وأعظم مفتٍ، وأقوى قائد في
العالم) لقد كان صلى الله عليه وسلم أعظم خطيب طرق أسماع العالم وفيه يقول
أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة ... تعروا الندى وللقلوب بكاء
فلم يقف على منابر الدنيا أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان
يخطب وكأنه منذر جيش يقول (صبَّحكم ومسَّاكم) فيعظ القلوب ويستثير الهمم
ويحرك المشاعر. إننا بحاجة إلى الخطيب المؤثر والخطيب المفكر.
(ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع لا
رجال في أيديهم سيوف من خشب) [2] .
فالمنبر سلطة دعوية قوية، ومركز كبير قوي، وقد تركه صلى الله عليه
وسلم للمسلمين بمبدأ الشريعة، فإذا حسن استغلاله وكان الداعية بصيراً حكيماً
وصل إلى قلوب الناس.
فحقيق على الخطيب أن يتكلم عن موضوعات الإسلام، ويعطي كل مسألة
حجمها؛ لأن الناس أتوا يوم الجمعة ليسمعوا حلولاً لمشاكلهم وأطروحات لما يحدث
في مجتمعاتهم [3] .
__________
(1) عيون الأخبار (2/282) .
(2) وحي القلم: الرافعي (1/35) .
(3) بتصرف من مجلة المجتمع (902/50) .(143/140)
المنتدى
دعوها
عباس شعيب حسن
دعوا عيني تجود بدمعتيها ... دعوها عل قلبا يفتديها
دعوها ترسل الآهات حرى ... إلى الأمل القتيل ألا دعوها
أتسألني عن العبرات جهلا ... كأنك لا ترى ما يعتريها؟
أتبصر؟ تلك أنقاض لداري ... وتحت النقض أمي مع بنيها
نجوت من الدمار وليت نفسي ... لنفس أبي وأمي أفتديها
أرد الطرف أحينا لماض ... وأيام مضت قد عشت فها
فما ذنبي أشرد؟ أخبروني ... وما ذنب البراءة قتلوها؟
فبربكم أما فيكم أبي ... يذود عن الحياض لوارديها
تثلم سيفنا وانهد حزنا ... لأن الحرب مات مسعروها
ستدمع مقلتي ويضيق صدري ... وأرسل آهتي.. فلتسمعوها
عقيدتكم تمزق في البرايا ... وتصرخ حسرة فلتدركوها(143/141)
المنتدي
وانتحرت القربى
علي بن أحمد الزهراني
إن القرابة الحقة القائمة على مبدأ المحبة والتواد والصفاء والنصح لجانب
الخير، والعتاب واللّوم للوقوع في الشر والمعصية - هذه القرابة تُعَدُّ من أقوى
الأسس المعينة للعبد على طاعة المعبود، ولا سيما إذا توحّدت أواصر القرابة،
وركّزت جُلَّ هدفها في التنشئة الدينية الصحيحة، وإذا تحقق هذا المبدأ، وقُوِّيت
تلك الأواصر، وتوحّدت هذه الصِّلات؛ رأينا في وجوه المولودين منها الخير
والنفع، وأضحت حياتهم هنيئة سعيدة في ظل العقيدة حتى وإن شذَّ عن هذه القاعدة
بيتٌ مَّا أو شخص بعينه، ولو قلَّبنا صفحات التاريخ بوجهيه المشرق والمظلم
(النور والجهل) لكانت الأمثلة جمّة والبراهين واضحة والأدلة ملموسة، وعلى
النقيض من ذلك تأتي أسوأ قرابة وأرذل صلة - ينبذها الدين ويكرهها كل عاقل
ومدرك - إنه النسل القريب (شكلاً) البعيد مضموناً؛ حيث تنشأ القرابة في ظلمٍ
مستميت بعضها لبعض، فيأكل القوي الضعيف، ويعيش أفرادها في حقد وحسد
وبغض، ومن ثم يبدأ التفاخر والمضايقة، وتظهر المواجهة القبيحة والمشاجرة
العلنية، ولا غرابة حينها أن ترى ألوان الظلم وأشكال التحايل، وصنوف العصيان
التي تتوارثها الأجيال تلو الأجيال - إلا من رحم ربك - لأن السبب المباشر في
بزوغ مثل هذه الظواهر السيئة عدم تمحور هذه القرابة في سلك الخير ومجانبتها
دروب الشر؛ فينشأ عن ذلك تباعُدُ أفرادها عن تطبيق منهج العقيدة السمحة التطبيق
الصحيح، واستسلامها لأهواء النفس ونزغات الشيطان. ولك أن تلحظ تلك الحياة
التعيسة المريرة التي يعيشها أولئك الأفراد، وخاصة أطفالهم الذين لا ذنب لهم سوى
اتصالهم بأبناء عمومتهم وذويهم؛ ليلاقوا وقتئذ الشتم والتوبيخ والتأنيب فيتبلوروا
عليها ويعيشوا من أجلها، ولا أغفل أو أنسى قدرة القادر في إخراج التقي من صلب
البغي ليكون منها الناصح المرشد والصابر الموجه المتحمل قسوتها والمفادي بنفسه
وماله لحفظها، والمقرب لودها وإن أصابه ما أصابه.(143/142)
المنتدى
الإنسان والبحث عن الحقيقة
طاهر عبد الله الثقفي
أن من متاعب الإنسان المخيفة تلك الوحدة التي تطل بهامتها في كل مكان
وزمان.
وكان الإنسان لا يأنس بشيء ولا يطمئن إلى شيء؛ فمع الوحدة تتمثل
مخاطر المجهول التي لا أول لها ولا أخر.
هرب الإنسان من هذه الوحدة إلى الوثنية باحثا عمن يملأ عليه ضعفه وعجزه
ويضيء له طريقه التي لا يملك منها خطوة واحدة، وكأنهم عاجزون عن المسير،
بينما الدرب تنطوي من تحت أقدامهم طوعا أو كرها، فما تراءى للإنسان لمعة قوة
إلا وق ود نفسه متذللا جاعلا عقله وقلبه أسيرين لتلك القوة التي سوف تنتشله ن
الخوف والجوع والمرض والحرمان، وكأنه طفل أوى إلى حضن أمه في ليلة
جوعت وبرد وخوف.
ولكن الوثنية أعلنت عجزها وظل الإنسان كما هو ذلك المفزوع المحروم يدور
في حلقة مفرغة، ومع ذلك فلم يعلن الوثنيون اعترافهم بهذا لعدم قدرتهم على
مصارحة أنفسهم بالإخفاق خوفا من انقطاع الأمل.
ولما لم يجدوا فيها من الهم فرجا كابروا ولم يعترفوا بالإخفاق؛ فسعوا بأيديهم
وأرجلهم إلى سن القوانين الوضعية لتكون مخرجا من ذا وذاك، وغيروا وبدلوا وما
زالوا.
اتخذوا من العنصرية والشعوبية والقومية سلما لإثبات الذات، ودعوا السيطرة
والتوسع في النفوذ والإقطاع والتسلطية هاجسهم ليل نهار.
تفننوا في العلوم والفنون والآداب، ومارسوا العمل دأبا، صغيرهم والكبير،
الذكر منهم والأنثى، حتى عبد العمل منهم من عبد. نادوا بالحرية والقضاء على
الفساد الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، والحفاظ على البيئة.
فالخطوات التي سار الإنسان بغير هدى من الله إنما هي إلى الوراء وقد زجت
بأجيال في غياهب الظلمات: [ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد
يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور] [النور: 40] ولكن [الله نور
السموات والأرض] [النور: 35] ، لا وثنية ولا شهوات ولا عنصرية ولا غيرها
يمكن أن يطمئن بها القلب ويأمن من الروع، ولكن فقط [بذكر الله تطمئن
القلوب] [الرعد: 28] .(143/143)
الورقة الاخيرة
الشوق الفاعل
عبد الهادي الحسيني
ذابل كغصون الخريف يقتلعُ خطاه من الأرض اقتلاعاً، تتبعثر نظراته في
ترقب من يُعيد الحياة لقلب الحياة، نقيٌ كشمس مكة، طاهرٌ كزمزمها، ومكة
غارقة في طوفان من الأوثان يحرسها ملأ يخاف منهم الخوفُ، وفي يوم جاشت
نفس الكهل المبصر بعصاه، فزفرت بتلك الأمنية العجيبة: (يا ليتني فيها جذعاً) !
تُرى لِمَ كل هذه اللهفة المؤرقة للعودة للوراء! ! ؟ لِمَ تلك الأشواق لوقت القوة
والعافية! ؟ أللذة؟ ! للمتعة! ؟ لاقتناص شيء من العبث الأحمر فاته؟ ! كلا، ولا
يحق لنا طرق مثل هذه التساؤلات؛ لأن أحرف الجملة أبت أن تختمها النقطة
(ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً
مؤزراً) [1] نعم! فما ورقة من اللهو، ولا اللهو منه! ! هزّه الشوقُ هزاً عنيفاً، فبعث فيه من الطموح والهمة وإرادة الخير والسعي لتحقيقه ما لم يكن له نظير، ... فتمنى أن يعود دولاب العمر للوراء، تمنى أن يسابق الزمن لنصرة دين جديد- قادم كالمستقبل - يتربص به الإجهاض، وإن لم يكن فالوأد في دروب مكة وخلف شجيراتها! حقاً لقد ارتقى ورقة رُقيًّا عجيباً حين طمع في نصرة دين في مجتمع تراقُ فيه الدماء عشرات السنين لأجل ناقة! فما بالك بمن يهدد الآلهة التي تُنحر لها عشرات النياق؟ ! وأي نصر؟ ! (مؤزراً) وهذا يكفي! (ثم لم ينشب ورقة أن تُوفي) [2] وطُوِيَ بساطُ عمره فجوزي بذياك الشوق والإيمان والتأييد، بالخلود في دار حملة المشاعل، و (لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو
جنتين) [3] .
وبعد تلك اللقطات العجلى من الأخبار الصحيحة يتحدد المسار وتتضح المعالم: فمما هو معلوم بداهة أن إتقان العمل وإنجازه يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بنوعية
النفسية المقبلة عليه؛ فماذا لو تعاملنا مع الدعوة إلى الله - تعالى - ليس على أنها
تبعة وحمل نلقيه عن كواهلنا، أو على أنها إعذار إلى ربنا؟ لا، لا ينبغي ذلك!
بل علينا أن نُقْبل عليها بنفسية المحب الشغوف للعمل، فنغلِّبُ عنصر الشوق
المجنح على تلك العناصر الأخرى فتكون نتيجة المعادلة: إحسان العمل وإنجازه
وإتقانه، بل البحث عن الأفضل دوماً، فتستهلك روح الشوق في الفاعلية واستغلال
الفرص ومضاعفة العطاء ولتصعيد الهمة والطموح، دون أن نجعل من ذياك الشوق
تصعيداً للعواطف، أو رفرفة في أحلام اليقظة بالنصر والتمكين تحوِّله إلى خَدَر
لذيذ! فما سبق عواطف جوفاء لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث! أو خروج تلك
العواطف والأشواق في قالب إنجاز لحظي وقتي عشوائي؛ فما كان نجاح الدعوة
أبداً فورة ولا وثبة كوثبة نار القش تَشِبُّ في لحظة وتخمد في أخرى! لا؛ فإن ذاك
غير مطلوب؛ بل المطلوب هو تحويل العواطف إلى عزيمة وهمة وطموح وثَّاب
يتغلب على الانكسارات النفسية التي يصدمنا بها الواقع، فتستبدل العواطف ببرامج
عمل واقعية مرسومة.
فلو تأملنا حال ورقة لوجدنا عجباً؛ فهو يعلم يقيناً أن المسألة مسألة بلاء،
وغربة، وعناء؛ ورغم ذلك كله نجد شوقه يسابق الزمن، وأتبع ذلك بأن وضّح
للنبي صلى الله عليه وسلم مَعْلَمَ طريقه حين قال: (إذ يخرجك قومك) فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (أوَ مخرجيَّ هم؟ قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به
إلا عودي) فإن لم يكن ثمة عمل في المستقبل فلا أقل من بعث الهمة وتوضيح
المسار للسالكين وإسداء النصح للمسترشدين.
والذي نحتاجه ليس البرود، ولا مشي السلحفاه، ولا حرق المراحل، والقفز
فوق المعطيات، إنما تقدير الأمور التقدير الصحيح؛ فالانطلاق - فقط - من تلهُّب
الإحساس بالواقع المرير للأمة دون منهج صحيح في التغيير في حد ذاته حرق
واستهلاك لخطوات الدعوة التقدمية ف (العاطفة ليست مرحلة من المراحل وإنما
هي مناخ نفسي وروحي يشحن الفعل الإسلامي في كل حين وينتشلها من مواقف
البلادة والجمود والتردد واللامبالاة ويمدُّها بالوقود اللازم - إن صح التعبير - الذي
يحرك كل طاقات البذل والعطاء وفعل الخير) [4] .
فوجود تلك الروح - روح الشوق للعمل - تجعل الداعية في حالة من التوتر
الحيوي الصحي الضروري للعمل، وتدفع من تتضرم في قلبه تلك الأحاسيس إلى
الإبداع، ومن ثم الابتكار في مجالات الدعوة.
ونهاية المطاف في هذا الشوق: أن نكون مدججين بآليات البناء الجاد والعطاء
المتقد، وفاعلية الشعور، ويقظة المشاعر!
وبعدُ - يا ملح الدنيا! هذه دعوة لكل من ذبلت أشواقه فغدت صفراء واهنة
مهترئة إلى أن يبدلها بأشواق خضراء كأشواق (ورقة) عسى أن يصاحبه في جنة
الخلد!
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الحيل باب التعبير، صحيح مسلم كتاب الإيمان، بدأ الوحي
(2) صحيح البخاري كتاب الحيل باب التعبير، صحيح مسلم كتاب الإيمان، بدأ الوحي.
(3) صحيح الجامع الصغير، 7197، والسلسلة الصحيحة، 405 وقال صحيح.
(4) تجديد الصحوة الإسلامية، جمال سلطان، ص71 72.(143/144)
شعبان - 1420هـ
ديسمبر - 1999م
(السنة: 14)(144/)
كلمة صغيرة
سياسة أمريكا العمياء
لم يعد سرا أن السياسة الأمريكية في جنوب آسيا ترتكز على التعامل مع الهند
باعتبارها حليفا استراتيجيا، والتعامل مع باكستان خادما ومنفذا للمشاريع الأمريكية
في المنطقة، وهذا يفسر الحساسية الشديدة لأي مشروع باكستاني يوصي بتحرير
كشمير أو يؤدي إليه. كانت المطالب والضغوط الأمريكية على باكستان لا تقيم أي
وزن للمصالح العليا الباكستانية أو كرامتها الوطنية. ولقد كان حرص رئيس
الوزراء السابق نواز شريف على البقاء في السلطة واعتقاده أهمية الغطاء الأمريكي
عاملا حاسما في تتابع أخطائه ومن ثم سقوطه.
وقد أحست أمريكا بعد أحداث كشمير الأخيرة أنها قد عرّت رئيس الوزراء
الباكستاني وأضعفته وتمادت في إثبات خضوعه لها؛ فبينما رفض رئيس وزراء
الهند السفر لأمريكا تم استدعاء نواز شريف إلى البيت الأبيض؛ حيث أجبر على
التسليم لمطالب الهند وطعن الجيش الباكستاني ومجاهدي كشمير من الخلف.
نعم سرعان ما أحست أمريكا أنها تمادت! ولهذا راحت تحذر الجيش من
القيام بأي انقلاب عسكري والإطاحة برئيس وزراء باكستان.
إن تصرفات أمريكا الهستيرية بعد الانقلاب وفرضها الحظر الدولى على
أفغانستان وفرض عقوبات أمريكية على باكستان - على الرغم من النقد الشديد في
الكونجرس للسياسة الأمريكية مع باكستان والاعتراف بتحيزها - يؤكد أن النظام
الجديد - أيا كان - لن يتلاءم مع المصالح الأمريكية، وهذا يعني بالتأكيد أنه أصلح
لشعب باكستان وادعى للتوازن في المنطقة.(144/1)
الافتتاحية
ومات الساعي الحثيث في إعلاء راية الحديث
شهد العام الحالي والذي قبله رحيل ثلة من أفاضل علماء الأمة ومتقدميها ممن
امتازوا بوصف العاملين الذين تلقى بصمات أيديهم في شتى بقاع الأرض وأطرافها
شاهدة لهم، مذكرة بهم، داعية الأجيال للسير على منوالهم.
فقد شهد عامنا هذا رحيل الشيخ العلاَّمة عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
وإخوانه الشيخ ابن غصون، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مصطفى الزرقا،
والشيخ عطية سالم، والشيخ مناع القطان - رحمهم الله - ثم تأتي وفاة الشيخ
العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - لتتوضح بعض ملامح ما نحن
مقبلون عليه من قَبْضِ العلم؛ فلم يكن في يوم من الأيام من يقين المسلمين إلا أن
العلم يرحل بحامليه؛ فقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حين قال: (إن
الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،
حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا
وأضلوا) [1] .
ومما يخفف من وطأة فَقْدِ أحدهم أن يكون قد ترك علماً تنتفع به الأمة فلا
ينقطع الوصل، ولا يخمد الود، ولا يتوقف العطاء؛ فقد أبلغ الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم أنه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [2] .
ولقد أودع الشيخ الوقور - رحمه الله - بيننا علماً جماً وتَرِكةً غالية ثمينة
وأثراً تؤكد مجرياته ومناحيه أنه زادٌ سوف يسير مع الأجيال القادمة - إن شاء الله - فقد كشف الشيخ عن مكنونٍ ثمين وسلعة غالية لعلها من أهم محرِّكات الصحوة الإسلامية الحاضرة؛ فقد نبه الشيخ - رحمه الله - إلى أهمية الأصل الثاني من أصول الدين وهو الحديث النبوي الشريف؛ ولا غرو في ذلك؛ فالسنة النبوية هي الشارحة للقرآن؛ فلا يفهم إلا من خلالها، ولا يُتوصل إلى مراميه إلا في سياقها؛ ولذلك كان اهتمام العلامة الألباني المبكر بالحديث الشريف وأخذه على عاتقه تصفيته من الشوائب وتعريف الأمة بصحيحه من سقيمه، كل ذلك من خلال تتبُّعه الدؤوب لما كتبه علماء الحديث على مر العصور، وكأنما أخذ ما أُنجِز خلال عمر الأمة من مؤلفات ومجلدات ووضعه أمامه وراح ينقب فيه ورقة ورقة وسطراً سطراً بل كلمة كلمة، حتى أخرج لأبناء أمته في شتى أقطارها وامتداد أمصارها أسفاراً فيها عبق النبوة وأنفاس السلف، منبهاً فيها إلى أساسَيْ نهضة الأمة التي لا تقوم إلا بهما وهما النيِّران الطيِّبان: كتاب الله - جل جلاله - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن نظر إلى ما قام به الشيخ - طيب الله ثراه - وعاد إلى ما كان عليه علم
الحديث في أوائل عصرنا الراهن من الإهمال والنسيان لم يجد مبالغة إذا اعتبرنا
الشيخ - رحمه الله - باعث علم الحديث في هذا العصر؛ فقد بقي كثير من العلماء
المعروفين - وحتى وقت قريب - لا يبالون من أين أتاهم الحديث؛ فالمهم عندهم
أن يُسبق الكلام بعبارة: (قال رسول الله) دون اهتمام بسند ولا متن؛ ما دام ما
اعتبره أحدهم حديثاً نبوياً مؤيداً لرأي أطلقه في بحثه أو على منبره أو في درسه أو
موعظته. ولكم حفظنا أحاديث من خلال بعض المؤلفات الحديثة والقديمة فلما
وقعت أيدينا على كتب الشيخ الألباني - رحمه الله - تبين لنا أن كثيراً مما حفظنا لم
يَعْدُ أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً مكذوباً؛ مما دفعنا إلى مراجعة ما نحفظ من حديث
والتأني في تناولها والتعامل معها قبل التحقق من صحتها وصدق نسبتها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم.
لقد أشاعت طريقة الشيخ الألباني - رحمه الله - في الباحثين روحاً جديدة في
البحث عن الدليل والسعي إلى التأصيل، حتى قاربت كتابة الإسلاميين أن تأخذ
منحيً أكاديمياً في طريقة تناول الشواهد الحديثية وغيرها من حيث عزوها والتأكد
من صحة نسبتها إلى قائلها ومصدرها، ولم يعد مقبولاً أن يورد الكاتب حديثاً دون
عزْوِه إلى مصدره، وصار في طلبة العلم من يتتبع إغفال بعض الكتاب والخطباء
والوعاظ لصحة ما يوردون من أحاديث.
وأصبح يندر اليوم أن تقف على كتاب يستشهد بالحديث أو رسالة جامعية في
علوم الإسلام إلا وللألباني فيها ذكر من تصحيح حديث أو تضعيفه، وأصبحت
تصانيفه أمهات في أبوابها، وغدا للشيخ تلامذة ومريدون في مشارق الأرض
ومغاربها، ولم يقتصر تأثيره على بلاد الشام التي نشأ فيها، ولا في بلاد الحرمين
التي مارس تدريس الحديث في جامعاتها وعاش طرفاً من حياته في ربوعها؛ ويكاد
يكون جُل طلبة علم الحديث اليوم في مختلف بلاد المسلمين ينتمون إلى مدرسة
الشيخ الألباني في التأصيل والاهتمام بالدليل.
ولقد امتاز - رحمه الله - بالدأب والصبر وكان لا يكل ولا يمل باحثاً منقباً،
أو كاتباً أو مولفاً أو مدرساً؛ فقد كان عالي الهمة يُقْبِل على بحثه إقبال المنهوم أو
من أُقِّتَ له إنجاز عمله فعمل راغباً في الأجر أو خائفاً من العقوبة. تعلَّم من والده
صنعة إصلاح الساعات التي يسرت له دخلاً مناسباً، وأغنته عن الوظيفة؛ إلا أنه
عندما بدأ الاهتمام بالحديث وعلومه اضطر إلى الاكتفاء من عمله بما يقوم بنفقاته
اليومية؛ فأصبح عمله اليومي في إصلاح الساعات لمدة ساعة أو ساعتين ينتقل
بعدها إلى جنته الدنيا (المكتبة الظاهرية) لينكبَّ على المخطوطات منقباً باحثاً دارساً، وتمتد به ساعات البحث لتصل أحياناً إلى خمس عشرة ساعة متواصلة ينسى معها
الأكل، ولا يقطعها سوى الصلاة أو غيرها من شيء ضروري.
ولقد أهَّله هذا الدأب والتحصيل الصالح لعلوم السنة أن ينال إجازة في الحديث
من علاَّمة حلب يومها الشيخ راغب الطباخ - رحمه الله - الذي تتلمذ عليه وأخذ
عنه. إلا أن الشيخ الألباني - رحمه الله - كان يُعَدُّ بحق عصامياً؛ فما عدا الشيخ
الطباخ لم يتلق الألباني العلم إلا عن والده - رحمه الله - الذي كان شيخاً أيضاً،
وما تلقاه على الشيخ سعيد البرهاني - رحمه الله -. ولكن مثابرته واجتهاده
وابتغاءه الحق في العلم ومهمته في بعث ما خمد من علوم الحديث، وحرصه على
نشره، وتنبيهه علماء الشام - وأكثرهم آنئذ من الصوفية - إلى ضرورة الاهتمام
بصحة الحديث ونفي زائفه والإعراض عن ضعيفه، كل ذلك جعله عالم عصرنا في
الحديث الشريف والسنة النبوية المطهرة؛ مما جعل علماء المسلمين المنصفين
الأوفياء للحق يشيرون إلى منزلته؛ ولا أدل على ذلك مما يروى من إشادة الشيخ
عبد العزيز بن باز - رحمه الله - به؛ حيث قال: (ما رأيت تحت أديم السماء
عالماً بالحديث في هذا العصر الحديث مثل العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني) .
ومما امتاز به الشيخ الألباني - رحمه الله - أنه كان متواضعاً كما ينبغي للعالم
أن يكون، ولا يتردد في قبول زيارة من يزوره، ولا يبخل ببذل العلم لطالبيه، ولم
يجعل بينه وبين الناس حاجباً، ولا تأخذه في الله ولا في ما يراه حقاً لومة لائم، ولم
يكن يتترس بحاكم ولا سلطان؛ فهاجر بدينه وعلمه وغادر مدرج طفولته وشبابه
وكهولته (دمشق) وجنة علمه (المكتبة الظاهرية) إلى أرض الله الرحبة التي أتاحت
له متابعة مهمته العلمية وفتحت الباب إليه ليزوره ويلتقي به العديد من المهتمين
بالإسلام من مختلف أصقاع الأرض.
وإن المرء ليعجب كيف أتيح لهذا الرائد الحصيف الجمع بين هذا الانفتاح
على الناس وبين الإنتاج العلمي الغزير؟ وما ذلك - كما يتراءى للمطلع على
سيرته أو جانب منها - إلا أن يدرك أن لدأبه وجده وصدق توجهه لخدمة الرسالة
المحمدية بحرص وأمانة أكبر الأثر في هذا النجاح الكبير في المهمة التي أخذ على
عاتقه القيام بها ألا وهي: (التصفية) ويعني بها قبل كل شيء: تصفية السنة
النبوية مما علق بها مما ليس منها. وبقيت الأخرى: (التربية) ويعني بها: تربية
الناس على التمسك بشرائع الإسلام، التي نأمل من الله أن يوفق تلامذته الذين كانوا
لصيقين به وتلقوا منه عن كثب أن يتابعوا الطريق التي رباهم عليها وعلى رأسها
ابتغاء وجه الله ونشدان الحق مهما كان وأين كان والصبر عليه؛ وعند ذلك يمكن
أن يتحقق تصوره - رحمه الله - للوسيلة التي كان يرى فيها صلاح الأمة.
وقد كان الشيخ - رحمه الله - حريصاً على تربية تلاميذه القريبين منه
والبعيدين عنه على الأخذ بمكارم الأخلاق وأرقى المعاملات؛ ومن ذلك أنه رباهم
على خلق الاعتراف بالخطأ والبعد عن المكابرة؛ فإذا اختلف اثنان منهم عمد
المخطئ إلى الاعتراف بخطئه والتلفظ بكلمة: (أخطأت) التي رباهم عليها، فتنطفئ
الفتنة ويُخزى الشيطان. أما هو - رحمه الله - فقد تجلى هذا الخلق في كتبه
ومؤلفاته، ولطالما تراجع عن رأي في حديث أو رأي علمي أثبته في أحد كتبه ثم
جاء في طبعة تالية ليخطِّئ نفسه فيه مثبتاً للصواب الذي تبدَّى له مذعناً للحق؛
فالحق أحق أن يُتَّبع، ولم يكن يجد غضاضة في التراجع عن خطأ علمي أو منهجي
ظهر له الصواب في غيره؛ وهذه سيما العلماء من الرعيل الأول، وما أكثر ما
يُقرأ لأحدهم أن هذا رأيه اللاحق وذاك رأيه السابق؛ فلقد علموا أن الرجوع عن
الخطأ ليس منقصة وإنما هو فضيلة لا يُحرَمها إلا مكابر معاند أو رجل تقوقع
الإيمان في قلبه؛ وخاصة إذا كانت المسألة مما يخص العقيدة ومما ينبغي تنزيه
الرسالة عنه فعند ذلك يصبح الرجوع عن الخطأ ديناً لا رأياً؛ فإن ذلك من الأمانة
الدينية والعلمية، وهذا دأب المحققين الأوفياء لدينهم الحريصين على إيصال كلمة
الحق إلى الناس خالصة من كل شائبة وعائبة.
ولكن قد يتساءل متسائل: ما الذي دفع الشيخَ للاهتمام بالسنة النبوية المطهرة
والذب عنها، ولم يكن في الناس حوله من يشغله ذلك أو يُعنى به؟ وفي هذا الصدد
يروي تلميذه فضيلة الشيخ محمد عيد عباسي - حفظه الله - السبب المباشر في ذلك، فيقول: (في أحد أعداد مجلة المنار قرأ للشيخ رشيد رضا - رحمه الله - مقالاً
عن كتاب (إحياء علوم الدين، للغزالي) يبين فيه كثيراً من محاسن الكتاب ومنها أنه
كتاب علمي وتربوي؛ إلا أنه يعيبه أمران:
1 - احتواؤه على شطحات صوفية.
2 - امتلاؤه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
وقد أشار الشيخ رشيد رضا إلى أن الحافظ العراقي قد بين أحوال الأحاديث
الواردة فيه من حيث الصحة أو الضعف أو الوضع.
ولقد لفت كلام الشيخ رشيد رضا انتباه الشيخ الألباني وأثار اهتمامه بالكتاب
وبمسألة تلك الشطحات والأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ فسارع إلى سوق المسكية
في دمشق وكان يُعدُّ شارع المكتبات؛ ليستأجر المجلد الأول من الكتاب؛ فلم يكن
بمقدور الشيخ الشاب أن يقتني الكتاب شراءاً وتملكاً، وأقبل على الكتاب قراءةً
وتفحصاً؛ إلا أن همه انصبَّ على الأحاديث الواردة فيه؛ فنقل إلى كراساته متون
الأحاديث وإلى جانب كل حديث تخريجات الحافظ العراقي وتعليقاته؛ حتى تشكَّل
له كتاب خالص محض للحديث كان مدرسته الأولى ومنهجه الذي لازمه طيلة
مسيرته العلمية التي حفَّزته على سلوك هذا السبيل المبارك بالإضافة إلى قراءاته
ومراجعاته المتعددة) .
ولقد كان الشيخ - رحمه الله دقيقاً في عمله أميناً في مهمته حريصاً على
صورة واضحة لعمله تمكِّن لطالب العلم الإفادة منها بيسر وسهولة؛ ولعل لمهنته في
إصلاح الساعات أثراً فيما صدر عنه من أعمال تميزت بالدقة والإحاطة والاستعداد
للتراجع عن الخطأ الذي يشبه من أحد وجوهه خطأ الساعة القابلة للإصلاح.
لم تتطاول الساعات الزمنية في عمر الشيخ - رحمه الله - ولم تتقزَّم؛ بل
بُورك له فيها لأنه كان حريصاً على إفنائها في مرضاة الله؛ فبورك له في وقته،
وهُيئت له سبل البحث مع استعصامها في ذلك الوقت على كثير من أبناء الأمة
وطلبة العلم.
ولطالما كان العلامة الشيخ الألباني - رحمه الله - المدافع القوي عن دين الله، والساعي الحثيث في إعلاء شأن الحديث.
وحين نتحدث عن الشيخ - رحمه الله - فإننا لا نتحدث عن معصوم وإنما عن
عالم بزَّ لِداته، وفاق أقرانه وتميز عنهم، واختط لنفسه ولغيره من بعده طريقاً رأى
فيها خدمة الدين علماً وعملاً، وأشاع في الأوساط العلمية نهجاً جديداً يستند إلى
التأصيل والرجوع إلى الدليل، وأبرز مكانة السنة النبوية الصحيحة وأثرها الحسن
في نهضة الأمة في شتى مناحيها الفكرية والعملية؛ كما فضح السنة المنحولة وحذر
من أثرها السيئ على الأمة، وكان مثلاً للعالم العامل المؤثِّر الذي يخالط الناس فلا
يستعلي على أحد منهم ولا يحتجب عنهم، ويفتح صدره وبيته للسائلين علماً يُنتفع
به يقربهم إلى الله، ويوطِّئ كنفه لكل طالب علم يرجو منفعة في دينه ودنياه.
رحم الله شيخ السنة والحديث، وجعله في عليين مع الأنبياء والشهداء
والصديقين؛ وحَسُن أولئك رفيقاً، وعوَّض الأمة أمثاله ومن هو خير منه، والحمد
وأولاً وآخراً، وإنا ووإنا إليه راجعون.(144/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التعريف بمنكري السنة النبوية
د. عبد المُهدي عبد القادر عبد الهادي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين،
سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين. وبعد:
فإن من عظمة الإسلام أن نصوصه خالدة، تحافظ على إنسانية الإنسان
وسموِّه، وتعالج مشاكل الحياة في كل زمان ومكان، فلا توجد مشكلة إلا ونصوص
القرآن الكريم، والسنة النبوية تحددها، وتصف الدواء لها، والدواء هنا شافٍ كافٍ.
ومن هنا فحينما نسمع الذين ينكرون السنة النبوية فإننا لا نستغرب. نعم! لا
نستغرب؛ بل إننا نزداد إعظاماً للإسلام، ولكتاب ربنا، وسنة نبينا؛ ذلك أن
القرآن الكريم قد بيّن أنه ستوجد طائفة لا تقبل الفكر المستقيم ولا الهَدْي القويم،
وإنما هي حريصة على الباطل والضلال، تتمسك به، وتدعو إليه، وتوهم الناس
أن القرآن الكريم يشهد لفكرها! !
كما أن السنة النبوية قد بينت أنه سيظهر من ينكر السنة، وأنه سَيَلُفُّون باطلهم
بثوب من القرآن الكريم، ليُعمُّوا على الناس، وليُضلوا أتباعهم.
إن إنكار السنة خطأ جسيم، إلا أنه لا يُخْشى على الإسلام منه؛ فشأن الإسلام
أن السهام توجه إليه، فتعود إلى صدر راميها، ويظل الإسلام عالياً، لا ينال منه
عدوه مهما كان.
حديث القرآن عن منكري السنة:
يقول الله - تعالى -: [وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما
يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم
مقترفون] [الأنعام: 112، 113] .
والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداءاً يخالفونك، ويعاندونك، جعلنا
لكل نبي من قبلك أيضاً أعداءاً، فلا يحزنك ذلك. إن شياطين الإنس والجن
يعاندون أهل الحق في كل زمان ومكان، يساعد بعضهم بعضاً بالقول المزوق،
وباللفظ المزخرف الذي يفتن به من لا يعرف حقيقة الأمر.
إن الله - سبحانه وتعالى - لو شاء لمنعهم من ذلك، لكنه - سبحانه - يتركهم
اختباراً وابتلاء لترتفع درجة الصادقين بثباتهم على الحق، فدعهم وما يكذبون،
دعهم وافتراءاتهم؛ فإن الله سيكفيكهم وسينصرك عليهم.
ثم يقول - سبحانه -: [ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة] أي
إن هذا الباطل الذي يتعاون في ابتكاره شياطين الإنس والجن، هذا الباطل ستميل
إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ليرضوه، أي: وسيقبلون عليه، يحبونه
ويريدونه وليقترفوا ما هم مقترفون أي: وليعملوا ما هم عاملون.
وهكذا تبين الآيتان الكريمتان أن هناك في الكون شياطين من الإنس والجن،
يتعاونون في إلباس الباطل ثوب الحق مزوقاً، يزخرفون القول، ويتظاهرون بالعلم، ويدّعون أنهم على الحق، ويحاولون الأخذ بيد الناس إلى ما هم عليه من الضلال، إلا أن باطلهم هذا لا يقبله إلا أمثالهم من أصحاب القلوب المريضة، والفِطَر
المنكوسة.
وفي الآيتين تحذير لكل مسلم من دعوة الضلال، ومن فكر الأبالسة الذين
يزينون القول، ويبهرجون المنطق [1] .
على كل مسلم أن يحذر، فليس كل فكر يقبل، وليس كل كلام مفيداً؛ إن الله
قال عن طائفة من الناس: [وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن
مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن
الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون]
[البقرة: 11 - 13] .
رفضوا أن يكون الإفساد صفة لهم فأثبته الله عليهم!
ووصفوا الصالحين بالسفه، فسجل الله السفه وصفاً لهم.
وفي آية أخرى يقول ربنا - تبارك وتعالى -: [وإن الشياطين ليوحون إلى
أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون] [الأنعام: 121] .
إن أتباع الشياطين تلقنهم شياطينهم الكثير من الأباطيل، يجادلون، ويُلبسون
الباطل ثوب الحق في إشهاره، ومن اتبع هؤلاء الضُّلاَّل فقد أشرك؛ فإن الحكم
والأمر والنهي إنما هو لله وحده، ومن اتبع غير حكم الله فقد أشرك [2] .
وها هو المختار بن أبي عبيد الثقفي [3] ، الكذاب الذي ادعى النبوة، ها هو
يدّعي أنه يوحى إليه، ويَبلُغ ذلك بعض الصحابة الكرام، فيصدقون أنه يُوحى إليه، لكنه يوحى إليه من الشياطين، ويقرءون هذه الآية: [وإن الشياطين ليوحون
إلى أوليائهم ليجادلوكم ... ] [الأنعام: 121] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه قيل له: إن المختار الثقفي يزعم أنه
يوحى إليه، فقال ابن عمر: صدق، ثم تلا الآية: [وإن الشياطين ليوحون
إلى أوليائهم ليجادلوكم ... ] [4] .
وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس،
وحج المختار بن أبي عبيد، فجاء رجل فقال: يا ابن عباس، زعم أبو إسحاق أنه
أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس: صدق. فنفرت، وقلت: يقول ابن عباس:
صدق! ؟ فقال ابن عباس: هما وحيان: وحي الله، ووحي الشيطان؛ فوحي الله - تعالى - إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ووحي الشياطين إلى أوليائهم، ثم قرأ: ... [وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ... ] [5] .
إن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - لم يستغربا أن يوحى إلى هذا
الكذاب، إلا أنه يوحى إليه من الشياطين، ونحن أيضاً لا نستغرب أن يدعي بعض
منكري السنة أنه نبي! ! فلقد ادعى رشاد خليفة أنه نبي، وكان اسمه محمد رشاد
خليفة، فحذف (محمد) من اسمه، وسمى نفسه رشاد خليفة، وحينما زاره أحمد
صبحي منصور في أمريكا اختلفا على ادعاء النبوة.
كما أننا لا نستغرب أن يدعي أحدهم أنه وحده القادر على تفسير القرآن الكريم!! فلقد ادعى د. محمد سعيد مشتهري، وهو حاصل على دكتوراه في الدراسات الاقتصادية، ادعى أنه ليس في طوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر القرآن، ولا في طوق أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ولا في طوق الطبري والقرطبي، ولا في طوق ابن كثير والألوسي، ليس في طوق هؤلاء وأمثالهم تفسير القرآن، وإنما هو وحده الذي يفسر القرآن الكريم!
كما أننا لا نستغرب أن يدعو بعضهم إلى ترك هَدْي رسول الله! فها هو
أحمد صبحي منصور، وعدد من أعضاء مركز ابن خلدون في القاهرة، وإسماعيل
منصور، وجمال البنا، ومحمد شبل، هؤلاء يدعون الناس للاقتداء بهم في فهم
الإسلام، بعيداً عن سنة رسول الله، وفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام!
إننا لا نستغرب من كل ذلك؛ فلقد أعلمنا ربنا ذلك في كتابه، فلا نستغرب
وإنما نحتاط ونحذر.
ويقول الله - تعالى -: [وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا
تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله
عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم
وإن الظالمين لفي شقاق بعيد] [الحج: 52، 53] .
والمعنى: أن الأنبياء والمرسلين يدعون الناس إلى صراط الله، وإن
الشياطين تعارض ذلك، فيدعون الناس إلى الضلال والردى، ولا يقبل ما تلقيه
الشياطين إلا المنافقون أصحاب القلوب المريضة، والكافرون أصحاب القلوب
القاسية، أما أهل الإيمان فيعلمون أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم
فإنما هو الحق، فيؤمنون به، وتطمئن له قلوبهم، والله يوفقهم إلى الصراط
المستقيم.
وهكذا تبين الآية بجلاء أن الشياطين أعداء الرسل، وأعداء الدين الحق،
وأعداء الدعاة إلى الله - تعالى - يعارضون دعوتهم، ويحاولون صرف الناس
عنهم، فيستجيب لهم المنافقون والكفار، ويقبلون ضلالهم. أما المؤمنون فهم
المتبعون لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله - تعالى -: [يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في
الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا
فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك
الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم]
[المائدة: 41] .
يقول الحافظ ابن كثير - في تفسير هذه الآية وما بعدها: نزلت هذه الآيات
الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين
آراءهم وأهواءهم على شرائع الله - عز وجل -: من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم
تؤمن قلوبهم أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، هم
المنافقون ومن الذين هادوا أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم سماعون للكذب أي:
مستجيبون له، منفعلون عنه سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي: يستجيبون لأقوام
آخرين، لا يأتون مجلسك يا محمد، أو أنهم يستمعون الكلام ويُنهونه إلى قوم
آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك يحرفون الكلم من بعد مواضعه أي:
يتأوّلونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون [6] .
تخبر الآيات الكريمات عن وجود أناس يقولون: آمنا، لكنهم يقولون ذلك
بأفواهم، أما قلوبهم فلم تؤمن؛ هؤلاء يحذر القرآن منهم؛ فهم لا يفهمون كلام الله
بقلوب خاشعة، وأفكار متزنة، وإنما دفعهم نفاقهم إلى تأوُّل كلام الله على غير
حقيقته، وأدّت بهم قساوة قلوبهم إلى حمل كلام الله على ما تميل إليه طباعهم
السقيمة.
أناس يحرصون على حمل الآيات القرآنية على غير معناها، همتهم التضليل، وغايتهم صرف الناس عن الإيمان بالله تعالى.
إنهم أناس قلوبهم مريضة، يُظهرون غير ما يبطنون، يبذلون الحيل لإقناع
الناس بباطلهم، ويتلوّنون لإضفاء القبول على باطلهم، يجتهدون في إذاعة أفكارهم، ويداومون على معاداة الحق الناطق بعكس ضلالتهم.
ويكفينا أن الله - تعالى - قد عَرّف بهم، وحذّر من طريقهم، ويكرر المسلم
فاتحة الكتاب الكريم في كل ركعة، داعياً ربه - جل جلاله -: [اهدنا الصراط
المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين]
[الفاتحة: 6، 7] .
إنه بقراءة هاتين الآيتين يقرر أن هناك طرقاً متعددة، منها: الصراط
المستقيم أي (الطريق القويم) وهو طريق الذين أنعم الله عليهم، ورضي عنهم.
وهناك طرق أخرى تختلف عنه تماماً، إنها طرق المغضوب عليهم، والضالين؛
أما المغضوب عليهم فهم الذين يعرفون الحق ويبتعدون عنه، وأما الضالون فهم
الذين لا يعرفون الحق ولا يتبعونه.
إن وجود هاتين الآيتين في سورة الفاتحة التي تُقرأ في كل ركعة دليل على
أهمية أن يعرف المسلم أن الطرق متعددة، والطريق السليم منها هو طريق
المرسلين، طريق الصالحين، أما غير هذه الطريق فإنها ليست موصلة إلى
رضوان الله، وإنما هي موصلة إلى غضب الله وسخطه.
ومن هنا فلا غرابة أن يظهر أناس ينكرون السنة النبوية. إن العيب فيهم،
والداء في قلوبهم، وقد عرّفَنا الله بهم أنهم يعادون الحق، ويكرهون الصدق، ومن
هنا يعادون القرآن والسنة، ويكرهون طريق المؤمنين، ويبغضون عباد الله
الصالحين، وقد قال الله - تعالى -: [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى. ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى. ونصله جهنم وساءت مصيرا]
[ {النساء: 115] .
الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن منكري السنة:
ومن ضلال هؤلاء المنحرفين عن صراط الله المستقيم إنكار السنة النبوية،
وهؤلاء أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيظهرون، وحذر منهم:
فعن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئا
على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري،
ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) [7] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين) أي: لا أجدن. وهذا نهي عن تلك
الحالة على سبيل المبالغة، و (أريكته) أي: سريره المزين بأنواع الزينات، وفيه
إشارة إلى أن إنكار الحديث إنما يأتي من المترفين، وهؤلاء شأنهم حب الشهوات،
وعدم المبالاة بأحكام الشريعة، وشأنهم أيضاً عدم الاهتمام بالعلم، إنه صلى الله
عليه وسلم ينهى عن هذه الحالة، يعني: حالة عدم قبول السنة، وترك العمل بها،
ينهى عن هذه الحالة نهياً شديداً واضحاً فيه الغضب منه صلى الله عليه وسلم على
من فعل هذا.
وعن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا
هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم
كتاب الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما
حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله) [8] .
إنه صلى الله عليه وسلم يبين أنه سيظهر من ينكر السنة النبوية، ويتعلل بأنه
يتبع القرآن، ثم يبين صلى الله عليه وسلم بأن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه
وسلم حكمه حكم ما حرمه الله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما حرمه إلا بأمر الله -
سبحانه وتعالى - وكذلك ما أحله؛ فإنه ما أحله إلا بأمر الله - تعالى - اكتفى بذكر
أحد المتقابلين عن الآخر.
إن إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه الحال عَلَمٌ من أعلام نبوته، ودليل من
أدلة وحي الله إليه وعصمته.
ولذا يورد البيهقي هذين الحديثين في كتابه (دلائل النبوة) تحت عنوان:
(باب ما جاء في إخباره بشبعان على أريكته يحتال في رد سنته بالحوالة على ما في
القرآن من الحلال والحرام دون السنة فكان كما أخبر، وبه ابتدع من ابتدع وظهر
الضرر) [9] .
السلف ومنكرو السنة:
ولقد تكلم السلف عن منكري السنة، وأبانوا أنهم ضلال، وأنهم ليسوا على
ملة الإسلام.
إنهم سيتركون الكثير من الدين، فسيتركون الصلاة وأحكامها، وسيعجزون
عن امتثال أمر الله - سبحانه -: [ ... وآتوا الزكاة ... ] [ {المزمل: 20] ،
وسيهجرون الكثير مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
يقول أيوب السختياني [10] : (إذا حدّثت الرجل بالسُّنَّة فقال: دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل) [11] .
قال الأوزاعي [12]- معلقاً على كلام أيوب السابق -: (يقول الله - تعالى -: [وما آتاكم الرسول فخذوه] [الحشر: 7] ، [من يطع الرسول فقد أطاع ...
الله] [النساء: 80] ويدعوه إلى تأويل القرآن برأيه) [13] !
وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: (من كفر بالرجْم فقد كفر
بالقرآن من حيث لا يحتسب) [14] .
وقال ابن حزم: (ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان
كافراً بإجماع الأمة) [15] .
وهكذا يتضح أن الله - تبارك وتعالى - بيّن لنا أن للحق أعداءاً، وأن للباطل
دعاة! !
وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الناس من سيتنكر لسنته صلى
الله عليه وسلم.
وثبت السلف على كتاب الله وسنة نبيه، وحكموا على من أنكر السنة
بالخروج عن الملة، وتعجبوا منهم: كيف لا يقبلون بيان القرآن من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ويقبلون بيانه من عند أنفسهم.
معلوماتي عن منكري السنة:
ظهر في هذه الآونة عدد من الحريصين على إنكار السنة، وعلى الرغم من
قلَّتهم إلا أنهم يكتبون كثيراً، ولقد حرصت على جمع معلومات عنهم، فكانت
صورتهم كما يأتي:
1 - ليسوا من علماء الإسلام: فليس هناك عالم من علماء الإسلام ينكر السنة، وإنما هم جميعاً يعرفون قدرها، ويعملون بها، أما منكرو السنة فإنهم ليسوا من
علماء الإسلام، ولم نعرف لهم مؤلفات في خدمة الدعوة الإسلامية، ولا في أي فرع
من فروع الدراسات الإسلامية.
بل إنهم بعيدون كل البعد عن ذلك؛ فمنهم من هو كاتب أمام محكمة، ومنهم
من دراسته في الهندسة، ومن دراسته في التجارة، ومن دراسته في الفلسفة، ومن
يعمل بالقانون، ومن كان يعمل في العسكر.
وباحترام التخصص فهؤلاء لا قيمة لرأيهم، بل كان الأحرى بهم أن لا يكتبوا؛ فإن كل عِلْم يؤخذ من أهله، يعرف ذلك كل عاقل.
ويبدو أنهم يُختارون بعناية؛ بحيث تتوافر فيهم صفات تُعَمِّي على المسلم
العامي، أو الذي لا يعرفهم؛ فهذا ابن شيخ كبير، وآخر شقيق داعية فاضل!
ويحملون ألقاباً تتفق مع ألقاب العلماء، فيكون أحدهم حاصلاً على دكتوراه في
علم غير علوم الإسلام، أو يحمل لقب أستاذ، فيلقب نفسه بـ (دكتور) أو ... (أستاذ) مما يجعل بعض الناس يظن أنه يحمل الدكتوراه أو الأستاذية في علوم الإسلام.
ولو أنصفت الجامعات لمنعت استعمال الألقاب العلمية إلا إذا كتب الأستاذ في
تخصصه.
وعليه فاستعمال (دكتور) أو (أستاذ) لا قيمة لها في مؤلفاتهم؛ فإنهم كتبوا في غير تخصصاتهم.
فكيف يقبل قول قسيس في القرآن والسنة؟
وكيف يُقبَل كلام مهندس لا يحفظ القرآن الكريم؟ كيف يُقبَل قوله في مسائل
في غاية الدقة في الإسلام؟
وكيف يقبل كلام رجل أمضى عمره في خدمة القوانين، ولم يُعرف عنه في
الإسلام علم ولا عمل كيف يقبل قوله حينما يعيب علماء الإسلام السابقين واللاحقين؟ إن عمله بالقانون لا علاقة له بالدراسات الإسلامية، اللهم إلا أنه زاده جرأة على
الحق، وتعالياً على الخلق، مع ما فيه من قدرة على الهمز واللمز، وحسبنا الله
ونعم الوكيل.
إن كتابة ألقاب كهذه نوع من التضليل، تنطق بكذبهم، وهي دليل كامل على
افترائهم وتزويرهم.
وليت أحدهم حينما كتب (دكتور) ، أو (أستاذ بجامعة كذا) كتب تخصصه
ليعرف الناس تخصصه، وليعرف الناس أنه لا علاقة له بالتخصص في العلوم
الإسلامية.
إن الألقاب لا تؤهل في حد ذاتها؛ فالأستاذ في الهندسة لا يستطيع أن يفتح
عيادة لاستقبال المرضى، ولو فعلها ما ذهب إليه عاقل، ولو ذهب إليه جاهل فإنه
يضره ولا ينفعه.
إن أنظمة الدنيا لا تسمح بفتح عيادة الأستاذ في الهندسة، ولا دكتور في
الاقتصاد، لكن لست أدري كيف يتكلم هؤلاء في دين الله؟ !
إن رجل القانون حسبه القانون. أما أن يذهب فيكتب في دين الله، ويعيب
الأئمة الأعلام فهذا ضلال، وبُعد عن الفكر السليم والمنهج القويم.
وفي هذه الأيام ظهرت ألقاب لا أصل لها، قُصِد بها التعمية على المسلمين
مثل: (الكاتب الإسلامي) ، و (المفكر الإسلامي) وهذه ليست مستنداً يؤهل للكتابة في أمور الدين.
أما لقب (صحفي) فتطاول به البعض لينتقد الصحابة الأخيار، والأئمة
الأبرار، فتحْت ستار عنوان: (كاتب صحفي) ينتقد أحدهم أئمة الإسلام الأجلاء
أمثال: الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، ولست أدري كيف صار لقب
(كاتب صحفي) مؤهِّلاً لأن ينصِّب صاحبه ناقداً وحكماً على فكر الأئمة الأخيار،
فيعترض على هذا، ويعيب هذا؟ بل غالى أحدهم فعاب الأمة بأسرها، وانتقد أهل
السنة والجماعة! !
ألا ليت كل إنسان يعرف قدره، ويخاف سيئاته ووزره! !
2 - في كتاباتهم تلبيس على غير المتخصص في السنة: فيوهمون القارئ
بأنهم سيتبعون (الأسلوب العلمي) و (الفكر الحر) و (النظر الثاقب) و (تحرير
المسائل) ، و (التدقيق في كل أمر) ، و (الحيدة) ، و (النزاهة) إلى غير ذلك من
الكلمات البراقة التي توهم القارئ أنهم سيحققون في المسائل تحقيقاً لم يسبقهم إليه
أحد.
وإنك لتعجب حينما تسمع لحامل دكتوراه في علوم التجارة يتحدث أنه لا
يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر القرآن، ولا أبو بكر الصديق،
ولا عمر الفاروق، ولا الطبري، ولا ابن كثير وإنما هذا الدكتور وحده هو الذي
يستطيع أن يفسر القرآن الكريم! !
سبحان الله! !
هل هذا فكر؟ هل هذا احترام التخصص؟
بل هل هذا عقل؟
أرجلُ التجارة يفسر القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفسره؟
وفي هذه الأيام ظهر نوع آخر من التلبيس؛ حيث يستعمل أصحابه النظريات
التي درسوها في كتاباتهم لتكون فوق أسلوب القارئ فيظن أنهم من العلماء، وأن
تفسيرهم للقرآن برأيهم له قيمته.
إلا أن هذا التلبيس وهذا الخداع لا ينطلي على من درس السنة النبوية، فإنه- بادئ ذي بدء - يتجلى له زيف كلامهم، وباطل مدعاهم.
3 - افتراءاتهم مزورة: إن أعداء الإسلام قديماً قد افتروا وكذبوا على الإسلام، فجاء منكرو السنة المعاصرون فأخذوا أقوال أعداء الإسلام السابقين، وراحوا
يرددونها على أنها طعنات للإسلام عامة، وللسنة خاصة، وينسبونها لأنفسهم زوراً، يدرك ذلك من قرأ كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي الذي أجاب فيه على فرية
إنكار السنة، والتي كانت قد ظهرت بمصر وهي جزء من الحملة المعادية للإسلام.
إن الفرية هي هي يرددها المعاصرون من منكري السنة، لم تتغير منذ زمن
الشافعي الذي عاش في القرن الثاني الهجري وتوفي سنة 204 هـ، ومن راجع
هذا الكتاب عرف الجواب.
ومن مصادر افتراءاتهم أيضاً أن يقرؤوا كتب أئمة الإسلام، فإذا صوَّر الأئمة
إشكالاً وأجابوا عليه أخذ هؤلاء الإشكال ورددوه في كتبهم، وقد تنكروا للجواب.
ومن زورهم أنهم يكذبون في إيراد الحقائق: قرأت لأحدهم خبراً نقله من
كتاب الإحكام لابن حزم مفاده: أن عمر بن الخطاب حبس ابن مسعود وأبا موسى
وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث، فلما راجعت الإحكام (ج 2، ص
249، 250 طبعة العاصمة) وجدت عجباً، وجدت ابن حزم ذكر الخبر وحكم
عليه بالكذب، فإذا بعَدوِّ السنة يأخذه ليستدل به [16] ! ! وهذا يدل على أنهم
يتعمدون الكذب في سبيل بلوغ غايتهم! !
4 - افترءاتهم لا تنطلي إلا على السذج: وافتراءات أعداء السنة هزيلة،
تزول بقراءة موضوعها في كتب السنة، شأنها شأن الافتراءات على الإسلام عموماً؛ فإنها لا تُقبل إلا عند من ليست عنده دراية، ولا فطانة.
أما الدارسون للإسلام، أو حتى من عندهم ذكاء ودربة فكرية فإن افتراءات
أعداء الإسلام لا تجد عندهم قبولاً.
فمثلاً: يكثرون الكلام عن كتابة السنة، ويقولون: إنها لم تدوّن إلا على
رأس المائة الأولى وإن علماً ظل مائة عام بدون كتابة لا بد أن يدخله الزيادة
والنقص.
هذا كلام ينطلي على من ليس عنده دراية بتاريخ السنة، وليس عنده دربة
فكرية.
أما من عنده مجرد دربة فكرية فإنه لا يقبله؛ إذ يقول - بادئ ذي بدء -: إن
السنة النبوية مصدر الإسلام مع القرآن الكريم فلا بد أن تحافظ عليها الأمة، وأمة
الإسلام بحمد الله كثيرة، والحفظ كان قوياً فلا بد أن السنة وجدت من يحفظها
ويصونها، ومحال أن تفرط الأمة في مصدر دينها.
أما الدارس لتاريخ السنة فيقول: نعم إن السنة لم تدون إلا على رأس المائة
الأولى الهجرية إلا أن هذا لا يفيد أنها لم تكتب طيلة هذا القرن؛ فالتدوين شيء
والكتابة شيء آخر.
فالتدوين: ترتيب المعلومات، بمعنى أن ترتب الأحاديث على موضوعاتها أو
بحسب الراوي الأعلى، وكل ديوان فمعناه الكتاب الذي رتبت مادته.
أما الكتابة فهي: مطلق خط الشيء [17] .
وعليه فقول العلماء: إن السنة لم تدون إلا على رأس المائة الأولى، معناه
أنه لم تظهر الكتب المرتبة، والمراجع المصنفة.
أما مطلق الكتابة - يعني دون ترتيب على الأبواب - فهذا موجود ومتوفر
للسنة في مجالس رسول الله؛ فلقد كتب صلى الله عليه وسلم كتباً وأرسلها إلى
حكام البلاد المجاورة، وكتب كتباً لعماله بيّن فيها الكثير من الأحكام، وكتب
الصحابة أمامه، وأقرهم صلى الله عليه وسلم، وأمر بالكتابة لبعضهم.
إن افتراءهم هذا يزول سريعاً أمام التعقل أو العلم، كما أن النور يزيل الظلام، والشمس تملأ الوجود ضياء.
