وقفات
براءة اختراع
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من مجاهل الأزقة المهجورة (العدامة) ثم (الشميسي) إلى أعشاش (شقة
الحرية) .. توثيق وتأريخ لأنشطة رجالات الأحزاب القومية والبعثية والثورية،
فيها جرأة فكرية واضحة ممزوجة بجرأة غير أخلاقية مقززة ومفتعلة وكأنها تقول:
كانت تلك هي البذور الأولى للرفاق المناضلين، وها هي ذي ثمراتها.
تمثل هذه الروايات حالة التمرد والغليان الفكري من الخمسينات إلى السبعينات
الميلادية التي كانت تضطرب بها الأمة العربية، ولكنها خرجت في شكل تمرد على
القيم والأخلاق والثوابت الفكرية والجذور التاريخية، ثم انتهت إلى حالة التشتت
وضياع الهوية الفكرية التي كانت تسيطر على الشباب العربي في تلك الفترة. وكان
من إفرازات ذلك: الالتفاف حول الشعارات الثورية، والجري اللاهث وراءها ظناً
منهم أن فيها الخلاص والمخرج من المأزق الذي تعيشه البلاد العربية. كانت
الشعوب العربية تردد بكل غفلة: (من الخليج الثائر.. إلى المحيط الهادر.. لبيك
عبد الناصر) ! وكانت الأكف لا تفتر عن التصفيق، والتسبيح بحمد القيادات
الثورية.
ظلّت تلك الشعوب تسْبح في خيالات من الوهم الزائف، وكأنها قد ملكت زمام
الأمور، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من النصر! وإذا بها تستفيق من غفلتها بعد
أن دُكّ الطيران المصري وهو على أرضه.. وظهرت الفضيحة المدوية، التي لم
تغطّ عليها إلا بيانات (صوت العرب) التي تبشر بالنصر المؤزر، وإخفاق الخطط
الإمبريالية؛ فالقائد (البطل) ما زال حيّاً..!
تربى شباب (الحرية) و (العدامة) على مبادئ الرفاق: ماركس، ولينين،
وجيفارا، ورددوا شعارات ميشيل عفلق، وياسين الحافظ، وتقلبوا في أحضان
القومية والماركسية والبعث الاشتراكي. وبغضّ النظر عن الرمزية في تلك
القصص ومدى الصدق في أحداثها وأسمائها، إلا أن فيها دلالة واضحة على الخلفية
الفكرية لتلك الرموز الفكرية.
ودعونا نسأل هنا سؤالاً عابراً [1] ! : ها نحن نصل إلى نهاية التسعينات
الميلادية، وبعد أن خبا صوت تلك الشعارات الثورية الزائفة؛ فما الذي جناه
العرب من تلك الشعارات والأحزاب (النضالية) ؟ ! وما الذي استطاع أن ينجزه
هؤلاء الرفاق بعد مسيرة طويلة من التمرد والسخرية من (مخلفات) الماضي وتقاليده
(البالية) ؟ !
إنها حالة من التيه والتطلع إلى السراب في صحراء لاهبة محرقة لا خضرة
فيها ولا ماء.. حالة من التخبط والتردي جرّت الأمة من مأزق إلى مأزقٍ، وكانت
النهاية في (سلام الشجعان!) ، ثم نرى الرؤوس ثانية تستدير من الشرق الأحمر
حيث يسقط المنجل والمطرقة، إلى الغرب الأبيض حيث يرتفع تمثال الحرية..! !
إن تزييف الحقائق، وتغيير اللبوس، وإجادة فنون التقلب والتشكل، لن يغير
من الحقائق شيئاً على الإطلاق، فهل يعي هؤلاء مقدار الدمار والخزي الذي جَنْوه
على هذه الأمة؟ .. أم أن مقتضيات المرحلة تستدعي اكتشاف شعار جديد لينال
أصحابه براءة اختراع نضالية..؟ ! !
__________
(1) أحد أبطال قصة العدامة والشميسي اسمه: (هشام العابر) ! .(137/76)
نص شعري
مِنْ وحْيِ الهِجْرة
أحمد حسبو
ها قد أهلّ على الوجودِ (مُحَرّمُ) ... فالكونُ يزهو والحياةُ تَبسّمُ
ترنو إلى ركبِ النبي وقد مضى ... تَبْكيه مكةُ والمَقَامُ وزمزمُ
عوّدتُ نفسي الاحتفالَ بهجرةِ الْ ... هادي الْبشيرِ، وعطرَها أتنسّمُ
لكنْ على الوجهِ الذي أبصرتُهُ ... عن حبِ خير المرسلين يُترجِمُ
فاخترتُ من شعرِ المديحِ قصيدةً ... أنشدتُها ووجدتُني أترنّمُ
وحَسِبتُ أني قد بلغْتُ ذرا التقى ... بل ليس مثلي في المحبة مسلمُ! !
وإذا بأعماقي دويّ صارخٌ ... يا غافلاً حتّى متى تتَوهّمُ! !
حتى متى والقولُ قد زخرفْتَهُ ... والفعلُ يفضحُ ما تقولُ وتزعُمُ
لمّا عَجزْتَ عن اتباعِ (محمدٍ) ... أَقنعْتَ نفسَكَ بالكلامِ، ودُمْتمو!
ماذا اقترفتُ لكي تراني واهماً ... أَلأَنّنِي بهوى النّبيِ مُتيّمُ؟ !
إني أرى حبّ النبي عبادةً ... ينجو بها يومَ الحسابِ المسلمُ
فأجابني: حبّ النبِي عبادةٌ ... فرضٌ على كل العبادِ محتّمُ
لكنْ إذا سَلَكَ المحبّ سبيلَهُ ... متأسّياً وَلِهدْيِهِ يَتَرَسّمُ
هل ضيّعَ الإسلامَ إلا قائلٌ ... أفعالُهُ تنفي المقالَ، وَتْهدِمُ؟
فالقدسُ ضاعت من كلامٍ دونما ... فعلٍ يؤيد قولَهم، ويُتَرْجِمُ
والطفلُ ملّ من الكلامِ؛ وليتهم ... يَدَعُونه يرمي اليهودَ، ويَرْجُمُ
والعدلُ ملّ من الكلامِ؛ وقد رأى ... مَنْ يَدّعي عدلاً يجورُ، ويَظْلِمُ
والطهرُ ملّ من الكلامِ؛ وطالما ... زعمَ الطهارةَ داعرٌ لا يَرحمُ
حتى البطولةُ أَعْلنتْ إضرابَها ... لما ادّعاها من يَخافُ، ويُحْجمُ
فَصَرخْتُ: كُفّ القولَ؛ قد أَخْجَلْتَنِي ... وكلامُك الحقّ الذي لا يُكْتَمُ
تعني بهذا أن يجيء (محرمٌ) ... ويروحَ عنّا دونما يُستَلْهَمُ؟
فأجابني: كلاّ فهجرةُ (أحمدٍ) ... فيها الدروسُ لمن يُفيد، ويَفْهمُ
درسُ التوكلِ خالدٌ عنوانُهُ ... (الله ربي) يستجيبُ، ويعصِمُ
والأخذ بالأسبابِ درس مشرقٌ ... والعبقريّة باسم ربك ترسُمُ
فَهُنَا (عليّ) في الفراشِ مُدثرٌ ... يُلْهي عيونَ المشركين، ويوهِمُ
وهناك (أسماءُ) الأريبةُ أصْبَحَتْ ... مَثَلاً لكُلّ المسلماتِ يُقَدّمُ
وشقيقُها الشّهمُ الأبيّ، ودورُهُ: ... يأتي النبيّ بما يُحَاك ويُبْرَمُ
ويجيءُ (عامرُ) بالشياهِ يسوقُها ... نشوانةً، تمحو الخطا، وتُعتّمُ
حتى الدليلُ [1] على الطريق أتى بهِ ... ما قال أمشي، ثم ربي يُلْهمُ
تَمْتمتُ: قد تعِبَ الرسولُ مهاجراً ... بأبي وأمي كم له أتألُم!
فأجابني: قد كان ربّكَ قادراً: ... أن يستجيبَ المشركون، ويُسْلموا!
ما كان يُعْجِزُهُ انتقالُ رسولِهِ ... فوق الْبُراقِ؛ وأهلُ مكةَ نُوّمُ! !
لكنهُ الإسلامُ ليسَ بنزهةٍ ... دربٌ يُراقُ على جوانبهِ الدّمُ
ردّدتُ وَا أسفى على عمْرٍ مضى ... في غفْلةٍ؛ والآن كم أتندّمُ!
يا مسلمون: لهجرةِ الهادي ارجعوا ... واستوعبوا لدروسِها، وتعلّموا
__________
(1) الدليل: المقصود به عبد الله بن أريقط.(137/78)
المسلمون والعالم
(تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى)
الأحزاب الصهيونية في الانتخابات
رؤية صهيونية
باسل يوسف النيرب
حالة التذمر التي مر بها حزب الليكود بعد سلسلة من الأزمات التي أصابته
منذ تولي بنيامين نتنياهو الحكم وحتى تحديد موعد الانتخابات المبكرة الحالية جاءت
بسبب تصرفات نتنياهو التي أجملتها (نوريث بيلد أبلكنهان) بأنه يميل إلى رؤية
الحياة لعبة، ويتصف بشكوكية غريبة تجاه أقرانه؛ فليس هناك من هو أهل للثقة
لديه، وتضيف: كنت أعتقد بحكم ذكائه أنه مؤهل ليكون أشبه بزعيم مافيا أو زعيم
عصابة؛ فهو يعتقد أن العالم غابة.
بدأت الخلافات داخل الليكود عندما انسحب (دان مريدور) وأكد أنه نوى
الانسحاب قبل عام ونصف عندما كان وزيراً للمال، ويعترف مريدور أنه لم يجد
من يسانده في منافسة نتنياهو، مؤكداً أنه لا توجد احتمالات لاستبداله، ويحمله
مسؤولية التدهور الاقتصادي الذي تعيشه (إسرائيل) ؛ فقد ارتفع معدل البطالة في
عهده ووصل إلى 8. 7%، وحقق النمو الاقتصادي أدنى معدل له منذ عشر
سنوات وبلغ نسبة 1. 9%، وقفز التضخم لنسبة 9%، وتشير الإحصاءات
الإسرائيلية إلى أن 700 ألف إسرائيلي يعيشون تحت خط الفقر، مما يؤكد أن
(إسرائيل) تشهد أزمة خطيرة، وأن لا أحد يصدق أقوال نتنياهو لا من أعضاء
الكنيست ولا من أعضاء الليكود ولا من خصومه أو أصدقائه.
تناولت الأخبار نية (أرييل شارون) صاحب المواقف الأكثر حدة في حزب
الليكود ترشيح نفسه لمنافسة نتنياهو على رئاسة الليكود للانتخابات القادمة، وأعلن
عن احتمال ترشيح نفسه للانتخابات القادمة في ظروف خاصة، ولكن العلاقة بين
نتنياهو وشارون تُعدّ بمثابة الورقة الرابحة لنتنياهو؛ فهو بحاجة لحشد المتطرفين
والمستوطنين والقوميين الدينيين، وفي الوقت نفسه يتهم شارون نتنياهو بأنه دمّر
الحزب وأن إصلاحه بات صعباً جداً، ومع هذا؛ عادت الوحدة من جديد إلى
الطرفين لمصالحهما المشتركة، وطالب شارون من تكتل الليكود الالتفاف حول
نتنياهو الوحيد القادر على الفوز في الانتخابات القادمة.
(إيهودا ألمرت) صاحب الحيل الملتوية والمعروف بانتهازيته، أعلن عن
نيته: الترشيح لمنافسة نتنياهو على زعامة الليكود؛ ولكنه تراجع؛ لأن ظروف
الترشيح لم تتضح بعد، وكان (عوزي لاندو) رئيس لجنة الخارجية والأمن أعلن
عن منافسة نتنياهو، وطالب من أعضاء الليكود التغيير والعودة إلى الجذور الداخلية
لحركة حيروت اليمينية والدفاع عن (الشعب الإسرائيلي) على أرض إسرائيل،
واتهم نتنياهو بأنه يعمل على تغيير موقفه وفقاً لمقتضيات الساعة.
وقد أكد (موشي أرينز) المرشد السياسي السابق لنتنياهو في أوائل الثمانينات،
والذي قدمه إلى الساحة السياسية وعمل وزيراً للخارجية من 1988 1992م،
ووزيراً للدفاع مرتين 1983 1984، 1990 1992م، أكد أن نتنياهو مسؤول
عن انشقاق كبار الحزب، وأنه تم ترشيحه لمنافسة نتنياهو بناء على طلب من كبار
قادة الحزب.
ومما يعرف عن أرينز أنه ضد الاتفاقية المصرية الإسرائيلية، ومن معارضي
الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، وخلال توقيع اتفاقية أوسلو أعلن أن السلام مع
الفلسطينيين لا رجعة عنه، وأن قيام دولة فلسطينية أمر حتمي.
أما (إسحاق مردخاي) فمنذ ما بعد اتفاق الخليل إلى استقالته الفعلية فُرض على
الليكود، وخاض الكثير من المناورات، وهدد مراراً بالانسحاب من الحكومة
والحزب، ولكن نتنياهو حافظ عليه وجذبه إلى وسطه لضمان بقائه مع مؤيديه
داخل التكتل.
ومنذ أن بدأ ماراثون الانتخابات الإسرائيلية، وكافة القوى والأحزاب تنتظر
موقف مردخاي لكونه سيبدل موازين القوى للأحزاب، فوعده إيهود باراك
بالمنصب الثالث في الحزب بعد شمعون بيريز. وقادة حزب الوسط وعدوه
بالمنصب الأول، ونال هذه المرتبة.
جاءت بداية النهاية لمردخاي بحزب الليكود عندما أعلن مع نهاية 1998م،
أنه يفكر بمستقبله في الليكود. وقال: أنا اليوم في الليكود، وإذا توصلت إلى نتيجة
مختلفة فسأعلن ذلك. وكان مردخاي قد انتقد أسلوب تطبيق اتفاقيات السلام مع
الفلسطينيين. ومما زاد من وضعه تعقيداً ترحيبُه بمحاولات الانشقاق عن الليكود
وترحيبه بمنافسة أمنون شاحاك على الانتخابات العامة، كما توالت اللقاءات بين
نتنياهو ومردخاي مما أسفر عن تعهد مردخاي بدعم نتنياهو في انتخابات اللجنة
المركزية لليكود مقابل تعيين مردخاي وزيراً للدفاع في الحكومة القادمة. ولكن
الاجتماع الذي عقد مع قادة حزب الوسط وتسربت الأنباء عنه أضعف فرص
مردخاي للبقاء في الليكود، إضافة إلى رفض مردخاي أن يكون على قوائم الليكود، وهي الخطوة التي عجلت بإقالته، وبالطبع فإن مردخاي سيأخذ بعض أصوات
الشرقيين من تكتل الليكود مما سيعزز فرص إسقاط نتنياهو.
يضاف إلى ذلك حالة الانقسام التي سببها بنيامين بيجن الذي شكل حزبه
الخاص (حيروت) ، وكان والده قد أسسه قبل الاندماج مع الليكود، وقد انخرط
بيجن الابن بالحياة السياسية بعد رحيل والده، وفي الوقت الذي يمارس فيه بنيامين
بيجن دوره مرشحاً للانتخابات تحاول الأحزاب اليمينية دفعه إلى التراجع لصالح
حزب الليكود ومرشح اليمين بنيامين نتنياهو متذرعة بأن احتمالات فوز بيجن الابن
بالنسبة إلى نتنياهو متدنية.
لا بد من التأكيد على أن الليكود عبارة عن سلسلة من الأحزاب اليمينية
الصغيرة المندمجة، والملتفة حول شعار: (إسرائيل الكبرى) والمعارضة للاتفاقيات
السلمية، وقد أثّر التصريح الذي أدلى به نتنياهو عشية انتخابات 1996م: أنه مع
أوسلو وذلك لضمان أصوات المترددين من الوسط إضافةً إلى تنفيذ الانسحاب من
الخليل وتوقيع اتفاق واي ريفر والتراجع عنه، أثر ذلك في التعجيل بالانقسامات
الداخلية في الحزب، كما أن أسلوبه في الإدارة والحكم أدى إلى خروج الزعامات
التاريخية من الحزب، فأحاط نفسه بمجموعة صغيرة عملت على اتخاذ القرارات،
إضافة إلى أنه أسند الوظائف الإدارية لفئة من جماعته التي سيطرت على الحزب
والحكم.
تشتت حزب العمل:
حالة حزب العمل ليست بأفضل من الليكود؛ فبعد صعود نجم (أيهود باراك)
على حساب كثير من الشخصيات العمالية بدأ الحزب الذي شكل كل الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة من 1948 1977م يعاني من التفكك بسبب القيادات الشابة
الجديدة.
وأُولى الأزمات التي تعرض لها الحزب كانت طلب باراك تعيين أربعة من
المرشحين للانتخابات القادمة من خارج الحزب لضمان بقائهم في القائمة المنوي
تشكيلها. ومن الشخصيات التي طرحت في بداية الخلاف ديفيد ليفي وإسحاق
مردخاي وأمنون شاحاك، ورأت قيادة حزب العمل في هذا الإجراء ممارسة
دكتاتورية؛ لأن باراك يريد فرض رجاله على الحزب، وقبل أن يعدل باراك موقفه
هاجمه كل من حاييم رامون وعوزي برعام ويائيل ديان.
أعلنت نتائج الانتخابات الداخلية لحزب العمل التي شارك فيها 96 ألف عضو
من أصل 160 ألف عضو، وقد لوحظ على قائمة حزب العمل ارتفاع نسبة اليهود
الشرقيين في قائمة الحزب؛ ففاز: البروفسور شلوم بن عامي وهو يهودي شرقي
ومؤيد لعملية السلام على أساس الانسحاب التام من الأراضي المحتلة 1967م،
وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب (إسرائيل) ، ويوسي بيلين مهندس اتفاق أوسلو،
وأربعة آخرون من اليهود الشرقيين في الصفوف القيادية ومنهم: بنيامين بن أليعزر
وزير الإسكان في حكومة رابين ورئيس قسم التنظيم في الحزب وهو من أصل
عراقي، وشلو لحيان الذي انضم إلى الحزب مع عدد من أعضاء المجالس البلدية،
وإلي بن عامي، وداليا اتسك وهو رئيس الفريق الإعلامي في حزب العمل،
وفازت المرأة العربية ناديا الحلو وهي من يافا بالمرتبة 49، ونواف مصالحة،
وصالح ريف نائب رئيس الكنيست ويمثل العرب الدروز في (إسرائيل) .
الوسط القادم إلى الصراع:
شكّل الحزبَ أمنون شاحاك، وينتمي إلى المدرسة السياسية القديمة، ويصف
شاحاك نفسه بأنه معتدل سياسياً ويؤيد السلام، وأكد في مقابلة له بعد إعلانه ترشيح
نفسه للانتخابات أن عملية السلام لا بد أن تتحرك، ولا بد من التوصل رغم
الصعوبات إلى حلول وسط.
اعتزل شاحاك العمل العسكري بعد حياة عسكرية استمرت 36 عاماً ليعلن
ترشيح نفسه للانتخابات القادمة للتغيير.
لم ينشأ الحزب وفق قاعدة أيديولوجية محددة بل ظهر كالفقاعة فجأة، وتعود
بداية الحزب إلى استقالة دان مريدور من حزب الليكود وإعلانه أنه سينشئ حزباً
جديداً هدفه هزيمة نتنياهو في الانتخابات القادمة، أو أي انتخابات مبكرة، وحزب
الوسط الذي نشأ على يد سفاح قانا شاحاك ليس وسطياً بمعنى الكلمة؛ لأن الكلام
عن (إسرائيل) الجديدة والمصالحة والوفاق وإزالة الحواجز وتقريب قلوب اليهود من
العلمانيين والمتدينين والشرقيين والغربيين واليمين واليسار حديث شامل للجميع ولم
يكن في يوم من الأيام حكراً على أحد.
ينتمي شاحاك إلى صفوف القادة في الجيش الإسرائيلي، وكان إسحاق رابين
قد ضمه إلى مباحثات السلام مع الفلسطينيين عام 1995م. وفي حكومة نتنياهو
وبعد أن تراجع دور العسكريين جاء إلى الوسط.
إلا أن فرص صعود حزب الوسط إلى سدة الحكم بعيدة المنال؛ فبعد أول
مؤتمر صحفي خسر شاحاك الكثير من بريقه، ففرص صعود حزب الوسط لن
تكون سهلة؛ فأصواته من الناقمين على نتنياهو والهاربين من حزب العمل بقيادة
باراك والكثير من الأصوات العائمة التي تحدد موقفها يوم الاقتراع، ولكنه قادر
على الإضرار بمصالح الليكود وغير قادر على إدارة شؤون (إسرائيل) إلا مع حزب
العمل.
الأحزاب العربية:
تشير دائرة الإحصاءات الإسرائيلية إلى أن العرب من سكان فلسطين المحتلة
1948م بلغوا مليوناً و400 ألف نسمة يمثلون ما نسبته: 18 20% من نسبة سكان
فلسطين. وتتعدد الأحزاب العربية في الساحة السياسية الإسرائيلية وتتنوّع: فمن
التيار الشيوعي إلى القومي تتقاسم الأحزاب العربية مقاعدها في الكنيست، ولكن
العامل المشترك أمام هذه الأحزاب هو الدفاع عن قضايا الخدمات العامة
والاصطفاف لزيادة المعونة الاجتماعية وغيرها من قضايا التأمينات لصالح الطبقات
الفقيرة.
تُجْمع الأحزاب العربية أن الانتخابات القادمة ستكون مصيرية بالنسبة لعملية
السلام وخاصة على الصعيد الفلسطيني الإسرائيلي، وإذا تمكن اليمين من الصعود
مرة أخرى فسيكون بسبب أصوات اليمين المؤتلفة حول (إسرائيل الكبرى) أما
أصوات العرب فستكون لإحدى الجماعتين: العمل أو الوسط.
فوضى حزبية:
مع الإعلان المبكر عن الانتخابات عجت الساحة السياسية الإسرائيلية بالعديد
من الأحزاب التي ظهرت بسبب الانتخابات، كما أن العديد من الأحزاب شكلت لها
علاقة بالتحالفات الانتخابية.
1- حزب اليهود الروس: وهم الذين يبلغون مليون مهاجرٍ وقد شكلوا حزبهم
الثاني مؤخراً باسم: (إسرائيل بيتنا) على يد المنشق عن الليكود أفغدور ليبرمان.
ويؤكد ليبرمان أن الحزب شُكّل ليناضل ويدافع عن حقوق الأفراد ضد النخب
التقليدية في الدولة وتكتل الليكود وليحافظ على اللغة والعادات والتقاليد الروسية،
بعد رفض المجتمع الإسرائيلي اندماجهم. وقال ليبرمان إن حزبه الجديد هو عبارة
عن الليكود.
2- حزب عم أيهاد: تصاعدت حمّى الأحزاب مما دفع بأمين عام الاتحادات
النقابية الهستدروت عامير بيرتيز أن يشكل حزب (عم أيهاد أي: شعب واحد)
ويميل الحزب إلى مصالح العمال، كما أسست حركة ميماد حزباً سياسياً يميل نحو
اليمين المتطرف بعد الانشقاق عن الحزب الوطني الديني، وضربت الحمى
عارضة الأزياء الإسرائيلية ينينا روزنبلوم فسجلت حزباً جديداً لخوض غمار
الانتخابات القادمة تنوفاة وأكدت أنها تحلم بالتغيير الذي لا يتم إلا عن طريق الدخول
في البرلمان، وتعرف ينينا الحزب أنه من تيار الوسط، وتؤيد اتفاقيات السلام بين
إسرائيل والفلسطينيين ما دامت تُنفّذ بشكل مسؤول. وفي الوقت نفسه توجه
اهتمامها نحو المشاكل الداخلية، وتأمل أن يحصل حزبها على ثلاثة مقاعد في
الانتخابات القادمة.
3- حزب الفلاشا: شكل المهاجرون الأثيوبيون (الفلاشا) حزباً جديداً للطائفة، ويعلل أعضاؤه سبب نشأة الحزب بأنهم لا يجدون أنفسهم ومصالحهم مع أيٍ من
الأحزاب؛ فالكل يتناسى مطالبنا ويعاملوننا باستهتار. وقال عضو الكنيست
الأثيوبي الأصل عن هذه المجموعة إنها تنتمي إلى الليكود وتحاول حرق بضعة
آلاف من الأصوات لا أكثر.
برنامج الليكود والعمل:
بدأت الحملة الانتخابية الإسرائيلية في وقت مبكر، وجاءت واضحة في
معالمها على الصعيد الخارجي؛ فرئيس الوزراء نتنياهو بدأ في تقديم الوعود
الانتخابية: كالبناء في جبل (أبو غنيم) بإقرار 1025 مسكناً من أصل 6500
مسكن. فالبناء قضية سيادة.
وفيما يخص الشق الأمني من البرنامج القادم فقد هدد (نتنياهو) بإغلاق مطار
غزة بسبب ما يراه من التجاوزات الأمنية التي تمارسها السلطة الفلسطينية المخالفة
لما تم توقيعه في برتوكول فتح المطار وفيما يخص الإجراءات الأمنية.
كما أعلن نتنياهو موقفه الصامد في وجه من يحاول تقسيم القدس؛ فقد أكد أنه
نجح في إغلاق بيت الشرق في وجه الدبلوماسيين الغربيين، وسيواصل السعي
والنضال لترسيخ السيادة على المدينة، وأكد خلال زيارته إلى حائط المبكى أن
القدس الموحدة جزء من (إسرائيل الكبرى) .
برنامج حزب العمل:
أما برنامج أيهود باراك الانتخابي فإنه لا يختلف يمينيةً عن برنامج نتنياهو،
فيركز باراك على دولة فلسطينية محدودة الصلاحية: حكم ذاتي ضعيف، مؤكداً أن
الدولة الفلسطينية ليست حلمه، وما يعنيه هو أمن (إسرائيل) وليس جوازات السفر
والطوابع. وإن أرادوا تسمية كيانهم الذي يستجيب لقيودي فهذا شأنهم، والقدس
عاصمة أبدية وموحدة لدولة (إسرائيل) ، وأعلن عن رفض العودة إلى حدود الرابع
من حزيران 1967م في الضفة والقطاع والجولان، مع التمسك بالمستوطنات على
أن تبقى الغالبية العظمى بيد إسرائيل، ورفض أي وجود عسكري غرب نهر
الأردن.
جاء شعار حزب العمل قريباً من شعار الليكود: (قائد لشعب واحد) ، وفي
المقابل وصفه نتنياهو بأنه متورط بالدعاية الهتلرية، مؤكداً أن باراك يعمل على
تقسيم شعب (إسرائيل) ، وأن هتلر كان يقول: شعب واحد، قائد واحد.
ومن يراهن على صعود حزب العمل وباراك على اعتبار أن السلام والحوار
مع حزب العمل أسهل من الحوار من الليكود عليه أن يستعرض بعض التصريحات
التي يؤكدها باراك وخاصة بعد صعوده إلى قيادة حزب العمل؛ فقد أكد أنه إذا نشب
خلاف بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول تطبيق الاتفاقيات الموقعة، فإن الجانب
الإسرائيلي سيفرض وجهة نظره لأنه الجانب الأقوى. ويهاجم باراك نتنياهو؛ لأنه
تسبب في تقسيم القدس.
فكيف يمكننا أن نراهن على أي من البرنامجين، والنتائج النهائية للانتخابات
لا تظهر إلا في صندوق الاقتراع، وتحسمها التعبئة قبل الانتخابات؟ هذا إذا اقتنعا
فعلاً أن أغلبية الإسرائيليين ضد نتنياهو الذي وُصِف بالكاذب وله كل يوم فضيحة
جديدة، وأنه يقودهم نحو الهاوية، ولكن ما يدور لا يمنع من إعادة تكريس الكاذب
رئيساً لوزراء إسرائيل.
إن استعراض بعض الأرقام من زاوية الاستيطان مفيدة في تحديد بعض
الأولويات عند كلا الحزبين: الليكود، والعمل؛ فحتى 1980م كان لحزب العمل
21 مستوطنة، والليكود 9 مستوطنات، وفي انتخابات 1992م تعهد حزب العمل
بعدم بناء مستوطنات، إلا أنه قام ببناء 10 آلاف وحدة سكنية في الضفة الغربية،
و1200 في غزة والجولان، ومن 1993م 1996م قام حزب العمل بمصادرة 22
ألف دونم [1] في الضفة والقطاع، و24 ألف دونم في القدس، ومصادرة أراضي
الجفلت في غور الأردن، وبناء 15 طريقاً التفافياً يقوم نتنياهو حالياً بإكمال خمسة
منها فقط، وإقرار اللجنة الفرعية بالبناء على أراضي جبل أبو غنيم في القدس.
إن التقارب بين البرنامجين يبدو واضحاً، والتشابه فيما يخص قضايا
الصراع الخارجي واضح بين الحزبين، ولكن الاختلاف هو في القضايا المحلية
وخاصة في مجال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية؛ فعمل نتنياهو بصفته وزيراً
للمالية على اتخاذ بعض الخطوات الإجرائية الانتخابية والاقتصادية؛ إذ مدّد فترة
الامتيازات المعطاة إلى المستعمرات اليهودية ومدن التطوير في مدن الجولان
والأراضي الفلسطينية، ووضع قانوناً جديداً لتوسيع التعليم المجاني يشمل جيل
3-4 سنوات، واتباع منهج يوم تعليم طويل في المدارس في مدن التطوير، وقام بتمديد فترة إعفاء أصحاب البيوت من الضرائب عند تأجيرهم بيوتهم، إضافة إلى الاستمرار في إعطاء المتقاعدين الإعفاءات والمنح من الضرائب، وتطبيق قانون السكن الجماهيري القاضي بأن يعطى المواطنون الساكنون في تلك البيوت فرصة امتلاك تلك البيوت بقيمة زهيدة.
وفي الوقت نفسه لم تتضح بيانات أولية عن برنامج حزب العمل وخاصة في
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الموجه أساساً إلى الناخبين العرب وبعض
الطوائف الشرقية، والتي لن تخرج في مجملها عن تحسين الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية من تخفيف للضرائب وتحسين المستوى الاقتصادي والتخفيف من حدة
البطالة.
برنامج الوسط:
يستقي حزب الوسط أفكاره من اليمين واليسار، ولا توجد له أي قاعدة
أيديولوجية واضحة المعالم، ولكن من خلال الحوارات التي نشرت مع قادة حزب
الوسط يمكن استخلاص برنامجه.
فيرى دان مريدور أن الواقعية في الصراع العربي الإسرائيلي هي الراجحة
بعد أن قَبِلَ العرب بـ (إسرائيل) ليس بدافع الحب والاعتراف بالحقوق التاريخية
والأيديولوجية، ولكن بسبب الواقع الذي حدث على الأرض والسياسة، ويرى أن
سياسة فرض الواقع لم تكن من الناحية العسكرية فقط بل من الناحية الاقتصادية
والديموغرافية، فقد نالت (إسرائيل) اعتراف كل من: مصر والأردن والسلطة
الفلسطينية.
ويعترف قادة حزب الوسط أن حرب أكتوبر وما تبعها من تغييرات سياسية
في المنطقة وصولاً إلى الانتفاضة وحرب الخليج أثرت على الموقف الإسرائيلي،
ويصف الحزب المرحلة الحالية من الصراع العربي الإسرائيلي بأنها مرحلة إذابة
الجليد؛ فما زال الكثير من العمل المشترك والقضايا العالقة. ومنها: الحدود
النهائية، المستوطنات، القدس التي يرى فيها حزب الوسط أنها ستبقى موحدة تحت
السيادة الإسرائيلية. أما بالنسبة إلى الدولة الفلسطينية فيرى الحزب أن ما هو قائم
في غزة وجنين ونابلس ليس مجرد حكم ذاتي؛ بل هو أكبر من ذلك بكثير، ويؤكد
على ضرورة المفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ويرى حزب الوسط أن اليمين لا
يريد التنازل عن أي شيء في حين أن اليسار مستعد للتنازل عن كل شيء. وفي
سياق آخر من برنامجه للعمل في الانتخابات يؤكد أنه لا يوجد استعداد عند أي
يهودي للسماح بعودة اللاجئين إلى حيفا ويافا وعكا.
وفي موضوع الاستيطان؛ مع أن حزب العمل مع التنازل عن كل شيء إلا
أنه لا يوجد عضو واحد من الحزب مع التنازل عن غور الأردن أو جفعات زئيف.
تحالفات انتخابية:
تشكل التحالفات الانتخابية قبيل عملية الاقتراع، أساساً واضحاً إلى ما بعد
تشكيل الحكومة.
فكانت أول التحالفات التي صاغها حزب العمل: التحالف مع حزب جيشر
بزعامة ديفيد ليفي، وكان الاتفاق المبدئي أن يدعم جيشر حزب العمل للانتخابات
العامة لرئاسة الحكومة، ولأن جيشر يبحث عن موطئ له في الانتخابات القادمة؛
فإن التحالف الحالي له سيكون مع اليسار، مع التأكيد على أن حزب جيشر لا
يخوض الانتخابات بصورة منفردة، وترتكز قاعدته الانتخابية على اليهود الشرقيين. ومطالبه اجتماعية في أغلبها.
كما يتحالف مع حزب العمل حزب إسرائيل بعلياة وهو لليهود الروس الذي
وجه دعوة لباراك إلى لقاء القاعدة الانتخابية لليهود الروس في بئر السبع، وفي
المقابل سيترك الحزب خيار التصويت مفتوحاً وليس محدداً لصالح أي من
المتنافسين، إلا أن الصورة الحالية تؤكد أن الحزب سيعطي أصواته لصالح حزب
العمل أو الوسط في الجولة الثانية لنقمته على تحالفه السابق مع الليكود، وتأييد
الليكود تشكيل حزب جديد للمهاجرين الروس.
حزب الليكود سينشئ التحالف مع الأحزاب اليمينية القومية والدينية التي
أخفق بنيامين بيجن في جمعها أو التي رفضت الانضمام إليه، وما يجمع هذه
الأحزاب سيكون الالتفاف حول (إسرائيل الكبرى) . وتحاول الأحزاب الدينية بهذا
التحالف: إما الحفاظ على مقاعدها الـ (33) ، أو زيادة عددها؛ وفي المقابل
سيحاول الليكود زيادة عدد المقاعد التي ينافس عليها لتشكيل الحكومة بصورة أفضل
مما كانت عليه في الانتخابات السابقة.
وتبدو الأحزاب العربية كأنها غير مستقرة على رأي؛ ولكن القائمة الواحدة
المرجح أن يعلن عنها قريباً ستعطي للأحزاب العربية الدعم للمشاركة في المرحلة
القادمة في الكنيست؛ فمن المتوقع زيادة عدد مقاعد الأحزاب العربية إلى 14 مقعداً
في الكنيست القادم.
أما الوسط فلن يستطيع تشكيل حكومة وحده؛ لأنه غير قادر على النجاح في
ظل المعطيات السياسية والأمنية في إسرائيل، ولكن التحالف المرجح له هو تحالف
الوسط واليسار والناقمين على اليمين ضد سياساته التي قوبلت بالرفض في إسرائيل
في الدورة الثانية.
كل ذلك يدفع للتأكيد على أن الساحة السياسية الإسرائيلية متغيرة بشكل كبير،
واحتمالات الربح والخسارة لا تحدد إلا في صناديق الاقتراع، وحسب المستجدات
في اللحظات الأخيرة، وكما أجمعت استطلاعات الرأي على أن بيريز سينتصر
على نتنياهو في انتخابات 1996م، إلا أنه خسر الانتخابات، وكما تجمع
الاستطلاعات على فوز باراك في الجولة الثانية، إلا أن النتائج تحددها صناديق
الاقتراع ساعة الفرز، والتي لا تمنع من إعادة تكريس نتنياهو وفق المحددات
التالية:
1- بعد تجميد اتفاق واي ريفر زادت نسبة المعارضين للحكومة الليكودية
الحالية، ولكن في الوقت نفسه كان الملتفون حول شعار (إسرائيل الكبرى) من أشد
المعجبين بأداء نتنياهو لتجميد اتفاق واي ريفر؛ خاصة أن الشروط التي وضعها
في نظر المراقبين السياسيين غير قابلة للتنفيذ من قِبَلِ السلطة الفلسطينية.
2- حملات تصعيد الاستيطان والدعوات المتكررة لبناء أحياء استيطانية
تجلب المزيد من المؤيدين مع الإغداق على المستوطنين بالوعود والمنح والإعانات
والمال.
3- بدء حملة على لبنان وسوريا يعقبها تصعيد بالمنطقة الحدودية المحتلة
يقابلها رد قوي من حزب الله، مما يعزز النظريات الأمنية التي ينادي بها نتنياهو.
مهما كانت نتائج الانتخابات القادمة وأتت بحكومة ليكودية أو عمالية أو حتى
شَكّلتْ حكومة وَحْدةٍ وطنية؛ فإن الجميع داخل هذا الوسط متفق على شعارات
أساسية لا يمكن أن يتجاوزها وهي قضية الحدود النهائية التي تتناسب ومعطيات
حرب 1967م. وتشكل مسألة القدس إجماعاً وطنياً إسرائيلياً، وتُجمع الأحزاب
عامة على أن القدس عاصمة موحدة لدولة واحدة؛ ففي ظل الوضع الحالي علينا ألا
نعوّل على أيٍ من البرامج الصهيونية أو الحكومات القادمة؛ فإنه يخطئ من يظن
أن الحكومات العمالية أسهل في التفاوض من الحكومات الليكودية، ويكفي التأكيد أن
الحروب العربية الإسرائيلية حدثت في عهد الحكومات العمالية، وكامب ديفيد
ومؤتمر مدريد للسلام حدثا في عهد الليكود.
__________
(1) الدونم: - وحدة قياس المساحات وتقدر بنحو 1200م2.(137/80)
المسلمون والعالم
واقع العمل الدعوي في نيجيريا
مشكلات وحلول [*]
محمد بابنجيدا محمد
إن النظرة السريعة العابرة إلى واقع العمل الدعوي في نيجيريا قد توحي إلى
الناظر بأن الأمور تجري على أحسن ما يرجى، وأن الدعوة الإسلامية تسجل تقدماً
ونجاحاً فائقاً في كل المجالات على الإطلاق.
فهناك ارتفاع ملموس في مستوى الوعي العام نتيجة لكثرة النشاطات الدعوية. وتبهج أنظارنا كثرة المساجد المشيدة العالية المنارات، والمزخرفة بأنواع
الزخارف المنتشرة في المدن والقرى، وتمتلئ هذه المساجد بالمصلين والذاكرين الله
تعالى بكرة وعشياً. ففي مدينة (كانو (فقط يوجد ما يقرب من عشرين مسجداً جامعاً، يمتلئ كل مسجد بنحو ألف من المصلين في أيام الجمعة، وفيها أيضاً ما لا يقل
عن ألف مسجد للصلوات الخمس وأضعاف هذا العدد من المصليات.
ونشاهد كذلك زيادة تحمس الناس فيها على أداء الشعائر التعبدية مثل: الصلاة، والصوم، والحج، حتى إن عدد الحجاج من نيجيريا في بعض السنوات يبلغ مائة
ألف أو يزيدون. وتقام حلقات الدرس، وتعقد المحاضرات العامة والندوات
والمؤتمرات الإسلامية والدورات التدريبية وغير ذلك من الأنشطة الدعوية كلها
بشكل يدعو إلى الإعجاب والسرور. ويزيد إقبال الشباب على الدين برغبة قوية
في تحصيل علمه وتطبيق أحكامه وتعاليمه. وقد أبعدوا أنفسهم عن الحركة
التغريبية المدمرة للعقيدة والأخلاق، وتحملوا مشاق السير في طريق الدعوة
الإسلامية.
وتبنى المدارس الإسلامية في كثير من المدن والقرى، وتتجه إليها المرأة
المسلمة المحجبة والمعتزة بدينها لتتعلم دينها. ويُعتنى في هذه المدارس أيضاً بغرس
الآداب الإسلامية؛ ويهتم بتحفيظ القرآن للصغار حتى صارت لنيجيريا سمعة في
المسابقات العالمية التي تعقد سنوياً بمكة المكرمة لتلاوة القرآن وتجويده وتفسيره.
وتملأ الساحة كذلك عدة مؤسسات وجماعات إسلامية محلية وعالمية، كلها
تبذل جهدها في أداء واجبها الدعوي على حسب طاقتها ورؤيتها للأمور. وتصل
إلينا الأخبار بإسلام أعداد كبيرة من الوثنيين والنصرانيين وأحياناً من ذوي المكانة
الدينية والاجتماعية فيهم.
ولا شك أن كل هذه الظواهر التي ذكرناها تعتبر سمات لتقدم ونجاح العمل
الإسلامي في نيجيريا، ولكن النظرة الفاحصة الدقيقة تبين لنا أن الواقع لا يطابق
تماماً ما قد توحي به هذه الظواهر.
فالدعوة الإسلامية في نيجيريا تمر بأصعب مراحل سيرها؛ فهي تسير في
وسط بحر لجي، تلعب بها الرياح العاصفة، فتدفعها تارة هنا، وتارة هناك،
وتنهال عليها الطيور الجوارح بدون توقف أو إمهال.
ولقد أصبح العاملون في ساحة الدعوة كقطع الخشب المتناثرة، لا يكادون
يقوون على الصمود أمام أمواج المشاكل والعوائق التي تندفع نحوهم؛ فظلم الطغاة
وكيد الماكرين وإيحاءات المبطلين، ووساوس الشياطين وإيذاء الجاهلين، كلها
تحدق بالدعاة.
وسنحاول إن شاء الله استعراض أبرز المشكلات والعوائق التي تواجه العمل
الإسلامي في نيجيريا ثم نُتبع ذلك بما يتسنى لنا ذكره من حلول.
ومن أبرز المشكلات والعوائق:
1- عجز أكثر العلماء وتقاعسهم عن العمل الدعوي:
إن الدعوة الإسلامية أساساً لم تنتشر إلا على أيدي العلماء العاملين، ولكن
ومع الأسف الشديد في الظروف القاسية التي تعايشها الدعوة الإسلامية حالياً،
تقاعس جل علمائنا في نيجيريا عن أداء واجبات الدعوة: من إظهار الحق،
وإبطال الباطل، والدفاع عن بيضة الإسلام، وأدت المادية وحظوظ النفس ببعضهم
إلى مداهنة الحكام والسير في ركبهم، وإصدار الفتاوى المؤيدة لهم.
واختار بعض المتصوفة العزلة، واكتفوا بترديد الأذكار وإنشاد الأشعار في
مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعاء الفناء عند التأثر بالدفوف والغناء.
واكتفى كثير من العلماء الذين درسوا على الطريقة التقليدية القديمة بالعكوف على
كتب المذهب المالكي، لا يخرجون عنها قيد شبر. وقد تجد من هؤلاء من يردد
ترجمة بعض كتب المذهب باللغة المحلية بشكل آلي لا يكاد يفهمه القائل فضلاً عن
السامع، ولكن نقول: إن بجانب هؤلاء في البلد بحمد الله علماء أجلاء؛ لهم دورهم
في نشر العلم والفقه، وفيهم من لا يخلو من نزعات صوفية، ولكن بعضهم على
درجة من العلم لا تستهان، وكان من أبرز علماء البلد: الشيخ أبو بكر جومي
رحمه الله الذي قد فاق الأقران في علمه وتواضعه، وفي زهده وفي شجاعته وثباته
على الحق، وفي تأثيره على أوسع نطاق وفي نفعه العام للمسلمين في نيجيريا.
كان سلفياً، متمسكاً بالسنة وداعياً إليها، وحارب البدع والخرافات.
2- التصدي للدعوة ممن لا يصلح لذلك:
لما تقاعس جل العلماء عن واجبات الدعوة تصدى لها كل من هبّ ودبّ، فقام
كل من ظن في نفسه أهلية الدعوة؛ فوعظ وأفتى، وحلل وحرم، وبدّع وفسّق؛ بل
وأدخل الجنة من شاء، ورمى في النار من شاء. وتجد أحدهم جاهلاً في أمور دينه؛ ولكنه يتصدر للوعظ محتجاً بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بلّغوا
عني ولو آية) [1] فيستطرد في تبليغ معنى الآية؛ وهو لم يدركها، ويتدخل في
مجالات أخرى لا علم له بها، فيهلك ويُهلك. وأكثر ما يوجد هذا الصنف في
أوساط الشباب.
وهذا أمر منتشر الآن في نيجيريا؛ حيث تجد رجلاً لا يكاد يميز بين الفاعل
والمفعول، والجار والمجرور فضلاً عن معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه وغير ذلك
من علوم القرآن وهو مع ذلك يتفيهق بمعرفة غوامض القرآن وأسراره. والله
المستعان. ولقد رأينا صنفاً من الناس ولا يزالون في المجتمع يحملون الناس على
غريب القصص المأخوذة من كتاب يدّعون أنه الزبور، وغيره من كتب
الإسرائيليات، وما همهم في ذلك كله إلا جمع الناس حولهم؛ لينالوا منهم حظوظ
الدنيا الفانية.
وهناك صنف من المتمشيخين يدّعون الصلاح ومعرفة الغيب، وقوة جلب
النفع ودفع الضر، ويدعون الاختصاص ببعض الأسرار. وإنما أولئك كهان
وسحرة، وما هم بمسلمين؛ وإن صاموا وصلوا ... فهم كالفئران يقرضون أساس
بنيان الإسلام.
3- فقدان الحكمة والأسلوب الحسن لدى بعض الدعاة:
الحكمة والأسلوب الحسن من أهم الأدوات التي يصل بها الداعي إلى مراده.
وقد أرشد الله تعالى نبيه إلى الاعتماد على الحكمة عند دعوة الناس إلى الحق؛ فقال
تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل: 125] . وقال
في آية أخرى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي]
[يوسف: 108] . فلا يكون الداعي متّبعاً لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا
افتقد البصيرة والحكمة في دعوته.
ولقد تغافل كثير من دعاتنا عن هذه القاعدة المهمة، ورأوا أن الانفعالات
والصياح ورفع الأصوات والتفيهق بالألفاظ وإصدار الأحكام الحاسمة على الناس،
كلها من لوازم الدعوة الجادة، فأثاروا بأسلوبهم هذا الضجيج حولهم، ونفروا الناس
من حولهم. فأين هؤلاء من الأسوة النبوية؟ ! ألم يوصف رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بأنه: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ]
[التوبة: 128] ألم يكن هذا سر اجتماع الناس من حوله -صلى الله عليه وسلم-
وقبولهم لدعوته؟ [وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]
[آل عمران: 159] . ثم ها هو بنفسه يصدر هذا التوجيه ببلاغته العظيمة فيقول: (يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا) [2] .
ولكن بعض الدعاة هنا في نيجيريا سوّل لهم الشيطان أن الرفق والعطف
واللين بالناس من علامات الضعف والخوف والخور، فأخذوا بالشدة والقسوة،
ومنهم من لا يراعي فقه إنكار المنكر، فيرون أن المنكر لا بد من إزالته مهما كان
الأمر، بصرف النظر عن المصلحة أو المفسدة المترتبة على ذلك. والحق أن
الأمر والنهي له ضوابط لا بد من مراعاتها [3] .
وكم من فرص كبيرة للدعوة ضيعت بسبب سوء أساليب بعض الدعاة! وكم
من بدع ومنكرات كانت قليلة الانتشار، ثم عظمت إثر الأسلوب الخاطئ للإنكار.
ومثال ذلك: ما لاحظنا من زيادة أنواع مخصوصة من بدع المتصوفة في السنوات
العشر الماضية، ومن ذلك: الجهر بالأذكار في الطرقات بشكل مزعج، وإقامة
الموالد البدعية للشيوخ الأحياء منهم والأموات وغير ذلك من البدع المنكرة.
4- الفرقة والاختلافات:
إن الفرقة والاختلاف قد تسربا إلى جسد الأمة الإسلامية في هذا البلد، حتى
أصبحا من سمات المسلمين. تكثر المنازعات والمشاجرات بين الفئات والجماعات
المنتسبة إلى الإسلام؛ فكل من دعا بدعوة وروّجها بين الناس صار له أتباع
وجماعة. فصار حالنا كما قال الشاعر وكأنه نيجيري:
وما شكواي أو شكواك إلا ... لفوضى في المجامع وانقسام
ترى كلاً له أمل وسعي ... وما لاثنين حولك من وئام
لكل جماعة فينا إمام ... ولكنّ الجميع بلا إمام
أدت هذه الحال إلى ظهور جماعات إسلامية، لا تُعد ولا تُحصى بعضها لا
طائل تحته، همها فقط الدفاع عن أشخاص، أو الهجوم على آخرين. وقامت
قيادات فردية لا ترى لأحد غيرها صلاحية في العمل الإسلامي، واتخذ بعضهم
العمل الإسلامي حكراً لهم، ولا يعترفون بغيرهم، ولا يستشيرون غيرهم من الدعاة، ولا يتعاونون معهم وإن اتفقوا في العقيدة والهدف والأسلوب.
عظمت الفرقة حتى صارت العداوة والبغضاء بين بعض فئات المسلمين إلى
حد جعل بعضهم يتقربون إلى النصارى للتغلب على الفئة المسلمة الأخرى. وقد
حدث مثل هذا في بعض حوادث الانتخابات السابقة؛ حيث ترشّح مسلم ونصراني
للانتخاب في بعض مقاطعات محلية، فصوّت بعض المسلمين للنصراني؛ لأن
المسلم ينتمي إلى جماعة مسلمة لا يحبونها. فلما ترأس النصراني كرسي الحكومة
المحلية؛ أخذ يدبر للقضاء على الإسلام، ويمد يد العون للهيئات التنصيرية.
فيالغَفلة المسلمين!
5- عدم تحديد الأهداف والتخطيط الجيد:
تفتقد كثير من جماعاتنا الإسلامية تحديد أهدافها وتخطيط سيرها في العمل
الإسلامي، وقد تفاجأ بالسطحية في التفكير عند بعضهم. وأدى هذا إلى الفوضوية
في العمل الإسلامي؛ فإنك تلقى عدداً من الدعاة يتبنى كل ما يتصور في ذهنه من
عمل أو تصرف، ويستوقف جهده على ذلك العمل، ويعتبره العمل الإسلامي
الوحيد، ويهمل ما هو أهم منه وأوجب.
ونتيجة لعدم التخطيط تجد الجماعات الإسلامية تكرر جهودها في حدود أعمال
معينة بشكل معدم للفائدة ومهدر للطاقات. ولهذا؛ فإن هناك حاجة ماسة إلى دراسة
عميقة لاحتياجات الدعوة في نيجيريا، والتخطيط لها تخطيطاً جادّاً؛ فهل دعاتنا
مستعدون لذلك؟ !
6- النفوذ النصراني:
استطاع النصارى بسبب خططهم الماكرة وجهودهم الجبارة أن يتغلبوا على
المسلمين في كثير من أمور الدولة؛ فنفوذهم قوي في أجهزة الدولة ولا يتهاونون في
استغلال ذلك لأهدافهم. وما زال المسلمون يتغنون بكثرة العدد وتاريخ الآباء
والأمجاد.
ومستقبل المسلمين في هذا البلد رهين بقدرتهم على رفع مستوى نفوذهم في
الدولة، وإيجاد القوة اللازمة سياسياً وعلمياً واقتصادياً وعسكرياً.
ثم إن هناك حملة تنصيرية مركّزة على مسلمي نيجيريا، وعلى الأقلية الوثنية
التي تجاور المسلمين في شمال البلاد وهم الذين يسمون بـ (الماغوزاوا)
Maguzawa أي الفارون عن الإسلام.
وقد نشرت المؤسسة الإسلامية بلندن وثيقة سرية منذ عدة سنوات عن مشروع
تنصير الفلاتة Fulata evanjelism.
وليس من المبالغة إن قلنا: إن الثمرات لو أتت على قدر الجهود التي يبذلها
النصارى، أو على قدر الأموال التي ينفقونها لما بقي على أرض نيجيريا مسلم.
ولكن الله سلّم، وصدق الله سبحانه وعده إذ يقول: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]
[الأنفال: 36] . ولكن لا ينبغي للمسلمين أن يتواكلوا؛ فقد أُمروا بإعداد القوة بكل أنواعها، ولا يزال الخطر النصراني يهدد حصون الإسلام في نيجيريا، ومن ثمّ كل غرب إفريقيا.
إن المجمع الكنسي العالمي، والهيئات التنصيرية العالمية كلها قد اتخذت
نيجيريا قاعدة لعملها التنصيري، وهي بجانب ذلك تدعم الهيئات المحلية دعماً مادياً
ومعنوياً. وهناك مئات من الأوربيين بمختلف جنسياتهم أوقفوا حياتهم كلها للعمل
التنصيري في نيجيريا؛ فبعض من وصلنا خبره من الأوربيين مكث في قرية أكثر
سكانها وثنيون لمدة ثلاثين سنة (30 سنة) حتى استطاع بعد جهد مرير وطويل أن
يغرس للنصرانية غرساً راسخاً. وقد تعلم اللغة المحلية حتى صار يجيدها، ويعيش
في وسط أهل القرية، ويوثق علاقته معهم بكل وسيلة تتاح له. كان يقدم مساعداته
لأهل القرية بدون أجر ولا مقابل، حتى ملك قلوبهم؛ فساقهم إلى الهلاك. وهذا من
أهم أساليب النصارى في التنصير؛ إذ يقومون بتوزيع الأدوية واللباس وغير ذلك
من الضروريات مجاناً؛ حتى يستميلوا قلوب الناس.
وهناك ظاهرةُ كثرةِ الكنائس حتى في المناطق الإسلامية. ومن غريب مكر
النصارى أنهم إن استجاب لهم ولو بيت واحد في أي قرية بنوا فيها كنيسة فاخرة
إظهاراً لوجودهم وكسراً لقلوب المسلمين وأملاً للمستقبل.
وقد ترجموا الإنجيل إلى أكثر اللغات المحلية، ويوزعون بين المسلمين
نشرات باللغة العربية، توهم بأنها كتب إسلامية من باب الخديعة والمكر. والذي
ذكرناه هنا عن نشاطات النصارى في نيجيريا قليل جداً حتى لكأننا لم نذكر شيئاً؛
والخطر عظيم وجسيم، وليت المسلمين ينتبهون فيقوموا بالرباط في هذا الحصن
العظيم من حصون الإسلام.
7- فتنة التشيع:
إن التشيع لم يكن معروفاً في هذه البلاد قبل ثورة الخميني. وقد وقع بعض
الشباب المتحمسين في ورطة التشيع جهلاً منهم بحقيقة الثورة الإيرانية ودين الشيعة.
وأخذت دولة إيران تستميلهم وتجذبهم إليها رويداً رويداً بأنواع من الحيل:
ترسل تذاكر سفر إلى طلاب فقراء ليشاهدوا بعض المناسبات مثل: عيد الثورة،
ويستقبلونهم استقبال كبار الزوار وهم طلاب فقراء ويمدونهم بأموال طائلة مذهلة
تغلق عقولهم، وتذللهم لأهداف الشيعة، وتفتح أبواب مدارسها ومعاهدها للطلاب
النيجيريين، وتسخر لهم منحاً دراسية، ويوجد الآن عدد كبير من الطلاب
النيجيريين يدرسون في إيران مختلف التخصصات.
وهناك مدارس شيعية داخل نيجيريا في كانو وباوشي وزاريا ولاجوس
وأوكيني وغيرها. فمدرسة أهل البيت في كانو تجذب عدداً من الشباب، وتروّج
فيهم فكرة نكاح المتعة. ويقوم الشيعة اللبنانيون المقيمون في نيجيريا بدعم هذه
المدارس وتحمّل رواتب دعاة الشيعة؛ وترسل المطبوعات من إيران باللغات
الإنجليزية والهوسوية والعربية؛ حيث تطبع في إيران مجلة بلغة هاوسا باسم:
(Sakon Musulumci) أي: الرسالة الإسلامية، وجريدة الميزان Mizan
والمطبوعة أيضاً بلغة هاوسا في نيجيريا، تدعم كلياً من إيران؛ فهي لسان الشيعة
في نيجيريا، ولقد أظهر هؤلاء الشيعة سب الصحابة ولعنهم، وتحاملوا على السنة
النبوية ورواتها، وأحدثوا اضطرابات وفتناً أدت إلى سفك الدماء في زاريا وكادونا
وسوكوتو وكانو وفي عدة مدن وقرى.
8- فِرَقٌ ضالة أخرى:
هناك فرق ظهرت في نيجيريا، تعمل سراً وعلانية في تشويه صورة الإسلام، وطمس معالمه. منها ما له جذور أجنبية مثل: القاديانية والبهائية. فالقاديانية
دخلت مع الاستعمار الإنجليزي؛ ولعل هذا هو سبب تمركزهم في الولايات
الجنوبية مثل لاجوس وأويو. ولهم نشاطات مذهبية قوية منذ فترة طويلة؛ فقد
فتحوا مدارس ومراكز صحية ومستشفيات وغيرها. ولقد قام بعض العلماء بالإنكار
عليهم، فدحضوا حججهم، وبينوا كفرهم البواح؛ ومع ذلك يظل كثير من الناس
في جهل عن حقيقتهم. والحكومة تعترف بهم فرقةً إسلامية.
وهناك فِرَق محلية ضالة أيضاً مثل الميتثينية Maitatsine - والقالقاتونية -
Kala Kato وهم أشبه بالقرآنيين الموجودين في بعض البلاد الإسلامية؛ يدّعون
الاعتماد على القرآن فقط، ويرفضون أي كتاب آخر، ولا يؤمنون بحجية السنة؛
فهم يؤدون الشعائر التعبدية على ما سولت لهم شياطينهم، ويعتمدون على الشعوذة
والدجل وضروب من السحر. وتكونت هذه الفرقة في أوساط المعتنين بحفظ القرآن
على الطريقة القديمة المتعارف عليها في بلاد السودان. وهم الذين عرفوا
بـ (غرداوا Gardawa) حملوا السلاح على جمهور المسلمين في مدينة كانو في سنة 1981م واعتبروهم كفاراً. وتتابعت الفتنة في مدن مايدوجوري وجومبي وفونتوا.
وأخذت أجهزة الإعلام بعد ذلك تصوّر كل تجمع إسلامي على أنه ميتاثيني حتى
تثير الحكومة ضد كل الجماعات الإسلامية.
9- المشاكل الاقتصادية:
يعاني المسلمون في نيجيريا من المشاكل الاقتصادية؛ حتى انعكست آثارها
السيئة على الدعوة الإسلامية. فكثير من الجماعات الإسلامية تعتمد على ميزانية
ضئيلة، وبعضها قد تسيء التصرف بما لديها من الأموال.
ولكن هناك فئة من الأغنياء أهل الدثور، ذهبوا فعلاً بالأجور؛ يقومون بدعم
العمل الإسلامي بما أعطاهم الله من أموال، ثم إن هناك هيئات إسلامية عالمية
كذلك تقوم بدور فعّال في تقديم المساعدات المختلفة؛ غير أن كثيراً من هذه
المساعدات مبنية على أساس شخصي بحت، وتعتمد على الاجتهاد الشخصي
والاتصالات المباشرة التي يقوم بها رجال الجمعيات الإسلامية؛ ولذلك نجد أن
بعض الجمعيات الإسلامية رغم فعاليتها وجديتها في العمل الإسلامي لا تحصل على
هذه المساعدات الخارجية. وهذا ما ذكره الأستاذ محمد جلال عباس وكان مديراً
للمركز الثقافي العربي المصري عن تجربته [4] . ومثل هذه المساعدات الشخصية
للجماعات قد لا تحقق الثمرات المرجوة للعمل الإسلامي فتضيع الثروات في غير ما
أريد لها.
وعلى الجماعات الإسلامية المحلية الجادة المخلصة أن تسعى لكسب ثقة أهل
الخير داخل البلد وخارجه؛ حتى تأخذ موضعها الحقيقي، وتؤدي دورها الكامل في
ساحة العمل الإسلامي، وأن تفكر كذلك في إيجاد موارد للحصول على مبالغ مالية
عن طريق الاستثمار لكي تحصل على الاستقلالية اقتصادياً، وتتمكن بذلك من أداء
رسالتها على الوجه الأكمل.
10- المشاكل الاجتماعية:
لعل نيجيريا لا تختلف كثيراً عن بقية الدول الإسلامية التي تأثرت بالاستعمار
الغربي؛ فالمنكرات والفواحش مثل: شرب الخمر، والزنا، واللواط، والتبرج،
وتفكك الأسر، والانحرافات السلوكية، وغيرها من الأمور التي لا يرضى بها الله
قد انتشرت بشكل مخيف جداً. ويزيدها قوة وانتشاراً أن الحكومة علمانية، لا تقيم
لتعاليم الإسلام وزناً، ولا تعترف بمبدأ المحافظة على القيم والأخلاق؛ فيجد الداعية
نفسه في غربة ومشقة وتعب وَهَمّ مستمر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
11- القبلية المنتنة:
إن العصبية القبلية مشكلة تكاد تقضي على وجود نيجيريا ووحدتها، ولم يمنع
بعض القبائل عن اعتناق الإسلام إلا ظنهم الخاطئ بأن الإسلام دين قبائل معينة،
حتى إنّ بعض القبائل التي دخلت في الإسلام ظلت متمسكة بأواصرها وروابطها
القبلية، وفضلتها على أواصر وروابط الدين. وإن كانت هذه المشكلة ناتجة عن
عدم الإدراك الحقيقي لروح الإسلام وتعاليمه لدى العوام من الناس؛ إلا أن بعض
الدعاة أيضاً وقع في الحفرة نفسها التي نسأل الله أن يعيننا على القضاء عليها؛ ولا
أحد أوْلى من الدعاة بتذليل الطريق إلى ذلك.
12- مشاكل المسلمين الجدد:
بفضل الجهود المتواضعة التي يقوم بها بعض الدعاة بعد فضل الله ورحمته
الإلهية التي نزلت في القلوب يتوجه الآن أعداد كثيرة من الناس إلى الإسلام
فيرضون به ديناً.
ولكن كثيراً من المشاكل تواجه المسلمين الجدد، وأحياناً هم أنفسهم يصبحون
مشكلة أخرى، فقد يواجهون مشكلة رفض الأهل والقبيلة؛ ومن ثم مشكلة المعيشة
في بيئة معادية لهم ولدينهم، كما يقابل أولادهم بالضغط والاستهزاء في المدرسة؛
حيث لا توجد مدرسة إسلامية، ويواجهون مشكلة عدم وجود من يعلمهم الإسلام
باستمرار؛ إذ لا يتوفر الدعاة في المدن والقرى. ومن ناحية أخرى أصبح بعض
المسلمين الجدد ممن لم يستوعبوا الإسلام يطوفون في المساجد والأسواق ومجالس
الناس يسألون المساعدات المالية ويخدعون الناس مستغلين بذلك عاطفة المسلمين في
إعانة المسلمين الجدد على أساس (المؤلفة قلوبهم) . وكثرت الشكاوى من مثل هذه
الوقائع، فأصبحت مشكلة فريدة تشغل الدعاة؛ حتى إن بعض من لم يسلم حقيقةً
كان يطوف على المساجد ويدعي أنه أسلم حديثاً وأنه في حاجة إلى مساعدة، ويسرد
وقائع غير صحيحة في قصة إسلامه، حتى إذا بُحِثَ في أمره تبين أنه لم يسلم
أصلاً، أو أنه أسلم ولكن لجمع الأموال. والله أعلم.
حلول مقترحة:
1- السعي لتوحيد الصف بين الدعاة:
وتكون الخطوة الأولى إيجاد فرص للّقاء بين الدعاة؛ ليتبادلوا الآراء والأفكار، ويناقشوا المشاكل التي تواجه المسلمين، ويتفقوا على حلول موحدة.
2- تدريب الدعاة:
ويتم ذلك عن طريق إقامة دورات تدريبية للدعاة؛ ليتسنى لهم الوقوف على
أساليب وطرق مختلفة للدعوة. ويكون التدريب مصحوباً بالممارسة الفعلية لا
النظرية فقط.
3- تزويد الدعاة بالكتب والمقالات التي تعالج الأمور المهمة التي يحتاج إلى
معرفتها الدعاة أنفسهم، وخاصة كتب العقيدة والحديث والفقه. ويكون ذلك عن
طريق فتح المكتبات الإسلامية، وإقامة دور النشر والطباعة. وإن إيجاد مطبعة
إسلامية في نيجيريا سيحقق آمال كثير من الدعاة وطلاب العلم؛ لا في نيجيريا فقط
بل في غرب إفريقيا كلها.
4- تأسيس مركز للبحوث الدعوية:
وقد يتم هذا بالتعاون مع إحدى الجامعات النيجيرية مثل جامعة عثمان بن
فودي، وجامعة بايرو، وجامعة مايدوجوري، وجامعة إيلورن.
5- التقرب إلى العلماء ممن يتوسم فيهم الخير من الذين تخرجوا من المدارس
التقليدية: ويكون ذلك أحياناً عن طريق تلقي العلم عنهم، ثم بعد كسب ثقتهم يمكن
للدعاة تزويدهم بالمعلومات اللازمة عن واقع المجتمع الذي يحيط بهم وبيان الأفكار
والمذاهب المعاصرة لكي يسهل لهم فهم واقع المجتمع، ويؤدوا واجبهم على السبيل
الأكمل.
6- وضع خطط مدروسة لمواجهة الأعمال التنصيرية بين المسلمين وبين
الوثنيين: وهذا يحتاج إلى دراسة جادة وعميقة لأحوال المدن والقبائل التي يراد
توجيه الدعوة الإسلامية إليها. ولا بد كذلك من وضع خطة لإيجاد فرص العمل
للمسلمين في جميع أجهزة الدولة، وفي كل الأماكن التي تهم المسلمين، ولا بد من
إعداد دعاة متخصصين بدراسة مقارنة الأديان.
7- إيجاد طرق الاستثمار والتنمية، ودعمها لرفع المستوى الاقتصادي
للمسلمين ولتقوية العمل الإسلامي الجاد. ومن المجالات المفيدة للاستثمار في
نيجيريا: الزراعة والبناء والاستيراد والتجارة بأنواعها الكثيرة.
وعلى الجماعات الإسلامية أن تعتني بإيجاد وتوفير طرق الكسب للشباب
المسلم؛ ومن ذلك تعليمهم الأعمال المهنية من الخياطة والتجارة وإصلاح السيارات
وغير ذلك. وهذا يدعو إلى ضرورة إنشاء مدارس مهنية.
8- إيجاد مراكز خاصة للمسلمين الجدد؛ حيث يعتنى بتعليمهم الدين والمهن،
ثم يرسلون إلى مناطقهم ليقوموا بالدعوة بدعم من هذه المراكز أو من جماعة
إسلامية. ولعل هذا يخفف المشاكل التي ذكرناها سابقاً.
9- ضرورة وضع خطط لمشاريع ذات أهداف بعيدة المدى لا تعتمد على
رد فعل لحوادث فردية:
ويتم هذا عن طريق اختيار ذوي الخبرة والقدرة التعليمية ليقوموا بدراسة
واعية يصلون بها إلى وضع خطة شاملة للعمل الدعوي في نيجيريا وغرب إفريقيا
عموماً.
10- الاهتمام بالشباب، وخاصة طلاب المدارس الثانوية والجامعات؛ إذ هم
المادة الخام للدعوة.
11- العناية الخاصة بالجمعيات النسائية والعمل لتوجيه أعمالهن حتى لا يخلو
ميدانهن لدعاة التغريب.
12- تحسين المناهج الدراسية في المدارس الإسلامية التقليدية في نيجيريا
لرفع مستوى فاعليتها في المجتمع.
13- وأخيراً يمكن تشجيع إخواننا الدعاة، وخاصة من الدول العربية على
الممارسة الميدانية للدعوة في نيجيريا بأن يتطوع أخ أو مجموعة من الإخوة للدعوة
في بعض قرى نيجيريا مثلاً لمدة سنة أو أكثر، وتيسر لهم إحدى المؤسسات
الإسلامية الأدوات اللازمة مثل: السيارة لسهولة التنقل في القرى والأدوية،
والملابس ليوزعوها على المسلمين القدامى والجدد لتأليف القلوب، والقيام بكل
أعمال الخدمة الاجتماعية من الإغاثة، وحفر الآبار، وغير ذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه خير الإسلام والمسلمين. وعسى أن تقع هذه
الاقتراحات على قلوب رجال غيورين للدعوة الإسلامية؛ فينطلقوا بكل ما آتاهم الله
من علم وصحة وفراغ ومال وغير ذلك؛ ليلبوا هذه الصيحة! اللهم استجب،
والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(*) كتب المقال قبل انتخابات الرئاسة الأخيرة التي فاز فيها نصراني.
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج6/496، كتاب أحاديث الأنبياء.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج 8/60 كتاب المغازي.
(3) راجع في ذلك رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تحقيق
د/ محمد السيد الجلينيد، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، 1404هـ، ص 33 وما بعدها.
(4) عباس، محمد جلال: المد الإسلامي في إفريقيا، المختار الإسلامي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1398هـ، ص 142.(137/90)
المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000
الحلقة الرابعة
عمران بيت المقدس.. ومصير الحل النهائي!
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة. ... ... ...
... ... ... ... ... - البيان -
قبل أن يلفظ القرن العشرون أنفاسه الأخيرة، يُراد منه أن يشهد الفصل
الختامي الذي يُسدل فيه الستار على المشهد الأخير من قضية (بيت المقدس) .
- فقبل العام 2000م يريد اليهود من العالم أن يحسم اختياره المتردد لصالح
اختيارهم الحاسم بالابتلاع (الأبدي) للقدس، عاصمة موحدة لدولتهم، وسيكون هذا
المحور الرئيس في المعركة الانتخابية في 17 مايو 1999م.
- وقبل العام 2000م تريد حامية النصارى الولايات المتحدة الأمريكية أن
تُنفّذ قرار الكونجرس الملزم بنقل سفارتها إلى القدس في موعد أقصاه 31 مايو
1999م.
- وقبل العام 2000م لا بد أن يرى العرب المصير الذي ستؤول إليه قضية
القدس، وهل ستصبح عاصمة للدولة الفلسطينية المقرر لها أن تعلن في 4 مايو
1999م بعد المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، أم أن القضية برمتها ستعود من حيث
بدأت، فيراجع العرب مع أنفسهم حساب الربح والخسارة في مسيرة الحرب والسلام؟!
ستشهد الشهور القادمة حسم هذه المسائل الثلاث، سلباً أو إيجابياً. والسلب
والإيجاب هنا، ليس أمراً قدرياً محضاً من قبيل المصادفات؛ ولكنه السلب
والإيجاب الذي يحكمه قانون الأسباب، وهو من القدر أيضاً. بمعنى آخر: فإن
الأسباب المبذولة من كل طرف لنصرة قضيته ودعمها بعد فهمها هي التي ستوجه
المؤشرات نحو هذا الحل أو ذاك. [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم
بِبَعْضٍ] [محمد: 4] .
إن هذا الأمر يدعونا إلى أن نطرح سؤالاً كبيراً يحوي أسئلة ثلاثاً وهي: ماذا
تعني (القدس) بالنسبة لليهود، وماذا عملوا من أجلها على مدى خمسين عاماً؟ وماذا
تعني (القدس) بالنسبة للنصارى، وماذا عملوا من أجلها على مدى تلك الخمسين وما
قبلها؟ وماذا تعني (القدس) بالنسبة للعرب والمسلمين؟ وماذا عملوا من أجلها خلال
ما مضى من عمر القضية؟ !
مَنْ مِن هذه القوى يملك خياره؟ بل مَنْ منها سيفرض خياره؟
ماذا تعني القدس عند اليهود؟
هم يطلقون عليها (يورشلايم) أو (أورشليم) ، أي: مدينة السلام، التي
سيقودون العالم منها تحت قيادة (ملك السلام) ! هكذا نسبوا للتوراة. ففي التوراة كمّ
كثيف من الحديث عنها؛ حيث ذُكرت فيها نحواً من ستمائة وثمانين مرة، ويطلق
اليهود على القدس أيضاً (صهيون) نسبة إلى الجبل الموجود فيها والمسمى بهذا
الاسم الذي انتسبت إليه الحركة الصهيونية، ويطلقون على القدس أيضاً كما في
التوراة (مدينة الإله) و (مدينة العدل) و (مدينة الحق) و (مدينة الشعب المختار)
وأيضاً يطلقون عليها (أريئيل) يعني: أسد الله. وكل هذه المعاني تشير إلى مغزىً
واحد، وهو ارتباط تلك المدينة بالعقيدة والشريعة اليهودية؛ حيث فرضت تلك
الشريعة على اليهود أن يحجوا إليها ثلاث مرات في العام، وأن يتوجهوا إليها دون
أرضٍ غيرها في العالم.
وحيث شُرّد اليهود عن تلك الأرض، ودُمّر المعبد المُتخَذ قِبلةً فيها دون أن
يستطيعوا العودة إليها أو إعادة معبدها عبر ألفي عام؛ فهل يسهل عليهم بعد أن
عادوا إليها أن (يتنازلوا) عنها كلها أو بعضها لقوم آخرين يريدون أن يتخذوها
عاصمة؟ هل سيقدّم اليهود هذه المدينة التي انتزعوها بالدم والدمع كما يقولون لقوم
أضاعوها في أيام، بعدما حفظها أجدادهم طيلة قرون؟ !
إن المدينة التي يحتفل اليهود الآن بذكرى مرور ثلاثة آلاف عام [1] على
بنائها، لا تقبل في تصورهم أن تقسم بينهم وبين غيرهم ما دامت قد وقعت في
قبضتهم.
والذين يتصورون أن اليهود سيفرّطون في القدس أو في أحد شطريها،
لصالح العرب، يعيشون وهماً كبيراً، وهم مخدوعون أو مخادعون! فالقدس في
معتقد اليهود كل لا يتجزأ، فهم لا يعترفون بتقسيمها إلى غربية لليهود وشرقية
للعرب، بل هي مدينة واحدة موحدة، تقبل الزيادة ولا تقبل التجزئة، وفي التلمود
أن (القدس ستتوسع في آخر الزمان حتى تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون
ليقيموا خيامهم فيها) [2] . وللقدس مكانة مستقبلية في التراث الديني اليهودي؛ فهي
ستكون عاصمة لمسيح الخلاص الآتي من نسل داود، ولهذا يطلقون عليها
(الشخيناه) أي: الملكوت الذي سيتنعم منه العالم. جاء في (الأجاداة) [3] : (سيأتي
اليهود إلى القدس وسيأخذونها، وستمتلئ حدودها بالثروة) . وفي تفسير التوراة
صَوّرت (القبالاة) [4] (أورشليم) وكأنها المكان الذي سيفيض بالخير من السماء،
ومنها يوزع على بقية العالم!
ومن اللافت للنظر أيضاً أنهم يعتقدون بمقتضى (القبالاة) أن القدس ستعلو
أسوارها حتى لا تصل إليها (قوى الظلام) ! وستكون مكاناً مناسباً لتهيئة اليهود
وإعادتهم إلى التقوى! !
ماذا فعل اليهود من أجل القدس؟ !
لقد برهن اليهود، ولا يزالون يبرهنون على أن المعاني العقدية لا بد أن
تترجم إلى وقائع عملية. وفيما يتعلق بالقدس، كان تحويلها إلى مدينة يهودية
خالصة هدفاً ماثلاً أمام كل القوى على اختلاف توجهاتها قبل إقامة الدولة وبعد
إقامتها، ووجدت فكرة (القدس اليهودية) من يحفرها على جدران الواقع الهش،
وسط أمة لم تحسن فهم الواقع فضلاً عن التعامل معه.
لقد تقرر اتخاذها عاصمة (دائمة) قبل أن تُتّخذ (تل أبيب) عاصمة مؤقتة،
وبُدئ في تهويدها بالفعل منذ قيام الدولة في عام 1948م، وفي الرابع والعشرين
من شهر يونيو من العام نفسه أعلن بن جوريون في الكنيست أن مسألة إلحاق القدس
بإسرائيل ليست موضع نقاش، ثم تم بالفعل إعلانها عاصمة للدولة في 23 يناير
1950م.
وقامت (إسرائيل) بنقل كل الوزارات إلى القدس (الغربية) ريثما يتم الاستيلاء
على القدس الشرقية، وفي حرب يونيو 1967م، وبعد يومين فقط من بدء الحرب، اجتاح الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية محققاً الانتصار على مجموع الجيوش
العربية التي دخلت الحرب دون استعداد! ووقتها دخل (موشي ديان) وزير الدفاع
الأسبق ليعلن في تصريح أمام حائط المبكى، ما يُظهِر أن القدس الشرقية كانت هدفاً
رئيساً للحرب، قال: (لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا
قداسة، ولن نغادرها أبداً) وقد يقول قائل: إن مثل تلك التصريحات تقال في أزمنة
الحرب من أجل حشد الطاقات ورفع المعنويات، أقول: قد قالها بعد ديّان (رابين)
في أحد مؤتمرات السلام والتطبيع، ففي مؤتمر الدار البيضاء، وفي ضيافة الدولة
المضيفة لـ (لجنة القدس) قال رابين: (إن القدس الكبرى الموحدة، ستظل عاصمة
لإسرائيل لأبد الآبدين) [صحيفة هاتسوفين الإسرائيلية (12/11/1994م) ] .
أما نتنياهو فإن قضية القدس (الموحدة) بالنسبة له، هي قضية حياة أو موت،
وقد وقف أمام أعضاء الكونجرس الأمريكي في أول زيارة له بعد فوزه في
الانتخابات عام 1996م وجهر بعبارة محددة ورددها ثلاث مرات، وكأنه يردد قَسَماً، قال:
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
ومع تعالي نبرات صوته كلما كرر العبارة، كانت تتعالى أصوات التصفيق
الحاد، لتغطي على صوت الميكروفونات، حتى دوّت القاعة كلها بتصفيق متواصل، وازداد حماساً بعدما وقف جميع أعضاء الكونجرس الأمريكي لتحيته! وفي أول
لقاء له مع بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض، أعلن نتنياهو إلغاء كل القيود
على الاستيطان في القدس.
إن العبارة التي قالها بن جوريون وكان يرددها بعده مناحيم بيجن: (لا قيمة
لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) . هذه العبارة، تنسجم منطقياً
مع النظرة الدينية اليهودية للقضية، وتدل على أنهم يَعُون ويعنون ما يقولون، وإلا، فماذا يصنع اليهود بدولة يعقوب (إسرائيل) دون مدينة (داود) ؟ وماذا يستفيدون
من مدينة داود، دون معبد (سليمان) الذي ترتبط به صلواتهم وحجهم ومجمل ديانتهم؟
إن العلمانيين العرب لم يفهموا، أو لم يريدوا أن يفهموا هذه الأبعاد الدينية؛
ولذا فإنهم كانوا ولا يزالون يتخبطون في فهم القضية والتعامل معها، وليتهم إذ
عجزوا أو تعاجزوا عن فهم المعنى الديني.. أقبلوا على فهم المغزى التاريخي،
فإنه يعطي خاصة في سياقه الحديث إشاراتٍ فصيحة تنبئ عن ثبات الخُطا اليهودية
تجاه السيطرة التامة على القدس غربيةً وشرقيةً.
قصة الابتلاع:
بعد أن حاز اليهود القدس الغربية بعد حرب عام 1948م، ونالوا من الأمم
المتحدة صكوك ملكها في حماية (الشرعية الدولية) اتجهت أنظارهم نحو (القدس
الشرقية) وكانت الحرب، وكانت النكسة، وكان الاحتلال، ولم تشأ الشرعية
الدولية أن تضفي شرعيتها على هذه (المخالفة) لقرار التقسيم، فأُطْلق على القدس
الشرقية وصف: الأرض المحتلة، ومن دون أن تتخذ هذه (الأمم) أي إجراء مضاد
لهذا الاحتلال يوقف المحتلين عند حدهم بعقوبات أو حصار أو تحالف دولي!
أما اليهود: فقد سارعوا إلى فرض واقع جديد في طبيعة الأرض التي استولوا
عليها، والتي لم يقدموا من أنحاء العالم إلا من أجلها؛ فبعد أقل من عشرين يوماً
من دخولها، صدر قانون يقضي بإخضاع القدس الشرقية لنظم الدولة في إسرائيل،
وبدأ ضمها الفعلي بدءاً من عام 1968م، وفي 30 يوليو 1980م، صدر قانون
بضمها بشكل نهائي واعتبارها عاصمة رسمية موحدة للدولة ومقراً لحكومتها
وبرلمانها ومكتب رئيسها. وقد أطلق على هذا القانون: (مشروع القدس الكبرى)
وقد تم ذلك لإعطاء قضية توحيد القدس بُعداً عالمياً في المجتمع الدولي الذي أسهم
فعلياً في تسهيل مهمة اليهود في ابتلاع الشطر الأول، تاركاً لهم مهمة تدبير شأنهم
مع الشطر الثاني.
ولم يكن على اليهود بعد أن سيطروا على القدس الشرقية حيث مقدساتنا
الإسلامية إلا أن يتفرغوا لفرض واقع جديد، يتم تنفيذه على مراحل: سياسياً
وقانونياً وديموغرافياً؛ فالواقع الديمغرافي المتعلق بالهوية والسكان، كان يميل بشدة
إلى جانب العرب المسلمين في فلسطين عندما احتُلت القدس الشرقية، ولكن الكفة
ظلت تميد وتميل إلى جانب اليهود، وفق تصور مبيت وتدبير مقصود. لقد كان
سكان القدس من الفلسطينيين عام 1967م يمثلون نسبة 100%، ولكن هذه النسبة
ظلت تنخفض بشكل خطير، ضمن مخطط يهدف إلى إيصالها إلى أدنى حد لها
بحلول العام 2000م، وذلك عن طريق مشروع (القدس الكبرى عام 2000م) وهو
مشروع يهدف باختصار إلى تقليص وتنقيص الأرض وسكانها عربياً، وإنمائها
وزيادتها إسرائيلياً؛ حيث تقرر بحسب المشروع أن توسع القدس لتمتد غرباً باتجاه
تل أبيب، وجنوباً باتجاه الخليل، وشمالاً إلى ما وراء رام الله وحتى حدود أريحا
شرقاً.
ولتنفيذ هذا المخطط (الذي يهدد ثلاثة أرباع الضفة الغربية) شرّد اليهود
حوالي 60 ألف فلسطيني، وصادروا أملاكهم. أما الأرض الفلسطينية (المحتلة
بحكم الأمم المتحدة) : فقد أكلتها القوارض اليهودية في هدوء أمام صمت الأمم
المتحدة، حتى إنه في حقبة التسعينات، لم يعد الفلسطينيون يسيطرون إلا على 21% فقط من مساحة المدينة، تصل بعد التخفيض إلى 4% فقط؛ لأن بقية النسبة
تتشكل من مناطق وعرة لا تصلح للسكنى والعمران [5] .
لقد حدثت في المقابل طفرة في إسكان اليهود بالقدس الشرقية، وخاصة في
عهد نتنياهو، وكان أول ما بدأ به استكمال مشروع (البوابات) حول القدس 26
بوابة وهو مشروع كان (شارون) قد بدأه في عهد (شامير) ليستكمل به تطويق
المدينة بأحياء سكنية يهودية.
سكان متدينون لعاصمة دينية:
ليس في دولة (إسرائيل) الدينية، عاصمة دينية وأخرى علمانية، بل فيها
عاصمة واحدة موحدة، يرون أنها عادت بالدين ومن أجل الدين، ولهذا فلا ينبغي
أن يسكنها إلا المتدينون؛ وهل في هذا الأمر غرابة؟ ! إن الغرابة في عكس هذا
الأمر، وهو أن تقع المدينة المقدسة في أيدي اليهود بعد قرابة ألفي عام ثم يتركها
المتدينون لسُكنى الفلسطينيين! أو حتى العلمانيين الإسرائيليين.
إن تسكين اليهود (المتدينين) لمدينة القدس يسير أيضاً وفق نسق ديني، يرسم
معالمه المتشددون من حاخامات وكهنة وطلاب علوم دينية، وتقوم على تحقيقه
الجهات المتنفذة من سياسيين وعسكريين.
ولماذا الدينيون المتشددون؟ ! لأنهم وحدهم الذين سيعرفون لها منزلتها في
الديانة اليهودية، وهم وحدهم الذين سيُخْلصون في تكثير سوادها [6] وتعمير
مرافقها، وأهم من ذلك؛ فهم وحدهم الذين سيتصدون للدفاع عنها وعن المشاريع
اليهودية الدينية المستقبلية فيها وعلى رأسها (بناء المعبد الثالث) ؛ حيث سيكونون
طليعة المستقبلين للملك القادم على كرسي داود كما يروج لذلك الحاخامات الذين
ينسبون إلى التوراة على لسان سليمان عليه السلام: (أيها الرب إله إسرائيل، احفظ
لعبدك داود أبي ما كلمته به قائلاً: لا يُعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي
إسرائيل إن كان بنوك إنما يحفظون طرقهم، حتى يسيروا أمامي، كما سرت أنت
أمامي) [7] فلا بد وفق هذا النص أن يكون جيل الخلاص مخْلصاً لليهودية متمسكاً
بها، حافظاً لطرقها، أما المفرطون من العلمانيين واليساريين والاشتراكيين
والليبراليين الإسرائيليين، فلا مكان لهم في الأرض المقدسة إلا إذا انضموا إلى
ركب المتدينين!
إننا نشهد في السنوات الأخيرة عملية حشد أو حشر كبيرة للمستوطنين اليهود
في المدينة المقدسة، ولا بد أن نتذكر، أن الاستيطان يقترن دائماً بالتدين والتسليح
وليس الحديث المستفيض في وسائل الإعلام عن الاستيطان اليهودي في القدس إلا
ترجمة لهذا الاتجاه. والمراقب للأمر يمكنه أن يرصد أن إسكان القدس للمتدينين
أصبح هدفاً تلتقي حوله القوى صاحبة القرار والتأثير في دولة اليهود، وقد اختصر
نتنياهو هذا الموقف بتصريح أدلى به أمام شركائه في الائتلاف الحاكم؛ حيث قال
بالنص: (أنا مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود، ولو وصل الأمر إلى التضحية بتأييد
العالم من أجل تنفيذ وصية التوراة بتسكين القدس لليهود وإعمارها وتحرير أنفاقها)
وقال: (كل حلمي هو أن أبني القدس وأعمرها بالمستوطنات)
[يديعوت أحرونوت، 28/7/1997م]
وهو بالطبع يقصد القدس الشرقية؛ لأن الغربية قد عُمرت بالناطحات لا بمجرد المستوطنات!
وللحقيقة فإن مساعي إسكان اليهود المتدينين للقدس لم تبدأ بنتنياهو وإن كانت
قد تضاعفت في عهده وإنما بدأت قبل مجيئه؛ فإضافة إلى الحرص الذاتي لدى
المتشددين اليهود لسكنى القدس، فقد كان هناك تشجيع رسمي لإحلالهم فيها، وقد
نقلت صحيفة
(هاآرتس) الإسرائيلية في (6/8/1995م)
أن وزارة الإسكان أعدت خطة لإسكان المتدينين في القدس، تشمل 120 ألف وحدة سكنية منها 6500 وحدة بالقرب من مدخل القدس. ومما يدل على أن مشاريع الإسكان هذه لا تقل أهمية وخطورة عن مشاريع الحرب أن اليهود أوكلوا إلى الدموي (أرييل شارون) الذي كان وزيراً للحرب منصبَ وزير الإسكان [8] ، ليحوّل شراسته في الحرب إلى شراهة في التهام وتكثير المستوطنات وتعميرها باليهود. وقد أثارت هذه الحُمّى الإسكانية انتباه المراقبين في الإعلام الدولي حتى إن صحيفة (الفيجارو) الفرنسية الصادرة في (16/6/1997م) رصدت الظاهرة، وكتبت تقول تحت عنوان: (غزو حقيقي للقدس) : (إن اليهود المتدينين يقومون بنشاط محموم بالتحالف مع الأحزاب الدينية والحاخامات، لجعل القدس مدينة محكومة بتعاليم التوراة فقط) ، وذكرت الصحيفة أن غزو المتدينين اليهود (الحريديم) للمدينة ظهرت له آثار عديدة، فقد حصلوا على حق إغلاق العديد من الأحياء في المدينة في وجه حركة المرور في يوم السبت تمشياً مع تعاليم التوراة التي تحظر أي نشاط غير العبادة في يوم السبت، كما أن هناك فِرَقاً مسموحاً لها بأن تأمر النساء بالاحتشام وتنكر على النساء العلمانيات اللاتي يرتدين ملابس غير لائقة، وذكرت الصحيفة أن هؤلاء المتدينين يتلقون الإعانات والتبرعات من يهود الشتات، ويتفرغون للتعليم الديني، ولا يشاركون في دفع الضرائب، وتعفيهم السلطة من الخدمة في الجيش إذا أرادوا، وقد قدمت لهم البلدية إحدى عشرة ومائة قطعة من الأرض مجاناً ليقيموا عليها سبعة وثمانين معبداً يمارسون من خلالها أنشطتهم في أنحاء المدينة.
وذكرت صحيفة نيوزويك في عددها الصادر في (20/12/1416هـ) أن مدينة القدس، أصبحت معقلاً للتطرف اليهودي، وأشارت إلى أن عدد اليهود غير المتدينين الذين يغادرون المدينة في ازدياد؛ حيث أصبحت المدينة مكاناً غير مقبول بالنسبة لهم، نظراً للطابع الديني والقيود التي يضعها المتدينون اليهود على الحياة هناك.
والتمدد الديني بدأ يتسرب إلى باقي أجزاء الدولة اليهودية؛ فقد نجح المتدينون
الذين تسلموا سبع حقائب وزارية في وزارة نتنياهو، إضافة إلى رئاسة أهم اللجان
البرلمانية وهي (لجنة الدستور) في أن يكثفوا الدعوة إلى التطبيق الشامل لـ
(الشريعة اليهودية) وقدموا مقترحات رسمية لإغلاق كافة المصالح التجارية
والترفيهية اليهودية يوم السبت، إلى جانب إغلاق الشوارع الرئيسة في المدن
الكبرى الثلاث: القدس، وحيفا، وتل أبيب أمام حركة المرور، وإغلاق مطار اللد
في هذا اليوم أمام حركة الطيران الدولية! ! وامتثالاً لمطالب المتدينين أيضاً
حظرت الحكومة على كافة العاملات في البرلمان (الكنيست) ارتداء الملابس
القصيرة والسراويل.
[مجلة المجلة العدد (855) 14/2/1417هـ]
والقلق يتزايد في أوساط العلمانيين من نشوب حرب أهلية في القدس بين
المتدينين والعلمانيين؛ حتى إن صحيفة (معاريف) كتبت تقول في عددها الصادر
في 14/7/1996م: (إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه في ظل حكم الليكود،
فإن العلمانيين لن يستطيعوا المعيشة بالقدس وقد يضطرون إلى المواجهة، ونقلت
الصحيفة عن وزير البيئة في الحكومة العمالية (يوسي ساريد) تخوّفَه من استسلام
العلمانيين للأمر الواقع؛ حيث قال: (إنني مُحبَط من أن جمهور العلمانيين تركوا
الساحة في الواقع في أيدي الدينيين) ! وأظهر استطلاع أجراه معهد
(جيئوقرتوجرافيا) أن نصف سكان إسرائيل يعتقدون بإمكانية قيام حرب أهلية بين
المتدينين والعلمانيين)
[صحيفة هاتسوفين الإسرائيلية (23/12/96]
إن بعض (الواقعيين) العرب، بدأوا يراهنون كعادتهم على هذا الخطر على
دولة (إسرائيل) وبدأوا ينسجون الأوهام حول احتمال أن تنفجر إسرائيل بالحرب
الأهلية الداخلية، بعد أن أخفق العرب في إخضاعها بالحروب الخارجية. وهذا
التصور، فوق أنه (احتمال) لا ينبغي أن تُبنى عليه المواقف والآمال، فهو احتمال
نستبعده، لأمرين:
الأول: أن اليهود المتدينين يعتبرون اليهود غير المتدينين مخزوناً استراتيجياً
بشريّاً لهم، ويراهنون على أن قطاعات كبيرة منهم ستصهرها حرارة الأحداث
القادمة في بوتقة اليهودية (الأصولية) .
الثاني: أن اليهود العلمانيين لن يكرههم أحد وهم علمانيون دنيويون على
البقاء داخل القدس، بل داخل إسرائيل، إذا داهمهم خطر الحرب والقتل والدم.
بل فوق هذا وذاك يُعِدّ يهود العالم (الأصوليةَ) اليهودية والنصرانية أيضاً
لتكون سلاح ردع في وجه (الأصولية) الإسلامية، التي ينظرون إليها على أنها
العدو الأول والأخطر، وهم قد أدركوا تماماً أن جندية: (أمجاد يا عرب أمجاد)
المناضلة تحت راية القومية العربية الفاشلة، قد بدأ يتجاوزها الزمان، بعد أن بدأت
تلوح في الأفق إرهاصات القدوم المظفر لجندية (الله أكبر) المقاتلة تحت راية
الإسلام الخالد.
فعلى طريقة: (لا يفل الحديد إلا الحديد) يبدو أن اليهود عازمون على تصدير
غلاتهم ومتشدديهم في صف المواجهة الأول مع مشروع الإسلام الجهادي التحريري
في بيت المقدس وما حوله. وما يتناثر من تصريحات اليهود هنا وهناك، يصبّ
جميعه في هذا الاتجاه. قال شمعون بيريز رئيس الوزراء السابق في مقال كتبه
لصحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية في 17/1/1997م: (إن الشرق الأوسط يقف عند
مفترق طرق خطير، لا شيء فيه يمكن أن يبقى كما كان، الوضع يتغير بسرعة،
وعلينا أن نختار بين التحول باتجاه سلام يصبح لنا فيه اقتصاد جديد، وبين تحول
إلى التطرف والأصولية، يصبح له سلاح جديد. إنني أرى بوضوح قوة التحول
إلى غير المرغوب؛ إن التحوّل الأصولي الإسلامي الذي يستهدف النصرة من
شريحة عملاقة من السكان في العالم الإسلامي تقدر بمليار و300 مليون رجل
وامرأة، تحوّل لا يعتمد على المنطق، بل على التقديس وقصص الأساطير
والمعجزات والوعود بنعيم الجنة، وعلى رأس هذا التحول يقف رجال دين منظمون
، ومنظمات إرهابية في كافة أرجاء العالم، إضافة إلى دول ترعى الإرهاب وتسعى
للتزود بأسلحة صاروخية ذات رؤوس غير تقليدية، وتستعد لحيازة رؤوس نووية.. إذن؛ أردنا أم لم نرد، فإننا مضطرون للاختيار مع القرن القادم بين السلام، أو
مواجهة تعصب القرون الوسطى) ! وأردف بيريز قائلاً: (حتى سنة 2000م،
سيكون الشرق الأوسط مسلحاً من أخمص قدميه إلى رأسه بالصواريخ ذات
المسافات المتنوعة وبأسلحة غير تقليدية، وفوق هذا.. بأصولية عطشى وجائعة،
ومن شأن ذلك أن يغري بخوض حرب جديدة، والأكثر من ذلك ربما وإلى أن تحل
سنة 2000م تتصاعد من جديد المنافسة على زعامة العالم؛ حيث ستصبح المنطقة
ساحة واسعة لمن يحسم الصراع لصالحه) !
وقد أجرت صحيفة (هاآرتس) حديثاً في (22/11/1996) مع بنيامين نتنياهو
وسأله الصحفي عن المخاطر الرئيسة التي تواجهها إسرائيل فقال: (إن عالم القرن
القادم سيكون متعدد الأقطاب وغير مستقر، وسنتعرض إلى خطرين رئيسين:
الخطر الأول: يأتي من داخل الفلسطينيين، أما الخطر الثاني: فسيتمثل في التهديد
الإسلامي من خارج فلسطين، ويتمثل الحل بالنسبة للتهديد الأول في أن نخلّص
الفلسطينيين من حلمهم، فمن الضروري أن يتحرروا من فكرة (الخلاص) ، وفيما
يتعلق بالخطر الثاني فلا أرى أنه يوجد حل سهل، واعتقد أن حل هذه القضية بعيد
عن إسرائيل، ومع هذا فإني شديد التفاؤل خاصة وأني واثق من أن دولة إسرائيل
ستصبح أكثر قوة مما هي عليه حالياً خلال السنوات القليلة القادمة، وستتحول
إسرائيل إلى جهة بالغة القوة في عالم ما بعد الصناعة الذي نقتحمه) !
ورغم محاولة نتنياهو تغليف خوفه من (الخطر الإسلامي) بالتفاؤل، إلا أننا
نلحظ أنه لم يسجل للأنظمة العلمانية خطراً يذكر على إسرائيل؛ فالإسلام داخل
فلسطين، والإسلام خارج فلسطين هو فقط الخطر الذي يؤرق أحلام اليهود.
لأجل هذا الرعب والذعر المتنامي عند كبار زعماء اليهود من (الخطر
الإسلامي) فإنهم يعمدون إلى استنهاض الهمم اليهودية والنصرانية المتشددة؛ إلى ما
يمكن تسميته بـ (توازن الرعب) فإلى جانب أسلحة الردع النووية والكيماوية
والبيولوجية التي تتترس بها دولة اليهود، فإنها تريد أيضاً حيازة ترسانة بشرية من
السلاح (الأصولي) لتخزينه في الأرض المقدسة، ليستخدم عند الحاجة ضد ما
أسموه (الأصولية الإسلامية) !
وما نعتقده، أن (الحشر) اليهودي إلى بيت المقدس، ومجيئهم إليه لفيفاً،
وعمرانهم إياه بالبناء والسكنى، ليس إلا مقدمة ليوم تحتشد فيه قوى الإيمان في
مقابلهم، مصداقاً لقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال
عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس
وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) [9] .
وبين (الأصوليتين) المتواعدتين قدراً للقاء محتوم على أبواب بيت المقدس،
هناك أصولية ثالثة، تتحسس خطاها، وتستحث أتباعها للقدوم إلى الأرض المقدسة؛ حيث ولد المسيح عيسى عليه السلام، وحيث سيعود. إنهم لا يرون للمسلمين حقاً
في هذه الأرض بشهادة تاريخ النصارى القديم والحديث بل لا يرون لليهود حقاً فيها
إلا باعتبارهم أداة قدرية تهيئ الدنيا لمقدم هذا المسيح العائد لتعميد اليهود والبشرية
كلها في الأرض المقدسة.
فعن هذه الأصولية الثالثة، المتهيئة والمتحفزة لاستقبال الألفية الثالثة في
الأرض المقدسة وفي احتفالات (بيت لحم 2000م) سيكون حديثنا في لقاء قادم إن
شاء الله.
__________
(1) لأن داود عليه السلام قد بناها قبل ميلاد المسيح بألف عام.
(2) انظر الكنز المرصود في أسرار التلمود.
(3) الأجاداة هي: الجانب القصصي الشفوي في التلمود، في مقابل الجانب التشريعي المدون.
(4) القبالاة هي: مجموعة التفسيرات الباطنية (المقبولة) للتوراة، باعتبار أن كل كلمة منها وكل حرف ونقطة تحوى سراً داخلياً عندهم، لا يمكن فهمه إلا بالتأويلات الباطنية.
(5) من المضحكات المبكيات أن بعض (الواقعيين) العرب يروّجون لصيغة (حل وسط) لضمان كون (القدس) عاصمة للدولة الفلسطينية كما يتعهد عرفات وذلك باقتطاع جزء من خارج القدس التاريخية بشقيها، واتخاذها عاصمة بعد أن يُطلق عليها اسم (القدس) ! ! .
(6) تذكر الإحصاءات أن معدل الولادة بين يهود القدس أعلى بكثير من معدلها في سائر دولة اليهود.
(7) سفر الملوك، الإصحاح الثامن.
(8) قبل أن يتحول إلى وزير للخارجية.
(9) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، انظر مجمع الزوائد، 10/63.(137/100)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
أطماع بلا حدود
نحن فخورون بأن الولايات المتحدة تعتبر الشريك التجاري الأول، وأكبر
مستثمر بمنطقة الخليج؛ حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين دول الخليج والولايات
المتحدة نحو 25 مليار دولار أمريكي. ولكن هناك قيوداً على الاستثمارات الأجنبية
في دول الخليج حيث تحدد نسبة مساهمة الأجانب بـ 49% من الأسهم، ونحن
نعتقد أن وقت فرض القيود على الاستثمار قد انتهى.
... [مستشار وزير التجارة الأمريكي، جريدة الخليج، العدد: (7225) ]
الإسلام قادم
إن الإسلام بدأ ينتشر تياراً دينياً سائداً في الولايات المتحدة، إنه أسرع
الديانات نمواً، لقد تحول الإسلام في العقدين الأخيرين من عقيدة منعزلة إلى حركة
دينية، حركة تزداد قوة وتأثيراً وعدداً، تؤكد نفسها كما لم يحدث مطلقاً من قبل.
... [دورية أضواء على الأنباء الأمريكية، السنة 14، العدد: (2) ]
الآن.. فشل الحوار! !
لقد كان الجانب الإسلامي يحسن الظن دائماً بالغرب حين يدعو إلى الحوار،
ولكن ثبت بالتجربة التي خاضها الجانب الإسلامي بكل الصدق النابع من الإيمان،
أن الجانب الآخر لم يكن على الدوام على المستوى الرفيع من سلامة القصد وحسن
الطوية؛ ليس فحسب في الأفكار والآراء التي كان يبديها ويعبر عنها، ولكن من
حيث المواقف التي يتخذها إزاء القضايا والمناسبات التي كانت تتطلب ذلك، وأمام
هذا الوضع يكون من حق الجانب الإسلامي أن يتساءل عما إذا كان هذا الحوار ترفاً
فكرياً ونشاطاً ثقافياً بين نخبة من المفكرين والعلماء لا نفع فيه ولا فائدة تجنى منه
أو نشاطاً من الأنشطة التي تنظم دون أن يكون لها تأثير في حياة الناس.
... [من تقرير منظمة الإيسيسكو، جريدة الأنباء، العدد: (8196) ]
من جرائم الهندوس
قام الجيش الهندي الغاشم بهجوم مسلح مباغت، قتل فيه الشيخ محمد رمضان
سلفي، قائد وأمير جمعية أهل الحديث بجامو وكشمير، وذلك بعد عودة الشيخ
رحمه الله من إلقاء خطبة الجمعة بمسجد أهل الحديث المركزي بـ (سرينجر) .
[مجلة سياحة الأمة، العدد: (13) ]
الشعب كله فداك
1- في كوريا الشمالية يأكل الناس العصيدة، وهي عبارة عن خليط من أعواد
النبات وأوراقه. والمحظوظون منهم يأكلون البطاطس، إنه من المحتمل أن تكون
هناك الآن إحدى أكبر المجاعات في هذا القرن، وقد مات بسببها حوالي 3 ملايين
شخص حتى الآن، إن الناس توقفوا عن الزواج لأنه لا يوجد غذاء للأطفال، ولا
توجد غير قناة تلفزيونية واحدة، تنقل لهم أناشيد لا حصر لها تمدح (الزعيم العظيم) .
[جريدة هيرالدتيربيون الدولية، جريدة الجرائد العالمية، العدد: (621) ]
2- مع الاحتفال بعيد ميلاد الزعيم الكوري الشمالي، أنفقت الدولة ما يزيد
على 90 مليون دولار، منها مليونٌ و600 ألف دولار للألعاب النارية، و4 ملايين
دولار لاستيراد الكافيار الإيراني، ونظم مهرجان اشترك فيه ستة آلاف عارض
وراقص جاؤوا من 22 دولة! !
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7386) ]
وهذا هو السبب! !
لماذا تقرير المصير والاستقلال حلال على التيموريين، وحرام على
الكوسوفاويين؟ لا بد أن يقال بكل وضوح إن من الأسباب الرئيسة كون الصرب
في نهاية المطاف من المسيحيين الغربيين الذين تنتصر الدول الغربية لهم في كل
الأحوال، وإن الكوسوفاويين الذين يطالبون بالاستقلال هم من المسلمين الذين لا
ظهير لهم.
[فهمي هويدي، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (4705) ]
جهاد القوى الاستعمارية.. بالتطبيع! !
أعلن وزير الدولة السوداني للشؤون الخارجية الأسقف غبريال روريج أن
هناك اتصالات مكثفة حالياً بين القائم بالأعمال الأمريكي في نيروبي ومسؤولين
كبار في وزارة الخارجية السودانية لحل القضايا الخلافية بهدف تطبيع العلاقات
الدبلوماسية بين البلدين. ... ... ...
[جريدة الحياة، العدد: (13153) ]
وماذا عن مسلمي الأندلس والبوسنة؟
دعا رئيس وزراء النرويج دول أوروبا إلى الاعتراف بالذنب الذي اقترف
ضد اليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية على كافة المستويات المعنوية
والأخلاقية والمادية، ثم قدم اعتذاره عن هذه المذابح وأضاف أن حكومته قررت
التبرع بمبلغ 60 مليون دولار لتخليد ذكرى اليهود الذين قتلوا في أوروبا.
[جريدة الخليج، العدد: (7219) ]
بعد 30 سنة قومية! !
إن الحديث عن العروبة والقومية العربية يعد نوعاً من العنصرية، إن الانتماء
الحقيقي يجب أن يكون للأرض الإفريقية، الوحدة العربية والقومية العربية..
كلمات كبيرة.
[الرئيس الليبي، معمر القذافي، جريدة الخليج، العدد: (7234) ]
شاهد من.. عدوها
إنه وباستثناء الإسلاميين فإن القوى السياسية الأخرى في تركيا، غير
مترابطة وبلا أيديولوجية واضحة وتتسم بالانتهازية، كما أنها عجزت عن تحقيق
صلات قوية بالمجتمع.
[لوموند بلوماتيك الفرنسية، عن جريدة الجرائد العالمية، العدد: (621) ]
أذكياء أكثر مما تتوقع
قال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إسحاق مردخاي: إن السلطة الفلسطينية
قررت التصدي لهجمات يشنها مقاومون ضد إسرائيل في الفترة التي تسبق
الانتخابات الإسرائيلية، وقال: الفلسطينيون أذكياء بالقدر الكافي؛ فقد أدركوا أنه
إذا ارتكب خطأ وفشلوا في منع الهجوم في وقت الانتخابات فسيضر ذلك بالاتفاق
كله. ... ... ... ... ... ...
[جريدة الأنباء، العدد: (8181) ]
بعضهم أولياء بعض
وجه حوالي 1500 من المثقفين المصريين نداءً إلى الرئيس التركي ناشدوه
فيه إجراء محاكمة عادلة لعبد الله أوجلان، وقالوا في البيان الصادر عنهم: إننا
نشعر بالقلق والألم العميق على مصير الزعيم الكردي.
[جريدة الأسبوع، العدد: (107) ]
سائرون على العهد
كشف ديفيد قمحي، مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق، عن تقديم أصدقاء
لطفي الخولي المصريين من جماعة كوبنهاجن تعهدات بالاستمرار في الطريق الذي
بدأوه مع العدو الإسرائيلي، وأكد ديفيد قمحي أن (إسرائيل) خسرت كثيراً بعد وفاة
الخولي قائد جماعة كوبنهاجن. ...
[جريدة الشعب، العدد: (1339) ]
يا حسرة على النمور
إن النمور الآسيوية العظيمة لم يعد لها وجود، هذه الدول صغرت وتراجعت
إلى دول تطلب المعونة، وأطيح بحكوماتها وتقوض نظامها السياسي، وربما نجد
أن استقلالنا الذي حصلنا عليه أخيراً قد تقوض.
[مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، مجلة المشاهد السياسي، العدد: (154) ]
وأين إيجابيتكم؟
صرح خافيير سولانا، الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلنطي: إننا نعاني
من مشكلات خطيرة مع صربيا في رامبوييه، وذلك على العكس بالنسبة لوفد
كوسوفا الذي يبرهن حتى الآن على أن موقفه إيجابي.
[جريدة الباييس الأسبانية، عن جريدة الجرائد العالمية، العدد: (621) ]
أيادي أمريكا.. البيضاء!
اتهمت لجنة التحقيق المكلفة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب
الأهلية في جواتيمالا التي استمرت 36 عاماً وانتهت عام 1996م وأسفرت عن
سقوط 200 ألف قتيل اتهمت وكالة المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) التي دعمت
الجيش الجواتيمالي بشكل مباشر وغير مباشر.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7396) ]
مؤهلات الاستقلال
في تيمور الشرقية، لم يستطع المستعمر البرتغالي طوال خمسة عقود أن
يؤسس بها أي بنية أساسية، ولم يقوموا بتأهيل سكان الإقليم، إن نسبة الأمية تصل
إلى 90% إلى جانب أن الأطباء والمهندسين والمدرسين والإداريين الموجودين في
تيمور معظهم من خارج الإقليم، كما أن ميزانية تيمور حوالي 400 بليون روبية
وأن ما يأتي من ثروات الإقليم يمثل فقط 10 ملايين روبية.
[جريدة الشعب، العدد: (1337) ]
مرصد الأرقام
- كشفت صحيفتا الجارديان والأوبزوفر البريطانية عن إلقاء قوات التحالف
40 طناً من اليورانيوم المشع على العراق أثناء حرب الخليج.
[جريدة الشعب، العدد: (1330) ]
- كان من فاتورة حرب الخليج أن حصلت الولايات المتحدة على مبلغ 54
بليون دولار، وكانت تكاليفها في الحرب 31 بليوناً أي أنها ربحت 23 بليون
دولار، وجمعت الحكومة البريطانية 6 بلايين دولار ولم تزد تكلفتها عن ثلاثة
بلايين، وحصلت تركيا على ثلاثة بلايين، كما حصلت إسرائيل على بليون دولار
لضحايا صواريخ سكود، إضافة إلى عشرة بلايين كتسهيلات.
[مجلة روز اليوسف، العدد: (3683) ]
- في بداية عام 1992م كان حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل ملياراً
و600 ألف جنيه، ثم انخفض إلى 677. 7 مليون جنيه في عام 1996م، ثم
ارتفع مع وصول نتنياهو إلى مليار و 270 ألف جنيه.
[مجلة روز اليوسف، العدد: (3683) ]
- خلف العنف الذي يضرب الجزائر 180 ألف يتيم و 147 ألف طفل غير
شرعي.
[الشرق الأوسط، العدد: (7414) ]
- ارتفعت نسبة البطالة في الأسواق العربية لتصل 14% وهو ما يعني وجود
12 مليون عاطل عن العمل في الدول العربية، وتقدر الخسائر الناتجة عن ذلك
بنحو 115 مليار دولار سنوياً.
[جريدة الخليج، العدد: (7219) ]
- انكشف في عام 1998م استحواذ (350) مليارديراً دولارياً عالمياً وحدهم
على دخول 45% من سكان العالم.
[جريدة الشعب، العدد: (1327) ]
موجز المرصد
اعترف ألكسندر لوكا شينكو رئيس روسيا البيضاء بأن بلاده ارتكبت خطأً
كبيراً عندما تخلت عن أسلحتها النووية.
[مجلة المشاهد السياسي، العدد: (2157) ]
قامت بلدية إسرائيلية بتحويل مسجد في قرية مجدل عسقلان إلى (مطعم وبار) .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7224) ]
قامت السفارة الإسرائيلية في عمان بتوزيع ما تسميه دراسات ووثائق تمعن
في الإساءة إلى العقيدة الإسلامية والقرآن الكريم والنبي محمد -صلى الله عليه
وسلم-.
[مجلة الإصلاح، العدد: (403) ]
لم تجد شركة دعاية إسرائيلية سوى نداء (الله أكبر) للترويج لموقع لها على
شبكة الإنترنت ينشر منتديات القمار ومواقع الجنس.
[جريدة الحياة، العدد: (13147) ]
اعتبرت محكمة فيدرالية أمريكية أن سياسة منع اللحى التي تعتمدها الشرطة
في ولاية نيوجرسي، عملاً تحيزياً مخالفاً لحرية التعبير.
[جريدة الحياة، العدد: (13147) ]
قال الرئيس التركي سليمان ديميريل: إن أنقرة لا يمكن أن تقبل الضربات
الأمريكية في شمال العراق ... التي أدت إلى إغلاق خط أنابيب النفط الخام من
العراق إلى تركيا.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7401) ]
سمحت وزارة الداخلية الإيرانية بإحياء عيد النار، وهو من طقوس الديانة
الزرادشتية.
[جريدة الأنباء، العدد: (8198) ]
أفادت دراسة أوروبية نشرت في ستراسبورغ، أن أمرأة من كل خمس نساء
تقع ضحية أعمال عنف في دول مجلس أوروبا الأربعين، وأن 90% من أعمال
العنف ترتكب من قبل أفراد العائلة أو أقرباء.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7403) ]
غادر مئة مهندس وعامل من قاعدة عسكرية تابعة للصرب، غادروا إلى ليبيا
لصيانة سفن حربية وغواصة ليبيية.
[جريدة الحياة، العدد: (13107) ](137/110)
قضايا ثقافية
المدرسة العصرانية
مفهومها ونشأتها.. خصائصها ومزاعمها
(1/2)
محمد حامد الناصر
طلع علينا عدد من الكتاب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتجمعوا
تحت شعارات براقة مثل: الدعوة إلى (الفكر الديني المستنير) ، و (شعار
الاستنارة) وطلعت علينا أسماء رنانة يحمل كل منهم لقب (المفكر الإسلامي الكبير)
أو (المؤرخ الإسلامي الكبير) ونحو ذلك.
وقد أسهم أعداء الأمة من المستشرقين والمنصّرين في تلميع هذه الأسماء أمام
جمهرة المسلمين.
وكان هذا التيار يمثل جبهة الاتجاهات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى
اليسار، رافعاً شعار (التجديد) أو (الاستنارة) ، ويخفي حقيقة دعوته عن الأمة،
والتي هي عند التمحيص ليست إلا وجهاً من وجوه (العلمانية) .
* والعصرانيون ليسوا سواء:
فهناك من يصدر في كتاباته عن نية صريحة في هدم الإسلام، متأثراً بأفكار
قومية علمانية، أو يسارية شيوعية.
وهناك من يحاول إثارة الارتباك في أفكار الإسلاميين عن طريق شغلهم
باصطلاحات مبتدعة صعبة الضبط، أو عن طريق قلب مواقف التراث بأفكاره
وحركاته، فيجعل المنحرفين والضّلاّل أصحاب انفتاح وثورة، في حين يجعل
علماء الإسلام أهل جمود ورجعية.
وأكثر العصرانيين في هذه المرحلة من هذا الصنف. ومنهم من يصدر في
معالجته لقضايا الإسلام عن مصلحة سياسية يعمل من أجلها، فيركب الموجة في
إعلان حربه على أصحاب الصحوة الإسلامية متأثراً بالأهواء الرخيصة. ومنهم من
يصدر عن حسن نية، محاولاً الاجتهاد، إلا أنه يبقى مشدوداً إلى تصورات المناهج
الغربية التي تلقاها خلال دراسته أو ابتعاثه إلى ديار الغرب، أو يظل متأثراً بأفكار
المعتزلة، أو يكون ممن جُمعت هذه كلها في عقليته، فوقع في الاضطراب والخلل
والتناقض.
وكان من هؤلاء مع الأسف بعض رموز العمل الإسلامي الحديث، الذين
نرجو لهم أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يعوا حقيقة المعركة مع العلمانيين وأبعاد هذا
الصراع معهم [1] .
* فما حقيقة التجديد عند هؤلاء العصرانيين؟
لقد زعم أصحاب هذه المدرسة أنهم يريدون التجديد لتنهض الأمة من كبوتها،
ويريدون إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من خلال طرح العديد من الدراسات
والأبحاث المتعلقة بالتراث؛ إلا أنهم عمدوا إلى إحياء وتمجيد الاتجاهات الفكرية
المنحرفة، وعرضها في إطار عقلاني تحت مظلة الانتماء إلى التراث الإسلامي.
ثم قاموا بطرح العديد من الشعارات الجديدة التي تصل بين مفهومهم عن
الإسلام والماركسية، أو القومية والاشتراكية، أو بين الإسلام والديمقراطية الغربية.. مما يشتت جهود الانطلاقة نحو الإسلام [2] .
والحقيقة أن هؤلاء ساروا على خطا من سبقهم من المعتزلة الجُدد و (المدرسة
الإصلاحية) بزعامة الشيخ محمد عبده، ورددوا آراء المستشرقين، ونسبوا كل ذلك
إلى أنفسهم، وقلما أشاروا في كتاباتهم إلى هذه الجذور المريبة [3] .
* فما المقصود بالعصرانية وكيف نشأت؟ !
(إنها حركة تحديث واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى، داخل اليهودية، وداخل النصرانية، وداخل الإسلام أيضاً، إن هذه الحركة عرفت في الفكر الديني
الغربي باسم العصرانية (Modernism) وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد
الانتماء إلى هذا العصر ولكنها مصطلح خاص؛ إذ تعني العصرانية في الدين:
وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة
يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية
السائدة) [4] .
(وهي الحركة التي سعت إلى تطويع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية
ومفاهيمها والتي هي ربيبة الثقافة اليونانية وإخضاع الدين لتصوراتها ووجهة
نظرها في شؤون الحياة) [5] .
وقد كان للصراع بين الكنيسة والنهضة الحديثة أثر قوي في ظهور العصرانية
لدى النصارى بشكل خاص.
* العصرانية عند اليهود [6] :
بدأت في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي في ألمانيا نزعات جديدة تظهر
بين اليهود، تكونت منها فيما بعد فرقة جديدة عرفت باسم (اليهودية المتحررة) ،
وتسمى أيضاً اليهودية التجديدية أو (الإصلاحية) .
وكان ذلك يتم للملاءمة بين الديانة اليهودية ومعطيات الحضارة الغربية الجديدة.
وكان الدافع لهذه الحركة هو رغبة اليهود في اللحاق بركب العصر، ثم ألف
زعيمها (مندلسون) العديد من الكتب، وكان شعاره في ذلك: (الاستجابة للعادات
وأعراف المجتمع العصرية، مع المحافظة والإخلاص لدين الآباء) .
وكان من شعارات هذه الحركة: (أن الدنيا كلها تتغير من حولنا فلماذا نتخلف
نحن؟ !) .
أخي القارئ: سوف تلاحظ فيما يأتي أن بعض العصرانيين المسلمين
يكررون المقولة نفسها وبأشكال مختلفة. ومما يؤسف له أنك تلاحظ أن هناك قاسماً
مشتركاً بين العصرانيين اليهود والنصارى والمسلمين.
وتطورت هذه الحركة اليهودية على يد جيل من المفكرين من أحبار اليهود؛
فيرى (هولد هايما) مثلاً، أن الشريعة الإلهية موقوتة بظروفها وينبغي إيجاد
تشريعات بديلة عنها!
ويرى آخرون: (أن جوهر اليهودية ليست أشكالها ولا حتى شريعتها، ولكن
جوهرها هو أخلاقها) .
وقد وجدت هذه الحركة ضجة كبيرة وسط اليهود، حتى إن بعضهم كان يرى
أن موت اليهودية هو تطويعها لمبادئ العصر وإلى هذا التطور المتحرر من كل قيد.
* التجديد العصراني للنصرانية [7] :
في الوقت نفسه الذي كانت تزدهر فيه حركة التجديد في اليهودية، كانت
النصرانية بشقيها: الكاثوليكي والبروتستانتي تشهد تطورات مماثلة تشترك في
الهدف نفسه، وهو إيجاد التآلف بين إيمان الآباء وبين أفكار العالم الحديث
ومنطلقاته المتطورة.
يقول أحد كُتّاب الغرب ممن سجلوا هذه الظاهرة، وهو (جون راندال) في
كتابه: (تكوين العقل الحديث) : (إن الذين دعوا أنفسهم بالمتدينين الأحرار في كل
فرقة دينية سواء بين البروتستانت أو اليهود، أو حتى الكاثوليك قد ذهبوا إلى القول
بأنه وإن كان للدين أن يُشكّل حقيقة حية، وإذا كان له أن يظل تعبيراً دائماً عن
الحاجات الدينية للجنس البشري فلا بد له أن يتمثل الحقيقة والمعرفة الجديدتين،
وأن يتآلف مع الشروط المتغيرة في العصر الحديث من فكرية واجتماعية) [8] .
(فالعصرانية تقيم نظرتها على رفض سلطة المنقول؛ لأنه يناقض ما أثبته
العلم الحديث في نظرها، وتدعي أن المنقول سواء تمثل في الأناجيل أو في
شروحها، ما هو إلا تعبير عن التطور المرحلي للفكر الديني في العصر الذي كتب
فيه ... وبناء على هذا يعتقد أن الحقائق الدينية تخضع لتفسيرات متطورة حسب
تقدم المعرفة البشرية، وكلما تقدمت المعرفة، حدثت تصورات جديدة لحقائق
الدين) [9] .
ويؤكد هذا المفهوم في تطور الحقائق الدينية بلا ضوابط ثابتة قول أحد كتاب
الإنجليز (ثرنون ستور) : (العصرانية هي تلك المحاولات التي تبذلها مجموعة من
المفكرين لتقديم حقائق الدين المسيحي في قوالب المعرفة المعاصرة. إننا الآن لا
نلبس ملابس أجدادنا، ولا نتكلم لغتهم، فلماذا في ميدان اللاهوت نُكرهَ على أن
نفكر بعقول العصور البالية.. الويل للكنيسة التي تغمض عينيها فتعمى عن رؤية
نعمة المعرفة الجديدة) [10] .
وهؤلاء الآباء نقدوا التوراة والإنجيل في إطار ما سمي بالنقد التاريخي؛ إذ
يؤكد الراهب (بلويزيا) (أن الأناجيل في صورتها الحالية تشتمل على مجموعة من
الأساطير والخرافات؛ لهذا لا يمكن أن تكون هي كلمات الله المقدسة، ومن هذه كل
ما هو غيبي وخارق للطبيعة) . وكان من نتائج هذا النقد التاريخي أن دخلت فكرة
التطور في تعاليم الدين، ويتبع ذلك مفهوم نسبية الحقيقة) [11] .
وفي الوقت نفسه سار التجديد في البروتستانتية الحرة، وتوصلوا إلى النتائج
السابقة نفسها عند الكاثوليك الأحرار، وقالوا: إن الكتاب المقدس خليط مما هو
إلهي وبشري، وكان عيسى عليه السلام مجرد بشر.
ومن الملاحظ أن (البابا) (بيوس العاشر) كان قد أصدر منشورين عن الحركة
العصرانية عام (1907م) ودمغها بالكفر والإلحاد، ووصفها بأنها (مركب جديد لكل
عناصر البدع والهرطقة القديمة) [12] .
ومن المتناقضات العجيبة أن هذه القصة بكل فصولها نقلت إلينا من الغرب،
فظهرت لها نزعات مشابهة في العالم الإسلامي منذ القرن الماضي عند بعض
المتغربين ... فنادوا بتفسير بعض القضايا الإسلامية تفسيراً عقلانياً، وحاولوا
إخضاع القرآن والسنة للمقاييس المادية حتى تتلاءم مع منهج الغرب وقيم الحضارة
الحديثة التي بهرت كثيراً من الذين كانوا يرونها المقياس الوحيد لكل نهوض وتقدم.
والذي سمى هؤلاء (مجددين) إنما هو الاستعمار وتلاميذه وعملاؤه من
المستشرقين والمنصّرين ... هؤلاء (المجددون) هم الذين سخر منهم الرافعي رحمه
الله حين دخل معركته معهم في كتابه: (تحت راية القرآن) وقال: (إنهم يريدون أن
يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر) [13] .
* خصائص المدرسة العصرانية (الإسلامية) :
يتلخص منهج العصرانيين المتحدثين باسم الإسلام في قاعدتين أساسيتين هما:
أولاً: دعوى تطوير الدين ليساير بزعمهم الحضارات الوافدة:
لقد دأب هؤلاء على محاولات تطويع نصوص الشريعة حتى تساير معطيات
الحضارة المادية، واتبعوا في ذلك آراء المستشرقين من اليهود والنصارى [14] .
وقد سار على نهج العصرانية المتحررة عدد من كُتّاب المسلمين، وظهرت
لهم مؤلفات عديدة في هذا المجال؛ من ذلك كتاب: (الفكر الإسلامي والتطور)
للدكتور محمد فتحي عثمان.
والكتاب كما يقول صاحبه: (محاولة لمناقشة قابلية الإسلام في أصوله للتطور، ورصيد المسلمين التاريخي في التطور، والواقع المعاصر، واحتياجنا للوعي
بحقيقة التطور عندنا وعند غيرنا) [15] .
وتظهر خلفية الكتاب الفكرية فيما يورده الكاتب من أمثلة لتطور الفكر
الديمقراطي في الغرب، والفكر الاشتراكي، وتعدد مدارسه، ... ثم يتساءل:
(لماذا يُكتب على الفكر الإسلامي وحده الجمود؟) [16] .
ويرى الكاتب (أن التطور مسألة حتمية في كل شيء ... ولا تصح التجْرِبة
المثالية للدين في عصر الخلفاء الراشدين ... إنها تَجْرِبة مثالية بالنسبة لظروف
الخلفاء الراشدين السائدة في وقتهم، وبالنسبة لتفكيرهم وزمانهم وأقوامهم!) .
(ويستلزم من أجل ذلك ترجمة جديدة، وإعادة تقدير للحقائق الأساسية للعقيدة،.. ويجب أن نصحح منهجنا للدين كل سنة وكل شهر وكل يوم وكل لحظة وليس كل مائة سنة لأن المعرفة لا نهاية لآفاقها، ولأن التقدم الإنساني لا تَوَقّفَ
لسيره) [17] .
وفي الأقوال السابقة مغالطات كثيرة:
فالعقل الإنساني هو الطريق إلى تلقِّي الدين ومنهجه وتطبيقه، وهو مقيد
بشروط مجمع عليها عند علماء الأمة، كالعلم بالعربية وبمقاصد الشريعة ...
وهناك كُتّاب آخرون ناقشوا قضية التطور وعلاقتها بالتجديد وبالدين عموماً:
منهم: (أمين الخولي) في كتابه (المجددون) إذ يقول فيه: (إننا ننتهي
باطمئنان إلى أن التجديد الديني إنما هو تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد
الحق) [18] .
أما الشيخ عبد الله العلايلي: مفتي لبنان الأسبق، فيقدم لنا في كتابه: (أين
الخطأ؟) مجموعة من الأخطاء يريد تصحيحها مثل: إباحة التعامل المصرفي،
وأنه لا رجم في الإسلام، وأن الزواج المختلط بين المسلمين والكتابيين رجالهم
ونسائهم حلال شرعاً) [19] .
وللدكتور حسن الترابي آراء في مجال تطوير الدين نقتطف منها بعض أقواله، يقول الدكتور حول موقفه من أفكار السلف: (فأفكار السلف الصالح ونظمهم قد
يتجاوزها الزمن، من جراء قضائها على الأمراض التي نشأت من أجلها،
وانتصارها على التحديات التي كانت استجابة لها) .
ويتساءل بعدها: (ولكن المرء لا يعرف اليوم تماماً كيف يعبد الله في التجارة
أو السياسة أو يعبد الله في الفن) ويؤكد الدكتور آراءه بقوله: (ومهما كان تاريخ
السلف الصالح امتداداً لأصول الشرع، فإنه لا ينبغي أن يوقر بانفعال يحجب تلك
الأصول، فما وجد في تراث الأمة بعد الرسول ابتداءً بأبي بكر فهو تاريخ يستأنس
به؛ فما أفتى به الخلفاء الراشدون مثلاً، والمذاهب الأربعة في الفقه، وكل التراث
الفكري الذي خلفه السلف الصالح في أمور الدين، هو تراث لا يُلتزم به، وإنما
يُستأنس به في فهم سليم لشريعة تنزّلت في الماضي على واقع متحرك، وهي تُنزّل
اليوم عى واقع متحرك) [20] .
والدكتور الترابي يخالف بأقواله هذه ما كان عليه علماء الأمة..
ومعلوم بالضرورة أنه على المسلمين أن يقتدوا برسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في أقواله وأفعاله، وأن يقتدوا بأصحابه رضي الله عنهم لقوله: (عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضّوا عليها بالنواجذ) [21] .
* وقفة مع دعاة التطور:
إن التطور يعتبر طبيعياً إذا كان اجتهاداً في الفروع وما يسع الخلاف فيه،
وليس في الأصول المعلومة من الدين بالضرورة، أما إذا استجاب الدين لكل تفسير، فذلك يعني تجاوزه إلى عقول البشر ويعني العلمانية، أي فصل الدين عن الحياة
باسم التجديد والتطوير.
ولو صدق هذا الأمر على اليهودية والنصرانية بسبب ظروف تاريخية،
وبسبب ما حصل فيهما من تحريف؛ فإن هذا لا ينطبق على الإسلام أبداً، حتى
يرث الله الأرض ومن عليها.
والتطور التشريعي نوعان: منه ما هو إداري بحت، يراد به ضبط الأمور
وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ومن ذلك ما عمله عمر
رضي الله عنه في ديوان الجند، وشراؤه دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً في مكة
المكرمة، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر؛ فهذا
النوع من الأنظمة لا يخرج عن قواعد الشرع ومراعاة المصالح العامة) [22] .
وهذا مما يدخل تحت أحكام الشريعة عن طريق المصالح المرسلة، وهي
أحكام تقرها الشريعة السمحة بضوابط معتبرة.
أما النوع الثاني من الأنظمة، المتمثل في القوانين الوضعية، التي تحرم ما
أحل الله، وتحل ما حرم الله، فإن إقراره كفر بخالق السموات والأرض وذلك
بإجماع المسلمين، وإذا كان التطور على حساب العقيدة والشريعة فذلك خروج على
الدين ولا شك.
__________
(1) انظر: ثقافة الضرار، الأستاذ جمال سلطان، بتصرف وإيجاز.
(2) انظر: تجديد الفكر الإسلامي، الأستاذ جمال سلطان ص 34.
(3) انظر: كتابنا: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب،
الباب الأول بعنوان: الجذور التاريخية والفكرية للمدرسة العصرانية.
(4) انظر: منير البعلبكي، قاموس إنجليزي عربي، ص 586.
(5) مفهوم تجديد الدين: بسطامي محمد سعيد، ص 96- 97.
(6) انظر: المرجع السابق، ص97- 105، بتصرف وإيجاز.
(7) انظر: مفهوم تجديد الدين ص 105 116، والعصرانيون ص 189- 191.
(8) تكوين العقل الحديث: جون راندال، ج2، ص 217، ترجمة جورج طعمة
بيروت عام 1958م.
(9) اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر، د حمد بن صادق الجمال ص 552.
(10) دائرة المعارف البريطانية، 1954م.
(11) مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد، ص 110.
(12) تكوين العقل الحديث، راندال، ج2، ص 235.
(13) اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، د حمد الجمّال، ص 353 354.
(14) انظر تفصيلاً لذلك: فصل الاستشراق والتنصير من كتابنا (العصرانيون) .
(15) الفكر الإسلامي والتطور، د محمد فتحي عثمان، ط 2، الكويت، 1969م، ص 39، 75.
(16) الفكر الإسلامي والتطور، د محمد فتحي عثمان، ط 2، الكويت، 9691م، ص 39، 75.
(17) المرجع السابق، ص73، وهذا يذكرنا بقول هولد هايم، أحد أحبار اليهود، وبفكرة النقد
التاريخي للأناجيل عند العصرانيين من النصارى.
(18) المجددون في الإسلام، أمين الخولي، ص 58، القاهرة، 1965م.
(19) أين الخطأ، عبد الله العلايلي، طبعة بيروت، 1978م.
(20) تجديد الفكر الإسلامي، د حسن الترابي، ص 40، 56، 105.
(21) صحيح ابن ماجه، الألباني، حديث رقم (40) .
(22) أضواء البيان، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ج4، 92.(137/114)
بأقلامهن
عاطفة المرأة بين السلب والإيجاب
فاتن سعد الصويلح
أختي الحبيبة.. أُختي في الله.
هل لي أن استأذنك لأعيش معك بفكرك وخاطرك.
هل لي أن استأذنك وأمشي معك في حديث ومكاشفة.. وأخاطب تلك الروح
الشفافة التي ارتضت الله رباً والإسلام ديناً ومحمداً رسولاً. أستأذنك لأعيش معك
دقائق معدودة مع كلمات أحسبها صادقة لا تعرف المجاملة ولا التزييف وإنما غايتها
النصح وقصدها الهداية.
أُختي ... إن الله سبحانه وتعالى قد فطرك على توحيده والإيمان به، ومما
فطرك عليه ما تحملينه من حب وشفقة وحنان وود ورحمة وعطف قد تفوقين به
الرجل، وكل ذلك لا يمثل إلا مجموعة من العواطف والمشاعر والأحاسيس التي
تأخذ في مسارها السلب والإيجاب؛ فمن أحبت الله بذلك النهج أحبت هذا الكون
الفسيح الذي يدل دلالة واضحة على المبدع والخالق سبحانه وتعالى. وبما أن
خطابي لك يا أمَةَ الله خطاب المسلمة للمسلمة فإني أعلم يقيناً أنك تعلمين أن تلك
المشاعر والعواطف يجب أن تكون وفق ما يرتضيه الله ورسوله أولاً، ووفقاً لما
يكون مقبولاً عقلاً وعرفاً ثانياً، وانطلاقاً من قول الله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] [التوبة: 71] . وإن كنت قد
استعرضت فيها نقداً لي ولك فاصبري لأجل الحق في الله رحمني الله وإياك،
ولتعلمي أن النقد ضرورة فطرية، ومطلب شرعي تربوي [1] .
إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق قلبكِ ضاماً أحاسيسك وعواطفك عبثاً بل خلقه
لغاية ولهدف منطلقاً من هذا الهدف السامي وهو الإيمان بالله نوجه عواطفنا
ومشاعرنا وأحاسيسنا لما يقويه من إيجابيات، ونبتعد عما يضعفه من سلبيات قاتلة
نسعى جاهدين للبعد عنها وتوقي الشر حيثما كان.
سلبيات العواطف والمشاعر:
أختي الحبيبة: إن أقوالنا وأعمالنا لا تكاد تسلم من الخلل والكمال لله سبحانه
وتعالى ومما لمسته من سلبيات قد تكون فيّ أو فيك، ولا أرجو من الله إلا أن يقينا
شرها ويبعدها عنا. فأدعوك صادقة للتأمل في المسائل الآتية:
أولاً: إن الله سبحانه وتعالى قد قال: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ
المُتَّقِينَ] [الزخرف: 67] وإن (الشعور بالمحبة، أصل ترجع إليه مكارم خلقية
كثيرة كالتعاون وإرادة الخير للناس، ومشاركتهم الوجدانية في السراء والضراء،
وأن يحب لهم مثلما يحب لنفسه، وأن يعاملهم بمثل الذي يحب أن يعاملوه به) [2]
وهذا هو ما دعانا إليه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فمن أحبت الله ورسوله
أحبت العابدات الصالحات في الله. ولله الحمد؛ فإن ظاهرة الأخوة والمحبة في الله
لا تزال ظاهرة بين الأخوات؛ ولكن وماذا بعدُ لكن؟ ؟ الشيطان وجنوده من
شياطين الإنس أعاذنا الله وإياكم منهم لم يتركوا طريقاً إلا ولجوه حتى في هذه
المحبة والأخوة التي أصبحت العواطف والمشاعر والأحاسيس المحرك الأساس لها
إلا من رحم الله فتجد الغيرة في غير محلها، والتفكير والانشغال إلى درجة تلهي
عن ذكر الله، فأختنا أصلحها الله إن تكلمت فعن تلك الفتاة، وإن فكرت ففي تلك
الفتاة حتى إنك تجدين بعضهن تسعى لإرضاء الأخرى في شهواتها وأهوائها، وإن
تفاوتن في درجة ذلك الإرضاء؛ وكل ذلك من باب الأخوة في الله؛ وما علمت
المسكينة أن المحبة في الله لا تكون بهذه الصفة.
ثانياً: مشاعر فياضة وأحاسيس مرهفة وشفافة وعالية تُرجمت إلى كلمات،
وسطرت في صورة أشعار وكلمات نثرية رائعة. أعطاك الله هذه النعمة العظيمة
ووهبك إياها بينما مُنعت أخرى منها، فكم تتمناها وكم تمنتها؛ فلِمَ يا مُحبّة الهدى
تترجمينها لكلمات غزل وحب وعربدة وفسق؟ ولِمَ أعرضت عن أن تخاطبيني
بعقلك وبقلبك الراغب في النصح؟ ولِمَ يا محبتي تبخلين عليّ بكلمات تعبر عن
حالي وحالك، وأن تسطري لي ما استشعرته من حال أمتك وخوفك من الله ومن
النار؟ أرضيت بهذه الكلمات؟ ! أين أنت من الخنساء الشاعرة العابدة التي عرفت
أديبة قبل الإسلام، أما بعده فكانت تلك التي بكلماتها دفعت بأبنائها الأربعة وقدمتهم
لله شهداء، وحمدت الله على استشهادهم، وسألته أن يجمعها بهم (قال عمر بن
الخطاب للخنساء: (ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر.
قال: يا خنساء إنهم في النار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم. وقالت: كنت
أبكي لصخر على الحياة فأنا اليوم أبكي له من النار) [3] .
ثالثاً: انشغال قلبك بعواطف وأحاسيس ومشاعر متألمة ومتضجرة ساخطة
على قدرها جالبة لنفسك الآلام النفسية والهموم والأمراض، قد بدا الحزن مرتسماً
في وجهك كأنك كهلة أتعبتها السنون والأيام، وانغلقت على نفسك وكلفت قلبك ما لا
يطيق، فلِمَ أنت في تردٍّ وليس في غيرك؟ ولِمَ الحظ لا يحالفك ولم ولم ولم ... ؟
كل ذلك أشغلك وصرفك عن معالجة موطن الضعف فيك؛ فلِمَ التسخّط يا مُحبتي،
ولِمَ عدم الرضا بقضاء الله وقدره؟ وأين القناعة والبحث عن جديد يصلح حالك
ويسعد أيامك؟ ولتقرئي ما قاله ابن القيم رحمه الله: (إذا حمّلت القلب هموم الدنيا
وأثقالها وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته، كنت كالمسافر الذي يحمّل دابته
فوق طاقتها ولا يوفيها علفها، فما أسرع ما تقف به) [4] .
رابعاً: إن الله سبحانه وتعالى قد ربط الزوجين برباط وثيق، هذا الرباط
الذي أوجد المحبة والسكينة بين الزوجين، وتحت ظلاله ينشأ أبناء متوافقون نفسياً
وصالحون اجتماعياً يسعون لإعلاء الدين والحفاظ عليه، وهذا ما تتمنينه يا أختي
الغالية، وعتابي لكِ: لماذا أراك تمسكين بيد زوجك وهو ذاهب لحلقة ذكر أو
لدعوة أو لزيارة رفقة صالحة أو لصلة رحم واجبة تريدينه لكِ أنت لا لغيرك، لا
يفارقك لحظة واحدة، يلبي رغباتك وعواطفك وغير ذلك دون أن تتركي له وقفة مع
نفسه. أوَ ما علمت أنك قد تكونين سبباً لانتكاسته؟ أوَ ما تعلمين أنه إن لم يصاحب
الصالحين تلقفته أيدي أصحاب السوء والانحراف؟ وغيرك إن قدر الله فتزوج
زوجها بأخرى شغلت قلبها، وألهبت مشاعرها، وكادت تُجن إلى درجة أصبح فيها
همها غيبته أو شتمه أو قذفه وتعييره! نعم يا محبتي أنا مثلك امرأة ولا أنكر عليك
غيرتك، ولكن هل لي أنا أو أنت أن نحرِّم ما أحله الله؛ أو نرتكب ذنوباً هي في
المحصلة من صحائف أعمالي وأعمالك؟ نعم أعلم يا محبتي أنك تغارين، ولقد
غارت أمي وأمك أم المؤمنين عائشة من قبلُ، فعنها رضي الله عنها قالت: ما
رأيت صانعة طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاماً
وهو في بيتي، فأخذتني الرعدة فارتعدت من شدة الغيرة، فكسرتُ الإناء، ثم ندمتُ
فقلت: يا رسول الله! ما كفارة ما صنعت؟ قال: (إناء مثل إناء، وطعام مثل
طعام) [5] .
أرأيت أن الغيرة لم تمنع عائشة رضي الله عنها من الندم على ما فعلت ولم
تمنعها ومن قول الحق في صفية رضي الله عنها؟ فهل لي ولك أن تكون أمهات
المؤمنين والصالحات قدوة لنا؟ وهل لك أن تجاهدي وتصبري؛ ولن يضيع الله
صبرك؟
خامساً: شفقة الأم وحنوها على ولدها شيء فطري، ولكن قد توجد عند
بعضنا بصورة سلبية؛ لأنها قد أفرطت في تدليله وتلبية كل ما يريده دون توجيه أو
إرشاد؛ إذ وضعت هذه العاطفة في غير محلها، لبت له رغباته وأهواءه لحنوها
عليه وحبها له، لم تنكر عليه ما يقع فيه من أخطاء، لم تعنفه لم تضربه يوماً لأنه
أخطأ؛ كل ذلك لأجل ماذا؟ لأنها أم حنون عواطفها ومشاعرها ضعيفة لا تقوى
على التحمل فتلقي به في مواطن الهلاك من حيث لا تدري (إن تلك الأم الجاهلة
الحمقاء، التي أشفقت على ولدها فأهملت تربيته قد دفعت به وهي لا تشعر حتى
صار مجرماً، وساقته الجريمة إلى يد العدالة، عندئذ وقفت تبكي جزعاً من أجله
وحسرة عليه، وندماً على ما فرطت في جنبه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول لها: أنت التي دفعت بي إلى هذا المصير المهلك بشفقتك عليّ وسوء تربيتك لي،
وإهمالك شأني، وسرورك باتباعي أهواء نفسي) [6] .
سادساً: تتحكم العاطفة في الكثير منا إلا من رحم الله حتى إن تلك العاطفة لا
تردعها عن فعل قبيح أو محرم والله المستعان فكم من المرات انتهكت أعراض
وضُيّعت أسر وأسودت وجوه رجال هم مثال للعفة والصلاح، كل ذلك لماذا؟ لأن
تلك المرأة دفعت عاطفتها للبحث عن الجديد، أو لأن عاطفتها لم تشبع أسرياً ولم
تلق قلباً حانياً يحن عليها، ومن ثم خرجت خارج المنزل لتلبي هواها، متناسية ما
يعقب ذلك من ألم وأذى وعار لأجل ماذا؟ لأجل لذة حاضرة وعاطفة عمياء. يقول
ابن الجوزي في ذم الهوى: (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من
غير فكر في عاقبة، وبحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم
والأذى في العاجل وفيه لذات في الآجل. فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذة تعقب
ألماً وشهوةٍ تورث ندماً) [7] .
الأسباب:
ترجع سلبيات العواطف والمشاعر إلى أسباب كثيرة، منها:
1- ضعف الإيمان بالله، وخواء القلب، وولوج الشيطان من مداخل وإن
كانت بسيطة إلا أنها قد تمثل نقطة ضعف بالإضافة إلى وساوسه وهواجسه التي
يوردها على الإنسان.
2- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية.
3- عدم التوسط في الأمور، والاستهانة ببعضها وعدم حملها محمل الجد.
4- قلة محاسبة النفس والبطء في معالجة مواطن الضعف والقصور.
5- قلة الوعي والاطلاع في الأمور المتعلقة بالنساء، وضعف بروز الأقلام
النسائية التي تتجه للحديث عن مثل هذه الأمور وغيرها من الخصوصيات التي قد
لا يعلمها الرجل الداعية.
6- عدم استشعار المسؤولية الملقاة على الأم والأب تجاه الأسرة عند بعضهم؛
فكل راع مسؤول عن رعيته.
7- عدم إشباع الحاجات النفسية للفتاة وعدم الاهتمام بهذا الجانب لدى بعض
الأسر.
8- قلة الإنصاف من قِبَل الزوج إلا من رحم الله مما يسبب الغيرة والشحناء
والمبالغة المفرطة في بعض الأمور من قِبَل المرأة.
9- تبني أصحاب السوء للأقلام المنحرفة والمعبرة عن فسق ومجون لدى
بعض النساء.
العلاج:
1- اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتضرع إليه وسؤاله الثبات؛ فالله ما
أنزل داء إلا أنزل له دواء إلا الموت والهرم.
2- الإكثار من الأعمال الصالحة؛ ومن رزقها الله قدرة على الكتابة شعراً
ونثراً فلتجعله لخدمة هذا الدين ولتوعية أخواتها المسلمات ولا تتردد في ذلك فهي
مأجورة بإذن الله.
3- على الأسرة متمثلة في الوالدين استشعار المسؤولية نحو الأبناء والبنات
من إشباع حاجاتهم النفسية وإرشادهم للخير حيث كان، وتحذيرهم من الشر.
4 - الحرص على القرب من الأجواء الإيمانية وحلقات الذكر التي تحفها
الملائكة والعمل على توجيه النساء وتعاهدهن، والمسارعة إلى علاج موطن الخلل
لديهن.
5- الاستعاذة من وساوس الشيطان الجالبة للهموم والآلام النفسية.
6- اختيار الصحبة الصالحة الموثوقة والاقتداء بالسلف الصالح ومن جاء
بعدهم.
7- العدل بين الزوجات؛ والله سبحانه وتعالى قد أوصاكَ أخي الزوج بالعدل
فقال سبحانه: [وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً] .
[النساء: 129] .
8- التوسط والاعتدال من قِبَل الزوجة، وأن لا تترك الغيرة تدعوها إلى
ارتكاب الذنوب كالغيبة والكذب واللعن وغيره من النكران والجحود.
9- مجاهدة النفس والصبر على ما قدره الله، والرضا والقناعة به ابتغاء
مرضاة الله وطلباً للفوز بجناته.
10- الحذر من الاستهانة بالمحرمات، ومعرفة ما تحدثه المعاصي من آثار
وخيمة وعواقب جسيمة.
وأخيراً:
(احذر نفسك؛ فما أصابك بلاء قط إلا منها، ولا تهادنها، فوالله ما أكرمها
من لم يهنها، ولا أعزها من لم يذلها، ولا جبرها من لم يكسرها، ولا أراحها من
لم يتعبها، ولا أمّنها من لم يخوِّفها، ولا فرّحها من لم يحزنها) [8] .
نفعني الله وإياكِ يا أختي. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت،
أستغفرك وأتوب إليك.
__________
(1) التربية الجادة ضرورة، محمد الدويش.
(2) الأخلاق الإسلامية.
(2) الميداني، ص 239، الجزء الثاني.
(3) أعلام النساء، عمر كحالة، ص 368، الجزء الأول.
(4) الفوائد، ص 60، ابن القيم.
(5) رواه أبو داود والنسائي.
(6) الأخلاق الإسلامية، الجزء الثاني، ص 245، الميداني.
(7) الأخلاق الإسلامية، الجزء الثاني، ص 245، الميداني.
(8) الفوائد، ابن القيم، ص 79.(137/122)
مصطلحات ومفاهيم
الغزو المصطلحي
عبد السلام البسيوني
مصطلحات.. زاوية جديدة
تموج الساحة الثقافية بالعديد من التعبيرات والمصطلحات الشائعة التي أصبح
استعمال بعضها ضرورياً لا مفر منه لبناء ثقافة المسلم، وفهم الواقع الذي يعيش فيه، وأصبح بعضها الآخر أمراً واقعاً أو يراد له ذلك، وإضافة إلى أن معنى بعض
هذه المصطلحات غير واضح وغير محدد في ذهن كثير من القراء؛ مما يعوقهم
عن الفهم الصحيح لمدلولاتها.. فإن بعض الدوائر الثقافية تعمل على اللعب بهذا
الغموض والالتباس لتمرير قيم ومبادئ تخدم توجهاتها..
ومن هذا المنطلق فإن مجلة (البيان) حرصاً منها على البيان الواضح ورفع
الالتباس استحدثت هذه الزاوية (مصطلحات) على أن تكون زاوية ثابتة بإذن الله يتم
فيها طرح أحد المصطلحات المتداولة في أحد العلوم المعرفية أو الثقافة العامة..
وستحاول (البيان) جاهدة من خلال كُتّابها الكرام استجلاء معنى المصطلح، وأصل
نشأته، واستعمالاته ودلالاته، وتطور هذه الدلالات، والرؤية الإسلامية له إن كان
مصطلحاً غير إسلامي.
وفي هذا العدد تنشر (البيان) مقال الأستاذ عبد السلام البسيوني مقدمة
موضوعية تحليلية لأهمية تناول هذا الموضوع، سيتلوها إن شاء الله تعالى تناول
المصطلحات الشرعية والفكرية والاقتصادية والأدبية ... إلخ، على أن تكون زاوية
كل شهرين بإذن الله.
و (البيان) تدعو كُتّابها الكرام ممن لهم مقدرة علمية على الكتابة المنهجية في
هذا المجال ألا يبخلوا عليها بما رزقهم الله به من علم وفضل، كما تدعو قرّاءها
الأفاضل إلى التواصل مع المجلة في هذه الزاوية بإطلاعها على انطباعاتهم عنها
وتسمية المصطلحات التي يرون أهمية عرضها ...
- البيان -
أشد الحملات الصليبية وأطولها عمراً:
قبل نحو خسمة عشر عاماً بدأت علاقتي بقضية المصطلحات تأخذ منحىً جادّاً
حين وجدت نفسي طرفاً في معركة دارت بين أستاذي الجليل الدكتور عبد العظيم
الديب وبين صحفي كتب في جريدة خليجية عن فرقة فلسطينية راقصة (تجاهد)
بالدّبكة في سبيل الله.
فنبه الدكتور الديب أخانا ألاّ يخلط بين الجهاد والرقص، وأن نسمي الأشياء
بأسمائها احتراماً للألفاظ الشرعية، أو على أقل تقدير احتراماً للعقل والمنهجية.
وثارت ثائرة أخينا الصحفي وبدأ يخرج ألفاظاً من ماركة: ضيق العطن،
والتّزمّت، والتطرف، والجهل، وما شابه من ألفاظ إرهابية يستخدمها بعض السادة
الصحفيين، والكتّاب المستنيرون لقمع الناس، وتخويفهم، وقطع ألسنتهم.
وبدأتُ منذئذٍ النبش في القضية؛ لأجد نفسي أمام حربٍ دقيقة مبرمجة،
طويلة النفس، متعددة الأساليب، منوعة المقاصد، أداتها الكلمة، ونتيجتها إرهاب
الحق وقمعه، وإعزاز الباطل ورفعه، وتنفيس الخسيس، وتحقير النفيس،
وصناعة مسارات فكرية موجهة، وتحريف الكلم عن مواضعه، بدهاءٍ وفاعليةٍ،
وهذه النتائجُ نعيشها، ونلمس آثارها، ونرى ما أحدثت من تلبيس، وتشويش،
وإفساد، وإساءة.
البدايات:
ويبدو لي أن القضية بدأت مبكرة جدّاً؛ فلقد استعملها اليهود عليهم لعائن الله
مع أنبيائهم حين حرفوا الكلم، وغيّروا نصوص التوراة والإنجيل دلالاتٍ وألفاظاً:
[مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ] [النساء: 46] كما استخدموها مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في محجتهم ورطانتهم وحوارهم فيما بينهم:
[وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ]
[النساء: 46] .
واستخدمت في تاريخ الإسلام في طروحات الفرق المنحرفة عن هدي
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحربها الاصطلاحية على أهل السنة؛ ففي حين
سمى المعتزلة أنفسهم: أهل العدل والتوحيد أطلقوا على أئمة السنة: بلاكفة [1] ،
وحشوية، ومعطّلة، ومشبّهة.
وفي عصرنا دخل القوم علينا بتقسيم الإسلام إلى: بدوي وحضري،
وأرثوذكسي وعلماني، ورسمي وشعبي، ونصوصي وعقلاني، ومدرسي
(اسكولاستيكي) وحداثي، وسلفي وعصري.
واستخدموا مناهج لقراءة النصوص لا علاقة لها باللغة التي تحدث بها
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب ولا بأصول الاستنباط والنظر التي
تواضع عليها الأصوليون، ولا بفهوم الصحابة والتابعين والأئمة المُعْتَبَرِين،
فقراءتهم كما يسمونها عصرية/ تفكيكية/ تنويرية/ عقلانية / تثويرية.
وحدثونا عن (ألسنة) النص المقدس، أي عن تحوله بعد نزوله مباشرة إلى
نص بشري قابل للنقد والقبول والرد، وقراءته بعين: (سوسير، وإلتوسير،
ورولان بارت، وميشيل فوكو) جاعلين القرآن والسنة نصوصاً لا تتميز بحالٍ من
الأحوال عن زاوية (نصف كلمة) لأحمد رجب في صحيفة الأخبار القاهرية؛
و (بقرة حاحاً) لأحمد فؤاد نجم، لتنتفي القداسة عن النص، ويتحول فور كتابته، أو
نزوله إلى كيانٍ مستقل، تنقطع العلاقة بينه وبين منشئه، ويعود نصاّ بلا معانٍ
محددة.
ولا بد هنا قبل الدخول في الموضوع، أن نبين: ماذا نريد بالمصطلح،
وماذا نريد بالغزو؟
الغزو المصطلحي:
انتبه عدد من الأساتذة للهجمة الشرسة على الإسلام عن طريق الألفاظ ومناهج
القراءة، وسماها بعضهم كالأستاذ عمر عبيد حسنة: معركةً، واعتبرها آخر هو
الأستاذ جمال سلطان: إسقاطاً، والحق أنني أراها غزواً يعتمد تكثيف الهجوم،
وتنويع الأساليب، والمباغتة، والتمويه، مستغلاً غفلة الخصوم، وانشغالهم
وتفرقهم، ورداءة مناهجهم في التعامل مع الواقع الفكري والدعوي، وقلة متابعتهم،
لما يُرمَون به! !
وكلمة مصطلح تطلق اليوم ليراد بها المعنى الذي تعارف عليه الناس، واتفقوا
عليه في استعمالهم اللغوي الخاص، أو في أعرافهم الاجتماعية، وعاداتهم السائرة.
وتساعد الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية على أن تُحَمّل
كلمةٌ مّا معنىً غير الذي وضعت له في أصل اللغة التي تنتمي إليها، ويسير هذا
المعنى الجديد بين الناس، حتى يصبح في استعمالهم اليومي شيئاً مألوفاً يُنسى معه
ذلك المعنى اللغوي الأساس أو يكاد. وهذا المعنى الجديد هو ما نقصده عندما نقول: المعنى الاصطلاحي [2] .
وهناك المصطلحات الفنية Terminology وهي مجموع الكلمات والعبارات
المتصلة بفرع من فروع المعرفة، أو بفن ما، أو الكلمات والعبارات الخاصة بعالمٍ
معين في بسطه وعرضه لنظرية من النظريات الفنية أو الأدبية أو العلمية، كأن
نقول: مصطلحات الغزالي في التصوف، كالمريد والقطب والإشراق [3] .
ولو أردت أنا أن أعرّف المصطلحات بشكل ألصق بموضوع هذه المقدمة،
لقلت: إنها الألفاظ المنقولة أو المرتجلة التي توضع لها معانٍ مخالفة لوضعها
اللغوي أو الاصطلاحي العربي، لتخلق جوّاً من التحسين أو التقبيح لهذه الألفاظ
يخدم أعداء الإسلام.
وأعني بالمنقولة: الألفاظ التي تُحوّل عن دلالاتها الأصلية لتعطي معنىً جديداً
غير المعنى الاصطلاحي السابق، أو المعنى الشرعي: كلفظ الاجتهاد، ولفظ
الأصولية، ولفظ العقلنة، في تناول بعض المفكرين والصحفيين لها.
وأعني بالمرتجلة: الألفاظ ذات الدلالة المستحدثة والمعنى الموجّهِ: كلفظ
العولمة أو الكوكبة، وأعني بجملة (لتخلق جوّاً ... ) : أن هذه الألفاظ التي اصطلح
عليها نفر قليل جدّاً، ثم نشرها الإعلام، ومكّن لها في الأذهان، ليست عريةً عن
الغرض، ولا بريئة أو حيادية، بل تخدم فئةً أو عقيدة أو نظاماً.. ولا تصبّ في
مصلحة تاريخ الأمة، ولا دينها، ولا حاضرها، ولا مستقبلها.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمصطلحات:
حرص سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تحرير العقلية المسلمة
من كل غبشٍ ودخن يمكن أن يتسلل إليها: من الأفكار الشركية، أو العقائد الجاهلية، أو الألفاظ التي كانت تدور أحياناً على ألسنة بعض الصحابة، دون أن يفطنوا
لظلالها، وخطورة ما استتر تحتها من عقائد ومفاهيم.
واتخذ هذا الحرص أشكالاً عدة منها:
1- تحذيره -صلى الله عليه وسلم- من خطورة الكلمة، وأمره بحفظ اللسان،
وتحريم الكذب على الله تعالى وعلى عباده، وعدّه ذلك من أعظم الكذب.
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إن العبد ليتكلم بالكلمة
ما يتبين ما فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) [متفق عليه] .
2- تصويبه -صلى الله عليه وسلم- لبعض ألفاظٍ نطق بها الصحابة رضي
الله تعالى عنهم، رأى فيها ما يمس العقيدة. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي
الله عنه مرفوعاً: (إن أخنع اسمٍ عند الله عز وجل رجل تسمى: ملك الأملاك) وفي
سنن أبي داود عن بريدة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تقولوا للمنافق: سيد؛ فإنه
إنْ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل) .
3- تغييره -صلى الله عليه وسلم- بعض الأسماء ذات الدلالات القبيحة
كتغييره اسم الأجدع إلى عبد الرحمن، وبني الزّنْية إلى بني الرّشدة، وعاصية إلى
جميلة، وعبد الكعبة إلى عبد الله [4] .
4- تغييره -صلى الله عليه وسلم- بعض العبارات ذات المعاني الجاهلية،
مثل: بالرفاء والبنين، وعم صباحاً، وأبيت اللعن [5] ، لما تتضمنه من مفاهيم
تتعارض مع قواعد الإسلام ومفاهيمه.
5- إشارته -صلى الله عليه وسلم - إلى أن قوماً يأتون بعده سيعبثون
بالمسميات ويغشّون في الدلالات، كما في سنن ابن ماجه مرفوعاً: (لَيشربنّ أقوام
من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها ... ) . وهذا منهج الذين سمّوا الربا فائدة،
وجعلوا سبّ الله تعالى تنويراً، والاستباحة حرية، والرقص فناّ، والزنا صحة
جنسية! !
السلف الصالح والمصطلحات:
ولا يخفى على مُطّلعٍ اهتمام العلماء قديماً وحديثاً بتحديد الألفاظ وضبطها
بالشكل، وبالحدّ، وبإخراج المتحرزات، وبتقسيم التعاريف وتحريرها بشكل جامع
مانع؛ بحيث لا تتداخل المفاهيم، ولا تختلط المعاني، لعلمهم أن المصطلح إذا
استعمل بشكل غير محرّرٍ (غير جامع ولا مانع) لم يكن مقبولاً، ولا علميّاً.
وسر هذا أن سلفنا الصالحين رضي الله عنهم انتبهوا إلى أن للألفاظ دلالات
حقيقية وأخرى مجازية، وأن لها زوايا للنظر من جهة الوضع اللغوي، والدلالة
الشرعية والدلالة الاصطلاحية، والدلالة المعرفية، كما أن الدلالة اللغوية للكلمة
تدور بين النص كما يحرره الأصوليون والظاهر والمشترك والمجمل والمبهم [6] .. والعام والخاص والمفهوم والمنطوق، والفحوى والإشارة.
فاهتموا بفرز مصطلحات الفنون: كمصطلحات أصول الفقه، وعلم الحديث،
وعلوم القرآن الكريم، والنحو، والمنطق.
وكتبوا كتباً مفردة في المصطلحات والتعريفات منها رسالة للكندي الفليسوف
(ت 252) في: (حدود الأشياء ورسومها) ، وكتاب أبي عبد الله محمد بن أحمد بن
يوسف البلخي الخوارزمي الكاتب (ت 387هـ) : (مفاتيح العلوم) الذي جمع فيه مصطلحات العلوم في عصره، ثم كان لابن سينا (ت 428هـ) رسالة بعنوان: (الكندي نفسه في حدود الأشياء ورسومها) وكتب أبو الوليد الباجي (474هـ) كتاب: (الحدود) والرازي 357 هـ: (حلية الفقهاء) والمطرزي: (المغرب في لغة الفقه) وأبو هلال العسكري: (الفروق اللغوية) وللآمدي 631 هـ رسالة بعنوان: (المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين) ، وللجرجاني (816هـ) : (التعريفات) ، وكتاب أبو البقاء الكفوي (1094هـ) : (الكليات) ، وكتب القاضي الأحمدي نكيري الهندي (1173هـ) : (دستور العلماء) ، أو جامع العلوم، وكتب التهانوي (1158هـ) كتابه الفذ: (كشاف اصطلاحات الفنون) ، والأمير العالم صديق حسن خان: (أبجد العلوم) [7] .. وغير ذلك كثير.
وقد لا نرى ضيراً أن نقول: إن وضع علم النحو والصرف، وتقعيد القواعد، إنما كان في الحقيقة سبيلاً إلى حماية الألفاظ والدلالات القرآنية، وضبطها بمعهود
العرب في الخطاب؛ حيث نزل القرآن بلسان عربي مبين؛ حتى لا يكون إسلام
أصحاب اللغات الأخرى سبيلاً إلى التيه الدلالي والاصطلاحي، حتى إن كثيراً من
علماء اللغة كابن هشام رحمه الله فيما روي عنه: عندما طلب إليه أن يضع لطلبته
كتاباً في التفسير، وضع لهم كتاب: (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لضبط
دلالات الألفاظ والأدوات، ومعانيها، وحتى يدرك المصطلح القرآني بكل
احتمالاته [8] .
بل إنهم نصّوا في مقدمات كتبهم المعنية بالمصطلحات أو غيرها على التحذير
من أي خلط أو خلل في هذا المجال، ومن ذلك ما أورده إمام الحرمين الجويني في
مقدمة الكافية في الجدل: (اعلم أنه لا يتم تحقيق النظر أي البحث العلمي لمن لا
يكون مستوفياً لمعاني ما يجري من أهل النظر، في معاني العبارات وحقائقها على
التفصيل والتخصيص معرفة على التحقيق، فتكون البداية إذاً بذكرها أحق وأصوب؛ فأول ما يجب البداية به: بيان (الحد) ومعناه، لتتحقق خواص حقائق العبارات
وحدودها.
ويقول في مفتتح كتابه (البرهان في أصول الفقه) : حقٌ على كل من يحاول
الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه، وبالمواد التي منها يستمد
ذلك الفن، وبحقيقته وحده ... والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلّمه مع حظّ
من العلم الجُمْلي بالعلم الذي يحاول الخوض فيه.
ويقول ابن حزم في مقدمات (الإحكام) عن تحديد المصطلح وخطورته: (هذا
باب خلّط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني، وأوقع الأسماء على
غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت
المضرّة، وخفيت الحقائق) [9] . بل إن هناك من كتب رسائل في ألفاظ بعينها.
ويستمر العمل المعجمي الذي يُعنى بالمصطلحات في اطّراد؛ حتى رأينا في
عصرنا معاجم في لغة الفقهاء، ومعاجم للألفاظ: الاقتصادية، والعسكرية،
والسياسية، ومصطلحات الأدب والفن، ودراسات المناهي اللفظية في الفصيح
والعامي وغير ذلك.
ويقف كثير من أهل الفكر والنظر أمام القضية في دراساتهم: كأستاذي
الدكتور عبد العظيم الديب: (التبعية الثقافية) والدكتور القرضاوي: (كيف نتعامل
مع القرآن) والأستاذ عمر عبيد حسنة: (رؤية في منهجية التغيير) ومقدمات بعض
كتب مجلة الأمة مثل: (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري حول إعادة تشكيل
العقل السليم في شرف العربية) والدكتور عماد الدين خليل: (إعادة تشكيل العقل
المسلم) والأستاذ جمال سلطان: (غزو من الداخل) والأستاذ المودودي:
(المصطلحات الأربعة) والدكتور صلاح الصاوي: (الثوابت والمتغيرات)
وعبد السلام البسيوني: (الألوهية في العقائد الشعبية) وغيرهم.
كما اهتم كثير من المعاصرين بضبط ألفاظهم التي سيدور حولها الحديث في
كتبهم: كالدكتور عبد الرحمن اللويحق: (الغلو في الدين) والدكتور البيانوني:
(المدخل إلى علم الدعوة) والدكتور فهد الرومي: (منهج المدرسة العقلية في
التفسير) .
وقفة مع أهل الترجمة:
ولعل من الإنصاف هنا أن أشير إلى أن هناك من يقع في فخ المصطلحات
بكثير من حسن النية خصوصاً من المترجمين للألفاظ الإسلامية إلى اللغات
الأوروبية.. غير منتبهين إلى خصوصية المصطلح الإسلامي إن كان اصطلاحيّاً أو
اللفظة القرآنية في محاولة تفسيرها تفسيراً ميسّراً وإلى تحرك دلالات الكلمات،
وإلى تنوع الاصطلاح الواحد وتغيير معناه بين أهل الفنون المختلفة، بل حتى في
العلم الواحد (كلفظ المفرد في النحو العربي، وهو متعدد الدلالات) .
ولإيضاح مقصدي أقول: إن معاني المصطلح قد تتعدد وتتنوع بين أهل
الفنون المختلفة، وبين الفصيح والعامي.. وخذ مثلاً: كلمة الفاعل، وتنوع معانيها؛ فهي عند النحاة: (اسم مرفوع قدم عليه فعل تام مبنىّ للمعلوم، أو شبهه، وأسند
إليه) وفي اصطلاح الصحفيين: هو المؤثر (له دورٌ فاعلٌ) وعند الفقهاء: هو
الزاني أو من عمل عمل قوم لوط (فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وتُخص به الزانية
إذا اقترن بتاء التأنيث، وهو عند المتكلمين: من يصح أن يصدر عنه الفعل مع
قصدٍ وإرادة (الفاعل المختار) وله ظلال عند الفلاسفة: العقل الفاعل أو الفعال وهو
عند العامة: من يقوم بالأعمال الخسيسة والشاقة.
ويتتبع اللغويون تحرك دلالات الكلمة، وتحولها من معنىً إلى معنى؛ وقد
يدفعهم التطور الدلالي إلى أن ينقلوا ألفاظاً إلى معانيها الجديدة المولّدة، مثل: كلمة
(بسيطة) التي استجاز المجمع اللغوي إطلاقها على الأشياء غير المعقدة (جملة
بسيطة مشكلة بسيطة فكرة بسيطة مهمة بسيطة) يريدون بذلك يسر الأداء، وخفة
النتائج، رغم أن أصل البسيطة: فعيلة بمعنى مفعول بها، أي: مفصلة مطولة
(المبسوط للسرخسي) و (البسيط) للغزالي أو ممتدة مترامية الأطراف، ومنه سميت
الأرض بالبسيطة.
وليس من هذا الباب وهذا محل استطرادتي السابقة نقل الألفاظ والمصطلحات
الإسلامية إلى الإنجليزية مثلاً فبعض المترجمين يجعلون كلمة: (وضوء) مساوية
لكلمة ablutian، و (دين) مساوية لكلمة Religion، و (الله) تعالى مساوية لكلمة، و (رسول) مساوية لكلمة Prophet ... وهذه الكلمات (العربية الإنجليزية) غير
متساوية في الدلالة على المعنى الشرعي ولا مقاربة، فكلمة Abutian تعني أكثر
ما تعني في ظني التطهر بماء مقدس، كماء التعميد، أو ماء نهر الجانج، أو الآبار
المقدسة، لذلك فإنها تحمل ظلالاً وثنية مغروسة في ذهنية أبناء اللغة الأصليين؛
لذلك فإن كلمة الوضوء = الوضوء فقط، ويشرح في الهامش أو في الصّلب معناها، كذلك كلمة gods التي تعني: الآلهة الوثنية من الحجارة والخشب والبشر والبقر.. يستحيل أن تكون مساوية لكلمة الله.. فكيف أسوي بـ Jesus عند النصارى
أو Yahweh عند اليهود؟ !
وقد التفت لهذا مترجما معجم المصطلحات في العربية في الأدب واللغة تقليداً
للمستشرقين أثناء تصنيف المعجم، إذ أثبتا بعض الألفاظ مكتوبة بلفظها العربي لكن
بحرف لاتيني.. وقد جاء في مقدمة المعجم: (بذلنا جهداً كبيراً في البحث عن
المصطلح الإنجليزي المقابل للمصطلح العربي في مؤلفات كبار المستشرقين،
ووضعناه بجانب المصطلح العربي؛ بيد أننا لم نوفق دائماً في العثور على هذا
المصطلح.
وفي هذه الحالة أعدنا وضع المصطلح العربي بالحروف اللاتينية حسب نطقه
في العربية، على نحو ما فعله كبار المستشرقين من قبل) .
خصوصية الرؤية الإسلامية:
ولأن لعبة المصطلحات تصدر عن مناهج غير إسلامية نفسية ولغوية،
علمانية ودينية، شاكة ومنحازة فإنها تحاول (صبغ) الإسلام بغير صبغته، وإلباسه
ثياباً غير ثيابه، وتتحدث عنه بقواعد مراوغة أو عدائية، بعيدة من الفهم الصحيح، والرغبة في الإنصاف، والحيادية المزعومة للمناهج الوضعية.
ولأن نصوص القرآن وحي وكذلك السنة في معانيها، ولأن قراءة السابقين لها
صادرة عن قناعة راسخة بأنهم يعبدون الله تعالى بقراءة هذه النصوص، والتفكر
فيها، والاجتهاد في توجيهها، فإن قواعدهم ذات خصوصية تخالف مطلقاً طبيعة
القراءة المتمردة، أو الملحدة، أو المعادية التي يحاول المتطاولون إخضاع نصوص
القرآن والسنة والتراث العلمي الإسلامي لها. ويذهب الأستاذ سيد قطب رحمه
الله [10] إلى أن علينا في استلهام القرآن العظيم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً: لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة، وأن على الباحثين أن يفعلوا هذا؛ ليقوم تصورهم نظيفاً من كل رواسب الجاهلية: قديمها وحديثها على السواء، مستمداً من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر التي لا تغني من الحق شيئاً [11] .
ومعرفة هذا الميزان، وفهم اللغة التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد
الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ لأنهم صاروا يحملون كلام الله
تبارك وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما يدعون أنه دال عليه، ولا
يكون الأمر كذلك [12] .
أما دفع النصوص الإسلامية نحو الخضوع للمناهج والأطر الغريبة عنها،
فأزعم أن أقل ما يوصف به أنه خيانة: خيانةٌ لميراث الأمة، ولعلمائها، ولمناهجها
الفكرية، ولتفردها كمنهج يمتاز بالربانية في مصدره، كما أنه بيعٌ واضح لهذا
الميراث لصالح أعداء الأمة؛ لأن المقدمات تشي بالنتائج، والسير في مبتدأ طريقٍ
ذي اتجاه واحدٍ لا بد أن يؤدي إلى آخره.. وهذا ما يعترف به المستغربون أنفسهم:
(إن علاقتنا بالنظريات الغربية كأية علاقة وضعية براجماتية ذرائعية لا يمكن أن
تؤدي إلاّ إلى النتائج التي توصلت إليها النظريات الغربية، وهي نتائج غير ملائمة
لبيئتنا؛ لكونها جُردت من إطارها الاجتماعي والتاريخي، وانفصلت عن مسار
تكوينها المعرفي.
فكل النظريات الغربية قد نتجت عن علاقتها بالعامليْن التالييْن: خصوصية
مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية من ناحية، والحقل المعرفي الذي نمت بداخله،
وطورت قضاياها النظرية المحدودة من ناحية أخرى.
لماذا هذه السطور؟
بعد هذا السرد أرجو أن يوافقني القارئ الكريم على أن هذا الغزو شديد
الفاعلية، قوي التأثير، يتسلل كالخلية السرطانية إلى الذاكرة العربية والإسلامية،
ويسكنها، ويبدأ عمله في تخريب وتدمير ما حوله، ويبدأ عمله بعد أن يمكّن له في
الأرض عن طريق الإلحاح الإعلامي، وكثرة الدوران على ألسنة كتّاب ليسوا فوق
مستوى الشبهات منهجيّاً وعقديّاً وكثيراً ما يسكن أفواه كبار الدعاة والكتّاب
الإسلاميين في غفلةٍ منهم، أو في غمرة خصومة أو عصبية فلن تخطئ عينك
كلماتٍ مثل: (أيديولوجية، ونظرية، وإرهاب، وديمقراطية، وفقه بدوي، ودولة
مدنية، وعقلانية، ونصوصية) تدور بكثرة على ألسنة وأقلام الكثيرين من المنتمين
للفكر الإسلامي.
بل سأذهب لأبعد من هذا حين أزعم أن من الدعاة من يتحول إلى داعيةٍ
لمصطلح بعينه، فيصير هاجساً له، وزاداً يعلكه، وقضية (يناضل) من أجلها،
حتى لو وقع في تناقضات مع نفسه، وابتلع مصطلحات متضاربةً أشد التضارب،
وربما كانت كَنَسيّة المصدر، صليبية الاتجاه، وربما كانت لعبة تسخر من
(الأمميين) وتوقعهم في التضارب.. وإنك لو نظرت بأدنى تأملٍ لوجدت كثيرين
ممن دعَوْا إلى الاشتراكية (أيام زمان) يدعون اليوم إلى الديمقراطية، ويتعصبون
لها ويُنظّرون؛ على ما بين المصطلحين من تضارب كما بين الليل والنهار! !
ومنهم من يُصنع له المصطلح صناعة، فيصادف هوىً في نفسه، فينساق
وراءه، غير منتبه إلى أنه يقاد إلى حفرة ستكسر قدميه أو أقدام بعض السائرين في
الطريق نفسه.. وليس آخر هذه المصطلحات مصطلح العقلانية في مقابلة
النصوصية وضرب عددٍ من الشيوخ على وتريهما، كأن النصوصية جريمة، كما
صارت السلفية جريمة، والأصولية جريمة على ألسنة بعض المتعصبين الذين
اجترأ بعضهم على وصف الإمام أحمد بأنه: نصوصيّ جامد، وليس فقيهاً ولا
فيلسوفاً، وإنما هو معادٍ للرأي، وكانت أهم أفعاله جمع النصوص: الحديث وهو
نص، والقرآن وهو نص، والأخذ بالضعيف وهو نص، وأقوال الصحابة وهي
نصوص، وكان يقف عند ظواهر النصوص وحدها، في حين اعتبر أولئك
المجترئون المتخبطون أن العقلانية المؤمنة ودفع العطاء الحضاري للإسلام كان
على أيدي المعتزلة؛ فهم وحدهم باعتبار المتجرئين فرسان العدل والحرية والفكر
المستنير للفكر الاعتزالي مرةً بإبهامٍ، ومراتٍ بسفور وتبجج على حساب أئمةٍ كبارٍ
وُصفت كتبهم بأنها نصوصٌ قديمة، ومفاهيم متجاوَزة، ليبتلع المنظّرون الجدد
الطعم، أو ليطعمونا إياه، ويحولوا قيادة المسيرة بدلاً من أحمد بن حنبل وأبي
حنيفة النعمان والشافعي وابن تيمية لحساب الاعتزال بأطيافه كلها إلى أقصى حدود
التطرف.
المقاصد والأساليب:
* والغزو المصطلحي ليس لمجرد اللهو، والعبث اللفظي؛ فمحاولات إطفاء
نور الله تعالى بالأفواه محاولاتٌ قديمة، وإنما يراد به تحقيق جملة من المقاصد
أُورِدُ بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر:
1- إرهاب تيارات إسلامية بعينها، وإعلاء تيارات أخرى وهذا يأتي في
كثير من الأحيان من داخل الصف الإسلامي نفسه؛ فهناك ألفاظٌ قمعية وهذا أقل ما
توصف به في رأيي كمصطلح الوسطية الذي تصف به بعض التيارات نفسها، في
الوقت الذي يدمغون غيرهم بدمغة التشدد أو النصوصية أو (الظاهرية الجدد) ،
فصار هذا المصطلح كأنه نوع مصادرةٍ للتيارات الأخرى بلسان المقال كما تصادر
بلسان الحال.. وقد سرى هذا الاصطلاح بالذات في كتابات وخطب بعض رموز
الصحوة مع الأسف رغم الشعار الشهير المرفوع دائماً: (نتعاون.. ويعذر بعضنا
بعضاً) ولا أكاد أبرئ تياراً إسلامياً مع الأسف ثانيةً من هذا الأمر.
2- تضليل الشباب المسلم، ودفعه إلى المراوحة مكانه، دون إحراز أي
عمق في الوعي، ولا زيادة في العلم، ولاصدقٍ في التربية.. فكثيراً ما ينشغل
الشبان بألفاظ ومصطلحات تُلقى بينهم عن عمد لصرف أنظارهم عما يجري لهذا
الدين وإن ادعت أنها تعمل من أجله أو لضرب بعضهم ببعض كلفظة القطبية أو
السرورية أو الطحانية التي قصد بها: التقسيم، وشق الصف، وشل الفاعلية! !
3- قد تؤدي عبارة ما أو مصطلح ما إلى نتائج معروفة سلفاً كتحييد المتلقي؛
فلا يطرح العداء للدين بطريقة سافرة حتى لا يثير ذلك غضب الناس، وإنما يهاجَم
الدين ويُعادى عبر مظلة اسمها: (تحليل التدين والسلوك الديني، أو الوعي الديني)
ولهذا يسارع رجال الاجتماع بوضع هذا (الخاتم) في بداية أي دراسة أو تحليل لهم
للدين لتحييد مشاعر القراء الذين لا يزال للدين مكانة في قلوبهم، ثم يطعنون في
الدين في أثناء هذه الدراسة وهذا التحليل [13] .
4- المغالطة المنهجية لتحقيق أغراض علمية أو سياسية أو غيرها.. فقد
يكون للمصطلح دلالة خاصة في تراثنا، فيجري تحريفها لصالح خصوم الإسلام.
إن بعض المصطلحات أصيل في تراثنا، ولكنه يستخدم الآن من منظور
غربي، وبمفهوم غريب تماماً عن مفاهيمنا.
ونكتفي بمثال واحد هو لفظ: (الاجتهاد) الذي يحمل مفهوماً خاصاً، ودلالة
تراثية محددة هي: (بذل الجهد والوسع وأقصى الطاقة في استخراج الحكم من
الأدلة الشرعية) . على حين يُستخدم هذا المصطلح الآن استخداماً معكوساً؛ فبدلاً
من أن يكون الاجتهاد داخل النص تعرفاً على معطياته، واستنباطاً لأحكامه الآمرة
الناهية نراه يستخدم بمفهوم غربي غريب عن الاجتهاد المعروف في ثقافتنا الأصيلة؛ إذ يُعبّر به الآن عن جهد بشري مطلقٍ من كل قيد، لا علاقة له بالنصوص
والأدلة الشرعية؛ حيث يرى بعضهم أن الدين تجربة مجتمع، ونتاج ظروف وبيئة
معينة [14] .
وهذا أيضاً ما يتيح لأمثال نصر أبو زيد وسعيد العشماوي وأركون وحسن
حنفي وعلي حرب وإبراهيم محمود، ومحمد شحرور أن يُلغوا الميراث الإسلامي
كله بفهومهم غير المنهجية وغير البريئة على ما نعتقد! !
5- صناعة ولاءات جديدة، وزرع أفكار ذات جذور عقلية وعقدية لا تنتمي
للإسلام وتراثه وحضارته عبر توظيف المصطلح توظيفاً خاصاً. وممن يستعملون
هذا الأسلوب: المنصرون الذين نصوا في أكثر من وثيقة من وثائق مؤتمر كلورادو
1978 على أن استعمال اللغة يمكن أن يكون وسيلة تنصير [15] ، فاقترحوا
استخدام لقب: (مسلمين عيسويين) على معتنقي النصرانية المرتدين من المسلمين
ليُبقوا جزءاً من ثقافتهم المحلية ووطنهم، وعدم استفزاز مشاعر الناس حولهم،
وكذلك مصطلح (مسجد عيسوي) للمكان الذي يلتقي فيه هؤلاء المرتدون (الكنيسة
المحلية) وتحدثوا أيضاً عن مسجد المسيح [16] وكيف يمكن الوصول للمسلمين من
أجل المسيح عن طريق تأويلات قرآنية، وتوظيف الحوار [17] المضلل في
التبشير؛ لأن الحوار الذي يتم بصراحة وأمانة قد يقود إلى كسب المسلم للنصرانيّ
وضمه لصف الإسلام، ولقد انحشر بيننا بكل أسف عدد كبير من المصطلحات ذات
الأصول الكهنوتية: كالأصولية والتنوير والعقلانية والعلمانية، بل كثيراً ما يتحدث
(مستنير متطرف) كأركون عن الإسلام الكهنوتي والأرثوذكسي.. كما يتعاطى كثير
من الحداثيين في الأدب مصطلحات: الخلاص، والصلب، والتعميد، والفداء،
وما شابه! !
6- تدمير الوعاء التعبيري: إن خطورة الإسقاط المصطلحي كما يقول جمال
سلطان [18] : كَمُنَ في جانب هام وماكر، فيه تدمير للوعاء التعبيري الذي تُقدّم
من خلاله الفكرة؛ مما يترب عليه تدمير الفكرة ذاتها بمرور الوقت.
ولعل من أصرح ما يدّلنا على هذا الجانب هو اعتراف (المستنيرين) أنفسهم
في أثناء كلامهم بتركيزهم على هذا الأسلوب، وإثباتهم لما يؤدي إليه من نتائج.
أساليب جديرة بالتأمل:
ويعتمد الغزاة بالمصطلح جملة أساليب يجدر بي أن أتأمل بعضها؛ مع قابليتها
للزيادة والتوسعة والتعميق والتأصيل، ومنها:
1- تقبيح مصطلحاتٍ شريفةٍ في أصلها، ودفع أصحابها للخجل منها، أو
المدافعة عن أنفسهم عن ذكرها، فما أشرف كلمات مثل: السلفية، والأصولية،
والجهاد، والحريم، والنصوصية، والكتب الصفراء، والشهادة.. لكن تناولها
بطريقة ملتوية وموجهة جعل السلفية تهمةً، والأصولية جريمة، والجهاد سبباً
للشنق، والحريم وصمة بالجهل والتخلف، والكتب الصفراء دلالة الجمود
والظلامية، والنصوصية سبباً لسبّ الإمام أحمد لحساب ابن أبي دؤاد وبشر
المريسي في دعاوى بعض المعاصرين من داخل الصف الإسلامي.
2- تحسين وتزيين مصطلحات خسيسة، لا علاقة لها بالإسلام؛ بل هي إما
كَنَسيّة المصدر، أو ملحدة، كمصطلحات: الحتمية، والعقلنة، والأصولية،
والتنوير، والحداثة، والعلمنة، والمعاصرة، ونشرها على الألسن حتى تصير
مقبولة مرتضاة، وتجد بين المسلمين دعاة لها، كما هو الحال مع: فؤاد زكريا،
وجابر عصفور والطيب تيزيني وأدونيس وأركون.
3- تحريف مصطلحات ذات أصول إسلامية، وإعطاؤها دلالات جديدة:
كالاجتهاد، والرأي، والعورة، والحق، والشورى، والعدالة، والحاكمية؛ ليكون
الاجتهاد من حق كل أحد، وكذلك الرأي حتى في المعلوم من الدين بالضرورة،
والعورة خلقية معنوية فقط، والحاكمية للإنسان لأنه في الدعوى على كل شيء قدير؟!
4- ابتكار مصطلحات جديدة وطرحها، وتحديد مفاهيمها ابتداءً وفق رؤية
عدائية تجاه الإسلام والمسلمين كالإرهاب والتطرف والعولمة، والإلحاح عليها حتى
يصطلح عليها بعض أبناء المسلمين ليوظفوها ضد إخوانهم وبني جلدتهم وقد يُتخذ
هذا منهجاً مراوغاً عن طريق طرح مصطلحات جديدة مستحدثة مع إعطائها
مضموناً عاماً غير منضبط، مما قد توافقهم عليه من الوجهة المبدئية، فضلاً عن
جمال المصطلح الشكلي: كاصطلاح الاستنارة أو المعاصرة أو التقدمية، ونحو ذلك؛ فإذا استقر المصطلح في ذهن المتلقي على أنه حقيقة ثابتة فإنهم يبدؤون في طرح
المصطلح بمضمون محدد، وأفكار منضبطة تؤدي إلى هدفهم المنشود في غرس
الفكرة الغربية في (النظرية) الإسلامية.
5- تخفيف رد الفعل الرافض لبعض الألفاظ المباشرة واضحة المخالفة
للشريعة، وتمريرها بين غير المدققين كمصطلح الاشتراكية أو الاشتراكية العلمية
بدل الشيوعية الذي طرح بقوة في بلاد المسلمين، ومصطلح العلمانية بدل اللادينية
أو الإلحاد، ويدخل في هذا ليّ المصطلحات ذات الدلالة الأخلاقية: كتسمية الخمر
مشروبات روحية (ترجمة لكلمة Spirits) والرقص فناً، والربا فائدة، والاستباحة
اجتهاداً، والسقوط حرية.
هذا؛ وللموضوع بقايا وحواشٍ لا تحتملها هذه المقدمة المحدودة، ولعل فتح
(البيان) لهذا الباب يوجد فرصة مناسبة بمشيئة الله تعالى لكثير من الكتاب
والمفكرين بتحرير كثير من المصطلحات المطروحة على الساحة في مجالات الفكر
والأدب والسياسة والفن والتراث والدعوة. وأتوقع أن يكون هذا المسار تأصيلاً
منهجياً معجباً يسد ثغرة، ويواصل عملاً بدأه السلف رضوان الله عليهم ويحمي
العقل الإسلامي من الذوبان أو الانهيار، ويضيء الطريق أمام الباحثين، ويكشف
الكثير من الشبهات والأضاليل التي تطرحها الألفاظ التي تُغزى بها الأمة.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لاإله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
__________
(1) يمرر أهل السنة كيفيات الصفات، فيقولون: نقر الصفة بلا كيف، أو بلا تكييف، أو: الكيف مجهول، فنحت منها خصومهم: بلاكفة.
(2) في شرف العربية كتاب الأمة 42، ص 46.
(3) معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ص 84.
(4) كتابنا: الألوهية في العقائد الشعبية، ص 237 وما بعدها.
(5) السابق: 247.
(6) مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، ص 169 وما بعدها.
(7) د عبد العظيم الديب، التبعية الثقافية، ص 70 بتصرف يسير.
(8) مقدمة في شرف العربية: 14.
(9) النقول الكافية والبرهان والإحكام من: التبعية الثقافية، ص 68.
(10) خصائص التصور الإسلامي، 14.
(11) خصائص التصور الإسلامي، 14.
(12) الغلو في الدين، ص 54.
(13) علماء الاجتماع، 198.
(14) التبعية الثقافية، 123.
(15) ص 611.
(16) ص 767.
(17) ص، 729.
(18) غزو الداخل، ص 51.(137/134)
منتدى القراء
منهج في التربية
وليد عبد الجابر أحمد
التربية كلمة نسمعها كثيراً وصارت تتكرر كثيراً؛ لأن جميع الفصائل
الإسلامية أدركت أن التربية أساس البناء وهي الطريق للعودة بالأمة إلى مكانتها
التي أرادها الله لها.
ولكن تبقى القضية الأساسية: على أي شيء نربي؟ وكيف نربي؟
فالكل يُربي والكل يدرك أهمية التربية، والشيوعية لها مناهج في التربية،
ومناهج في الحياة، وكذلك الرأسمالية.. كل المذاهب والفلسفات.. الكل يُربي، لذا
فالقضية الأساسية: على أي شيء نربي؟
اتجه بعض المربين الإسلاميين إلى استلهام كتب علم النفس، واختاروا منها
ما ينفع ويتفق مع الإسلام وطبقوه، واتجه بعضهم إلى القيام بمحاولة التأصيل
الإسلامي لعلم النفس، ولكن المفارقة بين التصور الإسلامي للحياة وكل التصورات
المنحرفة الضالة الأخرى باقية واضحة.
واتجه بعض آخر من المربين الإسلاميين الذين أدركوا أهمية المنهج الإسلامي
وأفضليته إلى الاقتصار على ذلك المنهج، ولكنهم للأسف وضعوا كل هذا في قالب
من المصطلحات التربوية الغربية، ولعلهم فعلوا ذلك ليجعلوا المسلمين متابعين
خطوات التطور في الفكر التربوي، أو لأنهم كانوا يحاكون بتلك الدراسات
الجامعات الغربية، وهؤلاء لا نبخسهم حقهم أيضاً؛ ولكنه كما قرر سيد قطب في
كتابه: (خصائص التصور الإسلامي) : (أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة
الموضوع وطبيعة القالب الذي يعرض فيه، وأن الموضوع يتأثر بالقالب، وقد
تتغير طبيعته ويلحقه التشويه إذا عُرض في قالب ليس له) [ص 17] ، فكان الأوْلى
بهم أن يعرضوا موضوع التربية الإسلامية في قالب هو له: قالب التصور
الإسلامي والمفاهيم الإسلامية.
ومن أجل التربية كما تذكر بعض كتب السير مكث رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً يربي؛ ليخرج بثلاثمائة فرد. ولا نستقل العدد؛
فهؤلاء الثلاثمائة هم الذين نشروا الإسلام وبنوا مجده. ويتكرر السؤال مرة أخرى:
على أي شيء نربي؟ وتكون الإجابة القاطعة الصريحة: على ما ربّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه. هذا هو منهج التربية وهذا هو طريق التمكين.
وهل على غير القرآن الكريم ربّاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ إنه
القرآن فقط؛ فالعودة العودة للقرآن والسنة، واستخراج أساليب التربية منهما؛
ففيهما طريق التمكين.(137/139)
منتدى القراء
الجواب المتكرر
خليل بن بركات آل غازي
لَكَمْ يُجرح القلب حينما نرى أحد المنتمين لهذا الدين بل ويُعَدّ من المتحمسين
لنَشْر الدعوة نراه يتمسك ويكرر (الجواب المتكرر) عندما تعرض عليه أي نشاط
دعوي أو تفتح له مجالاً من مجالات التأثير في العامة أو الخاصة فيقول: (إنني لا
أستطيع) أو (كم أنا مشغول في هذا الوقت) أو (الله المستعان؛ هناك من هم أفضل
مني) أو (أنا لست على قدر كبير من المسؤولية تخولني القيام بهذا العمل أو ذاك) .. وهلم جرّا من الاعتذارات الواهية والأجوبة المتكررة على ألسنة كثير من
الشباب وبالأسلوب نفسه، إذا كان أصحاب المبادئ الهدامة يسترخصون كل غالٍ
ويستسهلون كل صعب؛ فما بالك وأنت صاحب مبدأ خالد وتحمل رسالة خالدة:
هي الرسالة ذاتها التي جاء بها نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فأنت أوْلى
وأحق منهم بهذه الروح وهذه المبادرة؛ فلماذا لا تلغي من فكرك هذه الأجوبة
المتكررة وتباشر العمل وتترك السلبية في حياتك؟
فيا ترى: من سوف يعيد للأمة أمجادها:
- العلمانيون؟ - أم الحداثيون؟ - أم أهل الكرة وأمثالهم؟
لا يا أخي ... إنه أنت المسلم الملتزم بدينك، والمُضَحّي لأجل دعوتك، أنت
الذي ستعيد للأمة أمجادها، مستنيراً بكل من سبقك من الدعاة المجددين الذين فعلاً
بذلوا كل غالٍ ورخيص من أجل دينهم، فلم يكرروا أي جواب متكرر.(137/139)
منتدى القراء
حرية الفكر المفترى عليها..
أسامة طه
إن بعض المحترفين له براعة فائقة في استخدام مصطلح (الحرية الفكرية)
وذلك حين يجعلها سياجاً واقياً لتزوير التاريخ أو إخفاء معالم الدين وتشويه حقائقه؛
فحرية الفكر كما نفهمها هي إعمال العقل في بحث المقدمات وتمحيص واستخلاص
النتائج، أو هي إعمال العقل في فهم القاعدة أو النص، وهذه الحرية بمفهومها
الصحيح هي (اختراع إسلامي) .
لكن هذه الحرية المظلومة كثيراً ما تستخدم للأسف لخداع الأجيال، وصرفها
عن أصلها، وليّ زمامها عن وجهتها، وتشكيك العوام في مواريثها؛ فكما ينقل
مجرى المياه ليصب في مكان آخر؛ يريد أصحاب الحرية المزورة تشكيل أفكار
مخصوصة كي تبدد رسالة الأمة، لتتلاشى مع الأيام.
ومن هنا نفهم السر في الدفاع عن رموز التشكيك وإحياء أفكار ماتت ودفنت
مع أصحابها.
لقد طبع كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ، لعلي عبد الرازق رغم أن صاحبه
تبرأ منه بعد ما واجهته مشيخة الأزهر بأخطائه؛ لكن الكتاب الذي وضع في أوائل
القرن الحالي يعاد طبعه مراراً باسم حرية الفكر!
وقل مثل ذلك عن كتاب: (من أين نبدأ) مع تغيير الأشخاص والملابسات.
والأمر لم يقف عند ذلك، بل أخذ (الحلاج) بعض الفصول في هذا المسلسل
البغيض، والمرء يدهش حين يرى المقالات والمسرحيات تُعَنْوَن باسم هذا الرجل
شهيد الحرية! !
وهنا نصل إلى أكثر الكتب لجاجاً وأخطرها ضِراماً، أعني كتاب: (في
الشعر الجاهلي) الذي تغير عنوانه إلى كتاب: (في الأدب الجاهلي) وقد تراجع عنه
مؤلفه وهو (طه حسين) ، وهو كتاب يستبشر به كثير من العلمانيين؛ لأنه
متخصص في التنكيل بالإسلام ولمز أحكامه، ولأجل الترويج لأفكاره زعم أصحابنا
أن المؤلف طه حسين يؤمن بمذهب (ديكارت) ؛ وهو أشد الناس خروجاً في كتابه
على هذا المذهب؛ فإنه لا يكتب إلا لغرض واحد يبتغي له وسائله وأسبابه بكل ما
استطاع: وهو توهين أمر الدين وصدعه من مفاصله.. أما ديكارت صاحب مذهب
الشك فإنه يقول: إنك تستطيع أن تشك في كل شيء، إلا في الدين، والأخلاق،
والعلاقات الاجتماعية! ؟
ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الأديب الفذ مصطفى صادق الرافعي: (تحت
راية القرآن) ليرى انهزام الباطل تحت مطارق الحق.
مما سبق يلاحظ الإنسان الحصيف أن حرية الفكر تصل عند الانهزاميين إلى
الأوج إذا كان الكاتب ينال من الدين وثوابته؛ لأن الغرض هو دحرجة الأديان من
الأرض كلها، وهذا ما حدث إبّان سخافات (سلمان رشدي) أو (تسليمة نسرين) .
إن تباين الأفكار واشتجار الآراء ضرورة فكرية ولا شك، ولن يخلو منها
تاريخ الإنسانية إلا إذا أصبح الناس أمة واحدة، وهذا مستحيل: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] (هود: 118) ، ولكن أن تصل
الفوضى الفكرية إلى هذا الدرك؛ فذاك هو عقاب الأمم حين يهبط مستواها.
ألا وإن مثل هؤلاء الفتّانين المفتونين في الأمم: كمثل ما يكون من الوباء يمر
بالبلاد فيصيب منها، ولكنه يترك في أيدي أطبائها وعلمائها المصل الواقي أبد
الدهر: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] [الأنعام: 112] .(137/138)
منتدى القراء
ينابيع السعادة
هناء المخلف
إن أول ينبوع ننهل منه فترتوي عروقنا وتخضر أوراقنا هو: ينبوع الإيمان
بالله؛ إذ لا سعادة إطلاقاً بدون الإيمان الراسخ بالله عز وجل وبالقدر خيره وشرّه،
بل ستبدو لنا الحياة بدون الإيمان ملأى بالضنك والشقاء؛ لكن الالتزام بتعاليم الدين
من واقع نبعه الصافي يسعدنا ويدفعنا إلى الفضائل ويَسعدُ بنا المجتمع.
أما الينبوع الثاني فهو: اليقين بأن كل نعيم في هذه الحياة زائل لا محالة،
وأن السعادة الأبدية في الآخرة.
فالإنسان إذا علم أن السعادة ليست حالة دائمة لم يعلق آماله على مستحيل،
ولم يُفجَع إذا طرأ عليه ما يكدّر صفو حياته، بل إنه يفرح به لإيمانه أن ما أصابه
من خير أو شر هو خير له.
وثالث الينابيع هو: ينبوع التوكل على الله؛ فالمتوكل على الله قوي القلب لا
تؤثر فيه الأوهام ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن الله قد تكفل لمن توكل عليه
بالكفاية التامة؛ فيطمئن لوعده، كما أنه يسعد حين يسعى في بذل الخير للناس
ويحسن إليهم ولا ينتظر منهم جزاءً ولا شكوراً؛ بل يرجو ذلك من ربه سبحانه.
ورابع الينابيع هو: ينبوع القناعة؛ حيث إن الذي لا يعرف القناعة لن
يعرف السعادة أبداً ولو ملك كنوز الأرض.
أما الينبوع الخامس فهو: ينبوع الكفاح في الوصول إلى هدف أو أمر معين،
وأفضل الكفاح ما كان في طلب العلم؛ فلا ألذّ ولا أشهى من السعي في طلب العلم،
وكذلك مجاهدة النفس وترويضها على الالتزام بتعاليم الإسلام؛ فهذه السعادة والمتعة
التي لا تعادلها متعة!
والينبوع السادس وهو من أصفى وأنقى تلك الينابيع هو: تلاوة القرآن
والاشتغال بذكر الله عن هموم الدنيا، واللجوء إلى الله بالدعاء مع اليقين بأنه
سبحانه سيجيب دعوته في الحال، أو يدفع عنه من السوء مثلها، أو يدّخرها له في
الآخرة.(137/140)
منتدى القراء
علمني الصغير
وائل عثمان عبد الرحيم
أعجبني بشدة هذا المشهد الرائع الذي رأيته اليوم، لم تصدق عيناي ما أرى،
أقول هذا لأننا أصبحنا في زمن أضحت فيه كثير من القيم والمثُل، وخاصة تلكم
التي هي من صميم عقيدتنا وديننا الحنيف متلاشية.
قصة هذا المشهد يمثلها طفل صغير يبلغ التاسعة أو العاشرة من عمره، جاء
هذا الطفل إلى المتجر فأخذ ما يريد ثم انقلب راجعاً إلى بيته، فإذا به يدوس (قطعة
خبز) كانت ملقاة على الأرض! فأخذ يعاتب نفسه عتاباً شديداً؛ والذي نفسي بيده
سمعته يقول: (حرام، حرام) وأخذ هذه القطعة وأخذ (يقبلها) . ثم وضعها في ...
مكان لائق. وكفى! فبالله عليكم من لي بفهم الدين وهذه العاطفة الصادقة الفطرية
بهذا الصغير في عقول وقلوب كثير منا؟ ! بل وهؤلاء الذي خطت خطوط الشيب
على رؤوسهم؟ !
التربية بالصدق
بندر بن عبد الله النذير
لنتوقف هنا لحظة؛ لنبصر هذا الخلق العظيم (الصدق) . إن الإنسان متى بدأ
بتربية نفسه أو بتربية الآخرين ولم يوجد ضمن عناصر التربية هذا الخلق فأنى لهذه
التربية أن تكون جادة؟ ! وإذا كان ديدن المُرَبّي الكذب أو تعامُل المُرَبّى مع المربّي
هو التحايل والكذب؛ فأيّ تربية هذه؟ !
من هنا تجلت قمة (معاني التربية) حيث إن الإنسان يحتاج إلى التربية
الصادقة كما يحتاج النبات إلى الماء، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الصدق
يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى
الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً) . [البخاري، ح. /6094، كتاب الأدب] .(137/140)
منتدى القراء
أخطاء في فن الإقناع
محمد مرشد المرشد
هناك أخطاء كثيرة شائعة في طريق الإقناع والتحاور، نحتاج دائماً لمعرفتها
لكي نتجنبها. منها:
-مصادرة عقول وأفكار وآراء الآخرين، وإلزامهم بما توصل إليه المتكلم
من نتائج؛ وذلك بعدم نقل الحدث والنص كما هو؛ إنما نقل ما فهمه المتكلم وما
توصل إليه اجتهاده وتحليله مع إغفال بعض الجوانب من ذلك الحدث أو النص الذي
ربما كان الصواب فيه، مع إيهام المستمع أنه لا يوجد إلا هذا الرأي، وأنه
الصواب الذي لا يحتاج معه إلى غيره.
فلا بد من التجرد في نقل الأحداث؛ ولذلك أمرنا الله تعالى بالعدل في مواطن
كثيرة من كتابه حتى مع وجود بعض التأثيرات العاطفية مثل: كون المحكوم عليه
من ذوي القربى؛ فقال عز من قائل: [وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]
[الأنعام: 152] .
-التركيز على العاطفة في إقناع الناس فمثلاً عند إقناعهم بخطورة المعصية.
فعلى الداعي حيال ذلك أن ينطلق من المنطلقات الشرعية التي يتعبد الناس بها لله
عز وجل بأنه وحده الآمر الناهي المعبود المتصرف الذي حكم فعدل، وهو العزيز
الحكيم؛ وعند إقناعه الآخرين بأمر شرعيّ مّا؛ ينبغي عليه أولاً أن يبين حكم الله
فيه فيقول: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- كذا، ولا مانع
من إيراد بعض الحِكمَ التي تظهر من خلال الحُكم.
ولا يخفى أن لهذا حكمة عظيمة وهي تقوية العبودية لله تعالى في قلب الإنسان
وتعويده التسليم لأمره.
-إقحام العقل وإدخاله في متاهات لم يُخلق من أجلها: كالإصرار على معرفة
العلة في الحكم؛ فإذا تعود السائل على البحث عن الحكمة التي لم تظهر له، ولم
يستطع هذا المتحدث إقناعه بها ربما نجده يتقاعس عن هذا الأمر، وهذا نقص
واضح في العبودية لله تعالى، قال الطحاوي رحمه الله: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا
على ظهر التسليم والاستسلام. من رام علماً ما خطر عنه علمُه ولم يقنع بالتسليم
فهمُه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان)
... ... ... ... ... ... ... [231 -233 شرح الطحاوي]
فقد يفهم هذا ويقنع ما لا يفهم سواه ويقنع، والله أعلم.
-الإفراط في المبالغة، مما يُفقد مصداقية الداعي وُيضعف تأثير كلامه على
النفوس؛ فإن الحق أصل في البشر واضح كالشمس لا يحتاج معه إلى مبالغات
وزيادات قد يكون لها أثر عكسي إذا تبين الأمر، ثم إن الباطل أمر وارد على
النفوس يُدفع بقوة الحق ووضوحه لا بتعظيمه وتهويله.
-ويدخل في هذا الطرحُ الدفاعي في عرض الحقائق بأن يلجأ المتحدث دائماً
في طرحه وعرضه الحقائق إلى الشّبَه والأخطاء والرد عليها مما يؤدي إلى إضعاف
الحق في القلوب؛ بحيث يحتاج معه دائماً إلى دفاعٍ مما يجعل صاحبه لا تتسع
توبته في قلبه، ثم إن هذه الشّبَه ربما تعلق في القلب فتكون أقوى من الرد أو يكون
المستمع لا يستطيع إدراكه فيقع المحذور.(137/141)
منتدى القراء
ذكرى
موسى محمد الشبيلي
عامٌ مضى ما فيه غيرُ هواني ... لم يَنْدملْ جرحٌ به أعياني
عام تكدّرتِ الوجوهُ لخطبه ... فدحٌ عَتَى ما كان في حسباني
فاضت دموعي من لظى أجفانِها ... ورنَى لقلبي هاجسٌ أعراني
ماذا دهى؟ بلدٌ يُبادٌ وأمّة ... تَرجو السلامَ لموطن ثكلان
بلد تولد في الفؤاد حنينه ... أمسى يئن بصرخة الطغيان
وطنٌ تمرستِ اليهودُ بأرضِه ... فمشى وحيداً في رُبى الأوطانِ
فَقَدَ الأمانَ فلا هَناء بمرقدٍ ... يَعْلوه قصفٌ من لظىً ودخانِ
صوتُ المدافعِ كالبروق رواعدٌ ... صُمّت بها أُذُنِي وعيّ لساني
ما لي أرى شعب التخاذل نائماً ... حين استفاق من الأذى الثقلان
عارٌ على كل العروبةِ أن نَرى ... تاجَ الملوكِ على بني الشّيْطانِ(137/141)
الورقة الأخيرة
ضعف التأصيل وتأصيل الضعف
عبد العزيز الجليل
إن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة عظيمة من أعظم العبادات التي يحبها الله
عز وجل ويُتقرب بها إليه سبحانه ولكن شأنها شأن العبادات الأخرى التي يشترط
في قبولها عند الله تعالى أن يكون فيها إخلاص ومتابعة لما جاء به الرسول -صلى
الله عليه وسلم-، وشَرَعه لأمته؛ وهذا هو مفهوم التأصيل.
والناظر في واقع الدعوة اليوم وما أثمرته من صحوة عامة وعودة إلى الدين
والخير ومقارعة الفساد وأهله ليحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، ويشكر
القائمين على هذه الدعوة من علماء وطلاب علم ودعاة وموجهين ومحسنين؛ كلٌ في
مهمته، وحسب ما قدم. ومع هذا الخير العظيم الذي لا يماري فيه عاقل محب
للخير؛ فإن هناك أمرين خطيرين ينبغي أن ينتبه إليهما الدعاة المخلصون؛ لأنهما
طالما كانا من معاول الهدم للدعوات الصحيحة، أو كانا أداتي نخر وإفساد للدعوات
الناشئة في بنائها. وهذان الأمران هما:
1 ضعف التأصيل. 2 تأصيل الضعف.
والمقصود بضعف التأصيل: الانطلاق في أمور الدعوة ومناهجها وأساليبها
دون الرجوع إلى أصول الشريعة وما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، ودون الاهتمام بالمستند الشرعي والدليل العلمي
لمنطلقات الدعوة ومناهجها، والاكتفاء بآراء الرجال، والتقليد الأعمى دون تمحيص
هذه الآراء، وهل هي توافق مقاصد الشريعة وأصول السيرة النبوية الطاهرة أم لا؟ !
إن تربية النشء على قدسية أقوال فلان من الناس، وأنها الحق الذي لا مرية
فيه نهج خاطئ منحرف، ومثال واضح لضعف التأصيل أو انعدامه. كما أن ربط
الصحة والخطأ في أمور الدعوة بالعقل والذوق ورغبات الناس هي الأخرى مثال
لضعف التأصيل. والأمثلة كثيرة وليس المقام مقام تفصيل لها.. والمقصود: أن
ضعف التأصيل ظاهرة خطيرة، تُرى دائماً وتظهر في أزمنة الجهل بالشريعة،
وضعف العلم الشرعي، وترك الأخذ بالدليل الصحيح، والاستعاضة عن ذلك بآراء
الرجال وعقولهم وأهوائهم.
وعلاج هذا الانحراف يكون في ربط الدعوة ومناهجها بالدليل ومقاصد
الشريعة وقواعدها، وإحياء العلم الشرعي بين الناس، وأن لا عصمة إلا للرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ وكل من عداه يؤخذ من قوله ويرد. وإحقاقاً للحق فإن
كثيراً من الدعوات اليوم ولله الحمد قد ثبّتت منهج التأصيل والرجوع إلى ما كان
عليه سلف الأمة والاهتمام بالدليل؛ وما ذاك إلا بسبب انتشار العلم وكثرة طلابه
والتفافهم على العلماء؛ وهذا يبشر بالخير إن شاء الله تعالى وإن كان التأصيل
الشامل يحتاج إلى جهد كبير، وتعاون عظيم بين العلماء والدعاة في ذلك.
أما الأمر الثاني فهو تأصيل الضعف: والمقصود بتأصيل الضعف هنا: هو
أن يقع الإنسان في ضعف أو خطأ، وعوضاً عن الاعتراف بهذا الضعف،
ومحاولة النهوض منه ومعالجته.. تراه يتكلف الاستدلال لضعفه هذا ببعض الأدلة
الشرعية التي لا تصلح للاستدلال، وقصده من هذا أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع، وأنه ينطلق في مواقفه من أصول شرعية، ولتوضيح هذه المسألة أضرب الأمثلة
الآتية:
1- هناك من يسوّغ كتم الحق بالخوف على النفس من الفتنة، أو بالخوف
على الناس من تبعات قول الحق وما يجر عليهم من المفاسد والفتن؛ فإن كان من
يقول هذا القول قد عُرف عنه التقوى والإخلاص والعلم بمقاصد الشريعة؛ فإنه
والحالة هذه مسؤول عما يقول وهو إن شاء الله تعالى مأجور على اجتهاده، وليس
هو ممن يلبس الحق بالباطل، أو ممن يؤصّل ضعفه ويسوّغه بمسوغات شرعية.
أما إن كان صاحب هذا القول ممن عرف عنه قلة الدين واللهث وراء الدنيا،
وعرف عنه كتم الحق خوفاً على دنيا فانية، أو طمعاً في متاع زائل فإن موقفه
والحالة هذه يُعد صورة من صور تأصيل الضعف، ولبس الحق بالباطل؛ حيث
أظهر طمعه وخوفه في صورة الحرص على مقاصد الشريعة ومراعاة المصالح
والمفاسد. والله سبحانه هو المطلع على ما في القلوب وهو علاّم الغيوب.
2- من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول
الشريعة لا تقوم إلا به، ولكن قد يتركه بعض الناس في بعض الظروف: إما
لمسوغ شرعي كتخلف بعض شروطه، أو لضعف وتخاذل مع بقاء هذه الشعيرة
على أصلها في النفوس، أما لو تحوّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع
مرور الوقت وكثرة المنكرات وضعف الإيمان إلى أن يصبح السكوتُ وتركُ الأمر
والنهي هو الأصل الذي يبحث له عن المسوغات الشرعية كدرء الفتنة ونحوها، ثم
يتحول الأمر والنهي إلى حالة استثنائية لا يقام به إلا عند توفر الشروط التي تُضخّم
لتصبح أقرب إلى التعجيز منها إلى الإمكان إذا آل الأمر إلى هذه الحالة فإنه عين
اللبس، وهو تأصيل الضعف؛ حيث انعكس الأمر فأصبح السكوت والضعف عن
هذه الشعيرة العظيمة هو الأصل، وما خالفه من الأمر والنهي هو المستثنى، ونعوذ
بالله من الخذلان.
3- من المعلوم أن البراءة من المشركين والكفار أصل عظيم من أصول
العقيدة، لا يصح إيمان العبد إلا بها، وقد يمر بالمسلم وقت لا يستطيع أن يجاهر
بعدائه للكفار، وقد يداريهم في الظاهر؛ لكن قلبه ممتلئ ببغضهم والبراءة منهم؛
لكن الخطير في هذا الأمر أن يستمرئ الناس مداراة الكفار في كل حين حتى يتحوّل
الأمر إلى مداهنة وموالاة، وحتى يؤول في النهاية إلى أن تؤصّل المداهنة الناشئة
عن ضعف الإيمان وحب الدنيا ووهن العزيمة، وتصبح هي الأصل، وما خالفها
طارئ وجزئي لا تُعارَض به، كمن يؤصّل اليوم التسامح الديني وتقارب الأديان
بحجة المصلحة الشرعية ونبذ التعصب.
ومثله ما يراد للأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة من استسلام مهين مع
شرذمة الخليقة وأعداء الرسل اليهود الغاصبين؛ حيث تحوّل الجهاد في سبيل الله
تعالى ومعاداة اليهود والنصارى إلى أمر مستغرب؛ بل ومستنكر أحياناً، وأصبح
التنازل عن هذا كله هو الأصل الذي لا يجوز خرمه. كما أصبح التعايش السلمي
واحترام حدود العدو والسلام الدائم معه واحترام الشرعية الدولية المدّعاة هي
الأصول التي لا يُسمح بالتنازل عنها والخروج عليها. وقد أدى هذا الأمر إلى أن
يوجد في بعض بلاد المسلمين من يحشد الأدلة والشبهات لتأصيل هذا الخنوع،
وإضفاء الشرعية للسلام الدائم مع اليهود. وهل بعد ذلك مثال أوضح من هذا في
تأصيل الضعف والهزيمة والهوان؟ !(137/143)
صفر - 1420هـ
يونيو - 1999م
(السنة: 14)(138/)
كلمة صغيرة
ها هم يتجرؤون!
عندما كان الإسلاميون يقولون: إن الغرب يتحرك بدوافع صليبية كان
العلمانيون ينظرون إليهم نظرة استخفاف بهذا التفسير (المتخلف) و (المتعصب)
للأحداث. وعندما كان هؤلاء (الأصوليون) يقولون: إن أحد أهداف الغرب
زعزعة إيمان المسلمين بدينهم وعقيدتهم كان (المتنورون) يردون بأن الغرب يعيش
حالة من عدم المبالاة بالتدين، وأنه لا يأبه بأن يتحول المسلمون إلى نصارى.
ولكن الأحداث تتوالى لتصك العلمانيين والمتغربين على وجوههم، ولتثبت
للجميع أن الحروب الصليبية لم تنته بعد، وها هم أخيراً وليس آخراً يتجرؤون
ويرفعون رؤوسهم بالدعوة الصريحة إلى التنصير في دول الخليج العربي: فبعد
تنصيب أول قس كويتي، وبعد الكنائس المعلنة أو المستترة في البيوت؛ بُثَّتْ -
عن طريق الفاكس وعلى نطاق واسع - دعوات إلى متابعة أول محطة تنصيرية
تلفزيونية فضائية، تبث من قبرص باسم Sat-7 ويغطي إرسالها الشرق الأوسط
وجنوب آسيا وشبه الجزيرة العربية ومعظم أوروبا من خلال القمر Pan. Am
Sat-4 واحتوت هذه الدعوات على: عنوان المحطة، وكيفية التقاطها، ودعوة
لمشاهدة فيلم (يسوع) يوم الجمعة 9/4/1999م، إضافة إلى دعوة صريحة لاعتناق
نصرانيتهم المحرفة.
إننا نعتقد أنهم لم يتجرؤوا على خطوة كهذه إلا لاطمئنانهم بأن دفاعات كثيرة
أزيحت من أمامهم، واعتقادهم أنهم الآن من القوة التي تسمح لهم بذلك، وربما
كانت هذه الخطوة مجرد بالون اختبار لمعرفة ردود الأفعال وجس النبض، ومن ثَم؛ يأخذون خطوة أبعد.
ومع اعتقادنا بأن المسلمين لن يسمحوا لأفعى التنصير بأن تطل برأسها في
البلاد الإسلامية، ومع قناعتنا بأن مثل هذه القنوات يصعب منعها إن لم يكن
مستحيلاً، فإننا ندعو كل غيور على دينه وأمنه إلى السعي الحثيث إلى ترسيخ
العقيدة في نفوس أبنائه (وعشيرته ومجتمعه) وإحياء روح الاعتزاز بدين الإسلام
عقيدةً وشريعةً؛ لتتحطم عليها مكائد أعداء الإسلام.(138/1)
الافتتاحية
صحَوْنا ... فلْنَنْهض!
ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الهجري الخامس عشر.. في حاجة
إلى وقفة تأمل في حصاد عقدين ماضيين من عمر (الصحوة الإسلامية) اللذيْن كانا
ظرفين للنشأة والتفاعل إقليمياً وعالمياً.
ماذا حصدت الصحوة من ثمار خلال هذين العقدين؟ وفيم نجحت؟ وفي أي
شيء أخفقت..؟ الحديث في ذلك يطول؛ ولكن لا بد من تناوله، وطرح محاوره، وشرح ملابساته.. وبما أن هذه العجالة ليست كافية لتوفيته حقه في التناول؛
فإننا نشير في إلماحات قصيرة ومختصرة إلى بعض المعالم البارزة لعلنا نطلق بها
الدعوة إلى فتح النقاش العام حول هذه الطروحات في المنتديات الدعوية في كل
مكان.
لقد نجحت الصحوة برغم كل العقبات الكؤود والعداوات النكدة أن تثبت بفضل
من الله وحده وجوداً وتفاعلاً على مختلف الأصعدة، بما ينفي بوجه قاطع تهمة
عجز المسلمين عن النهوض لتوجيه الحياة وصناعة التاريخ.
ومن الأهمية بمكان أن نتساءل اليوم ونحن نبدأ عقداً جديداً في قرننا الهجري: ماذا أنجزت الدعوة في مرحلة (الصحوة) ؟ وما الذي عليها أن تستعين بالله في
إنجازه فيما يستقبل من المراحل؟
يمكننا أن نتلمس الجواب في النقاط الآتية:
أولا: على المستوى الدعوي:
نجحت الصحوة بمعونة الله في استنقاذ شريحة كبيرة من الجماهير التائهة في
الجاهلية المعاصرة؛ حيث عادت روح التدين بشكل لافت وبنسب متفاوتة في كل
قطر من أقطار الإسلام، هذا فيما مضى من القرن.
والأمة الآن في حاجة إلى النهوض بمستوى تلك الشرائح بجهد مضاعف
للانتقال بها من مرحلة (الكم) إلى مرحلة (الكيف) وإلا فقدنا الكم والكيف معاً،
فأنصارُ الدعوة وجدانياً كثيرون، ولكن نصرتهم العملية للدعوة لا تزال دون القليل، والسبب في ذلك أن هناك جهوداً كبيرة لا تزال مدّخرة يمكن أن تعمل على تأهيل
وتخريج القطاعات الدعوية القادرة على توجيه السفينة.
ثانياً: على المستوى العلمي:
لا شك أنه قد وجدت كفاءات علمية متخصصة ومتنوعة بعد حركة الانتعاش
العلمي بعد مقدم القرن الخامس عشر. ومعالم هذا الانتعاش ظاهرة؛ ولكن هذه
الحركة في أمسّ الحاجة إلى التحول إلى (مؤسسات) علمية قادرة على تشكيل
مرجعية علمية وعالمية لتوجيه المد الإسلامي المائج في لجج الحياة، دون أن
يستطيع الوصول إلى منارات تهديه أو أفق يأوي إليه، بسبب قصور غير مقصود
في إيصال نور العلم الصحيح إليه.
ثالثاً: على المستوى الفكري:
طرحت في الساحة الإسلامية عبر عقدين ماضيين مختلف القضايا الفكرية
التي كانت محل أخذ ورد عبر عقود متطاولة مضت، وقد أُنهكت بعض هذه
القضايا بحثاً وسُطّح بعضها وتفلّت آخر عن البحث، وتجوهل آخر فلم يُبحث،
والأسباب كثيرة، ولكن كان هناك غائب مشترك في أكثر الأحايين وهو فصل الفكر
عن الفقه، وخاصة الفقه الأكبر، فقه الاعتقاد، مما أنتج تلك الفوضى الفكرية
المسؤولة عن تفريق الصفوف والقلوب.
نحن في مسيس الحاجة إلى منظومة فكرية متكاملة لمختلف نواحي التصور
والسلوك تستقي من منهج القرآن والسنة، وتتخلص إلى غير رجعة من اللوثات
الاعتزالية أو الرافضية أو الخارجية أو الصوفية التي تسللت إلى كثير من
الطروحات الفكرية المعروضة باسم أهل السنة. وما يطرح في الساحة الآن على
أنه (فكر إسلامي) يحتاج في الحقيقة وبكل هدوء إلى إعادة توصيف، حتى لا نقول
تصنيفاً، وحتى يذهب الزَبد جفاء، وتبقى الزبدة لنفع الناس.
رابعاً: على المستوى السياسي والإعلامي:
الصحوة الإسلامية فتحت بلا جدال أعيناً للرؤية السياسية الواضحة، كان
الناس قبلها أتباعاً لكل ناعق، ليست لهم آذان إلا الإذاعات ولا أعين إلا الشاشات،
وقد أثبتت الصحوة قدرتها على صناعة (رأي عام) في كثير من القضايا؛ بالرغم
من الحصار المفروض عليها في البر والبحر والجو.
واليوم، وقد سقط جدار الحصار بظهور التقنية الإعلامية الحديثة؛ فالمسلمون
يدخلون بهذا في مرحلة جديدة من مراحل (البلاغ) للعالمين، تحتاج إلى فهم جديد
ماهر في العمل الدعوي: السياسي والإعلامي يشيع النظرة الإسلامية فيما يجد من
أمور انطلاقاً من ثوابت الإسلام العقدية والشرعية، من خلال تحليلات متعمقة
وطروحات هادئة تثبت جدارة الإسلام بقيادة شعوب المسلمين، بل بقيادة العالمين.
خامساً: على المستوى الاقتصادي:
رَاجَ مصطلحُ (الاقتصاد الإسلامي) نظرياً، وحاول إثبات وجوده عملياً من
خلال المصارف والاستثمارات الإسلامية فكان مثالاً واضحاً من الأمثلة العديدة التي
تدل على أهلية الإسلام للقيام بشؤون الاقتصاد محلياً وعالمياً؛ ولكن إثبات الوجود
وحده لم يعد يكفي في عصر النمور والنسور والصقور الاقتصادية التي لا تفرق بين
حلال وحرام.
نحن في حاجة إلى الانتقال من مرحلة إثبات الوجود إلى مرحلة (فرض
الوجود) ؛ فالثروات في أرض الإسلام يتوجب توجيهها للصالح العام مع العمل الجاد
نحو تشجيع الاستثمار الإسلامي في مظانه؛ وهو الذي سيوجه حتماً سياسات كثير
من الأنظمة في يوم ما، وباكورة ذلك ما نراه من تسابق نحو (أسلمة) المصارف
لبعض فروعها قبولاً منها بالأمر الواقع الذي تفرضه الشريحة الإسلامية العريضة
التي ترفض الحرام وتأباه.
سادساً: على المستوى الاجتماعي:
كان جهد الصحوة مشكوراً في لفت الأنظار إلى أن هناك لوناً راقياً من التكافل
يدعو إليه الإسلام، لم تصل إلى مستوى الحلم به منظماتُ الرعاية والحماية وحقوق
الإنسان العالمية المسيّسة.
ولكن هذا النشاط المشكور، حاول دائماً أن يجمع البيض كله في سلة واحدة،
جامعاً بين النشاط الأسري والإغاثي، والإنمائي والعلمي والدعوي.
نحن مقبلون على مرحلة تحتاج إلى التخصص الدقيق في العمل الاجتماعي
والخيري، فهذا أرعى لمصالح المسلمين، وأدعى لتجاوز العقبات والعراقيل التي
توضع أمام الأنشطة (الموسوعية) باسم سياسات (تجفيف المنابع) .
سابعاً: على المستوى الجهادي:
شهدت الصحوة في عقديها الماضيين وُثُوباً من رقدة القعود الطويلة عن شرعة
الجهاد إلى قيام صاعد صامد في وجه الجبارين اكتسى ثوباً إسلامياً جديداً بعد أن
كان يتلفع خرقاً وطنية
وقومية وثورية. وبنسب متفاوتة أدى إحياء تلك الشرعة
الإلهية دوراً في حياة المسلمين المعاصرة؛ مما أخافَ قوى الظلم، فسارعت إلى
تلطيخ وجه الجهاد الوضيء حتى لا يتكرر تحوله من (دعوة) إلى (دولة) كما حدث
في أفغانستان والشيشان والسودان.
ولا تزال أمام الجهاد الإسلامي الماضي إلى يوم القيامة ساحات وميادين،
تستوجب تعديل مسار الجهاد إلى هدفه الأسمى وهو: أن تكون كلمة الله هي العليا؛
فهذا فقط هو الجهاد. وكل عمل باسم الجهاد لا يتغيّا هذه الوجهة نظرياً ويطبقها
عملياً فهو إلى الإفساد أقرب. وعلى المجاهدين وهم ينتظرون ساعة الصفر
وساحات الفداء أو هي تنتظرهم أن يحملوا سلاح العلم والإخلاص لينتصروا بهما
أولاً على أعدى أعداء الجهاد. وهما: الجهل، والهوى.
ثامناً: على مستوى العمل الفردي:
كان بإمكان الصحوة أن يتضاعف عطاؤها أضعافاً كثيرة لو أنها وجهت جزءاً
من اهتمامها بالعمل الجماعي إلى العمل الفردي، فإذا كان العمل الجماعي من
الأعمال المشروعة بين عيني وكفائي فإن العمل لنصرة الدين على المستوى الفردي
مفروض عينياً على كل قادر بحسبه، وطبقاً لمقدرته، ومع هذا؛ فإن العمل
الجماعي هو المطالب أيضاً بتوظيف العمل الفردي لتلافي ذلك القصور الشائع؛ فكم
من أفراد يبحثون عن أدوار! وكم من أدوار تبحث عن أفراد! ومن بركة العمل
الجماعي أنه يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة.
تاسعاً: على مستوى العمل الجماعي:
في غياب دور (الدولة) في أكثر بقاع العالم الإسلامي باعتبارها المؤسسة
المسؤولة عن توجيه الوظيفة الأولى للأمة وهي الدعوة، كان من المهم بحكم
الضرورة أن تتولى الأمة بنفسها القيام بما كان يجب أن تقوم به الدول؛ فظهر في
مرحلة الصحوة دور بديل وإن كان غير كافٍ وهو نشوء الجماعات العاملة للإسلام
وتفرعها وتنوعها، ولا يستطيع مجادل أن ينفي الدور الذي قامت به تلك التجمعات
نيابة عن الدول في خدمة دعوة الإسلام، سواء كانت تجمعات علمية أو دعوية أو
سياسية أو جهادية، وبالرغم من جسامة الدور الذي قامت ولا تزال تقوم به تلك
الجماعات، فإنها عجزت إقليمياً وعالمياً عبر عقدين ماضيين عن تحقيق هدف
رئيس من أهداف دعوة الإسلام، وهو فريضة الاعتصام بحبل الله.
وفي مرحلتنا المقبلة، لا عذر لنا أمام الله في التفرق بعد أن جمعنا الإسلام،
أو التشرذم وقد وحدنا الإيمان.
لم تعد (الصحوة) وحدها تكفي؛ فالعملاق (النائم) قد صحا.. ولا ينبغي أن
يكتفي بأنه قد صحا وأدرك ما حوله؛ لقد آن الآوان له أن ينهض ليغير ما حوله.
آن لنا أن ننتقل من مرحلة (الصحوة) إلى مرحلة (النهضة) .
والله الهادي إلى سواء السبيل،،،(138/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الابتداع بين العصيان والتبديل
مجدي حمدي الأبار
أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [1] .
هذا حديث عظيم وأصل من أصول الإسلام، وهو مع حديث: (إنما الأعمال
بالنيات) ، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن) ثلاثة أحاديث هي القواعد التي
بنى عليها الإمام أحمد رحمه الله أصول مذهبه [2] .
وقد أخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) [3] .
فحديث جابر وحديث عائشة رضي الله عنهما كل منهما يدل على الآخر،
ويفسر معانيه.
معنى البدعة:
قوله: (من أحدث) أي ابتدع؛ إذ الحديث ضد القديم، والأمر المُحْدَثُ هو
المبتدع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة) وقوله صلى الله عليه
وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور) [4] أي ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي لم
يكن عليها السلف الصالح.
و (الابتداع) لغةً: هو الاختراع على غير مثال سابق، قال الشاطبي:
(وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: [بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [الأنعام: 101] أي فاطرهن على غير مثال سابق، وقوله
تعالى: [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ] [الأحقاف: 9] أي ما كنت أول من جاء
بالرسالة إلى العباد؛ إذ تقدمني كثير من الرسل. ويقال: ابتدع بدعة يعني: ابتدأ
طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع، يقال للشيءِ المستحسن الذي لا مثال
له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. اهـ) [5] .
إذاً فالقدر المشترك بين مادتي (حدث) ، و (بدع) هو الشيء الذي لم يكن له
مثال سابق ثم كان، فإذا تعلق الإحداث بشيءٍ للنبي صلى الله عليه وسلم فيه حكم
أمر أو نهي فهو بدعة الشرع، وهذا وصف أخص من وصف اللغة. وبكل حال
فمادة بدع تستعمل للدلالة على عكس الأمر العتيق المعهود، ومن ذلك قول ابن
مسعود رضي الله عنه: (إياكم والتبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق) [6] .
فقه الحديث:
قوله: (من أحدث) (مَنْ) اسم شرط جازم، و (أحدث) فعل الشرط، ويدخل
فيه من ابتدأ البدعة ومن تبعه عليها، كما دل عليه لفظ مسلم: (من عمل عملاً)
وقوله: (في أمرنا) المراد به أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سنته وشريعته، وهو قيد خرج بمفهومه الإحداث في غير أمره صلى الله عليه وسلم من أن يكون
مراداً بجواب الشرط الآتي، وقوله: (ما ليس منه) أي يخالفه سواءً كانت المخالفة
في أمر الاعتقاد أو العمل.
وقوله: (فهو رد) جواب الشرط، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول أي هو
مردود، ولفظ (رد) أعم من المحدث؛ فقد يكون الرد للإحداث وهو الابتداع، وقد
يكون الرد لعموم المخالفة، بل قد يتوارد على الأمر الواحد الجهتان بحسب الصورة
التي وقعت عليها المخالفة.
وكلّ ما كان (رداً) فهو باطل وإن اصطلح الناس على إمضائه، مثل ما جاء
في قصة العسيف، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمّا الوليدة والغنم فرد
عليك) [7] .
ومثلُ هذا العقدُ على تبادل المنافع المحرمة، وتنزيلها منزلة البيع؛ فقد قال
تعالى في إسقاط ما يحصل للمرابي من الزيادة بعقد الربا: [وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ] [البقرة: 279] ، فلم يعتبر ما تراضى عليه
المتعاقدان، بل أسقط حرمة عقدهما؛ إذ تراضيا على ما حرم الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم، وفي الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان
الكاهن) [8] .
وهذا إن جرى على وجه طلب حطام الدنيا؛ فهي المعصية التي توعد الله
عليها بالعذاب، وإن جرى على وجه الرضا والإقرار؛ فهو النقض لطاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم، وهو من باب قياس المشركين في قولهم: [إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا] [البقرة: 275] ؛ إذ أقروا أنه ربا ثم نزّلوه على وجه القياس منزلة البيع
الحلال.
وقوله: (فهو رد) دليل على أن حكم الحاكم الذي وقع على خلاف أمر الله
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، منقوض في حقيقة الأمر وإن سلم في ظاهره،
كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له
على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له
قطعة من النار) [9] .
قال الحافظ: (فيه دلالة ظاهرة جداً على أن حكم الحاكم لا يحل ما حرمه الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لنهيه عن أخذه، إذا كان يعلم أنه في نفس الأمر
لغريمه) اهـ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فهو رد) فيه دلالة ظاهرة على نقض الحيل
التي يتوصل بها إلى إسقاط قصد الشارع من شرع أحكامه، مثل استعمال الحيلة في
إسقاط الزكاة في المال بهبته قبل أن يدركه تمام الحول لمن يرده عليه مرة أخرى،
ومثل المحلل الذي يتزوج المرأة لا بقصد استدامة النكاح ولكن ليحلها للزوج الأول
الذي طلقها ثلاثاً من قبل.
ومثل الطلاق لغير العدة، كطلاق الرجل امرأته وهي حائض أو في طهر قد
جامعها فيه، يطيل عليها العدة، على خلاف قصد الشارع، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ] [الطلاق: 1] . ونحو ذلك كثير.
وقد ناقش الشاطبي رحمه الله دخول هذا النوع من المخالفة تحت حد البدعة.
والأصل أن قصد الشارع لا يسقط بالحيلة، ومن أصول الباب قوله صلى الله
عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله يهوداً حُرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا
أثمانها) [10] .
وقوله: (حرمت عليهم الشحوم) أي شحوم الميتة [11] ، أي أن يقتربوا منها
على جهة التموّل، كما في الحديث: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) [12] ،
فاحتالوا على قصد الله عز وجل (فجمّلوه) أي أذابوه؛ ليغيروا هيئته، ويستحلوا
ثمنه؛ فلعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فهو رد) فيه دليل ظاهر على أن الأصل في النهي الفساد.
وقد قرر العلائي رحمه الله أن (الرد) قد يأتي على معنى نفي الصحة، أو نفي
القبول، ثم عقّب قائلاً: (إن الحمل على نفي الصحة أوْلى) ؛ وقال رحمه الله:
(سلّمنا أن نفي القبول لا يلزم منه نفي الصحة، ولكن لا نسلّم تعيّنَ الحمل عليه في
قوله: فهو رد، بل حمله على نفي الصحة أوْلى لوجهين:
أحدهما: أنه حقيقة اللفظ، أو هو أقرب للحقيقة.
وثانيهما: أنه أكثر فائدة؛ لأن الحمل على نفي الصحة يلزم منه نفي القبول
دون العكس، والحمل على الأكثر فائدة أولى أو هو المتعين) [13] اهـ.
وهذا التقرير منه رحمه الله معناه أن نفي الصحة (البطلان) هو الأصل في
النهي، وما عداه على خلافه؛ وما كان كذلك فالنية على النافي للأصل. وللفقهاء
تفصيل في العلاقة بين النهي والفساد مرده إلى ورود النهي على محرم الأصل أو
غير محرم الأصل [14] .
وجوب إنكار المنكر:
قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا) (مَنْ) من ألفاظ العموم؛
ففيه دليل على أن الإحداث في الدين ينكر على كل أحد: الأمراء، والعلماء،
والعامة، ومن ذلك ما أخرج مسلم من حديث طارق بن شهاب قال: أول من بدأ
بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة.
فقال -أي مروان-: لقد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد
قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم
منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف
الإيمان) [15] .
وفي الصحيحين إنكار أبي سعيد رضي الله عنه على مروان [16] .
والمخاطرة بالنفس في هذا المقام مستحبة كما ذكر النووي رحمه الله [17] فهذا وجه
من وجوه الفقه في هذا الخبر الجليل.
ذم الإحداث في الدين:
وجه آخر من الفقه في الحديث يتعلق بذم الإحداث في دين الله عز وجل؛ إذ
وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (رد) ، ووصفه في حديث جابر بأنه (بدعة)
فقال: (كل محدثة بدعة) ، ووصفه بأنه (ضلالة) فقال: (كل بدعة ضلالة) .
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم: ذم الإحداث بالنهي عنه، والذي لا يتحقق
امتثال المكلف فيه إلا بالكف عن جميع أفراد المنهي عنه، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور) وهي صيغة تحذير، ورتب الوعيد فقال صلى الله
عليه وسلم: (كل ضلالة في النار) ، ثم أكد هذا النهي بعمومات الألفاظ: (من) ،
و (ما) و (كل) .
وكفى بهذا ذماً للبدعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه
العمومات مؤكدة كذلك بالكتاب والسنة وقواعد الشريعة.
قال تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] [المائدة: 3] .
ونقل الشاطبي عن مالك استدلاله بهذه الآية فقال: (قال ابن حبيب: أخبرني
ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول: التثويب ضلال، قال مالك: ومن أحدث في
هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خان الدين؛ لأن الله تعالى قال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فما لم يكن يومئذٍ ديناً،
لا يكون اليوم ديناً) .
قال الشاطبي: (وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس، قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح،
وهو قول إسحاق بن راهويه: إنه التثويب المحدث) [18] .
وأخرج مسلم من حديث سلمان رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم
صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: (أجل! لقد نهانا أن
نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة
أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) [19] .
فهذه الإحاطة في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته تقضي ببطلان الإحداث
في الدين، سواء بالزيادة أو النقصان.
وجه بطلان الإحداث:
أمّا باعتبار شهادة الأصول لبطلان الإحداث في الدين؛ فالابتداع فيه مضاهاة
لفعل الشارع، واستدراك على الشريعة، وهذه كذلك أوصاف المبتدع. قال
الشاطبي: (الرابع أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع
وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم
بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم
تنزل الشرائع، ولا احتىج إلى بعث الرسل عليهم السلام، وهذا الذي ابتدع في
دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً للشارع؛ حيث شرّع مع الشارع، وفتح
للاختلاف باباً، وردّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك ... ) [20] .
وقوله: (ردّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع) هو جوهر قضية البدعة
ومدْرَك الفرق بين البدعة ومطلق المعصية؛ فإن في البدعة محظورين:
الأول: رد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع.
الثاني: تفويت المصالح الشرعية، دنيوية كانت أو أخروية، والتي قصدها
الشارع من وضعه التكاليف السنية، وذلك بعمل المبتدع على إسقاط قصد الشارع،
فيسن التشريعات الرديّة.
فأما المحظور الأول فتجده عامّاً في كل البدع صغارها وكبارها، وهذا هو
المعنى الذي استحقت به البدعة وصف الحرمة مهما كان صغرها.
أمّا باعتبار المحظور الثاني؛ فالبدعة متفاوتة المراتب، وذلك بقدر ما يلحق
الشريعة من خرق؛ فقد تكون مكفرة كالقول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله عز وجل
في الآخرة، وبدعة منكري العلم من القدرية، ثم إذا قامت الحجة على من قال
بشيءٍ من هذا أو نحوه في الكُفْر كَفَر، ولا كرامة.
وقد تكون البدعة غير مكفرة كبدع الصلوات، والأذان، وإحداث هيئات للذكر، مثل ما أحدثه أهل التصوف من الرقص في الحلقات وغير ذلك. وعلى هذا
فالبدعة فيها محظوران:
الأول: العدوان على الآمر، وذلك برد قصده في الانفراد بالتشريع.
الثاني: العدوان على الأمر والنهي بتفويت المصالح المتعلقة بنفس التشريع.
الفرق بين البدعة والمعصية:
الفرق ظاهر بين البدعة وبين مطلق المعصية. قال الشاطبي: (وأما البدع
فثبت لها أمران:
أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له؛ حيث نصب المبتدع نفسه نصب
المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حُدّ له.
الثاني: أن كل بدعة وإن قلّت تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل
الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع أو
قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر؛ إذ الزيادة
والنقصان فيها أو التغيير قلّ أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر؛ فمن
فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن
في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل
ولا بكثير، ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء في الفرق
بين بدعة جزئية وبدعة كلية) .
وحتى تقف على قدر هذا الذم للبدعة والمبتدع تأمّل ما قاله الإمام أحمد رحمه
الله فقد أخرج الخلال قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن
أبي دؤاد. عليه في ذلك إثم؟
قال: ومن لا يفرح بهذا؟ قيل له: فإن ابن المبارك يقول: الذي ينتقم من
الحجاج هو ينتقم للحجاج من الناس؟
قال: وأي شيء يشبه هذا من الحجاج؟ هؤلاء أرادوا تبديل الدين [21] .
فتأمل كيف فرق الإمام أحمد بين ابن أبي دؤاد المبتدع، وبين الحجاج الظلوم
الغشوم قاتل الألوف من المسلمين، فجعل جرم ابن أبي دؤاد أشد.
وأخرج الخطيب بسنده إلى الرجل الصالح يونس بن عبيد رحمه الله (أنه
وقف ومعه ابنه على عمرو بن عبيد [القدري المبتدع] فأقبل على ابنه فقال: يا بني
أنهاك عن السرقة وأنهاك عن الزنا، وأنهاك عن شرب الخمر، والله لأن تلقى الله
بهن خير لك من أن تلقاه برأي هذا وأصحابه، يشير إلى عمرو بن عبيد) [22] .
وقول الإمام أحمد: (هؤلاء أرادوا تبديل الدين) هو المعنى الذي بلغت به
البدعة من الذم ما بلغت؛ فالمبتدع مبدل، والمبدل إن تعمد التبديل يكون كافراً،
يستوي في هذا القليل والكثير كما تقدم من قول الشاطبي رحمه الله، وإنما المانع
من تكفيره هو التأويل.
فالمقصود أن التبديل هو الوصف العام للبدعة؛ إذ ليس للإمام أن يقتل كل من
امتنع عن الزكاة إذا أمكن أن تؤخذ قهراً، وكان مقراً بوجوبها.
ثم يعتبر كل باب بحسبه؛ فالبدع المتعلقة بأبواب المعرفة بالله عز وجل أو رد
معلوم من الدين بالضرورة بخلاف تلك المتعلقة بفروع الشريعة، ثم هذه قد تتفاوت
بقدر ما يحصل في الشريعة من خرق، وهذا مدرك تقسيم الشاطبي البدع إلى: كلية
وجزئية، وصغائر وكبائر، وإن أثبت لها جميعها وصف الحرمة اعتباراً بعموم
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) ، وأنّ جميع البدع يتحقق فيها وصف
التبديل للدين [23] .
الجانب التشريعي في البدعة:
ومن وجوه الفقه في هذا الخبر ضبط معنى قوله: (من أمرنا) على وجه لا
يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو داخل فيه، فنقول: على معنى
المضاهاة لفعل الشارع بنى الشاطبي رحمه الله تعريفه لمعنى البدعة فقال رحمه الله: (البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة
في التعبد لله سبحانه) [24] .
وقوله رحمه الله (تضاهي الشرعية) يعني: (تشبه الطريقة الشرعية من غير
أن تكون كذلك؛ بل هي مضادة لها من وجوه) .
قلت: ومما يجدر التنبيه عليه أن للشاطبي رحمه الله تعريفاً آخر كثيراً ما
يُغفل عن إيراده، وهو مثل التعريف الأول، لكن قال فيه: (يقصد بالسلوك عليه ما
يقصد بالطريقة الشرعية) [25] .
وهذا أضبط وأجمع من الأول في نظري.
إذن فحقيقة البدعة ترجع إلى إسقاط قصد الشارع من وضع الدّين، وذلك
بوضع تشريع آخر يضاهيه، ولو لم يقصد به المبالغة في التعبد، وهذا معنى قول
الشاطبي: (أو وُضِعَ وَضْعَ التعبد) وإلا فما وجه قولهم: (طلاق بدعي) ؟ ولا يقصد
بالطلاق المبالغة في التعبد، لكن من حيث خالف المكلف بفعله موضع الأمر والنهي
في ذلك الأمر الذي لا يتعبد به الطلاق فأطال العدة على خلاف قصد الشارع فسُمي
فعله بدعة، ولأجل ذلك ناقش الشاطبي أن الاحتىال على قصد الشارع من الأمر
والنهي بدعة، كما في المحلّل، والحيلة لإسقاط الزكوات، وكما في بيع العينة
لإسقاط وصف الربا عن المعاملة؛ إذ المكلف قد وضع الحيلة لإسقاط ما للشارع
قصد في تحريمه، وهذه محاكاة للشارع في التحليل والتحريم، أي في وضعه
للتشريع.
قال الشاطبي: (فهذه النكتة التي يدور عليها حكم الباب، ويتبين ذلك بالأمثلة: فمما أتى به القرافي: وضع المكوس في معاملات الناس؛ فلا يخلو هذا الوضع
المحرم من أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً مّا أو في حالةٍ مّا لنيل حطام
الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه
ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالديْن الموضوع، والأمر المحتوم
عليهم دائماً، أو في أوقات محددة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع
الدائم الذي يُحمل عليه العامة، ويؤخذون به، وتُوقع على الممتنع منهم العقوبة كما
في أخذ زكاة المواشي والحرف وما أشبه ذلك. فأمّا الثاني فظاهر أنه بدعة؛ إذ هو
تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات
المضروبة، والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين، بل صار في
حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة وما أشبه ذلك؛ فمن هذه الجهة يصير
بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مُستدرَك، وسنٌ في التكليف مهيع [26] ، فتصير
المكوس على هذا الفرق لها نَظَران:
نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر
من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر
التكاليف، فاجتمع فيه نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة) .
ومن هذا يتضح أن كل تشريع يوضع بالمخالفة لقصد الشارع من وضع
التكاليف الشرعية هو بدعة، وإن لم يقصد به التعبد، أو لم يصفه المبتدع بحل أو
حرمة، وهذا يبين معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا)
ويتحقق به معنى قوله: (أمرنا) وصفة الإحداث فيه، بأنه الإحداث في كل موضع
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حكم، سواءً كان من العبادات المحضة، أو من
العاديات التي لم تخل من التعبد، ويستوي في هذا حكمه صلى الله عليه وسلم أمراً
كان أو نهياً؛ فقد اجتمع فيه مع المعصية وصف البدعة لمّا وضعه المبتدع على
صفة المضاهاة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من محاكاة الهيئات، والكيفيات
ووضع التقديرات الشرعية.
فهذا كله بدعة، وإن لم يوصف فعل المبتدع بالتعبد، وإن لم يوصف بحل أو
حرمة؛ إذ يكفي أنه قد وضعه موضع التعبد؛ لمّا حاكى فعل النبي صلى الله عليه
وسلم وضاهاه، وردّ قصده في الانفراد بالتشريع.
التشريع الوضعي والابتداع:
إذن، فهذا كله داخل في معنى الإحداث في أمره، والذي هو سنته وشريعته.
وعليه فيصح دخول القوانين الوضعية في مسمى البدعة؛ إذ هي موضوعة على
خلاف قصد الشارع من سنه التشريعات السنية العالية القدر الرفيعة، وهي كذلك
موضوعة على صفة المضاهاة للشريعة؛ باعتبار تحديد الأوقات، وضرب
الكيفيات، وتوجيه العقوبات. وعلى هذا فهي بدعة وتبديل للدين.
وكلام الشاطبي رحمه الله فيه نقض لما قرره بعض الناس؛ إذ قرروا:
أن الحكم بغير ما أنزل الله على وجه التشريع لا يوصف بأنه بدعة إلا إذا
وصف بالحل أو الحرمة، ثم فرع على ذلك:
أن الشرع المبدل هو الشرع الموصوف بالحل أو الحرمة فقط، وجعل ذلك
قيداً فيه ولم يجعله تقسيماً.
وقرر كذلك أنه لا فرق بين الحكم بغير ما أنزل الله على وجه المخالفة
والمعصية، وبين ما إذا قارنه تشريع مضاد، فجعل التشريع وصفاً غير مؤثر في
هذه القضية.
وهذه ثلاث عجائب فيها حصر غير مُسلّم به، وإسقاط لوصف دل على
اعتباره الكتاب والسنة وأقوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه الخلل الذي طرأ على هؤلاء اقتصارهم على ظاهر التعريف الأول
للبدعة دون تحقيق لمعانيه التي تتعلق بصفة الإحداث في أمره صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: 63] ، قال: (أي عن أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته؛
فتُوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردود
على قائله كائناً من كان؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فليحذر وليخش
من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً أو ظاهراً أن تصيبهم فتنة،
أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة) [27] .
__________
(1) البخاري (2697) ، ومسلم (1718) .
(2) انظر فتح الباري (1/16) ، و (12/357) وانظر شرح النووي لمسلم (12/24) .
(3) مسلم (867) ، والنسائي (1578) وابن خزيمة (1785) .
(4) طرف من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وسيأتي سياقه وتخريجه.
(5) الاعتصام (1/49) ، وانظر لسان العرب (مادة بدع 8/6 7) .
(6) انظر الدارمي (المقدمة 1/54) .
(7) أخرج البخاري (2695) ، ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله: أمّا الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها) والعسيف الأجير، وجمعه عُسَفَاء (انظر لسان العرب 9/246) .
(8) البخاري (2237) ، ومسلم (1567) ، مهر البغي: أي ما تأخذه الزانية مقابل زناها، وسماه مهراً لكونه على صورته؛ إذ أخذته مقابل التمكين من نفسها وحلوان الكاهن: ما يأخذه على كهانته، وشبه بالشيء الحلو؛ لأنه يأخذه سهلاً بلا كلفة أو مشقة.
(9) أخرجه البخاري (9967) ، ومسلم (1713) .
(10) البخاري (2224) ، ومسلم (1583) .
(11) كما في حديث جابر رضي الله عنه أخرجه البخاري (2236) ، ومسلم (1581) وفيه: (قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها [اي الميتة] جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) .
(12) أخرجه أحمد (1/247، 293، 322) وأبو داود (3488) من حديث خالد الحذاء عن بركة عن ابن عباس مرفوعاً: (لعن الله اليهود حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) وبركة هو ابن عريان أبو الوليد المجاشعي ثقة، وصدر الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس أخرجه البخاري (2223) ، ومسلم (1582) .
(13) تحقيق المراد، ص 322، والمقصود بنفي الصحة البطلان، ويلزم منه إعادة العبادة كحل المبيع للمشتري ووجوب الثمن للبائع، والمقصود بنفي القبول ههنا ثبوت الحرمة دون البطلان.
(14) انظر الرسالة للشافعي، ص 930: 951.
(15) مسلم، ح (49) .
(16) انظر البخاري (956) ، ومسلم (889) .
(17) انظر شرح النووي لمسلم (2/29) ، وانظر هنالك كلاماً حسناً للماوردي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2/31 34) .
(18) الاعتصام (2/534 535) .
(19) مسلم، (262) .
(20) الاعتصام (1/66) .
(21) السنة للخلال/ ف 17690، وابن أبي دؤاد هو أحمد وهو مسعر حرب المعتزلة، وحامل لواء بدعتهم، دعا المأمون إلى امتحان العلماء في خلق القرآن، فأحدث فتنة عارمة، كسره أهل السنة في المناظرات، فغلبه أحمد بن حنبل، وأبو عبد الرحمن الأذرمي، فاحتمى بسيف السلطان وسوطه، حرض على نعيم بن حماد فحبس مقيداً حتى مات في محبسه، فأُلقي في حفرة، وكان قد أوصى أن يدفن في قيوده وقال إني مخاصم يوم القيامة، وحرض المعتصم على ضرب الإمام أحمد، وحرض الواثق على قتل الإمام الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي، ومخازيه كثيرة؛ عليه من الله ما يستحق، وكان الإمام أحمد يدعو عليه فيقول: (حشا الله قبره ناراً) وأصحاب التاريخ يذكرون له أدباً وفضلاً وجوداً، قلت: فضائل أهل البدع حبائل الشيطان، وبكل حال ففضائلهم مشروطة بألا تنكأ لهم بدعة فإن فعلت فلا دين لهم ولا خلق ولا خير، وإن أحدهم لينصر بدعته بالفعل المشين الذي يتعفف عنه عتاة المجرمين وسفلتهم، فاللهم إسلاماً في سنة.
(22) تاريخ بغداد (12/171) .
(23) انظر الاعتصام (2/535 559) .
(24) انظر الاعتصام (1/50) .
(25) انظر في العلاقة بين الأحكام والمصالح: الفتاوى (8/434 436) .
(26) مهيع أي: واضح بين، لسان العرب (8/379) .
(27) انظر تفسير ابن كثير (3/307) .(138/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
أثر التفسير في بناء الشخصية واتزانها
د. أحمد بن أحمد شرشال
لما كان التأثير يتم بمقدار عظمة المؤثر ظهر تأثير تفسير القرآن في بناء
الإنسان وشخصيته قوياً وكاملاً، ويصعب علينا حصر جميع جوانب التأثير في بناء
شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، وسأقتصر على بعض الجوانب. وأقول: إن
الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقه فيه يرقق إحساس الطالب ويقوي شعوره،
وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يجعله يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم، ويسعد
لسعادتهم.
ومن مبتكرات القرآن في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل لغيره
قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بغيره
ظناً بنفسه، وجعل لمز غيره لمزاً لنفسه، وجعل السلام على غيره سلاماً على
نفسه، وكل ذلك أراده القرآن في تعبيراته.
قال تعالى في سياق أخبار بني إسرائيل: [وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ
تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 84، 85] . فجعل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر
عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر ذاته.
قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا كالشخص الواحد
جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها) [1] .
قال الشيخ ابن عاشور: (وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه،
أو يخرج نفسه من داره؛ لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبعي.. وإنما
المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره) [2] . ومثل هذا السياق
قوله تعالى: [فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ] [البقرة: 54] . ومعناه: فليقتل بعضكم بعضاً بأن
يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله نفسه.
قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل
نفسه بيده) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من
عبد العجل) [3] .
وقال الله تعالى في سياق هذا المعنى: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29]
أي لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي:
(أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم
لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه) [4] .
قال الحافظ ابن كثير: (وهو الأشبه بالصواب) [5] ، قال الزمخشري: (شبّه
الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين، فإذا قتل المتصل به
نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه) [6] وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة
بمنزلة النفس الواحدة) [7] .
وقد بين الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وقال:
[كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] [المائدة: 32] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [يَا أََيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: 105] . نقل
الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوكد آية في وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه سبحانه قال: [عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ] ويعني عليكم
أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويرغّب
بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات) [8] ؛ لأن المؤمنين إخوة
في الدين.
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قال تعالى: [فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] [النور: 61] . والمعنى:
فليسلّم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم
في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منكم في الدين، فكأنكم حين تسلمون عليهم
تسلمون على أنفسكم، وقد أنكر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل
يسلم على نفسه، فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ، وأهملوا دقيقته؛
فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف
والآداب) [9] .
أقول: وهو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري
حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض) [10] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [وَلا تَلْمِزُوا
أَنفُسَكُمْ] [الحجرات: 11] . والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه وإنما اللاّمز يلمز
غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزل البعض الملموز
منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس قوله تعالى: [لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] [النور: 12] .
المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة؛ فهلاّ وقت أن سمعتم حديث
الإفك هذا ظننتم بأنفسكم أي بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاً؛ إذ لا يظن المرء
بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة بأنفسهم أسمى
ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس الصادق، حتى
لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه [11] .
قال الرّازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من
الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم) [12] .
فهذا الأسلوب القرآني وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة ويحدث
في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالطالب الذي يربى على هذه المعاني
وهذه الدقائق القرآنية، لا شك أنها تؤثر فيه وتغرس فيه هذا الإحساس وهذا الشعور.
ومن تدبر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا
الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين،
ودمه دم الآخرين، وظن السوء بهم ظن بنفسه، والسلام عليهم سلام على نفسه،
وعيبهم عيب لنفسه.
لا فرق في المحافظة على الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في
عروقه، وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ] [النساء: 1] . وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . وكل هذه المعاني وإن كانت كامنة في
القرآن فإن التفسير يكشفها ويجليها.
إن الاشتغال بفهم القرآن والتفقه فيه يكون سبباً للطمأنينة والسكينة ويحصل
لصاحبه عز الدنيا وسعادة الآخرة؛ كما أخبر بذلك المعلم الأول صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت
عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) [13] .
وقد دلت التجارب العملية على ذلك؛ فهذا الرازي ينقل لنا تجاربه فيقول:
(وأنا نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم
من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم) [14]
يعني تفسير القرآن.
وقد نقل هذا النص رشيد رضا، ثم قال مبيناً كلامه: (أي: علم القرآن
بتفسيره؛ فليعتبر بهذا من يضيعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام
وغيرها، ويرجعوا إلى كتاب الله، ويطلبوا السعادة من فيضه دون غيره. ونسأل
الله تعالى أن يوفقنا إلى تفسيره) [15] .
ونقله الشيخ الطاهر بن عاشور في تحريره [16] ، ومصداق ذلك في كتاب
الله: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ] [الأنعام: 155] .
وقد أدرك هذه السعادة الغامرة الإمام القرطبي فعزم واستفرغ قوته ورأى أن
يشتغل بالتفسير مدى العمر رحمه الله تعالى [17] .
وإن بعض العلماء الذين برزوا في الدعوة إلى الله، وقاموا بنهضة شاملة
وإصلاح عامّ اعتمدوا في دعوتهم بعد الله على دروس التفسير، فأثمرت دعوتهم
ونالت قبولاً، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات، وأحدثت دعوتهم
تغييراً إصلاحياً في العقيدة والسلوك، وانتشرت في الشرق والغرب.
وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرّزين
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ت 1376هـ. وقد اعتمد في دعوته في نشر
التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة
بالتفسير وفنونه وبرع فيه؛ فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده: (تيسير الكريم
الرحمن في تفسير كلام المنان) ، و (تيسير اللطيف المنان في خلاصة القرآن) ،
و (القواعد الحسان لتفسير القرآن) [18] .
وإذا انتقلنا غرباً إلى مصر فإننا نجد محمد عبده يعتمد في دروسه على
التفسير [19] ، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروساً في التفسير، ويعلل لذلك بقوله: (إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء) ثم واصل بعده رشيد رضا إلى أن حان أجله دون إكمال التفسير رحم الله الجميع.
وإذا انتقلنا إلى تونس غرباً وجدنا الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة
رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيراً كاملاً سماه: (التحرير والتنوير) ، فحرر
الناس من الجهل والظلمات ونوّر به البلاد التونسية. وإذا انتقلنا قليلاً إلى الغرب
في الجزائر فإننا نجد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قد اقتصر عليه في دعوته
الإصلاحية الشاملة ابتداءً بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار؛ فقد عكف
على تفسير القرآن إلى أن ختمه في ثلاث وعشرين سنة على مدة التنزيل ولم يختم
التفسير رواية ودراية في الجزائر غيره منذ أن ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني
في المائة الثامنة فتعلم الناس منه كلّ شيء [20] .
وإذا عرّجنا جنوباً إلى بلاد شنقيط وجدنا الإمام محمد الأمين الشنقيطي يفسر
القرآن بالقرآن ويسميه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) .
فهؤلاء الأئمة رحمهم الله كانوا مجاهدين بالقرآن: بتفسيره وبيانه والتفقه فيه،
وقد سمّى القرآن ذلك جهاداً كبيراً فقال: [وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] [الفرقان:
52] أي بالقرآن كما ذكره ابن عباس، وفي هذا منقبة عظيمة لمن يدعو إلى الله
تعالى بالقرآن العظيم وتفسيره وتوضيحه للناس فهو مجاهد [21] اقتداءً بالمصطفى
صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمره الله أن ينذر قومه بالوحي: [قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم
بِالْوَحْيِ] [الأنبياء: 45] وقال: [وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ]
[الأنعام: 19] فكل من أنذر الناس بغير هذا الوحي فهو مخطئ.
من ثمرات التفسير:
من أهم ما يثمره تفسير القرآن والتفقه فيه في شخصية الطالب التخلص من
التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطلب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه كما رتبه
الله في قوله: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ] لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه
سبيلاً، وينتفي. وما وُجِدَ التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن
في التعليم، وهو التلاوة والتفسير والحكمة والتزكية؛ كما جاء في قوله تعالى:
[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]
[البقرة: 129] .
فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن الكريم نعلّم الطلاب
التعصب والتقليد من حيث لا ندري؛ ولذلك نجد كتب التفسير تختلف اختلافاً كبيراً؛ نظراً لكون أصحابها دخلوا باب التفسير بعدما تشبعوا بأفكار ومذاهب ظهرت
آثارها في تفسيرهم، في حين أن الذي دخل إلى التفسير كما دخله الصحابة
والتابعون ومن تبعهم واقتفى آثارهم ظهرت آثار التفسير فيهم؛ فالسلف تأثروا
بتفسير القرآن، وأثّر التفسير فيهم، والخلف أثروا في التفسير، ولم يتأثروا به.
فظاهرة التعصب والتقليد لا تُمحى إلا بتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه؛ لأن
النظر في القرآن نفسه وفي ألفاظه بالذات يجعل الطالب يأخذ الحكم الذي تدل عليه
الآية دلالة قطعية أو الحكم الأقرب إلى نص الآية إن اختلفت فيها أنظار العلماء.
وفي دروس التفسير والتفقه في القرآن يتعلم الطالب الاستقلال في الأخذ والترجيح،
وعدم التبعية والتقليد.
ومما يدل على استقلال شخصية طالب علم التفسير والتفقه في القرآن ما
لاحظته عند ابن العربي مع أنه كثيراً ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين،
إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من كتابه: (أحكام
القرآن) على عدم التعصب وعلى ترجيح مذهب المخالفين لمذهبه مبيناً الوجه
والسبب، فقال عند قوله تعالى: [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]
[الأنعام: 141] قال: قال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من
المأكولات) ثم تعرّض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه فقال: (أما
أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق) [22] .
قال القرطبي: (وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه) [23] .
هذا هو حال من يطلب فقه القرآن لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل
القرآن مرآته؛ فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبو حنيفة وابن العربي رحم الله
الجميع فما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد.
والطالب الذي يتعلم على هذا النمط في التفسير والتفقه في القرآن تكتسب
شخصيته اتزاناً واعتدالاً وتكاملاً ولا ينحاز ولا يميل؛ لأن المصدر الذي يتلقى منه
علومه واحدٌ، فلا يطغى عليه جانب دون جانب؛ فهو عند آيات الأسماء والصفات
يتعلم أسماء الله وصفاته بلا تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد تعلم وتفقه
في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية، وإذا مر
على آيات الفرائض تعلم ذلك، ولا شك، وإذا مر على البر والإحسان تعلم ذلك،
وتطبع به وعمل به، وإذا مر على الآيات التي يذكر فيها أخبار الأمم السابقة
وأحوالهم وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما
لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.
وإذا مر على الآيات التي تدعو إلى التفكر والتأمل والاعتبار لمخلوقات الله
الكونية تعلم طرق التدبر والتفكر، فتنمو فيه ملكة التفكير السليم والنظر السديد
والتصور الصحيح، فينعكس ذلك على سلوكه؛ لأن سلوك الإنسان في الحياة
مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، وأفعالُه ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات.
ومن جهة أخرى؛ فإن الطالب الذي يتفقه في القرآن يمر على جميع الآيات
القرآنية فيتكامل الموضوع لديه؛ لأن موضوع الآيات ومقاصدها ليست منسوقة في
موضع واحد، وليست الآيات في سياق واحد؛ فتجد أن الآية أو الآيات مفصولة
عن الأولى بجملة من الآيات، وهي في الموضوع نفسه، وقد تكون ناسخة، وقد
تكون منسوخة، وقد تكون بياناً وتفسيراً، وقد تكون قيداً، وقد تكون إجابة عن
شبهة؛ والأمثلة على هذا النمط كثيرة، منها قوله تعالى: [قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ]
[ص: 65] هي جواب لقول كفار قريش في صدر السورة: [وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ] [ص: 4] ، وقوله عز وجل في آخر السورة: [وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ
الوَاحِدُ القَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ] [ص:
65، 66] ، هي جواب لقولهم في صدر السورة: [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً]
[ص: 5] ، وقوله جل وعلا في آخر السورة: [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] [ص: 67، 68] ، هو جواب وتفنيد لقولهم في صدر السورة:
[مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ] [ص: 7] ، هذا ما وقع في السورة الواحدة نفسها، وبين إثارة الشبهة والجواب عنها أكثر من ستين آية.
أما ما وقع الجواب عنه في غير السورة التي وردت فيها الشبهة فكثير، ومنه
قوله تعالى: [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] [القلم:
1، 2] ، وقوله تعالى: [وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ] [التكوير: 22] ، فمثل هذه
الآيات أجوبة تفند زعمهم الباطل كما حكاه القرآن: [يَا أَيُّهَا الَذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إنَّكَ لَمَجْنُونٌ] [الحجر: 6] .
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن القرآن كالسورة الواحدة، وحينئذ يتكامل الموضوع
لدى الطالب ويؤثر في بنائه العلمي والنفسي. والله أعلم.
التفسير ووحدة المسلمين:
ومن أهم ما يثمره الاشتغال بالتفقه في القرآن وعلومه وتفسيره الوحدة بين
جميع المسلمين: وحدة في الإحساس والشعور، ووحدة في الوجدان والتفكير،
ووحدة في السلوك والعمل، فتتقارب النفوس وتستقيم وتتحد نوازعها ومشاربها
وتصوراتها لصدورها عن أصل واحد ونبع واحد وهو التفقه في القرآن وعلومه
فيزدادون صلة ووداً ومحبة.
التفسير وبناء الشخصية السّويّة:
ولذلك كان أهل القرون الفاضلة إخوة متماسكين، ولم يكن بينهم هذا التباعد
وهذا الجفاء وهذا الانفصال الذي نراه اليوم بين طلبة العلم من جهة وبينهم وبين
أساتذتهم من جهة أخرى.
تفسير القرآن وفهمه يساهم مساهمة فعالة ترى آثارها بادية في بناء الشخصية
السوية المعتدلة؛ لأن القرآن يتضمن علوماً كثيرة ومنوعة ومكررة بمختلف
الأساليب، وكل واحد منها يغذي جانباً من جوانب الشخصية مع المحافظة على
التوازن والتكامل؛ لأن نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان نظرة شاملة تغطي جميع
مجالات حياة الإنسان.
ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة حث عليها الشرع، وقررها القرآن
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] [البقرة: 143] وكان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه
أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها.
وقد تُحْدث دراسةُ العلوم الإسلامية المفصولة عن القرآن الكريم انفصالاً في
بعض جوانب الشخصية؛ فقد يتعلق بعضهم بالفقه فقط، والآخر بالحديث،
وبعضهم بالعقيدة، ولكن هذه العلوم هي بعض مما تضمنه القرآن وهي جزء من
التفسير.
وقد يكون الاقتصار عليها مؤدياً بصاحبه إلى الميل والشطط والغلو والتعصب، وقد حصل شيء من هذا؛ وكل ما نراه من فروق واضحة بين الطلبة يرجع إلى
الاختلاف بينهم في تخصصات مفصولة من القرآن، وإن كانت تعتمد على القرآن؛
فالفصل وحده كاف لإحداث هذا، ثم لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن هذه الآية في
الأحكام، وهذه في العقيدة.
وإذا كان أولها في الأحكام وآخرها في العقيدة فماذا يفعل؟
ولذلك لم تنضبط آيات الأحكام عند العلماء، وكان من الموفقين في ذلك الإمام
القرطبي؛ إذ سمى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن) ، وفسر القرآن كله ولم يستغن
عن بعضه، ولم يستطع أن يسلخ منه هذه الأحكام. كما فعل أبو بكر الجصاص
وابن العربي، فإن الفصل وحده كاف لإسقاط بعض المعاني، والربط وحده يتضمن
أحكاماً. قال الرازي: (إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط) .
فالذي يقضي على مظاهر الانحراف والغلو والشذوذ هو الاشتغال بالقرآن فهماً
وتفسيراً وتفقهاً.
ومما يؤخذ على من يقتصر على موضوع واحد ومادة واحدة أو تخصص
واحد أنه ينعزل وينغلق على ما حبس نفسه فيه، وانزوت شخصيته في دائرة ضيقة
من علوم الإسلام؛ وبذلك تنحصر علاقته بالأمة في أشخاص معدودين، وتتقلص
مودته إلى العدد القليل من الناس، ولم تكن له مشاركة ولا مساهمة عفوية مع
الآخرين، فقد بتر نفسه من جميع بقية فروع المعرفة وعلوم التنزيل التي حواها
كتاب الله.
تفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه يصل أصحابه بأصحاب التخصصات العلمية
الأخرى، ويرتبط بجميع أصناف الناس وطبقاتهم، ويطمئنون للأخذ عنه والاستماع
إليه؛ لأنه لا يعلم فناً معيناً بعينه، ويستطيع أن ينشر عقيدة التوحيد على أوسع
نطاق من خلال دروس التفسير.
وانفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين ولا من شأن
عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ؛ فلا بد من ربط
كل هذه العلوم وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم، ولا يحقق هذه الغاية إلا تفسير
القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية التربية والتعليم من
جميع النواحي.
ولم يكن للصحابة رضي الله عنهم كتاب يدرسونه، وكلام محفوظ يتفقهون فيه
إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في مجالسهم
يتذاكرون إلا ذلك، فخلف من بعدهم قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون
يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة
اصطلاحية.
قال الشيخ عبد الرحمن النحلاوي: (فانفصال المواد الدراسية ليس من طبيعة
الثقافة الإسلامية، ولا من شأن التربية الإسلامية التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ،
وتعتبر كل العلوم التي تأخذ بالإسلام كلاً لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي انبثقت
عنه ما تزال وظيفتها توضيح الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها فلا بد من ربط كل
هذه العلوم بهدف التربية الإسلامية) .
إن فصل المواد الدراسية من القرآن والسنة بمرور الزمن قد يُنسي ربطها به، ويتقرر في أذهان الناس استقلالها، وحينئذ يدخلها اجتهادهم واستحسانهم بالتغيير
والتبديل والإضافة.
ومن السمات البارزة عند بعض أهل الفرق أنهم لا يفسرون القرآن كله، ولا
يتبعونه آية آية؛ لأنهم إن فعلوا فإنهم يصطدمون بالآيات المحكمات التي تناقض
مذهبهم وهواهم، فيسلكون مسلك الانتقاء والاختيار، ومن فسر القرآن كله منهم
كالزمخشري من المعتزلة والطبرسي من الشيعة وغيرهم، فإنهم يوجهون الآيات
التي تصادم مذهبهم بالتأويل ويسلكون في سبيل ذلك كل مسلك انتصاراً لمعتقداتهم؛
فهم من باب قول الحق تبارك وتعالى: [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] .
قرأ الجمهور: [فَرَّقُوا دِينَهُمْ] من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشيء
الواحد، وجعله فرقاً وأبعاضاً، وقرأ حمزة والكسائي: [فارقوا] من المفارقة للشيء
وهي تركه والانفصال منه، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته؛ لأنه
واحد لا يتجزأ، ومن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك
العمل.
والدين لا يتجزأ، وقد قال الله تعالى: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْض] [البقرة: 85] وقال: [كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا
القُرْآنَ عِضِينَ] [الحجر: 90، 91] ، وقال: [إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ
أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً] [النساء: 150] .
قال محمد حسين الذهبي: (إن الباطنية لا يفسرون القرآن كله؛ لأنهم
يصدمون بآيات محكمات تردّ مذهبهم) .
وقال في بيان موقف الخوارج من التفسير: (لا يأخذون من القرآن إلا بقدر ما
ينصر مبادئهم ويدعو إليها. وما رأوه يصادم مذهبهم حاولوا التخلص منه بصرفه
وتأويله) .
وقد لجأ بعضهم إلى المتشابه لغرض نصرة المذهب الفاسد كما نص على ذلك
القرآن المجيد فقال: [فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ] . [آل عمران: 7] .
وأهل الزيغ والضلال يفزعون إلى المتشابه الذي بواسطته يمكنهم أن يلبّسوا
به، ويصرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها، وما دخلت البدع في دين الله
إلا بسبب التعلق ببعض الآيات وإهمال الآيات الأخرى أو سوء فهم لها.
فالمعتزلة تعلقوا بقوله تعالى: [فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ]
[الكهف: 29] وأثبتوا حرية الإنسان، وقالوا: إنه خالق لأفعاله، ونفوا صفة الكلام لله رب العالمين، وتعلقوا بقراءة شاذة [وكلَّم اللهّ موسى تكليماً] فجعلوا موسى هو الفاعل المتكلم، وأغمضوا أعينهم عن القراءة المجمع عليها: [وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ] [الأعراف: 143] .
ويقابلهم الجبرية فتعلقوا بقوله: [وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ]
[الإنسان: 30] ونفوا نسبة الأفعال إلى من صدرت عنه، وقالوا: (الإنسان مجبور وعطلوا الأمر والنهي) .
والكرامية لم ينظروا في باب الإيمان إلا في قوله تعالى: [فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا
قَالُوا] [المائدة: 85] ،. وقالوا: (الإيمان قول باللسان فقط دون تصديق ولا
عمل) .
قال القرطبي: (وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن
والسنة) .
وهكذا حال من تعلق ببعض الكتاب دون بعض، وهو انحراف خطير في
الفكر وشذوذ في التفكير واعتلال في الشخصية أوجبه الاقتصار على بعض الآيات
دون بعض.
قال رشيد رضا: (وفهم القرآن لا يكون صحيحاً إلا بالجمع بين الآيات
المتقابلة في الموضوع الواحد الذي يختلف التعبير فيه) .
وإزاء هذا وذاك وفق الله المنتسبين لأهل السنة والجماعة في تفسير القرآن
بالشمولية والاستيعاب لجميع الآيات القرآنية كلها، ولا يقتصرون على بعضها
للاستفادة منها، ومن ثم؛ لم يكن عندهم هذا الشطط وهذا الانحراف وهذا الشذوذ.
فالتفسير وفهم القرآن وحده هو الذي يقضي على ظاهرة التفرق والتحزيب
والانتماء إلى فكر معين وتخصص معين؛ فمدرسة التفسير تذوب فيها جميع
الفوارق. فإني أتصور الطالب وأتخيله عبداً يملكه شركاء مختلفون وهو بينهم
موزع، ولكل منهم فيه توجيه، وعليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أوامرهم المتعارضة التي تمزق
اتجاهاته وقواه، وهذا واضح جلي في طلاب الجامعات التي لا تلتزم بمنهج القرآن.
وأتصوره وأتخيله عبداً يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به
وهو مستريح مطمئن مستقر على نهج واحد، وهذا واضح جلي في طلاب
الجامعات التي تلتزم بمنهج القرآن الكريم.
ولا شك أن الذي يتلقى علومه وفقهه من القرآن الكريم ولا سبيل إلى ذلك إلا
بالتفسير يخضع لهذه المادة ويتعلم منها، فتربطه بالقرآن، فينعم براحة الاستقامة
والمعرفة واليقين وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ووضوح الطريق، فينشأ سوي
الشخصية متزناً معتدلاً.
والذي يتعلم هذه العلوم منفصلة عن القرآن ومن أشخاص مختلفين، فإنه يتأثر
بذلك؛ لأن كل أستاذ يلقنه غير الذي يلقنه الآخر، وكل منهم يريده أن يكون على
طريقته ومنهجه، فينعكس ذلك على شخصيته، فيتشتت ذهنه، وربما يحدث فيه
شذوذاً عن الجادة، لذا يتأكد على رجال التربية والتعليم أن يكثفوا مقررات التفسير.
ولم أرَ علاجاً أنفع لهذه الأمة كفهم القرآن وبيانه وتفسيره، وإن الأمة اليوم
تحفظ القرآن وتردده صباح مساء، ولكن لا تفهمه؛ فبينه وبينهم غيوم كثيفة
وحجب وعوائق من أهمها وأشدها كثافة: ضعفهم في علوم اللغة العربية التي نزل
بها القرآن الكريم؛ فكيف يدعو الداعي الناس إلى الشريعة الإسلامية، وهم لا
يفهمونها ولا يفهمون مصدرها؟ ولو فهموا ما في القرآن من الأحكام والحكم وما فيه
من الأسرار واللطائف لتملكهم القرآن وجرهم إليه جراً كما جر بعض كفار قريش
إلى الاستماع إليه في الليالي المظلمة، وكانوا يدفعون تأثيراته باللغو: [وَقَالَ الَذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت: 26] فكانوا
مغلوبين.
المطلوب منا أن نفسر القرآن ونوضحه ونبينه فقط، وفي ضمنه نتعلم الأحكام
والحكم والفقه والعقائد والأخلاق وكل شيء مما يحتاجه الإنسان لسعادته في الدنيا
والآخرة.
وبيان القرآن وفهمه هو الكفيل بإذن الله لهداية هذه الأمة الحائرة، وجميع
أصناف الناس على مختلف مشاربهم يجدون في علم التفسير ما يروي الظمأ ويشبع
الرغبة، وما يعدّل السلوك، وما ينظّم الغرائز والدوافع، ويقوّي الإيمان، ويصحح
الاتجاه.
والطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الأستاذ أن يبلغ منهج القرآن كاملاً غير
منقوص هو علم التفسير؛ فليمتط من أراد الرشد سفينة التفسير؛ ليتعلم ما يسعده
في دنياه وآخرته.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
__________
(1) الجامع للقرطبي، 2/19.
(2) التحرير والتنوير، 1/585.
(3) الجامع للقرطبي، 1/376.
(4) الجامع للقرطبي، 3/136.
(5) تفسير ابن كثير، 1/524.
(6) التحرير والتنوير، 18/376.
(7) تفسير ابن كثير، 1/129.
(8) تفسير الرازي، 6/118.
(9) التحرير والتنوير، 18/376.
(10) تفسير ابن كثير، 3/336.
(11) الجامع للقرطبي، 6/186.
(12) تفسير الرازي، 12/178.
(13) رواه مسلم، ح / 2699.
(14) تفسير الرازي، 7/85.
(15) تفسير المنار، 7/370.
(16) التحرير والتنوير، 7/370.
(17) الجامع، 1/14.
(18) مقدمة تفسير السعدي، 4.
(19) تفسير المنار، 1/12.
(20) تفسير ابن باديس، 33.
(21) الجامع للقرطبي، 7/56.
(22) أحكام القرآن، لابن العربي، 2/759.
(23) الجامع للقرطبي، 4/92.(138/18)
تأملات دعوية
لنكن واقعيين
عبد الله المسلم
ما أجمل أن نكون واقعيين في حياتنا وتفكيرنا! وما أشد ما نجنيه حين نُفرط
في المثالية ونغرق فيها!
حين يفكر الإنسان، ويخطط لعمل أو مشروع، فإنه يتطلع نحو تحقيق أهدافه، ويبحث عما يعينه على تحقيقها، فيغفل عن افتراض العقبات والصعوبات،
ويتخيل العلاقة بين كثير من المتغيرات علاقة محكومة بقانون مطرد لا يتخلف،
وأن كل العوامل التي تحكمها تسير في الاتجاه الذي يظن، أو ربما يريد.
لكنه يفاجأ حين ينزل إلى أرض الواقع ويجد أن الأمور على خلاف ما يظن.
وحين يرسم المربي أهدافاً يريد أن يوصل أبناءه إليها، فربما اختلطت
طموحاته وأمنياته بأهدافه الواقعية، فيخرج بتصور مثالي لا يعايش الواقع،
فيكتشف حينها ضعف الناس أو ضعف قدرته، وهو اكتشاف ربما كان خاطئاً.
وحين يتحدث واعظ، أو يخطب خطيب فإنه قد يخاطب الناس على أنهم
ملائكة أطهار؛ فمن عرف الله فكيف يعصيه؟ ! ومن راقبه فلا يمكن أن يواقع
خطيئة. وينسى المتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس بغير
ذلك؛ فعن أبي هريرة [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي
بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) ] 1 [.
وعن أبي صرمة عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيستغفرون الله فيغفر
لهم) ] 2 [.
وأنه كان يقول: (والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات) ] 3 [.
وربما اكتشف فيما بعد أنه أول من يخالف الناس فيما يدعوهم إليه، وحين
يتصدى شخص لتقويم عمل أو مسلك فربما خرج عن الاعتدال، وطرح انتقاداً لا
يُبقي على الأخضر واليابس وكثيراً ما يكون ذلك عند الأذكياء والمفكرين؛ لكنه
حين يُطالَب ببرنامج عملي، أو حين يُحال الأمر إليه للتنفيذ؛ فقد لا يجيد تحقيق ما
يصبو إليه. وأسوأ من ذلك أن يتمنى أن تعود الأمور إلى الحال التي كان ينتقدها.
إنها مواقف تحصل أحياناً ليست بالقليلة في حياتنا، ويجمعها قاسم مشترك ألا
وهو: المثالية، وتجاهل الواقع، وعدم التعامل معه بصورة صحيحة.
ومن أهم ما يعين على تجاوز هذه المشكلة: الفهم الدقيق للواقع الذي يعيشه
المرء، وتقييمه بشكل أدق، إضافة إلى الواقعية في تصور المتغيرات التي تؤثر
في ظاهرة من الظواهر، وأين اتجاه التغيير؟ وما نسبته؟ وما نسبة احتمال سيرها
في الاتجاه الذي نتوقع؟
كما يمثل الاعتدال في التفكير والاتزان في الطرح ونقاش الأمور جانباً مهماً
من جوانب العلاج. وما لم نَعْتَد الاتزان والاعتدال في تفكيرنا وتناولنا لمشكلاتنا
فلن يجدي حديثنا النظري في نقلنا خطوة لتجاوز تلك المشكلات.
لكن رفض المثالية يجب أن يحاط هو الآخر بسياج من الاعتدال يجنب
المتحدث تجاوز الحد الشرعي؛ فالإفراط في الرجاء أمناً من مكر الله لا يجوز أن
يعالج به القنوط من رحمته.
والإفراط في الواقعية ربما يولد نفساً دنية الهمة، ضعيفة العزيمة، تستسلم
للأمر الواقع، وترفع شعار: (أن الواقع شيء والمفترض شيء آخر) في وجه كل
من يدعوها لترتفع عن واقعها غير المرضي.
إنها سنة الله في الحياة الوسطية والاعتدال؛ فسبحان من جعل لكل شيء قدراً، وسبحان من أحسن كل شيءٍ خلقه] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [] الرحمن: 5 [،
] وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [] الحجر: 21 [.
__________
(1) رواه مسلم، (2749) .
(2) رواه مسلم، (2748) .
(3) رواه مسلم، (2750) .(138/28)
دراسات تربوية
المفاهيم التربوية في القيادة
عند ابن حزم الأندلسي
جمال الحوشبي
يُصنّف الإمام أبو محمد: علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (384 456هـ)
ضمن رواد المدرسة الظاهرية، بل هو المتحدث الرسمي بلسانها. وبعيداً عن
الخوض في المذهب الظاهري سلباً وإيجاباً، فإن أبا محمد رحمه الله يعد من أبرز
أعلام التربية الإسلامية.. وله في هذا الشأن الكثير من روائع الاستدلالات
والاستنباطات التربوية التي تشكل بمجموعها ثروة تربوية هائلة تستحق أن تفرد في
رسائل تربوية مقننة على أيدي الأكفاء من علماء التربية الإسلامية في هذا العصر،
ولقد استعنت عن عمد بآراء هذا الإمام التربوية وملامحه القيادية، غير متجاهل
بعض آرائه التي نازع فيها أهل العلم وشذ عن أقوالهم في تقريرها؛ ذلك أن هذه
الملامح التربوية بعيداً عن الخوض في تلك المسائل المتنازع فيها تعد ثروة تربوية
وكنزاً ثميناً تفخر به تربيتنا الإسلامية ضمن ذخائرها الكثيرة.
وما أحسن كلام الذهبي رحمه الله الذي لا يقل ميزانه في نقد الرجال عن
نفيس نقده وسبكه حين عرض لتلك الآراء الاجتهادية التي انفرد فيها ابن حزم رحمه
الله فأنصفه وبالغ في تعظيمه بقوله: (ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في
الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال
والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة،
ولكن لا أكفّره ولا أضلّله، وأرجو له وللمسلمين العفو والمسامحة، وأخضع لفرط
ذكائه وسعة علومه) [1] .
وهي عبارة دقيقة، وإنصاف عادل، وأصل نفيس نفتقده اليوم في خضم
الأهواء والأفكار البشعة في النقد والحكم على الآخرين، وبها تستقيم التربية ويعرف
الحق من الباطل.
لقد تميز الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم رحمه الله بالأصالة والابتكار،
واتسم إلى حد كبير بالاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة، فجاءت آراؤه التربوية
ذات أسس وقواعد، لها تجاربها وعبرها الذاتية، كما أن لها رحلاتها وشواهدها
القاسية التي خاضها بنفسه، وربما سطّر بعضها في أخريات حياته!
ومما تتميز به لمحات ابن حزم التربوية وتوجيهاته القيادية النظرة الشمولية
لطبيعة الحلول (العملية) المقترحة التي يقدمها للقادة والمربين، ولا يدرك قيمة هذه
المهارة التربوية التي تُعنى بالجانب التكاملي في العلاج إلا من كان له سابق اطلاع
على (النظريات) التربوية الغربية في علاج المسائل التربوية ذاتها التي تطرق لها
ابن حزم أو غيره من علماء التربية الإسلامية قديماً. وأكتفي بضرب مثال واحد
للتوضيح.
لعل أبرز العقبات التي تواجه المربين والمصلحين ما يلاقونه من كلام الناس
وتجهمهم وانتقاداتهم الجائرة جراء الجهالة المطبقة لدى الكثيرين منهم. والقضية هنا
قضية نسبية تختلف باختلاف مفهوم التربية والإصلاح، بل باختلاف العقائد
والأديان قبل كل شيء، غير أن الأمر المشترك فيها هو كونها عقبة تتكرر دائماً
ويشتكي منها (المربون) [2] إن جاز أن نطلق هذا اللفظ على كل من سلك الطريق
(الإصلاحي) في المجتمع الذي يعيش فيه.
فإذا تصدّى المربي المسلم لسبر هذه العقبة بعينها، وتكلّف البحث الجاد في
كتب التربية لإيجاد العلاج لها فإنه يجد الفرق الواضح ماثلاً أمامه بين المفاهيم
التربوية الإسلامية للعلاج وتلك المفاهيم الغربية. فإذا أخذنا على سبيل المثال كلام
ابن حزم رحمه الله في تقرير العلاج فإنك تجده ينطلق في تسليته للمربي والمصلح
والقائد (المسلم) من قواعد وتأصيلات (إسلامية) ثابتة مبنية على نصوص كلية من
الكتاب والسنة تباين كلياً تلك القواعد والتأصيلات الغربية التي حُرّرت لعلاج هذه
القضية ذاتها. ثم إنك تجد (الصدق) و (النصح) يناغمانك في طيات حديث الإمام
ابن حزم رحمه الله، وتطوّف بك حرارة نصائحه في محيط الحدث ذاته سبراً
وغوراً وحدوداً حتى تخرج منه وقد أرويت الغليل بوصايا هذا الإمام، بخلاف ما
تجده في كثير من توجيهات ونصائح علماء التربية في الغرب ممن يراوحون حول
كلام جاف (مقنن) محلىً بألفاظ آسرة، مفرّغ من الروح، بعيد عن الحدث في كثير
من الأحيان مفتقر لتلك الحرارة الإيمانية الصادقة.
وفيما يلي عرض لجملة من هذه المفاهيم القيادية التي يستخلصها القارئ لواحد
من كتب ابن حزم رحمه الله وهو كتاب (مداواة النفوس) الذي يعد من أواخر كتبه
رحمه الله واستودع فيه خلاصة تجاربه ورحلاته وأظهر فيه لمحات تربوية فذة لا
غنى عنها.
النبوغ والتفوق:
ينطلق ابن حزم رحمه الله في تعريف النبوغ والتفوق من منظورين. أولهما:
تجلية مفردات الإبداع ومهاراته ومتطلباته (المادية) .. والثاني: الأخذ بمعايير
الفضيلة والأخلاق اللازمة لتكوين المبدع وصياغة فكره واتجاهاته، ويرى أن تمثّل
(القدوة) لمبدع في فن بذاته، أو إطلاق صفة (النبوغ) في القيادة وغيرها لا بد أن
تكون وفق الموازنة بين هذين المنظورين معاً؛ بل إنه يرى رحمه الله أن كفة
الأخلاق والفضيلة لا بد أن تنال قسطاً أكبر من اهتمام المبدع ومن تفكيره. ولذا؛
فإن معيار الحكم بالنجاح أو الإخفاق لمبدع أو آخر يعود بدرجة كبيرة إلى نسبة
المحتوى الأخلاقي والتربوي في سيرته الذاتية.. فالنبوغ والإبداع من منظور ابن
حزم التربوي لا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك المهارات المكتسبة التي ربما شاركه
فيها غيره من البشر، أو في تلك القدرات التي ربما شاركه فيها الحيوانات
والعجماوات. ولذا يقول رحمه الله: (فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو
بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع
والبهائم والجمادات.. وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سُرّ بشجاعته
التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد
والذئب أشجع منه، ومن سُرّ بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه
جسماً، ومن سُرّ بحمله الأثقال فيلعلم أن الحمار أحمل منه، ومن سُرّ بسرعة عدوه
فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه، ومن سُرّ بحسن صوته فليعلم أن كثيراً
من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته [3] ،
فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه البهائم متقدمة عليه؟ لكن من قوي تمييزه،
واتسع علمه، وحسن عمله فليغتبط بذلك؛ فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة
وخيار الناس) [4] .
صلاح العمل:
يؤكد ابن حزم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه على أن المفهوم الصحيح
للعمل لا يعود إلى العمل ذاته فحسب؛ بل إن توابعه ولوازمه وشروطه لها درجة
عظمى في الحكم على صلاحه أو فساده، وهو ينطلق كغيره من علماء التربية
الإسلامية في تحديد هذه النظرة الحكيمة للعمل من قاعدة الاهتمام بإصلاح النية بعد
صلاح العقيدة والمنهج قبل الشروع في أداء العمل، ومهما كان العمل بعيداً فإن
النية الصالحة تقرّبه، ومهما كان العمل قريباً فإن فساد النية يبعده.
الوصول إلى الإبداع:
كما يرى رحمه الله أن القائد لا يولد قائداً ولا المبدع مبدعاً كاملاً.. وأن المرة
الواحدة في طريق القيادة أو الإبداع لا تكفي، إنما لا بد من الكرّة تلو الكرة
واكتساب الخبرة بعد الخبرة، ولذا فإن حدوث الخطأ وتكرره في المراحل الأولى
أمر مألوف جِبِلّةً ولا يُذم صاحبه بحال، حتى تصبح القيادة فيما بعد ملكة ومهارة
مصقولة بكثرة التجارب والخبرات، وفي هذا يقول رحمه الله: (إن التجارب لا
تكون إلا بتكرار الحال مراراً كثيرة على صفة واحدة) .
أهمية الاستمرار:
وبالرغم من تأكيده رحمه الله على أهمية المحاولة، وضرورة اكتساب الخبرة
عبر التكرار في الأداء فإنه يحذر كذلك من إهمال تهذيب النفس أو إهمال المداومة
على تكرار التجارب، وأن ذلك يعد عائقاً من عوائق التربية ويؤدي إلى توقفها أو
ضياع الفائدة منها، وبهذا الصدد رفع صوته بالمقولة التي باتت مثلاً سائراً:
(إهمال ساعة يفسد رياضة سنة) ! [5] .
إعداد القيادة ضرورة:
يؤكد ابن حزم على وجوب الاعتناء بالقادة والنوابغ في الأمة، ويرى أن
الاعتناء بهم كفيل بصلاح أمور المجموعة، وأن لكل عمل تقوم به المجموعة درجة
من الكمال توازي كمال ساستها وقادتها في الأخذ بمعايير القيادة السليمة، ويفرّق
رحمه الله بين صلاح الفرد أو فساده في ذاته وبين إصلاحه أو إفساده في إدارة
المجموعة؛ فتراه يؤكد في مواضع من كتبه أن المجموعة بغير قائد يقودها لا
يصلح لها حال، ولا يمكنها القيام بالأعمال العظيمة التي تقارب الكمال حتى ينتظم
عقدها تحت قائد يقودها ويدير شؤونها، وهذا القائد لا بد أن يُعَدّ بعناية لهذه المهمة
لتتكامل شخصيته وتحسن طباعه وتصرفاته؛ وهذا الإعداد المبكر يعد من الأمور
اللازمة للحكم على نجاحه في القيادة أو عدمه، وكذا في العملية التربوية والتنظيمية
للمجموعة بدون شتات أو تناقض أو اضطراب، ويوقفك رحمه الله أمام افتراضات
تقريبية لهذا المفهوم ليؤكد لك أهميته فيقول: (خطأ الواحد في تدبير الأمور خير من
صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد؛ لأن خطأ الواحد في ذلك يُستدرك، وصواب
الجماعة يُضري أي: يعوّد ويُغري على استدامة الإهمال.. وفي ذلك الهلاك) [6] .
فقه الاحتساب:
يقتحم رحمه الله علم الاجتماع ليستخرج قاعدة في بذل المعروف مفادها: أن
على من تصدّى للناس بدعوتهم أو بخدمتهم ومساعدتهم وبذل المعروف لهم ألاّ
ينتظر عاقبة بذله ومعروفه منهم؛ لأن ذلك عليه مدار تأليف القلوب والتأثير في
الناس، وبه اتقاء الشرور من خبث نفوسهم؛ وهنا يكمن الفرق بين التربية المادية
التي لا تؤمن إلا بالمصالح الوقتية والنتائج النفعية وبين التربية الإسلامية التي ترى
أن إسداء المعروف والإحسان للغير بدعوتهم لا بد أن يتجرّد من كونه عملاً
مشروطاً بنتائجه وعواقبه، وأن يجرّد ابتداءً وانتهاءً لله وحده، يقول رحمه الله:
(وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك
نفعه وإن لم يعمدك بالرغبة ولا تُشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك
عز وجل، ولا تبنِ إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضرّ بك، وساعٍ عليك؛
فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في
أعلى من أحوالهم) وهكذا الشأن في إعطاء الهبات والإعانات وإسداء النصيحة..
فكما أن المرء لا يشترط لأداء المعروف والإحسان انتظار الجزاء.. فهو كذلك لا بد
مُلْزَمٌ بأداء الفضل ابتداء، وآخذٌ بأكمل الأخلاق وأرفعها، وزاهد فيما عند الناس
راغب فيما عند الله. يقول رحمه الله: (ولا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع
على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل،
وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف) .
الكمال البشري:
ينظر رحمه الله إلى الإنسان الكامل في فنه ومنهجه بمنظار آخر وهو دأبه في
الطلب والاستزادة والجد في تحصيل العلوم النافعة؛ إذ ليس الكمال محدوداً بشهادة
يحصلها الفرد لينقطع بها عن غيرها، كما أنه ليس مجرد مهارات محدودة يمكنه
تحصيلها ليكتفي بها عن مواصلة الطلب والبحث، ومتى رأيت القائد أو المربي أو
الداعية قانعاً بما هو عليه من علم أو دعوة أو مهارات قيادية فإنك لن تكون مجازفاً
إذا راهنت بإخفاقه بعد زمن ليس بالطويل، ولو عاين رحمه الله بعض أرباب
(الدوالّ) في هذا العصر وما آلوا إليه من خمول وكسل، وما أصبحت تدور عليه
اهتماماتهم وأهدافهم، ومستوى تفكيرهم لكانت أولى سهامه في هذا الباب موجهة
إليهم بالنقد والتعيير؛ إذ هم أوْلى بالتبكيت من المقلدة، أو مجتهدي المذاهب
ومتعصبيها! !
يقول رحمه الله: (الإنسان الكامل هو الذي لا ينفك طالب علم ما تردد في
رئتيه نفس) وذلك لأن طريق التربية وتهذيب السلوك طويل يبدأ مع الإنسان طفلاً
ثم يتدرّج به حتى الوفاة.
التأثير والتأثر:
الحياة تدور بين الأخذ والعطاء والسلب والإيجاب، وبين هذا وذاك يتوزع
الناس في أي زمان ومكان. والقائد أو الداعية الناجح مطالب قبل غيره أن يكون
عضواً عاملاً فعّالاً في مجتمعه، وأن يكون عنده إنتاج يحتاج إليه الناس ويفيدون
منه، كما أنه ينتفع بما عندهم كذلك من أمور الحياة. إن حب التعاون والتكامل
والسعي في إيصال الخير لهم وهدايتهم إلى الطريق الصحيح والتزام منهج الله تعالى
إن كل ذلك وغيره مجالات خصبة يمكن أن ينفع بها القائد أو المربي غيره،
وبدونها سيصبح خاملاً عالة على غيره في أموره الحياتية التي يحصل عليها، ولا
يملك شيئاً من العطاء أو النفع في المقابل.. وهذا الصنف من الخاملين هم الذين
يَعجب منهم ابن حزم رحمه الله: تخور قواهم وتضعف عزائمهم وهممهم؛ في حين
تجد أرباب الصناعات والحرف أعظم منهم خطراً وأكثر نفعاً فيقول: (إن من
العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحرّاث
كيف يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له، والخياط يخيط له،
والجزار يجزر له، والبنّاء يبني له، وسائر الناس كل متولّ شغلاً له فيه مصلحة،
وبه إليه ضرورة؟ أفما يستحيي أن يكون عيالاً على كل العالم لا يعين هو أيضاً
بشيء من المصلحة؟ !) .
العلم.. التعليم.. التخصص:
يوجه ابن حزم رحمه الله إلى ضرورة الإلمام بعلم الشريعة وبأصول المعتقد
لكل قائد أو مبدع بالإضافة إلى إلمامه بتخصصه وسعة اطلاعه فيه. وتجده يعيب
بشدة ذلك المربي القدوة أو القائد الموجه أو المبدع الماهر الذي يفتقر للثقافة
الإسلامية العامة إن صح التعبير ولأصول الإسلام التي لا يُعذر أحد في الجهل بها،
ومن نظرته الخاصة في العلوم والفنون يحذّر رحمه الله من أن يحصر الإنسان نفسه
في معين تخصصه وفنه فحسب؛ لأنه متى ما جف نبع ذلك المعين أو ترحّل عنه
لأي طارئ أوشك أن يشابه صنوف الجهال على حد تعبيره وأن يقارب العامة
والدهماء. وفي هذه الوصية نصح ظاهر وغيرة واضحة، وبخاصة إذا علمنا أن
الدعاة والمربين والموجهين هم أول المعنيين بها؛ ذلك أن القدوة الذي ينظر إليه،
ويحتذى به لا بد أن يوطن نفسه أن تكون قامته أعلى من قامة من يقوم بتوجيههم
وتربيتهم وقيادتهم، لا قامة الطول المحسوس أو هيبة (التصنّع الكاذب) وإنما قامة
العلم والأخلاق والأدب، وحسن السياسة والتدبير، وسعة الاطلاع وكريم السجايا
والإلمام بواقع الحال!
ولذا تجد ابن حزم رحمه الله يؤكد في سبيل تحقيق ذلك على وجوب التأصيل
العلمي منذ الصغر وعلى التدرج في نيل العلوم واحداً تلو الآخر وهو مراده من
(لوازم التعلّم) ، والبدء به مرحلة مرحلة وفناً فناً، مبتدئاً بطبيعة الحال بإقامة
الحروف، ثم تعلّم اللغة، فحفظ القرآن، ثم مطالعة السنة، ثم اللغة والأدب والنحو
ليقيم لسانه.
ولتحصيل جواهر الثقافة والمعرفة يوصي بشيء من شعر الحكمة،
والرياضيات، وهندسة الفلك والشروع إلى علم التاريخ وتراجم الرجال للاعتبار،
وما لا يجوز جهله من علم الطب ومما يحفظ الصحة! بل إنك لا تجده يحصر حد
الطلب، ومفهومه على العلوم والفنون النظرية، وإنما يستحث على العمل والكسب
ومزاولة المهن أو الاتجار لتحصيل المال ولطلب الرزق، فيقول رحمه الله: (فإذا
بلغ المتعلّم هذا المبلغ من الثقافة العامة مما سبق ذكره فلا بد عليه أن ينصرف إلى
ما يحصّل به عيشه من صناعة أو تجارة أو زراعة أو تعليم، أو إذا شاء إلى
التخصص في علم من العلوم والتعمق فيه) وهذا من باب الزهد فيما عند الناس
ولئلا يكون الفرد عالة على غيره وبخاصة أرباب الدعوة والتربية. ومع تأكيده على
أهمية التخصص فيما بعد فإنه يؤكد كذلك على أهمية الاطلاع على مفاتيح العلوم
وفرائد الفنون.. ويحذّر من الذوبان في خبايا التخصص عبر الولوغ في مداخله
وشوارده التي ربما لم يفد منها ولم ينفع بها غيره في معترك الحياة بقوله: (ومن
اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحكة، وكان ما خفي عليه
من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه؛ لتعلّق العلوم بعضها ببعض) .
ولا يفوته رحمه الله أن يوجه أنظار من انقطعوا عن تعليم الناس وتوجيههم
وتربيتهم لعذر التحصيل أو لسبب الاستزادة من العلوم تاركين السواد سادرين في
جهلهم وغفلتهم فيقول: (ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر
ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر (المسرع) إلى غير غاية؛ إذ العمر يقصر
عن ذلك. وليأخذ من كل علم بنصيب مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه، ثم
يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحليته فيستكثر منه ما أمكنه) إلى آخر
كلامه رحمه الله في هذا الباب.
الفضائل ثمرة العلم:
وضابط تحصيل العلوم وتكميلها ما أمكن السبيل لذلك ألا يُفوّت علم الكتاب
والسنة، وأن يضرب فيهما بسهم؛ إذ فيهما الخير كله والفضائل كلها. والقاعدة في
ذلك يلخصها ابن حزم رحمه الله بقوله: (من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما
أمر الله به ورسوله؛ فإنه يحتوي على جميع الفضائل) وعلى هذا يمكننا تفسير
موقفه المتشدد من المقلدة، وتحذيره من الجمود والتحجر وإغلاق بصائر العقل
وأنوار حكمته فيقول رحمه الله: (المقلّد راضٍ أن يغبن عقله، ولعله مع ذلك
يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً) .
العلم للعمل:
الواقع والمثال وجهان لعملة واحدة في حياة المسلم، وبخاصة في حياة أرباب
القيادة والدعوة والتربية. ويتمثل ذلك في عدم التناقض بين المعلومات والمفاهيم
النظرية وبين الواقع العملي الذي يعيشه الفرد ويمارسه. وتحذيراً من ذلك التناقض
في حياة المربين والقادة يؤكد رحمه الله على ضرورة العمل بالعلم، وعلى أهمية
التطبيق العملي للعلوم والتحلي بها ويذم تبعاً لذلك كل متكلّف علماً لا يفيد منه أو فناً
ليس له به حاجة غير الاستكثار والتشبع، فيقول رحمه الله: (من أخذ من كل علم
ما هو محتاج إليه أي ابتعد عن التكلّف والاستزادة التي لا طائل من ورائها،
واستعمل ما علم كما يجب، فلا أحد أفضل منه؛ لأنه حصل على عز النفس
وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل) .
الإنصاف يحتاج إلى فراسة:
ومن خلال تجاربه في معترك الحياة يرشد رحمه الله كل من أخذ على نفسه
سياسة الناس وتربيتهم إلى ما سيتعرض له من تجارب تستوجب منه أن ينصب
لنفسه ميزاناً يحكم به بالقسط ويزن الأعمال والأقوال بالحق، فلا ينبهر بظواهر
الناس، ولا يأخذهم بالظنة أو الوهم.. وهذا مراده من قوله رحمه الله: (ينبغي
للعاقل ألا يحكم بما يبدو إليه من استرحام الباكي المتظلّم وتشكّيه، وشدة تلوّيه
وتقلّبه وبكائه) حتى قوله: (وهذا مكان ينبغي التثبت منه، ومغالبة ميل النفس جملة، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف لما
يوجبها الحق على السواء) .
يضيع من العمر قدر ما يضيع من الفرص:
ورديفُ التجارب في التكرار تتابعُ الفرص التي لا يمكن تعويضها، ولربما
تفاوت حجم الفرصة وعظيم قدرها من زمن لآخر ومن مكان لآخر؛ غير أن
الفرص جميعاً تشترك في كونها نادرة الوقوع، وثمينة الأثر إذا أحسن صاحبها
الإفادة منها، وكثيراً ما أرشد ابن حزم رحمه الله إلى وجوب استغلال هذه الفرص
والحذر من تضييعها، ويشير مراراً إلى كثرة الفرص التي تضيع على أولئك
العظماء والقادة والدعاة، وهو يؤكد لك باليقين أن (لكل شيء فائدة) ينبغي عدم
الذهول عنها، ويضرب مثلاً عجيباً يتعلق بنظرة المبدع والقائد لكل ما يحيط به،
وكيف يمكنه تحويل الخسائر الظاهرة إلى فرص سانحة لا تُعوّض، يقول رحمه الله: (لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعتُ بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقّدَ
طبْعي، واحتدمَ خاطري، وحمي فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى
تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت تلك
التواليف) .
نفسك غالية ... لا تبذلها إلا لله:
ومن فرائد هذه اللمحات عناية ابن حزم رحمه الله كغيره من علماء السلف
رحمهم الله جميعاً بتكوين الشخصية الإسلامية الفريدة عبر إذكاء روح العزة والثقة
بالله، وعدم الرضا بإذلال النفس أو بذلها في الحقير من الأعمال والفنون والمقاصد، وبعث الهمة إلى معالي الأمور وعظيمها؛ تزهيداً بالسفاسف والترهات التي تقتل
المواهب وتئد الطاقات والهمم، ولذا فأنت تجد أن إذكاء شعور العزة في النفس،
والثقة بعد الله بالطاقات والمواهب والملكات، وحسن التدبير وغيرها من الصفات
اللازمة لكل مبدع أو قائد أو مربّ تلح على ابن حزم رحمه الله وغيره من عظماء
التربية الإسلامية على تحذير من يتصدى لسياسة الناس وتوجيههم من بذل النفس أو
صرف ماء الوجه في أمر حقير أو متاع زائل يذهب بمكانتهم عند الناس؛ لأن
مقامهم عزيز ومعدنهم لا بد أن يكون ثميناً؛ فلا يحل مساومته بعرض رخيص مهما
كان، أو بمقصد حقير هو من مقاصد أولي الهمة الدنيا من الناس، فيقول رحمه الله: (لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل،
وفي دعاء إلى الحق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك
تعالى، وفي نصر مظلوم) ، ولهذا فإنّ حدّ (العاقل) في هذا المفهوم التربوي عنده
رحمه الله هو من: (لا يرضى لنفسه ثمناً إلا الجنة) [7] .
__________
(1) سير أعلام النبلاء، 18/201.