5 - منهجهم مختل: لاحظت كثيراً على أعداء السنة اختلال منهجهم،
واعوجاج خطهم:
فتجدهم يطلبون الشيء من غير بابه، يدرسون الإسلام من كتب أعداء
الإسلام! !
إن دراسة الشيء كلما اقتربت من مصدره عظمت ووثق بها، وكلما بعدت
ضعفت وقلَّت الثقة بها، فمن أراد دراسة الإسلام فعليه بالقرآن والسنة وعلومهما؛
فالقرآن في قراءته من أهل الدراية بقراءات القرآن، وفي فهمه من علماء التفسير
الذين جمعوا علوماً متعددة حتى استطاعوا أن يفسروا القرآن الكريم، والسنة تؤخذ
من علمائها: إنْ درايةً فمن علماء الدراية الذين يعرفون كلمات كل حديث، بل
وحروف كل حديث، وإن روايةً فمن علماء الرواية الذين يعرفون روايات كل
حديث، ومعنى كل حديث، وما يستفاد من الحديث.
هذا هو المنهج السليم، أما أعداء السنة فهم عكس ذلك تماماً، لا يقرؤون
كتب أئمة الإسلام، وإنما يقرؤون الإسلام من خلال كتب أعدائه! !
وتجد فكر الواحد منهم في أول الكتاب يختلف عنه في آخر الكتاب. قرأت
كتاباً لأحدهم ففي أول الكتاب أنكر السنة تماماً، وفي وسط الكتاب يثني على أئمة
السنة، ويعترف بقدرهم! !
أما دراسة المسائل فحدِّث عن اعتلال منهجهم فيها ولا حرج.
فيقول: هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دليل لهم على
الخصوصية.
ويخصصون آية بدون مخصص، ويخطئون في فهم النصوص، وينكرون
حجية الإجماع.
يفترون العلل للآيات، لتفسر في ضوء ما افتروه، ويعلقون الحكم على شيء
ثم يلغون المعلق عليه؛ يتضح هذا كثيراً لمن قرأ كتبهم.
وجهلهم بأصول الكتابة والتأليف واضح، فيقتبسون من تعليق ويعزونه إلى
الكتاب والأصل.
ويسوقون الدعوى والدليل، إلا أن الدليل لا يؤيد الدعوى! !
ويسوقون الدعوى ولا دليل! !
ويسوقون الدعوى والدليل ضدها! !
والخروج عن وقار العلم شائع فيهم، فما بين تجريح ودس، وما بين وقيعة
وخبث.
لا يعرفون أدب طالب العلم ولا أخلاق العلماء، بل إن بينهم وبين ذلك بوناً
شاسعاً.
6- ليسوا طلاب حق: أعداء السنة ليسوا طلاب حق، وإنما هم مقيمون على
عداء السنة والكيد لأهلها، يرددون فكرهم كأنهم ببغاوات، مهما أقمت لهم من حجج
وبراهين لا يقبلون، جُندوا لذلك وعليه حريصون. ناقشت أحدهم رجاء أن يتضح
له الحق، لكنه على الرغم من وضوح الحق باعتراف الحاضرين لم يُسلِّم، وإنما
أصر على باطله، وظهر منه أنه لا يستطيع إلا ذلك فأعرضت عنه.
يجعلون فكرهم هو الأساس وله تُطوى كل الحقائق، وتُقصف أعناق
النصوص.
فإذا كان المجال مجال اللغة فلا يهمه ماذا تقول كتب اللغة، وإنما المهم أن
يفسر الشيء حسبما يقتضيه فكره.
وإذا كان المجال مجال حكم شرعي فليس يعنيه أن يرجع إلى كتب الفقه،
وإنما يعنيه أول ما يعنيه أن يفرض باطله، وإن خالف الكثير من النصوص.
قرأت لأحدهم أنه إذا كانت الآية: [للذكر مثل حظ الأنثيين]
[النساء: 11] . أي أن الولد يرث ضعف البنت لما عليه من مسؤوليات تجاه الكثيرين من أم وأخوات، وخالات وعمات.
قرأت لأحدهم يقول: إن الولد الذكر يرث 66. 6 بحد أقصى، والبنت ترث
33. 6 بحد أدنى.
ولست أدري من أين جاء بحد أقصى في الذكر وبحد أدنى في البنت! !
ثم راح يقول: ويجوز لنا أن نقربهما من بعضهما فلو أعطينا الذكر 60%
والبنت 40% فهذا جائز.
إن المهم عنده مخالفة الآية والأحاديث التي في الموضوع.
ولو كان طالب حق لقال بما قرره الله - سبحانه وتعالى - ثم قال به علماء
الإسلام على مر التاريخ: للذكر ضعف ما للبنت.
وآخر منهم يقول: نترك هذه الآية: [للذكر مثل حظ الأنثيين]
[النساء: 11] . ونأخذ بالآية الأخرى: [للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا] [النساء: 7] . يقول: فنسوي بين الذكر والأنثى في الميراث، وأتعجب من هذا الفهم، أنترك الآيات التي حددت الأنصبة: [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما. ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ... ] [النساء: 11، 12] .
إننا نلاحظ أن الآيات حددت الأنصبة بدقة وبشروط فكيف نعرض عنها إلى
الآية التي أثبتت أصل الميراث؟ أيُّ فهم هذا؟ !
[للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك
الوالدان والأقربون] [النساء: 7] . على فهم هذا الخارج عن سبيل المؤمنين
يصبح كل الرجال وكل النساء سواسية في الميراث من الأبوين والأقربين! ! فيرث
الابنُ كما يرث ابن الأخ، كما يرث ابنُ الأخت كل على درجة سواء! وترث
البنتُ عن أمها كما يرث خالها كما ترث خالتها كما ترث بنتُ خالتها فهل هذا يعقل؟ أترث البنت من أمها كما ترث بنت خالتها؟
إن هؤلاء يريدون إخراج الأمة من دينها بكل حيلة! !
وصدق الله العظيم إذ يقول: [ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو
يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم
والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون] [الصف: 7 - 9] .
7 - مصادر بحوثهم مصطنعة: ومنكرو السنة يكتبون ويضعون لكتاباتهم
مصادر، إلا أنه يلاحظ أن مصادرهم لا تُوثِّق بحوثهم؛ بل تشهد بخطئها:
فما قيمة كتاب يأخذون منه ويعتبرونه مصدراً لدراساتهم الإسلامية بينما
مؤلف هذا الكتاب غير مسلم؟ ! !
وما قيمة كتاب كتبه عدو للإسلام؟
وما قيمة كتاب كتبه إنسان لا يعرف الإنصاف؟
إن الكثير من مصادرهم لمستشرقين، من النصارى، واليهود.
وكثير منها لفرق تُحسب على الإسلام ظلماً.
وكثير منها لمؤلفين معروفين بالضلال والزيغ.
ومنكرو السنة في هذه الآونة جعلوا من أنفسهم مصادر لهم؛ فهذا يأخذ عن
هذا وهذا وهذا، وذاك يأخذ عن هذا وهذا وهذا، وهكذا يؤيد كل منهم كلامه بكلام
أمثاله، وهم جميعاً لا قيمة لكلامهم من المنظور الشرعي؛ فليس كل من تكلم يُقبل
كلامه، ولا كل من كتب تقبل كتابته، وإنما يقبل علم التقي الورع الملتزم بالقرآن
والسنة الذي يشهد له علماء الأمة بالاستقامة والفضل قال الله - تعالى -: [يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما
فعلتم نادمين] [الحجرات: 6] .
وأجد مصادر لهم مؤلفها حُكم بردته وكثير من مصادرهم حكم علماء الإسلام
بضلال مؤلفيها، وهم - منكري السنة - يقبلون على هذه المصادر بكل حرص،
مما أفقد مؤلفاتهم وزنها، وأبان عوار كتبهم وزيفها، وأظهر بطلان أفكارهم
وضلالها.
وختاماً: فأسأل الله الكريم أن يشرح صدري وصدور القراء، وأن يكون من
خلال هذا البحث قد اتضح أنه لا غرابة في ظهور من ينكر السنة، ويعادي الإسلام؛ فلقد بيّن ربنا ذلك في كتابه، وحذّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وفهِمَ
السلف مسلك هؤلاء فخالفوهم وحذّروا منهم.
إن وجودهم ليس مشكلة، بل ربما كان نفعاً للإسلام وللمسلمين؛ فالإسلام هو
الدين الحق، نصوصه ثابتة، وأحكامه واضحة، وأهله يثقون به، وإنما وجود
هؤلاء يجعل أهل الإسلام يدرسونه أكثر، ويتمسكون به أعظم، وما أشبههم إلا
بالتطعيم الذي يقدم للناس تحصيناً لهم، وحرصاً على سلامتهم.
ومسلك المؤمن تجاه هؤلاء أن يعتز بدينه، وأن يتعلمه، حتى لا يقبل شبهة،
ولا تنطلي عليه حيلة، فإذا لم يستطع الرد على شبهة فلا ينزعج، وإنما ليقدمها إلى
أحد العلماء، فإنه يرد عليها سريعاً.
وهناك كتب تحصن المسلم ضد شبه هؤلاء، أذكر منها:
1- السنة المحمدية لمحمد بن نصر المروزي.
2- السنة النبوية: مكانتها وعوامل بقائها وتدوينها، د. عبد المُهدي عبد
القادر.
3- الحديث والمحدثون، د. محمد أبو زهو.
4- حجية السنة، د. عبد الغني عبد الخالق.
5- المدخل إلى السنن الكبرى، للحافظ البيهقي.
6- دراسات في علوم الحديث والمحدثين، د محمد علي العمري.
7- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي.
8- المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المُهدي عبد القادر.
9- مختصر الصواعق المرسلة، للإمام ابن قيم الجوزية.
10- دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، د. الأعظمي.
11- دلائل التوثيق المبكر للسنة النبوية، د. امتياز أحمد.
12- الموافقات للشاطبي.
وهذه الكتب موجودة في المكتبات الإسلامية، فإذا لم تستطع الحصول عليها
فاسأل العلماء أو طلاب العلم فإنهم سيرشدونك إلى هذه المكتبات.
إن الإسلام دين فوق الشبهة، وأصالة علومه تستولي على العقل المنصف،
ولا يمكن لأعداء الإسلام أن يشككوا المسلم إلا إذا كان يجهل دينه، فإذا تعلمتَ
الإسلام، وعملتَ بما فيه من عقائد وأحكام، فأنت ضد هذه الشبهات، وأنت تردها
بسهولة بتوفيق الله - تعالى -.
جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ورزقنا الحسنى وزيادة،
وختم لنا بالخير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
والتابعين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير، 2/166.
(2) راجع تفسير ابن كثير، 2/170.
(3) ترجمته في سير أعلام النبلاء، 3/538.
(4) تفسير ابن أبي حاتم، 4/1379، رقم 7840، 7841.
(5) تفسير ابن أبي حاتم، 4/1379، رقم 7840، 7841.
(6) تفسير ابن كثير، 2/58.
(7) أخرجه أبو داود في السنة، باب في لزوم السنة 12/356، وأخرجه الترمذي في العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، 7/424، وأخرجه ابن حبان في المقدمة باب الاعتصام بالسنة، 1/190، وأخرجه الحاكم 1/108، والخطيب في الفقيه، 1/262، والآجري في الشريعة، 1/177 - 179.
(8) أخرجه الأئمة في تخريج الحديث السابق.
(9) دلائل النبوة، ج6، ص 549.
(10) أيوب بن كيسان السختياني إمام كبير من أئمة الإسلام الأوائل، رأى أنس بن مالك وحفظ كثيرا مع الدين والورع، قال عنه الإمام مالك: (كان من العالمين العاملين الخاشعين) توفي سنة 131، تهذيب التهذيب، 1/397.
(11) الكفاية، ص 49.
(12) عبد الرحمن بن عمرو الشامي، شيخ الإمام مالك وشعبة والثوري فقيه الشام، ومن كبار المحدثين وكان أفضل أهل زمانه علماً وعملاً، توفي سنة 158، تهذيب التهذيب 6/240.
(13) الكفاية ص 349.
(14) أخرجه الحاكم في الحدود باب من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن، 4/ 359.
(15) الإحكام، 2/80.
(16) فصلت القول في هذا في بحث نشر في مجلة منبر الإسلام العدد 11 لسنة 54، 11 / 1407 هـ، 7/ 1987، ص 41 العمود الأول.
(17) راجع كتابي (السنة النبوية مكانتها وعوامل بقائها وتدوينها) راجع فيه باب (كتابة السنة وتدوينها وتصنيفها) ص 93 فقد أعطيت هذا الموضوع شيئا من حقه.(144/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تدبر القرآن.. لماذا وكيف؟
إبراهيم بن عبد الرحمن التركي
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله. ...
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً. وعلى ذلك سار سائر السلف. ومع ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك، (وقد أنزل الله القرآن وأمرنا
بتدبره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره) [1] .
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده؛ ففي ذلك أجر كبير؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر. ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة
وسيرة السلف الصالح.
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم: (تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله) [2] .
وقيل في معناه: (هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة) [3] .
أولاً: منزلة التدبر في القرآن الكريم:
1- قال الله - تعالى -: [كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب] [ص: 29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
قال الحسن البصري: (والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل) [4] .
2- قال - تعالى -: [أفلا يتدبرون القرآن....] [النساء: 82] .
قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون
القرآن) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب.
3- قال - تعالى -: [الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك
يؤمنون به] [البقرة: 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: (والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله) [6] .
وقال الشوكاني: (يتلونه: يعملون بما فيه) [7] ولا يكون العمل به إلا بعد
العلم والتدبر.
4 - قال - تعالى -: [ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم
إلا يظنون] [البقرة: 78] .
قال الشوكاني: (وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر) [8] ، وقال ابن القيم: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) [9] .
5 - قال الله - تعالى -: [وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا] [الفرقان: 30] .
قال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) [10] .
وقال ابن القيم: (هجر القرآن أنواع ... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه) [11] .
ثانياً: ما ورد في السنة في مسألة التدبر:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن
عنده) [12] .
فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر.
أما واقعنا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه -: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ) [13] .
فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
3 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها: [إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم] ) [المائدة: 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة.
4 - عن ابن مسعود قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن: تلازم
العلم والمعنى والعمل؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به.
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: (لا يفقه من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة.
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - (أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال: يا فلان! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري. ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول:
لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما
ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت
قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه) .
ثالثاً: ما ورد عن السلف في مسألة التدبر:
1 - روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه
التدبر.
2 - عن ابن عباس قال: (قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس
فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه!
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي -
ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال
عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها) [18] ، وقد وقع ما خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: (كان الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به) [19] .
4 - قال الحسن البصري: (إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ! والله! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً: (نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: (يا قوم! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.
7 - عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً) [23] .
8 - قال ابن القيم: (ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز
السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع
العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز
له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره
بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه
كلما فترت عزماته: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ
الرحيلَ) .
فاعتصم بالله واستعن به وقل: (حسبي الله ونعم الوكيل) [24] .
وحتى نتدبر القرآن فعلينا:
1- مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة.
3- الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة.
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها.
5- ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
8- النظرة الكلية الشاملة للقرآن.
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
10- الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
11- معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه.
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة.
13- العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛
فالمعاني تتجدد.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة.
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد
الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي،
وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني،
وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد: فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ؟
ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، خاصة دروس
التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟
تُرى: ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد: هل هي في رأس
القائمة، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟
لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك؟
ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر؟ أسئلة تبحث
عن إجابة؛ فهل نجدها لديك؟
__________
(1) حول التربية والتعليم، د عبد الكريم بكار، ص 226.
(2) نضرة النعيم، ص 909.
(3) قواعد التدبر الأمثل للميداني، ص 10.
(4) تفسير ابن كثير، 7/64، ط: طيبة.
(5) تفسير ابن كثير، 3/364، ط: طيبة.
(6) تفسير ابن كثير، 1/403.
(7) فتح القدير، 1/135.
(8) فتح القدير، 1/104.
(9) بدائع التفسير، 1/300.
(10) تفسير ابن كثير 6/108.
(11) بدائع التفسير 2/292.
(12) رواه مسلم، ح/2699.
(13) رواه مسلم، ح /772.
(14) رواه أحمد، ح /20365.
(15) رواه الطبري في تفسيره، 1/80.
(16) رواه الدارمي والترمذي برقم 2870، وصححه ورواه أحمد وأبو داود بلفظ: لم يفقه.
(17) نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/35/أ.
(18) نزهة الفضلاء، تهذيب سير أعلام النبلاء، 1/279.
(19) الجامع لأحكام القرآن، 1/39-40 وانظر مجلة المجتمع عدد 1216.
(20) الزهد 276 وانظر مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي، ص 46.
(21) مدارج السالكين، 1/485.
(22) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، 2/582.
(23) الزهد لابن المبارك، 97، وانظر نضرة النعيم، 913.
(24) مدارج السالكين، ج1، ص 485، 486.
(25) انظر كتاب مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي، ص 66.(144/20)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أعياد الكفار وموقف المسلم منها
إبراهيم بن محمد الحقيل
في الحلقة الأولى: تحدث الكاتب عن معرفة المسلم لأعياد الكفار، ثم عرض
لبعض هذه الأعياد عند: الفراعنة، واليونان، والرومان، واليهود، والنصارى.
وفي هذه الحلقة يستكمل بقية الموضوع من خلال عناصره.
- البيان-
تشبه المسلمين بالكفار في أعيادهم:
تعريف التشبه:
الشبه في اللغة المثل، وشابهه وأشبهه: ماثله وتشبه فلان بكذا وتشبه بغيره:
ماثله وجاراه في العمل. والتشبيه: التمثيل. وفي اللغة ألفاظ مقاربة للفظ التشبه،
منها: المماثلة، والمحاكاة والمشاكلة، والاتباع، والموافقة، والتأسي، والتقليد [1] ، ولكل منها معنى يخصه، ولها اشتراك مع لفظ التشبه.
وأما في الاصطلاح فعرّف الغزي الشافعي التشبه بأنه: عبارة عن محاولة
الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته وهو عبارة
عن تكلّف ذلك وتقصده وتعمله [2] .
حكم التشبه بالكفار:
إن من الأصول العظيمة التي هي من أصول ديننا الولاء للإسلام وأهله،
والبراءة من الكفر وأهله، ومن مُحتِّمات تلك البراءة من الكفر وأهله تميز المسلم
عن أهل الكفر، واعتزازه بدينه وفخره بإسلامه مهما كانت أحوال الكفار قوة وتقدماً
وحضارة، ومهما كانت أحوال المسلمين ضعفاً وتخلفاً وتفرقاً، ولا يجوز بحال من
الأحوال أن تتخذ قوة الكفار وضعف المسلمين ذريعة لتقليدهم ومسوغاً للتشبه بهم
كما يدعو إلى ذلك المنافقون والمنهزمون؛ ذلك أن النصوص التي حرمت التشبه
بالكفار ونهت عن تقليدهم لم تفرق بين حال الضعف والقوة؛ لأن المسلم باستطاعته
التميز بدينه والفخر بإسلامه حتى في حال ضعفه وتأخره.
والاعتزاز بالإسلام والفخر به دعا إليه ربنا - تبارك وتعالى - واعتبره من
أحسن القول وأحسن الفخر؛ حيث قال: [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله
وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين] [فصلت: 33] .
ولأهمية تميز المسلم عن الكافر أُمر المسلم أن يدعو الله - تعالى - في كل
يوم على الأقل سبع عشرة مرة أن يجنبه طريق الكافرين ويهديه الصراط المستقيم:
[اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين] [الفاتحة: 6 - 7] ، وجاءت النصوص الكثيرة جداً من الكتاب والسنة
تنهى عن التشبه بهم، وتبين أنهم في ضلال؛ فمن قلدهم فقد قلدهم في ضلالهم.
قال الله - تعالى -: [ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء
الذين لا يعلمون] [الجاثية: 18] ، وقال تعالى: [ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما
جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق] [الرعد: 37] وقال تعالى: ... [ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات] [آل عمران: 105]
ويدعو الله - تعالى - المؤمنين إلى الخشوع عند ذكره - سبحانه - وتلاوة آياته،
ثم يقول: [ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم
وكثير منهم فاسقون] [الحديد: 16] .
وما من شك أن مشابهتهم من أعظم الدلائل على مودتهم ومحبتهم، وهذا
يناقض البراءة من الكفر وأهله، والله - تعالى - نهى المؤمنين عن مودتهم
وموالاتهم، وجعل موالاتهم سبباً لأن يكون المرء - والعياذ بالله - منهم؛ يقول ... الله - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم] [المائدة: 51] ، وقال - تعالى -: [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] [المجادلة: 22] ، يقول شيخ الإسلام ابن ... تيمية - رحمه الله تعالى -: (المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر) [3] ، وقال - أيضاً - تعليقاً على آية المجادلة: فأخبر - سبحانه - أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً؛ فمن واد الكفار فليس بمؤمن؛ والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة [4] ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) [5] .
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم
وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: [ومن يتولهم منكم
فإنه منهم] ) [المائدة: 51] [6] .
وقال الصنعاني: (فإذا تشبه بالكافر في زيٍّ واعتقد أن يكون بذلك مثله كَفَر،
فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال يكفر، وهو ظاهر الحديث،
ومنهم من قال: لا يكفر؛ ولكن يؤدب) [7] .
ويذكر شيخ الإسلام: (أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر
والمعاصي التشبه بالكافرين، كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء
وشرائعهم) [8] .
والحديث عن التشبه بالكفار يطول؛ ولعل فيما سبق إيراده من نصوص
ونُقُول يفي بالغرض المقصود.
صور التشبه بالكفار في أعيادهم:
للكفار على اختلاف مللهم ونحلهم أعياد متنوعة: منها ما هو ديني - من
أساس دينهم أو مما أحدثوه فيه - وكثير من أعيادهم ما هو إلا من قبيل العادات
والمناسبات التي أحدثوا الأعياد من أجلها، كالأعياد القومية ونحوها، ويمكن حصر
أنواع أعيادهم فيما يلي:
أولاً: الأعياد الدينية التي يتقربون بها إلى الله - تعالى - كعيد الغطاس
والفصح والفطير، وعيد ميلاد المسيح - عليه السلام - ونحوها، ومشابهة المسلم
لهم فيها تكون من وجهين:
1 - مشاركتهم في تلك الأعياد، كما لو احتفلت بعض الطوائف والأقليات
غير المسلمة في بلاد المسلمين بعيدها فشاركهم فيها بعض المسلمين، كما حدث في
وقت شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي، وهو ما يحدث الآن في كثير من بلاد
المسلمين، وأقبح منه ما يفعله بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار بقصد
حضور تلك الأعياد والمشاركة في احتفالاتها، سواء أكانت دوافع هذا الحضور
شهوانية أم كانت من قبيل إجابة دعوة بعض الكفار كما يفعله بعض المسلمين
الحالِّين في بلاد الكفار من إجابة تلك الدعوات الاحتفالية بأعيادهم، وكما يفعله
بعض أصحاب رؤوس الأموال ومُلاك بعض الشركات الكبرى من إجابة تلك
الدعوات مجاملة لأصحاب الدعوة أو لمصلحة دنيوية؛ كعقد صفقات تجارية، ونحو
ذلك؛ فهذا كله محرم ويخشى أن يؤدي إلى الكفر لحديث (من تشبه بقوم فهو منهم)
وفاعل ذلك قصد المشاركة فيما هو من شعائر دينهم.
2 - نقل احتفالاتهم إلى بلاد المسلمين؛ فمن حضر أعياد الكفار في بلادهم
وأعجبته احتفالاتهم مع جهله وضعف إيمانه وقلة علمه، فقد يجعله ذلك ينقل شيئاً
من تلك الأعياد والشعائر إلى بلاد المسلمين كما يحصل الآن في أكثر بلاد المسلمين
من الاحتفال برأس السنة الميلادية، وهذا الصنف أقبح من الصنف السابق من وجه
وهو نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين؛ حيث لم يكتف أصحابه بمشاركة الكفار
في شعائرهم؛ بل يريدون نقلها إلى بلاد المسلمين.
ثانياً: الأعياد التي كان أصلها من شعائر الكفار، ثم تحولت إلى عادات
واحتفالات عالمية وذلك مثل الأعياد الأولمبية عند اليونان (الأولمبياد) حيث تظهر
في هذا العصر على أنها مجرد تظاهرات رياضية عالمية، والمشاركة فيها تكون
على وجهين أيضاً:
1 - حضور تنظيماتها ومراسمها وشعائرها في بلاد الكفار كما تفعله كثير من
الدول الإسلامية من إيفاد وفود رياضية للمشاركة في ألعابها المختلفة.
2 - نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين كما لو طلبت بعض الدول الإسلامية
تنظيم الألعاب الأولمبية في بلاد المسلمين.
وكلا الأمرين: المشاركة فيها، أو تنظيمها محرم في بلاد المسلمين لما يلي:
أ- أن أصل هذه الألعاب الأولمبية عيد وثني من أعياد اليونان كما سبق ذكره، وهو أهم وأعظم عيد عند الأمة اليونانية، ثم ورثه عنهم الرومان، ثم النصارى.
ب - أنها تحمل الاسم ذاته الذي عرفت به لما كانت عيداً لليونان.
وكونها تحولت إلى مجرد ألعاب رياضية لا يلغي كونها عيداً وثنياً؛ باعتبار
أصلها واسمها؛ والدليل على ذلك ما رواه ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -
قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا،
قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن
آدم) [9] .
فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الأصل، وأصل هذه الدورة الرياضية عيد.
قال شيخ الإسلام: (وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح
بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام وحسن
الاستفصال، ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو
لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك؛ إذ ليس إلا
مكان الفعل أو الفعل نفسه أو زمانه ... ، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً
فكيف عيدهم نفسه؟) [10] .
ومسألتنا هنا في عيد الأولمبياد ليست في زمان العيد أو مكانه، بل هو العيد
عينه على أصل تسميته وما يجري فيه من أعمال، كإشعال الشعلة الأولمبية، وهي
شعار العيد، وهو زمانه أيضاً؛ لأنه عند اليونان يقام كل أربع سنوات، وكذلك هو
الآن يقام كل أربع سنوات؛ فهو عيد بأصله وتسميته وأعماله وزمانه؛ فالاشتراك
فيه اشتراك في عيد وثني ثم نصراني، وطلب تنظيم تلك الألعاب الأولمبية في بلاد
المسلمين هو نقل لذلك العيد الوثني إلى بلاد المسلمين.
ثالثاً: الأيام والأسابيع التي ابتدعها الكفار وهي على قسمين:
1 - ما كان له أصل ديني عندهم ثم تحول إلى عادة يرتبط بها مصلحة
دنيوية، وذلك مثل عيد العمال الذي أحدثه عُبَّاد الشجر، ثم صار عيداً وثنياً عند
الرومان، ثم انتقل إلى الفرنسيين وارتبط بالكنيسة إلى أن جاءت الاشتراكية فنادت
به، وأصبح عالمياً ورسمياً حتى في كثير من الدول الإسلامية؛ فلا شك في حرمة
اتخاذه عيداً وتعطيل الأعمال فيه لما يلي:
أ - كونه عيداً دينياً وثنياً في أصل نشأته.
ب - ثبوته في يوم من السنة معلوم وهو الأول من مايو.
ج - علة التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم.
2 - أن لا يكون له أصل ديني، كيوم الصحة العالمي؛ ويوم مكافحة
المخدرات، ويوم محو الأمية، ونحوها من الأيام والأسابيع المحدثة؛ فلا يخلو
حينئذ من أحد حالين:
أ - أن يكون يوماً أو أسبوعاً ثابتاً معلوماً من السنة للعالم كله، يعود إذا عاد
ذلك اليوم بعينه وذلك كعيد البنوك وما شابهه من الأيام الثابتة وهذا فيه علتان:
كونه ثابتاً يعود كلما عاد ذلك اليوم بعينه.
علة التشبه بالكفار؛ حيث هو من إحداثهم.
وهل يتسامح في الأيام التنظيمية العالمية التي فيها خير للإنسانية كلها، ولا
مفر للمسلمين من مشاركة العالم فيها؛ إذ لهم مصالح تفوت بعدم المشاركة كيوم
الصحة العالمي ويوم مكافحة المخدرات، وهي ليست من باب الديانات بل هي من
قبيل التنظيمات وإن أخذت صفات العيد في كونها تعود كل عام وفي كونها محل
احتفال واحتفاء؟ هذا فيما يظهر لي محل بحث واجتهاد تُقَدَّر فيه المصالح والمفاسد؛ إذ لا مشورة للمسلمين فيها ولا اعتبار لرأيهم؛ بل هي مفروضة على العالم كله،
والمسلمون من الضعف والذلة بما يُعلم.
ب - أن لا يكون يوماً أو أسبوعاً ثابتاً في السنة وإنما متنقل حسب تنظيم
معين أو مصلحة ما، فهذا انتفت عنه علة العيد وهي العَوْد في يوم محدد، ولكن
بقيت فيه علة التشبه فيما إذا كان مبتدعه الكفار ثم نقله عنهم المسلمون، فهل ذلك
من التشبه المحرم؟ أم هو من التشبه الحلال فيكون كسائر التنظيمات الإدارية
ونحوها وكأيام الجرد السنوية بالنسبة للشركات والمؤسسات ونحوها؟ هذا أيضاً
محل بحث ونظر، وإن كان الظاهر لي ابتداءاً أنه لا بأس بها لما يلي:
- عدم ثباتها في أيام معينة تعود كلما عادت؛ فانتفت عنها صفة العيد.
- أنها لا تسمى أعياداً ولا تأخذ صفة الأعياد من حيث الاحتفال ونحوه.
- أن الهدف منها تنظيم حملات توعية وإرشاد لتحقيق أهداف نافعة.
- أنه يلزم من منعها منع كثير من التنظيمات والاجتماعات التي تعود بين
حين وآخر، ولا أظن أحداً يقول بهذا؛ وذلك مثل الاجتماعات الأسرية والدعوية
والوظيفية ونحوها.
- ليس فيها علة تحرمها إلا كون أصلها من الكفار وانتقلت إلى المسلمين،
وعَمَّت بها البلوى وانتشرت عند الكفار وغيرهم، فانتفت عنها خصوصية الكفار
بها بانتشارها بين المسلمين.
والخلاصة: أنها ليست من دين الكفار ومعتقداتهم، وليست من خصائص
عاداتهم وأعرافهم، ولا تعظيم فيها ولا احتفال، وليست أعياداً في أيام معلومة تعود
كلما عادت فأشبهت سائر التنظيمات على ما فيها من مصلحة راجحة.
رابعاً: من صور التشبه بالكفار قلب أعياد المسلمين إلى ما يشبه أعياد الكفار: فإن أعياد المسلمين تميزت بكون شعائرها تدل على شكر الله - تعالى - وتعظيمه
وحمده وطاعته، مع الفرح بنعمة الله - تعالى - وعدم تسخير هذه النعمة في
المعصية، وعلى العكس من ذلك أعياد الكفار فإنها تميزت بأنها تعظيم لشعائرهم
الباطلة وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله - تعالى - مع الانغماس في الشهوات
المحرمة، ومع بالغ الأسف فإن المسلمين في كثير من الأقطار تشبهوا بالكفار في
ذلك، فقلبوا مواسم عيدهم من مواسم طاعة وشكر إلى مواسم معصية وكفر للنعمة
وذلك بإحياء ليالي العيدين بالمعازف والغناء والفجور وإقامة الحفلات المختلطة وما
إلى ذلك مما يعبرون به عن بهجة العيد، على غرار ما يفعله الكفار في أعيادهم من
فجور ومعصية.
وجوب اجتناب أعياد الكفار:
أ - اجتناب حضورها:
اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها؛ وهو
مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة [11] لأدلة كثيرة جداً منها:
1 - جميع الأدلة الواردة في النهي عن التشبه وقد سبق ذكر طرف منها.
2 - الإجماع المنعقد في عهد الصحابة والتابعين على عدم حضورها؛ ودليل
الإجماع من وجهين:
أ - أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية
يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم
لم يكن على عهد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام
المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً عن ذلك لوقع ذلك كثيراً؛ إذ الفعل مع وجود
مقتضيه وعدم منافيه واقعٌ لا محالة، والمقتضي واقع، فعلم وجود المانع؛ والمانع
هنا هو الدين، فعلم أن الدين - دين الإسلام - هو المانع من الموافقة وهو
المطلوب [12] .
ب - ما جاء في شروط عمر - رضي الله عنه - التي اتفق عليها الصحابة
وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار
الإسلام: فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين
فعلها؛ أوَ ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟ [13] .
3 - قول عمر - رضي الله عنه -: (لا تَعَلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا
على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم) [14] .
4 - قول عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: (من بنى ببلاد الأعاجم
فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم
القيامة) [15] .
قال شيخ الإسلام: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة
عليهم يوم عيدهم؛ فكيف بفعل بعض أفعالهم، أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟
أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أوَ ليس عمل بعض أعمال
عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم
عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه؛ أليس قد تعرض لعقوبة
ذلك؟ [16] .
وعلق على قول عبد الله بن عمرو: (حشر معهم) فقال: وهذا يقتضي أنه
جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار
وإن كان الأول ظاهر لفظه [17] .
ب - اجتناب موافقتهم في أفعالهم:
قد لا يتسنى لبعض المسلمين حضور أعياد الكفار لكنه يفعل مثل ما يفعلون
فيها، وهذا من التشبه المذموم المحرم. قال شيخ الإسلام: (لا يحل للمسلمين أن
يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا
إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة
ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان
ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة: ليس لهم أن
يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر
الأيام) [18] .
وقال الذهبي: (فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا
يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم) [19] .
وذكر ابن التركماني الحنفي جملة مما يفعله بعض المسلمين في أعياد
النصارى من توسع النفقة وإخراج العيال، ثم قال عقب ذلك: (قال بعض علماء
الحنفية: من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب فهو كافر مثلهم، وقال بعض أصحاب مالك: من كسر يوم النيروز بطيخة فكأنما ذبح خنزيراً) [20] .
ج - اجتناب المراكب التي يركبونها لحضور أعيادهم:
قال مالك: (يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم
لنزول السخطة واللعنة عليهم) [21] .
وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى
أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه [22] .
د - عدم الإهداء لهم أو إعانتهم على عيدهم ببيع أو شراء:
قال أبو حفص الحنفي: (من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد
كفر بالله - تعالى -) [23] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكره ابن القاسم للمسلم يهدي للنصارى شيئاً
في عيدهم مكافأة لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم؛ ألا
ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم؟ لا لحماً
ولا إداماً ولا ثوباً ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيءٍ من عيدهم؛ لأن ذلك من
تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن
ذلك، وهو قول مالك وغيره: لم أعلمه اختلف فيه) [24] .
وقال ابن التركماني: (فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ
وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم) [25] .
هـ - عدم إعانة المسلم المتشبه بهم في عيدهم على تشبهه:
قال شيخ الإسلام: (وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم المتشبه
بهم في ذلك؛ بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب
دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر
الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته؛ خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها
على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم
في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر) [26] .
هـ - عدم تهنئتهم بعيدهم:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به
فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ
بهذا العيد ونحوه؛ فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن
يهنئه بسجوده للصليب؛ بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب
الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرْج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده
يقع في ذلك، وهو لا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر
فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة
الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنباً لمقت الله
وسقوطهم من عينه) . ا. هـ[27] .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن
القيم؛ لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم، وإن كان هو
لا يرضى بهذا الكفر لنفسه؛ لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو
يهنئ بها غيره؛ لأن الله - تعالى - لا يرضى بذلك كما قال - تعالى -: [إن
تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم]
[الزمر: 7] وقال - تعالى -: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينا] [المائدة: 3] وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا
مشاركين للشخص في العمل أم لا، وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك؛
لأنها ليست بأعياد لنا ولأنها أعياد لا يرضاها الله - تعالى - لأنها إما مبتدعة في
دينهم وإما مشروعة؛ لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله
عليه وسلم إلى جميع الخلق، وقال فيه: [ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين] [آل عمران: 85] ، وإجابة المسلم دعوتهم
بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم به لما في ذلك من مشاركتهم فيها،
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءاً أو لغير ذلك من
الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم
بدينهم [28] .
مسألة: لو أراد المسلم أن يحتفل مثل احتفالهم لكنه قدّم ذلك أو أخره عن أيام
عيدهم فراراً من المشابهة؟
هذا نوع من التشبه وهو حرام؛ لأن حريم الشيء يدخل فيه، وحريم العيد ما
قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله أو ما حوله من الأمكنة التي
يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا
يفعل شيء من ذلك؛ فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم
كيوم الخميس [29] والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع أو
الشهر الآخر وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة [30] .
هـ - اجتناب استعمال تسمياتهم ومصطلحاتهم التعبدية:
إذا كانت الرطانة لغير حاجة مما يُنهى عنه لعلة التشبه بهم فاستخدام تسميات
أعيادهم أو مصطلحات شعائرهم مما هو أوْلى في النهي عنه، وذلك مثل استخدام
لفظ (المهرجان) على كل تجمع كبير وهو اسم لعيد ديني عند الفرس.
فقد روى البيهقي: (أن علياً - رضي الله عنه - أُتي بهدية النيروز، فقال:
ما هذه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا يوم النيروز، قال: فاصنعوا كل يوم
فيروزاً، قال أبو أسامة: كره - رضي الله عنه - أن يقول: نيروزاً) [31] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما علي - رضي الله عنه - فكره موافقتهم
في اسم يوم العيد الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل) [32] . وقد مضى
بيان أن هذا اللفظ ليس بعربي، وفي العربية ما يغني عنه وما هو خير منه.
و حكم قبول هديتهم في أعيادهم:
تقرر سابقاً أن الإهداء لهم في عيدهم لا يجوز؛ لأنه من إعانتهم على باطلهم، وأيضاً عدم جواز هدية المسلم المتشبه بهم في عيدهم؛ لأن قبولها إعانة له في
تشبهه وإقرارٌ له وعدمُ إنكارٍ عليه الوقوع في هذا الفعل المحرم.
وأما قبول هدية الكافر إذا أهدى للمسلم في وقت عيد الكافر فهو مثل الهدية في
غيره؛ لأنه ليس فيه إعانة على كفرهم، والمسألة فيها خلاف وتفصيل ينبني على
مسألة قبول هدية الكافر الحربي والذمي.
علماً بأن هديتهم على نوعين:
1 - ما كان من غير اللحوم التي ذبحت لأجل عيدهم كالحلوى والفاكهة
ونحوها فهذا فيه الخلاف المبني على مسألة قبول هدية الكافر عموماً، والظاهر
الجواز، لما مضى أن علياً - رضي الله عنه - قبلها، ولما ورد أن امرأة سألت
عائشة - رضي الله عنها - قالت: (إن لنا أطياراً من المجوس؛ وإنه يكون لهم
في العيد فيهدون لنا، فقالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من
أشجارهم) [33] .
وعن أبي برزة - رضي الله عنه -: (أنه كان له سكان مجوس، فكانوا
يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما
كان غير ذلك فردوه) [34] .
قال شيخ الإسلام: (فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول
هديتهم؛ بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر
كفرهم) [35] .
2 - أن تكون هديتهم من اللحوم المذبوحة لأجل عيدهم فلا يأكل منها؛ لأثَرَيْ
عائشة وأبي برزة السابق ذكرهما، ولأنه ذبح على شعائر الكفر.
ز - تخصيص أعياد الكفار بالصيام مخالفة لهم:
اختلف العلماء في ذلك:
1 - فقيل بعدم كراهة صيام أعيادهم لأجل مخالفتهم وهذا ضعيف.
2 - والصواب عدم جواز تخصيص أعيادهم بالصيام؛ لأن أعيادهم موضع
تعظيمهم فتخصيصها بالصيام دون غيرها موافقة لهم في تعظيمها.
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: (وقال أصحابنا: ويُكره إفراد يوم
النيروز ويوم المهرجان بالصوم؛ لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما
بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكُرِهَ كيوم السبت؛ وعلى قياس هذا
كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم) [36] .
(وهذا الحكم فيما إذا قصد تخصيصه بالصوم؛ لأنه عيدهم. أما لو وافق
نذراً أو صيام تطوع أو نحوه من دون قصد موافقة عيدهم فلا بأس به) [37] .
وضابط مخالفتهم في أعيادهم: أن لا يُحدِث فيها أمراً أصلاً، بل يجعل أيام
أعيادهم كسائر الأيام [38] ، فلا يعطل فيها عن العمل، ولا يفرح بها ولا يخصها
بصيام أو حزن أو غير ذلك.
وذكر شيخ الإسلام ما يمكن أن يضبط به التشبه فقال - رحمه الله تعالى -: ... (والتشبه: يعم مَن فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل
لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء
واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه؛ ففي كون هذا تشبهاً
نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من
المخالفة) [39] .
وبناءاً على ما ذكره شيخ الإسلام فإن موافقتهم فيما يفعلون على قسمين:
1 - تشبه بهم وهو ما كان للمتشبه فيه قصد التشبه لأي غرض كان وهو
المحرم.
2 - مشابهة لهم وهي ما تكون بلا قصد، لكن يُبين لصاحبها وينكر عليه،
فإن انتهى وإلا وقع في التشبه المحرم، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي
الله عنهما -: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال:
(إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) وفي رواية فقال: (أأمك أمرتك بهذا؟) قلت:
أغسلهما؟ قال: (بل احرقهما) [40] .
قال القرطبي: (يدل على أن علة النهي عن لبسهما التشبه بالكفار) [41] .
فظاهر الحديث أن عبد الله - رضي الله عنه - لم يعلم بأنه يشبه لباس الكفار، ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن له الحكم الشرعي في ذلك.
هذا إذا كان أصل الشيء من الكفار، أما إذا لم يعلم أنه من أصلهم؛ بل
يفعلونه ويفعله غيرهم، فكأنه لا يكون تشبهاً؛ لكن يرى شيخ الإسلام ابن تيمية
النهي عنه سداً للذريعة وحماية للمسلم من الوقوع في التشبه، ولما فيه من قصد
مخالفتهم.
المنافقون وأعياد الكفار:
1 - طالب حزب البعث الاشتراكي في إحدى الدول العربية بإلغاء الأضحية
بحجة الجوع والجفاف، ووضع دعاته لافتة كبيرة مكتوباً عليها: من أجل الجوعى
والفقراء والعراة تبرع بقيمة خروف الأضحية [42] ، ومضى عيد الأضحى بسلام
وضحى المسلمون في ذلك البلد، ثم لما أزف عيد الميلاد وعيد رأس السنة بدأت
الاستعدادات للاحتفالات، ثم جاء الميلاد ورأس السنة فكانت العطلات الرسمية في
ذلك البلد والحفلات الباهظة والسهرات الماجنة، وفي مقدمة المحتفلين قادة حزب
البعث الاشتراكي الذين أنستهم الفرحة بأعياد النصارى ومجونها حال الجوعى
والفقراء والعراة؛ فهم لا يتذكرون أحوالهم إلا في أعياد المسلمين! !
2 - كتب أحدهم في زاويته الأسبوعية تحت عنوان (تسامح) [43] كلاماً
ينبئ عن مرض قلبه وضعف دينه، وهذا التسامح الذي يريده كان بمناسبة عيدي
الميلاد ورأس السنة النصرانييْن فكان مما قال هذا المتفيقه المتحذلق: (فهذه الأخوة
الإنسانية تعم البشر جميعاً ولا تكون التفرقة والمعاداة إلا عند الاقتتال وحين يناوئ
جماعة المسلمين جماعة أخرى عندئذ تكون المقاتلة والعداوة للدفاع المشروع عن
النفس رغم أن بعض المتشددين والجماعات الإرهابية تحاول إطفاء هذا الوهج
بإشاعة تفاسير وآراء تحض على الكراهية بين البشر ومقاطعة العالم، يضجون بها
في المناسبات العامة التي يحتفي بها العالم جميعه ويعتبرون تهنئة الآخرين بها
جنوحاً عن الإسلام؛ والصواب - لعمري - هو إشاعة المحبة لا البغض والتقريب
لا التنفير) ويمضي الكاتب في سلسلته التسامحية المتميعة المنهزمة والتي امتدت
على ثلاث حلقات لتغطي جميع أيام العيدين النصرانيين الذي أشرب قلبه حبهما
فيقول في الثانية منهما: (فالأصل هو البر أي التسامح والعدل؛ أما العداوة فهي
على الذين أعلنوا القتال علينا. أما الاختلاف في الأديان فالأمر فيه لعدل الله
ورحمته يوم القيامة، والقول بأن ذلك التسامح موالاة لغير المسلمين فقد ردّ عليه
العلماء بقولهم: إن الممنوع هو موالاة المحاربين للمسلمين في حرب معلنة فيكون
حينئذ خيانة عظمى، ولا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم واتخاذهم بطانة يفضي
إليهم بالأسرار) .
فهل هذا الكلام إلا عين الضلال، والشك في الإسلام، وتصحيح كفر الكفار؟ ! والعياذ بالله من ذلك.
ثم في حلقته الثالثة يكيل التهم الرخيصة المستهلكة من الإرهاب والتطرف
وسفك الدماء على كل من لم يوافقه على فقهه الصحفي، كما هي عادة هذه الذئاب
المتفرنجة في افتتاحيات مقالاتهم وخاتمتها.
وما كنت أظن أن الحال بالأمة سيصل إلى هذا الحد المخزي، ولا أن التبعية
والانهزام سيصير إلى هذا الأثر المخجل، ولكن ماذا كنا نتوقع ما دام أن كثيراً من
المنابر الإعلامية والصحفية يتربع عليها أمثال هؤلاء الموتورين المهووسين، وإلى
الله المشتكى من أمة يقرر ولاءَها وبراءها ويرسم طريقها ومنهجها عبر الإعلام
والصحافة أناسٌ ما تخرجوا إلا من الملاحق الفنية والرياضية، جلُّ ثقافتهم أسماء
الممثلات والمغنيات والراقصات والرياضيين.
ثم يا ترى ماذا سيكتبون بعد أسابيع عن احتفالات نهاية الألفية الميلادية الثانية
التي توشك على الانتهاء؟ !
إنهم وكالمعتاد سيدعون جماهير المسلمين إلى المشاركة فيها حتى لا يتهم
الإسلام بالرجعية والظلامية، ولكي يثبتوا للعالم أنهم متحضرون بما فيه الكفاية حتى
يرضى عنهم عباد الصليب وعباد العجل، والويل ثم الويل لمن أنكر مشاركة
المسلمين في تلك الاحتفالات العالمية الألفية، إنه سيتهم بالأصولية والتطرف
والإرهاب وسفك الدماء.
ولن تعدم من منهزميهم فتاوى معممة جاهزة بجواز المشاركة، يتلقفها
صحفيون يكذبون عليها ألف كذبة لإقناع المسلمين أن الإسلام بلغ من تسامحه
وأريحيته إجازة المشاركة في شعائر الكفر؛ حتى لا نجرح مشاعر الكفار، ونكدر
عليهم صفو احتفالاتهم التي كانت خاتمة لقرن شهد دماءاً إسلامية غزيرة نزفت في
أرجاء المعمورة بأيدي اليهود والنصارى في حروب عقائدية دينية غير متكافئة،
وما أنباء كوسوفا عن تلك الاحتفالات ببعيدة؛ إذ هي في آخر عام من تلك الألفية
النصرانية المتسامحة! !
__________
(1) انظر مادة (شبه) في القاموس (1610) ومعجم مقاييس اللغة (3/ 243) واللسان (13/503) .
(2) انظر: التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، لجميل اللويحق (32-34) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/488) .
(4) المصدر السابق (1/490) .
(5) أخرجه أبو داود في اللباس (4021) وأحمد (2/50) وجود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/240) وانظر الفتاوى (25/331) وعضده الحافظ في الفتح بمرسل حسن الإسناد (6/98) وحسنه السيوطي وصححه الألباني في صحيح الجامع (6025) .
(6) الاقتضاء (1/237) .
(7) سبل السلام (8/248) .
(8) الاقتضاء (1/314) دروس الدين: اختفاء معالمه.
(9) أخرجه أبو داود في الإيمان والنذور (3313) وفي رواية أخرى أن السائلة امرأة (3312) وأخرجه الطبراني في الكبير (1341) قال شيخ الإسلام: وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة، انظر الاقتضاء (1/436) وصححه الحافظ في البلوغ (1405) .
(10) الاقتضاء (1/433) .
(11) انظر الاقتضاء (2/524) وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/722- 725) والتشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي (335) .
(12) الاقتضاء (1/454) .
(13) المصدر السابق (1/454) .
(14) مصنف عبد الرازق (1609) والسنن الكبرى للبيهقي (9/234) .
(15) السنن الكبرى (9/234) وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 457) .
(16) الاقتضاء (1/458) .
(17) الاقتضاء (1/459) .
(18) مجموع الفتاوى (25/329) .
(19) تشبيه الخسيس بأهل الخميس، ضمن مجلة الحكمة، عدد (4) ، ص 193.
(20) اللمع في الحوادث والبدع (1/294) .
(21) السابق.
(22) الاقتضاء (2/526) .
(23) فتح الباري بابن حجر العسقلاني (2/513) .
(24) الاقتضاء (2/526-527) .
(25) اللمع في الحوادث (1/294) .
(26) الاقتضاء (2/519 - 520) .
(27) أحكام أهل الذمة (1/441-442) .
(28) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين - جمع وترتيب فهد السلمان (3/45-46) .
(29) المقصود بالخميس هنا خميس العهد أو الصعود وهو من ضمن شعائر عيد القيامة (الفصح) عند النصارى ويسمونه الخميس الكبير.
(30) انظر: الاقتضاء (2/513) .
(31) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/235) .
(32) انظر: الاقتضاء (1/459) .
(33) أخرجه ابن أبي شيبه في كتاب الأطعمة من مصنفه (5/125) برقم.
(24361) وفي الاقتضاء (إن لنا آظارا) وهو جمع ظئر قال محقق الاقتضاء: ولعل المقصود به الأقارب من الرضاعة.
(34) المصدر السابق برقم (24362) .
(35) الاقتضاء (2/554-555) .
(36) المغني (4/429) وانظر الاقتضاء (2/579) .
(37) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (3/460) .
(38) انظر: الاقتضاء (2/518) .
(39) الاقتضاء (1/242) .
(40) أخرج الروايتين مسلم في اللباس والزينة (2077) .
(41) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/399) .
(42) انظر مجلة الاستجابة عدد (4) ربيع الثاني 1406هـ.
(43) انظر صحيفة عكاظ (28/8/1418هـ) (5/9/1418هـ) (12/9/1418 هـ) .(144/24)
تأملات دعوية
من صور التهرب من المسؤولية
محمد بن عبد الله الدويش
مما لا شك فيه أن التطلع للصدارة والبحث عن المسؤولية أمر ذمه الشرع
ونهى عنه، وهو دليل على نوع من الهوى في نفس صاحبه، أو إفراط في ثقته
بنفسه واعتماده عليها؛ لذا فهو حين يفعل ذلك يُوكَل إلى نفسه، كما قال صلى الله
عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير
مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك
وائت الذي هو خير) [1] .
وكان صلى الله عليه وسلم في سيرته العملية يتجنب تولية الذين يبدو منهم
حرص على الولاية أو يسألونها؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دخلت
على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا
رسول الله! وقال الآخر مثله، فقال: (إنا لا نولِّي هذا من سأله ولا من حرص
عليه) [2] .
وأخبر أن الأمة ستحرص عليها وأنها ستكون خزياً وندامة، فقال: (إنكم
ستحرصون على الإمارة؛ وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة، وبئست
الفاطمة) [3] .
لذا دأب الصالحون والمخلصون على البعد عن تولي المسؤوليات والولايات
لما يعلمون من أنها مغرم لا مغنم، وهذا أمارة خير بإذن الله - عز وجل - لكن
بعض الناس قد يمتد الأمر لديه فيؤدي إلى وقوعه في محظور آخر.
وكثيراً ما يحجم بعض الصالحين عن تولي المسؤوليات والأعباء الدعوية،
ودافعهم إلى ذلك الورع والبعد عن الشهرة - نحسبهم كذلك والله حسيبهم - وهو
مسلك حسن.
لكنه يتحول عند بعضهم إلى سلوك يسيطر عليه، فيعتذر عن تولي أي
مسؤولية أو القيام بها، ويظن أن هذا أسلم له وأنه يعفيه من التبعة، وليس الأمر
كذلك؛ فلو أنه جلس قعيد بيته، واشتغل بشأنه الخاص أتراه يسلم من التبعة
والأمانة؟
إن مسؤولية حمل الدين وتبليغه أمانة شرعية حمَّلها الله - تبارك وتعالى -
عباده؛ فقد أوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعله مع الإيمان
مناط خيرية هذه الأمة. ويرد في مواطن كثيرة ضمن صفات المؤمنين أنهم يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الإيمان
أن ينكر المرء المنكر بقلبه، وأنه ليس وراء ذلك حبة خردل.
ومن يتأمل واقع الأمة اليوم وغلبة الجهل، وفشوَّ المنكرات، وبُعْدَ الناس عن
الدين فإنه لا يشك أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد غدا
فرض عين على كل مسلم قادر، فضلاً عمن آتاه الله شيئاً من العلم والوعي
والبصيرة.
وثمة أمر آخر هو أن كثيراً من هذه المسؤوليات والأعمال التي يحجم عنها
هؤلاء ليس فيها مغنم في الدنيا ولا أمر يُسعى إليه، بل هي تعاون على البر
والتقوى، وأمر تطوعي خيري، بخلاف من يتولى ولايات المسلمين، ويتحمل
تبعاتهم.
والأمر مناطه على القلب، فرُبَّ معتذر عن تحمل المسؤولية لينعم بفراغ
الوقت فيزجيه كيف شاء وأين شاء، ويسلم من المشقة والتعب؛ فهذا فرار من
العمل لا من الولاية والإمارة.
ورب معتذر من عمل وهو يخشى أن يبدو في توليه له ما يجهله الناس عنه
من ضعف قدرةٍ وعطاء؛ فيقل شأنه وقدره.
ورب معتذر ورعاً فهو: مجتهد مخطئ له أجر واحد، أو مصيب له أجران.
لكن ما لا ينبغي الإخلال به: هو إصلاح القلب وتفقده؛ لأنه المناط والأساس، والاجتهاد في العمل للدين والدعوة إليه، وأن يشعر المرء أنه إن أعفاه البشر من
المسؤولية فسيلقى الله - عز وجل - ويسائله؛ فماذا هو قائل؟
جعلنا الله هداة مهتدين، وحمانا من الهوى وحظوظ النفس؛ إنه سميع مجيب.
__________
(1) رواه البخاري (7176) ومسلم (1652) .
(2) رواه البخاري (7149) .
(3) رواه البخاري (7148) .(144/36)
دراسات تربوية
صفات المربي.. دراسة تحليلية
أحمد فهمي
في الحلقة الأولى تعرض الكاتب للعوامل المؤثرة على المتربي من أسرة
ومجتمع ومتعلقاتهما الاقتصادية والثقافية، ويرى أن تأثير ذلك كله على المتربي
تأثيرٌ عشوائي، ومن ثم يبقى دور المربي فعالاً وسط هذه العوامل إذا ما اتصف
بمقومات أساسية قسمها الكاتب إلى: مقومات البدء والانطلاق، مقومات الإتقان،
مقومات الاستمرار، وقد أفاض في الحلقة الأولى في معالجة المقوم الأول (البدء
والانطلاق) ، ويبسط القول من خلال هذه الحلقة في المقومين الآخرين: (الإتقان
والاستمرار) .
البيان
ثانياً: مقومات الإتقان:
وهي مجموعة القدرات النفسية والعملية الأساسية التي تساعد المربي - عند
اكتسابها - على رفع مستوى الأداء التربوي.
وهذه القدرات المختارة هي قدرات جامعة للعديد من المهارات والأنماط
السلوكية التربوية التي تندرج تحتها وتشكل في مجموعها - وبتفاصيلها - الجهد
التربوي للمربي في حالة الرشد.
القدرة الأولى: فهم الشخصية وتحليلها:
وما نحتاجه هنا مما يتعلق بهذه القدرة الإجابة عن سؤالين هامين:
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي) .
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات) .
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي) . وللإجابة
نقول:
1 - للانتقاء: وهذا أمر لا عوج فيه؛ فإن الطاقات محدودة، فمن ثَمَّ ينبغي
اختيار من يصلح لإعطائه مزيداً من الجهد والتركيز، وقد كان هذا ديدن سلفنا في
اختيار تلاميذهم ومن يحيطون برعايتهم وعنايتهم. يقول الحافظ ابن جماعة: " كان
علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به
في حياتهم ومن بعدهم " [1] .