(2) نحن بحاجة لتحديد مفهوم التربية من جديد وفق مصطلحات الشرع الذي لم ترد فيه هذه اللفظة إلا في معرض التربية البدنية في قوله تعالى على لسان فرعون لموسى: [أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً] [الشعراء: 18] ولم يذكر القرآن هذا المفهوم الذي نتداوله اليوم إلا بلفظ التزكية كما في قوله تعالى:
[يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ] [البقرة: 151] وقوله: [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا] [الشمس: 9] وغيرها من الآيات * نختلف مع الكاتب في هذا فقد ورد في تفسير قوله تعالى [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِِيِّينَ]
[آل عمران: 79] قول ابن عباس: (الربانيون الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره) ·.
(3) على أنها محرمة بطبيعة الحال فالتفضيل هنا في ميزان المقارنة فحسب! ولا عبرة لنا بالمعنى الآخر.
(4) مداواة النفوس، ص 57.
(5) المرجع السابق نفسه، ص 82.
(6) المرجع السابق نفسه، ص 82.
(7) يمكن الرجوع لاستخلاص مثل هذه اللمحات التربوية لهذا الإمام من مؤلفاته العديدة ومن كتب أخرى عنيت بهذا الشأن منها الدراسة التي قدمها الأستاذ/ سعيد الأفغاني إلى مكتب التربية العربي لدول الخليج التي قام المكتب بإخراجها مع دراسات أخرى في هذا الشأن تحت عنوان: من أعلام التربية الإسلامية، جزى الله القائمين على هذا المشروع خير الجزاء.(138/30)
البيان الأدبي
الحداثة العربية الوجه الآخر
قراءة في كتاب (المرايا المحدبة)
د. حسين علي محمد
ظهر في العالم العربي في ربع القرن الأخير جيل جديد من النقاد يفيد من
إنجازات النقد الغربي المعاصر، ويتبناها ويبشر بها، مديراً ظهره إلى تراث النقد
العربي الذي أنجزته أمته خلال خمسة عشر قرناً، وبعض هؤلاء قد قطع بالفعل كل
صلة بالمنجز النقدي الأدبي العربي القديم والحديث ويهرف بما لا يعرف، ويكتب
نقداً غير مفهوم؛ سائراً في تيار الحداثة الغربي، ولا يكُفّ بعض هؤلاء وعلى
رأسهم جابر عصفور عن معاداة عقيدة الأمة، ولا يكف عن الكتابة عن النقل
والوحي اللذيْن يعوقان مشروع التجديد عنده [1] وفي مفهومه الذي يعني الانحياز
إلى إنجاز العقل والتنوير، وكأن الإسلام أو الوحي يُعادي العقل الحقيقي أو يدعو
للظلام! ! .
إن هذا التيار من النقد الحداثي يزعم كما تقول هدى وصفي أنه يريد (تأصيل
دراسات تُحاول تطوير منهج علمي في النقد، يبتعد عن الانطباعية التي تغرق فيها
الدراسات النقدية على وجه العموم) .
فهل نجح نقاد الحداثة الذين يملؤون الساحة النقدية ضجيجاً في دعواهم؟ وهل
قدّموا نقداً يكشف النص المنقودَ ويضيئه؟ وهل قدّموا نسخة نقدية عربية أصيلة
ليست مشوّهة تماماً أو (مستوردة) ؟
عن هذا الجيل من النقاد وعن هذه الظاهرة كتب الدكتور عبد العزيز حمودة
كتابه: (المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك) الذي أصدرته سلسلة (عالم
المعرفة) الكويتية، في العدد (232) ، الذي صدر في ذي الحجة 1418هـ إبريل
1998م، في 430 صفحة من القطع المتوسط.
ونتوقف هنا أمام قضيتين من أهم القضايا التي يطرحها هذا الكتاب، وهي:
النسخة العربية للحداثة، ولغتها النقدية. وإن كانت هذه الوقفة لا تغني عن قراءة
هذا الكتاب المهم، المثير للجدل [2] .
الحداثة.. النسخة العربية:
يقول الدكتور عبد العزيز حمودة في نبرة لا تخلو من سخرية عن ظاهرة
الحداثة في النقد العربي الحديث التي غزتنا في ربع القرن الأخير: (وقفت منذ
السنوات الأولى من الثمانينيات على وجه التحديد أمام كتابات البنيويين العرب أو
الحداثيين العرب بإحساس ظل حتى وقت قريب مزيجاً بين الانبهار والشعور
بالعجز؛ الانبهار لأن مجموعة من الأكاديميين العرب استطاعوا في فترة الانكسار
التي تلت هزيمة الإنسان العربي في 1967م (أن يُنقذوا شرف النقد العربي) على
حد تعبير الراحل لويس عوض في أحد اللقاءات الفكرية في أواخر الثمانينيات.
وهذه حقيقة لا مراء فيها، وكانت أبرز منابر النشاط النقدي الجديد هي مجلة
(فصول) التي فتحت أبوابها أمام المفكرين المصريين والعرب، فقدّموا الدراسات
الجادة والترجمات المتميزة عن البنيوية، لكن ذلك الانبهار كما قلت خالطه طوال
الوقت شعور عميق لم أفصح عنه حتى اليوم بالعجز: العجز عن التعامل مع هذه
الدراسات البنيوية وفهم أهدافها، بل فهم وظيفة النقد ذاته في ظل المصطلحات
النقدية المترجمة والمنقولة والمنحوتة والمحرّفة التي أغرقونا فيها لسنوات)
(ص 13) .
فهل كانت الحداثة العربية نسخة عربية حقّاً كما يردد كمال أبو ديب وكما
يقول جابر عصفور أحياناً: إن الحداثة العربية لها إنجازها البارز في المنجز
النقدي العالمي وأنهم أي نقادها ليسوا عالة على المنجز النقدي الغربي؟
لقد حاول النقد العربي الجديد (الحداثي) حسب قول إلياس خوري وشكري
عياد أن يكون رد فعل للضياع العربي وسقوط الحلم العربي وعجز الأمة المطلق
عن الحركة الفاعلة؛ وهو ادعاء لم يستطع النقد الحداثي أن يحققه.
ويرى المؤلف أن مشروع النقد الحداثي قد أخفق استنباته في التربة العربية؛
لأنه نتاج حضارة أخرى وبيئة أخرى، وقد استطاع أن يخلق أعداءه في بيئته
الأصلية (الغربية) ، فكيف بالبيئة العربية التي تختلف اختلافاً كلياً عن البيئة الغربية؟
يقول المؤلف: (المصطلح النقدي الحداثي إفراز للفلسفة الغربية خلال ثلاثمائة
عام من تطورها، وعلى رغم ذلك فإن الحداثة في قلب التربة الثقافية الغربية خلقت
أعداءها والرافضين لها، ولم يكن المصطلح النقدي الجديد أوفر حظاً؛ فهو يمثل
أزمة متجددة لا تفقد قوة دفعها في لحظة من اللحظات، فما بالنا بالنسخة العربية
التي نقلت النسخة الأخيرة للفكر الغربي دون أن تكون له مقدماته المنطقية،
واستخدمت مصطلحاً نقدياً يجمع بين غرابة النحت وغربة النقل إلى لغة جديدة)
(ص11) .
ويزعم بعض الحداثيين مثل كمال أبو ديب أنه يقدم مذهباً عربياً أصيلاً في
البنيوية مستقلاً عن النسخة الغربية، ويفوق ما قدمه الفرنسيون، ويرى عبد العزيز
حمودة أن هذا الكلام ادعاء كبير، وأنه في أكثر من موقع في تحليله للشعر الجاهلي
يقترب من التحليل الغربي، ويضرب أمثلة على ذلك (ص11، 12) .
وينقل المؤلف كثيراً من نصوص نقاد الحداثة ليبرز كما يقول (عملية التذبذب
المستمرة التي يعيشها هؤلاء النقاد، وصعوبة اتفاقهم أنفسهم على تحديد هوية
حداثتهم؛ فهم يتأرجحون بين ادعاء الأصالة وإنشاء حداثة عربية تختلف عن
الحداثة الغربية في مقولاتها ومصطلحها النقدي، في الوقت الذي تكشف فيه كتاباتهم
بصفة مستمرة عن تأثرهم الواضح إن لم يكن نقلهم الصريح عن الحداثة بمفهومها
الغربي، وهنا تكمن أزمة الحداثيين العرب في جوهرها) (ص32) .
ويرى الدكتور عبد العزيز حمودة بحق أن (الحداثي العربي يفتقر إلى فلسفة
خاصة به؛ فهو يستعير المفاهيم النهائية لدى الآخرين، ويقتبس من المدارس
الفكرية الغربية، ويحاول في جهد توفيقي بالدرجة الأولى تقديم نسخة عربية خاصة
به، لكنها كلها عمليات اقتباس ونقل وترقيع وتوفيق، لا ترتبط بواقع ثقافي أصيل، ومن هنا تجيء الصورة النهائية مليئة بالثقوب والتناقضات) (بتصرف،
ص 62، 63) .
لغة مراوغة:
يقول الناقد المعروف وديع فلسطين وهو ناقد من نقاد الأصالة في حوار
أجريته معه في مجلة (الفيصل) (عدد أغسطس 1998م) يقول عن وظيفة النقد:
(إن مهمة الناقد أن يتناول العمل الأدبي بنفس القدر من نطاسية الطبيب من حيث
تشخيص أوجه القصور فيه، والتنبيه إلى سبيل تداركها، وإظهار ما في العمل
الأدبي من خصائص يستقل بها، أو أنها منتحلة من عمل سواه، وفي يد الناقد دائماً
ميزان ذو كفتين: كفة لتبيان المزايا التي يتحلى بها العمل الأدبي، وكفة للتنبيه إلى
أوجه النقص التي يرتئيها في هذا العمل، وله بعد ذلك أن يخرج برأي جامع يضع
العمل الأدبي في المرتبة التي يستحقها: ارتفاعاً وانخفاضاً، وهنا تصبح وظيفة
الناقد أشبه بوظيفة القاضي الذي يوازن بين الدعاوي المنظورة أمامه، ثم يصدر
حكمه المتضمن رأيه الرجيح) .
لكن نقاد الحداثة ابتعدوا بمراحل عن هذا المفهوم الذي درجت عليه أجيال من
النقاد؛ فوراء دعوى (عملية النقد) كتبوا كلاماً غير مفهوم، ووضعوا رسوماً
توضيحية في دوائر ومثلثات ومربعات، وبعضهم وضع رموزاً (كأنهم يقلدون
علمي الهندسة والجبر ولكن شتان! !) وزادوا القارئ بعداً عن النص بدلاً من أن
يقربوه منه.
يقول المؤلف: (لقد أسست البنيوية شرعيتها على مشروع طموح لتحقيق
علمية النقد، فتبنت النموذج اللغوي في حماس شديد، وعلمية الدراسة اللغوية أمر
لا مراء فيه، لكن ماذا حقق البنيويون بعلميتهم؟ لقد كان الهدف منذ البداية هو
إنارة النص، لكن ذلك ما لم يتحقق، وبدلاً من مقاربة النص أو (إنارته) حجبته
اللغة النقدية المراوغة التي تلفت النظر إلى نفسها متذرعة بعلمية التفسير للنص
الأدبي ولم تُحقق المعنى ... لقد انشغلوا في حقيقة الأمر بآلية الدلالة، ونسوا ماهية
الدلالة، انهمكوا في تحديد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل، وتجاهلوا ماذا يعني
النص) (ص 9) .
ويقول المؤلف في مكان آخر عن إنجاز البنيويين بعد مناقشة ما كتبه كمال
أبوديب، وحكمت الخطيب، وهدى وصفي في نصوص دالة على لغتهم المراوغة وإنطاق النص بما ليس فيه، أو افتراض أشياء لم تخطر للمبدع على بال: (إن (المقاربة) البنيوية كما تجسدها معاملة البنيويين للنصوص الأدبية لا تُقارب النص في المقام الأول.
وفي نموذج كمال أبو ديب اختفى النص وراء محاولات (علمنة) معالجته.
ربما يكون تحليله علمياً؛ ولكنه لا يُساعد على فهم النص. لقد حجبته تماماً رسومه
ومعادلاته وطلاسمه، إضافة إلى ذلك كله ينطق النص بما ليس فيه ... ما يفعله
أبوديب هو إخفاء القصيدة أو حجبها وراء كم هائل من التحليل البنيوي الذي يرتدي مسوح العلمية) (ص49، 50) .
وهكذا يمكننا القول: إن نسخة الحداثة العربية ليست أصيلة مع محاولتها
التمسح بالجرجاني وغيره من النقاد اللغويين العرب القدامى، وأنها تلجأ إلى لغة
مراوغة، غير مفهومة تبعد القارئ عن النص أكثر مما تقربه منه، وأنها نسخة
تلفيقية أكثر ما يكون التلفيق والدجل، والله المستعان.
__________
(1) انظر مقالاته الشهرية في مجلة (العربي) الكويتية، والأسبوعية في جريدة (الحياة) اللندنية.
(2) قامت حول الكتاب معركة نقدية في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية، استخدم فيها جابر عصفور لغة غير راقية في المناقشة على امتداد ثلاثة أعداد، وقد رد عليه المؤلف في ثلاثة أعداد أيضاً، ثم علق عليها كُتّاب من المهتمين بالقضية انظر الصحيفة، ديسمبر 1998م يناير 1999م.(138/38)
البيان الأدبي
قراءات في الشعر الإسلامي العالمي
مع الشاعر الطاجيكي عُبيد رجب
محمد شلال الحناحنة
الشعر هذا الطائر الذي يناجي أشواق أرواحنا، ينقش تغاريده على صفحات
مرهفة من وجداننا، فكيف نتفيأ ظلال جنانه؟ ! وكيف نرتشفُ رحيق جماله،
ونخوض غمار صدقه ورهافة بيانه؟ ! كيف نتذوّق نفحات السّحَر عبر تضاريسه؟
كيف نسْمو لشموخه لنحظى بأسرار كنوزه؟ ! وكيف نحسّ الكون إبداعاً شفيفاً
جميلاً لربّ رحيم خبير لطيف؟ !
تلك الأسئلة المفتوحة المجنّحَة قفزتْ إلى ذاكرتي وأنا أجوبُ إحدى قصائد
الشاعر الإسلامي الطاجيكي عبيد رجب، وهو شاعر معاصر، عُرِفَ بإيمانه
الصادق، وحبّه لعقيدته، وتمسّكه بحبل الله المتين، ودماثة أخلاقه ودفاعه عن
شعبه ووطنه ولغته أمام ما تتعرّض له من طمس وحقد روسيّ لإلغائها، وجعل اللغة
الروسية هي اللغة الرسمية، إمعاناً في تذويب الهويّة الإسلامية الطاجيكية، يقول
الشاعر في هذه القصيدة التي بعنوان: (تبقى الإنسانية ما بقي العالم) مادحاً ألفاظ
لغته:
(يا له من لفظ
يا للطفه ورقّته
يتجلى في الروح الحضور
وعلى وقع أنغامه
يرقصُ اللّسان
ويستنير البصر) [1]
هذا اللفظ الرقيق النيّر يغدو نغماً روحيّاً حاضراً، يغدو نداءً مشرقاً عذباً،
يتجلّى بكلّ صفائه وجماله، ويغدو نسمةً لطيفة تملؤنا بالحبّ والإعجاب بهذا الشاعر
القابض على دينه ولغته:
(لفظٌ بلون الزهور الحمراء
على حوافّ الجبال
هو أعذبُ وألذّ
من قضم السكّر
هو أقومُ وأعزّ
من نَصائح الأمّهات) [*]
ونلاحظ قدرة شاعرنا على المزج بين الصور الحسيّة والمعنوية، وانظر هذا
التقابل بين الجمال الحسيّ والمعنوي في تصوير القيم والمثل العليا التي يجسّدها لفظ
لغته فهو: (أعذبُ وألذُ من قضم السكّر) ويقابل هذه الصورة الحسية الشفيفة صورة
معنوية: (هو أقوم وأعزّ من نصائح الأمّهات) ويشخّص هذه اللغة التي أحبّها،
فيوحّد بينها وبين مظاهر الطبيعة البكْر؛ فاللفظ في لغته له وقع خاص في النفس:
(له جمال البنَفسج وشذى الدلال
يستمدّ صفاءه من النبع
وتدفّقه من ماء الغدير)
تلك لوحة تصويرية رائعة، يرسمها الشاعر عبر لغة مُتدفّقة، وعبارة مشرقة
تحفل بالمشاهد الشعرية الموحية، ونرى عبر هذه المشاهد إلحاح الشاعر وتكراره
لكلمة (لفظ) بشكل مباشر، أو باستخدامه للضمائر العائدة إليها، ليسند كلّ الجمال
والبلاغة والقوّة والأصالة لهذه اللغة؛ فهي في الطليعة دائماً؛ فنلحظ تكرار الضمير
(هو) مرّات عدّة في القصيدة سواءً كان مُنْفصلاً أو متّصلاً، ممّا يثري هذه الطاقة
العظيمة في إبراز هذا اللفظ الذي له جمال البنفسج وشذى الدلال. إنّ هذا الارتباط
الحميم باللغة، والاعتزاز بعراقتها، ومعانيها السامية يتجلى لدى شاعرنا في جميع
مقاطع القصيدة، ولا بدّ أن نفرح بالمشاركة بهذا الوجدان الإسلامي الزاخر بالمحبة
والصدق، إنّه وجدان العقيدة الصافية، والإيمان المرهف، والتحدّي لكل أشكال
الظلم والقهر الذي مارسته الشيوعيّة الهالكة ضدّ المسلمين في الجمهوريات الإسلاميّة:
(اللفظ الذي يحمل عقيدتي ووجودي
لفظ يجعلني أسجد في مواضع السجود
كتراب وطني
كدهشة الطفولة
هو عندي كذرات نور البصر
هو عندي كبوارق قبسات السّحَر)
تنطلق شرارة هذه الرؤية من نبض الإسلام، وتَركَنُ إلى شيء من الكشف
الهادئ العميق؛ حيث تتلاحق الصيغ الشعرية عبر تشبيهات تبني نسيجها من خلال
معجم الطبيعة الكوني المفعم بالحركة، لذا فالشاعر يُمْعِنُ في استقصاء جماليات لفظ
لغته:
(ما أعجبه، هُو كتغريد البلابل
وما أروعه كأنّه الشلال
بفورانه وموجه
بشهده الصافي العذب
يذوب القلب
تغمره السعادة
ويملؤه الحبّ)
هكذا يشجينا الشاعر الإسلامي الطاجيكي عبر هذه اللمسات الشفيفة والتجاوب
الإيقاعي بين مفرداته بالمزيد من التفاعل والحوار الحيّ معه [2] . إنّه دفء لغته
الغالية التي أضحت (كذرّات نور البصر، وقبسات السّحر) وهي التي تحفزه
للسجود في مواضع السجود، فتبعث في نفسه الحبّ الصافي والسعادة الغامرة. وقد
لجأ الشاعر إلى أسلوب طلبي يُراوح بين الاستفهام والنداء والتعجب، معبراً عن
عميق جرحه لما تعانيه لغته من محاولات وأدها وتهميشها لا سيما حين قيلت هذه
القصيدة عام 1967م، ورغم ذلك الأسى لم تزل حيّة بكل عنفوانها كتغريد البلابل،
وهو يرفض مَوْتها واندثارها مهما تكالبتْ قوى الطغيان والشرّ:
(أأحيا، ويذهب من عِينيّ كالدخان؟ !
أيتبدّدُ ويفنى؟ !
لا، لا أصدّقُ! !)
وليس عجباً أن تبقى هذه اللغة الجميلة حيّة ناهضة؛ لأنها، لغة المحبة
والعقيدة الراسخة، والهوية الواضحة، والموروث الثقافي العريق منذ عشرات
السنين:
(فهذه المحبّة في قلب
من منح الحبّ
تبقى على الدوام
شابّة فتية
ما بقي العالم
وما بقيت الإنسانية)
تُرى أين هذا الصدق العفوي الآسر عند شاعرنا الإسلامي عبيد رجب تجاه
لغته ممّا ينفثُه العلمانيون الحاقدون ضد لغتنا العربية الفصحى، وتراثنا الخالد؟ !
لذا لا عجب أن نعانق مع شاعرنا شموخ الرؤى والإيقاع من خلال أناشيد لغته
المجيدة:
(أنا أحمل اسمها
يعلو رأسي لأوج السّما
بالشوق أطيرُ
تبدّى لعيني رجالُ العُلا
لأني نظمتُ بها منطقا
ونظمي القويّ بها قدْ جَلا)
__________
(1) كتب عن اللغة الطاجيكية، الأستاذ الدكتور محمد السعيد جمال الدين، أستاذ اللغة الفارسية بجامعة عين شمس، ونشر ذلك في مجلة الأدب الإسلامي في العدد السابع ممّا أفادنا في هذه القراءة.
(*) إن لم يكن هناك خطأ في الترجمة؛ فإننا نخالف الشاعر في هذه النظرة؛ لأن نصائح الأمهات هي من أعظم ما ينطلق من رحمة المخلوق للمخلوق البيان (2) لعلّ لنا وقفات مع آداب الشعوب الإسلامية في أعداد قادمة إن شاء الله.(138/42)
نص شعري
عَلى رِسْلِكُم صَحبي
ياسر محمد أحمد جياكتا
ها هي جموع المهاجرين من أرض كوسوفا الحبيبة تتتابع في الخروج من
مساقط رأسها، ومرابع أحبابها وأهليها بعد قهر المعتدين لها.
وكان منهم هذا الذي أنشد هذه القصيدة، يعزّي بها نفسه ويسلّي بها أصحابه.
كانوا حينذاك على أكمة تطلّ على البلاد. فقال والدّموع تخضب لحييه:
على رِسْلكم صحبي ... فقد أشفقَ القَلبُ وهلّت دمُوع العَين واسْتَعظم الخطبُ
قفوا سَاعةً نزجي منَ الأمس غَابِراً ونحكي لنَا ذكرى يزركشُها الحبّ
قفوا ساعةً قبل الرّحيل لعلّنَا تَقرّ لنَا عَينٌ ويصطَبرُ القَلبُ
وصَلّوا بنَا في مسجدِ الحيّ ركعةً تكونُ لنَا زاداً إذا اسْتُوحِشَ الدّربُ
ومُرّوا بنَا حيناً على قبر والدِي ولا تجزعُوا صحبي إذا طَال بي القُربُ
ومُرّوا بنَا حِيناً على الجثَثِ التي تسِفّ عَليها الريح، ينْهشُها الكَلبُ
سَلامٌ عَلى الأطهار من أهل ملّتِي سَلام على أهل الجهاد الأُلى هبّواً
ألاَ إنّما الجنّات والحورُ مَوعِدٌ عقدناه يومَ الْتفّ من حَولنَا الصّرْبُ
عقدناهُ والهيجَا تُزلزلُ حولَنَا وقهقَهةُ البارود كالوَبل لاَ يخبُو
عقدْناه يَوم ابتَاعنَا القرنُ عِرضنا وأطّبنَا أطّاً وأرهقَنا الكَربُ
عقدناه يومَ الذّبح والحرق باللّظى ووحشِيّة شَنعاء ليسَ لها غِبّ
وأصبَحتِ الأرجاء كالموج هَائجاً فلا شَرقنا شَرقٌ، ولا غَربنَا غَربُ
لقد ضَاق بي بؤسي وأيقنتُ أنّني قريباً ستَدعُوني المنيّة والتّربُ
سَلامٌ على الألبان من أهل ملّتِي سَلامٌ أَ (كوسوفا) يخالجهُ ندبُ
سَأرحلُ عنك اليَومَ لكن إلى غَدٍ يُزمجرُ في الأعداء فيصلُنَا العضبُ
سَأبعثُ في قومي نداء استماتَةٍ وآتي بهم جنداً لمولاهمُ لَبّوا
أناديهِمُ في كلّ قطرٍ ومحفَلٍ ببغدادَ أو بالشّام، يَجمعُنَا الحبّ
وأرفع راياتِ الجِهاد كأنّماَ هيَ الشّمسُ، لا تُنهي مَسِيرتَها السّحبُ
أقولُ لهمُ: يا قَومُ ثوبُوا لرشدِكم فإنّ احتباس القَطر يعقُبه الجدبُ
وإنّ اضطرام النّار في الأصل جَذوة وقبل خروج الرّوح يسْتَحْكم الطّبّ
أمَبْلَغُكم في الأمر أن تَبعثوا صَدًى يدير رحاهُ الشّتمُ يبعثهُ الشّجبُ؟
فَلا ابتلّتِ الآكام بالقَطر هَامِعاً إذا جَبُنَ الفُرسَان وَاسْتُضْعِف الغُلْبُ
هَوانُ الفتى مَوتٌ وإن كانَ في الوَرى يُعَدّ منَ الأحياءِ يَا أيّها الشّعبُ
كأنّي بهم قد يَمّموا شطر دَارنَا وحينَ يفي الجمْعَان تحتَدم الحربُ(138/46)
نص شعري
حُزيران؟ [*]
مروان كجك
حُزَيْرَانُ فِيكَ تَعَرّى الضّلالْ ... وَتَاهَتْ عُقُولٌ، وَضَاعَتْ تِلالْ
سَتَبْقَى إلَى أَنْ يَشَاءَ الإلهُ ... سَرِيعَ الْمَجِيءِ، بَطِيءَ الزّوَالْ
تُذَكّرُنَا بِالْخِدَاعِ الرّهِيبِ ... وَطَيْشِ الْكِبَارِ وَسُخْفِ الرّجَالْ
أَضَاعُوا الْبِلادَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ ... وَبَاتُوا نُموراً بِغَيْرِ جِدَالْ
حُزَيْرَانُ يَا جُرْحَ كُلّ أَبِيّ ... وَيَا إرْثَ قَهْرِ دُعَاةِ النّضَالْ
ظَمِئْنَا فَجَاءَ الشّرَابُ حَمِيماً ... وَقَالُوا لَنَا: فَارَ نَبْعٌ زُلالْ
هَلُمّوا بَنِي يَعْرُبٍ نَتَلاقَى ... عَلَى مِحْنَةٍ حَارَ فِيهَا الْخَيَالْ
نُبَايِعُ أَجْهَرَ صَوْتٍ وَنَمْضِي ... عَلَى إثْرِهِ دُونَ أَدْنَى سُؤَالْ
حُزَيْرَانُ يَا دُرّةً لِلْيَهُودِ ... وَلِلْعُرْبِ عَاراً وَسِيعَ الْمَجَالْ
قَتَلْتَ بِنَا زَهْوَةَ الْفَاتِحِينَ ... وَأنشَاًتَ صَرْحاً لِذُلّ عُضَالْ
وَقَلّبْتَنَا فَوْقَ جَمْرِ الطّغاةِ ... لِنَهْتِفَ كَالْبُهْمِ يَا ذَا الْجَلالْ:
أَطِلْ عُمْرَ مَنْ حَمّلُونَا الشّقَاءَ ... وَكَانُوا الْمَهَازِيمَ يَوْمَ النّزَالْ
وَمَاتَتْ صَرَامَةُ شَعْبٍ أَبِيّ ... وَذَلّتْ كَرَامَاتُ عَمّ وَخَالْ
وَبِتْنَا مِنَ الْحَيْفِ كَالإمّعِينَ ... نُبَايِعُ كَالْبُلْهِ أَخسَا رِجَالْ
غُلِبْنَا عَلَى أَمْرِنَا فَاسْتَطَارَتْ ... شُرُورٌ، وَقُطّعَ حَبْلُ الْوِصَالْ
وَصَارَ التّفَرّقُ صِبْغَةَ شَعْبٍ ... وَأَضْحَى الْحَرَامُ لَدَيْهِ حَلالْ
فَيَا تَعْسَ مَنْ أَوْصَلُونَا لِهَذَا ... وَيَا بُؤْسَ جِيلِ الْهَوَى وَالْخَيَالْ
حُزَيْرَانُ فِيكَ أَقَامَ الْيَهُودُ ... صُرُوحاً مِنَ الزّهْوِ فِعْلاً وَقَالْ
وَنَحْنُ هَدَمْنَا صُرُوحَ الْجُدُودِ ... وَبِتْنَا نُصَارِعُ أَسْوَأَ حَالْ
شَبِعْنَا شِعَارَاتِ لَيْلٍ طَوِيلٍ ... وَلَمْ يَبْقَ فِينَا زَعِيمٌ طُوَالْ
وَصِرْنَا أَضَاحِيكَ أَهْلِ الزّمَانِ ... وَكُنّا بَنِي قُدْمَةٍ وَاحْتِمَالْ
حُزَيْرَانُ يَا ذِلةَ الْيَعْرُبِينَ ... وَيَا نَزْفَ قَلْبٍ أَمَضّ وَطَالْ
بِسِتّ مَضَتْ مِنْكَ أَضْحَى الْعَرِينُ [1] ... خَوَاءً وَطَارَتْ فُنُونُ الْقِتَالْ
بَكَيْنَا شَكَوْنَا بِكُلّ اللّغَاتِ ... وَذُقْنَا مَرارَةَ ذُلّ السّؤَالْ
وَبَاتَ الصّدِيقُ عَدُوّاً وَصِرْنَا ... أَلاعِيبَ لَمْ نَجْنِ غَيْرَ الْوَبَالْ
فَقُلْ لِلْبُغَاةِ، وَإنْ طَالَ لَيْلٌ، ... سَيَبْزُغُ فَجْرٌ بَهِيّ الْجَمَالْ
وَيَنْهَزِمُ الْبُطْلُ والمُبْطِلُونَ ... وَيَنْتَصِرُ الْحَقّ فِي كُلّ حَالْ
__________
(*) كان ذلك عام 1967م في اليوم الخامس من حزيران (يونيو) حين ابتدأت (إسرائيل) حربها الحقيقية بعد أن مارس العرب الثوريون مظاهرة نضالية أثبتت الأيام أنها لم تكن جادة، وقد انهزمت الجيوش الثورية، واستولى اليهود على أكثر من مساحة الأرض المغتصبة عام 1948م.
(1) سميت هذه الحرب بـ (حرب الأيام الستة) وذلك لأنها لم تدم سوى ستة أيام حملت إلى العرب قاطبة شر هزيمة، وحقق اليهود لأنفسهم أكبر نصر.(138/48)
رسائل جامعية
الدور السياسي للمساجد [*]
إعداد الباحث: بشير سعيد أبو القرايا
عرض وتعليق / د. حامد عبد الماجد قويسي [**]
تأتي هذه الدراسة المهمة في إطار الدراسات التنظيرية التي تتناول مؤسسات
الدولة الإسلامية، مركزة على أدوارها وفعاليتها السياسية في الواقع العملي..
وتتناول هذه الدراسة الدور السياسي لأهم تلك المؤسسات وهو (المسجد) وهي
تدرس المسجد بصورة كلية ولا تشمل تطبيقاً على مسجد بعينه؛ وذلك على أساس
أن الدراسة التنظيرية لا تعني الالتزام بدراسة مسجد ما أو مجموعة مساجد خاصة
بإقليم معين، ولم تتقيد بفترة زمنية معينة كي تتوفر لها القدرة الكاملة على التنظير.
وهكذا جاءت هذه الدراسة مجردة عن عاملي الزمان والمكان.
ويركز الباحث على أهمية الدراسة كما يظهر من عنوانها، فأهميتها العلمية
ترجع إلى إسهامها في تطوير علم السياسة الإسلامي من خلال الاهتمام بمؤسسة قدر
لها أن تحمل كافة المقومات والعوامل التي أدت إلى بناء الدولة الإسلامية الأولى
وتشييد حضارة إنسانية امتدت قروناً طويلة. أما أهميتها العملية الواقعية فتكمن في
الدور الفاعل الذي يمكن أن يقوم به المسجد في العلاقة السياسية، ليس باعتباره
مؤسسة تتعلق بالأمور الدينية فحسب، وإنما باعتباره مؤسسة لها وظائف تتعلق
بالتعامل السياسي بمعناه الأرحب. منها على سبيل المثال: تصاعد دور الاتجاهات
الإسلامية التي تعد وليدة المسجد في تعاملها مع السلطة في المنطقة العربية.
وتهتم الدراسة بتحديد المفاهيم والعلاقات النظرية، فتؤصل مفهوم المسجد
باعتباره المفهوم المركزي لها كما سيتضح فيما بعد من التناول. أما مفهوم الدور
فإن الباحث استفاد به في حدود معينة، ورأى أن مفهوم الفعل يُعدّ بديلاً أكثر ملاءمة، وحدده على أساس الرؤية الإسلامية بأنه: (مجموعة الأعمال الصالحة التي يقوم
بها فرد أو جماعة، أو مؤسسة ما) . أما مفهوم السياسة فقد ربطه الباحث بالتوحيد
باعتباره مفهوماً مطلقاً وبالقيم، والأخلاق القرآنية.
تناول الباحث دراسة موضوعه في ستة فصول وخاتمة تتضمن نتائجه على
النحو الآتي:
ففي الفصل الأول (التمهيدي) : منهاجية بناء الدور السياسي للمسجد تناول
مبحثين: المبحث الأول: تأصيل مفهوم المسجد ودوره في الرؤية الإسلامية من
خلال ثلاثة موضوعات:
الأول: يتطرق إلى التأصيل اللغوي لكلمة مسجد وبحث دلالاتها السياسية
والإشارة إلى سعي بعض الباحثين إلى محاولة طمس الأصل اللغوي العربي للكلمة
ونسبها إلى أصول غير عربية، أو صرف النظر عن المسجد وجعله أقرب ما
يكون إلى دور المؤسسة الدينية في المجتمعات الأخرى من حيث اعتبارها مكاناً
لأداء الطقوس الدينية فقط.
ومن خلال بحث الجذر اللغوي (س ج د) ودراسة اشتقاقاته ومعانيه المختلفة
وتحليل دلالاته السياسية بما يجسده من مجمل القيم والمفاهيم والأخلاقيات الإسلامية، ومن خلال بحث التطور التاريخي والدلالي لكلمة مسجد، فإنه ميز بين ثلاث
مراحل هي: مرحلة العصر الجاهلي التي ارتبط السجود فيها بعبادة الأصنام
والشرك بالله، ومرحلة العصر الإسلامي التي ارتبط السجود فيها بالتوحيد،
والمرحلة الاستعمارية وما تبعها من حقب وضعية؛ حيث ارتبط السجود فيها بأداء
الطقوس، وقد استقر في يقين هذه الدراسة أن كلمة مسجد أصلها عربي وتحمل
دلالات ومعاني تعكس جوهر القيم السياسية الإسلامية.
أما الموضوع الثاني: فيتطرق إلى النظرة القرآنية والنبوية لمفهوم المسجد
من خلال سبع نقاط:
1- اعتبار المسجد بمثابة المكان الذي يتم فيه غرس مفهوم العبودية لله
وتعظيمه، ومن ناحية أخرى اكتساب القيم السياسية الإسلامية ابتداءً من قيمة
التوحيد ومروراً بقيمة الحرية وقيمة المساواة وانتهاءً بقيمة العدالة باعتبارها جميعاً
ترجمة للمضمون السياسي لمعنى العبودية لله.
2- اعتبار المسجد أحد الأركان الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها الدولة
الإسلامية.
3- أهمية المسجد في بناء مقومات الحضارة الإنسانية القائمة على تحقيق
مهام الاستخلاف وتنفيذ السياسة الشرعية في الأرض.
4- المسجد قاعدة أساسية للممارسة السياسية؛ فهو مركز الحياة الاجتماعية
والسياسية للجميع، وحافظ التوازن بين أطراف العلاقة السياسية.
5- المسجد مكان التربية السياسية النفسية التي يتم فيها غرس القيم والمفاهيم
الإسلامية على مستوى أفراد الأمة، كما أنه مدرسة لتخريج القيادات السياسية
والفكرية والعسكرية على وجه الخصوص.
6- تحديد أسس التعامل مع المؤسسات التي من شأنها أن تؤثر سلباً وتعطل
عمل المساجد بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
7- مناقشة الدلالات السياسية لاعتياد المساجد وإعمارها وتعظيمها، وعلى
الوجه الآخر دلالات التخلف عنها وتعطيلها.
الثالث: يتطرق إلى نظرة الفكر الإسلامي إلى أداء المسجد لدوره السياسي،
من خلال تناول ثلاث نقاط:
1- بحث آراء بعض علماء الأخلاق أمثال ابن مسكويه، فيما قالوه عن البعد
الأخلاقي والاجتماعي والسياسي لرسالة المسجد.
2- بحث أقوال بعض علماء الاجتماع والشريعة فيما قالوه عن علاقة المسجد
بالسياسة وكيفية تنظيمها وضبطها كأقوال الماوردي وأبي يعلى الفراء وابن خلدون.
3- بحث آراء بعض الفلاسفة أمثال الكشاني والغزالي وغيرهم حول
المضمون الفلسفي لبعض المفاهيم المرتبطة بالمسجد.
وفي المبحث الثاني: تناول البحث (بناء الإطار الفكري لتحليل الفعل
السياسي للمسجد) مستعرضاً ثلاثة موضوعات:
الأول: عقد مقارنة بين مفهوم السياسة في إطاره الوضعي المعاصر، ومفهوم
السياسة في إطاره الإسلامي الشرعي، على أن يتم تحديد الخصائص المطلوبة
لمفهوم السياسة المستخدم في هذه الدراسة الذي يستند إلى مفهوم السياسة في إطاره
الإسلامي.
الثاني: تناول نظرية الدور واستخدامها في علم السياسة المعاصر مع
إخضاعها للرؤية الإسلامية وإعادة توظيفها في إطار مفهوم الفعل الذي يتناسب مع
مقومات التنظير السياسي الإسلامي.
الثالث: التعريف بالفعل السياسي للمسجد على أنه: (مجموعة الأعمال التي
يقوم بها المسجد، أثناء تفاعله مع أطراف العلاقة السياسية، باعتباره أحد القوى
الوسيطة القائمة بين الدولة والمواطنين، والتي يتم صناعتها، وفق قواعد الشرع،
بحيث تترجم مصلحة الأمة ومصلحة أهل المساجد، باعتبارهم الجهة المشكّلة للفعل، وتؤدي إلى حدوث تأثير في هذه الأطراف ينجم عن رد فعل ذي خصائص معينة) .
وفي الفصل الثاني: (الوظيفة التوحيدية للمسجد) تناول الباحث ثلاثة مباحث
على ثلاثة مستويات: (مستوى الفرد، مستوى الأمة، مستوى العالم) .
في المبحث الأول: (أثر المسجد في غرس عقيدة التوحيد لدى الفرد) ،
استعرض ثلاثة موضوعات:
الأول: أثر نشاطات المسجد في بناء الشخصية السياسية للفرد.
الثاني: أثر المسجد في بناء الإدراك السياسي للفرد.
الثالث: أثر الارتباط بالمسجد على السلوك السياسي للفرد. وفي هذا المبحث
تناول مجموعة من المفاهيم السياسية الإسلامية لرؤية أثر المسجد في تكوينها لدى
الفرد. ومثّل لذلك بمفاهيم منها: التوحيد، المساواة، الحرية، العدالة، الشورى،
الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلخ.
وفي المبحث الثاني: أثر المسجد في توحيد الأمة: يتعرض لأربعة
موضوعات:
الأول: مجموعة العوامل والأحداث التي ساهمت وبرهنت على زيادة فاعلية
المسجد في توحيد الأمة، وتشتمل على نقاط منها:
1- أداء صلاة الجماعة باعتبارها المظهر الأول لوحدة الأمة.
2- جهاد المشركين ونشر الفتوحات الإسلامية.
3- مقاومة الهجمات الاستعمارية.
4- معالجة وقوع حدث طارئ تتعرض له الأمة أو أحد أقاليمها.
5- التعدي على حرية المساجد وأثره في تفكك الأمة.
6- المساهمة في بناء المساجد وأثره في توحيد الأمة.
الثاني: (طبيعة ردود الفعل الصادرة عن الأمة ومظاهر التوحيد الناجمة
بسبب هذه العوامل والأحداث) ، وهناك ثلاثة مستويات من ردود الفعل هي:
1- مستوى ردود الفعل الاتصالية ذات الطابع الإعدادي التحضيري: وتشمل
خطب الجمعة، ودروس الوعظ والندوات، والمؤتمرات والمحاضرات اللازمة
لتشكيل الوعي السياسي بطبيعة الحدث الذي تتعرض له الأمة.
2- مستوى ردود الفعل المحدودة: وتشمل المظاهرات والاحتجاجات الشعبية
والإضرابات المصحوبة بسخط وغضب وضغط شعبي كبير.
3- مستوى ردود الفعل واسعة النطاق: وتشمل تصاعد الردود إلى حد إعلان
نشوب حرب تبدأ بإعلان الجهاد، والتعبئة العامة وخوض حرب نظامية، أو
بإعلان الجهاد المرتبط بالمقاومة الشعبية.
الثالث: مكانة المسجد وموقعه من الأحداث وردود فعلها، وطبيعة أثره في
توحيد الأمة، ويتحدد ذلك من خلال النظر إلى المسجد من خمس زوايا:
1- المسجد قاعدة التوحيد الثقافي المنظم لأفراد الأمة، وفيما يتم عرض نسق
الوحدة الناظمة، والذي اقترحه الباحث كي يستخدم أداة تحليل علمية لدراسة مدى
تأثير مجموعة من المساجد في فترة زمنية معينة في توحيد الأمة.
2- المسجد قاعدة للإعداد والانطلاق الفكري.
3- المسجد قاعدة لإيجاد الحافز والانطلاق الفعّال.
4- المسجد أداة تستخدمها القوى السياسية في تحقيق المصلحة العامة
والخيرات المشتركة للأمة وفي تحقيق مصلحة الشرع.
5- المسجد وسيلة لغرس الهيبة الإسلامية في النظام الدولي، وخلق الوعي
بالأمة باعتباره كياناً حركياً له تأثيره في العلاقات الدولية.
الرابع: أوجه المقارنة الرئيسة بين فعل المسجد لتوحيد الأمة في الخبرة
الإسلامية وفعله في الواقع المعاصر؛ مع تحديد مقومات توحيد الأمة وتحقيق عزتها
ووعيها بعد الوهن الذي أصابها، مع بحث أثر المسجد في إحيائها والمشاركة في
نهضتها.
وفي المبحث الثالث: (الوظيفة العالمية والحضارية للمسجد) يستعرض
الباحث موضوعين:
الأول: ماهية الوظيفة العالمية والحضارية للمسجد.
الثاني: المهام الرئيسة المطلوبة من المسجد لأداء رسالته العالمية، ثم يختم
المبحث بتوضيح عوامل زيادة فعالية المسجد لوظيفته هذه، وهي ثلاثة:
1- إطلاق الدعوة الإسلامية في كل مكان.
2- إعلان الجهاد.
3- بناء المساجد في العالم وتطويرها.
وفي الفصل الثالث: (وظيفة التنشئة السياسية) يتناول الباحث ذلك في
مبحثين، ففي المبحث الأول: (العناصر الرئيسة لعملية التنشئة في المسجد) ،
يستعرض خمسة موضوعات:
الأول: القائم بالتنشئة السياسية في المسجد: ويعني به: خطيب الجمعة،
الواعظ، إمام صلاة الجماعة، مدرس القرآن، مدرس العلوم الشرعية والمدنية،
المفتي، القاضي ... إلخ، يتطرق فيه الباحث إلى ثلاث نقاط:
1- أهمية وقيمة القائم بالتنشئة المسجدية في العالم الإسلامي.
2- إعداده.
3- المهام السياسية المطلوبة منه وطبيعة أفعاله.
الثاني: مادة التنشئة، ويعني بها: القرآن الكريم وعلومه، السنة النبوية
سيرةً وأحاديثَ، والفقه الإسلامي، الخبرة، التراث الفكري والعلمي، القضايا
والمشكلات المعاشة من وجهة النظر الإسلامية، ويتم فيه التطرق إلى موضوعين:
1- الدلالات السياسية لمواد التنشئة المسجدية.
2- بحث أثر مادة التنشئة المسجدية في تحديد الاتجاه السياسي لبعض القضايا
السياسية الهامة في الواقع المعاصر، ويتم فيها استعراض ثلاث قضايا هي: مشكلة
السلطة والخلاف الحاد حول مفهومها وتحديد النظرة المسجدية إزاءها، أزمة الهوية
والولاء والانتماء وزيادة انتشارها، مشكلة فلسطين.
الثالث: الجمهور المستقبل للتنشئة المسجدية: ويعني به كافة أفراد الأمة على
وجه العموم، ومن يعتاده منهم على وجه الخصوص، ويتم فيه التطرق إلى أربع
نقاط:
1- العوامل الرئيسة التي أدت إلى اعتياد معظم أفراد الأمة للمساجد في
الخبرة الإسلامية.
2- العوامل الرئيسة التي أدت إلى انقطاع معظم الناس عن المساجد في
الواقع المعاصر، وفيها يتم استعراض الأفعال المضادة للمساجد كتضييق الخناق
عليها وإنشاء مؤسسات اجتماعية مضادة.
3- استعراض قضية التخلف والتبعية وعدم القدرة على مواكبة التقدم العلمي
والتكنولوجي، ومشكلة انتشار الأفكار السياسية والفلسفات الاجتماعية التي تتعارض
تعارضاً واضحاً مع أحكام الشريعة.
4- المقترحات الإجرائية لإعادة ربط الناس بالمساجد والدلالات السياسية
الناجمة عنها.
الرابع: بيئة التنشئة المسجدية، وهي: إما بيئة مواتية للفعل الحضاري
تسعى إلى إمكانية تقويم المجتمع، وإما بيئة معاكسة تسعى إلى إقصاء هذا الفعل.
وتنقسم البيئة هذه إلى قسمين: البيئة الداخلية وتشمل حياة المسجد والنظام المسجدي، والبيئة الخارجية عنه وهي قسمان: بيئة إسلامية وبيئة عالمية، وتتطرق الباحث
فيها إلى ثلاث نقاط هي:
1- مفهوم روح المسجد.
2- البيئة الصالحة المواتية للتنشئة السياسية وأثر روح المسجد على صلات
المؤسسات في الخبرة الإسلامية.
3- البيئة المعاكسة للتنشئة وأثر المسجد على إصلاح المؤسسات السياسية في
الواقع المعاصر.
الخامس: أثر المسجد في تنشئة القيادات والصفوات السياسية والفكرية
والعسكرية باعتباره مدرسة تسهم في تخريج هذه القطاعات التي بنت الحضارة في
السابق.
وفي المبحث الثاني: (أثر المسجد في بناء الثقافة السياسية لدى الفرد)
يستعرض الباحث: التحديد بمفهوم الثقافة السياسية الإسلامية، ثم معرفة أثر
المسجد في بناء الوعي السياسي واكتساب القيم والمفاهيم الإسلامية، ثم يتناول أثره
في تحديد النظرة المتميزة لثلاثة مفاهيم جوهرية تشكل الإطار العام للثقافة السياسية
هي: مفهوم السلطة، مفهوم الشرعية، مفهوم المشاركة، ثم بعد ذلك يتناول
الباحث أثر المسجد على عملية التجنيد السياسي وعملية الاستقرار السياسي، ثم في
الختام يتناول مهمته في الحفاظ على الثقافة السياسية الإسلامية وحفظها من الزوال.
وفي المبحث الثالث: (أنماط المقترحات النظرية للباحث) وتشمل نسقين:
أحدهما: لضبط علاقة المسجد بالسلطة ويسمى: (نسق العلاقة بين المسجد
والسلطة الحاكمة) ، والآخر لضبط مواجهة المسجد لمؤسسات الضرار ومعرفة كيفية
إيقاف أفعالها المضادة ويسمى: (نسق العلاقة بين مسجد التقوى ومؤسسات
الضرار) .
الثاني: تحديد المهام المطلوبة من أطراف العلاقة وطرق ضبطها على
مستوى الممارسة السياسية. وقد تبين في هذا الفصل من خلال المقارنة بين الخبرة
والواقع على مستوى المراحل الثلاث المذكورة آنفاً حرص الأنظمة الحاكمة في
المرحلة الأولى على إعمار المساجد وحفظ استقلاليتها الكاملة لممارسة نشاطاتها
وحقوقها السياسية وغير السياسية، وتبين على مستوى المرحلة القومية المعاصرة
حرص الأنظمة الحاكمة على تحجيم المساجد أو تطويعها وفق سياستها وتوجهاتها
كي تتوافق ومشاريعها التنموية التي تنطلق من رؤيتها الخاصة لما يجب أن تقوم به
المؤسسات الدينية من تأثير يتشابه إلى حد كبير مع ما تقوم به نظيرتها في المجتمع
الغربي.
وفي الفصل الخامس: يتناول الباحث (العلاقة بين المسجد والقوى السياسية
الوسيطة، وبناء إطار فكري للتعامل بين الطرفين في الواقع المعاصر) في مبحثين:
المبحث الأول: (الفعل ورد الفعل المتبادل بين المسجد، والحركة الإسلامية،
والقوى الحزبية المعاصرة) ويستعرض من خلاله موضوعين:
الأول: بحث دلالات التنافر الحاصلة بين المسجد والقوى الحزبية، مع نقد
الإطار الوضعي للظاهرة الحزبية، وفيها يتم التطرق إلى أربع نقاط:
1- نقد الإطار الوضعي لقانون الأحزاب السياسية في الوطن العربي.
2- مقارنة بين أداء النظم الحزبية والفعل السياسي للمسجد.
3- السياسة الحزبية والوضعية المعاصرة تجاه المساجد.
4- الفعل السياسي لأهل المساجد تجاه الظاهرة الحزبية المعاصرة.
الثاني: بحث دلالات التعاضد الحاصلة بين المسجد والحركة الإسلامية،
وفيها يتم التطرق إلى ثلاث نقاط:
1- دلالات التعاضد المرتبطة بتطابق المقصد والتأسيس والمسار، وأهمية
المسجد في ولادة الحركة الإسلامية.
2- دلالات التعاضد المرتبطة بأهمية المساجد بالنسبة للحركة الإسلامية على
مستوى الوظيفة الاتصالية.
وفي المبحث الثاني: (مستويات التعامل الفكري مع الظاهرة الحزبية من
منطلق التعاضد بين المسجد والحركة الإسلامية) يستعرض الباحث ثلاثة
موضوعات:
الأول: بناء الإطار التنظيمي للمساجد وأثره في تقوية الوظيفة الاتصالية
للمسجد من خلال تناول خيارين: أحدهما لرفض الظاهرة الحزبية؛ والآخر لإعلان
الحياد تجاهها، وفيه يتم التطرق إلى نقطتين:
1- تحليل الإطار التنظيمي للمساجد على المستوى العام من خلال مقومات
البناء وشروط النجاح.
2- الإطار التنظيمي للمساجد على المستوى العام من خلال عرض الهيكل
التنظيمي المقترح للمساجد الذي يؤدي إلى تحقيق تماسكها على مستوى الدولة
الواحدة.
الثاني: الضوابط الشرعية للظاهرة الحزبية من خلال استعراض خيار القبول
المرتبط بتجريد الإطار الوضعي.
الثالث: المهام المشتركة وأساليب التعامل الحركي بين المسجد والحركة
الإسلامية في مواجهة الإصرار على استمرارية الإطار الوضعي للظاهرة الحزبية.
وفي الفصل السادس: يتناول الباحث نسق الوظيفة الاتصالية السياسية
للمسجد في مبحثين:
ففي المبحث الأول: (التعريف بالوظيفة الاتصالية للمسجد) يستعرض ست
نقاط هي: مفهوم الوظيفة الاتصالية للمسجد، الأبعاد الرئيسة للمفهوم، خصائص
علاقات الاتصال، مقومات العملية الاتصالية، معوقات أدائها، أهدافها.
وفي المبحث الثاني: (مكونات النسق وكيفية تطبيقه) تعرض الدراسة
المكونات الرئيسة الخمسة التي يشتمل عليها النسق وهي: الأجزاء، الضوابط،
المراحل، المداخل المنهاجية، المهام الاتصالية، وتعرض أيضا: كيفية تطبيقه
على الواقع العربي المعاصر من خلال بحث مستويات التطبيق وكيفيته.
رابعاً: نتائج الدراسة:
وفي الخاتمة تذكر الدراسة النتائج الآتية:
1- ثبت أن المسجد قام بفعله السياسي على أكمل وجه في الخبرة الإسلامية
على وجه العموم؛ إذ يرجع إليه الفضل في إنشاء مقومات الحضارة الإسلامية عن
طريق تخريج أجيال تحولت بكافة فئاتها رجالاً ونساءً وشباباً وأطفالاً وشيوخاً إلى
قطاعات فعالة متحفزة للعمل والجهاد. أما على مستوى الواقع المعاصر فقد تبين أن
المسجد قام بفعل سياسي ضعيف مقارنة بالخبرة، ويرجع السبب الأول في ذلك إلى
زيادة تأثير الأفعال المضادة التي تعرض لها من قِبَل البيئة الخارجية، فلم يستطع
المسجد القيام بفعله في تنشئة الأجيال التي ينبغي أن يقوم على عاتقها التحرر من
التخلف والتبعية، ولم يستطع أيضاً تخريج القيادات السياسية والفكرية والعسكرية
المؤهلة لتحقيق طموحات الأمة وأهدافها التي ترتكز على إيقاف متواليات الوهن
وبناء القوة من جديد.
2- ثبت أيضاً أن اعتياد المساجد وممارسة نشاطاتها كان عاملاً جوهرياً
لظهور القيادات والأجيال الواعية التي استطاعت بناء الحضارة وإدارة دفة الدولة
الإسلامية؛ إذ تمثل قوة أولى في النظام الدولي كما حدث في الخبرة الإسلامية،
وثبت أن التخلف عن اعتيادها أدى إلى وقوع أفراد الأمة فريسة سهلة للتخلف
والتبعية مثلما حدث في الواقع المعاصر مع انتشار مؤسسات الضرار.
3- ثبت أيضاً أن استخدام السلطة لمسالك التعامل المواتية لأهل المساجد بما
فيها منح الحقوق والحريات السياسية أدى إلى تحقيق وحدة الأمة وتعاضدها وتعميق
التعاون بين السلطة والرعية كما حدث في الخبرة الإسلامية. وثبت أن استخدام
مسالك التعامل المعاكسة لأهل المساجد من قمع وإكراه وتشويه وتضليل وتلفيق
وتعتيم وكبت للحريات وفرض للقيود القانونية والمالية والإدارية، إنما يؤدي إلى
عدم الاستقرار السياسي وزيادة أزمة الشرعية وتعميق عدم التقبل بين السلطة وأهل
المساجد كما يحدث في الواقع المعاصر.
4- ثبت أيضاً أن التعامل الرئيس الذي يمكن أن يساعد في بناء قوة المساجد
في مواجهة الأنظمة الحاكمة، بما في ذلك إعادة هيبة العلماء وزيادة مساندة الرعية
لهم هو تحقيق الاستقرار المالي ثم الإداري لعلماء المساجد، بالإضافة إلى اهتمامهم
بخلق الوعي لا سيما الوعي بالشرع لدى الرعية غير الواعية.
5- ومن النتائج الهامة التي تم استنتاجها: ضرورة الاهتمام بأثر المسجد في
التنشئة السياسية لما له من فعل سياسي بارز على مستوى زيادة قوة الفعل السياسي
للمسجد على وجه العموم.
6- تعد الوظيفة التوحيدية بمثابة الغلاف العام الذي يحيط بالفعل السياسي
للمسجد الذي يتحرك من خلاله كافة الأفعال الرئيسة والفرعية الأخرى.
7- تعد الوظيفة الاتصالية السياسية كما ذكرنا من قبل جوهر الفعل السياسي
للمسجد نظراً لأهميتها في تشكيل محور اهتمام علم السياسة الذي يبحث في موضوع
السلطة وموضوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم وسبل تحقيق توازنها؛ فالوظيفة
الاتصالية للمسجد تسعى إلى ضبط هذه العلاقة على أساس المصلحة الشرعية
ومصلحة الأمة؛ بحيث لا يترك المجال لسيطرة السلطة بصورة استبدادية تقوم على
هضم الحقوق والحريات.
وتكمن دلالة النتائج الخاصة بهذا البحث الاستكشافي بالنسبة للدراسات التي قد
يقوم بها باحثون آخرون في المستقبل في أنها تفتح المجال لإجراء الدراسات
التطبيقية على مسجد ما أو مجموعة مساجد، على أن يستخدم أحد الأنساق المقترحة
أداةً للتحليل، ولعل (نسق الوظيفة الاتصالية للمسجد) ونسق العلاقة بين المسجد
والسلطة الحاكمة) يفتحان على سبيل المثال حقلاً خصباً في هذا المضمار، كما أن
تطوير دراسات نظرية أكثر عمقاً ودقة هو أمر مطروح أيضا يمكن أن يساهم به
باحثون آخرون.
__________
(*) رسالة ماجستير في العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، 1995م.
(**) مدرس العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم والسياسية جامعة القاهرة.(138/50)
الإسلام لعصرنا
السلام وانتشار الإسلام
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
وقّع رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقية صلح الحديبية مع قريش بمكة ثم
قفل راجعاً مع أصحابه إلى المدينة، وبينما هم في الطريق إذ نزلت عليه صلى الله
عليه وسلم سورة الفتح: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح: 1] .
سأله رجل مستغرباً: يا رسول الله، أوَ فتح هو؟
فأجابه صلى الله عليه وسلم مؤكداً: إي، والذي نفسي بيده إنه لفتح [1] .
لماذا سأل الرجل (وهو عمر) هذا السؤال مستغرباً؟
وأيّ فتحٍ كان فتح الحديبية؟
وهل فيه من عبرة لنا في أيامنا هذه؟
أما استغراب عمر فلأن الصلح في ظاهره لم يكن في مصلحة المسلمين؛ فهم
قد مُنعوا من أداء العمرة، ولم يقاتلوا، وكان في الصلح بنود ظنها بعض الصحابة
مجحفة بهم؛ منها: (على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته
إلينا) [2] .
وأما نوع الفتح فيفسره قول الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتح قبله كان أعظم
من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس. ولما كانت الهدنة، ووضعت
الحرب أوزارها، وأمن الناس كلّم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث
والمنازعة، ولم يُكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل
في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر [3] .
قال ابن حجر مؤيداً الزهري: فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط
بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على
الإسلام، جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية [4] .
وقال ابن هشام أيضاً مؤيداً للزهري: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم
خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة
آلاف [5] .
نستخلص من كلام هؤلاء العلماء الثلاثة أن الفتح تمثل أساساً في كثرة عدد
من دخلوا في الإسلام بسبب الصلح.
ونستخلص منه أيضاً أن السبب في ذلك كان السلام الذي حل محل الحرب
والقتال، وأن هذا الجو السلمي أدى إلى أن يختلط الناس بعضهم ببعض من غير
نكير، وإلى أن يُسمِع المسلمون المشركين دعوة الإسلام، وأن يجادلوهم
ويناظروهم في جو آمن، وأن هذه الدعوة السلمية هي التي كانت سبباً في إقناع كل
العقلاء بالدخول في الإسلام.
ما مناسبة هذا لواقعنا؟
مناسبته أن الدعاة إذا وجدوا أنفسهم في حال كهذه الحال فينبغي عليهم أن
يحافظوا عليها، بل ينبغي عليهم أن يسعوا لأن تكون حالهم مع من يدعوهم مثل
هذه الحال، وأن يبينوا لهم بإخلاص أن القتال والعنف ليس هدفاً من أهدافهم، بل
إن كل ما يريدونه هو أن يُعْطَوْا حرية الدعوة إلى دين يرونه حقاً ويرون فيه
مصلحة للمدعوين دينية ودنيوية. وهم حين يفعلون هذا سيكونون مقتفين سنة نبيهم
صلى الله عليه وسلم، انظر إلى الكلمات الرقيقة الحازمة التي خاطب بها قريشاً،
والتي كانت من أسباب عقد الهدنة، قال لهم صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ
لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم؛ فإن
شاؤوا ماددناهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهرْ فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما
دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على
أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) [6] .
يبدو لي أن الحال في كثير من البلاد الديمقراطية ولا سيما الغربية شبيه إلى
حد كبير بحال المسلمين مع المشركين في سنتي الهدنة، فهي حال يستطيع فيها
الدعاة الاختلاط بغير المسلمين، ودعوتهم ومجادلتهم؛ بل قد ثبت بالتجربة في بلد
كالولايات المتحدة أن عدد الداخلين في الإسلام في ازدياد مطرد بسبب هذا الجو
السلمي.
وعلى الدعاة في تلك البلاد إذن أن يحافظوا على هذا الجو السلمي حتى لو
كانوا في مثل قوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين عقدوا صلح الحديبية،
فكيف وهم في حال ضعف؟
إن أكثر ما يحرص عليه أعداء الإسلام في الغرب هو أن يصوروا المسلمين
على أنهم وحوش إرهابية لا غاية لها إلا تحطيم الحضارة الغربية، وقد استغلوا
وسائل الإعلام لإبراز هذه الصورة للمسلمين ونجحوا في ذلك إلى حد ما. ولا يفرح
هؤلاء بشيء فرحهم بتصريحات يطلقها إنسان أهوج يدعو فيها إلى العنف أو القتال
في داخل تلك البلاد؛ لأنها تصدق دعواهم تلك، وتساعد على تنفير الناس من
الدعاة المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن الذي يرى فيك خطراً على نفسه وأهله لن يستمع
إليك ولن يثق فيما تقول.
كنت في الولايات المتحدة أيام حادثة (أوكلاهوما) ولمست الذعر الذي عاشه
المسلمون ولا سيما رواد المساجد منهم حين طلع بعض أولئك الأعداء المُسَمّوْن
بالخبراء ليقول في بعض وسائل الإعلام: إن الفِعْلةَ فعلة مسلمين، ورأيت كيف
تنفسوا الصعداء حين تبين أن الجناة ليسوا من المسلمين.
وهذا أمر طبعي؛ فإن الأقلية المسلمة بين الكثرة الكافرة الحاكمة مستضعفة؛
فلا يناسبها أن تقاتلهم وهي تحت سلطانهم، وربما كان هذا هو السبب في نهي
المسلمين عن مقاتلة الكفار حين كانوا بمكة. لقد أُمروا آنذاك بأن يكفوا أيديهم
ويقيموا الصلاة، فلما هاجروا وتميزوا وصارت لهم أرضهم أُذن لهم في القتال ثم
أُمروا به.
ومما يوجب الحرص على هذا الجو السلمي المساعد على نشر الإسلام في
الغرب أنه في تقديري لن يدوم. إن الدول الديمقراطية تبيح الحرية ما دام
المخالفون أقلية لا خطر منها على العلمانية، أما إذا نما عددهم ورأوا فيه تهديداً
للنظام العلماني فإنهم قطعاً سيضحون بالديمقراطية من أجل المحافظة على العلمانية.
إنني أعلم أن هذا موضوع حساس من السهل أن يساء فهمه، فدعوني أؤكد
أنني لا أريد أن أقول ولا أن ألمح إلى أن كل معاهدة صلح فهي حديبية؛ بل إن
بعضها انهزامي لا يأتي بخير، ولا أريد كذلك أن أدعو إلى إلغاء الجهاد أو أدعو
إلى سلم مطلق مهما كانت الظروف. إن الإسلام دين واقعي ليس ولا يمكن أن
يكون استسلامياً لا مجال فيه لقتال. لكن الذي أريد أن أؤكده هو أن للقتال ظروفه
كما أن للسلم ظروفه، فإذا كفى الله المؤمنين القتال بحال سلم ينتشر فيها الإسلام
فمن الواجب اختيارها والمحافظة عليها والتركيز على الدعوة بالكلمة والقدوة. قال
تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] [النحل: 125] .
قال الإمام القرطبي معلقاً على هذه الآية الكريمة: وقد قيل إن من أمكنت معه
هذه الأحوال من الكفار ورُجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.
وهذا الذي قيل هو الصواب؛ لأن الغاية الأسمى التي ينشدها الداعية المسلم
هي أن يجعله الله سبباً لهداية الناس لا قتلهم؛ فها هو صلى الله عليه وسلم ينصح
علياً رضي الله عنه بقوله: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن
يكون لك حمر النعم) [7] . قال له صلى الله عليه وسلم ذلك وقد أعطاه الراية
موجهاً إيّاه إلى خيبر ليبيّن أن القتال ليس شيئاً مرغوباً في ذاته؛ لكنه قد يكون
وسيلة لا مندوحة عنها لرد الظلم، سواء كان ظلماً واقعاً على بشر، أو ظلماً متمثلاً
في الوقوف في طريق إيصال الدعوة إلى الناس، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك؛ بل كان
هنالك استعداد للاستماع والمجادلة والمناظرة فلا يلجأ إلى القتال، ولا سيما في
ظروف كتلك التي يكون فيها الدعاة تحت سلطان الكفار.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________
(1) فتح الباري، المغازي، الحديبية/ج7، ص550، ط دار السلام.
(2) فتح الباري، الشروط، الشروط في الجهاد، ج5، ص 421.
(3) فتح الباري، المغازي، الحديبية، ج7، ص 550.
(4) فتح الباري، الشروط، الشروط في الجهاد، ج5، ص 427.
(5) فتح الباري، المغازي، الحديبية، ج7، ص 550.
(6) البخاري، الشروط، الشروط في الجهاد.
(7) البخاري، المناقب، 3425.(138/60)
اقتصاديات
البعد الاقتصادي للعولمة
د. زيد محمد الرماني
يتم في أغلب الأحوال تناول العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية، تتحدد
خصائصها في بروز الأسواق العالمية للسلع ورؤوس الأموال وفي إيجاد نظم
الإنتاج المدمجة. لكن العولمة تتطلب وجود عناصر مجتمعة أكثر شمولاً حتى لا
تقتصر على البعد الاقتصادي وحده.
فالعولمة تعمل على انتقال الأفكار والمعلومات والأمراض والمشكلات
الاجتماعية؛ لكن أثرها الحاكم يتمثل في كونها تعمل على إنتاج الهويات
والمؤسسات العابرة للحدود.
وبشكل عام، فإن عملية العولمة تقدّم المظاهر نفسها في المكان الذي تتبدّى
فيه؛ بما أنّ كوكب الأرض ليس (كلاّ) واحداً كما يريد لنا بعض المنظّرين
والمفكرين أن نتصور.
ومع ذلك، لم تعمل العولمة على إيجاد عالم موحّد؛ فهي ليست مرادفاً لتعبير
(عالم واحد) بل هي تتّجه أكثر فأكثر إلى إيجاد نظام متشابك لعوالم متصلة: أي
مرتبطة فيما بينها.
وبالشكل نفسه؛ فالعولمة الثقافية لا تنتج ثقافة عالمية، ولكنها تنتج كوكباً
تختلط فيه الثقافات، وتتعايش أو تتصارع.
وفي المقابل، نجد الشيء نفسه بالنسبة للإنترنت؛ فشبكة الاتصالات العالمية
عملت على توالد أسواق (الغش) ، وأسواق الجماعات الصغيرة.
فلم تعد العولمة بناء على ما سبق تحدّياً اقتصادياً أو سياسياً أو تقنياً فحسب،
ولكنها تمثل بالإضافة إلى ذلك تحدياً للفكر الإنساني عامة إضافة إلى أنها تحدّ للتعلم
والتربية والثقافة والفكر. وعليه؛ فإن من واجبات النظرية التربوية أن تلتفت
باهتمام إلى آثار العولمة على تلك الجوانب الفكرية الإنسانية.
ومن ثم، يجب ألاّ نتخيّل العولمة على أنها لعبة نتيجتها إيجابية بالقطع؛
فالسوق العالمية لا تمحو الفوارق بين الدول، وتفاعل البلدان المختلفة لا يأتي
بالضرورة بالسلام؛ فهي تعني أنه في حالة المنافسة، لن يكون هناك منتصر
حقيقي.
ولا يتردد بعض المفكرين في النظر إلى العولمة باعتبارها نوعاً من النهضة.
يقول (جورج تادونكي) : أحد الجوانب الأكثر ظهوراً للعولمة هي سرعة انتشار
النماذج الثقافية الخارجية التي عملت على نقل المظاهر الديمقراطية.
وعلى الرغم من (الثورة المعاصرة) في المواصلات والاتصالات، والتقدم
المحسوس الذي أحرزته عملية تحرير التجارة العالمية على مدى العقود الثلاثة
المنصرمة؛ فإن الاقتصاديات الوطنية لا تزال معزولة بعضها عن بعض بدرجة
كبيرة، وتتضمن هذه العزلة حقيقة مهمة أكّدها الباحث الاقتصادي (بول كروجمان) ، وهي أن العولمة ليست السبب فيما تعانيه غالبية الحكومات في الغرب الصناعي
المتقدم من متاعب ومشكلات، بالقدر الذي يتصوره الناس عموماً. يقول (داني
رودريك) : إنّ الفرضية القائلة: إن الاقتصادات المحلية أصبحت غارقة في سوق
عالمية موحدة عديمة الملامح هي فرضية غير صحيحة.
كما أن المخاوف المثارة من جراء سياسات العولمة بدت في الظهور العلني
أكثر فأكثر، فبينما تزيد العولمةُ الطلبَ على الإنفاق الاجتماعي فإنها (أي العولمة)
تتسبب في الوقت نفسه في الحد من قدرة الحكومات على التجاوب الفعال مع هذا
الطلب، ويترتب على ذلك أنه: كلما تعمقت العولمة تآكل الإنفاق الاجتماعي
المطلوب للإبقاء على الأسواق المحلية مفتوحة أمام التجارة العالمية.
ومن ثم، فإن السؤال المطروح هو: كيف يمكن تخفيف التوتر بين العولمة
من جانب، والضغوط المبذولة لتقليل المخاطر من جانب آخر؟ ذلك أنه إذا غفلنا
عن إدراك الدور الحيوي الذي لعبه الإنفاق الاجتماعي في التوسع التجاري،
وتُركت شبكات الرعاية الاجتماعية لتذوي، فإن ذلك سيؤدي إلى تآكل الإنفاق
المحلي المحبّذ للأسواق المفتوحة.
إن التوترات التي يمكن أن تحدثها العولمة استمرار لتوترات حقيقية؛ بيد أنها
توترات دقيقة، والمصطلحات المتداولة في النقاش الدائر حولها لا تساعد كثيراً
على فهمها؛ فعبارات مثل: (مناقشة الأجور المنخفضة) و (تمهيد ساحة اللعب)
و (السباق نحو القاع) ليست إلا عباراتٍ مضللة، غالباً ما تتسبب في أن يُسيء الناس
فهم القضايا الحقيقية.
إن الحاجة ماسة إلى لغة نقاش أكثر ذكاء وأقدر على التعبير عن الاختلافات
وعن المعاني التي لا تزال غير واضحة. جاء في كتاب (عالم واحد جاهز أم غير
جاهز المنطق السحري للرأسمالية العالمية) لمؤلفه (وليم جريدر) : إن التوسع
العالمي للأسواق يضعف التماسك والترابط الاجتماعي، ويفضي إلى أزمة اقتصادية
وسياسية كبرى) .
ومع ذلك، يجب ألا نفزع من العولمة، كما يجب ألا نأخذها مسلّمة؛ فالعولمة
تفتح آفاقاً وتتيح فرصاً لأصحاب المهارات والمؤهلات لتمكنهم من الحركة
والازدهار في الأسواق العالمية، وكذلك يمكن أن تساعد العولمة الدول الفقيرة على
الإفلات من قبضة الفقر.
بَيْدَ أن للعولمة من الجانب الآخر ضغوطاً لخفض أجور العمال غير الفنيين
في الدول الصناعية المتقدمة، وتفاقم الإحساس بتناقص الأمان الاقتصادي؛ إذ
تُعرّض أشكالاً من النظم المجتمعية للخطر، وتضعف مظلات الضمان الاجتماعي.
إن أسباباً وجيهة تدعو إلى القلق من مستوى الجدل الدائر حول العولمة:
فالمحبذون للتوحد العالمي يقفون ضد خصوم العولمة باعتبارهم حِمائيين أي: من
دعاة رفع الضرائب على الواردات لحماية الإنتاج المحلي، ولا يفهمون مبدأ الميزة
التفاضلية وقوانين التجارة ومؤسساتها؛ بينما يعمد منتقدو العولمة من الجانب الآخر
إلى اتهام الاقتصاديين وخبراء التجارة بضيق الأفق التكنوقراطي، ويرون أن
الخبراء الاقتصاديين مفتونون بالنماذج الاقتصادية الغربية التي يبتدعونها، ولا
يجيدون التعامل مع الحركة الواقعية للعالم.
وحصيلة الجدل لا تعدو أن تكون كثيراً من المشادات العدائية، وقليلاً مما
يمكن أن يتعلمه أحد من كلا الجانبين.
وسيستمر الجدل حول (العولمة) وستبحث أسئلة عديدة عن إجابات سديدة من
مثل: هل العولمة كما يعتقد غالبية الباحثين الاقتصاديين وكثير من صانعي
السياسات هل هي مصدر للنمو والازدهار الاقتصادي؟ أم هي خطر على
الاستقرار الاجتماعي والنظام البيئي؟ وهل حققت العولمة تقدماً كبيراً إلى الدرجة
التي أصبحت فيها الدول الوطنية عاجزة بالفعل عن ترتيب شؤونها الاقتصادية
واستخدام أدواتها السياسية لدعم برامجها الاجتماعية؟ وهل نقل الأنشطة الصناعية
إلى بلاد العمالة الرخيصة يتسبب في إضعاف القوة الشرائية العالمية، ومن ثم يُوجِد
فائضاً سلعياً يمتد من السيارات إلى الطائرات؟
وختاماً أقول: رغم ما قيل قديماً ويقال حديثاً وسيقال مستقبلاً؛ فإن العولمة
ربما لا تكون إلا إحدى المصطلحات عالمية الرنين التي ليس لها كل النتائج
المرجوة منها.(138/64)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منّا في إطلاع
قراء · على ما يتسير لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة لقارئها
سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر، والله الموفق.
* كيف نتعامل مع القرآن، تأليف: د. يوسف القرضاوي، الناشر، دار الشروق بمصر، طبعة 1419هـ.
أحسن المؤلف استقصاء جوانب تعامل المسلم مع القرآن الكريم من قراءته
وحفظه وتدبره والعمل به وتحكيمه ... وضبط كل ذلك في أطر شاملة وقواعد نافعة، وتحذير من المزالق والمحاذير.
* تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، تأليف الأستاذ. أحمد الكاتب، الناشر، دار الجديد، ببيروت عام 1419هـ.
منذ ابتدع الخميني الهالك نظرية ولاية الفقيه أو على الأصح تبناها وطبقها في
ثورته في إيران عام 1979م وهذه النظرية تنال نقد علماء الشيعة أمثال: (كاشف
الغطاء) و (موسى الموسوي) وغيرهم، وجاء هذا الكتاب على النسق الناقد لهذه
الفكرة من أحد علماء الشيعة المعاصرين الذي ناقش النظرية وأبان تهافتها وعدم
صحتها لعدم وجود المنوب عنه وهو (المهدي المزعوم) ولعدم ثبوت ولايته، داعياً
لإقامة الدولة الإسلامية على قاعدة الشورى وولاية الأمة على نفسها.
* تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر، دراسة نقدية في ضوء الإسلام، تأليف: عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين، نشر، دار ابن الجوزي، عام 1419هـ.
أصل الكتاب: أطروحة ماجستير، نال بها الباحث درجة الامتياز، ويقع في
(479) صفحة.
مهد الباحث بذكر حقيقة التسامح في الإسلام، ثم شرح أسس التسامح في
الغرب وأهدافه ونقدها، ثم ذكر مجالات التسامح في الغرب ونقدها، وختم بذكر
آثار التسامح على المسلمين.
* الانتصار للصحب والآل من افتراءات السماوي الضال، تأليف د.
إبراهيم بن عامر الرحيلي.
البحث بداية لسلسلة ناقدة لمؤلفات أحد الصوفية الذي ادعى أنه اهتدى إلى
الرفض ليدعو له ويعلنه طاعناً في عقيدة الأمة، مع سبه للصحابة، ورميهم بالكفر. ووضح الباحث أن الرجل حاطب ليل، وبعيد عن المنهج العلمي في كتبه التي
طار بها القوم وترجموها لجل اللغات؛ وهو لا يمت للعلم والتحقيق بصلة.
* المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، تأليف د. عبد الرزاق الهيثمي، الناشر دار أسامة للنشر بالأردن (عمان) ، 1419هـ.
دراسة علمية لواقع المصارف الإسلامية وما تقوم به من أنشطة وأعمال في
ضوء الكتاب والسنة وآراء السلف، وبيان توجيهات الباحثين المعاصرين حيالها
وتقويمها والحديث عن الشُبه والمآخذ الموجّهة لها، مقرراً الحق والباطل رغبةً في
الوصول لما فيه تحقيق أهدافها في إيجاد انتصار إسلامي بنّاء والتحذير من التبعية
العمياء للبنوك الربوية.
* مشكلة الغلو في العصر الحديث 1 2 3، المؤلف: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر، المؤلف، الطبعة الأولى 1419هـ. ...
هذه رسالة الباحث للعالمية العالية (الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية) ، وعنوانها يعطي فكرة عن موضوعها، والباحث بدأ بمقدمة عن منهجه
في البحث وأهميته وخطته، وتمهيد فيه بيان مصطلحات البحث، ولمحة عن
مشكلة الغلو، وأبواب ثلاثة عن الأسباب والآثار والعلاج، (وهو دليل علمي
وعملي لمن يريد أن يتعامل مع هذه المشكلة بعلم وضمير ورشد وصدع بالحق نزيه
وشجاع) . وهي رسالة متميزة، جديرة بالدراسة والعناية.
* السيف والهلال، (تركيا من أتاتورك إلى أربكان) ، للأستاذ رضا هلال، الناشر، دار الشروق بمصر 1419هـ.
ناقش المؤلف العلاقة الوثيقة بين الجيش التركي والسياسة مع التركيز على
الصراع بينهما والاتجاهات الإسلامية، وختم الكتاب بفصل عن تركيا بعد 75 عاماً
من الإخفاق (العلماني) ودعا المؤلف إلى أن تراجع الأتاتوركية نفسها، وأهمية أن
تتطور في جوانب كثيرة وبخاصة فيما يتعلق بالدين ودور العسكر.
* مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة الإسلامية، تأليف: إدريس محمود إدريس، نشر: مكتبة الرشد وشركة الرياض، عام 1419هـ.
يتكوّن الكتاب من (1303) صفحة، في ثلاثة أجزاء، نال بها الباحث درجة
الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، بتقدير ممتاز، بين فيها مفهوم
التصوف ونشأته ومصادره وأقسامه، وأهم أسباب الانحرافات عند الصوفية، ثم
شرح انحرافاتهم في الإلهيات، وفي المحبة، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم
والأولياء، وفي الزهد والجهاد والقضاء والقدر، والتوكل والجنة والنار، وكان يقدم
لكل مبحث بذكر التصور الإسلامي للمسألة ليتضح بعكسه الانحراف، ثم ختم بذكر
الآثار السيئة لانحرافاتهم في الأمة الإسلامية، وأساليب مقاومة الزحف الصوفي.(138/68)
وقفات
ويبقى العود ما بقي اللحاء
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت في رحلة دعوية إلى بنجلاديش مع فريق طبي أقام مخيماً لعلاج أمراض
العيون، فتقدّم إلى الطبيب شيخٌ وقور ومعه زوجته بتردد وارتباك، ولمّا أراد
الطبيب المعالج أن يقترب منها فإذا بها تبكي وترتجف من الخوف، فظنّ الطبيب
أنها تتألم من المرض، فسأل زوجها عن ذلك، فقال وهو يغالب دموعه: إنها لا
تبكي من الألم.. بل تبكي لأنها ستضطر أن تكشف وجهها لرجل أجنبي! لم تنم
ليلة البارحة من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيراً: أوَ ترضى لي أن أكشف
وجهي..؟ ! وما قبلتْ أن تأتي للعلاج إلا بعد أن أقسمتُ لها أيماناً مغلظة بأنّ الله
تعالى أباح لها ذلك للاضطرار، والله تعالى يقول: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ
فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [البقرة: 173] .
فلمّا اقترب منها الطبيب، نفرت منه، ثم قالت: هل أنت مسلم؟
قال: نعم، والحمد لله! !
قالت: إن كنت مسلماً.. إن كنت مسلماً.. فأسألك بالله ألاّ تهتك ستري، إلا
إذا كنت تعلم يقيناً أن الله أباح لك ذلك..! !
أُجريت لها العملية بنجاح وأزيل الماء الأبيض، وعاد إليها بصرها بفضل الله
تعالى. حدّث عنها زوجها أنها قالت: لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي ولا
يمسني رجل أجنبي: قراءة القرآن، وخدمتي لك ولأولادك.
ما أعظم شموخ المرأة المسلمة بعزتها وعفافها..! وما أجمل أن تُرى المرأة
مصونة فخورة بحشمتها..!
أكرم به من إيمان يتجلّى في صورة عملية صادقة بعيدة عن التكلف أو التنطع، سالمة من الرياء وشوائب الهوى..!
فأين أولئك النساء اللواتي كسرن طوق الحياء، وأسلمن أنفسهن لدعاة الرذيلة
وأدعياء المدنية، وأصبحن يلهثن وراء شهواتهن، ويتبارين في التفسخ والانحلال
.. أين هن من تلك المرأة العفيفة الطاهرة؟ !
ولَكَم يتفطر القلب أسىً وحزناً على أولئك الفتيات الزهراوات اللواتي طاشت
بهن الأهواء، وأسلمن أنفسهن بكل غفلة وبلاهة لكل ناعق..؟ !
إنّ الحياء شعبة من شعب الإيمان، وعنوان من عناوين العفة والفضيلة، تقوم
قواعده على أُسس راسخة من التقى، وأصول متينة من الصلاح، ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء كله خير) [1] . بل عظّم النبي صلى الله عليه
وسلم من شأنه فقال: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء) [2] .
ويُتأكّد ذلك في حق المرأة، فسِترها رمز حيائها، وحجابُها دليل كرامتها.
وإذا اختلّ حياء المرأة تزلزلت أقدامها، وعصفت بها الفتن، وأصبحت سلعة
رخيصة تباع بأبخس الأثمان، ويعبث بها دهاقنة الفساد، وأئمة الهوى، (وليس
لمن سُلِبَ الحياءَ صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور؛ فهو يُقدم على ما يشاء،
ويأتي ما يهوى) [3] .
وقديماً قال الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (1/64) .
(2) أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد (1/1399) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
(3) أدب الدنيا والدين، ص 241.(138/70)
المسلمون والعالم
مأساة مسلمي كوسوفا وواجبنا نحوهم
صفوت وصفي
تقع كوسوفا في الجزء الجنوبي من البلقان يحدها من الشمال والشرق
(صربيا) ومن الجنوب الشرقي (مقدونيا) ومن الجنوب (ألبانيا) ومن الغرب والشمال
(الجبل الأسود) .
فتحها العثمانيون عام 1393م، وكانت مركزاً للمسلمين؛ فنشروا الإسلام فيها
حتى أصبح المسلمون فيها ما يقارب 95%، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت
جزءاً من يوغسلافيا، وأعطيت حكماً ذاتياً عام 1974م، وألغي هذا عام 1989م
مع تغييرات جذرية لصالح الصرب، ويومها قال الرئيس (ميلوسيفتش) : إن معركة
كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم، ونحن مستعدون أن نضحي بثلاث مئة
ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفو إلى مكة!
وكان رد فعل المسلمين أن رفضوا هذا الظلم، وقرر البرلمان إعلان
الاستقلال وأجريت انتخابات حضرها بعض المراقبين الدوليين ورُشّح إبراهيم
روجوفا رئيساً؛ لكن الدولة الصربية واجهت ذلك بالحديد والنار، وعانى المسلمون
كثيراً، وما تزال حالتهم منذ ذلك الوقت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم بسبب ما قام به
الصرب من إجراءات عدوانية تمثلت فيما يلي:
1- إبعاد المسلمين وطردهم وتوطين الصرب مكانهم، وتشجيعهم على
الاستيطان في كوسوفا، وبنيت الوحدات السكنية لهم، ومُنحوا الوظائف والرواتب
المغرية بعد أن تم انتزاع أكثر من (854) منزلاً من المسلمين أسكن فيها الصرب
القادمون من (كرايينا) عام 1415هـ.
2- صودرت الممتلكات والمؤسسات الكوسوفية، وطرد أكثر من 150 ألف
عامل من وظائفهم من العمال والممرضين والأطباء، وأغلقت الجامعات والمدارس
فعاش الإقليم أسوأ حال؛ وقد نتج عن ذلك مشكلات خطيرة من أهمها:
* هجرة كثير من المسلمين إلى الغرب طلباً للعمل ولتوفير سبل العيش
لأهليهم.
* انتشار البطالة بين المسلمين، مما ينتج عنه كثير من الأخطار التي لا
تخفى.
* ظهور الأمراض المهلكة وانتشارها؛ لأن المؤسسات الصحية أخليت من
المسلمين وصارت بأيدي الصرب.
* ألغيت المدارس الألبانية، وفرضت المناهج الصربية، كما أُوقِف البث
الإذاعي والتلفزيوني للمسلمين.
* وُضعت عدة نقاط للتفتيش في أهم تقاطعات الطرق لإزعاج المسلمين
وسحب هوياتهم إيذاءً لهم ودفعاً بهم للهجرة من بلادهم.
* تطبيق سياسة التطهير العرقي والقتل بدون سبب لتهجير المسلمين رغماً
عنهم.
الغرب يتدخل ولكن بعد ماذا؟
عمل الجيش الصربي والشرطة الصربية على قتل المسلمين واستئصال
شأفتهم، ونقلت وكالات الأنباء ما حصل من مآسٍ تقشعر لها الأبدان حتى استيقظ
ضمير الغرب في جملة ما استيقظ فيه من أهداف فطالب في شخص (حلف الناتو)
الحكومة الصربية بإيقاف القتل للمسلمين، وعدم تهجيرهم، وسحب قواتها الضاربة
من كوسوفا؛ ولكن الرئيس الصربي رفض ذلك بدعوى أن الأمر مسألة داخلية
خاصة؛ فشن حلف الأطلسي الحرب ضده حفاظاً على مصداقية الحلف، ولتدمير
الآلة الصربية في كوسوفا وصربيا نفسها، وضرب البنية التحتية للدولة الصربية
بما فيها العاصمة (بلجراد) ومدنها الرئيسة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا قامت هذه الحرب؟ وهل هي لنصرة
المسلمين المستضعفين وتحقيق العدالة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
* الحقيقة: أن الغرب الأطلسي ومركز ثقله (الأمريكي) يرى نفسه المهيمن
على إدارة الشؤون العالمية، وأنه وحده المحتكر للتوازن الاستراتيجي العالمي،
ويرفض الخروج عن هذا الاتجاه لأي متمرد، لا سيما في منطقة نفوذه.
* إن الغرب بحاجة إلى ساحات حرب حتى ولو كانت مفتعلة؛ لتجريب آلاته
العسكرية الجديدة ولو على رؤوس الآخرين ما دامت فلسفته تقوم على أن الغاية
تسوّغ الوسيلة.
* الحيلولة دون أي تجمع جديد يعيد أسطورة (حلف وارسو) لإبقاء سياسة
القطب الواحد، لا سيما أن دعوى تجميع الصرب والسلاف في حلف واحد أمل
تدعو إليه الأحزاب نفسها، ومن ثم؛ فإن هذه الحرب الهمجية ليست في صالح
المسلمين في المنطقة؛ بل إنها ضدهم؛ والدليل على ذلك ما يلي:
إن مسلمي كوسوفا نالوا من القتل والتهجير والتدمير الصربي أكثر مما كان
قبل هذه الحرب.
لقد شُرد المسلمون وشُتت شملهم في مختلف الديار؛ مما يوحي بصعوبة
عودتهم إلى ديارهم إلا ما شاء الله.
إن هؤلاء المسلمين أصبحوا فريسة سهلة المنال لجمعيات التنصير التي
استغلت هذه المأساة، ولا سيما في تنصير الأطفال والشباب والنساء الذين عاشوا
الجوع والفزع والإرهاب.
فقد المسلمون ممتلكاتهم، واستُغلوا حتى من الدول المجاورة التي ساومتهم
على الدخول بمقابل، ولا سيما من عصابات المافيا وغيرها.
أقفلت المدارس الألبانية وبخاصة في (مقدونيا) دون غيرها، وجعلت ملاجئ
للمسلمين المشردين.
إن هذه الحرب المأساوية قد كشفت عن أبعاد خطيرة في واقعنا الإسلامي من
أهمها:
ضعف الولاء والبراء بين معظم المسلمين؛ حيث أصبح الانتصار لإخواننا
المنكوبين ضعيفاً؛ بل وجدنا من المحسوبين على الإسلام من ينتصر للصرب
النصارى ضد إخوانه المسلمين.
إن الموقف الذي وقفه السوفييت والسلاف مع إخوانهم أرثوذكسيي يوغسلافيا
أشجع وأقوى من مواقفنا مع إخواننا المسلمين. ونحن الذين قال الله فينا: [إنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ، فأين العاطفة الإسلامية؟ وأين الرابطة العقدية
بيننا؛ ونحن نرى الدعم لإخواننا أضعف من الحد الأدنى؟ !
إن الحرب الجائرة التي شُنّت ضد الجمعيات الخيرية الإسلامية في شتى
أنحاء العالم الإسلامي وغيره بدعوى أنها جمعيات إرهابية، قد ظهر لكل عاقل
منصف أنها حرب صليبية يشارك فيها أناس محسوبون على الإسلام ولا تريد لهذه
الجمعيات أن تؤدي رسالتها الدعوية والإغاثية ليفتح المجال للجمعيات التنصيرية
حتى في ديار الإسلام.
ضعف الدول الإسلامية تمثل في الموقف الانهزامي أمام الصرب، وعدم
جُرأة أكثر الدول الإسلامية على استدعاء سفير الصرب لديها ولو للاحتجاج على ما
تقوم به حكومته من جرائم في حق المسلمين!
ثم ماذا..
الحرب البلقانية دائرة بين عزم حلف الأطلسي على تأديب (ميلوسيفتش) أو
القبول بشروط الحلف وإصرار الزعيم الصربي على المقاومة واستثارة الروح
المعنوية لدى الصرب والسلاف ومحاولات توريط (روسيا) في الحرب التي لمح
الروس في البداية إلى إمكانية قيامها مما يهدد بحرب عالمية ثالثة تأكل الأخضر
واليابس.
والذي يظهر أن الحرب لن تنتهي بسهولة رغم المبادرات التي طرحت
لإيقافها وحفظ ماء وجه الطرفين، وإذا سلمنا جدلاً بأن وفاقاً دولياً قد يحصل فإن ما
بعد الحرب سيكون أكثر تعقيداً لا سيما في إعادة المسلمين إلى ديارهم، وبناء ما
دمرته الحرب، وإعطائهم الحكم الذاتي على الأقل؛ ولربما يكون الرابح الوحيد في
الحرب هو الزعيم الصربي وحده الذي جعلته الحرب بطلاً قومياً على حساب
المسلمين المغلوبين على أمرهم!
دعوة عاجلة لكل مسلم غيور:
1- في الجانب الإغاثي:
* ضرورة العمل وبكل سخاء من كل مسلم قادر لمد يد العون لصالح مسلمي
كوسوفا؛ فإعانة المنكوب وإغاثة الملهوف واجب شرعي يجب أن ينهض إليه
المسلمون بكل صدق.
* قطع الطريق على المؤسسات التنصيرية التي استغلت هذه الفرصة السانحة
لبث سمومها كالعادة.
* الدعاء لإخواننا في الصلوات وفي الأذكار بأن يمدهم الله بعونه ونصره.
2- الجانب الدعوي والتعليمي:
* تفعيل دور المدارس والملاجئ التي أقامتها المؤسسات الدعوية الإسلامية
لتقوم بدور الرعاية للمسلمين الذين شتتوا أو هجروا ظلماً وعدواناً.
* إقامة الدورات التعليمية ودورات التوجيه للمسلمين هناك؛ لإحياء العقيدة
في قلوبهم، ولتوعيتهم بدينهم وبما يخطط ضدهم من أعداء الإسلام.
* إقامة المخيمات وتوزيع الكتب والأشرطة الإسلامية بلغات إخواننا هناك
خاصة التي لها أثرها الكبير في توعيتهم وربطهم بدينهم.
* إن عناية إخوانهم بهم وحرصهم عليهم يشعرهم برابطة العقيدة التي تربطنا
بهم مما يجعلهم يشعرون بأننا إخوانهم المسلمون قلباً وقالباً.(138/72)
المسلمون والعالم
صراع بين كنيستين
الخلفية الدينية لضرب الصرب
عادل أحمد الماجد
منذ جاء (بولس) اليهودي عام 170م وما أدخله من وثنيات وفلسفات قديمة
على النصرانية، والصراعُ بين كنائس النصارى على أشده؛ فما تسكن حرب إلا
وتشتعل أخرى.
فعندما اعتنق قسطنطين (280-م 377م) إمبراطور الرومان المسيحية المحرفة
سعى إلى حمل النصارى على القول بالتثليث؛ فكان مجمع نيقية 325م الذي جمع
له قسطنطين مئات الأساقفة والكهنة ليعرض المسيحية كما حرفها بولس اليهودي؛
فأقرّ الرومان بسلطة قسطنطين وعقيدة التثليث في ذلك المؤتمر، ثم عمموها في
الآفاق؛ رغم أن الأريوسيين ذهبوا إلى أن المسيح إنسان مخلوق من العدم فنفاهم
قسطنطين) [1] .
وعاد (إريوس) واتباعه الموحدون إلى رد الوثنية والقول بالتوحيد، فعُقد
مجلس للمناظرة برعاية قسطنطين يضم أصحاب التثليث (اثناسيوس واتباعه)
وأصحاب التوحيد (إريوس وأنصاره) وانتهت المناظرة بحكم ظالم على الموحدين
وحكم على (إريوس وأنصاره) باللعنة والحرمان، وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر
بحرق كتب إريوس جميعها، ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها
القانون [2] .
بهذه الحدة كان الصراع الكنسي في قرونه الأولى، وهو يزداد جيلاً بعد جيل؛ فها هو أسقف الكنيسة القسطنطينية (فوسيوس) في بداية القرن التاسع الميلادي
يعلن تمرده على بابا روما ويخالفه في السيادة بل واعتقاد ألوهية المسيح الذاتية،
وعزل على أثرها (فوسيوس) ولكنه عاد إلى منصبه عام 879 م ليعلن انفصال
كنيسة القسطنطينية عن كنيسة روما، وتبدأ عندها الحرب الضروس بين الكنيسة
الشرقية (الأرثوذكس) والكنيسة الغربية (الكاثوليك) وكل منهما لا تعترف
بالأخرى [3] .
وخلال الفتح الإسلامي كانت القرى الأرثوذكسية تنضم إلى الجيوش الإسلامية
نكاية بالكاثوليك الذين أذاقوا الأرثوذكس ويلات العذاب، وتم فتح الشام بالحرب
والقتال، بينما تم فتح مصر بسلاسة عجيبة؛ لأن أقباط مصر كانوا واقعين تحت
ظلم الكاثوليك حتى أعلنت الكنيسة المصرية انفصالها عن كنيسة روما.
ولما جمعت أوروبا الغربية (ذات الجمهور الكاثوليكي) قواها لغزو الأرض
الإسلامية فيما يُعرف بالحروب الصليبية لم تساندها الكنيسة الشرقية، وتكرر الغزو
دون أثر للأرثوذكس؛ لأن الكنيستين كلاً منهما تكفر الأخرى ولا يشعر أي منهما
بالانتماء للآخر.
ومن يقرأ تاريخ أوروبا الحديث يدرك أن التحالفات الأوروبية والحروب تتم
وفق المذاهب الدينية؛ ومن أمثلة هذه الحروب (حرب القرم) التي يقول عنها مؤلف
كتاب: (تاريخ أوروبا في العصر الحديث) (فيشر) : قامت حرب القرم نتيجة نزاع
شجر بين رهبان الكنيستين: الأرثوذكسية والكاثوليكية في: أيهم أحق بحراسة
بعض الأماكن المقدسة المسيحية في بيت المقدس. وكان قيصر روسيا يعاضد
تعضيداً قوياً المطالب الأرثوذكيسية [4] ، وذلك في عام 1854م.
وعن موقف فرنسا قال: (وقفت فرنسا في هذه الحرب في صف إنجلترا تشد
من أزر تركيا) [5] .
وحاول ملك النمسا العظمى أن يجمع المذاهب تحت قبة برلمان واحد؛ ولكن
لم يطب لأهل ألصتر (الأرثوذكسية) أن يجلسوا في برلمان قومي أغلبيته لأهل
الجنوب الكاثوليك [6] .
بل إن التيارات المعاصرة رغم ما تحمله من إلحاد وكفر بالكنيسة من نظرية
داروين إلى فلسفات هيغل ونظريات ماركس وغيرها من الوجودية والحداثة
وعشرات النظريات لم تستطع أن تصهر الكنيستين، وظل الأرثوذكسي أرثوذكسياً
والكاثوليكي كاثوليكياً.
في عام 1917م جاء الشيوعيون ليوسعوا الاتحاد السوفييتي على أنقاض
القيصرية الروسية؛ فجاؤوا بإنكار الأديان؛ بل رفعوا شعار: (الدين أفيون
الشعوب) ! ! ومنعوا حتى الاعتقادات الشخصية والعبادات العملية، وقامت تبعاً
لذلك انقلابات شيوعية في كثير من دول العالم لا سيما دول أوروبا الشرقية؛ فهل
انتهى الصراع الكنسي المرير؟ !
لا؛ لم ينته! حتى أولئك القادة الشيوعيون الحمر في موسكو لم ينسوا أنهم
أرثوذكس عليهم أن يقوموا بواجب الحماية لشعوبهم الأرثوذكسية! ! ففي الخمسينات
الميلادية حدث في دولتين شيوعيتين تمرد على المرجعية في موسكو: الأولى في
يوغسلافيا من القائد (تيتو) حتى صار (تيتو) من قادة حركة عدم الانحياز، فاخذت
موسكو موقفاً مسالماً لهذه الفعلة، وبارك الغرب أيضاً هذا التمرد رغم جبروت
(تيتو) وقتله لآلاف المسلمين وفرض التغيير حتى في الأسماء التي ترمز للإسلام،
ولم نرَ إنكاراً ولا تدخلاً ولا صواريخ كروز!
وبعد ذلك بعامين تشجع (إيمري ناج) قائد المجر الشيوعي على الاستقلال عن
موسكو؛ ولكن ولحظه السيئ اقتحمت القوات الروسية المجر في ست ساعات، قُتل
على أثرها آلاف المجريين وأعدم عشرات العسكريين.
أما لماذا تغير الموقف من البلدين في موسكو؟ فالسبب بسيط جداً وهو أن
أغلب اليوغسلاف أرثوذكس بينما المجر دولة من (الكاثوليك) . ويتكرر التمرد في
الستينات، ويتمرد (نيكولاي تشاوشيسكو) زعيم رومانيا القوي على موسكو، فلا
أثر لمدرعات وطائرات موسكو.. فرومانيا دولة (الإخوة الأرثوذكس) بينما لم يمر
تمرد (دوبتشك) في تشيكوسلوفاكيا الكاثوليك بسلام، واستيقظ الناس على خبر
دخول القوات الروسية إلى تشيكوسلوفاكيا بالدبابات التي نقلت جوياً لتسحق الناس
العزل تحت المجنزرات. ولم ينس العالم ربيع براغ 1968م.
إن عشرات القرون من الصراع لا تخمده النظريات الجديدة ولا الاعتقادات
حتى ولو رفعت الشعارات وتغيرت البيانات.
وقد دعم الغرب أمريكا وبريطانيا وألمانيا وهي دول ليست كاثولوكية دعموا
المجاهدين الأفغان لإنهاك الاتحاد السوفييتي، وبذلت المخابرات الغربية كل جهد
للإجهاز على الدب الروسي المترنح بعد أن أُنهك اقتصادياً بحرب النجوم
والصواريخ طويلة وقصيرة المدى في أوروبا، وبعد سقوطه أذاقه الغرب مرارة
الذل بعد أن صارع الجوع سنين عديدة، وكان على الغرب أن يبدأ بمدد إغاثي
للشعب؛ لأن الحزب الشيوعي العنيد سقط، ولأن روسيا اتخذت النظام الغربي:
حيث فتحت السوق، وخصصت القطاعات الحكومية، وأقرت الملكية الفردية،
وانتقلت من الحزب المركزي إلى الانتخابات والأحزاب، وأوقع الغرب روسيا في
دوامة الديون والعصابات والمافيا.
وبقي الحصن الأخير القوي (الصرب) في يوغسلافيا، تلك الأمة التي آثرت
الحياة في عباءة الإسلام قروناً مؤثرةً عدل المسلمين على ظلم الكاثوليك، بل شارك
الآلاف من الصرب في جيوش الدولة العثمانية ضد الغرب كما في الحرب ضد
مملكة النمسا، والحرب العالمية الأولى.
وسنحت الفرصة الآن لضرب هذا المعقل بعد أن تحققت أمور عدة:
1- ضعف روسيا وعجزها عن أي مساندة للصرب.
2- انفصال كرواتيا واستوانيا الكاثولوكيتين عن يوغسلافيا.
3- انفصال البوسنة والهرسك عن يوغسلافيا لضمان أن الصرب سيقاتلون
على جبهة واحدة هي كوسوفا.
وكان للمخابرات الأمريكية دور كبير في تأخير ثورة الألبان في كوسوفا عن
انتفاضة مسلمي البوسنة؛ وذلك لترتيب المنطقة لضرب الصرب دون أن يكسب
المسلمون شيئاً. وقد كان من المنطق والحنكة السياسية أن يثور الألبان في بداية
التسعينات الميلادية تزامناً مع إخوانهم في البوسنة لتحقيق المصالح الآتية:
1- فتح جبهة جديدة على الصرب مما يصعّب عليهم المهمة في كلا الجبهتين.
2- حصول الألبان على حل قضيتهم متزامناً مع حل مشكلة كرواتيا والبوسنة
مما يعطيها دعماً سياسياً وعالمياً.
3- استغلال حكم (صالح بريتشا) لألبانيا المجاورة لجعلها باكستان أخرى
لأفغانستان جديدة بدل انتظار انتصار الحزب الاشتراكي الألباني (الموالي للصرب)
بعد الأحداث الدامية.
ولكن المخابرات الغربية والأمريكية بوجه خاص أرادت ضرب عدوين في آن
واحد؛ فكيف لهذه الحرب أن تقر استقلالاً للألبان وهي التي قالت بعبارة صريحة:
لا لاستقلال كوسوفا.. ولا للاتحاد مع ألبانيا، ولكن حكم ذاتي موسّع. وهل سيقف
الصرب مكتوفي الأيدي والحلفاء يُسقِطون عليهم أطناناً من المتفجرات؟ لا شك أنهم
سينتقمون أشد الانتقام، ولا أظن أن الوضع في كوسوفا سابقاً أسوأ من الوضع الآن، وسنوات الظلم السابقة ستأتي سنوات أشد منها إظلاماً وظلماً بسبب السير وراء
كلمات الغرب المعسولة عن الحرية والكرامة!
ويتضح الجانب الديني أكثر في ضرب الصرب من خلال الاطلاع على
مواقف بقية دول العالم النصراني من الضربة الأطلسية؛ فاليونان وروسيا ورومانيا
ضد هذه الضربات؛ وكلها شعوب أرثوذكسية؛ بينما تقف الدول الكاثولوكية ومن
ورائها البروتستانت موقفاً مؤيداً لهذه الضربات.
فهل ما يحدث الآن هو مقدمة لفترة من التنافس الاستعماري بين جناحي
النصرانية؟ ومما يؤسف له أن المسلمين هم مادة هذا التنافس وضحيته.
ولو كانت قضية الغرب هي الظلم فقط؛ فإن الشعوب والأقليات المظلومة
كثيرة، ولا سيما المسلمون الذين يسحقون في دول عدة: في بورما، وفي ليبيريا،
وفي الفلبين، وفي كشمير، وفي فلسطين وغيرها؛ فأين الأمم المتحدة؟ وأين
أمينها العام؟ وأين حلف شمال الأطلسي؟ وأين (بي 52) وصواريخ كروز
وطائرات الشبح؟ !
__________
(1) الأصولية الإنجيلية، صالح عبد الله الهذلول، ص 43.
(2) قصة الحضارة، دول ديورانت، 11/396، والنصرانية من التوحيد إلى التثليث، د / محمد أحمد الحاج، ص 18.
(3) محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، ص 178 بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 219.
(5) المرجع السابق، ص 222.
(6) تاريخ أوروبا الحديث، ص 363، لفيشر.(138/76)
جنوب السودان
بين خياري الوحدة والانفصال
يوناس بول دي منيال
الأمين العالم للرابطة الإسلامية لجنوب السودان
يظن كثير من الناس أن جنوب السودان تغلب فيه الطوائف النصرانية منذ
القدم، وهذا ظن خاطئ؛ فالجنوب السوداني لم تكن فيه حتى العام 1898م ديانات
إلا الإسلام والوثنية، وهذا التاريخ هو تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر والسودان
الذي جاء بعد النهاية المأساوية للثورة المهدية في (كررى وأم دبيكرات) .
فالجنوب لم يشهد حركة تبشيرية منظمة قبل الاحتلال الإنجليزي والوجود
المصري، وكذلك لم يشهد حركة دعوية نشطة قبل أو بعد الاحتلال، على الرغم
من أنه كان هناك أفراد من بعض القبائل الرئيسة الجنوبية قد اعتنقوا الإسلام،
وخاصة أثناء الحركة المهدية، وكثير من هؤلاء أكرهوا على الإسلام في الحقيقة،
وكان لذلك أثره على نظرة مواطن الجنوب للإسلام؛ حيث ارتبط في أذهانهم بعنف
الثورة المهدية، وارتبط كذلك بحملات الرق التي حفرتها في ذاكرتهم الخلفيات
التاريخية.
دور الغرب في مشكلة جنوب السودان:
لقد خضع السودان لحكم ثنائي بين مصر وإنجلترا بعد الاحتلال، وثُبّت هذا
الوضع بتوقيع اتفاقية بين البلدين بواسطة المندوب البريطاني (اللورد كرومر) ،
ووزير الخارجية المصري آنذاك بطرس غالي (الجد) ، وقد وُقّعتْ تلك الاتفاقية في
يناير 1899م، وبعدها شرع الإنجليز في بذر بذور الفتنة في السودان بممارسة
سياسة، (فرّق تسد) التي بمقتضاها تم تقسيم السودان إلى مناطق إدارية منعزلة
بعضها عن بعض، بما في ذلك الجنوب. فلما بدأ القرن العشرون، (1900م) بدأ
المستعمر في رسم سياسات خاصة بالجنوب، كانت مدعاة لإثارة الريبة؛ فقد فتحت
الأبواب على مصاريعها أمام حركات التنصير الأجنبية التي تمثلها جمعيات من
أوروبا وأمريكا، وبرز ذلك جيداً في العام 1902م، ولكن هناك مشكلة نشأت بعد
الممارسات التنصيرية في أنحاء الجنوب السوداني الواسع، وتلك المشكلة هي
الاختلافات بين توجهات تلك الجمعيات التي تديرها كنائس متنافسة، وأحياناً
متنازعة. ولحل تلك المشكلة قسم المستعمر أرض الجنوب إلى مناطق نفوذ بين تلك
الجمعيات أو بين تلك الكنائس، وقد زادت هذه الأحوال أوضاع الجنوب سوءاً؛ إذ
إنها كرست التفكك والتشرذم بين أبناء الجنوب، بل بين أبناء القبيلة الواحدة؛ حيث
كانت القبيلة الواحدة كثيراً ما تتنازعها حركات وجمعيات شتى، حتى إن البطن من
القبيلة كان يمكن أن تقسم الوصاية عليه بين كنيستين! فمثلاً: قبيلة (الشلك) أسند
بعضها إلى إشراف كنائس الكاثوليك، بينما أسند البعض الآخر إلى كنائس
البروتستانت. ولا شك أن الجنوبيين كانوا في حاجة شديدة إلى النشاط التنصيري،
لا لقناعتهم بجدارة الشرك الصليبي في أن يحل محل الشرك الوثني، ولكن
لافتقارهم الشديد إلى ما تقدمه تلك الحركات التنصيرية من خدمات تعليمية وصحية
واجتماعية. يضاف إلى هذا أن الحكومة البريطانية كانت تدعم تلك الحركات بالمال
والحماية الأمنية. وباختصار، وبعبارة أخرى: كان الوثنيون الجنوبيون يدخلون
النصرانية لا على أنها بوابة للآخرة، ولكن على أنها نافذة إلى الدنيا التي كانوا
يعانون الحرمان من أبسط مظاهرها.
وماذا عن المسلمين؟
لقد كان في الجنوب مسلمون كما سبق أن قلنا ولكن هؤلاء امتنعوا عن قبول
عطايا المنصرين؛ لأنهم كانوا يعلمون بأنها مشروطة بشرط باهظ؛ وهو: التنصّر!
لهذا أحجم المسلمون حتى عن إدخال أبنائهم المدارس التنصيرية، ومن ثم
تفشت الأمية في أوساطهم، ومَنْ قَبِلَ منهم أن يستفيد من خدمات المنصرين؛ كان
أمره يؤول في النهاية إلى الانسلاخ عن الإسلام، أو الذوبان في شخصية الأعداء،
وكان من مصلحة المستعمر أيضاً أن يرسخ القبلية، حتى تكون عائقاً أمام قبول
الإسلام، وقد خطا المستعمرون في سبيل ذلك الكثير من الخطا الماكرة التي كانت
تصوغ الحاضر لصالح حفظ المستقبل ... وهذا المستقبل هو حاضر السودان الآن!
ومن تلك الخطوات الماكرة: تشجيع وترسيخ العادات القبلية، وخاصة
التحاكم إلى أعراف القبيلة دون غيرها، وتشجيع اللغات واللهجات القبلية لقطع
الطريق أمام انتشار اللغة العربية، وفي الوقت نفسه كانت سلطات الاحتلال تبذل
جهودها في سبيل تشجيع اللغة الإنجليزية في موازاة محاربة وتشويه كل ما يمت
إلى العربية والعروبة بصلة، سواء كان بالهجوم على اللغة العربية تارة، أو الزي
العربي، والعادات العربية تارة أخرى. كل هذا فضلاً عن الهجوم على الإسلام
الذي حرصوا على أن يصوروه على أنه دين عربي!
وقد عمّق كل هذا الشعور بين الجنوبيين بالنفور من أي شيء يأتي من جهة
العرب، فما الحال إذا كان هذا الآتي هو الدين والعقيدة؟ !
لقد عملوا أيضاً على إخلاء الجنوب من العناصر الشمالية المسلمة، ولو كانت
غير عربية، فمسلمو غرب إفريقيا مثلاً؛ لم يكن يسمح لهم بالبقاء في الجنوب
السوداني، في الوقت الذي كان المستعمر يشجع بقاء اليونانيين والنصارى
السوريين وغيرهم، حتى الأعمال التجارية؛ كان الإنجليز يضيّقون فيها على
التجار المسلمين، حتى لا يتأثر الوثنيون بمعاملتهم فيدخلوا في الإسلام. والأعجب
من هذا وذاك، أنه حتى الكنائس التي كانت لها صلة باللغة العربية مثل الكنيسة
الشرقية والقبطية كانوا لا يسمحون لها بأن تزاول نشاطاً في الجنوب. ولهذا فإن
مثل تلك الكنائس التي تدعو إلى النصرانية باللغة العربية لا يُرى لها وجود في
الجنوب السوداني إلى اليوم، في حين أن لها نشاطاً في المناطق الشمالية.
ولم يكن هدف المستعمر الإنجليزي من وراء تلك الخطوات محاربة الإسلام
والعروبة فقط، بل كان يهدف أيضاً إلى فصل الجنوب؛ ليكون تابعاً لمستعمراته
الأخرى في شرق إفريقيا، وخاصة يوغندا وكينيا، لتضمن تلك المناطق مجتمعة
لإنجلترا مخزوناً استراتيجياً للموارد الطبيعية؛ ولكن ذلك الهدف الأخير لم ينجح،
وتعرقل المشروع الإنجليزي المتطلع إلى اقتطاع مستعمرة كبرى من إفريقيا خاضعة
له بشكل مباشر.
وبرزت مظاهر هذا الإخفاق في تفاقم ظهور المشكلة بين الشمال المنتمي إلى
الإسلام والعروبة، وبين الجنوب الزنجي الباحث عن هوية بديلة للوثنية. لقد أوجد
المستعمر الفجوات ووسعها بين الشمال والجنوب، وانتجت سياساته ثقافة تقوم على
المضادة بينهما، والمضادة بين الإسلام والمسيحية، والعروبة ضد الإفريقية. وظل
الأمر على هذا في ظل تسلط الكنائس المتباينة، ومع استمرار تلك الفرقة والشقاق،
نشأ صراع بين الجنوب والشمال، ليس بسبب الاختلاف في الدين فحسب؛ ولكن
بسبب الاختلاف العرقي الذي أزكى المستعمرون ناره، حتى لم يكن الشعور بالنفور
مقصوراً على المنصّرين أو الوثنيين، بل تعمقت الجروح عند المسلمين الجنوبيين
أنفسهم، وتفجرت أحداث دامية في الجنوب عام 1955م أي قبل الاستقلال
بتحريض من الكنائس ووجدت حركة تمرد شديدة، واللافت للنظر هنا أن القيادات
السياسية لهذا التمرد كانوا من المسلمين الجنوبيين، وليسوا من النصارى!
واختارت الحكومة في عهد الفريق عبود الحسم العسكري سبيلاً للتخلص من
التمرد دون أن تتفهم دوافعه الحقيقية، مما زاد المشكلة تعقيداً وعمقاً، وجردت
حملات عسكرية إلى الجنوب، كان العسكر لا يفرقون فيها بين المواطن المسالم
والمتمرد، مما اضطر الكثيرين للانضمام لقوى التمرد، ليس على سبيل القناعة بها، ولكن هرباً ودفاعاً عن النفس والممتلكات. وهاجر كثير من الجنوبيين إلى دول
الجوار. واستغلت الكنائس الأجنبية التنصيرية الفرصة فنظمت معسكرات لمن
أدخلتهم في النصرانية، وأخذت تعد شرائح من المتمردين إعداداً قوياً، بإلحاق
عناصر منهم بالمدارس والجامعات، وإعداد عناصر أخرى إعداداً عسكرياً، وعندما
شعر أرباب الكنائس أن الأمور تسير حسب مرئياتهم، سعوا إلى إبرام اتفاقية بشأن
الجنوب، وهي اتفاقية (أديس أبابا) عام 1972م التي أبرمت تحت رعاية
إمبراطور إثيوبيا السابق (هيلاسلاسي) . وكانت أطراف الاتفاقية هي: مجلس
الكنائس العالمي، ومجلس كنائس إفريقيا، ومجلس الكنائس السوداني، ولم تحضر
أي جهة إسلامية!
لقد تطور الأمر بعد ذلك عبر سنوات طويلة، حتى آل إلى الحال الراهنة
التي يقف فيها الجنوب الزنجي المُنصّر مقاتلاً ضد الشمال العربي الإسلامي،
وتشكل ما يُسمى بالجيش الشعبي لتحرير السودان، وسعى الغرب من خلال وسائله
المتعددة لدعم حركة التمرد بالمال والعتاد والتدريب والمعلومات بصورة مباشرة،
وسخرت عواصم بعض الدول وكذلك التجمعات الإقليمية لعمل سيناريوهات لسلام
مزعوم، وتم إقناع النيجيريين بدخول (لعبة السلام) وأجريت عملية دعاية إعلامية
دولية مجانية لإبراز قضية الجنوب، والمناداة بدولة مستقلة عاصمتها (جوبا) وعقد
الاجتماعات والمؤتمرات في أكثر العواصم الإفريقية بخصوص تلك القضية؛
لإعطائها دفعاً واستمراراً من القوى الصليبية في العالم، ولا ننسى هنا زيارة (البابا)
يوحنا بولس الثاني، الذي قام بزيارة إلى السودان، وقد حث فيها الجنوبيين على
الثبات في طلب الحرية!
لقد ألقى الغرب بثقله، وعلى مستوى عالٍ جداً في القضية، حتى إن رئيساً
سابقاً لأكبر دولة في العالم وهو الرئيس الأسبق (جيمي كارتر) قام بزيارة خاصة
للسودان من أجل بحث موضوع الجنوب، وتكررت الزيارات من المسؤولين
الغربيين، وكان آخرها الزيارة التي قامت بها (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية
الأمريكية لدول جوار جنوب السودان.
ولا تستهدف هذه التحركات النشطة والمستمرة، سوى زعزعة استقرار
الإسلام في السودان كله، وليس في الجنوب فحسب. إنهم يتحركون بدعوى حماية
النصارى في الجنوب، مع أن الإحصاءات الكنسية نفسها تقول إن 17% فقط من
السكان من النصارى في حين أن نسبة المسلمين تصل 18%، أما البقية (65%)
فهم لا يزالون وثنيين على حسب إحصاءات عام 1982م.
دور الحكومات السودانية المتعاقبة في مشكلة السودان:
كان جيش الاحتلال البريطاني جسماً غريباً عن السودان، غريباً بلغته وثقافته
وفكره وسياساته ومنهاجه في الحكم، وبهذه الغرابة فرض على المجتمع السوداني
سياسات ومرئيات لا تراعي طبيعة هذا المجتمع وتكويناته.
وقد اجتمعت الأسباب لدى الشعب السوداني كله لمقاومة هذا الاحتلال، حتى
تم ذلك بإنهائه وإعلان الاستقلال عام 1956م.
لكن المؤسف حقاً، أن أغلب الحكومات المسماة بالوطنية، منذ الاستقلال،
قامت بالدور الذي كان يقوم به الاستعمار؛ فبعد خروجه انتهجت تلك الحكومات
سياسته نفسها، وحاولت فرض وجهات نظرها ومشاريعها بالقوة على جنوب البلاد، دونما اعتبار لواقع التنوع العرقي والقبلي، وكانت سياسة فرض العروبة والإسلام
مثالاً صارخاً على التعسف في الإصلاح. لا شك أنه كانت هناك جهود إصلاحية،
ولكن سياسات التحيز كانت تفسد ثمرة تلك الإصلاحات، والسبب في ذلك أن النخبة
الحاكمة في السودان كانت تنتمي على الدوام إلى مناطق بعينها خاصة من الشمال
فكان الجنوبيون ينظرون إليهم على أنهم متعالون مستكبرون. وانبنى على ذلك
شعور مستقر لديهم بأن الإسلام دين للعرب، ودين يفرض بالقوة، وأنه حتى
المسلمون الجنوبيون ما هم إلا عملاء لهؤلاء العرب والمسلمين الشماليين.
ولم تكن السياسات الخرقاء مع الجنوب حكراً على الجوانب الدينية
والاجتماعية؛ بل امتدت إلى الجوانب الاقتصادية؛ فالنخبة الحاكمة في السودان
ظلت حريصة على السيطرة على مقدرات البلاد الاقتصادية؛ بحيث لا تسمح لأحد
من الجنوبيين بالشراكة في المسؤولية الاقتصادية مهما كانت كفاءته العلمية والعملية؛ وحتى لو كان من المسلمين.
أما المؤسسات السيادية في الدولة، مثل وزارات الخارجية والدفاع وقيادة
الجيش.. إلخ، فكلها حكر على الشماليين، وهم وإن كانوا يسمحون بتبادل
المشاركة في إدارة الولايات بين أبناء الجنوب والشمال على مستوى المحافظين فإن
مناصب وزارة الاقتصاد ووزارة المالية، لا يمكن أن تخرج عن المنتمين إلى أبناء
الشمال، ومما يذكر أيضاً على سبيل الأسى والأسف أن النخب الحاكمة في
الخرطوم، كانت طوال تاريخ السودان الحديث لا تعرف مفهوماً للعدالة ولا تطبيقاً
لشعاراتها، فقط كانت الشعارات للاستهلاك المحلي والدعاية.
لقد كان الظلم والجور هو سيد الموقف في الغالب الأعم من تصرفات
الشماليين تجاه الجنوبيين بدوافع عنصرية، مما أدى في النهاية إلى تجذر
الاختلافات وتشعبها، حتى ازدادت هذه الظاهرة وتضاعفت، خاصة بعد النمو
المطرد في المستوى الثقافي والفكري والسياسي في المجتمع السوداني، بما أصبح
معه السكوت على ذلك الغبن من الأمور المستحيلة.
الجنوبيون بين خياري الوحدة والانفصال:
لا تعدو الوحدة القائمة الآن بين شطري السودان أن تكون وحدة جغرافية
سياسية، أما الوحدة بمعنى الالتحام والتكامل، فإنها لم تر النور بعد، وإن كان
المستقبل يبشر بقيامها، خاصة بعد زوال كثير من العقبات.
إلا أن هناك عقبة كؤوداً لا زالت تحول بين السودانيين وبين تحقق حُلم
الوحدة بمعناها المقبول، وهذه العقبة هي العقلية التي لا تزال تتحكم في سياسات
البلاد. قد يستغرب بعض الناس إذا قلنا إن هناك تياراً قوياً داخل الحكومة الحالية
يؤيد الانفصال، ولا نذيع سراً إذا قلنا إن هناك رموزاً بارزة أصبحت تدعو الآن
علناً إلى الانفصال، بل وتفاوض على ذلك! وهي تتفق مع أصحاب دعوات
الانفصال في الجنوب من حيث المبدأ، وإن كانت تختلف في الحدود الفاصلة بين
شطري سودان المستقبل!
إن هؤلاء يسوّغون دعوتهم بأن تكاليف الوحدة أو بالأحرى الحرب من أجل
الوحدة باهظة، وكذلك السلام بما يترتب عليه من مسؤوليات أو برامج باهظة
التكاليف أيضاً. وعلى هذا فالحل الوحيد في نظرهم هو الانفصال؛ لأن النزاع
سيظل قائماً ومستمراً بسبب الاختلاف على الأراضي والحدود.
إن هؤلاء الداعين إلى الانفصال في دهاليز الحكم السوداني القائم، يتناسون
أن الانفصال سيكون في صالح من يعملون لإقامة دولة في الجنوب فقط؛ فلهم
وحدهم ستكون الثمرة، ولن يحدث ما يراهن عليه الواهمون من أن حرباً أهلية
ستقوم بين قبائل الجنوب؛ فدعاة الانفصال في الشمال يتجاهلون أن وراء الجنوبيين
الانفصاليين من يعمل لتنظيم وتوحيد جهودهم على أسس عنصرية ضد الشمال.
لكننا نقول: إنه وعلى رغم المرارات التاريخية والمعاصرة التي عاناها
السودانيون الجنوبيون، فليس من مصلحة الشمال ولا الجنوب الانفصال، بل
الواجب درس معادلة للتعايش والتعاون والتكامل. والبداية لا بد أن تأتي من النخبة
الحاكمة؛ فهي مطالبة بتغيير نظرتها للجنوبيين حتى لا تتهدد وحدة السودان؛ فهذه
الوحدة ظلت مهددة منذ الاستقلال وحتى اليوم، ولا ينبغي الاتكال على الادعاء بأن
هذه الوحدة قائمة؛ لأنها في الحقيقة ليست قائمة إلا على مفهوم الأرض، وهذا ليس
كافياً، بل لا بد من سعي السودانيين جميعاً لإكمال الوحدة الحقيقية من خلال برنامج
حكم اتحادي يتفق عليه جميع أهل السودان دون وصاية أو تدخل من قبل نخبة
معينة؛ فهذا أفضل ضمان مستقبلي للصيغة الحضارية التي ندعو إليها في سودان
المستقبل.
والله الموفق(138/80)
حمَّى سنة 2000
الحلقة الخامسة
ألفية بيت لحم
أضخم تجمع نصراني ... ماذا وراءه؟ !
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة.
- البيان-
حلول الألفية الثالثة بعد شهور؛ مستجد تاريخي كبير، يتحسب له سكان
الأرض بعامة، ولكن المعنيين به بوجه خاص هم النصارى، وهم أكثر أهل
الأرض اليوم من أصحاب الديانات السماوية (مليار ونصف) فالألفية مقترنة بالمسيح
وهو نبيهم المرسل إليهم، وإذا كان قد قدم مُرسلاً منذ ألفي عام، فإن النصارى
ينتظرون ألفاً أخرى يعيشون فيها في كنفه وتحت قيادته لدى مقدمه الثاني؛ فالألفية
ليست ذكرى ميلاد فقط، وليست خصوصية زمان فحسب، بل هي بوابة عبور إلى
مرحلة جديدة لعصر جديد تعتقد طوائف من النصارى: أن الأرض كلها ستخضع
فيه لدين المسيح.
ولكن المسيح العائد؛ لن يعود إلى روما أو واشنطن أو باريس، إنه سيعود
إلى الأرض التي في أحضانها وُلد، وفي رباها تربى، وفي مناكبها سعى ودعا.
إنها القُدس، فكم تساوي القدس لدى النصارى؟ وماذا تعني عندهم أرض المهد
والعهد واللحد [1] ؟ ! إنها تعني الكثير.
إن أتباع عيسى ظلوا ينظرون تاريخياً إلى اليهود على أنهم أعداء المسيح،
المنكرون لدعوته والساعون في أذاه، واعتبر النصارى أنفسهم أوْلى برسالة موسى
التي جاء عيسى مصدقاً بها ومتمماً لها، وآلت إليهم بمقتضى ذلك المقدساتُ التي
دعت التوراة والإنجيل إلى تقديسها، أما اليهود فلم يعترفوا لهم بذلك بل كفّروهم كما
كفّر النصارى اليهود. [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ] [البقرة: 113] .
وما يعنينا هنا، أنه نشأ ارتباط وجداني وعقدي بالأرض المقدسة عند
النصارى، جعلهم ينظرون إليها على أنها إرث المسيح لأتباعه، بعد أن دنسها
اليهود وتسببوا في هدم هيكلها بإفسادهم مرتين كما دلت على ذلك سورة الإسراء.
بل إن النصارى رفضوا أن يُطلق على القدس (صهيون اليهودية) بل أسموها
مدينة العهد الجديد، واعتبروها (الوطن المقدس) الذي ورّثه المسيح لهم،
واستودعهم إياه حتى يعود ثانية.
وقد برهنوا تاريخياً على هذا الارتباط عبر عشرين قرناً مضت، اختلفوا
خلالها في كل شيء حتى في ذات الإله ولكنهم لم يختلفوا على تقديس بيت المقدس
خاصة مدينة (بيت لحم) التي فيها ولد المسيح، و (الناصرة) التي فيها ترعرع،
ومكان قبره المزعوم في القدس.
تاريخ من الضلال:
كان من المفترض أن يسارع أتباع عيسى للدخول في دين النبي الذي بشر
به عيسى تعظيماً واتباعاً لعيسى نفسه فيسلموا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة كما طالبوا هم اليهود بذلك لعيسى، ولكنهم آثروا العناد فوقعوا في الضلال، وبسبب ضلالهم هذا فإنهم لم يعترفوا بأن المقدسات التي ورّثت لهم قد أورثها الله لقوم آخرين كانوا أحق بالحق منهم، ولم يعوا هذه السنة الإلهية التي سطرت في الكتب ونزل بها الوحي الخاتم على لسان موسى: [إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [الأعراف: 128] ، ولهذا؛ فقد ناطحوا الأمة الخاتمة في أرض بيت المقدس وما حوله منذ وقت مبكر من عمر الإسلام، بدءاً من غزوة مؤتة وتبوك في عصر الرسالة، ومروراً بعصر الخلفاء الراشدين في أجنادين واليرموك، وصعوداً إلى عصور الخلافة المتوالية، وخاصة في زمان الحروب الصليبية التي أثبتت أحداثها العظام أن القدس كانت هدفها الأول والأخير، وانتهاء بما حدث في احتلال فرنسا لمدينة دمشق حيث وقف الجنرال اللّنبي على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: (ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!) .
ولكن الحروب الصليبية كانت أبرز المعالم التاريخية الدالة على مركزية
القدس في معتقد النصارى. نعم! فلأجل تلك المدينة خاضوا حروباً متواصلة تحت
راية الصليب؛ لاستعادة القدس من أيدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا
الصدام من أكبر الحروب في التاريخ كله؛ إذ استهدف توحيد أوروبا دينياً تحت
زعامة البابوات، وتشكيل تحالف من كل عروش أوروبا للوقوف في وجه المسلمين
في عُقر ديارهم. وقد بدأت تلك الحروب في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي
عشر الميلادي، واستمرت حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أرسل
الغرب خلالها أكثر من خمس عشرة حملة صليبية كبيرة إلى بلاد المسلمين،
واشتركت فيها كل أوروبا النصرانية، ونجح الصليبيون خلالها في الاستيلاء على
بيت المقدس وأقاموا مملكة فيها وسيطروا على المسجد الأقصى ورفعوا الصلبان
على مآذنه نحو ثمانين سنة، ولم تخمد تلك الحروب إلا بعد أن تأكد للغرب، أن
استمرار السيطرة على الأرض المقدسة أمر مستحيل في أرض محفوفة بالمسلمين
من كل جانب.
ثم طوى الزمان عبر قرون ممتدة أحلام أهل الصليب في التمكين للوثنية
النصرانية في الأرض المقدسة، وانكفأت أوروبا في شواغلها وصراعاتها حتى جاء
القرن السادس عشر الميلادي.
انقلاب جديد في النصرانية:
حدث هذا الانقلاب في القرن السادس عشر باسم الإصلاح والتجديد في الديانة
النصرانية وعرف بـ (الحركة البروتستانتية) ، وغيّر هذا الانقلاب معالم الديانة
النصرانية الدائمة التغيّر ولكن التغيير جاء هذه المرة لصالح اليهود، وكانت إطاحة
هذه الحركة البروتستانتية بحق الكنيسة في احتكار تفسير الكتاب (المقدس) مفتاحاً
للولوج إلى التفسيرات الحرفية للنصوص التوراتية فيما يتعلق باليهود، بل بدأت
النصرانية تُخترق بالمفاهيم اليهودية وتختلط بها بعد أن ضم البروتستانت التوراة
إلى جانب الإنجيل مصدراً أولياً وحرفياً للتلقي، خلافاً لما كان عليه الأمر خلال
خمسة عشر قرناً خلت من عمر الديانة.
ولم يأت القرن السابع عشر، حتى ظهرت نظرة غربية جديدة لليهود أعداء
الأمس فقد دعا الحرفيون البروتستانت إلى ضرورة احتضان اليهود والتمكين لهم في
العودة إلى الأرض المقدسة، على اعتبار أن مساعدتهم في ذلك سوف يعجل بمجيء
المسيح عيسى ابن مريم إلى الأرض مرة أخرى؛ فالتفسيرات الحرفية للتوراة
والإنجيل بعيداً عن تأويلات الكنيسة أظهرت لهم أن خلاصة اليهود سوف يدخلون
في ديانة المسيح عندما يعود، وبقيتهم من غير المؤمنين به سوف يقتلون مع باقي
أعداء المسيح، أما أتباع المسيح من النصارى ومن يلحق بديانتهم فسوف يعيشون
مع المسيح في القدس مدة ألف عام قبل يوم القيامة، جاء في الإنجيل في سفر رؤيا
يوحنا: (ها أنا آتي سريعاً، تمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد إكليلك، من يغلب
فسأجعله عموداً في هيكل الله، ولا يعود يخرج إلى خارج، واكتب عليه اسم إلهي
واسم مدينة إلهي: أورشليم الجديدة) [2] وجاء فيه: (مبارك ومقدس من له نصيب
في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله
والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة، ثم متى تمت الألف سنة، يُحل الشيطان من
سجنه) [3] يعني يرتفع السلام عن الأرض، ويعود الشيطان للإفساد بين البشر.
أما عن إيمان أعداد من اليهود بالمسيح عند مقدمه الثاني فيقول الإنجيل
المتداول: (نادى الله الحي بصوت عظيم إلى الملائكة الأربعة الذين أعطوا أن
يضروا الأرض والبحر قائلاً: لا تضروا الأرض ولا البحر ولا الأشجار حتى
تختم عبيد الإله على جباههم، وسمعت عدد المختومين مئة وأربعة وأربعين ألفاً
مختومين من كل سبط بني إسرائيل) [4] .
إذن فالعودة حسب هذه العقيدة النصرانية ستكون في (أورشليم الجديدة) وسوف
تكون على رأس ألفية جديدة، وسوف تكون في زمان لليهود فيه وجود في الأرض
التي سيعود إليها المسيح، فلا بد أولاً من عودة اليهود.. لكي يعود المسيح!
عودة أم إعادة؟ !
تأييد نصارى الغرب لليهود في العصر الحديث، يرجع إذن إلى جذور في
بنية التكوين الثقافي بعد حركة التغير البروتستانتي؛ بل لا يكون المرء مبالغاً إذا
قال: إن الفكرة الصهيونية الحديثة ذاتها، ولدت في أحضان النصرانية
البروتستانتية قبل أن يرفع هرتزل لواءها بقرون. قال (كينين) وهو أحد أبرز
قيادات اليهود في أمريكا في كتابه (خط الدفاع الإسرائيلي) : (إسرائيل كانت أنشودة
مسيحية، قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية) فالبروتستانت النصارى هم الذين
أقاموا الحركة الصهيونية، وشجعوا اليهود للالتفاف حولها، وحتى عندما تردد
(هرتزل) في اختيار فلسطين وطناً تقام فيه الدولة اليهودية، أرسل إليه المبشر
النصراني البروتستانتي (وليم بلاكستون) نسخة من التوراة موضح عليها المواضع
التي تشير إلى أن اليهود سيعودون في آخر الزمان إلى الأرض المقدسة، فاقتنع
هرتزل [5] .
وعندما عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م
كان من أبرز المشاركين فيه القس البروتستانتي (وليام هشلر) وقد دخل إلى قاعة
المؤتمر بصحبة هرتزل وهتف بحياته قائلاً: (يحيا الملك يحيا الملك) !
وعندما جاء دوره في إلقاء كلمته خاطب الصهاينة المجتمعين قائلاً: (استفيقوا
يا أبناء إسرائيل، فالرب يدعوكم للعودة إلى وطنكم في الأرض المقدسة) .
وبقية القصة معروفة بعد بازل؛ حيث استلمت بريطانيا (البروتستانتية)
فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، ثم أعطى وزير خارجيتها (بلفور)
(البروتستانتي) لليهود وعداً بوطن قومي في فلسطين امتثالاً لنظرة العطف من
حكومة صاحبة (الجلالة) (البروتستانية) ، ثم تخلت بريطانيا عن فلسطين بعد أن
هيأتها لليهود خلال فترة الانتداب، ثم ساندتها حتى تم إعلان الدولة! فلماذا كل هذا
الحماس الإنجليزي لإعادة اليهود إلى الأرض المقدسة؟ يجيب الزعيم اليهودي حاييم
وايزمان عن هذا في مذكراته فيقول: (إذا سأل سائل: ما أسباب حماسة الإنجليز
لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود؟ فالجواب على ذلك أن الإنجليز هم
أشد الناس تأثراً بالتوراة، وتدين الإنجليز هو الذي ساعدنا في تحقيق آمالنا؛ لأن
الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة من وجوب إعادة اليهود إلى فلسطين،
وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية أكبر المساعدات) [6] .
أمريكا وعدوى البروتستانت:
انتقلت تلك الحُمى إلى أمريكا مع الأنجلو ساكسون المهاجرين إليها، ومع
تصاعد القوة الأمريكية في هذا القرن، تصاعد المد البروتستانتي، وتحول في
العقود الأخيرة من عقيدة مذهبية إلى عُقد أصولية [7] ، وفي أواخر السبعينات
الميلادية، شهدت الساحة الأمريكية بروزاً لتيار أكثر تشوقاً داخل أتباع المذهب
البروتستانتي الحرفي، وأطلق على هذا التيار: (الحركة الصهيونية المسيحية)
ويُطلق عليهم أحياناً: (الإنجيليون اليمينيون) ، وانتساب هؤلاء إلى الصهيونية رغم
نصرانيتهم، ليس غريباً على قوم يدينون بالتوراة التي تقدس جبل صهيون وما كان
عليه من مقدسات، ولهذا فإنهم يتبنون الدعوة إلى الدعم المطلق لدولة اليهود من
أجل تحقيق الطموحات الإسرائيلية أو التنبؤات التوراتية في الشرق الأوسط، ويأتي
على رأسها السعي لتحقيق مشروع (إسرائيل الكبرى) و (القدس الكبرى) وإعادة بناء
الهيكل؛ لأنه بكل بساطة سوف يكون مكاناً لدعوة المسيح في القدس التي ستصبح
عاصمة له في معتقدهم.
لقد بلغ التحول التاريخي في الغرب النصراني من اليهود ذروته في العقود
الثلاثة الأخيرة ووقع هؤلاء في فتنة استدراج محكمة منذ أن احتل اليهود القدس في
عام 1967م، فقد صور لهم الشيطان هذا الحدث على أنه أعظم دليل على أن
التوراة حق؛ لأنها أخبرت عن عودة اليهود إلى القدس، وأن الإنجيل حق؛ لأنه
أخبر بعودة اليهود إلى القدس ... وما داموا قد عادوا إليها كما أخبرت الكتب؛ فلا
بد أنهم سيتنصرون في النهاية كما أخبرت أيضاً.
يقول: (هول ليندسي) في كتابه: (آخرة كرة أرضية) (قبل أن تصبح
إسرائيل دولة، لم يكشف عن شيء، أما الآن وقد حدث ذلك، فقد بدأ العد العكسي
لحدوث المؤشرات التي تتعلق بجميع أنواع النبوءات. واستناداً إلى النبوءات فإن
العالم كله سوف يتمركز على الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل في الأيام الأخيرة) .
أما الصراع الدموي التاريخي بين اليهود والمسيحية، فقد مسحته تلك
النبوءات والأحلام المتحققة، وتحول أعداء المسيح إلى حلفاء، بعد أن برئوا من
دمه. وإلى أصدقاء بعد أن أصبحوا علامة على قرب مقدمه.
لقد تنامى هذا التيار (الصهيوني المسيحي) بشكل جارف في سنوات معدودة؛
فبعد نحو خمس سنوات من ظهوره في أواخر السبيعينيات الميلادية، كانت
الإحصاءات تشير إلى ظهور نحو 250 منظمة إنجيلية موالية لإسرائيل من مختلف
التخصصات والواجهات، تعكس آراء ورغبات نحو 40 مليون أمريكي إنجيلي [8] ، وقد نجحوا في توسيع رقعة التأييد الشعبي المطلق لليهود إضافة إلى التأييد
الرسمي وذلك عن طريق تنظيم المهرجانات للتضامن مع اليهود وتجمعات ما يسمى
بـ (الوعي بإسرائيل) التي تقيمها الكنائس الإنجيلية، وبعض هذه المنظمات تنظم
الجولات للأرض المقدسة، وبعضها يعد المطبوعات ويعقد المؤتمرات، وبعضها
ينغمس في الدعم السياسي والمالي المباشر لدولة اليهود، ويقوم بمختلف عمليات
الضغط سواء عن طريق استكتاب الرسائل، أو عن طريق وسائل الإعلام التي
يعبرون فيها بقوة عن تأييدهم لإسرائيل.
لقد غدا تحقيق أهداف (إسرائيل) من علاقتها بالغرب، هدفاً لهذه المنظمات،
ولم يقصر الأمريكيون من النصارى الصهاينة في دعم دولة اليهود بكل مستطاع،
حتى إن بنيامين نتنياهو عندما كان سفيراً لدولته في الأمم المتحدة خاطب جموعاً
منهم في (6 فبراير 1985م) وقال لهم معترفاً بجميلهم وجميل كل النصارى تجاه
اليهود: (لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل،
وهذا الحلم الذي ظل يراودنا منذ 2000 سنة، تفجر من خلال المسيحيين
الصهيونيين) وقال: (المسيحيون ساعدونا في تحول الأسطورة الجميلة إلى دولة
يهودية) ، وأضاف: (إن الذين يستغربون مما يظنون أنه صداقة حديثة بين إسرائيل
ومؤيديها المسيحيين، يجهلون أمر اليهود أو المسيحيين، إن هناك روابط روحية
تشدنا بإحكام وثبات، إنها شراكة تاريخية أدت وتؤدي دورها بشكل جيد لتحقيق
الأحلام الصهيونية) [9] .
أما بعد أن أصبح نتنياهو رئيساً لوزراء اليهود في دولتهم، فقد أشرت في
الحلقة السابقة إلى أنه قد قوبل بحفاوة بالغة في الكونجرس الأمريكي، وواجهه
أعضاء الكونجرس جميعاً بعاصفة من التصفيق بعد أن هبوا وقوفاً لتحيته عندما ردد
أمامهم فيما يشبه القسم عبارة: (القدس هي العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل)
ثلاث مرات.
لقد تبنى الكونجرس الأمريكي الذي يسيطر عليه اليمينيون بشكل كامل النهج
الإسرائيلي فيما يتعلق بالقدس؛ فقد وافق في قراره رقم 570 في 24/10/1995م
على مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الخارجية لتخصيص مبلغ مائة مليون
دولار لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وكانت الموافقة بأغلبية
406 أصوات مقابل 17 صوتاً، واشترط الأعضاء أن يتم نقل السفارة في موعد
أقصاه يوم 31/5/1999م، مع إعطاء الرئيس حق التأجيل لمدة لا تزيد على ستة
أشهر (أي حتى بداية عام 2000م) بشرط أن يكون ذلك أمراً تتطلبه دواعي الأمن
القومي الأمريكي! ولم ينتظر المحمومون بألفية القدس حتى يحل موعد نقل السفارة، بل ظلت أصواتهم تعلو بهذا المطلب حتى لا يبرد أثر القرار؛ فقد نشرت صحيفة
نيويورك تايمز في منتصف إبريل من عام 1997م إعلاناً عجيباً موقعاً بأسماء عدد
من كبار القساوسة الأمريكيين من أعضاء ما يسمى بـ (الاتحاد المسيحي نحو
القدس الموحدة) جاء فيه: (إن الاتحاد يدعم سيطرة إسرائيل الكاملة على القدس،
ويعتبرها العاصمة الروحية والسياسية لليهود وحدهم خلال ثلاثة آلاف عام خلت
بحكم الإنجيل والتوراة) وطالب الإعلان بالمشاركة في (معركة القدس) التي قد بدأت
(مع من؟) والتي يجب الوقوف مع اليهود فيها، وطالب الإعلان الأمريكيين
بإمطار البيت الأبيض والكونجرس برسائل تطالب بنقل السفارة الأمريكية إلى
القدس دون إبطاء.
وماذا عن الفاتيكان.. الذي كان؟ !
يعكس موقف الفاتيكان مواقف الكنائس الكاثوليكية التي كانت تعتقد بأن المسيح
مدفون في الأرض المقدسة بعد أن صلبه اليهود، ولهذا؛ فقد ظل الكاثوليك
يرفضون تاريخياً سيطرة اليهود على بيت المقدس ولا يشجعون عودتهم [10] ، فلما
عادوا، أعاد الكاثوليك النظر في نظرتهم العدائية لليهود، وصدر في عام 1961م
بيان من المجلس العالمي للكنائس يدين العداء للسامية ويعفي اليهود من المسؤولية
التاريخية في صلب المسيح، ثم أتبع ذلك بتبرئة رسمية، ثم حذفت سائر الأدعية
والصلوات التي كانت تتضمن إدانة لليهود في عبادات الكنيسة الكاثوليكية، ثم
حصل لقاء تاريخي بين (البابا) وشمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق،
وكان ذلك في بداية الثمانينات وقد بدا (البابا) في الصور منحنياً أمامه ليصافحه،
وفي عام 1993م، اعترف الفاتيكان رسمياً بدولة اليهود إلا أنه ظل إلى الآن
متحفظاً على (التنازل) عن القدس عاصمة لهم، ولا ندري عن السر في الاستمرار
في هذا الموقف: فهل هو بسبب الشك في أسطورة صلاح حال اليهود في آخر
الزمان؟ أم بسبب استمرار العداوة التاريخية والعناد بين الكاثوليك والبروتستانت؟
أم بسبب عدم الموافقة على قرب موعد مجيء المسيح، أم لأسباب أخرى؟ المهم
في ذلك أن الفاتيكان لن يقر بحيازة المسلمين للقدس في دولة فلسطين أو غيرها؛
فالقدس هي القدس عند الكاثوليك والأرثوذكس: عاصمة المسيح والمسيحيين، لا
عرفات ولا بنيامين، أما قرار الاتحاد الأوروبي بتأييد قيام دولة فلسطينية، فليس
فيه إشارة إلى أن تكون القدس عاصمة لها.
ونصارى فلسطين؟ !
يمكن معرفة موقفهم من المذكرة التي أعدها البطاركة وزعماء الطوائف
النصرانية في القدس، والتي نشرت في 14 نوفمبر 1995م، فقد طالبوا فيها
بتحويل القدس إلى (عاصمة للجنس البشري) ! ! وأكد أصحاب المذكرة أن الرب
اختار القدس مكاناً لسكنه (تعالى الله عن زعمهم) وأن القدس هي مكان الخلاص،
وفيها ولدت الكنيسة، ولفتت المذكرة النظر إلى أن سِفْر الرؤيا قد بشر بمجيء
المسيح إلى (القدس الجديدة) ، المدينة التي سيمسح فيها الرب كل الدموع! وقالت
المذكرة: إن القدس بالنسبة لكل مسيحي هي منبع الحياة؛ فكل مسيحي يُولد في
القدس، والوجود في القدس يعني الوجود في بيت الرب!
وإجمالاً؛ فإن نصارى العالم يتخذون موقفاً موحداً برفض سيطرة المسلمين
على القدس، وينقسمون على أنفسهم في شأن السماح لليهود في اتخاذها عاصمة،
وقد عبرت (السفارة المسيحية الدولية) عن موقفها الداعم لليهود والذي كُشف عن
بعضه في كتاب صدر عام 1993م بعنوان: (بابل أو القدس) لمؤلفه (يان فيلان
دارهوفن) جاء فيه: (تعارض السفارة مطالب المسلمين في البيت المقدس، وتطالب
بالتسامح تجاه اليهود الذين يطالبون بالصلاة فيه، وتؤكد على حق (إسرائيل) في
جعل القدس عاصمة موحدة لهم) ثم قال مؤلف الكتاب: (إن المسيحيين الدوليين
واثقون أنه على الرغم من أن الرب ترك القدس زمناً طويلاً، فإنه سيعود إليها في
صورة ابن الملك داود، الملك المسيح الذي سيحكم من المدينة. وعندئذ ستجتذب
القدس إليها جميع شعوب المنطقة وحكامها! وهذا الواقع الجديد سيكون تحقيقاً لرؤيا
آخر الأيام التي سينتج عنها سلام وعدل عالميين، والمسيحيون يؤمنون بهذه الرؤيا، لذلك؛ فهم يعتقدون أن الصلاة من أجل مصير القدس معناها صلاة من أجل
خلاص الكرة الأرضية جمعاء) !
في بيت لحم يجتمعون:
(بيت لحم2000) عنوان لذاك المهرجان العالمي النصراني؛ حيث تتواتر
الأخبار عن حشد متحفز، وتسابق مستنفر لحضور تلك الاحتفالات؛ حيث قدرت
بعض المصادر عدد من سيحضرون إلى القدس في أواخر هذا العام الميلادي وأوائل
العام بعده بنحو مليون ونصف، ثم زادت التقديرات إلى مليونين، وبعد أن تأكد
حضور (البابا) لتلك الاحتفالات قدرت بعض الأوساط القادميين بثلاثة ملايين.
[الوسط، 4/1/1999م]
في حين بالغت مصادر أخرى فأوصلتهم إلى ستة ملايين.
[المجتمع، 2/3/1999م]
ومهما يكن من أمر، فإن تلك الجموع القادمة للاحتفاء بالألفية قد تخرج عن نطاق السيطرة إذا ما حاولت بضع (مئات) أو (عشرات) من تلك الملايين استغلال المناسبة استغلالاً سيئاً، خاصة أن بيت لحم واقعة الآن تحت حكم السلطة الفلسطينية، فلا حاجة لـ (إسرائيل) بمهد المسيح في بيت لحم التي كانت جزءاً من القدس حتى زمان الانتداب البريطاني.
ومن المقرر أن يشارك العديد من القادة والزعماء العالميين في إحياء تلك
الذكرى الألفية، وعلى رأسهم بابا الفاتيكان، والرئيس كلينتون، والرئيس الروسي
بوريس يلتسين الذي انضم مؤخراً إلى هيئة رئاسة الاحتفالات.
وقد رصد للاحتفالات مبلغ 322 مليون دولار، وسيشارك الأردن في تلك
الاحتفالات لوقوع منطقة (المغطس) الذي عُمّد فيه المسيح في أراضيه في المنطقة
المحاذية لنهر الأردن، ولكن السلطة الفلسطينية هي المنظّمة الأولى لهذه الاحتفالات! ...
ولكن كيف ينظر الإسرائيليون لهذا القدوم أو الهجوم النصراني الذي لم
يشهدوه من قبل؟ ! إنهم بلا شك سيحاولون استغلاله لصالحهم، ولكنهم مع ذلك لا
يخفون مخاوفهم وعدم تفاؤلهم بهذه المناسبة؛ لأنهم يعلمون أن للنصارى رغم
تأييدهم لإسرائيل حساباتهم الخاصة، وخاصة طوائف الإنجيليين النشطة الذين
ينظرون إلى (إسرائيل) على أنها (مرحلة) ممهدة وأخيرة قبل زمن المسيح.
نشرت صحيفة (كول عمير) الإسرائيلية، أن هيئة مكافحة الإرهاب في مكتب
رئيس الوزراء (نتنياهو) تنظر إلى الألوف من الحجاج المسيحيين الذين سيأتون إلى
الأراضي المقدسة بمناسبة الاحتفالية الألفية الثالثة على أنهم أشخاص خطرون على
الأمن، وذكرت الصحيفة أن الاستعدادات تجري لمواجهة مخاطر يمكن أن تنجم
عن وصول أكثر من مليوني سائح وزائر في احتفالات بيت لحم 2000.
وذكرت الصحيفة أن الأوساط الإسرائيلية رغم انفتاح شهيتها لهذه الطفرة
السياحية، تتوقع وصول مجموعات (راديكالية) من المنظمات الأصولية المسيحية
الناشطة في أمريكا وأوروبا، وقد تقوم بأعمال إرهابية بدافع تصوراتها التي ترى
أن سنة ألفين ستكون بداية النهاية للعالم، مما يحدو بطوائف منها إلى (طلب
الموت) في الأماكن المقدسة قبل نهاية الزمان [11] ، وأظهرت السلطات
الإسرائيلية أيضاً مخاوفها من أن تقوم منظمات إسلامية متشددة بضرب أهداف
إسرائيلية وسط هذه المعمعة.
إن لهؤلاء الإنجيليين رؤيتهم الخاصة للأوضاع العالمية الراهنة؛ فحسب
تقديرهم؛ فإن الزمان يسرع الخطا نحو نهايته بطريقة قدرية لا تحكمها عوامل
سياسية ولا اقتصادية، وإنما تجره إليها عوامل قدرية نحو الفصل الأخير، فصل
الصراع (الدرامي) والدامي بحروبه المهلكة التي ستتمخض كما يعتقدون عن جيل
الخلاص الذي سيشهد زمان السلام ومسيح السلام.
ولكن؛ أي سلام يتحدث عنه أولئك القسس المدججون بآلة الحرب؟ إنه
السلام الدامي الذي تتقاطر فيه عبرات الدمع من حبات الزيتون، وقطرات الدم من
شموع الميلاد.
سألت الكاتبة الأمريكية (جريس هالسيل) المتتبعة لنشاط هذه الطائفة، أحد
هؤلاء الإنجيليين عن معتقدات طائفته فيما يتعلق بالأرض المقدسة في هذه المرحلة
من الزمن فقال: (إننا نؤمن أن التاريخ يطوي الآن مرحلته السابعة، وهي مرحلة
الذروة، مرحلة إقامة مملكة المسيح؛ حيث يحكم المسيح من القدس لألف سنة؛ إن
كثيراً من اليهود سيتحولون إلى المسيحية، وسوف يساهمون في مملكته الألفية،
وهي مملكة حقيقية على الأرض، تكون القدس مركزها الرئيس) .
وسألته الكاتبة عن الأحداث التي ستسبق هذه المرحلة فأجاب:
أولاً: عودة اليهود إلى الأرض المقدسة.
ثانياً: إقامة دولة لهم فيها تكون عاصمتها القدس، وقد حدث هذا لأول مرة
بعد ألفي عام!
ثالثاً: وصول رسالة الإنجيل إلى جميع الأمم بما في ذلك الشعب الإسرائيلي.
رابعاً: عودة الكنيسة إلى أداء دورها في العالم.
خامساً: وقوع الفتن والكوارث والمعاناة في أنحاء الأرض.
سادساً: اندلاع حرب عالمية نووية [12] .