2 - لتحديد الميول والإمكانات، ومن ثم ما يصلح له من العمل، والناس
متفاوتون في ذلك تفاوتاً قدرياً من عند الله، وهناك عناصر ثلاثة يتحدد على ضوئها
ما يصلح له المتربي من العمل، فبالإضافة إلى الميول والإمكانات هناك احتياجات
العمل الدعوي؛ والذي يحدث في كثير من الأحيان أن مسار المتربي - في ميدان
العمل الإسلامي - يتحدد وفق العنصر الأخير، والصحيح اعتبار الجميع.
3 - لتحديد مستوى أمثل للتعامل يراعي النفسيات والمشاعر والفروق الفردية
(القدرات العقلية) :
إن توحيد أسلوب التعامل مع كل الشخصيات أمر غير صواب؛ إذ إنه
يفترِض التماثل في النفسيات والعقول وهذا غير متحقق، بل النفس الواحدة متغيرة، كما أن العقول أيضاً متفاوتة، والمربي الذي يتعامل مع مجموعة من المتربين
ينبغي عليه أن يراعي ذلك في تعامله معهم، وأول خطوة في هذا الاتجاه: فهم هذه
النفوس والعقول وتحليلها، ثم بعدها يحدد أسلوب التعامل مع كلٍّ.
4 - لمعرفة التغير في مستوى المتربي التربوي وتقويمه من فترة لأخرى؛
وذلك للتأكد من أن العمل التربوي يحقق أهدافه؛ على أن يتم ذلك وفق معايير
موضوعية تقاس عليها المعلومات المتحصلة من تحليل شخصية المتربي ورصدها
ومتابعة تطورها، مع ملاحظة عدم الاقتصار على جوانب محدودة مثل: الجانب
العلمي، الجانب الفكري، والغفلة عن بقية الجوانب مثل: المستوى الإيماني،
والأخلاقي، والحركي.
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات) :
هناك وسائل كثيرة لذلك نذكر أهمها:
1 - السؤال والتحري: لمن يعرفه أو يعلم حاله؛ فذلك يوفر وقتاً وجهداً
كبيرين على المربي؛ خاصة لو كان خلفاً لسلف له من المربين عملوا مع
الأشخاص أنفسهم؛ فهنا يتحتم عليه سؤالهم وإلا فهي الفوضى.
وكان من علماء السلف من يتحرى عن تلامذته ليتحقق من حالهم؛ فعن
معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي أنه قال: كان زائدة لا يُحدِّث أحداً حتى يمتحنه؛ فإن كان غريباً قال له: من أين أنت؟ فإن كان من أهل البلد قال: لا تعودن إلى
هذا المجلس، فإن بلغه عنه خيراً أدناه وحدثه.
2 - الكلام والحوار: فاللسان يعبر عن صاحبه ويبين حاله، ومهما تحفظ
الرجل أظهر لسانه حاله ولو بعد حين؛ إذ اللسان يغرف من القلب، وما أسرَّ أحد
سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه وفلتات لسانه؛ فهو بحق ترجمان العقل
والنفس.
وكان بعض الفلاسفة يسأل تلامذته ويستنطقهم ويشجعهم على السؤال، فرأى
يوماً أحد تلامذته صامتاً، فقال له: تكلم حتى أراك.
3 - الاختبارات: وغالب استخدام هذا الأسلوب للتحقق من مستوى الجوانب
المعلوماتية، ولكن يمكن تفعيله في جوانب أخرى عملية أو نفسية باستخدام صور
متطورة منه مثل الاختبارات النفسية - وذلك حسب الظروف - التي من الممكن
إجراؤها في قوالب غير مباشرة: كالمسابقات، والمباريات الثقافية.
ويرسِّخ ابن جماعة أهمية الاختبار فيقول: " إن الشيخ ينبغي له إن جَهِل حال
تلميذه أن يختبره بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيداً
نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه " [2] .
4 - المواقف المفتعلة ومعرفة رد الفعل: وقد يكون ذلك بتتبع ردود أفعاله في
مواقف سابقة من النوعية التي تظهر مكنونات النفس وجوانب القوة والضعف في
الشخصية، وقد يكون أيضاً بمحاولة الافتعال لبعض المواقف التي تظهر هذه الخبايا.
قال ابن الجوزي: " حدثنا محمد بن إسحاق قال: قال لقمان لابنه: يا بني!
إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا
فاحذره " [3] .
5 - الاحتكاك والمعاشرة: وبهما تتضح جوانب من الشخصية يصعب أن
تتضح بغيرهما، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً: في كل خلاف بين زوجين لو سألت
أحدهما لقال لك - غالباً -: إنه قد اكتشف في شريكه عيوباً لم يكن يعلمها من قبل، ولو علمها ما اقترن به، فلو قارنت بين ذلك وبين حالهما في بداية الزواج لوجدت
أنهما لم يتزوجا بداية إلا وقد اقتنع كل منهما بالآخر ورضي به بعد سؤال وتمحيص، فما الذي طرأ؟ إنها معرفة الاحتكاك والمعاشرة.
6 - الفراسة: ونعني بها أن يدرب المربي نفسه على معرفة خبايا النفوس
ومشاعرها من خلال قسمات الوجه والسمت العام.
قال عثمان بن إبراهيم الجمحي وهو من فضلاء التابعين -: " إني أعرف في
العين إذا أنكرت، وإذا عرفت، وإذا هي لم تعرف ولم تنكر: إذا عرفت تَحُوص
- أي تضيق - وتعود لطبيعتها لارتياحها بالفهم بعد تحملقها للإنكار والاستفهام -
وإذا أنكرت تجحظ - أي تبرز وتقسو، وإذا لم تعرف ولم تنكر تسجو - أي
تسكن - " [4] .
وجلس بعض العلماء يحرر يوماً في مشكلة، والطلبة به محدقون، فقال لهم:
فهمتم؟ قالوا: نعم، قال: لا، لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم [5] .
القدرة الثانية: الإقناع:
والإقناع لغة: الإرضاء [6] ، وفي العرف يراد به: نقل حالة القبول أو
الرفض لأمر ما من شخص لآخر، ويكون بالكلام أو الفعل، والأول أغلب.
والمربي يحتاج هذه القدرة إلى درجة كبيرة؛ فهو يحتاج دوماً إلى تعديل
وتغيير قناعات المتربين.
وهذه بعض وسائل الإقناع:
1 - استحضار الأفكار وترتيبها: فالقول دون تفكير سمة الجهال والفوضويين
. قال المنصور لبعض ولده: " خذ عني اثنتين: لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل
من غير تدبير. وينبغي في هذه الخطوة تجنب التفكير الأحادي الذي يجعل
المتحاور سجين فكرة واحدة دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى " [7] .
2 - حسن العرض للحجة: فالعبرة ليست بحشد الكلمات والألفاظ وسكب
الأفكار في ذهن المتربي.
3 - نقض الدوافع أو إثارتها: وهناك فرق بين محاولة إقناع المتربي باعتبار
ظاهر فعله وكلامه وبين إقناعه بالنظر إلى دوافعه؛ فالتعامل معه في الثانية أشد
أثراً وعمقاً، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ ففي محاورته
مع الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا مثال عملي على ذلك.
4 - الجواب الحاضر المفحم: فهو يغني عن كثير الكلام في أحيان عديدة.
5 - التدرج: وهو قاعدة هامة تندرج في معظم وسائل التربية، بل هو أصل
من الأصول الهامة، وبعض المربين تأخذه الحماسة فيريد أن ينقل للمتربي كل
قناعاته العلمية أو النظرية التي تكونت لديه على مَر الزمن دفعة واحدة، فلا يجادل
ولا يناقش، وهذا بالطبع أمر مُتعسر، ولو كان ذلك كذلك لكان أوْلى به الصحابة -
رضوان الله عليهم - أفضل هذه الأمة؛ فعلى الرغم من فضلهم وإيمانهم فقد نزلت
عليهم الأحكام مُنجَّمة؛ بل أحياناً كان الأمر الواحد يُحرَّم عليهم بالتدريج - كما في
الخمر - فما الظن بغيرهم ممن لا يبلغ عشر معشارهم في فضل ولا علم؟
6 - نقض الأفكار المضادة: افتخر أحد خلفاء بني أمية يوماً بقريش فقال: "
إن الله حبا قريشاً بثلاث: فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: [وأنذر عشيرتك
الأقربين] [الشعراء: 214] ونحن عشيرته الأقربون، وقال - تعالى -: [وإنه
لذكر لك ولقومك] [الزخرف: 44] ونحن قومه، وقال: [لإيلاف قريش.
إيلافهم] [قريش: 1، 2] ونحن قريش. فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على
رِسْلِكَ؛ فإن الله تعالى يقول: [وكذب به قومك وهو الحق] [الأنعام: 66] وأنتم
قومه، وقال: [ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون] [الزخرف:
57] وأنتم قومه، وقال - تعالى -: [وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا] الفرقان: 30 [وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك "] 8 [.
7 - إتقان الصمت والاستماع: فذلك يعطي المربي فرصة لكشف أفكار
المتربي ومنطلقاته، وكذا فرصة للتفكير والتركيز. ومن المقولات التي يرددها
خبراء اللغويات النفسية أننا نفكر بأضعاف السرعة التي نتكلم بها، ولذلك فإننا حين
ننصت تكون عقولنا في سباق] 9 [؛ فحسن الاستماع يتخطى مجرد الصمت وهز
الرأس، بل يستلزم قدرات خاصة باستيعاب ما يُقال وتخزينه في الذاكرة بصورة
منتظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار] 10 [.
8 - يمكن اعتبار الأساليب الواردة في القدرة التالية من وسائل الإقناع:
القدرة الثالثة: استخدام أساليب غير مباشرة لتبليغ المفاهيم الشرعية الدعوية
حتى ترسخ في النفس والواقع:
يشكو بعض المربين من عدم استجابة كثير ممن يربونهم لتوجيهاتهم بدرجة
تتناسب مع كثرة تكرار هذه التوجيهات، وبنظرة فاحصة لأسلوبهم في التربية
تجعلنا نكتشف قصور مفهوم التربية لديهم وانحصاره في التلقين والتكرار الحرفي
للمفاهيم؛ واختزالُ التربية في هذه الصورة أشبه بالتعبير عنها بحرف واحد من
حروفها، كما أن التكرار بهذه الصورة قد يُحدث أثراً عكسياً يُفقد الكلام جدته وهيبته.
أما توسيع الدائرة واعتماد أساليب غير مباشرة في التربية فله أثر قوي
وفاعلية بإذن الله، كما أنه يجعلنا نجتني فائدة التكرار مع تجنب عيبه، وأيضاً فهو
يتناسب مع كون التربية تحتفي بالبناء الرأسي في العمق قبل البناء الأفقي.
وفيما يلي طائفة من هذه الأساليب - وإن كان المطلوب من المربي أن يبدع
ويأتي بالنادر الطريف ولا يكتفي بالنسج على منوال الآخرين:
1 - استخدام الحكايات: وقد سبق الكلام عنها في صفة حسن السمت؛ فلها
أثر عجيب في النفس، ويكفي أن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية ممتلئان بها، وقد
تعدل حكاية صغيرة في سطرين كلاماً طويلاً في صفحات، فضلاً عن أنها تفوقه
أثراً وثباتاً في النفس والعقل، قال البرقي: " الحكايات حبوب تُصطاد بها
القلوب "] 11 [.
2 - ضرب المثال: ويقصد به: ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين
أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.
فهو يُستخدم إذن في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل
ونحو ذلك، وله في ذلك تأثير عظيم، وهو أسلوب شائع الاستخدام في الكتاب
والسنة. قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث " النخلة ": " وفيه ضرب الأمثال
والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في
النظر في حكم الحادثة "] 12 [.
وله صور عديدة: فقد يكون تشبيهاً رمزياً للبشر وأحوالهم بالنبات أو الحيوان
أو الجماد.
وقد يكون هذا المثال الرمزي مُعَايَناً، كما في حديث أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم
نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض (لاحظ الانتفاض في الثالثة) قال: " إن
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة
ورقها "] 13 [.
وقد يكون المثال الرمزي " تخيُّلياً " كقوله تعالى:] مثل الذين حملوا التوراة
ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [] {الجمعة: 5} [.
ومثله: كان الإمام أحمد يقول لبعض أصحابه: " كم يعيش أحدنا: خمسين
سنة؟ ستين سنة؟ كأنك بنا قد متنا، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي
فسقط "] 14 [.
وقد يكون المثال تشبيهاً بأحوال البشر وأفعالهم: فيكون افتراضياً؛ فعن يعلى
بن عبيد قال: سمعت سفيان الثوري يقول: " لو كان معكم من يرفع الحديث إلى
السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث ...
يعني إلى الله "] 15 [.
وقد يكون حقيقياً؛ فقد قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصري وكلاهما من
التابعين -: " يا أبا سعيد! أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي
صفرة، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه، فقال الحسن: يا ابن أخي! كم يد
عقرت الناقة؟ قلت: واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم
وتمالئهم؟ "] 16 [.
3 - افتعال المواقف: ومَثَلُه حديث جبريل - عليه السلام - لما حاكى فعل
الغريب السائل الطالب للعلم، فقدم وجلس وسأل ومضى؛ فالنظر إلى أثر افتعال
هذا الموقف وما ذكر فيه العلماء من الفوائد يُبين أهمية هذه الوسيلة، وأنه لو كان
المطلوب مجرد تلقين المعلومات لأجلسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعرَّف لهم
الإسلام والإيمان والإحسان وذكر علامات الساعة وانتهى الأمر.
4 - الحث على السؤال وفتح المجال له: ففيه تنشيط للذهن ودفع لتمام
الاستيعاب وسد ثغرات الفهم بالسؤال، قال عكرمة يوماً لتلاميذه يحثهم على السؤال: ما لكم لا تسألوني؟ أأفلستم؟
5 - التلغيز: وهو السؤال المحير للفهم المشكل على سامعه ومنه حديث
النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر قال: " إن من الشجر شجرة لا
يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي،
قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت - لصغر سني - ثم قالوا:
حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة "] 17 [.
قال ابن حجر في فوائده: " وفيه امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفي مع
بيانه لهم إن لم يفهموه "] 18 [.
وقال أيضاً: " وفيه أن المُلغِّز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل
للمُلَغَّز له باباً يدخل منه، بل كلما قَرَّبه كان أوقع في نفس سامعه "] 19 [.
6 - الكناية عن الأمر بعاقبته: ومعلوم ما في ذلك من دوام الترهيب أو
الترغيب واستحضاره في النفس وتذكره على الدوام، كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة بدر لأصحابه يحثهم على القتال: " قوموا إلى جنة عرضها
السموات والأرض "] 20 [.
7 - إذكاء روح التنافس في الخير: من الثابت في علم النفس أن المنافسة
وسيلة فعالة لرفع المستوى وتنمية الموهبة، وأن انعدامها بين الأفراد من شأنه أن
يُبطئ ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - المربي الأول - يستخدم هذا الأسلوب
في تربية الصحابة، وهناك السباق المشهور في الخير والطاعات بين أبي بكر
وعمر - رضي الله عنهما - الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفزه ويشجعه،
وقد فاز أبو بكر بهذا السباق حتى قال عمر: والله! لا أسابقك بعدها إلى شيء أبداً.
8 - استخدام الحِيَل: فقد تستعصي بعض المفاهيم على القبول لدى بعض
الأشخاص فلا بأس من استخدام الحيل المشروعة لتحقيق ذلك.
ومن ذلك احتيال عبد الله بن المبارك لكي يغير فكرة الأوزاعي عن أبي حنيفة
؛ فقدم له بعض مؤلفاته من غير أن يكون عليها اسمه الحقيقي، فلما أعجب بها
أخبره بأنها من تأليف أبي حنيفة، فتغيرت فكرته عنه وصار يُجِلُّه] 21 [.
القدرة الرابعة: الاحتواء النفسي:
وهو أن تنشأ بين المربي والمتربي علاقة نفسية قلبية قوية من الحب في الله،
يكون المربي هو المُوَجِّه فيها بحيث يرتبط المتربي به ارتباطاً نفسياً يرفع من
مستوى قبوله وامتثاله لتوجيهات مُربيه ويُيسر عملية التربية.
ويمكن تلخيص كيفية اتصاف المربي بهذه القدرة في: أن يهتم بالتفعيل القوي
لحقوق الأخوة بمعناها الشامل، مع التركيز على الجوانب ذات التأثير النفسي القوي، حتى يكون له تواجد مؤثر على خريطة المتربي النفسية - بدون اقتحام فيما لا
يعنيه -.
والمربي يلزمه قبل ذلك أن يتحلى بأمور لها تأثير فعال على تحقق هذا
الاحتواء النفسي - وإن كانت غير مباشرة - وهذه الأمور مثل: حرصه على أن
يتصف بسلامة النية وتجنب المسالك الملتوية في التعامل مع الناس. يقول ابن
حزم: " احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك "] 22 [.
وأيضاً يتصف بحسن معاملة الناس، فيعاملهم بمكارم الأخلاق، والإيثار
وترك الاستئثار، والتحلي بالإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر التفضل] 23 [،
مع التنزه عن الاستعانة بأحد من تلاميذه في مصلحة خاصة به، " وقد كان منصور
بن المعتمر لا يستعين بأحد يختلف إليه - يعني لطلب العلم - في حاجة "] 24 [
وغيرها من الصفات المشابهة.
وبتأملنا مسلك السلف في التعامل مع تلاميذهم يتبين لنا أنه كان لهم منهج
واضح في مشاركة تلاميذهم مشاكلهم وسعيهم في مساعدتهم؛ بحيث إن الشيخ كان
له تأثير عظيم في نفسية تلميذه وهذه بعض ملامح هذا المنهج:
كانوا يُظهرون الاهتمام والإقبال على جلسائهم وتلاميذهم: يقول ابن
عباس - رضي الله عنهما -: " أكرم الناس جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إ ليَّ، لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت "] 25 [.
الاهتمام بالتعرف عليهم وعلى ظروفهم. يقول ابن جماعة: " وينبغي أن
يتعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح "] 26 [.
الحنو عليه والرفق به، يقول ابن جماعة: " ويعامله بما يعامل به أعز
أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه "] 27 [.
مساعدته في تذليل الصعاب والتغلب على الظروف المعوقة لطلب العلم،
ومن ذلك أن أسد بن الفرات كان يريد السماع على محمد بن الحسن الشيباني،
فحضر إليه وقال: " إني غريب - من القيروان - قليل النفقة والسماع منك نَزْر،
والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له: اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت
لك الليل وحدك، فتبيت عندي وأسمعك، قال أسد: وكنت أبيت عنده وينزل إليَّ،
ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست، ملأ
يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. كما كان
يتعهده بالنفقة إذا نَفدت نفقته "] 28 [.
ثالثاً: مقومات الاستمرار:
وهذه المقومات يجمعها لفظ الصبر، ويُفَرِّقُها وينوعها مجالاته.
ولأن العمل التربوي هو في مجمله محاولة للتأثير في نفس وسلوك الإنسان
فإن ذلك يقترن - ولا بد - بكمٍّ من الصعوبات والمعوقات - تنبعث من تعقد النفس
البشرية وتردِّي الظروف المحيطة - تحتاج من المربي أن يعالج نفسه بالصبر ليقدر
على مواصلة الجهد - وبالمستوى نفسه إن لم يكن أرقى - وإن من أهم الوسائل
التي تُعين المربي على التصبر أن يتذكر دائماً اقتران الأجر الأوفى بالصبر، وكذا
اقتران النتائج الكبيرة به أيضاً، كما يتذكر أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذكر على
لسان نبيه أن أحب العمل إليه ما استمر عليه صاحبه ولم يقطعه وصبر عليه وإن
قلَّ؛ لأنه بذلك تزداد احتمالات الوصول للأهداف الموضوعة لهذا العمل:]
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك
عنهم ... [] الكهف: 28 [.
وليتأمل المربي في واقعنا العام والعمل الإسلامي على وجه الخصوص، ليجد
هناك ظاهرة فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا، وهي ظاهرة أحجار الأساس؛
حيث نكتفي في أعمالنا بوضع حجر الأساس ولا بأس بحجر آخر أو حجرين معه -
ونعتبر ذلك إنجازاً -.
إنها ظاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل؛ ولو أجرينا إحصاءاً لمرات البدء
في الأعمال المختلفة في ميدان العمل الإسلامي ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت
منتصف الطريق، ثم تفقدنا الأعمال التي بلغت نهايتها المرجوة أو كادت، فكم يا
تُرى يكون حجم التفاوت العددي في الحالات الثلاث؟ !
فالمربي يحتاج إذن إلى الصبر وإلى مجاهدة النفس عليه في مجالات كثيرة،
أهمها: الصبر على البذل والتضحية.
والمربي يحتاج إلى مداومة البذل والصبر عليه، البذل من وقته وراحته وبيته
وماله، وقد سبق كيف كان السلف ينفقون من أموالهم على تلاميذهم - خاصة
النجباء منهم - وعدم تضجرهم من ذلك إن استطاعوا.
وقال محمد بن سلام - شيخ البخاري - " أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً،
وأنفقت في نشره أربعين ألفاً "، ومثل هذا - ولا شك - يحدث كثيراً في عصرنا
ولكن بقلب " أنفقت " إلى " جمعت ".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بالصحابة في دار الأرقم لتعليمهم
وتربيتهم، وأحياناً بمنزله صلى الله عليه وسلم، ثم كان الصحابة يفتحون بيوتهم
لتلامذتهم مثل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ومن بعده مالك بن أنس،
وقبيصة بن ذؤيب، وأبي غطفان بن طريف المري ... وغيرهم كثير] 29 [، وقد
مر كيف فتح محمد بن الحسن بيته لابن الفرات فكان يؤويه ويعلمه وينفق عليه.
والمربي أيضاً يحتاج إلى الصبر على تأخر ثمرة العمل التربوي - نسبياً -
فضلاً عن احتمالات ضياع بعضها أو تلفها.
ويحتاج أيضاً إلى الصبر على جفاء بعض الطباع وخشونة التعامل؛ فهذا
نبينا - عليه الصلاة والسلام - وقد أقيمت الصلاة حين يأتي أعرابي فيأخذ بثوبه
ويقول: إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخاف أنساها، فيقوم صلى الله عليه وسلم معه
حتى يفرغ من حاجته - والصلاة مقامة - ثم أقبل فصلى] 30 [.
وقد ذكر ابن جماعة أن من أدب المعلم مع تلميذه: " الصبر على جفاءٍ ربما
وقع منه أذى لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط
عذره بقدر الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف
وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته "] 31 [.
وأخيراً:
نختم بذكر الأمر الثاني الذي ينبغي توافره في النموذج المعتدل
للمربي، وهو: أن يكون تحقق الصفات والمؤهلات السابقة فيه حدٌّ أدنى لا يتأهل
الداعية بالنزول عنه للعمل التربوي.
وهنا ملاحظات غير عابرة:
أولاً: هذا الحد الأدنى يختلف باختلاف الظروف والأحوال؛ فهو يتغير من
بيئة دعوية إلى أخرى، وحسب تعقُّد العمل وتوفر الكفاءات، كما أنه يتغير بتغير
حجم المسؤولية التربوية؛ فالذي يتولى تربية عدد كبير ليس كمن يعمل مع أشخاص
محدودين، كما أن الذي يربي أشخاصاً حديثي عهد بالدعوة، ليس كمن يعمل مع
دعاة متمرسين.
ثانياً: لتحقيق قدر من المرونة والواقعية - ونظراً لضعف عملية التنمية
البشرية - قُسمت المقومات وفق ابتداء تأثيرها، وهذا يعني أن أهمية تحقق كل قسم
منها في بداية العمل في شخص المربي متفاوتة؛ فمقومات البدء لا مفر من تحققها
تماماً - وفق البند السابق - ومقومات الإتقان يمكن التجاوز فيها قليلاً، على أن يبدأ
سد الخلل فيها بعد البدء مباشرة وإلا ظهر أثر ذلك على العمل التربوي.
وأما مقومات الاستمرار فيمكن العمل على تنميتها وترسيخها أثناء ممارسة
العمل التربوي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) التذكرة، ص 63.
(2) التذكرة، ص 56.
(3) الأذكياء، ابن الجوزي، ص 24.
(4) صفحات من صبر العلماء، ص 200 الهامش.
(5) التذكرة، ص 105 الهامش.
(6) القاموس المحيط، ص 977.
(7) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والساسي، د حسن وجيه ص 28.
(8) المستطرف، ص 91.
(9) علم التفاوض، ص 203.
(10) المصدر السابق، ص 27.
(11) النظم التعليمية، ص 69.
(12) فتح الباري، ص 177.
(13) صحيح الأدب المفرد، البخاري، بتحقيق الألباني، ص 237.
(14) صفحات من صبر العلماء، ص 151.
(15) حلية الأولياء، ج7/70.
(16) الزهد للإمام أحمد، ص 289.
(17) البخاري، ح/59.
(18) فتح الباري، ص175-176.
(19) المصدر السابق، ص176.
(20) مسلم، ح/3520.
(21) الخطيب البغدادي في تاريخه، ج13/338.
(22) مداواة النفوس، لابن حزم، ص71.
(23) التذكرة، ص23.
(24) التذكرة، ص19؟ .
(25) التذكرة، ص49.
(26) المصدر السابق، ص60.
(27) المصدر السابق، 49.
(28) صفحات من صبر العلماء، ص119.
(29) النظم التعليمية، ص40.
(30) صحيح الأدب المفرد، ص120.
(31) التذكرة، ص49-50.(144/38)
دراسات تربوية
وادع إلى ربك
عبد العزيز بن ناصر الجليل
تحدثت في مقال سابق عن المقصود بالدعوة مذكِّراً بأن دعوة النفس أوْلى
بالبدء، ثم الأقرب فالأقرب. وهنا مسألة مهمة تتعلق بالإخلاص في الدعوة إلى الله- عز وجل - عامة وهي مسألة قلما نتنبه إليها أو ننبه عليها.
وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوة إلى الله - عز وجل - هو أن الداعية إنما
يدعو إلى ربه وإلى سبيله وتوحيده وطاعته، وإلى إقامة دينه.
ولا شك أن هذه معانٍ صحيحة وأهداف سامية للدعوة إلى الله - سبحانه -
لكنَّ هناك معنيً لطيفاً ومسألة عظيمة يتضمنها مفهوم الدعوة إلى الله - تعالى -
يتعلق بإخلاص الدعوة له - سبحانه - وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد
الوهاب - رحمه الله تعالى - في (مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)
وهو من أبواب كتاب التوحيد؛ حيث يقول: (المسألة الثانية: التنبيه على
الإخلاص؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) .
يا لها من مسألة عظيمة يغفل عنها الكثير منّا، وإنها لمن الدقة واللطف بحيث
توجد عند البعض منا دون أن يشعر بوجودها، وإن لم يفتش الداعية عنها في نفسه
ويبادر إلى التخلص منها فإنها قد تكون سبباً في حبوط العمل وضياع الجهد - عياذاً
بالله - تعالى - وهناك علامات ومظاهر يدل وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة
الخطيرة منها:
1- الحزبيّة المقيتة التي تدفع بصاحبها إلى عقد المحبة والعداوة على الأسماء
والأشخاص والطوائف.
2- حب الشهرة والصدارة والتفاف الناس، وكراهية الدعاة الآخرين
والانقباض والضيق من تجمع الناس حولهم؛ لا لشيء إلا لأن في ذلك منافسة
وحسداً في القلب.
3 - التزهيد في أعمال بعض الدعاة وتحقيرها وتشويهها حتى ولو كان هذا
العمل قد ظهر خيره وصلاحه، فلا ترى صاحب القلب المريض الذي يدعو إلى
نفسه - وليس إلى الله تعالى إلا مستاءاً من ذلك، ولو كان الأمر إليه لأوقف كل
عملٍ خيِّرٍ يقوم به غيره. وهذا من علامات الخذلان - عياذاً بالله - تعالى - لأن
العبد المخلص في دعوته إلى الله تعالى يحب كل داعية إلى الخير - ولو لم يعرفه
أو يره - ويدعو له بظهر الغيب، ويفرح بأي باب من الخير يفتحه الله تعالى على
يد من كان من عباده، ويفرح بأي باب من الشر يُغلق على يد من كان؛ لأن في
ذلك صلاحاً للعباد وإسهاماً في هدايتهم وتعبيدهم لرب العالمين، وكفى بذلك هدفاً
وثمرة تثلج صدر الداعية المخلص سواء تحقق ذلك على يديه أو على يد غيره من
الداعين إلى الله تعالى.
4 - الوقوع في غيبة الدعاة أو السعي بالنميمة والوشاية لإلحاق الأذى بهم أو
إشاعة ما هم منه برآء في الناس حتى ينفضُّوا من حولهم ويلتفوا حوله.
والأمثلة كثيرة، وكل إنسان أدرى بنفسه، وهو على نفسه بصيرة،
والمقصود التنبيه على هذه الآفة الخطيرة التي تمحق بركة الأعمال في الدنيا،
وتذهب بأجرها في الآخرة.(144/46)
قراءة في كتاب
صناعة القرار السياسي الأمريكي
عرض وتلخيص: حسن الرشيدي
(دعونا ألاَّ ننشر غسيلنا القذر) .
بهذه الكلمات المريرة ختم المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي تصريحاته
إلى الصحفيين، وكان يرد على سؤال وُجِّه إليه عن التناقض في تصرفات الإدارة
الأمريكية حينما أعلنت عن عودة الدبلوماسيين الأمريكيين إلى السفارة الأمريكية في
الخرطوم، وبعد 24 ساعة عادت الإدارة لتتراجع عن كلامها السابق مما حدا بكثير
من المراقبين إلى إرجاع ذلك إلى اختلاف وجهات نظر المسؤولين عن صناعة
القرار داخل دوائر السياسة الأمريكية، وهو الأمر الذي جعل وزير خارجية
السودان يصرح قائلاً: إن مستوى صناعة القرار في الولايات المتحدة قد تدنى إلى
أقل درجة.
إنه منذ عام 1945م لم يعد القرار السياسي الأمريكي شأناً داخلياً خاصاً
بأمريكا فقط؛ إذ امتد ليشمل دول العالم خاصة بعد الحرب الباردة وانتهاء معادلة
القطبين ليسود ما يعرف بالقطب الواحد؛ وهو أيضاً قرار غير محايد؛ فهو يعتمد
مبدأ أساساً هو المصلحة العليا للولايات المتحدة على حساب كل دول العالم وشعوبها؛ بل إن الولايات المتحدة قد تسلمت الراية: راية الصليب؛ لتقود الحملة الصليبية
الجديدة على عالمنا الإسلامي، ولذلك تَحَتَّم دراسة هذا القرار ليس من الخارج ولكن
من الداخل، أي: دراسة صنع القرار وليس القرار نفسه، وهو ما يعني الحركة
التي تتحكم بخلفية السياسة التي تقود إلى إصدار هذا القرار.
ومن هنا جاءت دراسة منصف السليمي (صناعة القرار السياسي الأمريكي)
وهي في الأصل رسالة نال بها المؤلف درجة دبلوم الدراسات العليا ومنحتها له لجنة
مكونة من أربعة أساتذة وفقهاء مرموقين بحقول معرفية متعددة.
يقول المؤلف: ولقد تطلبت هذه الدراسة نَفَساً طويلاً؛ لأننا توخينا تجاوز
الحالة الساكنة للمؤسسات والهيئات التي تشارك في صناعة القرارات وإن كانت هي
الوعاء الذي تجري داخله العملية بحثاً عن السياقات التي تجري فيها العلاقات
والاتصالات بين المؤسسات والأشخاص، وهي مسألة حفتها مصاعب وحواجز
معرفية وأخرى منهجية جمة لا تقل عن تعقيد الشروط الموضوعية والتاريخية
والنفسية التي تشكل بيئة القرار السياسي، ولا عن الغموض والسرية المقصودة
وغير المقصودة التي تحيط بعمل المؤسسات والأشخاص والاتصالات.
اعتمد المؤلف المستويات الآتية في بحثه:
يركز الباب التمهيدي من هذا الكتاب على تعقب الإنجازات التي تحققت حول
الموضوع في مختلف حقول المعرفة ومتابعتها: الفكر السياسي، والأنتروبولوجيا.
وخصص الباب الأول لرصد حصيلة إنجازات العلوم الحديثة بفروعها
الاجتماعية والقانونية، وأخيراً علم السياسة، كما يتضمن محاولات نقدية لهذه
الإنجازات.
وفي الباب الثاني يعرض المؤلف السياقين: التاريخي، والنظري لعملية
صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة ليؤسس عليهما في الباب الثالث اجتهاده
في تحليل الكيفية التي يجري بها صناعة القرار السياسي متسلحاً بأسلحة البحث
السابقة.
وسوف نقوم بعرض تلخيص للباب الثالث الذي هو لب البحث وغايته:
في هذا الباب يحاول الكاتب توظيف الحصيلة النظرية التي استفاد بها في
البابين الأول والثاني لدراسة مظاهر صناعة القرار الأمريكي، فيقول: ضمن
السياق التاريخي والمجتمعي الذي يميز العملية السياسية الأمريكية يمكن فهم صناعة
القرار السياسي؛ فهي نظام مركب من جملة الأدوار السياسية التي تقوم بها البنيات
الدستورية والسياسية من أجل إيجاد حلول للقضايا السياسية.
ثم يطرح الباحث السؤال الرئيس في هذا الباب: ما هي عناصر عملية
صناعة القرار السياسي الأمريكي وخصائصه؟
يقول: هي إشكالية نحاول الإجابة عنها من خلال ثلاثة محاور أساسية:
البنيات السياسية والدستورية (الفصل الأول) ، الأجهزة التنفيذية (الفصل
الثاني) ، الهيئات والجماعات المؤثرة (الفصل الثالث) .
الفصل الأول: البنيات السياسية والدستورية:
يقول الباحث: تبنى مرجعية هذه البنيات على أسس متعددة: إما باعتبار
صلاحيتها الدستورية والقانونية أو باعتبارها مصدر سلطة ونفوذ سياسي أو
لاعتبارات تخصصية وظيفية تؤديها داخل النظام السياسي، ويمكن تعيين هذه
الوحدات وفق التصنيف التالي:
1- الرئاسة:
يعتبر رئيس الدولة هو الممسك الفعلي بزمام السلطة التنفيذية حسب الدستور
الأمريكي في المادة (2) وبحكم رئاسته للدولة والحكومة فهو يرسم السياسة العامة،
وله سلطة البت والتقرير في مجموع خططها وبرامجها؛ ونظراً لبنية النظام
الرئاسي فإنه لا وجود لمجلس وزراء يهيمن على مصالح الدولة، ولا وجود لمبدأ
التضامن الوزاري عن القرارات والسياسة العامة، وهكذا فإن السلطة التنفيذية
الفعلية تبقى في يد الرئيس، وأنه إذا استشار رئيس الدولة وزراءه فإن آثار
الاستشارة تنحصر في مجرد المناقشة وتبادل الرأي، أما القرار النهائي فيتخذه
رئيس الدولة بمحض اختياره وإرادته، ويستشهد الباحث بقول أبراهام لنكولن عندما
لاحظ مخالفة وزرائه السبعة له: (إن سبعة في هذا المجلس يقولون: لا، وإن
واحداً يعني نفسه يقول: نعم! إذن نعم تغلبت على لا) .
ورغم أن الكونجرس يتمتع بسلطة إعلان الحرب فإنه لم يعلن الحرب إلا في
خمس مناسبات، بينما نفذت القوات الأمريكية عشرات العمليات العسكرية بأوامر
من السلطة التنفيذية (الرئيس) دون إعلان رسمي عنها من قِبَلِ الكونجرس.
وفي مجال الإدارة يرأس الرئيس فعلياً الإدارة الفيدرالية، ويعين كبار
موظفيها بعد إقرار الكونجرس. ويبلغ عدد موظفي الإدارة الفيدرالية حوالي ألفي
موظف من كبار مسؤولي الدولة ورؤساء الوكالات والمصالح الإدارية، ونتج عن
تضخم الجهاز التنفيذي تضخم كبير في سلطات الرئيس مقابل الكونجرس.
وفي المجال الدبلوماسي يخول الدستور الرئيس سلطات واسعة؛ فهو الذي
يحدد برامج السياسة الخارجية، ويعقد الاتفاقيات والمعاهدات، ويقوم بعملية
التفاوض مع الدول وتعيين السفراء؛ ولكن في مجال المعاهدات فإن الدستور يقيد
القرار الدبلوماسي للرئيس بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ في حالة عقد
المعاهدات.
إلا أن الرئيس يفلت في الواقع من مراقبة مجلس الشيوخ لقراراته في مجال
السياسة الخارجية باللجوء إلى الاتفاقيات التنفيذية، ويعني الاتفاق التنفيذي اتفاقاً
بين الرئيس ودولة أجنبية له قوة القانون وتشكل هذه الاتفاقات النسبة الغالبة من
الاتفاقيات التي تبرمها الولايات المتحدة مع الدول الأجنبية، والمثال الواضح في
عهد ريجان عام 1986م، وفضيحة إيران جيت.
أما في المجال التشريعي فلا يمنح الدستور الأمريكي الرئيس صلاحية التقدم
بمشاريع القوانين؛ لكنه يتمتع بحق الاعتراض (الفيتو) على القوانين التي يقرها
الكونجرس، ولا يسقط الاعتراض إلا في حالة التصويت مرة ثانية عليه بأغلبية
الثلثين بعد قراءة جديدة، ويمكن للرئيس لفت نظر الكونجرس لقضايا تشريعية
معينة وذلك من خلال النواب الذين يمثلون الحزب في المجلسين بحكم الوضع
القيادي الذي يتوفر عليه الرئيس داخل الحزب.
ويؤكد الباحث أن تكوين شخصية الرئيس تمكنه من توسيع مجالاته في إصدار
القرار:
كما أن للتكوين الديني والمسيحي تأثيراً على تقييم الأحداث؛ ويبدو ريجان
مثالاً واضحاً لذلك؛ إذ كان يطلق عبارات وتقييمات أخلاقية على الأحداث؛ مثلاً:
يصف الاتحاد السوفييتي بأنه الشر، وعرفت فترته صدور عدة قرارات على
مستوى داخلي وخارجي لتشجيع النشاط الأصولي المسيحي، وكان يرفع الإنجيل
خلال حملته الانتخابية.
كذلك أثرت شخصية كلينتون وكونه من الطبقة الوسطى في تركيزه على
القضايا الاجتماعية والاقتصادية؛ وهي القضايا التي تشكل محور اهتمام هذه الطبقة.
والواقع أن العوامل الشخصية والظروف السياسية لها دور كبير في اتخاذ
الرئيس الوضع الأقوى داخل صنع القرار؛ إذ إنه بالنظر إلى 43 رئيساً لأمريكا
منذ عهد جورج واشنطن إلى عهد كلينتون نجد أوضاعاً متباينة بالنسبة لسلطة
الرئيس في قراره السياسي.
2 - الكونجرس:
يتألف الكونجرس من مجلسين: الشيوخ، والنواب.
يمثل مجلس النواب السكان على أساس التمثيل العددي، ويضم 435 عضواً، وتدوم ولايته النيابية سنتين. أما مجلس الشيوخ فيتساوى فيه تمثيل الولايات؛
حيث ينتخب الناخبون في كل ولاية نائبين بغض النظر عن عدد السكان. وعدد
أعضاء مجلس الشيوخ مائة عضو، وتدوم مدة العضوية ستة أعوام يجدد ثلثهم كل
سنتين.
ويخول الكونجرس صلاحيات في مجالات عديدة:
فالمجال التشريعي يختص به الكونجرس ويقدم مشروع القانون أحد أعضاء
الكونجرس إلى المجلسين، ولكن مشاريع القوانين المتعلقة بالزيادة في الواردات يتم
تقديمها إلى مجلس النواب فقط.
ويحال مشروع القانون إلى لجنة منبثقة من الكونجرس التي تقوم بدراسته
والموافقة عليه ثم يقدم إلى كل مجلس للموافقة عليه ليقدم في النهاية إلى الرئيس من
أجل التوقيع، ويمنح مهلة عشرة أيام للتوقيع، ويمكنه استخدام النقض حق (الفيتو)
خلال هذه المدة بإعادة النص إلى الكونجرس لمراجعته، وفي هذه الحالة يقتضي
الحصول على ثلثي الأصوات في كل مجلس ليتفادى نقض الرئيس.
لقد شكل الكونجرس حتى بداية القرن الحالي محور النظام السياسي الأمريكي
والمرجع التقريري الأول في السياسة العامة للدولة مع وجود استثناءات في حال
ظهور أدوار قيادية لبعض الرؤساء كالرئيس أبراهام لنكولن.
والسنوات الخمسون (1920-1970م) شهدت تراجعاً في دور الكونجرس
مقابل ظهور دور المؤسسة الرئاسية؛ ولكن الإصلاحات التي أقرها الكونجرس
عامي 1972، 1974م أعادت له نسبياً مركزه داخل النظام السياسي؛ إذ أصبح
يتوفر على إمكانيات وتقنيات تمكنه من المشاركة في قرارات الرئيس ومراقبة
قرارات الجهاز التنفيذي؛ إذ أصبح عدد الموظفين والخبراء ثلاثة آلاف موظف
وخبير، بينما يبلغ عدد المستخدمين لحساب النواب والشيوخ بشكل خاص أربع
أمثال هذا العدد، ويتوفر للكونجرس أرشيف ومكتبة تضم ملايين العناوين، وتعد
من أكبر المكتبات في العالم، ويبقى الجدل الذي يثور في أمريكا دائماً عن مدى
استقلالية قرارات الكونجرس إزاء التحويلات المكثفة التي يتلقاها من جماعات
الضغط التي تمارس نفوذها المباشر على البرلمانيين.
3 - الجهاز القضائي:
يتألف الجهاز القضائي في الولايات المتحدة من المحكمة العليا باعتبارها في
أعلى هرم السلطة القضائية، ومحاكم الولايات - وهي محاكم عادية - تتولى النظر
في قضايا القانون العام. كما توجد بعض المحاكم الفيدرالية المتخصصة مثل محكمة
الادعاءات وهي محكمة فيدرالية مختصة بالنظر في الجرائم المرتكبة ضد الدولة،
ومحكمة التجارة الدولية، ومحكمة الضريبة.
وتتلخص وظيفة المحكمة العليا في البت في القضايا التي تنشأ بسبب النزاع
أو الخلاف بين الولايات والحكم الفيدرالي على الخصوص، أو فيما يتعلق بتطبيق
الدستور؛ لكنها لا تقوم بمراجعة قرارات محاكم الولايات المتعلقة بالقوانين الداخلية
للولايات، ومنذ عام 1803م أصبح النظام القضائي الأمريكي هو الحكم الفصل بين
السلطات ومساوياً لها.
ففي نهاية القرن التاسع عشر وإلى غاية منتصف الثلاثينات لعبت المحكمة
العليا دوراً هاماً تجلَّى في منع تنفيذ قرارات حكومية كثيرة، وفي عام 1917م قال
القاضي هيرز: نحن محكومون من قِبَلِ دستور؛ ولكن هذا الدستور هو ما نقول:
إنه هو.
وفي عام 1936م ألغتْ المحكمة العليا عدداً من القوانين البرلمانية والتنظيمات
التي سُنت في عهد الرئيس روزفلت، وعندما أثيرت فضيحة ووترجيت عام
1974م كان لاجتهاد المحكمة العليا بعدم أحقية الرئيس الاحتفاظ بأسرار ومعلومات
يكون لإعلانها أثر على سير العدالة ودورها في مجريات هذه القضية التي أدت إلى
استقالة الرئيس نيكسون.
الفصل الثاني: الأجهزة التنفيذية:
تنبثق هذه الأجهزة من الرئاسة؛ فهي امتداد لها، ولقد أدى تشعب
المسؤوليات الرئاسية إلى بروز دور هذه الأجهزة في صياغة القرار السياسي
الأمريكي.
وحاول الباحث التركيز على أهم هذه الأجهزة التي تتدخل بشكل ما في
صناعة القرار.
أولاً: الإدارة:
هناك جملة من المميزات التي يمكن القول: إنها تميز الحياة الإدارية
الأمريكية، وهي:
الاتساع العددي لطاقم الموظفين العاملين في الأجهزة الإدارية الفيدرالية
ليناهز الملايين، وكانت من ضمن أهداف كلينتون في حملته الانتخابية؛ حيث
قال: (إن الإدارة الفيدرالية تتخللها بيروقراطية قائمة على التسلسل القيادي والمصالح الخاصة منبعها السلطة المترسخة والمال) .
تسعى هذه البيروقراطية من خلال المعلومات التي تقدمها لدوائر القرار
والتعقيدات والملابسات التي تحيط بها وظائفها - تسعى لممارسة ضغوط على
الرئيس باتجاهات متعددة لتسير بالقرارات وفق آراء ومصالح معينة.
كذلك تنشأ علاقات بين موظفي الإدارة والخبراء الحكوميين وبين أعضاء
الكونجرس من جهة، ومن جهة أخرى مع المجموعات الصناعية والتجارية،
تتبادل فيها المصالح والصفقات مما يؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى عملية
صناعة القرار.
انسياب المعلومات وتدفقها من الأجهزة الإدارية وخصوصاً المؤسسات
الاستراتيجية في الدولة لدوائر تشريعية أو مؤسسات خاصة.
\يتجلى ثقل البيروقراطية في القرارات السياسية التي تعالج قضايا مزمنة
كالبطالة والإصلاح الاقتصادي؛ نظراً للوقت الذي تستغرقه بلورة الاختيارات
والبدائل التي تعتمد لاتخاذ القرار النهائي.
ثانياً: مجلس الأمن القومي:
أنشئ المجلس عام 1947م بمقتضى قانون الأمن القومي، وتتمثل وظيفته
الأساسية في تنسيق جميع أنشطة المصالح والمؤسسات المهتمة بالأمن القومي
وتحديد الأهداف العامة والخطط المتعلقة بقضايا الأمن القومي.
ويرأس رئيس الدولة بنفسه أعمال المجلس، ويضم وزير الخارجية والدفاع
والخزانة ورئيس هيئة الأركان العامة، ويمكن دعوة عدد من كبار الموظفين حسب
حاجة الموضوع محل الاهتمام.
ويتولى مستشار الأمن القومي عملية تنسيق الأعمال التي يقوم بها المجلس،
وخلال حرب الخليج كانت اجتماعات المجلس تضم في الغالب الرئيس بوش،
وسكراو كرونت مستشار الأمن القومي، وجيمس بيكر وزير الخارجية، وديك
تشيني وزير الدفاع، وكولن باول رئيس هيئة الأركان، ونائب وزير الدفاع ونائب
مستشار الأمن القومي، ومدير المخابرات، ومدير مكتب البيت الأبيض؛ ونظراً
لأهمية القضايا التي تطرح على مجلس الأمن القومي فهناك من يطلق عليه: مجلس
وزاري ضيق، أو مجلس الحرب.
وقد حدد مجلس الأمن القومي شروط قرار الأزمة من خلال جملة من
المؤشرات:
- ضيق الوقت وعدم إمكانية القيام بالإجراءات الروتينية لجمع المعلومات.
- التهديد باستخدام القوة والعنف.
- عدم توفر المعلومات الكافية للتوصل إلى حل أو تسوية.
وقد قال كلينتون بعد انتخابه مباشرة: إن السنوات الأربع المقبلة ينبغي أن
تكون حداً أقصى لوضع خطة جديدة لقيادة العالم، وإن انتهاء الحرب الباردة حتمت
الحاجة إلى فريق في البيت الأبيض ليس هدفه مقاومة التغيير بل تحديد شكل
التغيير ووضع سياسة جديدة للأمن القومي.
ثالثاً: وكالة المخابرات المركزية (C. I. A) :
تتلخص وظائف الوكالة في ثلاث وظائف رئيسة:
- تقديم المعلومات والمعطيات في الميادين الاستراتيجية: العسكرية
والسياسية والاقتصادية لمجلس الأمن القومي ولدائرة القرار في مجال السياسة
الخارجية.
- تقديم التحليلات والتقويمات والتقديرات للأوضاع السياسية والعسكرية
والاقتصادية والاستراتيجية في بلدان العالم بناء على طلب مجلس الأمن القومي أو
الرئيس، أو عندما تتبلور لدى مسؤولي الوكالة تقويمات بشأن أوضاع بلد أو منطقة
معينة في العالم.
- القيام بأعمال أو عمليات سرية في الخارج لتنفيذ أهداف استراتيجية أو
سياسية أو عسكرية محددة في إطار برنامج السياسة الخارجية الأمريكية.
وأنشطة المخابرات تخضع بالكامل لسيطرة الرئيس وجهازه التنفيذي؛ ولكن
الكونجرس يتابع هذه الأنشطة من مدخلين:
- الاعتمادات المالية المخصصة لها.
- التحقيق ومراقبة أعمالها، وذلك من خلال لجنة دائمة.
كذلك فإن المحكمة العليا أقرت عام 1973م أثناء فضيحة ووترجيت مبدأً وهو: أن الرئيس ليس مخولاً بالاحتفاظ بسرية معلومات من شأن الإعلان عنها التأثير
على مجريات وحيثيات العدالة.
إن قوة هذه الوكالة وتأثيرها على العملية السياسية الأمريكية تنبع من عاملين:
1- الإطار السري الذي يحيط بعملها الذي يحميه التشريع الأمريكي.
2- الميزانية الضخمة التي تتوفر عليها (30 مليار دولار سنوياً) وهذه
تتجاوز ميزانية دولة مثل المغرب.
ومن مظاهر تأثير الوكالة في صنع السياسة الخارجية:
في عام 1961م عندما كشفت عن وجود منصات الصواريخ الروسية في
كوبا وهو ما استند عليه الرئيس كنيدي في قراره بمحاصرة كوبا.
أخفقت الوكالة في تقديراتها بالنسبة لفييتنام مما أدى إلى تورط أمريكا في
حرب خاسرة.
وبالنسبة للتعامل مع الحركات الإسلامية يجري تنفيذ استراتيجية أعدتها
الوكالة، وقد فسر وليام كوانت مستشار الأمن القومي في عهد كارتر والمشرف على
قسم دراسات الشرق الأوسط في معهد بروكنز للدراسات الاستراتيجية بواشنطن
حالياً فسر هذه السياسة بقوله: (إن الاتصال بزعماء هذه الحركة لن يغير من
استراتيجية الولايات المتحدة سواء في مواجهة خطر هذه الحركات أو دعمها
للأنظمة الصديقة التي توجد بها، وغاية ما في الأمر أن الولايات المتحدة حريصة
على الاتصال بمخالفيها الرأي لمعرفة ماذا ينوون فعله (وكان كوانت يرد على
انتقادات مصرية وجهت للإدارة الأمريكية خلال عام 1993م بسبب اتصالات جرت
بين عناصر من الوكالة وزعماء إسلاميين مصريين.
وتقيم الوكالة علاقات اتصال دائمة في منطقة الشرق الأوسط مع كبار
المسؤولين في الدول.
يقول الملك الحسن في مذكراته: إذا كان حبل التفاهم موصولاً بين الدول
خارج القنوات الرسمية التقليدية بواسطة المخابرات فحينئذ يكون الاقتناع من أن
الرسالة ستصل مباشرة دون أن تكون موضع تعليق أو تصل إلى شخص آخر،
وتلك طريقة أمارسها مع عدد معين من البلدان.
ولعبت اتصالات وكالة المخابرات المركزية مع منظمة التحرير الفلسطينية
دوراً حاسماً في خلق أجواء الحوار الأمريكي - الفلسطيني التي كان من آثارها فيما
بعد القرارات المتعلقة بتسوية قضية الشرق الأوسط.
وإثر اغتيال كنيدي عام 1963م برزت في الساحة الأكاديمية والسياسية
الأمريكية نظرية تدعم اتجاه تحليل القرار السياسي الأمريكي من منطلق دورٍ رئيسٍ
تقوم به الوكالة وتتحكم من خلاله في مختلف أطراف العملية السياسية، ويطلق على
هذه النظرية: نظرية المؤامرة التي قوامها بناء الرأي عند تحليل الحدث أو الموقف
أو القرار السياسي على المعلومات أو التقارير السياسية التي تقف وراء الحدث أو
القرار، وأن المظاهر لا تعني سوى التمويه وإخفاء الفاعلين الأساسيين الحقيقيين
(أي رجال المخابرات) . وجرى استخدام هذه النظرية في تحليل القرارات السياسية
الأمريكية في عدد من مناطق العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط، ولكن - كما
يوضح الباحث - فإن هذه النظرية تضفي على الولايات المتحدة هالة أسطورية
خارقة من القوة تجعلها تتصرف في العالم كله، كما لو كان خاتماً في إصبعها.
وهذا لا يقلل من خطورة الوكالة؛ فلم يرصد لها المبالغ الطائلة والقوة البشرية
الهائلة لنشر النشاطات الثقافية في العالم؛ بل لتكون الجهاز التنفيذي الأكثر نجاعة
وفعالية داخل عملية صناعة القرار السياسي الأمريكي في مختلف مراحله: إعداداً
ودراسة وتقريراً ومتابعة وتنفيذاً.
رابعاً: وزارة الدفاع:
تتألف المؤسسة العسكرية من ثلاث وحدات رئيسة:
قسم وزارة الدفاع التي يرأسها وزير مدني وهو المسؤول الإداري المكلف
بشؤون الدفاع، ويخضع لرئيس الدولة مباشرة.
قسم هيئة الأركان التي تتولى تقديم المشورة العسكرية لرئيس الدولة،
وتشرف على هيئات وقادة جيوش البر والبحر وسلاح الجو.
قسم القيادات المتمركزة في جميع أنحاء العالم التي يشرف عليها قائد
القيادات وله صلة إدارية بوزير الدفاع ويخضع لإشراف واتصال من قِبَلِ رئيس
هيئة الأركان المشتركة.
وهي عشر قيادات: قيادة الأطلسي، القيادة المركزية، الأوروبية، قيادة
القوات، الباسفيك، القيادة الحكومية، الفضاء، العمليات الخاصة، الجوية
والاستراتيجية، النقليات.
وأثناء الهجوم على ليبيا عام 1986م صرح ريشارد ميرل مساعد وزير الدفاع
آنذاك: بأن الولايات المتحدة ستستخدم قواعدها العسكرية حسب ما ترتئيه القيادة
العسكرية دون الرجوع للحكومة.
أما اتخاذ القرار العام بشأن المناورات في خليج ليبيا فقد اتخذ على مستوى
آخر، وحسب صحيفة هيرالد تريبيون فإن البدء بالمناورات تقرر بناءاً على
مداولات بين مسؤولين من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والـ C. I. A والبيت
الأبيض.
وإذا كانت مساهمة المؤسسة العسكرية في صناعة القرار العسكري تعتبر
محورية فإن دورها في القرارات السياسية ذات الطابع الدبلوماسي أو الاقتصادي لا
يقل أهمية؛ حيث إن القرار السياسي الأمريكي هو نتاج تحالف نخبة عسكرية
وبيروقراطية إدارية، وأصحاب الصناعات الكبرى الاستراتيجية تؤلف بمجموعها
ما يصطلح عليه في أمريكا بمركب صناعي عسكري بيروقراطي، وتفسر عدة
قرارات سياسية أمريكية على أساس صفقات عسكرية اقتصادية يبرمها تحالف
اللوبي الصناعي والتكنولوجي والقيادات العسكرية في البنتاجون مع الدول الأجنبية
فلا يكون أمام مسؤولي البيت الأبيض - وأحياناً وزير الدفاع نفسه - سوى
الإذعان والتواطؤ. ومن أمثلة ذلك: صفقة الأسلحة التي تمت بين إدارة ريجان
وإيران عام 1986م.
خامساً: الجهاز الدبلوماسي:
ينقسم عمل وزارة الخارجية حسب التوزيع الجغرافي إلى إدارات: إدارة
أوروبا، شؤون القارة الأمريكية، شؤون الشرق الأوسط وأدنى شرق آسيا،
الشؤون الإفريقية، المنظمات الدولية.
وحسب الناحية الفنية: الشؤون القانونية، الاقتصادية، المراسيم، الاتصال
والإعلام، التخطيط السياسي، الأبحاث والاستخبارات.
وتشكل سفارات الولايات المتحدة بالخارج حلقة أساسية لتنفيذ القرارات
المتعلقة بالبلد المعنيِّ ومتابعة سير العلاقات وتطورها، وتُعتمد تقارير السفارات
مصدراً رسمياً للمعلومات والتقييم والآراء.
وأكبر مثال على تأثير العملية الدبلوماسية في القرار هو دور جلاسبي سفيرة
الولايات المتحدة بالعراق؛ حيث أدى كلامها مع الرئيس العراقي قبل الغزو وقولها
بعدم ممانعة الإدارة الأمريكية من مطالبة العراق بحقوقه من الكويت والإمارات،
وأن الولايات المتحدة لا تتدخل في الصراعات العربية - العربية أدى هذا إلى
اعتبار الرئيس العراقي ذلك بأنه ضوء أخضر أمريكي لتحرشاته بالخليج؛ ولكن
مساهمة السفارات في تكوين الرأي لدى الإدارة المركزية يكون وفق معايير سياسية
تتحدد بناء على اختيارات وأولويات البرامج السياسية للحكومة. ومثال ذلك:
معيار حقوق الإنسان، ومعيار مكافحة الإرهاب والمخدرات؛ ولكن هذه
التقنية الدبلوماسية تحفها في الواقع بعض الشروط التي تبعدها عن أهدافها، وظهر
ذلك في عهد الرئيس بوش عندما خضع لضغط اللوبي اليهودي كي لا يُنشر تقرير
أعدته السفارة الأمريكية بتل أبيب عام 1991م عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق
الإنسان الفلسطيني.