وهذه العلامة السادسة هي ثالثة الأثافي، فالمسيح في زعمهم سيعود إليهم بعد
حرب، وتلك الحرب يرونها عالمية، ويريدونها نووية ويفضلونها (شرق) أوسطية
و (شمال) أطلسية و (جنوب) متوسطية فماذا يريد هؤلاء (المجانين) أن يفعلوا
بأرضنا الإسلامية؛ بل بكرتنا الأرضية مع حلول الألفية؟
هذا ما سنتناوله في حلقة قادمة إن شاء الله.
__________
(1) هم يعتقدون باطلاً بأن المسيح مدفون هناك! .
(2) رؤيا يوحنا، الإصحاح، 3/12، 13.
(3) رؤيا يوحنا، الإصحاح، 20/5 7.
(4) سفر رؤيا يوحنا، الإصحاح، 7/3، 4.
(5) ولهذا احتفظ اليهود بتلك النسخة من التوراة، ووضعوها إلى جوار ضريح هرتزل في القدس، انظر النبوة والسياسة، تأليف جريس هالسيل، ترجمة محمد السماك، ص9.
(6) نقلاً عن مقارنة الأديان (اليهودية) لأحمد شلبي، ص 106.
(7) مصطلح (الأصولية) نشأ في الغرب أصلاً لكي يطلق على المتشددين البروتستانت في مقابل التقليديين من أتباع المذاهب الأخرى.
(8) إنجيلي: تعني: من يكتفي بنص الإنجيل ولا يعبأ بتأويلات الكنيسة، وهذا جوهر الحركة البروتستانية، كما أسلفنا.
(9) نقلاً عن: النبوة والسياسة، ص 140.
(10) يشارك الكاثوليك في هذا الموقف القبط، وهم من الأرثوذكس، و.
(بابا) النصارى في مصر يمنع أتباع كنيسته من زيارة القدس ما دامت في يد اليهود وحدهم.
(11) بعض السياسيين والكتاب طالبوا ياسر عرفات بإعلان الدولة الفلسطينية.
(وعاصمتها القدس) أثناء تلك الاحتفالات، وكأن هؤلاء النصارى سيجيئون للاحتفال مع عرفات
بـ (عروبة القدس) ! ! .
(12) النبوءة والسياسة، ص 94.(138/86)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
هتك الأستار
قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الأمريكية: تلقينا بعض التقارير
المزعجة جداً من كوسوفا بأن القوات الصربية تسوق شابات كوسوفا إلى قاعدة
لتدريب الجيش الصربي حيث تغتصبهن القوات، ولدينا تقارير عن أن ما يصل
إلى 20 ربما قتلن أثناء ذلك.
[جريدة الرياض، العدد: (11248) ]
لا يحتاجون إلى تحريض! !
على العالم الحر أن يكون منتبهاً للخطر الذي قد يطرحه احتمال استقلال
كوسوفا، إن دولة مسلمة كبيرة في هذه المنطقة يمكن أن تشكل لاحقاً قاعدة للتطرف
الإسلامي تهدد أوروبا.
[السفاح أرييل شارون، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7435) ]
ومن يسمح للمسلمين؟
بدأ تدفق المتطوعين الروس على يوغسلافيا، وقال أحد مسؤولي الحزب
الديمقراطي الليبرالي الروسي: إن عدد المتطوعين الذين سجلوا أسماءهم لدى
الحزب بلغ عشرة آلاف في موسكو، و55 ألفاً في أنحاء روسيا، وذكرت مصادر
عسكرية أن وزارة الدفاع الروسية تزود مراكز تسجيل المتطوعين بملابس عسكرية
وأجهزة بصرية.
[جريدة الحياة، العدد: (13177) ]
من لهؤلاء؟ !
أكد مسؤولون بريطانيون أن عشرات الآلاف التي تفر من كوسوفا كل يوم
تريهم القوات الصربية الأهوال وتنهبهم. يجب أن نذكر أن اللاجئين الذين نراهم
على الحدود هم المحظوظون الذين تمكنوا من الهرب.
[جريدة الخليج، العدد: (7257) ]
كإشعار فلسطين! !
أقامت الدول الغربية ملاذات آمنة للنازحين من كوسوفا في ألبانيا ومقدونيا،
كما تم ترحيل عدد من النازحين إلى دول أوروبية، وقال مراقبون أوروبيون: إن
هذا الحل الوحيد لهذه المشكلة المعقدة (حتى إشعار آخر) .
[جريدة الحياة، العدد: (13176) ]
هكذا يحاربون العولمة!
أنا لا أعتقد أن العولمة ستهزم الثقافة؛ لأن الخوف ليس من الغزو الثقافي،
وإنما التخوف هو من السيطرة الثقافية؛ فأم كلثوم، وعبد الوهاب، واليوم لطيفة
التونسية، أو غيرها يؤثرون في شبابنا؛ لذلك يمكن القول: إن الثقافة هي سلاح
جبار لا يهزم. ومن هنا يأتي عدم الخوف من العولمة.
[وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، جريدة الشرق الأوسط،العدد: (7430) ]
ضحايا العولمة
التقرير الذي وضعته منظمة العمل الدولية أخيراً عن آفاق أسواق العمل
للعامين (1998 1999م) قدّر عدد العاطلين عن العمل في العالم بحوالي مليار
شخص، وهو ما يمكن أن يمثل ثلث القوة العاملة على الكرة الأرضية، على أن
من بينهم عشرة ملايين انضموا إلى قوافل العاطلين عن العمل في العام 1998م.
[مجلة الوسط، العدد: (375) ]
وماذا عن الصليبية الجديدة! ؟
ذكرت مصادر كنسية أن الكنائس البريطانية الأساسية بدأت تحضير اعتذار
رسمي للمسلمين عن الجرائم التي اقترفت ضدهم خلال الحملات الصليبية على
القدس قبل 900 عام وجاء في الاعتذار: إننا نريد أن نتتبع خطوات الصليبيين في
المدينة المقدسة من أجل الاعتذار عن أعمالهم ومن أجل إظهار المعنى الحقيقي
للصليب.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7419) ]
تخفيف المديونية.. بعد النفايات النووية! !
ذكرت صحيفة القلم الأسبوعية الموريتانية أن الحكومة الإسرائيلية قدمت دعماً
مالياً لميزان المدفوعات الموريتاني قدره عشرون مليون دولار؛ لتخفيف عبء
المديونية الموريتانية.
[جريدة الرياض، العدد: (11245) ]
متى التنفيذ؟
يقوم الجيش الأمريكي حالياً بتدريبات عسكرية تحت عنوان (المحارب
المدني) والتي تشمل سيناريوهات تتضمن متابعة مجموعة من العرب الإرهابيين
الهاربين ضمن جموع الناس في أحياء مكتظة بالسكان العرب، والذين ربما
يساعدونهم على الهرب من قوات المارينز.
[مجلة المجلة، العدد: (998) ]
للحماية أم.. للمساعدة؟
قررت أجهزة الأمن الإسرائيلية تطبيق إجراءات أمنية في منطقة الحرم
القدسي وحائط البراق في القدس المحتلة أكثر صرامة من المتّبعة الآن، وقالت
المصادر: إن القرار اتخذ في ضوء تزايد الإنذارات الحقيقية التي وصلت الأجهزة
الأمنية في شأن نية حركات مسيحية صهيونية ويهودية متطرفة تنفيذ اعتداءات
دموية على هذين المكانين بسبب قرب انتهاء الألفية الثانية لميلاد المسيح.
[جريدة الحياة، العدد: (13165) ]
لا شكر على واجب!
ذكرت الإذاعة الإسرائيلية أن رئيس وزراء إسرائيل، (نتنياهو) ، شكر
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لمساهمته في إفشال عملية ضد إسرائيل.
[جريدة الخليج، العدد: (7248) ]
وإخوانهم يمدونهم في الغي
بسبب حالة الحرب الأهلية القائمة بين حماس وسلطة عرفات؛ فقد تعهد
الأمريكيون والإسرائيليون والأردنيون بتقديم كافة أنواع المساعدات التي يحتاجها
عرفات لاختراق وتدمير حماس.
[ميدل إيست ريالتييز، عن دورية قراءات، (السنة الثانية، عدد2) ]
وهل تلد الحية إلا مثلها! !
فحص واضعو دراسة أمريكيون سلوك أكثر من 13 ألفاً من الأطفال الذين
تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 17 عاماً ينتمون إلى 12 ثقافة مختلفة، ووجدوا أن
الأطفال الأمريكيين والبورتريكيين (نسبة إلى بورتيريكو وهي محمية أمريكية) هم
الأكثر عدوانية وانحرافاً في سلوكهم، يليهم أطفال إسرائيل.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7432) ]
هكذا يدافعون عن القدس! !
في مناطق السلطة الفلسطينية تم تنظيم مهنة الرقص! ! بما يتوافق مع
المرحلة الانتقالية والظروف الأمنية الاستثنائية، وتستطيع أي راقصة التجول
بحرية بتصريح إسرائيلي ولفترات طويلة تثير الاستغراب وسط القيود التي تفرضها
إسرائيل على المواطنين الفلسطينيين. ولكن للراقصات ضرورات خارج إطار
الاتفاقيات.
[مجلة المجلة، العدد: 998) ]
مرصد الأرقام
* أنفقت الدول العربية في الفترة ما بين (1969م و 1997) ، 365 مليار
دولار لشراء الأسلحة.
[جريدة الخليج، العدد: (7256) ]
* قدر خبير استراتيجي عربي حاجة دول منطقة الشرق الأوسط من السلاح
حتى عام 2010 بحدود 400 مليار دولار أمريكي وكشف أن 80% من السلاح
العربي سيكون غير ذي نفع عام 2005م مقارنة بما لدى جيوش دول العالم المتقدمة.
[مجلة المشاهد السياسي، العدد: 160]
* هناك 3، 1 مليار شخص في العالم يعيشون في فقر مدقع، فيما لا يتمتع
قرابة 5، 1 مليار شخص بأبسط الخدمات والعناية الصحية وأن 70% من
المحرومين في العالم نساء.
* يوجد 27 مليون لاجئ في العالم، 70% منهم من المسلمين، و 80% من
النساء والأطفال.
[جريدة الخليج، العدد: (7247) ]
* بلغت ديون إفريقيا الشمالية والشرق الأوسط 3، 213 مليار دولار،
وديون جنوب آسيا 8، 155 مليارات، أما المساعدة التي تقدمها دول الشمال لدول
العالم الثالث فلا تتجاوز 1% من ناتجها القومي.
* تسيطر أمريكا على 55% من تجارة السلاح الدولية، وأنتجت الدول
الكبرى 250 مليون لغم طيلة ربع القرن الماضي وما زالت تنتج من 10 إلى 30
مليون لغم سنوياً.
[مجلة المجلة، العدد: (998) ]
* قدرت رئيسة الجمعية الوطنية لعائلات ضحايا العنف في الجزائر عدد
عائلات الضحايا بـ 120 ألف عائلة عبر البلاد.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7426) ]
* دعت لجنة إسرائيلية إلى بناء نحو 77 ألف وحدة سكنية جديدة في القدس
المحتلة لاستيعاب مزيد من المستوطنين اليهود حتى عام 2020م.
[جريدة الخليج، العدد: (7242) ]
* بلغ حجم الاستثمارات اليهودية في المملكة الأردنية بعد توقيع اتفاق السلام
350 مليون دينار.
[جريدة الحياة، العدد: (13169) ]
* بلغت خسائر ليبيا خلال سنوات الحظر، 5. 5 مليار دولار في قطاع
الصناعة، 5. 2 مليار دولار في النقل الجوي، 6 مليار دولار في قطاع التجارة،
5 مليار دولار في قطاع النفط، 2. 3 مليار دولار في قطاع الزراعة والثروة
الحيوانية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7436) ]
* قدرت وزارة العدل الأمريكية عدد المساجين بـ 1.8 مليون سجين في
الولايات المتحدة، وأن هذا العدد مرشح إلى أن يتجاوز المليونين بحلول العام ألفين.
[مجلة الوسط، العدد: (373) ]
* بلغ عدد الطلبة الإسرائيليين الذين يتعاطون المخدرات 164 ألف شاب
وفتاة تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 18 عاماً وذلك خلال عام 1998م.
[جريدة الخليج، العدد: (7243) ]
* في تقرير حكومي بريطاني ذكر أن 800 ألف امرأة حامل، هناك 400
ألف منهن حملن أطفالهن خارج العلاقات الزوجية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7415) ]
* بلغ عدد حالات الإجهاض في الولايات المتحدة: (1. 528. 930) حالة
خلال سنة واحدة فقط.
[دورية الكوثر، العدد: (22) ]
* بلغ عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 11 عاماً ولم يسجلوا
في المدارس 125 مليون طفل في العالم.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7420) ](138/96)
قضايا ثقافية
المدرسة العصرانية
مفهومها ونشأتها.. خصائصها ومزاعمها
(2/2)
محمد حامد الناصر
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن: من هم العصرانيون، وما حقيقة
التجديد لديهم، وما المقصود بالعصرانية، وكيف نشأت؟ ثم عرّج على خصائص
هذه المدرسة؛ حيث كان من أبرز خصائصها: الدعوة إلى تطوير الدين، ليساير
بزعمهم الحضارة الوافدة.
وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب جوانب الموضوع؛ لتتضح صورة هذه
المدرسة العجيبة الغريبة عن فكرنا الإسلامي الأصيل.
- البيان -
ثانياً: تقديس العقل عند العصرانيين:
وهذه هي الآفة الكبرى الثانية التي تميز هذه المدرسة؛ فقد سار العصرانيون
الجدد على خُطا من سبقهم من المعتزلة وأهل الكلام والفلسفة؛ حيث إنهم اعتبروا
العقل مبدأ أصول العلم، وجعلوا الوحي تابعاً له، بل حكّموا العقل في نصوص
الشرع، فلا يقبلون منها إلا ما أيّده العقل ووافقه، ويرفضون منها ما عارضه
وخالفه.
ويتفق أصحاب (الاستنارة) عامة على إعلاء دور العقل وافتراض الصراع
بينه وبين النقل؛ وما ذلك إلا من أجل تنفيذ رغبتهم في تطوير الشريعة أو تجاوز
نصوصها، وفيما يأتي شواهد من أقوال بعض العصرانيين، تبين مدى تضخيم
دور العقل.
فالدكتور محمد أحمد خلف الله يقرر أن: (البشرية لم تعد في حاجة إلى قيادتها
في الأرض باسم السماء؛ فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شؤونها
بنفسها) [1] . ويقول في كتاب آخر: (ولقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلان إنهائها كلية وتخليص البشرية منها) [2] . اللهم غفرانك مما يقولون.
وإنه لشرود عجيب عن الدين لدى هؤلاء القوم، وهو إنكار صريح وتمرد
صفيق على سلطان الله سبحانه ومكانة النبوة.
وبعبارة مبهمة يقرر الدكتور محمد عمارة هذه المسألة؛ إذ يعتبر أن البشرية
وصلت سن الرشد فعلاً فيقول: (لقد انقضى زمن الوحي وبلغت الإنسانية سن
الرشد، وأوكلها الله إلى وكيله عندها: الكتاب وهو القرآن الكريم والعقل الذي جعله
الله من أجلّ القوى الإنسانية، بل أجلها على الإطلاق) [3] .
ويضخم الدكتور الترابي دور العقل في كتاباته، ليساير به ما جدّ من أمور
الحياة المتطورة فيقول: (ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت في معيار الدين
منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ... لأن أسباب الحياة قد تطورت ... وقد
تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة، وأصبح لزاماً علينا أن
نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة، لنسخر العلم كله لعبادة الله ... ) [4] .
ويظهر تقديس العقل، بل وتأليه أحكامه عند أصحاب اتجاه اليسار الإسلامي
كما يسمون أنفسهم فقد حاربوا النصوص الشرعية بشدة؛ لأنها تعيق أنطلاقهم، بل
انفلاتهم من ربقة الدين ...
يقول د. حسن حنفي أحد أقطاب هذا الاتجاه: (إن العقل هو أساس النقل،
وكل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل ... ظهر ذلك عند المعتزلة وعند الفلاسفة
... ) ثم يقول مهاجماً ثوابت الشريعة: (لقد احتمينا بالنصوص فجاءنا
اللصوص) [5] وهكذا تحول المؤمنون بالنص إلى (لصوص) عند الدكتور حنفي!
وأصدر حنفي كتاباً تحت عنوان: (قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر) بث
فيه الشكوك والإلحاد، ويرى أن العقل ما كان في حاجة إلى الشرع؛ لأن الإنسان
لا يحتاج إلى الوحي. وقد وصلت به الحماقة إلى أن يقول: (يمكن للمسلم المعاصر
أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلماً حقاً في سلوكه) [6] ويتناسى هذا
الكاتب أن الإيمان بالغيب من أركان الإيمان.
هكذا آمن أساطين العصرانية بالعقل على حساب النصوص الشرعية، وفرّط
بعضهم، وغالى آخرون في هذا الجانب حتى وصلوا إلى الردة والضلال؛ والعياذ
بالله.
العلاقة بين الشرع والعقل في الإسلام:
تجاهل العصرانيون قيمة العقل في الإسلام فوقعوا في مزالق خطيرة؛ قال
الشاطبي رحمه الله: (اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً بالغاً وجعله مناط التكليف، فإذا
فُقِد ارتفع التكليف، ويُعَد فاقده كالبهيمة لا تكليف عليه) [7] .
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها
كالعقيدة الإسلامية، وليس هناك من كتاب أطلق سراح العقل وأعلى من قيمته
وكرامته كالقرآن الكريم: [لعلكم تعقلون] ، [لقوم يتفكرون] ، [لقوم يفقهون] ، إلا أن للعقل مجالاته وحدوده؛ لأنه محدود الطاقات فلا يستطيع أن يدرك كل
الحقائق مهما أوتي من قدرة على الاستيعاب، فأقام الإسلام العقل مع الاستسلام
والامتثال للأمر الشرعي الصريح، حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك،
كأمور الغيب مثلاً والروح، وما شابه ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت
بسبب عدم هذا الامتثال من قبل إبليس لعنه الله [8] .
والواقع أن التعارض بين العقول السليمة وبين الشرع غير موجود، قال ابن
تيمية رحمه الله: (ما عُلم بصريح العقل لا يُتصور أن يعارض الشرع البتة، بل
المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ... ويقول: (ووجدت ما يُعلم
بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث
موضوع، أو دلالة ضعيفة) [9] . ويقول أيضاً: (وعلى المعتزلة الذين حكّموا
عقولهم في نصوص الوحي، ومن سار على نهجهم وتتبع خطاهم، أن يعلموا أنه لا
يوجد حديث على وجه الأرض يخالف العقل، إلا أن يكون ضعيفاً أو
موضوعاً) [10] .
وأكد هذا المعنى ابن القيم رحمه الله بقوله: (إذا تعارض النقل وهذه العقول
يعني عقول أهل التأويل والزيغ أُخذ بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت
الأقدام، وحُطت حيث حطها الله وأصحابها) [11] .
مزاعم العصرانيين ومنطلقاتهم:
طرح العصرانيون تصورات غريبة تحت مزاعم التجديد والتطور، في
التفسير والسنة النبوية، ودعوا إلى تطوير أصول الفقه وأصول الحديث النبوي؛
فكانت لهم شذوذات عجيبة في ميادين الفقه المختلفة، كما دعا العصرانيون إلى
فصل الدين عن الدولة وأمور الحياة، ودعوا كذلك إلى الوحدة والتقارب بين
الأديان [12] .
ويجدر بنا أن نشير إلى جيل سابق لهؤلاء هو جيل دعاة التغريب، في
النصف الأول من هذا القرن، أولئك الذين ترعرعت دعوتهم في ظلال المستعمر
الغربي الحاقد؛ إذ دعا ذلك الجيل إلى صبغ الحضارة الإسلامية بكل مقوماتها
بحضارة الغرب، خيرها وشرها؛ ومن ثم اتهام النظام الإسلامي بالتخلف والجمود.
وكانت تيارات الهدم التغريبي في تلك الفترة تتمثل في:
1- التشكيك بالسنة النبوية:
ويمثل ذلك الاتجاه: أحمد أمين من خلال هجومه على السنة النبوية،
وتشكيكه بعدالة الصحابة والتابعين: كالصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه،
وإمام التابعين الإمام الزهري رحمه الله منساقاً مع أساتذته المستشرقين من اليهود
والنصارى، وتجد ذلك مبثوثاً في كتابه (فجر الإسلام) .
وكان موقف محمود أبو رية من أسوأ المواقف طعناً في السنة والحديث
وتجريحاً بصحابة رسول الله في كتابه: (أضواء على السنة المحمدية) .
2- المنهج التغريبي في مجال الحكم والتشريع:
ويمثله كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق الصادر عام
1925م؛ فقد تبنى فيه أن الإسلام دين لا دولة، على طريقة النصارى، وخدمة
لمن أسقطوا الخلافة آنذاك.
3- المنهج التغريبي في الثقافة والآداب:
ويمثله عميد التغريب الدكتور طه حسين في كتبه وخاصة في كتابيه: (في
الأدب الجاهلي) و (مستقبل الثقافة في مصر) ؛ فقد شكك في كتابه الأول بكتاب الله
عز وجل وجعل له مصادر بشرية، وشاركه في ذلك الطعن محمد أحمد خلف الله
في رسالته للدكتوراه (الفن القصصي في القرآن الكريم) [13] .
منهج العصرانيين في التفسير وموقفهم من السنة النبوية:
يرى العصرانيون أنه في ضوء الظروف الجديدة، وتوسع المعرفة الإنسانية،
لا يمكن الاعتماد في فهم القرآن على التفاسير القديمة التي اشتملت على كثير من
الخرافات كما يزعمون، ولكن ينبغي فهم النص القرآني من خلال معرفتنا وتجاربنا
الذاتية.
ولذلك فهم يردون كثيراً من الأحاديث النبوية وآراء السلف في التفسير، ودعا
العصرانيون إلى التجديد في قضايا تفسير كتاب الله، انطلاقاً من الذوق والواقع
المعاصر.
يقول الدكتور حسن الترابي: (يبدو أننا محتاجون إلى تفسير جديد، فإذا قرأتم
التفاسير المتداولة بيننا تجدونها مرتبطة بالواقع الذي صيغت فيه، كل تفسير يعبر
عن عقلية عصره، إلا هذا الزمان، لا نكاد نجد فيه تفسيراً عصرياً شافياً) [14] .
فالدكتور الترابي ينادي بأن مفاهيم القرآن تتغير بتغير الزمن، ورقي الإنسان
وتطويره؛ ولهذا فكل عصر من العصور يحتاج إلى تفسير خاص به للقرآن الكريم، (والحقيقة أن السنة هي الركيزة الأولى في تفسير القرآن الكريم؛ حيث إن القرآن
الكريم كتاب منزل من عند الله تعالى على نبيه ليبينه للناس؛ وحينئذ لا بد من
الاعتراف بأن مفهومه السليم الموثوق به، هو ما أدركه النبي صلى الله عليه
وسلم) [15] .
ومن الملاحظ أن تقدم المعارف البشرية المعتمدة على تجارب البشر الذاتية قد
تكشفت عن أخطاء في معارف العصور الماضية، فهل يؤثر ذلك في فهم القرآن؟ ! وهل تتغير معاني القرآن تبعاً لذلك؟ !
(وبسبب الاعتماد على معارف البشر العصرية وما فيها من القصور
والأخطاء، وبسبب إهمال تفاسير الأولين وقعت العصرانية في انحرافات شنيعة في
التفسير. وحسبنا أمثلةً على ذلك تفسير (سيد أحمد خان) ، وتفسير (الشيخ محمد
عبده) [16] .
وقضية التأويل المتكلف لآيات القرآن، قضية قديمة منذ نشأة الفرق المنحرفة
في الإسلام، كالمعتزلة والخوارج والشيعة، وكذلك بقية الفرق الباطنية والمتصوفة، ومن أجل ذلك يحاربون السنة النبوية؛ لأنها جاءت مفصّلة، وموضّحة لآيات
القرآن.
موقف العصرانيين من السنة النبوية:
من أكبر ضلالات هذه المدرسة دعوتهم لعدم الأخذ بالسنة النبوية في مجال
المعاملات خاصة؛ لأن الأحاديث الشريفة تقف حجر عثرة أمام رغبتهم في تطوير
الشريعة، ليتجاوزوا ما خلفه علماؤنا من تراث فقهي غزير.
ومن محاولاتهم المشبوهة خلال التشكيك في السنة، والسعي للابتعاد عن
الأخذ بحجيتها في الأحكام:
1- أنهم قسموها إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية.
2- موقفهم المريب من أحاديث الصحيحين وخبر الآحاد.
3- ردّهم كثيراً من الأحاديث بحجة أن القرآن أوْلى بالاتباع.
تقسيمهم السّنة إلى تشريعية وغير تشريعية:
وهذا تقسيم باطل سبقهم إليه الإصلاحيون مدرسة محمد عبده عندما قسموا
السنة إلى سنة عملية يؤخذ بها في الأحكام الشرعية كالعبادات وقضايا العقيدة
الأساسية. وسنة غير عملية وهي الأحاديث القولية ولا يلتزمون بها إلا ضمن
شروط تنسجم مع قواعدها العقلية، فأخرجوا منها قضايا السياسة والمجتمع.
(وقد اعتبر بعضهم أن العصمة تكون في أمور التبليغ فقط، وأن ما اندرج
من السنة النبوية تحت أمور السياسة والمجتمع ليس ديناً. ومن ثم؛ فإنه موضوع
للاجتهاد والشورى، والقبول والرفض، والإضافة والتعديل) [17] ... فالسياسة
والحكم والقضاء وشؤون المجتمع ليست ديناً وشرعاً يجب فيها التأسي والاهتداء بما
في السنة من وقائع، وأواصر، ونواهٍ وتطبيقات؛ لأنها أمور تقررت بناء على
بينات قد نرى غيرها، وعالجت مصالح هي بالضرورة متطورة ومتغيرة) [18] .
ويتوسع الدكتور محمد سليم العوّا في تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ويرى أن أغلب المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو من النوع الثاني
فيقول: (ويلاحظ: كون أغلب تصرفات الرسول مبناه التبليغ قول يصل الباحث
إلى خلافه عند إمعان النظر في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
بل الذي يغلب على الظن أن أغلب المروي عنه صلى الله عليه وسلم في شؤون
الدنيا خارج نطاق العبادات والمحرمات ليس من الشرع اللازم [19] .
هذا، وإن شبهة تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، من أخبث الشبه
التي رفعها أدعياء التجديد من العصرانيين ... وهذه الشبهة دعوة صريحة إلى رد
السنن، وترك العمل بها، والتحاكم إليها، ثم إلى تفسير القرآن بالتفسيرات الشاذة،
التي توافق أهواءهم، ثم إلى تركه وراءهم ظهرياً) [20] . وبذلك يرتمون في
أحضان العلمانية صرحوا بذلك أم أنكروا.
موقفهم من أحاديث الصحيحين وخبر الآحاد:
شكك بعضهم في عدد من الأحاديث الصحيحة، ولو كانت في البخاري ومسلم
رحمهما الله ومن هؤلاء الدكتور الترابي؛ فقد شكك في قيمة الضوابط والأسس التي
وضعها الإمام البخاري في صحيحه، في محاضرة له بعنوان: (قضايا أصولية
فكرية) ، وهذه مقتطفات منها: (لا بد لنا أن نعيد النظر في الضوابط التي وضعها
البخاري، فليس هناك داع لهذه الثقة المفرطة في البخاري. والمسلمون اليوم
إعجابهم بالبخاري زائد؛ فمن وثقه البخاريّ فهو الثقة، ومن جرّحه فهو المجروح.
لماذا نعدّل كل الصحابة؟ ليس هناك ما يوجب ذلك، لقد استُحدثت وسائل كثيرة
يمكن أن تستغل في هذا المجال، ما كان البخاري ولا غيره يعرفها) يقصد الحاسب
الآلي! ! .
وتحدث محمود أبو رية مشككاً في صحة بعض أحاديث الصحيحين، وأن
بهما أحاديث ضعيفة، وأن معظم الأحاديث فيهما رويت بالمعنى؛ لذلك لا يعتمد
على كل ما فيها [21] . فهؤلاء العصرانيون يعتمدون على ضرورة انسجام معنى
الحديث مع عقولهم مهما علت مرتبة هذا الحديث.
وأنكر حسين أحمد أمين كثيراً من الأحاديث الصحيحة في كتابه: (دليل
المسلم الحزين) وراح يتهم الفقهاء بوضع الأحاديث النبوية ويهاجم رواة الحديث
بشدة، ولم يسلم من هجومه حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [22] .
ويقول ساخراً: (كان انتقاء البخاري للأحاديث الصحيحة على أساس صحة السند لا
المتن، فالإسناد عنده وعند غيره هو (قوائم الحديث) إن سقطت سقط، وإن صح
السند وجب قبول الحديث مهما كان مضمون ذلك الحديث) [23] .
حديث الآحاد:
أثار العصرانيون الشبهة بعدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة، كما أثارها
أسلافهم من المعتزلة والإصلاحيين. وهذه الشبهة درع يتترس بها أهل البدع في
ماضيهم وحاضرهم. قال ابن حزم رحمه الله: (إن جميع أهل الإسلام كانوا على
قبول الخبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة..
حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك) [24] .
وقال الشيخ ناصر الألباني: (إن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في
العقيدة قول مبتدع محدث، لا أصل له في الشريعة الإسلامية الغرّاء، وهو غريب
عن هدي الكتاب وتوجيهات السنة، ولم يعرفه السلف الصالح رضوان الله عليهم،
وإنما قال هذا القول جماعة من علماء الكلام، وبعض من تأثر بهم من علماء
الأصول المتأخرين، وتلقّاه عنهم بعض الكتاب المعاصرين بالتسليم دون مناقشة ولا
برهان ... وإذا أُخذ بهذا القول، فإنه يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة
عنه صلى الله عليه وسلم لمجرد كونها في العقيدة) [25] .
لقد رد هؤلاء أحاديث كثيرة تتعلق بالغيب والجن، وأخبار الآخرة، كما ردّها
قبلهم المعتزلة ورجال المدرسة الإصلاحية.
العصرانيون يردون كثيراً من الأحاديث بحجة أن القرآن أوْلى بالاتباع:
وحجة العصرانيين أنه لا شك في صحة القرآن، وأن كتاب الله فيه كليات
الشريعة وأصولها التي لم يتلاعب بها الرجال.
غير أن العصرانيين لم يدركوا أن معارضة السنة بالقرآن مذهب رديء تبناه
أهل البدع والضلالة من المعتزلة ومن سار على منوالهم.
قال محمد عمارة: (إذا وجدت حديثاً منسوباً إلى رواة عدول لا ألجم عقلي
وأمنعه من النظر بحجة أن السند هو كل شيء؛ لأنه لا بد أن يكون لعقلي مجال في
المتن، ولا بد أن أحاكم هذا الذي هو ظني الثبوت إلى ما هو قطعي الثبوت، وهو
كتاب الله وحقائق العلم) [26] .
ورغم كل ما تقدم؛ فقد ظهر الدكتور عمارة في الآونة الأخيرة داعياً إلى
التمسك بثوابت هذا الدين، وإلى العودة إلى منهج السلف فقال: (السلفية هي
الماضي وهي الأصل والأساس) (وإن تجديد فكر هذه الأمة عبر تاريخها قام على
أيدي علماء سلفيين) [27] ، كما أنه صار يهاجم العلمانيين خلافاً لماضيه المعروف.
ونحن نرجو له ولأمثاله عودة طيبة صادقة إلى منهج السلف الصالح، وأن
يشيروا إلى ما سطروه من شطحات في كتبهم السابقة؛ والحق أحق أن يتبع، وما
وجد في كتبهم أصبح من حق التاريخ الصادق الذي لا يحابي أحداً.
لقد أصبح الاقتصار على ما في كتاب الله تُكَأَة في يد بعض العلمانيين
وأصحاب الأهواء، إذا أرادوا الخروج على الشريعة وتجاوز حدود الله؛ إذ
يتبجحون بأنهم ليسوا (نصوصيين) وإنما هم يدركون (روح الدين) ويراعون
المقاصد العامة للإسلام [28] .
هذا، والحديث الشريف ثاني مصادر الشريعة الإسلامية هو المفسر الأول،
والمبين لكتاب الله، ولذلك عُنِيَ به علماء المسلمين عناية تفوق الوصف، فظل
الحديث مصفّى من الشوائب، وكان لا بد للمبتدعة من أن يحاولوا اختراق هذا
الجدار المنيع الذي يحمي أسس العقيدة والشريعة، ليتمكنوا من الزيادة في الدين أو
النقص منه حسبما يشاؤون) [29] .
فالقرآن والخبر الصحيح شيء واحد، وحكمهما واحد في وجوب الطاعة لهما.
يقول تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد روى ابن ماجة بسنده إلى المقدام بن معد يكرب الكندي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحدّث بحديث من
حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله
عليه وسلم مثل ما حرم الله) [30] والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) مقال العدل الإسلامي وهل يمكن أن يتحقق، الطليعة القاهرية، 1975م.
(2) كتاب الأسس القرآنية للتقدم، ص44، طبعة القاهرة، 1984م.
(3) الدولة الإسلامية، د محمد عمارة، ص 177، وانظر ص15، الإسلام وقضايا العصر، للمؤلف نفسه.
(4) تجديد أصول الفكر الإسلامي، د حسن الترابي، ص 8.
(5) التراث والتجديد: ص 119- 120، نشر مكتبة الجديد، تونس.
(6) قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر، حسن حنفي، ص 91- 93، طبعة بيروت.
(7) الموافقات، الإمام الشاطبي، ج3/13، دار الفكر.
(8) ينظر: منهج المدرسة العقلانية في التفسير، فهد الرومي، ص 29- 39.
(9) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ح 1، ص 147 150، تحقيق محمد رشاد سالم.
(10) درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ح 1، ص 147- 150، تحقيق محمد رشاد سالم.
(11) مختصر الصواعق المرسلة، ص28- 38، اختصار الشيخ موسى الموصلي.
(12) لعلنا نستعرض بتفصيل أكثر أبرز منطلقات هذه المدرسة في دراسة قادمة إن شاء الله.
(13) انظر تفصيلاً لمخاطر دعوة التغريب الباب الثاني من كتاب (العصرانيون) للكاتب،
ص 127- 172.
(14) تجديد الفكر الإسلامي، د حسن الترابي، ط ثانية، 1987م، ص 26.
(15) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، المودودي، ص 175- 185، ط 2، الكويت.
(16) انظر: مفهوم تجديد الدين، ص 233.
(17) الإسلام والسلطة الدينية، د محمد عمارة، ص 104، 120.
(18) الإسلام والسلطة الدينية، د محمد عمارة، ص 104، 120.
(19) مجلة المسلم المعاصر، محمد سليم العوا، أكتوبر، 1974م، ص 48.
(20) مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي، ص 79، الأمين الحاج محمد أحمد.
(21) أضواء على السنة المحمدية، ص 290 291 (22) انظر كتابه: دليل المسلم الحزين، ص 43- 63، (ومن يشبه أباه فما ظُلم) .
(23) دليل المسلم الحزين، ص 59- 60.
(24) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، ج 1، ص 102.
(25) حديث الآحاد حجة بنفسه، الشيخ ناصر الألباني.
(26) جريدة المسلمون، العدد (276) ص 11، السنة السادسة.
(27) من مقابلة معه أجرتها مجلة الدعوة الصادرة في الرياض، العدد 1642/ 25 محرم/1419هـ، ص 24- 25.
(28) ثقافة الضرار، جمال سلطان، ص 68- 69.
(29) المعتزلة بين القديم والحديث، محمد العبدة، ص 81- 83.
(30) سنن ابن ماجة، المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (12) ، وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي رافع، كتاب العلم، وقال: هذا حديث صحيح، 5/36- 37 وانظر صحيح الجامع الصغير، للألباني، 6/ 365.(138/100)
في دائرة الضوء
محنة الثقافة في العالم العربي
د. محمد يحيى
من التطورات ذات المغزى لأوضاع ما يسمى عادة بالثقافة في العالم العربي
إصرار وزارة الثقافة المصرية مؤخراً على الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لغزو
نابليون مصر في آخر القرن الثاني عشر في إطار تعاون مشترك مع فرنسا، وقد
بلغ من تمسّك الوزارة الشديد بهذه الاحتفالات أن وصف الوزير وعدد من الكتاب
المؤيدين للفكرة من يعارضونها بالجهل والتخلف بل ومساندة من يوصفون عادة
بالمتطرفين المسلمين، وهذا الموقف بليغ في الدلالة على محتوى مفهوم الثقافة كما
يستخدم الآن عند غالبية من ينتهجون المذهب العلماني في العالم العربي. فالثقافة
عندهم هي بلا مواربة اتباع المناهج الغربية في الفكر والنظر، والجري وراء
الفلسفات والنظريات الغربية في مجالات العلوم الإنسانية ولا سيما في الآداب
والفنون. ومن هذا المنطلق فإن وزارة الثقافة في أكبر بلد عربي إسلامي لا تجد
غضاضة في الاحتفال بذكرى عدوان صارخ واحتلال جلي لهذا البلد جعل هدفه
القضاء على الإسلام فيه، وهذا الاحتفال بذكرى احتلال مصر يأتي من جانب
وزارة الثقافة التابعة للدولة كما يأتي بالتعاون مع الدولة المحتلة وبتمويل منها، وكل
ذلك باسم الثقافة!
الثقافة عند العلمانيين:
ويبدو أن بعضهم الآن قد وصل إلى حالة من التبعية الذهنية لا يرى معها
مفهوم الثقافة إلا من خلال عدسات أوروبية غربية. أما الثقافة الإسلامية العربية
(هذا إذا تفضلوا بمنحها لقب أو رتبة الثقافة) فهي ليست إلا مخلفات (رجعية) !
(طلابية) ! لا محل لها في العصر الحديث. ولا نلمح هنا فحسب قطيعة مع عقيدة
وتراث وتاريخ وهوية الأمة؛ بل نلمح كذلك أصل ذلك التفضيل الغريب والتمييز
العنصري الذي أضفى على كلمة (الثقافة) و (المثقف) على مدى العقود الماضية من
جانب التيار العلماني. كان بعض حسني الظن يتصورون أن التفضيل والتمييز
اللذين تحظى كلمة الثقافة بهما إنما يعودان إلى أهمية الفكر والقراءة والعلم في
تهذيب الشخصية وتهذيب سلوكها وترقية وجدانها وعقليتها حسب المفهوم الدارج
لكلمة الثقافة أو المثقف، ولكن هذا التفضيل للمفهومين إنما يعود لدى النخبة
العلمانية إلى أن للثقافة والمثقف عندها معنى خاصاً هو الامتلاء بمحتوى غربي
علماني مخالف للإسلام إن لم يكن مفارقاً ومعادياً له.
ومن هنا حدث اللبس الذي عكر الأجواء الثقافية وأوجد فيها الاضطراب
والبلبلة؛ فالعلمانيون الذين احتكروا منابر الفعل والحركة الثقافية لا يفتؤون
يمتدحون (الثقافة) و (المثقفين) ويرفعون لواءهما، ويدافعون عنهما، ويقف عامة
الناس متفرجين لكنهم مسرورن؛ لأن الثقافة عندهم لها معنى إيجابي هو الفهم والفقه، والتعمق في القراءة والعلم، وتكميل الشخصية، وتطوير العقل وفق جذور معناها
في الوسط الإسلامي؛ لكنهم لا يدركون أن الثقافة التي يجري الحديث عنها ليل
نهار وترفع رايتها إنما هي الثقافة الناظرة صوب الغرب والمستمدة مفاهيمها من
هناك، وهم لا يدركون ذلك إلا إذا خرج (مثقف) بكتاب يطعن في الإسلام، أو إذا
وقعت واقعة كالاحتفال (الثقافي) بالاحتلال الفرنسي للبلد المسلم وسط دعاية طنانة
تجعل من ذلك الغزو السافر المقترن بهمجية الاحتلال ووحشيته بداية التاريخ
المصري الحديث وفاتحة النهضة الفكرية والاجتماعية وباعث الحياة في أمة قتل
روحها الإسلام!
تزوير المعاني:
إن الثقافة عند النخبة العلمانية هي ما جاء من الغرب، ومعيارها هو محاذاة
النموذج الغربي والسير وراءه، ومقياسها هو التمشي واللحاق بأحدث ما يخرج في
الغرب من مذاهب ونظريات فكرية وفلسفية واجتماعية واقتصادية.. إلخ. إن
مفهوم الثقافة عند هؤلاء هو في الحقيقة التبعية لا غير ومحض الذيلية حتى وهم
يرفعون العقيرة بالحديث عن الإبداع وثقافة الإبداع لا ثقافة التلقين (الإسلام) !
وحتى عندما يتحدثون عن (الثقافة الوطنية) أو (الثقافة الجماهيرية) فلا يخلو حديثهم
هذا من التبعية والذيلية؛ لكنها تبعية مستترة خفية. فالثقافة الوطنية عندهم هي
ثقافة النخبة العلمانية المتغربة، وتقابلها ثقافة الظلام والرجعية والردة (الإسلام) أما
الثقافة (الجماهيرية) فهي ليست ثقافة الجماهير القائمة أو التي كانت قائمة؛ لأن تلك
الثقافة إسلامية الطابع والجوهر، وإنما هي الثقافة التي يراد لها أن تنتشر وتسود
بين الجماهير بقوة الفرض والإلحاح الإعلامي والدعائي وهي الثقافة المُعَلْمَنَةُ.
ومما له مغزى في هذا الصدد أن هناك بعض كتب أصدرها علمانيون يكيدون
بها للإسلام في الفترة الماضية القريبة إنما خرجت للناس أول ما خرجت من خلال
سلاسل ثقافية عنونت باسم الثقافة الجماهيرية أو الثقافة للجميع أو مكتبة الأسرة وما
شابه ذلك من الأسماء، والعلمانيون يستغلون شعار وممارسات (الثقافة الجماهيرية)
ومؤسساتها للترويج لأشكال وأنماط من النشاط أقل ما توصف به أنها مجلوبة من
الغرب دون جذور لها في الوسط الإسلامي حتى ولو أضيفت إليها مظاهر خارجية
توحي بأن لها أصلاً في التراث العربي الإسلامي.
ومن الأمثلة الجلية على ذلك ما درجت عليه أجهزة الثقافة الجماهيرية في بلد
كمصر من تنظيم عشرات من حفلات الرقص (المسمى بالشعبي) خلال شهر
رمضان بحجة الاحتفال بالشهر الكريم. ولو تأمل المرء في أصل هذا الرقص
الشعبي لوجد وراء دقات الزار أو دوران الدراويش أو الجلابيب التي يرتديها
الراقصون في خطوات وحركات.. الرقص الغربي نفسه، وقد جلبت إلى العالم
العربي، كما يجد مفاهيم الغرب نفسه في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن
التاسع عشر التي سعت إلى إحياء أمجاد الماضي الأوروبي في العصور الوسيطة
(حسب تصورهم) وتعيدها للحاضر كي تهديه أو تنير له الطريق، ولكن كانت
دعوة إحياء الفنون والآداب الشعبية قد جاءت في الغرب في إطار عملية إحياء
شاملة لتراث الغرب وهويته الحضارية.
أما مسألة الفنون الشعبية والثقافة الجماهيرية وما أشبهها عندما تروج في
بلادنا العربية والإسلامية فإن المقصود بها عادة يكون إما إحياء تقاليد تراث وثني
قديم سابق على الإسلام، أو نشر أشكال من الخلاعة والمجون من خلال الرقص
والغناء والانشغال بهما؛ لكن يبقى الهدف المستتر هو علمنة وتغريب الثقافة
الإسلامية باتخاذ أشكال خارجية قد يبدو لبعضهم أنها نابعة من التقاليد المحلية
(التراث القومي) لكنها مملوءة بمضامين أو تفسيرات تُجعل امتداداً للمفاهيم الغربية
في شتى جوانبها المتراوحة من الاحتفاء بالوثنية إلى الاحتفال بالإباحية.
إن مفهوم الثقافة كما يُروّج له الآن من عدة تيارات وجهات علمانية في العالم
العربي وهي جهات ملكت أدوات الفعل والقرار والتنفيذ الرسمية في العديد من
البلدان يخفي وراءه حتى ولو تسربل بثياب الثقافة الشعبية أو الجماهيرية انحيازاً
كاملاً للمفاهيم والتوجهات الغربية. وتحت هذا المفهوم وأبعاده تصبح الثقافة
الإسلامية وهي الثقافة الأصلية والأصيلة (لا ثقافة) . أي تصبح منفية ومقصاة
ومقموعة تحت شعارات جذابة هي رفض الرجعية والظلامية والانغلاق ... إلخ.
وهكذا يكشف هذا المفهوم عن أحد أشد جوانبه شراً وخطورة ألا وهو العنصرية
البغيضة التي ترفع شعارات العقل والتنوير والديمقراطية والحرية والتعددية وما
شابهه؛ ولكنها في الوقت نفسه تمارس أبشع أشكال الاستئصال والإقصاء للتيار
الثقافي الأصيل والغالب وهو الإسلام.
إن الدكتاتورية هي الوجه الآخر المختفي من مفهوم الثقافة الذي يحرص على
إظهار نفسه في صورة نظيفة ناصعة البياض.
والواقع أن مفهوم الثقافة هذا يكشف عند تدبره عن أوجه كثيرة تخالف كلها
المعلن منه، وتناقض مزاعم الدعاية الطنانة التي تُروّج له وتطنطن به جاعلة منه
لفظ مديح واستحسان حتى يحرص كل (مثقف) على أن يتصف به حتى يُعدّ من
زمرة المرضي عنهم! فإذا كان الشعار هو (الثقافة الوطنية) فإن المضمون غربي
علماني يناقض المفهوم العربي الإسلامي، وإذا كان الشعار هو الجماهيرية والشعبية
فإن المضمون هو النخبة والصفوة التي تحاول أن تُكْسِب أفكارها الخاصة والغريبة
عن الشعب والجماهير لباس الانتشار والذيوع والأصالة، كما تحاول أن تسلب
الأشكال الشعبية مضامينها الأصيلة وتملأها بمضامين معلمنة ثم تعيد إطلاقها وسط
الناس تحت زعم أنها تنتمي إليهم، وإذا كان الشعار المرفوع هو الديمقراطية
والانفتاح والتعددية فإن الممارسة المشهودة هي الاستبداد بالرأي وحجب المخالفين
حتى ولو كانوا يمثلون فكر الأغلبية وعقيدتها ثم رميهم بتهم الرجعية والتخلف.
إننا عندما نسمع وصف الثقافة والمثقف يُطلق اليوم على اعتبار أنه وصف
استحسان ومديح فإن علينا أن نبحث في الخلفيات والبواعث وفي حقيقة المضامين
المستخدمة ظاهرة وخفية، وعلينا أن نستكشف أبعاده المختلفة وأبعاد المفاهيم
الأخرى المقصاة عند استخدامه وهي في المقام الأول مفاهيم الثقافة الإسلامية.
ولعل هذا المقال يكون فاتحة نقاش واسع حول هذه المحاور.(138/108)
بأقلامهن
دور المرأة المسلمة في تنشئة الجيل الصالح
(1/2)
خولة درويش
الأمة بأبنائها وبناتها، بأجيالها البناءة المهيأة لنشر راية الإسلام خفاقة ودحر
عدوان ملل الكفر والطغيان ...
إن بناء الأجيال هو الذخر الباقي لما بعد الموت ... وهو لذلك يستحق
التشجيع والاهتمام أكثر من بناء القصور والمنازل من الحجارة والطين.
وحيث إن التربية ليست مسؤولية البيت وحده؛ إذ هناك عوامل أخرى تساهم
في تربية الأجيال، فسوف نتناول الدور التربوي للمرأة المسلمة في تنشئة الجيل
الصالح.
إنه لحلمٌ يراود كل أم مسلمة تملّك الإيمان شغاف قلبها، وتربع حب الله تعالى
وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على حنايا نفسها، أن ترى ابنها وقد سلك
سبل الرشاد، بعيداً عن متاهات الانحراف، يراقب الله في حركاته وسكناته، أن
تجد فلذة كبدها بطلاً يعيد أمجاد أمته، عالماً متبحراً في أمور الدين، ومبتكراً كل
مباح يسهّل شأن الدنيا.
إنها أمنية كل أم مسلمة، أن يكون ابنها علماً من أعلام الإسلام، يتمثل أمر
الله تعالى في أمور حياته كلها، يتطلع إلى ما عنده عز وجل من الأجر الجزيل،
يعيش بالإسلام وللإسلام.
وسيبقى ذلك مجرد حلم للأم التي تظن أن الأمومة تتمثل في الإنجاب، فتجعل
دورها لا يتعدى دور آلة التفريخ ... ! أو سيبقى رغبات وأماني لأم تجعل همها
إشباع معدة ابنها؛ فكأنها قد رضيت أن تجعل مهمتها أشبه بمهمة من يقوم بتسمين
العجول ... ! وتلك الأم التي تحيط أبناءها بالحب والحنان والتدليل وتلبية كل ما
يريدون من مطالب سواء الصالح منها أو الطالح، فهي أول من يكتوي بنار الأهواء
التي قد تلتهم ما في جعبتها من مال، وما في قلبها من قيم، وما في ضميرها من
أواصر؛ فإذا بابنها يبعثر ثروتها، ويهزأ بالمثل العليا والأخلاق النبيلة، ويقطع ما
أمر الله به أن يوصل.
والأم المدلّلة أول من يتلقى طعنات الانحراف؛ وأقسى الطعنات تتمثل في
عقوق ابنها.
ولنا أن نتساءل عن أهم ما يمكن للأم أن تقدمه لأبنائها.
أولاً: الإخلاص لله وحده:
إن عليها قبل كل شيء الإخلاص لله وحده؛ فقد قال تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
القَيِّمَةِ] [البينة: 5] ، فاحتسبي أختي المؤمنة كل جهد تكدحينه لتربية الأولاد، من سهر مضنٍ، أو معاناة في التوجيه المستمر، أو متابعة الدراسة، أو قيام بأعمال منزلية ... احتسبي ذلك كله عند الله وحده؛ فهو وحده لا يضيع مثقال ذرة، فقد قال جل شأنه: [وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ]
[الأنبياء: 47] فلا تجعلي للشيطان سلطاناً إن قال: أما آن لك أن ترتاحي..؟ !
فالرفاهية والراحة الموقوتة ليست هدفاً لمن تجعل هدفها الجنة ونعيمها المقيم.
والمسلمة ذات رسالة تُؤجَر عليها إن أحسنت أداءها، وقد مدح الرسول صلى
الله عليه وسلم المرأة بخصلتين بقوله: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناه
على ولد في صغره، وأدعاه على زوج في ذات يده) [1] .
ثانياً: العلم:
والأم المسلمة بعد أن تحيط بالحلال والحرام تتعرف على أصول التربية،
وتنمي معلوماتها باستمرار.
قال تعالى: [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] [طه: 114] فهذا ديننا دين يدعو إلى
العلم، فلماذا نحمّل الإسلام قصور تفكيرنا وتخلفنا عن التعلم، ليقال: إن الإسلام لا
يريد تعليم المرأة ... وإن الإسلام يكرس جهل المرأة؟ !
لا ... إن تاريخنا الإسلامي يزخر بالعالمات من مفسرات ومحدثات وفقيهات
وشاعرات وأديبات. كل ذلك حسب هدي الإسلام؛ فلا اختلاط ولا تبجح باسم العلم
والتحصيل!
فالعلم حصانة عن التردي والانحراف وراء تيارات قد تبهر أضواؤها من لا
تعرف السبيل الحق، فتنجرف إلى الهاوية باسم التجديد والتحضر الزائف، والتعليم
اللازم للمرأة، تفقهاً وأساليب دعوية، مبثوث في الكتاب والسنة. ومما تحتاج إليه
المرأة في أمور حياتها ليس مجاله التعلم في المدارس فحسب، وإنما يمكن تحصيله
بكل الطرق المشروعة في المساجد، وفي البيوت، وعن طريق الجيران، وفي
الزيارات المختلفة ... وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام لا يفقّهون
جيرانهم ولا يعلّمونهم ولا يعظونهم ولا يفهمونهم؟ ! ما بال أقوام لا يتعلمون من
جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله لَيُعلّمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم
ويأمرونهم وينهونهم، وَلَيتَعلّمنّ أقوام من جيرانهم ويتعظون أو لأعاجلنهم
بالعقوبة) [2] . فهيا ننهل من كل علم نافع حسب ما نستطيع، ولنجعل لنا في مكتبة البيت نصيباً؛ ولنا بذلك الأجر إن شاء الله.
ثالثاً: الشعور بالمسؤولية:
لا بد للمرأة من الشعور بالمسؤولية في تربية أولادها وعدم الغفلة والتساهل
في توجيههم كسلاً أو تسويفاً أو لا مبالاة.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ] [التحريم: 6] فلنجنب أنفسنا وأهلينا ما يستوجب النار.
فالمحاسبة عسيرة، والهول جسيم، وجهنم تقول: هل من مزيد؟ ! وما علينا
إلا كما قال عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم
قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر) .
ولن ينجي المرأة أنها ربت ابنها لكونها طاهية طعامه وغاسلة ثيابه؛ إذ لا بد
من إحسان التنشئة، ولا بد من تربية أبنائها على عقيدة سليمة وتوحيد صافٍ وعبادة
مستقيمة وأخلاق سوية وعلم نافع.
ولتسأل الأم نفسها: كم من الوقت خصّصتْ لمتابعة أولادها؟ وكم حَبَتهم من
جميل رعايتها، ورحابة صدرها، وحسن توجيهاتها؟ !
علماً بأن النصائح لن تجدي إن لم تكن الأم قدوة حسنة!
فيجب أن لا يُدْعى الابن لمكرمة، والأم تعمل بخلافها. وإلا فكيف تطلب منه
لساناً عفيفاً وهو لا يسمع إلا الشتائم والكلمات النابية تنهال عليه؟ ! وكيف تطلب
منه احترام الوقت، وهي أي أمه تمضي معظم وقتها في ارتياد الأسواق والثرثرة
في الهاتف أو خلال الزيارات؟ ! كيف.. وكيف؟
أختي المؤمنة: إن ابنك وديعة في يديك، فعليك رعايتها، وتقدير المسؤولية؛ فأنت صاحبة رسالة ستُسألين عنها، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] [التحريم: 6] .
أما متى نبدأ بتوجيه الصغير؟ ! فذلك إذا أحس الطفل بالقبيح وتجنبه،
وخاف أن يظهر منه أو فيه، فهذا يعني أن نفسه أصبحت مستعدة للتأديب صالحة
للعناية؛ ولهذا يجب أن لا تُهمل أو تُترك؛ بل يكون التوجيه المناسب للحدث بلا
مبالغة، وإلا فقدَ التوجيهُ قيمته. وفي كل تصرف من تصرفات المربية وكل كلمة
من كلماتها عليها أن تراقب ربها وتحاسب نفسها لئلا تفوتها الحكمة والموعظة
الحسنة، وأن تراعي خصائص النمو في الفترة التي يمر فيها ابنها، فلا تعامله
وهو شاب كما كان يعامل في الطفولة لئلا يتعرض للانحراف، وحتى لا تُوقِع
أخطاءُ التربية أبناءنا في متاهات المبادئ في المستقبل يتخبطون بين اللهو والتفاهة، أو الشطط والغلو؛ وما ذاك إلا للبعد عن التربية الرشيدة التي تسير على هدي
تعاليم الإسلام الحنيف؛ لذلك كان تأكيدنا على تنمية معلومات المرأة التربوية لتتمكن
من معرفة: لماذا توجه ابنها؟ ومتى توجهه؟ وما الطريقة المثلى لذلك؟
رابعاً: لا بد من التفاهم بين الأبوين:
فإن أخطأ أحدهما فليغضّ الآخر الطرف عن هذا الخطأ، وليتعاونا على الخير
بعيداً عن الخصام والشجار، خاصة أمام الأبناء؛ لئلا يؤدي ذلك إلى قلق الأبناء،
ومن ثم عدم استجابتهم لنصح الأبوين.
خامساً: إفشاء روح التدين داخل البيت:
إن الطفل الذي ينشأ في أسرة متدينة سيتفاعل مع الجو الروحي الذي يشيع في
أرجائها.. والسلوك النظيف بين أفرادها.
والنزعات الدينية والخلقية إن أُرسيت قواعدها في الطفولة فسوف تستمر في
فترة المراهقة ثم مرحلة الرشد عند أكثر الشباب، وإذا قصّر البيت في التربية
الإيمانية، فسوف يتوجه الأبناء نحو فلسفات ترضي عواطفهم وتشبع نزواتهم ليس
إلا.
فالواجب زرع الوازع الديني في نفوس الأبناء، ومن ثَمّ مساعدتهم على حسن
اختيار الأصدقاء؛ وذلك بتهيئة الأجواء المناسبة لاختيار الصحبة الصالحة من
الجوار الصالح والمدرسة الصالحة، وإعطائهم مناعة تقيهم من مصاحبة الأشرار.
سادساً: الدعاء للولد بالهداية وعدم الدعاء عليه بالسوء:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا
تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا
على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجاب لكم) [3] .
وأولاً وأخيراً: ينبغي ربط قلب الولد بالله عز وجل لتكون غايته مرضاة الله
والفوز بثوابه [فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ]
[الأنبياء: 94] . وهذا الربط يمكن أن تبثه الأمهات بالقدوة الطيبة، والكلمة ... المسؤولة، والمتابعة الحكيمة، والتوجيه الحسن، وتهيئة البيئة المعينة على الخير، حتى إذا كبر الشاب المؤمن تعهد نفسه: فيتوب عن خطئه إن أخطأ ويلتزم جادة الصواب، ويبتعد عن الدنايا، فتزكو نفسه ويرقى بها إلى مصافِّ نفوس المهتدين بعقيدة صلبة وعبادة خاشعة ونفسية مستقرة وعقل متفتح واعٍ وجسم قوي البنية، فيحيا بالإسلام وللإسلام، يستسهل الصعاب، ويستعذب المر، ويتفلت من جواذب الدنيا متطلعاً إلى ما أعده الله للمؤمنين المستقيمين على شريعته: [إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] [فصلت: 30] .
__________
(1) متفق عليه: البخاري، ح / 5082، ومسلم ح /2527.
(2) رواه الطبراني في الكبير.
(3) رواه مسلم، ك /الزهد والرقائق، ح /3014.(138/112)
مصطلحات ومفاهيم
أهْلُ الذِّمَّة
د. عثمان جمعة ضميرية
لقي مصطلح (أهل الذمة) شيئاً من الهجوم أو التحريف على أيدي بعض
المسلمين المعاصرين، بحجة الدفاع عن الإسلام، أو تقريب أحكامه لغير المسلمين؛ فكان من الواجب أن نتناول هذا المصطلح بشيء من البيان الإجمالي، بما يتفق
مع طبيعة المجلة واتساع صفحاتها، والله الموفق.
أولاً: الذمة في اللغة:
تطلق الذمّة والذّمام في اللغة على العهد والأمان، والضمان والكفالة، والحقّ، وكلّها معانٍ متقاربة. وتضييعها مذمومٌ؛ ولذلك تطلق كلمة (الذمة) و (المذمة)
على كلّ حرمةٍ يلزم من تضييعها الذمّ، ويسمى العهد ذمّةً؛ لأن نقضه وتضييعه
يوجب الذمّ.
ورجلٌ ذميّ معناه: له عهد، سُمّي بذلك؛ لأنه أُعطي الأمان على ذمة الجزية
التي تؤخذ منه.
ويراد بالذمة: العهد مؤقتاً كان أو مؤبّداً وذلك عقد الأمان وعقد الذمة، وقد
يحذف المضاف فيقال: (الذمة) بمعنى أهل الذمة.
ثانياً: الذمة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية:
لما نزل القرآن الكريم وحياً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت فيه
كلمة (الذمة) بمعنى العهد، والميثاق، والحِلْف، والقرابة. كما في قوله تعالى:
[كَيْفَ وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا ذِمَّةً] [التوبة: 8] ، أي: عهداً؛
فهو عبارة عن اللزم، ومنه سُمّي محل الالتزام من الآدمي: ذمة؛ فإن الذمة للآدمي
هي محل الالتزام بالعهد.
كما جاء ذكر الذمة في الحديث الشريف بأكثر المعاني اللغوية السابقة، كقوله
عليه الصلاة والسلام: (يسعى بذمتهم أدناهم) [1] . أي: إذا أعطى أحد من جيش
المسلمين العدوّ أماناً جاز ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن
ينقصوا عهده وأمانه.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ذمة المسلمين واحدة..) [2] .
وجاءت الذمة بمعنى (الحقّ) في حديث عليّ رضي الله عنه: (ما يُذْهِب عني
مذمّة الرّضاع؟ قال: غُرّةٌ؛ عبدٌ أو أمة) [3] . والمذمة هنا بالكسر والفتح: الحقّ
والذمة التي يُذَمّ مضيّعها.
ثالثاً: الذمة في الاصطلاح الشرعي العام:
تطلق الذمة في الشرع إطلاقاً عاماً بمعنيين:
(أحدهما) ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الذمة وصف اعتباري قدّره
الشارع في الإنسان، يصير به أهلاً للإلزام والالتزام؛ لأن الله تعالى لما خلق
الإنسان لحمل أمانة التكليف أكرمه بالعقل والذمة؛ ليكون بهما أهلاً لوجوب الحقوق
له وعليه؛ فثبت له حقّ العصمة والحرية والمالكية. وثبتت عليه حقوق الله تعالى
... والحاصل: أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلاً للوجوب له
وعليه.
(والمعنى الثاني للذمة) ما ذهب إليه بعضهم من أن الذمة والعهد يراد بهما
شرعاً: شخص أو نَفْسٌ ورقبة لها ذمة وعهد. فإذا قلنا: وجب في ذمته كذا، أو
ثبت في ذمته كذا ... فالمراد به: وجب في نفسه وذاته، أي في محل ثبت فيه
العهد الماضي، وهو النفس أو الرقبة باعتبار كونهما محلاً لذلك العهد؛ فالرقبة
تفسير للنفس، والعهد تفسير للذمة، وهذا عند التحقيق من تسمية المحلّ باسم الحالّ، ثم شاع هذا الاستعمال فأصبح حقيقة عرفية [4] .
رابعاً: الذمة في الاصطلاح الفقهي:
يطلق العلماء الذمة في الاصطلاح الفقهي في باب السّير والجهاد على العهد
مطلقاً، مؤقتاً كان أو مؤبداً، وهما عقد الذمة وعقد الأمان كما نجده عند الإمام محمد
بن الحسن الشيباني وعند العلامة ابن قيم الجوزية ولكن صار اصطلاح أهل الذمة
عبارة عمن يؤدي الجزية. وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وقد عاهدوا المسلمين على أن
يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله
ورسوله [5] .
خامساً: تعريف عقد الذمة:
عرّف العلماء عقد الذمة بتعريفات متعددة وألفاظ متقاربة؛ فهو عند الإمام
الشيباني: عقد ينتهي به القتال ويلتزم به الذميّ أحكام الإسلام فيما يرجع إلى
المعاملات، والرضا بالمقام في دار الإسلام.
وهو عند الشافعية: التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا وحمايتُهم والذبّ
عنهم، ببذل الجزية، والاستسلام من جهتهم. وبهذا التعريف أيضاً قال المالكية.
وهو عند الحنابلة: إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام
أحكام الملّة [6] .
وبعبارة أخرى: هو عقد يكتسب به غير المسلم حقّ الإقامة الدائمة في دار
الإسلام، مع حماية الشريعة الإسلامية، وذلك بمقابل دفع ضريبة تسمى الجزية،
ولقاء القيام بالواجبات العَقْديّة والعرفية [7] .
سادساً: تعريف أهل الذمة:
ومن تلك التعريفات للذمة، وعقد الذمة، جاء تعريف الذميين أو أهل الذمة
أنفسهم. فقال الأزهري: هم الذين يؤدون الجزية، من الكفار كلّهم، فيأمنون بها
على دمائهم وأموالهم.
وقال الغزاليّ الشافعي في تعريف الذميّ: هو كل كتابيّ ونحوه عاقلٍ بالغٍ حُرّ
ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية.
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: أهل الذمة هم الكفار المقيمون تحت ذمة
المسلمين بالجزية [8] .
وعلى هذا؛ فأهل الذمة هم: الأجانب غير المسلمين الذين يقيمون في دار
الإسلام إقامة دائمة على أساس عقد الذمة الذي يحدّد مركزهم وحقوقهم وواجباتهم.
وأهل الذمة يُسمّون كذلك: (أهل ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن
عقد الذمة كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي ذلك تأكيد لصيانة
حقوقهم كاملة. وسُمّوا (أهل الذمة) لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم؛ فهم أهل
العقد والعهد.
سابعاً: مشروعية عقد الذمة وتاريخه:
الأصل في مشروعية عقد الذمة: قوله تعالى في سورة التوبة: [قَاتِلُوا الَذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]
[التوبة: 29] .
وسورة التوبة نزلت بعد فتح مكة المكرمة، في السنة التاسعة للهجرة، وكان
نزول هذه الآية الكريمة منها حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغزوة
تبوك ومواجهة الروم وعمّالهم من الغساسنة المسيحيين العرب، فمشروعية عقد
الذمة وأخذ الجزية إنما كانت بعد نزول سورة التوبة [بَرَاءةٌ] ، وأما ما كان قبل
ذلك، بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وغيرهم كاليهود في المدينة
أول العهد والهجرة إليها فهذه عهود ومعاهدات إلى مُدَدٍ معينة، لا على أنهم داخلون
في ذمة الإسلام وحكمه [9] .
ثم تواردت الأحاديث القولية والسنة العملية تبيّن مشروعية الجزية وعقد الذمة، وجرى على ذلك العمل في عهد الخلفاء الراشدين، ومَنْ بعدهم في صدر الدولة
الإسلامية، إلى وقت قريب؛ حيث اختفى أو توارى هذا النظام في العمل الدولي
الإسلامي المعاصر نتيجة لملابسات وتطورات لا يجوز أن تؤثر على أصل الحكم
الشرعي [10] .
ثامناً: حكمة مشروعية عقد الذمة:
يوجب الإسلام تأليف قلوب غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام وحسن
معاملتهم. وإقامة غير المسلمين في دار الإسلام إقامة دائمة سبيلٌ للدعوة إلى الإسلام
بأحسن الطرق من خلال المخالطة والمعاملة المتبادلة، وبذلك يتعرف غير المسلمين
على أحكام الإسلام ومحاسنه ودلائله؛ مما قد يحملهم ذلك على الدخول فيه عن
طواعية واختيار، وعن قناعة ورضى، وهذا يعني أن المسلمين ينبغي أن يكونوا
في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم ترجمة صادقة لأحكام الإسلام.
تاسعاً: مَنْ تُعْقد لهم الذمة؟ :
انعقد إجماع العلماء على عقد الذمة وقبول الجزية من أهل الكتابيْن اليهود
والنصارى والمجوس، وأهل الأوثان من العجم، وعلى عدم قبولها من المرتدّين.
ووقع الخلاف فيما وراء ذلك؛ فذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن إلى
أنها تُقْبل من مشركي العرب. وهو رواية عن الإمام أحمد. وقال أبو يوسف
القاضي: لا تؤخذ من العربي؛ كتابياً كان أو مشركاً. وذهب الشافعي إلى أن
الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً،
ولا تؤخذ من المشركين بحالٍ. وذهب الأوزاعي ومالك إلى أنها تؤخذ من جميع
الكفار إلا المرتدّ.
وقد رجح القاضي أبو بكر العربي، وابن تيمية، وابن القيم والشوكاني
رجحوا هذا المذهب الأخير في عقد الذمة لجميع الكفار عدا المرتدين؛ لأن أخذ
الجزية من المجوس وهم أهل شرك دليل على جواز أخذها من جميع المشركين؛
وليس في القرآن الكريم ولا الحديث الشريف تخصيص العرب بحكمٍ من أحكام
الشريعة.
وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من أهل الأوثان العرب؛ لأنهم كانوا قد
أسلموا قبل نزول آية الجزية، كما لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه؛ لأن آية
الجزية لم تكن نزلت بعد، ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على
بعض [11] .
عاشراً: مركز الذميين:
القاعدة العامة في مركز أهل الذمة في الدولة الإسلامية دار الإسلام أنهم رعية
من رعاياها، يسري عليهم القانون الإسلامي فيما يتعلق بشؤونهم الدنيوية،
ويلتزمون بأحكام الإسلام فيما يعود إلى العقوبات والمعاملات، فيما يُحْكم به عليهم
من أداء الحقوق أو ترك المحرّمات؛ لأنهم من أهل دار الإسلام، وفيما عدا ما
يختصون به من أحكام دينهم في الاعتقادات والعبادات، وفي الزواج والطلاق
(الأحوال الشخصية) ونحو ذلك مما يرونه عندهم فهم فيه أحرار، لا يتعرض لهم
المسلمون بشيء.
والحكم العام الذي يطبّق على أهل الذمة في الدولة الإسلامية هو ما عبّر عنه
عليّ [بقوله: (من كانت له ذمتنا فَدَمُه كدَمِنا ودِيتُه كديتنا) ] 12 [.
وعلى هذا؛ فإن ما يطلقه بعض الكتّاب من المساواة التامة بين المسلمين
والذميين، ليس صحيحاً على إطلاقه، وإنما ينبغي تقييده، فهي مساواة أمام القانون
وليست مساواة في القانون كما عبّر بعضهم عن ذلك؛ وذلك لأن بعض الحقوق
والحريات لها مواصفات لا تنطبق على الذميين] 13 [.
وذلك كله منبثق من أن الذميين رعية من رعايا دار الإسلام، وإن لم يكونوا
جزءاً من الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها معنىً ديني؛ ولهذا؛ فلا يتمتع
الذميون بالجنسية الإسلامية، وإن كان بعض المعاصرين يميل إلى أنهم يتمتعون بها
باعتبارهم من أهل دار الإسلام، مع أن رابطة الجنسية بالمفهوم الحديث رابطة
حدثية.
ولا نجد ضيراً في اعتبار الذميين أجانب عن دار الإسلام، لا يتمتعون
بجنسيتها، طالما أنهم رعية من رعاياها يتمتعون بحقوقهم كاملة غير منقوصة.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن هذا كله لا يتنافى مع الحكم الديني على
الذميين بأنهم كفار؛ حيث ثبت ذلك بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، كقوله
تعالى:] لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [، وقوله:] لَقَدْ كَفَرَ
الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [] المائدة: 72-73 [إلخ.
ولذلك لا يجوز أن يحملنا التسامح على الالتفاف على النصوص وتحريفها
لتوافق أغراضاً وأهواءً منحرفة.
__________
(1) حديث صحيح روي من طرق عن عدد من الصحابة انظر: (سنن أبي داود) : 4/58، (مسند الطيالسي) ، ص (299) ، (مصنف عبد الرزاق) : 5/ 226، (سنن النسائي) : 8/24، وصححه الحاكم: 2/141، وعلّقه الترمذي: 5 /203، وأصله في الصحيحين كما في التعليق الآتي.
(2) أخرجه البخاري: 4/81، ومسلم: 2/994.
(3) أخرجه المعافى بن زكريا، ووكيع، وابن عساكر انظر: (كنز العمال) : 16/199.
(4) انظر تلك المعاني السابقة في: (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس: 2/ 345 346، (القاموس المحيط) : 2/267، (الكلّيات) للكفوي: 2/346 347، (مفردات القرآن) للراغب، ص (262) ، (أصول السرخسي) : 2/332، (كشف الأسرار عن أصول البزدوي) للبخاري: 4/237 238، (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي: 2/324، (الفروق) للقرافي: 3/33، 226 236.
(5) انظر: (السّير الكبير) مع شرح السرخسي: 1/252، (بدائع الصنائع) للكاساني: 9/4318، 4327، (أحكام أهل الذمة) لابن القيم: 2/475- 476.
(6) انظر: (الوجيز) للغزالي: 2/197، (عقد الجواهر الثمينة) لابن شاس: 1/485، (المبدع شرح المقنع) لابن مفلح: 3/404.
(7) انظر: (أحكام القانون الدولي في الشريعة) د حامد سلطان، ص (224) ، (أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني) لكاتب هذا المقال، ص (436 437) .
(8) (الوجيز) : 2/198، (الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي) لابن عبد الهادي: 1/290.
(9) انظر: (أحكام القرآن) للإمام أبي بكر الجصّاص: 1/142.
(10) انظر الأدلة وتخريجها بالتفصيل في (أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني) ص (438 444) .
(11) انظر: (أحكام القرآن) لابن العربي: 2/922، (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) :
19/18 30، 28/356، (زاد المعاد) لابن القيم: 5/91 92، (أحكام أهل الذمة) له أيضاً:
1/6 12، (السيل الجرار) للشوكاني: 4/571.
(12) انظر: (قانون السلام في الإسلام) د محمد طلعت الغنيمي، ص (423 428) .
(13) انظر: (قانون السلام في الإسلام) د محمد طلعت الغنيمي، ص (423- 428) .(138/116)
متابعات
سيرة عالم ودعنا
د. طارق بن محمد عبد الله الخويطر
يوم السبت الموافق السابع عشر من شهر ذي الحجة من عام تسعة عشر
وأربعمائة وألف فقد المسلمون عالماً جليلاً، ومربياً فاضلاً ومعلماً حكيماً، وقد أبكى
هذا الحدث الصغير والكبير، والقريب والبعيد، رأينا في المقبرة أناساً حضروا
للصلاة والدفن ممن لم يروا الشيخ أبداً، ومع ذلك؛ فقد ملئت قلوبهم بمحبته بسبب
سماعهم لسيرته الحسنة وأخلاقه الفاضلة، ولم يخطر ببال أحد أن يرى هذه الأمواج
من الناس الحاضرين لأجل الصلاة والدفن؛ فكل يوم يُفقد أناس ولكن لم يعهد هذا
الحضور المزدحم في الشوارع وفي المسجد حتى صلت جماعات بعد الإمام لعدم
تمكنهم من الصلاة معه، ومن رأى هذا الموقف تذكر كلام العلماء السابقين رحمهم
الله فقد وصفوا جنائز العلماء بأنها مشهودة من خلق كثير، ولذا؛ قال الإمام أحمد
بن حنبل رضي الله عنه لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز) فخرج في جنازته بغداد
كلها، وخرج في جنازة ابن أبي دؤاد وهو من أشعل نار الفتنة خرج معه ثلاثة
رجال، دفنوه في جنح الظلام خائفين، ولعل طلبة العلم وغيرهم ممن رأى ذلك
الجمع المشهود أحبوا أن يتعرفوا على شخصية الشيخ ليسيروا في طريق المجد
فأقول:
ولد الشيخ رحمه الله في عام 1341هـ من أبوين صالحين، تُوفي والده
وعمره 13 عاماً، فحضنته أمه الصالحة، وأحسنت تربيته؛ فعكف على القرآن
الكريم حتى حفظه حفظاً متقناً، ثم سافر إلى الرياض لحضور حلقات سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم رحمه الله فلازمه مدةً حفظ خلالها أهم المتون العلمية في: الفقه،
والعقيدة، والحديث، والنحو، حتى كوّن قاعدة علمية صلبة، وذلك راجع إلى
فضل الله جل وعلا ثم إلى جَلَده وصبره من أجل العلم؛ فقد كان يردد حفظه في
أوقات نوم الطلاب بعد الظهر وبعد العشاء فجمع في فترة قصيرة حفظاً وفهماً ميزه
عن بعض زملائه.
وقد نُقِل للشيخ محمد بن إبراهيم مثابرته وجده في التحصيل فعينه قاضياً في
سدير عام 1368هـ، فذهب إليها وبقي فيها نحو أربع سنوات. ومع صغر سنه
ذلك الوقت إلا أنه رحمه الله عقد للناس دروساً في الفقه والعقيدة والحديث؛ وقد
أحبه الناس هناك لمّا رأوا علمه وتواضعه، فطلبوا من سماحة الشيخ محمد بن
إبراهيم إبقاءه عندهم للفائدة التي لمسوها من وجوده.
انتقل بعدها إلى محكمة شقراء وتوابعها، ثم درّس في المعهد العلمي بشقراء
لما افتُتح وبقي في شقراء حتى عام (1381هـ) حيث انتقل في آخر ذلك العام إلى
رئاسة محاكم الإحساء فكان قاضياً وإماماً وخطيباً، ثم انتقل إلى العمل في مجلس
القضاء الأعلى وبقي فيه حتى طلب التقاعد في أواخر عام (1409هـ) .
وقد انضم رحمه الله إلى هيئة كبار العلماء عند تشكيلها وذلك عام 1391هـ،
ومنذ ذلك العام كانت له مشاركة في برنامج (نور على الدرب) في الإذاعة السعودية.
كانت له مكاتبات مع الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وكانت له صلة
بأصحاب الفضيلة العلماء الشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ
عبد العزيز بن باز، وقد صدر له رسالة صغيرة بعنوان: قتل الغيلة عام 1419 هـ، وهي وجهة نظر قديمة للشيخ. حرر فيها مذهب المالكية والذي اعتمده مَنْ
قال إن القاتل غيلة يُقتل حداً، ولا يجوز العفو عنه. وفي الطريق إن شاء الله إلى
الظهور فتاوى (نور على الدرب) ومقالات بعض العلماء والأدباء في ترجمة الشيخ.
وقد خلّف أولاداً قد استفادوا من سيرة والدهم فمنهم: المهندس، والضابط،
والمدرس. نسأل الله له المغفرة والرحمة، وأن يرزقه الحسنى وزيادة؛ إنه ولي
ذلك والقادر عليه.(138/122)
منتدى القراء
جراحاتنا تتوالى
علي بن أحمد الجميلي
جرحٌ يثورُ وحسرةٌ تتجددُ ... والقلب يشكو والحقيقة توأدُ
والأمة الثكلى تنوح وتشتكي ... والجرح فيها لم يزل يتولدُ
والخصم يغرز خنجراً في جسمها ... وبحكم قانون العدالة تُجهدُ
فعلى ثرى (البلقان) جرحٌ مؤلمٌ ... ما زال في أيامنا يتجددُ
وإذا (كسوفا) والدخان مكثفٌ ... والكون في داجي الظلام مُلبّدُ
جاء الصليب بعدّه وعتاده ... وبكل قوات الدمار يُزودُ
بالأمس أشرع في سراييفو يداً ... ومخالباً للجارحات تعددُ
واليوم يبدأ جولة محمومة ... قصفاً هنا، وهناك روحٌ تَصْعَدُ
تجري دماء المسلمين كأنها ... نهرٌ يشق مساره لا يركدُ
وصغيرة فوق الترابِ منامها ... وتُصعّدُ الزفراتِ ثم تُصعّدُ
ألْقت إليّ بنظرة في حيرة ... وكأنها تبغي لها من ينجدُ
قالت وحالتها تسابق نطقها: ... إني هنا في حالة لا تُحسدُ
عماهُ أفترش الترابَ وخيمتي ... سحبٌ فهل يحلو بهذا مرقدُ؟
عماهُ كان أبي يدللني وقد ... أضحى هناك بقبره يتوسدُ
عماهُ ما للمسلمين لأمرنا ... وكأنهم عن كل حِسٍ جُردوا؟
صار الجهاد جريمةً وخيانةً ... والرقصُ والإيقاع فعلاً يحمدُ
أنا من حملت الدين بين جوانحي ... فلأجله دون البقية أُطرَدُ
لو كان ما بي في اليهود لأقبلت ... من كل ناحية يهودٌ تَحشدُ
أو كان مابي في الصليب لأقبلت ... أقوامه ضد العدو تُسدّدُ
لكنني بالله أطلب عزتي ... فهو الذي يعطي الجميع ويُنجدُ
فعقيدتي بين الضلوع حملتها ... فأنا برغم مصائبي أتجلدُ
عماه قل للمسلمين ترقبوا ... فالنصر آت والإله مؤيدُُ
شياه في سوق الأمم
عبد الرحمن بدماسي أصيل
لكم صرنا إلى ذل ... وكم بؤنا بخسران
وكم جدنا بأموال ... وكم جدنا بأوطان
تعال انظر إلينا اليوم ... يا هادي ويا حاني
تعال انظر إلى غنم ... تساق بخسة الشان
تساق إلى مجازرها ... بإصغاء وإذعان
تلقفنا مناهجهم ... فصرنا شبه خرفان
ألا عذراً لخرفان ... ألا عذراً بني الضان
فإن الله برأكم ... بآيات وتبيان
لقد كنا أسود الغاب ... لم نعبأ بفئران
خيول الله قد ركبت ... إلى فرس ورومان
جحافلنا لقد خرجت ... (تدكّ معاقل الجاني)
لقد كنا مصابيحاً ... بإسلام وإيماني
***
هموم وهجوم
مالك بن فيصل الإبراهيم
للشعر في قلبي مقامٌ سام ... إنْ مَسّهُ جمرُ الحياةِ سقاني
كم عِشتُ في أفيائهِ مترنماً ... أشدو مع الشادينَ في البستان
منه ارتشفتُ عبارتي متحدياً ... خصمي وما قد صَبّ من طغيان
فأصبّ من لأوائِه وشُواظِهِ ... ناراً تحرّق خُطةَ الصّلبان
هو روضتي الغناء من أزهارِها ... حُبِكَ القصيدُ بأجملِ الألوان
ووعاء ذاكرتي ودفتر سيرتي ... وصحيفةُ التاريخ والوجدان
يا شعرُ يا ملكَ الفنون بٍسحره ... يا أروع التبيان للإنسان
حَنّتْ إلى ذكراك داعيةُ الأسى ... وهفا إلى لقياكَ سِرّ كياني
أستمنحُ الأفكارَ من ينبوعِها ... وأصوغها شِعْراً جميل الشان
أستنطِقُ الألحانَ وهي حزينةٌ ... فتهزني بروائها الفتان
نظمٌ من الوجدانِ صافح ثغرَهُ ... كَلِمُ الجنان برائع التحنان
سِرْبٌ إلى حُفرِ النفوسِ وقلبها ... يحثو الشعور بمدمعٍ هتان
... ... ... ... ... ***
حوار معها! !
عبد الله عطية الزهراني
ذَكّرتُ علّ الذّكْرَ فيها يَنْفعُ ... وتَعِبْتُ أبْغي الشّرّ عنْها يُدْفَعُ
لِمَ لا تريدينَ السّلامَ وأمْنَهُ؟ ... أوَ مَا رَأيتِ يدَ المنيّةِ تَرْدَعُ؟
أوَ مَا عَلِمْتِ بأنّ جسْمِي نَاحِلٌ ... مِما صَنَعْتِ، وأنّ قَلبي مُوجعُ؟
أوَ مَا تُريدينَ الجِنانَ وحُسنها ... عِنْدَ الإلهِ، فنِعمَ ذَاكَ المطمَعُ؟
أوَ مَا عَملْتِ لهولِ يومٍ بأسُهُ ... دَكّ الجبالَ، ولمْ تكُنْ تتزعْزعُ؟
قالتْ وفيِ العَينين حقْدٌ واضحٌ ... تَبْدو شرارتُهُ، وسمّ يتْرَعُ
بيني وبينكَ صولَةٌ لا تنْتهي، ... البأسُ فيها، والصّوارمُ تقْطعُ
بيني وبينكَ جولةٌ أعْدَدْتُها ... إبليسُ قائدُها يُبيحُ ويمنعُ
جُنْدي كثيرٌ، والمقانِبُ [1] كظّةٌ ... بالخيل عندي، والأسنّةُ تُشرَعُ
وبصفّيَ الدّنيا عليك، ولِلْهَوى ... كَفّ تؤازِرُني، وكفّ تصْفَعُ
يا أيها الخصْمُ الذّي عامَلْتُهُ ... بالحسنِ، والأحقادُ عنْها أرفَعُ
لسْتُ الوحيدَ فإنّ قلبي مفعمٌ ... بالدّين، والإيمانُ لا يتضْعضعُ
ربّي مَعي أنّى اتّجهتُ بنورهِ ... يزدانُ درْبي، بالعقيدةِ أصْدَعُ
واللهِ لو قُطّعْتُ حتّى ينْتهي ... جَسدي، فلا عظمٌ يظلّ وإصبَعُ
ما كنتُ للإسلامِ خصماً طالبا ... نصراً، فإنّي بالشريعةِ مُولَعُ
الحرب الضروس
صلاح نور عبد الشكور
(كأس وغانية تفعلان في تدمير الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع) نعم
لقد أدرك أعداء الإسلام خطورة هذا الجانب في الوقت الذي يجهله كثير من
المسلمين ويا للأسف ... حرب الأخلاق والقيم.. تبدد الشعوب والأمم ... وتُخِير
العزائم والهمم، وتجعل الفرد منتمياً إلى دينه بهويته وبلدته؛ لكنه منحازٌ لأعدائه
بأفكاره وأخلاقه وتعامله. أليست المنية أفضل من أن يكون المرء كذلك؟ ! !
نعم لقد تفرق شمل اليهود والنصارى، واختلفت آراؤهم وتباينت معتقداتهم
كما قال المولى -جل وعلا-: [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] [الحشر: 14] .
نعم تفرقوا إلا علينا.
ولست ألقي اللوم على الأعداء في خططهم وتآمرهم لهدم كيان هذا الدين،
ولكني ألقي اللوم كل اللوم على من مشى وراءهم ومدّ لهم يد التأييد وسخر قلمه
ولسانه معهم ...
وفي النهاية.. ما هي إلا دعوة صادقة للرجوع لهذا الدين والتمسك بقيمه
وأخلاقه والسير على منهجه بنور الكتاب والسنة؛ حتى يتحقق وعد الله عز وجل:
[وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: 55] .
__________
(1) المقانب: جماعات الناس، ومفردها مِقنَب.(138/124)
الورقة الأخيرة
إكسير الحياة
عبد الرحمن الحسيني
عجيبٌ هو أمر القلوب في حبها وكرهها.. وإقبالها وإدبارها.. وقبولها
ورفضها.. وقوتها وضعفها.. وصحتها وسقمها!
والأعجب أن ترى لها وتسمع عنها في القرآن الكريم تصويراتٍ فذةً،
وعباراتٍ قويةً معبرة؛ تشد الأسماع، وتحير الألباب، وترسخ في الحس ... إن
أمرها أخطر بكثير مما يحسب الإنسان!
وليس شيءٌ يملك به الإنسان قلبه أعظم من الثقة بربه عز وجل بل بها يملك
دنياه وآخرته.
إنها التاج الحق الذي لم يعرفه أصحاب التيجان، والقدم الصدق الذي يفر منه
أهل الحوْل والصولجان!
ولنتأمل موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام واهتزاز نمرود أمامه، وكيف أنه
بمنطقٍ بسيط استطاع أن يهزمه؛ حتى وهو في النار، وهو يرد على جبريل بقوله: أما إليك فلا!
أو موقف غلامٍ صغير في مملكةٍ كبيرة أمام ملكٍ جبار (صاحب الأخدود) ، وقد
سد عليه الملك السبيل؛ فيفتح هو بتاجه المغاليق، ويرجع إليه معلناً عن الفوز
بجولةٍ جديدة! !
ويلخص لنا أحد العلماء سر تلك المواقف في قوله: (استحضرتُ عظمة الله؛
فرأيتُ السلطان أمامي كالقط) .
أي ثقة تلك التي يستشعرها الداعية وهو يقرأ قول ربه: [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] [الطور: 48] ، أو قوله تعالى: [وَاصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
المُحْسِنِينَ] ؟ ! [هود: 115] .
وأي بردٍ يجده وهو يطرح همومه وشجونه وحوله وطوله وقوته بين يدي ربه
في خلوة مسجد أو خبوة دار، وهو ينادي مَنْ وَسِعَ سمعه الأصوات: [أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ؟ ! [الأنبياء: 83] .
إن أهل الثقة هم أهل الولاية والهداية والرعاية والنصرة والإمامة والتمكين: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ]
[السجدة: 24] .
وهذه الثقة لها في القرآن مواقف شتى، وأمثلةٌ كثيرة، وهي في سِيَر
الصالحين؛ حتى لتكاد أن يكون لها لسانٌ حيناً لتنطق به في قول يعقوب عليه
السلام: [إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ]
[يوسف: 86] وعلى لسان السحرة: [ ... فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ] [طه: 72] .
وتبث أحاسيسها حيناً آخر؛ ليخفق بها القلب وتحرك المواقف والأشخاص..
[وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأََ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ... ]
[التوبة: 118] .
والأمثلة كثيرة، والمواقف أكثر، غير أن موقف امرأةٍ يشي بذلك كله؛ وهي
تُلقي بفلذة كبدها في اليم كي تحفظه! ! ثم تدفع بعد ذلك الخوف والحزن عن نفسها، وتستبشر بفرج السماء! ؛ ليخرج وليدها من اليم؛ فيغير الله به الأرض: [فَإذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
المُرْسَلِينَ] [القصص: 7] .
حقاً! ! إن تغيير وجه الأرض يبدأ من نقطةٍ واحدة: هي تغيير ما في القلوب
أولاً.. [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
ويوم أن يوجد في كل مدينة رجلٌ من هذا الطراز يربي على يديه رجلاً في
كل حي؛ ليُخرِج كلّ منهم نموذجاً في كل مسجد؛ فهنالك يأتي الفرج إن شاء الله
تحقيقاً لا تعليقاً.
فثقوا بالله وأبشروا [وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ] [يوسف: 87] ،
و [وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ] [الحجر: 65] .(138/127)
ربيع الأول - 1420هـ
يوليو - 1999م
(السنة: 14)(139/)
كلمة صغيرة
وماذا ننتظر من باراك..؟ !
وأخيراً رحل نتنياهو من رئاسة الوزراء، وخلفه صاحبه مرشح اليسار (إيهود
باراك) رئيس حزب العمل الإسرائيلي، فهل يختلف باراك عن نتنياهو؟ وهل
يتوقع أن تسترد الحقوق العربية التي جحدها نتنياهو كما يحلم بذلك دعاة السلام؟ !
إن الرجلين يهوديان متعصبان نذرا نفسيهما لخدمة الدولة الصهيونية، وباراك
لا يقل عن صاحبه تعصباً وحقداً على المسلمين، وإن كان أكثر دبلوماسية وأقدر
على المناورة والمخادعة. وكثيراً ما كان يدعو إلى بناء عسكري قوي ل (إسرائيل)
لترويض الخصوم، وكان يقول:، (على جيراننا الخضوع لمطالب إسرائيل) ،
وقد وصفه أحد المحللين اليهود عشية الانتخابات الإسرائيلية بأنه: (يؤمن بجيش
قوي، ويحاول التوصل إلى اتفاق من خلال القوة، وكان باراك ينادي في حملته
الانتخابية: بأن (القدس) يجب أن تظل عاصمة (إسرائيل) الأبدية وغير المقسمة! !
إن العرب السذج الذين يتوقعون انتزاع حقوقهم من خلال المفاوضات مع
(حزب العمل الإسرائيلي) يعيشون وهماً عريضاً طغى على عقولهم، وأبعدهم عن
ساحة الصراع الحقيقية! ! فحزب العمل هو الذي قاد معظم الصراعات والحروب
مع العرب منذ اللبنة الأولى لبناء (إسرائيل) ، فهل يعي هؤلاء القوم هذه الحقيقة؟ !(139/1)
الافتتاحية
الإمام ابن باز.. رجلٌ بأمَّة
للعلماء منزلة جليلة في دين الإسلام دونها بقية المنازل عدا الأنبياء؛ فقد
شرف الله تعالى العلماء ورفع أقدارهم وأعلى منازلهم. قال الله تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ
الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] [المجادلة: 11] .
وتتجلى مكانة العلماء في كونهم (ورثة الأنبياء) ، يسيرون على منهاجهم،
ويقتفون سننهم في رفع راية الإسلام، والدعوة إلى الله - تعالى -، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ورعاية حقوق الأمة.
ولا تزال الأمّة بخير ما دام فيها علماء ربانيون راسخون في العلم يسلكون
السبيل المستقيم، ويسيرون على المنهاج القويم، لا يضرهم من خذلهم ولا من
خالفهم.
ولذا كانت الرزية بفقد العلماء كبيرة، والخسارة بموتهم عظيمة. قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور
العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً
جهالاً فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) [1] .
ولقد رزئت الأمة الإسلامية في أواخر شهر الله المحرم بفقد إمامها وشيخها
(سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز) - رحمه الله رحمة واسعة -
وتزلزلت قلوب المؤمنين، واهتزت النفوس فرقاً عليه، وتصدعت قلوب الصالحين
حزناً وألماً، فوقْع المصيبة كان عظيماً، ولا غرو؛ فللإمام في النفوس مقامٌ سامٍ
وجليل.
تبكيه مكة والمشاعر كلها ... وحجيجها والنسك والإحرام
تبكيه طيبة والسهول ومن بها ... وعقيقها وجبالها الأعلام
تبكيه كل الأرض حزناً جامحاً ... غرباً وشرقاً أمة الإسلام
كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - مرآة صادقة لأئمة
السلف، وكان علماً شامخاً، ونجماً ساطعاً، وينبوعاً كريماً من ينابيع الخير
والحكمة، نذر نفسه لخدمة هذا الدين، وظلّ طيلة سنوات عمره مدافعاً عن الشريعة، ومنافحاً عن السنة، حريصاً على نصرة الحق، قائماً على العلم والتدريس ونشر
السنة وقمع البدعة والضلالة.
جمع سماحته الكثير من المزايا الكريمة والصفات الجليلة التي جعلته يتربع
على عرش العلم والدعوة ردحاً من الزمن، ولا يتسع هذا المقام لتتبع مناقبه ومآثره، ولكن حسبنا أن نشير هنا إشارات مختصرة إلى شيء يسير من خصائصه التي
تميز بها:
أولاً: من معالم منهجه العلمي:
جمع الله - تعالى - لإمامنا علماً عظيماً؛ فهو بحر من بحور العلم والفهم،
تميز - رحمه الله - بمنهج علمي غاية في القوة والأصالة، ومن خصاله في هذا
الباب:
1- عنايته القصوى بالدليل، وحرصه الكبير على تعظيم النص الشرعي،
والوقوف عند حدوده، وكان - رحمه الله - يُعنى عناية فائقة بمعرفة صحيح
الحديث من سقيمه، وبدراسة الأسانيد ومعرفة الرجال.
2- كان - رحمه الله فقيهاً مجتهداً، وعالماً بصيراً، ومفتياً متيقظاً، ينأى
بنفسه عن التقليد الأعمى، ومع ذلك؛ فقد كان معظّماً لعلماء الأمة ومجتهديها من
المتقدمين والمتأخرين، يحرص على تتبع أقوالهم ودراسة اجتهاداتهم، ويُرجّح منها
ما يدلّ عليه الدليل الشرعي الصحيح، بكل تجرد وإنصاف، بعيداً عن التعصب
والمعاندة.
وكان من تورعه وإنصافه ينهى عن تقليده، ويحث أهل العلم القادرين على
الاجتهاد والنظر وضرورة الرجوع إلى الأدلة والنصوص الشرعية، والاهتداء
بهدي السلف الصالح - رضي الله عنهم.
لقد كان التقليد والالتزام بالمذهب صفة سائدة في عصره عند كثير من العلماء
وطلاب العلم، ولكنه - رحمه الله - استطاع بعلمه الراسخ وفهمه الثاقب أن يكسر
جمود التقليد، وينهل من معين الكتاب والسنة النبوية، ويحيي مدرسة فقهاء
المحدّثين - رحمهم الله تعالى -، ومع ذلك كان يوصي طلاب العلم بضرورة التأني
والتورع، والحذر من الجرأة في الفتوى قبل استيفاء أدواتها واستكمال ضوابطها
وقواعدها العلمية.
3- مراعاته التيسير والرفق بالناس، وحرصه على التوسعة عليهم - قدر
الطاقة - بعلم وحكمة، وكان - رحمه الله تعالى - شفيقاً رفيقاً حريصاً حرصاً
شديداً على إزالة الحرج ورفع المشقة عنهم، وله نصيب وافر من قول الإمام سفيان
الثوري: (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد) [2] .
4- تحريه وتثبته في جميع المسائل؛ فكثيراً ما تراه يطيل النظر والتأمل،
وكثيراً ما يعمد إلى البحث والمراجعة، ولا يتحرج على الإطلاق من استشارة غيره
من العلماء؛ بل قد يستشير بعض النابهين من تلاميذه وأصحابه. وكان من شدة
رسوخه في العلم، وشدة تورعه وتجرده يتحرى الحق ولا يتردد في الرجوع عن
بعض أقواله إذا تبيّن له الحق في قول آخر.
5- مراعاته للمصالح الشرعية للناس، وحرصه على درء المفاسد عنهم قدر
الإمكان، مع حرصه الشديد على سد أبواب الذرائع التي قد توصلهم إلى المفاسد.
ثانياً: من معالم منهجه الدعوي:
كان الشيخ علماً من أعلام الدعوة، ورأساً من رؤوس الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، ومن معالم منهاجه الدعوي:
1- إلمامه بأحوال العصر ومتغيراته، وحرصه على تتبع أحوال المسلمين
وأخبارهم، وإدراكه لكثير من المكائد والدسائس التي يكيدها أعداء الله - تعالى -
على الأمة الإسلامية. ولقد كان سماحة الشيخ واسع الأفق، كثير الاطلاع، بصيراً
بأحوال المسلمين، وكان الدعاة والمصلحون من المشرق والمغرب يلجؤون إليه
لإطلاعه على أحوالهم، والاستئناس برأيه، وأخذ مشورته، فكان - رحمه الله -
يفتح قلبه لهم، ويصغي إليهم بعناية، ويُقبِل عليهم بحرص، ويُخلص لهم النصيحة، ويشدّ على أيديهم ويرفع من عزائمهم.
لقد كان الشيخ في وسط الأحداث التي تمر بها الأمة الإسلامية، ولم يكن في
يوم من الأيام بمعزل عن آلامها وآمالها، بل كان في مقدمة السائرين، يحدوهم
بعلمه ودعوته، ويضرب لهم المثل السامي بحرصه وعنايته.
2- من الصفات الجليلة التي لا تخفى عن الشيخ - رحمه الله - أنّه كان
صلباً قوياً، قوّالاً بالحق، يصدع بما يؤمن به دون تردد، آمراً بالمعروف، ناهياً
عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم. لقد كان الشيخ غيوراً على دين الله -
تعالى - يتمعر وجهه غضباً لله - عز وجل - إذا علم بمنكر من المنكرات، ومن
عرفه عن قرب عرف كيف أنه لا يزال منقبض الصدر مهموماً جاداً في إزالته،
ولهذا كان له القِدْح المعلّى في صد كثير من الفتن والمنكرات والأهواء، وظلّ ملاذاً
آمناً وركناً صلباً يلجأ إليه العلماء والدعاة والمصلحون في ردّ كثير من الشرور
والمفاسد.
3- تميّز سماحة الشيخ بالهمّة العالية، والعزيمة الصادقة فعمر أيامه بالدعوة
والبلاغ وإظهار الحق، لا تفتر له عزيمة، ولا تضعف له قناة، ساعاته كلها
يقضيها في العلم والتعليم والعمل، وأيامه حافلة بالطاعات والخيرات؛ فقد كان -
رحمه الله تعالى - مباركاً أينما كان، مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.
ولمّا كبرت سنه، ورقّ عظمه، وأنهكه المرض، لم يزده ذلك إلا قوة وثباتاً
وحرصاً على أداء المعروف وبذل أسباب الخير، ولم يسترخِ أو يركن للراحة أو
الدعة، وكان أصحابه وجلساؤه من الشيب والشباب يتعبون ويملون؛ أما هو فإنه
كان يملك الجلد والمثابرة والصبر على الطاعة بهمّة عالية.
4- كان همّ الدعوة يملأ عليه قلبه، ويشغل فكره، وكثيراً ما يوصي العلماء
والقضاة والدعاة بضرورة الحرص على تبليغ الشرع، وتعليم العلم، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وتراه يسأل أصحابه وطلابه دائماً عن دروسهم
وأنشطتهم، ويشجعهم على المواصلة والاستمرار، ويحذرهم من القعود أو الضعف
أو العجز، ويزوّدهم بتوصياته ونصائحه.
ثالثاً: من أخلاق الشيخ وآدابه:
تميز الإمام ابن باز - رحمه الله - بالأخلاق العالية والسجايا الكريمة والآداب
الرفيعة، وكان قدوة كريمة في سمته وأدبه ووقاره، أحيا للناس ما كانوا يسمعونه
عن آداب السلف الأُوَل - رضي الله عنهم -، ولهذا أحبه الناس حباً عظيماً،
وتعلقت قلوبهم بإجلاله وتقديره. ومن صفاته الأخلاقية - رحمه الله:
1- كان الشيخ زاهداً ورعاً، تعلّق قلبه بأعمال الآخرة، وما كان يشتغل فيما
يشتغل فيه غيره من الخاصة أو العامة من أمر الدنيا وشأنها، بل كان يتنزه
ويُعرض عنها، أقبلت عليه بزخارفها وأهوائها وجاهها، ولكنه أعرض عنها، ولم
يلتفت إليها، ولم تشغله عن آخرته.
وهذه الخلة الكريمة، والصفة العالية الرفيعة، رفعت قدره، وأعلت منزلته
عند جميع الناس.
2- من الصفات المشهودة المتواترة عنه: تقديره لمخالفيه وأعذارهم،
وتحريه في انتقاء العبارات اللطيفة التي يبين فيها الحق، وكان يترفع عن الفحش
في القول، ولا يُعنّف، ولا يُشهّر، ولا ينتقص مخالفيه، وعلى الرغم من جفوة
بعضهم في الرد عليه، والقسوة في أساليبهم، بل وتجريحه والحط من قدره أحياناً؛
إلا أنه كان حليماً، كاظماً للغيظ، واسع الصدر، يقابل إساءتهم بالإحسان، ويدفع
شدتهم وغلظتهم باللين والرحمة، ويدعو لهم بالهداية والصلاح، وهذه الصفات
الجليلة أكسبته تقدير الناس، واعترافهم بفضله.
3- عُرف عن الشيخ - رحمه الله - تواضعه ولين جانبه مع اللطف
والبشاشة وحسن الخلق، وكان يبادر الناس بالسؤال عن أحوالهم وأهليهم، وفتح
أبوابه لاستقبال الناس كبيرهم وصغيرهم، أميرهم ومأمورهم، غنيهم وفقيرهم،
وكانت مجالسه من المجالس النادرة في هذا الزمان، تراها عامرة بأصناف الناس
وألوانهم، ومع ذلك كله تراه يُقبل على محدثه بإصغاء، ويكرمه بلطيف اهتمامه
وتقديره، ولا يتردد في مساعدته وقضاء حاجته على قدر طاقته.
وأخيراً:
لقد رحل الشيخ الإمام (عبد العزيز بن باز) وترك موقعاً شاغراً
وثغراً عظيماً، بعد أن أحيا منهج سلف الأمة، وقدّم أنموذجاً متميزاً للعالم العامل.
لم يكن الشيخ محدثاً فقيهاً فحسب، ولم يكن داعية مجاهداً فحسب، ولم يكن
مفتياً فطناً فحسب، ولم يكن عابداً زاهداً فحسب؛ بل كان مدرسة متكاملة جمعت
أصنافاً من الخير؛ فهو عالم العلماء، وإمام الفقهاء، وشيخ المصلحين، وقائد
الدعاة في هذا العصر.
رحل الشيخ وترك وراءه أمانة عظيمة ينوء بحملها أولو القوة؛ فقد كان رجلاً
بأمّة. وعلى العلماء من بعده مسؤولية كبيرة، والواجب عليهم أن يتعاونوا ويأتلفوا
ويقوّي بعضهم بعضاً.
نسأل الله - تعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لشيخنا وإمامنا،
ويرفع درجته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويرزقه الفردوس الأعلى من
الجنة، وأن يأجرنا في مصيبتنا، ويخلفنا خيراً منها. وصلى الله على محمد وآله
وسلم.
__________
(1) البخاري، ح /100، ومسلم، ح /2673.
(2) جامع بيان العلم (1/784) .(139/4)
إشراقات قرآنية
[ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ]
د. عبد الكريم بكار
قصة البشرية هي قصة البحث عن طريق السعادة والأمن والاستقرار ... وقصة البحث عن الفهم والوضوح، ومحاربة (العماء) و (اللاتكوّن) لكن نتائج ذلك كثيراً ما تكون موضوعاً محزناً للقراءة!
وهذه الآية المباركة تفتح أعيننا على السبب الجوهري لذلك؛ إنه بحث
البشرية عن نجاتها بعيداً عن هدي الله - تعالى - وبعيداً عن سبيله الذي وضَّحه
لعباده في كتبه، وعلى لسان رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. ولعلنا نقف مع
هذه الآية الكريمة بعض الوقفات التي نستجلي من خلالها بعض ما تشعَّه من معان
ومفاهيم، وبعض ما ترتب على الحيدة عن سبيل الله من مآس ومهلكات، وذلك من
خلال الحروف الصغيرة الآتية:
1- تقرر هذه الآية المباركة أن سبيل الهداية هو السبيل الوحيد الذي على
البشرية أن تسلكه، وفي حالة تنكبه فليس هناك سبل أخرى للنجاة والفوز والنجاح.
ومعنى الآية: أن من يضلله الله فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإلى
الجنة في الآخرة، لأنه قد سدت عليه سبل النجاة. إن الضال يجد سبلاً كثيرة،
لكنها جميعاً توصله إلى غير ما يؤمِّله، وإلى غير ما يحقق من خلاله ذاتيته ووجوده، وهذا هو الذي يفهم من قوله - جل وعلا: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
[الأنعام: 153] .
وفي حديث ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه - قال: (كنا عند النبي -
صلى الله عليه وسلم- فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: [وأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... ] ) [2] .
إن هناك دائماً الكثير من إمكانات الحركة، والكثير من اتجاهات السير، لكن
عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبالاً على البشرية، وهذا هو
الحاصل الآن.
2- يلمس كل من يعمل فكره في واقع البشرية وجود مفارقة عجيبة بين ما
تحرزه في مضمار الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة، وبين ما
تحرزه من تقدم على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامة -
حيث إن التقدم التراكمي المطرد على الصعيد الأول، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة
والارتباك، واتساع الخروق على الصعيد الثاني. وهذا؛ مع أن الناس يؤملون
دائماً أن ينعكس توفر وسائل الراحة والرفاهية على وضعهم الروحي والنفسي
والاجتماعي، لكن ذلك - مع الأسف - أمنية لم تتحقق!
في الغرب تساؤلات كثيرة اليوم عن سبب هذه الظاهرة المزعجة، وتفسيرات
عديدة لها، فمن قائل: إن العالم لم يوجه من إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي لسبر
غور الأبعاد الإنسانية والاجتماعية المختلفة؛ وما بذل من جهد في هذه المجالات
أقل بكثير مما بذل في المجالات الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ... ، ولذلك
فالنتائج لم تكن غير متوقعة. ومن قائل: إن المشكلة تعود إلى طبيعة العلوم
الاجتماعية، فهي على درجة من الهلامية تجعلها تتأبى على التشكيل، ومهما حاولنا
تقنين أساليب التعامل معها، فإن النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها ستظل ظنية
واحتمالية. ومن قائل: إننا لم نكتشف بعد المنهج الملائم لبحث قضاياها ومشكلاتها.
والأدوات المعرفية المستخدمة الآن في المجالات الاجتماعية أكثرها مستعار من منهجيات البحث والمعالجة في المجالات العلمية، ولذا، فإنها ستظل محدودة الفاعلية ... وهكذا، فالتحليلات كثيرة، لكن لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج من المأزق!
وعندي أن التقدم في مجالات العلوم الطبيعية، يعود إلى أسباب عدة. أهمها:
توفر الإطار الذي تتفاعل فيه الخبرات والإنجازات في المجالات المختلفة، مما
يجعل التقدم الأفقي في المجالات العلمية المختلفة يساعد على التقدم الرأسي في كل
مجال على حدة. وأمكن التقدم في بلورة هذا الإطار وفي تحديد المبادئ الأساسية
للعمل فيه لسببين أساسيين:
يعود الأول منهما إلى أن العلم محدود الطموحات، ويشتغل بالجزئيات؛
فكثافة إنجازاته من تواضع طموحاته.
ويعود الثاني إلى كونه على غير صلة مباشرة بمسائل الوحي والروح
والاعتقاد، فكأن الإنجاز فيه في الأصل جزء من سنة الابتلاء في هذه الحياة،
والذي على الناس أن يستخدموا فيه كل مواهبهم وإمكاناتهم للنجاح. أما في مجال
العلوم الاجتماعية، فالأمر مختلف تماماً، فمهما بذل الناس من جهود، ومهما
اكتشفوا من مناهج، فإنهم لن يستطيعوا - مثلاً - تحديد الغاية النهائية للوجود، كما
أنهم لن يستطيعوا توفير المقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج العقل من مسارات حتى
يقوم بأعمال الاستنتاج والتوليد، كما أنهم سيجدون أنفسهم مشتتين حيال تقويم
التجارب الكلية.
العقل البشري - على ما يتمتع به من طاقات هائلة - تظل وظيفته عند بحث
القضايا الكبرى أشبه بوظيفة (المدير التنفيذي) الذي يجهز كل أدوات الرحلة
ووسائلها، لكنه لا يحدد أهدافها ووجهتها؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتجسد هنا
في المنهج الرباني المعصوم. وممن انتهى إلى هذه النتيجة (أنشتاين) وهو من أكبر
عباقرة القرن العشرين عندما قال: (إن حضارتنا تملك معدات كاملة، لكن الأهداف
الكبرى غامضة) .
3- حين أعرض الغرب عن (سبيل الله) أخذ يبحث بجدية نادرة عن السبيل
البديلة التي يمكن أن توصله إلى كل أمنياته، وتحقق له كل رغباته، وقد كان
(القرن التاسع عشر) قرن التفاؤل الكبير؛ إذ حقق العلم انتصارات كبيرة، واعتقد
الناس في الغرب عندئذ أن (العلم) سيكون قادراً على تحقيق كل شيء وحل كل
معضلة، وسيطرت من جراء ذلك النزعة الوضعية أو العلمية المتطرفة التي اعتقد
أصحابها أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأسئلة التي يطرحها
الإنسان، والمسألة مسألة وقت ليس أكثر. وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بالتضاد
بين (العلم) و (الإيمان) فإما أن تكون عالماً غير مؤمن، أو مؤمناً غير عالم!
في النصف الثاني من القرن العشرين - على نحو أكثر وضوحاً - بدأت
النظرة تختلف [3] ، حيث شهد هذا القرن حربين عالميتين إلى جانب أكثر من
130 حرباً صغيرة، وحيث صارت البيئة الطبيعية في حالة يرثى لها، وأخذت
البنى الاجتماعية المختلفة بالتداعي والانهيار، وتبين لصفوة من علماء الغرب عظم
الخطأ الذي ارتكبه الغربيون حين ردوا على انحرافات الكنيسة بالإلحاد وتأليه
(العلم) ، كما تبين لهم أن العلم أعجز من أن يدل على طريق النجاة. يقول (بيير
كارلي) [4] : (العلم يهدف إلى تمكيننا من معرفة أفضل بالعالم وعلاقتنا به، كما
أن العلم ينير لنا الطريق في صدد ما يمكن فعله، وبخصوص الوسائل والإمكانات
المتاحة، أو الرهانات والمخاطر. أما (الإيمان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي
لحياتنا معنى، إنه يقدم لنا الغاية من الوجود والقيم وأسباب الأمل والعمل) [5] .
هذه الأفكار صارت من جملة معتقدات بعض صفوة العلماء والمفكرين في
الغرب، لكنها ليست في واقع الأمر سوى خطوات قليلة في طريق طويل،
والتخريب الذي أحدثته (العلمانية) في بنى الحياة الغربية على مدى ثلاثة قرون شديد
الانتشار والعمق؛ والأمل في الإصلاح على المدى المنظور ضئيل للغاية!
4- إن أمة الإسلام ما زالت تنعم - بفضل الله - بالهداية ومعرفة (سبيل الله)
وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم تميزاً، لا يشركهم فيه أحد، كما أنه يخفف الكثير من
لأواء الحياة ومشاقها. وأكبر دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (الانتحار) في أي
مجتمع إسلامي، على حين أنها تنتشر في أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية. لكن لا
ينبغي لنا أن نطمئن كثيراً إلى ما نحن فيه، فهذا الفيض من الأفكار والصور والنظم
والنماذج التي يبثها في كل اتجاه أكثر من خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض
أربكت (الوعي) لدى كثير من المسلمين، وبتنا نرى الكثير من الثقافات المحلية
العميقة الجذور آخذةً في التحلل والتفكك والانكماش لصالح رموز الحداثة القادمة من
الغرب، وهذا يفرغ الكثير من الأطر والقوالب الإسلامية من مضامينها، ويدخل
مجتمعاتنا في امتحان ليست مستعدة له!
إن الذي يقرأ التاريخ بشفافية يجد أن التقدم العمراني كثيراً ما يكون مصحوباً
بانخفاض في وتائر التدين وسويّات الالتزام، فالقرن الرابع الهجري - مثلاً - كان
قمة في التقدم العلمي والعمراني، لكن الالتزام بتعاليم الشريعة لم يكن كذلك، فقد
كان في القرون التي سبقته أفضل وأرسخ. وهذا معنى تحذير النبي -صلى الله
عليه وسلم- لأمته من الانبهار والافتتان بزخارف الدنيا، وخوفه من أن تعجز عن
إقامة أمر الله - تعالى - في ظروف الرخاء والرفاهية.
إن المنتجات التقنية - بالإضافة إلى هيمنة (نظام التجارة) - أخذت تعيد
تشكيل حياتنا على نحو لا يعبأ كثيراً بمقتضيات التدين الحق، وصار من الواجب
علينا أن نتدبر أمرنا ونرفع درجة حساسيتنا للوافدات الجديدة، والا فقد نستيقظ بعد
فوات الأوان. وإن على مثقفي الأمة - على اختلاف تخصصاتهم - أن ينهضوا
بمسؤولياتهم والوفاء بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الشأن، فالثقافة ليست وجاهة
فحسب، وإنما ريادة ومسؤولية في آن واحد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد،،،
__________
(1) سورة الشورى: 46.
(2) أحمد، ح / 14853، وابن ماجه / المقدمة، ح / 11.
(3) انظر كتاب العلم والإيمان في الغرب الحديث: 6، 7 تأليف: هاشم صالح، ضمن سلسلة كتاب (الرياض) عام 1998م.
(4) أستاذ فسيولوجيا الأعصاب وعضو أكاديمية العلوم منذ عام 1979 م.
(5) السابق: 63.(139/8)
دراسات تربوية
محاسبة النفس ضرورة مُلِحّة
عبد الله محمد العسكر
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن، تؤثر فيها المؤثّرات، وتعصف بها
الأهواء والأدواء، فتجنح لها وتنقاد إليها، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ
كما قال تعالى: [إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] [يوسف: 53] ، ولذا؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى
والخوف من الله، ويأطرها على الحق أطراً. قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بنيّ:
إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفسَ حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن
الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إنّ النفس إذا أُطمعت
طمعت، وإذا فوّضْت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت
الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة
له فيها، ولا بُدّ له منها. وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإنّ
الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق: فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه،
وأن يجلس معها جلسات طِوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع
فيها، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك
وتعالى.
أولاً: معنى المحاسبة:
قال الماوردي في معنى المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من
أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله:
(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛
لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل
الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما
يترك، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى
أدائه) [4] .
ثانياً: أهمية محاسبة النفس:
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي:
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن ثمّ؛ إعطاؤها
مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس. ولا شك أن معرفة العبد لقدر
نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال
أبو الدرداء: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .
2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما
يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل
مشين وقبيح؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته،
ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر
فلا يُكفر.
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى. قال تعالى:
[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 9، 10] ، وقال مالك
بن دينار: (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم
ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور
بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى
الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند
الموت: (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها: (كيف قلتُ؟) فأعادت
عليه ما قال، فقال: (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي: (فانظر كيف
نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .
ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [الحشر: 18] ، قال صاحب الظّلال: (وهو
تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح
أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها،
وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة.
وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير
مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً
ورصيده من البرّ ضئيلاً؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن
النظر والتقليب) [9] .
وقال تعالى: [وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 2] يقول الفرّاء: (ليس
من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت: هلاّ
ازددتِ، وإن عملت شرّاً قالت: (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير
هذه الآية: (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ
بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه) [11] .
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة
والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] . [الأعراف: 201] .
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها
قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ]
[الحاقة: 18] ) [12] .
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله،
وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم
القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [13] . ويقول ميمون بن مهران: (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه) [14] .
ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول: (أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن
هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب،
ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا
فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها) [15] .
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف
أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول: (فَعَرف أربابُ البصائر من
جملة العباد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون
بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا
لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتُها
في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه، وحسُن منقلبُه ومآبُه. ومن لم يحاسب نفسَه دامت
حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت
سيئاتُه) [16] .
وقال الحسن رحمه الله: (اقرعوا هذه الأنفس؛ فإنها طُلَعَة [17] ، وإنها
تنازع إلى شرّ غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً، فتصبّروا
وتشدّدوا؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا
يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [18] .
رابعاً: كيفية المحاسبة:
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية
محاسبة النفس؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا؛ لكنّ هناك
أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع.
والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة
والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ
العزيمة والجدّ. قال الغزالي: (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل
النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر
النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل
التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على
الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف
لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟ ! ما هذه
المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) [19] ، ثم بيّن
رحمه الله أن المحاسبة تكون على نوعين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته،
ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه. قال الدكتور عمر الأشقر:
(ينظر في همّه وقصده؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل
عليه دفعُها ... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس،
والوسوسة تصير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً. قال الحسن: كان
أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره
توقّف) [20] . وشرح بعضهم قول الحسن فقال: (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من
الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور
عليه؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة
أخرى ونظر: هل فِعلُه خير له من تركه، أم تركُه خير له من فعلِه؟ فإن كان
الخير في تَرْكه تَرَكَه، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه
إرادة وجه الله عز وجل وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان
الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ
عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى
يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعَانٌ
عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا؟ فإن لم
يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة
حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ بإذن
الله) [21] .
النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة:
محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم
سؤاله نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما
جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك؟
فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: (وبداية
المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت،
وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب
ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ
الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل ... فإذا
قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [انها] الجاهلةُ
الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده
وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي) [22] .
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه
ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه
بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال سبحانه:
[إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] [هود: 114] . فالبدارَ البدارَ
قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر
الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد
والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه: (لو أنّه فُتح من
جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من
حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها.
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على
ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟ ! نسأل الله
اللطف والتخفيف.
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما
سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في
تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك
من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له
مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك
المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان
له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير
العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك،
هيهات! ! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه
فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ
ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في
الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ
عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك
كلّه) [24] .
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه
الله حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك،
تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً! ! أما تتدبرين قوله
تعالى: [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... ] [الأنبياء: 1، 3] ويحك
يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك!
وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك! ويحك يا نفس!! لو
كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!! ويحك يا نفس
! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ لغيرك،
ولا تضيّعي أوقاتك؛ فالأنفاس معدودة، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى بعضُك.
ويحك يا نفس! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟
اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار
نعيم وخلود) [25] .
خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة
لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً؛ لأن أولئك
القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن
يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على
ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى
عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية
جادة قويّة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: عمر! !
أمير المؤمنين! ! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون
فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل
حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما
ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله
فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله
فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله،
وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على
دفع الظلم فظلمتَه؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق
الناس عليه) [27] .
وقال إبراهيم التيمي: (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من
أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من
صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه:
يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ
كذا؟) [29] .
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو
ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ
وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت! ! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: (فهكذا ينبغي أن
يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة
. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من
عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك [أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ ... ] [المجادلة: 6] [31] .
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟
ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة،
فصامها) [32] [33] .
وقال عبد الله بن قيس: كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس
فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه
ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟ ! ! فأطعتُك
ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟ ! ! فأطعتُكِ ورجعت!
واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته
فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا
(أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال
ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) [34] .
وأخيراً:
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في
(مدارج السالكين) ؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة: أن يكون المرء صادقاً في
محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس: الاستنارة بنور الحكمة؛ وسوء الظنّ بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان
حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ.
وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ
والعيوب.
وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ
بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه! [35] .
حكى الذهبي عن المرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) : قدم
رجلٌ من طرسوس فقال: كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم
بالدعاء لأبي عبد الله، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله. وقد رُمي عنه
بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته [36] فذهب برأسه والدّرقة! ! قال:
فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً) [37] .
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم.
__________
(1) ذم الهوى لابن الجوزي (40) .
(2) أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم، 8/ 3317] .
(3) مدارج السالكين، 1/187.
(4) التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97) .
(5) الزهد للإمام أحمد (196) .
(6) إغاثة اللهفان لابن القيم (79) .
(7) التربية الذاتية (98) .
(8) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، 4/587.
(9) في ظلال القرآن، لسيد قطب، 6/3531.
(10) تفسير البغوي، 4/421، والزهد للإمام أحمد (396) .
(11) تفسير البغوي، 4/421، والزهد للإمام أحمد (396) .
(12) الزهد للإمام أحمد (177) ، ومدارج السالكين 1/187.
(13) حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/157.
(14) الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501) .
(15) إغاثة اللهفان، (82) .
(16) الإحياء، 4/118.
(17) قال في القاموس في مادة (طلع) : نفس طُلَعة: تكثر التطلّع إلى الشيء.
(18) حلية الأولياء 2/144، ذم الهوى لابن الجوزي (41) .
(19) الإحياء، 4/588.
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف) .
(21) إغاثة اللهفان (81) .
(22) مدارج السالكين 1/188.
(23) الزهد للإمام أحمد (179) .
(24) حلية الأولياء 2/157، وذم الهوى (40) .
(25) الإحياء، 4/605.
(26) الزهد للإمام أحمد (171) .
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي، 171.
(28) الزهد للإمام أحمد، 501.
(29) الزهد للإمام أحمد، 336، وذم الهوى، 41.
(30) الإحياء، 4/589.
(31) الإحياء، 4/589.
(32) حلية الأولياء، 3/115، وذم الهوى، 42.
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام -، وهو صيام يوم وإفطار يوم - البيان -.
(34) الإحياء، 4/591.
(35) مدارج السالكين، 1/188 (بتصرّف) .
(36) الدّرَقَة: التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط، 1/281) .
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210) .(139/12)
قضايا دعوية
مع قصة إبراهيم " عليه السلام "
[رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ
وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [إبراهيم: 37]
د. حمدي شعيب
من خلال هذه اللمحة القرآنية التاريخية يرنو المسلم بفكره، ويتذكر تاريخ
تلك العائلة المباركة، ويسمع الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يتجه إلى ربه معلناً
أنه قد أسكن بعض أهله بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام،
ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها، وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون من أجلها هذه المشقة، ثم دعا الحق سبحانه أن يرقق قلوب
البشر، ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن
يرزق أهل المكان الخير مع هؤلاء القادمين؛ ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
وهو مرتكز دعوي يوضح أهمية استشعار عمق جذور هذه الدعوة وبعدها
التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلواته الخمس، ويؤكد على هذه
الصلة القوية بين حلقات الدعوة: (اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما
صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) [1] .
ويفخر المسلم بأنه حلقة في سلسلة الخير؛ وذلك عندما يطّلع على ما ورد في
معنى (آل محمد) ، (قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني
عبد المطلب، وقيل: هم ذريته وأزواجه، وقيل: هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة،
وقيل: هم المتقون من أمته) [2] .
علامة النضج:
تنمية روح الارتباط بالفكرة: عندما نستمر في قراءة التاريخ، من خلال
سيرة تلك العائلة المباركة، ونتذكر كيف أن إبراهيم عليه السلام امتثل لأمر الله -
عز وجل- ووحيه، وأخذ وحيده إسماعيل عليه السلام وزوجته هاجر وذهب بهما
إلى مكة، (وكانت مكة يومئذ لا نبت فيها ولا ماء) ، وأنزلهما بمكة في موضع
زمزم، ومضى لا يلوي على شيء. ودعا دعاءه الخاشع الراضي، وانصرف إلى
أهله بالشام، وترك هاجر وولدها الذي طالما دعا الله - سبحانه - أن يرزقه به.
كم كانت تضحية كبيرة! أبَعْدَ أن يُرزق الولد، ويراه بين يديه، وتقر عينه برؤيته، يُحرم منه وهو حي يرزق؟ ! والأعجب من هذا أن يحرم منه طائعاً مختاراً
نزولاً على أمر الله - عز وجل [3] .
من خلال هذه اللمحة التاريخية ندرك أن تلك العقبة أو الخطوة الابتلائية في
حياة أبي الأنبياء عليه السلام تمثل معلماً في طريق الدعاة، ولنا أن نسميه ما شئنا:
نسميه ابتلاء، نسميه تضحية، ولكن الأهم من ذلك أنه يمثل قمة النضج في حياة
الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الترتيب الصحيح لأولوياته، فتصبح الفكرة مقدمة
على أي أمر أو مصلحة أو ارتباط آخر في حياته.
فإذا كان الطفل يمر بمراحل اجتماعية نفسية ثلاث هي: مرحلة التمحور حول
الأشياء، ثم مرحلة التمحور حول الأشخاص، ثم مرحلة التمحور حول الأفكار.
فكذلك المجتمعات، تمر بالمراحل نفسها في تطورها الحضاري [4] . فنحن نؤكد
أن ذلك واقع أيضاً في حياة الداعية، وأن تطوره التربوي والدعوي يمر بالمراحل
نفسها! حيث يبلغ قمة النضج، عندما يصبح تمحوره حول الفكرة التي يؤمن بها،
والمبدأ الذي يحمله، ويتعدى مرحلة التأثر والتمحور حول الوسائل والأشياء
والماديات، ومرحلة التمحور حول الأشخاص.
وتأمل تلك التضحية في سبيل الفكرة التي لا تمثل قمة النضج فقط، بل إن
الموت في سبيلها كان من أعظم صور النصر، وذلك بانتصار الفكرة، حين مات
الغلام على يد الساحر؛ كما جاء في قصة) الغلام والراهب [5] . وتدبر مغزى
هذا التوجيه الرباني، لخير الأجيال، حينما أصابهم الخور عندما سرت إشاعة
مقتله -صلى الله عليه وسلم- أثناء محنة أُحُد؛ وذلك حتى يرتبطوا بالفكرة لا
بالشخص ولو كان خير من وطئ الحصى -صلى الله عليه وسلم-: [ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ومَن يَنقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] [آل عمران: 144] .
وتدبر أيضاً سنة الله - عز وجل - في هذا القانون الشاق، (قانون الخروج) ، أو المرحلة التي لا بد منها، في طريق أصحاب الدعوات، والذي لفت إليه نظر
الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن طريق ورقة بن نوفل، في أول خطواته
الدعوية، عندما) قال: يا ليتني فيها جذعاً - أي شاباً جلداً - إذ يخرجك قومك،
قال: أو مخرجي هم؟ ! قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي [6] .
وتدبر كذلك قصة يوسف عليه السلام وما تمثله من نموذج للخروج والابتلاء
قبل التمكين، ومغزى نزولها في الفترة الحرجة من عمر الدعوة بين عام الحزن،
وبين بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، التي جعل فيهما الفرج والمخرج لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المؤمنة معه وللدعوة الإسلامية، بالخروج والهجرة
إلى المدينة.
وهو المعلم التربوي العظيم، الذي يوضح أن الداعية لا بد أن يعيد ترتيب
أولوياته، ويدرك أن قمة النضج الدعوي، في حياة الدعاة، وأصحاب المبادئ، لا
تكون إلا بالتطور والخروج بمعناه الراحب اللاحب، الخروج من أسر الوسائل
والأشياء والماديات، ومن التأثر بالشخصيات، إلى التمحور حول الفكرة التي يؤمن
بها والمبدأ الذي يحمله.
اعقلها ... وتوكل:
علامة توازن الحركة الدعوية: عندما صدع إبراهيم عليه السلام بأمر ربه،
وترك هاجر ووحيدها، ومضى بعد أن وضع عندهما جراباً - وهو الوعاء الذي
يحفظ فيه الزاد ونحوه فيه تمر، وسقاء: وهو القربة الصغيرة فيها ماء - فكانت
هاجر تأكل التمر، وتشرب الماء، وترضع وليدها.
وهذا السلوك العظيم في حياة الأنبياء والدعاة على مر التاريخ يوضح أن خلق
التوكل على الله - عز وجل لا ينافي مبدأ الأخذ بالأسباب.
وتدبر خطة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، حينما
هاجر من المدينة، وكيف أخذ كل الأسباب. وكذلك كان ديدنه -صلى الله عليه
وسلم- في كل غزواته؛ بل وفي كل أموره.
وضوابط التوكل عليه - سبحانه - وأهمها الأخذ بالأسباب، هذه الضوابط
وردت في أكثر من وصية عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث:) جاء
رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أعقلها وأتوكل، أو
أطلقها وأتوكل؟ قال:) اعقلها وتوكل [7] .
وهذا المعلم الدعوي، أو الركيزة التربوية، توضح أهمية وجود التوازن في
حركة الأفراد الدعوية، بين جناحي الحركة الإيجابية، وهما: الأخذ بالأسباب
الشرعية، ثم التوكل عليه - سبحانه.
منارة ... لا تنطفئ:
الثبات على الحق: عندما مضى الخليل عليه السلام قافلاً إلى الشام بعد أن
ترك هاجر لوليدها،) فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا
بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت
إليها! ! ، فقالت: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت [8] . تد بر هذا الموقف العصيب، وتلك التجربة المريرة، في حياة تلك الأسرة المؤمنة المباركة، وتدبر هذه الزوجة البارة الصالحة الممتحنة، وهي تتعقب زوجها، وتصف له الوادي. وتدبر مغزى هذا الوصف لحالها:) فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها! !
ولعل وصف الحديث لعظمة هذا الموقف، ليس فقط في استجابة وامتثال
الخليل عليه السلام لوحيه - سبحانه -، بل في بلوغه هذه القمة الشامخة في الثبات
على الحق، رغم رجاء زوجته، مراراً. حقاً [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً]
[النحل: 120] .
وهذا الثبات، هو المعلم الدعوي البارز، والمنارة التي لا تنطفئ، تلك
المنارة التي يشعلها السابقون للاحقين، على طريق الدعوة. وهو الإرث العظيم
الذي يفخر به الأبناء السائرون على طريق الآباء والأجداد الهادين المهتدين، أولئك
الرجال الصادقون الثابتون، الذين لم يبدلوا، إذ: [صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] .
عودة راضية ... وانطلاق مطمئن:
أهمية وجود البيت المسلم: وفي موقف هاجر وهي تتبع زوجها عليه السلام
وتلح عليه مراراً، ثم قناعتها بما فعله الخليل عليه السلام عندما علمت أن هذا أمر
من الله - سبحانه -، وقالت قولتها الخالدة: (إذاً لا يضيعنا) .
تدبر هذا الموقف العصيب: زوجة ضعيفة، ووليد أضعف، بل ووحيد أبويه، يتركان في صحراء قاحلة، في واد ليس فيه إنس ولا شيء! ثم يكون الاطمئنان، والقناعة بكلمة واحدة من زوجها عليه السلام عندما قال: (نعم) مجيباً على سؤالها
الملهوف: (آلله الذي أمرك بهذا؟) .
وكم ينقص الدعاة العاملين، من تربية وجهد، حتى تصل أسرهم أو تتشبه
بمثل تلك القمم، قبل أن ينطلقوا، كما انطلق الخليل عليه السلام؟ !
فالأم عندما تعرف وظيفتها الخالدة، وتعود لتحمي الجبهة الداخلية، راضية
قانعة، عندها وعندها فقط يمكن للأب أن ينطلق مطمئناً.
إن وجود الأسرة المسلمة، وتلك الجبهة الداخلية الربانية، في حياة الدعاة،
لهي من أهم الركائز والمعالم في طريق الدعوة.
والحركة الدعوية هي حركة مؤسسية جماعية، تعاونية تعاضدية، الفرد فيها
يندمج اندماجاً كلياً، بنفسه وأهله؛ بل وفي كل شؤونه.
وأي خلل فردي ما هو إلا علامة من علامات تضييع الثغور. فإذا ضاع ثغر، أصاب الخطر المجموع، كما يصيب الفرد. لذا؛ فإن الخلل الفردي يسأل عنه
الجميع! ويجب أن لا ينطلق الداعية خارجياً إلى مهامه الكبار قبل أن يرسي قواعد
قلعته داخلياً، ويضع عليها من يحرسها عن رضى وقناعة.
الركن الشديد:
تنمية فن استطار التوفيق الالهي: عندما انطلق الخليل عليه السلام حتى إذا
كان عند الثنية التي بأعلى مكة في طريق منى وعرفات وهو الموضع الذي دخل
منه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وأصبح لا يرونه، استقبل إبراهيم عليه
السلام بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [إبراهيم: 37] .
عندما يتأمل المسلم هذه الوقفة الإبراهيمية التربوية، بعد أن صدع بأمر ربه،
وأخذ بأسباب معيشة هاجر وابنها، وبعد أن أجاب على تساؤل هاجر، وطمأنها،
واقتنعت ورضيت، ثم اتجه إلى الركن الشديد، إليه - سبحانه - معلناً أنه قد أسكن
بعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام، ذكر الوظيفة
التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها، وهي إقامة الصلاة، وهي التي
يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق - سبحانه - أن يرقق قلوب البشر
ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق
أهل المكان الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
والتوفيق الإلهي هو الرصيد الأهم والمعلم الرئيس لأي حركة دعوية يقع على
عاتقها إقامة مشروع الأمة الحضاري، وإيراده هنا حسب تسلسل القصة.
وهو رصيد يميز أهل الحق وأصحاب الدعوات عن غيرهم من أهل الباطل،
وهو الركن الشديد الذي يلوذ به كل رسول وكل داعية؛ خاصة أثناء لحظات الدعوة
الحرجة، وبعد أن تنقطع كل السبل وتتهاوى في الأسناد، وبعد الاجتهاد في الأخذ
بكل الأسباب. وتدبر موقفه -صلى الله عليه وسلم- وهو عائد حزين من الطائف،
وهو يؤكد لزيد بن حارثة رضي الله عنه على أهمية هذا المعلم الأساسي والركيزة
الأهم لأصحاب الدعوات: (يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن
الله ناصر دينه ومظهر نبيه) [9] .
لذا؛ فإن الداعية مطالب باستشعار فضل القوة التي أنجت إبراهيم عليه السلام
من النار، وموسى عليه السلام من فرعون، ويونس عليه السلام من بطن الحوت، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار وفي بدر وأثناء محنة حنين، وعليه أن
يتذكر أنهم قد نجوا بالدعاء وطلب العون منه - سبحانه - بعد الأخذ بالأسباب؛
وذلك حتى يكتمل تجردهم وخلوصهم من الركون إلى أي سبب دونه - جل وعلا-.
فلا يصح للداعية أن تكون نظرته للأحداث محدودة المدى وقاصرة التفسير،
فأقداره - سبحانه - دائمة الأحداث، ودائمة الحركة، [لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً] [الطلاق: 1] ، والوجود كله من طبيعته التغير والتبدل، حسب
(سنة التداول الإلهية) التي كان لها الأثر الطيب على النفوس المؤمنة التي خرجت
لتوها من المحنة العظيمة والمصيبة الكبرى في أحد [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] [آل عمران: 140] .
والمؤمن دوماً يحدوه منهج الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز
رضوان الله عليه - في التعامل مع أقداره - سبحانه - عندما سئل: ما تشتهي؟
قال: ما يقضي الله - عز وجل.
ويغمره حسن الظن بربه، كما وجهه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: (قال
الله - عز وجل - في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث
ذكرني) [10] .
وكذلك كان الخطاب القرآني واضحاً وصريحاً للمؤمنين، ليوجههم إلى حسن
الظن بأقداره - سبحانه - فهي دوماً إلى خير ويسر: [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً] [الطلاق: 7] .
لكل ثغرة ... سامري:
الدور التفقدي للقيادة والمتابعة المستمرة: وتذكر تلك اللمحة التاريخية أن
الخليل عليه السلام استأذن سارة أن يذهب لزيارة هاجر وإسماعيل عليه السلام
فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فركب البراق، وتوجه نحو مكة، وقصد
المكان الذي تركهما فيه، فوجد هاجر قد ماتت، ولم يجد إسماعيل عليه السلام
فسأل امرأته عنه وعن أحوالهم، فأخبرته أن زوجها خرج للرزق، وشكت له سوء
الحال، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام وأن يغير عتبة بابه، ففهم الابن أن والده
قد زاره ويأمره أن يطلق زوجته ففعل، وفي الزيارة الثانية قابلته الزوجة الثانية
بترحاب وأدب، ولم تشك سوء الحال، وأثنت على الله -سبحانه- وأحسنت إلى
الأب، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام، وتخبره أن عتبة بابه قد استقامت، ففهم
الابن رسالة الوالد، وأنه طمأنه على حاله وعلى أهله. من هذه اللمحة التربوية
الإبراهيمية، ندرك أهمية الدور التفقدي الاجتماعي للأب، حيال أسرته، رغم بعد
المسافات، ويتبين مدى الرقي في سلوك الخليل عليه السلام وهو يراعي شعور
زوجته سارة، وهو يستأذنها، ويراعي الطبيعة البشرية، وغريزة الغيرة، ولم
يمنعه ذلك من أن يتفقد باقي أحوال الأسرة الطيبة المباركة - عليهم السلام - جميعاً.
ونحن نتجاوز هذا المعنى القريب، إلى المجال الأوسع، إلى ما يهمنا في هذا
البحث المتواضع، وهو مدى أهمية الدور التفقدي للقيادة لكل الأفراد، وأن لا
تحابي أحداً على حساب أحد.
ويتبين مدى أهمية المتابعة لكل الأفراد، ولو كان في ذلك مشقة، حتى ولو
كان هناك من الأمور العظيمة، التي تشغلها؛ فالتوازن بين الواجبات مطلوب.
ولقد كان هذا الدور من الأركان البارزة في سيرته -صلى الله عليه وسلم-
ومنهجه التربوي، سواء في المجال الاجتماعي الحياتي، أو في المجال العسكري.
وتدبر موقفه عندما زوج -صلى الله عليه وسلم- جليبيباً الأنصاري من إحدى
بنات بني الحارث بن الخزرج - رضي الله عنهم - دعا لزوجه دعاء طيباً: (اللهم
صب عليها الخير صباً صباً ولا تجعل عيشها كداً كداً) . ثم افتقده في إحدى المغازي
له فقال: (هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال:
هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟
قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القتلى. فنظروا فوجدوه إلى جنب
سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا مني وأنا
منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا
منه. فوضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ساعديه ثم حفروا له، وما له
سرير إلا ساعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وضعه في قبره. قال
ثابت: فما في الأنصار أيم أنفق منها) [11] .
هذا الدور القيادي من الخطورة بمكان؛ ليس على الأفراد المعنيين فقط، بل
على المجموع.
وتدبر هذه الحادثة المشهورة التي حدثت أثناء الاستعداد لغزوة (تبوك) ، حيث
حكى كعب بن مالك -رضوان الله عليه - عن هذه القاصمة قائلا: (ولم يكن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة،
فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً
ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم،
فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن
يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله) [12] فتأمل هذا
الموقف الذي شعر به هذا الصحابي الجليل: فالعدد كثير، وليس هناك كتاب، مما
يشعر المرء بأنه ليس هناك من يلاحظ تغيبه، ويتابعه، ولكن وجود المربي الواعي
المتفقد كان العاصمة التي قال عنها كعب رضي الله عنه: (ولم يذكرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال - وهو جالس في القوم بتبوك: ما
فعل كعب بن مالك؟) [13] .
لهذا لم يعبث المبطلون بتركته -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتعرض قومه
لغواية الشياطين، ولم يجد السامريون أي ثغرة ليدخلوا منها إلى الصف، كما حدث
مع موسى عليه السلام.
وعلى الداعية، أن يحذر السامريين، فيهتم بالتوازن بين الواجبات الملقاة
على عاتقه، نحو دعوته وأهله ونفسه، فلا ينشغل بجانب على حساب الآخر، لأن
كل واجب إنما هو ثغرة، ولكل ثغرة سامري يتربص بها إذا انشغل أو غاب عنها،
ولم تشفع له نيته الحسنة، ولا سمو المهمة التي شغلته عنها، أن يضع نفسه في
موقف المؤاخذة والحساب.
الشرط النوعي ... الرواحل:
من فقه المرحلة ... اختيار افرادها: قد طلب الخليل من إسماعيل - عليهما
السلام - في زيارته التفقدية الأولى أن يطلق زوجته الأولى، وطلب منه أن يبقي
معه زوجته الثانية في زيارته الثانية.
من خلال هذه الصفحة الناصعة من سيرة تلك الأسرة المباركة، يتبين لنا عدة
ملامح تربوية: منها مدى العلاقة القوية بين أفراد تلك الأسرة المباركة، ومنها مدى
الحب والود والرعاية التي يكنها الوالد لولده، ومدى الاحترام والطاعة من الابن
تجاه الأب، وعظم مقدار الثقة المتبادلة بين الوالد وولده.
وكذلك نتبين الملمح التربوي العظيم، وهو أن هذه الأسرة مقبلة على مرحلة
عظيمة تتطلب نوعية معينة من الأفراد، للقيام بها والمشاركة في صنعها، وتحمل
أعبائها.
وعندما يدرك الداعية عظم المهمة الملقاة على عاتقه، عليه أولاً وقبل أن
يرفع يديه بالدعاء العظيم: [رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً] [الفرقان: 74] ، عليه أن يدرك خطورة الاختيار، اختيار
المشاركين معه المهمة الإمامة والقيادة للبشر، فيدقق في اختيار من ستشاركه
الطريق، بل ويدرك مسؤوليته في اختيار من سيشاركن ذريته مسؤولية أن يكونوا
للمتقين إماماً، ويرى كما) رأى إبراهيم عليه السلام أن هذه المرأة لا تصلح أن
تكون زوجة لنبي رسول يُعد لأن يسود ويقود ويربي أهله وأولاده والناس من حوله، فالزوجة التي تطيل الشكوى، وتكثر التبرم لا يمكنها أن تكون عوناً لزوجها على
المهمات الكبار التي يُعد لها [14] .
أما بالنسبة للمجال الدعوي، فهي القضية نفسها بالنسبة للداعية، فإذا أدرك
مهمته والدور الملقى على عاتقه، فإن من فقه الطريق أن يهتم ببناء العلاقة القوية
داخل الصف التي لا تقوم حتى يدرك كل فرد دوره المطلوب، ثم يؤديه بفاعلية
ورغبة، وهذا بدوره لا يتم حتى تشيع روح البذل والعطاء الذي يرويه وينميه ماء
الثقة بين الأفراد.
ومن فقه المرحلية:
أولاً: أن يركز على (الشرط النوعي) ، بأن يدقق في اختيار نوعية أفراد كل مرحلة، ورجال كل مهمة، أولئك الرجال الذين يكثرون عند المغرم، ويقلون عند المغنم، أولئك الرجال الذين يطمعون في إنجاز معالي الأمور،) وهم الذين يبحث عنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال لجلسائه: تمنوا! فتمنى كل واحد أمنيته، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولكني أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة؛ إن سالماً كان شديداً في ذات الله ولو لم يخف الله ما أطاعه [15] .
نعم لا بد من الرجال، فمن استعان بصغار رجاله على كبار أعماله ضيع
العمل [16] ، فالأعمال الكبار يطلب لها كبار الرجال. قال رجل لعبد الله بن
عباس رضي الله عنه: أتيتك في حاجة صغيرة، قال: فاطلب لها رجلاً
صغيراً) [17] [18] .
فالطريق طويل، والسفر موحش، والكيد الشيطاني منظم ومركب، ولا
يطيق التحدي إلا الرواحل، تلك النوعية المنشودة، والعملة النادرة، (إنما الناس
كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [19] .
إيجابية منضبطة:
المؤمنون ستار لقدر الله: [وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ
رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ
الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ]
[الحج: 26- 29] .
بتوجيه منه - سبحانه - وبإعانة وتوفيق إلهي كانت البداية، وكان التكليف،
بأن ينشأ هذا البيت على يد إبراهيم عليه السلام، حيث عرَّفه الحق - سبحانه -
مكانه، كما ورد في بعض الروايات عن طريق جبريل عليه السلام وملكه أمره
ليقيمه على أساس قاعدة التوحيد، فيكون خالصاً له - سبحانه - وحده، وأن يجهزه
تجهيزاً خاصاً، بأن يطهره من الشرك، وأن يجعله للناس جميعاً، لكل الناس،
سواء المقيم فيه والطارئ عليه، فيخصص للطائفين به والقائمين لله فيه.
ثم أمره بعد ذلك أن ينادي في الناس بالحج وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام،
ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيد، مشاة على أرجلهم،
وركوباً على كل بعير مهرول من بعد المشقة.
وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه، تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
ونستطيع أن نستشف هذا التفاعل من الآتي: أنه - سبحانه - أوحى إلى
إبراهيم عليه السلام أن يسكن ذريته في هذا المكان القريب من البيت الحرام بالذات، فقام الخليل عليه السلام بنقل هاجر وابنها بجهده البشري.
ثم أراد الحق - سبحانه - أن يعمر هذا المكان بالبشر فكان جهاد هاجر من
أجل الماء، ثم تفجر ماء زمزم.
ثم أراد الحق - جل وعلا - أن يُعد هذه الأسرة لمهمة عظيمة، يتوارث
آثارها الأجيال، فكان تفقد إبراهيم عليه السلام لأسرته، وأمره ولده أن يعيد اختيار
الزوجة التي ستشاركهم، هذا العمل الكبير.
ثم أراد - سبحانه - أن يُبنى البيت، فدل إبراهيم عليه السلام على مكانه،
فقام الخليل وإسماعيل - عليهما السلام - بالبناء.
وعندما أراد الحق - سبحانه - إعمار هذا البيت أمر إبراهيم عليه السلام أن
يقوم بدوره فيؤذن، وينادي في الناس، ويدعوهم. ووعده الحق - سبحانه - أن
الناس من كل مكان وفي كل عصر سيلبون ذلك النداء الجليل. لذا يتبين لنا أن
إرادة الله - عز وجل - لتحقيق عمل ما تقوم على دعامتين أساسيتين ومتلازمتين:
1- المدد الإلهي.
2- الجهد البشري.
لأن (الله - سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى: [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] ، وأنه يغيير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، وأن هناك علاقة بين الجهد البشري الذي
يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من
الخير والصلاح والفلاح، وأن إرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ
الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها
ويجاهد في الله ليبلغ رضاه. وقدر الله - مع هذا كله - هو الذي يحيط بالناس
والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في
هذا الابتلاء) [20] .
فتدبر دور قدر الله - سبحانه - في ناموس التغيير التاريخي، والتحول
الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر؛ بل يضبط حركته الإيجابية، فيتوافق
ويتناغم معه.
ركيزة التجميع:
الاهتمام بدور الإرادة الربانية: لقد أمر الحق - سبحانه - الخليل عليه السلام
أن يحدد الغاية المرادة من إقامة هذا البيت: [أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] [الحج: 26] ، [وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ
وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ] [البقرة: 125] .
أي أن يقوم هذا العمل العظيم الخالد على التوحيد الخالص، فيبنى البيت
الحرام على اسمه - تعالى - وحده، وأن يُطهر من الشرك بلا إله إلا الله، ويكون
خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، أولئك الذين يأتون من غربة،
والمقيمون فيه، والمصلون.
من هذه اللمحة التاريخية، نعلم أن القضية العظيمة التي أرادها الحق -
سبحانه - وذلك بعد أن بين مكان البيت باعتبارها نقطة انطلاق هي توحيده -
سبحانه-..
فالتوحيد هو الأمر الرباني، الذي من شأنه أن يجمع البشر، كل البشر،
ويوحد الناس، كل الناس.
كانت البداية هي أن تنبعث تلك الفكرة العظيمة، من قلب رجل عظيم،
فيتحرك بها، ويحرك بها غيره.
وهذه هي سنة الله - عز وجل - في نشوء الأعمال العظيمة، بل وفي بناء
الحضارات الإنسانية.
وهو دور الفكرة، والمنهج في التغيير الحضاري، وناموس الحركة التاريخية.
فالأفكار لها أهميتها، ووظيفتها الحتمية في بناء الحضارة الإنسانية.
وذلك لأن) أية أمة من الأمم لا بد أن تنطلق في دربها الحضاري من
مجموعة من الأفكار، وسلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة
العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا السبب نجد أن المجتمعات تسمو وتنمو أو
تنحط أو تبيد تبعاً لطبيعة الأفكار التي يعتنقها أبناؤها، والفكرة لا بد لها - لكي
تفعل فعلها - من جهد بشري مكافئ يترجمها إلى فعل. ولا بد من عامل ثالث مكمل
لهما، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي، أي أن تكون موافقة لسنة أو قانون
من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق [21] .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة (406) .
(2) فقه السنة: سيد سابق، طبعة دار الكتاب العربي، 1 /153.
(3) نظرات في أحسن القصص: د محمد السيد الوكيل، 1/185 - 186 بتصرف.
(4) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: مالك بن نبي طبعة دار الفكر، 26 - 40 بتصرف.
(5) في الحديث الذي رواه مسلم /ح /3005، وأحمد (23413) ، والترمذي (3340) .
(6) نور اليقين في سيرة خير المرسلين: الخضري 27 - 28 بتصرف.
(7) رواه الترمذي، ح / 2517 عن أنس وسنده حسن.
(8) رواه البخاري، ح /3364.
(9) زاد المعاد، ابن القيم، 3/33.
(10) البخاري، ح / 7405، ومسلم، ح /2675.
(11) صفوة الصفوة: ابن الجوزي: 1 /310 - 311
(12) البخاري، ح / 4418.
(13) البخاري، ح / 4418.
(14) صحيح القصص النبوي: د عمر الأشقر طبعة دار النفائس، 46.
(15) تهذيب رجال دمشق: ابن عساكر، 8/164.
(16) رسائل الثعالبي: الثعالبي، 81.
(17) بهجة المجالس وأنس المجالس، 1 /321.
(18) القيادة: جاسم المهلهل، 16.
(19) صحيح البخاري، 8/ 130.
(20) هذا الدين: سيد قطب، 64 - 65 بتصرف.
(21) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د أحمد محمد كنعان، 31 32 بتصرف.(139/22)
حوار
حوار مع الدكتور محمود حماية
أجرى الحوار:وائل عبد الغني
ضيفنا هو فضيلة الدكتور محمود علي عبد الرحمن حماية، وهو أحد الأساتذة
بجامعة الأزهر كلية (أصول الدين) ، نال الماجستير عام 1975م، والدكتوراه في
مقارنة الأديان عام 1985م، وكانت رسالته (تحقيق الفِصَل في الملل والنحل لابن
حزم الأندلسي) ، وله عديد من المؤلفات والدراسات المنشورة.
ويسرنا اللقاء مع فضيلته والحوار معه في عدد من المسائل العلمية والفكرية
والدعوية، راجين أن يستفيد الإخوة القراء مما يدور في هذه الجلسة المباركة
والحوار الممتع. ...
-البيان-
* القطيعة الحاصلة بين شباب الصحوة والعلماء في كثير من بلاد الإسلام..
ما أسبابها؟ ومن المسؤول عنها، وكيف يمكن إزالتها؟
* يؤسفنا أن تلك القطيعة لم تعد قاصرة على شباب الصحوة والعلماء فقط،
وان كان للعلماء نصيبهم من تلك القطيعة أو الجفوة، والذي أراه أن هذه المشكلة
تعود إلى أمور متعددة منها:
1- تهاون بعض العلماء بأخلاق الإسلام وعدم التزامهم في حياتهم العامة
والخاصة بهديه وتعاليمه، وهذا سبب جوهري نفر الشباب منهم، وجعلهم يفقدون
الثقة في فتاواهم وآرائهم. إن الشباب المسلم ينتظر من العالم أن يكون قدوة لغيره
في الخلق الرفيع، والشجاعة في الحق، والبعد عن مواطن الشبهات، وقد عاب
القرآن الكريم على أقوام أنهم يقولون ما لا يفعلون، وينهون الناس عن المنكر وهم
لا ينتهون فقال - تعالى -: [أَتَاًمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وأَنتُمْ تَتْلُونَ
الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة: 44] وقال - تعالى -: [لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ
* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 2-3] .