ويتجلى المظهر الثاني في تطبيق المعايير من جانب الدول المعنية نفسها
عندما تنهج إلى تكتيك سياسي ودعائي يتطابق مع المعايير السياسية المعنية كأن
يركز الخطاب السياسي للدولة على حقوق الإنسان أو تثير الدولة مسألة الخصوصية
الثقافية والحضارية فتظهر الولايات المتحدة حينها بمظهر تدخلي في الشؤون
الداخلية للدولة.
ولعبت شخصية وزير الخارجية دائماً دوراً كبيراً في توجيه القرار الأمريكي،
ومثال ذلك: شخصية كيسنجر اليهودي الألماني الذي تولى منصب وزير الخارجية
في عهد نيكسون الذي اشتهر بمساعدته الدائمة لإسرائيل على الخروج من مآزقها
العسكرية والدبلوماسية.
الفصل الثالث: الهيئات والجماعات المؤثرة:
المبحث الأول: الأحزاب السياسية:
يسيطر على النظام الحزبي في الولايات المتحدة حزبان: الحزب
الديموقراطي معبراً عن فئات الطبقة الوسطى والاتجاه التحرري في القضايا
الاجتماعية والحزب الجمهوري معبراً عن نزوع الفئات الميسورة التي تجمع بين
السلطة الاقتصادية والنفوذ السياسي.
ويرى بعض علماء السياسة أن السنوات الأخيرة اتسمت بتراجع دور
الأحزاب في تشكيل الفريق التنفيذي الذي يعينه الرئيس.
ويرى موريس ديفرجيه: (أن ظاهرة جديدة تميز الأحزاب الأمريكية: فبدل
أن يصبح تأثيرها على البرلمانيين المنتمين للحزب يصبح البرلمانيون مصدر تأثير
وتوجيه للحزب) .
ويمكن القول: إن القضايا الخلافية بين الحزبين تظهر في ميادين السياسة
الداخلية أكثر منها في حقل السياسة الخارجية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال
الاستمرارية التي طبعت قرارات الولايات المتحدة إزاء مفاوضات الشرق الأوسط
وأزمة الخليج.
المبحث الثاني: الجماعات الضاغطة (اللوبي) :
هي إطار تنتظم فيه مجموعة ذات مصالح ومنافع مشتركة وتستهدف التأثير
على صناعة القرار من أجل توجيهه بما يتوافق ومصالحها وأغراضها.
وهناك المجموعات المرتبطة بالأصول الدينية والعرقية كاليهود والسود وذوي
الأصول اليابانية والأسبانية، وهناك أيضاً جماعات المهن والبيئة ونقابات العمال
واتحادات رجال الأعمال.
وتستخدم هذه المجموعات مجموعة من أدوات النفوذ: القوة المالية، والقوة
العددية أو النوعية، وتتوفر جماعات اللوبي على وضع شرعي من الناحية الواقعية
والقانونية رغم أن عدداً من السياسيين والأكاديميين ينظرون إليها من منظور
أخلاقي بازدراء، وقد أخذت أشكال عمل اللوبي صيغاً أكثر دقة وتطوراً في
السنوات الأخيرة بحكم التقدم الحاصل في الميدانيْن التكنولوجي والتدبيري فأصبحوا
يعتمدون على المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة للوصول إلى أصحاب القرار.
وتذهب حقيقة العملية السياسية الأمريكية إلى أن هنالك جماعات ضغط قوية
جداً ذات تأثير قوي على القرار السياسي، وهنا يبرز دور اللوبي الإسرائيلي في
صناعة القرار السياسي الأمريكي الذي تتجلى قوته في مظهرين أساسين:
1 - قوة موارده وضخامتها داخل الولايات المتحدة وخارجها: المالية منها
والإعلامية.
2 - نفوذه داخل المؤسسات الأمريكية إلى أعلى قمة هرم الدولة (البيت
الأبيض) .
المبحث الثالث: المؤسسات الاقتصادية:
تمارس المؤسسات الاقتصادية دورها في صناعة القرار من خلال عدة مظاهر:
1 - الارتباط بين المؤسسة العسكرية وشركات الصناعة.
2 - بروز دور قوي للشركات المتعددة الجنسيات وتأثيرها على مجريات
الأوضاع داخل بلدان العالم الثالث ومن ثَمَّ على القرار في واشنطن.
3 - ظهور دور المنظمات الدولية المتخصصة، وخاصة صندوق النقد
الدولي والبنك الدولي في توجيه القرار السياسي للبلدان النامية، وتعتبر الولايات
المتحدة من أقوى الفاعلين داخل هذه المنظمات وتؤدي أكبر حصة مالية فيها.
4 - قيام الولايات المتحدة بأدوار دولية ترتكز على الاقتصاد مثل مشروع
مارشال في أوروبا؛ كما كان للعامل الاقتصادي الذي استخدمته الولايات المتحدة
أثره الكبير في إضعاف الاتحاد السوفييتي، ومن ثم سقوطه.
5 - تمدد نفوذ العائلات الغنية في أمريكا داخل مؤسسات السياسة الأمريكية
مما جعلها ذات أثر في توجيه القرار الأمريكي بما يخدم المصالح الاقتصادية لهذه
العائلات.
مثلاً: عائلة روكفلر من أكبر مالكي شركات النفط وكان منها ريجينو
بريجنسكي مستشار كارتر للأمن القومي، وكذلك بوش الذي كان يشغل منصب
رئيس مجلس إدارة شركة (زاباتا أوفشور) النفطية في تكساس وهي التي مولت
حملته الانتخابية وظهر أثرها على اهتمامه بالنفط خاصة إبان أزمة الخليج.
المبحث الرابع: (الرأي العام) :
مع مطلع الثلاثينات قام (كنت كوبر) مدير الوكالة الأمريكية للإعلام بشن
حملة عنيفة على الإعلام العالمي؛ حيث كانت تحتكره حينذاك دول أوروبا فقال:
(إنها - أي الدول الأوروبية - تستخدم احتكارها للأخبار الدولية لتحديد ما يسمح به
من معرفة كل شعب عن الشعوب الأخرى واختيار ظلال المعاني التي يقدمون بها
هذه المعرفة ... إن الروح الأمريكية الوثابة لم تظفر بحقها في العرض؛ وذلك بعد
تبلور الاتجاهات الدولية عن سلسلة من الانطباعات والانحيازات التي أثارتها
وكالات الأنباء) .
لقد أضحت العملية الإعلامية صناعة كبرى؛ فحسب الأرقام الرسمية: توجد
بالولايات المتحدة أكثر من عشرة آلاف صحيفة يومية أو أسبوعية، وعدد كبير من
القنوات التلفزيونية مثل NBC وتمتلك الدولة أغلب أسهمها، و CNN التي يمتلك
أسهمها القطاع الخاص، وقد حرصت الحكومة على أن لا يشمل الاتفاق التجاري
مع أوروبا مجال المنتجات السمعية البصرية؛ لأن للأوساط السياسية النافذة في
البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية علاقات استراتيجية كبيرة تمكنها من
تطويع القرار في أمريكا بحسب ما تريده هذه المؤسسات.
ويستطرد الباحث قائلاً: إن عصرنا الحالي يتميز بحجم التدفق الهائل
والخطير للمعلومات وتقنية تكاليف الحصول عليها؛ وفي آخر الإحصائيات أن
معالجة مليون عملية إعلامية أصبحت تكلف 0. 06 دولار وتستغرق 5، 0 ثانية
بعدما كانت تستغرق 5 دقائق بتكلفة قدرها 300 دولار. إن هذا الحجم الهائل من
التدفقات المعلوماتية جعلت العملية الإعلامية بيد الأكثر قدرة على التحكم في
مصادرها؛ فمثلاً في حرب الخليج كانت الصحافة والقنوات التلفزيونية تدعم الإدارة
الرسمية ومثلث البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية. ولتغيير وجه الحقيقة
يلجأ صناع القرار للتركيز على مظاهر معينة توحي بوجود توازن والأخذ بالرأي
المعارض؛ وبذلك فإن صناع القرار يستفيدون من المادة الإعلامية من خلال ثلاثة
مظاهر رئيسة:
الحصول على المعلومات المفيدة لصناعة القرار ومعرفة الآراء والمستجدات.
إعلان القرار ومتابعته.
تركيز الاهتمام وخلق مناخ مناسب لتلقي الآراء.
المبحث الخامس: الجامعات ومراكز الأبحاث:
تخصص الولايات المتحدة للأبحاث والتطوير سنوياً 100 مليار دولار؛ بينما
يقدر إنفاق الدول النامية بمجموعها في المجال نفسه بخُمس الإنفاق الأمريكي.
وقد لاحظ الدكتور سعيد سليمان (وزير تربية سعودي سابق وباحث بجامعة
عجمان) : أن الجامعات الأمريكية ودور العلم والبحث فيها أقرب في تكوينها
وتنظيمها إلى بيوت الخبرة منها إلى الجامعات التقليدية المألوفة، وقال معلقاً على
أحداث الخليج: إن الذي حارب في الخليج بشكل مباشر هي الجامعات ومراكز
البحوث؛ ولكن أي نوع من الجامعات، وأي نوع من مراكز البحوث؟
ويوجد بخلاف الجامعات معاهد ومراكز دراسات يتولى الإشراف عليها
سياسيون سابقون ومن أشهرها: معهد بروكنز بواشنطن الذي يشرف عليه وليام
كوانت مستشار الأمن القومي في عهد كارتر.
وفي حكومة كلينتون الحالية من أصل 22 منصباً تنفيذياً تم تعيين ثلثها من
شخصيات علمية وأكاديمية سبق لهم أن تولوا وظيفة التدريس بالجامعات، وفي
كتاب ألفه ستانفيلد تيرنر مدير الـ CIA في عهد كارتر قال: إن على المخابرات
المركزية أن تركز على غير السياسيين في عملية تحليل المعلومات وتقييمها
وخاصة من الأكاديميين؛ وذلك لأن المهم ليس جمع المعلومات بقدر ما هو تحليل
تلك المعلومات وطرق الاستفادة منها.(144/48)
البيان الأدبي
في حوار مع الدكتور عبده زايد:
الأدب الإسلامي كان موجودا منذ أن نزلت سورة الشعراء
حاوره: علي محمد الغريب
لا يعرف كم كان عمره ندما انطلقت حنجرته مع الحناجر الصغيرة في كتاب
القرية تردد آي اذكر الحكيم، لكنه يعي جيدا أن أول شيء طرق أذنيه الصغيرتين
وقتئذ كان كلام الله سبحانه وتعالى فارتبط به منذ ذلك التاريخ وما زال فهو النموذج
الأعلى أسلوبا ومضمونا، ثم عرف بع ذلك الحديث الشريف، والشعر الرفيع
العالي الذي يمثل قيمه.
وعندما التحق بالأزهر لم تكن النقلة بعيدة؛ لأنها كانت امتدادا لما تقدم؛
فدراسة الفقه، والتوحيد، والتفسير، والحديث الشريف، والنحو كلها مرتبطة
ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم.
ولما ظهرت فكرة الأدب الإسلامي، واطلع عليها فكرة مطروحة بين الفكر،
لم تكن غريبة عليه أيضا؛ لأنه يعيش في هذا المناخ منذ نعومة أظافره.
ذلكم الدكتور أحمد محمد علي، الشهير بعبده زايد. ولد الدكتور عبده زايد
بقرية القرنة إحدى أشهر القرى التابعة لمدينة الأقصر بصعيد مصر.
أتم دراسته الأولية بالأقصر، والثانوية بمدينة قنا التي تبعد عن الأقصر عدة
كيلو مترات.
تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر؛ حيث حصل على الليسانس،
ثم تابع دراسته العليا فحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها، والتي يعمل
بها الآن أستاذا للبلاغة والنقد الأدبي.
حول الأدب الإسلامي وعلاقته بغيره من الآداب، ودور الشاعر في المجتمع
المعاصر، والعديد من قضايا الأدب كان لنا معه هذا الحوار.
- كان لظهور مصطلح الأدب الإسلامي ردة فعل أثارت عددا من الإشكالات
حول مفهوم المصطلح ودلالته، بل إن بعضهم دفعتهم الغيرة على الأدب العربي إلى
أن قالوا: إنه لا داعي لوجود ما يسمى بالأدب الإسلامي فالأدب العربي جله أدب
إسلامي، فما حقيقة الأدب الإسلامي وما مسوغات طرحه؟
هناك فرق بين أمرين - ابتداء -: بين المصطلح، ودلالة المصطلح. دلالة
المصطلح قد تكون موجودة بشكل طبيعي دون أن نضع لها مصطلحا معينا أو اسما
معينا إلى أن أتى الوقت الذين نظر فيه المشتغلون بالتقعيد والتقنين ووضع الضوابط
لهذه الظالهرة فوضعوا لها الاسم المناسب، وهذا موجود في كل شيء: في الأدب،
وفي شؤون الحياة المختلفة. فالناس مارسوا الحياة بشكل طبيعي منذ أن وجدوا على
ظهر الأرض؛ لكن ما كانوا يسمون هذا كذا وذا كذا إلى أن جاء وقت سميت هذه
الأشياء التي كانوا يمارسونها بأسمائها، والأدب الإسلامي كان موجودا من حيث هو
واقع أدبي، منذ أن نزلت آية الشعراء [والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في
كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون] [الشعراء: 224-227] . الآية قبل الاستثناء تتحدث عن الشعراء من
حيث هم، والآية بعد الاستثناء تتحدث عن الفئة المستثناة، وهي التي لا تدخل في
سياق النوع الأول، هي مشتركة مع الفئة الأولى في صفة الشاعرية لكن غاية شعر
الفئة الأولى غير غاية الفئة الثانية، والتصور الذي تنطلق منه الفئة الأولى غير
التصور الذي تنطلق منه الفئة الثانية.
- فما جاء بعد الاستثناء يمثل مرحلة النجاة، والشعراء من الصحابة خافوا
من الآية حينما نزلت، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: لقد
أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، فقال: اقرؤوا ما بعدها [إلا الذين آمنوا] قال أنتم [وعملوا الصالحات] قال أنتم [وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد
ما ظلموا] قال أنتم. فهذه الفئة المستثناة لم تتحدث عن الشعر والشاعرية وإنما
تحدثت عن التصور الذي ينطلق منه الشاعر وهو قضية الإيمان؛ فهم ينطلقون من
منطلق غير الذي كان ينطلق منه الذين هم قبل الاستثناء الذين هم في كل واد
يهيمون ويقولون ما لا يفعلون. الكلام هنا لا يتحدث عن الشعر، وإنما يتحدث عن
التصور، وهؤلاء ما سموا شعراء إسلاميين، ولا سميي شعرهم شعرا إسلاميا؛
لأنه لم تكن هناك ضرورة لوضع الأسماء في ذلك الوقت واستمر الحال على ذلك لا
توضع له أسماء، لماذا؟ لأن قضية الأمة كانت كلها قضية الإسلام.
الذي يكتب شعرا والذي يكتب علما، والذي يكتب فقها، والذي يكتب أدبا.
كل نواحي الحياة كانت تسير في هذا السياق. لكن عندما جئنا في العصر الحديث،
ودخل الاستعمار أدخل معه تصورات جديدة، بعضها يتفق مع التصور الإسلامي
ولكن بعضها يتضاد ويصطدم مباشرة مع التصور الإسلامي، هنا بدأ الشعراء
والأدباء المسلمون يفزعون؛ لأن القضية أصبحت تأخذ مسارا آخر.
قديما كان الخروج هينا.. واحد يكتب غزلا فاحشا، واحد يهجو الآخر ويمدح
بالكذب، هذا أمر أخف، إنما في العصر الحديث بدأ الأمر يصل إلى صلب العقيدة
والشريعة، وبدؤوا يخوضون في الثوابت؛ هنا بدأ الخطر، فبدأ الأدباء المسلمون
يدعون إلى أن ينطلق المسلم من تصوره، لا ينجرف الأديب المسلم إلى تصورات
الآخرين؛ لأن له تصوراته، وما دامت له تصوراته فلينطلق منها، وهذا هو بداية
الحديث عن مصطلح الأدب الإسلامي.
وحكاية التسمية نحن مسبوقون فيها؛ لأنه وجد مصطلح الأدب المسيحي قبل
أن يوجد أو يطرح بيننا الأدب الإسلامي، ووجد مصطلح الأدب اليهودي، ووجد
أيضا مصطلح الأدب العلماني، كل هذه المصطلحات وجدت وطرحت في الغرب
وتعامل معها الناس.
أكثر من هذا مصطلح أدب إسلامي ظهر في الغرب وطرح ف الغرب،
والذين أرخوا للأدب العربي ظهر عندهم مصطلح أدب إسلامي، واستخدموه لكن
استخدموه بغير الدلالة التي نعرفها الآن، إلا عند قلة استخدموه بمعنى الأدب الذي
ينطلق أو يعبر عن الحضارة الإسلامية وبروكلمان استخدم هذا المصطلح وأسماه
أدب عربي إسلامي في كتابه تاريخ الأدب العربي والمستشرق الأمريكي جرونبارم
استخدم مصطلح أدب إسلامي في دراسة اسمها: روح الإسلام كما تبدو في الأدب
العربي وأنا كتبت دراسة في هذا، وهي مفهوم الأدب الإسلامي عند المستشرق
الأمريكي جرونباوم، ونشرت في مجلة المشكاة المغربية، وهذا الرجل استخدم
مصطلح الأدب الإسلامي وبدلالة قريبة من الدلالة التي تستخدمها الآن.
فالأدب الإسلامي هو الأدب الذي ينطلق من التصور الإسلامي للإله والكون
الإنسان والحياة. الكون كلها في نظر الإسلام مسبح بحمد الله تعالى وكل المخلوقات
تنسجم في هذه الخاصية [وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم] [الإسراء: 44] .
- ما معيار نسبة أي عمل أدبي إلى الإسلام؟ وهل الأدب الصادر عن مسلم
أيا كان هذا المسلم يعد أدبا إسلاميا؟
- هذه القضية مطروحة منذ وقت طويل؛ لأن الذين عرفوا الأدب الإسلامي
قالوا: هو الأدب الموافق للتصور الإسلامي، فبقض الناس قالوا: ما دام موافقا
للتصور الإسلامي فهو أدب إسلامي أيا كان صاحبه.
- حتى إن لم يكن مسلما؟
- بعضهم قال هذا؛ لكن هذا التصور لو رددناه إلى الأصول التي نعرفها في
الإسلام، وهي أنه حتى يكون العمل صحيحا ومقبولا لا بد أن يكون مقرونا بنية
صحيحة، فإذا جاءني إنسان غير مسلم وكتب شعرا فيه معاني الإسلام، وأعماقه
غير هذا، فكيف أقول عنه إنه أدب إسلامي أو شعر إسلامي؟ لا يصح؛ لأنه حتى
يتسم الفعل بأنه إسلامي لابد أن بكون صاحبه مسلما، حينها نقول: نعم هو مسلم
وصدر عن تصور إسلامي، أما إذا كان غير مسلم فنقول عن شعره أو أدبه: إنه
أدب موافق للأدب الإسلامي.
والمشكلة أن الناس خلطت بين أمرين: بين قبول الأدب وبين كون الأدب
إسلاميا أو غير إسلامي. الأدب يقبل حتى ولو صدر من غير مسلم، إذا كان يعلي
من قيمة إنسانية رفيعة، وفيه إبداع حقيقي. من الممكن أن نتعامل معه، وممكن أن
نتعلم ونستفيد منه، وهذا لا يجبرنا أن نسميه بالأدب الإسلامي؛ بل هو أدب مقبول
ونمدحه أيضا، لصنعته وللقيمة الموجودة فيه لكن لا نسميه أدبا إسلاميا.
- يرجع بعض المحللين ضعف حركة الإبداع إلى تخلف النقد عن مواكبة
الإبداع، فيما يؤكد النقاد أنهم لا يجدون في كثير مما يسمى إبداعا أي مقومات للعمل
الأدبي فأين الخلل؟
- أولا أريد أن أقول لك شيئا: كلا التصورين محتاج إلى مراجعة؛ لماذا؟
لأن الزهرة حينما تعطي أريجها لا تحتاج إلى مهندس، ولا إلى خبير زراعي حتى
يعطيها الإذن لتعطي الأريج؛ هي تعطي الأريج لأنها بخلقتها يصدر عنها ذلك،
هناك أناس يقدرون قيمة الأريج فأهلا وسهلا، وأناس يستفيدون من هذا أريج،
وأناس لا يقدرون. هي تعطي أريجها لأنها مهيأة لهذا الأمر.
والشاعر صاحب الموهبة الحقيقية مثل الزهرة في عطائها، سوف يصدر
عنها الشعر بشكل طبيعي وبشكل تلقائي، صحيح أن الثقافة تزيده والتشجيع يزيده،
لكن حتى لو لم يوجد هذا التشجيع، وما دامت الشاعرية موجودة في داخله تؤرقه
وتقلقه فسوف يعطي وسيستمر. أما الشاعر الضعيف المحتاج إلى وخز بالإبرة
ومحتاج إلى تشجيع، هو الذين نقول عنه: إن النقد يوجهه، هذه هو فقط. أما
الشاعر الشاعر فيعطي ويتفوق وجد النقد أم لم يوجد. والناقد يختلف عن الشاعر؛
لأنه لا بد أن يكون هناك أدب حتى ينقد، إنما إذا لم يكن هناك أدب فماذا ينقد؟ لا
ينقد شيئا. الشاعر والأديب لا يحتاجان إلى وجود الناقد، أما الناقد فمحتاج إليهما.
- عرفنا الرمز في الأدب وسيلة لتجنب المباشرة والإيحاء بأكثر من مدلول
للنص الواحد، فما الذي حوله لدى بعض المبدعين إلى نوع من الطلاسم؟
- بعض الناس خرج عن طبيعة الأدب، ووظيفته ورسالته، والأصل في
الأدب أنه تعبير ذاتي الهدف منه أن يقوم بدور التواصل مع الآخرين، فليس هناك
إنسان يكتب لنفسه أو يكتب لجماعة محدودة مغلقة، هو يكتب للآخرين سواء وجدوا
أو لم يوجدوا.
والرمز كما فهمه القدماء هو الارتفاع بمستوى الأداء الأدبي عن المباشرة حتى
لا يكون شيئا مبتذلا بين الناس ويحتاج من الآخر أن يبذل جهدا حتى يفهم، لكن
هذا الجهد المبذول له ضوابط، لا يكون جهدا ضخما مع حصيلة تافهة، لا بد أن
يكون العمل نفسه له قيمة كبيرة تستحق الجهد المبذول في تحصيلها.
وهذا بالضبط كالإنسان الذي يفتش ف الأرض عن شيء ضاع منه، ويأتي
بالغربال ويغربل التراب ويقلب ويستمر على هذا ساعات طويلة جدا جدا فإذا ما
وصل إلى الشيء ونظر إليه وجده قطعة من الماس أو الذهب، إذا هذا الشيء
يستحق الجهد. لكن كان الذي وصل إليه بعد كل هذا الجهد عبارة عن خرزة مما
يباع في السوق بثمن بخس، فسوف يضرب كفا بكف ويتهم الرجل بأنه غير عاقل؛ لأن المجهود الذي بذله لا يتناسب مع الحصيلة التي حصلها.
والرمز ليس مطلوبا دائما؛ فالتعبير غير المباشر قد نحتاج إليه وربما لا
نحتاج إليه، والقدرة الفنية تتجلى في أن يكون ما تكتبه داني القطوف بالنسبة
للقارئ غير المتخصص، وفي الوقت نفسه يكون عميقا جدا جدا بالنسبة للقارئ
المتعمق، والمثل الأعلى في هذا هو القرآن الكريم وفي شأن القرآن قال الله عز
وجل [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر] [القمر: 32] ، والأديب الإسلامي
مطلوب منه أن يكتب كلاما عميقا، لكن ليس ملغزا ولا غريبا.
- بعض النقاد دعا إلى ضرورة وجود نظرية ترصد جماليات القبح فما قولك
في هذه الدعوة؟
- جماليات القبح! ! القبح الأصل فيه أن يتعلم الناس كيفية تجنبه وابتعادهم
عنه وهذا شيء جميل في حد ذاته.
كالذي يعبر تعبيرا أدبيا ليحذر الناس من القبح ويبعدهم عنه، وهذا جمال
أيضا، بالضبط كما يأتي الطبيب الوقائي ليحذر الناس بالوقاية وليس بالعلاج. لكن
هل معنى هذا أن المرض المحذر منه أصبح جميلا؟ لا؛ فالذين يحذرون الناس من
القبح ويصونون أذواقهم، ويحجبون عيونهم عن أن تقع على قبيح هذا شيء حسن
وجميل.
لكن الذين يشيعون القبح ويمدحونه ويقلبون المقاييس، فهذا تأباه الفطرة؛ لأن
ذلك ليس جمالا وليس مصدرا للجمال أبدا، صحيح هناك أناس انتكست فطرتهم،
فيذمون الشيء الحسن ويمدحون الشيء القبيح لكن هذا يسمى شذوذا، والشذوذ لا
يقاس عليه، ولن يكون منهجا مطلقا.
- لماذا تراجع دور الشاعر في المجتمع العربي، إذ كان قديما قائدا للرأي
ومعبرا عن آمال أمته وآلامها، بل وعن روحها الساخرة، وهل يوجد من الشعراء
من يستطيع أن يضطلع بهذا الدور أم أن ذلك وزع على مؤسسات حديثة؟
- الشاعر العربي في العصر الجاهلي كان صاحب مكانة؛ لأنه كان وحيدا،
هو الوحيد الذي كان يعطي الفن الرائع، وكان يقوم بدور المدافع عن القبيلة،
المدافع عن الأخلاق والقيم التي تواضعت عليها القبيلة، وما كان أحد يخرج عن
القبيلة، وإذا خرج طردته القبيلة، ومن هنا نشأت جماعة الصعاليك.
والصعاليك هم الذين طردوا من قبائلهم؛ لأنهم لم يلتزموا بضوابط القبيلة
ومعايير القبيلة، وما كانوا موضع مدح من القبيلة وإنما كانوا منبوذين.
في العصور الحديثة لم يعد الشاعر هو المعبر الوحيد؛ فوسائل التعبير تعددت: وجدت القصة ووجدت المسرحية، وجدت وسائل كثيرة جدا جدا، ولذلك كان
هناك فرق بين أن تكون أنت الوحيد وبين أن يكون لك شركاء. حينما يكون لك
شركاء يصبح دورك أقل؛ لأن الأمر توزع، كان على كاهلك وحدك فأصبح لك
شركاء عديدون.
اليوم البرنامج التلفزيون يشاهده عشرات الملايين ومئات الملايين بسبب
القنوات الفضائية التي انتشرت ف كل البلاد، لكن الشاعر كم واحد يستمع إليه؟
قلة قليلة جدا؛ لكن دوره لم يسقط، وما زال موجودا؛ لأن ملايين الأطفال في
المدارس يقرؤون شعر الشاعر ويحفظونه، ويتأثرون به ويستقر في وجدانهم،
وبعض الشعر يبقى في عمق الذاكرة. الشعر موجود يتعلمه الأطفال، والأناشيد
الموجودة على شرائط الكاسيت في كثير منها شعر موزون مقفى. فالشاعر لم يغب، ولكنه وجد من يشاركه دوره.
- تميزت فترة الازدهار الأدبي في مصر خلال النصف الأول من القرن
العشرين بظاهرة تعدد الرابطات الأدبية، مثل أبولو والديوان ... الخ. فهل
تطمحون إلى تمثل رابطتكم استمرارا لذلك التفكير بأثره الإيجابي على حركة
الإبداع؟
- إن كان المقصود الاستمرار والتأثير وإقامة روابط، نعم نطمح إلى أن تقوم
رابطة الأدب الإسلامي بأدوار كهذه وأعظم؛ لأن هذه الروابط كانت محلية في ذاتها
ومحدودة التأثير، نحن نطمح إلى ما هو أوسع؛ فرابطة الأدب الإسلامي موجودة
الآن وجودا فعليا على مستوى العالم سواء في الكليات الأكاديمية، أو بأعضائها؛
فالمكاتب الآن منتشرة على مستوى الوطن العربي والوطن الإسلامي، فهناك مكاتب
للرابطة خارج الوطن العربي، كتركيا وإندونيسيا وماليزيا وباكستان والهند،
وللرابطة الكثير من المجلات العربية وغيرها من اللغات، ولها الكثير من الندوات
والمؤتمرات الكثيرة جدا.
ولعلك تتعجب أن هذه الظاهرة وصلت إلى الجامعات الأوروبية، وبعض
الباحثين هناك جاء إلى هنا ليبحث عن هذا الشيء الذي يقال له: الأدب الإسلامي،
وفتش عن أهل الاختصاص، وسألهم وأخذ منهم بعض الكتب والمجلات ليعرف ما
هذه الظاهرة.
هذه الظاهرة جديدة؛ لأن الذي كان قبل ذلك كان تقليدا للأدب الغربي وأوروبا
وكان الشاعر يفخر بأنه امتداد لفلان وعلان من أدباء الغرب، إنما هذه الظاهرة
تنبع من البيئة الإسلامية وليست تقليدا لاتجاهات شرقية واتجاهات غربية، وعندهم
رسائل مسجلة حول هذا الموضوع، فنحن نطمح إلى ما هو أبعد مما حققته الروابط
التي ظهرت في بداية القرن العشرين.
- بالنسبة لإصدارات الرابطة سواء على مستوى الكتب أو المجلات نلحظ أن
عدد الكتب الصادرة قليل جدا والمطبوعة التي تصدر عن الرابطة تصدر بشكل
فصلي، وما يطبع منا لا يكفي القراء. ألا يوجد لديكم اتجاه لإصدار المجلة شهريا
وبأعداد أكثر مما تطبع الآن؟
- نحن نتمنى ما تتمناه ونرجو ما ترجو، ولكن المشكلة ليست فيما ترغب،
المشكلة في أمرين: في جانب الإعداد وجانب التمويل، ولعلك ولعل إخواننا لا
يعرفون أن هذه الرابطة التي شرق اسمها وغرب وشرق أتباعها وغربوا ووجدوا
في أماكن كثيرة من العالم، لعلك تعلم أو لا تعلم أنه لا يوجد شخص متفرغ لهذه
الرابطة؛ لأن جميع الجهود المبذولة تطوعية من أناس لهم أعمال ولهم أشغال
تشغلهم في البحث عن الرزق، ويعطون هذه الرابطة جزءا من وقتهم، يقتطعونه
احتسابا لوجه الله.
ومعنى أن يتفرغ شخص لها، فمن أين يأكل؟ ومن أين يعيش؟ فالرابطة لا
تعطي أحدا شيئا إلا مجموعة قليلة جدا من الموظفين والإداريين هي التي تعطيهم
أجرا.
ويوم أن يكون لهذه الرابطة دخل ذاتي يكفيها ساعتها ننظر في أن نفرغ لها
من يقوم على أمرها، أما الآن فمن الصعب جدا أن يتفرغ لها أحد، ولذا فنحن
نفعل ما نستطيع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأقول لك شيئا: إن الله يبارك في المجهود فيتحقق به النتائج ما لا نحلم به؛
لأن الجهد المبذول لا يتناسب مع النتائج، ولذلك النتيجة فيها توفيق من الله سبحانه
والله يعلم أن جهودنا لا نستطيع أن نفعل بها أكثر من هذا، فأعطانا التوفيق،
وأعطانا من عنده ما يسدد به عجز جهودنا. وكما يقول سبحانه [أفرأيتم ما
تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون] [الواقعة: 63-64] . فنحن نحرث؛ أما النتائج والحصاد فبيد الله وحده.(144/58)
البيان الادبي
خاطرة أدبية
ليهنك الربح.. مسيلمة! !
سالم بن عبد الله الشقي
إنّ مما لا ينمحي من الذاكرة - في ركن الهوامش غير المفيدة منها - العبث
الساذج الذي قاده في حقبة غابرة المأفون (مسيلمة) بخروجه عن دائرة المنطق
المعقول إلى بيداء الضالين سبيلاً، المنصوصة بمقطوعاته المضحكة من
(الضفدعة) أو (طبق الخبز) ، إنها الفقاقيع التي تتلاشى في هواء الحق والحقيقة
حين تصّاعد، أو حين لا تتجاوز الحروف مخارجها، ولعل من عهده ذاك تأسست
الشركة المعمّرة التي ظهرت في السوق منتجاتها مختومة باسم (الفقاقيع المسيلماتية
الأدونيسية المتحدة) تلك المنتجات ذات الذات النتنة والرائحة المستقذرة التي تتهافت
عليها الحشرات الهاربة من رائحة (الأترجة) وطعمها؛ إذ تنكب زبائن أغرار سبيل
الفطرة السوية وطفقوا يتلقفون بنهمٍ جشعٍ تلك المنتجات حتى عسكروا إقداماً مراهقياً
على وصيد (جحر الضب) ، يترقبون احتفال قص الشريط من سدنة (الشركة)
فيدخلونه! كل ذلك سعي لا تباطؤ فيه على الطريق الممتدة إلى جنون العظمة أو
عظمة الجنون!
وهم إذ ذاك يتبايعون في سوق خاصة، تروج فيها سلع المدح والإطراء
والثناء كيلاً لا تطفيف حتى لفائضه! معاطاة عن تراض بلا خيار! وتحركت
كوامنهم إبَّانئذٍ (براً بأسلافهم) فشرعوا يبرزون الصور الدعائية، ظاهرها فيه
(الإبداع، والحرية، والتجديد) وباطنها من قبله (الخروج عن نصوص الشرع،
ونبذ القديم بما فيه الوحيان، وتغطية النقص بالغموض) ووصف حالهم لا يعدو
كلمتين أنهم قوم (افتضحوا فاصطلحوا) وسرعان ما تقفز إلى مخيلتك قصة الغراب
المضحكة في مشيته اللقيطة!
إبداع أحدهم أن يحشد جمعاً من الكلمات الفواحة المتنافرة في الجمع أشبه ما
تكون بخلط مختلف الأطباق في طبق واحد يحمل على الغثيان قبل وعكة البطن!
وبشرط أن يتقن في طريق الإبداع - لعبة (القص والتلصيق) بين قصاصات
مجزأة من معجمات اللغة الثرة؛ تلك الكلمات التي تأبى الترابط والاجتماع فتظل
متثائبة ليس لها عمل في بناء معنى أو ربط جمل أو توصيل فكرة، وما تدري
حينها أهي التي تتثاءب أم أنت؟ غير أنك ستذكر يوم أن أسلمتها إلى النوم وأخلدت
إليه.(144/64)
البيان الأدبي
إنذار
قصة قصيرة
عبد الجواد محمد الحمزاوي
بين الحقول الممتدة الخضراء والسماء العالية الزرقاء، والأشجار الباسقة
النضرة كان وائل وابن عمه ياسر يمتطيان حمارين قويين.
نسمات رطبة من نسمات الصبح الباردة هبت، تحركت أغصان الأشجار
وتصافحت أوراقها وعيدانها، ثم التفت على الجذع لتنفض عنه ما علق به من غبار
الطريق، حفيف الأشجار وزقزقات العصافير كان شيئا جميلا رائعا.
أطبق وائل عينيه في نشوة وترك الهواء ليدخل إلى رئتيه في شهيق، أما
ياسر فإنه جمع ملابسه على جسده ليخفي عنقه بملابسه، ووجهه بيديه ويقول:
آه هذه نسمة باردة، أخاف أن أصاب بالبر، تعال نرجع يا وائل.
ضحك وائل في سعادة وقال:
أنت لم تتعود هذا الهواء النظيف المنعش في المدينة يا ياسر، دع الهواء
الطازج يدخل إلى رئتيك لتنتعش، ولا تخش شيئا.
شيئا فشيئا، ابتدأ الحديث بين ابني العم يأخذ طابع التحدي، ياسر يصر على
أن المدينة خير من القرية، ووائل يصر على أن القرية خير من المدينة، ياسر
يقسم ويرفع صوته صارخا ليسمع العصافير والأشجار وكل شيء بأن الناس في
المدينة خير من القرية؛ فهم متفتحون أذكياء، ووائل هو الآخر يقسم ويرفع صوته
حتى يكاد صوته يبلغ أباه وأمه في المنزل بأن ناس القرية خير من ناس المدينة؛
فهم طيبون أوفياء لا يجدون في أنفسهم حسدا ولا حقدا لأحد.
أخذ الصوت يرتفع ويرتفع والانفعال يزداد ويزداد، ففسد هدوء المكان وذهب
جماله ... لم تستطع زقزقات العصافير ولا هديل الحمام أن يغطي أصوات الشجار، وكاد الأمر يتحول إلى عراك.
فجأة صاح الحماران.. هاء.. هاء.. هاء.
استطع النهيق أن يغطي أصوات الشجار، على الناحية الأخرى من الحقل،
سمع النهيق فلاح كان يروي أرضه فصاح: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم.
لم يستطع ياسر أن يصبر على نهيق الحمارين فصاح:
أسكت يا وائل هذين الحمارين الغبيين.. بعد قليل سكت الحماران وعاد ابنا
العم إلى المنزل ساكتين..
في الطريق نظر الحماران إلى بعضهما البعض وقالا:
عجيب أمر ابن آدم يغضب من صوتنا العالي ولا يدرك هو أن صوته كان
عليا مثلنا؟ لم نكن نتشاجر، بل كنا نحذره من الشيطان الذي كان يحوم حول
المكان ويغريهما بمزيد من الشجار والعراك ليستعيذا بالله منه، وبدلا من أن يشكرانا
فإنهما يشتماننا ويضرباننا.(144/65)
نص شعري
حلم الأقصى
نجاح عبد القادر سرور
كل يعلق.. في جدار دراه
وعند كل زاوية
صورة.. للمسجد الأقصى
في مدخل الأبواب
في المجالس
ترى هناك صورة كبيرة عالية
للمسجد الأقصى هنا
قام الفتى بوضعها
إلى جوار مطرب وغانية
وفوق أرفف الكتب
وعند نافذة تطل نحو بيت جاره
ترى هناك صورة
دقت جوار صورة لذلك الفتى
يحتضن قطا نائما في حجره
ولوحة كبيرة
قام الفتى بوضعها
للمسجد الأقصى هناك
على حدود سريره
وهكذا يبدو الفتى مشاركا
بالوهم في تحريره
المسجد الأقصى يقول:
متى يزول جيلكم بعاره
متى يزول؟ ؟
لكي يجيء بعدكم
جيل يحب الله يمضي وفق منهاج الرسول
جيل بهي الطلعة
جيل يصلي فجره
كصلاة يوم الجمعة
جيل يعيد الشمس فينا
بعد أيام الأفول
ويعيد في ميداننا
صوت الأذان
يصغي لصوت جهاده
ينبعث من أحجاره
يا مسلم، هذا يهودي ورائي
فاقتلع نبت النجاسة من أساس جذوره
جيل سيحرق كل فرد
من يهود بناره
فمتى يزول جيلكم بعاره
متى يزول؟ ؟(144/66)
البيان الأدبي
تائهٌ في الظلام
عبد الله عطية عبد الله الزهراني
عاش بعيداً عن نور الهداية، محتاجاً إلى من يرشده إلى دربها.
رَسَمَ الْهَمُّ في عُيُوني طُلُولا ... فكأنِّي أَصْبَحْتُ فيها قتيلاً
وكأني في عالمٍ قد تَدَاعى ... صار فيهِ الضياءُ أمْراً مَهُولا
أَظْلَمَ الليلُ، وَاسْتحَالَتْ هُمُومي ... عَلْقماً مَزَّق الفُوادَ العَليلا
أَظْلَمَ الليلُ، ما لِطًَرْفِي جَمُودٌ؟ ... يزْدَري الغمْضَ والرُّقادَ الطويلا
أَوْقفَ الليلُ سَيْرَهُ لم يُغادِرْ ... نحْوَ فجْرٍ، ولمْ يُجاوزهُ ميلا
أيُّها الليلُ: سِرْ تحرَّك فإني ... في سواد الدُّجى سأبقى هزيلا
أنتَ يا ليلُ مُوْحِشٌ ولِّ عَنِّي ... سُمْتَني الخسْفَ والرَّدَى والنكولا
كيف لي أن أسيرَ عنك بعيداً ... نحْوَ صُبْحٍ، وقد فقدْتُ الدليلا؟
ليس لي مؤنِسٌ وهمِّي عَظيمٌ ... أتشكّى اللظى، وأشكو الذبُولا
تائهٌ بين أنجُمٍ ودُرُوبٍ ... أطلبُ النُّور والضياء القليلا
أيُّها التَّائهُ الْحزينُ تَقَدَّمْ ... واسْعَ في هِمَّةٍ سَتَلْقَى سَبيلا
جَدِّدِ العزْمَ في خِضَمِّ حياةٍ ... تورثُ الْقَهْرَ والشجا والعويلا
أيُّها التَّائهُ الْحَزِينُ تَعَلَّمْ ... سُنَّةَ المصطفَى، وشرْعاً جليلا
خُذْ لُبابَ العُلومِ عن كلِّ شهْمٍ ... وتجنَّبْ مَنْ كانَ خِبًّا عميلا
لا تخفْ سَطْوَةَ الظلامِ وَرَدِّد ... سُورَة المُلْك إنَّ فيها دليلا
أيُّها التَّائهُ الْحزينُ أَجِبْني ... فَلَعَلِّي أَقُولُ قَوْلاً جميلا
هَلْ فَهِمْتَ الإسْلام ديناً قويماً؟ ... هل تَذَكّرْتَ جنَّةً ورحيلا؟
إنَّ مَنْ ذاق عِزَّةَ الدِّين دوْماً ... فلعمْري لَسَوفَ يحْيا نبيلا(144/67)
البيان الأدبي
اصنع ما شئت
سليمان بن عبد العزيز الربعي
أزري الروائي المغربي محمد شكري في مقابلة أجرتها معه صحيفة الحياة
اللندنية مؤخرا بقرار وقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة تدريس روايته (الخبز
الحافي) لسفورها الأخلاقي، ذاهبا إلى أن ذلك يندرج في إطار محاربة الإبداع الذي لا سبيل له في نظره إلى توافره على الإمتاع الفني، إلا بالتحرر من الفكرة الأخلاقية.
وإذ ليس غريبا في شيء أن ينهج شكري في روايته تلك كما في غيرها منحى
غرزيا [1] يصل في أحيان كثيرة إلى المستوى البهمي المقزز، ولا أن يلازم بين
الإبداع والفوضوية بمعناها المتحرر من كل قيد ويجعلهما في قرن واحد في المقابلة
آنفة الذكر؛ لأن الرجل ينطلق كما يبدو من عقيدة تتكئ على رؤية (أبيقورية)
مندفعة تحيل إلى الشهوة اطرادا مرجعية تفسير الظاهرة الكونية والإنسانية بعموم؛
بحيث تشكلت الرؤى الفكرية آثارا تابعة لها، أعني تلك التي نراها طافحة في
إنتاجه الروائي من النزعة العدمية الشمولية، والسخرية الغلية بالقدر، والتطرف
في العقوق الأبوي منه بوجه خاص، والجفاء الاجتماعي المتلون بالأنوية [2]
المسيطرة، والهزيمة النفسية المتشعبة في مواقفه الوطنية والمحلية، والتردد
الإسقاطي بين العقل الفاعل والباطن خشية المواجهة، والتماهي [3] الاحتفالي
بالواقع المنحط هروبا من حالات اليقظة النادرة، والغاشية المادية التي تحيل موقفه
من الآخر إلى عدوانية فعلية أو فكرية اشتركية، والتفكك السيكولوجي إذ يزمن في
دواخله [4] الفارغة من قيم الروح، وغير ذلك من الخصائص التي انطلقت من
موقف خلقي غالبا، فإنما المدهش حقا والغريب موضوعا أن يحاول فرض تجربته
الخلقية والاجتماعية تلك على مؤسسات التعليم في البلاد العربية، احتجاجا بالحرية
الفكرية وإطلاق ملكات الإبداع.
مدهش ذلك في ظل معرفتنا بخميرة (الخبر الحافي) المتعلقة بدءا، وإدراكنا
لحجم ضرر المبادئ الذي ينوف ثانيا على الخطر الصحي الجسدي حال استمرار
الدعاية الكاذبة لها، وإدراكنا لحجم ضرر المبادئ الذي ينوف ثانيا على الخطر
الصحي الجسدي حال استمرار الدعاية الكاذبة لها، ولكنه الإرهاب الفكري يتوسل
به خبازها هو وغيره إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، معتمدين على بعض
أحدث صوره من إثارة الاستقطاب الشعبي شعوريا، والإجلاب الصاخب لتوريج
مكرهم الكبار، والتصنيف المجاني للمخالفين والإستعداد عليهم، خاضعة في تأويلها
إلى مقامات الأحوال وظروف الوقائع، كالتنور، والفكر المبدع، والتحرر النهوض
... إلخ.
ونحن إذا أردنا أن نبحث مع شكري عن الرواية العربية الناجحة حين تنعتق
من الشرط الخلقي، فلسنا نجد تجردا إلاركاما من الانحراف ذاته الذي يزهي
بتجسيد إنتاجه له؛ فعلى سبيل المثال تحمل جل روايات نجيب محفوظ وهي في
موقع الهرمية هم في موقع الهرمية هم الفكرة الوجودية والترويج لها، وإطلاق
العنان للمذهب التشكيكي في الحقيقة العقدية، وتسهم بدرجة فائقة في وزر إزالة
حواجز النقد عن المقدس وحيا وعالم غيب، وتؤكد على إسناد المكنة في الأفعال
إلى الأسباب الطبيعية البحتة، كما صورت المجتمعات الإسلامية خلاعية ماجنة لا
هم لأفرادها إلا إشباع نهمهم الغريزي إلى غير ذلك من مقومات النجاح بحسبهم،
ولكنها بحسب التوصيف الموضوعي لا تمثل سوى معوقات ثقافية تعمل على
تكريس مشكلات الوعي الفردي والجمعي، وتزيد من واقع التخلف في المناحي
العقدية والسلوكية والسياسية والحضارية وغيرها، وهو ما ينسحب مع شديد الأسف
على كثير من النتاج الروائي العربي اليوم.
وفي الجانب الآخر، نجد أن ثمة قيمما إبداعية عالمية كثيرة عرت هذه الشبهة
الحاضرة في جل حوارت (النخب العربية المثقفة) في إلزام ما لا يلزم من الفصام
النكد بين الإبداع والأخلاق، مع كون بعض تلك القمم ينتسب إلى عقائد محرفة
ضالة، وبعضها الآخر إلى حضارات خرافية وثنية؛ إذ حازت على ما هو أدل من
جائزة نوبل مع حصولها عليها، وذلك بالانتشار الجماهيري، لما تحملة من تجارب
إنسانية ثرة لا حضور فيها للمنزع الجنسي، وهي في الوقت عينه منتمية إلى
تراثها، مخلصة لجذورها المعرفية والاجتماعية والدينية التقليدية.
وإذن، فليس هناك ما يدعو شكري إلى الجمع بين الحشف بابتذال القيم في
روايه من وجه، وسوء كيلة بالمطالبة بتضمينها المنهج التعليمي باعتبارها قيمة
فكرية وتجربة مفيدة من وجه آخر، إلامنهج (البراغماتي) الذي سيماه القفز على
المحظور القيمي والتشريعي على السواء. وإن بدرجات متفاوتة تبعا للموقف
والظرف والحاجة، عدم المبالاة بالرفض الفج للقواعد الشرعية الضرورية في الدين
والدنيا، بل وإعلان العصيان المعنوي والفكري على الأسس العلمية التي تشترط
لأتتاج مجتمع متحضر ولو على المستوى الإنساني البحت.
ولئن تقولب هذا الجانب عند شكري من خلال جنس الرواية بدافع الموهبة
والإتقان فنيا، فإنه عند عديد من مشاكليه من الكتاب المنتسبين إلى بيئات أخرى
لايمكن أن يأخذ شكلا آخر سواها وإن كانوا أبعد ما يكونون عن امتلاك أدني
أبجدياتها. وبتعبير آخر: فأن الرواية بالنسبة إلى شكري قيمة فنية قادرة على
الإنباء عن قناعاته من خلال آلية إمتاعية، أما عند أولئك فهي منبر بلاغ فحسب؛
بحيث يتجاوز فيها الكاتب العري السلوكي إلى مظاهر الانسلاخ على مستوى القيم
بصورة عامة. أي إنها تتحول بتعبير ثالث من منجز إبداعي منحاز إلى الشكل
محايد في الموضوع، إلى وسيلة إجرائية منحازة التوظيف في كلا المحورين،
وصولا إلى مطلب تكامل الشروط الاحترازية في التعبير عن الأفكار، بعيدا عن
القيود التي تلحق الأجناس الأخرى، عند أولئك.
وإنه ليس مسوغا بحال الاحتجاج بأن الرواية المنتشية بردئ القول والفعل
تمثل رصدا لحقب تأريخية حقيقية ذاتية لا ضير من إعلانه؛ لأن المعيار التشريعي
وهو ذو غاية حضارية وإنسانية أيضا يجب أن يحكم التجربة حينئذ، وذلك بالعمد
إلى طلب الستر بحيث تكون الآثار السلبية لازمة خاصة. وأما المجاهرة بالرذيلة
فهو تعد على قيم المجتمع الإسلامي الثابتة، وعقبة كؤود في وجه مشروعه
الحضاري التنموي، وإنذار بالتحلل المربع الذي لايلوي على شيء، الأمر الذي
قعد لردع مجسديه عقوبات تعزيرية مادية، وأوصافا معنوية تشي بهم وتحيلهم إلى
ركن الخجل ومن ثم الكف عن الغي، لو كانوا يعقلون، نقرأ في بعضها قوله صلى
الل علية وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما
شئت) . [5]
__________
(1) نسبة إلى غريزة وبهيمة.
(2) الأنوية: تضخم الذات.
(3) التماهي: ماه الشئ في الشئ: خالطه.
(4) يزمن في دواخله: إزمان الشيء في الشيء: تطاوله منه فيه والمراد هنا: تمكن التفكك الشعوري من نفسه.
(5) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، ح/3482.(144/68)
متابعات
تعقيب على مشاركة د. عبد الكريم بكار
تجديد البعد العقلي
أُسَيد بن عبد الرحمن الأثري
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلقد طالعت ما نشرته مجلتكم الرائدة الماتعة في العدد (136) للأخ الدكتور
عبد الكريم بكار تحت عنوان: (تجديد البعد العقلي) .
فأحببت أن أعقب عليه بهذا التعقيب، راجياً من الله التوفيق والسداد للجميع.
فإنني لا أبخس الدكتور الفاضل حقه، ولا أنقص فضله؛ فإنه معروف لدى
الجميع بجودة الطرح وسلامة الفكر وعلمية الإصلاح، لكن ثمة تنبيهات
واستدراكات أحببت أن أناقش أخي الفاضل فيها وأعرضها عليه.
أولاً: عدم التوافق بين العنوان الموسوم والمضمون المرقوم؛ فإن البعد
العقلي لا يملكه كثير من الناس، حتى ممن علم وشاد وساد وتفقه وتأدب؛ إذ إن
البعد العقلي يعني تملّك أصول التفكير السليم، وحيازة النفسية الصابرة البارعة التي
تشق الآفاق وتتجاوز حدود الحس والزمان والمكان، وهذا قد لا يكتسب بمفاهيم
الأهلية العلمية، وقد لا يتأتى بطول الخبرة الزمانية إلا لنفوس قليلة، إما أنها نالته
هبةً وفضلاً من الباري - جل وعلا - أو أنها حصلت لها من الصفات الجسمانية
والنفسانية التي تشبثت بأنوار العلم والهدى ما توّجها الفقهية الواعية، والعقلية
المتناهية، وهذا قليل.
لذا فإن الوصول للبعد العقلي لم يحصل إلا لفئات معدودة، ولعل أبرز هذه
الفئات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وسرُّ ذلك ما أودعه الله فيهم من مكنونات
العلم والنور والحكمة التي سارت مسار الإعجاز والتحدي لسائر الأمم والشعوب،
فسقطت أمامهم كل القوى العقلية وتلاشت جميع الجهود المفكرة.
وهنا أقرر أن الأنبياء امتلكوا النهاية العقلية، بل حدتها ونضجها وسموها
وعلياءها، لا سيما في المجالات الشرعية والدعوية التي من خلالها يحرِّرون
البشرية ويبثون النور، ويدحضون الباطل والخرافة.
ومما يدل على أن التفوق العلمي قد لا يحقق البعد العقلي على كل حال ما نراه
في الأوساط العلمية من غياب (العقلية الموضوعية المعتدلة) ، وتجاهل لأدبيات
الردود والحوار، وانسياق وراء حظوظ النفس ومراميها، ولذا لا يُجهل صراع
الأقران وتناطح العلماء من القرون الأولى، وما جرى للبخاري من أقرانه وابن
تيمية من خصومه أبينُ برهان على ذلك، ولو تأملنا التاريخ الممتد السحيق لأدركنا
أمثلة غزيرة وفيرة تُجمع في مجلدات.
وهذا ما نراه في العصر الراهن ولعله صورة مبينة جلية للغثائية الفكرية
والسطحية العقلية التي تعيشها الأمة وتتذوق ضرها ووهجها وأوجاعها.
حتى بين المنتسبين للدعوة والإصلاح تجدهم يشتطون كثيراً في علومهم
وآرائهم وتصوراتهم. وفشوُّ الردود والنزاعات الجائرة التي تزعمها الهوى مما لا
يخفى، وطمسُ النبلاء والعقول الثاقبة مما لا يغيب عن جماهير الأمة في هذا
العصر المتلبد بتيارات الظلم والتقهقر والاستبداد.
بل حتى المنابر الدعوية والدروس العلمية لا تزال ضاربة في أعماق التقليد
والتبعية، وتفتقر إلى كثير من النهضة الفكرية والإصلاحية، وكذلك المرونة
الذهنية والممارسات النقدية، ولا زالت تتشبث بكثير من التقوقع والجمود وعدم
الانفتاح. ولعلي أقرر ذلك (بمنبر الجمعة) الذي تأوي إليه أفئدة الأمة المسلمة جمعاء
للتعلم والتبصر والتبين؛ فهو مع تقصيره في ترسيخ تعاليم الإسلام وتأسيس الأزلية
الحقة له، لم يمتلك إلى الآن (النضج الفكري الصحيح) للرقي بعقول الأمة
وتطويرها، في حين أفلحت مصادر مثقفة في بلورة عقولهم وتحويلها لمقاصد ذميمة
ذات مساس بأصول الإسلام وشرائعه المحكمة، لما تحلّت به من حسن عرض،
وتنوع، وجاذبية، ولطافة.
ولذا ينبغي للداعية والخطيب أن يمتلك القسط الوافر من الوعي، والقدر البالغ
من الفكر الذي يصيّره للرقي والتجديد بالمنبر، فيطور العقول، ويصحح المفاهيم،
ويلامس حياة الناس في عقلية أخاذة تحتشد بالنصوص والأمثلة والشواهد، وتسير
في هدوء وحكمة وأناة، ولست بهذا المقال أقلل من شأن أفذاذ فضلاء أدركوا أهمية
ذلك، ولكن أشير لخطأ كثيرين في هذا الباب - والله الموفق.
حتى دعاة تعظيم العقل بل تحكيمه من (العقلانيين العصريين) استبانت لنا
مزالقهم وعثراتهم الشديدة، التي لا تنبئ عن بُعد عقلي متميز، بل عن تهافت عقلي
سار على غير هدي من الله.
فمع ابتغائهم التجديد والتطوير لم يفلحوا في قضايا كثيرة؛ بل إن الأضرار
التي أورثوها والمآثم التي حملوها أبلغ من أن يُذكر لهم فضل ومحاسن، فتشويههم
للدين وانحدارهم بمفاهيمه لمواكبة العصر مما لا يرتاب فيه أحد، وموقفهم السيئ
الفاسد من السنة النبوية أصبح حديث القاصي والداني؛ بل لم يتردد رموزهم -
تقليداً لأسلافهم - بأن يصرحوا بتقديم العقل ورجحانه على النقل، وذلك كافٍ في
بلوغ ذروة التردي والانحراف.
وأسلافهم من المعتزلة وغيرهم (رواد المنهج العقلي) جعلوا العقل حاكماً
وسلطانًا على النصوص، فهووا في مهاوي التيه والضلال، وانحرفوا عن الصراط
المستقيم؛ بل إنهم مع تعظيمهم للعقل فقدوا ذلك في كثير من أحوالهم وممارساتهم،
ومحنة خلق القرآن شاهد متين على ذلك، ففيها تُوّج القبيح، وأُسقِط النبيل،
وأصبح الباطل البغيض ممدوحاً محموداً - والعياذ بالله.
فالمهم أن هؤلاء كان منهم من نبغ في العلوم وامتطى العقل رائداً له؛ لكن لم
يظفروا ولو باتزان عقلي صحيح، فضلاً عن تحقيق البعد العقلي أو تجديده
وتطويره وتنويره.