فعدم التزام بعض العلماء بتعاليم الإسلام جعل الشباب ينفر منهم ولا يثق في
كلامهم.
فالشباب غالباً يلتفون حول صاحب السيرة العطرة، والتاريخ المشرق الذي لم
يسجل عليه موقف مشبوه أو نفاق أو تعاون مع ظلمة أو طغاة، خصوصاً أن
مواقف الضعف والتردي للدعاة تظل عالقة في أذهان الشباب ويصعب عليهم محوها.
كيف يثق الشباب في داعية لا يخجل من مدح الظلمة والتزلف إليهم، وتسويغ أخطائهم للرأي العام؟ والذي يطالع التاريخ يجد أن تمسك علماء السلف بأخلاق الإسلام وشجاعتهم في قول الحق، ووقوفهم أمام الظلم والظالمين من أهم العوامل التي جعلت الأمة تتعلق بهم، وتلتف حولهم في الحياة وبعد الممات والأمثلة على ذلك كثيرة!
ولعل من المناسب هنا أن أنبه إلى أن من العلماء من هو أكثر شجاعة وحباً
للإسلام من غيره، والذي يقرأ تاريخ شيوخ الأزهر يجد أن كثيراً منهم كانت لهم
مواقف مشهودة سجلها لهم التاريخ رغم أن الحكام والولاة كانوا يملكون قرارات
عزلهم وتنحيتهم من مناصبهم، وأذكر على سبيل المثال الشيخ المراغي، والشيخ
محمد الخضر حسين، والشيخ عبد المجيد سليم وهي مواقف مرصودة ومعروفة.
2- ومن أسباب هذه الجفوة الجهل بفقه الدعوة الإسلامية لدى كثير من شباب
الصحوة الإسلامية الذين لا يعرفون إلا قشوراً من علوم الإسلام لا تمكنهم من الحكم
الصحيح على الأشياء ووضعها في إطارها الصحيح، بحيث إذا سمع هؤلاء الشباب
فتوى لأحد العلماء لا تتفق مع رأي شيخه أو اتجاه جماعته شنع على هذا الشيخ
وسلبه كل محمدة، ونسي جهاده، وقد يكون الرأي الذي أفتى به هذا الشيخ جائزاً
عند بعض الفقهاء، أو وردت به بعض النصوص، وأخذ فيه هذا الشيخ بالأيسر
للمسلمين لأدلة صحت عنده ولظروف وملابسات هو أعلم بها.
فالعلم الصحيح يقرب بين العلماء والشباب ويجعلهم يلتمسون عذراً لمن أفتى
بحكم ليس على نهجهم! وهذا التسامح من ثمار اعتبار تعدد المذاهب سعة ورحمة!
3- كذلك من الأمور التي تؤدي إلى اتساع الجفوة بين الشباب والعلماء ضعف
التربية لدى كثير من شباب الصحوة لندرة المربين في الساحة الإسلامية، فلا بد
للدعاة أن يركزوا في دعوتهم على جانب التربية وتهذيب النفس وإلزامها بأخلاق
الإسلام وآدابه، لأن الأخلاق في الإسلام لها منزلة رفيعة، ويكفي أن نعرف قول
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) [1] .
ولكن بعض شباب الصحوة إذا سمع رأياً لم يعجبه من عالم شنع عليه، ونقل
كلامه محرفاً حتى يصد الناس عنه، وقد رأيت بعض الشباب إذا خاصم فجر،
وصدر منه من الأقوال والتهم لبعض الشيوخ ما يعف عن ذكره عوام المسلمين الذين
ليس لهم حظ من العلم.
4- ومن الأسباب التي أدت للجفوة أيضاً أن بعض أدعياء العلم يحرص في
كل محاضرة أو ندوة أن يعبِّئ الشباب ويملأ صدورهم حقداً وكراهية للعلماء الذين
ليسوا على مذهبه بدافع الحقد والحسد حتى ينفض الشباب عنهم وتكون له الزعامة.
وقد سمعت أحدهم يتصيد لكل عالم هفوة، وهذا مسلك يشبه طريقة
المستشرقين في تتبع جوانب الضعف في تاريخ الإسلام وتضخيمها ناسين الجوانب
المشرقة حتى يفقد الناس الثقة في الإسلام وتاريخه وشريعته ما دام تاريخ الإسلام
هكذا كله: دم، واستبداد، وظلم، كما يصور المتحاملون من المستشرقين.
إنني أنصح للدعاة إلى الله أن يشغلوا أنفسهم بالبناء بدل الهدم، وبالتركيز
على عرض محاسن الإسلام وحضارته بدل الحديث عن عيوب الآخرين ومساوئ
العلماء، لأن من الخير أن يظل للشباب مُثُل عليا يقتدي بها ويقتفي أثرها.
ماذا كانت النتيجة عندما شوهنا الصورة المضيئة للعلماء في أذهان الشباب؟
لقد فقد الثقة بهم، ورفضوا الإصغاء إلى توجيهاتهم، وتلقفهم المتربصون فأضلوهم.
* منذ أعوام والأصوات تتعالى والتحذيرات تشتد بأن الأزهر ربما يمر بأزمة
كانت هي الأخطر في تاريخه.. فما حجم هذه الأزمة؟
* أدرك أعداء الإسلام خطورة الأزهر على مصالحهم ودوره المهم في الحفاظ
على الإسلام واللغة العربية، فخططوا منذ زمن بعيد لإضعافه والقضاء عليه إن
أمكن ذلك، وقد اشتدت هذه المؤامرة في الفترة الأخيرة، وظهر ذلك في قانون
التطوير رقم 103 لسنة 1961 م، ومنذ ذلك التاريخ والعلوم الشرعية واللغوية
تتراجع في المعاهد الأزهرية بسبب مزاحمة المواد الثقافية لها؛ فقد أصبح الطالب
الأزهري مكلفاً بدراسة منهجين في وقت واحد - أقصد العلوم الأزهرية، ومواد
وزارة التربية والتعليم كاملة التي أقحمت على الأزهر وكانت النتيجة أن الطالب
أخفق في الأمرين معاً، فلم يتقن العلوم الشرعية - كما كان الأزهري قديماً - ولم
يتقن العلوم الحديثة.
وكانت الطامة هذا العام عندما وافق مجلس الشعب المصري على مشروع تقدم
به للحكومة شيخ الأزهر يطلب فيه إلغاء السنة الرابعة من المرحلة الثانوية
الأزهرية، لتصبح ثلاث سنوات مثل الثانوية العامة في وزارة التربية والتعليم،
وتعديل اسم الثانوية الأزهرية إلى ثانوية عامة، وهذا معناه تخريب التعليم
الأزهري، ولذلك تصديت وتصدى غيري لهذه الخطة المريبة، وحاولنا أن نوقف
هذا القانون قبل صدوره ولكن دون جدوى، ولن نيأس وسنظل نجاهد حتى يعود
الأزهر القديم الذي خرَّج للأمة الإسلامية آلاف العلماء الذين انتشروا في المعمورة
يعلمون الناس الإسلام ويدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وموقف الدولة المعلن حتى الآن يجعلنا لا نيأس من تصحيح هذا الوضع!
* هل يمكننا أن نسمع وجهة نظركم في الركائز العامة التي تعيد للأزهر
مكانته من جديد؟
* لن تعود للأزهر مكانته العلمية التي عرف بها في العالم الإسلامي إلا
بالعودة إلى الأمور الآتية:
- الاهتمام بالقرآن الكريم؛ بحيث لا يقبل الطالب في الأزهر إلا إذا كان
حافظاً للقرآن الكريم كله كما كان الأمر سابقاً لأن علوم القرآن تعتمد على حفظ
كتاب الله - تعالى.
- التركيز في المعاهد الأزهرية على العلوم الشرعية والدراسات اللغوية كما
كان الأزهر قبل قانون التطوير، بحيث تكون الدراسات الشرعية هي الأصل
والعلوم الثقافية هي الفرع.
- ضرورة مراجعة المناهج والكتب التي يدرسها طلاب الأزهر، لأن بعض
كتب التراث التي تدرس في المعاهد الأزهرية تحتاج إلى مراجعة وتحقيق وتعليق
حتى يكون ذلك عوناً للطلاب على الفهم والتحصيل.
- لا بد من عودة السنوات التي حذفت من الأزهر بمناهجها وعلومها، لأن
الدراسات الإسلامية لها خصوصيتها التي تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد، على
أن يعطى طلاب الأزهر من المزايا المادية والأدبية ما يقابل ذلك حتى نشجع شباب
الإسلام على دخول الأزهر ودراسة علوم الإسلام.
- استقلال الأزهر مادياً حتى يستطيع أن يؤدي رسالته في جو من الحرية
والاستقلال بعيداً عن التبعية للحكومات، ويكون ذلك بعودة الأوقاف الإسلامية التي
كان ينفق من ربحها على الأزهر وطلابه قبل عام 1915 م وهي كثيرة وكافية؛
لأن تبعية علماء الأزهر أخضعتهم لظروف يصعب على كثير منهم مقاومتها.
- ويُتوج هذا كله بإعادة هيئة كبار العلماء بشروطها، وانتخاب شيخ الأزهر
عن طريقها من أعضائها.
* هل لكم أن تحدثونا عن ندوة علماء الأزهر؟ وما الفرق بينها وبين الأزهر؟ وما سبب هجمات العلمانيين المتكررة عليها؟
نشأت (ندوة العلماء) عام 1992 م؛ وسبب نشأتها الحملات الضاربة على
الإسلام من العلمانيين وفي مقدمتهم الكاتب العلماني الهالك (فرج فودة) .
أمام هذا الهجوم والاستفزاز كان لا بد أن نفعل شيئاً لديننا وعقيدتنا، وألهمني
الله - سبحانه - فكرة تكوين هيئة علمية من علماء الأزهر تقوم بالتصدي لهجمات
العلمانيين والدفاع عن الإسلام وتوضيح مبادئه السامية، وفعلاً دعوت مجموعة
كبيرة من العلماء وشرحت لهم الفكرة، فمنهم من أيدها، ومنهم من تحفظ عليها،
فاستبعدت المترددين وعقدت اجتماعاً في منزلي بمن لمست فيهم غيرة على الحق
واستعداداً للدفاع عن الإسلام وكان في مقدمتهم فضيلة الدكتور عبد الغفار عزيز
رحمه الله عميد كلية الدعوة الإسلامية الأسبق بجامعة الأزهر، والدكتور محمد
البري، والدكتور حلمي صابر، واتفق الحاضرون على أن نسمي هذه الهيئة
العلمية (ندوة العلماء) وأن يكون رئيسها الدكتور عبد الغفار عزيز وأمينها العام
ضيفكم اليوم واستطاعت (الندوة) - بفضل الله سبحانه - أن تتصدى بقوة لرؤوس
العلمانيين، وأن تقوم بدور فعال في الدفاع عن الإسلام والذود عن حياضه، وبعد
قيام (الندوة) بقليل طلب وزير الداخلية لقاءنا، وكان في هذا الوقت هو اللواء محمد
عبد الحليم موسى، فذهبت إليه ومعي أخي الدكتور عبد الغفار عزيز والدكتور
محمد البري، واستقبلنا بمكتبه استقبالاً كريماً يليق بالعلماء، واستمر اللقاء أكثر من
ساعة حضره بعض كبار رجال الداخلية، وسألنا الوزير عن أهدافنا؟ وماذا نريد؟
فقلنا: نريد أن تتركونا لنقول كلمة الحق، حتى يثق بنا الشباب، لأنهم لا يحبون
الشيخ المنافق، فإذا وثق فينا الشباب استجابوا لتوجيهاتنا ونصحنا، وأذكر للتاريخ
أن الوزير قال: قولوا ما تؤمنون به، وأنا لو أخطأت فهاجموني، فقلنا له: نحن
لا نهاجم أحداً، ولكن ننصح بالحسنى، فاتصل بمساعده وقال له: اترك مشايخنا
يذهبون إلى أي مكان، ويقولون ما يريدون! وقد كان لقاء الوزير فرصة وضحنا
له فيها موقف (فرج فودة) من الإسلام، فقلت له: إن فرج فودة لا يحارب التطرف
ولكنه يحارب الإسلام ويسخر من تعاليمه! فسكت ولم يرد! .
بعد لقائنا بوزير الداخلية طلبنا لقاء الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد
الحق وكان رحمه الله رغم اختلافنا معه في بعض التوجهات إلا أنه كان رجلاً عف
اللسان قوياً في الحق يعرف مسؤولية المنصب ويحافظ على هيبته، فذهب إليه
زملائي ولم أكن معهم بسبب سفري إلى الجامعة بأسيوط في هذا اليوم، فأفهمهم أنه
راض عن (ندوة العلماء) وأنه يتابع ما تكتبه دفاعاً عن الإسلام، وطلب أن نسأل
عن جمعية مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية منذ عام 1946 م تحت مسمى
(جبهة علماء الأزهر) وفعلاً عندما سألنا وجدنا هذه الجمعية كما ذكر الشيخ فقام
إخواننا بإحيائها من جديد لتؤدي رسالتها السامية التي قامت من أجلها! ثم كان أن
طالب شيخ الأزهر الحالي بحلها.. وحلت للأسف.
أما الفارق بينها وبين الأزهر فالندوة تمثل الرأي الحر لعلماء الأزهر بعيداً
عن الرأي الرسمي لمؤسسة الأزهر.
والسبب في هجمات العلمانيين المتكررة عليها أن (ندوة العلماء) أو (جبهة
العلماء) تقف للعلمانيين بالمرصاد لتفضح أمرهم وتكشف خداعهم، فهي صوت
الحق الذي يعبر عن آمال الأمة؛ والعلمانيون دعاة الباطل، والحق والباطل
يتصارعان إلى يوم القيامة!
* يضيق الأمر ببعضهم حتى يرى ألاَّ أمل، ويدِّعي أن الحل الإسلامي القادم
سيأتي من بلاد الغرب.. فهل توافقون على ذلك؟
إن الله - سبحانه - قد أوجب علينا العمل لديننا، ولم يحاسبنا على النتائج،
أمرنا بالغرس ولم نكلف بإنبات الزرع ولا إنضاج الثمر، فأمر المسلم كله له خير،
والله كلفه بمهمة ووعده بالثواب عليها حتى ولو لم يتحقق النصر المنشود على يديه، بل حتى لو حيل بينه وبين إنجاز ما نوى عليه ما دام قد صدق الله النية.
ثم إن أمر نهضة الإسلام كثيراً ما يسيء الدعاة فهمه، إذ إن الجروح غائرة
وتحتاج إلى علاج طويل، فعلى الداعية أن يعمل ويترك إحراز النصر للغالب على
أمره، القاهر فوق عباده.
إن الذي ينتظر أن ينهض المسلمون من كبوتهم في سنوات قليلة لم يحسن فهم
الواقع، ولا إدراك سنن الله في الكون، لأن الانحدار استغرق أجيالاً، والنهوض لا
يكون إلا كذلك، وصدق رسولنا الكريم: (ولكنكم تستعجلون) [2] .
والقرآن قد بين حال المسلمين والأنبياء السالفين فقال: [مَّسَّتْهُمُ البَاًسَاءُ
والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ]
[البقرة: 214] ، فالذين يقصرون في أداء واجبهم في خدمة دينهم ويكتفون بالأماني دون العمل انتظاراً لنصر يأتي من الشرق أو من الغرب لا عذر لهم عند الله، ونخشى أن تكون مثل هذه الأماني بمثابة مخدر لإرادة الأمة.
* كان لكم مع العلمانيين صولات وجولات على صفحات الصحف.. ما
أبرزها؟ وهل انتهت؟ ولماذا؟
* إن السجال بين الإسلام والعلمانية وغيرها من النظريات والمذاهب
المشبوهة التي تناقضه سجال مستمر، كان ولا يزال ولن يتوقف، فتلك سنة الله في
خلقه، فهي معركة الحق والباطل الأبدية.. وفي كل جيل يرفع راية الإسلام جنود
يتسلمها من بعدهم خلف صالح لسلف صالح.
وأحمد الله أن جعلني من هؤلاء المدافعين عن حمى الإسلام.
* لعل من أهم المصائب التي حلت بالأمة مؤخراً ظهور ما يعرف بالدعوة
إلى وحدة الأديان.. فما موقف الأزهر الرسمي وغير الرسمي منها؟
* لم يُعرض على الأزهر قديماً ولا حديثاً ما يسمى بوحدة الأديان؛ فهذا أمر
غير معقول وغير مقبول عند أحد من العلماء، إنما الذي نسمعه غالباً (الحوار بين
الأديان) . ومهما تكن المسميات فإن هذه دعوة مشبوهة لا تخدم الإسلام في شيء،
وقد دعا إليها قبل ذلك (الأب جورج قنواتي) وأقام في مصر جمعية الإخاء الإسلامي
المسيحي، وقد دعاني للاشتراك في هذه الجمعية سنة 1977 م تقريباً، ولكني
اعتذرت؛ لأن أستاذي الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف الأسبق كان يحذرني من
خطورة هذه الدعوات الماكرة، وكان - رحمه الله - ينبهني للدور الخطير الذي
يقوم به ذلك الرجل في القاهرة.
وكان التوجه العام من جموع الأزهريين رفض هذه المحاولة على المستويين
الرسمي وغير الرسمي اللهم إلا نفراً لا يَخفَوْن على أحد.
وقد عمل الشيخ عبد الحليم محمود أثناء توليه مشيخة الأزهر على التصدي
لقضية الحوار بين الأديان على سنة سلفه من شيوخ الأزهر السابقين ولذلك جاء
رفضه - رحمه الله - للمؤتمرات التي تعقد بدعوى التفاهم الإسلامي النصراني؛
حيث بنى رفضه على الاعتبارات الآتية:
1- أعلن الإسلام مباشرة تقديره واحترامه لعيسى - عليه السلام - وأمه مريم، مقابل ذلك كان الهجوم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومبادئ الإسلام.
2- لا بد من الاعتراف بالدين الإسلامي وبرسوله حتى ينال المسلمون في
أوروبا ما يناله اليهود من الاعتراف بأعيادهم وبشعائرهم، وإنه لا يتأتى التفاهم بين
أتباع رسول يحترمه المسلمون وهو عيسى - عليه السلام - وأتباع رسول لا
يعترف به النصارى وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-.
3- إن القائمين على النصرانية في الغرب بدل أن يعملوا مع المسلمين على
مقاومة الانحراف والمادية والإلحاد أخذوا في تنصير المسلمين بقوة، فهم يعملون
ليل نهار على تنصير المسلمين في كل مكان في العالم بأسلوب مكشوف واضح أو
بأسلوب خفي مستور.
4- المسلمون أقليات في بعض الأقطار - مثل الفلبين - وهذه الأقليات
المسلمة ينكل بها باسم النصرانية: تؤخذ أرضها، وييتم أطفالها، ويرمل نساؤها،
ولا تجد ارتياحاً في نفوس الأغلبية النصرانية.
5- في المؤتمرات التي تعقد للتفاهم بين الملتين نجد بعض النصارى لا يبالي
فيتحدث عن رسول الإسلام - عليه الصلاة والسلام - بما يضيق به المسلمون، فلا
تكون هذه المؤتمرات وسيلة تفاهم، وإنما تكون وسيلة تنافر.
وخلاصة الأمر: لو كان الحوار جاداً لبدأ باعتراف صريح بالإسلام.
* في الآونة الأخيرة بدأنا نسمع عن بعض الفتاوى التي تحل الربا وتهوِّن من
شأن كثير من الأحكام الشرعية.. فما مدى الخطر المتحقق من مثل هذه الفتاوى،
وما مدى تأثيرها؟
* لا يملك مسلم أن يقول: إن الربا حلال، لأن (تحريم الربا) من المعلوم من
الدين بالضرورة يعلمه العامة والخاصة، ومن يقول إن الربا حلال فهو كافر.
ولكن لعل الذي تقصده القول بحل فوائد البنوك، والذي أراه أن معاملات
البنوك من الأمور الخطيرة التي لا يجوز أن ينفرد بالفتوى فيها واحد من العلماء
مهما كان قدره، بل لا بد أن يعقد مؤتمر يضم فقهاء العالم الإسلامي حتى تتضح
الحقيقة ويصل الجميع إلى الصواب.
ومن المحزن حقاً أن بعض أهل العلم لا يتحرون الدقة في فتاواهم، فتأتي
أحكامهم بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة، وتترك من الآثار ما يغضب
العلماء ويثير العامة وهم مجمعون على حرمة فوائد البنوك وأنها ربا باتفاق المجامع
الفقهية في العالم الإسلامي بما فيها مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف.
وخطورة هذه الفتاوى أنها تخلخل ثقة الناس في مصادر الفتوى، وتحرض
الآخرين على الاقتراب من حرام كانوا يتحرجون من الاقتراب منه، فجاءتهم فتوى
ترفع عنهم ذلك الحرج، وليس كل المتدينين على مستوى الورع الذي يتقي
الشبهات.
* كيف ترون دور المسلم المغترب في خدمة دينه؟ وما هي الأدوار التي
يمكنه القيام بها؟
* أعظم دور يقوم به المسلم لخدمة دينه في تلك الديار أن يكون صورة حسنة
للإسلام، وقدوة طيبة للآخرين، بحيث يدعو إلى الإسلام على بصيرة بأفعاله
وسلوكه. كما أنصح للشباب المسلم في بلاد الغرب أن يترك الخلافات التي تفرق
الصف وتسيء إلى الإسلام.
__________
(1) رواه أحمد، ح / 8729.
(2) البخاري، ح / 3612.(139/32)
الإسلام لعصرنا
أخرجوهم … فإنهم مسلمون
جعفر شيخ إدريس
كان هدف الطائفة الحاقدة من الصرب ممثلة في رئيسها الدكتاتور المغرور
المستكبر الكذاب ميلوسيفتش ومن معه هو إخراج المسلمين جميعاً من كوسوفا، بل
ومن أوروبا كلها إن أمكن، بل ومحوهم من على ظهر الأرض إن استطاعوا إلى
ذلك سبيلاً.
وكان السبب - المعلن على الأقل - لدول الناتو في قصفها ليوغسلافيا هو رد
هذا البغي الصربي عن المسلمين (أو الكوسوفيين من أصل ألباني كما يسمونهم) وأن
يضمنوا لهم شيئاً من الحكم الذاتي الذي يحقق لهم شيئاً من الاستقلال والمحافظة
على هويتهم.
وربما كان المتوقع أن يستجيب ميلوسيفتش لمطالب الناتو بمجرد أن يرى
الصواريخ تمطر على بلاده ناراً تحطم الجسور وبعض المباني، وتلحق بالبلاد
بعض الأضرار الاقتصادية، لكن هذا لم يحدث، بل الذي حدث أنه بينما كان الناتو
يقصف بلاده كان هو يزيد من نشاطه ضد المسلمين، فيرسل مزيداً من قواته
المعتدية على المسلمين في كوسوفا لتواصل مهمتها الإجرامية في قتل الشباب،
واغتصاب النساء، وتجويع الشيوخ والأطفال، وإجلاء الجميع عن بلادهم،
ليتفرقوا أيدي سبأ في أوروبا وأمريكا، وكان الناتو يعزو عدم قصفه للقوات
الصربية في كوسوفا إلى سوء الأحوال الجوية تارة، وبأنهم مستخفون لا تعرف
أماكنهم تارة، وبأن الأمر يحتاج إلى تدخل قوات برية تارة ثالثة، وأنهم حريصون
حتى الآن على عدم زج قواتهم البرية في هذه الحرب خوفاً من كثرة الضحايا التي
ربما إذا رأتها الشعوب الأوروبية والأمريكية صارت معارضة للحرب كما حدث في
الصومال.
فماذا بعد هذا [1] ؟
قد يوافق الدكتاتور الصربي على مطالب الناتو بعد أن يضمن أن كوسوفا قد
خلت من المسلمين أو كادت، فهل ترضى دول الناتو بهذا، فتوقف قصفها وتنهي
حربها؟ لئن فعلت لتظهرن أمام شعوبها بأنها قد خابت في مهمتها الأساسية التي
كانت قد سوغت لهم بها قصفها، وما أظن أن هذه نتيجة تقبل بها هذه الدول؟ لأنها
تعلم أن لها آثاراً بالغة في نفوس شعوبها، إنها ستقلل - لا محالة - من إيمان
شعوبها بإنسانية حضارتها، وتضعف من ثقتها بحكوماتها كما حدث حين إخفاقها في
إنصاف المسلمين في البوسنة والهرسك.
ستحاول هذه الدول - إذن - أن تعيد الكوسوفيين المشرَّدين إلى بلادهم،
ولكن هل سيرجعون طائعين؟
إذا كان الرجوع إلى بلد لا يزال تحت سلطان الصرب بأي شكل كان، فما
أراهم فاعلين بعد أن ذاقوا ما ذاقوا على أيديهم من الظلم والإذلال والهوان، وإذا لم
يرجعوا فإن الناتو يكون قد أخفق مهما حاول بإلقاء اللوم عليهم؛ لأن دوافعهم في
عدم الرجوع ستكون بادية لكل عاقل. نعم، إن وجود القوات الدولية ربما يطمئنهم
بعض الشيء، وربما أغرى بعضهم بالرجوع، لكن الكثيرين سيتساءلون وهم
محقون: إلى متى ستبقى هذه القوات؟ إنه مهما طال أمد بقائها فإنه لا فائدة فيه في
نهاية الأمر إذا كانت كوسوفا ستعود جزءاً من يوغسلافيا. قد يقال: إنها ستبقى
حتى يزول الطاغية الكذاب، لكن هذا - أيضاً - لن يجدي كثيرا؛ لأن الطاغية
وراءه أناس من نوعه هم الذين يؤيدونه الآن، وهم الذين ازداد تأييدهم له بعد
حرب الناتو له، فما أظن إلا أنهم سيستمرون في سياسته بشاكلة من الأشكال.
وعليه، فإن الضمان الوحيد لرجوع الكوسوفيين واستقرارهم في بلادهم هو
الانفصال الكامل عن يوغسلافيا ليختاروا بعد ذلك أن يكونوا دولة مستقلة أو أن
ينضموا إلى ألبانيا، فهل توافق دول الناتو على ذلك؟
إن لم تفعل ولم يرجع المسلمون إلى ديارهم فإن المتعصبين الصرب يكونون
قد حققوا هدفاً ثانياً من أهدافهم هو انسلاخ الكوسوفيين بعضهم أو أكثرهم عما تبقى
لهم من هوية إسلامية، لأن هذا هو الذي سيحدث لا محالة إذا ما تمزقوا شذر مذر
في بلاد غير إسلامية.
إن إخراج الكفرة المستكبرين للمسلمين المستضعفين من أرضهم ليس بالأمر
الجديد، بل هو سنة متبعة كما يبين القرآن الكريم. ربما ظن كثير من المسلمين أن
هذا إنما يحدث للمسلمين شديدي التمسك بدينهم، وأنهم إن أظهروا عدم الالتزام
بشرائع دينهم، فإن الكفرة المستكبرين سيتسامحون معهم. لكن هذا وهم كبير،
فهاهي ذي تجارب عصرنا تثبت لنا أن المستكبرين من الكفار لا يقبلون من المسلمين
حتى مجرد الانتساب للإسلام. لقد كان الشيوعيون أيام الاتحاد السوفييتي يضيقون
حتى بمجرد الأسماء الإسلامية، ودعك عما فوقها. إن الكفرة المستكبرين لا
يرضون عن المسلمين إلا إذا كانوا أمثالهم، فانسلخوا انسلاخاً كاملاً عن دينهم:
[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] [الأعراف: 88] فشرط العودة إلى
الأرض هو العودة إلى الكفر.
وإذا كان هذا قد حدث لمسلمي كوسوفا، فهل يحدث مثله لأقليات مسلمة أو
لمسلمين مستضعفين في أماكن أخرى من العالم؟ هذا أمر ينبغي أن تتدبره تلك
الأقليات، وأن تفكر منذ الآن في كيفية الحفاظ على دينها وشرفها.
إنه لا مناص من مثل هذا المصير لمسلمين يختارون العيش بين ظهراني هذا
النوع من الكافرين إلا أن تكون لهم قوة ذاتية أو قوة خارجية يرهبون بها عدو الله
وعدوهم.
إن أمثال هؤلاء الأعداء لا يجدي معهم منطق ولا حوار، لأنهم مدفوعون -
والإعاذة بالله - بكراهية شديدة للحق والطهر:
[وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى] [فصلت: 17] .
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] [محمد: 9] .
إن هؤلاء الكارهين للحق والطهر مستعدون - بتسويل الشيطان لهم - أن
يضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الباطل والفساد. لكن عقاب الله لهم بالمرصاد في
هذه الدنيا قبل الآخرة.
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ واللَّهُ
يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ]
[محمد 26، 27] .
__________
(1) كتب هذا في 21 محرم 1420 هـ الموافق 6 إبريل 1999 م.(139/40)
ملف العدد
فاتحة الملف
هكذا نعظم الرسول الحبيب
-صلى الله عليه وسلم-
ليس من شك أن تعظيم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من صلب إيمان
المسلم؛ فهو خليل الله المصطفى من خلقه، وخاتم الأنبياء الذي بانتهاء رسالته
انقطع وحي السماء، والموصوف من ربه - جلا وعلا - بعظم خلقه، وأحد خمسة
من أولي العزم من الرسل. هذا التعظيم تحتمه سيرته الشريفة -صلى الله عليه
وسلم- كما تمليه حقيقة شهادة أن (محمداً رسول الله) .
ولم يغفل المسلمون - منذ جيل الصحابة الكرام - عن قدر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وعن محبته وتعظيمه، فنرى في سيرة هؤلاء الصحابة وتابعيهم
وعلماء الأمة وعوامها من بعدهم أفضل نماذج لهذا التعظيم.
ولكن مع دخول الأمة نفق الانحرافات العقدية والعملية التي نتجت عن البعد
عن النبعين الصافيين (الكتاب والسنة) أو تكديرهما بمصادر أخرى، نشأ انحراف
في هذا التعظيم بالإفراط أو التفريط، ولكن هذا الانحراف - وأظهره ما كان بالغلو- اتسم بسمات عمقته ورسخته في النفوس. من هذه السمات: أنه كان باسم التدين
ومحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما جعل الانحراف (أو البدعة) ديناً ينافح
عنه ويتعصب له؛ فإذا ما برز من يريد إصلاح الاعوجاج بدا في أعين الدهماء
وكأنه يصرفهم عن دينهم وعن محبة رسولهم، كما أن هذا الانحراف كانت له
وسائل إعلامية شعبية متعددة كالمدائح والموالد - ساعد على نشرها بعض الفرق
المبتدعة - مما جعله ينتشر في أوساط قطاعات كبيرة من الأمة قديماً وحديثاً.
وإيماناً من (البيان) بأن تعظيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- هادياً ومبشراً
ونذيراً أحد حقوقه على كل مسلم، وانطلاقاً من ذلك كان هذا الملف الذي يقدم فيه
الإخوة الكتاب - جزاهم الله خيراً - نماذج لتصحيح بعض الانحرافات في هذا
الجانب مع التمسك بأصل التعظيم لحبيب كل مسلم وقدوته -صلى الله عليه وسلم-
جعلنا الله - عز وجل - ممن يعظمون رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما يحب
ويرضى.
- البيان -(139/43)
ملفات
منهج أهل السنة في تعظيم النبي
-صلى الله عليه وسلم-
عبد اللطيف بن محمد الحسن
لربنا - تبارك وتعالى - أرفع القدر وأعظم الشأن؛ فله العظمة الكاملة التي
تتجلى في ذاته وصفاته وأفعاله، في خلقه وأمره، في الآفاق والأنفس، أنَّى نظرت
في خلقه رأيت ما يبهر العقول ويزيد الإيمان، ومهما تلوت من آي كتابه العظيم
وقفت على دلائل عظمته، وأدلة قَدْره سبحانه.
خضعت لعظمة ربي - عز وجل - المخلوقات، وذلت لجبروته الأرض
والسماوات، واشتد نكيره - تعالى - على من أخل بتعظيمه، فقال - سبحانه -:
[ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] [الزمر: 67] .
فحقٌ على من عرف قدر الله وأراد تعظيمه أن يعظم ما عظمه - تعالى -
قياماً بحقه من التوحيد والعبادة، وقياماً بحق كتابه وحق رسوله -صلى الله عليه
وسلم-.
وغير خاف على مسلم صادق في إسلامه تلك المنزلة الرفيعة التي حباها ربنا- تعالى - لصفوة خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-
فإلى شيء من جوانب تلك العظمة، وهدي السابقين والتابعين لهم بإحسان في
تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- ... ذلك الحديث الذي تنشرح له صدور المؤمنين
الصادقين، وتتطلع إليه نفوسهم، ويتمنون أن لو اكتحلت أعينهم برؤية حبيبهم -
صلى الله عليه وسلم-،؛ وتشنفت آذانهم بسماع صوته.
المراد بالتعظيم:
قال الله - تعالى -: [إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً] [الفتح: 8، 9] .
فذكر - تعالى -: حقاً مشتركاً بينه وبين رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو
الإيمان، وحقاً خاصاً به - تعالى - وهو التسبيح، وحقاً خاصاً بنبيه -صلى الله
عليه وسلم- وهو التعزير والتوقير.
وحاصل ما قيل في معناهما أن: (التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من
كل ما يؤذيه. والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال
والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه
عن حد الوقار) [1] .
وهذه المعاني هي المراد بلفظ التعظيم عند إطلاقه، فإن معناه في اللغة:
التبجيل، يقال: لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها [2] ، ولفظ التعظيم
وإن لم يرد في النصوص الشرعية، إلا أنه استعمل لتقريب المعنى إلى ذهن السامع
بلفظ يؤدي المعنى المراد من (التعزير والتوقير) [3] .
والتعظيم أعلى منزلة من المحبة، لأن المحبوب لا يلزم أن يكون معظماً،
كالولد يحبه والده محبة تدعوه إلى تكريمه دون تعظيمه، بخلاف محبة الولد لأبيه،
فإنها تدعوه إلى تعظيمه. والرجل يعظم لما يتمتع به من الصفات العلية، ولما
يحصل من الخير بسببه، أما المحبة فلا تحصل إلا بوصول خير من المحبوب إلى
من يحبه [4] .
مع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- سيرة وخُلقاً:
لقد حبا الله - تبارك وتعالى - نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- من
الخصائص القوية والصفات العلية والأخلاق الرضية ما كان داعياً لكل مسلم أن
يجله ويعظمه بقلبه ولسانه وجوارحه.
وقد كان لأهل السنة والجماعة قدم صدق في العناية بجمع خصائصه، وإبراز
فضائله والإشادة بمحاسنه، فلم يخل كتاب من كتب السنة كالصحاح والسنن وغيرها
من كتب مخصصة لم يخل من ذكر مآثره، كما أُفردت كتب مستقلة للحديث عنه
وعن سيرته [5] .
وقد اختار الله - عز وجل - لنبيه -صلى الله عليه وسلم- اسم (محمد)
المشتمل على الحمد والثناء؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- محمود عند الله - تعالى- ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه المرسلين - عليهم الصلاة والسلام- ومحمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم؛ لأن صفاته محمودة عند
كل ذي عقل وإن كابر وجحد؛ فصدق عليه وصفه نفسه حين قال: (أنا سيد ولد
آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء
الحمد، تحته آدم فمن دونه) [6] .
وقد أغاث الله - تعالى - به البشرية المتخبطة في ظلمات الشرك والجهل
والخرافة، فكشف به الظلمة، وأذهب الغمة، وأصلح الأمة، وصار (هو الإمام
المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم) [7] ، فهدى الله به من الضلالة، وعلم به
من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكثَّر به بعد القلة، وأعزَّ به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة [8] .
عرّف الناسَ ربَّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، ولم
يدع لأمته حاجة في هذا التعريف، لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم،
وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب: [أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [العنكبوت: 51] ،
وعرفهم الطريق الموصلة إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع -صلى الله
عليه وسلم- حسناً إلا أمر به، ولا قبيحاً إلا نهى عنه.
وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم
يدع باباً من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلاً إلا بينه
وشرحه، حتى هدى به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به
من جهلها، فأي بشر أحق بأن يُحب؟ جزاه الله عن أمته أفضل الجزاء.
وقد وصف النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عدد من أزواجه وأصحابه كخديجة
وعائشة، وأنس، وابن عباس، وعلي، وابن عمر وغيرهم - رضي الله عنهم - ولما كان المقصود الإشارة إلى ذلك دون الاستقصاء آثرت نقل كلام ابن القيم
الجامع لأوصافه، تحاشياَ للإطالة وكثرة التخاريج. قال ابن القيم: (ومما يحمد
عليه -صلى الله عليه وسلم- ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم،
فإن من نظر في أخلاقه وشيمه -صلى الله عليه وسلم- علم أنها خير أخلاق الخلق، وأكرم شمائل الخلق، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الخلق، وأعظمهم
أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفواً
ومغفرة، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً، كما روى البخاري في صحيحه
[ح/12125] عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال في صفة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة: (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل،
ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو
ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح
به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.) وأرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم
الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبداً عن المعاني
الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر،
وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل
بأضعافه، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشد الخلق ذبَّاً عن
أصحابه، وحماية لهم، ودفاعاً عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى
عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحق بقول القائل:
بَرْدٌ على الأدنى ومرحمةٌ ... وعلى الأعادي مارنٌ جَلْدُ [9]
بواعث تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-:
يدعو المسلم إلى ذلك أمور عدة، منها:
1- تعظيم العظيم - سبحانه وتعالى -، لأنه عظم نبيه -صلى الله عليه
وسلم-؛ حيث أقسم بحياته في قوله: [لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]
[الحجر: 72] [10] .
كما أثنى عليه فقال: [وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] [القلم: 4] ، وقال:
[ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] [الشرح: 4] ، فلا يُذكر بشر في الدنيا ويثنى عليه كما يُذكر
النبي -صلى الله عليه وسلم- ويثنى عليه.
2- أن من شرط إيمان العبد أن يعظم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا
هو الغرض من بعثته -صلى الله عليه وسلم-. قال - تعالى -: [إنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وأَصِيلاً] [الفتح: 8، 9] ، قال ابن القيم: (وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز
تبعاً لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه،
فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه
ويجلونه لإجلال الله له؛ فهي محبة لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل
العلم والإيمان ومحبة الصحابة - رضي الله عنهم - وإجلالهم تابع لمحبة الله
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-) [11] .
بل الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن قيام المدحة والثناء عليه
والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله) [12] .
3- ما ميزه الله - تعالى - به - مما سبق ذكره - من شرف النسب، وكرم
الحسب، وصفاء النشأة، وأكمل الصفات والأخلاق والأفعال.
4- ما تحمله -صلى الله عليه وسلم- من مشاق نشر الدعوة، وأذى
المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة [13] .
مع الصحابة في تعظيمهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم له في حياته:
نال الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - شرف لقاء النبي -صلى الله
عليه وسلم-، فكان لهم النصيب الأوفى من توقيره وتعظيمه مما سبقوا به غيرهم،
ولم، ولن يدركهم من بعدهم، ثم شاركوا الأمة في تعظيمه بعد موته -صلى الله
عليه وسلم-[14] . كان شأنهم في توقيره أوضح وأظهر من أن يستدل عليه،
وأجمل من وصف شأنهم في ذلك عروة ابن مسعود الثقفي - رضي الله عنه - حين
فاوض النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال: (أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي،
والله إن [15] رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله
إن تنخمَّ نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم
ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم
عنده، وما يحدُّون النظر إليه تعظيما له) [16] .!
وقد وُصف الصحابة حال جلوسهم واستماعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-
بوصف عجيب جاء في أحاديث عدة، منها قول أبي سعيد الخدري:) وسكت
الناس كأن على رؤوسهم الطير [17] .
وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه -: (وما كان أحد أحب إلي من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ
عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني
منه) [18] .
ولما زار أبو سفيان ابنته أم حبيبة - رضي الله عنها - في المدينة، ودخل
عليها بيتها، ذهب ليجلس على فراش رسول الله؛ فطوته، فقال: يا بنية! ما
أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت: (هو فراش رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على
فراشه) [19] .
ومن شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه قول أنس بن مالك:
(إن أبواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقرع بالأظافير) [20] .
ولما نزل قول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنتُمْ لا
تَشْعُرُونَ] [الحجرات: 2] ، قال ابن الزبير: (فما كان عمر يُسمِع النبي -صلى
الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه) ، وكان ثابت بن قيس جهوري
الصوت يرفع صوته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجلس في بيته منكساً رأسه
يرى أنه من أهل النار بسبب ذلك، حتى بشره النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالجنة [21] .
وللمحدثين نصيب:
للمحدثين - رحمهم الله ورضي عنهم - منهج رصين ورصيد ثري وإسهام
قوي في إجلال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتوقير مجلس الحديث، والتحفز لاستباق العمل به، تعظيماً له وهذه بعض الشواهد: حدث عمرو بن
ميمون عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فكان مما قال: وما سمعته قط
يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مرة، فنظرت إليه وقد حل إزاره
وانتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: (أو نحو ذلك أو دون، أو قريباً من
ذلك، أو شبه ذلك) [22] .
وجعفر بن محمد، ومالك بن أنس، والأعمش، بل قد صار ذلك مستحباً
عندهم، وكرهوا خلافه.
قال ضرار بن مرة: (كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهم على غير وضوء) .
قال إسحاق: فرأيت الأعمش إذا أراد أن يتحدث وهو على غير وضوء
تيمم [23] .
وكان مالك يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويأخذ زينته للتحديث بحديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم-[24] .
وقال ابن أبي الزناد: كان سعيد بن المسيب - وهو مريض - يقول:
(أقعدوني؛ فإني أكره أن أحدث حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا
مضطجع) [25] .
ومرّ مالك بن أنس على أبي خازم - وهو يحدث - فجازه، وقال: (إني لم
أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وأنا قائم) [26] .
وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك، فإذا جاء الحديث خشع [27] .
وقال سعيد بن عامر: (كنا عند هشام الدستوائي فضحك رجل منا فقال له
هشام الدستوائي: تضحك وأنت تطلب الحديث؟ !) [28] ..
كيف نعظم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
إن الأمر بتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه يعني أن ذلك عبادة لله - عز وجل - وقربة إليه - سبحانه - والعبادة التي أرادها الله - تعالى -
ويرضاها من العبد هي ما ابتغي به وجهه، وكان على الصفة التي شرعها في كتابه
العظيم وعلى لسان نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
فأما الإخلاص في الأعمال وابتغاء وجه الله فيها فهو مقتضى شهادة أن لا إله
إلا الله؛ لأن معناها لا معبود بحق إلا الله - سبحانه وتعالى.
وأما متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي مقتضى الشهادة بأن محمداً
رسول الله، ولازم من لوازمها؛ إذ معنى الشهادة له بأنه رسول الله حقاً: (طاعته
فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا
بما شرع) [29] .
وهذا كمال التعظيم، وغاية التوقير. وأي تعظيم أو توقير للنبي -صلى الله
عليه وسلم- لدى من شك في خبره، أو استنكف عن طاعته، أو ارتكب مخالفته،
أو ابتدع في دينه وعبد الله من غير طريقه؟ !
ولذا اشتد نكير الله - تعالى - على من سلكوا في العبادة سبيلاً لم يشرعها،
فقال: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [30] ،
أي مردود عليه.
ثم العبادة محلها القلب واللسان والجوارح:
ويتحقق تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقلب بتقديم محبته على النفس
والوالد والولد والناس أجمعين؛ إذ لا يتم الإيمان إلا بذلك [31] ، ثم إنه لا توقير
ولا تعظيم بلا محبة. وإنما يزرع هذه المحبة معرفته لقدره ومحاسنه -صلى الله
عليه وسلم-[32] .
وإذا استقرت تلك المحبة الصادقة في القلب كان لها لوازم هي في حقيقتها
مظاهر للتعظيم ودلائل عليه، ومن صور ذلك التعظيم:
الثناء عليه -صلى الله عليه وسلم- بما هو أهله، وأبلغ ذلك ما أثنى عليه
ربه عز وجل به، وما أثنى هو على نفسه به، وأفضل ذلك:
الصلاة والسلام عليه؛ لأمر الله - عز وجل - وتوكيده: [إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [الأحزاب: 56] ، وهذا إخبار من الله تعالى: (بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني
عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر - تعالى - أهل
العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي
والسفلي جميعا) [33] ، وصلاة المؤمنين عليه هي الدعاء طلباً للمزيد من الثناء
عليه [34] .
والصلاة عليه مشروعة في عبادات كثيرة كالتشهد والخطبة وصلاة الجنازة
وبعد الأذان وعند الدعاء وغيرها من المواطن [35] .
وأفضل صيغها: ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه حين قالوا:
أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: (قولوا: اللهم صل على
محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم
بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد) [36] .
وغير خاف عليك ما في الصلاة عليه من الفوائد والثمرات من كونها سبباً
لحصول الحسنات، ومحو السيئات، وإجابة الدعوات، وحصول الشفاعة، وصلاة
الله على العبد، ودوام محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيادتها، والنجاة من
البخل [37] .
ومن تعظيمه: التأدب عند ذ كره -صلى الله عليه وسلم- بأن لا يذكر باسمه
مجرداً، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كما كان أدباً للصحابة - رضي الله
عنهم - في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقل: محمد، ولكن: نبي
الله، أو الرسول، ونحو ذلك.
وهذه خصيصة له في خطاب الله في كتابه الكريم دون إخوانه من الأنبياء -
عليهم الصلاة والسلام - فلم يخاطبه - تعالى - قط باسمه مجرداً، وحين قال:
[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ] [الأحزاب: 40] قال بعدها: [ولَكِن رَّسُولَ ...
اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] .
يجيء التوجيه إلى هذا الأدب في قوله - تعالى -: [لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً] [النور: 63] [38] .
ومنه: الإكثار من ذكره، والتشوق لرؤيته، و) تعداد فضائله وخصائصه
ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته
ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته
وغزواته، والتمدح بذلك شعراً ونثراً [39] . وأسعد الناس حظاً بذلك: المحدثون
والمشتغلون بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والشرط في ذلك: كونه في حدود المشروع، وسطاً بين الجفاء وبين الغلو
والإطراء.
استشعار هيبته -صلى الله عليه وسلم- (ولجلالة قدره وعظيم شأنه،
واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من
شأنه أن يجعل القلب ذاكراً لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفاً به ومذعناً له،
فالقلب ملك الأعضاء، وهي جند له وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي -صلى الله
عليه وسلم- مستقراً في القلب مسطوراً فيه على تعاقب الأحوال فإن آثار ذلك
ستظهر على الجوارح حتماً لا محالة. وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء
عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره، ومؤدية لماله من الحق والتكريم) [40] .
وبرهان التعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-
من الشريعة المتضمنة في الكتاب والسنة كما فهمها سلف الأمة، وذلك باتباعها
والتزامها قلباً وقالباً، وتحكيمها في كل مناحي الحياة وشؤونها الخاصة والعامة؛
ومحال أن يتم الإيمان بدون ذلك: [ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] [النور: 47] ..
فإن هذا هو مقتضى التعظيم الحقيقي والتوقير الصادق؛ إذ العبرة بالحقائق لا
بالمظاهر والأشكال الجوفاء، ولذا قدم الله - عز وجل - هذا الأدب العظيم على
سائر الآداب الواجبة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنهى عن التقدم بين يديه
بأمر دون أمره أو قول دون قوله، بل يكونون تبعاً لأمره منقادين له مجتنبين نهيه،
فقال في أول سورة الحجرات: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [الحجرات: 1] .
ومن التقدم بين يديه: تقديم القوانين والتشريعات البشرية على شريعته، أو
تفضيل حكم غيره على حكمه أو مساواته به، أو التزام منهج مخالف لهديه وسنته:
[فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً
مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] [41] .
وأسعد الناس حظاً بسنته وأقربهم إلى الشرب من حوضه: أهل السنة
والجماعة، فهم من أحيوا سنته واتبعوا شريعته وهديه.
ومن توقيره وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- توقيره في آله، ومنهم أهل
بيته - رضي الله عنهم أجمعين [42] ورعاية وصيته بهم بمعرفة فضلهم ومنزلتهم
وشرفهم بقربهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- زيادة على إيمانهم، وبحفظ
حقوقهم والقيام بها، فهم أشرف آل على وجه الأرض، وأزواجه أمهات المؤمنين
الطاهرات، قال الله - تعالى -: [إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] [الأحزاب: 33] ، وقد أوجب الله الصلاة عليهم تبعاً للصلاة
على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد في الصلاة.
ومنه: توقيره في سائر صحبه - رضي الله عنهم جميعاً [43] فإنهم خيرة
الناس بعد الأنبياء، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم حماة المصطفى -صلى الله عليه
وسلم- والأمناء على دينه وسنته وأمته، وذلك بمعرفة فضلهم، ورعاية حقوقهم،
فإن الطعن فيهم أو تنقُّصهم عنوان الزندقة.
ومنه: الأدب في مسجده، وكذا عند قبره، وترك اللغط ورفع الصوت،
ولذا أنكر عمر - رضي الله عنه - على من رفع صوته فيه. فقال للرجلين:
(ترفعان أصواتكما في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ! لو كنتما من أهل
المدينة لأوجعتكما ضرباً) [44] .
ومن تعظيمه: حفظ حرمة بلده المدينة النبوية؛ فإنها مهاجره، ودار نصرته، وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه، ومدفنه، وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد
الحرام.
(والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها، وهذا أمر واجب في حق
من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة
وحسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله -صلى
الله عليه وسلم-) [45] فيتأكد فيها العمل الصالح وتعظم فيها السيئة؛ لشرف
المكان.
صور من البخس:
بعد هذه الجولة الماتعة مع حق عظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا
يسوغ أبداً لمنتسب إلى السنة أن يجفو في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيخل
بما يجب له من الإجلال والتوقير والتعظيم. ومن صور الإخلال: التقصير في
معرفته أو معرفة سيرته وهديه أو فهم سنته أو الإخلال في تطبيقها غلواً أو جفاء.
ومنها: إساءة العمل والتقصير في الصالحات، وخاصة ممن ينتسب لآل بيته الكرام.
ومن العجيب مع تأكد هذا الحق العظيم أن يقع التعرض بسوء للمؤمنين
الصادقين من آل البيت! وأعجب منه سب صحابته والنيل من أزواجه الطاهرات!
وأكبر منها الإساءة إلى ذات النبي -صلى الله عليه وسلم-، والجرأة على نقده ولمز
شريعته في ديار المسلمين! !
ثم أين هو من دين النبي -صلى الله عليه وسلم- من يستبدل شريعته بقوانين
البشر، أو يهزأ من هديه، أو يتعالى على سنته؟ !
وبعد: يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-!
هل عظَّم نبيكم وحبيبكم -صلى الله عليه وسلم- من حلف به مع أنه -صلى
الله عليه وسلم- يقول: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) [46] ، ويقول:
(من حلف بغير الله فقد أشرك) [47] ؟ !
وهل عظَّمه من توسل بذاته مع أن الصحابة توسلوا بدعائه لا بذاته، كما في
حديث عمر حين طلب من العباس الدعاء والاستسقاء [48] والنبي -صلى الله عليه
وسلم- عندهم في قبره؟ !
وهل عظَّمه من توجه إليه طالباً منه الشفاعة مع أن الله - عز وجل - بين
للأمة أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه - تعالى - ورضاه، وأمر من أراد الشفاعة
بطلبها بطاعته؟ !
وهل عظمه من استغاث به مع أنه بشر لا يملك من أمره شيئا؟ !
أليس هذا تنكراً لمحبته وتعدياً لشرعه وعصياناً لأمره؟ حيث قال: (لا
تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله
ورسوله) [49] ؟ !
وهل من تعظيمه الابتداع في دينه، والزيادة في شريعته من التمسح بحجرته
أو الاحتفال بمولده بعد اتفاقنا على نصحه لأمته ودلالتها على كل حسن؟ !
فأي حسن في عمل احتفالات ساعات أو أيام ثم التقصير والإهمال في سائر
العام؟ !
وأي حسن في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟ !
وأي حسن في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟ !
وأي حسن في التعدي على فقه الفاروق حين أرَّخ بهجرة المصطفى -صلى
الله عليه وسلم- رمز انتصار دينه، ولم يؤرخ بمولده ووفاته، تقديماً للحقائق
والمعاني على الطقوس والأشكال؟ !
وأي حسن في تجديد دين الدولة العبيدية الباطنية الحاقدة التي ابتدعت ذلك
الاحتفال؟ !
وأي حسن في عمل لم يشرعه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ولم يفعله
أنصاره وحماة دينه وحملة رسالته - رضي الله عنهم-؟ أليسوا أصدق الناس حباً
له؟ !
أليس فقه الراشدين وفهمهم وسنتهم مما أوصاكم به نبيكم -صلى الله عليه
وسلم- قائلا: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا
عليها بالنواجذ [50] ؟ !
أليس فعل المولد مخالفة لأمره:) وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؟ !
فأي تعظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الموالد التي صارت ركباً
للمدعين، وحجة للبطالين؟ !
ألا ترون المولد - بعد هذا - تقصيراً في حق حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-
وظلماً له؟ !
اللهم اجعلنا من المعظمين رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حق التعظيم
المتبعين شرعه، وتوفنا على سنته.. آمين.
__________
(1) الصارم المسلول، لابن تيمية، 422.
(2) لسان العرب، لابن منظور: 4 /3005.
(3) انظر: حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، د محمد التميمي، 2/422.
(4) انظر: شعب الإيمان، للبيهقي: 2/193.
(5) من ذلك مثلاً: شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، للترمذي، واختصره الألباني، وسبل الهدى والرشاد، للصالحي، وغاية السول في خصائص الرسول، لابن الملقن، وبداية السول في نفضيل الرسول، للعز - وهي رسالة لطيفة حققها الألباني وذكر أن جميع أحاديثها ثابتة -، والخصائص الكبرى للسيوطي، ونحوها.
(6) أخرجه ابن حبان، وانظر السلسلة الصحيحة، 1571.
(7) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 10 /727.
(8) انظر: جلاء الأفهام: 277.
(9) جلاء الأفهام، لابن القيم، ت: مشهور سلمان، ص 284 - 291.
(10) انظر: التبيان في أقسام القرآن، ص428، شرح الشفا للقاضي عياض، لملا علي القاري، 1 /72.
(11) جلاء الأفهام، ص 297 0.
(12) الصارم المسلول، ص 211.
(13) انظر: التأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ضوء الكتاب والسنة، حسن نور حسن، ص: 37 - 123.
(14) انظر مبحثاً جامعاً في: حقوق النبي على أمته، د محمد التميمي، 2/447 - 461.
(15) قوله: (إن) معناها: (ما) النافية، أي: ما رأيت.
(16) رواه البخاري، كتاب الشروط، 3/178.
(17) رواه البخاري، كتاب الجهاد، 3/213.
(18) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، ح /121.
(19) رواه الخطيب البغدادي - رحمه الله - في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2/67.
(20) رواه ابن عبد البر، في جامع بيان العلم وفضله، 2/1217 - 1219، وذكر المحقق صحة إسناده.
(21) انظر: شرح الشفا: 2/77.
(22) رواه ابن عبد البر في جامعه، 2/1220، وذكره القاضي عياض في الشفا، انظر: شرح الشفا، 2/76.
(23) ذكره في الشفا: انظر: الشرح، 2/75، وتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأسعد الصاغرجي، ص 21.
(24) السابق: 2/57، وذكره عياض في الشفا، انظر: شرحه: 2/76.
(25) السابق: 1 /89.
(26) أورده ابن كثير في البداية والنهاية: 4 /280، وابن حجر في الإصابة: 4 /299 - 300.
(27) أخرجه البيهقي في الشعب، 2/201، ح 1530.
(28) الحديثان في صحيح البخاري، في التفسير، 6/46.
(29) مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 1/190.
(30) رواه مسلم، ح 1718.
(31) كما في الحديث الذي رواه مسلم، ح 44.
(32) انظر: شعب الإيمان للبيهقي: 2/133.
(33) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 3/507، وانظر في تفسير الآية فصلاً مطولاً في جلاء الأفهلم، 253 - 276.
(34) انظر: التأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حسن نور حسن: 197.
(35) وقد أوصلها ابن القيم إلى واحد وأربعين موطناً، انظر: جلاء الأفهام: 463 - 611.
(36) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، 6/27.
(37) ذكر ابن القيم لها ثلاثاً وثلاثين فائدة، انظر جلاء الأفهام: 612 - 627.
(38) انظر: تفسير ابن كثير: 3/306، وجلاء الأفهام: 641، والصارم المسلول: 432.
(39) حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، للتميمي: 2/472.
(40) السابق: 2/470.
(41) انظر: التأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حسن نور حسن، 230.
(42) انظر: شرح الشفا: 2/80، وحقوق النبي -صلى الله عليه وسلم-: 2/479.
(43) انظر: السابقين: 2/88، 2/485.
(44) رواه البخاري، الصلاة، ح / 470.
(45) حقوق النبي: 2/493.
(46) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، 7/ 221.
(47) رواه أبو داود: ح /3251، 3/570، وانظر: صحيح سنن أبي داود: ح /2787،
2/627.
(48) أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، 2 /16.
(49) رواه البخاري، كتاب الأنبياء، (فتح 6/551) ، ح /3445.
(50) رواه الترمذي: كتاب العلم، رقم (2676) .(139/44)
ملفات
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي
فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
(عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله،
والنهي عن الابتداع في الدين، قال - تعالى -: [قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] [آل عمران: 31] ، وقال - تعالى -: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ]
[الأعراف: 3] ،، وقال - تعالى -: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] [الأنعام: 153] ، وقال -صلى الله عليه
وسلم-: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور
محدثاتها، وقال -صلى الله عليه وسلم-: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
رد [1] ، وفي رواية لمسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد..
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي
في شهر ربيع الأول؛ وهم في هذا الاحتفال على أنواع:
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد، أو تقدم فيه خطب
وقصائد في هذه المناسبة.
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت.
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات
ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة
بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك،
وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه
بدعة محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة؛ فأول من أحدثه الملك
المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع
الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة: وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا
أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال الحافظ ابن كثير في البداية [2] في ترجمة أبي سعيد كوكبوري: وكان
يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً ... إلى أن قال: قال
السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك
السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية،
وثلاثين ألف صحن حلوى ... إلى أن قال: ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى
الفجر ويرقص بنفسه معهم اهـ.
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان [3] : فإذا كان أول صفر زينوا تلك
القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق
من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات
(طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً.
وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران
عليهم ... إلى أن قال: فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر
والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني
والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان ... إلى أن قال: فإذا كانت ليلة المولد عمل
السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة. ا. هـ.
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخراً ومقترناً باللهو
والسرف وإضاعة الأموال والأوقات، وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع، وأن لا يقدم على عمل
حتى يعلم حكم الله فيه.
هذا؛ وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت،
ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي:
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
والجواب عن ذ لك أن نقول: إنما تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- بطاعته
وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته -صلى الله عليه وسلم-، وليس تعظيمه بالبدع
والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم، لأنه
معصية. وأشد الناس تعظيماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة - رضي
الله عنهم -، كما قال عروة بن مسعود لقريش: يا قوم! والله لقد وفدت على
كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد
محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يمدون النظر إليه تعظيماً له، ومع هذا
التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه
وسلم-. والثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- النهي عن البدع عموماً،
وهذا منها. وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة، وإن كثروا: [وإن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: 116] ، مع أنه لا يزال -
بحمد الله - في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من
استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق. فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ
الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) ، والإمام الشاطبي في
(الاعتصام) ، وابن الحاج في (المدخل) ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي
ألف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه
(صيانة الإنسان) ، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد
بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز،
وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات
الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
3- يقولون: إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والجواب عن ذلك أن نقول: إحياء ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون
بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة
عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به، وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة
دائماً، لا في السنة مرة.
4- قد يقولون: الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد
به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لا تقبل من أي أحد كان، وحسن القصد
لا يسوغ العمل السيء، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته.
5- قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله
على وجود النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال: ليس في البدع شيء حسن، فقد قال -صلى الله
عليه وسلم-: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، ويقال أيضاً: لماذا
تأخر القيام بهذا الشكر - على زعمكم - إلى آخر القرن السادس، فلم يقم به أفضل
القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي -صلى الله
عليه وسلم- وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر، فهل كان من أحدث بدعة
المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله - عز وجل-؟ حاشا وكلا.
6- قد يقولون: إن الاحتفال بذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم- ينبئ عن
محبته -صلى الله عليه وسلم- فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته -صلى الله
عليه وسلم- مشروع
والجواب أن نقول: لا شك أن محبته -صلى الله عليه وسلم- واجبة على كل
مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي هو وأمي صلوات
الله وسلامه عليه -، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا،
بل محبته تقتضي طاعته واتباعه، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ
ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة
مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع.
وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فإن الدين مبني على أصلين: الإخلاص،
والمتابعة، قال - تعالى -: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ
رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة: 112] ، فإسلام الوجه هو
الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة.
وخلاصة القول: أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله
بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والاشتغال بإحياء
السنن والتمسك بها، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها، فإن هذا الصنف
يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون
بالسنن أصلاً، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والاقتداء به، وإن كان هذا
الصنف هم أكثر الناس، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح
وأتباعهم وإن كانوا قليلاً، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق.
قال -صلى الله عليه وسلم-: فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ،
وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة [4] ، فبين لنا -صلى الله عليه
وسلم- في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل ما
خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، ولا في سنة خلفائه الراشدين، إذاً فهو من محدثات الأمور
ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى:
[فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] [النساء: 59] .
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته، فالكتاب والسنة هما المرجع عند
التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي؟
فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله - تعالى - منه ومن
غيره من البدع؛ فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد
قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
هذا؛ ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله
إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) رواه البخاري، ح/2697، ومسلم، ح /1718.
(2) البداية والنهاية، (13 /137) .
(3) وفيات الأعيان، (3/ 274) .
(4) أحمد، ح /16692، والترمذي، ح /2676.(139/54)
ملفات
مظاهر الغلو في قصائد المديح النبوي
سليمان بن عبد العزيز الفريجي
منذ أن انتشر الإسلام أقبل الأدباء على مدح نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بمدائح كثيرة، حفظ لنا التاريخ شيئاً منها، ومن أقدمها ما جاء عن أم معبد - رضي الله عنها - من وصفها للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما حل بخيمتها في طريق هجرته إلى المدينة، وكان من وصفها: (إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، لانزر ولا هزر) [1] .
كما كان لشعراء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كحسان بن ثابت وعبد الله
بن رواحة وكعب بن زهير وكعب بن مالك والعباس بن مرداس وغيرهم قصائد عدة
في مدحه ورثائه، منها قصيدة حسان بن ثابت - رضي الله عنه - التي مطلعها: ...
بطيبة رَسْم للرسول ومَعهد ... منير، وقد تعفو الرسوم وتهْمَد
ولا تنمحي الآيات من دار حُرْمة ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد
ومنها قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - التي قالها عند إسلامه، واعتذر بها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وألقاها بين يديه في مسجده وسط صحابته، ومطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... مُتَيَّم إثرها لم يُجْزَ مكبول
وفيها يقول:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ... القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لذاك هيب عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك مسبور ومسؤول
من ضيغم من ضراء الأُسْد مُخْدرة ... ببطن عثَّر غيل دونه غيل
إن الرسول لسيف يُستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
بل إن هناك من شعراء الكفار من مدحه وأثنى على أخلاقه الكريمة، كعمه
أبي طالب في قصيدته المشهورة، ومنها قوله:
وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجهه ... ثمالُ اليتامى، عصمة للأرامل
وكالأعشى الكبير ميمون بن قيس الذي مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-
بقصيدة رائعة، وجاء بها ليسلم عنده ويلقيها بين يديه، ولكن قريشاً أغرته بالدنيا
فعاد ومات كافراً. ومن قصيدته قوله:
نبيٌ يرى ما لا ترون، وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ ونائل ... وليس عطاءُ اليوم مانعه غدا
وهكذا اتصل مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته ورثائه بعد مماته،
وذكر أخلاقه وأوصافه عند أصحابه والتابعين دون غلو أو تجاوز لحدود المشروع.
وبعد قيام دولة بني أمية والحوادث التي جرت لآل بيت علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه وتشيع من تشيع لهم بدأت المبالغة في مدحهم والثناء عليهم، حتى
اشتهر شعراء بذلك، وأكثروا منه، كالكميت الأسدي ودعبل الخزاعي والشريف
الرضي ومهيار الديلمي، وهؤلاء جاءت مبالغتهم من غلوهم في رجالات آل البيت، وتفضيلهم على من يرونهم أعداء لهم من الأمويين وغيرهم؛ فموقفهم في الحقيقة
سياسي أكثر من كونه معتمداً على اقتناعاتهم الشرعية؛ فلهذا جاء كلامهم على آل
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دون غيرهم، حتى النبي -صلى الله عليه
وسلم- قل مديحهم له في مقابل مديحهم لآل بيت علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه -.
ومن أشعارهم هاشميات الكميت وأشهرها: البائيتان واللامية والميمية، يقول
في إحدى البائيتين:
إلى النفر البيض الذين بحبِّهم ... إلى الله فيما نالني أتقرِّب
بني هاشم رهط النبي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
وما جاء عن هؤلاء من المدح الخاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يكاد
يكون مدحاً معتاداً لا نجد فيه ما سنجده في مدائح الصوفية في القرن السابع. ومن
ذلك قول الكميت:
وأنت أمين الله في الناس كلهم ... عليها وفيها احتار شرق ومغرب
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ... وبوركت عند الشيب إذ انت أشيب
وبورك قبرٌ أنت فيه وبوركت ... به وله أهل لذلك يثرب
لقد غيَّبوا بِراً وصدقاً ونائلاً ... عشية واراك الصفيح المنصَّب
ومع ذلك كان مدح من مضى لآل البيت أكثره صادقاً، لأنهم يمدحونهم والدنيا
ليست بأيديهم خلاف شعراء الدولة العبيدية المنتسبة - زوراً - إلى فاطمة الزهراء
- رضي الله عنها - التي كان الشعراء يتزلفون إلى حكامهم بمدحهم ومدح آل البيت
ومنه مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا المدح غير داخل في حقيقته في
المدائح النبوية، لأنه مدح من أجل الدنيا، لا لحبهم أو التقرب إلى الله بمدحهم،
ولهذا وصل الأمر ببعضهم إلى حد الشرك كابن هانئ الأندلسي، حيث يقول في
مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئتَ، لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول:
ولك الجواري المنشآت مواخراً ... تجري بأمرك والرياح رخاءُ
ولهذا كان مدح هؤلاء منصباً على حكام الدولة العبيدية ومن يزعم هؤلاء
الحكام محبتهم من رجالات آل البيت، ويقل فيه مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وتستمر المدائح النبوية دائرة حول أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم-
الخُلُقية والخَلْقية المعروفة، ولا نجد ذلك الغلو الذي يخرج بالمدائح النبوية إلى رفع
النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق مقامه البشري، وإضفاء بعض الصفات الإلهية
عليه إلا في القرن السابع الذي يعرف في التاريخ الإسلامي بانتشار التصوف فيه
إلى حد كبير، مما أثر تأثيراً كبيراً على الشعراء الذين تسابقوا في مضمار المدائح
النبوية، بنَفَسٍ يخالف المدائح السابقة، ويوافق الفكر التصوفي.
وكانت البداية الفعلية لهذه المدائح بهذا النَفَس الصوفي المتميز على يد محمد
بن سعيد البوصيري، المتوفى في الإسكندرية سنة695 هـ، فقد نظم عدة قصائد
في المدائح النبوية، وأشهرها قصيدتان:
الأولى الميمية، وهي على رواية الديوان (160) بيتاً ومطلعها:
أمن تذكُّر جيرانٍ بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
والأخرى الهمزية، ومطلعها:
كيف ترقى رقيَّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماءُ
والميمية أشهر وأذيع عند عامة المتصوفين ومقلديهم، وقد نسجت حولها
المنامات والأساطير، ابتداء بناظمها الذي جاء عنه أنه بسبب استشفائه بهذه
القصيدة مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام عليه فبرئ من فالج كان أبطل
نصفه وألقى عليه بردة، فسميت القصيدة لذلك بالبردة، ونسجت الأساطير لكل بيت
من أبياتها، وشاع التبرك والاستشفاء بها، فصارت تسمى أيضاً: البُرْأَة، والبُروة، وقصيدة الشدائد، وغالى المتصوفة وأتباعهم فيها (حتى عملوها تميمة تعلق على
الرؤوس، وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة، وهم على ذلك إلى يومنا
هذا) [2] .
ويظهر أن كل هذه التسميات كانت بعد موت البوصيري، أما هو فسماها:
(الكواكب الدريَّة في مدح خير البرية) .
وقد أجمع معظم الباحثين على أن ميمية البوصيري أفضل قصيدة في المديح
النبوي من الناحية الفنية الأدبية - لا الشرعية - إذا استثنينا لامية كعب بن مالك
(البردة الأم) ، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة.
ومهما يكن من أمر فقد أثّرت ميمية البوصيري في المدائح النبوية تأثيراً عميقاً، حيث نقلتها مضموناً وقالباً. أما من حيث المضمون فقد نقلت المدائح النبوية من
المدح المعتاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأوصافه المشهورة المعروفة إلى
أوصاف غلو ومبالغة (على نحو إعجازي خارق، بالغ المثالية، بالغ الكمال،
وبالغ الجلال ... يرقى بالنبي إلى درجة ربانية) [3] ، ويسمون هذه الأوصاف:
(الحقيقة المحمدية) التي يدعي المتصوفة أن غيرهم لا يعرفونها؛ ولهذا فهم يحملون
كل غلو في ميمية البوصيري وغيره ممن سار على دربه على أنه من الحقيقة
المحمدية التي ينفردون بمعرفتها للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما من حيث القالب فقد جعل المدائح النبوية تتكون من ثلاثة أجزاء: الأول
يسمى النسيب النبوي، وهو التشوق إلى المدينة النبوية التي تضم قبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- وفيها جرى أغلب أحداث سيرته، ويتلو هذا النسيب بعض الحِكَم
التي تحذر من الدنيا وأهواء النفس، وهذا الجزء يمثل من ميمية البوصيري الأبيات
من (1 - 33) ، ومن أجملها قوله:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم
وقوله:
وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محَّضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
والجزء الثاني مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرض سيرته، وهذا
الجزء هو غرض القصيدة، وفيه يذكر الشاعر سيرته من مولده إلى وفاته -صلى
الله عليه وسلم-، ويتكلم على معجزاته وخصائصه ... ويمثل هذا الجزء من
القصيدة الأبيات من (34-139) ، ويبدؤه بقوله:
محمد سيد الكونين والثقلي ... ن والفريقين من عُرب ومن عجم
وفي هذا الجزء أغلب الغلو المشار إليه من قبل، وكأن بعض المتأخرين عن
البوصيري أحسَّ شدة هذا الغلو فأراد أن يخففه فزاد في القصيدة - وما أكثر ما زيد
عليها - بيتاً ناشزاً ألقاه في مكان غير مناسب في القصيدة، وهو قوله:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
ولم يرض كثير من الصوفية هذا البيت للنص فيه على بشريته وأنها منتهى
العلم فيه، فغيروه إلى:
مولاي صلِّ وسلم دائماً أبداً ... على حبيبك خير الخلق كلهم
ونسبوا فيه مناماً خاصاً للبوصيري، فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو
الذي ألقى بشطره الثاني على البوصيري.
والجزء الثالث هو إقرار الشاعر بذنوبه وطلب العفو عنها، ويشمل هذا
الجزء الأبيات من (140-160) ويبدأ إقراره بقوله:
خدمته بمديح أستقيل به ... ذنوب عُمْرٍ مضى في الشعر والخدم
ثم يقول:
لم تشتر الدين بالدنيا ولم تَسم ... فيا خسارة نفس في تجارتها
ولكن طلبه للعفو كان موجهاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من أكبر
انحرافات البوصيري، وقد كرر هذا في عدة أبيات، منها:
إن آت ذنباً فما عهدي بمنتقض ... من النبي، ولا حبلي بمنصرم
فإن لي ذمةً منه بتسميتي ... محمداً، وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً فقل يا زلة القدم
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العَمِمِ
وعندما ذكر العفو والرحمة من الله رجا أن تكون الرحمة مقسومة حسب
العصيان، لا الإحسان، فقال:
لعل رحمة ربي حين يقسمها ... تأتي على حسب العصيان في القسم
وفي آخر هذا الجزء يختم القصيدة بالصلاة والسلام الدائمين على النبي -
صلى الله عليه وسلم- وهذا الجزء يكثر فيه دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-
والاستغاثة به وإضافة صفات ربانية إليه، وإن كان الجزءان السابقان لا يخلوان من
مثل ذلك، كقوله:
أقسمت بالقمر المنشق أن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم
وقوله:
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به ... إلا ونلت جواراً منه لم يُضم
هذه هي ميمية البوصيري التي كان لها أعظم الأثر في المديح النبوي،
وتحويلها من مسارها السليم إلى مسار مليء بالانحرافات الشرعية، وقد ساعد
المتصوفة وأصحاب الطرق على نشرها بغنائها وانشادها وتلحينها في كل مناسبة
حتى الحروب فضلاً عن الأفراح والأحزان والموالد المبتدعة واحتفالات الحجيج.
ولم يقتصر أثرها على العامة، بل تعداه إلى الخاصة؛ إذ تزاحم الشعراء
العرب وغير العرب على تقليدها، وتفننوا في ذلك حتى أنشؤوا فيها فنوناً أدبية
منها:
أ- البديعيات التي تسير على نهجها وزناً وروياً ومضموناً وأجزاءً، ويكون
كل بيت من أبياتها خاصاً بلون من ألوان علم البديع في البلاغة كبديعية صفي الدين
الحلي (750 هـ) ومطلعها:
إن جئت سلعاً فسل عن جيرة العلم ... واقرا السلام على عرب بذي سلم
وبديعية عز الدين الموصلي ومطلعها:
براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم
ب- المدائح النبوية التي فيها التورية بكل سور القرآن، ومن أشهرها قصيدة
ابن جابر الأندلسي (780 هـ) ، ومطلعها:
في كل فاتحة للقول معتبرة ... حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وقد عارض ابن جابر في قصيدته هذه عدة شعراء حتى أُلِّف فيها كتاب مستقل
وهو كتاب: (المدائح النبوية المتضمنة لسور القرآن الكريم لهاشم الخطيب) .
ج - معارضتها وتشطيرها وتخميسها وتسبيعها ... ومن أشهر من عارضها
من المحدثين: محمود سامي البارودي بمطولة بلغت (447 بيتاً) هي: (كشف الغمة
في مدح سيد الأمة!) ، ومطلعها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحْدُ الغمام إلى حي بذي سلم
وأحمد شوقي في قصيدة في (190 بيتاً) سماها: (نهج البردة) ، مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم ... أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وقد زاد الغلو في المدائح النبوية منذ عهد البوصيري إلى بدايات العهد الحديث، ومن أمثلة هذا الغلو والمغالين محمد بن أبي بكر البغدادي الذي صنف ديواناً كاملاً
باسم: (القصائد الوترية في مدح خير البرية) نظم فيه 29 قصيدة، وكل قصيدة
منها 21 بيتاً. بحيث تبدأ أبيات كل قصيدة بحرف وتنتهي به نفسه، ومن مدحه
الغالي قوله:
أغثني، أجرني، ضاع عمري إلى متى بأثقال أوزاري أراني أُرزأُ
وقوله:
ذهاباً ذهاباً يا عصاةُ لأحمد ... ولوذوا به مما جرى وتعوَّذوا
ذنوبكم تُمحى وتعطون جنة ... بها دُرَرٌ حصباؤها وزمرد
ومن أشد الغالين: عبد الرحيم البرعي اليماني، فله ديوان شعر أكثره مدائح
نبوية، ومن مدحه الغالي قوله:
سيد السادات من مضر ... غوث أهل البدو الحضر
وقوله:
يا سيدي يا رسول الله، يا أملي ... يا موئلي، يا ملاذي، يوم تلقاني
هب لي بجاهك ما قدمت من زلل ... جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفِّس كُلَّ أحزاني
وكذلك أكثر من عارض البردة قديماً وحديثاً - وما أكثرهم - تأثر بما فيها
من غلو.
وقد تأثر كذلك المتأخرون بهذا الغلو، فمستكثر ومستقل، فهذا البارودي يقول:
أبكاني الدهر حتى إذ لجأت به ... حنا علي وأبدى ثغر مبتسم
وهذا أحمد شوقي يقول:
فالطف لأجل رسول العالمين بنا ... ولا تزد قومه خسفاً ولا تسُمِ
ويقول في أحد المدائح الخديوية:
إذا زرت يا مولاي قبر محمد ... وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
فقل لرسول الله: يا خير مرسل ... أبثك ما تدري من الحسرات
وهذه شاعرة معاصرة ألفت كتاباً كاملاً من شعر التفعيلة باسم: (بردة الرسول)
من أجل أن تشفى من مرض عانت منه طويلاً، ملأته بالغلو، ومن مثل قولها:
يا سيدي، اسمع دعائي ... كن مًعين
وأجب رجائي، يا محمدنا الأمين
أما هذا الغلو عند شعراء الصوفية ومقلديهم فأشهر من أن أشير إليه هنا.
ومما سبق نستخلص أن المدائح النبوية الغالية منذ البوصيري ومن قلده لا
علاقة لها بالمدائح النبوية قبلها؛ لأنه شتان بين التصور الواقعي البشري كما صوره
شعراء المديح النبوي الأوائل من أمثال كعب بن زهير وكعب بن مالك وحسان بن
ثابت، ومعاصريهم، وبين التصور المتأخر للرسول - عليه الصلاة والسلام - عند
شعراء المديح النبوي المتأخرين الذين أحالوا شخصية الرسول -صلى الله عليه
وسلم- إلى سلسلة طويلة من الخوارق والمعجزات والقدرات فوق الطبعية، حتى
بات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذا طبيعة إلهية لا بشرية [4] .
ومع هذا فقد بقي كثير من الشعراء قديماً وحديثاً بمعزل عن هذا الغلو، ولكن
الحديث الآن ليس عنهم، والله أعلم.
__________
(1) المستدرك على الصحيحين، 9/3، وغريب الحديث لابن قتيبة 1/ 463، وانظر الإصابة في ترجمة أم معبد.
(2) دراسة محمد النجار لبردة البوصيري، ص 62 عن كتاب المقفى للمقريري.
(3) دراسة محمد النجار للبردة، ص 11.
(4) دراسة النجار، ص 26.(139/58)
ملفات
قوادح عقدية في بردة البوصيري
د. عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن ميميه البوصيري - المعروفة بالبردة - من أشهر المدائح النبوية وأكثرها
ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائه شاعر في معارضتها، فضلاً عن
المشطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين، كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد
تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار
الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن.
يقول الدكتور زكي مبارك: وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية
التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة
لدراسة حاشية الباجوري على البردة، وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من
الطلاب، وانما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة، لأن مثل هذا الدرس لم
يكن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ [1] .
وقد أطلق البوصيري على هذه القصيدة البردة من باب المحاكاة والمشاكلة
للقصيدة الشهيرة لكعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-؛ فقد اشتهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى كعباً بردته
حين أنشد القصيدة - إن صح ذلك -[2] فقد ادعى البوصيري - في منامه - أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة! !
وقد سمى البوصيري هذه القصيدة أيضاً بـ الكواكب الدرية في مدح خير
البرية [3] . كما أن لهذه البردة اسماً آخر هو البرأة؛ لأن البوصيري كما يزعمون
برئ بها من علته، وقد سميت كذلك بقصيدة الشدائد؛ وذلك لأنها - في زعمهم -
تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير.
وقد زعم بعض شراحها أن لكل بيت من أبياتها فائدة؛ فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون [4] .
يقول محمد سيد كيلاني - أثناء حديثه عن المخالفات الشرعية في شأن البردة-: ... ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا
لقراءتها شروطاً لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها: التوضؤ، واستقبال القبلة،
والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالماً بمعانيها، إلى غير
ذلك. ولا شك في أن هذا كله من اختراع الصوفية الذين أرادوا احتكار قراءتها
للناس، وقد ظهرت منهم فئة عرفت بقراء البردة، كانت تُستدعى في الجنائز
والأفراح، نظير أجر معين [5] .
وأما عن مناسبة تأليفها فكما قال ناظمها: كنت قد نظمت قصائد في مدح
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل
نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في
أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسلت ونمت، فرأيت النبي -
صلى الله عليه وسلم-، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة،
فانتبهت ووجدت فيّ نهضة؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: أيّها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر
أولّها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يتمايل وأعجبته، وألقى
على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام [6] .
ففي هذه الحادثة تلبّس البوصيري بجملة من المزالق والمآخذ، فهو يستشفع
ويتقرب إلى الله - تعالى - بشرك وابتداع وغلو واعتداء - كما سيأتي موضحاً إن
شاء الله -.
ثم ادعى أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يبيّن نعته؛ فإن من
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حسب صفاته المعلومة فقد رآه، فإن الشيطان لا
يتمثل به - كما ثبت في الحديث -.
ثم ادعى أن النبي في -صلى الله عليه وسلم- مسح على وجهه وألقى عليه
بردة، فعوفي من هذا الفالج، فتحققت العافية بعد المنام دون نيل البردة! ثم التقى
البوصيري - في عالم اليقظة - بأحد المتصوفة وأخبره بسماع القصيدة بين يدي
الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تمايل إعجاباً
بالقصيدة، وهذا يذكّرنا بحديث مكذوب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواجد
عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ليس بكريم من لم يتواجد
عند ذكر المحبوب.
قال شيخ الإسلام: إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وسنته وأحواله [7] .
وأما عن استجابة دعاء البوصيري مع ما في قصيدته من الطوامَّ، فربما كان
لاضطراره وعظم فاقته وشدة إلحاحه السبب في استجابة دعائه.
يقول شيخ الإسلام: ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية
المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن
لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وان كان تحري الدعاء عند الوثن شركاً،
ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب
على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعفُ الله عنه، فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة [8] .
وأما عن التعريف بصاحب البردة فهو: محمد بن سعيد البوصيري نسبة إلى
بلدته أبو صير بين الفيوم وبني سويف بمصر، ولد سنة 608هـ، واشتغل
بالتصوُّف، وعمل كاتباً مع قلة معرفته بصناعة الكتابة، ويظهر من ترجمته
وأشعاره أن الناظم لم يكن عالماً فقيهاً، كما لم يكن عابداً صالحاً؛ حيث كان ممقوتاً
عند أهل زمانه لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، كما أنه كثير السؤال للناس،
ولذا كان يقف مع ذوي السلطان مؤيداً لهم سواء كانوا على الحق أم على الباطل.
ونافح البوصيري عن الطريقة الشاذلية التي التزم بها، فأنشد أشعاراً في
الالتزام بآدابها، كما كانت له أشعار بذيئة يشكو من حال زوجه التي يعجز عن
إشباع شهوتها!
توفي البوصيري سنة 695هـ وله ديوان شعر مطبوع [9] .
وسنورد جملة من المآخذ على تلك البردة التي قد تعلّق بها كثير من الناس مع
ما فيها من الشرك والابتداع. والله حسبنا ونعم الوكيل.
1- يقول البوصيري:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تُخرج الدنيا من العدم
ولا يخفى ما في عَجُز هذا البيت من الغلو الشنيع في حق نبينا محمد -صلى
الله عليه وسلم- حيث زعم البوصيري أن هذه الدنيا لم توجد إلا لأجله -صلى الله
عليه وسلم- وقد قال - سبحانه: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ]
[الذاريات: 56] ، وربما عوّل أولئك الصوفية على الخبر الموضوع: لولاك لما
خلقت الأفلاك [10] .
2- قال البوصيري:
فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
أي أن جميع الأنبياء السابقين قد نالوا والتمسوا من خاتم الأنبياء والرسل
محمد -صلى الله عليه وسلم- فالسابق استفاد من اللاحق! فتأمل ذلك وقارن بينه
وبين مقالات زنادقة الصوفية كالحلاج القائل: إن للنبي نوراً أزلياً قديماً كان قبل
أنه يوجد العالم، ومنه استمد كل علم وعرفان؛ حيث أمدّ الأنبياء السابقين عليه..
وكذا مقالة ابن عربي الطائي أن كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي يأخذ من مشكاة
خاتم النبيين [11] .
3- ثم قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -
منتقداً هذا البيت: ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له،
ولا ينحصر في قول النصارى؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل
الجاهلية كذلك، وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح -
غالباً -: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته: دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة [12] .
لقد وقع البوصيري وأمثاله من الغلاة في لبس ومغالطة لمعنى حديث النبي -
صلى الله عليه وسلم-: لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد
فقولوا: عبد الله ورسوله [13] ، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث
هو الإطراء المماثل لإطراء النصارى ابن مريم وما عدا ذلك فهو سائغ مقبول، مع
أن آخر الحديث يردّ قولهم؛ فإن قوله - عليه الصلاة والسلام -: إنما أنا عبد
فقولوا: عبد الله ورسوله تقرير للوسطية تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب، والمبالغة في مدحه تؤول إلى ما وقع فيه
النصارى من الغلو في عيسى - عليه السلام -، وبهذا يُعلم أن حرف الكاف في
قوله -صلى الله عليه وسلم-: كما أطرت هي كاف التعليل، أي كما بالغت
النصارى [14] .
ويقول ابن الجوزي - في شرحه لهذا الحديث -: لا يلزم من النهي عن
الشيء وقوعه؛ لأنَّا لا نعلم أحداً ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى -
عليه السلام - وإنما سبب النهي فيما لم يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما
استأذن في السجود له فامتنع ونهاه؛ فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك
فبادر إلى النهي تأكيداً للأمر [15] .
4 - وقال أيضاً:
لو ناسبت قدره آياته عِظماً ... أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة: لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند
الله - تعالى - وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام
الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره [16] .
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت: ولا يخفى ما في هذا
الكلام من الغلو؛ فإن من جملة آياته -صلى الله عليه وسلم- القرآن العظيم الشأن؛
وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو منحط عن قدره ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها
الذاكر لها تحيي دارس الرمم؟ [17] .
5- وقال أيضا:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب
أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن
الابتداع والإحداث في دين الله - تعالى -.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي -
صلى الله عليه وسلم- ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد [18] .
6- ثم قال:
أقسمتُ بالقمر المنشق إنّ له ... من قلبه نسبةً مبرورة القسم
ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى - من الشرك الأصغر؛ فعن عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من
حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك [19] .
وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: لا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل -
في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه ... إلى أن
قال: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف
بها لأحد [20] .
7- قال البوصيري:
ولا التمست غنى الدارين من يده ... إلا استلمت الندى من خير مستلم
فجعل البوصيري غنى الدارين مُلتَمساً من يد النبي -صلى الله عليه وسلم-،
مع أن الله - عز وجل - قال: [ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ] [النحل: 53] ،
وقال - سبحانه -: [فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ] [العنكبوت: 17] ، وقال
- تعالى -: [قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) ] يونس: 31 [،] قُلِ ادْعُوا
الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ [] سبأ: 22 [.
وأمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة
المذكورة في قوله - تعالى -:] قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ
ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ [] الأنعام: 50 [.
8- قال البوصيري:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وهذا تخرُّص وكذب؛ فهل صارت له ذمة عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لمجرد أن اسمه موافق لاسمه؟ ! فما أكثر الزنادقة والمنافقين في هذه الأمة
قديماً وحديثاً الذين يتسمون بمحمد!
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -
تعقيباً على هذا البيت: قوله: فإن لي ذمة ... إلى آخره كذب على الله وعلى
رسوله -صلى الله عليه وسلم- فليس بينه وبين اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا
بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك] 21 [.
فالاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة] 22 [.
9- وقال البوصيري:
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
والشاعر في هذا البيت ينزل الرسول منزلة رب العالمين؛ إذ مضمونه أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المسؤول لكشف أعظم الشدائد في اليوم الآخر،
فانظر إلى قول الشاعر، وانظر في قوله - تعالى - لنبيه -صلى الله عليه وسلم-:
] قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [] الزمر: 13 [.
ويزعم بعض المتعصبين للقصيدة أن مراد البوصيري طلب الشفاعة؛ فلو
صح ذلك فالمحذور بحاله، لما تقرر أن طلب الشفاعة من الأموات شرك بدليل قوله
- تعالى -:] ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ ولا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ
وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [] يونس: 18 [، فسمى الله - تعالى - اتخاذ الشفعاء
شركاً] 23 [.
10- وقال:
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
يقول الشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعقيباً على هذا
البيت -: فتأمل ما في هذا البيت من الشرك:
منها: أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا
هو.
ومنها: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه
هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية] 24 [.
وانتقد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب هذا البيت قائلاً: فعظم البوصيري النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد
نكيره -صلى الله عليه وسلم- عما هو دون ذلك كما لا يخفى على من له بصيرة في
دينه؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق الذي لا يستحقه سواه؛
فإن اللياذ عبادة كالعياذ، وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس
بهم بقوله:] وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [
] الجن: 6 [، أي طغياناً، واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر، فهو
سواء في الطلب والهرب] 25 [.
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - عن هذا البيت: فانظر
كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وغفل عن
ذكر ربه ورب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. إنا لله وإنا إليه راجعون] 26 [.
11- وقال البوصيري:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: سؤاله منه أن يشفع
له في قوله: ولن يضيق رسول الله ... إلخ، هذا هو الذي أراده المشركون ممن
عبدوهم وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا
تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره؛ فإن الله - تعالى - هو الذي يأذن
للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداءاً] 27 [.
12- وقال أيضا:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم - وإفضاله،
والجود هو العطاء والإفضال؛ فمعنى الكلام: أن الدنيا والآخرة له -صلى الله عليه
وسلم-، والله - سبحانه وتعالى - يقول:] وإنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأُولَى [
] الليل: 13 [] 28 [.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. في غاية السقوط والبطلان؛ فإن
مضمون مقالته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب، وقد قال -
سبحانه -:] قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ [] النمل: 65 [وقال - عز وجل -:] وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [] الأنعام: 59 [، والآيات في هذا كثيرة معلومة] 29 [.
وأخيراً أدعو كل مسلم عَلِقَ بهذه القصيدة وولع بها أن يشتغل بما ينفع؛ فإن
حق النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون بتصديقه فيما أخبر، واتباعه فيما
شرع، ومحبته دون إفراط أو تفريط، وأن يشتغلوا بسماع القرآن والسنة والتفقه
فيهما؛ فإن البوصيري وأضرابه استبدلوا إنشاد وسماع هذه القصائد بسماع القرآن
والعلم النافع، فوقعوا في مخالفات ظاهرة ومآخذ فاحشة.
وإن كان لا بد من قصائد ففي المدائح النبوية التي أنشدها شعراء الصحابة -
رضي الله عنهم- كحسان وكعب بن زهير ما يغني ويكفي.
اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم؛
إنك حميد مجيد.
__________
(1) المدائح النبوية، ص 199.
(2) يقول ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية (4 /373) : ورد في بعض الروايات أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه بردته حن أنشده القصيدة وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء، من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه؛ فالله أعلم.
(3) انظر مقدمة محقق ديوان البوصيري، ص 29.
(4) انظر المدائح النبوية لزكي مبارك، ص 197.
(5) مقدمة ديوان البوصيري، ص 29، 30.
(6) فوات الوفيات لمحمد بن شاكر الكتبي، 2/258.
(7) مجموع الفتاوى، 11 /598.
(8) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/692، 693، باختصار.
(9) انظر ترجمته في مقدمة ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني، ص 5 - 44، وللمحقق كتاب آخر بعنوان: البوصيري دراسة ونقد.
(10) انظر: الصنعاني في موضوعاته، ص 46 ح (78) ، والمسلسلة والموضوعة للألباني،
1/299، ح (282) .
(11) انظر تفصيل ذلك في كتاب محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرؤوف عثمان،
ص 169 - 196.
(12) الدرر السنية، 9/81، وانظر 9/48، وانظر: صيانة الإنسان للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا) ، ص 88.
(13) أخرجه البخاري، ح /3445.
(14) انظر القول المفيد، 1 /376، ومفاهيمنا لصالح آل الشيخ، ص 236، ومحبة الرسول
لعبد الرؤوف عثمان، ص 208.
(15) فتح الباري، 12 /149.
(16) غاية الأماني للآلوسي، 2 /349.
(17) غاية الأماني للآلوسي، 2/ 350، باختصار وانظر الدر النضيد لابن حمدان، ص 136.
(18) الرد على الأخنائي، ص 41.
(19) رواه أحمد، ح /4509، والترمذي، ح / 1534.
(20) التمهيد، 14/366، 367.
(21) تيسير العزيز الحميد، ص 22.
(22) انظر الدرر السنية، 9 /51.
(23) انظر الدرر السنية، 9/49، 82، 271.
(24) تيسير العزيز الحميد، ص 219، 220.
(25) الدرر السنية، 9/ 80، وانظر 9/49، 84، 193، ومنهاج التأسيس والتقديس
لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ص 212.
(26) الدر النضيد، ص 26.
(27) تيسير العزيز الحميد، ص 220، وانظر الدرر السنية، 9/52.
(28) انظر الدرر السنية، 49، 50، 81، 82، 85، 268.
(29) انظر الدرر السنية، 9/50، 62، 81، 82، 268، 277.(139/66)
ملفات
ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها
- مصر أنموذجاً -
عبد الكريم الحمدان
كيف؟ لا أدري. لماذا؟ ربما ... أنني يوماً عرفت السَبَبَا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهلٍ! ! ... وليوثُ الحربِ ترجو الأَرْنَبَا! !
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محير في خاتمته! ! والإجابة عنه تختلف
باختلاف ما يدور السؤال حوله من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج
إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدةً عن دينه وهديه؟
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل رسولهم -صلى الله عليه
وسلم- ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يُتناسى ويُهجر ذكره سائر العام؟ !
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مثل هذه المواقف؛ والمسلمون في كل
أرض يُتخطفون؟ !
أسئلة تطرح نفسها مع كل موسم يتنادى فيه القوم لاحتفال من احتفالاتهم،
والتي من أشهرها: الاحتفال بمولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي أجروه
مجرى الواجبات، حتى أصبح من (الشعائر) التي يعزّ عليهم إغفالها أو ترك القيام
بها؛ مع تفريطهم في كثير من فروض الأعيان والكفايات فضلاً عن السنن
والمستحبات.
إن هناك موالد أخرى كثيرة تولدت عن مسألة الاحتفال بالمولد النبوي، وكلها
أصبحت تُعَظَّم، وتُمارَس فيها أمور بدعوى التقرب إلى الله، هذه الموالد في مصر
وحدها أصبحت ستة إلى جانب 22 موسماً آخر؛ بخلاف موالد من يدّعي فيهم
الولاية [1] والله أعلم بما كانوا يعملون.
وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام
وأشباههم - ليتلهوا بها - من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن
الدين الحق؛ فما أن يفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحَقوا بغيرها، وهكذا دواليك.
من المعروف أن أول من توسع في الاحتفال بالموالد في مصر هم العبيديون
المسمَّوْن ب (الفاطميين) وقد كانت لهم ذرائع ودوافع في إحياء الاحتفال بالموالد،
جُلها لا تمت إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلة؛ وهي - مع التأمل -
الذرائع والدوافع نفسها التي لا تزال وراء الاحتفال بالمولد إلى يومنا هذا.
أسباب النشأة وتفاعلاتها الاجتماعية:
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد في مصر واستقراء ما يجري
فيه من وقائع يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب هي:
1 - نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم؛
وهذا ما صنعه العبيديون من قبل ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد.
2 - نيل الشهرة والصيت؛ وهذا يختص بفئة تنفق على هذه الموالد وترعاها
من الأغنياء والموسَرين.
3 - كسب الولاء الديني وهو الدافع الذي يدفع (مشايخ الطرق) للتسابق في
إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4 - الارتزاق وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تجار الحلوى وبائعي (أمور
أخرى) ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايخ الطرق
المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والقصاصين والمنشدين والمغنين
والراقصات! وأمثالهم.
5 - إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام؛ فإذا ما
سمعوا بمولد قالوا: هلموا إلى بغيتكم؛ حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
6 - التعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الحق. وقد تطور هذا في
العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتتح في الموالد بعض المشاريع
الكبرى وتقام المهرجانات الدينية! من أجل الاحتفال بسيد المرسلين! -صلى الله
عليه وسلم-، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغير على
النبي -صلى الله عليه وسلم- ودينه من هؤلاء، ويُقدَّم الرسول -صلى الله عليه
وسلم- في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية! شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الستار حتى إشعار آخر.
وأوضح أنموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري
بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل
وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره [2] ، ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلاً:
فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن
عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين [3] .
مشاهد من الاحتفال:
تختلف صور الاحتفال تبعاً للفئة المحتفلة وأفكارها وأهدافها، ويمكننا في هذا
المقام التفريق بين أربع فئات درجت على الاحتفال بالمولد في العقود الأخيرة:
أولها: الجهات الحكومية وهي التي كانت تمثل رسمياً في هذه الاحتفالات؛
حيث كانت وزارة الأوقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام
الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء في عهد الجمهورية، وفي العادة فإن الملوك
والرؤساء يلقون في هذا اليوم خطبة، كما يحضره شيخ الأزهر وعدد من الوزراء
والشخصيات العامة، وتوزع فيه جوائز على الفائزين في مسابقة تقام احتفالاً بالمولد
النبوي، كما توزع فيه الجوائز التقديرية على بعض الحضور باسم تكريم العلم
والعلماء، كما تقام احتفالات في كافة المدن ترعاها فرق من الشرطة.
وفي وقتنا الحاضر تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى
شهر كامل هو ربيع الأول. ومع أن كثيراً من البرامج لا غبار عليها إلا أن
ارتباطها بموسم لم يقره الشرع يبقى نقطة مؤاخذة إضافة إلى بعض البرامج
والفقرات التي لا تخلو من غلو في شخصه -صلى الله عليه وسلم- مثل قول المنشد:
ميلاد طه أكرم الأعياد ... ونذير كل الخير والإسعاد
2- الجهات شبه الرسمية ويمثلها تقليدياً في الاحتفالات المجلس الصوفي
الأعلى والطرق التابعة له ووكلاؤه في كل المدن؛ إذ ينص قانون تنظيم الطرق
الصوفية الصادر 1976م على اختصاص هذا المجلس بإصدار تصاريح إقامة
الموالد! ومجالس الذكر وسير المواكب والاحتفالات في المواسم والأعياد
الدينية [4] ، وتقيم المشيخة الصوفية هذا الاحتفال الذي تحضره مواكب الشرطة، ويحضره مندوب رسمي عن رئيس البلاد، وتعزف فيه الموسيقى، وتنطلق المسيرة تحت الرايات طريقة بعد أخرى في موجة من الإنشاد مبتدئة من مسجد الجعفري مشياً على الأقدام بالشوارع لتنتهي إلى المشهد الحسيني الذي يقف الجميع أمامه في خشوع لقراءة الفاتحة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم تُدَبَّح الخطب وتلقى الأناشيد والأشعار. ويبدأ الحفل الشعبي من حيث انتهى الحفل الرسمي الذي تنقله الإذاعة والتلفزيون عادة.
ويدخل كل (شيخ طريقة) خيمته، وتعقد حلقات الذكر أو الشطح والرقص
والتدخين والإنشاد والتشبيب إلى جنب المراقص وملاعب القمار وأماكن مشبوهة،
واذا ما قدر لامرئ أن يرى أنواع الشر مجتمعة فما أحسب أنه سيجد مكاناً يُجملها
مثل هذه المواطن التي تمارس فيها المعاصي على أنها طاعة، والخرافة على أنها
حقيقة، والجهل على أنه علم. ويمكنك أن تلمس هذا وأنت تسمع لمنشد يهذي بين
أدعياء المحبة فيقول:
سعد السعود علا في الحل والحرم ... نور الهدى قد بدا في العرب والعجم
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن ... لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
ويطلب القوم المزيد فيسمعهم حُلُوليَّات ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويستزيدونه حتى يقول:
أنا فيكمو أنا فيكمو ... ولكني خفي عنكمو
وهنا يتصايح الناس ويسقط بعضهم ويسكر بعضهم ويظل يهذرم بكلام لا يعني
إلا الحلول، أو ما يسميه بعضهم بالحضرة الإلهية على اختلافٍ بينهم.
والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة؛ ففي
ساحاتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال في المأكل
والمشرب وغيرها؛ حيث تكثر جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع
الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة، وتختفي روح الجد، وتفيض روح الفوضى
وعدم النظام، كما تختفي النظافة من المساجد وتضطرب أوقات الصلوات
والجماعات، ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة؛
فربما ضن أحدهم على أمه بقروش يبرها بها في الوقت الذي يبسط يده بالنفقة هنا!
وبعضهم يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروساً للعلم وتلاوة للقرآن
وإطعاماً للفقراء والمساكين، وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي
المبتدَع الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي -
صلى الله عليه وسلم- ويحيون ذكراه!
ولو خلت الموالد من هذه الآثام التي سقناها آنفاً، لوجب تعطيلها أيضاً؛
لمظاهر التدُّين الفاسد التي تسودها؛ فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من
الرقص الذي يسودُّ له وجه أهل الدين!
أما القرآن المتلو في هذه الساحات فما ينتفع به قائل ولا سامع؛ إنه ضرب
من غناء مملول النغم يتصنع له بعض السامعين من الإقبال ريثما يفرغ منه، وكذلك
الوعظ في دروس الوعظ والإرشاد التي تنظمها بعض المؤسسات الدينية لا تكاد
تظفر بفائدة هما يراد نشره بين الجماهير المحتشدة في هذه الموالد.
تلك محاولات عابثة وإهدار لقيمة الذكر الحكيم والحديث الشريف.
ولو افترضنا وجود بعض الخير بين الأعمال التي تمارس في المولد فإنها لا
تسوِّغ إقامة الموالد بعدما أضحت الشرور المتيقنة التي تكتنفها أكثر بكثير من تلك
الفوائد المظنونة؛ وقانون الشريعة في هذا: أن درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح [5] .
وثالث الفئات المحتفلة بالمولد هم عامة الناس الذين كانوا يمثلون زخماً قوياً
لاحتفالات الصوفية حتى وقت قريب، لكن الإقبال قل كثيراً نتيجة عدد من العوامل
منها:
1 - الأثر الذي أحدثته الصحوة الإسلامية المباركة وتمثل في توعية الناس؛
فلا شك أن ذلك كان له أثر كبير في محاربة البدع.
2 - ارتفاع نسبة التعليم والتثقيف الذي أدى إلى سقوط كثير من الأوهام
والخرافات.
3 - الهجوم العلماني وما يشيعه من سلوكيات مادية - ولا يخفى أن منطلق
هجومه عقلاني وليس شرعياً - فهو يحارب الدين بصورة فجة ثم يرفع شعاراً
مشوهاً للدين تمثله الموالد ونحوها من أجل إسقاط سلطانه كلياً، ولا شك أنه قد
اجتذب قطاعاً من المجتمع لا يستهان به.
4 - كثرة وسائل الترفيه من وسائل إعلام وغيرها مما اجتذب الفئة التي
كانت تحتفل بالمولد من أجل الترفيه والترويح؛ فقد وجدت ما يغنيها ويزيد في هذه
الوسائل، ومع هذا فيبقى احتفال قطاع عريض من العامة بالمولد محصوراً في
شراء حلوى المولد ومشاهدة الاحتفالات في التلفاز، وإن كانت الاحتفالات لا تزال
بالمدن التي فيها الأضرحة الكبرى كطنطا ودسوق وقنا وأسيوط.
ورابع هذه الفئات: هي بعض الاتجاهات الإسلامية [6] التي تحتفل بالمولد
بإقامة الأمسيات الدينية التي تذكِّر بهديه -صلى الله عليه وسلم-. ولو لم يكن في
ذلك غير موافقة المبتدعة أو إثبات شبهة سنية الاحتفال أو شرعيته لدى العوام لكفى
بها ضرراً؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك قصرهم للخطب في ذلك اليوم على مولد
الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يدعو إلى تعظيم ذلك اليوم على وجه التقرب.
والغريب أن بعضهم يقيس ذلك الاحتفال على احتفال النصارى بعيد الميلاد أو
احتفال القوميين برموزهم السياسية ويقولون: النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى
بالتعظيم. إن من الظلم مساواة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء، أو الاحتجاج
على شرعية ذلك بصنيع هؤلاء وقد أُمِرنا بمخالفتهم.
البعد الاعتقادي للاحتفال بالمولد:
يعتقد قطاع عريض من المتصوفة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خُلِقَ
من نور (أي أزلي) ويسمون ذلك بـ (الحقيقة المحمدية) التي سبقت خلق آدم ثم
حلت فيه حين خلق، وما زالت تنتقل من آدم إلى من بعده من الأنبياء حتى بلغت
شخصه -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي يستمد منها جميع الأولياء - عندهم -
علمهم وقوتهم وتصرفهم، أو هي التي تنتقل بما يعرف عندهم بـ (القطب الغوث) ، وهذا الكلام تلفيق بين اليونانية وفق نظرية الفيض النوراني وبين الخرافات
الهندوكية التي تقول بتناسخ الأرواح.
والواقع أن ثمة رابطاً قوياً بين نظرية الحقيقة المحمدية [7] وبين احتفالهم
بالمولد هي أن الحقيقة تجسدت في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في مولده،
وهذا ما يهم القوم. أما الشريعة التي جاءت بعد البعث فليست لهم؛ لأن علمهم لدنيٌّ
مستمد من هذه الحقيقة.
ولهذا، فهم يقدسون أولياءهم الذين استمدوا من الرسول -صلى الله عليه
وسلم- العلم والتصريف، ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- - كما يعتقدون -
حي في قبره، وأن الحقيقة قد انتقلت إلى مَنْ بَعدَه من الأولياء، فلماذا يُحرق عليه
وهو لم يمت [8] ؟ ولهذا لا نعجب إذا حدثوا أن الرفاعي (صاحب الطريقة
الرفاعية) قد مد له النبي -صلى الله عليه وسلم- يده من القبر فصافحه وأعطاه العهد، أو قالوا قريباً من ذلك عن البدوي أو الدسوقي أو الشاذلي. لكل هذا فهم يقدسون
يوم المولد دون غيره.
وتعجب بعد هذا من مسائل يثيرونها [9] : هل يوم المولد أفضل، أم ليلة
القدر؟ ويُصطنع لها أقوال ينتصر في آخرها لقولهم وهو واه جداً.
ومثال آخر هو قولهم حول وجوب إظهار الفرحة بيوم المولد مثل أيام العيدين. وتفرع عن هذا مسألة هي: ما حكم صيام يوم المولد؟
دعوات الإصلاح:
كان لبعض علماء الأزهر وغيرهم جهود مشكورة في توعية هؤلاء المحتفلين
بالمولد والإنكار عليهم، وتقدمهم في ذلك رهط من العلماء والمشايخ -رحمهم الله-
جميعاً كان من أبرزهم: الشيخ علي محفوظ، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ
المراغي، بالإضافة إلى عدد من رجال الدعوة والإصلاح مثل: الشيخ حسن البنا
الذي حاول أن يُحَمِّل الأزهر ووزير الأوقاف المسؤولية؛ إذ كان يرى أن التصوف
بهذا الشكل قد أضر بالدين على تلك الصورة الدخيلة فأصبح شراً لا يطاق.
ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا الذي شدد كثيراً على ممارسات التصوف،
لكنه كان يشارك أحياناً في الاحتفال بالمولد بإلقاء الكلمات أو تأليف الرسائل في بيان
مكانته -صلى الله عليه وسلم- وواجب الأمة نحوه.
كما ساهمت جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر في ذلك من خلال مؤلفات
مشائخها: محمد حامد الفقي، وعبد الرحمن الوكيل، وجميل غازي، ومن جاء
بعدهم، وعلى صفحات (الهدي النبوي) ومجلة التوحيد.
وكان للجمعية الشرعية كذلك جهود مشكورة وإن لم تكن في مستوى جماعة
أنصار السنة، وكان ممن تكلم في بدع الموالد: الشيخ عبد اللطيف مشتهري -
رحمه الله - ويضاف إلى هذا جهود الدعوة السلفية التي حملت على عاتقها أيضاً
الرسالة نفسها.
وفي السنوات الأخيرة، أثمرت تلك الجهود المباركة أثراً ملموساً في توعية
الناس بمضار الابتداع وثمار الاتباع، وهكذا يُقال للدعاة في كل بلد ابتلي بالمبتدعة: اجتهدوا في تبصير الناس بالحق، فعلى الحق نور لا تطيقه خفافيش الجهالة
والظلام.
[وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ
الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] [التوبة: 105] .
__________
(1) انظر: السنن والمبتدعات للشيخ محمد عبد السلام الشقيري، ص 143، والإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، والقول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاب، ص 181.
(2) انظر تاريخ الجبرتي: 2/201 - 202، ويعلل الجبرتي اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً (لما رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والرقص وفعل المحرمات) .
(3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي، ص 258 - 261.
(4) المادة 12 من الباب الأول من اللائحة التنفيذية، وهذا يعني أن الدولة تعترف رسمياً بسلطة هذا المجلس.
(5) الكلام للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - نقلاً عن (الوثنية في ثوبها الجديد) لسمير شاهين، ص 106 - 107.
(6) وكأن هذه الفئات ظنت أن ذلك حل وسط بين بدعية هؤلاء وما ظنوه مجافاة لحق صاحب النبوة -صلى الله عليه وسلم-، ولئن سلمنا لهم بالتفريق مع عدم صحته يبقى أن بدعة العادة لا تنطبق على اتخاذ الأعياد لما فيها من التشريع وكونها خصوصية شرعية.
(7) انظر على سبيل المثال الكلام عن الحقيقة المحمدية ونقدها في كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة للأستاذ عبد الله عبد الخالق) .
(8) يعتقدون أنه لم يمت لأنه حقيقة نورانية كالملائكة، الله توحيد وليس وحدة، محمد الأنور البلتاجي، ص 432 وما بعدها، التصوف الإسلامي لزكي مبارك، ص 206 - 210، وخطاب مفتوح لشيخ مشايخ الطرق الصوفية لعبد الرحمن الوكيل، ص52.
(9) انظر هذه المسائل في الكتاب القيم: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل -صلى الله عليه وسلم-.(139/76)
نص شعري
نعَم.. لَنَا اللهُ
عبد الله عطية الزهراني
الْقَصْفُ أَكْذَبُ أَنْبَاءً مَنَ الْكُتُبِ في هَوْلِهِ الْمَكْرُ بالإسْلاَمِ في رَهَبِ
خُبْثُ الْعَدَاوةِ، بلْ مكْرُ المْقَاصِدِ في بَقَائِهِنَّ دَوَامُ الشَّكِّ، والرِّيَبِ
والكُفْرُ في زَمَنِ الإجْرَامِ نُبْصِرُهُ يُقَنِّنُ الظُّلْمَ بالإرهَابِ، وَالقُضُبِ
قَصْفٌ، ولكنَّ في طيَّاتِهِ لَعِباً يُغْني عَنِ الشَّجْبِ، أوْ يُغِني عَنِ الخُطبِ
قَصْفٌ، وقيمَتُهُ أرْواحُ إِخْوتِنا فِيهِ الْعداوَةُ، والإسْفَافُ بالأَدبِ
***
يَا أَيُّهَا (الصِّرْبُ) والْبَلْقانُ تَلْعَنُكُمْ ... وَالْقَتْلُ في مِثْلِكُمْ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ
يَا أَيُّهَا (الصِّرْبُ) في التَّارِيخِ أمْثِلةٌ ... حَاكَيتُموهَا، فكانَ الْعَوْدُ بالعَطَبِ
أتْبَاعَ (لِينينَ) كُفُّوا عن تَعنُّتِكمْ ... فَلَنْ يَضِيرَ نباحُ الكلْبِ بِالسُّحُبِ
***
أَيَا (كُسُوفا) إذَا نَادَيتِ مُعتَصِماً سَيَرْجِعُ الصَّوْتُ لم يُسْمَعْ ولم يُجَبِ
قَتْلٌ، وَنَسْفٌ، وَتَشْرِيدٌ، وتَصْفِيةٌ وَعَالمُ اليوم بَيْنَ اللهْوِ وَالطَّرَبِ
في مجْلسِ الْخَوفِ ضَاعَ الأَمْنُ وانْدثرتْ مَزَاعِمُ العَدْل بَيْنَ الغَرْبِ وَالْعَرَبِ
(أَلْبَانُ) إنَّ لكمْ رَبّاً سَيَنْصُرُكمْ فَاسْتَمْسِكُوا بِالْكِتَابِ الحَقِّ عنْ كَثَبِ
***
نَعَمْ ... لَنَا اللهُ مَا رُدَّتْ مَقَاصِدُنا ... وَرُدَّ بِالْخِزْي جَيْشُ الصِّرْبِ في تَبَبِ
نَعَمْ ... لَنَا اللهُ، والْقرْآنُ قَائدنُا ... بِهِ بَلغْنَا الْعُلا مِنْ سَالِفِ الْحِقَبِ
نَعَمْ ... لَنَا اللهُ يَكْفِينَا وَينْصُرُنا ... إذَا قُتِلْنَا، وشُرِّدْنَا بِلا سَبَبِ
ذُلٌّ رَأيْنَاهُ لمَّا غَابَ مُعْتَصِمٌ ... وَأسْدِلَ التُّرْبُ فوقَ الصِّيدِ والنُّجُبِ
لَقَدْ تَوَلَّى زَمَانٌ كَانَ قَائدُنا ... سَيْفاً مِنَ اللهِ، لا سَيفاً مِنَ الخُشُبِ [*]
قَدْ يَنْصُرُ اللهُ مَظْلوماً بظَالِمِهِ ... فَرُبَّمَا يَظْفَرُ المكْرُوبُ بِالْغَلَبِ
الْحمدُ لله لا ظُلْمٌ يَدُومُ وَلا ... نَدْعُو سِوَى فَارِجِ المكْروِه وَالْكُرَبِ
__________
(*) الخشب: أعني بذلك المنافقين استناداً إلى قوله تعالى: [كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ] [المنافقون: 4] .(139/84)
يا أيها المعطي بصائر حكمة
مروان كجك
بعدما علمت بموت سماحة الشيخ (عبد العزيز بن باز) -رحمه الله- تداعت
هذه الأبيات المتواضعة:
يَا طَاهِرَ الأَرْدَانِ مِنْ ... دَنَسِ التَّكَبُّر وَالْخَدِيعَةْ
ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا فَآ ... بَ بِكَ الرَّحِيلُ إلَى الْوَسِيعَةْ
وَتَرَكْتَنَا مَوْتَى نُقَا ... سِي ضِيقَ مِحْنَتِنَا الْفَظيِعَةْ
فَالْمُسْلِمُونَ شَرَاذِمٌ ... فِي الأَرْضِ قَامَتُهُمْ وَضِيعَةْ
وَدِمَاؤُهُمْ فِي كُلِّ دَا ... رٍ دُونَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةْ
يَسْخُو بِهَا الطَّاغُوتُ يَسْ ... فَحُهَا وَيَجْعَلُهَا نَقِيعَةْ
وَبِلادُهُمْ لِلطَّامِعِي ... نَ مَنَازِلُ الزُّمَرِ الْخَلِيعَةْ
وَقِلاعُهُمْ دُكَّتْ وَلا ... ثَ بِمَجْدِهِم فِتَنٌ شَنِيعَةْ
جُدْرَانُهَا الظُّلْمُ الْعَمِي ... مُ وَسَاحُهَا مِحَنٌ وَجِيعَةْ
***
يَا طاهِرَ الأَرْدَانِ مِنْ ... الرَّكْبَ تَأْسِرُهُ الْمُيُوعَةْ
وَجَحَافِلُ الْحِقْدِ الْقَدِي ... مِ تَرُومُ لَوْ نُعْطِي ذَرِيعَةْ
وَنَظَلُّ يَنظِمُنَا الْفِرَا ... قُ وَنَزْدَرِي الْقِيَمَ الرّفِيعَةْ
نَبْكِي عَلَى مَا فَاتَ دُو ... نَ تَلَمُّسِ الْعِبَرِ الضَّلِيعَةْ
مَا بَيْنَنَتا إلاَّ الْهِجَا ... مَاضٍ وَتَحْكُمُنَا الْقَطِيعَةْ
وَرُسُومُ مَا حَدَّ العَدُوُّ ... لَنَا مَضَارِبُنَا الْوَدِيعَةْ
نَزْهُو بأَنَّ لَهَا صُوًى ... حَفَّتْ بِهَامَتِهَا الصَّنيعَةْ
وَالْوَحْدَةُ الْكُبرى غَدَتْ ... وَهْماً وَأَخْيِلَةً رَجِيعَةْ
مَاتَتْ عَلى أَعْتَابِهَا ... أَحْلامُنَا نَشْوَى مُطِيعَةْ
***
يَا مَنْهَلَ الخُلُقِ الرَّفِي ... عِ وَيَا ذُرَى النَّفْسِ الْخَشُوعَةْ
أَحْبَبْتُ فِيكَ سَمَاحَةً ... وَوَدَاَعَةً وَرُؤَى جَمِيعَةْ
يَا أَيّهَا الْمُعْطَى بَصَا ... ئِرَ حِكْمَةٍ بَرَقَتْ سَطُوعَةْ
أَنْوَارُهَا صِدْقُ الدَّلِي ... لِ وَأُسُّهَا رُوحُ الشَّرِيعَةْ
أَدعُو لَكَ الرَّحْمنَ أَنْ ... يُرْقِيكَ مَنْزِلَةً رَفِيعَةْ
وَيُحِلَّكَ الدَّارَ الَّتِي ... تُغْنِيكَ عَنْ دَارِ الْبَديِعَةْ [1]
__________
(1) البديعة: اسم الحي الذي يقع فيه منزل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله- في مدينة الرياض.(139/86)
تأملات دعوية
نعم للحاسب ولكن!
محمد بن عبد الله الدويش
انتشر اليوم استخدام الحاسب الآلي في أنحاء العالم. والعالم الإسلامي جزء
من هذا العالم الواسع، حتى أصبحت مقولة: الأمية ألاّ تعرف الحاسب مقولة قابلة
للنقاش على الأقل في عصرنا.
ورافق القفزات الهائلة في هذا العالم الحاسوبي انتشار طائفة من البرامج
العلمية والشرعية، وانتشار مواقع دعوية على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) .
وما من شك في أن لهذا الجهاز أهميته وفوائده حين يحسن استخدامه.
فالبرامج العلمية والموسوعات تتيح قدرات وإمكانات هائلة في البحث
والمراجعة، وتوفر إمكانات النسخ واللصق وقتاً لأولئك الذين يستخدمون الحاسب
في تحرير أبحاثهم وتدوينها، كما تخدم برامج تحرير النصوص وقواعد البيانات
طائفة ممن يسعون لضبط أعمالهم وإدارتها؛ فهي تهيئ للباحث إمكانات وقدرات لا
تهيئها له غيرها من الوسائل والأدوات، وتوفر له قدراً من الوقت والجهد.
والحاسب اليوم أصبح يتخطى حواجز كثيرة، ويخاطب فئات لا يمكن
مخاطبتها بالوسائل العادية، ويوفر قدراً من الأموال والجهود التي تصرف في غيره
من وسائل الخطاب.
ويخدم الحاسب اليوم في التعلم الذاتي، فيستفيد منه طائفة ممن لا تتيسر لهم
أسباب التعلم.
إلا أن التعامل مع هذا الجهاز ينبغي أن يكون باعتدال؛ فمع التأكيد على
أهمية الاستفادة منه واستثمار إمكاناته إلا أن هناك جوانب عدة يجب أن توضع في
الاعتبار:
الأول: لا بد من الحذر من أن تطغى مساحة الاهتمام والتعامل مع هذا الجهاز
على المساحة المتاحة للكتاب والقراءة؛ فلا غنى لطالب العلم عن القراءة والجَلَد
فيها والمكابدة، والحاسب بما يوفره من متعة وسهولة في التعامل ربما كان أكثر
إغراءً في إغفال أهمية القراءة.
الثاني: يخدم الحاسب في سرعة الوصول إلى المعلومة، بل ربما لا يمكن
الحصول عليها من غير طريقه، لكن لا بد من الحذر من الاعتماد عليه وحده في
البحث؛ إذ إن ذلك يعني ألا تكون للباحث صلة بالكتاب، وألاّ يعرف طريقة
المؤلف في ترتيبه وتبويبه.
الثالث: نظراً لأن الحاسب يعمل بطريقة آلية صرفة؛ فكثيراً ما ينفي الباحث
وجود معلومة في الكتاب؛ والسبب في ذلك أنه أخطأ في إدخال الكلمة، أو استخدم
كلمة مرادفة لما في الأصل، أو أن مُدخل النص وقع في تصحيف أو تحريف؛ وما
أكثر ذلك.
الرابع: كان السلف يحذرون كثيراً من التصحيف والتحريف في الكتب، ولذا
كان الوقوع في آفتي التصحيف والتحريف من مؤيدات مقولة: من كان أستاذه كتابه
كان خطؤه أكثر من صوابه، ولئن كانت الكتب المطبوعة تعاني من هذه الآفات،
فالبرامج الحاسوبية اليوم لها النصيب الأكبر ما بين سقط، وخطأ في إحالة، وخطأ
في تخريج، وتصحيف وتحريف؛ خاصة أن كثيراً من أعمال الحاسب يتم إدخالها
على أيدي فنيين ونساخ غير مختصين، إضافة إلى أن حمى المنافسة تدفع للتسرع
في إخراجها قبل نضجها.
ولعل من الأخطاء الطريفة في هذا الباب ما وقع في أحد برامج الحديث
الشريف في كتاب صحيح مسلم باب جواز إرداف المرأة الإنجليزية والصواب
الأجنبية.
الخامس: الجرأة على استخدام البرامج غير الأصلية، والاعتداء على حقوق
المؤلفين، وقد أفتت مجامع عدة بتحريم ذلك ومنعه، فلا أقل من الورع، خاصة
في استخدام البرامج الشرعية.
السادس: الحاسب يستهلك وقتاً هائلاً من بعض من يتعامل معه، فلا بد من
الحذر من استهلاك الوقت وضياع ساعات العمر.(139/88)
نحو تطوير الذات
إلى الساعين بالمعروف
خالد محمد حامد
ركن جديد يعكس من زاويته ثمرة خبرات وأفكار تفتق بها العقول وتمنحها
التجارب فتأتي بمثابة مرشد أمين في عطية (تطوير الذات) الملحة في شتى أقطاب
العطية التنموية المتكاملة: الفكرية، والمعرفية، والشخصية، والأخلاقية،
والاجتماعية، والاقتصادية، في حدود هاتين الصفحتين من خلال نقاط مركزة
تصلح لأن تكون محاور لدراسة مطولة، ونرحب بمشاركات القراء التي تثري هذه
الزاوية.
- البيان -
قد عرفت - ولا شك - أن السعي بالإصلاح بين الناس عمل جليل؛ لما فيه
من كيد للشيطان، وترغيم له، وإضعاف أثر عمله في التحريش بين المؤمنين
وإيقاظ فل الفتنة بينهم.. كما عرفت أن إصلاح ذات البين من صلب عمل الدعاة
والمصلحين: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً]
[النساء: 114] .
تذكر:
* ابتغاء مرضاة الله والإخلاص له -تعالى-؛ فذلك عامل أساس في النجاح:
[إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] [النساء: 35] .
* الاستعانة بالله - جل وعلا - والتوجه إليه بالاستخارة والدعاء.
* تقوى الله، والحذر من مداخل الشيطان؛ فقد يؤدي القيام بدور الإصلاح
إلى نوع من العجب، وقد يُعرِّضك سماعُ بعضِ الأسرار لخطر إفشاء سرّ المسلم،
وقد يجرك الخوض في التفاصيل إلى استمراء الغيبة وهتك أعراض الناس، وقد
يكون إفضاء طرف إليك بما عنده - وهو في حالة ضعف - باباً من أبواب الفتنة..
فتتوسع المشكلة وتتعقَّد.
* التمتع بالتفاؤل وطول النفس، والحذر من تسرب اليأس وسرعة الهروب.
* التثبت من مكانتك ورصيدك ومدى قبولك لدى الأطراف.
أثناء السعي:
هذه جملة أمور يحسن مراعاتها لمن يسعى بالمعروف:
- استطلاع حقيقة المشكلة والوقوف على جوانبها بالاستماع لكل طرف؛ فقد
يكون ذلك أحد الحلول، خاصة مع بُعد الناس عن التثبت من أصحاب الشأن،
وكثرة الإشاعات التي يبني الناس عليها أحكاماً تجعل صاحب المشكلة - أحياناً -
يتطلع لذلك المنصف الذي يُحسن الاستماع إليه.
- الانتباه إلى الأسباب الخفية للمشكلة التي قد لا يستطيع طرف ما أن يبوح
بها أو يعبر عنها، وقد لا يعيها ولا يعرفها.
- ولتحذر الانشغال بجزئيات الأحداث العارضة التي لا تعدو كونها إفرازات
للمشكلة، ولا تظن أن معالجة الظواهر تغني عن استئصال الأسباب الحقيقية.
- الحرص على إحقاق الحق للمحق، وحفظ ماء الوجه للمخطئ واعطائه
فرصة للتراجع بغير خوف أو امتهان لكرامته.
- التركيز على إيضاح الجوانب الحسنة في كل طرف للطرف الآخر، والتي
تطمسها عين السخط التي قد ينظر بها الخصم.
- تسليط الضوء على الواقع المخفي، وأنه لا يخلو بيت أو إخوان من
مشكلات عارضة، وأنه لا يخلو شخص من عيب.
- استخدام المخارج الشرعية كالتورية والمعاريض والكذب المباح للإصلاح
- ما لم يُخش انكشافه - والاستفادة من الحيل الاجتماعية المباحة.
- الانتباه إلى اختلاف طبيعة الشخصيات؛ فقد يتوفر في شخص من التربية
الخلقية والوقوف عند الشرع ما لا يتوفر في آخر، وقد يُؤَثَّر على شخص عاطفياً،
بينما لا يقبل آخر إلا الإقناع العقلي.
- استخدام أساليب الإقناع المختلفة وإمكانات التفاوض؛ فقد يقتضي الأمر
تغيير بعض الآراء، أو تحويل بعض الاتجاهات والقناعات، أو تعديل بعض
الآراء في الأشخاص.
- حسن استغلال عامل الوقت، سواء في التأني لإطفاء بعض العواطف
السلبية الثائرة، أو لتصيُّد فرصة مناسبة لتهدئة النفوس وتدخُّل أهل الخير، أو
لإذاقة الطرف العنيد بعض مرارة المشكلة، أو بتعجيل اقتناص الفرص السانحة.
بعد السعي:
- من المفترض أنك حددت أهدافاً متفاوتة المستوى، وأنت تطمح إلى أعلاها
وأكملها، ولكن عليك -مع هذا- أن تقبل هدفاً مرحلياً حين تعجز عما فوقه؛ فلا
ترفض الحلول الجزئية المؤقتة التي تسير في الاتجاه الصحيح، واعتبْرها خطوة
لحل أشمل. وهذه من سياسة تجزئة حل المشكلة.
- إذا هيأ الله حلاً لك فيه مساهمة، فقد يكون عليك متابعة هذا الحل لإتمامه،
ثم إنمائه وترسيخه.
- أما إذا استفرغت كل وسعك واستنفدت كل حيلك ولم تحدث النتيجة
المرجوة، فلا تُضِعْ وقتك؛ فقد يكون الاستمرار نوعاً من اللغو، ولا تدري لعل الله
يحدث بعد ذلك أمراً.(139/90)
وقفات
لا يُستطاع العلم براحة الجسد
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
كنت أتأمل الجهود العلمية العظيمة التي تميَّز بها الرعيل الأول من سلف الأمة، وعجبت أشد العجب من كثرة الحفظ وقوته، ومن القدرة البالغة على الاستحضار
والاستنباط، والجَلَد الكبير على تحصيله وتتبُّعه والرحلة في طلبه.. ونحو ذلك ممَّا
تميزوا به -رضي الله عنهم-، ورحت أبحث عن أسباب تلك القدرات الفائقة،
فتحصَّلت لديَّ أشياء عديدة ذكرها أهل العلم في أدب الطلب، ولكن استوقفني أمر
في غاية الأهمية، ألا وهو الجدّية الصارمة في تلقِّي العلم وتعليمه؛ فالطالب منذ
نعومة أظفاره ينذر نفسه للعلم؛ فلا وقت عنده للهو المباح - فضلاً عن غيره -،
ولا وقت عنده للاشتغال بهموم الدنيا ومسؤولياتها إلا ما ينبغي، ترفَّع عن زخارف
الدنيا وما فيها، وجرَّد قلبه من ذلك كله، وأقبل بكُلِّيِّتِه على طلب العلم، وأصبحت
لذته العظمى في مذاكرة العلم ومدارسته والعمل به. وتأمل معي سيرة الإمام أحمد
بن حنبل تجد أبلغ العظة والعبرة في ذلك:
قال الإمام أحمد: كنت ربما أردت البكور إلى الحديث، فتأخذ أمي ثيابي
وتقول: حتى يؤذن الناس، وحتى يُصبحوا. وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي
بكر بن عياش وغيره [1] .
ومن جدية الإمام أحمد في طلب العلم ما حدَّث به قتيبة بن سعيد قال: كان
وكيع إذا صلى العتمة ينصرف معه أحمد بن حنبل؛ فيقف على الباب فيذاكره وكيع، فأخذ وكيع ليلة بعضادتي الباب ثم قال: يا أبا عبد الله! أريد أن ألقي عليك
حديث سفيان، قال: هات.. [وأخذا يتذكران] فلم يرك قائماً حتى جاءت الجارية
فقالت: قد طلع الكوكب، أو قالت: الزُّهرة! ! [2] .
لقد كانت مجالس الإمام أحمد عامرة بالذكر والطاعة ممَّا زاده سكينة ووقاراً؛
فقد قال تلميذه أبو داود - وهو من أعرف الناس به -: لقيت مائتين من مشايخ
العلم فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه
الناس من أمر الدنيا، فإذا ذُكر العلم تكلم [3] .
ولهذه الجدية كان أئمة العلم يُجِلُّون الإمام أحمد ويوقرونه؛ فها هو ذا خلف بن
سالم يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد
بن حنبل، فضرب يزيد بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا
حتى لا أمزح [4] .
وقد كان من نتيجة هذا الحرص والجلد على طلب العلم أن أصبح الإمام أحمد
من أعظم حفاظ الحديث حتى قال أبو زرعة الرازي لعبد الله بن أحمد: أبوك يحفظ
ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب [5] .
ونظائر هذا كثيرة جداً عند تتبع أخبار الأئمة السالفين، ويمكن أن تكون مادة
خصبة لدراسة علمية كبيرة الحجم.. ولكن تأمل معي ما ذكر، ثم انظر حالنا في
طلب العلم تجد شيئاً عجباً، وكأنك تتدحرج من قمة جبل شامخ سامق إلى قعر واد
سحيق!
قلِّب بصرك هنا وهناك، وانظر في نفسك والى طلاب العلم من حولك،
أترى في حالنا ما يوازي أو يقارب ما قرأته عن سلفنا الصالح؟ ! وما هي هموم
طلاب العلم وتطلعاتهم..؟ !
كم هي تلك المباحات التي توسع فيها أكثرنا حتى أصبحت علامة تميزنا؟ !
من ذا الذي يملك الصبر والجلد على البحث والدراسة والتنقيب في بطون
الكتب بلا كلل ولا ملل؟ !
من ذا الذي يملك طول النَّفَس والقدرة على سهر الليالي ذوات العدد للتفكر
والاستنباط؟ !
إن العلم بحر واسعٌ بعيدة أطرافه، عميقة قيعانه، لن يبحر فيه إلا الأشداء،
ولن يصل المرء فيه إلى لآلئه المكنونة وجواهره المخزونة وهو لم يضع قدميه بعدُ
على شاطئه القريب، وصدق يحيى بن أبي كثير حينما قال: لا يُستطاع العلم
براحة الجسد [6] .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي، 1 / 151.
(2) مناقب الإمام أحمد، ص 61.
(3) حلية الأولياء، 9/ 164.
(4) حلية الأولياء، 9/ 169، ومناقب الإمام أحمد، ص 67.
(5) تاريخ بغداد، 4 / 420، وطبقات الشافعية، 2 / 27.
(6) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1 / 428) .(139/92)
المسلمون والعالم
بعد خمسين عاماً..
حلف الناتو. . والبحث عن أعداء
د. يوسف الصغير
كانت التحالفات وسيلة أساسية لحفظ التوازن بين القوى؛ فحتى المجتمعات
القبلية نجد أن التوازن فيها يتحقق غالباً بشبكة من التحالفات وبقدر ما تكون هذه
التحالفات سبباً للاستقرار فإنها تكون بالمثل عاملاً في توسيع رقعة الصراعات عند
حدوثها. ويمكن اعتبار الحروب الصليبية نموذجاً لما تؤدي إلية التحالفات؛ فقد
كانت كل حملة قائمة على أساس تحالف يجمع بعض زعماء أوروبا وملوكها الذين
اتفقت كلمتهم على عداوة المسلمين وإن تنافسوا وتصارعوا على المكاسب والنفوذ،
وكانت القوى الأوروبية تعيش حالة مستمرة من الصراع والحروب القائمة بين قوى
متحالفة دائمة التغير مع ثبات مبدأ التكاتف ضد أي قوة تريد السيطرة على القارة.
ومن الأمثلة على ذلك اتحاد دول أوروبا ضد نابليون عندما فكر في السيطرة
على أوروبا وقد اجتمعت عليه روسيا والنمسا والولايات الألمانية وأسبانيا وبريطانيا
حتى تمت هزيمته؛ ولكن عندما توحدت الولايات الألمانية بقيادة بروسيا وتحالفت
مع الإمبراطورية النمساوية المجرية اجتمعت فرنسا مع بريطانيا وشكلت مع روسيا
تحالفاً مضاداً كان سبباً في قيام الحرب العالمية الأولى؛ فقد كانت الشرارة تنافساً
بين صربيا والنمسا تطور إلى حرب بين البلدين على إثر اغتيال ولي عهد النمسا،
وكان تدخل روسيا لمصلحة صربيا وإعلانها التعبئة لإظهار جدية موقفها، ولم يكن
يدور في خلدهم أن الألمان حلفاء النمسا سيحذون حذوهم في إعلان التعبئة التي
تعني في العرف العسكري الألماني الحرب، مما أدى إلى حرب عامة ذهب
ضحيتها ملايين البشر، وقد نجح الألمان في إخراج روسيا من الحرب عن طريق
تهريب لينين إلى داخل روسيا ودعم الثورة على القيصر، وفي المقابل نجحت
بريطانيا في جر أمريكا نحو الحرب؛ وقد أصيب الرئيس الأمريكي بخيبة أمل
بسبب أساليب السياسيين الأوروبيين وخاصة في بريطانيا وفرنسا؛ مما أدى إلى
عودة أمريكا إلى تغليب سياسة الانعزال عن العالم القديم، وقد أدت سياسات
بريطانيا وفرنسا مع ألمانيا بعد الحرب الأولى إلى وضع بذور الحرب العالمية
الثانية.
ومن الغرائب أن منطقة البلقان كان لها مرة أخرى دورٌ كبير في سير الحرب؛ حيث إنه حتى في بداية الحرب كان الاتحاد السوفييتي أقرب إلى ألمانيا لدرجة
أنهما اشتركا في اجتياح بولندا وتقاسماها في بداية الحرب، ولكن غزو الألمان
للبلقان أغرى هتلر بنصر سهل على الروس، وكان لدخول الروس مرغمين في
الحرب العالمية الثانية أبلغ الأثر في هزيمة الألمان من جهة، وفي تردي الأوضاع
الدولية في النصف الثاني في القرن العشرين من جهة أخرى.
إن انعدام الثقة بين الغرب (بريطانيا وأمريكا) وحليفهم المؤقت (الاتحاد
السوفييتي) قد أدى إلى امتداد الحرب وتطاولها، وكانت الاجتماعات الدورية بين
(ستالين) من جهة و (روزفلت وتشرشل) من جهة أخرى تتم لتنسيق المواقف
والهجمات الاستراتيجية.
ولكن أوضاع ما بعد الحرب كانت تلقي بظلالها على الجميع؛ وكما هو معلوم
فقد تم تقاسم النفوذ في العالم أثناء هذه الاجتماعات سواءً في يالطا أو طهران. نعم
لقد تم تقاسم أوروبا، وتم تقسيم فييتنام وكوريا، بل وتم تقاسم ألمانيا وعلمائها بين
الحلفاء.
لقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية وهي تحس أنها الدولة
العظمى الأولى؛ فقد كان اقتصادها الهائل سليماً لم يمس، بينما تعرضت الدول
المشاركة الأخرى للخراب بالإضافة إلى أنها الدولة الوحيدة التي تملك السلاح
المرعب الجديد ألا وهو السلاح الذري، ولكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى نجح
الاتحاد السوفييتي في أول تفجير نووي له؛ وعندها دخل العالم في مرحلة جديدة
تقابل فيها معسكران يتصارعان بصورة مستمرة ولكنها غير مباشرة، وكانت
الحرب مستعرة في أنحاء العالم وساخنة يغذيها الطرفان؛ ولكن الحرب في أوروبا
كانت باردة يجمع بينهما ما يسمى بتوازن الرعب.
إنشاء حلف شمال الأطلسي:
في اليوم الرابع من (نيسان) إبريل 1949م تم التوقيع في مكتب الرئيس
الأمريكي (ترومان) على وثيقة إعلان حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكان الهدف
المعلن هو حماية أوروبا من التوسع الشيوعي وكان هذا الحلف يمثل للولايات
المتحدة الحلقة الرئيسة في سياسة محاصرة الشيوعية التي سيطرت على وسط
وجنوب أوروبا والصين وبدأت تزحف على جنوب شرق آسيا. وإذا كانت الحرب
الكورية عاملاً مهما في تخفيف التسلط الأمريكي على اليابان فإن إنشاء حلف
الأطلسي كان له دور رئيس في إعادة الاعتبار لألمانيا الغربية والسماح لها ببناء
جيشها، حيث كانت مع أمريكا أكبر المشاركين في القوات البرية.
لقد كان مجال عمل حلف الأطلسي يقتصر على أوروبا ولذلك لم يكن له دور
في الحرب الكورية أو حرب فييتنام وأيضاً لم يشارك في العدوان الثلاثي على
مصر مع بريطانيا وفرنسا، وخرجت فرنسا من الجزائر ولم يَلُمْ أحد الحلف لعدم
وقوفه مع فرنسا. لقد كان هاجس الحلف هو كيفية التصدي لأي هجوم على أوروبا
من قِبَلِ الروس الذين لم يحسوا بالحاجة لتكوين حلف؛ لأنهم يسيطرون بصورة
مباشرة عن طريق الأحزاب الشيوعية العميلة لهم والخاضعة مباشرة للمخابرات
السوفييتية الـ (كي. جي. بي) ، ولكن أحداث المجر نبهت الروس لأهمية حلف
مماثل لمواجهة الأطلسي فأنشؤوه وأسموه: (حلف وارسو) وأعلن عنه في
14/5/ 1955م أي بعد أكثر من خمس سنوات من إعلان قيام حلف الناتو.
دور الحلف في أوروبا:
كما أسلفنا فإن توازن الرعب كان مسيطراً على أوروبا، وكان حلف الناتو
قائماً أساساً على القوة الأمريكية، وكانت القيادات العسكرية العليا حكراً على
الأمريكيين مما أدى إلى انسحاب فرنسا أيام (ديجول) من الجانب العسكري في
الحلف فترة من الزمن، أما في الجانب الآخر فإن الروس يهيمنون بالمثل على
حلف وارسو، وقد حاولت المجر التحرر من النفوذ الروسي، إلا أن الثورة
المجرية سُحقت ووقف حلف الأطلسي موقف المشجع المتفرج، وكان دك بودابست
كذلك رسالة روسية لكل دولة تفكر في الخروج من الفلك الروسي، وقد تكرر دخول
الروس بمشاركة رمزية في حلف وارسو لدولة متمردة أخرى هي تشيكوسلوفاكيا،
ولكن براغ لم تقاوم لخوفها من مصير بوادبست.
إن المعسكرين المتقابلين لم يستوعبا الدول الأوروبية؛ فقد امتنعت بعض
الدول عن الدخول لأسباب مختلفة؛ فمثلاً: دولة مثل سويسرا انتهجت سياسة الحياد
في أوروبا مثلها في ذلك مثل السويد، أما يوغسلافيا فإن نظامها وإن كان شيوعياً
فقد كان (تيتو) يخشى من سيطرة (ستالين) الذي كان يخشى تحوُّله نحو الغرب؛
ولهذا رضى (ستالين) من (تيتو) أن تكون العلاقات جيدة في الميادين العسكرية
والاقتصادية مع استقلال يوغسلافيا السياسي.
لقد تحولت أوروبا إلى معسكر حربي هائل مع سباق في التسلح مقترن به
نشاط تجسسي متبادل بين الطرفين، ولكن مع كل هذا لم تطلق رصاصة واحدة مع
وجود المعسكرين المتكافئين ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب مع سقوط حلف
وارسو وانفرط عقد الشيوعية؛ فأصبح لزاماً على حلف الناتو أن يغير في أهدافه
حتى يبقى على قيد الحياة؛ فما هي الأدوار الجديدة؟ وماذا يتوقع من الحلف في
المرحلة القادمة؟
الحلف بعد خمسين عاماً:
في أجواء احتفالية تم التوقيع على تعديل مهمات الحلف لتتناسب مع الأوضاع
في القرن الحادي والعشرين، وسنحاول إلقاء الضوء على أهم النقاط الواردة في
البيان الختامي لاجتماع الحلف بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشائه.
إن أهم النقاط هي: توسيع مجال الحلف، ليقوم بإدارة الأزمات في أي مكان
في العالم؛ ويعني هذا: البقاء في حالة استعداد أمام كل حالة على حدة للمساهمة
بفعالية في تفادي النزاعات والالتزام الناشط في إدارة الأزمات بما فيها الالتزام
بعمليات رد على هذه الأزمات، أما القضية الأخرى المهمة فهي السماح لمنظمة
الأمن والدفاع الأوروبية بالاستفادة من أصول الحلف في عمليات لا تشارك فيها
الولايات المتحدة وهاتان النقطتان تبرزان التناقضات داخل الحلف.
ولعل الشرح يبرز حجم الخلاف داخل الحلف، ففي حين يصرح الأمين العام
للحلف (خافيير سولانا) بأن الدور الجديد المناط بالحلف الأطلسي لا يعني جعله
شرطي العالم؛ فإن الرئيس الأمريكي يقول إنه لا يعتقد أن توسيع نطاق عمل
الحلف مسألة جغرافية بالضرورة؛ فهناك أشياء تحدث في أوروبا أو دول غير
أعضاء في الناتو يمكن أن تؤثر سلباً على أمن حلف الأطلسي وسنتعامل معها،
وأضاف أن الوثيقة الجديدة ستدعم أمن أوروبا وحريتها عن طريق زيادة قدرتها
على التعامل مع الصراعات الجارية خارج حدودنا وحماية مواطنينا من خطر
الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، وتعميق الشراكة مع الدول الأخرى، ومساعدة
الأعضاء الجدد على دخول حلف الأطلسي. وكما قال مسؤولون أمريكيون فإن
القرار بتوسيع نطاق عمل الناتو إلى أي مكان في العالم يعني أن الحلف يمكن أن
يتدخل في نزاعات في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط إذا تراضى الأعضاء على
أن هناك مسألة تؤثر على أمنهم.
لقد بلغ توسع برنامج الناتو المسمى بالتعاون والشراكة من أجل السلام إلى
أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وتركمانستان مع ما
يصاحبها من قواعد عسكرية ومناورات مشتركة على حدود روسيا والصين، أضف
إلى ذلك أن السياسة الأمريكية في مقاومة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل التي تعتبر
من أهداف الحلف الرئيسة ستُدْخل أمريكا في مغامرات وعمليات استعراضية لا يعلم
نتائجها إلا الله، وهذه نقطة خلاف رئيسة بين أعضاء الحلف. وقد أصرت فرنسا
على ربط هذه العمليات بالأمم المتحدة وألحت أمريكا على تهميش دور المنظمة
الدولية.
أما النقطة الأساسية الأخرى فهي محاولة أوروبا الانفلات من الهيمنة
الأمريكية وذلك بالنص على أهلية منظمة الأمن والدفاع الأوروبية المنبثقة من
الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني خروج الولايات المتحدة وتركيا، وقد عارضت
تركيا هذه النقطة دون جدوى؛ حيث إن عملية المقايضة تمت بين الدول الأوروبية
وأمريكا على إقرار أمرين هما باختصار: مشاركة أوروبا في مغامرات أمريكا حول
العالم، وسماح أمريكا لأوروبا بالاستفادة من أصول الحلف وأغلبها أمريكية في
عمليات خاصة بها.
إن هذا الحل التوفيقي يحمل في ثناياه بذور الصراع بين الحلفاء، وينذر
الضعفاء حول العالم بأوخم العواقب، فماذا يمكن أن يحصل عندما يسيطر على
العالم قوة عسكرية جبارة ومتفوقة ولكن لها أكثر من رأس؟ ولا يخفى أن حلف
الأطلسي تسيطر أمريكا على قيادته مع مساعدة لصيقة من بريطانيا. أما الدول
المستاءة من الدور الأمريكي في الحلف فهي المسيطرة على منظمة الأمن والدفاع
الأوروبية وهما ألمانيا وفرنسا. إن ما يجري في البلقان اليوم يوحي بما يمكن أن
يحصل في أماكن أخرى. ولهذا، فمن الضروري التدقيق في الأحداث الجارية
اليوم ومحاولة استكشاف ملابساتها.
من البوسنة إلى كوسوفا:
لقد كانت أحداث البوسنة شاهداً على عجز أوروبا وعدم قدرتها على الحركة
نظراً لتضارب مصالحها وارتباطاتها؛ فقد كانت فرنسا وبريطانيا تقفان بلا حياء مع
الصرب في مشروع صربيا الكبرى، أما ألمانيا فقد كان همها هو الحفاظ على
مصالح حلفائها الكروات وتأمينها، وكانت الأمم المتحدة مشاركة في جريمة تصفية
المسلمين بعرقلة وصول السلاح إليهم، وقد تطورت الأحداث بصورة لا تتلاءم مع
مصالح الغرب؛ فقد أصبحت البوسنة قضية إسلامية، وبدأت طلائع المجاهدين
بالمشاركة الفعالة في مواجهة الصرب الذين بدأ الميزان العسكري يميل لغير
صالحهم في آخر مراحل الحرب، وكان تدخل أمريكا ضرورياً لمنع الانهيار
الصربي في البوسنة والحفاظ على التوازن، فتم فرض اتفاق (دايتون) الذي يحفظ
للصرب المناطق التي احتلوها ويميِّع الثقل الإسلامي بجعله جزءاً من اتحاد مع
الكروات، والأهم من ذلك أن البوسنة تحولت إلى مركز للوجود الأمريكي وموطئ
قدم لهم، وكانت أهم مهمة أمريكية هي إبعاد المجاهدين عن البوسنة بل وفرض
إبعاد بعض القادة المسلمين البوسنويين بتهمة أن لهم علاقات مع بعض الدول
الإسلامية.
أما من ناحية كوسوفا فإن التدخل الأمريكي بدأ مبكراً لاستباق أي تطور غير
مرغوب فيه؛ فقد كان موقف الصرب كالعادة يعميه التعصب؛ بحيث يؤدي حتماً
إلى صراع عسكري سيتحول إلى بؤرة جهاد إذا لم تحل القضية بسرعة، ولهذا فقد
عملت أمريكا على الضغط الشديد على الجانبين من أجل عقد اتفاق (رانبويه) بحيث
تبقى كوسوفا جزءاً من صربيا مع تمتعهما بالحكم الذاتي، بالإضافة إلى تواجد
قوات أطلسية للحفاظ على الأمن، أي إقامة بوسنة أخرى مع اختلاف بسيط؛ حيت
إن كوسوفا ستبقى - فقط - جزءاً من صربيا ولكن يسيطر عليها حلف الأطلسي.
لقد رفض الصرب الاتفاق ولم يأخذوا تهديدات الأطلسي على محمل الجد،
وفاتهم أن صربيا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تتحالف مع روسيا وهي
الوحيدة في المنطقة التي لا يوجد فيها تواجد عسكري للأطلسي، وأن إكمال حصار
روسيا واستقرار الأوضاع في البلقان يقتضي وجود نظام موالٍ للغرب في بلغراد مع
إعطاء بعض الحقوق للأغلبية الألبانية في كوسوفا.
إن الغريب في الأحداث أن العمليات العسكرية الجارية تتلخص في قيام الحلف
بهجمات جوية لتدمير البنى الأساسية في صربيا وكوسوفا بينما يقوم الجيش
الصربي بعملية تهجير قسري لأعداد كبيرة من الألبان في كوسوفا مع نهب بيوتهم
وإحراقها لمنعهم من العودة. لقد قام الصرب بتكرار أعمالهم الوحشية من إعدامات
جماعية وعمليات اغتصاب منظمة، وكرر الغرب منع السلاح عن المسلمين مع أن
تكاليف تسليح المسلمين في كوسوفا بحيث يقومون هم بطرد الصرب لا تساوي
تكاليف ضربة جوية واحدة، ولكن يبدو أن الحل النهائي قائم على إخضاع الصرب
للغرب وتخفيض نسبة المسلمين إلى الصرب في الإقليم إلى 3: 1 بدلاً من 10:
1 مما يسمح باستمرار النفوذ الصربي في الإقليم واضطرار المسلمين للرضى بحكم
ذاتي، أما اللاجئون فإن عودتهم كلهم أمر مستبعد؛ والدليل أن أغلب اللاجئين في
البوسنة لم يسمح لهم بالعودة حتى الآن إلى بيوتهم وقراهم مع أن اتفاقية السلام
تنص على ذلك!
مستقبل الحلف:
إن مستقبل الحلف مرهون بمدى التنسيق وبمدى تفهم كل طرف لمصالح
الآخر، والذي أراه أن أمريكا بعد أن نزعت عنها غطاء الأمم المتحدة ومجلس
الأمن تريد العمل تحت مظلة أخرى هي حلف الأطلسي، أما إدخال حماية
المواطنين ومواجهة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل في مجال عمل الحلف فسيؤدي
إلى جر الحلف إلى لائحة طويلة من القضايا التي تهم أمريكا وإليك بعضها على
سبيل المثال:
1 - قضية كوريا الشمالية وتجريدها من سلاح التدمير الشامل وهي قضية
حية قد يتورط فيها الحلف مع ملاحظة حساسية الوضع الشديد نظراً للموقف
الصيني.
2 - المشاريع النووية وبرنامج الصواريخ الإيراني وهو موضوع يهم أمريكا
وإسرائيل، فهل يوافق الحلف على جره لهذه القضية؟
3 - إمكانية التدخل في مصر بناءً على قانون حفظ الأقليات الأمريكي
ومناهضة الاضطهاد الديني المزعوم للأقباط.
4 - تحويل عملية حصار العراق من عملية أمريكية بريطانية إلى عملية
أطلسية.
5 - إدارة الأحداث في شمال إفريقيا، وهل ستكون من نصيب الأطلسي
(أمريكا) أم منظمة في الأمن والدفاع الأوروبية (فرنسا) ؟
6 - هل ستسمح أمريكا لأوروبا بالتدخل عند حدوث أي اضطراب في منطقة
نفوذها الخاصة في أمريكا الجنوبية؟
7 - كيف يتم التعامل مع الصين؟
8 - ما هو دور الصراع الاقتصادي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة
في تحديد مستقبل الحلف؟
9 - هل تستمر سياسة حصار روسيا، أم تتغلب سياسة أوروبا في التعاون
مع روسيا؟ وكيف يكون الوضع بعد سقوط (يلتسن) ؟
إن أخطر ما يجري اليوم هو أن الحلف الذي بقي خمسين عاماً ساكناً بدأ أول
عملياته بعد انتهاء الخطر الذي أنشئ من أجله الحلف؛ وهو الآن كما هو واضح
وفي ظل الأهداف المطاطة والواسعة يبحث عن الأعداء في طول العالم وعرضه.