فهذا - يا دكتور! مثالٌ لأنبل الفئات عند الناس، ومع ذلك لم يلتزموا الاتزان
العقلي ولو في صورته البدهية المتواضعة، مع دعواهم التعلم والتعقل والسلامة؛
فكيف يتم لهم تحقيق البعد العقلي؟ !
لذا فإن هذا المصطلح (البعد العقلي) أكبر من أن يُصاغ بتلك المفاهيم المذكورة، وأبعد من أن يصوّر بتلك الصفات المنثورة، وقد لا نبالغ عندما نقول: إن الظفر
بالبعد العقلي في هذا الزمن قد يصبح من المثالية البعيدة والأمور المستحيلة؛ فكيف
يتأتى لنا إدراكه وتجديده وتحسينه؟
إن البعد العقلي قدرة فكرية تكشف حقائق الأمور وأبعادها ومقاصدها، وتبين
مرامي الأشياء وبواطنها وأسرارها بعقلية حاذقة جبارة، وهذا أوفق ما يكون بهذا
المصطلح.
أما تلك الأفكار المطروحة، فلا أرى أنه من اللائق نعتها (بتجديد البعد
العقلي) إلا أن يكون هذا من باب التفاؤل والمبالغة، ومع هذا فليس مقبولاً ومرضياً
لما تم تقريره، وقد عرفنا الدكتور في كتاباته بالوضوح والصفاء وحسن تمييز
الأشياء ودلالاتها، ولذلك أحسن ما يُعبَّر به ذلك المبحث الجيد، - في رأيي - هو
(الأساس العقلي) من جهة أنه بناء قاعدة تهدي العقل مجراه الطبيعي الصحيح، ومن
ثم ذلك التأسيس ذريعة للنماء والتطوير والتحسين، أو يعبر عنه (بالنضج العقلي
المتزن) لأنه علامات تكوّنٍ صحيح لعقلية سوية بعيدة عن التعصب والتخبط
والتخلف؛ إذ نحن في عصرٍ داءُ التخلف والسذاجة مُستشرٍ فيه ولا يزال كثير منا
في غيبوبة فكرية محتفَّة بالجمود والسطحية؛ إذ قد سلبت عقول كثيرين، ووُظفت
على خلاف ما ينبغي أن تكون، واستعمرت لأغراض مخصوصة، أفقدتها
الإنتاجية الفكرية والعلمية والبنائية، والناجي من ذلك محاصر بفوارس البتر
والتعطيل والإبادة.
ولذا فنحن في زمن، نود الحصول على أسهل معاني التفكير السليم ودلائله؛
لأن الأمة تعيش إشكاليات عديدة، لعل من أبرزها غياب الفكرية السليمة، التي
تهديها وتحقق إرادتها الصحيحة، ووجهتها المستقيمة، ولا أدلَّ على فقدانها ذلك من
الانحراف الفكري الذي تعيشه في كثير من التصورات ليست الدنيوية فحسب بل
الدينية؛ فإنها تعيش تغييباً خطيراً عن حقيقة دينها ومقومات مجدها، وهذا التغيب
يسلك نمطية التلهية والتعمية والتجهيل والتخدير. والفكرية المنشودة هي التي
ستحل وتعالج شيئاً من ذلك، إذا رشدت بالعلم الشرعي، وحصَّلت التصور
الصحيح، وظفرت بالوعي المنشود.
وللدلالة على الانحراف الفكري الموجود الانفجار الإعلامي والثقافي المتدفق
الذي لم يعالج أسقام الأمة ولم يحل إشكالاتها، ولم يهدها أقوم الطرق؛ بل على
العكس من ذلك؛ فإن مساهماته في التغييب المذكور آنفاً أعظم من أن توصف أو
يحاط بها - والله المستعان.
ومحصل الكلام أننا إلى الآن لم نحُز (العقلية الراشدة المنضبطة) في أكثر
أحوالها، وبما أن الأمة لا زالت مفتقرة إلى ذلك، فمن الصعوبة بمكان حيازتها
للبعد العقلي أو التجديد فيه! وكيف تملك الأمة بُعداً عقلياً وهي لا زالت تعاني من
سطحية التفكير وتبعية التصور؟ ولا زالت تعاني بعدها عن دينها، ولا زالت
تعاني سوء الفهم للقضايا الشرعية! ولا زالت جامدة لا تعرف الإنكار والتغيير
والتجديد والمشاركة؟
إن ثمة أموراً كثيرة حائلة من تمتعها بالبعد العقلي - إن صح لها نيله والفوز
به - بل هي محتاجة الآن (لمفاتيح العقلية الصحيحة) التي تستطيع من خلالها فهم
الحياة الدنيا ودورها تجاه دينها وحالها من أعدائها.
أليس من المؤسف يا دكتور! أن كثيراً من المسلمين يسير في تفكيره من غير
منطلق شرعي كأنه لا يعرف كتاباً ولا سنة، ولا يؤمن بأصول ومسلَّمات راسخة لا
يجوز بحال من الأحوال تقليبها أو النظر فيها؟ أليس ذلك عقبة كؤوداً تحول دون
التفكير الناضج؟ !
والأعجب: مَنْ يحلِّل قضايا شرعية، ويفتي في مسائل علمية، بمحض
الرأي والاجتهاد دون الرجوع للنصوص والأدلة الشرعية! !
عجباً لقد جاء شيئاً فرياً!
إن أمتنا بالصورة الواقعية بحاجة لترشيدها طرق التفكير المعتدل الذي يديم
تميزها واستقلاليتها واستقامتها؛ فإن أسباب تخلفها وسطحيتها راجع إلى بعدها عن
منهج الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح - رضي الله عنهم - وعدم صفاء منابع
التلقي والتعليم؛ فلقد أصبحت تأخذ عن كل من هب ودب، دون تفهم وتبصر
وتمييز، بل إنها تُصنع على طرق معينة ومقاصد معروفة - والله المستعان.
إن فضلاء الأمة في العلم والفهم لا يزالون يمارسون السياسة القمعية التي
تضيق مسارات البعد العقلي في طروحاتهم ولقاءاتهم ومصنفاتهم؛ بل لا يحاولون
وضع الأسس النامية المنضبطة التي تقود العقول لبر الفسحة والأمان والازدهار.
فإذا كان هذا المسلك متلبساً به فئة كبيرة من البارعين، فما بالك بمن دونهم أو
من ينطلق في تفكيره من دوافع شخصية، أو نوازع انتمائية لا تخدم الحق المقصود
ولا الصواب المحمود؟ ! لا تزال تلك (الفئة المرموقة) تعيش مضايق التفكير، ولم
تتحرر بعدُ من البدائية العقلية ولا الصناعة الفكرية. حتى المسائل الشرعية
والقضايا الدعوية لم نمنحها بعد الأفق الواسع الذي يتيح لها أن تُبحث وتُناقش
بطريقة علمية رفيعة، وعقلية متزنة، وفقهية متأدبة تمنع كل معكرات الهوى،
وأدوار التعصب، وألوان الضحالة، وتصدها.
إن كثيرين من هؤلاء يرفضون البتة مناقشة آرائهم وبحوثهم والنظر فيها،
ولا يرتضون سماع النقاد الناصحين الذين غايتهم الإصلاح والبناء والتقدم، بل
يرون (مبدأ النقد الصحيح) افتئاتاً عليهم، وانتقاصاً لأقدارهم. لذا فقد منحوا أنفسهم
طوقاً متيناً من الحماية والقداسة، يمنع كل محاولة لتحريك الفكر ونشر الحق وتبادل
الحوار.
فأمة لا يزال أرقى مثقفيها ذوي حساسية شديدة من سماع النقد المثمر الصحيح؛ كيف لها أن تدرك العقلانية السامية الرشيدة؟ ! إن هذا الشيء محال!
ومن هؤلاء فئام - وإن حاولوا ارتسام العقلانية - إلا أنهم غالوا في حبها
واستحسانها وتطبيق كل معاييرها، ويُخشى من انجرافهم إلى هوة الجهل والتطاول
كأسلافهم.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) : (ولقد أنس ببديهة العقل
خلق من الأكابر أولهم إبليس؛ فإنه رأى تفضيل النار على الطين فاعترض) .
ورأينا خلقاً ممن نُسب إلى العلم قد زلوا في هذا واعترضوا، ورأوا أن كثيراً
من الأفعال لا حكمة تحتها! والسبب هو الأنس بنظر العقل في البديهة والعادات،
والقياس على أفعال المخلوقين.
ثانياً: أما بالنسبة للشروط التي ذكرها الدكتور الفاضل للتجديد فهي صحيحة
في الجملة؛ لكن أرى أنه ينبغي أن يزاد عليها شروط أخرى مهمة منها:
1 - سير التفكير من وجهة شرعية مستضيئة بعلم شرعي صحيح تعظم الحق
وتنشده: لأنه حتى مع إيماننا بالثوابت وعدم المجادلة فيها، وامتلاكنا للخيال الفسيح، وإيقاننا بالتغيير نخطئ في جوانب من التفكير، مع أن الخطأ حينئذٍ أهون مما لو
فُقدت الشروط المذكورة.
وثمة أخطاء في تفكير كثيرين من مُدعي العقلانية والوعي والحذاقة؛ فثمة
أناس يفكر أحدهم - مثلاً - في جوانب سلوكية من واقع تذوقه أو ميوله أو مجتمعه، مما يجعله يفقد صواب الرأي ويضطرب في مسألة التحسين والتقبيح.
فنحن نعلم جميعاً سعة الشريعة الإسلامية، في مخاطبتها أكثر طبقات المجتمع، ونعلم شموليتها في تقييم شؤون الحياة، وضبط مناحيها وأدوارها. فالنصوص مع
وفرتها في جانب الاعتقاد تجدها لا تقل في جوانب التربية والسلوك والاجتماع
والاقتصاد والإدارة. ولذلك تكلم كثيرون في هذه المجالات دون دلالات النصوص
ونصاعة الأدلة، فجاءت تصوراتهم وتحليلاتهم مجانبة للدلائل الشرعية. فأورث
ذلك عدم الدقة في التفكير واستخلاص النتائج؛ فبعض هؤلاء أطلق أحكاماً بناءاً
على تصور صحيح في الجملة، دون الالتفات للنصوص فأخطأ، وآخرون
تصوروا اعتماداً على نظريات وأبحاث ودراسات غربية لا مساس لها بالشريعة،
فجانبت الصواب وخالفت العلم الصحيح.
2 - الوسطية العقلية: فمع حصول التفكير ينبغي ألا يُغالى في العقل ويُعتمد
عليه ويُعطى صلاحيات فوق قدرته وأكبر من إمكاناته، وأن يكون في جميع
محاوره خاضعاً للنقل والنص، فلا يُفتأت على النصوص برجاحة العقول وروائع
الأفكار وصحيح الفهوم.
وهذا قيد أراه في غاية الأهمية لتحقيق العمق العقلي والتجديد فيه، وما وقع
الزلل والانحراف لكثير من الفرق والأفراد إلا بتخلف هذا الشرط عن مناهجهم.
فهذا العصر قد تلاطمت فيه الثقافات وتزاحمت المعارف والاكتشافات وأصبحت
السيادة للعلم دون الاهتمام بسلامة منابعه ومصادره، أو موافقته لمنهج الله - تعالى- فتلقف من تلقف من المسلمين ذلك، دون تمحيص ومعارضة، فوقع الغلط
والشطط واللغط.
فلا بد هنا من الانضباط العقلي، بأن تُسلك العقلانية بتعقل وتنتهج بتمهل،
وتصبح في سائر أحوالها تابعة وعائدة للنقل. والعقول السليمة تعلم وتدرك حاجتها
للنصوص الصحيحة، وأنها تهتدي بهديها وتستضيء بنورها، ولا يمكنها التسيد
والترفع عليها؛ بل إنها تكون مجاورة للنصوص، تأييداً، وتبييناً، وتأكيداً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (العقل الصحيح دائماً موافق
للرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالفه قط؛ فإن الميزان مع الكتاب، والله أنزل
الكتاب بالحق والميزان؛ لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به،
فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بطلانه؛
فالرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - تخبر بمحارات العقول، لا تخبر بمحالات
العقول) ا. هـ.
وما أحسن ما قاله بعضهم:
علمُ العليمِ وعقلُ العاقل اختلفا ... مَنِ الذي فيهما قد أحرز الشرفا؟
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته ... والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له: ... بأيِّنا الله في قرآنه اتصفا
فأيقن العقل أن العلم سيّدُه ... فقبَّلَ العقلُ رأسَ العلم وانصرفا
وأما دعوى تعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح فهي باطلة مردودة
فنَّدها الأئمة الأعلام طولاً وعرضاً، كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في
(درء تعارض العقل والنقل) ، والإمام ابن القيم - رحمه الله - في (الصواعق
المرسلة على الجهمية والمعطلة) . فليراجعها من أراد ذلك.
والمقصد هنا ضبط العقل على مساراته الصحيحة المعتدلة، دون غلو أو
إجحاف؛ فمع تحذيرنا من رفعه فوق قدره، ننهى كذلك عن إزرائه وإقصائه عن
دوره المطلوب.
3 - نشدان الحق والفائدة: فلا بد أن يكون التجديد وسيلة لغاية نبيلة، وأن
يتمحض فيها طلب الحق والبحث عنه، وأن لا يُتراخى في المؤثرات التي تحاول
التقليل من شأنه أو إهداره بالكلية. وأن لا يُخضع الحق لنظريات الواقع ومعالمه
التي أكثرها منابذ لروح الشريعة الحقة، فلا تطغى سياسة الأمر الواقع عن تبيين
الحق ونشره، وإبرازه للناس، مهما عظم الباطل وانتفخ، وتكاثرت أجناده؛
فتحليل قضية مَّا الحقُّ فيها نيّر مبين والواقع أن 99% على خلافها لا يعني التسامح
والإغضاء والتنازل والإخفاء، قال تعالى: [قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو
أعجبك كثرة الخبيث] [المائدة: 100] ، وقال تعالى: [وإن تطع أكثر من في
الأرض يضلوك عن سبيل الله] [الأنعام: 116] .
فإهمال هذا الشرط تجنٍّ على الحق، وانهزام عن حمل معانيه وأهدافه، وإثم
ما أعظم خطره! ولو غٌلِّف ذلك بأنماط الحضارة والتقدم أو أشكال المصلحة المهنية؛ فقد رأينا زلل أولئك في قضايا خطيرة: كالربا والموسيقى والتصوير والعهود
والمواثيق وأشباهها، ولم يظفروا بشيء مما أرادوا، بل تضاعف الشر شرين،
وكِيلَ لهم بمكيالين، وانغرَّ العوام والسذج، وفقد أولئك منازلهم وصلاحياتهم. والله
المستعان.
4- النضوج الفكري: وهو بمثابة القاعدة الأساسية، والطريق الموصلة
لحركة التجديد؛ فإن التجديد معنى زائد على مسألة النضج، والنضج هنا لا بد أن
يتجاوز فيه الناس حواجز الضحالة والجمود والأخطاء، ويمتلكوا منهجاً فكرياً
صحيحاً مركَّزاً يتسم بالسعة والسمو والفهم مدركاً آليات التجديد ومقوماته، دون
تعثر وانحسار وتخبط.
5- الصفاء: إن عملية التجديد لا تسوغ في جوٍ ملبَّد بعجاج السقم والدخن
والهوى، فلا بد من تصفية النهج، وتنقيته من غوائل التفكير وشوائب النفس،
حتى تُمارَس التجديدية في أفق رحب خال من المكدرات والموانع التي تحول دون
حصوله ونجاحه وتمامه، والصفاء داعٍ مؤثر للإنجاز والإبداع والإفادة.
6- الشمولية والتكامل: امتلاك النظرة الشاملة والعميقة المتقصية المتكاملة
ضرورية لازمة للتجديد؛ إذ بالتصور الشامل تُكشف الأبعاد والغايات وتُدرك
الأخطاء والانحرافات، ويتم استخلاص النتائج الواضحة الصحيحة، وإبراز
جوانب النقد والتصحيح في ذلك، لكي تُباشر العملية على أتم وجه وأحسنه، بعيداً
عن الضيق والانغلاق والجزئية.
ولذلك حتى تتحقق مسألة التجديد - إذا تأتى لها زمنها الخصب - فلا بد من
توافر جميع هذه الشروط، حتى تخدم الوجود الإسلامي المتميز.
وأما الشروط المقررة من الدكتور فهي لا تعدو أن تكون أوليات لازمة لتفكير
المسلم، فلا بد من وجودها في كل مرحلة تمهيدية للتفكير، بل نرى فرضيتها حتى
في بدهيات التفكير وأشكال الحياة المختلفة.
وأخيراً
فإن هذا المقال المتواضع مشاركة في الرأي والفكر غايته التبني
والتصحيح، ولا يعني التقليل والتنقص والتشاؤم، وإنما الإيقاظ والتنبّه والمسارعة، واستنفار جميع القوى العلمية النابهة، والقوى الفكرية السامية للسباق بكل أوجه
التغيير، والتخلي عن كل وسائل التخدير، والتضحية البالغة لنشر مراكب الإنقاذ،
وتقريب أدوات الإسعاف للنهضة والرقي والسلامة، حتى تعود الأمة لرشدها،
وتعي وجودها وأهميتها.
وليعلم الإخوة القراء الكرام أن ما رقمه الدكتور البكار الموفق في هذا الباب
من أحسن ما قرأت وطالعت، والموضوع يعتبر من القضايا الشائكة الخطيرة التي
يخوض فيها كثيرون، وهو من أخطر ما يكون في هذه الحياة على أمتنا الإسلامية،
والتداعي لبحثه وتناوله باستفاضة وموضوعية على نطاق واسع مطلب لكل
المصلحين ذوي الفكر والنباهة.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.(144/70)
وقفات
الكنز المفقود
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
أكثر من سبعين عاماً عاشها المسلمون في روسيا وآسيا الوسطى تحت أسوار
القفص الحديدي الشيوعي.. أكثر من سبعين عاماً من القهر والاستبداد والتسلط..
أكثر من سبعين عاماً صبَّ فيها الشيوعيون كل ألوان الطغيان والقتل.. أكثر من
سبعين عاماً مُحي فيها التاريخ بالقوة، ومسخت الهوية، وأصبح مجرَّد الانتساب
إلى الإسلام جريمة عظمى ليس لها عقوبة إلا الإعدام.
وفجأة يتحطم ذلك القفص، وتتمزق أجزاء تلك الإمبراطورية الحمراء،
وتنطلق كل الأعراق والأجناس في البحث عن هويتهم المنتزعة، وتاريخهم المفقود، حتى الروس أنفسهم عادوا إلى الاعتزاز بالقيصرية الروسية، وراحوا يشيدون
الكنائس الأرثوذكسية، ويظهرون معالم الصليب. وانطلق المسلمون - من حيث
الجملة - مع من انطلق في تلك العودة، وعادت المآذن - بحمد الله - تعلو من
جديد، وسمع الناس أصوات التكبير تعطر الأجواء.
عاد الناس بعاطفتهم المتشوقة إلى الإسلام، يحدوهم الحنين والتطلع إلى ماضٍ
عريق عاشته أمة الإسلام في ديارهم.
ذهب أحد الدعاة إلى ريف من أرياف المسلمين هناك، وأعطى نسخة من
القرآن الكريم لعجوز مسلمة ربما جاوزت الستين عاماً، ففتحت عينيها مستغربة،
تملؤها الدهشة، ثم جالت في نفسها ألوان من الأفكار والمشاعر، وفجأة أجهشت
بالبكاء، وأخذت تقبِّل المصحف وتقلِّبه على وجهها، ثم راحت تجري تنادي أبناءها، وتتحدث معهم بلهفة، وكأنها تعرِّفهم بكنز مفقود طالما انتظروا الحصول عليه،
ثم التفتت إلى الداعية وقالت له: لقد كان أبي يُحدثنا أن جدَّه كان يملك نسخة من
القرآن الكريم يتلو فيها على أبنائه..! !
وبعد أحاديث عابرة أراد صاحبنا أن ينصرف مع رفاقه، فأبت عليهم،
وألحَّت عليهم إلحاحاً شديداً إلاَّ دخلوا بيتها، فقَبِلوا دعوتها تطييباً لخاطرها، ثم
قالت على استحياء: هل يتيسّر لكم أن تعلِّموا أبنائي سورة الفاتحة، أما أنا فقد
ذهب عمري..؟ ! ولمَّا أرادوا الانصراف قالت لهم: ليس عندي ما أجازيكم عليه، ولكن أرجو أن تقبلوا هذا - وأخرجت عملة روسية (الروبل) - عرفاناً بجميلكم
ووفاءاً بحقكم..! !
إنها عاطفة بدأت تدبُّ فيها الحياة من جديد، لكنها في أغلب الأحوال عاطفة
غير موجهة التوجيه الصحيح، وغير مستثمرة الاستثمار الأمثل؛ فالجهل يضرب
بأطنابه في عقول الناس، ولهذا أصبح الانتماء إلى الإسلام عند كثير من الناس
جزءاً من الانتماء العرقي والتاريخي، وأدى ذلك إلى انسياق عامتهم وراء حملات
التغريب والعلمنة التي قادتها أمريكا وأوروبا التي افتتن فيها الناس جميعاً بمختلف
أديانهم وأعراقهم، بعد أن تخلصوا من جحيم الكبت والذلة. لقد حرص الغرب على
تصدير الحضارة الأخلاقية والاجتماعية الغربية إلى روسيا والجمهوريات المختلفة،
واعتبرها سوقاً استهلاكية يسهل غزوها والتأثير عليها.
بل إن حملات التنصير الكاثوليكية والبروتستانتية لما وجدت الصدود
والاستنكار من الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا الاتحادية وغيرها، وجَّهت حملاتها
التنصيرية إلى مناطق المسلمين خاصة في كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان،
ووجدت فيها أرضاً خصبة يسهل غزوها والتأثير عليها.
إنَّ المسلمين في روسيا الاتحادية وآسيا الوسطى يمثلون عمقاً استراتيجياً في
غاية الأهمية، كما يمثلون ثقلاً بشرياً لا يمكن الاستهانة به على الإطلاق، ولكن
مع الأسف الشديد كان الملتفت الأكبر لهم من المسلمين: تركيا العلمانية،
وإيران..! ! فهل ندرك أهمية تلك المناطق أو نطويها كما طويت مناطق أخرى من مناطق المسلمين....؟ ! وهل نسعى بجد إلى إعادة الهوية الضائعة إلى المسلمين..؟ ! وهل نستغل تلك العاطفة المتقدة في نفوسهم، أم ننساهم كما نسينا غيرهم..؟ !(144/76)
الإسلام لعصرنا
الانفراط العظيم الأسباب
والآثار
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
هذا أوان أن نرجع إلى الانفراط العظيم ونتساءل: ما الذي سيحدث بعد هذا؟
هل كُتب علينا أن ننحدر إلى مستويات أدنى فأدنى من الفوضى الاجتماعية والخلقية؟ أم أن هناك سبباً معقولاً يدعونا لأن نتوقع بأن هذا الانفراط حالة طارئة، وأن
الولايات المتحدة والدول الأخرى التي عانت منه ستنجح في أن تكون لها قيم من
جديد؟ وإذا حدثت هذه الإعادة للقيم، ففي أي صورة ستكون؟ هل ستحدث تلقائياً،
أم أنها ستتطلب تدخل الدولة عن طريق السياسات العامة؟ أم أنه لا بد لنا من أن
ننتظر حدوث بعث ديني لا يمكن التكهن بمداه، ولا يمكن السيطرة عليه، لنعيد
القيم الاجتماعية؟
هكذا بدأ الكاتب الأمريكي فوكوياما الفصل الأخير من كتابه (الانفراط العظيم)
الذي كان قد قدم له بعدة فصول استغرقت أكثر من مائة صفحة، كان قد ذكر فيها
مصادر النظام الاجتماعي، وحصرها في أربعة هي: الطبيعة البشرية، والتنظيم
الذاتي، والدين، والسياسة، ثم تساءل هنا: عن أي مصدر منها سنستمد في
المستقبل؟ سنذكر فيما يلي رأي الكاتب ملخصاً مع تعليقات على بعض فقراته.
هل سيستمر الانحدار؟ يجيب الكاتب بأن الانفراط العظيم الذي حدث في
المدة التي حددها ليس نهاية المطاف، بل إنه ستكون عودة إلى القيم اللازمة
للمجتمع. لماذا؟
لأنه قد حدث مثل هذا الانفراط من قبل في التاريخ الأوروبي والأمريكي، بل
وفي اليابان؛ لكنه لم يستمر؛ بل عاد الناس بعده إلى الالتزام بالقيم الضرورية لكل
مجتمع إنساني. فهل سيحدث مثل هذا الرجوع إلى تلك القيم الآن كما حدث من قبل؟ يتفاءل الكاتب بأن هذا سيحدث، بل يرى أنه بدأ يحدث فعلاً؛ فمعدلات الزيادة
في الجريمة، والطلاق، والأطفال غير الشرعيين، وفقدان الثقة، بدأت تتباطأ
كثيراً في التسعينات، بل إن بعضها انعكس. كما أنه حدث تحول بقدر مائة
وثمانين درجة في آراء الأكاديميين بالنسبة للقيم؛ فهم الآن يقولون: إن القيم
وتركيب الأسرة تؤثر تأثيراً كبيراً في ما يحدث في المجتمع. إن فترة تعاظم الفردية
قد انتهت، وبعض القيم التي محتها فترة الانفراط بدأت تعود، وبدأت أصوات
مؤثرة تنادي بضرورة الانضباط في السلوك وتحمل مسؤوليات الأسرة والأطفال.
وهذه الأصوات أشد ما تكون مخالفة لما كان يقوله المعالجون النفسيون للناس في
الستينات والسبعينات. لقد كانوا ينصحونهم بمماشاة شهواتهم، وأن لا يلقوا بالاً
للضوابط الاجتماعية التي تقف في طريق " نموهم الشخصي ".
وهو يرى أن هذا الاتجاه سيستمر. لماذا؟ لأن الناس بطبيعتهم حيوانات
اجتماعية، وهم إلى ذلك صناع عقلانيون للقيم الحضارية. والفطرة والعقلانية يعين
كلاهما على نمو الفضائل العادية مثل: الأمانة، والثقة اللذين يكونان أساس
الرأسمال الاجتماعي. ويضرب مثلاً على ذلك بالقيم المتعلقة بالأسرة. لقد حدث
تغير هائل بعد الستينات في القيم التي تضبط سلوك الرجال والنساء فيما يتعلق
بالأسرة، تغيرٌ كانت نتيجته الإضرار بمصالح الأطفال: فالرجال عزفوا عن الأسر، والنساء أنجبن بطريقة غير شرعية، والأزواج تفارقوا لأتفه الأسباب. وكثيراً ما
تضاربت مصالح الآباء والأبناء؛ فالوقت الذي يُقضى في أخذ الولد إلى المدرسة أو
الملعب، يكون على حساب وقت يُقضى في وظيفة، أو مع صديقة، أو في أي
نشاط ترفيهي. لكن الوالدين لهم مصلحة فطرية في العناية بأطفالهم، فإذا ما بُيِّن
لهم أن سلوكهم هذا يضر بأولادهم، فمن المحتمل أن يغيروا سلوكهم تغييراً يكون
فيه عون للأولاد. لكن الوصول إلى مثل هذا القرار العقلاني لا يتأتى آلياً؛ ففي
فترة الانفراط العظيم أفرزت الثقافة العامة صوراً إدراكية أعمت الناس عن رؤية
الآثار الضارة لسلوكهم حتى على أقرب الناس إليهم؛ فقد كان علماء الاجتماع
يقولون لهم: إن النشأة في أسرة مفككة ليس بأضر من النشأة في أسرة متماسكة.
بينما كان المختصون في معالجة المشكلات الأسرية يطمئنونهم بأنه من الأفضل
للأطفال أن يتفرق الوالدان بدلاً من أن يبقيا متشاكسيْن. وقالوا لهم بأن سعادة أبنائكم
في سعادتكم، فلا بأس عليكم من أن تقدموا مصلحتكم على مصلحتهم. هذا وكانت
الثقافة العامة تصبُّ على الوالدين وابلاً من الأفكار التي تبرز الجنس بطريقة فاتنة،
وتصور الحياة العائلية التقليدية بأنها مرتع للنفاق، والقهر والخبث. إن تغيير هذا
كله يحتاج إلى نقاش، وحجج، بل وحروب ثقافية.
لكن الكاتب يذكرنا بأن النظام الاجتماعي لا يعاد تكوينه بجهود الأفراد وحدها، بل لا بد من أن تساعد عليه السياسة العامة للدولة، عن طريق قوات الأمن وعن
طريق التعليم.
يبدو من هذا الذي ذكره الكاتب أن السبب الحقيقي للانفراط لم يكن في التطور
التقني كما تقول نطريته التي بسطها في بداية كتابه، وإنما كان في بعض الأفكار
الضالة التي قُدِّمت للناس باسم بعض العلوم فصدقوها. وهذا يعني أنه لو كانت قد
شاعت بين الناس أفكار صحيحة فلربما لم يكن للتطور التقني تلك الآثار التي ذكرها. كان بإمكان الناس أن يستفيدوا من حبوب منع الحمل مثلاً من غير أن تشجعهم
على الإباحية الجنسية.
يتساءل الكاتب: إلى أي مدى ستستمر هذه العودة إلى القيم؟ من المحتمل -
فيما يرى - أن نرى تغيراً في مستويات الجريمة، ومستوى ثقة الناس بعضهم
ببعض وبالمؤسسات والحكومات، أكبر مما نرى في القيم المتعلقة بالجنس،
والإنجاب، والحياة الأسرية؛ لأن التطور التقني والاقتصادي جعل الرجوع إلى
القيم السابقة بالنسبة لهذه الأخيرة أمراً في غاية البعد؛ لأن الخوف من الحمل قد
زال بسبب الحبوب، ولأن الخوف من أن يعيش الطفل غير الشرعي حياة بائسة قد
زال بسبب عمل المرأة وبسبب الإعانات الحكومية. وقلة الإنجاب لن تتغير؛ لأن
الوالدين يريان أن من مصلحة أولادهم أن لا تكثر أعدادهم.
وما يقوله الكاتب هنا مبني على تصور غالط لمضار العلاقات الجنسية غير
الشرعية. إن مضارها ليست محصورة فيما ذكر؛ بل إنها لتؤثر على العلاقة بين
الزوجين وتتسبب في الطلاق، وفي اختلاط الأنساب، كما تؤثر على العلاقة بين
الوالدين وأبنائهم، بل إن هذه الفاحشة لتؤثر تأثيراً نفسياً سيئاً على كل مرتكب لها.
والفردية التي عدها الكاتب من أسباب الانفراط لا علاقة ضرورية بينها وبين
التطور التقني، بل كان بإمكان الناس أن يبقوا على أريحيتهم وهم يتطورون تقنياً.
لكن الذي يرجوه الكاتب هو أن تتغير القيم المتعلقة بعمل المرأة. إن القيم
السائدة الآن - ولا سيما في البلاد الاسكندنافية - تعلي من قدر المرأة التي تعمل،
وتنظر باحتقار إلى التي تبقى في البيت. فإذا ما تبين أن عدم بقاء الأم مع أطفالها
الصغار ضار بهم فإن هذه القيمة الشائعة الآن قد تتغير فيما يرى. وقد يساعد
عصر المعلومات في حل إشكال عمل المرأة بأن يمكنها من أن تعمل من داخل بيتها.
وكما كان للدين تأثير في إعادة بناء المجتمع في الماضي فيتوقع أن يكون له
تأثير الآن، لكن الرجوع إلى الدين هذه المرة لن يكون رجوعاً إلى التصديق
بالوحي، بل سيكون رجوعاً إليه بسبب تأثيره الحسن على الحياة الاجتماعية.
يبدو أن الكاتب ليس رجلاً متديناً؛ لكنه مع ذلك يعترف في كتابه بما للدين
من تأثير في ما سمي بالرأسمال الاجتماعي. فالدين في رأيه هو الذي جعل القيم
قيماً إنسانية عالمية، لا قيماً فردية أو أسرية أو قبلية. لكنه يعتقد - كما رأينا -
بأنه من غير المحتمل أن ترجع المجتمعات الحديثة إلى التصديق بحقائق الدين.
لكن قيم الدين مبنية على الإيمان بحقائقه؛ فهي تابعة لهذا الاعتقاد ومنبثقة عنه،
فإذا ضعف أو انعدم الإيمان بحقائقه ضعف أو انعدم الإيمان بالقيم الخلقية المتصلة
به. إن مشكلة الغربيين أنهم يفترضون أن كل ما يصدق على الدين الذي عرفوه
يصدق على الأديان الأخرى، فكأن الأديان كلها عندهم دين واحد هو الدين
النصراني. ومن البداهة أن هذا ليس بصحيح، وإذن فإن التطور العلمي والعقلاني
الذي أدى إلى ضعف الإيمان بالنصرانية لن يؤدي بالضرورة إلى ضعف الإيمان
بالإسلام، بل المتوقع أن يؤدي إلى الإيمان به، لما يجده فيه من يعرفه من عدم
التناقض مع مقتضيات العقل، أو المخالفة لحقائق العلم. فلماذا لا يكون الرجوع
إلى القيم اللازمة للمجتمعات عن طريق هذا الدين الذي لا يجد الشخص المعاصر
مشكلة في الإيمان بحقائقه؟ هذا الذي نتوقع أن يحدث: [سنريهم آياتنا في الآفاق
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق] [ {فصلت: 53] .}
يختم المؤلف كتابه بتخوفه على المجتمعات الليبرالية السائدة في الغرب الآن؛
وذلك لسببين:
أولهما: القيم الخلقية الوحيدة التي تقدمها الليبرالية للمجتمع هي قيم التسامح
والاحترام المتبادل. لكن حين تتحول هذه القيم إلى عودة إلى التعدد الثقافي بدلاً من
التسامح معه، وحين تصل النسبية الخلقية إلى غايتها، فإن الليبرالية تكون قد بدأت
تتسبب في انهيار الأرض التي تقف عليها.
وثانيهما: أن التطور قد يجعل الالتزام ببعض القيم عسيراً مع أنها لازمة
للمجتمع، فإذا ما تسارع هذا التطور لم يعط الناس فرصة للتكيف، فتكون النتيجة
تأثيراً سيئاً على المجتمعات.
ونختم نحن تعليقنا بتكرار القول بأن في الحقائق التي ذكرها الكاتب ما يؤكد
أن علة العلل بالنسبة للمجتمعات الغربية ليست في التطور التقني متسارعاً كان أم
متباطئاً، وإنما هي في بعدهم عن الدين الحق الذي يمدهم بالقيم الفاضلة،
واستعاضتهم عنه بأفكار قد ثبت الآن بطلانها وعقمها الخلقي. وعليه فلا حل
لمشكلة التدهور الخلقي الذي صحب التطور العلمي والتقني إلا في الاستمساك بدين
لا تتناقض مقرراته مع الحقائق العلمية ولا تتنافى مع القوانين المنطقية.
والله الهادي إلى سواء السبيل(144/78)
من ثمرات المنتدى
المنتدى الإسلامي
في ربيعه الخامس عشر
عام دعوي خيري جديد يتخطاه معكم المنتدى الإسلامي يُكمل به من عمره
خمسة عشر عاماً قضاها بفضل الله وحده، ثم بإرشاد أهل العلم ونصحهم، وبدعم
أهل الفضل ومؤازرتهم - قضاها في الدعوة إلى توحيد الله واتباع سبيله بالحكمة
والموعظة الحسنة، وفي نشر العلم الشرعي وفق منهج السلف الصالح، وإغاثة
الملهوفين وذوي الحاجة من إخوانكم المسلمين في أصقاع كثيرة من عالمنا الإسلامي.
وكما كنا وعدناكم من قبل فإن المنتدى لا يكتفي بمجرد العمل، بل يحرص
على مراجعة أعماله وتقويمها واستشراف المستقبل والتخطيط له؛ إذ يعدُّ المنتدى
ذلك من البصيرة التي أُمر أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بسلوكها في العمل
الدعوي، وهذا ما تجدون أثره - إن شاء الله تعالى - في هذا التقرير.
وهكذا تجدون في الصفحات التالية عرضاً لأنشطة علمية ودعوية وإغاثية
حققت نجاحاً وتوفيقاً فاستمرت، وأخرى كانت في طور الإنشاء والتأسيس
فاستُكملت، وغيرها نُظِرَ في مسيرتها فعدِّلت وقوِّمت.. وكل ذلك إنما هو من ثمار
تعاون محبي الخير على البر والتقوى: تعاونهم بالرأي والنصيحة، أو بالبذل
والعطاء، أو بالابتهال والدعاء، فعطاؤنا من عطاء هؤلاء.
ولأن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، ولأن خيريتها تنبثق من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، ولأنها أمة خاتم النبيين؛ فلن ينقطع
الخير فيها ما دام على الأرض من يوحِّد الله ويؤمن به، وسيكون فيها - بإذن الله -
من يبذل العطاء ليتواصل هذا الخير، لذا: فإننا متفائلون بمستقبل مشرق رغم
ظلمة في الحاضر سيبددها - بإذن الله - مسلمون مخلصون لا يكتفون بالبذل لهذا
الدين من فضلة اهتماماتهم وأوقاتهم وأموالهم، بل يبذلون كل غالٍ ونفيس لرفعة هذا
الدين وأهله وليظل العطاء له مستمراً.. جعلنا الله وإياكم منهم.
المنتدى والتعليم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً
يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة) أخرجه الإمام أحمد: 2/325.
يحرص المنتدى الإسلامي على نشر العلم الشرعي وتسهيل الوصول إليه بعدة
طرق؛ في محاولة إيصال العلم إلى كل فرد رغم تغير ظروف المتلقي وإمكانات
المنتدى؛ فمن هذه الطرق: إنشاء المدارس والمعاهد وتشغيلها، أو تشغيلها فقط،
وكفالة بعض مدرسي اللغة العربية والعلوم الإسلامية في المدارس الحكومية،
وطباعة المناهج الدراسية، وإقامة الدورات التأهيلية للمعلمين والعاملين في سلك
التعليم.
المدارس:
أنشأ المنتدى العديد من المدارس في مراحل التعليم المختلفة، كما قام بتشغيل
مدارس كثيرة، علماً بأن التشغيل وحده يشمل: كفالة مدرسي المدرسة وإدارييها،
وتوفير المناهج والكتب لطلابها، والتكفل بجميع مصاريفها الأخرى باستثناء إنشاء
مبانيها، وكان اهتمام المنتدى بالمدارس على النحو التالي:
أ - التعليم النظامي:
في العام الماضي تم بحمد الله إنشاء وتشغيل (10) مدارس في مراحل التعليم
المختلفة، إضافة إلى تشغيل (29) مدرسة في مختلف مراحل التعليم، واستفاد من
جميع هذه المدارس (017، 11) طالباً وطالبة.
ب - التعليم الشرعي:
رغبة من المنتدى في تخصيص العلم الشرعي بمزيد من العناية فقد تولى
تشغيل ثانوية البيان الإسلامية للعلوم الشرعية في دولة نيجيريا التي يبلغ عدد
طلابها (94) طالباً، وقد تم تخريج دفعتين من الثانوية.
المعاهد:
يتولى المنتدى تشغيل معهدين شرعيين أنشأهما بنك التنمية الإسلامي في
الصومال: أحدهما للمرحلتين المتوسطة والثانوية يبلغ عدد طلابه (240) طالباً،
والآخر: معهد متخصص لإعداد المعلمين يبلغ عدد طلابه (132) طالباً، إضافة
إلى معهدين لإعداد الدعاة سيتم افتتاحهما في الفترة القادمة بمشيئة الله تعالى أحدهما
في إثيوبيا يخدم منطقة شرق إفريقيا، والآخر في مالي يخدم منطقة غرب إفريقيا.
==
المنتدى ونشر العلم الشرعي
تعيين الدعاة:
يحرص المنتدى الإسلامي على اختيار دعاته وفق أسس ومعايير محددة، بما
يخدم الأهداف التي يسعى لتحقيقها، وأهم هذه الأسس:
1- سلامة المنهج معتقداً وسلوكاً.
2- الكفاءة العلمية والشرعية.
3- الكفاءة الدعوية.
ويتم معرفة ذلك من خلال عقد امتحان تحريري وشفهي للمتقدم، بعد التعرف
على سيرته وأخلاقه.
وضماناً للمحافظة على مستوى الدعاة والارتقاء به: فقد أعد المنتدى
الإسلامي بفضل الله تعالى منهجاً شاملاً لكافة أبواب العلم، يلتزم الدعاة بدراسته
وإتقانه، كما هيأ لهم دورات مكثفة لرفع قدراتهم العلمية والدعوية، وفي نهاية كل
دورة يعقد امتحان تحريري وشفهي لقياس التحصيل العلمي لكل داعية ومدى جديته
في طلب العلم.
وقد استطاع المنتدى بفضل الله تعالى كفالة (459) داعية في العام الماضي
وفق هذه الأسس.
إلقاء الدروس والمحاضرات:
بحمد الله ومنته فقد وفق هؤلاء الدعاة المكفولين من قِبَل المنتدى الإسلامي من
إلقاء (718، 4) درساً وكلمة في كل أسبوع، إضافة إلى إلقاء (828) محاضرة
كل أسبوع، ليكون مجموع الدروس والمحاضرات والكلمات التي ألقيت أسبوعياً في
العام الماضي عن طريق دعاة المنتدى حوالي (537، 5) درساً ومحاضرة، نسأل
الله عز وجل أن ينفع بها كل ملقٍ لها ومتلقٍ.
توزيع المصاحف والكتب والأشرطة:
في محاولة من المنتدى الإسلامي لتكوين بنية من العلم الشرعي على أسس
راسخة لمن يريد التفقه في الدين، تبنى عبر مكاتبه الفرعية في العام الماضي وحده
توزيع (15.068) مصحفاً في (11) دولة، كما وزع (36.727) كتاباً باللغة
العربية و (189.193) كتاباً مترجماً و (56.833) كتاباً منهجياً دراسياً في
(11) دولة.
وكان عدد الأشرطة التي تم توزيعها في (8) دول هو (17.812) شريطاً.
أما بالنسبة لتكوين المكتبات: فإنه يتبع مكاتب المنتدى (52) مكتبة للاطلاع
العام في (9) دول، كما قامت هذه المكاتب بتوزيع (447) مكتبة طالب علم
باللغتين العربية والإنجليزية على مدار العام الماضي في (9) دول.
دورات متخصصة في التطوير والتدريب
تعد المراجعة والتجديد والتطوير من أهم عوامل نجاح أي عمل، ولأن عمل
المنتدى الإسلامي يقوم على أكتاف صفوف من الرجال أصحاب قدرات وإمكانات
مناسبة تؤهلهم للقيام بهذه الأعمال بصورة لائقة ... فإن المنتدى يحرص على
تطوير هذه القدرات والإمكانات والنهوض بها لكي تلائم طبيعة هذه الأعمال
وتواكب تطورها ...
ومن هذا المنطلق نظم المنتدى في العام الماضي وحده عدداً من الدورات
الشرعية والإدارية بلغت (49) دورة شرعية، استفاد منها (2.400) داعية وإمام
وطالب علم في (11) دولة، و (12) دورة إدارية استفاد منها (368) إدارياً في
(6) دول، كما نظم عدداً من الملتقيات الدعوية للتعارف وتبادل الخبرات والعلوم،
بلغت (33) ملتقى، استفاد منها (536) داعية في (5) دول.
ولقد شارك في أكثر هذه الدورات الشرعية مجموعة من العلماء وطلاب العلم
من خارج تلك الدول مما كان له أكبر الأثر في نجاح تلك الدورات؛ فلله الحمد،
ولهم من المنتدى أبلغ الشكر.
الدروس والمحاضرات في لندن
يعنى المنتدى الإسلامي في لندن بإقامة الدروس والمحاضرات الإسلامية في
مختلف العلوم الشرعية لتوعية الجالية المسلمة، ومن أبرز الدروس الأسبوعية:
1- درس في العقيدة الإسلامية في شرح كتاب (القول المفيد في شرح كتاب
التوحيد) .
2- درس في الحديث في كتاب (فتح الباري) . 3 - درس في أصول الفقه.
كما ينظم المنتدى العديد من الدروس العلمية الأسبوعية باللغة الإنجليزية،
ومن أهمها:
1- درس خاص بالمسلمين الجدد تدرس فيه أصول الإسلام العامة،
والعبادات، والأخلاق والآداب الإسلامية.
2- درس في أصول العقيدة والتوحيد.
3- درس في السيرة النبوية.
4- درس في فقه السنة.
5- درس في التفسير.
كما يعقد المنتدى في لندن لقاءاً أسبوعياً للحوار المفتوح، يدلي فيها الحضور
بآرائهم ومداخلاتهم، تحت إدارة المشرف الثقافي، تُعالج فيه قضايا تمس حاجات
الناس وهمومهم، ومن أهم الموضوعات التي نوقشت:
1- مشكلات الزواج من غير المسلمات.
2- الدعوة الإسلامية بين التسالم والتصادم.
3- الحجاب الإسلامي في الأنظمة العلمانية.
4- أزمة الجزائر ما بعد الانتخابات الرئاسية.
5- لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم..؟ !
ومن المحاضرات الشهرية التي يسَّر الله - تعالى - إقامتها في مركز المنتدى بلندن:
1- من ثمرات التوحيد.
2- المنهج الإسلامي في التعامل مع الناس.
3- الأوضاع الراهنة في كوسوفا وآخر التطورات.
4- الدروس المستفادة من غزوة حنين.
هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرات والدروس العلمية التي ينظمها
المنتدى في المدن والمراكز الإسلامية المختلفة في بريطانيا.
دعاة المستقبل.. مشروع تأهيل خريجي ثانوية البيان الإسلامية:
مشروع يهدف إلى تأهيل طاقات علمية ودعوية لخدمة الإسلام، حيث تم
انتقاء (20) طالباً متميزاً من خريجي ثانوية البيان الإسلامية في نيجيريا - التابعة
للمنتدى الإسلامي - والتي تُعنى بتدريس العلوم الشرعية، وتم توفير محضن
تعليمي وتربوي لهم للنهوض بمستواهم خلال فترة دراستهم في المرحلة الجامعية،
ويتولى مكتب المنتدى وضع برنامج علمي وتربوي ودعوي مكثف داخل المحضن
وخارجه، يشرف عليه نخبة من طلاب العلم والمربين، بالإضافة إلى إقامة العديد
من الدورات الشرعية والدورات التدريبية.
دورة في السياسة الشرعية
أقيمت - بحمد الله تعالى - دورة في السياسة الشرعية في المبنى الرئيس
للمنتدى الإسلامي في لندن، استمرت لمدة أربعة أيام. وقد حظيت هذه الدورة
بقبول طيب واستحسان جيد. وقد يسر الله - تعالى - ترجمة ما أُلقي في الدورة
ترجمة فورية إلى اللغة الإنجليزية لكي يستفيد منها الناطقون بالإنجليزية.
وقد أقيمت الدورة نفسها في مدينة شيفلد في مسجد قباء بالتنسيق مع مركز
الرسالة، وترجمت مادتها كذلك إلى الإنجليزية. كما أقيم على هامش الدورتين عدد
من المحاضرات العامة.
الدورة الشرعية المشتركة الثانية لدعاة المنتدى في (غانا - توجو - بنين)
في إطار العناية بالدعاة وإتاحة الفرصة لهم لتبادل الخبرات والمهارات عقد
مكتب المنتدى الإسلامي في غانا في مقر مجمع الفاروق التعليمي في مدينة (ونشيى)
التابع للمنتدى الدورة الشرعية المشتركة والتي شارك فيها (46) داعية من دعاة
المنتدى الجامعيين في دول (غانا، توجو، بنين) وقد استمرت الدورة لمدة (21)
يوماً ألقي فيها عشرات المحاضرات والدروس العلمية في العلوم الشرعية والأساليب
الدعوية والفوائد التربوية والأسس الفكرية إضافة لبرنامج التدريب العلمي، نسأل
الله - تعالى - أن ينفع بها.
الدورة الطلابية الثانية في دولة مالي
حرصاً من المنتدى الإسلامي على سد حاجة الطلاب في الجانب الثقافي ورفعاً
لمستواهم الفكري، ومحاولة تدريبهم على الجانب الدعوي أقام المنتدى دورة علمية
لطلاب المرحلة الثانوية في مدينة (باماكو) عاصمة دولة مالي، شارك فيها (60)
طالباً من المتميزين صاحبهم خلالها (7) من الأساتذة المحاضرين لمدة (12) يوماً،
وقد حفلت الدورة بالعديد من البرامج الهادفة والدروس النافعة، ومن أبرز المواضيع
الملقاه:
- التربية الإسلامية وأثرها في التهذيب.
- الانحلال الخلقي والحلول المقترحة.
- دور الشباب في العمل الإسلامي.
(كلية لندن المفتوحة)
حرصاً من المنتدى الإسلامي على نشر العلم الشرعي بين الجميع (العلم
الشرعي القائم على الكتاب والسنة وهدي سلف هذه الأمة) ، واستجابة لقوله -
تعالى -: [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] {التوبة: 122} ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه
عنه البخاري: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فقد تبنى المنتدى إنشاء
كلية لندن المفتوحة لتقوم بتدريس العلوم الشرعية عن بعد ابتداءاً من شهر شوال
1420هـ الموافق شهر يناير 2000م. والتعليم عن بعد طريقة حديثة في التدريس
تقوم على إيصال العلوم إلى الدارسين حيثما كانوا بوسائل الاتصال الحديثة،
وبطريقة ميسرة.
تمنح الكلية درجة الدبلوم والبكالوريوس حالياً باللغتين العربية والإنجليزية في
الدراسات الشرعية في العقيدة والقرآن، والحديث، والفقه، واللغة العربية، وتوجد
هيئة للإشراف العلمي على الكلية مكونة من مجموعة من المختصين في العلوم
الشرعية.
ويتولى التدريس في الكلية مجموعة من المدرسين المؤهلين في تخصصاتهم،
باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، كما يقومون بإجراء الامتحانات في المواد، ثم
الامتحان النهائي الشامل المطلوب للحصول على الدرجة العلمية.
وقد راعى المنتدى أن تكون كلفة الدراسة مناسبة مقارنة بنظيراتها من الكليات
والجامعات، وذلك لتشجيع الدارسين، كما أن هناك منحاً للمتفوقين.
نسأل الله - تعالى - أن تكون مفتاحاً من مفاتيح العلم الشرعي، وأن يعمّ
نفعها الجميع.
(مجلة الجمعة بالإنجليزية)
تواصل مجلة (الجمعة) الصادرة باللغة الإنجليزية عن المنتدى الإسلامي
مسيرتها العلمية والدعوية؛ حيث صدر العدد الأخير (المجلد 11 العدد 5- 6)
متميزاً بمستواه العلمي والفني؛ حيث احتوى الموضوعات الآتية:
1 - موضوع الغلاف الرئيس: (ما ينبغي على كل مراهق أن يتعلمه من
الآداب الجنسية) .
في كافة أرجاء المجتمعات الغربية يعرض الجنس والعلاقات الجنسية لعامة
الأفراد دون قيود. وفي هذه الظروف من الانحلال الجنسي والبذاءة الأخلاقية، يجد
الآباء أنهم ملزمون بتحصين أبنائهم المراهقين وذلك بتربيتهم جنسياً.
التربية الجنسية مصطلح مخيف للآباء، وعادة لا يريدون الخوض في حديثها
مع أبنائهم. ولكن في حالة عدم وجود مثل هذه التربية من الآباء، فإن الأبناء
سوف يستقونها من أقرانهم وزملائهم، وهو الأمر الذي قد تكون عاقبته وخيمة. في
هذا المقال نصائح للآباء عن الطرق الشرعية لتربية أبنائهم المراهقين جنسياً.
2 - موضوع الغلاف الثاني: (المدارس الإسلامية) .
تواجه المدارس الإسلامية في الدول الغربية تحديات مشتركة ومصاعب
مستمرة. وفي الوقت نفسه لا يمكن للمرء أن يغفل عن منجزات هذه المدارس
الإسلامية وذلك أن هذه المدارس تنبئ عن مستقبل منير - إن شاء الله -.
3 - عرض لكتاب: (فقه وخطب الجمعة للشيخ جمال الدين زربوز) .
4 - أساسيات عقود التجارة، وفيه تعليم لأساسيات الأموال اللازمة لعمل
تجاري ناجح.
هذا بالإضافة إلى ركن خاص بالفتوى، ومقالات أخرى متعددة في السيرة
والتاريخ، والأسرة المسلمة، والأخلاق والآداب، وغيرها.
ويسعد المنتدى الإسلامي التواصل الجيد من قراء المجلة، والقبول المبارك
الذي تلقاه المجلة، نسأل الله - تعالى - أن يبارك فيها.
ماذا تعرف عن المراكز الإسلامية؟
المراكز الإسلامية أحد أهم الأنشطة المتكاملة التي يقوم عليها العمل الدعوي
أو الخيري؛ نظراً لتعدد منشآتها وخدماتها؛ فكل مركز يتكون غالباً من:
- مسجد جامع كبير، ملحق به مصلى خاص بالنساء.
- مدرسة تستغل في تدريس مقررات منهجية أو عقد الدورات.
- مكاتب إدارية.
- قاعة محاضرات.
- مكتبة عامة يلحق بها في الغالب قسم للمكتبة السمعية والمرئية.
- جناح للضيافة (للدعاة وطلاب العلم الزائرين) .
- مستودع.
وقد قام المنتدى الإسلامي بحمد لله ومنته ببناء عدد من المراكز الإسلامية في
إفريقيا وآسيا وأوروبا، بيانها الآتي:
1 المركز الإسلامي الرئيس في بريطانيا (لندن) ، وأنشئ عام 1406هـ.
2 مركز الإمام مسلم في بنجلاديش (فريدبور) ، وأنشئ عام 1416هـ.
3 مركز الإمام البخاري في بنجلاديش (غاريبو تونغي دكا) وتم الانتهاء من
بنائه عام 1418هـ.
4 مركز المنتدى الإسلامي في غانا (أكرا) ، وقد تم افتتاحه عام 1417هـ.
5 المركز الإسلامي في نيجيريا (كانو) ، وقد افتتح عام 1418هـ، ويقع هذا
المركز قرب جامعة بايرو؛ لإتاحة الفرصة أمام طلابها للاستفادة من برامج المركز
الدعوية والتربوية المتنوعة.
6 مركز المنتدى الإسلامي في السودان (بور سودان) ، التابع لمشروع عيون
الحياة الخيري لحفر الآبار الجوفية القائم الآن وقد تم افتتاحه في شوال عام 1419
هـ.
7 مركز المنتدى الإسلامي في بنين (كوتونو) ، وتم افتتاحه في شهر ربيع
الأول 1420هـ.
8 مركز المنتدى الإسلامي في توجو (لومي) ، وهو في لمساته الأخيرة.
9 مركز ابن عبد البر في مالي (كاي) ، وقد تم الانتهاء منه.
10 مركز ابن أبي زيد القيرواني في مدينة موبتي بدولة مالي (تحت الإنشاء) .
11 مركز مصعب بن عمير في مدينة كاتي بدولة مالي (تحت الإنشاء) .
12 مركز المنتدى الإسلامي في جيبوتي. (تم بناؤه) .
13 مركز الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله للمهتدين الجدد في دولة كينيا
وهو تحت الإنشاء.
14 مركز التوحيد في بنين في إقليم الشمال في مدينة كندي وهو تحت الإنشاء.
15 مركز المهتدين الجدد في مدينة جوس بدولة نيجيريا وهو تحت الإنشاء.
هذا بالإضافة إلى عدة مراكز كان المنتدى الإسلامي قد مولهما لحساب
جمعيات خيرية موثوقة أخرى، وهي:
1 مركز أنصار السنة المحمدية، بالسودان في مدينة كسلا وقد افتتح في شهر
جمادى الأولى عام 1420هـ.
2 مركز جمعية الهدى، بإندونيسيا.
3 مركز الفرقان في اليمن (حضرموت) .
4 مركز الإيمان في اليمن (صنعاء) .
5 مركز الفرقان في مدينة أم درمان بالسودان.
(9401) طالب يحفظون القرآن في (305) حلقة للمنتدى
القرآن العظيم هو كتاب الله - تعالى - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه، أنزله الله رحمة للعالمين، وأمرهم بتلاوته وتدبره وحفظه؛ فهو الأساس
الذي تحيا به الأمة، ويرفعها من الذلة إلى العزة، ومن المهانة إلى القوة.
وقد بلغ عدد حلقات تحفيظ القرآن الكريم التابعة للمنتدى الإسلامي في العام
الماضي (305) حلقة، استفاد منها (9401) طالب من مختلف الأعمار، وذلك في
أكثر من بلد. ويُعنى المنتدى عناية فائقة بانتقاء المدرسين وتدريبهم على طرق
التدريس والتربية، وقد أعد المنتدى كتاباً بعنوان: (المدارس والكتاتيب القرآنية ... ) طبع قبل سنتين، ثم طبع مختصراً في هذه السنة ليسهل تناوله والاستفادة منه.
كما يحرص المنتدى على أن تكون الحلقات القرآنية محضناً تربوياً وعلمياً
يجد فيها الطالب ما يُرغّبه في الاستمرار والاستفادة، ولهذا أعد المنتدى منهجاً
متكاملاً يلتزم به مدرسو الحلقات.