وإذا كانت العمليات لا تكلف سوى بضع مليارات يتم استردادها سريعاً فإن
القيادات العسكرية لن تُفوِّت الفرصة تلو الفرصة في البحث عن مسوِّغات لعمليات
تزيد من مخصصاتهم، وتبعد عنهم شبح شح الموارد وتخفيض الأعداد، ولا ننسى
أن كلينتون عندما طلب من الكونجرس 6 مليارات من الدولارات تمت الموافقة على
ضعفها، ومما يحزن الإنسان أن الأمة الإسلامية غائبة عن الأحداث، ونرجو من
الله أن يلطف بنا، فهل ستكون البلدان الإسلامية ميدان التجارب الجديدة للأسلحة
الجديدة لدى الحلف بدعوى مواجهة الإرهاب أو منع انتشار أسلحة الدمار الشامل؟ !(139/94)
من يعيد فتح القسطنطينية؟
عبد العزيز الحامد
فتاة بغطاء رأس وملابس أقرب إلى التبرج منها إلى الحجاب؛ بحيث لو رآها
أحد المحتسبين في بيئة محافظة لأنكر عليها، ومع ذلك تنتفض دولة بقضِّها
وقضيضها، وبعسكرييها ومدنييها المتنفذين فيها، وبسلطاتها التشريعية والتنفيذية
لكي تصد هذا (الاقتحام) ! إذ كيف تجرؤ الفتاة التركية (مروة قاوقجي) العضو في
حزب (الفضيلة الإسلامي) أن تتحدى الأتاتوركية المتغطرسة في عقر دارها،
وتغطي على مبادئها الشائهة الشائخة بحجابها؟ !
لقد أثار العلمانيون المتحجرون أدعياء التنوُّر زوبعة كبرى في البرلمان
وخارجه، معتبرين دخول الفتاة بذاك الحجاب المختزل مناهضة للدستور والقوانين
والقواعد المرعية فى البلاد، وتعاملوا مع تلك الغلالة البيضاء على رأسها كما لو
كانت راية نصر سوف ترفرف يوماً على سماء دولة الخلافة (سابقاً) ! ... فماذا
حدث؟
- نحو مئة من (الرجال) أعضاء البرلمان هبوا واقفين يصرخون في وجه
النائبة ويوسعونها ذماً وشتماً..!
- الرئيس التركي سليمان ديميرل اتهم النائبة صراحة بأنها عميلة لأعداء
تركيا وقال: إنها جزء من مؤامرة ضد البلاد!
- رئيس الوزراء (بولند أجاويد) هاجمها مواجهة داخل (البرلمان) ودعا بعد
ذلك لتأييد (الشجب الشعبي) للتصرف المخجل الذي قامت به النائبة!
- المدعي العام التركي (فورال صافاش) طالب بحظر الحزب الذي تنتمي إليه
النائبة بدعوى أنه يقوم باستغلال الدين لأغراض سياسية! ووصف التيار الإسلامي
في تركيا بأنه كالسرطان الذي لا بد من استئصاله.
- ثم تترجم السلطات التركية هذه الصيحات المتشنجة إلى إجراءات عاجلة
تهدف إلى حل حزب الفضيلة، وفصل النائبة وطردها وحرمانها من الجنسية
التركية! !
لحظات تحكى تاريخاً:
إن بين دخول النائبة المحجبة وخروجها من (البرلمان) لحظات تحكي قصة
سنوات بل قرون من تاريخ الصراع المستميت على أرض (القسطنطينية) التي
فتحها الأتراك بين قوة الحق الناهض وقوى الباطل المناهضة! فالقسطنطينية التي
رفعت رايات الوثنية دهوراً أراد الله - سبحانه - بها خيراً بعد أن جاء الإسلام،
فانبعثت بخصوصها بشارة على لسان النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- تنبئ عن
مستقبل وضيء في ظل التوحيد يعلو تلك البلاد، فيفجر النور في جنباتها ربما
لأول مرة في تاريخها الذي لوثته سيرة الشرك ومسيرة الوثنية. نعم؛ فقبل أن
تنساح جحافل الإسلام لتحرر القسطنطينية من شر نفسها قبل غيرها، كانت كلمات
الوحي المعصوم تنداح على لسان الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- لتفتحن
القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها [1] ومن يومها تفتحت
الأعين نحو ذاك الفتح، طمعاً في حيازة الفضل والبُشرى، حتى إن مسلمة بن عبد
الملك ما إن سمع الحديث من راويه حتى أعد لغزو القسطنطينية، وما إن تمت
فتوح الشام في العهدين الميمونين للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر - رضي الله
عنهما -، حتى وجه الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عنه - الصحابي لجليل
معاوية بن أبي سفيان لركوب البحر والتوجه صوب الشمال، فبدأ - رضي الله عنه- بغزو قبرص، ثم تتابعت المحاولات، وظلت جيوش الإسلام تدق أبواب أوروبا
من الجهة الشرقية مرة ومن الجهة الغربية مرات، لعلها تفلح في إحداها في تحقيق
تلك النبوءة المحمدية بفتح القسطنطينية، ولكن هذه النبوءة لم تتحقق إلا بعد ثمانية
قرون.
وشاء الله - أن يدَّخر تحقيق الفتح لقوم آخرين من الأتراك الذين أسلموا
وكانوا يعيشون في أواسط آسيا، وقد حدث أن قبائل منهم هاجرت من أراضيها بعد
زحف المغول نحو بلادهم، وانتقلت تلك القبائل في القرن السابع الهجري، الثالث
عشر الميلادي، لتكون إمارات في غرب الأناضول؛ حيث نشأت هناك أسرة
حاكمة منهم ارتبط اسمها باسم الغازي الأول عثمان بن أرطغرل، ثم فتح الله على
تلك الإمارات الوليدة فتوغلت غرباً حتى دحرت الجيش البيزنطي، واستمرت في
فترة فتوح متواصلة طيلة قرنين.
الفتح الأول:
مات السلطان بايزيد في الأسر وهو ينافح عن وجود الدولة العثمانية نفسها بعد
أن صرفه الداهية (تيمور لنك) عن فتح القسطنطينية بعد حصارها مدة ست سنوات
بعد أن كادت تتحقق النبوءة على يديه، ولكن شاء الله أن يخرج من نسله من يعيد
دولة آل عثمان إلى وحدتها وعافيتها، واستمر ذلك إلى أن جاء عهد الفاتح (محمد
الثاني) ففتح الله عليه القسطنطينية عام (857 هـ) (1453م) وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي: مدينة الإسلام.
وكان فتح تلك المدينة فتحاً على دولة آل عثمان كلها؛ إذ انتقلت به إلى طور
الدولة العالمية، فانطلق سلاطينها يضمون تحت حكمهم أطراف العالم الإسلامي
التي كانت مشتتة، وتمكن العثمانيون من توحيد الشام ومصر والحجاز وغيرها
تحت راية حكم واحد.
وأصبحت الدولة العثمانية حامية لبلدان العالم الإسلامي وجامعة لشتاتها، مما
حدا بالسلطان (سليم الأول) أن يعلن القسطنطينية عاصمة لدولة جامعة تمثل الخلافة
الإسلامية الرابعة [2] .
ثم تسارعت وتيرة التوسع العثماني تحت لواء الخلافة، وغدت قوة عالمية
مرهوبة الجانب، وقد استرعى هذا انزعاج الإمبراطوريات والممالك العالمية
الأخرى، وأرعبهم أن تكون للإسلام هذه القوة الفتية التي توشك أن تخرج أوروبا- لأول مرة في تاريخها - من غياهب الشرك وغيابات الوثنية!
إن أوروبا التي لم تشرق شمس التوحيد على قارتها يوماً بحيث تعم كل بلدانها
أبت إلا أن تحارب النور الذي أشرق في شرقها بفتح القسطنطينية بعد أن أطفأت
النور الذي أضاء غربها بفتح الأندلس، وقد تكالبت قوى الشر فيها وتربصت
بالدولة العثمانية لإيقاف مدها المتسارع؛ فالنصرانية الكاثوليكية في أوروبا تضامنت
مع النصرانية الأرثوذكسية في روسيا لتشكلا جبهة واحدة بالتعاون مع اليهود في
أوروبا لإيقاف ذلكم الكيان السياسي العالمي الإسلامي ثم إضعافه ثم إسقاطه،
والتحق بهذا التحالف الضال فريق من جماعات الردة الصريحة الشانئة للدين،
والمبغضة لقيمه وشرائعه ممن تسموا بأسماء المسلمين، وتسمموا بأفكار العداء لله
ورسوله والمؤمنين، وكأن هذا الثالوث الملوَّث قد تعاهد عهداً على أن يعيد إغلاق
(القسطنطينية) ويقفل أبوابها حتى لا تخرج منها مرة أخرى بيارق الأمل وبوارق
الضياء في أرض القارة الظالم أهلها.
التحول نحو الضياع:
لسنا بصدد التأريخ لمسيرة التقهقر التي دهت دولة آل عثمان، ولكن الذي
يهمنا هنا هو تتبع الدور المأفون الذي قامت ولا تزال تقوم به العصابات المناوئة
للدين والمتعاونة مع أعدائه ممن حق فيهم قول ربنا: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ
المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] [محمد: 26-28] .
ومما لا شك فيه أن عوامل الضعف والشيخوخة قد بدت على كيان الدولة
العثمانية في عقودها الأخيرة بما كسبت أيدي بعض سلاطينها، ولكن ذلك الداء كان
يمكن له أن يُداوى لولا حرص عصابات الردة التي ذكرناها على دفن (الرجل
المريض) بدلاً من علاجه.
ففي عام 1889م، وفي ذكرى مرور مائة عام على الثورة الفرنسية أسس
عدد من المشبوهين جمعية عرفت باسم: (الاتحاد العثماني) التي عرفت فيما بعد
بجمعية (الاتحاد والترقي) ، وبدأت نشاطها من باريس، ثم بدأت بتأسيس خلايا
انقلابية داخل الجيش، وفي الوقت ذاته كان الضابط الغامض مصطفى كمال الذي
لُقب بعد ذلك بـ (أتاتورك) يعني: (أبو الأتراك) ينشط داخل الجيش أيضاً من
خلال خلية (الوطن) التي أسسها، وبدأت تلك الخلايا تتحرش بالدولة، وتتناثر
وتتكاثر في محيطها كالجرذان المفترسة إذا اجتمعت على أسد جريح.
وتشكلت جماعات المعارضة العلنية للتنسيق مع اللجان السرية، بعضها في
الداخل وبعضها في الخارج، ولم يأت عام 1908م حتى كان لتلك الحركات وجود
منظم بدأ يسعى بكل إصرار لإطاحة السلطة وإسقاط الدولة، وهذا ما كان، فقد
بدأوا تمرداً عسكرياً ضدها من خلال الجيش الثاني الذي سيطروا عليه، وبدأ
الصراع يأخذ شكل الخلاف بين الجيش والسلطة المدنية؛ حيث أجبر الجيش
السلطان على تسليم السلطة إلى جمعية الاتحاد والترقي.
كان أعضاء جمعية الاتحاد والترقي حفنة لا تزيد عن ثلاثمائة شخص بين
حركيين مدنيين وقادة عسكريين، ولكنهم كانوا يحركون الألوف من الدهماء الذين لا
يرون أبعد من أنوفهم، مما أغرى (مصطفى كمال) بأن ينتزع هو زمام الدهماء
ليقود بنفسه ذلك القطيع إلى الهاوية، وبالفعل، غلبت على ذلك الشخص نزعته
الفردية الاستبدادية، واختلف مع جمعية الاتحاد والترقي، وبدأ ينظم عملاً خاصاً به، إلا أن الاتحاديين كانوا قد سبقوه بمراحل فانقضوا على الدولة وقاموا بثورتهم،
وتحفز مصطفى كمال منتظراً ما ستؤول إليه ثورة الاتحاديين، وراهن على إخفاقها، إلا أنها لم تخفق كمما توقع، بل انتشرت بفعل الرعاع الذين قاموا، لتأييدها هنا
وهناك، واستمرت فترة من الاضطرابات كانت كافية لأن يستفيق فيهما العقلاء بعد
أن صدمتهم الأحداث، وبدأ علماء الدين يدبرون لما يشبه الثورة المضادة، فنشطوا
في المساجد والمنتديات يحذرون من الاتحاديين، متهمين إياهم بالماسونية والإلحاد،
مما جعل الجنود البسطاء ينقلبون على ضباطهم المشاركين في الثورة ويقتلون أعداداً
منهم.
وهنا برز مصطفى كمال ليقدم نفسه منقذاً للاتحاديين حتى لا تضيع ثورتهم،
وتحرك بقوات تابعة له لإخماد الثورة الإسلامية المضادة، فأسكتها بالفعل، ثم
حصل الاتفاق على خلع السلطان عبد الحميد وسجنه في مدينة سالونيك مقر جمعية
الاتحاد والترقي، وقامت أحداث خارجية جرَّت إليها الفتن التي أثارتها البلدان
المجاورة لتركيا بغرض تشتيت شمل دولة الخلافة بعد خلع السلطان، وهنا لاحت
أمام مصطفى كمال الفرصة كي يظهر بمظهر (البطل المنقذ) الحريص على مصلحة
الوطن، وظلت صورته تتضخم حتى قامت الحرب العالمية الأولى، وورَّط
الاتحاديون تركيا فيها مراهنين على الحصان الخاسر (هتلر) ، وهزمت تركيا مع
ألمانيا، واحتل الحلفاء العاصمة والمواضع الحربية المهمة، ودخل الفرنسيون
والإنجليز إسطنبول، وبذلك تحطمت دولة الخلافة نهائياً وهي بيد الاتحاديين أدعياء
الترقي، وانفرط عقد الخلافة وأصبحت البلدان التابعة لها كالشياه التي مات راعيها
وهي بأرض مذئبة في ليالٍ مطيرة، وانسلخت أو سُلخت عن تركيا كل الدول التي
كانت تابعة لها تحت مظلة الخلافة، وشمل ذلك الدول العربية التي ساهمت في
هزيمة تركيا عن طريق (الثورة العربية الكبرى) التي مثلت أول انتفاضة فوضوية
للقومية العربية، وغدت تركيا قوة منهارة دون قيادة محترمة، تواجه مصير الدول
المهزومة الضعيفة التي يتحكم فيها أعداؤها المنتصرون الأقوياء.
وهنا تملص الاتحاديون من المسؤولية بعد أن (خربت مالطة) وحلوا جمعيتهم، وتفرقوا هاربين إلى الخارج تاركين تركيا تلقى مصيرها البائس، وبقي السلطان
الأسير المعزول بلا حول ولا طول، رغم البقاء الاسمي لدولة الخلافة، وبعد
الهزيمة الخارجية الكاملة. وقبل الهزيمة الداخلية الشاملة، برز الوجه الانتهازي
الكالح لأتاتورك مرة أخرى، ليظهر الشماتة في الاتحاديين والتشفي في المسلمين
بصورة لا تليق إلا بأحفاد اليهود الذين لم يبرعوا في شيء مثل براعتهم في التآمر
والمكر.
لقد طالب بأن يُخوَّل منصب وزير الحربية (لإنقاذ) ما تبقى من تركيا فكان له
ذلك، وعاد للظهور بمظهر (البطل المنقذ) وحمَّل السلطنة مسؤولية ما حدث لتركيا
(! !) ونصَّب نفسه قائداً للجماهير التي أغواها وخدَّرها بمقولة (الشعب مصدر
السلطات) وانتخبته تلك الجماهير المضلَّلة زعيماً مستقلاً عن السلطان فزادت بذلك
في غروره وطغيانه، وخطط أتاتورك عن طريق حكومته المؤقتة لإحداث انقلاب
شامل في تركيا، وبدأ بالقسطنطينية فنقل العاصمة منها إلى (أنقرة) في 23 إبريل
1920م، وانتخب أتاتورك رئيساً لما سُمي بـ (المجلس الوطني الكبير) . كل هذا
والأراضي التركية محتلة، وهو يؤدي ما رُسم له أو ما رسمه لنفسه من القيام
بأدوار البطولة ضد المحتل (الأوروبي) ! لقد رأى في المحتلون بعد مدة أنه لا
ضرورة لبقائهم ما دامت تركيا قد سقطت في أيدي أناس مخلصين لها! ومفتونين
بها مثل أتاتورك، فتم توقيع اتفاقية لوزان التي انسحب الحلفاء بمقتضاها من تركيا
ليتركوها ساحة خالية ليتفرد أتاتورك بها، ولكي يبدأ معها عصراً جديداً يعود فيه
بالقسطنطينية إلى ظلمات الفساد والإلحاد، ولم تعد هناك قوة تستطيع أن تعارض
تحول أتاتورك بالأتراك نحو الارتماء في أحضان أوروبا التي زعم أنه حررهم من
احتلالها.
وخطا أتاتورك خطوته المتوقعة، فأعلن الجمهورية التركية، ليكون أول
رئيس لها، ثم أصدر قراراً لاحقاً بتعيين (عصمت إينونو) رئيساً للوزراء، ليكون
ظلاً بجوار الصنم الذي أمسك بكل خيوط الدولة في يده، وقد أحس بعض رفاق
أتاتورك بأنه قد اتخذهم مطية فقط للوصول إلى مآربه، فبدؤوا الاعتراض عليه،
ولما استيقنوا أنه سيفتك بهم، انحازوا إلى الخليفة الصوري الأخير (عبد المجيد) ،
وعرضوا عليه أن يعلنوه سلطاناً دستورياً على تركيا، ولكن أتاتورك عاجلهم
وأصدر قراراً بإلغاء نظام الخلافة نهائياً!
وهكذا، ولأول مرة في التاريخ تُلغى (وليس تسقط) الخلافة الإسلامية، وعلى
يد من؟ ! على يد سليل اليهود [3] ، بعد أن هيأت له الأوضاع جمعية من الماسون
اليهود.
كانت الصدمة كبيرة وشديدة على المسلمين في تركيا والعالم الإسلامي بإلغاء
آخر كيان سياسي عالمي للمسلمين، ولكن حفيد اليهود لم تكفه هذه الصدمة؛ بل
أتبعها بصدمات أخرى كانت كلها تهدف إلى صبغ تركيا بصبغة الوثنية الأوروبية
ومحو آثار الصبغة الإسلامية، وكانت تحولاته قائمة على العسف والقهر، مخالفة
لسنن التدرج حتى في التحول للباطل.
بدأ أتاتورك من النهاية! ! فأمر بتغيير المظهر العام للشعب التركي، عن
طريق إلغاء الزي التركي ذي السمة الإسلامية بين الرجال، وأجبرهم على لبس
الأزياء الأوروبية ووضع القبعة الأوروبية على الرأس بدلاً من العمامة أو
(الطربوش) !
ثم اندفع بشكل فج ليحول بين الشعب وبين عاطفته الدينية الموصولة بعلماء
الدين والمشايخ وأصدر أوامره المباشرة إليهم بأن يغلقوا الزوايا والتكايا التي تقام
فيها الدروس وتدار فيها الأوقاف، وقال في خطاب ألقاه في 30 أغسطس عام
1925م: على المشايخ أن يغلقوا زواياهم وتكاياهم عن طيب خاطر وإلى الأبد،
قبل أن أدمرها فوق رؤوسهم.
ثم تحول الطاغية تجاه القضاء، فقرر في عام 1926م اعتبار القانون
السويسري أساساً للتشريع المدني في تركيا، بحيث يشمل ذلك الأحوال الشخصية
من زواج وطلاق وميراث ونحو ذلك، وتضمنت قوانين الردة المستمدة من تراث
النصرانية وافتراء العلمانية مواد تشتمل على استحلال صريح للحرام وتحريم
صريح للحلال بما لا يمكن أن تبقى معه شبهة في بقاء من يقبلونها داخل الملة
الإسلامية.
تضمنت تلك القوانين إباحة زواج المسلمة من غير مسلم ومنعت تعدد
الزوجات، وأباحت الزواج من المحرمات بالرضاع، وفرضت المساواة بين الذكور
والإناث في الميراث، وحرمت الطلاق إلا في أضيق الحدود كما هي الحال لدى
النصارى، وجعلت التبني جائزاً حتى من ولد الزنا، وفرضت للزانية نفقة على
شريكها في الحرام إذا كان لها منه ولد!
ولما كانت المرأة أساس الصلاح أو الفساد في المجتمعات، فقد أولاها الذئب
الأغبر - كما كان يلقب - اهتمامه الخاص، قاصداً تجريدها من أسباب الكرامة
وجلباب الحياء، ففي نهاية عام 1926م جرى فرض السفور على النساء فرضاً -
وبدون تدرج أيضا- فخالف بذلك طبائع البشر فضلاً عن شرائع الرسل، وأصدرت
المجالس البلدية قراراً بحظر لبس الجلباب على السيدات، وإلزامهن بلبس الأزياء
الأوروبية، ونص القرار على أن كل امرأة تخالف ذلك يتعرض وليها للاستجواب
والعقاب!
ثم التفت جبار تركيا نحو مناهج التعليم ليقلبها رأساً على عقب في مرحلتين:
الأولى منهما تضمنت إلغاء الحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية،
واستبدال الحروف اللاتينية بها بشكل إلزامي، وبقرار حكومي، ثم أمعن في
الجبروت، وأمر بكتابة القرآن - الذي لم يستطع إلغاءه - باللغة التركية، وكذلك
صدرت الأوامر بتلاوته في الصلاة الجهرية باللغة التركية! ! فلما تجاسر بعض
العلماء على معارضته في ذلك قال لهم ألا يفهم ربكم اللغة التركية [4] .
ومن إفك ذلك الصنم أنه حوَّل مسجد أيا صوفيا إلى مزار سياحي، وحوّل
المشيخة العامة للإفتاء إلى مدرسة للبنات!
وإمعاناً في قلب حياة المسلمين رأساً على عقب، أصدر أخو الإجرام قراراً
في عام 1935م بتبديل يوم العطلة الرسمي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد، ولم يكن
غريباً عليه بعد ذلك أن يصدر مرسوماً بإلغاء المادة الأولى من الدستور التي تنص
على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام!
وبهذا يرى أبو الأتراك العلمانيين أنه صحح (غلطة) تاريخية في زعمه وقع
فيها سلاطين الخلافة الذين جعلوا من الإسلام واجهة لتركيا.
لقد قال نصاً: إن غلطة آل عثمان كانت نسيانهم لتركيبتهم بانتمائهم للجامعة
الإسلامية ونسيانهم جنسيتهم، فكانت النتيجة أن تركيا ارتضت الذل والأسر
وتدحرجت إلى هدف حقير، جعلها مستعبدة في سبيل الله [5] .
يقظة حراس الكمالية:
إن هذه (الغلطة) التي تحدث عنها الألد الأثيم، هي التي تفسر لنا ما يحدث
في تركيا - وفي غير تركيا - منذ أيامه وحتى أيامنا هذه، فكل عدو متربص من
لدن أتاتورك وحتى الآن يقوم بالدور نفسه للحيلولة دون وقوع (الغلطة) التي لا
يريدون الوقوع فيها مرة أخرى، وهي السماح بالتمكين للدين في بلاد المسلمين [6] .
والظاهر أن أتاتورك قد خطط لأن يظل حاكماً لتركيا من قبره بعد قصره
ولهذا؛ فقد أرسى قواعد صارمة تمكن الجيش من السيطرة على الحياة في تركيا
وخلع عليه وصف (حارس الكمالية) ، وقام هذا الجيش بعدد من الانقلابات منذ مات
مؤسسه، والمتأمل فيها يجد أنها هدفت في الأساس إلى إعادة تركيا إلى العلمانية
المعادية للدين كلما كادت أن تقترب - لا من الإسلام - بل من العلمانية المهادنة
للدين؛ فالانقلاب على حكومة (عدنان مندريس) عام 1960م كان بذريعة أنه حاد
عن مبادئ أتاتورك، وأوجد متنفساً للحركة الإسلامية في الخمسينيات، ولهذا؛ فقد
قطعوا أنفاسه وقتلوه شنقاً، وحاول قائد الانقلاب (جمال جورسيل) أن ينفذ مشروع
تتريك الإسلام، وبعد سنوات من القهر، ومراحل من التنازع الحزبي بعد الاستبداد
العسكري، قام الجيش بانقلاب آخر في مارس 1971م، لإعادة البلاد إلى
الاستقرار تحكم فيه المبادئ الكمالية، وقام الجيش بانقلاب آخر ثالث 1980م
بذريعة إعادة (النظام) إلى البلاد، وكان هذا النظام قد خفت قبضته حتى سمحت
لأعداء الكمالية بالبروز، فانتعشت التيارات التي تمثل المسلمين، وكاد حزب
(السلامة الوطني) بزعامة أربكان أن يحقق وجوداً حقيقياً، فأراد قائد الانقلاب
الجنرال (كنعان ايفرين) أن يلقن الخارجين عن الديانة الكمالية العلمانية درساً قاسياً
فاعتقل نحواً من 130 ألف شخص من اتجاهات مختلفة، وصدرت أحكام بالإعدام
في حق 3600 شخص.
ثم جاء تورجوت أوزال الذي كان يحمل نوعاً من العاطفة الإسلامية، وترأس
الوزارة وسمح مرة أخرى للأحزاب أن تنشط، وغض الطرف عن نشاط حزب
أربكان فدبت فيه الحياة مرة ثانية، وظل يحرز نجاحات متتابعة بعد أن أسس
(حزب الرفاه الإسلامي) خلفاً لحزب السلامة الوطني، وسجل حزب أربكان قفزات
عالية في الانتخابات البلدية، جعلته يترأس بلدية إسطنبول نفسها وبلدية العاصمة
أنقرة، وكان الفوز الأكبر في انتخابات عام 1995م عندما فاز حزب الرفاه للمرة
الأولى بنسبة 21. 3% من مجموع الأصوات، مما أهله لأن يشكل وزارة ائتلافية
يرأسها زعيم إسلامي لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، وبقدر النجاح الذي
أحرزة حزب الرفاه، بقدر ما كانت شدة الغيظ تغلي في صدور حراس قبر أتاتورك، إنهم لم يُقدموا هذه المرة على القيام بانقلاب عسكري، حتى لا يثيروا حفيظة
المجموعة الأوروبية التي ترى في الانقلابات مظهراً من مظاهر التخلف الشرقي،
ومن ثم فقد يزداد عنادها - الزائد أصلاً - في رفض إدخال تركيا إلى الاتحاد
الأوروبي، ولهذا فقد عمدوا إلى إسقاط أربكان من الأعين قبل أن يسقطوه من فوق
كرسي الوزارة، وظلوا يضعون العراقيل في طريقه داخلياً وخارجياً، ويجبرونه
على طأطأة الرأس وتقديم التنازلات، وأصرت المؤسسة العسكرية على (حرق)
أربكان ومبادئه قبل إخراجه من السلطة، وبالفعل اضطر أربكان أن يقدم تنازلات
مخجلة انتقلت من مستوى الهبوط إلى سفح السقوط، ومع ذلك لم يدعوه، وقبل أن
يقدم استقالته في 18 يونيو 1997م كان مجلس قادة الأركان قد عرضوا على مجلس
الأمن القومي التركي إجراءات من ثمانية عشر بنداً، وطالبوا بإلزام حكومة أربكان
بتنفيذها وتتضمن هذه الإجراءات خطوات جريئة على طريق العودة بالحياة
الإسلامية في تركيا إلى الوراء، ومن البنود التي طُولب أربكان بتنفيذها: منع أي
دعوة مؤيدة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وفرض الرقابة على الإعلام الإسلامي
وتشديدها، وحظر ارتداء الحجاب على المرأة ومعاقبة من تخالف ذلك، ووضع
الإجراءات الكفيلة بالحد من التحاق الإسلاميين بأجهزة الدولة، ومراقبة الموارد
المالية للجمعيات الدينية، وتجريم ممارسة أي نشاط سياسي بدافع ديني، وإغلاق
مدارس (الأئمة والخطباء) التي تُعنى بتحفيظ القرآن وتعليم العلوم الشرعية، ومنع
الأحزاب غير الدينية من ضم عناصر دينية إليها، وحظر التمويل للمشروعات
الخيرية من أي مصادر دينية في الخارج، وإيقاف العمل في مشروع إنشاء مسجد
كبير في اسطنبول، والبدء الفوري في فصل كل العناصر من ذوي الانتماء
الإسلامي في الجيش، وفصل حكام الولايات المتدينين، وأخيراً تطبيق المادة 174
من الدستور الخاصة بعدم التعرض للمبادئ التي أرساها الرئيس التركي الأول
للجمهورية التركية (كمال أتاتورك) !
وهذه البنود - كما نرى - أشبه ما تكون، بالنقاط التي يحتويها عادة (البيان
الأول) لقادة انقلاب ثوري أرعن، ولكن ذلك الانقلاب لم يقع هذه المرة عسكرياً،
بل جاء انقلاباً مدنياً؛ متسلحاً بالدستور والقانون، ولهذا وجد أربكان أنه لا جدوى
من المقاومة، وفضل الانسحاب وقدم الاستقالة، ومع ذلك لم يتركوه بل لاحقوه
بالاتهامات المتطلبة لمحاكمته بعد أن حلوا حزبه، وفككوا فعالياته!
وحاول الإسلاميون أن يعودوا من باب آخر عن طريق حزب آخر هو (حزب
الفضيلة) ولكن حماة الرذيلة بدأوا أيضاً في ملاحقته، ولا تزال تجري - حتى وقت
كتابة هذه السطور- المساعي لحله وإلحاقه بسلفه.
ونعود إلى صاحبة الحجاب التي عوت عليها الذئاب، فنقول لها،
وللقسطنطينية الأسيرة: سيأتي يوم - وهو قريب - تعود فيه القسطنطينية إلى
الفتح ثانية - بإذن الله - لأن الذي بشَّر بفتحها أول مرة ففتحت، بشر في نبوءة
أخرى بفتحها مرة أخرى؛ فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل: أي
المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية، أو رومية؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- مدينة هرقل تفتح أولاً [7] يعني القسطنطينية ومجموع الأحاديث الواردة في
ذلك تفيد أن هناك فتحاً آخر بعد الفتح الأول الذي تم في عهد محمد الفاتح.
ويوم تعود القسطنطينية مدينة إسلامية، فعندها ستدق أعناق أحفاد اليهود
المجرمين، وتندك حصون أولياء النصارى الظالمين، وما ذاك الذي نسمع به من
صراع متزايد الاحتدام بين العلمانية المرتدة والإسلام الناهض في تركيا إلا تقدمة
وإرهاصاً ليوم الفتح القريب ... غير أن الفاتح هذه المرة لا نعرفه، ولكنَّ بين يدي
أيامه جنداً، يمهدون الطريق لمجيئه، ولا نظن دعاة الإسلام الصادقين في تركيا
اليوم إلا مرحلة على طريق الفتح القادم ... فتح القسطنطينية.
فاللهم افتحها للمسلمين، وافتح كل بلد أغلق دون المسلمين. آمين.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين، برقم (18478) (4/335) ، ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي عبيدة بشر الغنوى الخثعمي، وقد ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة برقم: 878.
(2) بعد الخلافة الراشدة والخلافة الأموية والخلافة العباسية.
(3) يُنسب مصطفى كمال أتاتورك إلى يهود الدونمة، وهم طائفة من اليهود خرجوا من الأندلس بعد استيلاء النصارى عليها وتظاهروا باعتناق الإسلام، بينما كانوا يمارسون طقوسهم في الخفاء، ولا يتزاوجون من غير الدونمة، ولمزيد من التوسع انظر: كتاب (يهود الدونمة) للدكتور محمد عمر، مؤسسة الدراسات التاريخية، وراجع دور يهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية في كتاب
(الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية) د مصطفى حلمي، وكتاب (الأفعى اليهودية في بلاد الإسلام والمسيحية) تأليف عبد الله التل.
(4) السيف والهلال، تأليف رضا هلال.
(5) الحركة الكمالية والعلمانية في تركيا، حسين عثمان الطنوبي، ص 312.
(6) الغريب أن كثرة من الزعماء في العالم الإسلامي اتخذوا من أتاتورك مثلاً أعلى! فمنهم من صرح بذلك ومنهم من لم يصر ح، وممن صرحوا بذلك الرئيس الراحل أنور السادات، الذي قال في كتاب له بعنوان: (يا بني هذا عمك جمال) وكان يُدرَّس بالمراحل الثانوية بمصر: وإذا سألت يا ولدي عن مثلي الأعلى في هذه الحياة، فسأقول لك: إنه مصطفى كمال أتاتورك! .
(7) رواه أحمد في مسنده برقم 6607، ورواه الدارمي في المقدمة 486.(139/102)
حمَّى سنة 200
- الحلقة السادسة -
الألفية الثالثة … وهواجس الحرب الثالثة
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت للنظر أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية
التي يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود
أفعال قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب
الوقت من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها - إن شاء الله - في
حلقات منفصلة.
- البيان -
هل أصبحنا نعيش عصر (الأيام الأخيرة) أيام ما قبل النهاية؟ !
وهل صحيح أن حرباً عالمية ثالثة لا بد أن تنشب مع بدايات القرن الجديد؟
نحن - المسلمين - نقول: العلم عند الله، لأنه [لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ
والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ] [النمل: 65] ، فالتحديد والقطع جرأة على الغيب، نبرأ
بأنفسنا عنه ونبرأ إلى الله منه، خاصة إذا تعلق بعلم الساعة التي [عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي
لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلاَ هُوَ] [الأعراف: 187] ، أما أماراتها فأمر يدور بين الظن
الراجح والظن المرجوح.
لكن العتاة الغلاة من طوائف اليهود والنصارى يعتقدون بجزم ويعملون بحزم
لهذه الأيام (الأخيرة) التي يربطونها بقدوم الألفية الثالثة؛ حيث يتوقعون أن تبدأ فيها
نهاية أيام (العامة) ، لتأتي بعدها أيام (الخاصة) أتباع المسيح القادم للخلاص.
ونحن - المسلمين - لا يهمنا من جزمهم أو حزمهم في معتقدهم هذا إلا ما
يمكن أن يترتب عليه من سياسات وخطوات يمكن أن يقدموا عليها بزعم التهيئة
لتلك الأيام الأخيرة [1] استدعاءً لعلاماتها واستجلاءً لأماراتها.
ففي مسيرة منتظمة في طريق الاستدراج منذ بداية القرن الميلادي الحالي،
نراهم يزعمون أنهم نجحوا في (إنجاز) علامات مهمة من أشراط الأيام الأخيرة،
يأتي في طليعتها ما يعدونه أولى وأبرز العلامات وهي: إعادة اليهود إلى أرض
بيت المقدس! ولكن تلك العلامة ستتبعها في معتقدهم علامات أخرى، وسيعملون
أيضاً لإنجازها وإخراجها إلى حيز الوجود، وقد ظهر لنا من خلال الحلقات السابقة
مدى سعيهم لهدم الأقصى وتسارعهم لبناء الهيكل، وإعلانهم لظهور البقرة الحمراء، وتصميمهم على إسكان القدس بالمتشددين الدينيين وغير ذلك.
ولكن تبقى هناك علامة أخرى تبرزها مصادرهم العقدية ويؤمنون بحتمية
حدوثها عندما تبدأ الأيام! الأخيرة في التوالي، وتتمثل في (إقامة) قيامة صغرى
تهيئ للقيامة الكبرى! وتأويل هذا يجيء باشتعال أو إشعال حرب مدمرة تهلك فيها
غالبية سكان الأرض، ففي (الأيام الأخيرة) لا بد أن تقوم حرب بسبب (إسرائيل)
وعلى أيدي أحباب (إسرائيل) وعلى أرض (إسرائيل) ! ومن أجل (إسرائيل) !
تقول التوراة التي في أيديهم: (في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إسرائيل من
الأمم، سوف تتسبب في أمر ما، هذا ما سوف يحدث. إني، سوف أضع صنارة
في أفواه القوى المؤتلفة) وجاء فيها أيضاً: (بعد أيام كثيرة تُفتقد في السنين الأخيرة، تأتي إلى الأرض المستردة من السيف، المجموعة من جبال إسرائيل التي كانت
خربة للذين أخرجوا من الشعوب وسكنوا آمنين كلهم، وتصعد وتأتي كزوبعة،
وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرون معك) .
وهذه الجيوش الكبيرة المعادية لـ (إسرائيل) وحلفائها يطلق عليهم في التوراة
جوج وماجوج، وهم سيأتون إلى الأرض المقدسة في يوم من الأيام الأخيرة من
جهة الشرق كما تتحدث التوراة: (ويكون في ذلك اليوم يوم مجيء جوج على أرض
إسرائيل، يقول السيد الرب: إن غضبي يصعد، وغيرتي في نار سخطي، تكلمت
أنه في ذلك اليوم يكون رعش عظيم في أرض إسرائيل، فيرعش أمامي سمك
البحر وطيور السماء ووحوش الحقل والدابات التي تدب على الأرض، وكل الناس
الذين على وجه الأرض، وتندكُّ الجبال، وتسقط المعاقل، وتسقط كل الأسوار إلى
الأرض، وأستدعي السيف عليه في كل جبالي، يقول السيد الرب: فيكون سيف
كل واحد على أخيه، وأعاقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى
الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة بَرَد عظيم وناراً وكبريتاً) [2] .
أما التلمود الذي فسر به الحاخامات القدامى نصوص التوراة فقد جاء فيه ما
يدل على أن (الأيام الأخيرة) ستشهد أحداثاً يكون اليهود محورها؛ فقد جاء فيه:
قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم،
ويبقون سبع سنين يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر وحتى البروتوكولات
التي خُطت في العصور المتأخرة تردد ذاك الصدى: إننا نقرأ في شريعة الأنبياء
أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على
القيام بهذا العمل، إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم
الجديد لن يكون كفؤاً لأيد عريقة كأيدينا.. إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة
مقهورة لم ير العالم لها مثيلاً من قبل، والوقت متأخر بالنسبة إلى عباقرتهم [3] .
هكذا تتحدث مصادر اليهود عن معركة الأيام الأخيرة. أما النصارى، فإن
الإنجيل الذي بأيديهم يزيد في التفصيل عن هذه المعركة، بل ينفرد عن المصادر
اليهودية بتحديد مكانها الذي ستقع فيه، إنه سهل (مَجِدُّو) بفلسطين حيث ستنشب
أكبر معركة في التاريخ في وقت العودة الثانية للمسيح.
ففي سفر الرؤيا (الإصحاح 16 /15) ، جاء على لسان عيسى - عليه السلام- وهو يصف وقت مجيئه المفاجئ: ها أنا آتي كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ
ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عُريته، يجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية
(هَرْمَجِدُّون) .
وهكذا نرى أن الاعتقاد بوقوع تلك المعركة، هو اعتقاد مشترك بين اليهود
والنصارى، فاليهود يؤمنون بها وبأن خلاصهم سيأتي بعدها، أما النصارى
فيؤمنون بالمعركة ذاتها ولكن على أن خلاصهم هم سيأتي بعدها، ولكن هذا
(الخلاص) الموهوم عند الأمتين الضالتين، لن يتم - للأسف كما يعتقدون - إلا
بالتخلص من جُل سكان الأرض عن طريق تلك الحرب المدمرة: الهرمجدون.
وأصل كلمة (هرمجدون) عبرية، ومعناها الحرفي: جبل مجيدو، فكلمة
(هار) تعني في العبرية: جبل، فإذا أضيفت إلى اسم الوادي صار (هارمجيدو)
التي دمجت في النصوص القديمة إلى (هرمجدون) .
وأرض مجدو تبعد 55 ميلاً عن تل أبيب، وهي في موقع يبعد 20 ميلاً
شرق حيفا، على بعد 15 ميلاً من شاطئ المتوسط، وترتبط في الاعتقاد القديم
بأنها الأرض التي كان الفاتحون القدامى يعتقدون أن أي قائد يسيطر عليها يمكنه أن
يصمد أمام أعدائه مهما كانت أعدادهم، ويعتقد اليهود والنصارى أن جيوشاً من
مئتي مليون جندي [4] سيأتون إلى مجدو للبدء في خوض حرب نهائية،
ونصوصهم تدل على أن هذه المعركة سوف تتورط فيها كل الأمم، أي ستكون
حرباً عالمية ولكن أوارها سيشتعل أولاً في منطقة الشرق الأوسط وفي فلسطين
بالذات. والنصارى يعتقدون أيضاً أن تلك الحرب سوف تستغرق مدة سبع سنين،
وهي مدة كافية تعطي لليهود فرصة كي يروا بأنفسهم كيف ينتقم الله من أعداء
المسيح مما لا يدل على صدقه فيؤمنوا به. ويعتقدون أيضاً - بمقتضى الإنجيل أنه
ستمر سبعة أشهر حتى يتمكن (بيت إسرائيل) من دفن جثث الضحايا وينظفوا
الأرض منها.
وتبقى طائفة النصارى الإنجيليين أو (المسيحيين الصهيونيين) المتزايدة النفوذ
في أمريكا اليوم، تبقى هي صاحبة الاهتمام الأول بمعتقد (الهرمجدون) والمجيء
الثاني الوشيك للمسيح.
الإنجيليون وجيل النهاية:
بعد قرون طوال من تبديل المحرفين المخرفين للتوراة والإنجيل، جاء جيل
من المخربين ليدعوا أنهم جيل النهاية الذي سيشهد (نهاية التاريخ) وهؤلاء تمثلهم
في الأساس جماعات الإنجيليين في أمريكا وكندا وإنجلترا الذين يقدر عددهم في
الولايات المتحدة وحدها بنحو 90 مليون نسمة. إن الشيطان لم يعثر على صنف
من أتباعه أنسب من غلاة طائفة البروتستانت الإنجيلية النصرانية أدعياء التمسك
الحرفي بالتوراة والإنجيل، فهؤلاء يرون أنهم سيعدُّون مسرح الدنيا لتمثيل الفصل
الأخير من عمرها؛ فالهرمجدون أو (الهولوكست النووي) أو الحرب العالمية الثالثة
هي المعركة المنتظرة التي يؤمن الإنجيليون النصارى بحتمية بل بضرورة وقوعها، ولهذا يروجون لها على أوسع وأعلى المستويات في الغرب، وقد أقنعوا بها
الرئيس ريجان نفسه حتى تكاثرت التصريحات الصادرة عنه التي تدل على إيمانه
بحتمية وقوعها قبل انقضاء هذا الجيل، فقد نشرت مجلة (سان رييجو مجازين) في
أغسطس من عام 1985م مقالاً لـ (جيمس ملز) الذي كان رئيساً لمجلس شيوخ
ولاية كاليفورنيا قال فيه: إن ريجان قال له أثناء مأدبة عشاء حضرها: إن كل
النبوءات التي يتعين تحقيقها قبل معركة مجدو قد حدثت، والفصل 38 من سفر
حزقيال يقول: إن الله سيأخذ إسرائيل من وسط الكفار بعد أن يكونوا مشتتين، ثم
يلم شملهم مرة أخرى في أرض الميعاد، وقد حدث هذا بعد قرابة ألفي سنة، ولأول
مرة في التاريخ فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدو والمجيء الثاني للمسيح.
وكلما اقترب قدوم الألفية الثالثة ازدادت وتيرة الصياح عن الحرب العالمية
الثالثة؛ فقد صدرت في السنوات الأخيرة العديد من المؤلفات التي تتحدث عن هذه
الحرب، ولاقى بعضها إقبالاً منقطع النظير، منها كتاب: (دراما نهاية الزمن)
لمؤلفه (أو ترال لوبرتس) وبيعت منه ملايين النسخ، وكتاب: (الكرة الأرضية،
ذلك الراحل العظيم) من تأليف (هال لندسي) وقد بيعت منه نحو 18 مليون نسخة،
ومؤخراً صدر كتاب على الشاكلة نفسها بعنوان: (أسرار نهاية العالم) ، وقد ألفه
عدد من العلماء، وهم الدكتور الفرنسي (لرجان بير) المتخصص في سيمولوجيا
الانثربولوجي والدكتور الإنجليزي (ديفيد) المتخصص في مجال المعلومات،
والدكتور اليوناني (ديمتري) المتخصص في علم اللغويات، والدكتورة (ميريام)
الإسرائيلية المتخصصة في دراسة اللاهوت، وقد استنبطوا من سفر يوحنا في
الإنجيل مادة كتابهم، وجاء في مقدمة الكتاب: إن حضارتنا هذه ستكون ضحية مرة
أخرى لجنون حرب عالمية ثالثة لن تستغرق كثيراً؛ لأن الأسلحة الموجودة الآن
نووية، وستحرك هذه الحرب (يأجوج ومأجوج) الذي تمثلهم الصين في هذا العصر
بما تملك من ترسانات نووية موجهة نحو الغرب، ويتوقع أن يفوق هذا الكتاب ما
سبقه من كتب في شدة الإقبال وذيوع الصيت. وإلى جانب ذلك تقدم السينما في
الغرب كل مدة أفلاماً مرعبة تصور ما يمكن أن يحدث للعالم إذا نشبت الحرب
العالمية الثالثة، منها فيلم: (الشتاء النووي) الذي عُرض في بداية التسعينات وأثار
رعباً واسع النطاق. أما في نهاية التسعينات فقد نشرت صحيفة نيوزويك الأمريكية
في منتصف مايو 1999م، أن دور السينما الأمريكية ستبدأ في 19 من الشهر نفسه
عرض ما أطلق عليه (فيلم القرن) وهو بعنوان: (الشبح ... ظاهرة نهاية القرن
العشرين) وقالت الصحيفة: إن ميزانية الفيلم قدرت بـ 115 مليون دولار،
وتوقعت الصحيفة أن يُحْدث الفيلم دوياً غير مسبوق في تاريخ السينما! والمشكلة
هنا أن أجواء الحرب يمكن أن تصنع الحرب.
ولا ندري هل هذا الزخم الإعلامي الضخم هو المسؤول عن اللوثات الدينية
(الأخروية) في أمريكا أم أن تلك اللوثات هي التي تصنع ذلك الزخم؟
على أي حال فإن التيار الإنجيلي البروتستانتي الذي يطلق على نفسه:
(التحالف المسيحي الصهيوني) أصبح يقود حركة مد ديني متنامٍ في الولايات
المتحدة، وبات لا يكتفي بالتدخل في السياسة؛ بل يطمع في توجيهها، ويطمح إلى الإمساك بزمامها. وللتذكير؛ فإن هذا التيار هو الذي انتخب الكونجرس الأمريكي عام 1994م وسيطر على أغلبيته لصالح الحزب الجمهوري، ولما تباطأ هذا الحزب في التنفيذ الشامل لكل برامجهم الموجهة أعلنت كتلتهم المسماة بـ (الائتلاف المسيحي) احتجاجها، وحذرت الحزب بأنه لن يحظى ثانية بتأييدهم في انتخابات الكونجرس القادمة، وأمام هذا التهديد أذعن الحزب الجمهوري لمطالب (الائتلاف المسيحي) الذي سحب تهديده. وقد ظهر أثر وقوفه مع الحزب مرة أخرى في انتخابات نوفمبر من عام 1998م التي فاز بها الجمهوريون بأغلبية ساحقة كان سببها التأييد القوي من الائتلاف المسيحي الصهيوني، ويكرر هذا الائتلاف لعبته، فيتوعد الحزب الجمهوري بالتخلي عنه في انتخابات عام 2000م إذا لم يضع برامجهم الدينية موضع التنفيذ [5] ، بل هدد أحد زعماء الائتلاف بنسف الحزب الجمهوري انتخابياً إذا تخلى عن برنامج الأصوليين (الإصلاحي) !
والائتلاف المسيحي - كما يبدو للمتابع - لن يدع فرصة انتخابات عام ألفين
تفوته؛ فانتخابات الألفية لا بد أن يحصد ثمرتها (الألفيون) ولهذا؛ فإن مؤسس
الائتلاف المسيحي (بات روبتسون) قد بدأ من الآن في إعداد حملة ضخمة لضمان
سيطرة الأصولية الأمريكية على انتخابات القرن الحادي والعشرين التي ستأتي
بالحكومة الأولى في الألف الثالثة، وقد سبق لروبتسون أن قاد حملة الحزب
الجمهوري عام 1988م، وهو من الأصدقاء الشخصيين لكل من ريجان وبوش،
بل إن تكتل الأصوليين الذي يتزعمه هو الذي جاء بالرئيس ريجان ليضعه على
رأس أكبر دولة في العالم، وكان الائتلاف مسانداً قوياً لجورج بوش من بعده،
وعندما حصلت الانتخابات التي جاءت بكلينتون مرشح الحزب الديمقراطي، كان
منافسه فيها (بوب دول) مرشح الحزب الجمهوري، ولكن (دول) لم يفلح في كسب
تأييد الأصوليين الإنجيليين فتخلوا عنه فسقط [6] ، وجاء كلينتون الذي أثبت أنه
أصولي أكثر من الأصوليين في تأييده للإسرائيليين رغم انتمائه للديمقراطيين.
ويستعد الإنجيليون من الآن لخوض حملة رئاسية عنيفة وفاصلة من أجل
تسليم زمام السلطة في أمريكا إلى رئيس أصولي إنجيلي أو تابع للأصوليين
الإنجيليين في انتخابات عام 2000، وقد بدأ زعيم (الائتلاف المسيحي) روبتسون
هذه الحملة باستعدادات وصفها المراقبون بأنها (أسطورية) !
فقد نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز في 12 /3 /1999م، أن القس
الأمريكي (بات روبتسون) تعهد بإطلاق حملة ميزانيتها 21 مليون دولار لتوجيه
الناخبين الأصوليين ودفعهم إلى مراكز الاقتراع في انتخابات عام 2000 للرئاسة
ومجلس الكونجرس، وتقضي خطته الانتخابية بتجنيد مليون و 500 ألف حركي
لضمان صب أصوات 15 مليون ناخب في خانة المرشحين الأصوليين اليمينيين،
وفي سياق إعلانه عن الحملة ذكر القس الأمريكي أن الحركيين التابعين لتحالفه
سيُكلَّفون بتوزيع 75 مليون دليل انتخابي خلال الحملة المقبلة، وسيتحركون سياسياً
في 100 ألف كنيسة. أما عن المسائل ذات الاهتمام التي سيركز عليها في حملته
فقد قال القس: إن الائتلاف المسيحي مهتم أساساً بالمسائل الدينية التي تواجه أمريكا، وخارجياً فإن أشد ما يزعجه هو حصول الصين [7] على أسرار تكنولوجية نووية
أمريكية.
ولا يستبعد أن يرشح هذا القس نفسه شخصياً في الانتخابات الرئاسية لعام
2000، فقد سبق أن عزم على ذلك في الانتخابات الرئاسية عام 1986م، وبالرغم
من أنه لم يكن يمتلك ما يمتلكه اليوم من إمكانات، فقد علقت صحيفة نيويورك
تايمز وقتها على الفرص الكبيرة المتوافرة أمامه للفوز إذا مضى في عزمه فقالت:
إن هناك 24 مليون مشاهد للمحطة التلفزيونية المسيحية التي يسيطر عليها (بات
روبتسون) ، وإن احتمال ترشيحه يستند إلى لوائح كبيرة من المساهمين والممولين،
وكذلك على إقبال كبير من المشاهدين يفوق عددهم عدد قراء صحف التايم
ونيوزويك ونيويورك تايمز ولوس أنجيلوس تايمز والواشنطن بوست مجتمعة!
وهذا (الملك) النصراني غير المتوج يؤمن إيماناً مطلقاً بإسرائيل، وبأنها المحور
الذي تدور حوله أحداث (الأيام الأخيرة) يقول: إن إعادة ميلاد إسرائيل، هو
الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية العالم قد بدأ، كما أنه مع مولدها؛ فإن
بقية التنبؤات ستتحقق بسرعة [8] .
الإنجيليون والهرمجدون:
الإنجيليون حرفيون، ولهذا فهم يؤمنون حرفياً بحديث التوراة والإنجيل عن
معركة النهاية بكل ما فيها من تفصيلات مكانية وزمانية وما يتعلق بها من وقائع
وأسماء أشخاص وزعماء وبلدان وبحار وأنهار وأشجار؛ فليس هناك - في
اعتقادهم - معنى ظاهر وآخر باطن في نصوص الكتابيْن، ولهذا؛ فإن حديث
التوراة والإنجيل عن محاربة أنصار المسيح لأعدائهم بالسيف والرمح والخيل لا
يدل على شيء آخر غير فناء الحضارة المادية المعاصرة وعودة الناس إلى الحياة
البدائية أو قريب منها! !
والنصوص الدينية التي استعرضنا بعضاً منها، تمثل هواجس دافعة، تؤز
بها شياطين الجن أتباعها من شياطين الإنس ليرسما سوياً معالم الصورة المأساوية
لإنهاء خلافة الإنسان في الأرض؛ والمطلع على تصريحات رموز وأعضاء هذا
التيار الإنجيلي (المتدين) يشعر بأنه يسمع الشياطين تتحدث على ألسنة البشر؛
فعندما سألت الكاتبة الأمريكية (جريس هالسيل) أحد هؤلاء الإنجيليين عن السبب
في أن إله الرحمة والسلام يحب - كما يزعمون - أن تقوم حرب نووية مدمرة قال: (يجب أن نتذكر أن الله هو الذي عرَّف الإنسان بصناعة وإنتاج هذه القوة المدمرة؛ فهي ليست جديدة على الله، ولن تستعمل دون مشيئته [9] .
ويقول (هال ليندسي) في كتاب له بعنوان: (العالم الجديد القادم) : فكِّروا فيما
لا يقل عن 200 مليون جندي من الشرق، مع ملايين أخرى من قوات الغرب
يقودها أعداء المسيح ... إن عيسى المسيح سوف يضرب أولاً أولئك الذين دنسوا
مدينة القدس، ثم يضرب الجيوش المحتشدة في (هرمجدون) فلا غرابة أن يرتفع
الدم إلى مستوى ألْجِمَة الخيل مسافة 200 ميل من القدس، وهذا الوادي سوف يملأ
بالأدوات الحربية والحيوانات وجثث الرجال والدماء! ! وأضاف: إن الأمر يبدو
وكأنه لا يصدق! إن العقل البشري لا يستطيع أن يستوعب مثل هذه اللاإنسانية من
الإنسان ضد الإنسان [10] ، ومع ذلك فإن الله يُمكِّن طبيعة الإنسان من تحقيق ذاتها
في ذلك اليوم!
إذن؛ فالحرب الثالثة عندهم ليست مجرد أمل ينتظر، وإنما هي قدر لا بد من
الرضى به، بل والسعي إليه في نظر هؤلاء المهاويس، أما ما يسمى بـ (المساعي
الدولية للتعايش السلمي) فإنها في نظر الإنجيليين ضرب من تحدي الإرادة الإلهية.
ألقى (جيمي سواجارت) القس الأمريكي الإنجيلي الشهير موعظة في 22
سبتمبر1985م تحدث فيها، - وكأنه يقوم بمشهد تمثيلي - فقال: كنت أتمنى أن
أستطيع القول بأننا سنحصل على السلام، ولكني أؤمن بأن هرمجدون مقبلة، إن
هرمجدون مقبلة، وسيخاض غمارها في وادي مجيدو، إنها قادمة، إنهم يستطيعون
أن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، ولكن ذلك لن يحقق شيئاً. هناك أيام
سوداء قادمة ... إنني لا أخطط لدخول جهنم القادمة، ولكن الإله سوف يهبط من
عليائه ... يا إلهي! ! إنني سعيد من أجل ذلك ... إنه قادم ثانية، إن هرمجدون
تنعش روحي! .
ولكن ما هو سبب هذا (الانتعاش) الروحي المستمد من روائح الدم وأدخنة
الخراب؟ !
إنه فصل معاصر من فصول الحقد التاريخي اليهودي على البشر الذي انتقلت
عدواه إلى النصارى الذين كانوا يوماً مَّا من المغرمين بالحديث عن السلام تحت
شعار: (الله محبة) ! فعقدة (الجويم) أو الكفار أو العامة أو (الجنتيل) الذين خلقهم الله
لخدمة اليهود، ولكن خلقهم على هيئة البشر لئلا يستوحش منهم اليهود. هذه العقدة
يشارك البروتستانت اليهود فيها، ولهذا؛ فإن الحديث عن فناء (العامة) من غير
اليهود وأشباههم من البروتستانت هو من الأحاديث المنعشة لأرواحهم والمسعدة
لأسماعهم. قال القس الإنجيلي البارز (جيري فالويل) في محاضرة ألقاها في 12
ديسمبر 1984م عن أحداث هرمجدون: ما أعظم أن نكون مسيحيين؛ إن أمامنا
مستقبلاً رائعاً، نشكر الله أن هذه المعركة سوف تكون نهاية أيام العامة (الجنتيل) ؛
لأنها بعد ذلك سوف تعد المسرح لقدوم الرب المسيح بقوة وعظمة!
وأحباب (الهرمجدون) لا يقفون عند حد الأماني (الوردية) بقرب مجيء أيامه
الحمراء أو السوداء، ولكنهم يصنعون سيناريوهات (واقعية) يمكن أن تجر الدنيا
لمجيئه؛ فقد أجرت صحيفة لوس أنجيلوس تايمز حديثاً مع القس المذكور (فالويل)
في 4 مارس 1981م، وسأله الصحفي عن تصوره لكيفية حصول الحرب النووية
العالمية فقال: أعتقد أن روسيا ستحدث بها أزمات، وعلى رأسها أزمة في النفط
وسينفد احتياطيها منه، وعندها سوف تتحرك إلى الشرق الأوسط وأيضاً نحو
إسرائيل، وعندما يحدث ذلك ستنفتح أبواب جهنم!
وقد أصدر ذلك القس بعد ذلك بعامين كتاباً بعنوان: (الحرب النووية والمجيء
الثاني) ، عقد فيه فصلاً عن الحرب إلي ستشنها روسيا، وتكهن فيه بأنها ستخوض
حرباً في الشرق الأوسط ينتج عنها إبادة خمسة أسداس جنودها كما تنبأ بذلك سفر
حزقيال، وقال (فالويل) : بذلك سوف يبدأ الاحتفال الأول بقرب عودة الرب، ثم
يأتي الاحتفال الآخر بعد انتهاء معركة الهرمجدون!
ولكن لماذا روسيا بالذات؟ ! في الحقيقة إن روسيا - مع دول أخرى - يزعم
هؤلاء الإنجيليون أن اسماءها قد وردت بالنص في طليعة المشاركين في حرب
الهرمجدون؛ ففي التوراة التي بأيديهم وفي سفر حزقيال على وجه التحديد في
الفصل 38، 39 يرد اسم (روش) وهي كما يقولون: روسيا! و (ماشك) التي
يقولون: إنها موسكو، و (توبال) التي يعتبرون أنها مدينة (تيبولسك) الكبيرة في
روسيا، ويذكر السفر أيضاً بلاد (فارس) وهي بالطبع إيران التي يجزمون بأنها
ستكون مشاركاً رئيساً في حرب هرمجدون، ويترجمون بلاد (كومر) بأنها منطقة
بلدان أوروبا الشرقية كما كانت تعرف في أزمنة التوراة و (توغارما) التي تعني
بلاد القوقاز، ولا ينسون ضم ليبيا التي يعتقدون أنها (بوت) المذكورة في التوراة،
ومنطقة القرن الإفريقي مع إثيوبيا وقد يحشرون معها السودان وجنوب اليمن
(غومر) ، أما العراق فهي (آشور الآثمة) و (بابل الزانية) التي يتحدث كتاب التوراة
عنها بلهجة حنق وغيظ تظن معها أنهم كانوا متحدثين باسم اللجنة الدولية للتفتيش
عن أسلحة الدمار الشامل!
أما (إسرائيل) فهى نفسها إسرائيل التي نعرفها اليوم، والتي لم يجد مؤسسوها
اسماً آخر يصلح لها إلا ذلك الاسم الذي تذكر به في التوراة في الأيام الأخيرة،
والتي ستكون بسببه في بؤرة الأحداث العالمية.
على درب الدمار:
لم يعد احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة مدمرة من الاحتمالات المستحيلة في
ظل السياسات المجنونة للتسلح في العالم؛ حيث بلغت تلك السياسات نقطة اللاعودة
بحيازة الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة الذرية في الأربعينات واستعمالها الفعلي لها
في الحرب العالمية الثانية التي حصدت نحو خمسين مليوناً من البشر!
ومن يومها والولايات المتحدة - فكك الله وحدتها - تقود العالم إلى سباق
نووي شيطاني لا يعلم إلا الله ما هي محطته الأخيرة. واستناداً إلى كتاب: (ساحات
المعارك النووية) لمؤلفيه (وليام آركن) و (ريتشارد فيلد) ؛ فإن الولايات المتحدة
الأمريكية تملكت حتى بداية الثمانينات الميلادية 670 أداة للأسلحة النووية في 40
ولاية، بحيث يبلغ مجموع الرؤوس النووية الجاهزة 14500 رأس، ولها محطات
نووية خارج حدودها، ففي ألمانيا يوجد 3396 سلاحاً أمريكياً، وفي بريطانيا يوجد
1268، وفي إيطاليا يوجد 549، وفي تركيا 489، وفي اليونان 164، وفي
جنوب كوريا 151، وفي هولندا 81، وفي بلجيكا 25، وتبلغ القوة التدميرية
الإجمالية لهذا السلاح النووي - كما ذكر ذلك وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (كلارك
كليفورد) - مليون ضعف من قوة القنبلة التي أسقطها الأمريكيون على مدينة
هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية، ورغم هذا، تساءل (كليفورد) عما
يجب أن تفعله أمريكا في المستقبل فقال: مع ذلك، ماذا علينا أن نفعل؟ ! ثم أجاب
على نفسه قائلاً: علينا أن نمضي قدماً في صناعة المزيد! !
وهل من مزيد؟
نعم؟ فهم لما بدؤوا السباق في مضمار الدمار الذي اخترعه (نوبل) رمز
السلام النووي، اضطرت القوى الكبرى الأخرى أن تدخل السباق لتتمكن من ردع
تلك القوة المجنونة التي صبت جام جنونها على هيروشيما ونجازاكي، ثم تتابعت
الدول في حيازة ذلك السلاح (الهرمجدوني) حتى أصبحت الدول النامية تتسابق الآن
هي الأخرى إلى حيازته، كما حدت في الهند وباكستان، وأصبحنا الآن نعيش
عصراً تقتطع فيه الدول من أقوات الشعوب، لتطعم ترساناتها بكل جديد مهلك من
السلاح، فإذا لم تظفر بظروف تختطف فيها فرصتها النووية فإنها تبذل المساعي
لامتلاك أسلحة كيمياوية أو بيولوجية، أو تكتفي بالتجهيز لامتلاك صواريخ بالستية
ريثما تتوفر لها الفرص لتزويدها بالرؤوس النووية التدميرية. وقد ذكرت مجلة
(جنيس ديفنزويكلي) المتخصصة في الشؤون الدفاعية التي تصدر في لندن في
عددها الصادر في شهر مايو 1999م: أن أي دولة في العالم مهما كانت خبراتها
وقدراتها الحالية، ستتمكن خلال خمسة عشر عاماً بعد العام 2000م من استخدام
ونشر الصواريخ البالستية العابرة للقارات، واستشهدت المجلة على تنامي أخطار
التسلح بما حققته دول مثل إيران التي اختبرت عام 1998م صاروخ (شهاب 3) ،
وكوريا الشمالية التي جربت صاروخ (تايبو دونج 1) وباكستان التي اختبرت
صاروخ (غوري) رداً على اختبار الهند لصاروخها (إجني) !
وهل توقف الأمر بعد الدول الكبرى عند حد الدول الفقيرة والنامية؟ ! لا؛
فالحديث الآن يتداول في الغرب بكثرة عن الفرص المتاحة أمام بعض الجماعات
المسلحة في الغرب وفي الشرق لكي تحوز أسلحة كيماوية أو بيولوجية أو حتى
نووية تكتيكية [11] والفضل في النهاية - أقصد الإثم - يعود إلى فجور المفجِّرين
الأوَل للقمقم الذي أخرجوا منه المارد النووي على مشارف النصف الأخير من
القرن العشرين.
وأين اليهود؟ !
هم من جانبهم أعدوا عدتهم بحصيلة نووية (متواضعة) تتراوح بين 200 إلى
300 قنبلة نووية، وهم لن يحتاجوا لأكثر من ذلك إذا قسَّموا هذه الحصيلة على
العواصم المحيطة (المحبة للسلام) بواقع عشر قنابل لكل عاصمة! علماً بأن الغرب
وعلى رأسه الأمريكان لم يسمحوا لواحدة من تلك العواصم العربية بالاقتراب من
حيازة قنبلة واحدة نووية لردع الجارة الجائرة (إسرائيل) !
إن هذه الدولة اليهودية (الصغيرة) بل الحقيرة تمسك بتلابيب الغرب
النصراني مبتزة إياه باقتنائها المتفلت لأسلحة الدمار الشامل، وهي تفرض بذلك
هواجس دائمة بأنها تملك جره إلى حرب مباشرة، كما حدث في حرب 1973م
عندما هددت (إسرائيل) في بدايتها باستعمال السلاح النووي مما دفع الرئيس
الأمريكي الأسبق إلى أن يعلن استنفاراً نووياً من الدرجة الثالثة من الاستعداد في كل
أنحاء العالم، وتكرر هذا الابتزاز في حرب الخليج عندما أطلق صدام حسين
صواريخه على تل أبيب، ولكن اليهود مع هذا يعلمون أنهم سيكونون أول ضحايا
حرب نووية في المنطقة، ولهذا؛ فإنهم يعتمدون ما يسمى بـ (الخيار
شمشون) [12] ومعناه: أنهم سيضحون بالجميع إذا ترجح عندهم أنهم يواجهون خطر الاستئصال.
الأخطاء المقصودة والعصمة المفقودة:
وفي ظل هذا الواقع الرهيب - إن كان له ظل - هل يملك المالكون لأزمة
الآلة العسكرية في بلاد الغرب أو الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى، هل
يملكون عصمة تمنعهم من فتح أبواب الجحيم الدنيوي ولو على سبيل الخطأ؟ !
إن من سوء حظ البشرية تحت القيادة الغربية، أن الشواهد كلها تدل على أن
السيطرة الكاملة على التنين النووي ذي الرؤوس الذرية - إلى ما لا نهاية - أمر
مستحيل؛ فنحن أمام حقيقة تقول: إما أن تُفني البشرية هذا الخطر أو يفنيها، إلا
أن يشاء الله - تعالى - الرحيم بعباده شيئا آخر ينقذ به الإنسانية من الشر الكامن
فيها؛ وإلا فإفناء البشرية لترسانات الدمار الشامل يحتاج إلى قوة رشيدة عاقلة ذات
دين، وأين هي الآن؟ ! فاللهم رحماك!
والآن يُتْحفنا أرباب الحضارة المعاصرة - بشكل شبه يومي - بأخبار تثير
الفزع، وتبعث على الهلع، يحدثوننا فيها عن كوارث محتملة وأخرى أكيدة ستعم
المعمورة كلها مع مطلع العام 2000 م. إنها ليست بسبب (جنون البشر) هذه المرة، ولكن بسبب (العقل) الذي اخترعوه وطوروه حتى كاد يتحكم فيهم بدلاً من أن
يتحكموا فيه ... إنه (الكمبيوتر) !
فالعالم الآن يُستنفر كلما اقترب موعد بدء الألفية الثالثة، بسبب مشكلة
الكمبيوتر في عام 2000 م أو ما اصطلح على تسميته (العلة الألفية) .. فما هي هذه
العلة؟ وما تعليلها؟ وما آثارها المتوقعة؟ وهل يمكن السيطرة على أخطارها
التسليحية والبيئية والاقتصادية..؟
هذا ما سيكون موضوع حديثنا في المقالة القادمة - إن شاء الله -.
__________
(1) الأيام الأخيرة في المصطلح العبري (أحريت أياميم) وتعني مرحلة أخيرة من الزمان تقع داخل الزمان وتمهد لنهايته الذي يأتي بعده (يوم هدِّين) يعني بالعبرية يوم الدين.
(2) سفر حزقيال، الإصحاح الثامن والثلاثون.
(3) بروتوكولات حكماء صهيون - ترجمة خليفة التونسي - البروتوكول الخامس، ص 123.
(4) الحرب العالمية الثانية شارك فيها نحو 85 مليون جندي، وفني في تلك الحرب نحو 50 مليون من البشر.
(5) قارن بين هذا (التسامح) مع الأحزاب القائمة على أساس ديني (مسيحي) في بلادهم، وبين ذلك الرفض الهستيري منهم للتمكين لأي حزب يقوم على أساس ديني إسلامي في بلادنا نحن! .
(6) بالمناسبة، فإن السيناتور (بوب دول) هو الذي وضع مشروع القانون الذي يطالب الحكومة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بهدف كسب تأييد الأصوليين الإنجيليين في معركته ضد كلينتون، وأقر الكونجرس ذلك المشروع في 24 أكتوبر 1995م، ثم عاد فأكد القرار في يونيو 1997م.
(7) الصين على وجه التحديد هي أول من يمثل معسكر (يأجوج ومأجوج) في اعتقاد الإنجيليين! .
(8) النبوءة والسياسة، ص 49.
(9) النبوءة والسياسة، من المقدمة لمحمد السماك.
(10) هم يدربون العقل البشري من الآن على استيعاب معنى هذه اللاإنسانية، كما حدث في البوسنة ويحدث الآن في كوسوفا.
(11) تحدثت (مادلين أولبرايت) أمام الكونجرس في 4/2/1999م عن ذلك الخطر فقالت: إن إدارة الرئيس كلينتون تعتزم بذل كل ما بوسعها لدحر ما وصفته بـ (الخطر الثلاثي) المتمثل في دول وتنظيمات إرهابية وشبكات متطرفين تمتاز بحرية في الحركة وقالت: إن نوعاً جديداً من المواجهة يلوح؛ بينما القرن الجديد يبدأ وأضافت: من المحتمل أن يتجنب خصومنا ميادين القتال التقليدية، وقد يلجؤون بدلاً من ذلك إلى أسلحة الدمار الشامل وأعلنت أولبرايت في كلمتها عن برنامج جديد تبنته الولايات المتحدة يمتد لخمس سنين لمواجهة (الإرهاب) وخصصت له الإدارة الأمريكية 50 بليون دولار وقالت: إن الخطة الخمسية تمثل مجرد بداية [الحياة، 6/2/1999] .
(12) يراجع في ذلك كتاب: (الخيار شمشون أسرار وخفايا الترسانة النووية الإسرائيلية) تأليف سيمور هيرش، دار الكتاب العربي، وشمشون هو أحد (أبطال) الأساطير اليهودية الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.(139/112)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
إلا هذه! !
أعلن وزير الداخلية المقدوني أن الدول الأعضاء في حلف الناتو تعهدت عدم
دعم نشاطات جيش تحرير كوسوفا لتفادي زعزعة الوضع الأمني في البلاد.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7449) ]
بل الأهداف واضحة! !
رأت مارجريت تاتشر، رئيسة الحكومة البريطانية السابقة أن تدخل حلف
شمال الأطلسي في منطقة البلقان جاء متأخراً ثماني سنوات وأهدافه تبدو غير
واضحة.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7450) ]
أرقام من المحنة
- أفادت وزارة الدفاع الأمريكية أن أكثر من 4600 شخص لقوا حتفهم في
أكثر من 70 مذبحة جماعية في الإقليم منذ مارس الماضي.
[جريدة الأنباء، العدد: (8252) ]
- قافلة مكونة من 256 تراكتوراً و 7 حافلات تحمل 10 آلاف لاجئ اختفت
تماماً ولم تصل إلى أي نقطة حدودية ولم يعثر لها على أثر، والمرجَّح أن تكون
أبيدت بكاملها.
[جريدة الرياض، العدد: (11263) ]
- قدرت الخارجية الأمريكية عدد الكوسوفيين من القادرين على القتال الذين
فقدوا في الحملات التي قام بها الصرب بنصف مليون شخص.
[جريدة الحياة، العدد: (13192) ]
- تعالج الفرق الطبية 300 طفل و 400 امرأة، 600 عجوز يومياً في
مستشفيات كويكس بألبانيا، ويتم العلاج غالباً في العراء.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7461) ]
- أعلن الناطق باسم الأمم المتحدة أن عدد اللاجئين الألبان يمكن أن يبلغ 1.
25 مليون قبل نهاية العام الحالي.
[جريدة الخليج، العدد: (7279) ]
إلى دعاة السلام
حولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي 33 مسجداً واقعة ضمن الأحياء الداخلية
من مدينة الخليل إلى معابد يهودية.
[جريدة الرياض، العدد: (11269) ]
المدلسون
1- لقد جاء مسيحيُّو أوروبا ليخلَّصوا وطن المسيح من الحكم الإسلامي،
فماذا لو تصورنا أن ما حدث كان العكس، ماذا لو تصورنا أن الكعبة هي التي تم
احتلالها من قبل عنصر غير عربي وغير مسلم الديانة؟ وما الذي كان سيفعله
المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها؟ فلماذا نلبس الصليبية القديمة لبوساً
شيطانياً مستمراً إلى الآن؟ ثم هل يمكن أن نسمي دعوات التبشير حملات صليبية
جديدة؟ ألا نسعى نحن بدورنا للدعوة والتبشير بالإسلام؟ أم أنه حق مشروع لنا
فقط؟ ثم ألا نحلم بعودة عصر الفتوحات واحتلال بلاد العالمين؟
[د. سيد القمني، مجلة روز اليوسف، العدد: (3692) ]
2- بالطبع أنا لا أعادي أحداً بناءً على انتمائه الديني، وإلا كنت متعصباً
وعنصرياً كما أنني أؤمن بالموقف الذي يرى أن الأقليات جزء من الأمة، لها ما لنا
وعليها ما علينا، وبالنسبة إلى اليهود تحديداً، أنا أؤيد هذا تأييداً مطلقاً من المنظور
الإنساني ومن الناحية العملية.
[د. عبد الوهاب المسيري، مجلة الوسط، العدد: (378) ]
يا عزيزي.. كلهم بوتو! !
جمعت بنازير بوتو وزوجها أموالاً وممتلكات عن طريق الفساد تقدر بحوالي
478 مليون دولار منها: 12 مصنعاً، 184 عقاراً، 185 حساباً مصرفياً، 13.
500 فدان من الأراضي الزراعية.
[جريدة الخليج، العدد: (7279) ]
ولا عزاء للحلفاء!
توقعت مصادر مطلعة أن تستجيب الإدارة الأمريكية لضغوط الشركات
الكبرى وتفرض عقوبات اقتصادية على الكويت، وربما يصل الأمر إلى الاحتكام
إلى منظمة التجارة العالمية لفرض عقوبات إضافية وذلك لمنع ما أسمته القرصنة
الفكرية الناتجة عن الاستنساخ غير المشروع للبرامج والأعمال الفكرية.
[مجلة المجلة، العدد: (1003) ]
إلى المقتدين بهم
أفادت دراسة أجرتها منظمة أمريكية مستقلة أن 58 % من الأمريكيين يرون
أن أطفالهم كسالى وأُفسدوا بالدلال، وأنهم غير مهذبين، كما يرى 74% من
الأمريكيين أنهم - أي الأطفال - لا يشعرون بأي مسؤولية ولا يمكن السيطرة عليهم.
[جريدة الأنباء، العدد: (8248) ]
صادق.. من غير حلف! !
نفى الجنرال أنتوني زيني قائد القوات المركزية الأمريكية الأنباء التي ترددت
عن بناء قواعد عسكرية أمريكية في اليمن، وأكد بأنه ليس هناك خطة أو سياسة
للولايات المتحدة في بناء قواعد باليمن سواء أكانت برية أو بحرية، وأن ما يزعم
أو يروج له في هذا الصدد لا أساس له من الصحة.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7455) ]
تأبَّط شراً
أعلن الفاتيكان رسمياً عن تأسيسه لجهاز للمخابرات حين أعلن عن إنشاء
دائرة جديدة سماها لجنة الأمن يشرف على عملها البابا يوحنا بولس الثاني نفسه.
وتشير تقارير إيطالية إلى أن الفاتيكان بدأ يتنبه إلى مخاطر جديدة تحدق بمؤسساته
ودوره كهيئة راعية للوجدان الديني المسالم، ومنها إمكانية بعث مسببات تؤدي إلى
صراع بين المؤسسات الدينية المتنوعة في العالم بحيث يجد نفسه في مناخات غير
مهيأ لمواجهتها.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7457) ]
الودُّ باق
أفادت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن مدير الاستخبارات العسكرية الأردنية قد
زار إسرائيل سراً؛ حيث التقى رئيس الأركان الإسرائيلي، ونقل رسالة من العاهل
الأردني الملك عبد الله الثاني، أكد فيها تصميم الأردن على مواصلة التعاون
الاستراتيجي مع إسرائيل.
[جريدة الحياة، العدد: (13211) ]
مصاصو الدماء
قالت وزارة العدل الإسرائيلية: إن لجنة تابعة للأمم المتحدة أقرت حصول
إسرائيل على أكثر من 31 مليون دولار من التعويضات عن قصفها بصواريخ
سكود أثناء حرب الخليج كما أقرت مبلغاً إجمالياً قدره 31. 5 مليون دولار تعويضاً
لمصلحة 68 شركة إسرائيلية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7443) ]
طاجيكستان وثالوث الشر
يواجه المسلمون في طاجكستان استغلال المؤسسات التبشيرية من اليهود
والنصارى والشيعة والذي يتمثل فيما يلي:
يوجد ما يزيد على (25) مؤسسة تبشيرية، وقد بلغ عدد الكنائس التي بنيت
خلال السنوات الأخيرة عشر كنائس، كما تنصر (3000) من مسلمي الطاجيك
وتشيع عدد آخر غير معروف، كما أنشأ عدد من المعابد اليهودية، وتم تجنيد عدد
من الدعاة لتوزيع الأناجيل في البيوت والحافلات، والمجمعات، وقد فتحت نوادي
مختلطة للجنسين تحت مظلة التدريب الرياضي.
[مجلة سياحة الأمة، العدد: (15) ]
صانعوا الإرهاب
إن الأحداث الأخيرة تؤكد وجود صلة بين التدخل العسكري الأمريكي في
شؤون الدول الأخرى وبين زيادة العمليات الإرهابية ضد المنشآت الأمريكية
والمواطنين الأمريكيين، إن الدور القيادي العالمي لأمريكا معناه أننا أصبحنا
مسؤولين عن العالم وهذا ما يغضب شعوب العالم الأخرى، وهو ما يحوّل بعضهم
إلى إرهابيين.
[د. إيفان إيلاند، خبير أمريكي، مجلة المجلة، العدد: (1000) ]
الأزمة القادمة
تؤكد تقارير البنك الدولي أنه منذ عام 1960م وإلى عام 2025م فإن مؤشر
موارد المياه العذبة المتجددة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتجه إلى
الانخفاض بنسبة كبيرة تتجاوز 80% من حوالي 3300 متر مكعب في السنة إلى
650 متراً مكعبا فقط.
[جريدة الشعب، العدد: (1353) ]
ودعم الإرهاب
إن قضية ضمان استمرار التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي على الدول العربية
أمر محسوم؛ لأنه هدف أمريكي وليس خياراً، وعليه؛ فإن الازدواجية السياسية
في المعايير التي يشتكي منها العرب تقترن بازدواجية في المعايير العسكرية أيضاً
تصب لصالح الدولة العبرية بقرار وإرادة أمريكيتين.
[إدمون غريب، الأستاذ بالجامعة الأمريكية، واشنطن، مجلة المشاهد
السياسي، العدد: (161) ]
مرصد الأرقام
- يتعرض المسلمون في بورما إلى أنواع كثيرة من الظلم، منها: هدم
وتدمير 15 ألف بيت، تهجير 2 مليون مسلم، المقتولون في المذابح 200 ألف،
هتك أعراض 20 ألفاً، عدد المسجونين 40 ألفاً، عدد الجوامع والمدارس الدينية
المحروقة 5 آلاف، عدد المفقودين 50 ألفاً، العاطلون عن العمل مليون مسلم.
[جريدة الخليج، العدد: (7264) ]
- يعتبر التكاثر الطبيعي لليهود في العالم من أكثر النسب انخفاضاً؛ إذ إن
نسبة تكاثرهم في السنوات الخمس الأخيرة لم تزد عن ثلاثة في الألف، ويبلغ عدد
اليهود اليوم 13. 1 مليون.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7449) ]
- هناك حوالي 230 مليون سلاح ناري يملكه الأفراد في الولايات المتحدة،
وفي كل عام يلقى حوالي 35 ألف أمريكي حتفهم في الولايات المتحدة الأمريكية
رمياً بالرصاص.
[جريدة الخليج، العدد: (7278) ]
- تشير الإحصائيات أن ديون العالم الثالث قد بلغت ما يقرب من 2 تريليون
دولار، وقد أصبح العالم الثالث يمثل 80% من مجموع سكان كوكب الأرض.
[جريدة الأنباء، العدد: (8242) ]
- أكدت منظمة الصحة العالمية أن الإدمان على التدخين ساهم في وفاة أربعة
ملايين شخص العام الماضي، (1998م) ، وقد بلغت أرقام مبيعات السجائر 300
مليار دولار سنوياً.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7470) ]
- بلغت نسبة الأمية في العالم العربي 43% بينما هي في الهند تقف عند
حدود 18% وفي بلدان أمريكا الجنوبية 13%.
[جريدة الخليج، العدد: (7295) ]
- وصلت نسبة البطالة في الجزائر 25% ما يعني أن أكثر من 2. 6 مليون
شخص من دون عمل.
[مجلة الوسط، العدد: (380) ](139/122)
قضايا ثقافية
بين العقل والنقل....
كلام في موضوع قديم يتجدد
عبد العزيز بن محمد التميمي
مشكلة تعارض العقل والنقل مشكلة قديمة، ظهرت أوّل ما ظهرت بشكل جادّ
في الفكر الإسلامي عند ترجمة الفلسفة اليونانيّة، ذلك أنّ تلك الفلسفة كانت مبنية
على ما يسمى بالمنطق الصوري، الذي يعطي التأمل العقلي المحض إمكانات أكبر
بكثير مما يستحقه.
كان اليونان يعتقدون أن العقل وحده مصدر المعرفة اليقينية، ولا يرون حدوداً
لإمكانياته، وكان من أخطائهم الكثيرة في هذا المجال استخفافهم بكل مصدر آخر
للمعرفة غير العقل حتى المصدر الحسي، والتأمل في الكون، والسير فيه لجمع
المعلومات والاستقراء العلمي.
حصل هؤلاء الفلاسفة بهذه المناهج على معارف بعضها صحيح، والكثير
منها زائف لا قيمة له. وعندما ترجمت هذه المناهج والمعارف بهرت كثيراً من
أبناء المسلمين الذين لم تكن لديهم الكفاية في المعرفة بالعلم المادي ولا العلم الشرعي
... ومن هنا جاءت المشكلة: إذا تعارض العقل والنقل فأيهما نقدم؟ ! ويقصدون
بالعقل: مناهج البحث اليونانية ومجموعة المعارف الحاصلة منها. هنا تفاوتت
أجوبة هؤلاء الدارسين للتراث اليوناني بين معجب غاية الإعجاب بهذا التراث،
ومستخفٍّ غاية الاستخفاف بكل شيء يخالفه أو يختلف معه.. وعُرف هؤلاء
بفلاسفة الإسلام ك (الفارابي، وابن سينا) حتى لقد جرؤ بعضهم على التصريح بأن
الوحي إنما هو لعامة الناس الذين تقصر ملكاتهم العقلية عن الوصول إلى المعارف
اليقينية عن غير طريق الوحي، أما الفلاسفة الذين يملكون هذا الاستعداد فهم في
غنى عن هذا الوحي ... [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] [الكهف: 5] ! وقد
اتفق علماء الإسلام على أنّ من قال بمثل هذا القول أو اعتقد مثل هذه العقيدة فقد
خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وكان لفريق آخر رأي مختلف؛ حيث رأى المتكلمون (كالغزالي والرازي) أن
الوحي مصدر للمعرفة، كما أن العقل مصدر للمعرفة، فإذا تعارضا فإنه يقدم العقل
باعتباره أصلاً للنقل، لأن الإنسان آمن بعقله أولاً، ثم تابع الوحي بعد ذلك.
وطائفة من الفقهاء والعلماء رأت أن فلسفة اليونان وكل ما صدر عنها من اعتقاد
فلسفي أو نتاج علمي إنما هو زبالة أذهان البشر، لا يستحق الدرس والعناية به،
ولا خير فيه على الإطلاق، ومن يدرسه أو يتعلمه فلا ثقة في دينه فضلاً عن أن
يعارض به وحي رب العالمين - سبحانه وتعالى -.
لم تكن هذه كل الآراء في المسألة، فقد كانت هنالك طائفة رابعة أبرز من
مثَّلها وتكلَّم بلسانها وفصلّ رأيها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث لم
يرفض كل النتاج اليوناني، لكنه في الوقت ذاته لم يقلل مطلقاً من قيمة النصّ
الشرعي، وانما عمد إلى مراجعة السؤال القديم من منظور جديد نفصله كما يلي:
إذا تعارض العقل والنقل فهنالك عدة احتمالات: أن يكونا قطعيَّيْن، أو يكونا
ظنِّيَّيْن، أو يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
في الحالة الأولى يستحيل أن يتعارض قطعي العقل من قطعي النقل؛ وذلك
لأن خالق العقل والكون هو منزِّل النص والوحي [أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ]
[الأعراف: 54] ، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك: 14] وهذه
كانت أبرز وأخطر إضافات الشيخ - رحمه الله - بهذه القضية الجدلية القديمة.
أما في الحالة الثانية، فإذا تعارض القطعي مع الظني قُدّم القطعي سواء كان
عقلياً أو نقلياً. ولنضرب أمثلة على هذه الحالة لأهميتها [1] :
كان من المسائل العقلية الظنية فيما سبق الاعتقاد بأن الشمس ثابتة والأرض
تدور حولها، وكان هذا الظن مخالفاً لقطعي النصّ الذي يقول: [والشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا] [يس: 38] ومن ثم يجب رفض هذا الظن العلمي الذي ثبت بطلانه
بعد التقدم العلمي.
أما عن ظني النصّ الذي يتعارض مع قطعي العلم فهو ما فهمه بعض الناس
من قول الله -تبارك وتعالى-: [واللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً] [نوح: 19] أن
الأرض منبسطة مستوية بينما قطعيات الحسّ والعلم تفيد بأن الأرض كرويّة، ومن
هنا قُدِّم هذا القطعي على الظني علماً بأن هنالك نصوصاً ظنية الدلالة تفيد بأن
الأرض كروية، مثل قوله - تعالى -: [يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ويُكَوِّرُ النَّهَارَ
عَلَى اللَّيْلِ] [الزمر: 5] وقوله -سبحانه-: [والأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا]
[النازعات: 30] .
هذا عن الحالتين الأوليين، أما عن الحالة الثالثة، فإن الشيخ يقول: إذا كان
العقل والنقل ظنيين قُدِّم أكثرهما رجحاناً وقرائن، عقلياً كان أو نقلياً ... هكذا بيسر
وسهولة حل الشيخ المعضلة القديمة حلاً يريح القلب ويرضي العقل ... دون أن
يقلل من هيبة النص ولا يضعف من مقدرة العقل؛ فرحمه الله رحمة واسعه.
انطلق الشيخ بعد ذلك يفنّد تفنيداً مفصلاً أقوال الطائفتين: الفلاسفة،
والمتكلمين ويبين تهافتها في مجال العقل والنقل؛ وكيف تناقض هؤلاء وتشككوا ولم
يصلوا إلى يقين البتة؛ سواء كان هذا فيما يسمونه بالسمعيات أي الغيبيات أو ما
وراء المادة مثل صفات الله - تعالى - وملائكته واليوم الآخر والجنة والنار.. إلخ
أو كان هذا في الطبيعيات والنظر الكوني والرياضي والمنطقي. وكان في مناقشاته
ومعالجاته أميناً عادلاً، ينقل قول الخصم بالنص ومن كتابه، ثم يطيل النفس في
بيان تهافته وضعفه، وقد دفعه هذا إلى كثير من التكرار بسبب تشابه حججهم وأخذ
بعضهم عن بعض.. فجاء كتابه طويلاً جداً في عشرة مجلدات جعلت من الصعب
على الكثيرين في عصر السرعة أن يجدوا وقتاً كافياً لدراسته تفصيلاً، ومن هنا قام
الدكتور الجلينيد المعروف بعنايته بتراث ابن تيمية بمحاولة اختصار وتقريب هذا
العمل العظيم، وقد حالفه الكثير من التوفيق وجاء كتابه في مجلد واحد (290
صفحة. في عشرة فصول) لكن هذا الاختصار الشديد جعله يحذف الكثير من
المسائل المهمة التي يستطيع المتخصص مراجعتها في الأصل الذي طبعه بعناية
كبيرة الأستاذ محمد رشاد سالم -رحمه الله -.
بقيت ملاحظة أخيرة ... حبذا لو أُعيدت صياغة النصّ بأسلوب أيسر من
أسلوب شيخ الإسلام.. خاصة وأن شبابنا قد تعوَّد على الثقافة الصحفية.. ثقافة
(الساندوتش) ! .
__________
(1) والأمثلة من عند كاتب المقالة لا من عند شيخ الإسلام.(139/126)
بأقلامهن
دور المرأة المسلمة في تنشئة الجيل الصالح
دور المعلمات - رائدات المجتمع
(2/2)
خولة درويش
استعرضت الأخت الكاتبة في الحلقة السابقة دور المرأة من خلال ما يمكن أن
تتحلى به وتقدمه لأبنائها من تربية وتوجيه، وتطرقت لأهمية الاستعانة بالله،
وتتحدث في هذه الحلقة عن جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان-
كانت ابنة هادئة مهذبة يجللها الحياء.
وبعدما دخلت المرحلة المتوسطة بدا التغير عليها ...
رآها والدها وقد لوّنت إحدى خصال شعرها باللون الأخضر، فلما سأل
والدتها عن ذلك مستغرباً قالت: ما العمل؟ ! هكذا تفعل معلمتها في المدرسة؛ إذ
تلوّن خصلة شعرها حسب لون فستانها! ثارت ثائرة الرجل، وما كان منه إلا أن
أقسم أن لا يعلّم بنتاً له بعد اليوم! !
رويدك أيها الأب الغيور! فبالعلم حياة القلوب ولذة الأرواح، وبه يُعرف
الدين ويكشف عن الشبهات.
إن ديننا الإسلامي دين علم، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت عَلَماً
في ذلك؛ حيث حفظت وروت كثيراً من الأحاديث النبوية داخل المنزل الشريف.
ومثلها كانت أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن وذلك استجابة لهدي هذا الدين:
- عن الشفاء رضي الله عنها قالت: دخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم-
وأنا عند حفصة رضي الله عنها فقال لي: ألا تعلّمين هذه رقية النحلة كما علمتِها
الكتابة؟ [1] .
فالعلم مطلب شرعي للرجل والمرأة على السواء. فلماذا نضيّق واسعاً،
ونحمّل الأجيال وزر معلمات كن قدوة سوء؟ !
نحن بحاجة إلى القدوة الحسنة، وغرس التعاليم الشرعية الصحيحة.
- يجب أن لا يُهمل تعليم البنات؛ فقد قيل: تعليم رجل واحد هو تعليم
لشخص واحد، بينما تعليم امرأة واحدة يعني تعليم أسرة بكاملها. وبتعليم بناتنا
وتنشئتهن النشأة الصالحة نردم الهوة الكبيرة التي تفصل أمتنا عن التقدم في كثير
من ديار المسلمين.
بل إن ديننا الإسلامي بلغ فيه حب العلم والترغيب في طلبه أن دعا إلى تعليم
الإماء من نساء الأمة؛ كي تزول غشاوة الجهل، وتسود المعرفة الواعية، وقبل
ذلك ليُعبد الله على بصيرة وتستقيم الأجيال على أمر الله.
وفيما رواه الإمام البخاري رحمه الله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيما
رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها
فتزوجها فله أجران [2] .
هذا إذا روعي في التعليم المنطلقات الشرعية.
وقد عرف أعداؤنا أهمية العلم؛ فأسرعوا إليه؛ ولكن على أسس علمانية،
وعرفوا أثر المعلمة؛ فعملوا على إفسادها، وبإفسادها أضلوا الأجيال منذ مطلع هذا
القرن. ومما يؤسف له أن العلمانيين والملاحدة قد سبقوا أصحاب العقيدة السليمة
إلى تعليم المرأة، فعاثت نساؤهم في العالم الإسلامي تخريباً وإفساداً نتيجة لما يربين
عليه الأجيال من مبادئ ضالة ومضلة، وكان لتأسيسهن الجمعيات النسائية الدور
الكبير في صرف بناتنا عن طريق الهدى والرشاد.
فلا بد من بديل إسلامي لنحصن بناتنا بالتربية الرشيدة، حتى لا يكون موقفنا
مجرد النقد واللوم، وذلك بالتعليم النافع، وأساليب الدعوة الجادة بين بنات جنسهن.
- لا بد من إعداد المرأة إعداداً مناسباً لرسالتها باعتبارها أنثى؛ إضافة إلى
العلوم الشرعية الواجب عليها تعلمها، فإذا أتقنت ذلك وكانت ممن أوتي موهبة غنية، وعقلاً خصباً، وفكراً نيراً، وتعلمت غير ذلك من العلوم والفنون فإن هذا حسن؛
لأن الإسلام لا يعترض سبيلها ما دامت لا تتعدى حدود الشرع الحنيف.
وقد كانت نساء السلف خير قدوة في التأدب والحياء خلال خروجهن وتعلمهن؛ إذ كانت المرأة المسلمة تتعلم ومعها دينها يصونها، وحياؤها يكسوها مهابة ووقاراً
بعيداً عن الاختلاط والتبذل.
أَمَا وقد تمثل التعليم في عصرنا في المدارس الرسمية، فلا بد أن تتولى
المرأة تعليم بنات جنسها، لا أن تعلم المرأة في مدارس الذكور أو في مدارس
مختلطة، ولا أن يعلم الرجل في مدارس الإناث؛ فذلك من أعمال الشياطين.
وحتى في ديار الغرب المتحلل بدأت صرخات مخلصة تدعو إلى التراجع عن
التعليم المختلط بين الجنسين وتنادي بالعودة إلى الفطرة السليمة التي تنبذ الاختلاط.
لقد تبين بعد دراسات عديدة أن البنين والبنات يحتاجون إلى معاملة مختلفة؛ نظراً
للاختلاف في تطورهم الجسمي والذهني، كما أن الاختلاط يجرّ إلى ما لا تحمد
عقباه من مفاسد يندى لها الجبين؛ هذا فضلاً عن اختلاف المادة الدراسية التي
يحتاجها كل من البنين والبنات.
- فالمنهج المدرسي للفتاة ينبغي أن يتناسب مع سنها مما يعدّها لوظائفها
الأصلية: ربة بيت، أمّاً، وزوجة؛ لتضطلع بمهمتها التي تنتظرها، وتقوم بأدائها
بطريقة سليمة؛ مما يهيئ الحياة الناجحة لها ولأسرتها المقبلة، ويجنبها العثرات،
ويجعلها داعية خير تتفرغ وأخواتها المؤمنات لوظيفة إعداد النشء الصالح، وأنْعِمْ
بها من وظيفة لإعداد الأجيال، لا لجمع الأموال وتتبع مزاجيات الفراغ!
- الواجب أن تكون معلمات الأجيال المسلمة نخبة صالحة تحمل همّ الإسلام،
وتسير بخطوات إيجابية في تعليم الأجيال المسلمة وتثقيفها، وتزويد بناتنا بأساليب
التربية التي تفيدهن مستقبلاً، لا بحشو الأذهان بقضايا لا تفيد ولا تغني في الحياة
العملية شيئاً.
إنها خير منقذ لطالباتها من الوقوع في أحضان الانحراف والإلحاد؛ فهي
تعلمهن الفضيلة بسلوكها وأقوالها: تنمي شخصيتهن، وتشحذ عقولهن، وتنقل
إليهن الحقائق العلمية مع حقيقة ثابتة وهي: أن نجاح الجيل وتفوّقه لا يتمثل إطلاقاً
في مدى ما يحفظ، بل فيما يعي ويُطبّق، ثم إن التفوق في الدراسة ليس غاية
وهدفاً ... بل الفائز حقاً هو من فاز بالدار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن.
هذا؛ ومع أننا نرفض أن تكون أجيالنا ضحايا الإهمال واللامبالاة، فإننا نؤكد
على الأم المعلمة؛ إذ عليها أن تقوم أولاً بواجبها الأساس كزوجة صالحة، وأم
مربية تحسن تربية أولادها، ومن ثم تربي أولاد الآخرين، ولا تنسى أن فرض
العين أوْلى من فرض الكفاية.
- وقد حدد علماؤنا القدماء صفات المعلم المسلم في التعامل مع طلابه،
وذكروا أفضل الآداب لاتباعها، وعلى ضوء تلك الآداب؛ فعلى المعلم أو المعلمة:
إخلاص النية لله تعالى: وأن تقصد بتعليمها وجه الله وتحتسب الثواب منه
وحده، وتتطلع إلى الأجر الجزيل الذي ذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: من دل على خير فله مثل أجر فاعله [3] .
فلا تعمل لأجل المكانة ولا لمدح الناس ولا للراتب وحده، وإنما عملها في
سبيل الله، وتكون قدوة للناشئات في ذلك، وإلا ... فإن فاقد الشيء لا يعطيه،
وأنّى للأعمى أن يقود غيره ويرشده للطريق السليم؟ !
أن تقوم بعملها وتربي الأجيال على أدب الإسلام: فيتعلمن العلم ويتعلمن
الأدب في آن واحد؛ وقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ] [الصف: 2] .
أمّا أن تأتي الطالبة كل يوم بقصة جديدة حدثتها بها معلمتها مما ينبو عن
الذوق السليم، أو بتقليعة جديدة جاءت بها إحدى المدرّسات مما تتنافى مع ديننا،
فهذا أسلوب من أساليب الهدم لا البناء!
على معلمتنا المسلمة أن تنضبط بتعاليم الشرع، ولا تستهين بمخالفته مهما
بدت المخالفة بسيطة؛ فإن ذلك السوء ينطبع في نفس الجيل ويصعب بعد ذلك
إزالته.
أن تكون حسنة المظهر تهتم بحسن هندامها باعتدال؛ فالمظهر الأنيق يعطي
نتائج إيجابية في نفس الطالبة فتحترم معلمتها، ويعين ذلك على العمل بنصائحها،
والعكس صحيح ... وأن تركز على أن يعتاد الجيل الاهتمام بالجوهر لا المظهر،
مع الابتعاد عن توافه الموضات المتجددة.
وليس من الإسلام أن تكون أحاديث طالبات المدارس مقتصرة على زي
المعلمة وتسريحة شعرها، وجمال فستانها، وهاتفها الجوال الظاهر للعيان.
وللأسف؛ فإن بعض المدرسات يتبادلن أشرطة الأفلام والمجلات الإباحية مع بعض
الطالبات؟ ! فيا لخيبة مسعاهن!
أن تتحلى بمكارم الأخلاق التي يدعو لها الدين ولا سيما الصبر فتحسن
التلطف في تعليم الطالبات مما يجعلهن بعيدات عن التجريح والتشهير؛ فتكون بحق
داعية بالحكمة والموعظة الحسنة عملاً بقوله تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
والمدرّسة الحكيمة تنوّع في الطريقة التي تخاطب بها طالباتها حسب مقتضى
الحال، وحسب سن الطالبات، ولا يفوتها أن التعامل الطيب الحنون يجذب
الطالبات إليها وإلى المبادئ التي تنادي بها ... وليس من الدين الجفاف في المعاملة
أبداً! فالمعلمة كالأم الرؤوم تتعاطف مع تلميذاتها وتشفق عليهن وتشجع المجيدة
منهن، ولتذكر أن نتائج التشجيع والمدح أفضل من التوبيخ والتقريع؛ فتشحذ همة
طالباتها نحو الخير ببث الثقة في أنفسهن، وتحبيبهن بالفضائل دون أن تثبط
عزيمتهن.
وإن احتاجت إلى عقوبتهن أو تنبيههن يوماً مّا فلتجعل الطالبات يشعرن أن
العقوبة إنما هي لأجل مصلحتهن، ولو كانت بشكل غير مباشر؛ فإن ذلك أشد
تأثيراً، ولتشعرهن أنها حريصة عليهن وعلى سمعتهن ومستقبلهن، ولتربط
توجيهاتها بالدين وسلوك السلف الصالح؛ ليصبح الدافع الأساس في أعمالهن هو
الدين لا المصلحة ولا المجتمع ... وكل ذلك باعتدال من غير مبالغة لئلا يؤدي إلى
نتائج عكسية.
ولتكثر المعلمة من ذكر نماذج نساء السلف الصالح في الأجيال الخيّرة حتى
تبتعد الأجيال الجديدة عن الانبهار بنساء الغرب المنحلّ.
ومن صفات المعلمة المسلمة التواضع: فذلك من خلق الإسلام وقد قال تعالى
لنبيه الكريم: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] [الشعراء: 215] .
فتبتعد عن المفاخرة والمباهاة، وإلا أصبحت أضحوكة حتى أمام طالباتها اللاتي
يزهدن فيها وفيما تدعو إليه. والمعلمة التي تعامل طالباتها بصلف وكبرياء لن
تجني غير كرههن لها، والمعلمة التي تسخر من طالباتها ولو بالهمز واللمز تترك
جرحاً غائراً في نفس أولئك الطالبات. فأين هي من أدب الإسلام الذي حذر من تلك
المثالب بقوله تعالى: [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] [الهمزة: 1] . وأين القدوة الواجبة
عليها والمنتظرة منها؟ !
وأن تكون المعلمة يقظة في رسالتها: فهي يقظة لجزئيات المنهج المدرسي
لتستفيد منها كما يجب، وتوظفها لخدمة عقيدتها؛ فلا يُدرس العلم بمعزل عن
العقيدة.
وينبغي أن تكون المعلمة يقظة لما يتجدد من أحداث يومية: فلا تدعها تمر
دون استفادة منها، بل بالطرْق والحديدُ ساخن كما يقال فتعلق على الحادثة التعليق
المناسب في حينه.
وعليها أن تلاحظ تصرفات طالباتها، فتزجرهن عن سيّئ الأخلاق،
وترغّبهن في حسنها بطريقة سليمة ولا تلجأ للتصريح إذا نفع التلميح.
تستفيد من النظريات التربوية: شريطة أن تتناسب مع قيمنا، فتستثير أذهان
طالباتها بالأسئلة الموجهة والمفيدة، مما ينمي شخصياتهن وينقل الحقائق العلمية
لعقولهن.
وعليها أن تشجع ذوات المواهب والكفاءات بالثناء على أعمالهن وتصرفاتهن، ولتذكر أن بدايات الابتكار على مقاعد الدراسة.
تتعاون مع زميلاتها المدرسات: فالتفاهم والوئام بين أعضاء الأسرة
المدرسية يفسح للمديرة القيام بعملها ومتابعة العملية التعليمية، والارتفاع بمستوى
الأداء الوظيفي ... بدلاً من أن يكون عملها حل المشكلات التي تعملها المدرسات
الفارغات ...
تتعاون مع أسر الطالبات: فهن شريكات في عمل واحد، وعلاقتها مع الأم
علاقة محبة وتقدير وتعاون لما فيه خير الطالبات، فتساعد على تثقيفهن؛ ويتم ذلك
من خلال حلقات إرشادية للأمهات؛ فتعقد المدرسة الندوات وتقيم المحاضرات التي
تُدعى لها الأمهات، سعياً لتضافر الجهود، لوضع الأجيال أمام رؤية واضحة للحياة
ألا وهي: العمل لمرضاة الله تعالى، وإلا فما تبنيه المدرسة يمكن أن تهدمه الأسرة
والعكس صحيح.
أخواتي المعلمات: إن رسالتكن جليلة وهي أمانة في أعناقكن وسيسألكن عنها
رب العباد. إنها رسالة إعداد الأجيال المؤمنة بربها وصد كل هجوم فكري يحاول
التسلل إلى حصوننا، وغرس الفضائل السامية في النفوس، والعلوم النيرة في
العقول.
والمعلمة الصالحة لن تنساها طالباتها، بل تبقى في ذاكرتهن يشدن بأمجادها
وفضائلها، ويأتسين بجميل خصالها [وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ] [الأنعام: 32] .
المرأة والمجتمع:
إن كثيراً من الفتيات، ما إن تنتهي إحداهن من الدراسة النظامية حتى تهجر
الكتب، بل والمطالعة عموماً، وتنتكس إلى الأمية لارتباطها المعدوم بالكتاب،
وتصبح اهتماماتها المحدودة لا تتعدى لباسها وزينتها والتفنن في ألوان الطعام
والشراب، وهي هموم دنيوية قريبة التناول، لا غير ...
- المرأة المسلمة عضو في مجتمع الإسلام، فهي مؤثرة ومتأثرة به، لا شك
في ذلك؛ فهي ليست هامشية فيه أو مهملة، ولا يصح بحال أن تكون سلبية أو
اتكالية، وإن كان الأمر كذلك فهو الجحود عينه، والنكران للجميل، والابتعاد عن
الإيثار والتضحية.
أمتنا الإسلامية تنتظر من يعيد لها أمجادها من أبنائها البررة وبناتها الوفيات.
- وللمسلمة حضور اجتماعي واضح في كل ما هو نافع، وهكذا ينبغي أن
يكون.
فعليها أن تضع نصب عينيها حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لا
تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا؛ ظلمنا ولكن وطّنوا
أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا [4] .
- للمرأة رسالة تربوية هادفة للرقي بمجتمعها ...
وتبدأ هذه الرسالة بإيفاء حق جيرانها، فتعلّم الجاهلة ما تحتاجه لدينها ودنياها، وفي ذلك خدمة تؤديها للأجيال الناهضة؛ فتصبح اجتماعات الجارات ليست للقيل
والقال، بل للارتفاع بأسرنا المسلمة من الاهتمامات السطحية الساذجة إلى آفاق
سامية؛ فكل حديث يمكن أن تحوّله المسلمة الصالحة إلى حديث هادف، حتى
الحديث التافه لن تعدم المسلمة اللمّاحة أن تحوله للعبرة والتأمل، والجارات
الصالحات يتدارسن أفضل السبل لتربية أولادهن وحل مشاكلهن.
ومن الصور المشرقة في التعاون بين الجارات:
أن أحد الأبناء كان يسرق المال من جيب أبيه وينفقه على ثلة من أصحابه
الذين كانوا يشجعونه على ذلك العمل المشين.
عرفت الأم ذلك عن طريق جارتها الناصحة التي ساعدتها في اجتياز الأزمة،
بمدارسة المشكلة والنظر في جذورها، ومن ثم احتواؤها وإيجاد الحل المناسب.
ومن ذلك أن امرأة كانت تكمل دراستها العليا، وحيث إن لها أطفالاً بحاجة
إلى رعاية، فقد تكفلت جارتها بالعناية بأطفالها تحتسب الأجر: أجر الإحسان إلى
الجار، وأجر تخفيف الكربة عن جارتها التي من الممكن أن تتعرض لضغوط نفسية
عصيبة لو لم تجد الصدر الحنون من جارتها المسلمة.
وبالمقابل يجب أن لا ننسى الفضل لأهله، فكلتاهما تشارك في الأجر. وهذه
إحدى صور التضامن بين الجيران بدلاً من الجفاء الذي عم وطم.
- ومن مهام المرأة المسلمة أن توطد العلاقات الحميمة بين الأقارب: من
صلة للأرحام، وزيارة للمرضى، ومشاركة في الأفراح ... وغير ذلك من أعمال
الخير مما يشيع روح التعاون والمحبة، فتنشأ الأجيال على مُثُل الإسلام، وقيمه
السامية، بالتعامل الطيب وبالمحاكاة الودودة. وعلى المرأة المسلمة أن تشجع كل
بادرة خيرة تبدو من أجيالنا الناشئة، فتهنئ بنجاحهم، وتفرح لتفوقهم.
أمّا ما نسمعه عن خروج التافهات إلى الساحات العامة ليشجعن المباريات؛
فذلك ليس من التشجيع المشروع؛ فضلاً عن أنه لا يدل بحال على وعي المرأة لما
يناسبها من مهام.
- وبالمقابل أن تتيح الفرصة لمناقشة الصغار وسماع آرائهم وتقدير أعمالهم
الناجحة دون ضجر، ولنذكر أن من يعتبره بعض الناس طفلاً كثير الثرثرة قد يكون
ممن له شأن في المستقبل، وكثرة أسئلته ما هي إلا دليل على قوة ملاحظته،
وتعبير عما يجيش في نفسه التواقة للمعرفة والاطلاع. ولا ننسى الأثر الطيب في
توجيه الصغار وتشجيعهم.
سمعنا أن محاضِرة كانت تتحدث بطلاقة تبهر كل من تسمعها من بنات جنسها، وكان من أكثر ما أثر فيها أن جاراتها ومعارف أبيها كانوا يستمعون لخطبها
ويشجعونها وهي لا تتعدى السادسة من عمرها.
فعلينا ألا نبخل بكلمة طيبة نشجع بها صغارنا؛ فالكلمة الطيبة صدقة،
والتوجيه الهادف لن يعدم له أثر، والكلمة المخلصة تصل إلى القلوب بلا حواجز.
من المهام الأساسية للمرأة المسلمة أن تساهم في تحصين الأجيال بالثقافة
الأصيلة والعقيدة الصحيحة، ولا تترك قيادة الأجيال بيد العابثات اللاتي يركبن كل
موجة من أجل الوصول إلى أهدافهن في تخريب النشء.
فمن خلال مشاركتها في المراكز الثقافية وعدم ترك هذا المجال الهام لغيرها
من صاحبات المذاهب الهدامة. ممن جعلن همهن أن تكون هذه المراكز بؤرة
للإفساد ووسيلة للتخريب.
ومن الصور المشرفة مساهمة المسلمة في الجمعيات النسائية الخيرية لتحافظ
على وجهتها السليمة من خلال مشاركتها بما تقدر عليه، بالمحاضرات والندوات
والنشاطات الاجتماعية الطيبة والمتنوعة؛ فتصبح تلك فرصة طيبة لها للتعلم
والتعليم وتوجيه الأجيال، فتستفيد وتفيد في آن واحد، ورب كلمة طيبة ونصيحة
مخلصة تأخذ بيد الأمهات والمعلمات والمربيات نحو الخير، وتبعدهن عن الأخطار
التربوية، وتصل بالنشء إلى التقدم والفلاح.
إننا إذ نطلب مساهمات المرأة والاستفادة من عمرها الذي ستسأل عنه وعن
علمها الذي تعلمته، لا نعني بذلك التزامها بعمل رسمي مهني تداوم فيه ولو أدى
ذلك إلى إهمال حق زوجها ورعاية أبنائها ولا نعني المرأة العاملة التي تعود إلى
بيتها مكدودة الجسم مثقلة النفس بهموم العمل؛ فأنّى لأمثال هذه المكدودة المتعبة أن
تفيد الأجيال التي تنتظر اللمسة الحنون منها، فلا يجدون لديها إلا الزجر والتأنيب؛
لأن أمهم متعبة وتريد أن ترتاح من عناء العمل طوال يومها! ... وبنفس الوقت لا
يعني هذا أن تترك الأعمال الممكنة التي تتناسب مع فطرتها ولا تشق عليها كتطبيب
النساء، وتعليمهن الخياطة ونحوها؛ ولا تترفع عن أعمال يمكن أن تسد بها ثغرة
طيبة في مجتمعها.
إنها وهي المسلمة التي تريد أن تربي الأجيال على تعاليم الدين يجب أن
تبذل جهدها في تنقية الوسائل الإعلامية من كل ما يهدم الأخلاق ويسيء للمثل العليا. ولا يخفى أن الإعلام يؤدي وظيفة من أخطر وسائل الغزو الفكري الحديث. وقد
اهتم به المروجون لأفكارهم وتنوعت أدواته من إذاعة وتلفزيون وصحافة ومجلات
وسينما ومسرح وكتب وفيديو و.... وأكثرها يعتمد على الإثارة ويتفنن في طرق
مخاطبة الغرائز وعداوة الدين وتعاليمه، وتدعو بمجملها وفي غالب أحوالها إلى
التحلل والسفور والتمرد على الفطرة، والتطبيل والتهليل لكل خبث وخبيث، مما
يشيع الخنا والفجور، ويشكك بالشخصية المسلمة وقدرتها على الإبداع، حين
يصفونها دائماً بالمتخلفة، فتنشأ الأجيال وقد فقدت ثقتها بنفسها؛ وكأن الإبداع
والتفوق مقصوران على الكفار وحدهم؛ وأما المتدينون فهم المتخلفون مما يُشعِر
الأجيال بالدونية والصّغار، وهذه توجيهات خبيثة تنفث سمومها في مجتمعاتنا، فلا
بد من تحصين الأجيال ضد هذا الغزو الفكري المركّز.
- والمسلمة الواعية تتعامل مع الإعلام بفطنة وحذر، ولا يفوتها أن من
مقاصد التشريع الإسلامي حفظ الكليات الخمس وهي: الدين، والعقل، والنسب،
والنفس، والمال، فإذا وجدت المسلمة ما يعمل على إضاعة هذه الكليات أو بعضها
فيجب أن تسعى ما أمكنها لتكون حائلاً دونه. إننا نناشد الأقلام النسائية لنصر
الفضيلة، وتسفيه رأي شياطين الإنس وبيان زيفهم وضلالهم.
لا بد من مواجهة العدو الماكر بتخطيط سليم وعمل مضاد، وإذا لم نبذل الجهد
لتدعيم الأخلاق الفاضلة وترسيخ العقيدة السليمة، ندمنا حيث لا ينفع الندم؛ فقد
تُكَرّس الخرافة والمثل الهابطة، وتعيش الأجيال وهي تستنشق ذلك العبق القاتم.
ومن المزايا التي اختصت بها نساؤنا في الماضي كثرة القصص يسلين بها
الأطفال، ويجذبنهم للأسرة ولمعتقداتها.
فلماذا تترك نساؤنا المثقفات أبناءهن هدفاً لقصص جرجي زيدان (وأمثاله)
يشوهون تاريخنا ويسيئون إلى مُثُلنا؟
فلنساهم في الإعلام المقروء والإعلام المسموع كل واحدة بقدر طاقتها، حتى
الأناشيد ينبغي أن تنظمها المسلمة ليترنم بها أبناؤنا، ولتحل محل الأغاني الهابطة،
ولتغرد الأجيال بكلمات عذبة تظهر الصورة الوضيئة للإسلام ومثله السامية،
وتستميل قلوب الناشئة للخير.
وكذلك الحال في المجالات والقصص والروايات التي تعلم في كثير من
حالاتها خداع الآخرين في سبيل المال وتكرس القيم والأفكار الخاطئة، من العنف
أو اللامبالاة، أو العقوق وغير ذلك من سيئ الأخلاق؛ فإن واجب المسلمة أن
تستفيد من وسائل المعرفة السريعة هذه، حتى تصبح منبراً يعلم الخير ويدعم العقيدة، ويثقف العقل، وفي الوقت ذاته يروّح عن النفس.
- إن أخطر أنواع الإعلام الحديث هو التلفزيون؛ إذ زاحم الأسرة في توجيه
أبنائها وبناتها وذلك بجاذبية مدروسة، وغزو مستور، وشياطين الإنس تؤزّه لهدم
كل فضيلة. وقد قال الرئيس الفرنسي السابق ديغول متحدثاً عن أثر التلفاز:
أعطني هذه الشاشة أغير لك الشعب الفرنسي.
ولو علمنا أن كثيراً من الأسر قد تخلت عن دورها نهائياً في مهمة التربية
العقدية والفكرية، وأسلمت أبناءها للتلفزيون يصنع بهم ما يحلو له من التوجيه
وغرس المفاهيم والعقائد المغايرة في كثير من الحالات لعقائدنا وحضارتنا؛ لقدّرنا
أي واجب يحتم على المثقفة المسلمة أن تستفيد من إمكاناتها إن كانت تحسن كتابة
القصة أو الأنشودة أو الحوار أو المقالة.
يجب أن لا تتردد المسلمة في النزول إلى ميدان الإعلام، لمواجهة الفتح
الإعلامي الذي يصب في آذان الناشئة صباح مساء.
فمن أجل أبنائنا ومن أجل مستقبل أفضل، ولكي يبقى صوت الحق عالياً؛
فإن على المسلمة أن تساهم في وضع المادة الصالحة البديلة عما يسيء لدينها
وعقيدتها، وتنشط فلعلّ كتابتها تكون سداً حائلاً دون تسرب الخبث؛ لأن من يُقدّم
له الطعام فيشبع لن يشتهي الفضلات ولن يُقْدِمَ على تناولها.
أختي المسلمة:
لا تتعللي بالأسباب فتقولي: أنا متعبة الصحة، كثيرة الالتزامات، ضيقة
الأوقات؛ فاغتنام الوقت والصحة والغنى من تعاليم شرعنا الحنيف؛ فعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اغتنم خمساً
قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك
قبل شغلك، وحياتك قبل موتك [5] .
- فإذا نظمت المرأة حياتها واستفادت من جزئيات وقتها، وضنت به أن
يستهلك في الطهي وفضول الكلام ... فإننا عند ذلك لن نسمع لها شكوى من ضيق
الوقت؛ فتلتفت إلى واجبها داعية للخير وقدوة لغيرها، تثري الفكر في المجالات
التربوية والصحية التي تعود بالفائدة على الأجيال المؤمنة والمجتمع الإسلامي بأسره، وتبذل جهدها لإيجاد بديل إسلامي لمواجهة هذا الزخم الهائل من الهجمة الفكرية،
وتدافع عن حوزة الدين في مجتمع الذئاب الذين يدأبون على التخطيط والعمل
لصرف الناس عن دينهم.
إن على المرأة المسلمة أن تنبذ الراحة الموهومة، والنوم والكسل الذي ران
على نفوس الكثيرات، وتجتهد لتقوم بواجبها نحو أمتها المسلمة، ونحو أجيالها
الرشيدة بما تقدر عليه، وتستثمر وقتها بما يفيد؛ مع انتهاز الفرص المناسبة؛ علّنا
نزيل الظلمة الحالكة التي ألمت بأمتنا ... ونورث الخير للأجيال القادمة ... وإلا
بقيت آمالنا حبيسة لا تتعدى صدورنا، وبقيت أجيالنا في مؤخرة الركب بدلاً من
قيادته.
__________
(1) أخرجه أبو داود، ح / 3887، وأحمد، ح / 26555 وصححه الحاكم.
(2) رواه البخاري، ح /97، ك العلم.
(3) رواه مسلم، ح / 1893، ك الإمارة.
(4) أخرجه الترمذي، ح / 2007، ك البر والصلة عن حذيفة رضي الله عنه.
(5) أخرجه الحاكم وإسناده صحيح.(139/128)
قضايا دعوية
الولاء والبراء في نفس الداعية
عبد العزيز الجليل
إن المتأمل في كتاب الله - عز وجل - وفي واقع الدعوة إلى الله - عز وجل- يرى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الدعوة إلى الله - تعالى - والجهاد في سبيله
وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية.
فكلما قوي شأن الدعوة وقوي شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند
الداعية المخلص لربه كلما قويت هذه العقيدة في نفسه، وظهرت بشكل واضح في
حياته ومواقفه ومحبته وعداوته حتى يصبح على استعداد لأن يهجر وطنه وأهله
وماله إذا اقتضى الأمر ذلك؛ بل إن هذه العقيدة -أعني عقيدة الولاء والبراء -
لتبلغ ذورة السنام في قلب الداعية وتنعكس على مواقفه، وذلك في جهاد أعداء الله
ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله - تعالى -: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: 71] .
وقال - تعالى -: [إن الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] [الأنفال: 72] .
والعكس من ذلك واضح ومُشاهَد؛ فما من داعية فترت همته وضعف نشاطه
ومال إلى الدنيا وأهلها إلا ظهر الضعف عنده في عقيدة الولاء والبراء، ويستمر
الضعف والتنازل تبعاً لضعف الاهتمام بشأن هذا الدين حتى يصل إلى مستوى
بعض العامة من الناس الذين لا هم لهم إلا الدنيا ومتاعها الزائل، ولو نوزع في
شيء من دنياه لهاج وماج، أما أمر دينه ودعوته فلا مكان لذلك عنده فمثل هذا
الصنف تصبح عقيدة الولاء والبراء في قلبه ضعيفة ورقيقة سرعان ما تهتز أو
تزول عند أدنى موقف.
ولعل في هذا تفسيراً لتلك المواقف المضادة للعقيدة التي نراها من أولئك
البعيدين عن الدعوة والجهاد، كتلك المواقف التي تظهر فيها أثر القوميات
والوطنيات والقبليات على نفوس هؤلاء الذين يعقدون ولاءهم وبراءهم وحبهم
وعداوتهم على هذه الرايات الجاهلية، وليس على عقيدة التوحيد والإسلام.
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تدرس وتحفظ في
الذهن المجرد؛ بل هي عقيدة عمل ومفاصلة، ودعوة ومحبة في الله، وكره من
أجله وجهاد في سبيله؛ فهي تقتضي كل هذه الأعمال، وبدونها تصبح عقيدةً في
الذهن المجرد سرعان ما تزول، وتضمحل عند أدنى موقف أو محك؛ فإذا أردنا أن
نقوي هذه العقيدة العظيمة في نفوسنا فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله - تعالى -، وكلما ابتعد
الداعية عن هذه الأعمال مؤْثراً الراحة والدعة فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة،
وتعرضها للخطر والاهتزاز.
ولا غرابة في ذلك، فإن الإيمان - كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة:
قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. والولاء والبراء من أخص
خصائص الإيمان، فهو يزيد بالعمل الصالح الذي من أفضله الجهاد والدعوة،
وينقص بالمعصية التي منها ترك واجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والجهاد في سبيل الله - تعالى -.(139/138)
من ثمرات المنتدى
في هذه الزاوية يسر المنتدى الإسلامي أن يتواصل مع قرائه الكرام بإيقافهم
على آخر الأنشطة والمستجدات والفعاليات التي تتم بفضل الله - تعالى - في
مختلف مكاتبه المنتشرة في إفريقيا وآسيا، سائلين الله - تعالى - أن يخلص النيات، ومتمنين من أحبابنا الكرام أن يزودونا بملحوظاتهم واقتراحاتهم، وأن يقفوا معنا
بدعائهم وعونهم.
إصدارات حديثة للمنتدى
دمعة على التوحيد
ضمن جهود المنتدى الإسلامي العلمية والثقافية صدر عن سلسلة كتاب المنتدى
كتاب: (دمعة على التوحيد ... حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة) ، تناول فيه
أكثر من كاتب إيضاح جانب مهم من الأمراض التي ابتليت بها الأمة، وهي بدع
الاعتقاد في القبور والأضرحة والشرك الذي صاحبها.
وهو كتاب يلقي الضوء على جوانب شرعية وواقعية كثيرة في هذا الباب كان
قد نشر مختصراً على صفحات عددين من مجلة البيان، ولقي قبولاً واستحساناً
واسعاً من جمهور القراء وأهل العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن
باز -رحمه الله-، وفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار
العلماء بالسعودية اللذان نعتز برأيهما.
نسأل الله - عز وجل - أن ينفع به وأن يكون عوناً لدعاة التوحيد لتحقيق
رسالتهم.
تجربة المنتدى في العمل الدعوي
كتاب في (166) صفحة من الحجم العادي، هو أشبه بإصدار جديد وإن كان
يمثل الطبعة الثانية للكتاب؛ لأنه جاء أضعافاً لحجم الطبعة الأولى، وقد حرص
المنتدى في هذا الإصدار على تقديم تجربته لدعاته ولإخوانهم في المؤسسات
الدعوية والخيرية المماثلة.. فأبرز أهدافه، وفصّل مجالات عمله، وشرح وسائله، وذكر الضوابط والتوجيهات في تخطيط العمل الدعوي، وفي إقامة الأنشطة
الدعوية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والصحية، وثنَّى بتوجيهات إدارية،
وتوجيهات في التعامل مع الآخرين، ثم إرشادات في الأسفار والرحلات الدعوية
والأعمال المهمة فيها، وختم ببيان شيء من الشؤون القانونية والمالية التي ينبغي
أن يعرفها الإخوة في المؤسسات الإسلامية، واننا لنرجو أن يجد فيه العاملون في
الحقل الدعوي إضافة جديدة تعينهم في هذا الطريق المبارك.
مهتدون جدد
- في بلدتي (شنا منغ) و (تنفائيل) وهما قريتان جبليتان نائيتان في بنجلاديش
بهما أغلبية بوذية؛ استطاعت حملات متوالية لهيئات نصرانية أن تبذل جهوداً
مكثفة في التنصير مما أغرى بعض الأهالي بالاستجابة لهم. وكان لدعاة الإسلام
دور في علاج المشكلة، وقد وُفق (المنتدى الإسلامي) - ولله الحمد - بإرسال أحد
الدعاة إلى تلك المناطق فوجد لدى أهلها رغبة في الدخول في الإسلام فبدأ في
دعوتهم إليه والأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد المتواصل.
- تم تخريج الدفعة الخامسة للمهتدين الجدد في مركز دار الإرشاد في نيروبي
عاصمة كينيا في 21/3/1999م وعددهم خمسة وعشرون دارساً، أكملوا منهج
الدورة المعد للمهتدين الجدد بواسطة المنتدى الإسلامي خلال ثلاثة أشهر، وقد بدأ
التسجيل واستقبال الدارسين في الدفعة السادسة - ولله الحمد - ابتداءً من
5 /4 / 1999م، ونسأل الله أن يثبتنا وإياهم على الحق.
- وتم بحمد الله - تعالى - تخريج الدفعة الأولى للمهتدين الجدد من دار
الاعتصام للمهتدين في كسومو بدولة كينيا التي يشرف عليها المنتدى الإسلامي،
وذلك في يوم الأحد 25/12/1419هـ الموافق 11/4/1999م وعددهم خمسة
وثلاثون دارساً أكملوا دورة لمدة ثلاثة أشهر وفق المنهج المعد لدورات المهتدين
بواسطة المنتدى الإسلامي، كما أن المركز استمر في استقبال الدفعة الثانية حتى
يوم 25/4/1999م.
قوافل دعوية
أقام مكتب غانا ثلاث قوافل دعوية خلال الفترة من 1 - 10 /4/1999م،
إلى كل من المناطق الشرقية والشمالية وبرونغ أهافو، استمرت كل قافلة ثلاثة
أيام، كما زارت كل منها إحدى عشرة قرية من القرى النائية لتوعية المسلمين
وإرشادهم، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
مخيم طلابي
اختتم المخيم الأول لطلاب الثانويات لسنة 1999م المنعقد في مراغوا بكينيا
في يوم الخميس 7/4/1999م، وقد شارك فيه 35 طالباً من المرحلة الثانوية
واستغرق أسبوعاً تلقَّى فيه الطلاب محاضرات علمية في موضوعات إسلامية
مختلفة.
دورات شرعية
أقام مكتب غانا الدورة الشرعية الأولى من دورات الوعي الشرعي للمهتدين
الجدد خلال الفترة من 24/11 - 10/12/1419هـ = 12/3 - 28/3/1999م
بمسجد سعيد ابن المسيب بقرية أبواسي بالمنطقة الغربية، شارك فيها ثلاثون مهتدياً
حديثو العهد بالإسلام، تلقوا خلالها دروساً منهجية في القرآن الكريم، والفقه،
والعقيدة، والأخلاق، والآداب الإسلامية. هذا وقد عبر المهتدون الجدد عقب
الدورة عن شكرهم وتقديرهم للمنتدى الإسلامي على هذه الدورة المفيدة، ودعوا الله
للقائمين عليه بالأجر والثواب من الله - تعالى -.
دورتان في السياسة الشرعية
- بدأت الدورة الشرعية لحَفَظَة القرآن الكريم في مانديرا - كينيا في يوم
3 /4 /1999م وسوف تستمر لمدة عام كامل لدراسة اللغة العربية، والسواحيلية، والإنجليزية، ويشارك في الدورة 40 طالباً من منطقة الكران
و20 طالبة من الحافظات لكتاب الله. وذلك في مسجد الروضة بمدينة هاتريرا.
- اختتمت - بحمد الله - الدورة الشرعية الأولى لسنة 1999م لمدرسي
المدارس الحكومية في مدينة مرتي - كينيا في يوم 20/4/1999م؛ حيث استمرت
لمدة 14 يوماً شارك فيها مدرسون في المرحلة الإعدادية والثانوية الحكومية واستفاد
منها مائة معلم - بحمد الله تعالى -.
مخيم طبي
أقيمت دورة شرعية لمدة ثلاثة أيام في مكتب المنتدى الإسلامي بلندن خلال
شهر إبريل 1999م في السياسة الشرعية حاضر فيها الدكتور علي مقبول،
والدكتور جلال الدين محمد صالح، وحضرها جمع طيب من طلبة العلم والمهتمين
بالموضوع، كما وزعت على الحضور الجوائز تشجيعاً للمشاركة، وترجمت
المحاضرات فيها ترجمة فورية إلى اللغة الإنجليزية.
وقد أقيمت الدورة نفسها في مدينة شيفلد؛ حيث تمت إقامتها هناك بالتنسيق
مع مركز الرسالة في مسجد قباء.
أقيم في دولة الصومال مخيم طبي لمكافحة العمى بالتعاون مع مؤسسة البصر
الخيرية، وقد بلغ عدد المرضى الذين تم الكشف عليهم (5000) مريض، وتم
إجراء (522) عملية جراحية وتوزيع (1592) نظارة و (95) عدسة، وقد اهتمت
الدوائر الرسمية بهذا المخيم. وصاحب المخيم برنامج دعوي ناجح تمثل في
الحلقات العلمية التي كان يعقدها دعاة المنتدى الإسلامي. جزى الله خيراً من أعان
وساهم في إقامة هذا المخيم وكحل عينيه برؤية الباري -عز وجل -.
مشروع الأضاحي لعام 1419 هـ
تم بحمد الله ذبح وتوزيع 3053 رأس غنم (أضاحي) في أكثر من 21 دولة
وقد حرص المنتدى الإسلامي على استيفاء الشروط الشرعية عند اختيار الأضاحي
وذبحها خلال اليوم الأول.
واستفاد من هذا المشروع - بفضل الله - ما لا يقل عن 35000 شخص،
وقد كان له أبلغ الأثر في نفوس إخواننا في تلك الدول الفقيرة، مجسداً بذلك روح
التآخي والتكافل التي تربط المسلمين فيما بينهم، وفرصة لهم لتناول اللحم الذي لا
يجده أكثرهم إلا في مناسبات كهذه المناسبة المباركة.
دين التكافل
وأسلمت امرأة عجوز في قرية سيويدرت على ساحل بحيرة فكتوريا، وذلك
عندما زار مجموعة من الشباب من يتروي القرية وقاموا بتوزيع الأضاحي للأهالي
في ثاني أيام العيد. والعجيب في الأمر أنه عندما قدمت لها بعض اللحوم من
الأضاحي رفضت أن تأخذها وقالت: حتى لا تظنوا أنني أسلمت بسبب اللحوم؛ بل
أسلمت بسبب مجيئكم من نيروبي تقطعون مسافة 500 كم لا لشيء سوى مشاركة
إخوانكم المسلمين في هذه القرية فرحة عيدهم ومساعدتهم، وهذا ما نفقده في
النصرانية؛ حيث إن كل واحد يعمل لنفسه، وظلْم الناس عندنا أكثر من مساعدتهم، والكنيسة عندنا تأخذ من المسكين النصراني باسم التبرع إلى الكنيسة ولا تعطيه،
وأنتم تعطون مساكينكم من المسلمين ولا تأخذون منهم شيئاً؛ فهذا هو الدين الحق.
افتتاح مسجدين في تنزانيا
في دولة تنزانيا المطلة على المحيط الهندي والتي تبلغ نسبة المسلمين فيها
63% افتتح المنتدى الإسلامي بحمد الله ومنِّه:
1- جامع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مدينة تانغا وهو يتسع لـ 500
مصلٍ.
2- جامع الإمام الشافعي في مدينة مهيزا ويتسع لـ 300 مصلٍ.(139/140)
المنتدى
مَنْ في القبور
مسعود الصاعدي
تمطَّى بجوفي هَمٌّ ثقيلْ
يسير رويداً
ويجثمُ في طرقات العروقْ
به أرقبُ الشمس
بعد الغروبِ
فتغرب عند انتظار الشروقْ
به ألعق المرَّ
أحسب أنّي
لعقت من الزهر شَهْدَ الرحيقْ
وأحسبُ أنَّ النجوم تدلَّى
وما ثَمَّ نجمٌ! !
وما ثَمَّ بَدْر! !
وما ثمَّ إلاّ اختطاف البروقْ!
* * *
أنام وأصحو
فابصر ثمة بعض الدفاترِ حوليْ
تسيل مدامعها في السطورْ
وأبصر ثَمَّ يراعاً حزيناً
جريحاً
وينزف يندبُ كرَّ الزمانِ
ومرَّ الدهُورْ
* * *
فأعلمُ
أنَّ الدفاتر تبكي
وأعلمُ
أن المنائر تبكي
وأنَّ المدائن تبكي وتبكيْ
ولكنَّ ماءَ العيونِ
وماءَ اليراع
لا ينبت الزهر فوق الصخورْ
(وربُّك يبعث من في القبورْ)(139/143)
وصية العام الفقيد
عبد الله بن حسن الوادعي
جَمَعَ الوثائقَ والصحائفَ والعهودْ ... وأدار ظهراً ثم ولَّى لن يعودْ
وأجدَّ في السير الحثيث وقالَ لي: ... أخُبر أولئكَ أنني ضمن الشهودْ
قل للذين تخلفوا عَن مجدهمْ ... باعوا حضارتهم وغرتهم وعودْ
واقرعْ مسامعَ مَنْ تَغَيَّرَ حَالُهُم ... واستبدلوا الدنيا بجنات الخلودْ
ذَلوا وهَانُوا! ما تُهانُ كَرامةٌ ... إلا لشعبٍ حفُهُ ألا يَسُودْ
كيفَ السبيلُ وقد أضعتمْ شرعةً ... وجزيتمُ الشرعَ المطهر بالجحودْ
كيفَ السبيلُ وقد نَسيتمْ قدوةً ... رمزَ الإباءِ الحُرِّ عُنْوانَ الصُمُودْ
ورضيتمُ بالذلُ بَعدَ معزةٍ ... المجدُ ليسَ يُقيِمُهُ قومُ رُقودْ
أَسَفِي على قومٍ يَعِيثُ بأرضهمْ ... أهلُ الصليبِ الحمرُ إخوانُ القرودْ
الشبلُ يُولدُ ثَائراً متحفزاً ... فهو ابن ذاك الليثِ لا يخشى الفُهودْ
لكنكم تخشونَ مِنْ نبح الكلا ... بِ وأنتمُ الأشبالُ أبناءُ الأُسودْ
كل الذي أستطيعُ بثُ مشَاعِري ... وعسى لدربِ العزِّ يوماً أن نعودْ
أنا شاهدٌ عدلٌ مضى مِنْ عُمركم ... حتى لقاءِ الحقِ تَحبسُني القُيودْ(139/144)
ليلٌ.. ودموع! !
علي بن جبريل بن أمين
وقفتُ أمام الله عبداً وحيداً ... وأسبلتُ دمعاً -في الظلام- مديدا
وفجَّرتُ ينبوع المدامع فائضاً ... وأسبكت دمعاً للذنوب مبيدا
وقفتُ أناجي الله ربي وخالقي ... أناجيه مكسورَ الجنَان، عؤودا
إلهي لقد جلّت ذنوبي.. بل غدتْ ... تعاظم صرحاً في السماء مَشيدا
أفقتُ - إلهي - بعد طول تغافلٍ! ... وإني لأرجو أن أكونَ شهيدا
وفارقتُ دنياي الدنيّةَ؛ آيباً ... إلى الحق.. أدعو الله ربي فريدا
أزحتُ عن القلب الكئيب كآبةً ... وصيّرتُ - بعد الأوب - رأيي سديداً
وصوَّبتُ أمري نحو كلِّ فضيلة ... لأطلبَ عند الله أمراً حميدا
دموعي على الخدين سالت بحسرةٍ ... فأسكبتُ - رغم السيل - دمعاً مزيدا!
فروحي تناجي الله في ملكوته ... ويسرح قلبي عند ربي سعيداً!
أصفُّ مع الراجين رحمةَ ربهم ... نناشد ربي ركعاً وسجودا
ولما رأيت الليل أرخى ستاره ... (وقفت أمام الله عبداً وحيدا)(139/145)
نفثة الأسى
زاهر بن مرعي الزهراني
جدَّ المُضِلُّون في خسفٍ وإرعابِ ومعولُ الظُلمِ أبكى عينَ محرابِ
لم يبقَ في قِرْبَة الأعيادِ من فَرَحٍ نسقي بها النفسَ مِن جدبٍ بها رابي
ماتتْ بغدْر رماحِ القهرِ بهجتُنا ويشمَخُ الحزنُ في أحداقِ أحبابي
وينبتُ الألَمُ المجنونُ في شَفَة تُريقُ بسمَتُها شَهْداً مِنَ الصَّابِ
زقّومةُ الشرِّ تنمو في مرابعنا ونخلةُ الخير ذاقتْ فاسَ حطّابِ
وصيحَةُ الليلِ دوّتْ في عوالمِنا وهمسَةُ الصُّبحِ في سِجنِ وإرهابِ
أَلَمْ ترَ الطفلَ في أشداقِ عاصفةٍ يبكي وحيداً على أهلٍ وأصحابِ؟ !
غَضّاً، يقول على أشلاءِ منزِلِهِ: صارتْ رماداً كراريسي وألعابي!
أُمّي.. أبي.. إخوتي، من ذا يُساعِدني؟ فالحقلُ شوكٌ، وساقي بينَ أنيابِ
كُفَي عذابَك يا دُنيا اللّظى؛ فَلَنا شوقٌ فتىٌّ لأيامِ ابن خطّابِ
لا الكربُ لامَسَها، لا النورُ فَارَقَها، حمائمُ الأنسِ تغشاها بأسرابِ
وعندنا في زمان القحْطِ مَظْلَمَةٌ تُحقِّرُ الصِدقَ، تهوى رَفْعَ كذَابِ
سلاحُنا في الوغى دَمْعٌ يُخَادِعُنا فهل سيصنَعُ دِرْعاً غسلُ أهدابِ؟
يَدُ الضلالةِ غاصتْ في منابعنا فدنستها ونرضى وَحْلَ أغرابِ!
مراكِبُ الصّفو ضلّت عن موانئنا بل المصابيحُ قد نامتْ بألبابٍ
مهما فَشَا الخوفُ.. فالآمالُ صاعِدةٌ على مدارج إيماني لترقى بي
يا قلب فاسْعَدْ.. أرى أفْقاً يقول لنا: لزورقِ الفجرِ قد فتّحْتُ أبوابي(139/146)
الورقة الأخيرة
المواقف المعلومة في الانتخابات المحسومة
أحمد العامر
مرت في الآونة الأخيرة انتخابات عدة، من أشهرها الانتخابات الجزائرية
والانتخابات التركية، وهي في كلا البلدين ترفع الشعار الديمقراطي ودعوى تداول
السلطة بعد تفصيلها الأحزاب على المقاس المطلوب ورفض ما لا يناسبها حتى ولو
كانت الاتجاهات المرفوضة هي الأغلبية المطلقة، لا سيما وقد عانى شعبا البلدين
الأمرين من تلك المهازل التي يتولى (العسكريون) فيها دور محرك الخيوط في
مسرح العرائس.
وفي الوقت الذي كانت استطلاعات الرأي ونتائج الحوارات المتلفزة تؤكد أن
نسبة الترشيح محسومة لأحزاب بعينها في ذانك البلدين وجدنا أن تلك الاستطلاعات
تتغير بقدرة قادر وتُوجَّه لأحزاب أخرى؛ وحينما وجد مندوبو الأحزاب الجزائرية
أن العملية الانتخابية لم تسلم من التلاعب بصناديق الاقتراع انسحبت الأغلبية،
وفيها من المرشحين من له تاريخه السياسي ووزنه الشعبي وطلبوا - فوراً - اللقاء
مع الرئيس زروال؛ لكنه رفض اللقاء بهم فانسحب المرشحون وبقي (الرقم الأخير)
المحسوب على التيار (البومديني) الذي لم تجد فيه الجزائر سوى النهج الاشتراكي
المفلس الذي جعل بلداً بترولياً مثل الجزائر من الدول الهامشية المثقلة بالديون فضلاً
عما أثارته الصحافة المعارضة من مآخذ وسلبيات على شخص ذلك الرجل، لكن
لما كان مقبولاً من مراكز القوى العسكرية فلا مانع من أن يكون هو الفائز بنسبة
(73%) ليكون رئيساً للبلاد، دون الالتفات إلى الاحتجاجات ومظاهرات الجماهير؛
بل مواجهة من تجرأ على ذلك بالقمع؛ لأن ذلك ينافي - في زعمهم - الرغبة
الشعبية المزعومة!
أما تركيا فإنها - كعادتها - لو تركت الأمور تأخذ مجراها لتحقق ما توقعته
مراصد الرأي من فوز (حزب الفضيلة) ذي الاتجاه الإسلامي ليسبق الحزب الحاكم
(اليسار الديمقراطي) بقيادة (بولنت أجاويد) الذي وصل الحكم بعملية قيصرية
معروفة، مما سيجعل الحكام الفعليين وراء الكواليس في مأزق حرج لو فاز حزب
الفضيلة. ويتجلى ذلك فيما يلي:
1- أن العسكر يرفضون رغبة الشعب في ترشيح من يراه.
2- الحيلولة دون تكليف (إسلامي) بالوزارة اضطراراً؛ وهذا ما يسبب لهم
قلقاً هم في غنى عنه.
3- الهلع من عودة التيار ذي الأغلبية العظمى؛ مما قد يؤدي إلى تغيير
الدستور؛ فينكشف المخَّبأ؛ مما قد ينهي الحقبة الأتاتوركية المشبوهة؛ لا سيما أن
المشرف على هذه الانتخابات هو الحزب الحاكم الذي يتطلع للأغلبية لضمان بقائه؛
متعللاً ببطولة القبض على أوجلان الذي أوقعهم في حرج لا يحسدون عليه.
وهذا يجعل المراقب لنتائج تلك الانتخابات يتداعى لذهنه وجود أزمة هوية
كبرى لدى قطاع كبير من الشعب التركي لا سيما المثقفون منه؛ مما أظهر
الانتخابات الأخيرة بمظهر جديد وغير متوقع.
وما يخرج به المرء من أنباء تلك الانتخابات الهزيلة ما يلي:
1- أن انتخابات عالمنا العربي والإسلامي هي شعارات ودعاوى لا تمت
للحقيقة بصلة، وما دام الأمر كذلك؛ فلماذا لا يكون الحكام الفعليون وصناع
الانتخابات أنفسهم الممسكين بأزمَّة الأمور؟
2- أن الحزب الحاكم بما يملكه من صلاحيات يستطيع إجراء الانتخابات
لصالحه ما دام هو صاحب السلطة المهيمنة.
3- أن الغرب والشرق سيبصمون على نزاهة تلك الانتخابات وأمثالها،
ويدعون أنها تعبِّر عن الرغبة الشعبية ما دامت أنها نحَّتْ التيارات الإسلامية التي
يكرهونها ويرفضونها حسبما يجعجع به منظِّروهم من دعاوى أن الأصولية
الإسلامية هي العدو الجديد.
وكم ذا (بدارٍ) من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكاء(139/147)
ربيع الآخر - 1420هـ
أغسطس - 1999م
(السنة: 14)(140/)
كلمة صغيرة
نحن والمنافسة الإعلامية
للإعلام في هذا العصر دور كبير جداً في صناعة عقول الناس وتشكيل
أفكارهم وتصوراتهم، ولهذا استطاع الغرب - وأتباعه - غزو عقول الأمة بقنواته
الفضائية ووسائله الإعلامية بصورها المختلفة. ولطالما نادى المخلصون من العلماء
والدعاة بضرورة مخاطبة الناس بلسان العصر، والاستفادة من التقنيات العلمية في
تربية النشء ورعايته.
وكم يسعدنا ويثلج صدورنا حينما نسمع بمطبوعة إسلامية جادة، أو مشروع
إعلامي طموح، فذلك ممَّا يزيدنا فخراً وأملاً، ونسأل الله - تعالى - له التوفيق
والاستمرار؛ ولكن لا يخفى أن المنافسة الإعلامية من أشق العقبات التي تواجه
الإعلاميين في عصر انتكست فيه المفاهيم، وضاعت فيه القيم والمثل الأخلاقية،
وأصبحت العفة والكرامة تباع بأبخس الأثمان في سوق النخاسة المعاصرة..!
وأخشى ما نخشاه شعور بعض الإسلاميين بالعجز والضعف في تلك المنافسة
مما قد يستهويهم أو يستدرجهم إلى التهاون في بعض الأحكام الشرعية، فيلجؤون
إلى تتبع الرخص والترقيع أو التمييع، فيكونون (كالمُنْبَتِّ لا أرضاً قطع، ولا
ظهراً أبقى!) .
إن الإبداع الإعلامي طريق وعرةٌ فجاجُه، وهو مظنة للانزلاق والانحراف،
ولكنه مع ذلك طريق يجب الانطلاق فيه بوعي وعزّة، وتثبُّت وتورُّع.(140/1)
دراسات في الشريعة والعقيدة
كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم
(1/2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه، وبعد:
فإنه لما صحت أفهام سلف الأمة - من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان -
وأحسنوا العبادة وما أراد الله منهم، انصرفت عنايتهم لما كُلّفوا به، فحرصوا على
ما ينفعهم غاية الحرص، ولم يأبهوا بما يشغلهم عن ذلك ويلفت قلوبهم إلى سواه،
فقلّ كلامهم، وبلغوا من العمل منتهاه.
ولما كثر الكلام، وقل العمل، وزاد الانحراف حدة عظمت المخالفة في أمور؛ منها ما حصل في مفهوم الأولياء وكراماتهم، وشرّق الناس في أمر الكرامات
وغربوا، حتى صارت تشكو من الأحوال الآتية:
1- استفحال أمر الصوفية في المبالغة في الكرامات، وما يسمونه بالكشف
والإلهام، حتى أتوا فيها بما ينافي الشرع والعقل؛ ويظهر هذا جلياً لمن نظر في
كتبهم مثل: (الطبقات الكبرى) للشعراني، و (جامع كرامات الأولياء) لابن الملقّن،
و (كرامات الأولياء) للنبهاني ونحوها. والخطير في الأمر تصديق عامة الناس من
السذج والبسطاء والمغفلين لمثل هذه الخرافات المنكرة، حتى صارت تصوغ عقول
كثير من الناس، وأصبحت معياراً للاستدلال، وطريقاً للتعبد.
2- توسّع أهل الكلام (الأشاعرة والماتريدية) من وجه آخر، وتجويزهم أن
تصل كرامات الأولياء إلى حدّ معجزات الأنبياء.
3- إنكار معتزلة الأمس، ومعتزلة اليوم (العقلانيين) للكرامات.
4- تلبيس أهل السحر والشعوذة بخوارقهم على العامة، وادعاؤهم أنها كرامة!
ويبقى أهل السنة بوسطيتهم يقفون في أمر الكرامات موقفاً وسطاً يتميزون به، سيراه القارئ الكريم مدعّماً بالأدلة، محلىً بالأمثلة والضوابط والفوائد.
ولا بد من الكلام أولاً عن مفهوم الأولياء. والله المعين.
معنى الولاية:
قال ابن فارس: (الواو واللام والياء أصل صحيح يدل على قرب. من ذلك
الولْي: القرب. يقال: تباعد بعد ولْي، أي: بعد قرب. ومن الباب المولى:
المعتِق والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والصاحب والجار، كل هؤلاء من
الولْي وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه) [1] .
(والوَلاية: النصرة، والوِلاية: تولي الأمر. وقيل: الولاية والولاية نحو:
الدّلالة والدّلالة، وحقيقته: تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك) [2] .
أما الولاية الشرعية فأمرها غاية في الوضوح، قال الله - تبارك وتعالى -:
[أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *
لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] ... [يونس: 62 - 64] فكل مؤمن تقي هو ولي لله - تعالى - بالمعنى الشرعي،
ويدخل في ذلك الأنبياء - صلوات ربي وسلامه عليهم - فهم سادة الأولياء. لكن
الأولياء في الاصطلاح يراد بهم مَنْ سوى الأنبياء، فيمكن أن يقال إن الولي هو:
كل مؤمن تقي ليس بنبي.
والإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وهو قول القلب وعمله، وقول اللسان،
وعمل الجوارح.
وقول القلب هو الاعتقاد الجازم، وعمله قيامه بالعبادات القلبية كالإخلاص
والمحبة والخوف والرجاء.
والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت مع
البر (كانت التقوى اسماً لتوقي جميع المعاصي، والبر اسماً لفعل الخيرات) [3] .
قال ابن رجب: (فظهر بذلك أنه لا طريق توصل إلى التقرب إلى الله -
تعالى - وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله -صلى الله
عليه وسلم-؛ فمن ادعى ولايته والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه
كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله - تعالى - بعبادة من يعبدون
من دونه) [4] . وقال ابن حجر: (المراد بولي الله المواظب على طاعته،
المخلص في عبادته) [5] .
وأولياء الله على مرتبتين:
إحداهما: مرتبة من تقرب إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين
أصحاب اليمين.
وثانيتهما: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، وهذه درجة السابقين
المقربين، وقد ذكر الله تلكما الدرجتين ودليل الصنفين في سورة الواقعة
والرحمن والإنسان والمطففين وفاطر [6] فقال: [فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ] [الواقعة: 8] . ثم قال: [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ]
[الواقعة: 10، 11] .
والحاصل أن الولاية مرتبة في الدين عظيمة لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً
وباطناً بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ فهي درجة عالية لا يُصعد إليها إلا بسلّم
الشريعة؛ بل من اعتقد ولاية من يترك الواجبات ويفعل المحرمات فهو كافر مرتد؛
لتكذيبه الآية [7] .
والولاية لها جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر، واجتناب
النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل، وجانب يتعلق بالرب - تعالى -: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة، أما الكرامات فهي أمر
إضافي وليست شرطاً في الولاية [8]- كما سيأتي -.
فضل الولاية والأولياء:
يكفي الأولياء ما جاء في الآية من تولي الله لهم، ونصرتهم وتأييدهم
ومعونتهم وإصلاح أحوالهم، وأنه لا خوف عليهم مما أمامهم في الآخرة، ولا هم
يحزنون على ما خلفهم من الدنيا، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
هنيئاً لهم، يوفقهم الله بهدايته وتسديده، ويحوطهم بحمايته ونصرته. قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته
بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال
عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني
لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن
نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته) [9] . (وهذا أصح حديث يروى
في الأولياء) [10] . وقد ذُكر فيه المقتصدون والسابقون، أما الظالم لنفسه
بالإصرار على الذنوب فلا يكون ولياً حتى يتوب.
الولاية لا تستلزم العصمة:
الولي بَشَرٌ يجوز عليه ما يجوز على الناس من الغلط والسهو والظن الخاطئ
ونحو ذلك، ولا يقدح ذلك في ولايته خلاف ما زعمت الصوفية من أن القلب إذا
كان محفوظاً كانت خواطره معصومة من الخطأ! فإنه ليس في النصوص ما يدل أو
يشير إلى ذلك، بل نصوص الشريعة وإجماع العلماء على خلاف ذلك، قال -
تعالى -: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ
عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأََ الَذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ الَذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الزمر: 33 - 35] ، فأثبت لهؤلاء المتقين المحسنين
ذنوباً، وأنه يغفرها لهم، ولم تكن تقواهم مستلزمة لعصمتهم من الذنوب.
وأيضاً: ف (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) [11] ، وهو من
سادات الأولياء، ومع ذلك لم يكن يركن إلى ما يلقى في قلبه؛ بل يعرضه على
الكتاب والسنة، ويدع ما خالفهما، وعلى هذا النهج مشى الركب. قال أبو سليمان
الداراني: (إنه يقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب
والسنة) [12] .
وخطأ الولي في اجتهاده العلمي ليس نقصاً في ولايته إذا كان ممن استفرغ
جهده في البحث والاستدلال، وخطؤه مغفور له، وهو مأجور غير مأزور. قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا حكم الحاكم فأصاب فاجتهد ثم أصاب فله
أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) [13] .
الولاية عند الصوفية:
اختص الصوفية بمفهوم آخر للولاية؛ حيث زادوا على الحدّ الشرعي فقال
أبو القاسم القشيري: (الولي له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من
يتولى الله - سبحانه - أمره. والثاني: فعيل، مبالغة من الفاعل، وهو الذي
يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان،
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً) [14] . وقوله هذا تأسيس للقول
بعصمة الولي. وعرفه الجرجاني بمثل تعريف القشيري، وقال الجرجاني أيضاً:
(الولاية هي: قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه) [15] . وهذا يشير إلى الفناء
أو الحلول.
ويمكن تلخيص انحرافات الصوفية - التي خالفوا بها الكتاب والسنة - في
مفهوم الولي في نقاط عدة [16] :
1- زعمهم أن الولي يتطور ويتشكل ويتواجد في أماكن مختلفة في آن واحد.
قال الشعراني في ترجمة الشيخ حسين أبي علي: (كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين
وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات: تدخل عليه الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل عليه فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل عليه فتجده صبياً،
وهكذا) [17] .
2- أن ما يتخيله الولي ويتصوره في خياله فإنه يقع كما تخيّل. كما حكى
الشعراني عما حصل للجوهري، حين غطس في البحر وتخيل أنه تزوج عراقية
فأنجبت له أولاداً، فأتته بعد مدة بأولادها منه [18] .
3- دعواهم عصمة الولي وأنه لا يجوز الإنكار عليه ولو خالف الشريعة. فقد
نقل الشعراني عن علي الخواص قوله: (إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من
طائفة العلماء أو الفقراء، فتسقط من عين رعاية الله - عز وجل -) ثم قال:
(وإنما نهى القوم عن المنازعة؛ لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها) ثم وصفها بكونها
(وراثة نبوية) [19] .
4- أن الولاية تكون بأيدي الأولياء الكبار يهبونها لمن شاؤوا. يقول الدباغ:
(يقدر الولي على أن يكلم أحداً في أذنه، ولا يقوم عنه حتى يكون هو والولي في
المعارف على حد سواء) [20] . وهذا يبين وجهاً من مخالفتهم في كيفية اكتساب
الولاية، كما قالوا باكتسابها بالتخلي والرياضة ونحو ذلك.
5- زعمهم أنهم يقابلون النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة، ويتلقون عنه
التشريع، ويسألونه عن الحلال والحرام، وصحة الحديث وضعفه [21] .
6- ادعاؤهم أن للولاية خاتماً كما للنبوة خاتم، وهي فكرة صوفية اخترعها
الحكيم الترمذي، وطورها الصوفية بعده حتى جعلوا لكل زمان خاتماً، ومنهم من
جعل لولاية الخصوص خاتماً، وخاتماً لولاية العموم، فلا ولي بعده! [22] .
7- نسبتهم إلى الأولياء صفات الربوبية من علم الغيب، والتصرف في
الكون. وانظر مثلاً ما حكاه الشعراني عن إبراهيم الجعبري من اطلاعه على خفايا
من أحوال الناس [23] . وقد حكى الشعراني عن الجعبري أنه كان يُضْحِك ويُبْكِي
من حوله إذا شاء، وأنه حبس بول ناس ثم أطلقه! [24] . ونقل عن محمد
الحضري أنه يقول: (الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق
كالقوارير أرى ما في بواطنهم) [25] . ونقل عن الشربيني أنه كان يقول للعصا
التي كانت معه: (كوني إنساناً فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما
كانت) [26] .
كرامات الأولياء:
تعد الكرامة نوعاً من خوارق العادات. والعادة هي: (الحالة المتكررة على
نهج واحد، كعادة الحيض في المرأة) [27] . وخرق العادة إنما يكون بتمزيقها
ووقوعها على خلاف الحال المعهودة المألوفة التي استقر وقوعها عليه [28] .
وخوارق العادات قد تكون باستغناء الإنسان عن الحاجات البشرية كالطعام
والشراب بأن تحصل له بسبب غير معتاد، أو تكون بأن يعلم شيئاً فيراه أو يسمعه، وليس في إمكان البشر سماعه أو رؤيته عادة، وهذا المسمى: الكشف أو المكاشفة، وقد تكون بحصول الأثر في الأشياء مما ليس في قدرة البشر فعله في العادة،
كوجود ضوء من غير مصدره، ومن هذا إجابة الدعوة.
إن تمام الغنى والعلم والقدرة - التي تكون الخوارق من جنسها - إنما هو
لله - تعالى - وهو الذي يخرق العادة لمن شاء، ولذا نفاها نوح - عليه السلام - عن نفسه، وأمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن ينفيها عن نفسه،
فقال - تعالى -: [قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ] [الأنعام: 50] [29] .
كما أن تلك الخوارق منها ما يكون محموداً إذا أعان صاحبه على البر والتقوى، كمعجزات الأنبياء وكرامات الصالحين لحجة في الدين أو حاجة بالمسلمين، ومنها
ما يكون مذموماً حيث كان عوناً على الظلم والفجور، كخوارق السحرة والفجرة،
وما لم يكن من هذا ولا ذاك كأن كان عوناً لصاحبه على قضاء حاجته فإنه المباح،
ثم إن استُغل في خير أو شر صار محموداً أو مذموماً [30] .
تعريف الكرامة:
الكرامة لغة: مصدر (كَرُم) ، أو اسم مصدر من (كرّم) أو (أكرم) . و (الكاف
والراء والميم: أصل صحيح، له بابان؛ أحدهما: شرف الشيء في نفسه، أو
شرف في خلق من الأخلاق) [31] . ويظهر أن الكرامة من الباب الأول لشرفها في
ذاتها، وصاحبها كريم من الباب الثاني لشرفه في خلُقه مع الخالق - تعالى - ومع
الخلق أيضاً. والكرامة من الكرم، وهو: ضد اللؤم ونقيضه [32] ، والكرامة:
اسم يوضع للإكرام، كما وضعت الطاعة في موضع الإطاعة [33] .
أما اصطلاحاً: فلم ترد الكرامة بهذا اللفظ في الكتاب ولا السنة ولا كلام
الصحابة، وقد سماها الله - عز وجل - آية، فقال بعد ذكر كرامة أهل الكهف في
ازورار الشمس عن كهفهم المفتوح جهتها: [ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ] [الكهف: 17]
فهي آيات وبراهين على قدرة الله، ودالة على كرامة صاحبها وإنما سميت بهذا
تمييزاً لها عن المعجزة، وهذا التفريق في اللفظ إنما قال به كثير من
المتأخرين [34] ، ثم شاع، وصار هو المقول به في عامة أقوال العلماء.
وحيث وجد الخارق للعادة نظرنا فيمن وقع له؛ فإن كان مؤمناً تقياً، وكان
هذا الفعل الخارق مما يصلح ظهوره على يد الولي: عددنا ذلك كرامة، وعلى ذلك
فيمكن تعريفها بأن يقال: هي (أمر خارق للعادة يجريه الله على يد ولي - ليس
بنبي - علم الولي بذلك أم لا) [35] ، ومنه يظهر أن شروط الكرامة هي:
1- وجود أمر خارق للعادة.
2- ظهورها على يد ولي، وإلا لم تكن كرامة، بل استدراجاً.
3- كون هذا الولي ليس نبياً.
4- كون هذا الخارق مما يصلح أن يكون كرامة لولي، فلا يشتمل على
معصية، أو باطل [36] .
ولا يشترط عدم التحدي، ولا كونها لحجة أو حاجة [37] ، ولا علم صاحبها
بها.
الفرق بين الكرامة والمعجزة:
كرامات الأولياء من باب معجزات الأنبياء، والاختلاف بينهما في الدرجة،
ويظهر الفرق بينهما في الأوجه الآتية:
الأول: الكرامة لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء، كما أن أصحابها -
الأولياء - لا يصلون في الفضيلة والثواب درجات الأنبياء؛ فللأنبياء معجزاتهم
الكبرى التي لا يظهر مثلها على يد أحد من الأولياء أو الشياطين، وهي من الأدلة
على صدقهم، فلا يمكن أن تختلط بأحوال غيرهم، قال ابن تيمية - رحمه الله -:
(فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين) [38] .
ولكن هناك خوارق أقل درجة تسمى صغرى، وهي من التوابع والنوافل،
ولا يعتمد عليها استقلالاً في صدق الأنبياء، وهي التي يجوز أن يظهر مثلها على
يد الأولياء كرامة لهم، ودلالة على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تبعوه؛ فهذه الدرجة من المعجزات التي يحصل مثلها للإنس أو الجن لا تكون وحدها آية
للنبي؛ فإن الله أيد نبوتهم بتلك المعجزات الكبرى التي لا يقدر عليها إنس ولا
جن [39] .
وهذه - بحمد الله - قاعدة واضحة للتمييز بين المعجزة والكرامة، يشهد لها
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما
مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعاً يوم القيامة) [40] . (والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن
من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها) [41] .
وبهذا يتبين خطأ قول من قال بأن كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون
كرامة لولي [42] .
الثاني: أن المعجزة تقع للنبي مقترنة بدعوى النبوة، وليست كذلك كرامة
الولي.
الثالث: أن المعجزات من الدلائل على صدق النبي وتأييد الله له، وتأتي
لحاجة الخلق وهدايتهم، وتحصل للأنبياء وهم عالمون بوقوعها، كما يجب عليهم
إظهارها، خاصة إذا توقف إيمان الناس عليها، ولا يشترط كل ذلك في الكرامة.
الفرق بين الكرامات والأحوال الشيطانية:
وإذا اعتبرنا المعجزات والكرامات من باب واحد، وجعلنا النبوة أساساً
للتفريق بين الكرامات والأحوال الشيطانية [43] سهل الأمر جداً، وتبين الفرق
بينهما في الأمور الآتية:
1- أن الكرامات سببها الولاية الحقة لله - تعالى - وهي الإيمان
والتقوى [44] ، فلا عبرة بالخوارق بدون ذلك، إنما هي من الشيطان.
قال الشافعي - رحمه الله -: (إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير
في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة) [45] . ومن
النكت المليحة لأبي يزيد البسطامي قوله: (لله خلق كثيرون، يمشون على الماء،
لا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير، فلا
تغتروا به، حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشرع) [46] .
2- أن الكرامات قائمة على الصدق، بخلاف تلك المخاريق المبنية على
الكذب: [هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ]
[الشعراء: 221، 222] .
3- أن الخوارق الشيطانية في حقيقتها هي تصرفات من جنس تصرفات الجن
والإنس، تفعلها الشياطين في غيبة عن أعين الإنس؛ من نقل شيء أو قتل أو أذى
ونحوه، وليس فيها تحويل جنس إلى جنس، ولا ما يختص الرب بالقدرة عليه،
ولا ما تختص به الملائكة فأين هذا من تكثير الماء القليل، بحيث يفيض حتى
يصير بذاته كثيراً [47] .
4- أن الكرامات هبة من الله، أما الخوارق والأحوال الشيطانية فتحصل
بالتعلم والرياضة ودعاء الجن والشياطين، والتقرب إليهم [48] .
5- أن أولياء الله يحاولون إخفاء الكرامة، ولا يلتفتون إليها، ويعلمون أنها
نعمة يجب شكرها، ويخشون أن تكون ابتلاء لا يثبتون فيه، ومن كان هذا حاله
فلا يتصور منه أن يجعل الكرامات ميدان منافسة، فيسعى إلى إبراز كراماته،
وإبطال كرامات غيره.. وأصحاب الأحوال الشيطانية على خلاف هذا تماماً، بل
لا يظهرونها - غالباً - إلا في حضرة الناس، ويتحدى بعضهم بعضاً فيها، بغرض
إبراز المهارات في الخديعة والمكر، فيقع بينها من التعارض الشيء الكثير [49] .
6- أن كرامات الأولياء أمر ثابت في النصوص الشرعية وواقع الصالحين،
بخلاف تلك الأحوال الإبليسية التي يُبطل أثرها الذكر والقرآن. وشتان بين ما
يخنس بتلاوة القرآن ويبطل أثره أو يضعف، وبين ما يقويه القرآن، ويزيده
نوراً [50] !
الإلهام والفراسة من كرامات الأولياء:
الإلهام لغة:
(يدل على ابتلاع شيء ومن هذا الباب: الإلهام، كأنه شيء ألقي في الروع
فالتهمه، قال الله - تعالى -: [فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] [الشمس: 8] ) [51]
والإلهام: (إيقاع شيء في القلب، يطمئن له الصدر، يخص الله به بعض
أصفيائه) [52] .
والملهم هو: المحدّث، المُفْهَم، الذي يصدق ظنه في الأشياء، تتكلم الملائكة
على لسانه، فيجري عليه الصواب من غير قصد منه، ويطلق على ذلك المكاشفة.
و (المكاشفة الصحيحة: علوم يحدثها الرب - سبحانه وتعالى - في قلب العبد،
ويطلع بها على أمور تخفى على غيره، وقد يواليها، وقد يمسكها عنه بالغفلة
عنها) [53] .
دليل الإلهام: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لقد كان فيمن قبلكم ناس
محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر) [54] .
ولا يعدو الإلهام أن يكون فتحاً من الله - تعالى - على عبد من عباده المؤمنين
بما يوافق الحق الذي أنزله في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-،
كالرؤيا الصالحة فيها كشف للنائم، وإطْلاع له على شيء مما لم يقع بعد. مصداقه
حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) قالوا: وما
المبشرات؟ قال: (الرؤيا الصالحة) [55] .
والإلهام - على منزلته - لا يمكن أن يكون مكملاً لنقص في الدين، أو محدِثاً
لحكم جديد فيه، كما هو الحال تماماً بالنسبة للرؤيا؛ فإن من رأى النبي -صلى الله
عليه وسلم- في المنام فأمره بأمر وجب عليه أن يعرضه على الشرع؛ لأن (كل من
كان من أهل الخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في
الاعتصام بالكتاب والسنة تبعاً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا
يجعل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبعاً لما ورد عليه) [56] .
ومن الإلهام: ما وقع للصديق - رضي الله عنه - في موقفه يوم قتال أهل
الردة، حين خالفه كثير من الصحابة، فقال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها) [57] ، حتى شرح الله صدور أصحابه لما أراه من الحق، ومنها: تسيير جيش أسامة الذي عقده النبي -صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته.
وقال عمر - رضي الله عنه -: (وافقت الله في ثلاث، - أو وافقني ربي
في ثلاث - قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت:
يارسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب،
فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض
نسائه، فدخلتُ عليهن، قلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى
أتيتُ إحدى نسائه قالت: يا عمر! أما في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما
يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: [عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً
خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ... ] [التحريم: 5] ) [58] . ومن إلهاماته: اختياره
قتل أسارى بدر.
ب - الفراسة:
يراد بالفراسة في اللغة معنى ذا جانبين؛ أحدهما أخص من الآخر، وهما:
1- المعرفة بالأمور، والخبرة بالأحوال، من خلال النظر المحكم فيها.
2- المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها [59] .
ويمكن تعريف الفراسة في الاصطلاح بأنها: نور يقذفه الله في قلب عبده
المؤمن الملتزم سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، يكشف له بعض ما خفي على
غيره، مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيسدد في رأيه، دون أن يستغني بذلك عن
الشرع.
والفراسة المقصودة هنا الفراسة الإيمانية، وهي غير فراسة الرياضة،
والفراسة الخلقية، بل هي (على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ
فراسة) [60] (فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية، وسقى ذلك
الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة) [61] .
والسبب أن (هذه الفراسة نشأت له من قربه من الله - تعالى - فإن القلب إذا
قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه،
وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر
قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد والمحجوب) كما ثبت في حديث الأولياء،
(وليس هذا من علم الغيب، بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب منه) [62] .
وللفراسة من الفوائد:
1- الانتفاع بالمواعظ، والاستفادة من الحوادث والعبر، قال - تعالى - بعد
أن ذكر قصة إهلاك قوم لوط -: [إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ] [الحجر: 75]
أي: الناظرين المتفرسين المتفكرين المعتبرين.
2- دقة الحكم بين الناس وخاصة من القضاة، وحفظ الحقوق، وتحقيق
المصالح العامة، التي يهدف الشرع إلى تحقيقها [63] .
3- تولية الأكفاء في رعاية مصالح الأمة.
4- توقع الأحداث قبل وقوعها، فتؤخذ لها العدة والحيطة، فتُتّقى الشرور
وتدفع المفاسد.
ومن الفراسة: ما وقع لعمر حين (دخل عليه نفر من مذحج، فيهم الأشتر
النخعي، فصعّد فيه البصر وصوبه وقال:أيهم هذا؟
قالوا: مالك بن الحارث،
فقال: ما له قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً. وهذا عثمان بن
عفان - رضي الله عنه - دخل عليه رجل من الصحابة وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على
عينيه؟ ! فقلت: أوَحيٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: لا،
ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة) [64] .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، 6/141، وانظر: القاموس المحيط، ص 1732، ومختار الصحاح،
ص 736 (الصاحب الأولى بمعنى المالك، والصاحب الأخرى بمعنى الرفيق) .
(2) مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص 885.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 120.
(4) جامع العلوم والحكم، 2/336.
(5) فتح الباري، 11/342.
(6) انظر: جامع العلوم والحكم، 2/335 337، وانظر الفرقان، ص 22.
(7) انظر: أولياء الله عقلاء ليسوا مجانين، لابن تيمية: 21، 22.
(8) انظر: مقدمة تحقيق كرامات أولياء الله للالكائي، لأحمد سعد حمدان، ص 7.
(9) رواه البخاري، الفتح، 11/348 349.
(10) الفرقان، ص 9، 30.
(11) الحديث رواه الترمذي، ح/3682، وهو صحيح.
(12) انظر: الفرقان، ص 48 59، وما بعدها.
(13) أخرجه البخاري، ح/7352.
(14) الرسالة القشيرية: 520 521، وانظر: 667.
(15) التعريفات، ص 310.
(16) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح: 1/ 55 93.
(17) الطبقات الكبرى، 2/87.
(18) المرجع السابق.
(19) الطبقات الكبرى، 1/10.
(20) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن المبارك، 175، نقلاً عن تقديس الأشخاص،
1/75.
(21) انظر: الطبقات الكبرى في ترجمة أبو المواهب الشاذلي؛ حيث ذكر له لقاءات كثيرة، 2/67 81، 75.
(22) انظر: تقديس الأشخاص، 1/79، وما بعدها.
(23) المرجع السابق، 1/203، 204.
(24) المرجع السابق.
(25) المرجع السابق، 2/107.
(26) المرجع السابق، 2/136.
(27) المعجم الوسيط، ص 635.
(28) انظر: النبوات، لابن تيمية، 34، 35.
(29) انظر: الصفدية: 183، وقاعدة في المعجزة من الكرامات: 8، كلاهما لابن تيمية، وشرح الطحاوية لابن أبي العز: 2/746.
(30) انظر: النبوات: 27، 28، وشرح الطحاوية: 2/747.
(31) انظر: معجم مقاييس اللغة (كرم) .
(32) انظر: القاموس المحيط (كرم) .
(33) انظر: لسان العرب، مادة (كرم) .
(34) انظر: النبوات، ص 15، وقاعدة في المعجزات والكرامات، ص 7.
(35) تعريف مقتبس من كتاب: تقديس الأشخاص، محمد أحمد لوح، 2/ 278، 288.
(36) انظر: الموافقات للشاطبي: 2/278.
(37) انظر: النبوات، ص 18، 19، وشرح الواسطية، لهراس، 168، والفتاوى، 11/274.
(38) النبوات، ص 4.
(39) انظر: النبوات، ص 333، 335، والموافقات للشاطبي: 2/ 259، 262.
(40) رواه البخاري، ح/4981، (الفتح، 8/618) .
(41) النبوات، ص 4.
(42) وهم عموم الأشاعرة، كما سيأتي.
(43) كما فعل ابن تيمية - رحمه الله -، انظر: موقف ابن تيمية من التصوف، د أحمد بناني، 232.
(44) انظر: الموافقات: 2/272 والنبوات، ص 20.
(45) تفسير ابن كثير، قاعدة في المعجزات والكرامات.
(46) سير أعلام النبلاء، 13، 88، والحلية: 10/40.
(47) انظر: النبوات، ص 20 23.
(48) انظر: تقديس الأشخاص، 2/283.
(49) انظر: السابق، 2/283، والفتاوى، 11/295.
(50) انظر: تقديس الأشخاص، محمد أحمد لوح، ص 285.
(51) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة (لهم) ، 5/217.
(52) المعجم الوسيط، لعدة مؤلفين، مادة (لهم) 2/742.
(53) مدارج السالكين، 3/233.
(54) رواه البخاري، ح/3689.
(55) رواه البخاري، ح/6990.
(56) ابن تيمية، في الفتاوى، 13/74، وانظر: الموافقات: 2/272.
(57) أخرجه البخاري، ح/6925 والعناق: الأنثى من ولد المعز وهي السخلة.
(58) رواه البخاري، ح/4483.
(59) انظر: المعجم الوسيط، مادة (فرس) ، 2/681.
(60) مدارج السالكين، 2/504.
(61) انظر: السابق، 2/515.
(62) الروح لابن القيم، ص 532.
(63) انظر: الطرق الحكمية، لابن القيم: 32، 33، 37.
(64) الروح، لابن القيم، ص 532 537، وانظر: هذه الأمثلة وغيرها كثير في: الطرق الحكمية، ص 33 وما بعدها.(140/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإجماع.. حقيقته وحجيته
محمد عبد العزيز الخضيري
تعريف الإجماع لغة:
هو لفظٌ مشترك يطلق على معنيين في اللغة [1] :
الأول: العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على السفر: إذا عزم عليه،
ومنه قوله تعالى: [فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ] [يونس: 71] .
الثاني: الاتفاق، يقال: أَجْمعَ القوم على كذا: أي اتفقوا عليه.
وكلا المعنيين مأخوذ من الجمع؛ فإن العزمَ فيه جمعُ الخواطر، والاتفاقَ فيه
جمعُ الآراء [2] .
واختلف الأصوليون في تعريف الإجماع اصطلاحاً تبعاً لاختلافهم في كثير من
مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه.
التعريف المختار:
الإجماع: هو اتفاق مجتهدي الأمة، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
في عصر على أي أمر كان [3] .
شرح التعريف وذكر محترزاته:
اتفاق: ومعناه الاشتراك في الرأي أو الاعتقاد، سواء دَلّ عليه الجميع
بأقوالهم جميعاً، أم بأفعالهم جميعاً، أم بقول بعضهم وفعل بعض - وهذا كله يسمى
بالإجماع الصريح -، أم بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر - وهذا يسمى
بالإجماع السكوتي -، وبهذا يكون التعريف شاملاً لقسمي الإجماع: الصريح
والسكوتي.
مجتهدو الأمة: المجتهد: هو الذي يبذل وُسْعَه في طلب الظن بحكم شرعي
على وجه يُحِسّ معه بالعجز عن المزيد عليه.
والأمة: هي الطائفة من الناس تجمعها رابطة، والمراد بها: أمة محمد -
صلى الله عليه وسلم-، أي: أتباعه المؤمنون به في أي زمان، وهم أمة الإجابة لا
أمة الدعوة.
وقد خرج بـ (اتفاق مجتهدي الأمة) :
1- اتفاق المقلدين والعوامّ؛ فإنه لا يعد إجماعاً شرعياً.
2- اتفاق بعض المجتهدين؛ فإنه لا يعد إجماعاً.
3- اتفاق مجتهدي غير هذه الأمة [4] .
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خرج به اتفاقهم في حياته فإنه لا
عبرة به، قال الآمدي: (وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن
الوحي بالإجماع، وإنما يكون حجة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-) [5] .
في عصر: والمراد به الاتفاق في أي عصر كان، فدخل بهذا القيد: اتفاق
المجتهدين في أي زمان كان، سواءً كان في زمن الصحابة أم من بعدهم [6] .
وفي هذا دفعُ توهّم أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق المجتهدين في جميع
العصور، وهو محال [7] .
(على أي أمرٍ كان) : المراد به الحكم الذي اتفق عليه المجتهدون، ويشمل:
1- الأمر الديني: كأحكام الصلاة، وتفسير آيةٍ أو حديثٍ.
2- الأمر الدنيوي: كترتيب الجيوش والحروب، وتدبير أمور الرعية.
3- الأمر العقلي: كحدوث العالم.
4- الأمر اللغوي: ككون الفاء للترتيب والتعقيب [8] .
وفي بعض التعريفات خُصّ الأمر المتفق عليه: بالأمر الديني [9] ، ويمكن
التوفيق بين من عمم ومن خصص بأن يقال:
إن المُعمّم قصد بالأحكام الدنيوية أو اللغوية أو العقلية: الأحكام التي يتعلق بها
حكم شرعي، فيكون الإجماع حينئذٍ ليس مقصوداً لذاتها بل لما يلزم منها.
وأما من خصص فمراده من الأمور الدينية ما هو أعم من الأحكام الشرعية،
وما يستلزمها.
مكانة الإجماع ومرتبته:
الإجماع حق مقطوع به في دين الله - عز وجل - وأصل عظيم من أصول
الدين، ومصدر من مصادر الشريعة، مستمد من كتاب الله الكريم، وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وتالٍ في المنزلة.
قال القاضي أبو يعلى - رحمه الله -: (الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب
المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ) [10] .
وقال ابن حزم - رحمه الله -: (الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية،
يُرْجع إليه، ويُفْزَعُ نحوه، ويكفر من خالفه، إذا قامت عليه الحجة أنه
إجماع) [11] .
ولذلك كان حتماً على الطالب للحق، المتبع لسبيل جماعة المؤمنين، المبتعد
عن مشاقّة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: أن يعرف ما أجمع المسلمون عليه
من مسائل الشريعة العلمية والعملية، ليستن بسلفه الصالح، ويسلك سبيلهم، ولئلا
يقع في عداد من اتبع غير سبيل المؤمنين، فيحق عليه الوعيد المحكم في قوله -
جل ذكره -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 115] .
قال ابن حزم - رحمه الله -: (ومن خالفه - أي الإجماع - بعد علمه به، أو
قيام الحجة عليه بذلك، فقد استحق الوعيد المذكور في الآية) [12] .
وستأتي في ذكر حجية الإجماع الأدلة التي يتضح بها مكانه من الدين.
أما مرتبة الإجماع فإنها تلي مرتبة الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف
الصالح؛ كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مستدلاً على ذلك بما
ثبت عنهم من الآثار، ومن ذلك:
1- ما جاء في كتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شريح - رحمه الله -
حيث قال له: (اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك) ، وفي رواية: (فبما
أجمع عليه الناس) [13] .
2- ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (قدّم الكتاب ثم
السنة ثم الإجماع) [14] .
3- وكان ابن عباس يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي
بكر وعمر [15] ، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اقتدوا باللذيْن من بعدي: أبي بكر وعمر) [16] .
قال شيخ الإسلام: (وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس،
وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب) [17] .
وقد نعى شيخ الإسلام على بعض المتأخرين الذين قالوا: يبدأ المجتهد بأن
ينظر أولاً في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد
أنه منسوخ بنص لم يبلغه، كما نعى - أيضاً - على الذين يقولون: إن الإجماع
نفسه ينسخ النص، وخطّأ هذا الرأي، واختار طريقة السلف لأنها الصواب [18] .
يقول شيخ الإسلام: (فلما انتهت النّوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلةُ بالمفتي أو الحاكمِ فعليه أن ينظر أولاً: هل فيها اختلاف
أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا سنة، بل يفتي ويقضي فيها
بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به،
وحكم به، وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ [19] ، وكتاب عمر، وأقوال
الصحابة ... ) [20] .
وبيّن - رحمه الله - أن معرفة النصوص والاطلاع عليها أسهل بكثير من
معرفة الإجماع؛ فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم. وعدم العلم بالنزاع ليس علماً
بعدمه، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نحالُ على شيء شاق، ولدينا ما هو أيسر منه
وأدل على الحق؟ [21] .
كما بيّن أيضاً أنه (حين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص
بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين
إذا احتُجّ عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع، وهذا هو الذي أنكره أئمة
الإسلام، وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه) [22] .
لكن العلماء - رحمهم الله - يقدمون الإجماع القطعي - كالإجماع على المعلوم
بالضرورة من الدين - على النص؛ لأن واقع الأمر أنه تقديم للنصوص القطعية
الثبوت والدلالة على النصوص الظنية الثبوت أو الدلالة؛ لا أنه تقديم للإجماع على
النص، وهذا - كما يقول بعض العلماء - لاخلاف فيه [23] .
قال شيخ الإسلام: (الإجماع نوعان) :
قطعي: فهذا لا سبيل إلى أن يُعلم إجماع قطعي على خلاف النص.
وأما الظني: فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي، بأن يستقرئ أقوال العلماء
فلا يجد في ذلك خلافاً، أو يشتهر القول في القرآن ولا يَعْلم أحداً أنكره، فهذا
الإجماع وإن جاز الاحتجاج به، فلا يجوز أن تُدْفع النصوصُ به؛ لأن هذا حجة
ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها؛ فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء
المخالف فالإجماع قطعي، وأما إذا كان يظن عدمَه، ولا يقطع به، فهو حجة ظنية، والظني لا يُدفع به النصّ المعلوم؛ لكن يُحتجّ به، ويُقدّم على ما هو دونه بالظن، ويُقدّم عليه الظنّ الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنّه لدلالة النص أقوى من ظنه
بثبوت الإجماع قدّم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا. والمصيبُ
في نفس الأمر واحد) [24] .
أهم فوائد الإجماع:
وبعد هذا التقرير لمكانة الإجماع في الدين، يحسن أن أذكر أهم فوائد الإجماع
التي ذكرها أهل العلم، وكان من دواعي ذكر هذه الفوائد: الإجابة عن تساؤل
ينقدح في الذهن عن مدى فائدة الإجماع والجديد فيه، مع القول بأن من شروط
الإجماع الثابتة أنه لا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة، وأنه لا
يمكن أن تجتمع الأمة على خلاف النصوص، كما أنه لا يمكن أن يكون الإجماع
ناسخاً لنص؟
وقد أجاب العلماء على هذا؛ فذكروا أهم فوائد الإجماع [25] ، وهذا ملخص
ما سطروه:
الفائدة الأولى: الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة يُظهِرُ حجم الأمور
التي اتفقت فيها الأمة؛ بحيث لا يستطيع أهلُ الزيغ والضلال إفساد دين المسلمين.
ومن طالع حال الأمم السابقة، من أهل الكتاب وغيرهم، في اختلافهم في أصول
دينهم العلمية والعملية علم النعمة العظيمة التي اختُصّت بها هذه الأمة؛ حيث أجمع
أئمة الدين على مئات من الأصول بَلْهَ الفروع؛ بحيث لا يخالف فيها أحد من
المسلمين، ومن خالف بعد العلم: حُكِم عليه بما يقتضيه حاله من كفر أو ضلال
وفسق.
الفائدة الثانية: العلمُ بالقضايا المجمع عليها من الأمة يعطي الثقة التامة بهذا
الدين، ويؤلّف قلوبَ المسلمين، ويسدّ الباب على المتقوّلين الذين يزعمون أن الأمة
قد اختلفت في كل شيء؛ فكيف يجمعها جامعٌ، أو يربطها رابط؟ !
الفائدة الثالثة: أنه قد يخفى النصّ الدالّ على حكم مسألة بعينها على بعض
الناس، ويُعلم الإجماع الذي قد تقرر أنه لا بد أن يستند إلى نص، فيُكتفى به في
النقل والاستدلال.
الفائدة الرابعة: أن السند الذي يقوم عليه الإجماع قد يكون ظنياً، فيكون
الإجماع عليه سبباً لرفع رتبة النص الظنية والحكم المستنبط منه إلى رتبة القطع؛
لأنه قد دلّ الإجماع على أنه لا خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخالف ما
أجمعوا عليه.
الفائدة الخامسة: تحتملُ النصوصُ في جملتها التأويلَ والتخصيصَ والتقييدَ
والنسخَ وغيرَ ذلك، فإذا كانت هي المرجعَ وحدها كَثُرَ الخلاف بين الأئمة
المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام منها؛ لاختلاف المدارك والأفهام، فإذا وُجد
الإجماعُ على المراد من النص ارتفعت الاحتمالات السابقة، واتقى المجتهدون بذلك
متاعبَ الخلافِ والنظرِ والاستنباط.
الفائدة السادسة: أن بعضَ نصوصِ السنة التي هي من مستند الإجماع قد
يكون مختلفاً في صحتها، فيكون الإجماع على مضمونها قاطعاً للنزاع الناشئ من
اختلافهم في تصحيحها.
الفائدة السابعة: التشنيع على المخالفين بالجُرأة على مخالفة الإجماع، فيكون
ذلك سبباً قوياً لزجرِ المخالف؛ لئلا يتمادى في باطله بعد أن يعلم أن الأمة مجمعة
على خلاف مقالته. قال ابن حزم رحمه الله: (مال أهلُ العلم إلى معرفة الإجماع؛
ليعظّموا خلافَ من خالفه، وليزجروه عن خلافه، وكذلك مالوا إلى معرفةِ اختلاف
الناس؛ لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جُرْأة على الكذب، حيث الاختلاف
موجود، فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه) [26] .
الفائدة الثامنة: الإجماع دليلٌ يؤكد حكم المسألة، ويكثّر أدلتها؛ فقد تدل جملة
من الأدلة على حكم مسألة من المسائل فيكون الإجماع مكثراً لها موثقاً لما جاء
فيها [27] .
حجية الإجماع:
إن مما فضل الله به هذه الأمة، وميزها به على سائر الأمم: أن إجماع
علمائها على أمر من أمور دينها معصومٌ من الزلل والخطأ؛ ليحفظ الله سبحانه
بسبب إجماعهم الشريعة من كيد الكائدين، وتحريف الضالين [28] .
وقد اتفق أهل العلم على أن الإجماع حجة شرعية يجب اتباعها والمصير
إليها [29] .
قال ابنُ حزمٍ رحمه الله: (اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من
علماء أهل الإسلام حجة، وحجةٌ مقطوع بها في دين الله عز وجل) [30] . وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ولله
الحمد على ضلالة) [31] .
الأدلة على حجية الإجماع:
الدليلُ على ثبوت الإجماع إنما هو دليل الشرع لا العقل [32] ومن الأدلة
على كون الإجماع حجة:
الدليل الأول: قوله الله - تعالى -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً]
[النساء: 115] [33] .
وجه الاستدلال من الآية:
أن معنى مشاقّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: منازعته ومخالفته فيما جاء
به عن ربه. ومعنى [سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ] : ما اختاروه لأنفسهم من قول أو فعل أو
اعتقاد؛ لأن سبيل المؤمنين مفرد مضاف فيعم هذه كلّها، وقد جعل الله كلاً من
المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين موجباً للعقاب؛ لأنه عطف بعضها على بعض
بالواو المفيدة للتشريك في الحكم، فيلزم أن يكون اتباعُ غير سبيل المؤمنين محرّماً
، كما حرمت مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لو لم يكن محرماً لما جمع
بين الحرام والمباح في الوعيد، وإذا حَرُمَ اتّباع غير سبيل المؤمنين وجب تجنّبه إلا
باتباع سبيلهم؛ لأنه لا واسطة بينهما، ولزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع
حجة [34] .
الدليل الثاني: قوله - جل ذكره -: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] .
وجه الاستدلال بهذه الآية من جهتين [35] :
الأولى: أن الله - تبارك وتعالى - عدّلهم بقبول شهادتهم، ولما كان قول
الشاهد حجة يجب العمل بمقتضاه - إذ لا معنى لقبول شهادته إلا كون قوله حجة -
فيدل هذا على أن إجماع الأمة حجة يجب العمل بمقضاه وهو المطلوب.
الثانية: أنه - تعالى - جعل شهادتهم حجةً على الأمم السابقة في الآخرة،
كما جعل شهادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حجة علينا حينئذٍ، فيكون قولهم في
الأحكام في الدنيا حجة أيضاً، قياساً على قولهم في الآخرة؛ لأنه لا معنى لكون
الإجماع حجةً سوى كون أقوالهم حجةً على غيرهم.
الدليل الثالث: قوله - جل وعلا -: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 110] .
وجه الدلالة من جهتين [36] :
الأولى: أن (الألف واللام) إذا دخلت على اسم جنس دل على العموم، وعلى
ذلك تكون الآية إخباراً من الله - سبحانه - عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-
بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وصِدْقُ خبر الله - تعالى -
يستلزم أنهم إن نهوا عن شيء علمنا أنه منكر، وإذا أمروا بشيء علمنا أنه معروف، فكان نهيهم وأمرهم حجة يجب اتباعه.
الثانية: أن النهاية في الخيرية الموصوفة بها الأمة - المستفادة من لفظ (خير)
الذي هو بوزن أفعل [37]- تقتضي أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً؛ لأنه لو لم يكن
حقاً لكان ضلالاً؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال، والحق واجبُ الاتباع، فيكون
إجماعهم على الحق واجبَ الاتباع.
الدليل الرابع: قوله - تبارك وتعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ] [النساء: 59] .
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه - شرط لوجوب الرد إلى الكتاب والسنة
وجود التنازع، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد، وأن الاتفاق منهم
كافٍ حينئذٍ عن الرد إلى الكتاب والسنة، ولا معنى لكون الإجماع حجة إلا
هذا [38] .
الدليل الخامس: جملة الأحاديث الدالة على لزوم الجماعة، وتعظيم شأنها،
والإخبار بعصمتها عن الخطأ، ومنها:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) [39] .
2- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من فارق الجماعة قِيدَ شبر فقد خلع
رِبقة الإسلام من عنقه) [40] .
3- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من فارق الجماعة مات مِيتَةً
جاهليةً) [41] .
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث وغيرها من وجوه [42] :
أولها: هذه الأحاديث ونحوها، وإن لم يتواتر كلّ واحدٍ منها لفظاً إلا أن القدر
المشترك بينها - وهو عصمة الأمة - متواتر فيها؛ لوجوده في كل منها، وإذا ثبت
عصمة الأمة تواتراً كان دليلاً على حجية الإجماع.
ثانيها: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرةً مشهورةً بين الصحابة والتابعين،
يتمسكون بها في إثبات حجية الإجماع، ولم يظهر من السلف والخلف من يدفعها أو
ينكرها، وهذا التوافق من أهل الأعصار المتعاقبة على قبولها دليلٌ على صحتها؛
لأنه من المستحيل عادة توافق الأمم في عصور مختلفة على قبول ما لم يقم الدليل
على صحته؛ خاصة إذا كان مثبتاً لأصل من أصول التشريع.
ثالثها: أن المحتجين بهذه الأحاديث قد أثبتوا بها الإجماع الذي هو أصل
مقطوع به. ومن المعلوم أنه من المستحيل قبول دليل كالإجماع إلا إذا كان مستنداً
إلى دليل قطعي [43] .
وقد دلت هذه النصوص على أمرين مهمين:
الأول: أنها أفادت أن العصمة ثابتة للأمة دون اشتراط عدد معين، بل إن
أهل الإجماع متى ثبت اتفاقهم وجب اتباع قولهم، وثبتت العصمة لهم، وبناءً على
ذلك فلا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون عدد التواتر؛ لأن الدليل الشرعي
لم يشترط ذلك، بل إنه علّق العصمة على الإجماع والاتفاق فقط.
الثاني: أن هذه النصوص تدل على أن الإجماع حجة ماضية [44] في جميع
العصور، سواء في ذلك عصر الصحابة أم عصر من بعدهم. ولا يصح حصر
حجية الإجماع في عصر الصحابة دون غيرهم؛ لأن أدلة حجية الإجماع عامة
مطلقة، وتخصيصُ تلك الأدلة أو تقييدها من غير دليل شرعي معتبرٍ مردودٌ غيرُ
مقبول.
__________
(1) انظر في المعنى اللغوي: الصحاح 3/1198، ومعجم مقاييس اللغة 1/ 479.
(2) انظر: شرح مسلم الثبوت، 2/211.
(3) هذا تعريف ابن السبكي في كتابه: (جمع الجوامع، 1/176 مطبوع مع حاشية البناني) وقد اختاره كثيرون.
(4) انظر: التمهيد لأبي الخطاب، 3/250، والإحكام للآمدي، 1/195، 196.
(5) الإحكام للآمدي، 1/109.
(6) انظر: الإحكام للآمدي، 1/196.
(7) انظر: الإحكام للآمدي، 1/196، وحاشية البناني على المحلي، 1/ 176.
(8) انظر: حاشية البناني على المحلي، 1/176، وإرشاد الفحول، ص 71.
(9) كما فعل الغزالي حيث قال: (على أمر من الأمور الدينية) ، المستصفى، 1/173.
(10) العُدة، 4/1058.
(11) مراتب الإجماع لابن حزم، ص 7.
(12) النبذ في أصول الفقه لابن حزم، ص 38.
(13) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 7/240، والبيهقي، 10/115، والنسائي، 8/231.
(14) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه، 8/301، والنسائي، 8/ 230، والبيهقي،
10/115، وابن أبي شيبة، 7/241، 242.
(15) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 7/242، والبيهقي، 10/115.
(16) أخرجه أحمد، 5/382، والترمذي، 5/610، وابن ماجة 1/37.
(17) مجموع الفتاوى، 19/201.
(18) انظر: الفتاوى، 9/200، 201.
(19) لفظه: (لما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن قال له: بِمَ تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله،
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد) الحديث، رواه أحمد5/230، 242، وأبو داود الطيالسي في مسنده (منحة المعبود 1/286) .
(20) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، 2/237.
(21) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، 2/237.
(22) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، 2/238.
(23) انظر: نظرة في الإجماع الأصولي، ص 77.
(24) مجموع الفتاوى، 19/268.
(25) انظر في هذه الفوائد: الفتاوى، 19/195، وكتاب نظرة في الإجماع الأصولي، ص 73، وما بعدها، وغالب هذه الفوائد مستفاد منه، وكتاب علم أصول الفقه لأحمد إبراهيم، ص 85.
(26) الإحكام، 1/506.
(27) انظر: الفتاوى، 19/195.
(28) انظر: حجية الإجماع، ص 45، وفي المسألة خلاف، قال الزركشي في البحر المحيط،
4/449: (والسرّ في اختصاص هذه الأمة في الصواب في الإجماع: أنهم الجماعة بالحقيقة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الكافة، والأنبياء قبله إنما بُعث النبي لقومه، وهم بعض من كل، فيصدق على كل أمة أن المؤمنين غير منحصرين فيهم في عصر واحد، وأما هذه الأمة فالمؤمنون منحصرون فيهم، ويد الله مع الجماعة، فلهذا والله أعلم خَصّها بالصواب) .
(29) انظر: جماع العلم، ص 51، ومجموع الفتاوى، 11/341، هذا، وقد خالف في حجية الإجماع من لا يُعتدُ بخلافه كبعض الخوارج وبعض الرافضة وبعض النظامية، وهم أتباع النظام المعتزلي، وقد نسب هذا القول إليه أيضاً، قال في مسلم الثبوت، 2/213: (الإجماع حجة قطعاً عند الجميع، ولا يعتدّ بشرذمةٍ من الخوارج والشيعةِ؛ لأنهم حادثون بعد الاتفاق) .
(30) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، 4/128.
(31) الفتاوى، 19/176.
(32) شرح الكوكب المنير، 2/214.
(33) أول من استدل بهذه الآية: الشافعي، ثم تبعه الناس على الاستدلال بها.
(34) انظر في هذا الدليل: أحكام القرآن للشافعي، 39، والعدة لأبي يعلى، 4/1064.
(35) انظر: العدة لأبي يعلى، 4/1070، والفقيه والمتفقه، 1/160.
(36) انظر: الإحكام للآمدي، 1/214، والفتاوى، 19/176.
(37) لأن أصلها: (أخير) وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال.
(38) انظر: الإحكام للآمدي، 1/218، والفتاوى، 19/91.
(39) رواه البخاري، 13/293.
(40) أخرجه أحمد عن أبي ذر - رضي الله عنه -، 5/180، وأبو داود، 2/542، باب قتل الخوارج.
(41) رواه البخاري، 9/78، ومسلم، 3/1475.
(42) انظر: العدة لأبي يعلى، 4/1081، والمستصفى، 1/176.
(43) ثمة أدلة عقلية استدل بها على حجية الإجماع، لم أشأ أن أطيل بذكرها، اكتفاء بأدلة الكتاب والسنة لظهورها، وقوة دلالتها على المقصود، هذا فضلاً عن كون الإجماع ثبت بدليل الشرع لا العقل.
(44) نقل عن الإمام أحمد مقولته المشهورة: (من ادعى الإجماع فهو كاذب) وليس مراده بها نفي وقوع الإجماع أو حجيته قطعاً؛ لكون الإمام يحتج به، ويستدل به في كثير من الأحيان، وقد حملها العلماء على عدة أوجه، ومن أحسنها: أنه قال ذلك على سبيل الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك في حق ليس له من معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك تتمة كلامه السابق حيث يقول: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه) أي إذا لم يبلغه في المسألة خلاف، وقال
أيضاً: (كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال: إني لا أعلم مخالفاً جاز) وقال مرة: (هذا كذب؛ ما أعلمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً فهو أحسن من قوله: إجماع الناس) وهذه الروايات توضح بجلاء مراد الإمام أحمد من مقالته تلك قال ابن القيم: (وليس مراده - أي الإمام أحمد - استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها) انظر: المسودة،
ص 316، ومجموع الفتاوى، 19/271، 20/ 247، ومختصر الصواعق، ص 506.(140/20)
تأملات دعوية
لا تتركوا فراغاً بعدكم
محمد بن عبد الله الدويش
مما يمدح به بعض الرجال أن يقال عنه حين يمضي: لم يُسَدّ الفراغ الذي
تركه، ولم يجد الناس من يخلفه. وتكثر هذه الحال حين يحل بعض طلبة العلم أو
الدعاة في بلدة مقفرة، فيعمرها بالدعوة والعلم، والأغلب أن بقاءه فيها إلى أمد.
وترك الفراغ يدل بلا شك على قدرة وعطاء متميز؛ فالناس ألفٌ منهم كواحد.
ولكن مع الإيمان بتفاوت قدرات الناس وطاقاتهم ألا يمكن أن نخفف من أثر
فقْد هؤلاء العاملين؟
إن اتساع الهوة التي يتركها من يذهب قد تكون نتيجة للفارق الكبير في القدرة
والعطاء بينه وبين من بعده، وقد تكون نتيجة لطبيعة الأسلوب الإداري الذي
يمارسه، لذا فثمة وسائل يمكن أن تقلل من أثر هذا الأمر:
1- أن يعتني الداعية بالطلاب، ويربي طائفة منهم ويعلمهم، حتى يتهيؤوا
لسد مكانه، وأن يحذر من أن تستهلك ممارسة العمل جهده فلا يبقى للتعليم والتربية
نصيب من ذلك.
وقد كان للسلف اعتناء بإعداد التلاميذ. قال ابن جماعة: (واعلم أن الطالب
الصالح أَعْوَدُ على العالِم بخيري الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله
إليه؛ ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يُلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب
ينتفع الناس به في حياتهم، ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالِم إلا طالب واحد ينتفع
الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله - تعالى - فإنه لا يتصل
شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر [1] .
2- أن يمارس أسلوب العمل الجماعي، ويعوّد العاملين معه عليه؛ فقد
يصعب أن يوجد بعده مثله، لكن حين يُدار العمل بطريقة جماعية فسيكون أكثر
نضجاً، وما لم يَتَرَبّ العاملون معه على ممارسة العمل الجماعي فلن يجيدوه بعده.
3- توزيع المسؤوليات والتفويض؛ فبعض الناس لفرط حرصه على العمل
يربط كل صغيرة وكبيرة به شخصياً، فقد تسير الأمور حال بقائه، لكنه حين
ينصرف سرعان ما ينفرط عقدها.
4- الاعتناء بالصف الثاني من العاملين، والتفكير باستمرار فيمن يخلفه من
بعده، وتهيئة المجال له.
5- الاعتناء برفع مستوى العاملين، وأن تكون الأعمال الدعوية ميداناً
لتدريب الطاقات والرفع من كفاءتها.
6- تدوين التجارب والإجراءات؛ فقد لا يوجد بعده من يستوعب التجربة
كاملة، أو يرتبط إنجاز بعض المهام والأعمال بإجراءات محددة؛ فتدوين ذلك
وتنظيمه يسهّل المهمة على من بعده.
7- ومما يعين على ذلك ألا يعجل الداعية قدر الإمكان بالانتقال إلى بلده،
وأن يحتسب بقاءه في سبيل الله - عز وجل - فالدعوة تستحق منا أكثر من ذلك.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم.(140/30)
دراسات تربوية
معوقات الأخوة الإسلامية
د. محمد طاهر حكيم
إن أي حديث عن الوحدة والتضامن قبل تحقيق الأخوة والألفة والمحبة
والاحترام المتبادل بين المجتمعات والأفراد حديث في الوقت الضائع؛ فعندما تغلب
الخلافاتُ بين الأفراد عناصرَ الائتلاف، ويطغى منهج تصفية الحسابات الشخصية
على الإحساس بالمسؤولية، وتعلو الاعتبارات الضيقة الخاصة على الاعتبارات
العامة، فلا مكان هناك للوحدة. وإذا عجزنا عن تحقيق الأخوة والمحبة بين الأفراد
فنحن عن بناء الوحدة بين الأمة أعجز، وعن إرساء مشروع متكامل للتضامن أبعد.
يجب أن نسأل أنفسنا أولاً:
- هل نحن نحب للمسلمين ما نحب لأنفسنا، ونكره لهم ما نكره لأنفسنا؛ كما
قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه) [1] ؟
- هل نحن نعفو ونصفح عن هنَات المسلمين ونشفق عليهم، ونسعى لقضاء
حوائجهم وستر عوراتهم كما أمر ربنا - جل وعلا -: [خُذِ العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ]
[الأعراف: 199] ، وقال: [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] [الحجر: 88] ،
وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسْلمه. من
كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها
كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) [2] ؟
- هل نحن قمنا بإصلاح ذات البين بين المسلمين؟ وهل نشعر بآلامهم
وأحزانهم؟ كما قال - سبحانه -: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] [الأنفال:1] ، وقال: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] [الحجرات: 10] ،
وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم
تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة) [3] ، وقال - عليه الصلاة والسلام -:
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [4] ؟
- هل نحن تركنا التباغض والتقاطع والتدابر والتحاسد كما قال -صلى الله
عليه وسلم-: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله
إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) [5] ؟
- هل تركنا سوء الظن بالمسلمين، كما قال - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] [الحجرات: 12] ؟
- أليس فينا من يحتقر المسلمين ويبغي عليهم ويسخر منهم ويظهر الشماتة
بهم متجاهلاً قول ربه - سبحانه -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ]
[الحجرات: 11] ، وقوله: [إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِ] [الشورى: 42] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (بحسب
امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) [6] . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا
تظهر الشماتة لأخيك؛ فيرحمه الله ويبتليك) [7] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-:
(إن الله - تعالى - أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر
أحد على أحد) [8] ؟
- أليس فينا من يرمي أخاه المسلم بالبذاءة والفحش والفسق مخالفاً قول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسق أو الكفر) [9] .
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا
البذيء) [10] ؟
- أليس فينا من يثير النعرات القومية والعصبيات القبلية والدعوات الجاهلية
متناسياً قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من ضرب الخدود، ودعا بدعوى
الجاهلية) [11] ؟
- أليس فينا من لا يرد عن عرض أخيه المسلم، ولا يتورع عن ذكره بما لا
يحب وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه
النار يوم القيامة) [12] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده) [13] ؟
وأورد ابن كثير [14] أن سفيان الواسطي ذكر رجلاً بسوء عند إياس بن
معاوية فنظر إليه وقال: أغزوتَ الروم؟ قال: لا. قال: السّنْدَ والهندَ والتركَ؟
قال: لا. قال: أفسَلِمَ منك الروم والسند والهند، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها - يعني إلى عيب أحد.
هذه بعض معوقات الأخوة الإسلامية التي يجب إزالتها وإحلال المحبة
والتعاون والتكافل والإيثار محلها حتى تكون العلاقة بين المسلمين مثل علاقة أجزاء
الجسد الذي يتأثر كله بشكوى بعضه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل
المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمّى) [15] .
وبه تُحَقّقُ الوحدة بين المسلمين بإذن الله. والله الموفق.
__________
(1) رواه البخاري، ح /13، ومسلم، ح /45.
(2) رواه البخاري، ح /2442، ومسلم، ح /2580.
(3) رواه البخاري، ح /2707، ومسلم، ح /1009.
(4) رواه البخاري، ح /6011، ومسلم، ح /2586.
(5) رواه البخاري، ح /6064، ومسلم، ح /1413.
(6) رواه مسلم، ح /2564.
(7) رواه الترمذي وحسنه، ح /2506.
(8) رواه مسلم، ح /2865.
(9) رواه البخاري، ح /6045، ومسلم، ح /61.
(10) أحمد، ح /3829، ورواه الترمذي وحسنه، ح /1977.
(11) رواه البخاري، ح /1297، ومسلم، ح /103.
(12) أحمد، ح / 26988، ورواه الترمذي وحسنه، ح /1931.
(13) رواه البخاري، ح /11، ومسلم، ح /42.
(14) البداية والنهاية، 9/336.
(15) رواه البخاري، ح /6011، ومسلم، ح / 2586.(140/32)
قضايا دعوية
مع قصة إبراهيم عليه السلام
(2/2)
د. حمدي عبد الحفيظ شعيب
في الحلقة الأولى وقف الكاتب مع قصة إبراهيم - عليه السلام - وأحداثها
سواءً مع ابنه وزوجه أو أبيه وقومه؛ يقتبس الدرس تلو الدرس، والعظة بعد
العظة مفصلاً الكلام مع كل وقفة. وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب باقي الوقفات.
-البيان-
الشرط الكمي ... الجماعية:
تنمية روح الجماعية: عندما جاء إبراهيم عليه السلام في المرة الثالثة يزور
ابنه، ويستطلع أحواله، وجده هذه المرة في الديار جالساً يبري نبله تحت تلك
الدوحة التي تركه تحتها صغيراً عندما جاء به أول مرة لتلك الديار، فقام إسماعيل
عليه السلام فصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد من التسليم والمعانقة والتقبيل
ونحو ذلك، ثم قال إبراهيم عليه السلام: (يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر! ! قال:
فاصنع ما أمركَ ربُكَ. قال: وتعينني؟ قال: وأعينُكَ. قال: فإن الله أمرني أن
أبني بيتاً ها هنا وأشار إلى أكمةٍ [1] مرتفعةٍ على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد
من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء،
جاءَ بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني أثناء البناء، وهو مقام إبراهيم
الآن وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ] . [البقرة: 127] [2] .
من هذه الحادثة، في تاريخ تشييد هذا البيت، نستشعر كيف أن الخليل عليه
السلام بعد أن عرّفه الحق سبحانه مكان البيت، ثم أوحى إليه سبحانه بأن يبنيه،
ذهب إلى المكان، ثم طلب معونة ابنه عليهما السلام والذي لم يتردد كالعهد به دائماً
مع والده، فبادر وشاركه في بناء هذا الصرح العظيم.
وهكذا انتقل هذا المشروع العظيم إلى مرحلة جديدة، وآن لحامل تلك المهمة
العظيمة أن ينتقل بها إلى أرض الواقع؛ إلى التطبيق. لقد انبعثت من قلب الخليل
عليه السلام، وبوحيٍ من الله سبحانه، لتترجم إلى عمل عظيم، وكان من
ضروريات الحركة في مجال التطبيق أن تقوم على عمل جماعي يشارك فيه كل من
يقدر عليه، وذلك بعد إعداده وإعداد أسرته لتحمل التبعات.
ومن هذه اللمحة الإبراهيمية التربوية، يستشعر الداعية أهمية (الشرط الكمي)
للمشروع الحضاري المنشود لإنقاذ الأمة، أي ضرورة العمل الجماعي، وأهمية
انتقاء الأفراد المشاركين؛ فالتنفيذ يستلزم جماعية، والجماعية لا يقوم عليها إلا من
أعد لها.
وهذا الملمح يرسم تحذيراً يربأ بالداعية عن خطر الفردية، ويذكره بمصير
الشاة القاصية، كما حذّر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشيطان
ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم
بالجماعة والعامة) [3] .
وهو أيضاً، يرسم ويخط أملاً عظيماً، وغاية منشودة: (من أراد بحبوحة
الجنة فليلزم الجماعة) [4] .
الشرط المكاني ... الأرض:
أهمية وجود نقطة تجميع وانطلاق: وهذا المرتكز الدعوي والمعلم المهم
نستشعره من قوله سبحانه وهو يقص على أجيال حملة المنهج الإلهي في كل عصر
وفي كل مكان تلك الخطوة المهمة في تاريخ هذا العمل العظيم، والمشروع الكبير:
[وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ] [الحج: 26] ، [وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ
البَيْتِ] [البقرة: 127] .
هكذا أراد الحق سبحانه أن تكون الخطوة العظيمة في هذا العمل العظيم، أن
يُحدد المكان المختار، وأن تُحدد له الأرض التي سيقام عليها.
فلا بد من مركز تجميع وانطلاق، مركز يجتمع حوله المؤمنون بالفكرة،
ويثوبون إليه، ويحتمون به. وهو في الوقت نفسه مركز لانطلاق الفكرة؛ فراية
الخير تحتاج إلى مكان توضع عليه، ويُعرف بها.
وأي فكرة وإن كانت صحيحة وأصيلة لا بد لها من عوامل تجعلها فعالة، ولا
بد لها من شروط تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأهم هذه الشروط هو وجود الأرض التي ستترجم عليها عملياً، ثم تنطلق
منها.
هكذا فهمها رائد الدعاة وسيد الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم-؛
وكان مشروع الهجرة الكبير إلى المدينة، ليجعل منها وذلك بعد دراسة وتخطيط
مرتكزاً للانطلاق، ومركزاً للإشعاع الحضاري، وأرضاً صالحة ثابتة راسية
توضع على قمتها علامة التجميع ومنارة الهدى، وتثبت فوقها راية الخير.
وعلى المربين أن يركزوا على أهمية هذا المَعْلم الدعوي العظيم الذي يعتبر
من أخطر المنعطفات في سير الدعوة؛ لأهميته بالنسبة للفكرة ولحامليها.
ظاهرة التآكل الروحي:
تنمية الجانب الروحي: ورد عن الخليل عليه السلام في سياق قصة بناء
البيت الحرام عديد من المواقف التي كان يداوم فيها على التوجه إليه سبحانه
بالأدعية الطيبة التي شهدت لها الأحداث بعدها بالقبول والاستجابة، منها: [رَبَّنَا
إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]
[ابراهيم: 37] .
ومنها: [وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ
النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ] [البقرة: 126] .
ومنها: [وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[البقرة: 127 - 129] .
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة
العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه
لورثة الأنبياء وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم. إنه طلب القبول؛ هذه هي الغاية؛ فهو عمل خالص لله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول؛ والرجاء
في قبوله متعلق بأن الله سميع الدعاء.
ثم تأتي الدعوة التي تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن؛ فإن أمر العقيدة هو
شغله الشاغل، وهو همه الأول، وهو الشعور بنعمة الإيمان الذي دفعهما عليهما
السلام إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا
الإنعام، وهو نعمة الإيمان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن
يتوب عليهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، وألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة
بأن يبعث في أهل بيته رسولاً منهم، فاستجاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت
محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة
بأمر الله، الوارثة لدينه. وكانت الاستجابة بعد قرون وقرون؛ إن الدعوة
المستجابة تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته؛ غير أن الناس يستعجلون [5] .
من هذا الملمح الطيب، يمكننا أن نتبين أهمية تلك الدعامة المهمة التي
ذكرناها تحت الركيزة الثامنة التي تدعو إلى وجوب (تنمية فن استمطار التوفيق
الإلهي) ، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده وحسن الظن به سبحانه ولذلك
فإننا نقول: إن دعائم طريق الداعية ثلاث: الفكرة الربانية، والعمل الدؤوب،
والدعاء الخاشع.
إنها أسرار مباركة للدعاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر
فيها كيف أن الحق سبحانه يمن على عباده المتقربين إليه، المتذللين له بأنواع
العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية
ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك يُفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب
التربية الروحية.
ولقد كانت وصايا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء وآثاره القوية
العظيمة تفوق الحصر، منها: (لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما
لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) [6] .
من هذه اللمحة التربوية، نستطيع أن نضع أيدينا على بعض الحلول التي
تفيدنا في علاج ظاهرة تربوية مرضية وهي (ظاهرة التآكل الروحي) عند الداعية،
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة وهي:
طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح؛ حيث يقل حظ الجانب الروحي في
أعمال العبد مثل التفريط في بعض الفرائض وغيرها من أعمال اليوم والليلة من
السنن، كالذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وينشأ نوع من الانفصام
المركب: داخلياً يستشعر فيه العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر فيه
قسوةً وجفاءً مع الوجود كله، فيتنكران له؛ فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي
يعرفهما. وخطورة هذه الظاهرة هو أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يبني الربانيين
الذين سيحملون القول الثقيل ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر
مغزى هذه التوجيهات الكريمة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ
(1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ
تَرْتِيلاً (4) إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ
قِيلاً] [المزمل: 1 - 6] .
العلاقات الصحيحة:
أهمية بناء الثقة بين الأفراد: وفي تدبرنا لطبيعة العلاقات الداخلية بين أفراد
هذه الأسرة المباركة الطيبة؛ وذلك من خلال قراءتنا لمواقفهم في كل مراحل بناء
البيت الحرام، يمكننا ملاحظة الآتي:
1- علاقة الزوج والأب بالأفراد: وبتأملنا سيرة الخليل عليه السلام مع
أسرته، نجد العلامة الواضحة فيها هي بروز الدور التفقدي والراعي لهم جميعاً،
دون محاباة لأحد على حساب أحد، ولكن ما يهمنا هنا هو ثقة إبراهيم عليه السلام
في زوجته؛ بحيث يستأمنها على وليده ووحيده، وينطلق وكله ثقة في رعايتها له
في تلك الظروف الصعبة، ثم ثقته في ولده عليه السلام عندما طلب منه تغيير
زوجته، ثم مشاركته في بناء البيت الحرام.
2- علاقة الزوجة بزوجها: فتدبر تلك القناعة الرفيعة، وذلك الرضى السابغ
الذي ملأ قلب هاجر المؤمنة الصابرة حين تركها ووليدها وحيدين في الصحراء؛
وهذا لا ينشأ إلا في ذلك الجو الصحي الذي يظلل العلاقة بينها وبين زوجها؛ ذلك
الجو أو البيئة التي تقطر ثقة واحتراماً.
3- علاقة الابن بوالده: في المواقف المختلفة لإسماعيل مع والده عليهما
السلام أثناء زيارة الخليل عليه السلام الأولى إلى أسرته في مكة، وقصده المكان
الذي تركهما فيه.
فتدبر هذين الموقفين العظيمين من إسماعيل مع أبيه عليهما السلام وهو يطيع
توجيهاته كما تصله من زوجته، وما يوحيانه في النفس من إكبار وإجلال لتلك
العلاقة القدوة بين الابن وأبيه، والمبنية على الثقة والاحترام.
ثم في أثناء الزيارة الثالثة، عندما قصده والده عليهما السلام لإعانته على بناء
البيت.
وعندما نأتي إلى قمة المحنة؛ حيث تعرضت هذ العلاقة لاختبار عظيم،
عندما أمر الله عز وجل إبراهيم عألأيه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام:
[قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] [الصافات: 102] .
فتدبر أيضاً هذه المبادرة إلى الطاعة بمجرد أن يأمر الوالد ولده، وذلك في كلا
الموقفين العصيبين، وما كانت هذه الطاعة لولد إلا في أجواء الثقة العميقة.
ونستزيد من سيرة القيادة العظيمة في مجال آخر، من مواقف الحبيب -صلى
الله عليه وسلم- والجنود من حوله، ونستشعر مدى الثقة العظيمة المتبادلة التي
كانت تظلل العلاقة بينهم، وما تؤدي إليه من حب للبذل، واستشرافٍ للعطاء،
وقوةٍ في البناء.
لأنه (على قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة،
وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من
عقبات وصعاب، [فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ] [محمد: 20، 21] ،
والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات) [7] .
ولنا أعظم مثال في ثقة الجندي في قيادته ما كان من موقف أبي بكر رضوان
الله عليه عندما سعى إليه رجال يسألونه عن حادث الإسراء والمعراج، فقال قولته
الخالدة: (إن كان قال ذلك فقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني
لأصدقه على أبعد من ذلك. فسُمي من ذلك اليوم صديقاً) [8] .
وتدبر ثقة القيادة المتبادلة، في جنودها وأنصارها، فيما رواه أبو هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينا راعٍ في غنمه
عدا عليه الذئب أي هجم عليه فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي أي أراد إنقاذ الشاة منه
حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع أي عند الفتن
حين يتركها الناس نهبة للسباع، يوم ليس لها راع غيري؟ !) فقال الناس:
سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإني أومن بذلك أنا وأبو
بكر وعمر) [9] .
وظيفة عظيمة ... وأجرٌ أعظم!
أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود: لقد أمر الحق سبحانه الخليل اأن
يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم؛ ووعده بالإجابة: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] [الحج: 27] ، (أي: نادِ
في الناس بالحج داعياً لهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فُذكر أنه
قال: يا رب كيف أبلّغ الناسَ صوتي ولا ينفذهم. فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام
على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال:
يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه. فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ
الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء
سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم
لبيك) [10] .
من هذه اللمحة التاريخية، يمكننا أن نضع أيدينا على قاعدة ذهبية من قواعد
الدعوة إلى الله عز وجل وركيزة هامة من ركائز البناء.
ونحن نضيف بها مَعْلَماً جديداً، وهو أن حَمَلَة هذه الفكرة الربانية العظيمة،
ودعاة هذا المشروع الحضاري، قد كلفهم الحق سبحانه بوظيفة ووعدهم بالأجر
العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
أما الوظيفة: فهي هداية الناس إلى هذا المنهج، وإرشادهم إلى الحق والهدى، وهو دور عظيم يقع بمجرد البلاغ: [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ]
[النحل: 35] ، ويتضح ذلك في أمره سبحانه لإبراهيم عليه السلام: [وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ] .
وأما الأجر: فهو عظيم وشامل وسابغ، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، فيبدأ
من تضاعف الثواب: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [11] ويرقى إلى
بلوغ مقام الخيرية والشهادة على الخلق؛ لأن خيرية هذه الأمة، إنما كانت
بخروجها إلى الناس، والاختلاط بهم، ودعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر،
وإيمانها بالله سبحانه: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] [آل عمران: 110] .
ثم يصل إلى الجزاء العظيم؛ وهو النجاة في الدنيا والآخرة: [وَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ]
[هود: 58] .
وهذا الأجر يقع بمجرد الدعوة، ولا يتوقف على الاستجابة: [فَإنْ أَعْرَضُوا
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ] [الشورى: 48] ؛ لأن أمر
الهداية بيده سبحانه: [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ]
[القصص: 56] .
إذن فلا حرج على الداعية ولا تثريب ولا إحباط إذا لم يثمر بلاغه، ولم
يستجيبوا له: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً]
[الكهف: 6] ، وتدبر أمر الحق سبحانه للخليل عليه السلام: (نادِ وعلينا البلاغ) .
أي أدّ دورك بأمثل طريقة، ودع النتائج عليه سبحانه.
والداعية يخرج من هذا الملمح التربوي الفريد بسهام وافرة الغنائم حول فقه
هذه الوظيفة من حيث ماهيتها ومنهجية تنفيذها والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي
التكاليف وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة
استشعار خطورة بلوغ درجة البلاغ المبين للفكرة، وفهم الدور المطلوب،
واستشعار عظم الأجر.
ثم وهذا هو الأهم استشعار هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر ودور
المدد الرباني في تنفيذ المشروع الحضاري المنشود. وهذه النقطة هي النبراس
الذي يعطي الأمل للعاملين، وهي العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من
أصحاب المشاريع المغايرة.
السنن الإلهية ... وحماقة الوعل [*] !
أهمية فقه سنة المرحلية والتدرج: هكذا كان منهج التكليف يسير بتدرج ليس
فيه تعسف، وبمرحلية ليس فيها تعجل، وبخطة تأخذ في الاعتبار سمو الهدف،
ومبلغ الإمكانيات، وكثرة المعوقات.
لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام أن يُسْكن زوجه وولده في ذلك
الوادي المقفر، ثم تركهم وكرر زياراته لهذا المكان ليتفقد أحوال أسرته المباركة
المرشحة لهذا العمل والمشروع العظيم، وكانت تلك هي مرحلة الإعداد والتهيئة.
وبعد ذلك عرّفه الحق سبحانه مكان البيت، وسلمه له، وملكه أمره؛ فكانت
هذه مرحلة إعلان نقطة الانطلاق.
ثم أمره أن يقيم البيت على أساس قاعدة التوحيد؛ فيكون خالصاً له سبحانه
وحده، وأن يجهزه تجهيزاً خاصاً، وكانت هذه بمثابة مرحلة إعلان الفكرة العظيمة
للمشروع العظيم.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الانطلاق والدعوة للفكرة العظيمة؛ حيث أمره أن
ينادي في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس
دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيدة، مشاةًَ على أرجلهم، وركوباً على كل بعير
مهزول من بُعْد الشقة. وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة
من الناس تهوي إليه تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام؛ وذلك حتى يتحقق
المطلوب، وتتحقق غايات هذا اللقاء السنوي العظيم.
وهكذا الشأن في أمر الأعمال الكبرى، والمشاريع الحضارية العظيمة أن
تسير في مراحل، وكل مرحلة لها فقهها ولها ظروفها، وأن تتم هذه المرحلية في
تدرج ومنهجية حتى تبلغ الهدف المنشود؛ وذلك؛ لأن (التدرج سنة كونية، وسنة
شرعية أيضاً. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن
يقول: كوني فتكون؛ ولكنه خلقها في أيام ستة من أيام الله تعالى أي في ستة أطوار
أو أزمنة يعلمها الله. وفي هذا المعنى تقول عائشة رضي الله عنها واصفة تدرج
التشريع ونزول القرآن: (إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة
والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً [] 12 [] 13 [.
وقد يستعجل بعض الناس الخُطى، كما استعجل ذلك الفتى الصالح المتحمس
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليهما عندما دخل على والده
مستبطئاً ومستعجباً من سياسة والده التدرجية، فقال: (يا أبت! ما يمنعك أن
تمضي لما تريده من العدل؟ ! فوالله ما كنتُ أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب أي الجمل الفحل العنيد إني
أريدُ أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا،
فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذا) ] 14 [.
حتى إذا عاوده الاستغراب كرر محاولته ودخل على أبيه، فقال: يا أمير
المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمِتها، أو سنة
فلم تُحْيِها؟ ! فقال أبوه: رحمك الله من ولد خير. يا بُني! إن قومك قد شدوا هذا
الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم
لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن
يُهراق في سببي محجمة من دم، أَوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام
الدنيا إلا وهو يُميتُ فيه بدعة ويُحيي فيه سنةً؟ !] 15 [.
لهذا كان على المربين من الدعاة ألا يغفلوا هذه الركيزة، وذلك المعلم الدعوي
المهم، والسنة الإلهية العظيمة، ولا يتعجلهم متعجل، ولا يستبطئهم مستبطئ.
ظاهرة بخس الناس أشياءهم:
بث روح التقدير والتشجيع: وعندما نستمر في قراءتنا لهذه الأوراق، فإنه
يستوقفنا على إحدى صفحات الملف هذا المعلم القرآني الفريد:] وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ
إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياً [] مريم: 41 [، وهي دعوة قرآنية تدعو الحبيب -
صلى الله عليه وسلم- وكل من سار على دربه أن يستزيدوا من سيرة الخليل عليه
السلام بقراءة دعوته، والاستفادة من منهجيته. وتتجاوز هذه الدعوة عمقها التربوي
العظيم بهذا التقدير والتشريف الكريم؛ حيث وسمت ملف الخليل عليه السلام بختم
رباني وعلامة مميزة يُعرف بها، وهي:] إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً [أي كثير الصدق أو
كثير التصديق.
وفي موضع آخر أثناء الحديث عن الخليل عليه السلام، نعرف أحد أسباب
هذا التقدير والتشريف الموحى به عن خليل الرحمن:] وَإبْرَاهِيمَ الَذِي وَفَّى [
] النجم: 37 [، قال سعيد بن جبير والثوري: أي بلّغ جميع ما أُمر به. وقال ابن
عباس:] وَفَّى [لله البلاغ، وقال سعيد بن جبير:] وَفَّى [ما أمر به، وقال
قتادة:] وَفَّى [طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن
جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى:] وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً [] البقرة: 124 [، فقام بجميع الأوامر، وترك
جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال؛ فاستحق بهذا أن يكون للناس
إماماً يُقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله) ] 16 [.
فتدبر هذا التكريم والتشريف والتقدير الإلهي للخليل عليه السلام الذي وفّى كل
ما أُمر به، وقدّم نموذجاً طيباً في البذل، وفي إنشاء مشروع حضاري متكامل.
وتأملْ كيف أن إبراهيم عليه السلام وهو من هو كان في حاجة للطيفة ربانية
تشعره بالتقدير لتاريخه الناصع، وكذلك بالامتنان على دوره الدعوي، وعلى
طاعته لربه جل وعلا فما بالك بمن هو دون تلك القمة، ويسكن السفح؟ ! ويكون
في مسيس الحاجة لكلمات تقديرية بسيطة.
من هذه اللطيفة الربانية الكريمة، نستشف مدى السمو والرقي الأخلاقي الذي
يتعلمه الناس من هذا القرآن؛ حيث ورد في غير موضع لمحات تربوية قرآنية كلها
تحث على وجوب بث روح التقدير وتنمية خلق التشجيع؛ وذلك لكل من شارك في
أي بذل، وفي أي مجال من شأنه أن يُسدي خيراً للناس.
وعلى هذا النهج التربوي، ومن هذا المعين الصافي نجد أن حَمَلَةَ مشعل
الدعوة على مر التاريخ البشري، ورواد مسيرة الحركة الدعوية قد خَطّوا معالم
خالدة في هذا الباب، ويقف في المقدمة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في وصيته
الرائعة: (أنزِلوا الناس منازلهم) ] 17 [.
ولو تدبرنا الجانب الأخلاقي في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام لوجدناه
يتمثل في قوله - تعالى -:] وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [، وهي دعوة كريمة،
إلى عدم بخس أشياء الناس؛ ولو استشعرنا مغزاها التربوي البعيد لوجدناه يشمل
عدم بخس أي شيء من أي نوع مثل: تقدمهم في العمر، ومكانتهم، وسبقهم
الدعوي، ودورهم الريادي، وتقدير كل ما يقدمونه من خير، وكذلك تشجيعهم على
أي عمل أو بذل، بل أيضاً بمدح ما يسعدهم من صفاتهم!
وخطر تجاهل هذا المعلم تربوياً من شأنه أن يؤدي إلى ظاهرة دعوية مرضية
تسمى: (ظاهرة بخس أشياء الناس) والتي من أدنى مظاهرها تجاهل أعمال الآخر، ومن أعلاها التجريح لأعماله وصفاته، ومن أبسط آثارها على الآخر هو الإحباط، والتثبيط، ومن أخطرها الجروح النفسية التي قد تستعصي على العلاج! ومن
آثارها على صاحب هذا السلوك أنه من جهة: يصنف نفسه مع نوعية مذمومة
سلوكياً قال عنها سبحانه:] كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا [] الأعراف: 38 [، ومن
جهة أخرى: أنه يظلم نفسه، ويحرمها من أن يضمها ركب نوعية ممدوحة؛ حيث
ينسى أنه (لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل) .
__________
(1) الأكمة: التل.
(2) رواه البخاري، ح/ 3364، وأحمد، ح/2285.
(3) رواه أحمد، ح/21524، وصححه الألباني.
(4) رواه الترمذي: جزء من حديث حسن صحيح غريب 2254، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري 6/385.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/114 115 بتصرف.
(6) رواه أحمد، 5/234، وقال الألباني في صحيح الجامع 7739: حسن.
(7) مجموعة الرسائل التعاليم، الإمام حسن البنا، 364 بتصرف.
(8) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الخضري، طبعة دار الجيل 68.
(9) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة 2388، والترمذي كتاب الفتن 9/ 29، وأحمد في مسنده
3/84.
(10) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/226.
(11) رواه مسلم، ح/ 1893.
(*) حماقة الوعل: إشارة إلى قول الشاعر: كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
(12) رواه البخاري، ح/4993.
(13) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: د يوسف القرضاوي، 104 105 بتصرف.
(14) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخلال 99.
(15) تاريخ الخلفاء: السيوطي 240.
(16) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/276.
(17) رواه أبو داود، ح/4842.(140/34)
قراءة في كتاب
مصر والحرب القادمة [*]
قراءة في فكر علماء الاستراتيجية
عرض: وائل عبد الغني
المؤلف: أ. د. حامد ربيع.
الناشر: دار الوفاء مصر.
أعدها للنشر: جمال عبد الهادي- الشيخ عبد الراضي أمين.
بين آونة وأخرى يثور تساؤل في الأوساط المصرية: هل ستقوم حرب بين
مصر وإسرائيل، أم لا؟ ومع أن الأسس الموضوعية للبحث في القضية تؤكد أن
الحرب قادمة؛ إلا أن التوقيت يثير جدلاً واسعاً:
فهناك رأي بأن الحرب قاب قوسين أو أدنى، ويدل أصحابه على ذلك
بالتطورات المتسارعة التي تجري على الساحة [1] ، ويبرزون من أجل ذلك
عناصر القوة الإسرائيلية والصهيونية، كما يبرزون عناصر الضعف العربي.
وهناك رأي مغاير يستبعد حدوث الحرب في الأمد القريب، ويعتبر أصحابُ
هذا الرأي أن الأمر من قبيل الحرب النفسية التي تُشنّ على العقول العربية،
ويدلون على هذا بأن كثيراً من الأمور المؤثرة في نتيجة الحرب لم تزل ظنية ولم
تحسم بعد، ويبرزون من عوامل الضعف في الجسد الصهيوني ما يرجح رأيهم،
ويفسرون ما يحدث بأنه نوع من التلويح بالقوة من أجل الردع لدفع الخصم نحو
مزيد من التنازلات.
ويبقى موعد الحرب رهن التطورات والمتغيرات.
لكن كلا الرأيين يعكس ما ذكره الكاتب من حقيقةٍ استخلصها من جميع صور
الصراع التي دارت بين العرب وإسرائيل وفصوله؛ وهي أنه لم يكن لدينا فكر
استراتيجي يفصل بين الثوابت والمتغيرات ويحسم قدر التنازلات، ويحدد مهام
ووظائف كل مرحلة.
وبين يدينا في هذا الكتاب قراءة في فكر د. حامد ربيع - رحمه الله - وهو
من المتخصصين في هذا الجانب مع ما تتميز به كتاباته من دقة وغيرة وإخلاص
وصراحة ووضوح، في سلسلة مقالاته التي حواها الكتاب. وهو يعرض نظرته
المستقبلية لاحتمال الحرب، ويستهل قائلاً:
في تاريخ كل أمة تمر لحظة معينة فإذا بها تصاب بنوع من الغشاوة الحقيقية،
تضطرب مفاهيمها، ويصيب مدركاتها عدم الوضوح، ويسيطر على عقلها عدم
الصلاحية! أما قياداتها بجميع مستوياتها فهي مهلهلة، لا تدري أين الطريق
الصحيح؛ قيادات سياسية فقدت الوعي، وقيادات عسكرية يصيبها الترهل! أما
عن القيادات الثقافية، فهي لم تعد سوى أبواق تهلل وترقص وتطبل!
والمؤرخ يقف إزاء تلك الظاهرة في حالة ذهول: كيف حدث ذلك، ولماذا
حدث؟
هذه أمة تملك تقاليدها الواضحة الصريحة المقننة فإذا بها قد أصاب الاختلال
كل مفاهيم (الأمن القومي) لها!
لقد حدث هذا في التاريخ البشري مراراً؛ في فرنسا قبيل الحرب العالمية
الثانية، وفي ألمانيا أوائل القرن الماضي.
فهل سوف يقدر لنا أن نعاصر نموذجاً آخر في الأعوام القادمة في منطقة
الشرق الأوسط - يعني حرباً إسرائيلية عربية وبالذات مع مصر -؟
ويتساءل عن خصائص السياسة الإسرائيلية خلال فترة ما بعد اتفاقيات السلام: هل هذه السياسة تعبير عن قناعة بالسلام؟ !
ثم يستخلص بإيجاز المبادئ التي سيطرت على سياسة تل أبيب منذ عملية
السلام وحتى اليوم؛ وقد ميز فيها بين ثلاث دوائر متداخلة:
- دائرة العلاقات المصرية الإسرائيلية.
- دائرة العلاقات الإسرائيلية مع منطقة الشرق الأوسط.
- دائرة العلاقات المصرية الأمريكية.
وحول الدائرة الأولى رصد ثلاثة أدوار قامت عليها سياسة العدو تجاه مصر
منذ كامب ديفيد.
أولاً: تخريب مصر من الداخل؛ لأن في ذلك تقييداً لفاعليتها:
وهذا مبدأ قديم أعاد توظيفه كيسنجر من خلال: (النظر إلى السياسة الخارجية
على أنها أداة لتنفيذ السياسة الداخلية) ؛ والذي طورته السياسة الإسرائيلية إلى خطة
كاملة للتعامل مع مصر من خلال:
1- البحث عن نقاط الضعف في الداخل ومحاولة تضخيمها، وأخطرها:
الأزمة الاقتصادية - وأزمة القيم السياسية.
2- التعامل مع عناصر التغيير التي تتمثل في: الشباب - العقول - القيادات.
ثانياً: عزل مصر عن المحيط العربي:
وكانت بداية هذا الدور عقب اتفاقية كامب ديفيد، وحاولت إسرائيل بعدها
تعميق هذا العزل لتجني من ورائه حرية الحركة في المنطقة وما يُبنى على ذلك من
آثار. وقد أعلنت إسرائيل أن روح اتفاقية كامب ديفيد تعني التخلي عن ميثاق
التعاون العسكري والدفاع المشترك بين مصر والدول العربية.
ثالثاً: إصابة وظيفة مصر الإقليمية بالشلل:
من خلال المبدأ الذي أقرته القيادة العمالية الإسرائيلية: (شد الأطراف) عن
طريق بناء روابط وثيقة ومتجانسة أساسها التحالف مع عواصم الجوار غير العربية
في المنطقة: (طهران - أنقرة - أديس أبابا) .
هذا التحالف يبدأ بعلاقات ثنائية - ثم إيجاد تجانس في المصالح، ومن ثم
التكتل ضد المنطقة لفرض إطار يحصرها، وهو ما يهدد دور مصر الإقليمي
والدولي.
ولما تمثله مصر من مركز ثقل في المنطقة بكثافتها السكانية - وقدراتها
العلمية، وموقعها الاستراتيجي، فإن تفريغ مصر من جميع عناصر القوة، وعزلها
عن محيطها العربي يعني أن حصارها في كل موضع تعودت أن تمارس فيه
وظيفتها القيادية منطلق طبيعي لإكمال عملية التخريب، وإذا لم تنجح إسرائيل في
تطويع الإرادة الشعبية فلا أقل من تلويث عقول الطبقة المثقفة الفاعلة إلى حين.
أما عن (الدائرة الثانية) وهي: عناصر السياسة الإسرائيلية في المنطقة
فأبرزها:
1- توريط دول المنطقة القوية: كما ورطت السادات في كامب ديفيد، وكما
أوقعت الأسد في مستنقع لبنان.
2- تدعيم تجزئة دول العالم العربي: كما اتضح في لبنان، وكما هو واضح
في العراق والسودان اليوم.
3- البدء بإنشاء إسرائيل الكبرى: وهذا يعكس صعود فلسفة جديدة في
إسرائيل، سنعرض لها بعد قليل.
وأما عن (الدائرة الثالثة) العلاقة الأمريكية المصرية: فتبلورت في سياساتٍ
أشعرت القيادات المصرية بنوع بالغ من الحرج والقلق وأهم مبادئها:
1- سيادة مفهوم التوتر والاضطراب في مصر بما لا يصل إلى حد الثورة
(الاضطراب المنضبط) .
2- استخدام إسرائيل أداة أساسية في المنطقة؛ إذ أصبحت تمثل مقدمة
الحربة الأمريكية.
3- معاملة مصر على أنها ثكنة لعملاء الحراسة.
4- التعامل الاقتصادي القائم على فرض الوصاية على السياسات، والسيطرة
على الموارد واستنفاد الثروات.
وإذا تحددت السياسة الإسرائيلية على هذا النحو فلا بد أن نسلط الضوء على
مفردة أخرى في تحليلنا ذات أثر بالغ وهي:
* الفلسفة السياسية التي تسيطر على الإدراك الإسرائيلي الحاكم: فحينما زار
بيجن القاهرة، وقف أمام الأهرامات وقال: (هؤلاء أجدادنا بناة الأهرام) ! هذه
الجملة تعبير عن فلسفة بدأت تسود الطبقة الحاكمة في إسرائيل منذ عام 1977م،
وأساسها: أن إسرائيل دولة شرق أوسطية بحكم وجودها أولاً، والتاريخ ثانياً،
وليست كما قيل من قبلُ عنها: إنها امتداد للحضارة الغربية الأوروبية. ويترتب
على هذه الفلسفة أنه من حق إسرائيل التحكم في هذه المنطقة وقيادتها تعبيراً عن
الوظيفة التاريخية للمجتمع اليهودي. وهذا التوجه الجديد ترتبت عليه نتائج بالغة
الخطورة، سواء على مستوى التخطيط أو من جهة الممارسة السياسية والنشاط
العسكري.
وكي تتضح الأمور أكثر فلا بد من تجلية الفلسفات الصهيونية التي تشكل
أرضية تحريك الأمور ووضع الخطط داخل إسرائيل؛ فنحن نجد تيارين فاعلين
داخل إسرائيل:
الأول: يعكس أفكار (بن جوريون) ويستمد أفكاره من التطور اليهودي في
شرق أوروبا ووسطها، والذي يرى أن إسرائيل هي دولة غربية وامتداد لحضارة
أوروبا؛ وهي الفلسفة التي يتبناها العماليون داخل إسرائيل.
الثاني: يستمد تقاليده الحقيقية من الدولة العلمانية من جانب، ومن إيطاليا
الفاشية من جانب آخر، ويعرف بـ (الاتجاه التصحيحي) الذي وضع أسسه
(جابوتنسكي) .
ويمكن أن نحلل الاختلاف بين التيارين كما يلي:
1- جابوتنسكي في تصوره للصهيونية جَعَلَ الدين اليهودي المحور الحقيقي
للصهيونية التي هي اليهودية في هذا القرن؛ أي أنهما حقيقة واحدة.
بينما يرى التوجه الاشتراكي (مدرسة بن جوريون) أن الصهيونية حصيلة
تطورٍ اندمجت فيه أربعة عناصر هي: (قيم اشتراكية - عنصرية - قومية - تعاليم
وتقاليد يهودية) ، وعلى هذا فالدين اليهودي هو أحد عناصر تكوين الصهيونية.
2- إسرائيل في نظر (جابوتنسكي) تعني إعادة بناء مملكة إسرائيل وليس
مجرد قيام الدولة.
3- الحركة التصحيحية تعلن عن أهدافها الحقيقية منذ البداية؛ وهي إقامة
مملكة إسرائيل الكبرى، أما فكرة التدرج التي يريدها التقليديون فلا موضع لها.
4- السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف هو استخدام القوة بجميع تطبيقاتها؛ لأن
الصراع العسكري مرحلة أساسية في البناء القومي كي ينتقل الشعب من السلبية إلى
الإيجابية، ويكسبه ذلك احترام الذات.
5- بالنسبة للسياسة الخارجية: فيرى فكر (بن جوريون) أن السياسة
الخارجية تُبنى على الأدوات المتاحة؛ فالإمكانيات المتاحة هي التي تحدد الأهداف،
بينما (الاتجاه التصحيحي) لا يؤمن إلا بتحقيق الأهداف؛ لذلك يسعى إلى تغيير
الإطار الدولي تحقيقاً لما يصبو إليه.
6- (جابوتنسكي) كان مقتنعاً أن العالم العربي أكذوبة، وأنه لا يوجد سوى
عالم إسلامي في المنطقة.
7- تطرف (جابوتنسكي) في نظرته إلى الحضارة الإسلامية؛ إذ كان يضعها
في ذيل الحضارات. وهذا التطرف ولّد فكرتين هما:
أ - أن الصراع في المنطقة بين إسلام متخلف ويهودية متقدمة!
ب - أن هذا الصراع لا يمكن التهرب منه.
8- لا يمكن اعتبار إسرائيل امتداداً للحضارة الغربية؛ لأن جوهر التاريخ
الأوروبي هو استئصال اليهود.
وهكذا ظل فكر (جابوتنسكي) بعيداً عن السلطة حتى حمله بيجين معه إلى
السلطة، ليفرض نفسه على مقاليد الأمور.
وهنا نلفت النظر إلى حقائق لا يمكن تجاهلها:
1- أن التوليفة الحاكمة في إسرائيل تعكس انقلاباً حقيقياً يعبر عن وصول
القوى المحافظة إلى السلطة، وهي عبارة عن توليفة من اليمين التقليدي والقوى
الدينية تتوسطها المؤسسة الحاكمة.
2- أن من يصنع القرار حتى في الكنيست ولجنة الأمن القومي هو من يمثل
القوى السياسية (الليكود - العمل - الحزب الديني (المقدال (.
3- إسرائيل تلجأ في تنفيذ سياستها إلى مبدأ توزيع الأدوار؛ لهذا فلا يجوز
أن ننخدع ببعض التصريحات أو التعبيرات المتعاطفة؛ بل يجب أن نسأل: ممن
تصدر؟ ما وزنها الحقيقي على خريطة القوى السياسية المتحكمة في إسرائيل؟
4- أن إسرائيل تعاصر حالياً مرحلة من التمركز في السلطة لم تعرفها في
تاريخها فالمؤسسة العسكرية هي التي تحرك الأمور في إسرائيل، والقائمون عليها
من المهنيين المتخصصين في المجال العسكري، مع ضعفهم في الإلمام بالمجالات
السياسية.
5- الدولة بمفهومها الحقيقي اكتملت؛ حيث أضحت المؤسسات الثلاث:
(الجامعة، والجيش، والأداة الدبلوماسية) تعكس الوظيفة القومية ولا تشترك في
المهاترات الحزبية؛ فهي تعتبر المحور الحقيقي للتطور الذي تعيشه إسرائيل، ومع
صعود ليكود إلى السلطة حدث تطور خطير في القناعة القيادية وفي مفهوم ممارسة
السلطة في ثلاثة أبعاد:
1- تهذيب المفاهيم التي سادت في إسرائيل آنفاً.
2- هذا التهذيب أقرب إلى الواقع الاجتماعي من كونه فلسفة؛ بحيث تعبر
بصدق عن حقيقة تلك القوى التي تسود الواقع الإسرائيلي.
3- أن محور هذا التطور الحقيقي هو النظرة إلى إسرائيل على أنها دولة
شرق أوسطية، وهكذا أثرت المعطيات السابقة في تشكيل عناصر السياسة
الخارجية الجديدة كما يلي:
1- أن القيم الجديدة هي التي أصبحت تحكم التحركات الإسرائيلية.
2- تسريب هذه المفاهيم إلى الإدراك العربي، حتى يسهل التعامل معه من
خلالها.
3- التعامل مع المنطقة العربية يجب أن ينبع من مفهوم القوة والعنف.
4- الزعم بأن إيران ضد إسرائيل غير صحيح؛ لأن هناك صداقة قديمة بين
الشعبين، وهناك ترابط حضاري بين الشعبين الفارسي واليهودي يجب أن يعود
للحياة ولو من منطلقات جديدة؛ وهذا التصور ينبغي أن يسري على تركيا لفرض
حصار عبر هذا المثلث على دول المنطقة لصالح إسرائيل.
5- انقلاب محور العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؛ لتصبح على شكل
تحالف قائم على الندية التي يفسرها حاجة الولايات المتحدة لإسرائيل، وليس
العكس.
وعلى ما سبق لا يمكن تحاشي الاصطدام بمصر بل هو مقصود لذاته، وبهذا
تجد إسرائيل نفسها مع أعداء مصر في خندق واحد.
ولكن لماذا مصر بالذات دون دول المنطقة؟
والجواب يعكسه دور مصر الأساس الذي يتمثل في ثلاث وظائف هي:
- الوظيفة الحضارية.
- الوظيفة الإقليمية.
- الوظيفة العالمية.
وإسرائيل تفرق بين هذه الوظائف بدقة، وتدرك أنه لا دور لها في المنطقة
إلا على حساب مصر، إذن لا بد من الاصطدام في فرقعة للسلاح تضع حداً لوجود
إحداهما باعتباره مركزاً للثقل الدولي والإقليمي في المنطقة، ومع العوامل التي
ترجح كفة مصر - مثل كون إسرائيل دخيلة، وكونها تخدم مصالح دولة كبرى
وليس مصالح المنطقة - وكونها لا تملك المقومات الذاتية للدولة الرائدة - فلا بد من
التحرك للقضاء على دور مصر لتدعم وظيفتها، وهذا الدور لا يتحقق إلا بخدمة
مصالح وأهداف القوى العظمى، والثمن سلسلة من الأرقام الضخمة من المساعدات
والتسهيلات، وجعل إسرائيل مخزناً ضخماً للأسلحة من كل نوع لحمايتها.
وكون الترسانة العسكرية تضم هذا الكم والكيف من الأسلحة المتطورة
والاستراتيجية، فإن هذا لا يعني سوى الاستعداد لقتال يخرج عن صورة القتال
التقليدي لتحقيق التوسع ولحماية المصالح الأمريكية.
وهنا يجد الباحث صعوبة في تحليل ما يثار حول الترسانة العسكرية
الإسرائيلية وخصائصها الجديدة، وما يسرب من قبل المخابرات من معلومات غير
دقيقة أو خاطئة فهي تارة تأتي مبالغاً فيها لإحداث الخوف والرهبة، وتارة تأتي
بعيدة عن الموضوع لجذب الأنظار بعيداً عن حقيقة ما يجري.
لهذا كان على من يتعامل مع مثل هذه المعلومات أن يطبق قاعدتين:
الأولى: أن أي احتمال مهما ضعفت نسبة ترجيحه لا بد أن يؤخذ في الاعتبار
وأن تعدّ له العدة؛ مثال ذلك: ما طبقه الأمريكيون على نسبة احتمال نشوب حرب
نووية مع الاتحاد السوفييتي - عندما كان قائماً - فوجدوا أنه لا يتعدى 2%، وأن
نصف هذه النسبة أساسه احتمالات حدوث اضطراب ذهني لمن يملك مفاتيح اتخاذ
القرار؛ وهذا يعني أن الاحتمال الحقيقي هو 1%، وهذا الاحتمال أساس مطلق
يفرض نفسه على التخطيط الاستراتيجي الأمريكي رغم ضآلته.
الثانية: أن تخطيط التعامل يجب أن يكون أساسه ما اتفق على تسميته (أسوأ
موقف للتعامل) .
من هنا يجب أن تبرز حسابات الحرب القادمة؛ وعلينا إزاء ذلك أن نجعل
من احتمال القتال مع إسرائيل ولو بنسبة 1% أساساً للتقدير، وأن ندخله في حسابنا
بخطة كاملة، وأن نملك استراتيجية مستقلة أساسها أسوأ موقف متصور.
ولا يعني تحليلنا للواقع الإسرائيلي إغفالنا عناصر الضعف الداخلي والإقليمي
والدولي للعدو؛ فهو لم يعد يملك القيادة الرائدة - وافتقدت الدولة التماسك
الأيديولوجي الذي اختفى منذ حرب لبنان؛ ولهذا فإن المشروع الصهيوني قد دخل
مرحلة التهلهل، ولكن علينا أن نتذكر أن الأعور وسط العميان ملك، فالضعف
العربي، والتموين الخارجي، والقدرة الصهيونية تصب كلها في صالح إسرائيل.
وإذا كانت تملك من عناصر الضعف الكثير، فهي تملك أيضاً من عناصر
القوة الكثير؛ وواجب القيادات نحو ذلك هو تحليل عناصر القوة لشلها، وعناصر
الضعف لتضخيمها.
ويضاف أيضاً إلى مرجحات الحرب أمر ذكرناه، وينبغي أن نؤكد عليه وهو: أن مقاليد الأمور اليوم في يد القيادة العسكرية المهيأة التي أفرزتها وعلّمتها حرب
لبنان. ومع امتلاكها للقنبلة النووية التكتيكية، بدأت هواجس الاستخدام النووي
تتزايد، ولم يعد أمام إسرائيل إلا الإجابة عن سؤالين يحسمان مسألة الحرب:
الأول: متى يجب أن تحارب إسرائيل؟ ويعني ذلك تحديد اللحظة التي
تكتمل فيها عناصر التطور، وهو أمر يرجع تحديده إلى القيادة القومية.
الثاني: كيف تحارب إسرائيل؟ بمعنى ما هو الأسلوب الأمثل للقتال؟ وما
هو خير أسلوب للقضاء على الخصم؟ وهو لا يعني فقط السلاح المستخدم؛ بل
يعني الأرض التي يجب أن تحتضنها الأداة المقاتلة أيضاً، فضلاً عن أسلوب إدارة
القتال.
وهذا السؤال ليس من حق أي أحد الإجابة عنه سوى المؤسسة العسكرية التي
أخذت في تطوير فلسفتها وأسلحتها في آن واحد، وقد بدأت الفلسفة في شكل انتزاع
الشرعية الإقليمية بقوة السلاح كما كان في عام 1956م، أو تأديب القيادات التي
جرؤت على رفع راية العصيان ضد أمريكا كما في عام 1967م. أما اليوم
فإسرائيل تريد الخروج من دورانها في فلك الإرادة العربية، وتملك هي الزمام،
وإذا كانت قد هزمت 3 دول عربية في عام 1967م، وهزمت أيضاً أكبر دولة
عربية على طاولة المفاوضات، وكان غايتها في الأمرين استئصال الإرادة المقاتلة
سواء عبر الحرب أو السلام، ولكنها أخفقت في عملية الاستئصال على مستوى
القيادات والشعوب في 1973م، وعلى مستوى الشعوب من خلال اتفاقية كامب
ديفيد، ولذا فإن الإرادة الإسرائيلية ترجح خيار الحسم النووي لعدة أسباب:
1- أن الشعب المحارب في منطقة الشرق الأوسط قد ولد في أكثر من مكان.
2- استفحال الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تشهدها إسرائيل نتيجة لتزايد
الهجرات ومشاكل الأمن الداخلي، فهي على الأقل في حاجة لتوفير (33 بليون
دولار سنوياً) لتحافظ على المستوى الاقتصادي المخطط له.
3- نمو الحركات الجهادية الداخلية في فلسطين، والتي تتمثل في الانتفاضة
مما ضاعف الأعباء الاقتصادية، وهو ما يجعل القيادة اليهودية واضعة يدها على
زناد الحرب.
4- صعود القوى اليمينية وسيطرة العناصر المهنية على المؤسسة العسكرية.
5- تكدس السلاح في إسرائيل إلى حد لا يصدقه عقل مما ولّد جواً مشحوناً
بالرغبة في إظهار العضلات.
6- تهيئة الأوضاع الدولية لصالح إسرائيل.
وعلى جانب آخر؛ فهناك متغيرات في عناصر التفوق العسكري الإسرائيلي
زادت من هذه الاحتمالية:
أ - جعل أساس خيار الاستراتيجية الخيار النووي.
ب - التطوير العنيف في السلاحين الكيماوي والجرثومي.
ج - وضع قواعد تسمح باستخدام سلاح الصواريخ بأقصى فاعلية.
د - إضافة مبدأ تطوير السلاح البحري والتحكم في المداخل البحرية.
هـ - إدخال مفهوم الحرب النفسية باعتباره عنصراً رئيساً من عناصر
الإعداد للقتال.
كما أن هناك محفزات عربية تزيد الأمر سخونة، منها:
1- قدرة الشعوب العربية في الحصول على السلاح المتقدم.
2- أن استخدام الصواريخ العربية في هجوم مفاجئ قد يحدث تفوقاً [2] وقتياً
لصالح العرب.
3- أن الكثرة التي تتميز بها الجيوش العربية لها اعتبارها في ميزان الحروب، فرغم أن العبرة بالكيف، ولكن الكمّ عند حد معين يتحول إلى كيف ويكون له
تأثيره، وهذا الأمر دافع للتفوق الإسرائيلي بالأساليب غير التقليدية.
كما أن هناك مسوغاً قوياً آخر لخيار الحرب: وهو السلوك الاستفزازي
العدواني الذي يتسم به السلوك اليهودي سواء على مستوى الشخصية اليهودية أو
على مستوى الدولة (سلوك الصابرا) وهذا الأمر يرجعه المحللون إلى ثلاثة مصادر:
1- الشخصية اليهودية التاريخية.
2- السلوك الأمريكي الذي عايشه اليهود وتأثروا بمنطقه وأثروا فيه.
3- النازية في ألمانيا: والتي نبتت فيها القيادات اليهودية التي صاغت
الصهيونية.
هذا السلوك العدواني له تأثيره البالغ على الاستراتيجية القتالية الإسرائيلية من
جهة تكديس الأسلحة من كل نوع: نووي، كيماوي، جرثومي، صاروخي،
بحري، نفسي، تقليدي.
4- تدهور القدرات القتالية للجندي الإسرائيلي، وخوف إسرائيل من امتلاك
العرب للسلاح النووي - مما يجعل أمر الحرب أكثر وروداً.
ولهذا؛ فإن إسرائيل تستعجل الحسم بعد امتلاكها للقنبلة التكتيكية التي تهدف
من وراء استخدامها إعادة تشكيل التوازن الإقليمي لصالحها.
بقي أن نذكر أن هذا الكلام قاله صاحبه عام 1989م في سلسلة مقالات تم
جمعها في كتابٍ، ورغم الطول النسبي للفترة إلا أن التحليل الاستراتيجي والتفريق
بين الثوابت والمتغيرات يضفي على الكلام جانباً كبيراً من الموضوعية كما نرى
إلى اليوم، وإن كان من عادة واضعي الخطط في إسرائيل وضع السيناريوهات
التي تناسب جميع الظروف المحتملة وتطوير آليات العمل واغتنام الفرص.
والواضح من المعطيات الحالية أن إسرائيل تتبع أسلوب محاولة تكبيل الجسد
العربي وشل حركته عضواً عضواً مع قرع الرأس بين فترة وأخرى وتضييق
الخناق حول الرقبة لضمان عدم المقاومة الذاتية أو تداعي الأعضاء بعضها لبعض.
__________
(*) سلسلة مقالات نشرت في صحيفة الوفد المصرية منذ فترة.
(1) كان المؤلف رحمه الله يتوقع حدوث الحرب حول عام 95 أو 97، والعسكريون عموماً يميلون إلى قرب الحرب.
(2) إسرائيل تسعى دائماً للتفوق الاستراتيجي الكمي والنوعي على مجموع القوى العربية.(140/44)
إصدارات
تتوالى الإصدارات الحديثة حاملة بين طياتها الجديد في عالم الدراسات
الإسلامية، والفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها. ورغبةً منّا في إطلاع
قراء البيان على ما يتيسر لنا من هذه المطبوعات الجديدة التي نرى فيها الفائدة
لقارئها ... سيكون لنا بإذن الله وقفات مع بعض تلك الإصدارات بين عدد وآخر،
والله الموفق.
- الإمام في معرفة الأحكام، تأليف: الإمام ابن دقيق العيد، تحقيق: د. سعد بن عبد الله آل حميد، الأجزاء 1 - 4، دار المحقق، 1420هـ.
مشروع العُمر لعالم فذّ: كتاب عظيم في ذكر أحاديث الأحكام والكلام عليها
سنداً ومتناً، في عشرين مجلداً.. يخرج الكتاب محققاً تحقيقاً علمياً متميزاً،
مضبوط النصّ، مُوثّقاً، معزوّ الأحاديث. نفع الله به، ويسر إخراج بقيته، لما
فيه من نفع.
- منهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم. عبد الرحمن البر - دار
اليقين، مصر، ط 1، 1420هـ.
وهو كتاب لطيف جامع في بابه. قسّمه المؤلف أربعة أبواب: الأول:
الصحابة وعدالتهم، والثاني: ضوء على مناهج وجهود المحدثين في العناية بالسنة، والثالث: مناهج وآداب الصحابة في تحمل الحديث، والرابع: مناهج وآداب
الصحابة في الأداء. وتحت كل باب عدد من الفصول والمباحث.
ويتميز الكتاب بحسن الترتيب والتبويب، جمع فيه المؤلف مادة علمية غزيرة
تستحق التقدير، ولكن يؤخذ عليه أنه قد يذكر أحياناً أحاديث وآثاراً ولا يذكر
درجتها من حيث القوة أو الضعف، وإن كان قد اشترط على نفسه في المقدمة أنه
يعتمد على المقبول من الحديث حسناً كان أو صحيحاً، دون الضعيف إلا في أحوال
استثنائية.
- تخريج أحاديث مجموعة فتاوى شيخ الإسلام، إعداد الأستاذ: مروان كجك، 1419هـ، دار ابن حزم.
لقيت فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية اهتمام العلماء والباحثين منذ جمعها الشيخ
عبد الرحمن قاسم رحمه الله وابنه محمد وقبله (الكردي) . وعلى جلالة قدرها إلا أنه
كان ينقصها التحقيق للأحاديث وهذا ما قام به المؤلف في 6 مجلدات. وتتميز هذه
الطبعة بالإحالة لطبعة الشيخ ابن القاسم وطبعة المؤلف، وقد ألحق المؤلف بها
تخريج أحاديث كتابي التسعينية والسبعينية لشيخ الإسلام. وبهذا التخريج تتكامل
الفائدة من هذا المجموع المبارك.
- في خيمة النص: قراءات في أدب المرحلة للأستاذ: علي التمني، ط1، 1419هـ.
دراسة أدبية ناقدة لأدب الحداثة وما بعد الحداثة تناول فيها المؤلف التجديد في
الأدب، وهل هو تجديد أم تغريب؟ ورفْض الأدب الإسلامي: هل هو رفض
للمصطلح أم للمنهج؟ ثم تناول بعض كتابات التبعية ممثلة في نماذج من القصة
والرواية والشعر عند نفر من رموز الحداثة مثل (أمل دنقل) و (محمود درويش)
و (صلاح عبد الصبور) .
ثم توقف في الأخير عند بعض المجلات الحداثية مقوماً لها مثل مجلة (النص
الجديد) و (إبداع) و (القاهرة) .
الدراسة موضوعية وهادفة في بابها.
- نواقض توحيد الأسماء والصفات، د. ناصر القفاري، دار طيبة، الرياض، 1419هـ، (87 صفحة) .
إفراد لمسألة مذكورة ضمن كتب العقائد يفصح عن أهميتها ومنزلة هذا التوحيد
من الاعتقاد. يبحث الكتاب في نواقض أهل هذا التوحيد، أو نواقض كماله الواجب
من التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، ثم الإلحاد. كما يفصح عن أثرها في
نقض قوام الأفراد والمجتمعات محاولة لتفسير إسلامي لأحداث التاريخ.
- موسوعة أهل السنة، دار المسلم، الرياض.
دراسة مطولة للباحث اللبناني عبد الرحمن دمشقية في مجلدين، كشف فيها
حقيقة (فرقة الأحباش ونقد أصولهم) ورد عليهم فيما يشيعونه من البدع والشركيات
والتأويل والطعن في الصحابة، وفنّدَ مزاعمهم على ضوء الكتاب والسنة وأقوال
العلماء، وهو رد على كل المبتدعة وليس على الأحباش وحدهم.
- مباحث المفاضلة في العقيدة، لمحمد بن عبد الرحمن أبو سيف الشظيفي، دار ابن عفان، الخبر، 1419هـ (مجلد، دكتوراه، الجامعة الإسلامية) .
الرسالة بحث طريف تضمن الحديث عن: فضل الخالق - تعالى - وتفاضل
أسمائه وصفاته، ثم تفاضل الأنبياء وفضلهم على بقية البشر، ثم فضل الصحابة،
وتفاضلهم، ثم التفاضل بين المؤمنين، وأخيراً مباحث متفرقة في العقيدة.
- التداخل بين الأحكام في الفقه الإسلامي، المؤلف: خالد بن سعد الخشلان، دار إشبيليا، الرياض، 1419هـ (مجلدان، 940 صفحة، رسالة ماجستير، 1411هـ) الجامعة.
لا يزال للدراسات التأصيلية ذات الجدة والحداثة احتىاج ملحّ، مع وجود قدر
لا بأس به منها، وهذا الكتاب منها. عالج فيه الباحث: معنى التداخل، وحكمة
مشروعيته، ومحله، وأسبابه وموانعه، وأقسامه، وأنواعه وصوره، والعلاقة بينه
وبين النية، ثم بقية الكتاب في بيان أثر التداخل في الفروع الفقهية في أبواب
العبادات والمعاملات والعقوبات، والرسالة من حيث الجملة رسالة متميزة تستحق
التقدير.
- قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية، لمؤلفه: مادون رشيد، نشر: دار طيبة، الرياض، 1419هـ.
طالما انتظرت مسائل النوازل - ومنها: الملاهي المتنوعة - البحث المؤصّل
لمسيس حاجتها إلى الضبط والتأصيل الشرعي مما يبقي ممارسيها في دائرة المباح،
فلا تحريم لحلال، كما لا تهاون في حرام أو شبهة.
والبحث دراسة تناولت إشكالية الفراغ ووظائف اللهو والترفيه، وأحكام
الملاهي الذهنية والنفسية والرياضية وملاهي السباق وفنون الحرب والملاهي
المكسبة للمال.. مقرونة بالدليل التفصيلي، مفصحة عن كلٍ من الفوائد والمضار.(140/52)
الإسلام لعصرنا
دعاة يستحقون المساعدة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
مَنِ الداعية؟
الذي يغلب على ظننا حين نتحدث عن الداعية أنه الإنسان العالم بدينه، ولا
سيما المتخرج في مؤسسات العلوم الشرعية. ولا جدال في أن الداعية العالم هو
الداعية الحق الذي لا غَناء للناس عنه؛ وذلك لأن هذا الدين دين قائم على علم ذي
مصدر إلهي، لا على آراء البشر وأفكارهم وتخرصاتهم؛ فلا يكون ما يدعو إليه
الداعية إسلاماً إلا إذا كان مستنداً إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. هذا، ولأن الناس يتوقعون من الداعية أن يُعلّمهم
العقيدة الصحيحة، وأن يفتيهم في الفروع الفقهية، وأن يدربهم على تقويم الأشياء
بقيم الإسلام، وأن يعظهم المواعظ المرققة للقلوب، وهكذا، وكل هذا لا يتأتى إلا
بالعلم، وإن كان لا يتأتى بالعلم وحده.
لكن من الخطأ الشائع الظن بأن دعوة الله - تعالى - لا يُبلّغها إلا هذا النوع
من الدعاة العلماء الذين نالوا حظاً من كل علم من العلوم الشرعية. وإنه لخطأ
عظيم أن تُحصَر الدعوة إلى الله تعالى في قلة من المختصين، وأن يعتقد غيرهم
من المسلمين أنه لا حق لهم في نيل شيء من هذا الشرف العظيم، وإن كانوا من
أحسن المثقفين. إن هذا التصور الغالط للدعاة كان من أسباب عدم انتشار العلم
انتشاراً واسعاً بين جماهير الناس، وكان أيضاً من أسباب عدم وصول دعوة
الإسلام إلى السواد الأعظم من غير المسلمين، وذلك لأن عدد العلماء المختصين لا
يمكن أن يَسَعُوا بدعوتهم خَلْق الله أجمعين.
لكن الحق أن الدعوة إلى الله شرف عظيم، قمين بكل مسلم أن يحرص على
نيل نصيبه منه، كيف لا؛ والله - تعالى - يقول: [مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ] [فصلت: 43] ، والرسول -
صلى الله عليه وسلم- يقول: (بلغوا عني ولو آية) [1] ؟ !
إن المهم في الداعية - عالماً مختصاً كان أو غير مختص - أن لا يدخل فيما
لا يعلم؛ بل عليه أن يبلغ الآية أو الحديث الذي يعلم، فإذا سئل عما لا يعلم لم
يتردد في أن يقول: لا أعلم، وأحال السائل إلى من يظن أنه يعلم.
إن المسلم بفهمه لمعنى كلمة التوحيد قد نال نصيباً من الخير الذي ذكره
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في
الدين) [2] . وهذا أمر ينبغي أن يكون بدهياً؛ لأن الذي لا خير فيه لا يدخل الجنة، فما دام كل مؤمن موعوداً بدخول الجنة فلا بد أن يكون في قلبه ولو ذرة من خير. ...
وإذا كان في قلبه خير ففيه فقه؛ لأن الأمرين متلازمان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه) [3] يعني من النار.
وإذا كان بعض الناس قد قصّر في هذا الأمر، وظن أن أمر الدعوة لا يعنيه
فإن آخرين كثراً قد بَلوا بلاء حسناً في الدعوة إلى الله رغم قلة بضاعتهم في العلوم
الشرعية. فمن هؤلاء أناس اهتموا بالرد على المذاهب المخالفة للإسلام من شيوعية
ومادية ورأسمالية. وهذه - بلا شك - ثغرة كانت تحتاج إلى من يقف عليها.
لكنني مهتم اليوم بنوع آخر من الدعاة عرفتهم بالولايات المتحدة، هم الذين
أدعو إلى الاهتمام بهم وعونهم. أعرف من هؤلاء رجلاً لم يهتد إلى الإسلام إلا قبل
سنتين أو ثلاث، وهو لا يعرف اللغة العربية، فبضاعته في العلوم الشرعية مزجاة، لكن إيمانه - فيما نحسب - أكثر من علمه بكثير. إن عينيه لا تكادان تجفان حين
يكون في مجلس علم؛ بل إن كلماته البسيطة المفعمة باليقين لتفيض لها أدمع
الحاضرين. هذا الرجل من أنجح من عرفت من الدعاة. إن المهتدين عن طريقه
هم بمعدل اثنين أو ثلاثة في كل أسبوع!
حدثني أحد إخواننا من الشباب السودانيين المتعاونين معه أنه يأخذهم ويسير
بهم في الطرقات، فكلما لقي شخصاً ظن أنه يمكن أن يهتدي سأله قائلاً: يا أخي
هل تريد الدخول في الإسلام؟ فبعضهم لا يجيب وبعضهم يقف ويستمع، وبعضهم
يقف ليجادل؛ لكنه يقول للمتعاونين معه: لا تضيعوا وقتكم مع هؤلاء المجادلين؛
فإن البلد مليء بالراغبين في الدخول في الإسلام. يتكلمون هكذا مع العشرات من
الناس فيستجيب لهم بالدخول فيه من أولئك الاثنان أو الثلاثة في كل أسبوع.
ماذا يفعل بالمستجيبين؟ إنه يوجههم إلى المساجد وحلقات العلم والجماعات
الإسلامية؛ لكي يزدادوا علماً؛ لكنه يرى أنهم بحاجة إلى عناية خاصة، ويود أن
لو كان له من الإمكانات المادية ما يعينه على استئجار أو شراء دار يتجمعون فيها،
وعلى طباعة نشرات صغيرة خاصة يوزعها عليهم، وهكذا....
فحبذا لو أن إخواننا المحسنين المهتمين بأمر الدعوة أفراداً كانوا أو جماعات
خيترية أو مؤسسات رسمية شملوا أمثال هؤلاء في مفهومهم للدعاة، وأعانوهم
إعانات فردية تمكنهم من التفرغ لمثل هذا العمل العظيم، وإعانات جماعية لإنشاء
الدور والمساجد الصغيرة، وإصدار النشرات وشراء الكتب. إن أمثال هؤلاء الدعاة
كثيراً ما يكونون أنجح من أمثالنا - نحن الغرباء - في هداية قومهم إلى الإسلام،
حتى لو كنا نتحدث لغتهم ونعلم أكثر منهم. إن مهمتنا كثيراً ما تأتي بعد مهمتهم،
أعني أن نتولى تعليم من سبق له أن اهتدى بهداية الله - تعالى -.
أرجو من إخواننا المهتمين بأمر الدعوة أن لا يغتروا بالأسماء اللامعة
والجماعات المشهورة، فيظنوا أنها هي وحدها الجديرة بالمساعدة؛ مع أن بعضها
لا يمكن أن يُعَدّ إلا من الفِرَقِ الضالة؛ بل وإن بعضها لمن الكافرة.
لكن بالولايات المتحدة الآن عشرات من الجماعات الصغيرة، ومئات من
الأفراد الذين اطمأنوا إلى منهج أهل السنة والجماعة. فهم راغبون في أن يزدادوا
به علماً، حريصون على دعوة إخوانهم إليه، فلنبادر بمساعدتهم والتعاون معهم
وشد أزرهم، راجين من الله - تعالى - حسن الثواب.
__________
(1) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وقال هذا حديث صحيح.
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) هذا جزء من حديث طويل، رواه مسلم في كتاب الإيمان.(140/54)
وقفات
سعة الأفق
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من نعمة الله - تعالى - على العبد أن يرزقه سعة في الأفق، وعمقاً في
النظر، فيتسع فكره، وينطلق في آفاق رحبة واسعة، ويؤتيه الله بصيرة نافذة
تجعله ينفذ إلى أعماق الحقائق وأبعادها، فيقدرها بقدرها، ويضعها في مواضعها.
ومما يعين الإنسان على سعة الأفق:
1- حرصه على طلب العلم والجدّ فيه، وأخذه من أهله الأثبات الراسخين،
والصبر على تتبع مسائله في مظانها المختلفة، وحرصه في بداية الطلب على أن
يأخذ من كل فن أصوله وقواعده لكي تتكامل معارفه وتتآلف علومه. والعلم هو
الركيزة الأساس التي تبني عقل الإنسان وتجعله يستقيم على الجادة؛ ألم ترَ أن
الجاهل يعيش في ظلمة فلا يبصر طريقه، فإذا عرض له عارض صار يتخبط
ويضطرب؟ بينما ترى صاحب العلم والفهم حاذقاً فطناً يفتح الله عليه من أبواب
العلوم ما يجعله قادراً على رؤية أبعاد واسعة لا يراها من هو دونه.
2- تنوع ثقافاته، وتعدد قراءاته في مختلف أنواع المعرفة العلمية؛
فالمتخصص في الدراسات الشرعية - مثلاً -، لا ينحصر في هذا التخصص؛ بل
تمتد عنايته واطلاعه إلى الدراسات الأدبية والفكرية والإنسانية الأخرى؛ فهو يتنقل
في حقول العلم والفكر، ويمتص رحيق الأزهار بألوانها وأشكالها المتنوعة، وهكذا
بقية المتخصصين في فروع أخرى من العلم.
3- كثرة محاورته ومجالسته لأهل العلم والرأي؛ فبالحوار العلمي الجاد تتسع
مدارك الإنسان، ويقف على أشياء قد لا تخطر بباله على الإطلاق. وقديماً قال
عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: (إني وجدتُ لقاء الرجال تلقيحاً لألبابهم) [1] . وقال الزهري: (العلم خزائن ومفاتيحها السؤال) [2] . وقال أيوب السختياني:
(إنّك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره) [3] .
ولهذا كان السلف يحثّون طالب العلم على الرحلة والسفر لملاقاة العلماء
واكتساب مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفي هذا يقول ابن خلدون: (على كثرة
الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها) [4] .
4- حرصه على التأمل والنظر والتفكر، وشحذ الذهن وتنشيطه في دراسة
المباحث والمسائل. والفكر الحي المعطاء هو الفكر المتقد الذي ينبض بحيوية
ونشاط، فلا يكسل ولا يعجز ولا تصيبه السآمة والملل. وكثرة التفكر تنمي المَلَكة، ف (كثرة المزاولات تعطي الملكات، فتبقى للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة) [5] . كما أنّ الفكر المنظم المدروس هو الذي يبني العقل ويجعله يستقيم على الطريق،
وأما العشوائية والارتجالية في التفكير فإنها تشتت الذهن وتفرّق الهم.
أما الإنسان الذي لا يفكر، أو يفكر بطريقة رتيبة أو عشوائية، فإنه
بالضرورة إنسان عاجز لا يقوى على إعطاء التصور الصحيح للمسائل، بل قد
يقوده تفكيره أحياناً إلى التخبط والاضطراب.
5- اطلاعه على التجارب والخبرات البشرية في القديم والحديث محاولاً قدر
الطاقة اختزانها في عقله لكي يستطيع توظيفها التوظيف الأمثل إذا دعت الحاجة إلى
ذلك. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
6- تحرره من التقليد الأعمى بكل صوره وأشكاله؛ فهو يستفيد من أشياخه
وأصحابه وغيرهم، ثم ينطلق بفكره الحرّ، يتلمّس مختلف السبل بعقلية ناضجة
مستقلة؛ وليس كل الناس يقوى على ذلك؛ فأصحاب الفكر هم المعادن الكريمة
النادرة، وهم القادرون على ريادة الأمة، وأما عامة الناس فهم همج رعاع أتباع كل
ناعق، وبين هؤلاء وأولئك فئام من الناس أخذوا من كل فريق بطرف.
__________
(1) المعرفة والتاريخ (1/619) .
(2) جامع بيان العلم، (534) .
(3) جامع بيان العلم، (613) .
(4) مقدمة ابن خلدون، (541) .
(5) مفتاح دار السعادة، (1/284) .(140/56)
نص شعري
الذبيح! !
محمد عبد الرحمن المقرن
في ظل الأحداث الدامية في كوسوفا تتوالى القصص والحكايات. وهذا مسلم
حُكِمَ عليه بالقتل ظلماً.. وقبل القتل بلحظات صرخ في وجهِ أعدائه بهذه الكلمات
لترسمَ لنا صورة العِزّ والإباء ... ولنسمعها أنشودة تنبض بالشموخ والكبرياء:
اذبحوني.. لعلني أستريحُ ... لا أرى في البقاء شيئاً يُريحُ
اذبحوني فمُنْيَتي الموتُ في دا ... رٍ بها جحفلُ البُغَاةِ يسيحُ
ليس من مات في علاه ذبيحاً ... إنّ من عاشَ بالهوان الذبيحُ! !
يشتكي في الجِرَاب سيفي ويبكي: ... ما ليمناك لم تعدْ بي تلوحُ؟ !
قلت: يا سيف ما ملكتُ يميني ... لا ولا مرجلاً بقلبي يفوحُ
ليس يثني عزيمتي وأنا حرٌ ... جيوشٌ وسط اللهيب تصيحُ
لم أُدِرْ للوراء رأساً وما بُح ... تُ لغير الإله فيما أبوحُ
ساقني الغدر.. لا.. بل استقت نفسي ... كبريائي يقودني والطموحُ
ما شجاني إلا دموعُ صغيري: ... يا أبي! إن رحلتَ أين تروحُ؟
وملاكُ الفؤاد أمّي إذا ما ... أثقلتها من الفراق الجروحُ
ودّعَتْني يوم الرحيل وقالت ... وهي من لفحة العذاب تنوحُ:
من سيرعى بُنيّ زهرَ الأماني ... في فؤادٍ توسّدَتْه القروحُ
آه يا أمّ! ذاك شوقي وهذا ... خافقي من أسى الفراق جريحُ
أُبصر الليل مثقلاً بهمومي ... وأرى الذكريات حولي تلوحُ
أنا لله أستقلّ الأماني ... عيبُ قصدي خلوصه والوضوحُ
يشتكي الدهرُ لثغة القوم ذلاً ... وإبائي ثغر الزمان الفصيحُ
ما طموحُ الفتى بمُجدٍ إذا لم ... يك فوقَ السماء ذاك الطّموحُ
اذبحوني لعلّ قومي يفيقو ... ن على صيحتى، فيصحو الصحيحُ
إن يكُ البعد جمرةً فحياةٌ ... في زمان الهوان نارٌ تفوحُ
قد قضى الله أمره فإذا عش ... تُ فأسرٌ وإن أَمُتْ فضريحُ
وسيبقى بعد الممات إبائي ... مثلما كان في الحياة يلوحُ(140/58)
نص شعري
بكت الجزيرة
عبد الله بن محمد العسكر
من أين أبتدئُ القصيدَ وأنظمُ؟ ... وسلام ربي يا فقيدُ عليكمُ
وبأيّ قافية أُنَهْنهُ عبرتي ... ومشاعر الحزن العميق تَضرّمُ
قالوا: (ابن باز قد توفي) ! ويحهم ... والحزن في قلبي يزيد ويعظمُ
قد ودّع الدنيا وحطّ رحالَهُ ... يا هول ما قالوا وما نطق الفمُ!
قد هالني ما قد سمعت وراعني ... في حضرة الرحمن حيث المنعمُ
لما رأيتُ النعش فوق أكفّهم ... أهي الحقيقة أم أنا متوهّمُ؟
وأجلتُ طرفي في الوجوه فلم أجدْ ... أحسستُ أن مذاق ريقي علقمُ
فعلمتُ أن الشيخ لهفي قد مضى ... إلا حزيناً باكياً يترحّمُ
ومضى ابن باز والعيون مليئةٌ ... فاسودّت الدنيا وقام الماًتَمُ
حُملَتْ جنازتُهُ بجمعٍ حاشدٍ ... بالدمع دفّاقاً فليس يُكتّمُ
إيهٍ أبي ودّعتنا وتركتنا ... يقفُ الزمانُ يُجلّهُ ويُعظّمُ
وحملتَ أمتعة الفراق مسافراً ... فالصبحُ بعدك كالحٌ مُتجهّمُ
ورحلتَ تبكيك الملايينُ التي ... ومضيت؛ فالدنيا ظلامٌ أدهمُ
هذي هي الدنيا وهذا دربُنا ... قد طالما أنِستْ بقربك منهمُ
يا ويحنا نلهو بدار زخارفٍ ... وقضاءُ ذي الملكوت حتمٌ مُلزِمُ
والموت يختطفُ العبادَ جميعَهم ... والموعدُ القبر البهيمُ المظلمُ
كم من عُتاةٍ قد بغوا وتجبّروا ... ذو المالِ يمضي للرّدى والمُعْدِمُ
وبنوا؛ وما علموا بأنّ بناءهم ... ملأوا الفسيحةَ بالفسادِ وأجرموا
(مات ابن بازٍ) إنها لعبارةٌ ... يفنى، ويبقى ذو الجلالِ الأعظمُ
لطفاً بنا اللهمّ إن مصابنا ... تفري كبود المؤمنين وتَحطِمُ
مات الذي للدينِ حصنٌ مانعٌ ... بالشيخِ جرحٌ في الحشايا مؤلمُ
الحلمُ شيمتهُ ولكن حينما ... فتياهُ في حلك البلاءِ البلسمُ
سمحٌ عطوفٌ ذو وقارٍ مؤمنٌ ... يُعصىَ الإلهُ فإنما هو ضيغمُ
بكت الجزيرةُ بعد فقدك يا أبي ... عَفّ تقيّ زاهد وغَطمْطَمُ
ورَثتك حلْقات المساجد حسرةً ... بطحاؤها ووهادها والأنجمُ
ونعاك أهل العلم؛ أنت إمامهم ... أنّتْ وأضحتْ بالنشيج تُغمغِمُ
وأرى الفقير ينوح حين تركتَه ... أنت الفقيهُ وفي الحديث مقدّمُ
والأرض كل الأرض قد فُجعتْ بمن ... وكذا الثكالى قد بكت واليُتّمُ
إن غاب صوتك في الحياة فإنما ... هو للهدى والمكرمات المَعْلَمُ(140/60)
المسلمون والعالم
كوسوفا الوجه الأخر
د. سامي محمد صالح الدلال
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على إمام المرسلين محمد
قائد المجاهدين وسيد العابدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قالوا: إن المسلمين في كوسوفا قد وقع عليهم ظلم شديد واضطهاد عظيم من
قِبَلِ الصرب النصارى بقيادة (سلوبودان ميلوسوفيتش) ، فأعمل فيهم القتل الرهيب
رجالاً ونساء وأطفالاً، ولم يستثن العُجّز والمسنين، وحفر القبور الجماعية، وشرد
الأهالي من بيوتهم ثم أحرقها أو أحرقها وهم فيها، وعاث في الأرض فساداً؛ وما
تفرق من عجائب الإجرام عبر القرون قد تجمع فيه وفي أتباعه وأشياعه من
الصرب العتاة المجرمين محترفي القتل وسفاكي الدماء؛ وذلك لتحقيق حلمه بإقامة
امبراطورية صربيا الكبرى.
قلنا: ما ذكرتموه كله صحيح، وأكثر منه قد حصل.
قالوا: إن النصارى في أنحاء أوروبا وأمريكا قد هالهم ما حدث، وأغاظهم ما
فعله الصرب في سكان كوسوفا المسلمين المسالمين، فتحركت في نفوسهم دوافع
الإنسانية واضطربت في قلوبهم كوامن الحقوق البشرية، فأعلنوا الحرب الصراح
على الصرب اليوغسلاف لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
قلنا: ههنا محطتنا لمناقشة هذا الادعاء كي نميط اللثام عن الحقائق ونكشف
الغطاء عما يضطرم تحت هذا الكلام من الحرائق ولعلنا نجلو بعض ما قد غمض
ضمن ثلاثة وجوه:
الوجه الأول:
1 - إن أي قضية تحدث يكون طرفاها المسلمين من جهة، والنصارى
واليهود؛ أحدهما أو كلاهما، من جهة ثانية؛ هذه القضية وأمثالها ينبغي أن يُنظر
إليها، في إطار قوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] ، فالمسلمون لهم وجهة، وأهل الكتاب لهم وجهة،
والوجهتان مختلفتان غير متحدتين، قال - تعالى -: [وَلِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا]
[البقرة: 148] ، وليس أحدهما على استعداد لاتباع قبلة الآخر، قال - تعالى -:
[وَلَئِنْ أََتَيْتَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أََنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ]
[البقرة: 145] ، وإنهم ليودون أن ينخلع المسلمون عن دينهم فيعودوا كفاراً، قال
- تعالى -: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ
عِندِ أَنفُسِهِم] [البقرة: 109] . ليس هذا فحسب؛ بل إن اليهود والنصارى هم
أيضاً في مفترق طرق، لا يثق أحدهما بالآخر ولا يحبه ولا يريد له الخير، فهما
على شتات من الأمر، قال - تعالى -: [وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى
شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ] [البقرة: 113] ، وفي هذه الآية
بيان من الله - تعالى - لتناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم كما ذكر ذلك ابن
كثير في تفسيره 1/155؛ ولهذا السبب فإنهم تنافروا القبلة، كما قال تعالى: [وَمَا
بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ] [البقرة: 145] ، إلا أنهم إزاء المسلمين يقفون صفاً
واحداً وجبهة متراصة، قال - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [المائدة: 51] ، وقد بيّن الله - تعالى - أن اليهود لا يأمنون إلا
بحبل من الله وحبل من الناس. والناس اليوم هم النصارى الذين يقفون معهم
ويمدونهم بالمال والسلاح، قال - تعالى -: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ
بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ]
[آل عمران: 112] ، وهم لا يبرحون الادعاء أمام المسلمين أن الجنة إنما هي لهم
وحدهم لا يشركهم المسلمون فيها أبداً.
قال - تعالى -: [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ] [البقرة: 111] ، بل الأكثر من ذلك أن اليهود احتجزوا الجنة لأنفسهم
فقط دون غيرهم من كل الملل، قال - تعالى -: [قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ
عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ] [البقرة: 94] .
2 - فإذا أخذنا كل ما ذكرناه بعين الاعتبار، وانطلقنا في فهم واقعنا من
المنظار القرآني والبيان الرباني وعقدنا العزم على أن نسير في تحليلاتنا كلها وفق
ما أعلمنا الله إياه من السنن الإلهية الثابتة والراسخة كما قال - تعالى -: [
اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ
سُنَّتََ الأَوَّلِينَ فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] .
فإننا ومن خلال ذلك كله يتوضح لنا ما يلي:
- أن لليهود في الوقت الراهن مركز الثقل في القرارات السياسية الدولية
وخاصة أوروبا وأمريكا، وروسيا كذلك.
- أن مجلس الأمن القومي الأمريكي هو خليط من اليهود والنصارى، لكن
بأكثرية يهودية.
وهذا يعني أن الموقف الدولي المعلن بشأن مسلمي كوسوفا يقرره اليهود ثم
النصارى، ولكل منهما مصلحة في ذلك.
- فأما مصلحة اليهود فتكمن في إذكاء روح العداء والتباغض والتدابر بين
النصارى أنفسهم؛ حيث إن الصرب أرثوذوكس والآخرين بروتستانت وكاثوليك؛
فإيقاع الحرب بينهم يفرح اليهود؛ لأن في ذلك تشتيتاً لقوة النصارى وبعثرة
لاجتماعهم على يد واحدة.
- وأما النصارى فربما لم يفطنوا بعدُ إلى هذه الحقيقة، فاجتمعت مصلحتهم
ومصلحة اليهود على أهمية تصفية الكيانات الإسلامية في أوروبا، أو - على الأقل- احتوائها.
3 - ومن هذا المنطلق فإننا نرى أن الحرب الحالية في البلقان تهدف إلى ما
يلي:
- بعد أن تم تحجيم المسلمين واحتواؤهم في البوسنة والهرسك من خلال اتفاقية
دايتون بشقيها السياسي والعسكري؛ فقد جاء دور المسلمين في كوسوفا لإدخالهم في
النفق نفسه الذي أدخل فيه مسلمو البوسنة والهرسك.
- وتأتي هذه الأحداث في السياق العام الذي تتحرك من خلاله أوروبا الموحدة
وأمريكا في إيجاد أوروبا (نقية) من المسلمين ومن الجيوب التي لا تنضوي تحت
مظلة الحلف الأطلسي (الناتو) ولعل ما يحدث الآن هو مرحلة من مراحل الوصول
إلى (النقاء) المزعوم.
- وبناء على ذلك فإن قوات الناتو ستقوم باحتلال إقليم كوسوفا بالقوة المسلحة، سواء كان ذلك من خلال الحرب البرية أو من خلال خضوع ميلوسوفيتش
للشروط الأطلسية تحت وطأة القصف الجوي المستمر الذي يحدث الآن؛ علماً أن
هذا القصف لا يقصد به تدمير القوات اليوغسلافية تدميراً شمولياً؛ بل إضعاف تلك
القوة مع إبقاء نواتها الحربية على قدرٍ مّا من الفاعلية؛ لأن ذلك سيعطي القوات
الأطلسية المسوّغ اللازم للبقاء طويلاً جداً في كوسوفا بحجة حمايتها من التهديد
اليوغسلافي، فلهذا لا بد من إبقاء يوغسلافيا على شيءٍ مّا من القوة الحربية لتحقيق
هذه الغاية، لكنها - أي يوغسلافيا - ستكون مُحتواة تماماً من خلال ما سيُفرض
عليها من شروط لإيقاف القصف الجوي الأطلسي، وستتضمن تلك الشروط:
(الانسحاب اليوغسلافي تماماً من إقليم كوسوفا، أو من بعضه في حال الاتفاق على
تقسيمه، وعودة ما تبقى من اللاجئين من ألبان كوسوفا أو بعض منهم إلى ديارهم،
وإحلال قوات دولية تحت مظلة الأمم المتحدة في إقليم كوسوفا، وإبقاء كوسوفا في
إطار الحكم الذاتي وعدم فصلها نهائياً عن يوغسلافيا) سيبقى هذا البند من الاتفاقات
القادمة محل نظر؛ لأن احتمال فصل كوسوفا عن يوغسلافيا هو احتمال وارد
ضمن شروط دولية معينة من أهمها أن لا تنشأ دولة إسلامية في كوسوفا؛ بل دولة
ذات دينين وعرقين، نصارى ومسلمين، وصرب وألبان (على غرار البوسنة
والهرسك) ؛ إذ إن ذلك يضمن بقاء القوات الدولية في ذلك الإقليم إلى زمن غير
مسمى بحجة تفادي وقوع حرب أهلية في الإقليم بين المسلمين والنصارى) .
- إن حلف الأطلسي في إطار مخططه يرمي إلى إطالة زمن الحرب إلى
أطول وقت ممكن وذلك بهدف إمكانية تطويرها لتشمل كافة دول البلقان؛ بل
وبعض دول حلف وارسو سابقاً، وذلك ليحقق عدة أهداف منها:
- فيما يخص ألبانيا؛ فإن دخولها في الحرب - وقد دخلت الآن - معناه
الاستعانة الدائمة بقوات حلف شمال الأطلسي، ليس في وقت الحرب فقط بل
مستقبلاً كذلك، أي بعد أن تضع الحرب أوزارها؛ حيث إنها ستبقى أبداً مهددة من
قِبَلِ يوغسلافيا التي ستحتفظ بشيءٍ مّا من القوة الحربية. وعلى هذا الأساس فإن
ألبانيا التي يشكل المسلمون فيها أكثر من 90% ستبقى حبيسة الوجود العسكري
الأطلسي فيها مما سيفقدها حرية القرار السياسي، إضافة إلى أن المسلمين الألبان
سيشعرون باستمرار بحاجتهم لتلك الحماية مما يعني إزالة الحواجز النفسية
الإسلامية إزاء النصارى مما سيساعد على إتمام الذوبان الإسلامي في المحيط
الأوروبي النصراني. إضافة إلى ذلك فإن بقاء القوات الأطلسية في ألبانيا لحمايتها
من يوغسلافيا يجعل هذا البلد رهينة في يد الحلف الأطلسي للمساومة عليه في إطار
أية مواجهة إسلامية نصرانية كبرى تحدث في المستقبل إذا ما امتدت على مساحة
عالمية.
ب - لقد طلب حلف الأطلسي تسهيلات لمرور قواته وطائراته من بعض دول
حلف وارسو السابق كرومانيا وبلغاريا وهنغاريا وبولندا، وقد حصل الحلف على
موافقة هذه الدول مما يمهد لها الانضمام لهذا الحلف لاحقاً، (ولقد انضم بعضها
بالفعل مثل هنغاريا وبولندا والتشيك) والذي بدوره سيساعد على لف الحزام
الأطلسي حول روسيا من جهة الغرب؛ وبذلك يتم عزل روسيا نسبياً من الناحية
اللوجستية عسكرياً.
إن يوغسلافيا الحالية تعتبر آخر المعاقل المناصرة لروسيا في أوروبا، ولذلك
فإن تقليم أظافرها عسكرياً وإضعافها سياسياً يوجه ضربة في مقتل إلى هذا الحصن
الروسي الأخير في أوروبا، ويدق آخر مسمار في نعشه. إن يوغسلافيا ليست دولة
ضعيفة، وإن تحقيق إضعافها ليس أمراً هيناً؛ ولذلك فإن إطالة زمن الحرب يحقق
التوصل إلى الغاية المرجوة التي ذكرناها، إضافة إلى أنه يُحدث أثراً بالغاً في
الشعب اليوغسلافي يشعره دوماً بالهزيمة النفسية ويعيّشه ذلها؛ إذ كلما طال أمد
الحرب تعمق تحقيق هذا الهدف أكثر فأكثر، كما أن إطالة زمن الحرب يحقق
شروطاً تفاوضية أقوى بالنسبة لحلف الأطلسي التي قد تتضمن فرض حظر جوي
ضمن خطوط عرض معينة على غرار ما فعل بالعراق، إضافة إلى قيود اقتصادية
وعسكرية وربما سياسية كذلك.
4 - لا يخفى أن الحروب الكبيرة لا تقتصر أسباب اندلاعها على مجرد
حصول أمور صغيرة، بل هي تهدف عادة إلى الانتقال من تلك الأمور الضئيلة إلى
مسرح المكاسب الكبيرة؛ وفي هذا الإطار فإن انتصار حلف الأطلسي في هذه
الحرب سيعني نقلة جديدة في مفهوم النظام العالمي الجديد. إن مفاد هذه النقلة هو
إرسال رسالة شمولية إلى جميع دول العالم بما فيها الصين وروسيا وكوريا الشمالية
وإيران بأن حلف الأطلسي سيفرض الهيمنة الغربية على العالم بالقوة، وأنه مستعد
لأجل ذلك للدخول في حروب ومعارك، وأن على الجميع أن يعي هذه الحقيقة،
وإلا فإن مصيره المحاصرة والإضعاف أو شن حرب عليه ليتعلم الدرس جيداً،
خاصة أن جميع العالم قد لاحظ أن النظام العالمي الجديد قد مر بحربين: الأولى:
الخليج، والثانية: كوسوفا الحالية؛ وليس ذلك فحسب، بل إن الرسالة التي يريد
حلف الأطلسي إفهامها لكل دول العالم هي أن عليها جميعاً أن لا تتخذ أي قرار مهما
كان نوعه لا يأخذ مصلحة الغرب بالحسبان. إنه يريد أن يجعل العالم جميعاً يعيش
تحت هاجس الخوف والرهبة.
الوجه الثاني:
يحسب كثير من الناس أن حرب كوسوفا الحالية قد تولدت مصادفة وأنها
ليست وليدة إعداد مسبق؛ حيث إن مسار الأحداث قد ساق إليها، والأمر لا يعدو
أكثر من ذلك. هذا بحسب رأيهم أو ظنهم، إلا أن الواقع خلاف ذلك؛ حيث إن هذا
النوع من الأحداث الكبرى غالباً ما يكون مندرجاً في مضامين المخططين
الاستراتيجيين؛ حيث إنهم يرسمون على الورق مخططاتهم المستقبلية ثم يخضعونها
للمناقشات المستفيضة، ويضعون لها الاحتمالات العديدة، ويتخيلون لها
السيناريوهات المختلفة، كي لا يؤخذوا على حين غرة أو يؤتوا من حيث لا
يحتسبون، ثم إنهم بعد ذلك كله يقومون بإجراء التدريبات اللازمة ليتأكدوا من
سلامة الخطط الموضوعة والإمكانيات الفعلية المتوفرة لتنفيذها، ولمعرفة مواقع
الثغرات فيها لتلافيها، أو لوضع الخطط البديلة، وكذلك يدرسون مختلف ردود
الفعل المحلية والإقليمية والدولية على كافة المستويات السياسية والعسكرية إضافة
إلى التأثيرات الاجتماعية والبيئية المحتملة.
وإذا كان مهندسو مشروع إقامة مجمع سكني يأخذون بعين الاعتبار كل
العوامل المؤثرة على مشروعهم، فمن باب أوْلى بطبيعة الحال أن يأخذ مهندسو
الحرب والقتل والموت والدمار كل ما ذكرته بعين الاعتبار، وهذه تعتبر من أبسط
الحقائق التي تستنتج منها الحقيقة الواضحة كالشمس في رابعة النهار أن حرب
كوسوفا هي حرب قد أُعد لها جيداً وخُطط لها بإحكام، ومما يؤكد هذه الحقيقة
الساطعة ما أعلن عنه بعض رجال الاستخبارات الروسية من أن حلف الأطلسي قد
أعد منذ سنوات خطة لغزو البلقان وأن موسكو كانت على علم بتفاصيلها، وأن
قوات الناتو قد أجرت مناورات في جنوب أوروبا عام 1990م تحت رمز
Display determination ديسبلاي ديتيرمينيشن، هدفها التدريب على خطة
الغزو انطلاقاً من إيطاليا (لكنها عُدّلتْ قليلاً في ضوء الأحداث الحالية) ، واعتمدت
المناورات على افتراض حدوث (كارثة إنسانية) يتعين بموجبها تقديم المساعدة إلى
ضحاياها (وقد حصلت هذه الكارثة بالفعل في إقليم كوسوفا المسلم) ، وعلى هذا
الأساس فإن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية في يوغسلافيا بين عامي 1993
م، 1997م فلاديمير زايتسيف قد أكد أن حلف الأطلسي يستعد لعملية برية واسعة
النطاق. ويشير زايتسيف إلى أن الاستخبارات الروسية قد حصلت في يناير عام
1994م على وثيقة تميط اللثام عن خطط الناتو في يوغسلافيا ويقول: (وضعت
الولايات المتحدة سيناريو لاستغلال الصراع العرقي داخل يوغسلافيا، وهيأت
الظروف لنقل القوات الأمريكية من ألمانيا إلى البلقان) ، ويقول: (إن أحداث
كرواتيا والبوسنة جاءت متطابقة مع هذا السيناريو؛ إذ دخلت فرقة مدرعة أمريكية
البوسنة وفق اتفاقية دايتون لستة أشهر فقط، لكن مرت ثلاث سنوات من دون أن
تغادر القوات الأمريكية تلك المنطقة، بل أنشئت قاعدة جوية في توزلا ووقعت
اتفاقية مع سراييفو تنص على مرابطة القوات الأمريكية لمدة 25 عاماً) .
وحسب ما ذكره زايتسيف فإن كوسوفا موقع مثالي لإقامة القواعد العسكرية من
الناحية الطبيعية؛ لأن الإقليم عبارة عن سهل، وسينتج من ذلك أن الولايات
المتحدة لا تريد كثافة سكانية في هذا الإقليم، وأن من مصلحة واشنطن ترحيل
الألبان من كوسوفا على أيدي الصرب؛ لأن قوات ميلوسوفيتش والسكان الصرب
سيتركون كوسوفا عاجلاً أم آجلاً فيصبح الإقليم بأسره قاعدة عسكرية. وبنجاح
المخطط فإن القوات الأمريكية المرابطة في البلقان ستتمكن من إخضاع خط
الإمدادات في البحر الأسود ومنطقة بحر قزوين الغنية بالنفط وفي آسيا الوسطى
لرقابتها. ثم يرسم زايتسيف خريطة للوضع في المنطقة بعد انتهاء عمليات الناتو
فيشير إلى أن الصرب سيتركون كوسوفا، وستعمل واشنطن على إسقاط نظام
ميلوسوفيتش توطئة لتنصيب نظام موال للغرب، ثم يعقب ذلك سيطرة الناتو الكاملة
على جنوب شرقي أوروبا وتجريد روسيا من مواقعها التاريخية في يوغسلافيا
والبلدان المجاورة، ويتوقع زايتسيف أن يؤدي نجاح عمليات الناتو في البلقان إلى
تسريع عجلة تفكيك معاهدة الأمن الجماعي بين روسيا ودول الاتحاد السوفييتي
السابق، فهذه الدول ستعجب بدور الأطلسي الفعال، وستطالب بإزاحة القوات
الروسية من أراضيها لتحل محلها قوات الناتو، ولذلك فإنه من تداعيات حرب
البلقان اندلاع الحركات الانفصالية في روسيا، خصوصاً في شمال القوقاز وحوض
الفولغا والمناطق الشمالية والشرق الأقصى (انظر صحيفة الرأي العام، عدد
11621 بتاريخ 16/4/1999م) .
ومن هذا يتبين لنا أن موضوع كوسوفا كان مدبّراً مسبقاً، ومما يدل على ذلك
أن ميلوسوفيتش كان قد هدد قبل بدء حرب كوسوفا بأنه سيقوم بتهجير سكان
كوسوفا بمجرد أن يبدأ الناتو حربه ضد يوغسلافيا، وكان الغرب يعلم أن ذلك
سيحدث فعلاً، ولو كان سكان كوسوفا نصارى لكان هناك كلام آخر؛ وهذا معلوم
لكل ذي لب. وفي ظل تلك المخططات دخل ألبان كوسوفا في نفق التهجير والقتل
والتصفية، وبعد أن وقعت الكارثة الإنسانية المروعة خرج علينا وزير خارجية
ألمانيا ليقول: كيف سنسمح باحتفالات عيد الفصح والمسلمون يقتلون في كوسوفا؟ ! وهكذا انطبق على ما يجري قول من قال: يقتل القتيل ثم يمشي في جنازته! !
الوجه الثالث:
إن روسيا قد وقعت في موقف حرج للغاية إزاء تسلط حلف الأطلسي على
حليفتها يوغسلافيا، وأصبح موقفها متأرجحاً بطريقة لا تحسد عليها؛ فهي تريد أن
تقف عسكرياً مع يوغسلافيا إلا أن تداعي اقتصادها يحول بينها وبين ذلك؛ إذ إنها
لا تملك أن تدفع رواتب جيشها منذ شهور عدة، وإن الروح المعنوية لقواتها
المسلحة في الحضيض، غير أن الشيوعيين في مجلس الدوما الذي يسيطرون عليه
يضغطون بشدة على القيادة السياسية لتتخذ موقفاً أكثر تصلباً من الهجوم الأطلسي
على يوغسلافيا، إلا أن القيادة السياسية لا تملك أية أوراق ضغط يمكن أن تضعها
على الطاولة، ولذلك فإنها أسيرة هذا الضعف الشديد، بل حتى لو أرادت أن
تستعمل حق الفيتو في مجلس الأمن في أية قضية تخص كوسوفا فإن الغرب يملك
أدوات الضغط الاقتصادية وخاصة عن طريق البنك الدولي ليعرقل هذا الاستخدام
للفيتو. ولكن إلى متى تستطيع القيادة الروسية السياسية الصمود إزاء الضغط
الشيوعي في الدوما؟ هذا السؤال يحاول يلتسين أن يجيب عنه من طريقين:
الأول: اتخاذ مواقف متصلبة ضد الغرب ثم التراجع عنها، فيرضي الطرفين، حيناً هذا وحيناً ذاك.
الثاني: قد يسمح الغرب ليلتسين باستعمال الفيتو ليدعم موقفه في الدوما،
وذلك مقابل مقايضات سرية يدفع ثمنها الكرملين حالياً أو مستقبلاً.
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل من الممكن أن تنقلب المعادلة التي
يحاول الكرملين إبقاء توازنها؟
الجواب: نعم، وذلك إذا قام الجيش بانقلاب عسكري، وفي هذه الحالة فإن
بوابة الاحتمالات ستنفتح على مصراعيها، وسيزداد الوضع الاقتصادي سوءاً ما لم
يدعمه الغرب، لكن المصيبة الكبرى تحدث حين يقرر الجيش الدخول في المغامرة
الخطيرة إلى نهايتها ويقلب الطاولة رأساً على عقب ويقرر مساندة يوغسلافيا
عسكرياً.
وبما أن ذلك لن يكون له أي تأثير إلا إذا قامر بالتلويح بالأسلحة النووية، فإن
هذا التوجه سيحدو بالغرب إلى أن يقابل الحديد بالحديد، أي هو أيضاً سيلوّح
بالأسلحة النووية، فعندها سيكون العالم على حافة كارثة مدمرة. ولا شك أن
العقلاء من كافة الأطراف سيصارعون جماح هذا التوجه بكل وسيلة متاحة، ولكن
يهودياً مجنوناً واحداً يعتلي كرسي الكرملين، قد يُدخل العالم في الأتون النووي،
وما يدرينا: هل سيكون الحصار البترولي على يوغسلافيا هو بوابة الصدام
الروسي الأطلسي المدمر؟
نسأل الله - تعالى - أن يجنب العالم هذه المحن، وينصر الإسلام والمسلمين
في كل مكان.
والحمد لله رب العالمين.(140/62)
أحداث كشمير
مناوشات أم تقرير مصير؟
كمال حبيب
بينما كانت الجهود العالمية بقيادة حلف الأطلسي تسعى لإغلاق ملف الحرب
الدائرة في البلقان منذ شهرين بسبب أزمة كوسوفا المسلمة إذا بالعالم يستيقظ على
أحداث مواجهة عسكرية أقرب إلى الحرب في آسيا تتعلق بمشكلة (كشمير) . وفي
حين كانت مواجهة البلقان بسبب الإجرام الصربي ضد المسلمين في كوسوفا، وعدم
منحهم حقهم في الاستقلال أو الحكم الذاتي الموسع كوحدة فيدرالية كاملة ضمن
الاتحاد اليوغسلافي، فإن المواجهة في كشمير المسلمة هي بسبب إصرار الهند على
استمرار احتلالها للجزء الجنوبي من كشمير منذ أكثر من خمسين عاماً غداة أحداث
التقسيم المرعبة في شبه القارة الهندية عام 1947م؛ إذ أعلنت باكستان استقلالها في
14/8/1947 لتكون دولة إسلامية توفر وعاءً سيادياً للمسلمين يحميهم من أن
يكونوا أقلية ضمن المحيط الهندوسي الإجرامي الذي سيفرض عليهم الموت والتدمير. لكن كشمير المحتلة ظلت شاهداً على صحة توقعات المسلمين عند إقامة دولتهم
المستقلة في الباكستان، فلا يزال مسلمو كشمير يواجهون حملة عنيفة لتدمير حقوقهم
الإنسانية؛ فالتقديرات تشير إلى أن ضحايا المسلمين في كشمير المحتلة يزيدون
على السبعين ألفا من القتلى ومثلهم أو يزيدون من الجرحى؛ فكشمير هو (كوسوفا)
آسيا وهي (فلسطين) القارة الهندية؛ إنها قصة المحتل الغاشم المجرم نفسها،
ومطالب الشعب وتضحياته ذاتها من أجل الحرية والاستقلال. ومن المثير للدهشة
أن تكون مناطق الصراع الأساسية للشعوب بحثاً عن حريتها من المحتلين هي حيث
يوجد المسلمون!