ومن البرامج التربوية التي يحرص المنتدى على تطبيقها: برامج الاعتكاف
في رمضان، ومن ذلك أن مكتب المنتدى في (التوجو) أقام برنامجاً للاعتكاف في
رمضان الماضي لبعض طلاب الحلقات، شارك فيه (50) طالباً، وكان له أثر
تربوي ملموس ولله الحمد.
ونعرض لأهم تلك الحلقات في الجدول المقابل:
----------------------------------------------
الدولة ... ... عدد الحلقات ... ... عدد المستفيدين
----------------------------------------------
غانا ... ... ... ... 72 ... ... ... ... 1724
الصومال ... ... ... 83 ... ... ... ... 2490
توجو ... ... ... ... 33 ... ... ... ... 1500
بنين ... ... ... ... 32 ... ... ... ... 1280
كينيا ... ... ... ... 18 ... ... ... ... 1106
بنجلادش ... ... ... 45 ... ... ... ... 450
نيجيريا ... ... ... 13 ... ... ... ... 635
مالي ... ... ... ... 7 ... ... ... ... ... 175
جيبوتي ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 20
أثيوبيا ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 21
----------------------------------------------
400 حافظ للقرآن في شمال الصومال
أتم أكثر من أربعمائة دارس ودارسة حفظ كتاب الله - تعالى - هذا العام في
الحلقات القرآنية التابعة لمكتب المنتدى في شمال الصومال، وتجري الإعدادات
لإجراء المسابقة القرآنية السنوية الخامسة لحفَّاظ كتاب الله.
وسيشارك - بالإضافة إلى هؤلاء - أكثر من ثلاثمائة آخرين أتموا حفظ
القرآن العظيم قراءة وتجويداً في الحلقات المنتشرة في الشمال والشمال الشرقي من
الصومال.
وقد أعد المنتدى أكثر من أربعين منظِّماً من محفظي القرآن في مكتب المنتدى
لإجراء الاختبارات للمشاركين، وستعقد المسابقة بإذن الله في أربع مناطق في شمال
الصومال في منتصف شهر رمضان المبارك.
وبحمد الله - تعالى - فقد كان لهؤلاء الحفاظ أثر بالغ في إمامة المسلمين
ودعوتهم وتعليمهم نسأل الله - تعالى - أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وقلوبهم.
إصدارات جديدة
أصدر المنتدى الإسلامي خلال هذا العام عدداً من الإصدارات في مجالات
متعددة علمية وفكرية، وقد حظيت هذه الإصدارات - ولله الحمد - بقبول حسن من
القراء، ممَّا جعلنا نعيد طباعتها مرة أخرى، وهذه الإصدارات هي:
1 - دمعة على التوحيد (دراسة في واقع الأضرحة والقبورية في العالم
الإسلامي) ، شارك في كتابته عدد من الباحثين.
2 - منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة، تأليف الأستاذ أحمد
الصويان.
3 - نحو أداء متميز لحلقات تحفيظ القرآن الكريم، إعداد اللجنة العلمية في
المنتدى.
4 - تجربة المنتدى في العمل الدعوي، إعداد اللجنة العلمية في المنتدى.
5 - الالتزام بالإسلام: مراحل وعقبات، تأليف الدكتور عبد الله الخاطر -
رحمه الله -.
6 - الدعوة إلى الله: توجيهات وضوابط، تأليف الدكتور عبد الله الخاطر -
رحمه الله -.
وأخيراً صدر كتاب: (حمى سنة 2000) تأليف: الأستاذ عبد العزيز بن
مصطفى كامل.
ويصدر حديثاً بإذن الله - تعالى - عدد من الكتب، منها كتاب: (أعياد
الكفار) ، تأليف الأستاذ إبراهيم الحقيل.
حلاوة الإيمان باللغة الإنجليزية
تم ترتيب دورة في العقيدة الإسلامية باللغة الإنجليزية في مركز المنتدى بلندن
بعنوان: (حلاوة الإيمان) ، وكانت مادتها الدراسية كتاب: (لمعة الاعتقاد للإمام ابن
قدامة المقدسي) ، وقد استفاد من هذه الدورة جمّ غفير من الرجال والنساء.
ونظم المنتدى على هامش هذه الدورة محاضرتين باللغة الإنجليزية: الأولى
بعنوان: (الافتقار إلى الله) ، والأخرى بعنوان: (الأمة ووعد الله) .
وللمنتدى نشاط شبابي
إضافة إلى المدارس وحلقات تحفيظ القرآن الكريم يحرص المنتدى على توفير
مناخات تربوية أخرى يتحول العلم فيها إلى عمل ومعايشة، ومن هذه المناخات:
المراكز الصيفية والمخيمات الطلابية، وفي العام الماضي أقام المنتدى (7)
مخيمات، استفاد منها (455) داعية وطالباً وطالبة في (3) دول، ويحرص المنتدى الإسلامي في هذه المخيمات على التركيز على طلاب الجامعات التجريبية والمثقفين باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
ولا شك أن احتكاك هؤلاء الشباب في هذه المخيمات بقرنائهم ومن هم أكثر
علماً منهم من المعروفين لديهم أو الزائرين.. لا شك أن له أطيب الأثر في نفوسهم
وخبرتهم وتثقيفهم وترسيخ أقدامهم.
المنتدى يعيد اكتشاف جزر ومدن القارة السوداء
يعيش كثير من الناس حالة من القلق والاضطراب، ويتعطشون إلى الحق
والهدى، فإذا تيسر لهم الوقوف على كلمة التوحيد الخالص فرحوا بها، وعضوا
عليها بالنواجذ، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ومن أجل ذلك حرص المنتدى على
بث قوافل دعوية منظمة إلى المناطق التي تفتقر غالباً إلى مراكز دعوية ثابتة،
ومعظمها قرى ومناطق نائية، وقد تكون هذه المناطق ذات أغلبية مسلمة فيكون جهد
الدعاة فيها مُرَكَّزاً على تصحيح العقائد ونبذ الخرافات والبدع والدعوة إلى منهج أهل
السنة والجماعة وفضائل الأعمال والتحذير من المعاصي، وقد تنتشر في المناطق
المستهدفة الديانات الباطلة والوثنية، فيقوم الدعاة بالدعوة إلى التوحيد والتعريف
بالإسلام.
ويرافق هذه القوافل أحياناً طبيب يعرض خدماته العلاجية على أهل هذه
المناطق، كما يحمل الدعاة معهم كميات من المواد الإغاثية لإظهار سماحة الإسلام
وتأليف قلوب المدعوين.
وخلال الشهور الاثني عشر الماضية سيَّر المنتدى الإسلامي (243) قافلة
في (9) دول، وقد أسلم بفضل الله ومنته أثناء سير هذه القوافل (276) شخصاً، فضلاً عن الذين هداهم الله إلى السنة ممن كان ينتسب إلى الإسلام. علماً بأن المنتدى يتابع المسلمين الجدد؛ حتى لا يكون إسلامهم مجرد انتساب خالٍ من الحقيقة المطلوبة، وحتى لا تحدث انتكاسة لهم - لا قدر الله -. وتلك المتابعة تختلف صورتها باختلاف عدد المسلمين الجدد كثرة أو قلة، وهي تتراوح بين:
1 - معاودة تسيير قوافل أخرى بانتظام إلى القرية أو المنطقة التي فيها
مسلمون جدد.
2 - تعيين داعية يقيم في القرية أو المنطقة لمتابعة المسلمين الجدد.
3 - إنشاء مركز دعوي للمهتدين، يُعنى بمتابعتهم الدورية المركزة؛ فعلى
سبيل المثال يقوم المنتدى حالياً بإنشاء مركز الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله
- للمهتدين الجدد في دولة كينيا.
وكل ذلك بالإضافة إلى تنظيم دورات لهؤلاء المهتدين وإهدائهم الكتب
والأشرطة المناسبة لهم بلغاتهم المحلية.
وقد أعدت اللجنة العلمية بالمنتدى منهجاً علمياً وتربوياً متدرجاً يرتقي بمستوى
المسلمين الجدد، ويعالج المشكلات الاجتماعية التي تواجههم بعد نقلتهم المباركة.
وهذه بعض بيانات هذه القوافل:
ومن أبرز قصص المسلمين الجدد على المستوى الفردي: إسلام قس من أكبر
قساوسة غانا، وسمى نفسه: (محمد مصطفى) ، وهو من الذين تتلمذ على يده كثير
من دعاة الكنيسة في غرب إفريقيا، وأبدى ندماً شديداً على ما قدمه من حرب
الإسلام، ولكن استبشر خيراً حين علم أنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله.
وكان مطلبه الرئيس أن يعجَّل بتعليمه حتى يقف داعياً إلى الإسلام، كما كان
يقف ضده، وتم إرساله إلى إحدى القرى المسلمة، وقضى بها شهراً كاملاً تحت
إشراف أحد الدعاة.
ومن أهم الرحلات الدعوية التي تمت - بحمد الله تعالى - خلال هذا العام:
(اكتشاف جزر بحيرة تشاد) ، حيث وصل الفريق الدعوي للمنتدى إلى جزر البحيرة
في 10-3-1420هـ، وتعد هذه الزيارة ذات أهمية قصوى لأنها الثانية من نوعها؛ فلقد كانت الأولى قبل (12 قرناً) عندما وصلها عمر بن أبي ليلى الذي يعدّ أول
من اكتشفها وأدخل إليها الإسلام.
واستُقبل الفريق بالترحيب من سلطان المنطقة وأعيانها وسكان الجزر النائية،
واطلع الفريق على أحوال المسلمين، وعلى النشاط الكنسي الذي استغل الفقر
والجهل والمرض ليبث سمومه بين المسلمين. وزار الفريق جزر كناسروم، وديبوة، ومدغشكر، وكمبيلوا.
وقد وجد الفريق تعطشاً كبيراً للإسلام ورغبة صادقة لتعلم العلوم الشرعية،
ومحبة كبيرة للدعاة؛ فأكثرهم لأول مرة يرى رجلاً أبيض مسلماً يزوره من بلاد
الإسلام.
كما بدأ المنتدى الإسلامي يخطو بحرص لنشر الدعوة الإسلامية في جنوب
تشاد؛ حيث الأغلبية النصرانية والوثنية؛ إذ أرسل وفداً قام برحلة لمدة أسبوعين
شملت المدن الآتية: (كيلو، وبالا، ومندو) ، وكان الهدف من الزيارة: توزيع
الدعاة في مناطق المهتدين، وإقامة عدد من الدورات المركزة، كما ألقى الوفد عدداً
من المحاضرات العلمية والتربوية على الرجال والنساء.(144/81)
اسم المدرسة ... الدولة ... مراحل الدراسة ... عدد طلابها ... علاقتها بالمنتدى
--------------------------------------------------------------
مدرسة المنتدى بريطانيا ... روضة، ابتدائي ... 160 ... ... إنشاء وتشغيل
الإسلامي
24 مدرسة ... كينيا ... ... ابتدائي، متوسط ... 7211 ... ... ... تشغيل فقط
مدرسة التوحيد كينيا ... ... ... ابتدائي ... 250 ... ... ... إنشاء وتشغيل
مجمع الصديق غانا ... ... ابتدائي، متوسط، ... 948 ... ... ... إنشاء وتشغيل
التعليمي ... ... ... ... ... ثانوي
مجمع الأنصار ... غانا ... ... روضة، ابتدائي، ... 509 ... ... ... تشغيل فقط
التعليمي ... ... ... ... ... ... متوسط
مجمع الفاروق ... غانا ... ... ابتدائي، متوسط ... 500 ... ... ... إنشاء وتشغيل
التعليمي
مدرسة الطيبة ... بنغلاديش ... ابتدائي ... ... 150 ... ... ... إنشاء وتشغيل
مدرسة البراء ... بنغلاديش ... ابتدائي ... ... 130 ... ... ... إنشاء وتشغيل
بن مالك
مركز الهدى ... بنغلاديش ... ابتدائي ... ... 100 ... ... ... إنشاء وتشغيل
ثانوية ابن ... مالي ... ... ثانوي ... ... 40 ... ... ... إنشاء وتشغيل
عبد البر
فصول الصديق مالي ... ... محو الأمية ... 70 ... ... ... إنشاء وتشغيل
لمحو الأمية
مدرسة عمر بن مالي ... ... ابتدائي ... ... 107 ... ... ... تشغيل فقط
الخطاب
مدرسة طارق بن مالي ... ... ابتدائي ... ... 207 ... ... ... إنشاء وتشغيل
زياد
مدرسة دار ... الصومال ... ابتدائي ... ... 228 ... ... ... تشغيل فقط
الحنان
مدرسة أبخ ... جيبوتي ... ... ابتدائي ... ... 310 ... ... ... ... تشغيل فقط
الإسلامية
مدرسة السلام ... جيبوتي ... ... ابتدائي ... ... 97 ... ... ... ... تشغيل فقط(144/83)
جدول الدروس والمحاضرات خلال العام الماضي
الدولة ... ... عدد الدروس الأسبوعية ... عدد المحاضرات الأسبوعية
-------------------------------------------------
مالي ... ... ... 220 ... ... ... ... ... 22
الصومال ... ... 1791 ... ... ... ... ... 260
بنجلاديش ... ... 452 ... ... ... ... ... 226
كينيا ... ... ... 1513 ... ... ... ... ... 212
توجو ... ... ... 244 ... ... ... ... ... 38
نيجيريا ... ... ... 139 ... ... ... ... ... 28
غانا ... ... ... 66 ... ... ... ... ... 18
إثيوبيا ... ... ... 229 ... ... ... ... ... 5
بنين ... ... ... 29 ... ... ... ... ... 14
جيبوتي ... ... ... 27 ... ... ... ... ... 4
بريطانيا ... ... ... 8 ... ... ... ... ... 1
ص90
------------------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد الحلقات ... ... ... عدد المستفيدين
------------------------------------------------
غانا ... ... ... ... ... 72 ... ... ... ... ... 1724
الصومال ... ... ... ... 83 ... ... ... ... ... 2490
توجو ... ... ... ... 33 ... ... ... ... ... 1500
بنين ... ... ... ... ... 32 ... ... ... ... ... 1280
كينيا ... ... ... ... ... 18 ... ... ... ... ... 1106
بنجلاديش ... ... ... ... 45 ... ... ... ... ... 450
نيجيريا ... ... ... ... 13 ... ... ... ... ... 635
مالي ... ... ... ... ... 7 ... ... ... ... ... 175
جيبوتي ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 20
إثيوبيا ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... 21
ص92
-------------------------------------------------
الدولة ... ... ... ... عدد القوافل ... ... ... ... المسلمون الجدد
-------------------------------------------------
توجو ... ... ... ... 85 ... ... ... ... ... ... 70
بنين ... ... ... ... 40 ... ... ... ... ... ... 50
بنجلاديش ... ... ... 72 ... ... ... ... ... ... 6
كينيا ... ... ... ... 5 ... ... ... ... ... ... 29
مالي ... ... ... ... 15 ... ... ... ... ... ... 40
نيجيريا ... ... ... 9 ... ... ... ... ... ... 35
إثيوبيا ... ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ... 15
غانا ... ... ... ... 12 ... ... ... ... ... ... 30
جيبوتي ... ... ... 4 ... ... ... ... ... ... 1(144/84)
من الجهود الدعوية
استثمار الوسائل الإعلامية
يسعى المنتدى إلى استثمار كل فرصة تسنح للدعوة إلى دين الله بصورة
واسعة غير محدودة، ومن هذا السعي محاولة إيصال كلمة الحق عبر الوسائل
الإعلامية واسعة الانتشار: كالتلفاز والإذاعة والصحف ... ولما كانت تكاليف هذه
الوسائل كبيرة والعوائق الإدارية - في الدولة التي تسمع بإنشاءها للأفراد والهيئات-
كثيرة، فقد حرصت بعض المكاتب الفرعية على إيصال الهدى باستثمار الفرصة
المتاحة في الوسائل القائمة بالفعل، وبالطبع تختلف هذه الفرص من مكان لآخر.
وإضافة إلى آلاف من نشرك المنتدى الأسبوعية والشهرية التي توزعها بعض
المكاتب باللغات المحلية والعربية، استطاع القائمون على بعض المكاتب تنفيذ عدد
من البرامج الإذاعية والتلفازية وعدد من المشاركات الصحفية في بلادهم، وهذا
بيان بأهم هذه الأعمال خلال فترة التقرير:
الدولة ... تلفاز إذاعة ... صحافة ... ... المجموع
-------------------------------------------------
مالي 9 548 12 ... 569
كينيا ... 4 168 2 ... 174
توجو ... - ... 88 ... - ... ... 88
غانا ... - ... 24 ... 7 ... ... 31
جيبوتي ... 3 - ... - ... ... 3
بنين ... ... - ... - ... - ... 3
الصومال - ... - ... ... 1 ... 1
-------------------------------------------------
المجموع 16 828 22 869
المنتدى يسعى لإحياء رسالة المسجد
يحرص المنتدى الإسلامي على استعادة المسجد لدوره الذي كان عليه في
صدر الإسلام، فيقوم بتعيين داعية مؤهل يؤم الناس في الجُمع والجماعات،
ويتولى ترتيب عدد من حلقات تحفيظ القرآن الكريم والدروس والمحاضرات للرجال
والنساء والأطفال، وكذلك يقوم بجولات دعوية في القرى المجاورة انطلاقا من
المسجد ويرعى بعض الشؤون الاجتماعية لأهالي منطقة المسجد ... ويتولى أقرب
مكتب للمنتدى متابعة الداعية من خلال المشرفين المسؤولين.
ولأجل إيصال مساهمات المسلمين إلى هدفها المأمول فإن المنتدى يحرص
على بناء المسجد على تحقيق عدة أمور منها:
1- اختيار الموقع المناسب بواسطة لجنة المساجد في فرع المنتدى في تلك
الدولة ويراعي في الموقع ما يلي:
- توسط موقعه بين بيوت المسلمين؛ بحيث يستفيد منه عدد كبير من المصلين.
- ألا يكون قريبا من مسجد آخر يسهل الوصول إليه.
- ألا يكون لأهل البدع يد على المسجد.
- أن تكون الأرض وقفية، أو يتم التنازل عنها، وتسجل رسميا باسم المنتدى
الإسلامي في غالب الأحيان.. ولا تشتري الأرض إلا عند الضرورة القصوى.
2- يتم الاتفاق على مقاول يتولى تنفيذ، وتصرف له التكلفة حسب مراحل
البناء، وتقوم لجنة المساجد في المنتدى بالإشراف ومتابعة التنفيذ.
3- تضاف أحيانا - حسب الحاجة والإمكانات - بعض الملحقات مثل:
دورات المياة، بئر، مكتبة، مسكن للإمام، غرفة (خلوة) لتحفيظ القرآن الكريم
للأطفال أو النساء، مصلى للنساء.
ولقد بلغ إجمالي عدد المساجد التي بناها المنتدى حتى الآن 406 مساجد،
أنشيء منها (38) مسجدا خلال العام الماضي وحده، وكانت على النحو الآتي:
في بنغلاديش (10) مساجد، وثلاثة مساجد في كل من: التوجو، وجيبوتي،
ونيجيريا، وفي كل من: مالي، وكينيا مسجدان. وفي كل من: الصومال،
وإثيوبيا، وبنين مسجد واحد.
وفي خطوة لمد يد التعاون بين المنتدى الإسلامي وبعض الجمعيات الإسلامية
الموثوقة وذات المنهج الصحيح في الدول التي ليس للمنتدى فيها مكتب فرعي بنى
المنتدى الإسلامي بالتعاون مع تلك الجمعيات:
(5) مساجد في اليمن، (3) مساجد في السودان، ومسجدان في الهند،
ومسجدان في كردستان.
إطعام الطعام
تحقيقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائما كُتب له
مثل أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ... ) أخرجه السبعة، حرص
المنتدى الإسلامي أن يكون من مصارفه: إفطار الصائمين خلال شهر رمضان
سنويا، ويصاحب هذا الإفطار دروس تعليمية وتربوية ووعظية للرجال والنساء
يقوم بها دعاة المنتدى الإسلامي، وبلغت في العام الماضي (13. 303) برنامج
دعوي، استفاد منها قرابة (982,629) شخصا، وقد أعدت اللجنة العلمية
بالمنتدى سلسلة من الدروس العقدية والفقهية والتربوية تعتبر مرجعا للدعاة في
دروسهم.
وقد بلغ عدد الوجبات في العام الماضي وحدة (346,700) وجبة، استفاد
منها 409,003, 1صائما في (39) دولة، وهي الدول التالية:
مالي - جيبو تي - فلسطين - باكستان - أوغندا - إثيوبيا - إريتريا -
البوسنة والهرسك - إندونيسيا - السودان - اليمن - كمبوديا - تايلاند - الكاميرون
- الصومال - الفلبين - نيجريا - نامبيا - موزمبيق - مجموعة دول الكاريبي -
ليبيريا - غنيا بيساور - لبنان - بنين - كينيا - كردستان - كشمير - فيتنام -
غانا - سيرلانكا - سيراليون - سوريا - جنوب إفريقيا - توجو - تنزانيا - تشاد
- تركيا - بنغلاديش - الهند.
ومن خيرات هذا المشروع إسلام (329) شخصا، استفادوا من الدروس
الدعوية المصاحبة لبرامج إفطار الصائمين والبيئة المؤثرة المصاحبة للإفطار - ولله
الحمد والمنة.
كما قام المنتدى بتنظيم مشروع ذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء
والمحتاجين المسلمين في أكثر من 21 دولة، وبلغ عدد أضاحي العام الماضي
(3053) أضحية استفاد منها حوالي (00,35) شخص.
وقد تم تركيز على الدول المنكوبة والتي تعاني من الفقر الشديد كالصومال.
وفي هذا العام (1420هـ) قام المنتدى بعمل إغاثي عاجل في (مدينة هرجيسة)
عاصمة شمال الصومال، لإغاثة 180 أسرة تضررت بسبب بعض العواصف،
نسأل الله السلامة.
كما كان للمنتدى الإسلامي وقفة مع إخواته المتضريين من السيول
والفيضانات في السودان بالطعام والدواء والكساء.
مسابقة علمية كبرى في مالي
أقام مكتب مالي مسابقة ثقافية خلال شهر رمضان واشترك فيها ما يزيد على
(400) أربعمائة متسابق على مستوى الدولة وأقيم بهذه المناسبة حفل تكريمي
للفائزية وغطتها إعلاميا الإذاعات المحلية والتلفاز الوطني.
وحضرها كبار المسؤولين وأئمة المساجد ورؤساء الجمعيات الإسلامية
ومديرو المدارس العربية الإسلامية ووزع فيها ثلاثون جائزة على المتفوقين وجوائز
على الشخصيات الدعوية البارزة.
في كل ذات كبد رطبة أجر
يعد (مشروع حفر الآبار) من أكثر المشروعات التي يُقبل عليها أهل الخير،
نظرا لكونها من (الصدقة الجارية) ، وأيضا لحصول الأجر - إن شاء الله تعالى -
حتى ولو كان المستفيد منها حيوانا يروي ظمأه.
وقد وقع هذا الإقبال على حاجة ملحة في كثير من بلاد المسلمين، حيث
تعاني كثير منها من الجفاف والتصحر.. وإضافة غلى هذا الهدف الجوهري فإن
المنتدى يعتبر حفر بئر من أكبر العوامل لتأليف القلوب، كما أنه يُعد مركزا لتجمع
كثير ممن يقصدونه، ويحرص المنتدى على أن يكون المتابع لتشغيل البئر أحد
الدعاة.
ولذا: كان حفر الآبار أحد أهم المشاريع الإغاثية في المنتدى الإسلامي، ويعد
مشروع (عيون الحياة) لحفر الآبار الارتوازية في السودان من أبرز المشاريع
القائمة حاليا، وقد بلغ عدد الآبار المحفورة لهذا المشروع حتى الآن (119) بئرا
ارتوازيا، و (315) بئرا سطحيا، في (9) دول، ليكون مجموع الآبار
(495) في (10) دول.
وإضافة إلى مشاريع الآبار أقام المنتدى الإسلامي (مشروع سلسبيل) للسقيا
في منقطة شرقي السودان، وهي منطقة تعاني من جفاف شديد، وهو مشروع قائم
على نقل المياة من مصادرها بخزانات كبيرة متنقلة، وتوزيعها على خزانات مياة
أصغر ثابة في أماكن التجمعات البشرية المحتاجة، ويقدر عدد المستفيدون من هذا
المشروع بما لا يقل عن 000,50 شخص.
كافل اليتيم
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة
هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا) (متفق عليه) .
كفالة المسلمين لأيتامهم إضافة إلى كونها واجبا شرعيا وإنسانيا فإنها أيضا
تشكل حصنا ضد وقوع هذا اليتيم في براثن المنظمات التنصيرية والتغريبية.
ومع إدراك القائمين على هذا المشروع بأنهم مهما قدموا لليتيم من مساعدة
ودعم فلن يعوضوه الحنان والعطف والرعاية التي فقدها فقد أحد والديه أو كليهما..
فإنهم لا يستقلون إدخلا البهجة والسرور والرعاية الاجتماعية والتعليمية على اليتيم
وأسرته من خلال هذا المشروع، وهذا ما يلحظونه في عيون هذه الأسر.
وقد استطاع المنتدى - بفضل الله تعالى - كفالة (355) يتيما في العام
الماضي وحده، شاملة الغذاء والكساء والتعليم، تفصيلهم الآتي
الدولة ... ... عدد الأيتام
----------------------
الصومال ... 228
بنجلاديش ... 30
كينيا ... ... 43
توجو ... ... 40
بنبن ... ... 5
مالي ... ... 8
جيبوتي ... ... 1
----------------------
المجموع ... ... 355
كما يقوم المكتب بالتعاون مع بعض الجمعيات الخيرية الموثوقة في دعم كفالة
الأيتام لدى هذه المؤسسات.
مخيمات مكافحة العمى
تم - بحمد الله - بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية العالمية، (وهي
مؤسسة إسلامية طبية متخصصة في مكافة العمى) إقامة مخيمين لمكافة العمى
خلال العام الماضي وحده في كل من مالي - الصومال؛ حيث تقوم مؤسسة البصر
بتوفير الطاقم الطبي والأدوية، ويقوم المنتدى الإسلامي بالترتيبات الإدراية
والنظامية مع الجهات المعنية، كما يقوم مكتب المنتدى كذلك في الدولة المقام فيها
المخيم بتنظيم دعوي يستمر طوال فترة إقامة المخيم.
ومتوسط فترة إقامة هذه المخيمات ما بين أسبوع إلى عشرة أيام يجري فيها
فحص آلاف المرضى وتجرى عمليات جراحية للمئات منهم، كما توزع فيها آلاف
النظارات وآلاف الأدوية وكانت على النحو الآتي:
- عدد الكشوفات الطبية (8. 500) حالة
- صرف الأدوية (3. 500) دواء
- عدد النظارات الطبية الموزعة (2. 892) نظارة
- عدد العمليات الجراحية (920) عملية.
هذا وتم إيواء وتغذية المرضى خلال فترة المخيم.
ويعزم المنتدى بالتعاون كذلك مع مؤسسة البصر الخيرية على إقامة مخيمين
لمكافحة العمى في كل من بنين ومالي.(144/93)
المسلمون والعالم
تيمور الشرقية..
ذئاب الصليبية تفترس الغنمة القاصية
د.توفيق محمد علوان [*]
كنا قد تعرضنا في مقال سابق - معركة الإسلام في إندونيسيا (العدد 141) -
إلى تيمور الشرقية في إندونيسيا باعتبارها مثالاً فاجعاً على نوع من أشد أنواع
التنصير ضراوة وخبثاً، ولم نكن نظن أن الأحداث سوف تتداعى بهذه السرعة
المذهلة لتثبت - دون ريب - ما ذهبنا إليه، وما أطلقناه حينئذٍ من صرخة مدوية
كي يستيقظ المسلمون من غفوتهم المدمرة؛ ذلك أن التعامي عن الخطر الماثل في
هذه القضية لم يعد تخاذلاً معيباً فحسب، بل هو فاقرة مدمدمة وكارثة عقدية بالمعنى
الحرفي للكلمة. إن الاستعمار البرتغالي والهولندي والإنجليزي المتتابع لهذه البلاد
قد خلف التلمظ الصليبي على أشرس حالاته تعطشاً وافتراساً؛ يضاف إلى ذلك
الهيمنة الأمريكية المتغطرسة والمنحازة دون مواربة أو خجل وبصورة دائمة إلى
صف الصليبية واليهودية، مع ما تستدعيه الحالة المزرية التي انتهت إليها بعض
أقطار العالم الإسلامي من الغفلة المميتة.
العار.. مسلمون يباركون غزو الصليب:
والأشد من ذلك عاراً وخيانة تلك الحالة المشينة من انحياز بعض الأبواق
المنسوبة للإسلام لصف الصليبية من غير تورع أو حياء، بل راحت - مع الأسف- تردد الدعاوى الصليبية الحاقدة، في الصحافة الغربية عند تناولها لهذه القضية
دون تفكير.
ومن أمثلة ذلك: تصدير إحدى المجلات العربية تناولها لقضية تيمور الشرقية
بقولها:
(كان ينبغي ألا يربح دعاة الاستقلال التام الاستفتاء من أجل أن يحافظوا
على حياتهم) (في تعريض صريح بالجهود المستميتة لمن أرادوا أن يستبقوا تيمور- كما هو مفترض - جزءاً لا يتجزأ من إندونيسيا المسلمة وسط تدخلات دولية
جبارة وظالمة وضغوط غربية على غاية الضراوة) ، وقالت: (الحل الذي ارتآه
الجيش على ما يبدو هو الوقوف وراء الميليشيات المعادية للاستقلال والتستر على
ما تقوم به من انتهاكات) (وكأن تدخل الأمم المتحدة المتحدثة الرسمية باسم أمريكا،
وتدخل الفاتيكان، وتدخل دول الجوار الصليبي كأستراليا، وتدخل دول غرب
أوروبا جماعياً في تقرير مصير واحدة من محافظات عددها سبع وعشرون محافظة
في دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، كل هذا لم تعتبره المجلة
الموقرة (انتهاكات) ، أما قتال المسلمين في تيمور المهددين بالفناء الكامل والإبادة
الجماعية والمذابح والاغتصاب - في حال إعلان الاستقلال - بما هو معلوم من
(عدالة) المجتمع الدولي تحت علم الأمم المتحدة والمجربة على أفدح صورة وأبشعها
في البوسنة ومن بعدها كوسوفا، وغير ذلك مما لا يخفى على مبصر؛ فإنه -أي
ذلك القتال- في نظر المجلة الموقرة هو (الانتهاك والقتل والتدمير) وقالت: ...
(وكان سلوك الجيش الإندونيسي مريباً على امتداد هذه التجربة السوداء - لا سيما
بعدما جزم الصحفيون الغربيون ومراقبو الأمم المتحدة بأن عسكر جاكرتا لا يكف
عن استفزازهم بغرض ترحيلهم إلى خارج تيمور) ، كما وصفت المجلة الجيش
الإندونيسي الذي يقوم بأخص واجبات أي جيش في أية دولة ألا وهو ضبط النظام
والأمن عند اشتعال الفوضى في أية بقعة من البلاد وصفته المجلة الموقرة بأنه
(جيش الاحتلال لتيمور منذ عام 1975م) (المجلة الموقرة يبدو أنها مصابة بعمى
الألوان حتى إنها تعتبر تدخل جيش دولة للسيطرة على الأمور المتردية فيها
(تجربة سوداء) بينما وجود الصحفيين والأجانب وإقحام أنفسهم في هذه القضية
الداخلية تعتبره نوعاً من التصرف الذي لا يثير أي نوع من الريبة أو الغضاضة؛
فالمجلة الموقرة التي اعتبرت هذه التجربة الداخلية سوداء كان عليها أن تنظر فقط
إلى أحوال المسلمين تحت الحماية الدولية في كوسوفا، وأن تنظر إليهم في داغستان
وفي فلسطين وفي لبنان وفي كشمير تحت القوى الهمجية المختلفة لكي تميز بدقة
الفرق بين الألوان وخاصة اللون (الأسود) منها؛ خصوصاً بعد أن أكدت المجلة
الموقرة ذاتها:
(أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قد حذر الحكومة الإندونيسية أن عليها في
حال فشلها في تيمور أن تستعين بقوات خارجية) ، وبينما أدلى الأمين العام للأمم
المتحدة كوفي أنان مهدداً بإجراءات دولية، وحمَّل الرئيس البرتغالي جورجي
سامبايو الأمم المتحدة ومجلس الأمن مسؤولية ما قد تؤول إليه أوضاع تيمور؛
فالمجلة الموقرة لا ترى في هذا الهجوم المتعدد الأذرع على مستوى الصيليبيين بدءاً
من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والرئيس البرتغالي جورجي سامبايو، مع التهديد
السافر بالتدخل في شؤون دولة عضو في الأمم المتحدة، لم تجد المجلة الموقرة في
هذا ما يدعو للاستنكار أو العتب، ولا عجب بعدما تحولت بعض الأقلام والأبواق
(المسلمة) إلى ببغاوات تردد من دون وعي أو تدبر ما ينطق به السادة الصليبيون
في الغرب، وهو ما يمثل أبشع فصول هذه المأساة وأشدها شناعة؛ إذ تمزق
أطراف الجسد الإسلامي بمباركة أقلام وألسنة إسلامية؛ فإذا نحن أمام صورة قاتمة
كئيبة على غاية المرارة والألم [1] .
ولما كان الحكم على أي قضية فرع من تصورها، ولما رأينا الكثيرين من
المفكرين والكتاب حال تناولهم لهذه المسألة - وبغض النظر عن إخلاصهم أو عدمه - قد شاب تناولهم القصور نظراً للجهل بالمعلومات الأولية عن هذا الركن من العالم، ومن واقع تجربتي الذاتية من خلال عملي أستاذاً للتفسير في الجامعة الإسلامية
الحكومية في إندونيسيا LAIN، ومن واقع معايشتي لواقع هذه المسألة المؤلمة
وغيرها مما خفي وكان أعظم من أحوال إندونيسيا مع الصليبية والأطماع الوحشية
التي لا حد لها في تنصير إندونيسيا، فلسوف أبدأ بإعطاء القارئ الكريم معلومات
مجردة عن تيمور سواء من ناحية التاريخ أو الجغرافيا أو الثروات يقيناً بأن هذا هو
الأصل الأول الذي تنبني عليه أية رؤية راشدة لتلك المسألة الشائكة المصيرية.
المكان والسكان:
- المساحة: 14. 874 كيلو متر مربع.
- العاصمة: ديلي.
- الحدود الجغرافية: بحر باندا ومضيق ويتار شمالاً، بحر تيمور جنوباً،
محافظة نوساتيجارا الشرقية غرباً، بحر مالوكا شرقاً.
- الأنهار: نهر لاشو، نهر سيشال، نهر سوماسي، نهر ماروبو، نهر
بيلوليك.
- الجبال: جبل تارومان، جبل موندو بيرديدو، جبل لاكولو.
- البحيرات: بحيرة سوروبيل، بحيرة مالاي.
- درجة الرطوبة في الجو: 83%.
- درجة غزارة الأمطار: 1200 - 1300 مليمتر في السنة.
- الثروة الحيوانية والنباتية:
النبات: أنواع أخشاب متميزة، الخشب الأحمر، خشب الرقائق، وغيرها
من أنواع الأخشاب.
الحيوان: القرود والخيل والبقر وبعض الحيوانات المميزة لإندونيسيا.
- عدد السكان: 719، 839 نسمة (حسب إحصاء 1995م) .
- كثافة السكان: 56 شخصاً لكل كيلو متر مربع.
الديانات:
- مسلمون: 1.7 %.
- بروتستانت: 2.7 %.
- الروم الكاثوليك: 91.4%.
- الهندوس: 0.3 %.
- البوذيون: 0.1 %.
المنتجات الرئيسة:
- المنتجات الزراعية: الأرز، الذرة، البن، وغيرها.
- المنتجات التجارية: الزيت، الكاكاو.
- الحيوانات الأليفة: الأبقار، الجاموس، الخيل، الأغنام، الدجاج،
الخنزير.
- الثروة السمكية: التونا، وغيرها من الأسماك البحرية.
- الغابات: أنواع الأخشاب.
- أعمال يدوية: حرف في نقش المعادن، النسيج.
- البترول (النفط) حيث ظهر مؤخراً.
- الأماكن السياحية:
حديقة مينا ياتور، شواطئ باسير بوتيه، شواطئ ليكيسا، أماكن الحرب
العالمية الثانية.
- الخدمات الفندقية: 22 فندقاً خمسة نجوم فأقل (حسب إحصاء 1994م) .
الإسلام والصليبية وجهاً لوجه: هيئة الأمم المتحدة الأمريكية:
ببالغ الأسف والمرارة، يتبين لنا عند مراجعة الإحصاءات الرسمية أن
الهجوم التنصيري الصليبي المتواصل وطوال أربعة قرون ماضية يمضي مصحوباً
بحرب عنصرية جبارة من دول البرتغال وأسبانيا وهولندا، والآن عن طريق
الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مجتمعة مع الفاتيكان، وتسخير الأمم المتحدة
كما سيأتي بيانه من أجل تمزيق الجسد الإسلامي في إندونيسيا وقطع تيمور الشرقية
نهائياً منه لتتحول إلى دولة نصرانية عنصرية متعصبة لبث الفرقة والفوضى في
هذا الجزء العزيز النائي من الوطن الإسلامي الأكبر، وحتى تنهال عليها الإمدادات
العسكرية والاقتصادية لتكون رأس جسر مسموم لتحقيق الأمل الصليبي الذي لم يفلح
في تنصير إندونيسيا المسلمة؛ حيث إن جميع الوثائق التي بثتها مؤتمرات التنصير
قد رشحت إندونيسيا لأن تكون أول دولة إسلامية تتحول إلى النصرانية، بل إنهم
قد حددوا عام 2000م لتحقيق هذا الحلم المحموم، فلما جاءت سنة 2000م ولم
تزدد إندونيسيا إلا ارتباطاً بالإسلام والمسلمين جن جنون عصبة القساوسة
والمنصرين في الفاتيكان والدول الغربية الوالغة في دماء المسلمين، وقد بدا ذلك
على صورته الشنعاء في تهديدات الرئيس كلينتون، وتوجيهات الفاتيكان، واتحاد
دول أوروبا مجتمعة لفصل تيمور، كما بدا في اللهجة الهجومية المتوعدة التي ليس
لها سابقة من سكرتير عام الأمم المتحدة، ذلك الذي لزم الصمت المخزي إزاء
اندفاع قوات الأطلنطي في كوسوفا، والصمت المخزي طوال فترة الحصار على
العراق، والصمت المخزي طوال فرض الحصار على ليبيا، والصمت المخزي
طوال عربدة (إسرائيل) في عهد نتنياهو، وفي العهد الحاضر في فلسطين ولبنان،
هذا الصامت الأبدي، الآن قد نطق فجأة وفي أفصح لسان وبأقوى العبارات
المتعصبة المتوعدة للحكومة الإندونيسية، المهددة بالويل والثبور وعظائم الأمور،
الداعية دون رحمة لمنع بيع السلاح إلى إندونيسيا قاطبة، المعاتبة الرئيس
الأمريكي على رقته ووداعته وتدليله للحكومة الإندونيسية، السكرتير العام للأمم
المتحدة الذي لزم السكوت التام إزاء المجازر المتتابعة لدماء المسلمين في كشمير
وداغستان وجمهوريات الاتحاد السوفييتي الهالك، الصامت إزاء العدوان الهمجي
الأمريكي دون سبب على السودان، الصامت على التحريض الغربي المستمر
للشرذمة المثيرة للفساد في جنوب السودان، الآن تفوه بأقسى العبارات المزمجرة
لفصل تيمور عن إندونيسيا ولاتهام الحكومة الإندونيسية بالتدخل في الحريات
الشخصية. إن السكرتير العام الناطق باسم أمريكا والعالم الغربي بأسره قد أفصح
معبراً عن أشد الوجوه الصليبية ضراوة، أولئك المتمسحون بعدم التدخل في
الشؤون الداخلية للبلاد، فقضوا باستبعاد واغتصاب وتمزيق أطراف المسلمين في
صربيا العاتية المجرمة الجبارة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، فقضوا
بالحرب التي لا هوادة فيها على داغستان، والشيشان من قبل ومن بعد، وغيرها
من الجمهوريات الإسلامية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للهند فقضوا بسحق
الفئة المسلمة في كشمير. الآن أصبح التدخل الدولي السريع بالقوات الدولية
المقترحة تحت قيادة أستراليا عملاً من أعمال العدل وإقرار السلام العالمي ورحمة
وحماية الأقليات، تمزيق الجسد الإسلامي إرباً إرباً حماية للسلام العالمي والأمن
العالمي، هذا هو المنطق الصليبي الجبار الذي كشف اليوم عن أشد الأنياب تهجماً
وضراوة.
لماذا غَيَّر الغرب وجهه؟
هل تكون هذه هي الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل الصليبي الدامي في أحشاء
الجسد الإسلامي ولقهر المسلمين وإخضاعهم طوعاً أو كرهاً للمقررات الصليبية
الجائرة التي أصابتهم بالخسائر الفادحة في عقائدهم وديارهم بعدما واتت الفرصة
الكاملة الآن لتغيير مواقف الغرب بصورة فاجعة بعد أن كان الغرب نفسه أول من
عزز القوات الإندونيسية في عهد الرئيس السابق سوهارتو ورفض انفصال تيمور
عن إندونيسيا، وبعد أن قرر شعب تيمور في الاستفتاء الرسمي عام 1976م
الانضمام إلى إندونيسيا الوطن الأم؟
إن سبب هذا التحول الجذري في مواقف الغرب يرجع إلى أسباب:
1 - أن القوات التي كانت تطالب سابقاً بتحرير تيمور إنما كانت قوات
شيوعية تابعة للمعسكر الشرقي إبان قوة الاتحاد السوفييتي السابقة؛ فالغرب وإن
كان قد بذل جهوداً كبرى على مستوى التنصير وكذلك على مستوى الغزو العسكري
المباشرة للاستئثار بتيمور وغيرها من الجزر الإندونيسية المتفرقة، إلا أن
الشيوعيين قد ركبوا موجة التحرر، فكان من الحكمة آنذاك إبقاء إندونيسيا وتيمور
جسداً واحداً يتم فيه استئناف جهود التنصير وبث الفتنة، وذلك عند الغرب خير من
فصل تيمور تحت حكومة موالية للاتحاد السوفييتي آنذاك.
2 - وجود المعسكر الشرقي بكامل قواه المتحدية للمعسكر الغربي، وقيام
الحرب الباردة بين المعسكرين كان عنصراً كابحاً وملجماً للرغبات الشريرة للغرب
الصليبي في تتويج جهود المنصِّرين لأربعة قرون عن طريق دولة صليبية مستقلة
في تيمور الشرقية.
3 - الأمم المتحدة آنذاك كانت بصورة أو بأخرى تمثل رغبات جميع
الأطراف المشاركة فيها بغض النظر عن توجهاتهم؛ مستبقيةً على الحد الأدنى من
التوازن الظاهري ومانعة من استئثار طائفة دون أخرى بالمقررات والعقوبات
والتهديدات والتدخلات في شؤون الدول الأخرى.
4 - تخوُّف الولايات الأمريكية بالذات من الأعمال المتهورة والتصرفات
الطائشة التي بدأت تمارسها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحسبها من الإقدام
على أعمال تكلفها غالياً سواء من المواجهة المباشرة من الدول المعنية أو الرغبة
المبدئية في المعارضة من المعسكر الشرقي دون النظر إلى الموضوع.
5 - اجتماع الطبيعة العدوانية، والتعصب الصليبي، والانحراف الأخلاقي،
والرغبة في احتقار الدول الإسلامية، مع انتفاء عوامل الخوف من العواقب
الانتخابية كلها جميعاً مع الظروف الدولية المواتية في رئيس واحد هو الرئيس
الأمريكي بيل كلينتون الذي وجد نفسه مطلق اليد وهو الذي لا يحول بينه وبين
رغباته وازع من ضمير، مع رغبته الدفينة في إذلال المسلمين مع مواقفه السابقة
خصوصاً في العلاقات بين (إسرائيل) والعرب المؤدية إلى أشد حالات التحيز
ظهوراً، وتعصبه الأعمى لليهودية والنصرانية، مع انتفاء الخوف مع الانتخابات
القادمة حيث قضى سنواته في الرئاسة كاملة، كل هذه العوامل عجلت بتحقيق الحلم
الصليبي على يديه ووجود البوق الدولي الخاضع دون حيلة لمقررات أمريكا في
صورة الأمم المتحدة وأمينها العام الخاضع للأذقان.
هذه هي الأسباب المتراكمة التي تذهب بكل عجب من تخلي الغرب عن
مواقفه السابقة بالكامل وتبنيه السياسات المعتمدة عنده من تمزيق أطراف الجسد
الإسلامي دون رحمة؛ ومن شاء دليلاً دامغاً على ذلك فليراجع وقائع محاكمات
المفكر الفرنسي روجيه جارودي الذي أشهر إسلامه وأعلن أسرار المخطط الغربي
لتمزيق الدول الإسلامية المحيطة بـ (إسرائيل) وشرذمتها إلى دويلات تمكن
(إسرائيل) من التسيد على جيرانها من الدول الإسلامية ممهورة بالخرائط المبينة
للخطط الكاملة للتقسيم التي شملت: مصر وسوريا والعراق ولبنان، وغيرها من
الدول.
وقد نشرها بنصها مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام بمصر فمن شاء
فليراجعها، فهي عظيمة النفع في هذا المقام للتعريف بالطابع الإجرامي المتعمد
لمخططات الغرب البالغة التعصب، وكذا فليراجع تصريحات رئيس الوزراء
البريطاني الأسبق جون ميجور الذي أعقب تاتشر في رئاسة الوزارة البريطانية إبان
أزمة البوسنة والهرسك، فإن وضوحها في هذا المقام لا يحتاج إلى بيان حاشا من
طَمَسَ اللهُ على بصيرته وأعمى قلبه فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً.
أولاً: ذئاب جائعة وغنم قاصية:
لقد تركز الهجوم الصليبي الكاثوليكي على تيمور ضمن الهجوم الشامل على
إندونيسيا المسلمة من أقصى الشرق؛ حيث عانت هذه المنطقة من نقاط ضعف
بالغة الخطر أحالتها إلى فريسة سهلة أمام الذئاب الصليبية المتعطشة للافتراس وهذه
النقاط كما يلي:
1 - بعدها الجغرافي الشاسع عن مناطق التجمعات الإسلامية الحاشدة في
جاوة وسومطره وكاليمنتان وغيرها من حاضرات الإسلام التي يحتشد فيها تسعون
بالمائة من تعداد السكان البالغ مائتي مليوناً من المسلمين، مما أضعف تأثير الإسلام، وحال دون النجدة في حال الرغبة الإسلامية في ذلك، وكذلك تعرضها للنسيان
والإهمال نظراً للمسافات الهائلة التي تفصلها عن سائر الجسد الإسلامي.
2 - المسألة الخطيرة وهي: قربها دون أي حائل من مراكز التنصير الهائلة
في هذه المنطقة من العالم (أستراليا والفلبين على سبيل المثال) والتي لا تألو جهداً
في اقتحام هذه الدولة الإسلامية، وإمداد المنصرين بكل احتياجاتهم ومتطلبات
دعواتهم الهدامة؛ فإن تيمور الشرقية (المسلمون 1.7 % من عدد السكان،
والكاثوليك 91.4 %، والبروتستانت 2.7 %) تشترك مع نوساتنجارا الشرقية ... (المسلمون 9.12 % من عدد السكان، والكاثوليك 52.89 % والبروتستانت 33.16 %) سيأتي الكلام عليها فيما بعد؛ حيث إن هذه هي فريسة المستقبل التالية لتيمور لا سمح الله إنهما تقعان في ركن واحد من إندونيسيا في مجموعة من الجزر، وعاصمة تيمور هي (ديلي) ، وعاصمة نوساتنجارا هي (كوبانج) وتقع في الجنوب الغربي للمنطقة، وكما يتبين لك من الأرقام فقد تم للصليبية السيطرة الكاملة على الشمال والجنوب قسمة بين البروتستانت والكاثوليك، أما الأمر البالغ الأهمية فهو الموقع الجغرافي للجزيرة بكاملها؛ فإنها تقع في أقصى الشرق والجنوب من إندونيسيا، ليس وراءها جزر أخرى، ولا يفصلها عن استراليا إلا (بحر تيمور) ، فغدت فريسة سهلة، وهذا سبب جوهري في سقوط تيمور على هذا الوضع المأساوي، وليست وحدها التي واجهت هذا المصير (من وراء ذلك: سولاويسي إيريان جايا وغيرها) ، وسنأتي على ذكر الأخطار الداهمة التي تنتظرها في مقام آخر - إن شاء الله - وغني عن البيان شرح أسباب المصير المحتوم الذي كان ينتظرها مع بعدها في أقصى طرف إندونيسيا بحاجز مائي مع مركز صليبي حاقد ينفث السموم ويؤلب الفتن بالليل والنهار، فواجهت هذا المصير المؤلم في غيبة الوعي والنجدة وأدنى حاجات الإنقاذ من الجسد الإسلامي المثخن بالجراح.
ثانياً: من مناجم الذهب إلى أرض الديناصورات:
بالنظرة الفاحصة لسبب اختيار الصليبيين لهذه الجزيرة بالذات مكثفين
جهودهم لمدة تناهز ثلاثة قرون وحصولهم على النتائج الحالية، نجد أن هذه
الأراضي لها من الخصائص الطبيعية ما يؤدي دون عنت إلى الفهم الكامل لسبب
المأساة الراهنة، وبيان ذلك ما يلي:
أولا: جزء من الاختيار قد ركز على الثروات الطبيعية؛ ففي تيمور الشرقية
ثروة من الأخشاب المتميزة بنوعيتها وأثمانها الغالية، وعلى الرغم من أن معظم
أجزاء إندونيسيا تغطيها الغابات، إلا أن تيمور الشرقية بها من الأخشاب المتنوعة
التي توفر ثروة كبيرة (ربما لا يستطيع السكان مع بدائيتهم الاستفادة من الثروات؛
حيث إن تيمور هي ثاني أفقر محافظة في إندونيسيا من ناحية دخل الفرد؛ غير أن
مقصود القوى الصليبية البحث عن إمكانات الثروة؛ حيث يمكن بعد ذلك دون جهد
استغلالها حسب مقتضيات المخطط الصليبي) .
ثانياً: الموقع الاستراتيجي لاستغلال تيمور التي تعتبر رأس جسر لمواصلة
العملية التنصيرية من أجل التمزيق النهائي لإندونيسيا، ويكفيك دليلاً على أن تيمور
لها هذا الموقع البالغ الحساسية أنها كانت هي المرتكز للقتال بين الحلفاء والمحور
في الحرب العالمية الثانية؛ بحيث صارت بقايا هذه المواقع الحربية آثاراً تتميز بها
تيمور الشرقية باعتبارها مناطق أثرية يطالعها الزائرون من كل مكان؛ وإذن، فهي
قاعدة نموذجية لمن أراد الارتكاز والهجوم أو الارتكاز وبث الفتن والقلاقل، وقد تم
بنجاح تجربة ذلك في الحرب العالمية الثانية كما بينا.
ثالثاً: كون المكان نائياً وبعيداً عن المدنية والتحضر؛ حيث تنعدم المقاومة
ويفشو الجهل وتنتشر العماية والتخلف بين سكانها؛ بحيث يسهل توجيههم دون
مراجعة، فإن أهالي هذه المنطقة من إندونيسيا يعيشون في حالة من الجهالة المطبقة، كما أن حياتهم بالغة البدائية (يسمونها في إندونيسيا) (bedi) (بدوي) (أي بدائي: وهي كلمة إندونيسية من أصل عربي) فبعضهم قبائل شبه عراة حفاة بريون لا يعرفون عن العالم من حولهم شيئاً، وإنَّ استمالتهم بأقل الهدايا والعطايا له التأثير البالغ نظراً لبعدهم عن العمران وحياتهم البدائية المفرطة، وهي مجاهل وأحراش تتناوشها أمراض قاتلة، فإن نوساتنجارا الشرقية (التي تعد تيمور الشرقية جزءاً منها) هي أقل جزيرة من ناحية سقوط الأمطار على مستوى إندونيسيا بكاملها وينتشر فيها الضعف وفقر الإمكانات؛ فالأهالي الذين تحولوا إلى النصرانية في هذه المنطقة من إندونيسيا لم يتحولوا حباً في النصرانية، وإنما حباً في هدايا وعطايا الأرز والقمح؛ حيث يعيشون حياة برية وسط أحراش قاحلة وجزر متباعدة متفرقة (نوساتنجارا الشرقية تتكون من 111 جزيرة مساحتها الكلية 48000 ... كيلو متر مربع) بمعنى أن مساحة الجزيرة الواحدة منها في المتوسط من 450 - 480 كيلو متر مربع) وأكبر هذه الجزر هي تيمور الشرقية.
ولنا أن نتصور هذه الجماعات المتفرقة على هيئة قبلية في عدد يزيد على
مائة جزيرة متباعدة يطحنهم الفقر لندرة الأمطار وتفشو فيهم الجهالة والبدائية،
وكأنهم يعيشون ما قبل التاريخ، وبالفعل فإن مناطقهم على مستوى إندونيسيا هي
الوحيدة التي ما زالت ترتع فيها أنواع الزواحف العملاقة الشبيهة بالديناصورات،
وهي لا توجد في أي منطقة أخرى في العالم، حتى أصبحت مزاراً لمن أراد أن
يرجع بذاكرته إلى عهد الديناصورات الأولى.
ثالثا: الخنجر المسموم: الدولة المسخ.. ولا مؤهلات:
لقد عرف الصليبيون هذه الصفات فنزلوا هناك ومعهم الأرز والهدايا فأحالوا
هذه الأحراش الموحشة إلى النصرانية دون مقاومة تذكر، ثم ها هم اليوم يحيلون
هذه الأحراش الموحشة إلى دولة مستقلة ذات سيادة ستنضم إلى أسرة الأمم المتحدة
أسرع من البرق ثم تنهال هناك الإمدادات العسكرية والمالية، ليس لأهلية الأهالي
لأن يكونوا دولة مستقلة، ولا حتى لأهليتهم لأن يكونوا إقليماً ذا حكم ذاتي، وإنما
لأهلية المنطقة بكاملها لأن تكون خنجراً مسموماً لطعن الجسد الإسلامي المثخن
بالجراح في إندونيسيا المسلمة؛ ومن هنا فإننا نرفع اليوم عقيرتنا مرة أخرى
لتحذير المسلمين في أنحاء العالم بأن ما يحدث اليوم في تيمور الشرقية - إن تم
التغاضي عنه، ومر دون رد فعل إسلامي مناسب (لا سمح الله) - فستسمعون
قريباً عن نظائره الكثيرة في هذه الرقعة النائية المنسية من عالمنا الإسلامي الكبير،
وكل المناطق قبل تيمور كانت في الخطر الداهم؛ فكيف وبعد قيام دولة صليبية
مستقلة تتولى كبر الأحقاد البابوية، أحقاد الرهبان ذوي الأنياب الدامية المتخفية
خلف أشد الوجوه مسالمة وسماحة، وجوه الرهبان أصحاب العيون الوادعة والشفاه
المبتسمة، أصحاب القلوب الميتة المريرة الزرقاء.
ولما كان الجسد الإسلامي من أوله إلى آخره وحدة لا تنفصم لها عرى، فهذا
نداء من القلب إلى الدعاة الربانيين من كل جانب، الذين يفزعون عند كل صيحة
ينصرون الله ورسوله.
إنه نذير مبين من أقصى الأرض وحجة دامغة على كل من سمعه من أتباع
محمد صلى الله عليه وسلم، أن يقولوا يوم القيامة: إنا كنا غافلين، أو يقولوا: ما
كان لنا بذلك من علم.
إن الأرقام المؤلمة لتنطق بحقائق دامية، وعلى كل داعٍ إلى الله - تعالى -
وكل كاظم يريد الله ورسوله والدار الآخرة أن يضعها عصائب على عينيه، فلا
ندري: ربما انقذف من ظهر الغيب جيل باهر يدافع دون تراخٍ عن جهاد
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فكانوا نبوءة محمد صلى الله عليه
وسلم وقد بعثت حية تنطق بعد أكثر من ألف عام.
ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد!
__________
(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك في كلية التربية للبنات بالرياض، والكاتب ذو خلفية متخصصة عن إندونيسيا لتدريسه سابقا في الجامعة الإسلامية (LAIN) بجاكرتا وهو ملم باللغة الإندونيسية ومطلع على كثير من شئونها التاريخية والسياسية.
(1) انظر مجلة الوسط، العدد: 398، 13/9/1999م.(144/98)
المسلمون والعالم
في المغرب جدل بين الإسلاميين والعلمانيين
حول قضايا المرأة والأسرة
البشير العوني - محمد إكيج
يسود الساحة المغربية هذه الأيام نقاش بين المدافعين عن الهوية الإسلامية
وبين بعض الجمعيات اليسارية حول مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي
أعدته كتابةُ الدولة للرعاية الاجتماعية والطفولة والأسرة في مارس 1999م.
ويحتدم النقاش المغربي على الخصوص حول الجانب المتعلق بمدونة الأحوال
الشخصية وهي القانون المغربي الأوحد المنبثق كليةً من الشريعة الإسلامية، وينظم
الأسرة في الزواج والطلاق والميراث.
ومن بين التعديلات المقترحة على المدونة:
1- منع تعدد الزوجات: يقول مشروع الخطة: (تشكل هذه المؤسسة تهديدا
للاستقرار الأسري، وقد تعرضت التجاوزات المتولدة عن هذه المؤسسة ومؤاخذة
عدة مفكرين وعدة منظمات نسائية، اعتباراً من جهة لروح النص القرآني الذي
يعلن ويقر بكل وضوح أنها مصدر لا عدالة بين النساء، لذلك يجب حذفها لا
تقييدها فقط، كما يجب إخضاع الحالات الاستثنائية لقبول الزوجة الأولى ولتقييم
القاضي) . (ص 129) .
2- جعل الطلاق بيد القاضي: يقول مشروع الخطة عن الطلاق: (يجب
على المشروع أن يخص أيضاً هذه المؤسسة التي تمثلهما {أي الرجل والمرأة}
بالنسبة للنظام العائلي وللنظام الاجتماعي على السواء إلى أن يقول:) وبإقرار
الطلاق القضائي وسيلةً وحيدة لفسخ عقد الزواج يساهم المشرع المغربي في تعزيز
مؤسسة الزواج) (ص 128 - 129) .
3 - رفع سن الزواج بالنسبة للفتاة إلى 18 سنة: يقول مشروع الخطة:
(الرفع من سن الزواج إلى 18 سنة، وذلك طبقاً للاتفاقية الدولية المتعلقة بحقوق
الطفل التي صادق عليها المغرب في يونيو 1993م بدون تحفظ) (ص 128) .
4 - إلغاء الولاية عند عقد الزواج: يقول مشروع الخطة: (يجب أن يكون
إلزام اللجوء إلى الولي أثناء عقد الزواج ثانوياً؛ بحيث يسمح للفتاة الرشيدة أن تعقد
زواجها دون سُلْطة الولي إذا رغبت في ذلك، ويستمد مبدأ الوصاية جذوره من
التقسيم الجنسي للمجال الذي عرفه المجتمع المغربي التقليدي، لذا فالطابع الإلزامي
للولاية لم يعد له مبرر بمرجع إلى الأدوار الجديدة للنساء في المجتمع من جهة،
وإلى تأخر سن الزواج من جهة أخرى) (ص 128) .
5 - توزيع الممتلكات مناصفة عند الطلاق: يقول مشروع الخطة: (احتراما
للعدالة باعتباره مبدأ مؤسساً للإسلام، واعترافاً بتضحيات المرأة طول الحياة
الزوجية على القاضي الذي يعلن الطلاق أن يفصل في توزيع الممتلكات المحصلة
خلال فترة الزواج، وأن يسمح للمرأة المطلقة بنصف هذه الممتلكات التي ساهمت
فيها سواء من خلال عملها داخل البيت أو عن طريق عمل مأجور) (ص 130) .
6 - عدم إسقاط الحضانة عن المطلقة بسبب بعدها، وإحداث محكمة خاصة
بمشاكل الأسرة.
ردود فعل الهيئات العلمية:
وقد جاء الرد الأول قوياً من قِبَل اللجنة العلمية التابعة لوزارة الأوقاف
والشؤون الإسلامية التي أوضحت أن مراجعة المدونة يجب أن تسند إلى العلماء
المختصين؛ حيث يوجد من بينهم الرجال والنساء، ثم توالت بعد ذلك البيانات من
هيئة العلماء ومنها:
- جمعية رابطة علماء المغرب، التي أصدرت بياناً جاء فيه: (إن علماء
المملكة المغربية ينددون بما تضمنته بنود الخطة المقترحة، وديباجتها من استخفاف
بالتشريع الإسلامي وتهديد استمرارية الإسلام الذي تضمنته تلك البنود المناهضة
لأصول الأحكام الإسلامية كتاباً وسنة) .
ويضيف البيان: (إن مشروع الخطة المقترح - حسب ما تبين فيه - يؤدي
إلى المزيد من دفع الشباب للعزوف عن الزواج، ويفتح الباب في وجه الانحلال
الخلقي والتفسخ العائلي، ويشيع الفساد والفجور في المجتمع، ويؤدي أيضاً إلى
القضاء على الغيرة والشرف؛ هذان العنصران الهامان اللذان قال عنهما أمير
المؤمنين - يقصدون الملك الحسن الثاني - في كتابه: (ذاكرة ملك) : (أما عندنا -
نحن المسلمين - فإن الحفاظ على شرفنا يمتزج مع الحفاظ على عقيدتنا، وإن
الإنسان بدون شرف هو مخلوق منعدم الكرامة يفتقد العناصر المكونة للشخصية،
ويصبح مرتزقاً ينعدم فيه أدنى حس أخلاقي، ويمكن التشكك في جميع تصرفاته)
(ص 147) .
- ثم جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية التي أهابت في بيانها
بالضمير الإسلامي أن يستيقظ من سباته، ويتحرك في اتجاه تصحيح ما أفسدته
الأمية والجهل من جمال الشريعة الإسلامية، والعمل على حماية المرأة من الانزلاق
إلى الهاوية التي وضعها على حافتها من أخذوا على أنفسهم إغواءها وإغراءها
ليصنعوا منها عدواً، لدينها وتاريخها وحضارتها.
وقد اندهش البيان من قول المشروع في إحدى فقراته: (إذا أردنا اتخاذ
التشريعات الإسلامية مرجعاً ينبغي أن تأخذ هذه الشريعة بعين الاعتبار التحولات
الاجتماعية ... قائلاً: (إن من يقرأ هذه الصيغة لا يمكنه إلا أن يعبر عن استغرابه
لهذه الجرأة على الله وعلى الاستخفاف بمقدسات الأمة ومشاعرها، إضافة إلى ما
تشعر به من إنذار بالإعراض عنها وتهديد بالمقاطعة والبحث عن البديل المناسب
إن لم تبادر هذه الشريعة إلى تغيير ملامحها) .
كما ركز البيان على تغييب العلماء كلياً عن هيئة إعداد المشروع، وتجاهلهم
إمعاناً في التنكر لدورهم في إصلاح أحوال المجتمع، وحتى عندما اقتضى السياق
في إحدى فقرات المشروع الإشارة إليهم، تعمد واضعوه تجريدهم من وصفهم
الشرعي والتاريخي الذي هو (علماء الشريعة) وذكروهم بوصف (اختصاصيين
في الشريعة) ؛ في حين لم يبخلوا على فئات ذات تخصصات أخرى بوصف ...
العلم: (علماء الاجتماع وعلماء النفس) كما جاء في البيان.
ثم تعرض البيان للمحتوى الفقهي للخطة وما تضمنته من دعوة صريحة
لتغيير أحكام الشريعة، رغم أنف النصوص القطعية، والاستعداء عليها بالمنظمات
النسائية والهيئات الدولية، والدعوة إلى اتخاذ القوانين العلمانية شرعة ومنهاجاً.
ثم خلص البيان إلى أن العلماء يتحفظون إزاء ما ورد في الخطة لمنافاته
القواعد الشرعية، ولصدوره من جهات غير مختصة في الشريعة ولا هي من أهلها.
- أما الهيئة الوطنية لعدول المغرب (العدول هم محررو وثائق الزواج
والطلاق والإرث) فقد أصدرت بدورها بياناً اعتبرت فيه نفسها معنية أكثر من
غيرها بما تضمنه هذا المخطط العلماني الصرف، بحكم احتكاكها اليومي مع قضايا
المواطنين في الأسرة وغيرها، واطلاعها عن كثب على كبريات المشاكل الأسرية
دقها وجلها، وتعيش مع هموم المرأة والرجل والطفل صباح مساء وفي كل لحظة
من لحظات حياتهم.
وأعلنت رفضها القاطع لهذا المشروع شكلاً ومضموناً؛ فمن حيث الشكل لعدم
دستوريته (إذ خرق قاعدتين كبيرتين من القواعد الدستورية المغربية الكبرى،
أولها: قاعدة إسلامية الدولة المغربية المنصوص عليها في الفصل السادس من ... الدستور المغربي. وثانيها: قاعدة عدم مرجعية النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي ولو في شكل استفتاءات شعبية، وتلك منصوص عليها في الفصل 106 من الدستور المغربي) . أما من حيث المضمون: (فلأن المشروع بصفة عامة من حيث آثاره المرتقبة - لا قدر الله - يمس بقوة عمق الفطرة التي فطر الناس عليها، ويزلزل كيان الإنسان المغربي واستقراره النفسي، ويؤدي إلى شيوع الرذيلة والفساد، ويعرض مؤسسة الزواج الشرعي إلى الزوال والاندثار، ويفتح الباب على مصراعيه للإباحية لاتخاذ الخليلات وسوق الدعارة) .
وهنا نسجل باعتزاز كبير، وافتخار شديد هذا الدور الريادي الذي قام به
العلماء في توعية الناس بمخاطر هذا المشروع، وإسهامهم الإيجابي في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
ردود فعل الحركة الإسلامية:
تجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى جمعيات العلماء، فإن عدداً غير يسير من
الجمعيات ذات التوجه الإسلامي تصدت كذلك للمشروع، وفي مقدمتها حركة
التوحيد والإصلاح التي أصدرت بياناً مشتركاً مع حزب العدالة والتنمية - ذي
التوجه الإسلامي - أكدت فيه على أن الخطة تميزت بأحادية التناول والمعالجة،
والاعتماد الأساس على المرجعية الغربية، ودعت إلى ضرورة اعتماد المرجعية
الإسلامية والتقيد بها إطاراً وموجهاً لأي خطة ولأي إصلاح في هذا المجال، وفي
غيره من المجالات، ثم دعت كل المعنيين بالدفاع عن الشريعة الإسلامية أفراداً
ومؤسسات وهيئات إلى القيام بواجبهم في صيانة الأسرة المغربية المسلمة.
وقد لاحظت الجمعيات والهيئات التي تعارض مشروع الخطة، أن المشروع
يتسم بما يلي:
1- الإقصاء الممنهج لعدد من الفعاليات أثناء إعداد الخطة: وعلى رأس الذين
تم إقصاؤهم: جمعيات العلماء، الحركات الإسلامية، وعدد من الجمعيات النسائية
وهيئات من المجتمع المدني.
2 - الطابع العام للخطة تغريبي: ولا يشير إلى المرجعية الإسلامية التي
تشكل أساس عقيدة الشعب المغربي برمته منذ أن دخله الإسلام، ويكرس هذا
الطابع التغريبي اعتراف الخطة بكونها ممولة من قبل منظمات دولية غربية، فقد
ورد في ديباجة المشروع ما يلي: (تم إعداد مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج
المرأة في التنمية تحت إشراف كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة
والطفولة، بمساهمة من البنك الدولي) .
3 - كثير من المقترحات الواردة في مشروع الخطة تتعارض مع الشريعة
الإسلامية: وتعتبر الجهات التي تتصدى لمشروع الخطة أن ما تطرحه من قضايا:
محاربة الأمية والتشغيل والمدرس وإشراك المرأة في التنمية، هي قضايا مشروعة
وتعاني فيها المرأة المغربية الكثير من الحيف والظلم وتستدعي إجراءات مستعجلة
لحلها ومعالجتها؛ لأنها ترفض المساس بثوابت الدين المنصوص عليها في أحكام
الشريعة الإسلامية الغراء.
ردود فعل الهيئات السياسية:
أما على الصعيد السياسي فإن مسؤولين بارزين من حزب العدالة والتنمية
بزعامة أحد رموز الحركة الوطنية المغربية - منهم الدكتور عبد الكريم الخطيب -
أشاروا إلى أنهم سوف يتصدون لهذا المشروع بكل الوسائل المتاحة.
وفي بلاغ لمنظمة المرأة الاستقلالية التابعة لحزب الاستقلال المعروف بالتوجه
السلفي لمؤسسة الأستاذ علال الفاسي أنه لا يمكن حل مشاكل المرأة إلا إذا احترمت
المقومات الأساسية المغربية وتوسعت دائرة المشاركين في اتخاذ القرارات. ومن
المعلوم أن حزب الاستقلال يعتبر أحد عناصر التحالف الحكومي الحالي.
وجاء في بيان منظمة تجديد الوعي النسائي: (نرفض أي تدخل أجنبي في
شؤون بلادنا سواءاً منها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ونرفض أن تزاوَل
المخططات الدولية في بلادنا دون أي اعتبار لهويتنا الدينية والثقافية) ، وأهابت في
آخر بيانها بكل الهيئات والشخصيات الغيورة على حدود الله والتي تؤمن أن للمرأة
قضية يجب أن تؤازر فيها وتناصر دون نكث لعهود الله، أهابت بها أن تضم
أصواتها إلينا في إطار الحوار الشامل الذي ننادي به) .
وقالت الأستاذة (ندية ياسين) من جماعة العدل والإحسان: (نحن متفقون
جميعاً على تشخيص الداء: مظلومية المرأة، لكننا نختلف تماماً مع اليساريات
المطالبات بتغيير المدونة بخصوص الدواء؛ لأننا نريد الإصلاح، والآخر يبحث
عن التقليد الأعمى لأنماط الحياة الغربية) .
والجدير بالذكر أن تحركاً مشابهاً من قِبَل جمعيات نسائية يسارية كان قد
حصل في بداية التسعينات، وقد تم التصدي له من قِبَل قوى المجتمع المدني
المدافعة عن هوية الشعب المغربي المسلم، وكوَّن الملك الراحل الحسن الثاني آنذاك
لجنة من العلماء والمختصين للنظر في الموضوع؛ حيث أفضت أشغال هذه اللجنة
إلى بعض التغييرات في المدونة دون المساس بالثوابت الشرعية.
ويأمل الشعب المغربي المسلم من حزب العدالة والتنمية التصدي لهذه الخطة
كما كان الشأن بالنسبة لقانون السُّلفات الصغرى الذي صادق عليه البرلمان المغربي، فقد نشط الحزب في كل ربوع البلاد لشرح موقفه من هذا القانون الذي يبيح الربا
ولا يعترف بالصيغ الشرعية لتمويل المشاريع الصغرى.
وفي إطار تحركات حزب العدالة والتنمية من أجل بيان خطورة هذا المشروع
نظم يوماً دراسياً حول الموضوع في 17-4-1420هـ - 31-7-1999م،
استدعى له عدداً من المختصين في مجالات: الشريعة والقانون والاقتصاد
والاجتماع والطب لتحليل ومناقشة مضامين الخطة.
وقد أجمع كل المشاركين على ضرورة رفض المشروع لاستناده إلى المرجعية
الغربية في تصوراته وتقريراته ووسائله الإجرائية، وإهمال المرجعية الإسلامية في
حل مشاكل المرأة والأسرة المغربية.
ففي مجال الصحة الإنجابية - مثلاً - وترسيخاً للزنا في المجتمع حدد مشروع
الخطة للوقاية من الأمراض المتنقلة جنسياً الوسائل الإجرائية التالية:
- توزيع العازل الطبي بالمخادع الهاتفية ونقط بيع الجرائد والصحف.
- تعميم الموزع الأوتوماتيكي للعازل الطبي.
- القيام بالإظهار الصريح والمباشر للعازل الطبي عبر وسائل الإعلام.
مما جعل الدكتور سعد الدين العثماني يقول: (إن الغاية والقصد من كل هذه
الدعاية المفرطة للعازل الطبي ليس هو المحافظة على صحة المواطن ووقايته من
الأمراض كما يُدَّعى ظاهراً، ولكن استدرار أموال الجهات الأجنبية والدوائر
المخططة من الخارج لجهات التنفيذ والتنزيل في بلادنا) .
وأعلن المدافعون عن الهوية الإسلامية للمغرب استعدادهم لكل حوار هادئ
حول كل القضايا المصيرية للأمة بما فيها قضايا المرأة والأسرة، إلا أنهم في الوقت
نفسه مستعدون لكل الاحتمالات إذا ما تم تجاوز وتجاهل نداءاتهم ومطالبتهم بعدم
إقرار المشروع.
ويبقى السؤال المطروح: ما هو مصير المشروع؟ وهل سيستطيع الحكماء
من الطبقة السياسية المغربية تجاوز هذه الأزمة؟ ذلك ما ستبينه الأيام القادمة.(144/106)
مرصد الاحداث
يرصدها: حسن قطامش
وأعمى أبصارهم
الدين شيء والسياسة شيء آخر، والأديان السماوية نزلت لتهذيب الأخلاق،
ولجعل العلاقة بين المسلم والخالق علاقة مباشرة، وهذه العلاقة حينما تدخل في
السياسة فإنها ستتشوه؛ لأن السياسة بكل بساطة هي: كذب وغش ومراوغة وخداع؛ ولهذا فإنني أرفض تطبيق الشريعة الإسلامية؛ فالنظام الدستوري أفضل من
النظام الإسلامي، والدستور واضح والقوانين واضحة، والدين الإسلامي من
الممكن أن نستعين به في الأحوال الشخصية مثل: الزواج، والطلاق.
{د. شملان العيسى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت،
جريدة الأنباء، العدد: (8405) }
سلاح المفاوضات العربية!
تلقى رئيس وزراء (إسرائيل) إيهود باراك هدية من أحد مساعدي الرئيس
المصري حسني مبارك وهي عبارة عن 3 أشرطة لمطربين عرب.
ويعتبر باراك هذه الهدية التي قدمها إليه مستشار الرئيس المصري للشؤون
السياسية، الدكتور أسامة الباز غالية؛ لأنها لمطربين مفضلين لديه، وهم: محمد
عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، وتسلم باراك هذه الهدية خلال
توقيع اتفاق (واي 2) في منتجع شرم الشيخ، وقال في برنامج تلفزيوني لليهود
الشرقيين: إن لهذه الهدية وقعاً خاصاً في نفسه؛ فهو يحب الأغاني الشرقية،
ويعتبرها (عبق الحياة ورحيقها) . وقال (هذه النوعية من الأغاني تبعث في الروح
أملاً وحيوية مميزين) . وقد غنى لعبد الحليم حافظ أغنية (بحلم بيك) كاملة خلال
برنامج تلفزيوني بث عشية الانتخابات الأخيرة لرئاسة الحكومة الإسرائيلية.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7613) }
وما زال الحقد مستمراً
نشبت أزمة جديدة في ألمانيا حول الموقف من القيام بمهنة التدريس مع ارتداء
غطاء الرأس الإسلامي؛ حيث أكدت وزارة التعليم في ولاية نيدرساكسن رفضها
لارتداء المدرسات لغطاء الرأس خلال التدريس في المدارس الابتدائية. وقالت
سونيا ماركغراف المتحدثة باسم الوزارة: (إن الأمر يتعلق بحيادية الدولة،
والمسألة واضحة بالنسبة لنا، إذا ما أصرت على ارتداء غطاء الرأس فلن يجري
تعيينها) ، وادعى القاضي أن النساء غير ملزمات حسب الشرع الإسلامي بارتداء
غطاء الرأس، وأنّ (غطاء الرأس لا يعد رمزاً دينياً عضوياً كما الصليب في
المسيحية، وإنما هو انطباع عن موقف ثقافي - سياسي) كما قال وذكر بأن
الحجاب يرتبط في العالم الغربي بالتمييز ضد المرأة، واعتبر أن تأثيرات هذه
الصورة السلبية لا تتفق (مع وظيفة القدوة لمهنة التعليم) - على حد تعبيره.
{جريدة الخليج، العدد: (7422) }
يالشقاء الإنسان!
أكد تقرير للأمم المتحدة أن عدد الأفراد العاملين في مجالات السلاح بجميع
أنحاء العالم يصل إلى 83 مليون شخص تقريباً، وهو رقم أكبر بكثير من عدد
جميع المدرسين في جميع مدارس ومعاهد وجامعات العالم، وقال التقرير: إن عدد
الجنود المحترفين في جيوش العالم يصل إلى 22 مليون جندي، بالإضافة إلى 60
مليون شخص يعملون في الصناعات العسكرية والخدمات المرتبطة بالجيوش
والقوات المسلحة، وفي الوقت نفسه أشار التقرير الدولي إلى أن متوسط النفقات
التي تدفعها دول العالم لتدريب جندي واحد على القتال يصل 5600 دولار، بينما
لا تتجاوز نفقات تعليم طفل 450 دولاراً فقط، ومما يوضح الثمن الفادح الذي تدفعه
البشرية للمعارك والحروب أن المبالغ التي أنفقت طوال عشر سنوات للقضاء على
مرض الجدري في آسيا وإفريقيا بلغت 83 مليون دولار وهو مبلغ لا يكفي لشراء
قاذفة قنابل استراتيجية واحدة.. كما بلغت نفقات العالم على التسلح 3 مليارات
دولار يومياً، وهو مبلغ من المؤكد أنه يمكن أن يحل مشكلات بعض الدول التي
يموت سكانها جوعاً في إفريقيا وآسيا وأمريكيا اللاتينية.
{مجلة الدعوة، العدد: (1709) }
ولو بعض الحياء! !
1- قالت مصادر فلسطينية مطلعة أن عقيداً فلسطينياً يعمل في لجنة الارتباط
العسكري المشترك تعرض منذ فترة لإجراءات إدارية وعقوبات متواصلة على
خلفية حادثة وقعت منذ فترة عندما رفض مصافحة مسؤول أمني إسرائيلي كبير عند
نقطة التماسّ بين قطاع غزة و (إسرائيل) .
وإثر هذه الحادثة اتخذت إجراءات إدارية واضحة ضده تمثلت في سحب
صلاحيات عديدة منه، ونقله من موقع حساس كان يشغله إلى مهمة إدارية هامشية
لا تتوافق مع مكانته العسكرية والوظيفية وفسرت هذه الإجراءات بأنها محاولة إذلال
للعقيد.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7606) }
2- قالت مصادر فلسطينية: إن الشرطة الإسرائيلية سلمت أخيراً السلطة
الفلسطينية أربعة ضباط فلسطينيين يعملون في الارتباط العسكري عند حاجز ايريز
وهم عراة.
وحسب رواية المصادر فإن الضباط الأربعة وهم برتبة عقيد داهمتهم الشرطة
الإسرائيلية في مدينة إسرائيلية مع بنات الهوى في حالة تلبس، فنقلتهم في نفس
الحالة التي اعتقلوا فيها إلى حاجز معبر بيت حانون (ايريز) الفاصل بين (إسرائيل)
وغزة وسلمتهم لمسؤولي السلطة الفلسطينية.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7609) }
ليست تيمور!
أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية جيمس روبن عدم صحة
التكهنات في شأن حدوث تغيير في سياسة واشنطن الرافضة استقلال إقليم كوسوفا،
ووصف ما تداولته وسائل الإعلام بأنه (خاطئ وغير صحيح) . وأوضح أن الدعم
الأمريكي لإقامة هياكل إدارية وقانونية خاصة في كوسوفا (يهدف إلى إعادة
مواطني هذا الإقليم إلى حياتهم الطبيعية في ظل ديمقراطية حكم ذاتي واقتصادي
ناجح) .
{جريدة الحياة، العدد: (13350) }
المتآمرون
أكدت صحيفة الكفاح العربي اللبنانية أن رئيس مجموعة شركة والت ديزني
قد اتصل برئيس وزراء دولة شرقية سابق ووكيل شركة والت ديزني بالشرق
الأوسط استفسر فيه عما إذا كان العرب صادقين في اتخاذ قرار بمقاطعة منتجات
الشركة؛ إلا أن رئيس الوزراء السابق نفى له أن يكون العرب قادرين على اتخاذ
مثل هذا القرار. وأشارت المعلومات إلى أن هذه النصيحة كانت وراء تراجع
شركة والت ديزني عن وعدها للجامعة العربية بالتراجع عن إثارة موضوع القدس
في الجناح الإسرائيلي.
أين يذهبون بها! ؟
استجابت المحكمة الدستورية التركية لمطالب الصحافة العلمانية فحذفت جريمة
زنا المرأة من قائمة الجرائم وجعلت المرأة مساوية للرجل حتى في حرية ممارسة
الزنا، وكان قانون العقوبات التركي قبل التعديل الأخير ينص على معاقبة المرأة
الزانية دون الرجل الزاني، وكانت النية في أول الأمر أن تلاحظ المحكمة أمر
المساواة بينهما لتشمل العقوبة الرجل الزاني إلى جانب المرأة الزانية، لكن المحكمة
فعلت العكس وحذفت فعل الزنا من قائمة الجرائم بصورة كلية، ومن الغريب حقاً
أن قانون العقوبات التركي ينص على معاقبة الرجل الذي يتزوج بأخرى زواجاً
شرعياً؛ حيث يعتبر هذا القانون أن مثل هذا الزواج غير قانوني وأن الرجل في
هذه الحالة يعتبر زانياً؛ حيث يعطي للزوجة الأولى حق طلب العقوبة بزوجها
بالإضافة إلى طلب الطلاق.
{جريدة الرياض، العدد: (11416) }
تهديد
في قلب جاكرتا نفسها أنذر وزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين بشدة الجيش
الإندونيسي بوجوب الامتناع عن تشجيع عناصر الميليشيا في تيمور الشرقية، وإلا
تعرضت إندونيسيا (لضرر كبير) ، وأضاف (إلا أن عناصر في الجيش ساعدوا
وشجعوا خلال الأشهر الأخيرة على ارتكاب أعمال عنف في تيمور الشرقية، ولقد
أبلغت الجنرال ويرانتو أن الجيش في وضع حرج الآن) . وقال: (أما إذا غض
العسكريون الإندونيسيون الطرف أو شاركوا علنا أو سراً وشجعوا على ارتكاب
أعمال العنف في تيمور الشرقية فإنهم بذلك يرتكبون خطأ عظيماً حيال الوطن الذي
أقسموا على حمايته) . وأضاف: (إنني أطالب الجنرال ويرانتو بإصرار على
القيام بالخيار الصحيح) .
{جريدة الأنباء، العدد: (8397) }
سؤال وجيه.. ولكن! !
إذا كان اليهود يتقاضون إلى الآن كل التعويضات، وإذا كانت إيطاليا ومعها
اسكوتلندا قد استعادتا كنوزهما وآثارهما التاريخية المسروقة، فلماذا لا يتأهل
الأفارقة لنفس ذلك الواقع من خلال رفع دعاوى ضد الأوروبيين لاسترقاقهم في
حقبة زمنية تفوق الخمسمائة عام سقى خلالها دم الأفارقة وعرقهم أوروبا والعالم
الجديد الذي بُني وعُمِّر اقتصاده بسواعد الأفارقة من دون مقابل؟ ومن عجب أن
اليهود يلقون كل ذلك التعاطف ويحصدون كل تلك الأموال وهم طرف أصيل في
تجارة الرقيق في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7598) }
مرصد الأرقام
- تفيد الأرقام العامة التي تشمل المنطقة العربية أن عدد الأميين العرب انتقل
من 59.8 مليون نسمة في عام 1985م إلى 65.5 مليون نسمة في عام 1995م، وهو مرشح للتصاعد إلى 69. 4 مليون نسمة عام 2005م.
{مجلة الوسط، العدد: (399) }
- قدر بعض المسؤولين في المؤسسة الاتحادية الألمانية لعلماء الجيولوجيا
والمعادن أن الاحتياطات المتوفرة من النفط تسد حاجة الاستهلاك العالمي منه حسب
المعدلات الحالية لمدة 43 سنة.
{جريدة الخليج، العدد: (7428) }
- بلغ عدد الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية 13 جهازاً.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7605) }
- قتلت الحروب أكثر من 109 ملايين شخص خلال القرن الحالي، ومن
بين هؤلاء 32 مليون مدني قتلوا في الحرب العالمية الثانية.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7618) }
- ستنفق الهند وباكستان حوالي 15 بليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة
للحفاظ على ترسانتهما من الأسلحة، والمبلغ يكفي لإطعام وتعليم أكثر من 37.5
مليون طفل في جنوب آسيا.
{جريدة الحياة، العدد: (13339) }
- 34 مليوناً مصاب بمرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) موجودون حالياً
في القارة الإفريقية، وتوفي نحو 12 مليوناً نتيجة إصابتهم بهذا المرض منذ انتشاره
في نهاية السبعينات. وتوفي خلال العام الماضي فقط مليونا أفريقي. ويتوقع أن
يرتفع عدد الأطفال الأيتام الذين توفي والدوهم بسبب إصابتهم بفيروس (الإيدز)
إلى 13 مليون طفل خلال الأشهر الـ 18 المقبلة.
{جريدة الحياة، العدد: (13343) }
- أكثر من 20 شخصاً معظهم من الأطفال والمسنين يموتون يومياً بسبب
الجوع في مناطق الجفاف والمجاعة في الصومال.
{جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7615) }(144/112)
مقالات مترجمة
السياسة الخارجية الأمريكية
والحملة ضد الإسلام [*]
ترجمة: د. حامد عبد الماجد
جاء في الدورية:
مع انتهاء الحرب الباردة تغيرت طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية؛ فقد
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة، وأصبح في الإمكان أن
تتدخل حيثما ووقتما تريد، وحسبما تفرض مصالحها الداخلية فقط.
وقد أصبحت قضية القوى الدولية الجديدة الصاعدة التي يحتمل أن تشكل
تهديداً في المستقبل للسيطرة الأمريكية - أصبحت أكثر ما يهم صانعي السياسة
الأمريكية (اليابان، والنمور الآسيوية، الصين، العالم الإسلامي ... إلخ) .
والحلفاء الأوربيون لم يعودوا بحاجة الآن إلى المظلة الأمريكية النووية، ومن
ثم فلن ينقادوا للإرادة الأمريكية كما كان الأمر - نسبياً - من قبل؛ وفي هذا الصدد
أصبحت التجارة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية.
انقلاب في التعامل مع الإسلام:
ما حدث مؤخراً يمثل نقلة نوعية في التعامل الأمريكي مع الإسلام؛ ففي
معظم فترات الحرب الباردة كان المسلمون حلفاءنا؛ فالأنظمة الإسلامية بطبيعتها
كانت تعادي الشيوعية الملحدة، وقد استغلت الولايات المتحدة تلك المسألة خاصة
في أفغانستان؛ حيث تلقَّى المجاهدون ما يقرب من ثلاثة بلايين من الدولارات من
المخابرات الأمريكية الـ (سي. آي. إيه) ، وذلك في جهادهم لطرد الروس،
وصار مقاتلو الحرية هؤلاء بمثابة الأبطال في الإعلام الأمريكي لدرجة أن هذا
التحالف غير الرسمي بين المجاهدين والإدارة الأمريكية أدى إلى تجاوز وتغيير
الموجة المعادية لإيران التي انتشرت عقب إسقاط الشاه واحتجاز الرهائن ... ! !
فما الذي حدث الآن؟
كيف يصور الإعلام الأمريكي الإسلام على أنه متطرف وغير ديموقراطي
ومعادٍ للغرب؟
يقضي المنطق أنه ما دام المسلمون يمثلون خُمس سكان العالم فيجب أن
تحرص الإدارة الأمريكية على إيجاد علاقات طيبة مع بلاد المسلمين من إندونيسيا
إلى المغرب.
غير أن ما يحدث هو عكس ذلك؛ فنرى حملة موجهة ضد حركات الصحوة
الإسلامية في البلاد الإسلامية - ويتم إغفال الفروق الموضوعية بينها - ويركز
على النبوءة القديمة الراسخة في الوعي الغربي وهي حتمية الصراع بين الإسلام -
الذي يستيقظ - وبين الغرب.
وبصدد الوقائع والأحداث فمن المتصور أن تتعامل الأجهزة المناط بها تنفيذ
القانون مع العنف ضد الأبرياء على أنه عمل إجرامي ولا دخل لديانة المجرم في
القضية؛ فلنتذكر أن المسيحية لم تصبح هي المدانة في حادثة الانتحار الجماعي
حرقاً في واكو بولاية تكساس، أو في حادثة التفجير بمدينة أوكلاهوما، واليهودية
لم تصبح هي القضية حينما قتل جولد شتاين 29 مصلياً فلسطينياً في الحرم
الإبراهيمي، وعليه فلا ينبغي أن يصبح الإسلام هو القضية عندما يرتكب مسلمون
أعمال عنف.
عملياً فإن للمعتقدات الشخصية تأثيراً باعتبارها عاملاً في إطار بقية العوامل
التي تشكل الدافع لأي فعل من هذا القبيل.
الواقع أنه بمجرد تلاشي الحرب الباردة تغيرت صورة الإسلام لدى بعض
الكتاب الذين شكلوا فيما مضى فرسان الكتابة في الحرب الباردة، فقد أبدى صامويل
هنتنجتون في مقالته الشهيرة عن صدام الحضارات تفهماً لفكرة ضرورة تكيف
الغرب مع حضارات تختلف معه في القيم والمصالح؛ ولكن تكيفه كان من باب
الإعداد للصراع من خلال التأكيد على المخالفة والاعتماد على التفوق العسكري
الأمريكي خاصة في بلدان شرق وجنوب غرب آسيا (قلب الإسلام) ، وتختلف رؤية
صامويل هنتنجتون - مع رؤية المفكر الإسلامي المعروف د. حسن الترابي الذي
يرى أن الذين يتمتعون بالمكاسب والمزايا في ظل النظام العالمي الحالي سواء من
خلال: التقنية، التسليح، العلاقات الاقتصادية، الأمم المتحدة ... إلخ سيرون أن
الإسلام يمثل تحدياً لهم؛ لأنه يسعى إلى العدل، كما أن المسلمين لن يقبلوا أن
يتشكل العالم في قالب واحد وشكل واحد للديمقراطية والنظام الاقتصادي ... إلخ،
فلمصلحة الإنسانية يجب أن نسمح بمزيد من التعددية، والحرية، والتنوع، ومن
خلال الحوار والتفاعل نسعى لتحقيق أقصى درجة من الاتساق والتعايش.
جذور الحملة المعادية للإسلام:
إن هؤلاء القادة والرؤساء والزعماء الذين يشعرون بأنهم في بلدانهم مهددون
من قِبَلِ شعبية الحركات الإسلامية المدنية في الجزائر وتونس ومصر و (إسرائيل)
هم الذين يشجعون بشدة الاتجاه الأمريكي نحو فكرة التهديد الإسلامي أو الأصولي.
فالنظام الجزائري يواجه أكبر التهديدات وأعمقها منذ قام بإلغاء أول انتخابات
حرة عام 1992م للحيلولة دون وصول جبهة الإنقاذ إلى السلطة، أما الديمقراطيات
الغربية فقد تقبلت هذا العمل الصارخ بصمت وربما بتشجيع من طرف خفي،
وكانت النتيجة أكبر حرب أهلية دامية في التاريخ العربي الحديث قتل فيها ما يزيد
عن ثلاثين ألفاً من أبناء الجزائر، وما زال مسلسل القتل مستمراً.
وقد اشتركت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مع بعض الدول العربية في
حربهم ضد الأصولية الإسلامية عامة؛ ووصف حاييم بارام من القدس موقف
الزعماء اليهود عام 1994م قائلاً:
(إن الإسلام هو العدو الذي نخشاه ونحترمه في آن معاً) وخطتنا الدعائية
هي إظهار وحشية المسلمين (وهو المنطلق نفسه الذي كان يستخدم ضد القوميين
والوطنيين الفلسطينيين، وكان بنيامين نتنياهو زعيم كتلة الليكود يقوم بالتجوال في
أرجاء العالم لكي ينشر هذه الفكرة التي مفادها بالنسبة له أن عرفات لم يعد خطراً أو
مهمّاً؛ فالمشكلة الحقيقية هي في المد الإسلامي الثوري الذي يجد جذوره في إيران،
وهي سياسة متناقضة؛ إذ إن زعيم الليكود نفسه كان يرى عرفات - وإلى وقت
قريب - باعتباره التهديد الأساس الذي تواجهه إسرائيل؛ بل والعالم الغربي كله.
ولكن زعيم الليكود وجد خطاً لربط أو إيجاد صلة بين القديم والجديد في العداء؛ فعرفات الآن غير ذي أهمية؛ لأن الإسلاميين سوف يستولون على السلطة
ويحكمون الشعب الفلسطيني، ولذا فإن أية تنازلات على الأرض غير مجدية،
والأكثر طرافة فإن إيران هي الشيطان الأكبر الذي يستطيع أن يهدد الغرب بقنابله
النووية.
أما سورية ولبنان فسوف تشهدان ثورة إسلامية قريباً، وبذا سيكفان عن
مداهنة الأمريكان، والنتيجة لكل ذلك أن (إسرائيل) سوف تستعيد وضعها الأساس
والأصلي باعتبارها الركيزة الاستراتيجية للغرب في المنطقة، وعليه فإن الضغوط
عليها لتقديم التنازلات الإقليمية والتوافق مع جيرانها سوف تتضاءل، وعدد
الإسرائيليين المستعدين لقبول وتصديق هذا الهراء غير معقول.
وللأسف فإن رابين ومن بعده بيريز كانا يتبنيان هذه الطريقة في التفكير.
إن منطق (القادة الإسرائيليين) هو أن الخطر الإسلامي يوازي خطر الشيوعية
أثناء الحرب الباردة وأن إيران تمثل التهديد نفسه الذي كانت تمثله موسكو من قبل.
الحملة في أمريكا: The Camaign in America
يشير زخم الحملة ضد الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني اللوبي
اليهودي لوجهة نظر القيادة الإسرائيلية بصدد الموضوع؛ فالحملة واسعة النطاق
موجهة للرأي العام الأمريكي ولصناع القرار الأمريكيين أيضاً، والأمثلة كثيرة.
يقول موريتمر زاكرمان رئيس تحرير مجلة الأخبار الأمريكية والنشرة
العالمية US. Nes World Reort متبنياً الفكرة نفسها: (إن التطرف
الإسلامي المسلح على وشك أن يحل محل الشيوعية عدواً لنا، فالقِيَم التي يحتويها
تناهض الأساس الذي تقوم عليه الديموقراطية الغربية) .
ويستغل فرجاس بوردويتش أعمال العنف الدائرة في إطار الحرب الأهلية
بالجزائر ليثبت فكرته الأساسية عن الأصولية الإسلامية في مقالته في مجلة
Readrصs Digest والمسماة الجهاد قادم إلينا A holy ar heads or ay
ويعتمد في إثبات رأيه على اثنين من أقوى مؤيدي إسرائيل في أمريكا وهما روبرت
ساتلوف الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى
السياسية، ودانيل بابيبس المدير السابق لمعهد أبحاث السياسة الخارجية بفيلاديلفيا
يقول بابيبس: (الأصوليون ليسوا بأي حال مسلمين تقليديين عاديين، والمتطرفون
ليسوا مجرد مجرمين لكنهم عقديون متحمسون، وعندما يحسون بأنهم مقبولون أو
شركاء في العملية السياسية فسوف يفصلون بين الجناح السياسي والجناح العسكري
لديهم، وبذلك يستطيعون استنكار أعمال العنف التي تقوم بها فصائلهم السرية) .
- يقول عاموس بيرلموتر Amos erlmter أستاذ العلوم السياسية بالجامعة
الأمريكية ومحرر مجلة الدراسات الاستراتيجية في كتاب له صدر 1995م:
(لا تمثل مرحلة ما بعد الحرب الباردة نظاماً عالمياً جديداً، بل هي عالم
يمتلئ بالقوميين المتطرفين الانفصاليين؛ فإن الأيديولوجية الفاشية والنازية التي
سادت في الثلاثينات لها ما يوازيها من بعض الجوانب في الأصولية الإسلامية؛
فهي حركة شمولية معادية للغرب تأمل في أن تلقن الصليبيين الجدد دروساً لا تنسى
، وليست مصادفة أن تكون مناطق الأزمات الدائمة والمشتعلة وبؤر التوتر في العالم
هي نفسها مناطق الأصوليين دعاة الوحدة والخلافة الإسلامية، والغرب لن يسمح
باستبدال شمولية بأخرى: النموذج السوفييتي بالنموذج الإسلامي) .
وقد صور ستيفن إيمرسون في برنامجه حول (الجهاد في أمريكا) والذي ركز
على حادثة تفجير مركز التجارة العالمي على أنه بالرغم من أن المتطرفين المسلمين
ليسوا إلا أقلية ضمن غالبية المسلمين إلا أن الناقد التلفزيوني (والترجودمان) أظهر
أهدافه في إدانة الجميع عندما قال: إنه حتى المنظمات الإسلامية المحترمة المعتدلة
لها علاقة ما بجماعات العنف، وقد رفض المسلمون في أنحاء أمريكا تصوير
برنامج عن الإسلام يبرز هذا التصور الدموي ورفعت قضايا أمام المحاكم عليه.
وقد صرح فيليب ويلكوكس المسؤول عن قسم مقاومة الإرهاب في المباحث
الفيدرالية الأمريكية 1995م بقوله: (بالرغم من الاتصالات غير الرسمية بين قادة
الجماعات الإسلامية؛ حيث يجد قادتها المقيمون في الخارج الملجأ الآمن
والإمكانيات الضخمة، إلا أنه ليس هناك دليل مادي قوي على وجود شبكة أو تنظيم
دولي بين تلك الجماعات، ولم تعط تحريات الأجهزة المنوط بها المراقبة وتنفيذ
القانون دليلاً لزعم إيمرسون بوجود شبكة من الخلايا (الجماعات الإسلامية في
أمريكا) .
وفي مقالة مطولة كرر إيمرسون في 12-6-1995م أفكاره السابقة نفسها بأن
الجماعات الإسلامية المتطرفة أنشأت بنية وهياكل سياسية ومالية، وفي بعض
الأحيان علمية في الولايات المتحدة، وأن الـ FBT يعتبر تلك الشبكة من أولوياته، ولكن مصادر معلومات إيمرسون مشكوك فيها وغير جديرة بالثقة، وقد اتضح
تصميم إيمرسون في نشر مقولاته حينما ظهر على شاشة التلفاز الأمريكي أثناء
انفجار أوكلاهوما في 19-4-1995م والذي ظهر فيما بعد أن الذي قام به
أمريكيون من اليمين الأمريكي وكان مصمماً على أن المتطرفين الإسلاميين وراء
الحادث، ومما قاله في هذا الصدد:
(إن انفجار أوكلاهوما له العلامات المميزة نفسها التي كانت لانفجار بيونس
أيرس، والمركز التجاري العالمي؛ فقد كانت سيارة ملغومة المقصود منها قتل أكبر
عدد من الناس؛ وهذا النوع من العمليات لم تعرفه أمريكا قبل فترة الإرهاب
الإسلامي، ولكن الحقيقة أن بعض الجماعات الإسلامية تحرك هذه الأحداث من
وراء ستار، ويجب أن يزج بهم في معتقلات التعذيب.
وقد تسببت تلك العبارات غير المسؤولة بلا شك في المضايقات التي تعرض
لها المسلمون الأمريكيون فيما تلا هذا الحادث) .
وعلى صعيد آخر كتب ليزلي جيلب في النيويورك تايمز معبراً عن تعاطفه
مع آراء محادثيه الإسرائيليين رابي ديفيد هارتمان، وبيهوشفات حركبي بأن:
(الإسلام لا يعترف بالتعايش مبدأً؛ فالتعايش يتنافى مع مفهوم الإسلام للنظام
العالمي) .
وهناك كتَّاب آخرون يعتمدون على الحكومات شرق الأوسطية ويهتمون دائماً
بها خاصة: إيران والسودان، ومنهم (ستيفن هولمز) فقد كتب من واشنطن عن
كيفية تحول علاقات القوى نتيجة للأصولية في الشرق الأوسط مكرراً موضوع
معسكرات التدريب العسكري التي تقوم بها إيران على أرض السودان إلى جانب
العلاقات العسكرية والاقتصادية السودانية الإيرانية؛ ولكنه لم يعط أي دليل على
أقواله، أو أي سبب يجعل التعاون بين دولتين متقاربتي التفكير شيئاً مثيراً للتساؤل.
وهناك عديد من الصحفيين يتبنون بغير نقد الرؤية الرسمية الأمريكية في أن
الدول العاصية أو الشاذة تصدر الثورة التي لا يحددونها أبداً، وعادة ما يتجاهلون
الاستفزازات الإسرائيلية وما تفعله الأنظمة العربية الحاكمة مع شعوبها، كما أنهم لا
يستمعون إلى الطرف الآخر من زعماء الحركات الإسلامية؛ فإن بعضهم - نتيجة
تعليمه ولغته - لا يستطيع التعامل معهم، وحتى في بعض الحالات عندما حاورَتْ
(جوديث ميللر) حسن الترابي وغيره فإنها ارتكبت خطأ التعميم إذ قالت: (تقريباً
كل الإسلاميين أنصار للعنف، ويعارضون الديموقراطية والتعددية وكلهم سيظلون
معادين للغرب ولأمريكا ولإسرائيل) . وأضافت في تعبير متعالٍ ينم عن استعلاء
ثقافي: (إن فكرة الدولة الإسلامية كما يعتنقها معظم مؤيديها لا تنسجم مع القيم
والحقائق التي عتبرها الأمريكان ومعظم الغربيين حقائق مسلَّمة ولا تحتاج لإثبات؛
لأنها واضحة بذاتها) .
وتخلُص ميللر إلى نتيجة وهي: (أن أي حوار أمريكي مع تلك القوى
الإسلامية يعتبر مضيعة للوقت) .
ومن أبرز دور الفكر التي ساهمت في إذكاء المقولات عن الخطر الإسلامي
دار الميراث المحافظ في مدينة واشنطن التي نوقش فيها في 21-6-1994م
موضوع الخطر الإسلامي على شمال إفريقيا، وكان ضمن المتحدثين: خالد
ديوران زميل دانئييل بابيس، وستيفن إيمرسون الذي ساعده ديوران، وقد اقترح
بابيس الذي يرفض الحوار مع الأصوليين المعتدلين منهم والمتطرفين على السواء،
اقترح أربعة نصائح للسياسة الأمريكية لمقاومة الخطر الأحمر الجديد هي:
أ - مواجهة الأصوليين.
ب - الضغط على إيران والسودان للتخفيف من سياستهما المتطرفة.
ج - مساندة الحكومات التي تتصدى للأصولية في المنطقة مثل حكومة
الجزائر وغيرها.
وقد شبه بابيس ذلك الصراع بالحرب الباردة قائلاً: إن اليمين الأمريكي هو
الذي كسب الحرب الباردة بوقوفه في وجه الاتحاد السوفييتي، وهو يستطيع القيام
بالشيء نفسه بالنسبة للإسلام.
ومن الواضح أن بابيس لم يوضح كيفية تساوي النظام السوفييتي الاستبدادي
مع الحركات الإسلامية المعارضة لأنظمة حاكمة موغلة في استبداديتها.
وعلى أي حال فإن موقفه لا يختلف كثيراً عن موقف مارتين شيرمان المفكر
السياسي الإسرائيلي الذي كتب قائلاً: (إن الحرب العالمية الثقافية التي تدور بين
الإسلام والليبرالية الغربية هي المعركة ذاتها التي كانت تدور ضد الشيوعية
والنازية) .
وهناك بعض المفارقات المثيرة عن الروابط بين هؤلاء الأفراد والجماعات
بعضهم ببعض؛ فقد صرح إيمرسون ستيفن للواشنطن بوست أنه قد حصل على
جزء كبير من الـ 325000 دولار لتمويل فيلم الجهاد في أمريكا Jihad in
America في مؤسسة برادلي في ميلوكي. ويذكر روبرت كابلان في مقدمة كتابه
عن العرب - وهو كتاب عن خصائص الشرق الأوسط مسانداً (إسرائيل) -: أن
الكتاب لم يكن ليطبع لولا المساعدة التي قدمتها مؤسسة برادلي، وتمت إدارة تلك
الأموال عن طريق معهد بحوث السياسة الخارجية التابع لدانييل بابيس.
وتتضح الأمور أكثر إذا علمنا أن مجلة هذا الأخير والتي تصدر ربع سنوية
والمسماة Middle East Qartoly يقوم القناصلة الإسرائيليون بتوزيعها بالمجان. ...
أما الأصوات الأكثر إقناعاً والتي تعارض التعميمات والتبسيط الزائد فهي
أصوات الأكاديميين الذين يدرسون جوانب عدة في الإسلام، ويضم هؤلاء العالم
الفرنسي فرانسوا بورجا الذي يقول: الإسلاميون ليسوا أكثر من أناس يربطون
الإسلام بالحوار السياسي، ومن هنا فإننا نفهم الآراء ابتداءاً من الفاشي حتى
التحرري المتطرف.
ويؤكد علماء أمريكيون من جامعات شتى أن عدم التفرقة بين الحركات
الإسلامية المختلفة وتنميط المسلمين بتصويرهم على أنهم متطرفون يميلون إلى
العنف سيقوي المتطرفين على حساب الأغلبية المسلمة المعتدلة والمسؤولة.
إلى جانب ذلك فإن الأخطاء في توصيل وتمثيل حقيقة الحركات الإسلامية
تجعل قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على وضع سياسة خارجية بناءة عملية معقدة، ومما يثبت ذلك تصريحات بعض الزعماء البارزين مثل (نيوث جنجريتش) R.
G. A الذي حث الولايات المتحدة الأمريكية على تبني سياسة متسقة لمقاومة
الاستبداد الإسلامي! ! (ومثل السكرتير العام لحلف الناتو (ويللي كلايس) الذي
يزعم أن الأصولية الآن تمثل الخطر نفسه الذي كانت تمثله الشيوعية من قبل) .
التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية:
1 - تأتي الحملة الضارية والعامة للحكومة الأمريكية ضد الإسلام على حساب
قدرتها على انتهاج سياسة مرنة وبناءة تجاه الحركات الإسلامية؛ فالتصريحات
السياسية للمسؤولين الأمريكيين تهزأ من فكرة أن هناك إسلاماً موحداً يواجه الغرب، ولكنها لم تترك شكاً في أن الولايات المتحدة ستعارض أية حركة إسلامية تحاول
الوصول إلى السلطة حتى ولو كان ذلك عن طريق صندوق الاقتراع؛ وتعبر عن
ذلك كلمات إدوارد جيرجيان مساعد وزير الخارجية الأسبق: (نحن لا نساند
شخصاً واحداً وصوتاً واحداً وتوقيتاً واحداً) إشارة إلى أن الحركات الإسلامية لا
تؤمن بالتعددية! ! وكأن الأنظمة العربية الحاكمة تؤمن - أو تسمح - بالانتخابات
الحرة.
2- سياسة الاحتواء الثنائي للعراق وإيران من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية
قد أكدتها وثبتتها العقوبات ضد العراق واستمرار عملية فرضها، وإلغاء اتفاق
كونوكو مع إيران الخاص بالعلاقات التجارية لإيران والتي أعلنها الرئيس كلينتون
في 30-4-1995م وذلك عقب الحملة الدعائية الشرسة التي شنتها لجنة الشؤون
العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC إيباك - وهي تجمُّع للوبي الإسرائيلي
الأمريكي المشترك على إيران.
3 - تساند الولايات المتحدة الأمريكية بشكل تام حكومات كل من مصر
وتونس وذلك في حربها ضد الحركات الإسلامية فيهما؛ وخلال ذلك تتغاضى عن
انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول مؤخراً
أن تلعب دوراً هامشياً في إيجاد أرضية مشتركة بين الحكومة الجزائرية والزعماء
الإسلاميين الذين لا يستخدمون العنف؛ وذلك بعد أن وافقت في صمت على إلغاء
الجيش الجزائري للانتخابات.
وعلى الجانب الدعائي يمكن أن نذكر:
أ- ظهور الرئيس كلينتون أثناء زيارته لإندونيسيا 1994م في المسجد
الرئيس في العاصمة جاكرتا مصرحاً بوضوح أنه بالرغم من وجود مشاكل مع
الإرهاب إلا أنها لا تمتد ولا ترتبط بالإسلام باعتباره ديناً وثقافة.
وصرح كلينتون في زيارته للأردن قبل ذلك بقليل قائلاً: (ترفض أمريكا
قبول فكرة أن حضارتنا لا بد أن تتصادم مع الإسلام، نحن نحترم الإسلام) ، وقد
قامت الإدارة الأمريكية بجهود جديرة بالثناء وإن كان يتخللها كثير من الشك في دفع
اتهام المسلمين في حادثة تفجير أوكلاهوما وذلك على خلاف بعض المعادين للإسلام، وبالرغم من المشاعر الطيبة التي عبر عنها كلينتون وإدارته فإنه ما زال ثمة
شوط بعيد في الفهم المتبادل بين إدارته وبين الإسلاميين.
وبسبب التخويف المستمر الذي تبثه الأصوات المعادية للإسلام تأثرت حتى
بعض الأمور البسيطة، ومنها: منح تأشيرات السفر والدخول؛ فعلى سبيل المثال: دُعي الشيخ راشد الغنوشي - زعيم حزب النهضة التونسي المُبعد وأحد المعتدلين
البارزين في الصحوة الإسلامية - لحضور الحوار حول الإسلام الحديث الذي أقامته
جامعة جنوب فلوريدا بالاشتراك مع شركة الدراسات الإسلامية والعالمية في يناير
1994م وهو حوار أجري قبل ذلك مرتين مع د. حسن الترابي 1992م، ود.
خورشيد أحمد من باكستان 1993م، ويعطي الحوار فرصة للعلماء الأمريكيين
لمناظرة المثقفين الإسلاميين، وفي التجربتين السابقتين حضر أكاديميون أمريكيون
بارزون، ونشر الحوار للجمهور الأمريكي، وقد أثنى الجميع على تلك الحوارات،
وكان اختيار الغنوشي لحوار 1994م ذا دلالة واضحة لما يحدث في شمال إفريقيا،
وإذا كانت تونس قد حكمت على الغنوشي غيابياً بالإعدام فإن إنجلترا منحته حق
اللجوء السياسي 1993م، وعندما تقدم الغنوشي للحصول على التأشيرة رفضت
الإدارة الأمريكية منحه إياها، ولذلك فإن حوار مايو 1994م تأجل مراراً حتى
يونية 1995م، وظهر أن تونس اعترضت على فعل الإدارة الأمريكية، وكان هذا
الاعتراض قد ظهر علناً في مايو 1994م في جريدة نيويورك اليهودية والمعروفة
باسم (فورد وارد) فكتبت لوسيت لاجنادور في عناوين الصفحة الأولى الرئيسة:
الشيخ الإرهابي، وآية الله المستقبل يطلب الدخول إلى أمريكا) .
وأضافت أن: (الغنوشي أيد العنف ضد الأمريكيين وحلفائهم، وحاول إفساد
مسيرة السلام في الشرق الأوسط) .
وأشارت المقالة إلى أن دانييل بابيس يقول بأن: (الغنوشي حضر مؤتمرات
في السودان وإيران مع كتاب متطرفين آخرين، وقد صور بابيس تلك المؤتمرات
باجتماع إسلامي عالمي؛ حيث يتفق الزعماء على المقت الشديد لأمريكا والغرب
وإسرائيل. والمقصود اجتماعات المؤتمر الشعبي الإسلامي في الخرطوم.
وفي 24-6-1994م نشرت أوليمبيا سنو ممثلة وعضوة في وزارة الخارجية
الأمريكية نداءاً تطالب فيه وزير الخارجية كريستوفر برفض إعطاء تأشيرة
للغنوشي لملفه الواسع في النشاط الإرهابي.
ولكن الاعتراض الأكبر على راشد الغنوشي جاء على لسان مارتن كريمر
مساعد رئيس مركز ديان للدراسات الشرق أوسطية في جامعة تل أبيب الذي أصدر
تقريراً باسم olicy Watch من خلال معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي
يقف وراءه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية إيباك، لم يذكر كريمر في
تقريره شيئاً عن الإرهاب، ولم يسع لإبطال أو تقديم أدلة لبطلان إعطاء حق
اللجوء السياسي الذي منحته الحكومة البريطانية للغنوشي، ولكنه ركز على موقفه
المعارض للسعودية وأمريكا في حرب الخليج واعتراضه على الاتفاق بين منظمة
التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي طالما أسماها: خطة يهودية أمريكية تستهدف
إخلاء المنطقة من كل مقاومة وفتح المجال للنشاط الاقتصادي والثقافي اليهودي الذي
يمهد للسيطرة الكاملة لليهود من مراكش حتى كازاخستان، وقد صرح كريمر أن
الولايات المتحدة الأمريكية لو أعطت الغنوشي تأشيرة الدخول فإن ذلك يبين مدى
اختلاط الأمور عليها حتى إنها لا تعرف عدوها من صديقها.
إذن يستطيع أحد الأساتذة الإسرائيليين أن يكون في الوضع الذي يسمح له
بتوجيه النصح للحكومة الأمريكية بأنها يجب أن لا تعطي تأشيرة دخول الأجانب
الذين يعارضون السياسات الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، وهكذا نجحت الحملة
ضد الإسلام في منع الحوار بين أحد المفكرين الإسلاميين والعلماء والأكاديميين
الأمريكيين، ولكن يبدو أن الأمر يعد أكبر من ذلك؛ فالمسلمون في أمريكا
معرضون بشكل عام لأن يوصفوا بالخيانة والعداء المحتمل لأمريكا خاصة بعد
تصريحات كلينتون وأوامره في 24-1-1995م وذلك بمنع جمع التبرعات
والمساعدات للإرهابيين الذين يهددون عملية السلام في الشرق الأوسط ومنع فتح
الحسابات الخاصة بأسماء عشرين منظمة إسلامية.
وقد أثبتت الأحداث ذلك عقب انفجار أوكلاهوما: فمثلاً - نشر صحفي شاب
في 28 - 29-5-1995م في صحيفة التامبا تريبيون أن هناك مجموعة في تامبا
تتعاطف - وربما يقول - مع حركات الجهاد وحماس الإسلامية ويتزعمها د. سامي
العريان في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني وهو أستاذ في جامعة فلوريدا، وقد
نشرت صورة د. سامي العريان بجانب صورة القتلى في انفجار أتوبيس تل أبيب
الذي حدث في 19-10-1994م، والذي راح ضحيته 23 إسرائيلياً.
وقد استشهدت المقالات بكلام استيفن إيمرسون والصحفي الإسرئيلي روني
شاكيد، وباحث مجهول من مركز وايزنتال ومارتن كريمر، وكان من أكثر
الاتهامات غير المسؤولة تلك التي قالت بأن هناك علاقة بين مسجد محلي في
فلوريدا يحتوي على مدرسة ابتدائية وبين حماس؛ لأنه مُسمًّى باسم عز الدين القسام
وهو زعيم مسلم بارز قُتل بيد الإنجليز 1935م، وقد عرضت المقالة صورة
المسجد وعنوانه مما ولَّد الخوف لدى الأطفال والمدرسين؛ حتى إن الجالية
الإسلامية استأجرت رجال الأمن لحمايته، وقد هيجت تلك المقالات بعض اليهود
النشطين في المنطقة، وبعد فحص تلك الاتهامات أعلنت بيتي كاستور رئيسة جامعة
جنوب فلوريدا أنه لا توجد أية مخالفات في الجامعة وردت على قلق الجالية اليهودية
بأنها ترحب بوجودهم ولكنها ترحب بالآخرين أيضاً.
وعلى الصعيد العالمي تظهر الولايات المتحدة الأمريكية على أنها عدو للإسلام ... فحكومات إسرائيل والجزائر ومصر وتونس وحكومات أخرى في المنطقة تخشى
صعود حركات الصحوة الإسلامية وتلك الحكومات صديقة للولايات المتحدة
الأمريكية، وكما قال أحد السفراء الأمريكيين: إننا يجب أن نتغاضى عن
الممارسات العنيفة للحكومة المصرية ضد المصريين في الصعيد، والتي سجلها
روبرت فيسك في تقاريره؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعامل مع المتعصبين.
إن سياسات القوى العظمى - يشير إلى الولايات المتحدة الأمريكية - يجب
ألا يحددها تجاه خُمس سكان العالم على الأقل تهديداتٌ تواجهها إحدى الحكومات من
مواطنيها المقهورين رغم اتفاقنا مع وجهة نظر هذه الحكومات، كما أن سياستنا
على المدى الطويل لا ينبغي أن يحددها أفعالُ قلة من الإرهابيين.
والواقع أن عدم اكتراث أمريكا الواضح بمقتل مائتي ألف مسلم في البوسنة
وحرب الإبادة ضد الشيشان وما يحدث في كشمير والهند والضفة الغربية وغزة
والعقوبات الاقتصادية ضد إيران ... إلخ كل هذا قد أقنع كثيراً من المسلمين أن
الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام.
وقد أضاف الأستاذ جيمس بيل: (الوضع خطير حينما يجد المسلمون أنفسهم
ملقبين بالإرهابيين وعندما تشجع الحكومات الغربية حكوماتهم العلمانية في الشرق
الأوسط على مواجهة الحركات الإسلامية بالعنف) .
وقد أصر الرئيس كلينتون على أنه ليس ضد الإسلام، ولكن أفعاله وتردده
وتخاذله في إقامة حوار حقيقي مع المفكرين الإسلاميين يشير إلى عكس ذلك،
وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تشجع الحوار مع المفكرين الإسلاميين وهؤلاء
بدورهم عليهم أن يستنكروا الإرهاب والظلم الذي تمارسه بعض الحكومات
الإسلامية وغير الإسلامية - إذا كان الحوار سيؤتي ثماره.
ولمن يصر على تشبيه الموقف الآن بظروف الحرب الباردة يقول الصحفي
الإيرلندي فاليه تحول: (في قمة الحرب الباردة كان الغرب يحاول بحيوية فهم
النظام الشيوعي والفكر الماركسي، ولكن تلك الجهود لا تبذل الآن مع الإسلام،
وبغير الحوار لا يمكن أن يكون هناك بديل سوى المواجهة!) .
__________
(*) نشر في دورية: الفورين أفريرز " الشئون الخارجية الأمريكية " خريف عام 1997م.(144/116)
قضايا ثقافية
من مواقف طه حسين
تجاه التراث الإسلامي
خالد بن سعود العصيمي
كانت الحلقة الأولى عرضاً لما سجَّله طه حسين من آراء ومواقف معادية
للتراث الإسلامي من خلال كتبه. وفي هذه الحلقة يحلل الكاتب تلك الآراء
والمواقف مفصحاً عن مواردها ودوافعها وما تحمل في طياتها من اعتقاد وفكر؛
لتستبين سبيل طه حسين وسبل من اقتفى أثره.
- البيان -
آراء طه حسين بين الجدة والقدم:
إن ما طرحه طه حسين من آراء، وما ادعاه من نظريات ليست وليدة أفكاره
بالجملة، بل جاءت تقليداً في بعض الأحيان، ومسخاً وتشويهاً في أخرى، وسرقة
وسطواً في ثالثة.
ففكرة بشرية القرآن وأنه من عمل محمد الذي عاش حياة خاصة، وهي حياة
المكيين مأخوذة من المستشرق جب في كتابه: (المذهب المحمدي) ، وقد قام الدكتور
محمد البهي - رحمه الله - بعقد موازنة بين ما ذكره جب في (المذهب المحمدي)
وما ذكره طه حسين في (في الشعر الجاهلي) [1] واستخلص ما توافقا فيه، واختلفا
فيه، فأما ما اتفقا فيه، فأُوردها بإجمال:
1 - أن الحياة الجاهلية قبل الإسلام كانت حياة حضارية، وكانت حياة حافلة
بالكياسة والسياسة، والنشاط الاقتصادي والنهضة الدينية.
2 - أن محمداً - أو الإسلام أو القرآن - استغل المقدسات في مكة. وظاهرة
استغلال هذه المقدسات - كما يرى صاحب المذهب المحمدي - تكمن في أن ثورة
محمد أو الإسلام أخذت طابع الدين دون الطابع الاجتماعي، أما صاحب كتاب (في
الشعر الجاهلي) فيرى أن ظاهرة استغلال المقدسات برزت عند محمد أو الإسلام في
قبول قصة إسماعيل وتعليمه العربية اضطراراً مع أنها أسطورة أثبتت الحقائق
العلمية - بزعمه - عدم وقوعها.
3 - أن القرآن لم يكن جديداً كل الجدة على العرب، فما فيه من عقائد كانت
تعرفها قلة، ويعرفها العرب في شبه الجزيرة، ولكن صاحب كتاب (المذهب
المحمدي) يرى أن دليل معرفتهم لذلك هو عدم معارضة المكيين له، وما ظهر من
معارضة أرجعه إلى المنافسة السياسية والخشية من انهيار اقتصادهم، بينما يرى
صاحب كتاب (في الشعر الجاهلي) أن دليل ذلك هو قبول من قَبِلَ منهم، ومعارضة
من عارض من بينهم، فلو لم يكن مألوفاً لديهم لما عارض من عارض ولا قَبِلَ من
قَبِلَ، ولا حفل به أحد ولا كان له أي خطر.
4 - أن دعوة الإسلام دعوة محلية في جماعة خاصة وفي حياة خاصة؛
فالقرآن أو الإسلام انطباع واضح لهذه الجماعة الخاصة [2] .
أما الفرق بين الكتابين في عرض بشرية القرآن فيمكن تلخيصه من كلام
الدكتور البهي فيما يأتي:
1- أن كتاب (المذهب المحمدي) يصف القرآن ويصف صلته بالعرب بقوله:
- فيه (أي القرآن) ما أخذ من الوثنية العربية.
- وفيه ما أخذ من المسيحية العربية.
- وفيه رد على اليهودية العربية [3] .
وواضح مدى تأثره وتقليده لجب حتى في الأمور التي ظاهرها المخالفة.
أما فكرة كتاب (على هامش السيرة) فما هي إلا تقليد لكتاب (على هامش
الكتب القديمة) لجيل لومتير كما ذكر طه حسين في كتاب (الإسلام والغرب) الصادر
عام 1946م في باريس، وقد وصفه بقوله: (وهذا الكتاب من عمل المخيلة
اعتمدت فيه على جوهر بعض الأساطير ثم أعطيت نفسي حرية كبيرة في أن أشرح
الأحداث وأخترع الإطار الذي يتحدث عن قربٍ إلى العقول الحديثة، مع الاحتفاظ
بالطابع القديم) [4] .
وقد ذكر الأستاذ محمود شاكر في حديثه عن سطو طه حسين على كتابه
(المتنبي) أنه (حين قرأت شهادة الدكتور طه حسين على جيلنا المفرغ من ثقافة أمته
في سنة 1935م: توهمت بحسن الظن أنه سوف يبدأ عهداً جديداً في تفكيره وأنه
سيفارق السُّنة التي سنها هو والأساتذة الكبار، أعني: سنة السطو، وسنة
التلخيص) [5] ، (لكن سرعان ما تحقق الشك والريب فيما كتبه الدكتور طه، على الوجه الذي فصلته تفصيلاً صريحاً، وكان ما كان، ورجعت ريمة إلى عادتها القديمة، كما يقال في المثل، بل هي لم تفارق عادتها قط ولا تملك أن تفارقها ضربة لازب) [6] .
أما كتاب (في الشعر الجاهلي) فقد تمثل فيه عدة أهداف:
الأول: محاولة تأكيد نظرية مسمومة ملخصها: أن الشعر الجاهلي موضوعٌ
جله - إن لم يكن كله - بعد الإسلام [7] .
الثاني: نفي كون الأدب العربي مرتبطاً بالفكر الإسلامي لا ينفصل عنه،
ويلتزم بقيمه الأخلاقية ومفاهيمه العقائدية [8] .
الثالث: الدعوة إلى تخلي الأديب عن العاطفة الدينية والقومية، ودراسة
الأدب كما يُدرس العلم الطبيعي [9] .
الرابع: محاولة الادعاء بأنه اعتمد على نظرية الشك التي أذاعها
ديكارت [10] .
والنظرية في مجموعها مسروقة سرقة كاملة من المستشرق اليهودي
مارجليوث، نشرها في المجلة الملكية الآسيوية (الإنجليزية) عدد يوليو
عام 1925م، وهو بحث في 22 صفحة بعنوان: (نشأة الشعر العربي) .
وكان موقف مارجليوث هو موقف الاشتباه والشك والترجيح، أما موقف طه
حسين فهو موقف الحسم بأن هذا الشعر وُضِعَ بعد الإسلام [11] ولهذا سمَّى
بعضُهم [12] كتابه: (الشعر الجاهلي) الحاشية الصغرى على مقالة مارجليوث، وكتابه: (في الأدب الجاهلي) الحاشيةَ الكبرى على تلك المقالة.
وإذا كانت آراء طه حسين - كما رأينا - تقليداً ومسخاً لأفكار بعض
المستشرقين وغيرهم، فيمكن أن نجيب عن قوله: (تأثري بالمستشرقين شديد جداً؛ ولكن لا بآرائهم؛ بل بمناهجهم في البحث) [13] نجيب (بأن عبارة: تأثره
بالمستشرقين شديد جداً صحيحة من كل وجه، أما استدراكه بأنه لم يتأثر بآرائهم
فليست صحيحة؛ لأنه ثبت بالبرهان الواقعي تطابق وجهات النظر في كثير من
الآراء التي لا يمكن أن تكون من باب وقع الحافر على الحافر.
الانتماء عند طه حسين:
عبَّر الدكتور السيد أحمد فرج عن ظاهرة طه حسين وأمثاله في الفكر
الإسلامي العام (بغسيل المخ) [14] ، وذلك أنهم أُشرِبوا حُبَّ الثقافة الغربية،
وتعاظمت صورتها عندهم حتى لم يعد لثقافتهم العربية والإسلامية أدنى درجات
الاعتزاز والافتخار، وظهرت في كتابات طه حسين الفكرة الصليبية القائلة: إن
زمام الأمر بيد حضارتها، والغربي وحده هو الذكي المتفوق، أما العرب فهم
قطعان بربرية مفتقرة للذكاء، والعربي المسلم محكوم عليه بعدم الاقتدار على
التغيير لكون ذلك صفة كامنة فيه [15] .
وتولد عن هذه الفكرة (عقيدة سخيفة فاشية في الشرق، وهي أن الأوروبي لا
يخطئ أبداً) [16] ولهذا (كان عنده قناعة كاملة للاستجابة لمنطق الأوروبة بطريق
ترك الماضي الإسلامي كله، والذوبان في الثقافة الأجنبية والفكر السياسي
الأوروبي) [17] .
وولاؤه العظيم للغرب جعله يوظف القضايا التاريخية المتصلة بالأمة الإسلامية
لحضارة الغرب البائدة؛ فالدولة الإسلامية ورثت سياسة اليونان والفرس
وحضارتهم [18] .
و (لقد كانت لفلسفة أرسطاطاليس الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي
الإسلامي) [19] .
و (المسلمون أخذوا بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية) [20] .
و (وظيفة المحتسب في الإسلام تشبه ما كان شائعاً عند اليونان ومعروفاً من
أمر تأديب العامة، ومراقبة أعمالهم) [21] .
ونتائج العقل الإسلامي كلها (تنحلُّ إلى آثار أدبية وفلسفية وفنية متصلة
بحضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن) [22] .
ولو حاولنا استنطاق التاريخ عن بداية الحملة التغريبية على الأمة الإسلامية،
لجاءتنا الإجابة بارتباط حملة التغريب مع الاحتلال الإنجليزي لمصر؛ فقد أعد
الإنجليز أبواقاً لهم تنطق بالعربية؛ فكان نصارى العرب - وبخاصة الشام - أشهر
من شارك في تنفيذ هذا المخطط، وكانت مصر معدة أكثر من غيرها من الدول
العربية والإسلامية لقيادة خطط التغريب؛ ففي أوائل القرن العشرين كانت سمة
التفكير العام هي اتباع الأوروبيين في كل شيء [23] .
وقد ساعد على نجاح هذه الخطة انبهار المهزومين المغلوبين بالغالب القوي،
فهبُّوا يقلدون الغرب، وينادون بترك موروث العرب المسلمين.
ولخص الدكتور محمد محمد حسين برامج التغريب في قاعدتين ساسيتين:
الأولى: هي اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين وتمكينهم من السلطة
واستبعاد الذين يعارضون مشاريعهم ووضع العراقيل في طريقهم وصد الناس عنهم
بمختلف الطرق، والقاعدة الأخرى: هي التسلط على برامج التعليم وأجهزة الإعلام
والثقافة عن طريق من نصبوهم من الأولياء، وتوجيه هذه البرامج لتطوير الإسلام، وإيجاد تفسير جديد له يخدم أهدافهم ويدعم صداقتهم) [24] .
والغريب أن طه حسين لا يداهن ولا يجامل في مسألة الدعوة إلى تقليد الغرب
والسير على خطاهم، وأخذ ما عندهم من خير وشر دون تمييز؛ فهو يقول تحت
عنوان: (وجوب الصراحة في الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية) : (وهي واحدة
فذة ليس لها تعدد وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، ما يحب منها
وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب) [25] .
وفي كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) أصر كل الإصرار على أن مستقبل
الثقافة في مصر مرتبط بماضيها البعيد، ويدعي أن ماضيها مرتبط بالحضارة
اليونانية الأولى، وأن العقل المصري اتصل بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى
اتصال، تعاون وتوافق، وأنه: (إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض ... المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط) [26] ، وأن مصر أمة غربية وليست أمة شرقية، وأنها كانت غربية منذ عهد الفراعنة حتى اليوم، ولم تكن يوماً ما شرقية، ولم تطق أن تكون ... يوماً ما شرقية [27] .
وهو يعني بالغرب أوروبا، ويعني بالشرق الهند والصين واليابان، ويتجنب
أن يذكر غيرها من الأمم إلا تلميحاً.
وقد كان طه حسين معجباً بفرنسا إعجاباً صوَّره بنفسه، ولو قاله غيره عنه
لما صُدِّق، فهو يقول: (كل شيء في فرنسا يعجبني، ويرضيني: خير فرنسا
وشرها، حلو فرنسا ومرها، نعيم فرنسا وبؤسها، كل ذلك يروقني ويلذني،
وتطمئن إليه نفسي اطمئناناً غريباً. إني لأحس نفسي تسبق القطار إلى باريس على
سرعة القطار) [28] .
وهذا الولاء والمحبة لفرنسا جعل من (الفكر الفرنسي بالنسبة لطه حسين أكثر
من مدرسة أو من مَعين، لقد كان جزءاً من حياته، وجزءاً من إنتاجه، حتى تكاد
تحسب من خلال قراءة ما كتبه عن فرنسا، وعن أرجاء فرنسا، وعن تاريخ فرنسا، ما يقنعك بأن هذا الأثر لا ينتجه إلا من كان فرنسياً فكراً وثقافة وإحساساً؛ فعلاقته
بالفكر الفرنسي ليست علاقة أخذ فقط) [29] .
ورافق هذه المحبة للغرب ولفرنسا بخاصة تبعية سياسية ودفاع عن الاستعمار؛ فبعد أن أوقعت فرنسا عدوانها على سوريا ولبنان، ويوم عقدت الجامعة العربية
دورتها الطارئة لمواجهة هذا الحدث أوائل عام 1945م، ووفدت وفود البلدان
العربية إلى مصر ومن بينها وفدان يمثلان سوريا ولبنان؛ وإذا الدكتور طه يقول
في مقال له: (إن تصرف المستر تشرشل مع الجنرال ديجول لم يكن ملائماً للتقاليد
الدبلوماسية؛ لأنه أعلن رسالته إلى الجنرال في لندن قبل أن تصل إلى الجنرال في
باريس، وأن هذا التصرف قد عقَّد الأمر بين الفرنسيين والبريطانيين) [30] .
ويعلق خليل تقي الدين على مقال الدكتور طه هذا بقوله: (إذن فلعينيك أيتها التقاليد
الدبلوماسية، وفي سبيلك يجب أن تُضرب دمشق إكراماً لعيون اللباقة والسياسة،
ولا بأس من تهديم بضع مئات من المنازل، وتقتيل بضع مئات من
الأبرياء ... ) [31] .
ولم ينس الغرب - والفرنسيون منهم بخاصة - هذا الولاء من طه حسين لهم، فأجزلوا له المكافأة، فكانت خطة توليه منصب مراقب الثقافة في وزارة المعارف
في مصر 1939م، ثم توليه المستشار الفني للوزارة 1942م، وأصبح بعد ذلك
وزيراً للمعارف 1950م [32] .
ومن محاولات تكريمه لقيامه بالدور الذي صنع لأجله، منحه الدكتوراه
الفخرية من جامعة ليون عام 1938م، وإعطاؤه نيشان اللجيون دونور من درجة
أوفيسيه، ثم توالت عليه الدكتوراهات الفخرية، فجاءته من جامعة مونبيليه ... 1946 م، وجامعة روما 1951م، وجامعة أوكسفورد 1950م وجامعة باريس 1950 [33] ، وقرر د. ريمون فرنسيس في مقال له بعنوان: (طه حسين والأدب الفرنسي) قرر أن طه حسين خادم الفكتر المخلص العبقري ... العظيم [34] .
وبإزاء هذا نجد أن اليهود قد لقوا عند طه حسين كل تقدير، فكتاب: (في
الشعر الجاهلي) ليس بحثاً علمياً كما يزعم طه حسين ولكنه كان يخدم زعماً عبرانياً
بعثه اليهود؛ إذ يزعم العبرانيون أنهم وحدهم ذرية إبراهيم، ولهذا نفى وجود
إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وقيامهما ببناء الكعبة، وعليه فليس لدين
إبراهيم - عليه السلام - نفوذ في العرب قبل الإسلام، فهم مدينون لليهود في
حظهم من الحضارة [35] .
بل إن الدكتور عبد الحميد سعيد أشار في مارس عام 1932م إلى أن طه
حسين كان يكلف بعض تلاميذه بأن ينقدوا بعض آيات القرآن الكريم يعيِّنها لهم،
ويطلب منهم إثبات هذا النقد في كراسات يتلونها عليه، وأنه - أي الدكتور عبد
الحميد - وجد في كراسة لأحد تلاميذه قولاً عزاه لطه حسين وهو: إشارته إلى أن
صلة النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة قد أدخلت على عبارات القرآن
الكريم بعد الهجرة إلى المدينة ليونة ورِقَّة) [36] .
وأقام طه حسين محاضرات عديدة بعد عام 1935م تؤكد أن لليهود دوراً في
الحياة العربية، وفي تقديمه لأطروحة (إسرائيل) لولفنسون اليهودي، التي هي
بعنوان: (تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام) يقول طه:
(ليس من شك أن هذه المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً في الحياة العقلية
والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز) [37] .
وقد لقي طه حسين من اليهود ما لقيه من الفرنسيين، فقوبلت محاضراته
وكتاباته بشيء غير قليل من الإطراء والإعلان؛ فقد علَّقت مجلة الشمس اليهودية
الصادرة في (7 يناير 1944م) على محاضرة ألقاها طه حسين في دار المدارس
الإسرائيلية بالإسكندرية؛ حيث تقول: (كانت محاضرة الدكتور طه عن اليهود
والأدب العربي آية على يقظة الشرق وعنايته بتراثه، ومظهراً عملياً من تعاطف
وتساند بين أبناء العروبة، وقد جاءت في الوقت المناسب تذكِّر بما كان لليهود في
العصور الخوالي من أيام بيضاء، وفضل عظيم في نشر النور والعرفان، وكانوا
الواسطة إلى نقل الثقافة اليونانية إلى الشرق كما نقلوا ثقافة العرب إلى
أوروبا) [38] .
وجعل اليهود في مصر طه حسين أحد المقربين لهم، فأوكلوا له رئاسة تحرير
(الكاتب المصري) التي صدرت في مصر سنة 1945م وكانت تُموَّل من قِبَلِ أسرة
هراري اليهودية، وشاركه كتَّاب يمالئون اليهود كتوفيق الحكيم، ولويس عوض،
وسهير القلماوي، وحسين فوزي [39] .
وفي مقابل هذا الولاء للغرب واليهود، وهذه المحبة الجياشة للفرنسيين
والحضارة الأوروبية، نجد الجفاء لكل ما يتصل بماضي الأمة العربية والإسلامية
وحاضرها، ونجد الحط من شأن العرب وثقافتهم؛ فطه حسين يطلب ممن يقرأ له
أن ينسى عروبته وإسلامه بذريعة البحث العلمي المجرد؛ حيث يقول: (يجب حين
نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخِّصاتها، وأن
ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية، وما يضاد هذا
الدين ... يجب ألا نتقيد بشيء، ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي
الصحيح) [40] .
ويطلب عزل الإسلام عن الحياة؛ لأن الأديان لا تضع أسساً للأخلاق
والأحكام مع بزوغ عصر النهضة الحديث؛ فالدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط
باعتباره جزءاً من التاريخ القومي، لا ديناً إلهياً منزلاً بين الشرائع للبشر؛
فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة أساساً للأخلاق والأحكام؛ ولذلك
لا يجوز أن يبقى الإسلام في صحيح الحياة السياسية، أو أن يتخذ منطلقاً لتجديد
الأمة؛ فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين) [41] .
وهذه هي العلمانية التي تفصل الحياة عن الدين، وهذا أثر من الآثار التي
تركتها الثقافة الفرنسية في نفسه، وجعل يطبقها على الدين الإسلامي فيقول: (ومن
الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً بالإسلام أو هادماً للإلحاد،
وأنا لا أريد أن أبشر ولا أريد أن أناقش الملحدين) [42] ، ويقول أيضاً: (الأدب
في حاجة إذن إلى هذه الحرية، هو في حاجة إلى ألا يعتبر علماً دينياً ولا وسيلة
دينية، وهو في حاجة إلى أن يتحرر من هذا التقديس) [43] .
وازدراؤه لكل ما يمت للإسلام بصلة جعله يسلِّط مِعْوَل الشك على تاريخ الأمة
من غير تحقيق أو تمحيص، وإنما اتباعاً للهوى، وتقليداً للمستشرقين وأذنابهم؛
فهو يشك في كل ما روي من أحداث عصر الشيخين: الصدِّيق والفاروق - رضي
الله عنهما -[44] ، ويتهم الرواة الذين عن طريقهم وصلتنا السنة النبوية ووصلتنا
السيرة والتاريخ الإسلامي بأنهم: (يتكثَّرون في بعض الحديث، ويختلفون فيما
يتكثرون فيه باختلاف نزعاتهم السياسية) [45] .
وهكذا تجد جُلَّ بل كل ما كتبه رفعاً لشأن الأوروبي، وحطاً من شأن العربي
المسلم، لماذا؟ لأن المحبة القلبية لهؤلاء غلبت، فطغت، فأخرجت غثاءاً بَلْهَ
صديداً. يقول مصطفى صادق الرافعي - وقد صدق -: (فإنه - أي طه حسين -
لا يكتب ولا يفكر إلا لغرض واحد يبتغي له وسائله وأسبابه بكل ما استطاع وهو
توهين أمر الإسلام وصدْعه من مفاصله، وتفكيك العقد المحكمة التي يتماسك بها في
تاريخه، وناهيك به دائباً يجمع من هنا وهناك من أثينا إلى مكة ... !) [46] .
__________
(1) انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، للدكتور محمد البهي، 190 - 192.
(2) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، للدكتور محمد البهي: 190، 191 (بتصرف) .
(3) المرجع السابق، 191، 192 (بتصرف) .
(4) انظر: محاكمة فكر طه حسين، 183، 184.
(5) المتنبي لمحمود شارك، 1/131/132.
(6) المتنبي لمحمود شاكر: 1/135 (بتصرف) وانظر في قضية سطو طه حسين على كتاب محمود شاكر، مقدمة الأستاذ محمود شاكر لكتاب المتنبي: 1 /24-35، 131-135.
(7) انظر: في الأدب الجاهلي لطه حسين: 69.
(8) أنظر: المرجع السابق، 69، 70.
(9) انظر المرجع السابق: 58-59.
(10) انظر: المرجع السابق: 69-70.
(11) انظر: محاكمة فكر طه حسين: 137.
(12) هو الأستاذ الكبير محمود شاكر، وانظر: (طه حسين الجريمة والإدانة) : 4 والمتنبي لمحمود شاكر: 1/20.
(13) طه حسين مفكر: 123.
(14) انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية: 52.
(15) انظر: المرجع السابق: 51.
(16) موقف مرجليوت من الشعر العربي لمحمد مصطفى هدارة ضمن أبحاث مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية: 1/398.
(17) انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية: 53.
(18) طه حسين مفكرا: 171.
(19) المرجع السابق: 171، وانظر حديث الأربعاء لطه حسين: 3/ 633، 637.
(20) مستقبل الثقافة في مصر: 65.
(21) طه حسين مفكرا: 171.
(22) مستقبل الثقافة في مصر: 39.
(23) انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية، 58، 59.
(24) أزمة العصر لمحمد محمد حسين: 105، 106.
(25) مستقبل الثقافة في مصر: 54.
(26) مستقبل الثقافة في مصر، 21، انظر: اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر للدكتور محمد بن صادق الجمال: 2/598.
(27) انظر: المرجع السابق: 22-30، ثم انظر: نقد كتاب في مستقبل الثقافة في مصر لسيد قطب، 10-26.
(28) طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام: 50 وطه حسين الجريمة والإدانة: 48، وانظر إعجابه العميق بباريس فرنسا بكل ما فيها: (في الصيف) لطه حسين: 54-110.
(29) طه حسين: الجريمة والإدانة: 48.
(30) طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام، 51.
(31) المرجع السابق.
(32) المرجع السابق، 83، 99.
(33) انظر: طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام: 86، 87.
(34) طه حسين مفكرا: 8.
(35) انظر: مشكلات في طريق التربية الإسلامية: 64، 65 وهذه الفكرة أشار الدكتور السيد أحمد فرج إلى أنه قد خطط لها من قبل مؤسسات ثقافية يهودية، مثل الذي كتبه، مارجليوث في الشعر الجاهلي.
(36) انظر نص محضر الجلسة الرابعة والعشرين لمجلس النواب المصري (28 مارس 1932م) كتاب محاكمة طه حسين: 154، 155.
(37) محاكمة فكر طه حسين: 268، وفي مقابل هذا الكلام يقول الدكتور فؤاد حسنين أستاذ اللغة العربية في جامعة القاهرة إبان وجود طه حسين فيها في قيمة هذه الرسالة: (ليس الأمر كما يعتقد المشرف أو يريد أن يعتقد، فهذه الرسالة التي أشرف عليها مشحونة بالأخطاء، فضلا عن أن المراجع العبرية لا تمت إلى البحث بصلة) طه حسين حياته وفكره: 68.
(38) انظر: محاكمة فكر طه حسين: 270.
(39) انظر: محاكمة فكر طه حسين، 274، 275.
(40) في الأدب الجاهلي: 70.
(41) انظر: مستقبل الثقافة في مصر: 25، 26 فهو يقرر فيها أن (وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول) وانظر: نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، لسيد قطب: 16.
(42) ، (43) في الأدب الجاهلي: 60 (44) انظر: الشيخان: 6.
(45) انظر الشيخان: 27.
(46) تحت راية القرآن: 207.(144/124)
متابعات
من مناقب العلامة الألباني
محمد عيد العباسي
وأخيراً تُوفي أستاذنا الإمام العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني بعدما أمضى
نحو سنتين يعاني من المرض؛ بل عدة أمراض، وأسلم روحه إلى بارئها، وانتقل
إلى جوار ربه الكريم الرحيم.
لقد ذاع اسم الشيخ، وانتشر ذكره بين طلبة العلم في مختلف الأقطار
والأمصار، ووُضِعَ له القَبول بين الناس، وما ذلك إلا لصفات اتصف بها وخصال
اختُص بها، مما جعله أحد العلماء الربانيين والمجددين المصلحين في هذه الأمة
التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وحيث إني أحد تلامذته المقربين وقد لازمته منذ خمسة وأربعين عاماً فقد
عرفت منه هذه الصفات بجلاء تام، ولذلك كان يزداد حبي له وتقديري وإجلالي
يوماً بعد يوم رغم الحملات الشديدة التي كان يشنها عليه خصومه وشانئوه، ورغم
الإشاعات الكثيرة التي كان يذيعها مخالفوه وحاسدوه.
والحديث عنه وعن صفاته طويل وشيِّق، ولا تتسع له هذه المقالة، فأكتفي
بذكر بعضها راجياً الله - تعالى - أن ييسر لي كتابة كتاب في ذلك أسرد فيه
ذكرياتي عنه وتحليلاً لأخباره؛ ليفيد من ذلك طلبة العلم والناس؛ فمن صفاته
الجميلة الحميدة - رحمه الله تعالى -:
1- إخلاصه لله - تبارك وتعالى - وقصدُه وجهَه الكريم في عمله وعلمه:
وقد يقول قائل: إن الإخلاص سر من أسرار الله - تعالى - لا يطلع عليه إلا
الله؛ فكيف يعرف؟ والجواب: إن الأمر كما قلتَ، ولكن الإخلاص له علامات
وأحوال تدل عليه، ويستطيع الدارس والملاحظ تبيُّنَها إذا أوتي فراسة وذكاء وخبرة
وتجربة. أرأيت أمر الساعة؟ فقد اختص الله - تعالى - نفسه بمعرفتها، ولكنه
جعل لها علامات وأشراطاً، يحكم المتأمل والناظر بقرب وقوعها الوشيك جداً.
وهكذا؛ فكان الشيخ في سلوكه العام والخاص وابتعاده عن المحرمات
والمكروهات، ومسارعته إلى الطاعات، وصبره على البليات مثالاً يحتذى،
واستمر على ذلك طول عمره، لم تفتنه المناصب، ولم يغره المال، ولم تجتذبه
الدنيا، وليس لذلك تفسير عند العقلاء إلا في الإخلاص والصدق مع الله وابتغاء
وجهه.
كنا نرافقه في أسفاره إلى بعض المدن السعودية وإلى الأردن في سيارته
للدعوة والتدريس وزيارة الإخوة، فكان كلما احتاجت السيارة لملئها من البنزين
يبادر بدفع ثمنه، ونحاول جهدنا أن نسبقه فما كان يسمح لنا؛ بل يعزم علينا ألا
نفعل رغم حرصنا، ويقول: دعوا تكاليف السيارة عليَّ لتكون خالصة لله - تبارك
وتعالى - وفي خدمة دينه.
2- جده ودأبه وصبره على المطالعة والدراسة والتعليم والدعوة والكتابة
والتأليف:
فقد كان ينفق الساعات الطوال التي تنوف على العشر ساعات يومياً في
مطالعة الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة في المكتبة الظاهرية وغيرها،
ونسخ ما يحتاجه منها، وكان يأتي إلى ظاهرية دمشق منذ أن تفتح أبوابها، ويستمر
حتى نهاية الدوام المسائي، وكان يطلب موظفوها منه إذا حان وقت انصرافهم،
وأراد أن يكمل بحثه أن يغلق أبوابها إذا أراد الانصراف، وكان كثيرون من روادها
يظنونه موظفاً من موظفيها لطول مكثه فيها.
وقد بلغ الذورة في الصبر والتحمل حينما صام أربعين يوماً متواليات ليلاً
ونهاراً عن كل شيء إلا الماء تطبباً، وطلباً للشفاء من بعض الأمراض التي كان
يعاني منها، بعد أن قرأ كتاباً لأحد الأطباء يشرح فيه أن كثيراً من الأمراض يُشفى
منها بالصوم، فكان - رحمه الله تعالى - يواظب خلال هذه المدة على عمله
ودروسه وتأليفه، ويمارس كل النشاط الذي كان يقوم به في الأيام العادية، بما في
ذلك الأسفار وإلقاء الدروس والمحاضرات، وإن هذا - لعمر الله - قمة في مضاء
العزيمة، والصبر على المكاره، وعجيبة من عجائب الدهر.
3 - زهده وميله للبساطة وعدم التكلف:
وهذا خلُق من أخلاق النبوة، فقد آثر الآخرة على الأولى، ولذلك كان يقنع
بالقليل من الرزق، ويكتفي بالميسور من الطعام والمتاع، ولا يعتاد التنعم والرفاه،
كما زهد في المناصب، وترفع عن التزلف لأصحاب الجاه والغنى والسلطان، بل
كان عزيز النفس لا يطلب من أحد شيئاً ولو كانت به حاجة، كما كان يؤثر الابتعاد
عن المناسبات الرسمية والأضواء، ويؤثر البساطة والعيش مع كتبه وطلابه
ودروسه، ولا يتركها إلا مُكْرَهاً، كما أنه تجنب الصحافة والإذاعة المسموعة
والمرئية مع أنه دُعي للظهور فيها، وذلك لما يرى فيها من التكلف والتصنع الذي
يمجه بفطرته، ولما يوجد في كثير من وسائل الإعلام من تحريف وبتر للكلام
وتشويه ومخالفة للأمانة في النقل.
4 - أمانته العلمية وإنصافه:
وهذه صفة عزيزة تقتضي من العالم الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه،
والتخلي عن الهوى والغرض، وهي أمور صعبة وشديدة على النفس، كما تقتضي
منه إذا سئل عن مسألة لا يعرفها أن يعترف بعدم معرفته لها. وكل ذلك من الأمور
التي أمر بها الإسلام، ويكفي فيها قوله - تعالى -: [ولا تقف ما ليس لك به علم
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا] [الإسراء: 36] .
كان أستاذنا إذا سئل عن بعض المسائل - وخاصة تلك التي تتعلق بالفرائض
والمواريث - لا يجيب، ويقول: لا أدري، وليس لي فيها دراسة، كما كان يطلب
ممن يطلع على خطأ أو وهم في كتبه أن يبين له ذلك، ويدل عليه، وقد ذكر بعضَ
هؤلاء في بعض كتبه، وشكرهم على صنيعهم، وأخذ برأيهم، وكان يعلن ترحيبه
بذلك بشرط أن يكون المنتقد مخلصاً ويعرض ذلك بأدب الإسلام والحجة والبينة،
وكان دائم المطالعة والمراجعة للجديد من الكتب يستفيد منها، ولذلك كان دائم
التعديل والإضافة للطبعات الجديدة من كتبه، ويعلن ذلك في الدروس والكتب، ولا
تحمله العزة بالإثم والكبر على الإصرار على الخطأ وكتمان الحق، بل كان يتراجع
عن خطئه بكل سهولة وسماحة، وترى ذلك - مثلاً - في مقدمة كتابه: (مختصر
الشمائل المحمدية) ومقدمة كتابه: (سلسلة الأحاديث الضعيفة) .
وبالإضافة إلى ذلك كان في حكمه على الأشخاص - قدماء ومعاصرين -
يميل إلى الإنصاف والعدل كما أمر الله - تعالى - ويجنح إلى التوسط والاعتدال،
فلا يبالغ في الثناء، كما لا يفرط في الذم، وأكبر مثال على ذلك رأيه في الكاتب
الإسلامي الذي كثر فيه القيل والقال بين المغالين والجافين عنه، أعني الأستاذ سيد
قطب - رحمه الله تعالى -، وله شريط قال رأيه فيه بإنصاف ودون تحامل أو حقد، أو مجافاة للحقيقة، أو محاباة لأحد على حسابها.
5 - سعة الصدر والسماحة وخاصة في المناظزة والمناقشة:
كان شيخنا - رحمه الله تعالى - نادرة زمانه في المناظرات العلمية
والمناقشات الفكرية؛ فكان يبدأ نقاشه بتحرير موضع الخلاف بينه وبين مناقشه؛
لأن كثيراً ممن يتناقشون يكون بينهم خلاف لعدم مراعاتهم بيان ذلك أو لاختلافهم في
المصطلحات، فيضيع جهدهم سدى، ويكتشفون فيما بعد أنهم على وفاق، ثم يطلب
من محاوره الكلام وعرض رأيه مع بيان الدليل والبرهان ويستمع بكل أدب وإصغاء
وانتباه إلى حديثه ودون أن يتدخل أو يقاطع، وما أكثر من رأينا من المتناقشين
يكثر المقاطعة والتدخل! ويكون فكره مهتماً بالرد، فيصرفه ذلك عن الانتباه
والوعي لكلام محاوره، فيحدث الشجار والخصام؛ فإذا انتهى محاوره من عرض
رأيه وبيان دليله، أخذ الشيخ بتلخيص كلام محاوره، ثم رد عليه نقطة نقطة بكل
وضوح وجلاء، وإذا أورد الآخر شبهة جديدة، أو جواباً على كلامه عاد فاستمع
إليه ثم أجابه، وهكذا، وقد حضرت بعض مناظراته؛ فكان محاوره كثيراً ما يحيد
عن الجواب حينما يجد الحجة القوية، فيعيده الشيخ إلى الموضوع والنقطة التي
وصل الكلام إليها بكل لطف وأدب.
وقد تعلمنا منه أدب الحوار، وطريقة النقاش، وإن كنت أعترف أنني
وغيري لم نبلغ معشار ما كان عليه من الهدوء والسماحة والانضباط.
6 - نشاطه وحماسته في الدعوة ونشر العلم:
كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد،
كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها؛ فقد كان هناك بعض
المشايخ والدّعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة؛ ولكن كان ينقصهم
الوضوح والصراحة والجرأة؛ فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق
ضيق ومحدود وعلى تخوُّف واستحياء، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث،
فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم، وفيها بعض الغبش.
ولما جاء أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً، وأعلن بكل قوة
وجرأة، ولم يخش في الله لومة لائم، وتحمَّل في سبيل ذلك أنواعاً من الإيذاء
والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة، والسعي للوشاية به إلى الحكام،
وكثيراً ما مُنع من الفتوى والتدريس، والاجتماعات، واستُدعي للجهات الأمنية،
كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة، وأُخرج من أكثر من بلد، ومع ذلك فقد
ظل ثابتاً كالطود، لا يضعف، ولا تلين له قناة، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي
ربه - تبارك وتعالى -.
كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل، يجادل
ويناظر، ويكتب ويدرِّس، دون خور أو ضعف، ودون كلل أو ملل.
وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر؛ وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من
الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل، ومحاربة البدع والمحدثات، ونشر
الأحاديث الصحيحة، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقريب السنة إلى
الأمة، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان، وصارت الدعوة إلى منهج السلف
حديث الناس، وموضع اهتمامهم ودراستهم.
هذه جوانب قليلة من صفات الشيخ الجليل، وهي غيض من فيض: [ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم] [الجمعة: 4] .
رحم الله أستاذنا الألباني وإخوانه الذين سبقوه، سماحة الإمام العلاَّمة صديقه
الوفي المخلص الحميم عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وأسكنهم جميعاً فسيح جناته، وخلفنا من بعده على خير، وآجرنا في مصابنا، وعوض المسلمين عما فقدوه
خير العوض، إنه أكرم مسؤول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،
والحمد لله رب العالمين.(144/132)
المنتدى
الوعد القادم.. إننا قادمون
طارق مجاهد
(ويل لكم) .. نعم هذه الكلمة هي التي سمعتها من أحدهم عندما أخذ يعدُّ أفراد
أسرتي وسأل عن أسمائهم فوجد عددهم كثيراً - في نظره - وذكَّرتْه أسماؤهم
بأسماء بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهم - فلطم
وجهه بيديه حنقاً، وغيظاً والتفت إلى جندية بجواره قائلاً لها: يا ويلي علينا.. يا
ويلي علينا.. يا ويلي علينا!
نعم هكذا وبكل وضوح ... أمر غريب جداً! لقد دهشت؛ ولكن كان عليّ أن
أكمل الطريق لاستكمال إجراءات التفتيش على نقطة العبور.
موقف عجيب يحتاج إلى وقفة للتأمل؛ لأن هذا اليهودي يتنبأ بهلاكه وهلاك
قومه على أيدي المسلمين بمجرد رؤية أطفالهم، وبمجرد تذكر أسماء الصحابة
الكرام؛ فلعله تذكر خيبر أو بني قريظة أو غيرهم من أجداده.
لقد ذعر وارتعد بمجرد السماع والتذكر ولطم خده غيظاً. إنه ينتظر الوعد
بهلاكه وهلاك قومه على أيدي المسلمين؛ والعجيب في الأمر أن كثيراً من أبناء
المسلمين لا ينتظر هذا الوعد؛ بل لربما نسيه أو تناساه؛ بل إن بعضهم لا يعرف
عنه شيئاً وكأن المعركة انتهت والصراع توقف عند هذه النقطة السوداء: القدس
بأيديهم، وبأيدينا الفتات والسراب، لقد تخدرت مشاعر بعض المخدوعين بالوعود
المعسولة والآمال المنشودة والكلمات الرنانة عن التعايش السلمي والحب والوئام
وانتهاء الحروب، إلا أننا:
قد مللنا الوعود من كل ... وغد وعميل وخائن ومرابي
رفعوا راية الجهاد وأغفى ... جمعهم بين قينة وشرابِ
والملايين ترقب النصر حتى ... غدوا بين مهمه وسرابِ
واليهود هم اليهود قتلة الأنبياء والأبرياء؛ فهم يثبتون للجميع يوماً بعد يوم
أنهم شعب حقير يوقد نار الحرب ويسعى لذلك كلما سنحت له الفرصة وكلما لاحت
في الأفق بوادر الخلاف؛ فهم كما أنبأنا الله بخبرهم: [كلما أوقدوا نارا للحرب
أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين] {المائدة: 64} فهم
المفسدون الذين يسعون سعياً حثيثاً للإفساد فيها بكل الصور والوسائل.
لقد أصبحت القدس الأسيرة من أبعد الآمال عند كثير من ضعفاء النفوس، إن
لم تكن أصبحت خيالاً مضى كان يداعب فكرهم في زمن مضى أيضاً.
ولكن الأمل يحدونا ونحن على علم أن الليل يعقبه النهار، وأنه عند اشتداد
الظلمة يقترب الفجر، وأن أشد الساعات حلكة هي التي يعقبها الضياء والعاقبة
للمتقين. والأمة إن ضُيِّق عليها في دينها وأهينت مقدساتها؛ فهي تغلي وتقذف
بغضبها وتصبه على أعدائها انتقاماً للدين الذي ارتضاه لها ربها.
وإن فرط من فرط وتخاذل من تخاذل وضعف من ضعف وتولى من تولى
فهناك من لا يفرط ولا يتنازل ولا يتخاذل ولا يضعف ولا يتولى، بل يقدم ويتمسك
ويقوى كلما ازداد العدو كيداً وحرباً، والنصوص الصحيحة الصادقة تعدنا بذلك،
والتاريخ يشهد، والأيام دول، قال - تعالى -: [وتلك الأيام نداولها بين الناس] {آل عمران: 140} ولنا ألف عودة وعودة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) [1] .
إن الأعداء يذكون ناراً تستعر وستحرقهم عما قريب.. يوقدونها بالدماء
وانتهاك الحرمات والمقدسات والتشريد والهدم والمصادرة والاستهتار بالقيم
والمشاعر والمراوغة والحصار، كل هذا لن يمر سديً ولن يُتركوا عبثاً؛ فلهم
موعد ويوم أسود بسواد قلوبهم وأيديهم وصفحاتهم عبر التاريخ.
إن البشائر بالانتصار عليهم كثيرة جداً؛ بل هي مستقرة في نفوس بعضهم
أكثر من نفوس بعض أبناء المسلمين مع الأسف؛ فمتى يستيقظ أبناء الأمة؟
__________
(1) مسلم , ح / 3547.(144/136)
المنتدى
التفكير العلمي
عبد العزيز اليحيى
التفكير: إعمال العقل لحل قضية أو لاقتراحات أخرى يتلمس منها ما بمكامنها
من خفايا أو خبايا سلباً أو إيجاباً، وما تخلف هذه القضية بعد ذلك ليخرج بعدها
بحلول أو اقتراحات لتلك القضية تنتج له عصارة فكر متميز ليحولها إلى واقع
وتطبيق عملي تسعد به الأمة ليَحْيَا لها مجدها التليد الذي ضاع على أيدي أناس
يفكرون بطريقتهم؛ فلنفكر نحن لنعيد الذي أخذ منا بتفكير.
قال ابن القيم - رحمه الله -: إن مبدأ كل علم نظري أو عمل اختياري هي
الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات،
والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. ا. هـ.
والله - عز وجل - وهب الإنسان فكراً ونظراً وعقلاً ميزه عن كثير من
مخلوقاته، يستطيع من خلاله إنشاء أعمال عظيمة كانت بدايتها فكرة أو لربما
خاطرة.
قال البخاري - رحمه الله -: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال رجل من
أصحابنا: ألا تعملون كتاباً يجمع الأحاديث الصحاح؟ - ولم يكن قبل ذلك كتاب
يجمع الصحاح فقط - فكانت فكرة لي حتى كتبت الصحيح. أ. هـ.
تأمل أخي الكريم! كيف أن البخاري ألف كتاباً سارت به الركبان وشرقت
وغربت، كانت بدايته بداية بسيطة كبداية أي عمل، إنها فكرة، وكم قدم البخاري
بعد هذا باستغلال الفكرة! ولذا فلا بد من استغلال الأفكار الإبداعية كما استغلها
البخاري - رحمه الله -. إن أكثر الناجحين من العلماء أو المفكرين أو الأثرياء
والمبدعين إنما تميزوا باستغلال الأفكار الإبداعية.
وقرر علماء النفس والإدارة أنه لا بد من أن يجعل الإنسان لنفسه وقتاً خاصاً
للتفكير ولو كانت دقائق معدودة أو ثواني محدودة.
ومن الملاحظ أن الإنسان كثيراً ما يستخدم حواسه ويستخدم جوارحه؛ ولكن
غالباً ما يكون معطلاً للعقل إلا في التفكير الساذج. إما في عيش البهمية [أولئك
كالأنعام بل هم أضل] {الأعراف: 179} أو حياة الذل والهمجية، ولو رجعتُ بك
قليلاً لتقليب صفحات الذكريات وشريط الحياة لأقول لك: يا تُرى! كم قدمت لأمتك
ولدينك من خلال تفكيرك؟ لذهلت ولرأيت أمراً عجباً؛ فتأمل هنا لترى حقاً ذلك
الوضع البئيس الذي نعيشه ويعيشه معظم المسلمين اليوم، ومع كل هذا التعطيل
لملكة التفكير ففي المقابل يستطيع البشر أن يقيدوا الأيدي والأرجل بالسلاسل
والأغلال وأن يكمموا الأفواه ولكن لا يستطيعون أبداً أن يعطلوا عقلك عن التفكير
إلا بإذهاب عقلك.
أخي الحبيب! أضرب لك مثالاً مشاهداً ملموساً يعقله كل ذي عقل وبصيرة أو
من ألقى السمع وهو شهيد: شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرجل الذي استحق لقب
شيخ الإسلام، سجنه أعداؤه في سجن القلعة في دمشق لما رأوه ينكر المنكر ويعرِّف
بالمعروف، وعُذِّب وأوذي في الله وابتلي ليخرج مؤمناً حقاً شيخاً جليلاً.
أخي الحبيب! قد تتساءل: لماذا كل هذا التعذيب والاضطهاد لشيخ الإسلام؟
فأقول لك: إنه إن كان معطلاً عن العمل في كل شيء فهو لم يعطل عن التفكير،
إنه يفكر. إن كل هذا التعذيب والاضطهاد والخوف من ذلك الشيخ - مع كل ما به
- كان لأنه يفكر.
يقول - رحمه الله -: (أنا جنتي وبستاني في صدري) ، نعم إن الجنة
والبستان للمؤمن ليس في اليد ولا في الرجل، وإنما في القلب.
إن شيخ الإسلام مع أنه سجين إلا أنه يفكر، أما أنت - يا طيب الجسم - مع
أن الله أعطاك قدرات ومواهب وطاقات إلا أنك مع ذلك لست تفكر إلا في سفاسف
الأمور وسفسافها!
إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تفكير وإلى أناس يفكرون، وإن ما وصل إليه
الأعداء من أعمال وابتكارات ما هي إلا المرحلة الثانية بعد التفكير؛ فتجدهم
يفكرون طويلاً ليخرجوا لنا بابتكارات وأعمال تخدم دنياهم.
وهم على ضلال يفكرون. أما نحن مع أننا على الحق إلا أن كثيراً منا لا
يفكر.
أضرب لك مثالاً: في المؤتمر الذي عقد عام 1897م وضع اليهود مخططات
لقيام دولة (إسرائيل) بعد 50 سنة، وفعلاً تحققت لهم بعد ذلك.
أتعلم من الذي يفكر؟ إنهم اليهود الجبناء الذين [لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى
محصنة أو من وراء جدر] {الحشر: 14} ومع كل هذا الجبن والخور المتأصل فيهم
إلا أنهم يفكرون ... ؟ ! ولو أن شباب الإسلام في مدينة واحدة بدؤوا يفكرون بعد
تأمل وتألم في واقعنا وفي مستقبلنا فكم سيكون لدينا من المشاريع الخيرة الناجحة؟
مع أنهم في مدينة واحدة فكيف لو أن كل مسلم فكر؟ حينئذ: نعيد ماضينا ومجدنا
السليب بالتفكير ثم بعد ذلك بالعمل.
وبعد؛ فإن التفكير لا بد أن يخلف آثاراً نفسية على الإنسان ترغمه أن يحول
تلك الأفكار إلى واقع وحال، إلا من سلب روح العمل. والفكرة بلا تطبيق كالزهرة
بلا رحيق.
فبعد أن تتوصل إلى منتهى مراميك وغاية مقاصدك في التفكير.. فهناك:
تحول تلك الأفكار إلى واقع مشاهد ليخرُج لنا جيل يفكر ويعرف كيف يفكر،
ولنقول للغرب بلسان حالنا: نحن - المسلمين - الذين حرروا العقول بالأمس من
تخبط الجاهلية العمياء، ونحن - المسلمين - الذين يحررون العقول اليوم - إن
شاء الله - من تخبط الجاهلية المعاصرة.
نسأل ذلك من العلي القدير، وليس ذلك على الله بعزيز.(144/137)
الورقة الأخيرة
المشهد الأخير من رحيل الألباني.. رحمه الله
د. محمد محمود أبو رحيم
لقد ذكرني المشهد الأخير من جنازة الشيخ أبى عبد الرحمن بأول لقاء معه
رحمه الله قبل ثلاثين عاما؛ حيث كنت يومها متدثرا بلباس التصوف، أمرغ الخد
على أعتاب أشياخه.
يومها كان الجهل قد غرر كانون2 بكسب كان للأشياخ نصيبا مفروضا في
صناعته، لم يكن جهلا بالحلق والذكر والخلوات البدعية؛ فقد أتقنها حتى غاليت
في بعضها، فوجدتني قد نذرت للرحمن صوما إلا عن شيخي في الطريقة الذي ولد
في نفسي قدرته المزعومة على فتح المغاليق إلى ملك لا يبلى.
يومها كنت جاهلا بما يدور حولي، وحول من تدور عليهم دعاوى التجهيل
والتضليل؛ فكان ما كان مني نحو الشيخ أبي عبد الرحمن ومنهجه من كوامن ضدية
دفعتني لسؤاله وأنا تحت تأثير خلفيات التحدي: لماذا تحارب الأئمة الأربعة؟ هكذا
كان يشيع من لم يرقهم طريقته السلفية.
لم يكد يخرج السؤال من بين شفتي وأنا شاب في السنة الأولى في كلية
الشريعة حتى وجدت برد كفه الناهم يأخذ بكفي نحو مقعد جانبي يحاورني بكل هدوء.
خرجت من عنده وقد علتني دهشة دفعني فضولها إلى مواصلة لفائه والتعرف
على ما عنده رحمه الله فإذا كانون2 أقف على عالم متخصص، ومحاور عنيد،
يحيي السنة ويميت البدع، داعية إلى التوحيد الخالص، حرب على الشرك بأنواعه، تعلوه نضرة الحديث.
شهوده زواجي من فتاة سورية اختارها لي زوجته خديجة قادري، وشهد لي
بمتابعة الدراسة العالية في جامعة أم القرى شهادة مكتوبة حفظت في ملفي الشخصي.
انقطعت لطلب العلم، ولم انقطع عن الشيخ رحمه الله وفي أثناء ذلك وجدت
الشيخ قد اصطدم بثلاث فئات من الناس:
الفئة الأولى: فئة العلماء الذين يقرون له بالفضل والسبق في العلم؛ حيث
ناقشوه مناقشة العالم للعالم، لم يخرجهم خلافهم معه عن حسن الأدب للتقدير للشيخ
رحمه الله كان منهم: الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله والشيخ الأنصاري، والشيخ
عمر فلاتة، وغيرهم كثر.
الفئة الثانية: فئة المتسلقين من الأصاغر الذين وجدوا في كتف الشيخ رحمه
الله ورعايته وتوجيهه مخرجا مقنعا لهم وفجوة يعبرون من خلالها لتحقيق أحلامهم
وتعويض إخفاقهم على مقاعد الدراسة.
الفئة الثالثة: فرق الضلال وأهل الانحراف فقد أوجعوه تجديعا، يحدوهم
التعصب والهوى والتقليد الأعمى، فصال عليهم رحمه الله بحجته: قال الله، قال
رسوله. فبدد شمل أدلتهم، وبين قصر فهمهم، وأعاد الراحلة إلى جادة الطريق.
استغل هؤلاء والحاسدون بعض كبوات الشيخ رحمه الله ظنا منهم أن الفارس
قد هوى، وغاب عنهم أن اجتهاد العالم مأجور عليه غير مأزور؛ لكنه العمى أطفأ
نور الحق من الصدور فغابت عنهم أشياء وأشياء.
وقبل انسدال المشهد الأخير من حياة الشيخ دفعني الشوق إلى عيادته في
مرض موته مع جمع من أهل العلم والفضل، فرأيت جسدا قد علته صفرة
الرحيل وغلبه النحول وتمكن داء الهرم، قبلت يده ورأسه فرد بصوت خافت هادئ
ينبئ عن ذهن حاضر لم يختلط، حمل بعضنا أمانة إبلاغ سلامة إلى أحبابه، وما
هي إلا أيام معدودة حتى فاضت روحه فأدركته يوم الدفن، وانسدل الستار على
جسد إمام من أئمة المسلمين ليلحق بمن سبقه من علماء الأمة العاملين.
اللهم ارحم عبدك الألباني، وأكرم نزله ووسع قبره مد بصره، وتجاوز عما
بدر منه اجتهادا أخطأ فيه؛ إنك سميع مجيب الدعاء.(144/139)