إننا بإزاء تطبيق عملي لما أطلق عليه (هنتنجتون) صدام الحضارات، وفي
صدام الحضارات حيث تتواجه شعوب تحمل عقائد وثقافات وأعراق مختلفة فإن
الصدام يكون كما يطلق عليه علماء العلاقات الدولية (صداماً صفرياً) أي أن نجاح
أي طرف يكون خسارة للطرف الآخر، ولذا فإن هذا الصدام يطلق عليه أيضاً
(الصراع الاجتماعي الممتد) حيث لا يكون هناك حلول وسط في إنهاء الصراع،
ومن ثم فإن المواجهة تأخذ طابع العنف والعسكرة المسلحة، ويبقى الصراع مرشحاً
للاستمرار بين الطرفين حتى يستطيع أحدهما أن ينجز نصراً حاسماً على الطرف
الآخر إما بالقوة أو بتقييد إدراكه ومنظوره لطبيعة الصراع، كما حدث بالنسبة
للصراع في فلسطين بين العرب واليهود.
وتبدو كشمير المحتلة الآن موضعاً للمواجهة بين القوات الهندية وبين
المجاهدين المسلمين في كشمير وهو ما يفرض تدخل باكستان وإحداث تداعيات قد
تفجر جنوب آسيا خاصة وأن طرفي الصراع الأساسيين يمتلكان قدرات نووية،
ومن ثم فإن أي حرب قادمة بينهما ستؤدي إلى تفجير الوضع في آسيا، ومن ثم فإن
قضية كشمير التي تعد أقدم قضايا الصراع على أجندة الأمم المتحدة بحاجة إلى
الالتفات العالمي إليها، وتطبيق القرارات الدولية للأمم المتحدة التي صدرت في 13
/8/1948م و 15/1/1949م وتنص على إعطاء الشعب الكشميري الحق في تقرير
مصيره عن طريق استفتاء عام حر ونزيه يتم إجراؤه تحت إشراف الأمم المتحدة؛
وهو ما لم يحدث حتى الآن بسبب تغيير الهند لتعهداتها بشأن كشمير واعتبارها
جزءاً لا يتجزأ من الهند، وسعيها بالقوة لفرض الاحتلال على الشعب الكشميري
الذي يرفض الوجود الهندي ويسعى بكل قوة لكي يقرر مصيره؛ بحيث يحصل
على الاستقلال عن الهند وباكستان أو ينضم إلى باكستان.
وتأتي المواجهة الأخيرة التي قادها المجاهدون المسلمون في كشمير باختراق
خط الهدنة بين (كشمير الحرة) و (كشمير المحتلة) وتثبيت قواعد جهادية تعمل داخل
كشمير المحتلة ثم الصمود لأكثر من شهر في مواجهة القوات الهندية لتؤكد الإرادة
الجهادية بقاء قضية كشمير حية، وإن الطريق إلى حلها سيكون بالجهاد والقتال.
وبدأ المجاهدون اختراق أراضي كشمير المحتلة منذ 23/1/1420هـ - 9 /5/
1999م، ولا يزالون يقاومون رغم عرض الهند عليهم أن توفر لهم ممراً آمناً
للعودة إلى كشمير الحرة بسلام. لكن (فضل الرحمن خليل) زعيم حركة المجاهدين
الإسلامية رفض العرض الذي قدمه رئيس الوزراء الهندي (أتال بيهاري باجباي)
وقال: (نحن الذين سنمنحهم خروجاً آمناً ... أعد بعدم مهاجمتهم إذا اختاروا
الانسحاب) وتساءل: كيف يمكن للهنود أن يتحدثوا عن خروج آمن؟ إنهم قوات
احتلال وكشمير وطننا فمن الذي يجب أن يرحل؟
تفجر الأحداث:
خط الهدنة بين كشمير المحتلة، وكشمير الحرة يبلغ طوله 720 كم، وهذا
الخط شهد ثلاثة حروب بين الهند وباكستان اثنتان منهما بسبب كشمير: الأولى في
1947/1948م، والثانية في عام 1965م. ويذكر معهد (كارينجي) للسلام أن
المسوغات لاشتعال حرب ثالثة في المستقبل بين البلدين بسبب كشمير لا تزال قائمة؛ حيث ستكون هذه الحرب بالأسلحة النووية؛ إذ يمتلك البلدان الآن الأسلحة النووية
والصواريخ القادرة على حملها إلى عقر دار أي منهما. ويمكن القول إن خط الهدنة
يشهد مواجهات محدودة توصف عادة بأنها أقل من الحرب وأكبر من المعركة؛
لكنها مواجهات محكومة بحيث لا تتحول إلى حرب شاملة، وبالتأكيد فإن الأحداث
التي بدأت في التاسع من شهر مايو الماضي ولا تزال قائمة حتى كتابة هذه السطور
لن تتطور إلى حرب شاملة ولكنها مختلفة عما سبقها من أحداث في جوانب عدة
نذكر منها:
1- أنها المواجهة الأكبر منذ عام 1971م - وهي آخر الحروب بين البلدين- وهي مواجهة امتدت لمدة أكثر مما كان يتوقع، وهذا الامتداد يعكس قدرة
المجاهدين الذين أقاموا لأنفسهم قواعد عسكرية محررة في الجانب المحتل من
كشمير، وأن المجاهدين يمكنهم ممارسة حرب عصابات تفرض على الهند فاتورة
اقتصادية عالية لاستمرار بقائها في كشمير. وهنا يأتي استلهام النموذج الأفغاني في
مواجهة الاتحاد السوفييتي سابقاً وهو نموذج إسلامي جهاده في قلب آسيا، ويأتي
أيضاً باعتباره وضعاً مشابهاً للنموذج الفييتنامي ضد أمريكا. ويبدو لي أن المواجهة
الجارية الآن ستكون بداية تحول كيفي في أعمال المجاهدين العسكرية ضد الاحتلال
الهندي في كشمير.
2- تدخل الهند بقواتها الجوية التي تمثل طائرات الميج عمدتها الرئيسة.
وتشير الأنباء إلى اشتراك طائرات سوخوي 30 وهي الأحدث من هذه الطائرات
الروسية وهو ما يعني عجز القوات الهندية عن زحزحة المجاهدين عن مواقعهم،
وهذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها القوات الجوية الهندية ضد أعمال المجاهدين
في كشمير المحتلة منذ انتفاضة 1990م، واستطاع المجاهدون إسقاط طائرة
هليوكوبتر من طراز (مس - 17) وإسقاط مقاتلة من طراز (ميراج 2000) كما
استطاعوا أسر 50 جندياً وضابطاً هندياً، وفي إطار توسيع نطاق الحرب أغارت
الطائرات على كشمير الحرة فسقطت طائرتان إحداهما ميج 21 والأخرى ميج 29
بالصواريخ (أنزا) وهي صواريخ باكستانية جديدة يصل مداها 4 كم أكدت قدرتها
على تحقيق حائط دفاعي فعال في مواجهة التفوق العسكري الهندي؛ حيث تبلغ
المقاتلات الهندية 772 طائرة بينما تبلغ المقاتلات الباكستانية 410 طائرة مقاتلة.
3- عجز سلاح الجو الهندي أن يفرض على المجاهدين الكشميريين التخلي
عن المواقع التي احتلوها مما اضطره إلى أن يخوض حرباً برية محسومة؛ إذ
تشير التقديرات إلى أنه تم استدعاء 30 ألفاً من قوات الجيش الهندي بالإضافة إلى
600 ألف موجودين بالفعل في كشمير المحتلة، وهو ما يمثل أعلى نسبة وجود
عسكري في أي منطقة في العالم؛ إذ يبلغ عدد جنود الاحتلال الهندي في كشمير 1: 7 بالنسبة إلى السكان، وقد استطاعت باكستان أن تصد هجمات برية على طول
خط المواجهة وأن تحدث خسائر كبيرة بالجيش الهندي، كما هوجمت قوات
المجاهدين برياً، لكنها ظلت مسيطرة على قواعدها المحررة في كشمير المحتلة،
وفقد الخط الساخن للاتصال بين القيادات العسكرية على الجانبين رغم أن السياسيين
حاولوا السيطرة على الوضع بإحياء المفاوضات، وذلك بعرض إرسال وزير
خارجية باكستان (سرباج عزيز) إلى الهند لبحث الأزمة، وهو ما يعني أن
المواجهة الحالية مختلفة عما سبقها من مواجهات، وأنها ستكون فاتحة لتحول كيفي
حقيقي في أعمال المجاهدين المسلحة ضد الوجود الهندي في كشمير، وتبدو
الإمكانات الحقيقية للمجاهدين إذا علمنا أن تقديرات الهند لأعدادهم تبلغ حوالي ألف
مجاهد فقط. إن أحد حقائق المواجهة الجارية الآن هي وحدة المجاهدين من ناحية
وسيطرة الحل الإسلامي لتحرير كشمير من ناحية ثانية؛ فلم يعد هناك وجود
لتيارات القومية أو العلمانية التي كانت سبباً في إضعاف حركة المجاهدين في
استقلال باكستان عام 1947م.
يشارك في أعمال الجهاد بشكل أساس حركة المجاهدين الإسلامية التي
يتزعمها (فضل الرحمن خليل) في إطار تحالف عسكري يضم تنظيمات إسلامية
أخرى مثل (حزب المجاهدين) و (لشكر طيبة) ، وبحكم الجوار الجغرافي مع
أفغانستان من ناحية، وبحكم وجود تيار إسلامي قوي في باكستان يعمل على دعم
قضية الجهاد في كشمير فإن مجاهدين من حركة (طالبان) ومن (العرب) يشاركون
في القتال الدائر في كشمير وهو ما يعني أنها قضية إسلامية تهم كل المسلمين، كما
يتعاظم احتمال أن تكون بؤرة جهادية جديدة ضد الاحتلال الهندي، وهو ما يثير
الانزعاج لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي طالبت باكستان بالتدخل لحمل
المجاهدين الكشميريين والمسلمين على الانسحاب؛ حيث عجزت القوات الهندية
عن ذلك، وأرسل (كلينتون) رسالة إلى (نواز شريف) رئيس الوزراء الباكستاني
يطالب بسحب المجاهدين من منطقة (كارحيل) في كشمير المحتلة.
كشمير تفرض نفسها:
من الثابت أن تاريخ المواجهة بين الهند وباكستان من أجل كشمير يؤكد أن
المفاوضات بين الطرفين لا تؤتي أي ثمار؛ لأن الهند تريد أن تؤجل قضية كشمير
حتى نهاية المطاف في علاقتها بباكستان؛ بينما ترى باكستان (أن كشمير هي
الأولوية الاستراتيجية) في العلاقة مع الهند. وإزاء تغيير موقف الهند من التزاماتها
القاطعة بحق الشعب الكشميري في تقرير مصيره عبر الاستفتاء، واعتبار كشمير
جزءاً من التراب الهندي لا يمكن فصلها أو تجزئتها عن الهند؛ فقد سعت باكستان
إلى تدويل قضية كشمير، وإدخال أطراف أخرى لحل هذه القضية بما يتفق وآمال
الشعب المسلم في كشمير، لكن الهند تصر على أن تكون المحادثات ثنائية وأن لا
تتدخل أي أطراف وسيطة بين الجانبين، وهو ما يعني تجميد الوضع القائم على ما
هو عليه، وتجميد هذا الوضع يعني فرض الأمر الواقع على مسلمي كشمير المحتلة
الذين يواجهون تعنتاً هندياً لا يتوقف يهدف إلى خنق رغباتهم في التعبير الحر عن
أنفسهم؛ لذا فإن أحد أهم أهداف المجاهدين في كشمير هو فرض كشمير على أجندة
السياسة الدولية، والانتقال بالقضية من رفوف الأمم المتحدة المتربة لتكون متداولة
وحية بين الأروقة. وفي الأزمة الأخيرة بدأت أمريكا تستيقظ لخطر استمرار فرض
الوضع القائم خاصة وأن أي أزمة يمكن أن تتطور لتصل إلى مواجهة نووية بين
الهند وباكستان، كما بدأ (كوفي عنان) يتنبه لخطر قضية كشمير، ودعا الطرفين
إلى ضبط النفس، ودعت (باكستان) إلى التدخل الدولي لحل قضية كشمير، كما
حدث في كوسوفا، واعتبرت أن كشمير هي النسخة الآسيوية من كوسوفا.
وفي الواقع فإن هناك جملة من المتغيرات تعزز فُرَصَ فرضِ كشمير نفسَها
على الوضع الدولي، وهي بشكل أساس تتمثل في:
1 - تغيير الوضع الدولي في منطقة آسيا لصالح باكستان؛ حيث تم تحرير
أفغانستان، واستطاعت طالبان أن تفرض وجودها بشكل شبه تام على الأوضاع
هناك. وأفغانستان تمثل رصيداً استراتيجياً هاماً لكشمير ولباكستان معاً في المواجهة
مع الهند.
2 - انهيار الاتحاد السوفييتي باعتباره قوة أساسية كانت تساند الهند في
صراعها مع باكستان، وهذا الانهيار يمثل تخفيف الضغط على باكستان في
المواجهة مع الهند.
3 - بروز الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى؛ وهي بلا شك تمثل
فضاءاً إسلامياً يضاف إلى قوة المسلمين في آسيا؛ وهو يمثل رصيداً جديداً
لباكستان على المستوى السياسي والدبلوماسي، كما أنه يعطي الشعب الكشميري
حقه في تقرير مصيره كما فعلت هذه الجمهوريات التي كان مفروضاً عليها البقاء
بالقوة ضمن الاتحاد السوفييتي السابق.
4 - السعي إلى تقوية باكستان لعلاقاتها بالعالم العربي خاصة دول الخليج
ومصر وغيرها، وإثبات أن الأمن الإسلامي يمثل كتلة لا تتجزأ، وأن الخطر
الصهيوني الهندوسي لا يمثل خطراً على العالم العربي فحسب، ولكنه يمثل خطراً
على العالم الإسلامي أيضاً؛ ومن ثم فإن قوة الردع النووي الباكستانية هي في
الواقع قوة إسلامية في مواجهة التحالف الهندي - الصهيوني؛ كما أن كشمير يجب
أن تكون قضية المسلمين جميعاً وليس قضية مسلمي باكستان أو كشمير المحررة
وحدهم.
5 - السعي بقوة إلى التحالف مع الأقلية المسلمة الضخمة في الهند، وتدعيم
وجودها سياسياً داخل الهند حتى لا يؤثر الصراع في كشمير على وجودها هناك
وسط المحيط الهندي المتعصب.
إن المواجهة الجوية في كشمير، تشير إلى عمق الأزمة في آسيا، وإن الأمن
والاستقرار هناك لا يمكن تحققه إلا بحل عادل يعطي لأهل كشمير المحتلة الحق في
تقرير مصيرهم. وكما هو معلوم فإن تعداد سكان كشمير المحتلة يبلغ 8 مليون
نسمة، أكثر من 85% منهم من المسلمين، ومساحتها (366) ميلاً مربعاً،
ويواجهون انتهاكاً هائلاً لحقوقهم. فتصاعد قوة جهادية كبيرة تسعى لإثبات حقهم في
الاستقلال سيكون لوناً جديداً من المواجهة التي لن تتوقف إلا بحل عادل لمشكلة
شعب كامل.(140/70)
حمَّى سنة 2000
(الحلقة السابعة)
العلة الألفية ... والأسرار الخفية
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت للنظر أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية
التي يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود
أفعال قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب
الوقت من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة.
- البيان-
شاء الله - تعالى - أن تتجلى عظمته في الخلق بخلق الإنسان، وشاء -
سبحانه - أن تظهر عظمة عقل الإنسان باختراعه لهذا الجهاز العجيب: الحاسوب، أو (الكمبيوتر) فهو يدل على ذكاء خارق لدى المخلوق الآدمي، ولكن الإنسان هو
الإنسان في ضعفه وعجلته وجهله.
[وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] [النساء: 28] ، [إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً]
[الأحزاب: 72] ، [وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً] . [الإسراء: 11] .
وقد اجتمعت آثار تلك الصفات البشرية المتناقضة: الذكاء مع الجهل والظلم
مع الضعف في صنعة الإنسان (الحاسوب) الذي مثّل حتى الآن الذروة فيما يمكن أن
تصل إليه إمكانات البشر العقلية؛ فبينما تبدّت ملامح الذكاء والدقة والإتقان في هذا
الجهاز، بدت فيه - من نواحٍ أخرى - المظاهر الدالة على قصر النظر والعجلة
والضعف، فيبدو أنه لم يكن في حسبان من ابتكروا أجهزة الحاسوب قبل نحو 50
سنة أن تلك الأجهزة سوف يجرى تشبيكها في وقت لاحق بغيرها، ولم يكن في
حسبانهم أن الشبكات التي أنشئت هكذا ستصبح عاملة حسب أنظمة سارية المفعول
حتى بلوغ القرن نهايته. وكان لسوء الفهم أو سوء التدبير فيما يتعلق بهذا الشأن
ثمار مرة وآثار مدمرة يمكن أن تجني على الإنسان بدلاً من أن يجني هو منها ما
يريد.
فالمشكلة التي اصطُلح على تسميتها بـ (العلة الألفية) أو (علة القرن) أو
(حشرة 2000م) أو (بقة 2000م) ، تكمن في أن أجهزة الكمبيوتر التي جسدت فتنة
الإنسان بعقله سوف تعتقد في الأول من يناير عام 2000م، أنها عادت إلى مطلع
العام 1900م بسبب استخدام الرقمين الأخيرين فقط للدلالة على السنة، وهنا
ستضرب تلك الأجهزة الحاسوبية أخماساً في أسداس، وسينشأ تخوف حقيقي بسبب
عدم تمكن الأنظمة المبرمجة من التفريق بين عامي 2000م و 1900م الذي ينتهي
كل منهما بصفرين، مما سيُحِدث خطأً في قراءة تلك الأنظمة لرقمي (00) في
الأول من يناير عام 2000م، على أنها إشارة إلى عام 1900م؛ مما يعني أن
كثيراً من الأنظمة المبرمجة ستتعطل أو تتوقف عن العمل. وبمعنى آخر: بعض
هذه الأجهزة ستُضرب عن العمل، وبعضها سيعمل (على مزاجه) وبعض آخر
سيستمر في العمل بنشاط، ولكنه سيعطي معلومات خاطئة، ولا يسلم منها إلا ما
يتم علاج علته (الألفية) قبل بدء الألفية.
والمشكلة هنا ليست في تعطل الأجهزة كلها أو بعضها، ولكن المشكلة فيما
سيترتب على تعطلها من أخطار تتمثل في الانقطاع أو الانهيار الذي يمكن أن
يصيب قطاعات حيوية عديدة مثل الاتصالات والمواصلات ومراكز المال والمرافق
الطبية والصناعية وغيرها، والأخطر من ذلك مجالات استخدام الأسلحة والدفاع
والطيران ونظم البيئة.
أبعاد المشكلة:
أولاً: البعد الزمني: هذه المشكلة ليست متعلقة فقط بمطلع العام 2000م، بل
يتوقع الخبراء أن تستمر لأشهر أو سنوات بعد يناير 2000م.
البعد المكاني: يتوقع أن تأخذ المشكلة بُعداً دولياً؛ فهي لن تقتصر على دولة
أو دولتين أو قارة أو قارتين، بل يتوقع أن تفرض نفسها على القارات الخمس
والدول جميعها، وقد وصلت الأزمة في مستواها الدولي إلى حد تَدخّل الأمم المتحدة
التي عقدت في عام 1998م أول مؤتمر دولي للتصدي لمشكلة 2000م، وأصدر
المؤتمر الذي ضم مندوبين عن أكثر من 130 دولة قراراً يهيب بدول العالم أن
تعمل بصفة عاجلة على مضاعفة الجهود لمعالجة المشكلة، ويدعو إلى مزيد من
التعاون الدولي في هذا المجال، ومع هذا الاهتمام الاستثنائي من الأمم المتحدة
بمشكلة من ذلك النوع، فإن بعض الخبراء يتهمونها بالإهمال؛ لأن اهتمامها
بالمشكلة جاء متأخراً، وأن ما جاء به مؤتمرها من توصيات لا يكفي لتدارك الخطر
الذي سيحيق ببلدان العالم عندما يحل عام 2000م.
البعد الاقتصادي: جاء في دراسة تحليلية أعدها المعهد الدولي للدراسات
الاستراتيجية في لندن، ونشرتها الصحف في 27/1/1999م، أن المشكلات
الاقتصادية والفنية المترتبة على العلة الألفية لن تتوقف عند حد بدء الألفية الثالثة،
بل يتوقع أن تزداد في الأشهر بل السنوات التي تعقب يناير 2000م، وذكرت
الدراسة أن العديد من المشكلات المنتظرة لا يمكن التنبؤ بجوانبها وأبعادها، وأن
جهود المؤسسات والشركات في محاربتها قد تكون بلا طائل، وحذرت من أن
الأزمة قد تؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي. وقدرت بعض المصادر التكلفة العالمية
الإجمالية لعلاج المشكلة بنحو 655 مليار دولار.
وفي تطور يمثل انعكاساً لقلق بالغ، عقدت في مقر أمانة صندوق النقد الدولي
ندوة عالمية في منتصف إبريل 1999م، شارك فيها خبراء من البنك الدولي،
وتحدثوا عن مشكلة 2000م وآثارها الاقتصادية المتوقعة، وجاءت توصيات الندوة
بمثابة (صدمة) لجمهور الحاضرين؛ حيث انتهت إلى الحقائق الآتية:
- معضلة القرن هي أكبر بكثير مما يتصوره المهتمون والمتابعون فضلاً عن
غيرهم.
- الاستعدادات الدولية حتى الآن - بما في ذلك الدول المتقدمة - أقل بكثير
مما يعلن عنه.
- الدول التي لديها القدرة على وضع حلول جذرية للمشكلة هي فقط الدول
المتقدمة الغنية.
- الدول النامية والفقيرة هي أكثر عرضة لأخطار الأزمة.
- القطاعات التي ستتأثر أكثر بالأزمة هي قطاعات النفط والغاز والاتصالات
والمواصلات والنظم المصرفية والمالية وقطاعات الكهرباء والماء.
- بعض القطاعات قد تنجح بشكل جزئي في حل المشكلة في الدول النامية،
ولكن هذا النجاح قد يعطله الإخفاق في القطاع نفسه في مكان آخر؛ لأن القطاعات
تعمل بشكل متكامل، والخلل في بعضها سيؤثر حتماً في البعض الآخر [جريدة
الخليج، 1/5/1999م] .
وكانت أصداء الأزمة قد وصلت إلى مستوى القمة الاقتصادية للدول الصناعية
الكبرى (قمة الثمانية) التي عقدت في شهر مايو 1998م؛ حيث أصدرت القمة
تحذيراً في بيانها الختامي ينبه إلى أن أزمة اقتصادية عالمية قد تقع بسبب معضلة
القرن. وصدر تحذير مشابه عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس والمنعقد في
فبراير 1999م.
ولا يعني سبق الولايات المتحدة في الاهتمام بعلاج المشكلة أنها لن تتجرع
مرارة الأزمة، بل على العكس من ذلك؛ فإن المؤشرات القادمة من هناك تدل على
فواجع اقتصادية كارثية سيتحملها الاقتصاد الأمريكي من جراء الأزمة.
فسينفقونها..:
قدر المختصون في الولايات المتحدة المبالغ التي ستصرفها المؤسسات
الأمريكية لجعل أنظمتها جاهزة لمواجهة مشكلة الألفية بأكثر من 276 مليار دولار
أمريكي مما جعل مشكلة 2000م من أعقد المشاكل وأكثرها كلفة فيما يتوقع، ومع
هذا فإنها إذا لم تعالج في الوقت المحدد - أي قبل 1/1/2000م، فإن الخسائر
ستكون أفدح في الأموال، وربما الأرواح.
[جريدة الشرق الأوسط، 11/5/ 1999 م]
ومما يزيد من قلق الأمريكيين من الآثار المتوقعة لهذه المشكلة، أن الأخبار
المنشورة تدل على أنه بالرغم من الاهتمام البالغ من الحكومة الأمريكية
بالاستعدادات لمواجهة المشكلة، إلا أن كبريات الشركات الأمريكية تتأخر في
مواعيدها لإصلاح علة القرن؛ فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في (19/5/
1999م) أن الكثير من هذه الشركات الكبرى لا تكفيها المخصصات المالية المقدمة
لعلاج المشكلة، حتى إن نسبة 22% منها لن تكون جاهزة عندما تدق الساعة معلنة
بداية عام 2000م، وذكرت الصحيفة أن نحو 72% من الشركات جابهت مشاكل
فعلية في إخفاق أجهزتها لدى اختبارها لمواجهة المشكلة، وفي استطلاع أُجري لأخذ
آراء الخبراء فيما يتعلق بالمشكلة ذكرت الصحيفة أن 15% يرون أن المخصصات
المالية لعلاج المشكلة لن تكفي، بل سوف تزداد، بينما رجح نحو 92% أن مواعيد
علاج المشكلة سوف تتأخر عن الموعد المطلوب، كما كشف مكتب المحاسبة العامة
في الحكومة الأمريكية أمام إحدى لجان الكونجرس أن 24 وزارة ووكالة رئيسة
وحيوية في الحكومة الفيدرالية لم تنته بعدُ من علاج المشكلة، وأنها متأخرة مدة عام
عن الموعد النهائي المحدد لها، وانتقد مكتب المحاسبة وزارة الدفاع (البنتاجون)
لتلكئها في معالجة المشكلة، مشيراً إلى أنها قد تواجه مشاكل كبيرة.
[جريدة الشرق الأوسط، 11/5/1999م]
ولكن الجائحة الكبرى المتوقعة في المجال الاقتصادي الأمريكي هي ما أشارت
إليه صحيفة الخليج [2 مايو 1999م] ، بأن الكونجرس ناقش مشروعاً بتحميل
شركات الحاسب الآلي تبعة الإخفاق الذي يمكن أن يحدث في أنظمة الحواسيب؛
حيث أشارت الدراسات إلى أن تكلفة المنازعات القضائية المالية من جراء مشكلة
الكمبيوتر قد تصل إلى تريليون دولار (ألف مليار دولار) وذكرت الصحيفة أن
رئيس مجلس إدارة الاحتىاطي المالي الفيدرالي في الحكومة الأمريكية (آلان
جرنيسبان) طلب من الحكومة توفير مبلغ 50 مليار دولار من العمولات الجديدة قبل
عام 2000م لوضعها تحت بند الطوارئ للتداول إذا حدث هلع عند الناس قد يتسبب
في تأثير سلبي على السيولة المصرفية، ولم يستبعد أن تحدث عملية (تفريغ)
للأرصدة من البنوك التي ستكون في بؤرة المشكلة الألفية!
بعد 1999م ... (حرب بلا نصر) ؟ !
عندما ألف الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) كتابه الموسوم بـ
(1999م.. نصر بلا حرب) كان يتكهن فيه بأن الولايات المتحدة ستحرز نصراً
حاسماً على خصومها الرئيسيين دون أن تطلق رصاصة واحدة، وقد حدث ما يشبه
هذا بانتهاء الحرب الباردة التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي، واليوم تعيش
الولايات المتحدة والعالم وضعاً معاكساً؛ فإذا صحت كل الأنباء المتواردة عن
الانعكاسات المتوقعة لأزمة 2000م، فإن العالم سيكون في مواجهة حرب غير
معهودة؛ لأنها غير مقصودة، إنها (حرب بلا نصر) فلا منتصر فيها؛ لأن الإنسان
فيها يحارب نفسه، والدول تخوض حرباً في داخلها؛ إنها حرب اللاعدو ضد
اللاعدو، بين العقل الإنساني - الإلهي في خلقته - والعقل الآلي البشري في
صنعته.
أقول: لو صحت كل التقارير المتناثرة هنا وهناك، فإننا سنكون أمام أعجب
حرب في تاريخ البشر؛ فقد حذرت وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي. آي. إيه)
من تقرير أوردته الصحف الأمريكية في (25/2/1999م) من التضاعفات المحتملة
لأزمة الكمبيوتر في عام 2000م، ولفتت الانتباه إلى أن تلك المشكلة قد تسبب
اضطرابات داخل الولايات المتحدة وخارجها، وتعطل بعض المفاعلات النووية
وأنظمة الأسلحة النووية الاستراتيجية وشبكات الاتصال ومحطات توليد الطاقة
وعمليات شحن النفط.
وذكرت صحيفة الشرق الأوسط في (27/2/1999م) أن اللواء (جون
جوردن) نائب رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية نبه أمام لجنة القوات المسلحة
في مجلس الشيوخ الأمريكي إلى أنه من المتعذر جداً تقدير حجم الخسائر التي قد
تترتب على هذه المشكلة بالنسبة للبلدان الأجنبية، خاصة روسيا التي تأخرت كثيراً
في معالجة الأزمة، وحذر المسؤول الأمريكي من الخطر الذي تمثله الأجهزة التي
تشرف على عمليات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات من ناحية كفاءة
معدات السيطرة إذا تدنت حرارتها، أو ظهرت أعطال في أنظمة الإنذار المبكر،
مما يعني توجيه معلومات وإرشادات خاطئة، وقال اللواء (جوردن) : إن العالم
النامي يواجه أهم معضلات المشكلة، والبلدان النامية ستكون عرضة للعديد من
الأخطار التي لا يمكن التكهن بها حالياً، وقال أيضاً: إن الولايات المتحدة نفسها لن
تنجو من الخطر في عديد من القطاعات.
وقد انعقدت قمة عالمية في العاصمة الفلالينية (مانيلا) حول المشكلة في أول
مارس 1999م، وأعرب (جون كوشينين) رئيس اللجنة الرئاسية الأمريكية [1]
حول مشكلة 2000م عن القلق من الخلل المتعدد الأوجه الذي قد يصيب أجهزة
الإنذار مثل تعطل الشاشات والرادارات، وذكرت صحيفة الشرق الأوسط في (3/3
/1999م) أن القمة ناقشت الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتلافي الارتباكات التي
يمكن أن يقع فيها العاملون في أجهزة الدفاع في الدول المختلفة، ونسبت صحيفة
الحياة في (3 مارس 1999م) إلى أحد المتحدثين في المؤتمر قوله: (إن الصواريخ
لن تنطلق دون تدخل بشري، ولكن مصدر القلق الرئيس هو الخلل المتعدد الأوجه
الذي قد يصيب أجهزة الإنذار، مثل تعطل شاشات الرادار، وهو الأمر الذي قد
يحدث ارتباكاً وفوضى) !
ونظراً لأن المجال النووي هو أخطر المجالات التي يمكن أن تعكس آثاراً
كارثية إذا تأثرت بالعلة الألفية، فإن الرابطة الدولية للنشاط النووي ركزت اهتمامها
بمتابعة التفاعلات المتوقعة من جراء الأزمة تخوفاً من التأثيرات الخطرة على أنظمة
الإنذار المبكر في مناطق التوتر والنزاع، وقال مسؤولون فيها: إنه حتى لو تم
التوصل إلى حل فني، فإن أصغر خطأ أو إخفاق يمكن أن يتسبب في اندفاع
وتزاحم قد يؤدي إلى خطأ في الحسابات في مناطق غاية في الحساسية مثل البلقان
والشرق الأوسط وجنوب آسيا. [جريدة الشرق الأوسط، 27/1/1999م] .
وقد اجتمع في شيكاغو أكثر من عشرة آلاف من المهتمين والزائرين والخبراء
وأصحاب الشركات المصنعة للحاسوبات في أكبر مؤتمر من نوعه في العالم لمناقشة
سبل تأمين الشبكات الالكترونية من بقة 2000م ومواجهة الأخطار التي تهدد العالم
بسببها.
[جريدة الخليج، 23/5/1999م]
ولأجل هذا كله، فقد بدأت الحكومة الأمريكية ما يشبه المناورات الحية،
لمحاربة حشرة 2000م، فقد نشرت دورية (سالت ليك تربيون) الأمريكية في 15
مايو 1999م، أن سلاح الجو الأمريكي أقام معسكراً قرب مطار ديندوفر على قطعة
أرض بولاية يوتاه، وفرضت عليه حراسة مشددة بغرض استخدامه في اختبارات
الطائرات وأجهزة الرادار والأسلحة تحسباً لتفاعلات علة القرن، وذكرت الصحيفة
أن أفراد طاقم سلاح الجو داخل المعسكر يحرصون يومياً على القيام بتعطيل أجهزة
الرادار والأقمار الصناعية والميكرويف التي يمكنها متابعة الصواريخ الفتاكة التي
يتم إسقاطها قرب المعسكر في عمليات مستمرة للتدريب على التعامل مع ظروف
مختلفة تفرضها العلة الألفية، وتشارك في هذه المناورات طائرات إف 16 وإف
15.
ومن الواضح أن المخاوف الأمريكية من تأثيرات العلة الألفية تتجاوز حدودها
الداخلية، بل إن مخاوفها من الأضرار الخارجية المتوقعة أكثر من المخاوف
الداخلية، وقد نقلت صحيتفة الشرق الأوسط (23/3/1999) ، عن بعض الصحف
الأمريكية أن الولايات المتحدة تراقب بقلق ما يمكن أن يحدث في العالم بسبب أزمة
الكمبيوتر عام 2000م، وذلك في ضوء التقارير التي ترسم صورة قاتمة للأوضاع
في بعض الدول الهامة بما فيها روسيا والصين وبعض الدول المصدرة للبترول،
وما سيكون لذلك من تضاعفات دولية، وتشكل روسيا مصدر قلق خاص على
الأصعدة الاقتصادية والعسكرية؛ إذ تخشى واشنطن من أن تؤدي أزمة الكمبيوتر
في نهاية الألفية الثانية إلى تشويش الأجهزة التي تتحكم بأنظمة الأسلحة النووية أو
إلى حصول أخطاء وارتباكات في سير أجهزة التحكم والتوجيه مما يمكن أن يشكل
خطورة كبيرة.
وماذا بعد..؟ !
تقارير أخرى تشير إلى أن هناك مخاوف لا تقل خطورة عن الصواريخ
البالستية والرؤوس النووية، وقد حذر منها خبراء أمريكيون أيضاً كما ذكرت ذلك
صحيفة الخليج في (28/2/1999م) ؛ حيث نسبت لبعض الخبراء قولهم: إن
المخاوف من اختلال عمل أجهزة الكمبيوتر عام 2000م يمكن أن يعطل أنظمة
مراقبة تلوث المياه والهواء، وهذا ما أوضحه على وجه الخصوص (ألفريد ليف)
المتحدث باسم الوكالة الأمريكية لحماية البيئة خلال مؤتمر نظمه مجلس البيئة في
كاليفورنيا؛ حيث قال: (إن تكنولوجيا الكمبيوتر من المكونات الأساسية لحماية
البيئة، والمشكلة التي تواجهها الأجهزة عام 2000م، قد تكون لها انعكاسات مدمرة
على البيئة، مثل التسبب في حدوث تلوث عرضي في مياه الشرب أو تسرب
ملوثات سامة) ! وعقد مؤتمر بعنوان: (مشكلة السنة 2000م) في أبو ظبي في 4/
5/1999م شارك فيه العديد من خبراء المعلوماتية، وتوصلوا إلى أنه لا يوجد حل
جذري للمشكلة، خاصة في قطاع النفط، وتوقعوا أن يؤدي عدم التوصل إلى حلول إلى حدوث اضطرابات في ذلك القطاع يترتب عليه حدوث نقص في إمدادات النفط.
[جريدة الحياة، 6/5/1999م] .
والشعوب.. إلى أين الهروب؟ !
بالرغم من أن الشعوب في بلادنا العربية والإسلامية تبدو غير مهتمة
بمضاعفات حمى سنة 2000م وأعراضها المختلفة، إلا أنه، وعلى العكس من ذلك؛ فإن الشعوب الغربية تبدو في حالة قلق بالغ يتجاوز حد الاهتمام إلى الاغتمام؛
فحياة الإنسان الغربي في بلاد الغرب - كما هو معلوم - لا تقدر بثمن، في حين أن
حياة أي إنسان آخر غير غربي ليس لها عندهم أي ثمن، ولهذا فإن الأخبار الواردة
من الولايات المتحدة على وجه الخصوص تعكس بوادر مبكرة من حالات الهلع
والفزع والجزع مما يمكن أن تتسبب فيه حشرة 2000م من أذى ينال صميم حياة
المواطن العادي، ونظراً لأن تقنية الإعلام والمعلومات هناك متقدمة للغاية -
بخلاف البلاد النامية - فإن أثر ذلك يظهر في تفاعل الناس مع أي ظواهر جديدة،
خاصة إذا كان لها تعلق بالمصالح والحياة الخاصة، وفي نبأ لوكالة رويتر نشرته
الصحف في 6/3/1999م، قالت الحكومة الأمريكية إنها وضعت خططاً طارئة
للأمريكيين المقيمين أو المسافرين إلى الخارج في مستهل الألفية الجديدة لمواجهة أي
خلل واسع النطاق قد يحدث في أداء أجهزة الكمبيوتر، وأشارت وزارة الخارجية
الأمريكية إلى أنها تتخذ منذ مدة خطوات للتجهيز للمواجهة الخارجية للمشكلة لحماية
المواطنين الأمريكيين في الخارج، منها أنها طلبت من جميع السفارات الأمريكية
تخزين إمدادات تكفي لمدة 30 يوماً تحسباً لأي عزلة قد تتعرض لها، وأضاف
مسؤول الخارجية: (إن الذعر من مشكلة الألفية الثالثة قد يدفع المستثمرين لسحب
الأموال، فتنعدم الثقة في البنية الأساسية لبعض البلاد مما قد يدفع الشركات العالمية
لإغلاق عملياتها) وتابع: (كل هذا قد يسبب انهياراً لأي اقتصاد هش، أو لأي
حكومة تعاني صراعاً داخلياً) .
وفي خبر آخر أوردته صحيفة الحياة في (6/3/1999م) أن لجنة من مجلس
الشيوخ الأمريكي تختص بالتعامل مع مشكلة الألفية الثالثة، نصحت وزارة
الخارجية الأمريكية أن توجه تحذيراً للأمريكيين من السفر للخارج إذا تدهورت
الأحوال في دول معينة، أما إذا ظهرت مشاكل أكثرة حدة، فإن وزارة الخارجية
يجب أن تحث الأمريكيين على العودة لبلادهم) !
وقد ظهرت من الآن آثار التجاوب مع تلك النذر؛ فقد نشرت الصحف أن
توقع حدوث مشاكل وحالات من الفوضى في الولايات المتحدة بسبب مشكلة القرن،
دفع قيادات الحرس الوطني الأمريكي في العديد من الولايات إلى بدء تدريبات
خاصة لمجابهة الطوارئ التي يمكن أن تنجم عن انهيار بعض النظم الكمبيوترية في
مطلع العام 2000م، وذكرت صحيفة الشرق الأوسط تحت عنوان: (الولايات
المتحدة لن تفلت من أزمة عام 2000م) أن جموعاً من الأمريكيين بدؤوا يخزنون
الأغذية والمعلبات والأدوية والمواد الحيوية تحسباً لأي طارئ، كما أن هناك من
أخذوا يسحبون أموالهم من البنوك خشية أن تتوقف أجهزتها عن العمل في مطلع
العام المقبل.
ومثل تلك الأخبار القليلة المنشورة عن التحسبات الوجلة من مقدم الألفية،
تُشعر بأن هناك نوعاً مّا من التكتم أو على الأقل اللامبالاة أو التعمية على تفاصيل
الأزمة المنتظرة وخلفياتها - على الأقل في وسائل الإعلام العربية - وإلا، فكيف
يمكن لأزمة بهذا الحجم العالمي - ولو كانت توقعات - ألاّ تأخذ حيزاً بارزاً في
اهتمامات الإعلام المسموع والمشاهد والمقروء؟ ! خصوصاً أن كل التوقعات تشير
إلى أن البلاد النامية سوف تكون في مقدمة الدول المتضررة من علة القرن!
إن الاهتمام فقط ينصبّ - بشكل جزئي - على حسابات البنوك وميزانيات
الشركات ونحو ذلك مما ينشر في الزوايا الاقتصادية، وهو ما أوجد اهتماماً هامشياً
بالمشكلة، أو لم يوجِد اهتماماً على الإطلاق! وبعض الناس يظن أنها مجرد مشكلة
فنية تقنية تهم شركات الكمبيوتر فحسب، ونظراً لأن تقنية الحاسب الآلي لا تزال
حديثة في بلادنا العربية والإسلامية، فإن الشريحة المهتمة بها لا تزال محدودة،
ولكن ما حدث في السنوات والشهور القليلة الماضية حول ظاهرة (الفيروسات)
بدأت تعطي انطباعاً بأن الكمبيوتر يمكن أن يكون ميداناً لحرب أشبه بحروب
الأشباح، مع فارق أن خسائرها حقيقية.
وبرغم الاختلاف في طبيعة مشكلة الفيروسات عن مشكلة العام 2000م، إلا
أن مشكلة الفيروسات هذه تعطي مؤشراً عن الأخطار المضاعفة لسوء استغلال تقنية
الحاسب الآلي.
فيروس تشرنوبيل ... نموذج مصغر:
فيروس المعروف بـ (تشرنوبيل) ظهر لأول مرة في شهر يونيو 1998م في
جنوب شرق آسيا، ليبدأ نشاطه في 26 من الشهر نفسه، ثم تم إصدار نماذج
أخرى منه لتعمل في أوقات مختلفة بعضها في 26 من كل شهر ميلادي، وبعضها
ينشط في 26 من إبريل من كل عام.
والفيروس كان قد تم تفعيله في الذكرى الثالثة عشرة لكارثة المحطة النووية
الأوكرانية في الاتحاد السوفييتي السابق في 26 من إبريل عام 1986م، وهو
يصيب البرامج بسرعة ويؤدي إلى محو مضمون القرص الصلب والقرص المدمج
في الكمبيوتر، وقد سجل فيروس تشرنوبيل في شهر إبريل من عام 1999م خسائر
فادحة في أجهزة الكمبيوتر المستعملة في الدوائر الحكومية والقطاعات الحيوية
والأجهزة الشخصية على مستوى العالم؛ فقد بلغ عدد الأجهزة المصابة في كل من
أوروبا وروسيا 300 ألف جهاز، فيما تجاوز العدد المليون من الأجهزة في
الولايات المتحدة الأمريكية، وتأثرت قطاعات عديد من دول العالم الثالث، وأول
الدول التي أُعلن عن الأضرار الجسيمة فيها (بنجلاديش) وتأثرت قطاعات متعددة
في العالم العربي ودول الخليج بالفيروس المفترس، ولكن الأحجام الحقيقية
للأضرار لم تعلن لأنه لا توجد إحصاءات دقيقة متعلقة بها، إضافة إلى أن هناك
جهات كثيرة متضررة - خاصة في المجال التجاري والاستثماري - امتنعت عن
الإعلان عن الأضرار التي لحقت بها خشية أن تصاب بأضرار أشد من جراء تأثر
سمعتها تجارياً ومالياً بالحديث في مثل تلك الأمور.
لقد أصبحت الفيروسات (الإلكترونية) أشبه ما تكون الآن بالفيروسات
(البيولوجية) ولسوء الحظ فإن حرب الفيروسات - التي بدأت الآن - لا تقل في
آثارها التدميرية عن الحروب البيولوجية التي لم تنتشر بعد على نطاق واسع، وإذا
كانت الفيروسات البيولوجية كما هو معروف يمكن أن يشنها فرد أو مجموعة أفراد
ضد دولة بأكملها، فإن حرب الفيروسات الإلكترونية يمكن أيضاً أن يشنها فرد أو
مجموعة قليلة من الأفراد، وهذا ما حدث للآن فيما يتعلق بفيروس تشرنوبيل الذي
يقال إن وراءه شخصاً واحداً في مكان واحد من العالم [2] .
ولكن قد يقال:
ما علاقة مجمل ما ذكر في هذه الحلقة، بمجمل ما ذكر في الحلقات السابقة
عن الخلفيات الدينية العقدية للأعراض المختلفة لحمى سنة 2000م؟ !
والجواب: ليست هناك علاقة مباشرة من الناحية الدينية الاعتقادية؛ فعارض
مشكلة الكمبيوتر لعام 2000م لا يربطها بعقائد اليهود والنصارى رابط معين؛ لأنها
ظاهرة معلوماتية وليست عقدية، ومع ذلك فالمتوقع أن يتخذ العقائديون منها ذريعة
لزرع المزيد من نباتات الأساطير الدينية التي تنتج في الغرب الآن أشجاراً من
الخرافة يمكن أن تناطح السحاب طولاً، ولكنها في ضوء الحق والحقيقة [مَثَلُ
كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ] [ابراهيم: 26] .
نعم! فالعقائديون الأصوليون، وخاصة طوائف البروتستانت المتعصبين
يتبنون في أدبياتهم المعلنة مقولات تدل على إيمانهم بأن المسيح المنتظر لن يأتي إلا
بعد فترة من الأزمات المتواصلة، والكوارث المتتابعة والانهيار الاقتصادي -
إضافة إلى الحروب التقليدية والنووية، ولما كانوا يتصايحون الآن في كل
المنتديات بأننا نعيش الأيام الأخيرة قبل قدوم المسيح؛ فما الذي يمنعهم من أن
يصبغوا تلك الاضطرابات المتوقعة بصبغة دينية، لا على أنها يمكن أن تكون
عقوبات إلهية لردع التمرد البشري، ولكن على أنها (آلام المخاض) الذي يسبق
ميلاد العصر الجديد، عصر الخلاص؟ !
تقول الكاتبة الأمريكية (جريسي هالسل) : (إن رجالاً من أمثال جيري فالويل، وهول ليندسي وبات روبتسون وغيرهم من قادة اليمين المسيحي، يعتقدون أن
الكتاب المقدس يتنبأ بالعودة الحتمية للمسيح بعد مرحلة من الحروب النووية
والكوارث الطبيعية والانهيار الاقتصادي والفوضى الاجتماعية، إنهم يعتقدون أن
هذه الأحداث يجب أن تقع قبل العودة الثانية، كما يعتقدون أنها مسجلة بوضوح في
الكتاب المقدس) [3] .
فالبشرية - حسب معتقدهم في الغرب - يجب أن يموج بعضها في بعض في
الأيام الأخيرة، ولا بد أن تعم أنواع من الفوضى قبل قدوم المسيح. وفي الغرب
الآن حركة (تبشير) واسعة النطاق بهذه الفوضى الألفية المتوقعة، بعضها يأخذ
الشكل الديني الوعظي، وبعضها يأخذ الشكل الفلسفي التأملي، والبعض الآخر يأخذ
الشكل السياسي أو الاجتماعي التحليلي.
يقول (زيغنيو بريجنسكي) [4] في كتابه: (الفوضى ... الاضطراب العالمي
عند مشارف القرن الحادي والعشرين) [5] : (لن يكون الخطر القادم عشية القرن
الحادي والعشرين ناجماً عن تطور الوعي السياسي على الصعيد العالمي، بل من
حقيقة أن الجماهير الناشطة سياسياً خارج المجتمعات الديمقراطية، لم تزل تعيش
مرحلة أولية من الوعي المتميز بهوية ذاتية ضيقة قائمة على درجة عالية من
المبالغة العرقية، هذا القول يعني أن المزاج العام سيظهر في الغالب من خلال
أفكار بدائية تستجيب للنداءات العصبية السياسية منها والدينية) !
والفوضى التي يتحدث عنها بريجنسكي ليست وقفاً على المجتمعات (غير
الديمقراطية) كما يقول؛ بل لا يستبعد أن تنبعث أساساً من المجتمعات الديمقراطية
جداً فبقدر ما يوزع الغربيون توقعاتهم السوداوية على أنحاء الكرة الأرضية مع مقدم
الألفية الثالثة، على قدر ما يخفقون في إخفاء المخاوف من نشوء الاضطرابات
والفوضى الداخلية في مجتمعاتهم؛ ففي جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي في
4/2/1999م، حذر (لويس فريه) المدير العام لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي
من أن المتطرفين الإنجيليين وأعضاء الجماعات الدينية والرؤيوية [6] قد يتحولون
إلى العنف مع حلول القرن الحادي والعشرين، وبعد أن حذر من تنامي الخطر
الإسلامي على الولايات المتحدة من الخارج قال: (يجب ألا نتجاهل التهديد من
المتطرفين الإنجيليين داخل أمريكا، خصوصاً مع مقدم الألفية الثالثة) وتابع يقول:
(إن احتمال حدوث أعمال عنف من جماعات محلية وارد؛ فمع قدوم عام 2000م،
قد تجنح هذه الجماعات إلى العنف بهدف افتعال أحداث مثيرة تستغلها لتحقيق
النبوءات التي تؤمن بها) .
وقد تكون علة القرن تعليلاً لبعض التشنجات التي يمكن أن يعايشها الألفيون
استغلالاً للفوضى المتوقعة أو إنتاجاً للمزيد منها؛ فقد حذر بعض المهتمين بعلة
الألفية (الخليج، 23/5/1999م) من أن بعض المغامرين يمكن أن يستغلوا بتعمد
وسبق إصرار الارتباك المتوقع حدوثه ابتداء من 1/1/2000م بغية الوصول إلى
مواقع الأسرار ذات الشأن في مراكز الأبحاث والمؤسسات العسكرية لبعض الدول،
أو بغرض التحايل على البنوك أو محاولة الاستيلاء على أموال الشركات، وقد أذيع
بالفعل منذ مدة خبر اختراق أحد المراهقين لمراكز المعلومات داخل وزارة الدفاع
الأمريكية (البنتاجون) !
أم النبوءات:
ما هي هذه النبوءات التي من أجلها يستسيغ هؤلاء أخبار شقاء العالم بل قد
يتلذذون بها؟ إنها بعض ما أشرت إليه في الحلقات السابقة؛ ولكن فوق كل هذه
النبوءات النبوءة الكبرى عن عودة المسيح التي عاش النصارى ألفي عام مشتاقين
إليها، وظلوا خلال ذلك يتلون نصوصاً من الإنجيل تُرسّخ في قلوبهم انتظارها
وانتظار أيامها بحلوها ومرها. يقول القس (روبر كليمان) في كتابه: (إيماننا الحي) ، ص 527: (عند مجيء المسيح تتزعزع الخليقة كلها، وَسَيَدُلّ مجيئه على انتهاء
الزمن القديم، وتظهر بداية الزمن الجديد؛ حيث يشمل الخليقة كلها ببركته، ولذلك
سُمي هذا اليوم الأخير: يوم المسيح، أي يوم مجيء الرب وحضوره) !
فللنصارى مسيح ينتظرونه قريباً ... كما أن لليهود مسيحهم المنتظر منذ أمد
بعيد، وكل من هؤلاء وأولئك يهيئون العالم الآن - في زعمهم - لمخرج المسيح
الذي يؤمنون به، فمن هو هذا المسيح المنتظر عند الأمتين الضالتين؟ وما هي (أمّ
النبوءات) المتعلقة بمجيئه عند كل منهما؟
وهل سيأتيان ويجيئان؟ وهل نحن نعيش بالفعل مقدمات ذلك الخروج؟ !
هذا ما سنعرض له في حديث مفصل في لقاء قادم - بإذن الله تعالى -.
__________
(1) هي لجنة شكلها الرئيس الأمريكي تابعة للبيت الأبيض وأطلق عليها، لجنة التحول لعام 2000م.
(2) أشيع أنه من تايوان، وأنه ألقي القبض عليه، ولكن أستبعد أن يلقى القبض على شخص بهذه الخطورة دون أن تنشر صورته أو اسمه أو تعلن أي تفاصيل عن القبض عليه.
(3) النبوءة والسياسة (المقدمة) .
(4) شغل بريجنسكي منصب مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي أثناء رئاسة الرئيس الأسبق جيمي كارتر.
(5) الفوضى: تأليف زيغنيو بريجنسكي، ترجمة مالك فاضل، ط 1998م، ص 53.
(6) أي التي تعتمد على ما تعتقد أنه رؤى الأنبياء والملهمين.(140/76)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
المتواصون ... بالشر
1- قام الكيان الصهيوني بإمداد الصرب بمواد كيميائية جديدة تسبب التهاباً في
الدماغ بعد استنشاقها وذلك للقضاء على المسلمين في البلقان.
2- أكدت تقارير دولية أن المجازر التي يتعرض لها سكان كوسوفا زادت
بنسبة ثلاثة أضعاف بعد ضربات حلف الأطلسي، وأشارت أن تلك المجازر بلغت
ستة أضعاف مجازر البوسنة والهرسك.
[جريدة الأسبوع، العدد: (114) ]
أرض الله واسعة
دق مجلس كنائس الشرق الأوسط ناقوس الخطر بخصوص تزايد وتيرة
تراجع أعداد المسيحيين في بلدان كثيرة بمنطقة الشرق الأوسط، ولوحظ أن عدد
مسيحيي الشرق لا يمثل إلا نسبة متواضعة مقارنة مع العنصر المسلم؛ إذ لا
تتجاوز نسبتهم سوى 1. 6% من سكان المنطقة، كما تراجع عدد الكنائس
الكاثوليكية بسبب الصراع الدائر بينها من أجل الانفراد بالوصاية.
[جريدة لوريان لوجور، عن جريدة الخليج، العدد: (7309) ]
يا ليت قومي يعلمون
كشفت إحصائية لرصد اتجاهات الأمريكيين أن 80% من الأمريكيات يعتقدن
أن الحرية التي حصلت عليها المرأة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة هي المسؤولة
عن الانحلال والعنف الذي ينتشر في الوقت الراهن، وقالت 75% من اللواتي
شاركن في الاستفتاء: إنهن يشعرن بالقلق لانهيار القيم التقليدية والتفسخ العائلي،
وبالنسبة للنساء العاملات قالت 80% منهن إنهن يجدن صعوبة بالغة في التوفيق
بين مسؤولياتهن تجاه العمل ومسؤولياتهن تجاه الزوج والأولاد، وقالت 87% من
اللواتي شاركن في الاستفتاء: لو عادت عجلة التاريخ إلى الوراء لاعتبرنا المطالبة
بالمساواة مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة وقاومنا اللواتي يرفعن شعاراتها.
[جريدة الخليج، العدد: (7319) ]
العزة بالإثم!
امتنعت الدكتورة معصومة المبارك أستاذة العلوم السياسية بجامعة الكويت عن
افتتاح مقر أحد المرشحين في الانتخابات الكويتية الأخيرة وذلك نتيجة لفصل
الرجال عن النساء في الندوة التي كانت ستلقي كلمتها في افتتاحها.
[جريدة الأنباء، العدد: (8277) ]
آل جور.. والاستعداد للانتخابات
قال نائب الرئيس الأمريكي آل جور [مخاطباً اليهود] : إن واحداً من مبادئ
قلب السياسة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة لن تسمح بتهديد أمن
(إسرائيل) ، ونحن مستعدون للقيام بكل ما هو ضروري من أجل ضمان احتفاظها
بالتفوق العسكري النوعي على العرب، يجب أن تعيش (إسرائيل) في حدود آمنة
من دون خوف من الإرهاب، وتتخذ بنفسها قرارات أمنها.
منذ 25 عاماً كنت دائماً أصوّت لصالح (إسرائيل) تعبيراً عن ضميري وعن
اعتقادي بأن دعم (إسرائيل) دعم في صالح الأمن القومي الأمريكي. أنا في تحالف
معكم جميعاً.
[جريدة الخليج، العدد: (7310) ]
الولاء الحقيقي
باعتباري عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي أقسمت على أن أدعم الولايات
المتحدة، ولكن لم أحلم أبداً بأنه سيطلب مني أن أقسم على الولاء لأي حكومة
أخرى - يقصد بذلك (إسرائيل) -. لقد أصبح مثل هذا الولاء المطلب الأكثر أهمية
في الحياة الأمريكية السياسية اليوم مما كان عليه عام 1977م عندما نطق السناتور
جيمس أبو رزق بهذه الكلمات.
[مايكل بولين - مجلة قراءات، العدد (3) السنة الثالثة - نقلاً عن اللوبي الصهيوني - أوراق فلسطينية]
ما وراء الأكمة؟
حذرت المخابرات الألمانية وزارة الداخلية الاتحادية وحكومة المستشار
شرودر مما وصفته بـ (موجة إرهاب أصولي) قد تتفشى في ألمانيا خلال الأعوام
المقبلة، وحسب تقدير المخابرات الألمانية فإن الإرهاب الأصولي سيشكل خطراً
داهماً ليس على البلدان الإسلامية فحسب وإنما على الغرب أيضاً، وذكرت أن
مراقبة حركة التنظيمات الأصولية المتطرفة في الشرقين الأدنى والأوسط وشمال
إفريقيا هي الموضوع الأساس لنشاط المخابرات الألمانية اليوم.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7489) ]
أول القصيدة ( ... )
قال الرئيس الجيبوتي الجديد إسماعيل عمر جيليه: إن فرنسا التي تقوم
بحماية جيبوتي من اعتداء محتمل من جانب إرتيريا لن تخشى أن يتم استبدالها
بالولايات المتحدة، لسنا نحن الذين سيطلبون من فرنسا أن ترحل، وإننا نأمل في
بقاء العسكريين الفرنسيين على أرضنا، بل وأن يكون هناك المزيد.
[صحيفة لوفيجارو الفرنسية / مترجم]
حياة أفضل.. أين؟
أشار تقرير منظمة العفو الدولية إلى اختفاء ثلاثة آلاف رجل وامرأة في
الجزائر منذ العام 1993م بعد أن تم القبض عليهم من قِبَلِ قوات الأمن، وقالت
السلطات الجزائرية: إن المتخفين تركوا البلاد وانضموا إلى مئات الآلاف الآخرين
الذين هاجروا إلى أوروبا بحثاً عن فرص حياة أفضل.
[مجلة الشاهد السياسي، العدد: (158) ]
للنفط لا للشعب !
قال مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط:
إنه ما دام (صدام حسين) في السلطة فلن نقبل أن تكون عائدات النفط تحت سيطرته؛ لأنه سيستخدمها من أجل شراء أسلحة وتهديد شعبه.
[جريدة الأنباء، العدد: (8259) ]
لا تلوموني ولوموا أنفسكم!
من هو العالَم العربي الذي يشكو من علاقة إرتيريا بـ (إسرائيل) ، ومن الذي
لا يشكو؟ فإذا كان الفلسطينيون وهم طليعة المواجهة العربية مع (إسرائيل) قد
دخلوا في اتفاقات مع (إسرائيل) لا، وإذا كانت مصر والأردن وسواهما قد أقامت
علاقات دبلوماسية مع (إسرائيل) ، وأكثر من دولة عربية أقامت مصالح معها؟
إن الحديث عن الموقف العربي الموحد وعن العالم العربي الموحد غير
صحيح؛ لأنه -باختصار- غير موجود، كما أن الحديث عن إريتريا وكأنها تنتمي
إلى الجبهة (الإسرائيلية) مقابل الجبهة العربية هو أيضاً كلام يرفضه الواقع الإقليمي
والدولي.
[أسياس أفورقي رئيس إرتيريا، مجلة الأهرام العربي، العدد: (113) ]
العمل.. يغتصب وهو يبتسم
أثبت الباحث الفلسطيني خليل التفكجي في دارسة حول شؤون الاستيطان أن
حزب العمل وقَّع خلال فترة حكم رابين 83 مخططاً هيكلياً لبناء مستوطنات جديدة، كما صادرت حكومته 30 كيلو متراً مربعاً من الأراضي الفلسطينية لشق الشوارع
الاستيطانية، كما ارتفع عدد المستوطنين في الضفة وغزة من 105 آلاف مستوطن
إلى 145 ألفاً. وعلى العكس - على الرغم من اللغة الأكثر تشدداً - صادقت
حكومة الليكود على بناء 17 مخططاً هيكلياً لمستوطنات جديدة، وصادرت 15
كيلوا متراً مربعاً للطرق الاستيطانية، فيما زاد عدد المستوطنين بنسبة أقل في
عهدها.
[مجلة المجتمع، العدد (1352) ]
أخلاق بريطانية! !
1- استدعت الحومة البريطانية عشرات من جواسيسها العاملين في الخارج
عبد أن تم نشر أسمائهم على شبكة الأنترنت، وتبين أن 90% من الأسماء الواردة
في القائمة هي لدبلوماسيين بريطانيين عاملين في الخراج.
[جريدة الخليج، العدد: (7300) ]
2- كشفت تحقيقات هندية تورط جهاز الاستخبارات البريطانية في تهريب
أسلحة إلى إرهابيين هندوس، وضمت هذه الأسلحة بنادق آلية وقاذفات صورايخ
وأسلحة مضادة للدبابات.
[جريدة الخليج، العدد (7306) ]
عصر عمر بن عبد العزيز!
إننا نبحث عن فقراء لمنحهم الزكاة فلا نجد أحداً! ! فما دلالة ذلك؟ دلالته أن
الناس ارتفع مستواهم وهذه حقيقية، ومن صالحنا جميعاً أن نعترف بهذا، ومن
يتحدث عن خط الفقر فليأت في بهم لقد دارت في المجتمع عجلة الاقتصاد وتحركت
الأموال وتغير الكثير.
[د. إبراهيم فوزي رئيس هيئة الاستثمار المصرية، جريدة الأسبوع، العدد: (115) ]
مبادئ اليسار
أود أن أقدم اعتذاري إلى عائلات الشهداء من الجيش وأسرهم الذين قتلوا في
المعارك ضد حزب العمال الكردستاني، وأعرب لهم عن مشاطرتي لهم في أحزنهم، وأطلب منهم مسامحتي والعفو عني، أريد أن أعيش لخدمة تركيا.
[عبد الله أوجلان، جريدة الأنباء، العدد: (8775) ]
من أين لك هذا؟
بلغت قيمة ممتلكات الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو وأبنائه 15 مليار
دولار وتشمل هذه الأموال تسعة مليارات من الأموال النقدية، إلى جانب ثلاثة
ملايين هكتار من الأراضي و 564 شركة في إندونيسيا.
[جريدة الخليج، العدد: (7303) ]
من هَمّ إلى هَمّ
أصيب نحو 200 لاجئ في مخيم ألباني بتسمم بعد تناولهم لحوماً أوكرانية
منهية الصلاحية منذ 11 عاماً.
[جريدة الخليج، العدد: (7309) ]
الجهاد باق
بلغت خسائر الجيش الفلبيني في المعارك مع مسلمي جبهة تحرير مورو: 69
قتيلاً وأكثر من ثلاثين جريحاً، وتدمير دبابتين وسيارتين عسكريتين وذلك خلال
شهر واحد.
[تقرير جبهة تحرير مورو - لجنة الإعلام]
مرصد الأرقام
- قال تقرير رسمي بريطاني: إن سبعة ملايين من البريطانيين هم فعلياً
أميون؛ إذا لا يستطيعون القراءة والكتابة أو إجراء العمليات الحسابية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7423) ]
- بلغت الوفيات الشهرية للأطفال العراقيين دون سن الخامسة 6000 طفل
بعد أن كان قبل الحصار 540 طفلاً، أما الأطفال الذين تزيد أعمارهم عن 5
سنوات فقد وصلت الوفيات منهم شهرياً إلى 6800 طفل بعد أن كانت قبل الحصار
1600 طفل.
[جريدة الشعب، العدد: (1360) ]
- بلغت خسائر العراق من الحظر النفطي المفروض من قِبَلِ الأمم المتحدة
نحو 160 بليون دولار حتى نهاية شهر إبريل 1999م.
[جريدة الحياة، العدد: (3235) ]
- يصل المخزون العالمي للألغام المضادة للأفراد إلى أكثر من 250 مليون
لغم، وتحتل الصين وروسيا أكبر مخزون من هذا السلاح.
[جريدة الحياة، العدد: (1323) ]
- ذكرت إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن عدد المدخنين في العالم يقرب
من مليار ومئة مليون مدخن.
[جريدة الرياض، العدد: (11298) ]
- يمتلك الأفراد الأمريكيون أكثر من 200 مليون قطعة سلاح، ويباع سنوياً
أكثر من 7 ملايين قطعة سلاح.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7482) ]
- قالت الأمم المتحدة: إن عدد الوفيات بسبب مرض نقص المناعة المكتسبة
(الإيدز) وصل إلى 2. 3 مليون نسمة عام 1998م.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7482) ]
- يتوقع أن ترتفع ثروة أغنياء الشرق الأوسط إلى نحو 1. 2 تريليون دولار
سنة 2003م، وقد وصلت ثروة أكثر من ستة ملايين مليونير في العالم إلى نحو
21. 6 تريليون دولار نهاية عام 1998م.
[جريدة الحياة، العدد: (13219) ](140/86)
قضايا ثقافية
دور المسلمين الحضاري في تطور العلوم
أ. د. عبد الله بن عبد الله حجازي
من الخطأ أن يُظنّ أن العلم المحمود يقتصر على دراسة علوم الشريعة فقط،
وأن ما وراءها نافلة يؤديها من شاء تطوعاً، أو يتركها وليس عليه من حرج ... ! ! هذا خطأ كبير؛ فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل في هذه العلوم
في زماننا هذا لا تقل أهمية عن علوم الدين المحضة. وحسبنا أن نعلم أن الإعداد
للعدو يتطلب معرفة كل سلاح، وهذا لا يتأتى إلا إذا نفرت طائفة من المسلمين
تتفقه في العلوم الكونية.
ولم يحضّ الإسلام أتباعه على العلم وهم مكتوفو الأيدي؛ بل هيأ لهم الحرية
الفكرية التي لولاها لما كانت هذه الأعداد الكبيرة من العلماء المسلمين منهم وغير
المسلمين في شتى علوم المعرفة. والحرية الفكرية التي بسط الإسلام سلطانها ذات
دلالة بالغة فيما يخص علاقة العلم بالدين الحق؛ ذلك أنه لم يشهد تاريخ الإسلام
حادثة واحدة من حوادث القتل أو الحرق من جراء الإفصاح أو التلميح بفكرة علمية
طبيعية، مثل كروية الأرض أو دورانها أو مثل ظاهرة قوس المطر. وعلى العكس
كان الحال في أوروبا؛ فقد كان عقاب الكنيسة لمن يصرح بمثل هذه الأفكار الحرق
حياً أو الإعدام شنقاً.
هذا، ولا يخفى بالطبع أن سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا في معزل
عن العالم الخارجي من الناحية العلمية، إلا في أمور يسيرة اقتضتها ظروف
المعيشة آنذاك. لهذا فإن الإنجازات والإسهامات الهائلة التي شملت جميع فنون
العلوم والمعرفة ما كانت لتكون لولا هذا الدين العظيم دين الإسلام. ومن الصعب
أن نلم في هذه العجالة بما أنجزه المسلمون عبر القرون السابقة، وسنقصر الحديث
على الإسهامات والإنجازات التي كان لها أثرها المباشر في التقدم الحضاري
الإنساني الذي نعيشه اليوم.
إلا أنني أستبق القول، مستشهداً بما جاء على لسان جورج سارطون (ت
1375هـ = 1955م) شيخ مؤرخي العلوم - في عصرنا - في محاضرة ألقاها في
مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1370هـ = 1950م، فقد جاء فيها:
(يحاول نفر من المؤرخين أن يبخسوا قدر هذا الإنتاج العظيم بادعائهم أنه لم
يكن فيه ابتكار ما، وبأن العرب لم يكونوا سوى مقلدين ... ويبخسونه مرة ثانية
بقولهم: إن الأخذ من مصادر متعددة ليس - على كل حال - خيراً من الأخذ من
مصدر واحد. تلك طريقة في المجادلة مضللة، وخصوصاً إذا كان الكلام يتناول
الرياضيات. ثم إن الرياضيين العرب لم ينسخوا من المصادر اليونانية
والسنسكريتية نسخاً، ولو أنهم فعلوا ذلك لما جاؤوا بفائدة؛ ولكنهم جمعوا بين
المصدرين ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وإذا لم يكن هذا الذي فعله
العرب ابتكاراً، فليس في العلم إذن ابتكار على الإطلاق؛ فالابتكار العلمي في
الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد؛ وليس ثمة ابتكارات
مخلوقة من العدم) [1] .
وقد أفلح المسلمون في شتى فنون المعرفة؛ ففي مجال الصيدلة تذكر
الموسوعة البريطانية: (أن كثيراً من أسماء الأدوية وكثيراً من تراكيبها المعروفة
حتى يومنا هذا أيضاً. وفي الحقيقة فإن المبنى العام للصيدلية الحديثة - فيما عدا
التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العرب) [2] .
أما (لوبون) فيذكر أن: (الطب مدين للعرب بعقاقير كثيرة.. ومدين لهم بفن
الصيدلة وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق
واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة.. إلخ) [3] .
إلا أنه من أهم مآثر المسلمين وإنجازاتهم في ميدان الصيدلة والأدوية إدخالهما
في نظام المراقبة، خصوصاً بعدما تفشى الغش وفسدت النفوس. يرى
(القفطي) [4] و (ابن أبي أصيبعة) [5]- كلٌ في كتابه -: أن (يوسف لقوة) الكيميائي كان من أوائل من أشار على الخليفة المأمون باختبار أمانة وصدق الصيادلة. ثم كان (زكريا الطيفوري) الذي اقترح على (الإفشين) أن يمتحن الصيادلة على هذا المنوال. وبالفعل، فقد تبين للإفشين أن غالبية الصيادلة المرافقين في المعسكر غشاشون، فأمر الإفشين بإحضار جميع الصيادلة، فمن أنكر معرفة تلك الأسماء التي وضعها الإفشين أَذِنَ له بالمقام في معسكره، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى في معسكره بذلك، وكتب إلى المعتصم يلتمس بعثه إليه بصيادلة لهم أديان ومطبّبين مثل ذلك، فاستحسن المعتصم فعله ووجه إليه بمن سأل. وهكذا سُنّ امتحانُ الصيادلة منذ ذلك الوقت، في عهد المعتصم، أي منذ عام 221هـ =836، وبذلك كان المسلمون أول من أنشأ فن الصيدلة على أساس علمي سليم وأقام الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة التي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس.
ولقد أقيمت الصيدليات ملحقة بالبيمارستانات وهي المستشفيات، وأقيمت مع
المعسكر على صورة مستشفى ميداني، وكانت حافلة بكل ما يحتاجه المرضى في
البيمارستان أو في المعركة.
ولقد كُتبت في الأدوية مؤلفات لا يسعنا أن نذكر منها إلا واحداً، وهو:
(الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) لعبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار
(ت 646هـ =1248م) ، جمع فيه معلومات يونانية، وأودعه مقدمة تعكس المنهج
التجريبي الذي اتبعه في تدوين المعلومات التي جمعها؛ فقد ورد في الغرض الثاني
من وضعه الكتاب قوله: (صحة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرره عن
المتأخرين، فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لديّ بالخُبْر لا بالخَبَر ادخرته
كنزاً سرياً، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سوى الله غنياً، والتنبيه على
كل دواء وقع فيه وهْم أو غلط لمتقدم أو متأخر؛ لاعتماد أكثرهم على الصحف
والنقل، واعتمادي على التجربة والمشاهدة حسبما ذكرت من قبل) [6] .
هذا وقد كان (ابن البيطار) يعاين منابت النبات ويتحقق من هويته قبل أن
يدوّنه. أما (رشيد الدين الصوري، ت 639 هـ =1241م) ، فكان يصطحب معه
رساماً ويدرس النباتات في مواطنها وفي جميع مراحل نموها، ويتأمل هناك لون
النبات ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويُصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها [7] ، وبهذا عرف الصيادلة من أي أجزاء النبات يكون العقار أفيد وأفضل، كما عرفوا
مواعيد جمع العقاقير من النباتات وجَنْيِها وقطفها، وكيفية ادخارها.
ولقد كان للصيدلة العربية أثرها في أوروبا؛ إذ كان استيراد العقاقير العربية
أحد الأركان الأساسية للتجارة الإيطالية مع الشرق العربي، بل إن ازدهار مدينة
البندقية يعود إلى الثروات التي أمكن جمعها من بيع العقاقير العربية ذات الثمن
المرتفع.
أما في مجال الفيزياء ومجال الكيمياء، فنقتصر على الإشارة إلى: (علم
الحِيَل) أو ما يسمى الآن بـ (علم الميكانيك) وما يشتمل على القوانين الثلاثة، التي
تنسب إلى نيوتن (ت 1140 هـ = 1727م) ؛ فالقانون الأول: ويتعلق بالقصور
الذاتي أو ما يسمى (العطالة) ، ورد في كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا (ت
428هـ =1037م) ، وقد جاء فيه ما نصه: (لا يجوز أن يكون في جسم من
الأجسام قوة طبعية تحرك ذلك الجسم بلا نهاية) . [8] فهو ينفي الحركة الدائمة.
وبخصوص القانون الثاني: يذكر (هبة الله بن ملكا البغدادي، ت 560هـ =
1165م) ما نصه: (وكل حركة ففي زمان لا محالة؛ فالقوة الأشد تحرك أسرع،
وفي زمان أقصر؛ فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة، فقَصُرَ الزمان، فإذا لم
تتناهَ الشدة لم تتناهَ السرعة، وفي ذلك: أن تصير الحركة في غير زمان وأشد؛
لأن سلب الزمان (أي قطع مسافة في مدة زمنية) في السرعة نهاية ما للشدة (أي شدة
القوة) [9] .
وينص القانون الثالث: أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار، ومضاداً
له في الاتجاه، وهذا ما يُفهم من قول فخر الدين الرازي (ت 606هـ =1210م)
في معرض شرحه لكتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا: (فالحبل الذي يجذبه
جاذبان متساويا القوة إلى جهتين مختلفتين لا يخلو إما أن يقال: إنه ما فعل واحد
منهما فعلاً، وهو محال؛ لأن الذي يمنع كل واحد عن فعله هو وجود فعل الآخر،
فلو لم يصدر من كل واحد من القادرين شيء لكان الفعل متعذراً على القادر من غير
مانع؛ وإنه محال، أو يقال: فعل أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال؛ لأن
القادرين لمّا كانا متساويين، لم يكن الحكم بوجود مقدور أحدهما أوْلى من
الثاني [10] .
هذا وقد درس المسلمون الحركة في الماء وفي الهواء وفي الخلاء،
واستنبطوا (أن الجسم إذا تحرك في مسافة فكلما كان الجسم الذي في المسافة أرق
(أقل لزوجة) كانت الحركة فيه أسرع، وكلما كان أغلظ (لزجاً أكثر) كانت الحركة
فيه أبطأ) [11] .
أو بعبارة أفصح وأوضح: (لو تحركت الأجسام في الخلاء لتساوت حركة
الثقيل والخفيف والكبير والصغير) [12] ، وهذا ما توصل إليه الفيزيائيون من واقع
التجربة، وبهذا بطل الرأي الذي خلفه اليونان وساد في أوروبا طويلاً ومفاده: أن
سرعة الجسم الساقط تزداد بازدياد وزنه.
وللمسلمين باع طويل في موضوع الجاذبية الأرضية وتجاذب الأجسام بعضها
من بعض، وفي هذا نقتبس النص الآتي: (المدرة تعود إلى السفل؛ لأن بينها وبين
كلية الأرض مشابهة في الأعراض: البرودة واليبوسة والكثافة، والشيء ينجذب
إلى مثله، والأصغر ينجذب إلى الأعظم) [13] .
وقد ابتكر المسلمون الساعة المائية، والساعات ذات الأثقال التي تفننوا في
تركيبها حتى غدت أعجوبة من الأعاجيب، منها ساعة الجامع الأموي الشهيرة التي
وصفها ابن جبير في رحلته [14] ، وقد بقي ذكرها يرن طوال أربعة قرون.
إلا أن أَجَلّ ابتكار عمله المسلمون في مجال الفيزياء كان في علم البصريات
الذي طوره ابن الهيثم أبو علي الحسن البصري (429هـ = 1038م) ، وأبدع فيه
حتى أوصله إلى الأوج، وهذا ما دفع المستشرق (مايرهوف) أن يصرح، وقد
بهرته بحوث ابن الهيثم في الضوء وأثارت إعجابه قائلاً: (إن عظمة الابتكار
الإسلامي تتجلى لنا في البصريات) [15] .
وقد ثبت بالتحري والتدقيق أن (روجر بايكون) (ت 692هـ = 1292م)
وفيتلو (ت 669 هـ =1270م) ، ومن بعدهما ليوناردو دافنشي (ت 917هـ =
1519م) ثم كبلر (ت 1040هـ =1630م) الذي كان يعمل على أثر فيتلو، والذي
تنسب إليه القوانين الثلاثة في حركات الأجسام السماوية، ثبت أنهم جميعاً استفادوا
كثيراً من كتاب ابن الهيثم: (المناظر) .
وإلى ابن الهيثم ترجع الحقيقة التي يدرسها طلابنا في المدارس والجامعات
وهى أن زاويتي سقوط الضوء وانعكاسه (وهما متساويتان) تقعان في مستوى واحد، وهو أول من نقض رأي إقليدس وبطليموس [16] حين قال: إن شعاع النور
يأتي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس، وهو أول من صرح بأن الضوء
لا ينتشر إلا في زمان، وإن كان (هذا الزمان) خفياً على الحس؛ أي أن للضوء
سرعة معينة ينتشر فيها.
ولا تقلّ إنجازات المسلمين في الكيمياء عنها في الفيزياء؛ فهم الذين جعلوه
علماً يقوم على أسس مدروسة، وذلك بعد طول معاناة وطول بحث أكسبهم خبرة
ومراناً في اكتشاف مواد جديدة مثل اكتشاف حمض الكبريت [17] ، وكانوا يسمونه: (الزاج الأخضر) . ومعلوم لدى الكيميائيين في الوقت الحاضر أن تقدم الأمم
صناعياً كان يقاس إلى وقت قريب بمقدار ما تستهلك من حمض الكبريت، حتى
سُمّي: (خبز الصناعة) . واكتشفوا حمض الآزوت (النيتروجين) وكانوا يسمونه:
(ماء الفضة) أو (الماء الناري) ؛ لأنه يفصل الفضة عن الذهب. وتوصل المسلمون
إلى أن المواد إذا تفاعلت فبنسب وأوزان: (الزنجفر يتخذ من الزئبق والكبريت.
يجمعان في قوارير ويوقد عليها فيصير زنجفراً، وللنار قدر تخرجه التجربة مرة
بعد أخرى، والوزن أن تأخذ واحداً من زئبق وواحداً من كبريت) [18] .
وهذا مفاد القانون الذي ينسب إلى بروست (ت 1242هـ = 1826م) ، وقد
تُوفي بعد الخوارزمي بأكثر من تسعة قرون.
بل إن القانون الذي ينسب إلى لافوازيه (ت 1209هـ = 1974م) وإلى
بريستلي (ت1219هـ =1804م) باسم: (مصونية المادة) ، مأخوذ على ما يبدو
من كتاب (رتبة الحكيم) لمسلمة بن أحمد المجريطي (ت 398 هـ = 1007م) ،
وهذا ما حدا بغوستاف لوبون أن يقول: (قال بعض المؤلفين: إن لافوازيه هو
واضع علم الكيمياء، فنسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم - ومنها الكيمياء -
وكأنما صار ابتداعه دفعة واحدة، ومن المعلوم أنه كان عند العرب من المختبرات
ما وصلوا به إلى اكتشافات لولاها لما استطاع لافوازيه أن ينتهي إلى
اكتشافه) [19] .
بل إن روسكا الكيميائي الشهير وفيدمان الفيزيائي الكبير يربطان تطور
الكيمياء في بلاد الغرب بالكتب العربية التي تُرجمت إلى اللاتينية، وبخاصة كتب
الرازي (ت 313 هـ = 925 م) وجابر بن حيان (ت 200 هـ =815 م) ،
ويؤكد روسكا: (أن الفضل في تحويل السيمياء (وما تتضمنه من خزعبلات) إلى
شكل من أشكال العلوم المحضة - إن هذا الفضل يعود إلى الرازي، فكُتُبُه هي التي
دفعت السيميائيين في بلاد الغرب أن يسلكوا الطريق الصحيح، وكانت سبباً في
تطور الكيمياء التطور المطّرد [20] .
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أن المسلمين استثمروا خبراتهم في
الكيمياء في استخراج الذهب من التبر، وأنهم اكتسبوا خبرة في التدابير الكيميائية
كالتقطير والتصعيد والتحليل والتشويه والتشميع ... إلى آخر هذه الأعمال التجريبية، وقد أفادتهم خبرتهم هذه في استخلاص العطور من أوراق الورد والنرجس
والياسمين والزنبق وأزهار النارنج ... وغيرها [21] .
وأخيراً: لا يحسن أن يُختم موضوع الكيمياء عند المسلمين دون التعريج على
اكتشافين عظيمين أنجزهما المسلمون، وكان لهما دور خطير جداً في حياة الإنسان
وتقدّم العلوم وتطورها المذهل بجميع فروعها.
أما الاكتشاف الأول فهو: اختراع البارود الذي عُزي في أول الأمر إلى
روجر بايكون، وثبت فيما بعد - نتيجة البحث والدراسة التي قام بها مسيو رينوا
ومسيو فافيه: (أن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود واستعملوه في النار
الصناعية.. وأن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة، أي أن العرب هم
الذين اخترعوا الأسلحة النارية) [22] .
وأما الاكتشاف الخطير الآخر فهو: التطور الهائل الذي أصاب اختراع
الورق [23] ، فلقد أحدث القرنان الثالث والرابع الهجريان انقلاباً عظيماً في صناعة الورق، محرراً مادة الكتابة من احتكار بلد من البلاد له، واستئثارها به، وصيره رخيصاً جداً. وكان الناس - طوال استعمالهم للبردي - يعتمدون على مصر. أما في النصف الأول من القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي، فقد عطلت كواغيدُ سمرقند - كما يذكر الثعالبي - قراطيسَ مصر، والجلودَ التي كان الأوائل يكتبون عليها؛ لأنها أحسن وأنعم وأرفق وأوفق، ولا تكون إلا بسمرقند والصين. وكان أجود الورق آنذاك هو الكاغد الذي نقلت صناعته من الصين وناله على أيدي المسلمين تطوير مهم، فكان حدثاً عظيماً في تاريخ العالم؛ فلقد كان الأوروبيون يكتبون على الرقوق، وكان غلاء أسعارها مانعاً من توافر المخطوطات فيها، ونشأ عن ندرتها أن تعوّد الرهبان حَكّ كتب كبار المؤلفين من اليونان والرومان ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية [24] .
وبينما كانت صناعة الورق تقتصر في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، على بلاد ما وراء النهر فقط، انتشرت مصانع الورق في القرن الرابع، بفضل
التطوير والتحسين الذي قام به المسلمون في كلٍ من: دمشق، وطبرية، وطرابلس
الشام، وبلغت جودة الكاغد في القرن السادس الهجري بمدينة شاطبة بالأندلس
مرحلة لم يكن لها نظير بمعمور الأرض؛ فضلاً عن ذلك؛ فقد عم المشارق
والمغارب.
هذا، وانتقلت صناعة الورق الراقية من العالم الإسلامي إلى أوروبا إثر
الحروب الصليبية؛ فقد تعلمها أسير صليبي عند المسلمين ونقلها إلى فرنسا ومنها
انتقلت إلى أنحاء أوروبا.
ولسائل أن يسأل: لقد كان التراث الإسلامي الضخم في العلوم الكونية والطب
نتيجة جهود أعداد غفيرة من العاملين في هذه المجالات. ومنهم: البر والفاجر،
والمؤمن والكافر، ومنهم: المسلم واليهودي، والنصراني والمجوسي، فما الذي
يجعله تراثاً إسلامياًَ؟
أَجَلْ، إن هذا ما كان فعلاً؛ غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها أنه لو لم يكن
- في ذلك العهد - للإسلام سلطانه على الحياة العامة، ولو لم يبسط الإسلام سماحته
على الناس جميعاً، ولو لم يهيئ المناخ الخصب للإبداع والابتكار لكل من عاش في
ظل سلطانه ... لولا ذلك لما تمكن هؤلاء وهؤلاء من أن ينجزوا ما أنجزوا.. دعك
من فرار النساطرة والمفكرين من مدرسة الرها، ومن المدرسة الأفلاطونية في أثينا، ومن مدرسة الإسكندرية التي أغلقها جستنيان. دعك من هؤلاء جميعاً؛ فإن
فرارهم من ملاحقة السلطان الروماني والكنيسة كان قبل ظهور الإسلام بأكثر من
قرن ... لكن ما بال حوادث البطش والتنكيل والقتل والحرق التي كانت شريعةَ
الكنيسةِ إزاء العلماء والمفكرين إبان القرون الوسطى الأوروبية؟ أي إبان كانت
سُرُجُ العلماء والمصنفين والمفكرين في البلاد التي حكمها الإسلام لا تنطفئ في
طول البلاد وعرضها.
فقد روى لنا التاريخ الذي كتبه الأوروبيون أنفسهم أن عدد الذين أُحرقوا وهم
أحياء في أوروبا وحدها، خلال ثمانية عشر عاماً، وذلك ما بين عام 886 هـ =
1481م وعام 905 هـ =1499م، بلغ عشرة آلاف ومائتين وعشرين شخصاً،
وشُنق خلال المدة نفسها ستة آلاف وثمانمائة وستون فرداً، وكان من بين من أعدم
ثم أحرقت جثته العالم الفيزيائي (برونو) ، بتهمة أنه يؤمن بتعداد العوالم! ولا تخفى
على أحد قصة العالم الفيزيائي (غاليليو) ؛ فقد حكم عليه بالإعدام بتهمة أنه يؤمن
بدوران الأرض حول الشمس، ولم يَحُلْ دون التنفيذ إلا تظاهره بالتراجع أو النزول
على رأي الكنيسة، أما العالم (دي رومنس) فقد أُودع السجن حتى وافاه الأجل فيه،
ثم أُخذت جثته وكُتُبه وحوكمتا، وصدر عليهما الحكم بالحرق؛ ذلك لأنه صرّح بأن
قوس المطر ليست قوساً حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إذا أراد، بل هي نتيجة
انعكاس ضوء الشمس على بخار الماء في الهواء.
والطريف أن ابن الهيثم، قبل دي رومنس بمئات السنين، لم يصرح بما
صرح به دي رومنس بخصوص قوس المطر فحسب، بل كتب رسالة بعنوان:
(قوس قزح والهالة) لا تزال تُقرأ حتى يومنا هذا، ولم ينل ابن الهيثم أذى، بل
استحق الإكبار والإعجاب.
والحق أن الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من الجهل والضلال ونقله إلى
العلم والهدى لأسمى من أن يُهين الإنسان، وكتاب الإسلام الأعظم يقول:
[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] [الإسراء: 70] .
__________
(1) الثقافة العربية في رعاية الشرق الأوسط، جورج سارطون، ترجمة عمر فروخ، ط 1، بيروت 1372هـ 1952م، منشورات مكتبة المعارف، ص 51.
(2) أثر العرب في الحضارة الأوروبية، جلال مظهر، دار الرائد، بيروت، ط 1، 1967م،
ص 271.
(3) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
ط 3، 1399هـ 1979م، ص 594 - 595.
(4) تاريخ الحكماء، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي، مكتبة المثنى ببغداد،
ص 188.
(5) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965م،
ص 224 - 225.
(6) الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، ضياء الدين عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي المعروف بابن البيطار، مكتبة المثنى، بغداد، ج 1، ص3.
(7) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965م،
ص 703.
(8) الإشارات والتنبيهات، لأبي علي بن سينا، ذخائر العرب 22، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، 1958م، القسمان 3، 4، ص 602.
(9) المعتبر في الحكمة، هبة الله بن ملكا البغدادي، حيدر آباد الدكن، جمعية دائرة المعارف
العثمانية، 1357 - 1358هـ، ص 85.
(10) تراث العرب في الميكانيكا، جلال شوقي، عالم الكتب، القاهرة، 1973م، ص 72 - 73.
(11) المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، محمد بن عمر بن الحسين الرازي المشهور بفخر الدين الرازي، حيدر آباد الدكن، مطبعة دائرة المعارف النظامية، 1343 هـ، ص 232.
(12) المعتبر في الحكمة، هبة الله بن ملكا البغدادي، حيدر آباد الدكن، جمعية دائرة المعارف العثمانية، 1357 - 1358هـ، ص 49.
(13) شرح الإشارات والتنبيهات (المصدر العاشر) للإمام الرازي (الفصل السادس من النمط الثاني) .
(14) رحلة ابن جبير، دار التراث، بيروت، 1388هـ - 1968م، ص 218 - 219.
(15) تراث الإسلام، سير توماس أرنولد، دار الطليعة، ط 2، 1972م، ترجمة جرجيس فتح الله.
(16) أعلام العرب 85، الحسن بن الهيثم، تأليف أحمد سعيد الدمرداش، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1969م، ص 133.
(17) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
ط3، 1399هـ - 1979م، ص 573.
(18) مفاتيح العلوم، محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي (ت 387 هـ - 997م) ، مطبعة الشرق، القاهرة، 1342هـ، ص 149.
(19) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1399هـ - 1979م، ص 573.
(20) Al-Razi's Buch, Geheimnis der Gehemnisse von Julius Ruska, Berlin, Verlag von Julius Springer, P 13,1937.
(21) كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، مكتبة المثنى، بغداد، 1864م، تحقيق أف مهران A F Mehren، ص 196 198.
(22) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
ط3، 1399 هـ = 1979م، ص 578، انظر كذلك Sarton: Intorduction to the History of Science, Vol II, P II ص 767، ص 1040 حيث ذكر أن حسن الرماح السوري كتب في الثلث الأخير من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) كتاباً في الناريات Pyrotechnics (يوجد منه نسختان عربيتان فقط، في باريس) ، ربما كان المصدر الذي أخذ عنه الأوروبيون.
(23) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام، آدم متز، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده، م2، ص 365، وما بعدها، ط 4، 1387 هـ - 1967م، بيروت وانظر أيضاً: Ulmanns Encyklopadie der technischen Chemie Bd 17, 578 (1979) .
(24) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
ط 3، 1399هـ - 1979م، ص 580، انظر كذلك\ Allahs Sonne uber dem Abendland, Unser arabisches Erbe, Sigrid Hunke, Deutsche Verlags - stalt GmbH, Stuttgart, (1960) .(140/90)
في دائرة الضوء
حاجتنا إلى التفكير الإبداعي
محمد أحمد الزهراني
لا شك أن الاهتمام بموضوع التفكير هو من الاهتمامات المطلوبة شرعاً.
والتفكير الإبداعي بخاصة هو مما ينبغي أن توليه جماعات أهل السنة وأفرادهم
اهتماماً كبيراً وخاصة في وقتنا الحاضر.
تشير بعض الدراسات إلى أن معارفنا التقنية والفنية والتدريبية تشكل فقط 15% من مجموع معارفنا، أما الـ 85% الباقية فإن الأمور والصفات الشخصية فينا
هي التي تمثلها: كالحماس، والهدوء، واللياقة، والإبداع، والرفق، والتصميم،
والشجاعة ... إلخ. ولذلك؛ فإن رؤية الأشياء على حقيقتها ليست دائماً بالبساطة
التي نفترضها؛ حيث إن كلاً منا يبني تصوره للأمور في حدود عالمه وقدرات
حسه وعقله.
ونتيجة لما سبق: فإن ما ستحصل عليه هو نتاج ما تفكر فيه فقط.
الإبداع مقصود في هذا الدين:
لقد حرص الإسلام على تحرير العقول وتجردها من المؤثرات السابقة القائمة
على الظنون والأهواء والتقليد الأعمى الذي وُرِثَ عن الآباء والأجداد دون وعي أو
تمييز؛ قال - تعالى -: [وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أََنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أََلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أََوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ] [البقرة: 170] ، وعن
حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا
تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا
أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن اساؤوا فلا تظلموا) [1] .
وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي وهب الجشمي كما عند
أحمد وأبي داود [2] : (أصدق الأسماء حارث وهمام) .
وقد قيل: ليس الإخبار عن صدق الاسم في ذاته، وإنما صدقه من مطابقته
لحال صاحبه الذي هو المسمى به أياً كان، فإن كل إنسان حارث أي: صاحب
حرث وعمل، وكل إنسان همّام أي صاحب تفكير في شأنه وأمره، وهذا الحديث
دليل على أن الجميع يفكر.
التعريف بعملية التفكير وكيف تحدث:
إن جسم الإنسان كل لا يتجزأ؛ لكن تقدم العلوم يكاد أن يجعل العقل غير
الجسم، بل يقسم العقل إلى أكثر من قسم، والذي يهمنا هنا هو أن العملية الذهنية
(والتي هي عملية افتراضية وضعت لتوضيح الأدوار الوظيفية في العقل) تنقسم إلى
ثلاثة أقسام هي: الوعي أو (العقل الواعي) ، واللاوعي أو (العقل الباطن) ،
واللاوعي الابتكاري.
1 - فالعقل الواعي هو الذي يقوم بوظائف منها: إدراك البيئة المحيطة وما
فيها من معلومات تهم الفرد واتخاذ القرار المناسب لمصلحة الفرد بناءً على هذه
المعلومات، ثم تقييم القرارات والتصرفات وربطها بما يستجد من المعلومات.
2 - أما العقل الباطن أو (اللاوعي) فهو جزء من العقل، ووظائفه هي:
- التحكم في الوظائف التلقائية في الجسم (اللاإرادية) مثل: ضربات القلب،
والتنفس، وإفراز الغدد ... إلخ التي تعمل في وقت غياب الوعي بنوم أو إغماء أو
غيرهما.
- تخزين كل ما يحدث للفرد ويعرفه في صورة (ذاكرة) باعتبارها جزءً من
هذه المقدرة على التخزين؛ فإن باستطاعة العقل الباطن دفع أفعال الفرد وأفكاره
بصورة تلقائية أو مبرمجة في أنماط من الفعل تسمى: (العادات الفردية) .
والعقل الباطن يجمع كل ما يأتيه من المعلومات عن طريق (العقل الواعي)
ولا يميز بين ما ينبغي رفضه أو لا ينبغي.
3 - وهناك اللاوعي الابتكاري: وتعد وظائفه من أهم مراحل العملية الفكرية
وهي:
- الحفاظ على العقل من الجنون؛ حيث إنه يشعر بجميع حالات الضغط
والتوتر والاضطراب العاطفي التي قد تسبب الإزعاج، فيقوم بالتخفيف من آثارها
على الصحة العقلية بتحويل هذه الحالات إلى أفكار ذات مغزى.
- حل المعضلات بطرق مبتكرة سريعة.
- إيجاد الدوافع القوية والمستمرة لتنفيذ أمرها.
- ابتكار الأساليب والوسائل التي تعين على تحقيق الهدف.
إن كثيراً من الأفكار التي ترد على العقل لأول مرة لا تتكون كلها في مستوى
الوعي، بل تقفز من اللاوعي كما لو أنها ولدت لتوّها.
وعندما يحرر الوعي نفسه من السؤال المطروح أو المشكلة التي أعجزه حلها
تنفجر الأفكار المبتكرة. ومع ذلك فإن تلك الأفكار المبتكرة لا تكون في حيز الوجود
إلا بعد أن يبدأ العقل الواعي في الاهتمام بالمشكلة وحلها لكي يشغل ملكة الإلهام لديه، ويجعلها تعمل بعد إحاطته بكل حقائق الحالة ومعطياتها ودراسة جميع الخيارات
المتاحة، ثم يسترخي العقل الواعي تاركاً خيال اللاوعي يشرع في العمل.
وبهذا؛ فإنك تعطي (الآلية الإبداعية) في ذاتك فرصة لتبدأ العمل، وستخوض
هي تلقائياً في المعطيات المتوفرة في اللاوعي لتخرج بالحل المناسب لتلك المعضلة، وأحياناً وأنت تفكر في الحل أو تكون مشغولاً بغيره تجد أن عقلك الواعي قد تسلّم
الزمام فُجاءة وأعطاك الحل [3] .
ولعلنا نعرّف هنا ما يسمى بالإبداع؛ لأن الذي نريده هو الفكر الإبداعي:
فالإبداع: هو الإتيان بشيء جديد على غير مثال سابق؛ فعندما تواجه المبدعَ
مسألةٌ نظرية أو عملية يبدأ في إعمال فكره في إيجاد حل لها، وقد يكون لها حل
متعارف عليه؛ لكنه لا يقنع به ويبحث عن حل أفضل، ومع الإصرار وإجالة
الفكر والتأمل ينقدح في ذهنه حل للمسألة القائمة قد يكون فتحاً لمن بعده [4] .
ومعظم الباحثين يرون أن الإبداع هو: تحقيق إنتاج جديد ذي قيمة من أجل المجتمع، وهو النشاط الفردي أو الجماعي الذي يقود إلى إنتاج يتصف بالأصالة والقيمة
والجدة والفائدة من أجل المجتمع. وبمعناه العام فهو إيجاد حلول جديدة للأفكار
والمشكلات والمناهج [5] .
والتفكير الإبداعي: هو التفكير الذي يسعى إلى حل المشكلات والإجابة عن
التساؤلات بطريقة بديعة مبتكرة. والتفكير الإبداعي هو أن تسعى للحصول على
أبكار الأفكار التي لم تُسبق إليها، وإن كان لا يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفكار
كبيرة ومعقدة؛ بل المهم أن تساعد في حل مشكلة مهما صغرت هذه المشكلة [6] .
إن على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنه ما من ظرف أو حالة أو موضوع
... إلا ويمكن إدخال شيء من الإصلاح عليه بإكثار ما فيه من الخير والفائدة وتقليل
ما فيه من الضرر.
إن إدخال مثل هذا الاعتقاد في مُرَكّبنا العقلي ضروري جداً لمقاومة سلسلة
الإحباطات التي تواجه المسلم في حياته [7] .
ونحن تشتد حاجتنا إلى التفكير والإبداع؛ لأننا في مجتمع تعوّد الرتابة وتعود
أن يتلقى الأشياء وأحياناً الأفكار معلبة وجاهزة.
ولكن كيف السبيل إلى تحسين التفكير وتربية الإبداع؟ وما هي معوقات ذلك؟
سنتعرض أولاً لإنتاج الفكرة الجديدة، ثم نتعرف على بعض عوائق الإبداع،
ثم كيف نعلم الآخرين التفكير؟ وكيف نطوره ونرفع مستواه؟
إنتاج الفكرة الجديدة:
وذلك إما بالتعامل مع الأفكار القديمة وإما بإنتاج فكرة جديدة بالكلية:
أولاً: بالتعامل مع الأفكار القديمة؛ وذلك بإحدى الطرق الآتية [8] :
1 - الاستعارة: وهي أن يستعير الإنسان فكرة موجودة ومطبقة في مجال من
المجالات، فيستخدمها في مجال جديد تكون فيه نافعة، وتحل مشكلة كانت موجودة
من قبل في هذا المجال.
ومثالها: توظيف شبكة الإنترنت وغيرها من شبكات المعلومات للتعريف
بالإسلام والدعوة إليه.
2 - الإضافة: وهي أن يأتي بفكرة قائمة مطبقة لكن فيها نقص أو ثغرة،
فيضيف إليها ما يسد هذا النقص ويجعلها أكثر عملية وأعم فائدة وهو التطوير.
ومثالها: ما يذكر من تطوير وسائل النقل أو الأدوية أو الاتصال ونحو ذلك.
3 - الجمع والمزج: وذلك بأن نأتي لفكرتين ونمزج بينهما لنخرج بفكرة
مركبة ثالثة نحل بها إشكالاً كان قائماً.
ومثالها: لو طرحت مشكلة في وضع دعويّ مّا، واقترح اثنان حلين مختلفين، فجاء ثالث وجمع بين الحلين ومزجهما وإن حذف بعض جزيئاتهما.
4 - التعديل: بأن نأتي إلى فكرة قائمة نعدل فيها ونهذبها بحيث تناسب
وضعاً آخر.
ومثاله: بعض الدعاة رأى صفحات التعارف في المجلات تعج بأسماء عديدة
فاستغل هذه الفكرة في الدعوة إلى الله فكانت النتائج باهرة.
ثانياً: قد يكون إنتاج الأفكار الجديدة مستقلاً عن الفكرة القديمة وناتجاً عن
الشعور بالمشكلة والمعرفة بما يدور حولها.
- ولا يشترط في الفكرة الإبداعية أن تكون مركبة ومعقدة بحيث لا يستطيع
إبداعها إلا من كان صاحب تأهيل علمي في ذلك المجال؛ بل إن الأمر من السهولة
بحيث يتعجب بعض من يراها كيف لم يتفطن لها من قبل؟
يذكر أن شاحنة عالية دخلت تحت جسر فالتحم أعلاها بالجسر بحيث لا يمكن
تحركها دون أن يتأثر الجسر؛ وفي أثناء حيرة رجال الإنقاذ في كيفية إخراجها تقدم
طفل صغير إلى أحد رجال الشرطة وهو يستفسر عن سبب الحيرة، وعندما أخبره
رد عليه الطفل بسرعة قائلاً: فرّغوا إطارات الشاحنة من الهواء. وكان ذلك هو
الحل الوحيد.
أما السؤال المحتمل وروده هنا فهو: هل للإبداع علاقة بالذكاء؟
والذي عليه أكثر الباحثين في هذا الباب من علماء النفس والاجتماع [9] أن
الذكاء ليس لازماً للإبداع وإن كان مؤثراً فيه. ويمكن القول: إنه لا صلة مباشرة
بين الذكاء والإبداع.
من عوائق الإبداع في التفكير:
1 - عدم التعود على التفكير.
2 - عدم تخصيص أوقات للتفكير غير أوقات العمل والجهد البدني.
3 - التفكير وقت الإرهاق والتعب الجسمي أو في وقت النعاس مثلاً. وهنا
يذكر أن أنسب الأوقات هو وقت ما بعد النوم الكافي لحاجة الجسم.
4 - عدم حل المشكلات وتصورها تصوراً دقيقاً، وغموض بعض جوانب
المشكلات، والنظر إليها بنظرة من جهة واحدة، أو قل: عدم النظرة الشمولية
للمشكلة.
5 - الظن أن الفكرة الإبداعية لا بد أن تكون جديدة من أصلها؛ وهذا أمر
خاطئ.
6 - الظن بأن الإبداع إنما هو من نصيب الأذكياء والموهوبين.
7 - الخوف من الإخفاق ولن يكون مبدعاً من لم يكن شجاعاً في تفكيره.
والانهزام المؤقت ليس إخفاقاً. وقد قيل: لولا المشقة لساد الناس كلهم.
8 - وكذلك إلزام الإنسان نفسه التفكير بقيود سابقة أو بالطريقة التي يفكر بها
الناس.
يذكر أن إديسون اخترع المصباح الكهربائي بعد أن أجرى أكثر من ألف
تجربة غير ناجحة.
وأن ابن سينا قال: قرأت كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو فما فهمته حتى
قرأته أربعين مرة [10] .
ويكاد المبدعون أن يجمعوا أنهم واجهوا في بداياتهم إحباطات وصعوبات
وإخفاقات كادت أن تقعدهم عن الاستمرار.
كيف نعلّم الآخرين التفكير السليم؟
لا بد من الإشارة إلى تفاوت الناس في قدراتهم العقلية، وإلى تأثر مستوى
التفكير أحياناً بالبيئة النفسية والاجتماعية؛ ولكنْ هناك أمور يمكن بها أن يتقدم
تفكير الإنسان كثيراً بالاتجاه الصحيح: فمن ذلك:
1 - تعليم الآخرين ما هو الثابت في حياتنا وما هو المتغير، والقابل للتحويل
من أمورنا وعاداتنا.
2 - تعويدهم الانتباه والنظر للمضار والمنافع لكل ما هم مقدمون عليه.
مثل: تنبيه الأطفال إلى مضار اللعب في الشمس المحرقة أو الجلوس فيها؛
وهو أمر يجعلهم يقتنعون بترك هذا الفعل فيما بعدُ بلا نهي عنه.
3 - تعويدهم النظر في البدائل عن الأمر الذي يريدونه إن كان ضاراً، أو أن
غيره أنفع منه.
مثل: تفضيل لعبة نافعة على أخرى ليس فيها فائدة.
4 - التعويد على النظر في جميع العوامل المحيطة بالموقف، وأخذها بعين
الاعتبار قبل إصدار أي حكم.
5 - تركهم ليتخذوا بعض القرارات بأنفسهم تدريجاً مما يجعلهم أكثر تحرياً
للأصوب ونظراً في عواقب الأمور.
6 - تشجيعهم على ما يفعلونه من صواب، والثناء عليهم وإعانتهم عند الخطأ، والتخفيف من الشعور بالإخفاق.
7 - ربطهم بالله، وأن التوفيق من عنده - سبحانه -، والسعيد من وفقه الله
بسبب علاقته بربه قال - تعالى -: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً]
[الطلاق: 2] وإن العلماء كان ذلك منهجهم؛ فقد كان شيخ الإسلام إذا استغلقت عليه مسألة بقي يستغفر الله حتى يفتح الله عليه.
كيف نحسن التفكير؟
بما أن قدراتنا العقلية على التحليل والتركيب وإدراك المترابطات متفاوتة؛
فإن عمليات تحسين التفكير تؤدي إلى نجاحات متفاوتة.
ولكن الذي يراه كثير من العلماء هو أن مستوى التربية الاجتماعية وثراء
المناخ العام أكثر تحكماً في تطوير التفكير وتحسينه من تأثير القدرات الخاصة.
وهذا أمر يجعل إمكانات تحسن التفكير أكبر مساحة وأسهل تحقيقاً.
ومن أهم الأمور التي تساعد على تحسين التفكير:
1- صرف وقت خاص له في حل مشكلة أو تطوير وضعٍ مّا، أو الاستفادة
من طاقةٍ مّا.
وحاول أن تجعل خطواتك العملية الصحيحة عادات تسير عليها لتصبح ضمن
برنامجك اليومي.
2- أطلق لنفسك العنان في التفكير؛ فإنه لا بد للمفكر من الخيال الواسع،
ولا تحتقر أي فكرة في مجالٍ مّا مهما بدا أنها بعيدة أو صعبة التنفيذ.
3- محاولة النظر إلى كل أمر أو مشكلة نظرة شمولية واسعة تعين على
المعرفة الصحيحة التي هي مفتاح كل عقدة وبداية لحل كل معضلة.
الإبداع والتغيير:
إن كثيراً من الناس لم يعرف حتى الآن قدرات عقله ولم يستفد منها كما يجب، وذلك ربما يعود لجهل هؤلاء الناس بخصائص ومزايا هذا الجهاز العظيم الذي
يسمى المخ، ولقناعتهم بالحد الأدنى من الاستفادة منه وهو ما ليس من صفات
العظماء والعباقرة على الإطلاق.
إن على المصلحين أن يعرفوا أن بداية الرقي في سلم الكمال وبداية السير في
الطريق الصحيح تكون بأمورٍ منها [11] :
1- الشعور بأننا مهما حسن حالنا وتعدل تفكيرنا أنا لسنا في آخر مراقيه.
وعلينا أن ندرك أن التفكير الذي هو للتغيير ليس درساً نحفظه ولا نصائح نسمعها
من هذا وذاك؛ بل إن هناك من العقبات في أنفسنا وواقعنا الكثير الذي يحتاج إلى
التفكير للتغيير والحل.
2- أن نعرف أن التفكير الذي نريده الآن هو إرادة وقدرة:
- إرادة تساعدنا على تجاوز العقبات، وترك الكسل والخمول وحب الرتابة
والبقاء على ما كان عليه من قبلنا.
- وقدرة تعني إدراكنا لما ينبغي أن يثبت في هذا الوجود؛ فلا يتحول أبداً،
وإدراكنا لما ينبغي أن يتغير فلا يثبت أبداً.
3- ولا بد من الاطلاع والتعمق في الدراسات التاريخية والاجتماعية والنفسية؛ حيث تكشف لنا السنن التاريخية عن سنن الله في قيام الحضارات والدول وأُفولها؛ والذي معناه تمييز المقدمات من النتائج وسلسلة المتغيرات بينهما؛ والذي معناه
فهم النتائج برؤية المقدمات لمن وفقه الله - تعالى -.
وتُطلِعُنا الدراسات الاجتماعية على السنن التي تحكم اجتماع الإنسان مع
الإنسان، وما يحكم الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها؛ وذلك يجنبنا كثيراً
من التعسفات في تعاملنا مع تلك الظواهر وتعيننا على أن تكون الحلول والأحكام
أقرب إلى المنطق والواقع وأكثر قبولاً عند الناس والمدعوين.
وأما الدراسات النفسية فهي ضرورية لمعرفة الظروف الشخصية لأصحاب
الأفكار الصادة من حيث المكونات والدوافع وردود الأفعال.
4- ولا بد من الانفتاح الذي يساعد في تكوين العقل والوعي بكل قضية
بحجمها الحقيقي ليتخذ بشأنها القرار الصحيح.
5- ثم إنه لا بد أيضاً لكي نكون أصحاب فكر تجديدي ألا نُصغي لكل ما هو
شائع من أفكار وآراء وعادات؛ لأن كثيراً منه لا يكون شائعاً نتيجة جدارة ذاتية؛
فهناك سلطان اسمه: سلطان القديم؛ حيث يميل أكثر الناس إلى منح كل قديم مكانة
خاصة.
ثم هنا نظرة إلى بعض ما ينبغي أن نفكر في تغييره:
- فمن ذلك ما يخص الدعاة في أوضاعهم وأحوالهم.
- وما يخص المجتمع من حولنا وطريقة إصلاحنا له ...
وكلا القسمين يحتاج إلى تفكير.
إن التفكير في التغيير الذي نريد ينبغي أن يشمل كثيراً مما في أنفسنا نحن -
أهلَ السنة - وتجمعاتنا وأفكارنا مما لا يرضاه منهج أهل السنة.
وبعد ذلك؛ فإن صدق الرغبة في التغيير عند المصلحين تقتضي قوة المراجعة
والنقد البنّاء الذي يبنى على فكر صحيح يشخّص الداء ويصف الدواء، وعليهم إزاء
ذلك ألا يعيقوا تفكيرهم بآراء خاطئة سابقة ربما تُسقِط بعضَ الإمكانات المتاحة لحل
معضلةٍ مّا أو تغيير أمرٍ من الأمور.
إن لمعة الفكر هي التي تقود العمل.
والفكر المقلّد لا يقود؛ بل يشطح أو تصل حلوله متأخرة وناقصة؛ وإنما
الفكر الاجتهادي الإبداعي هو الذي يقود ويدق باب المستقبل [12] .
إن انطلاق أهل السنة والجماعة لاستيعاب لغة العصر وعلومه وثقافته،
وامتلاك أسباب القوة المادية في جميع المجالات ومنها قوة التفكير في التغيير في
الناس والمجتمعات ما زال فريضة شرعية شبه غائبة قبل أن يكون واجباً عقلياً أو
حتمية تاريخية.
وعلى أهل السنة قبل غيرهم أن يتوافقوا مع سنن الله الكونية، وأن يعملوا بها
بدلاً من إهدار طاقاتهم ووقتهم بعيداً عن ذلك [13] .
الدعاة والمصلحون اليوم بحاجة إلى مرونة في الذهن، وقوة التفكير في
التغيير ولكن بدقة ومرونة تميز بين المصالح والمفاسد ... مرونة كتلك التي علّمت
الخضر - عليه السلام - كيف يوازن بين الإبقاء على سفينة المساكين المعيبة وبين
ذهابها بالكلية.
أما ما يخص التفكير في إصلاح المجتمع: فإنه لا زال أكثر الناس تتحكم فيهم
غريزة القطيع (التقليد) وهو السير مع الآخرين دون تحديد غاية، فتكثر الأخطاء
والخسائر.
أما نحن؛ فنحتاج إلى نظر جديد وفكر جديد يسد الثغرات القائمة في العمل
الإسلامي.
وبداية كل ذلك أن يجلس الدعاة ويعكفوا الساعات الطوال والليالي ذوات العدد
على التفكير في السبيل الأحكم والأسلم لهذا التغيير المنشود مستعينين في كل ذلك
قبله وبعده بساعات الثلث الأخير من الليل وطلب العون ممن له الأمر من قبلُ ومن
بعدُ وإليه ترجع الأمور.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
__________
(1) الترمذي في البر والصلة، ح /2007.
(2) أحمد (4 - 345) وأبو داود (أدب 61) .
(3) الإنسان والتفكير الإيجابي، ص 99.
(4) طريق النجاح، ص 11 - 15.
(5) الإبداع العام والخاص، د ألكسندر روشكا.
(6) طريق النجاح، ص 11 - 15.
(7) فصول، ص 27 بتصرف.
(8) طريق النجاح، ص 5.
(9) الإبداع وتربيته، ص 108.
(10) فصول، ص 38.
(11) فصول 273 بتصرف.
(12) صناعة الحياة، 95.
(13) بتصرف من: معالم الانطلاقة الكبرى.(140/100)
مصطلحات ومفاهيم
التنوير
د. محمد يحيى
شاع مصطلح (التنوير) ومشتقاته من استنارة ومستنير وما أشبه في طروحات
العلمانيين في الآونة الأخيرة، وقُذِف في وجه أصحاب الفكر الديني الإسلامي الذين
وُصفوا بمفهوم المخالفة - بالظلاميين وما شابهه من النعوت. وكاد المصطلح من
كثرة ما لاكته الألسنة أن يفقد أي معنى؛ بل لعله فقده بالفعل وتحوّل إلى لفظ من
ألفاظ الاستحسان والمجاملة التي تطلق على الأشخاص المراد مدحهم، أو تعلق على
الأفكار على سبيل التفخيم والتعظيم دون أن يكون له نصيب من المضمون والمعنى. وأدى هذا التطور بنفر من الإسلاميين إلى كراهية هذا المصطلح ورفضه مما
صب في نهاية الأمر في خانة أعداء الإسلام الذين هللوا للعثور على دليل جديد بأن
الإسلام لا يحب (النور) ويفضل الظلام والجهل والتخلف؛ بينما راح نفر آخر من
الإسلاميين يحاول التأكيد على أن الإسلام هو دين التنوير في جوهره ووفق مفهومه
هو للتنوير.
وفي خضم هذه المعركة الفكرية المشتبهة الملتبسة غاب عن الأذهان إلى حد
بعيد (أصل التنوير) باعتباره اسماً أطلق على مذهب، أو تياراً فكرياً فلسفياً محدداً
ساد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في فرنسا (وكان له الدور البعيد في
التمهيد للثورة على الملكية في ذلك البلد، ثم في الثورة الأمريكية التي تزامنت معها
تقريباً ضد الإنجليز) كما كان له فرع إنجليزي في الفترة نفسها تقريباً في فلسفات
العقلانية الإنجليزية والمذهب المعروف (بالألوهي) في العقيدة الدينية (المسيحية)
وهو الذي أطلق عليه اسم: (الدين العقلاني) .
وبصرف النظر عن التفاصيل والأسماء التاريخية الكثيرة المحيطة بهذا
المصطلح أو التيار الفكري (فولتير والموسوعيين الفرنسيين ويرأسهم ديديرو، أو
شافتسبري في إنجلترا ومعه جون لوك أو هوبز وأخيراً بركلي) فإن مما يغيب عن
الأذهان كذلك أن التنوير بالمعنى الدقيق في جوهره ارتبط بفكرتين أساسيتين قبل أن
تضاف إليه في الغرب ثم عندنا عشراتُ الأفكار الفرعية التي قد لا ترتبط بأصله
التاريخي ارتباطاً مباشراً. وهاتان الفكرتان الأساسيتان هما: العقلانية، ومحاربة
الخرافة والجهل التي ربطها أصحاب التنوير بالعقيدة المسيحية السائدة في الغرب
في ذلك الوقت وبالأصح بالكنائس هناك وممارساتها المختلفة. وهذه الفكرة هي ما
لخصت في تاريخ الفكر بعبارة: (العداء للكهنوت) .
والواقع أن العقلانية والعداء للكهنوت مرتبطان منطقياً وعضوياً في إطار فكر
عصر التنوير (وهو يسمى في اللغة الفرنسية (تفجر الأنوار) نسبة إلى كوكبة من
رجال الفكر المرموقين ذوي الأفكار العقلانية المتشابهة الذين ازدهروا هناك في
منتصف القرن الثامن عشر) ، لأن الفكرة العقلية تؤدي في حال الإيمان بها إلى
فضح المعتقدات والممارسات الكنسية التي لا تتسق مع العقل التي تنم عن الخرافة
والجهل اللذيْن يكرسهما الكهنوت الكنسي لخدمة مصالحه المادية وتعلقه بالنفوذ
الدنيوي.
مفهوم العقل إذن واتجاه (العقلانية) هو جوهر تيار أو فكر التنوير في أصله
الغربي؛ ولكن مفهوم العقل ذاته هو مفهوم خاص تشكل من عدة عناصر أو
توجهات نشأت في الفكر الغربي منذ عهد النهضة ووصلت إلى ذروتها في عهد
التنوير - منتصف القرن الثامن عشر - فقد كان هناك نقد الفكر والممارسة الكنسية
الكاثوليكية في العصور الوسطى: (عصمة البابوات، صكوك الغفران، احتكار
تفسير الإنجيل، فساد رجال الكنيسة، انتشار الخرافات، الخلافات العقدية العقيمة
التي كشفت فساد كل العقيدة، لُهاث الكنيسة وراء السلطة الزمنية وغلبة الطابع
الدنيوي عليها ... الخ) .
وصل هذا النقد إلى ذروته في عصر الإصلاح الديني كما أسمي هناك
بتركيزه على الفهم (العقلاني) للكتاب المقدس للمسيحية؛ ويعني: فهمه بمعزل عن
المؤثرات الكهنوتية المختلفة. وولد من رحم هذا الاتجاه نقد الكنيسة الكاثوليكية
(وهي الأكبر والأوحد في الغرب حتى ذلك العهد) وإن كان ذلك بالمعاكسة لتيار
أُسمي بـ (النقد المقدس) وهو اتجاه وصل إلى ذروته في القرن التاسع عشر وإن
كان قوياً وفاعلاً في الفترة التي أسميت بعصر التنوير. وهذا الاتجاه كان يعد
المؤثر الأكبر في تكوين مفهوم العقل والعقلانية؛ ويعني: تسليط مناهج الفحص
اللغوي والمنطقي ثم التاريخي بعد ذلك، والعلمي التجريبي - على نصوص الكتب
المقدسة عند المسيحيين.
ولقد أدى اتباع هذا المنهج من التحليل والنقد والدرس إلى الكشف عن
تناقضات كبرى وتباينات بين نسخ الكتب المقدسة وداخل النسخة الواحدة؛ فضلاً
عن مخالفات جسيمة للعلم التجريبي الطبيعي الذي كان ناشئاً في ذلك الوقت مع
اختلاط ذلك بتضاربات تاريخية وغلبة الخرافة والأقاويل على التاريخ الصحيح
الموثوق.
وبإيجاز: فقد زعزع النقد المقدس المنطلق من منهج علمي ومنطق لغوي (أو
ما عرف بالمنطلق (العقلاني) بالمخالفة مع (الإيماني) أو (الخرافي) أو (الكهنوتي [
في الثقة، بل مع الإيمان بتلك الكتب المقدسة، وأدى إلى اقتران مفهوم الدين
والعقيدة والقداسة ومعها الكنيسة ورجال الدين بنقائص الجهل والخرافة والاستبداد؛
فيما ارتبط المنهج العلمي التجريبي النقدي المنطقي بفضائل العلم والتقدم و (التنوير)
ووضع تحت مظلة اسم (العقل) . ومع هذه المكونات انضم تيار العلم المادي
الطبيعي التجريبي الذي كان قوياً وفي عنفوان ثقته بنفسه - ولا نقول غروره -
ليضاف إلى مفهوم العقل التنويري ومعه بقايا اتجاهات الفكر المادي الوثني الغربي
الذي يعود إلى عصور الفلسفة اليونانية والثقافة النابعة منها.
وبهذه المكونات الأساسية ومعها مكونات فلسفة التفكير والحس المشترك
والإدراك الإنجليزية نشأ وتكامل مفهوم العقل التنويري. والأهم من ذلك أنه نشأ
مرتبطاً بعداء دفين ضد فكرة الدين والعقيدة الدينية. وصحيح أن عداء هذا العقل
التنويري كان موجهاً في البداية ضد الدين المسيحي إلا أنه بعملية تعميم متسرعة
انسحب عداء (العقل) على كل الأديان وعقائد الألوهية. ولكن يلاحظ في هذا الصدد
أن مفهوماً معيناً لعقيدة الألوهية قد نشأ على هامش مبدأ العقلانية فيما قلنا إنه عرف
بمذهب (الألوهية) أو الدين العقلاني. ويعتقد هذا المذهب بوجود إله في الكون لكنه
يخالف تماماً العقائد المسيحية في هذا الصدد. وهذا الإله له وحدانية شاملة وصارمة
تكاد تشبه المفهوم العقدي الإسلامي؛ فهو صانع الكون؛ وأبلغ وأقوى الدلائل على
وجوده هي آياته الكونية المبسوطة في (كتاب الطبيعة) أو الوحي المشهود في وقت
أطاحت فيه الشكوك (بالوحي المقروء) أو الكتب المقدسة المسيحية.
غير أن هذا الإله في فكره الديني الألوهي أو الطبعي أو العقلي كان يشبه
تصور الإله في الفكر اليوناني عند أرسطو؛ لأنه معطل الصفات ولا يوحي بكتاب، كما أنه ليس قيّوماً على العالم بل يستغني عنه العالم الذي يدار بواسطة القوانين
الطبيعية (الأسباب والمسببات) وهي التي وضعها ذلك الصانع الأول ثم تركها تفعل
فعلها؛ فكان أشبه بصانع الساعة الذي ملأ نابضها ثم تركها ومضى. ولم يلبث هذا
المفهوم التعطيلي للإله في الدين العقلاني أن أدى بهذا الدين إلى مادية صرفة
تستغني بسهولة عن إله لا فعل له ولا أثر، وتحل محله قوانين المادة وهي التي
ينسب لها أصحابُ دين العقلِ الفعلَ الأصيلَ في الكون.
المفهوم المادي التجريبي العلمي للعقل ومعه العداء للدين - كل دين - وللوحي
السماوي وهيئات الدين ورجاله ورفض الجميع هو الميراث الأصلي والنهائي لعصر
التنوير الأوروبي، ولكن الدوائر العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، وهي تعيد
طرح الشعار لترويجه، تمارس لعبة خداعية أمام الجماهير المسلمة وكذلك أمام
سلطات الحكم في بلدان عديدة سلمتها أعنة الأجهزة التعليمية والإعلامية والثقافية
واسعة النفوذ؛ فهم يقولون إنهم يطرحون التنوير بمعنى العلم والقراءة والمعرفة،
أو بمعنى تبديد الأفكار المنحرفة المغالية في الدين التي يزعمون أن التيارات
الإسلامية (وهم يصمونها بالسلفية والجامدة والجاهلة) تنشرها، ولكنهم في حقيقة
الأمر يُخفون المفهوم الأساس للتنوير الذي بسطناه فيما سبق، ومع ذلك فإن
الممارسات والكتابات الفعلية لأصحاب دعوى ومزاعم التنوير المعاصرين تكشف
عن أن المراد هو مصادمة ومعاداة الإسلام، وهم يسقطون على الإسلام - وليس به
كنيسة ولا كهنوت - التهم نفسها التي رآها أصحابهم الغربيون في دينهم المسيحي
منذ ما يزيد عن القرنين من مثالب أو عيوب. وعندما لا يجدون في الإسلام عيوباً
مشابهة فإنهم يصطنعونها ويخترعونها اختراعاً، وعندما تُعييهم الحيلة يلجؤون إلى
الخديعة؛ فالغيبيات في الإسلام ومعها عقيدة الألوهية - ولا يكابر عاقل في أنها
تتفق مع العقل والحس المشترك - هذه الغيبيات تتحول عندهم إلى خرافات ينبغي
تطهير الإسلام منها؛ وكأنه سيبقى فيه شيء بعد نزعها؛ والشريعة الإسلامية التي
بنيت أحكامها على مقاصد يفهمها العقل بل وأنيط استنباطها للعقل تتحول عندهم إلى
كهنوت وتحكّم كنسي يريدون تطويره وخلخلته بحجة مراعاة الواقع والعقل. وما
قامت الشريعة إلا لتهدي الواقع بالعقل.
لكن الفيصل في الموضوع كله هو مفهوم العقل الذي تنطوي عليه دعوة
التنوير؛ فنحن هنا أمام عقل مادي، أو قل ملحد يجعل من نفسه المفهوم الوحيد
للعقل، ويذهب إلى وصم كل رأي يختلف معه (مهما كان (معقولاً) أو مدعماً بالحجة
والمنطق والدليل) بأنه خرافة ووهم. هذه هي آفة دعوى التنوير في طرحها الأخير؛ وهي إذ تزعم لنفسها أنها تريد الديمقراطية والحرية تقيم استبدادية تسلطية في
مجال الفكر تزيد كثيراً عن عهد الإرهاب الذي نصبه التنوير الغربي لخصومه من
(الرجعيين) عندما وصل إلى الحكم - أو كاد - في الثورة الفرنسية.
إن ميراث التنوير الأوروبي هو العلمانية الغربية في شتى صورها، بل وفي
أكثر صورها شراسة وعداء للدين. والعلمانية المنتشرة في البلاد العربية؛ تنقل
هذا الجزء الأخير من الميراث لكنها تستره مرحلياً بدعاوى جذابة حول الحرية
والديمقراطية والعلم والمعرفة، ولا تعمل في دنيا الواقع بأي من هذه الدعاوى بل
تناقضها، ولعل الرد السليم على هذا الموضوع برمته هو الطريق الوسط بين
رفض كل مفاهيم العقل، والقبول السهل وغير النقدي بمزاعم دعاة (التنوير) .
إن الحل هو الإصرار على أن الإسلام دين التنوير بمعنى نور الإيمان
والوحي في وجه ظلام الكفر والوثنية، وهو دين العقل المقارن الموحّد المفكر، لا
العقل الملحد الناقل بلا نقد لخرافات الأقدمين بعد إلباسها ثوب (التنوير) زوراً.(140/108)
متابعات
المصطلح وإشكالية الاصطلاح
مقدمة منهجية في فقه الاصطلاح وعلاج إشكالاته
على ضوء منهج أهل السنة والجماعة
حمدي عبيد
(إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر،
وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة،
وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة،
ويا ويح تاريخنا إذا بُني على هذه المقدمات الكاذبة) [1] .
بهذا الوصف الدقيق لخص الشيخ محمد البشير الإبراهيمي واقع المصطلحات
وإشكاليات الاصطلاح المتعددة. بعدما نجح رواد التسويق الثقافي في استلاب بعض
ألفاظنا الشرعية تارة وتفريغ مضمونها تارة أخرى، وازداد ذلك في ظل حالة
الضعف والوهن التي لا تفتأ فيها الشعوب المسلمة تردد تلك المصطلحات الضبابية
المراوغة دون وعي بمضمونها أو إدراك لحقيقتها، فمثّل ذلك أحد مظاهر التراجع
المعرفي والحضاري للأمة الإسلامية في قرونها الأخيرة ومظاهره، وبذا قَصّرت
في أشرف مهامها بعد تحقيق العبودية لله - تعالى - وإقامة الدين كله لله؛ في مهمة
الشهادة على الخلق كما أمر الله - تعالى -: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدََاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ، أضف إلى ذلك
الاختلال الواضح في الكثير من المفاهيم بين أبناء الأمة وفئاتها، والاضطراب
البين في دلالاتها ومعانيها، الأمر الذي تسبب في ضياع التصورات، واختلاف
المعاني والدلالات من ذهن لآخر؛ فانقطعت بذلك سبل التواصل والحوار بينهم
(حتى أصبح أقرب إلى حوار الطرشان) .
فالمصطلحات كما أنها رسائل فكرية موجهة، فهي أيضاً وسائل للتفاهم بأقصر
طريق وأوضح دلالة وأقل مجهود؛ فهي - بحق - أدوات للتواصل والتعبير عما
تحمله من مفاهيم يتصورها الإنسان وينطلق منها في تدينه وردود أفعاله؛ حيث إن
(الحكم على الشيء فرع عن تصوره) .
إن هناك حكمة يمكن التماسها في تحذير الرب - جل وعلا - للصحابة الكرام- رضي الله عنهم - من استعمال لفظ يحمل أكثر من دلالة في خطابهم للنبي -
صلى الله عليه وسلم- ناهياً لهم أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم. يقول -
تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ... ]
[البقرة: 104] .
وعلى ذلك المنهج الرباني ربّى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة،
وعلى ذلك المنهج ساروا - رضي الله عنهم -.
إنّ تعدّد إشكاليات الاصطلاح يدعونا أولاً إلى تعريفه وبيان ضوابط التعامل
مع المصطلحات بأنواعها، وأعني بالاصطلاح هنا ما عرف قديماً باسم:
(المواضعة) ، أو علم الحدود - أي: حدود الألفاظ، أو علم الدلالة الذي عرف بعد
ذلك بعلم المصطلحات لكثرتها وشيوعها في كل فن [2] .
وعلى ذلك؛ فإن الاصطلاح في اللغة: مصدر اصطلح بمعنى اتفق، أما في
الاصطلاح فيعرفه الشريف الجرجاني (ت: 816هـ) بقوله: الاصطلاح عبارة عن
اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما يُنقل عن موضعه الأول. وقيل: هو إخراج
اللفظ عن معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على
وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين) [3] .
أما أبو البقاء الكفوي (ت 1094هـ) فيعرف الاصطلاح في (الكليات) بقوله:
(هو اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل: إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى
معنى آخر لبيان المراد) [4] أي أن الاصطلاح نوع من المواضعة، والوضع في
اللغة (هو جعل اللفظ (المصطلح) بإزاء المعنى، وفي الاصطلاح: (تخصيص
شيء بشيء متى أطلق، أو أحس الشيء الأول فهم منه الشيء الثاني) [5] .
وما سبق يعني أن الاصطلاح ما هو إلا عملية وضع جديدة على حسب
شروط معينة، ومن هذه المصطلحات (المواضعات) ما يعرف حدها باللغة كالشمس
والقمر والسماء والأرض، وأقصد بالحد هنا: ما دل عليه الاسم على وجه الإجمال
فيما يميز بين الشيء المحدود وغيره، وأن حقيقته هي بيان مسمى الاسم، وتميز
المحدود عن غيره لا تصوير المحدود. ومن هذه المصطلحات ما يُعرف حدّها
ومسماها بالشرع وَحْدَه؛ وهي ما تعرف بالألفاظ الشرعية (الحقيقة الشرعية) حيث
تتعلق بها الأحكام مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان والإسلام والكفر
والنفاق.. وغير ذلك من الألفاظ الشرعية.
ومنها ما لم يحدها الشرع بحد وليس لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة؛ بل تختلف باختلاف أعراف الناس وهي ما يطلق عليه: المصطلحات العرفية
(الحقيقة العرفية) سواءً كانت عامة مثل البيع والنكاح والدابة ... أو خاصة مثل ما
تعارف عليه أهل الصناعات في صناعاتهم.
ومفهوم المصطلح الواحد قد يختلف من طائفة لأخرى ومن بلد إلى بلد ومن
عصر إلى عصر؛ بل ومن دين ومذهب إلى آخر، وأحياناً تختلف هذه
المصطلحات أو دلالاتها لدى أتباع الدين الواحد؛ فمثلاً: العدل عند المعتزلة هو
نفي القدر؛ بينما معناه مختلف تماماً عند أهل السنة، وهكذا (التوحيد والتنزيه) عند
أهل الكلام عامة - ومنهم متأخرو الأشاعرة - هما مختلفان عما عند أهل السنة
والجماعة، وكذلك (الإيمان) نجد فيه الاختلاف نفسه في الدلالة عند الفرق الإسلامية
بينها وبين بعضها؛ فضلاً عما هو عند أهل السنة والجماعة.
هذا الأمر يضطرنا إلى أَنْ نعطي مزيداً من البيان عن كل نوع من أنواع
المواضعات السالفة مع الإشارة إلى بعض ما يطرأ عليها من إشكالات، وذلك فيما
يلي:
أولاً: ما يعرف حده باللغة: وهو ما يعرف بالحقيقة اللغوية أو الحقيقة
الوضعية، وفيها يقال: معنى الكلمة في اللغة كذا. والحقيقة اللغوية هي مدلول
الكلمة المستعملة فيما وضعت له؛ بحيث تدل على معناها بنفسها من غير حاجة إلى
علاقة أو قرينة، وذلك كاستعمال القمر للكوكب المعروف لا للوجه المشرق
مثلاً [6] ، وكاستعمال الرجل للإنسان الذكر، والمرأة للأنثى الإنسان.
ثانياً: ما يعرف حده بالشرع: ويقصد به الألفاظ الشرعية أو الحقيقة
الشرعية، وهي ألفاظ لغوية استعملها الشارع مقيدة لا مطلقة على وجه يختص بمراد الشارع [7] ، مثال ذلك: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والكفر، والإيمان ... فالصلاة مثلاً في حقيقتها اللغوية تأتي بمعنى الدعاء، أما في لغة الشرع فإنها تنصرف إلى الأقوال والأفعال - ومن ضمنها الدعاء - المُبتدأَة بالتكبير والمختتمة بالتسليم وفق شروط خاصة معروفة عند الفقهاء، وعلى الرغم من أن هناك علاقة بين المعنيين إلا أن المعنى الشرعي للفظ ليس هو المعنى اللغوي نفسه؛ حيث إن الشارع قيّدها في حقيقتها اللغوية ببعض المعاني الشرعية المرادة فانصرف بذلك اللفظ إلى حقيقته الشرعية.
ومن نظائر ذلك (الزكاة) وهي اسم لما تزكو به النفس، وزكاة النفس زيادة
خيرها، وذهاب شرها، والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس [8] .
وهذه (الألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يُبحث عن مراد رسوله
بها ليُثبَت ما أثبته ويُنفى ما نفاه من المعاني؛ فإنه يجب علينا أن نُصدّقه في كل ما
أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر) [9] .
ويتفرع عن هذا النوع الثاني عدد من المسائل والإشكالات التي ترد عليها
ومن ذلك مثلاً: هل الألفاظ الشرعية من قبيل الاصطلاح؟ بمعنى: هل يصح أن
يقال مثلاً: الصلاة في اللغة كذا، وفي الاصطلاح كذا؟ يجيب عن ذلك أبو البقاء
في (الكليات) بقوله: (والاصطلاح مقابل الشرع في عرف الفقهاء؛ ولعل وجه ذلك
أن الاصطلاح (افتعال) من (الصلح) للمشاركة كالاقتسام، والأمور الشرعية
موضوعاتُ الشارعِ وحده لا بتصالحٍ عليها بين الأقوام وتواضعٍ منهم.
ويستعمل الاصطلاح غالباً في العلم الذي تحصل معلوماته بالنظر
والاستدلال) [10] . ويؤكد على نتيجة البحث هذه الدكتور بكر أبو زيد بقوله: (ثم ليعلم أن من هذه الألفاظ الاصطلاحية ما لا تثبت دلالته على وتيرة واحدة، بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق؛ بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق، وتختص بمعنى ما، لكن هذا التغير في نطاق مقاييس اللغة والشرع، وهذا التطور أيضاً في الألفاظ المتلقاة بنص من الشارع غير وارد، ولهذا حصل التفريق في ألقابها فيقال فيما ورد به نص: (حقيقة شرعية) ولا يقال: (حقيقة اصطلاحية) . والله أعلم) [11] .
وهذا لا يمنع من أن هناك ألفاظاً خرجت من معناها الشرعي بمقتضى المعنى
العرفي الخاص فأصبح لها في عرف من اصطلحوا على معناها معنى خاص مثل:
التيمم، الشريعة، الفقه، وهذا النوع يصح أن يقال فيه أنه من قبيل الاصطلاح.
وبوجه عام فإن الألفاظ ذات المعاني الشرعية تنقسم إلى قسمين:
الأول: قسم مذكور باللفظ والمعنى في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع؛
فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به [12] .
الثاني: قسم وقع فيه النزاع بين الطوائف، وهو أنواع كما يلي:
1 - أن يكون المعنى صحيحاً موافقاً للكتاب والسنة، واللفظ محدثاً ولكنه يدل
عليه، فلا مانع إذاً من ذلك باعتبار أنها مسألة اصطلاحية ولا مشاحّة في
الاصطلاح في هذه الحالة؛ وذلك ما لم يتضمن مخالفة شرعية أو مخالفة لمقاييس
اللغة، مع مراعاة أن يكون ذلك في حدود الضرورة؛ حيث لا تُعلّق مسائل العقيدة
ودلائلها على تلك المصطلحات المحدثة.
2 - أن يكون المعنى باطلاً مخالفاً للكتاب والسنة، واللفظ لا يدل عليه؛ ففي
هذه الحالة لا يصلح إضافته ولا استعمال المصطلح له [13] . وهنا لا معنى لقولهم: لا مشاحّة في الاصطلاح؛ حيث إن المشاحّة واقعة لا محالة، ومن أمثلة ذلك:
استخدام الفلاسفة مصطلح العقل أو المادة ونحوهما في كلامهم على غير معانيها عند
العرب، ومثل ذلك ما استعمله أهل الكلام والفلسفة من ألفاظ التوحيد والإيمان
والسُنّة والشريعة ونحوها من الألفاظ التي يكثر استعمالها في ألفاظ التنزيل مما
يضيق المجال هنا عن ذكر معانيها عندهم بالمقارنة بما هو عند أهل السنة والجماعة.
3 - هناك اصطلاحات قد تكون صحيحة المعنى؛ لكن المعنى مبتدع ولا يدل
عليه، وليس ذلك فقط؛ بل وفيه تلبيس وإجمال، وليس هو معناه في اللغة، ولكنه
مصطلح له ولطائفته؛ حيث يحمل في طياته حقاً وباطلاً واشتباهاً؛ فهذا يجب أن
تطبق عليه قاعدة الاستفسار والتفصيل، ومن ثم فَيُقْبَل ما فيه من حق، ويُرفَض ما
فيه من باطل؛ فالقبول والتسليم لهذه المصطلحات بالجملة خطأ، كما أن النفي
والرفض لها بالجملة خطأ أيضاً.
(وإن أكثر اختلاف العقلاء من البشر من جهة هذا النوع من الألفاظ المشتركة؛ بَلْ وينتج عنها من فساد الدين ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - وحده) [14] لذا كان
(الأئمة الكبار دائماً ما ينهون عن استخدام هذه المصطلحات الموهمة والمشتبهة ذات
الدلالات المنحرفة مثل: الجسم والعرض والتحيز والانقسام والتركيب والجوهر
وغيرها من مصطلحات المتكلمين التي هي على غير معانيها في لغة العرب، وكان
لاصطلاح المتكلمين هذه المصطلحات وأمثالها ومحاكمة النص الشرعي على ضوئها
سبب مباشر في لجوئهم إلى النفي والتعطيل) [15] .
الضوابط المطلوبة في التعامل:
أولاً المصطلحات: ومراعاة لحيّز المقال سنشير باختصار إلى أهم هذه
الضوابط دون تمثيل إلا لما تقتضيه الضرورة.
وفي البداية لا بد من التأكيتد على أن (المعاني الشرعية تؤخذ من ألفاظ
التنزيل، ويُلتزم مدلول اللفظ، ونؤمن باللفظ سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه؛ لأن
ذلك عبادة وضده معصية) [16] .
ثانياً: إن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها والمراد بها
من قِبَل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُحْتَجْ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل
اللغة ولا غيرهم.
أما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذاك من جنس علم البيان، وتعليل
الأحكام، وهو زيادة في العلم، وبيان حكمة لفظ القرآن، وإن كان معرفة المراد بها
لا يتوقف على هذا.
ثالثاً: ما دل عليه العقل مجرداً عن السمع لا ارتباط له بالألفاظ؛ فلو عبر
عن معنى عقلي بعبارة موهمة باشتراك أو إجمال استفصلنا، فقبلنا المعنى الحق ولو
كانت العبارة باطلة.
ويقول أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مؤصلاً لهذه القاعدة:
(الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم
بإحسان، وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تُنفى إلا بعد الاستفسار
عن معانيها؛ فإن وُجِدتْ مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أُثبِت به
حق وباطل، أو نُفي به حق وباطل، أو كان مجملاً يراد به حق وباطل وصاحبه
أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد،
فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها [17] .
رابعاً: هذا الضابط متفرع عن السابق له فيما يتعلق بالألفاظ المجملة
المشتركة، ويعد متمماً لقاعدة الاستفسار والتفصيل آنفة الذكر؛ حيث يبقى بعد ذلك
النظر في إطلاق اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية؛ فقد يكون المعنى صحيحاً ويمتنع
من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعاً ولكن المعنى الذي
أراده المتكلم باطل كما قال علي - رضي الله عنه - لمن قال من الخوارج المارقين: (لا حكم إلا لله) (كلمة حق أريد بها باطل) [18] .
خامساً: الألفاظُ التي يُبنى عليها حكمٌ شرعيٌ العبرةُ فيها بالحقائق والمعاني لا
بالألفاظ والمباني، وما ذلك إلا لأن الله - تعالى - لم يحرم المحرمات لمجرد
أسمائها؛ بل لما اشتملت عليه من مفاسد مضرة بالدنيا والدين، ويمثل على ذلك
الأصل ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (وأوجب تبديل الأسماء والصور تبدل
الأحكام وإلا فسدت الديانات وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام.
وأي شيء نفع المشركين تسميتُهم أصنامَهم آلهة، وليس فيها شيء من صفات
الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقرباً إلى الله؟ وأي شيء
نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسمية ذلك تنزيهاً [19] .
سادساً: ومن هذه الأصول والضوابط أيضاً: مراعاة التطور الدلالي للفظ أو
للمصطلح، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين الغربيين: (علم اجتماع المعاني)
وأشار إليه بعض آخر بـ (علم حفريات المصطلح) ، وأياً كانت التسمية فلا مشاحة
في الاصطلاح هنا، ولكن المهم أن يتم ذلك من خلال دراسة البيئة الزمانية
والمكانية التي ظهر فيها المصطلح، ومن خلال الوقوف على عادات عصر ظهور
اللفظ أو المصطلح، ومعرفة معناه في اللغة التي اشتق منها؛ أي معرفة لغته
الأصلية، مع دراسة العرف السائد وقت ظهوره بما يعني تتبع عناصر القوة
والضعف المحركة للأفكار والجماعات وأثرها في ولادة المصطلح ومفهومه؛ ومن
ثمّ متابعة مراحل تطوره الدلالي والمعرفي في كل طور من أطواره مع ملاحظة
مدى التغير الذي طرأ على اللفظ أو المفهوم ثم يُقارن لفظ كل مرحلة ومفهومها
بالمعاني والدلالات المقابلة له في اللغة العربية.
وفي هذا السياق نلحظ سَبْق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على غيره
من علماء الغرب أمثال: دونالد سشان، وإريك دي بوولييه، وجون ويلي،
وميشال ونستون الذين لم ينتبهوا إلى هذا الأصل وذلكم الضابط إلا في نهاية القرن
العشرين الميلادي.
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - سبب ذلك بقوله: (دلالة
الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغةٍ وعادةٍ
واصطلاحٍ أحَدَثه قوم آخرون بعد انقراض عصره، وعصر الذين خاطبهم بلغته
وعادته كما قال - تعالى -: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]
[ابراهيم: 4] [20] .
سابعاً: ينبغي التفريق بين دلالة الألفاظ في الكتاب والسنة وبين الإطلاق
العرفي لها.
ومثال ذلك (الحدود) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (الحدود
في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل: آخر الحلال،
وأول الحرام؛ فيقال في الأول: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا] [البقرة: 229] ،
ويقال في الثاني: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا] [البقرة: 187] ، وأما تسمية
العقوبة المقدرة حداً فهو عرف حادث) [21] ، ومثال ذلك: (الفقه) الذي أخذ يتقلب
في عدد من الأطوار اكتسب في كلٍ منها دلالة مختلفة عن الأخرى [22] .
ثامناً: وضمن هذه الضوابط: مراعاة السياق ومقتضى الحال والنظر في
قرائن الكلام عند تفسيرها [23] ، فمثلاً لو أن للفظ معنيين واضحين: أحدهما يدل
على الحقيقة اللغوية، والآخر يدل على الحقيقة الشرعية؛ فيحمل على الشرعية إلا
أن تدل قرينة على إرادة الحقيقة اللغوية [24] .
ومثال ذلك: قول الله - تعالى -: [وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ]
[التوبة: 103] المعنى: ادع لهم فإن دعاءك تثبيت لهم وطمأنينة؛ لأن لفظ الصلاة
يدور بين حقيقته اللغوية والشرعية، ولكن قرينة الحال بالنسبة للرسول -صلى الله
عليه وسلم- هنا تستوجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية.
تاسعاً: من تفريعات الضابط السابق: أن اللفظ ذا المعنى الشرعي إذا دار
بين الحقيقة الشرعية والعرفية فإن الحقيقة الشرعية أوْلى؛ لأن الشرع ألزمه [25] .
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (واعلم أن التحقيق: حمل اللفظ على
الحقيقة الشرعية، ثم العرفية، ثم اللغوية، ثم المجاز عند القائل به إن دلت عليه
قرينة) [26] .
عاشراً: ينبغي اعتبار مراد المتكلم ومقاصده، ولا يُكتفى في ذلك بمجرد فهم
هذه الألفاظ والمصطلحات، ولكن يُضمّ النظير إلى نظيره؛ يقول ابن القيم:
(فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافة تابعة لفهم
السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين في ذلك) [27] ولم
يكتف ابن القيم باعتبار مراد المتكلم ومقاصده فقط، ولكن أضاف أيضاً فهم السامع
وإدراكه وأثره على اختلاف المفاهيم للألفاظ والمصطلحات. وفي الواقع يعد هذا
الأصل بالإضافة إلى ما سبق من أصول من أبرز سمات العدل والإنصاف في منهج
أهل السنة والجماعة في قضية الحكم على الأشخاص.
الحادي عشر: إن مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم أمر غير
مكروه إذا احتيج إليه بشرط أن تكون المعاني صحيحة، وإنما يكره ذلك إذا لم يحتج
إليه، ومن ذلك جواز ترجمة القرآن والحديث وقراءة كتب الأمم بلغاتها [28] ،
ويضيف شيخ الإسلام - رحمه الله - على كلامه السابق قوله: (ونحن نحتاج إلى
معرفة اصطلاحهم وهذا جائز، بل حسن، بل قد يجب أحياناً) [29] ويقرر في
التعامل مع ذلك قاعدة كلية بقوله: (ومعرفتنا بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في
معرفتنا مقاصدهم، ثم نحكّم فيها كتاب الله - تعالى -؛ فكل من شرح كلام غيره
وفسره وبيّن تأويله فلا بد له من معرفة حدود الأسماء التي فيه) [30] وقد سبق بيان
شيء من ذلك.
ولا أحب أن أترك هذا المقام قبل الإشارة إلى ما قرره شيخ الإسلام - رحمه
الله - من أن السلف لم يذموا المصطلحات الغريبة، ومنها: الفلسفية، والكلامية،
وغيرها، لكونها محدثة ولكن لاشتمالها على معانٍ مجملة فيها من الباطل المذموم
في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه؛ في الوقت الذي قد تحمل فيه من الحق
المشروع في الوقت نفسه [31] وقد سبق بيان ذلك.
الثاني عشر: من تتمة البحث أن أذكّر أنه ينبغي أن يفرق بين اللفظ الذي
يدعى به الرب - جل وعلا - أو يعبد به - حيث لا يُدعى الله - تعالى - إلا
بالأسماء الحسنى والصفات العلى وهي أسماء وصفات ألفاظها توقيفية - وبين ما
يُخبر [به] عنه لإثبات حق أو نفي باطل؛ حيث إن (الفرق بين مقامَي المخاطبة
والإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل، يقول - تعالى -: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ] [الأعراف: 180] ، وعليه يصح أن
يدعى ويقال: يا رحمن يا رحيم، ولا يقال: يا شيء) [32] .
ومن ذلك أيضاً: أنه ينبغي التأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقام
المخاطبة والإخبار أيضاً لقوله - تعالى -: [لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُم بَعْضاً] [النور: 63] ، أما مقتام الإخبار عنه -صلى الله عليه وسلم-
فيصح أن نخبر عنه باسمه كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - عنه -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]
[الأحزاب: 40] ) [33] .
ثالثاً: ما يعرف حده بالعرف: وهو ما يطلق عليه: المصطلح العرفي أو
(الحقيقة العرفية) والحقيقة العرفية: هي ما صار اللفظ دالاً فيها على المعنى
بالعرف لا باللغة، فهو يكون تارة أعم من المعنى اللغوي، وتارة أخص، وتارة
يكون مبايناً له لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها [34] .
أي أن العرف أخرج اللفظ عن معناه اللغوي إلى معنى آخر، وقد يكون ذلك
المعنى عاماً يعرفه به عموم الناس في بلد معين، وعليه فإن هذا الوضع يسمى
بالوضع العرفي العام، ومثال ذلك كلمة (دابة) فهي تعني في اللغة: كل شيء يدب
على وجه الأرض فهو دابة. وفي العرف يطلق على الفرس والحمار والبغل؛
وسمي هذا الوضع عرفياً عاماً لأن الجميع مشتركون في فهم معناه عند إطلاقه من
غير رجوع إلى الوضع اللغوي الأول [35] .
أما الوضع العرفي الخاص فهو ما يضعه أرباب كل مهنة أو فن معين لسرعة
التفاهم بينهم؛ فإذا أطلق (المصطلح) انطلق الذهن مباشرة إلى ذلك المعنى.
يقول ابن الجوزي: (إن لأرباب كل صناعة ألفاظاً يتداولونها بينهم في
مجاراتهم، وقد وضعوها بإزاء مسميات يحتاجون إليها في محاوراتهم فلا يقف
غيرهم على موضوعها إلا بتوقيف منهم) [36] ، وقد يختلف أهل هذا الاصطلاح - العرفي - حول المصطلح نفسه سواء داخل المذهب أو خارجه.
وأحياناً يكون للمصطلح الواحد عدة معان، ويكون لبعض هذه المعاني
مصطلحات أخرى، تحمل معانيَ أخرى أيضاً؛ فمثلاً: بين الفقهاء من يطلق عقد
السّلَم على عقد السّلَف، ومنهم من يسمي عقد المضاربة بعقد القراض.
وكذلك عقد الإجارة يسميه بعضهم: عقد الكراء. وجمهور الأصوليين يطلقون
مصطلح الفرض على الواجب بينما يفرق بينهما أصوليو الأحناف.
وقد يكون (اختلافه إقليمياً لعادة عرفية: قولية، أو فعلية، أو يكون تحت
تأثير وطأة القوانين الوضعية في البلاد العربية والإسلامية، أو يكون لمداخلة
العجمة تحت وطأة السلطان الأعجمي إلى غير ذلك من أنواع الاختلاف، ومهما
كانت جوانبه متعددة ومتنوعة فإنه بتنزيل المختلف فيه على اللغة العربية بمقاييسها
والشريعة بقواعدها يزول الاختلاف ويتوحد الاصطلاح) [37] . وفي ذلك يقول ابن
حزم: (لو اتفقت مصطلحات الناس لانتهت ثلاثة أرباع خلاف أهل الأرض) [38] .
هذا ولتفصيل إشكالات الاصطلاح العرفي ومنهج التعامل معها حديث آخر.
__________
(1) محمد البشير الإبراهيمي، عيون البصائر (2) ، ص 571 نقلاً عن د سيف الدين عبد الفتاح (حول التحيز في مفهوم النظام العالمي الجديد) .
(2) د بكر عبد الله أبو زيد، فقه النوازل، قضايا فقهية معاصرة، 1/ 119 121.
(3) الشريف علي بن محمد الجرجاني، كتاب التعريفات، ص 28.
(4) أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص 129.
(5) الشريف علي بن محمد الجرجاني، كتاب التعريفات، ص 252، 253.
(6) مجدي وهبة، كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والآداب، ص 151.
(7) ابن تيمية مجموع الفتاوى، 7/298 - 300.
(8) ابن تيمية مجموع الفتاوى، 7/298 - 300.
(9) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 11/25.
(10) أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الكليات، ص 129.
(11) د بكر بن عبد الله أبو زيد، فقه النوازل، 1/124.
(12) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/241.
(13) المصدر السابق، 10/302.
(14) المصدر السابق، 1/279.
(15) المصدر السابق، 1/271.
(16) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/244، مجموع الفتاوى، 5/298.
(17) ابن تيمية مجموع الفتاوى، 17/304، الرد على المنطقيين 166.
(18) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/297.
(19) ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، 3/118.
(20) ابن تيمية، درء تعارض العقل، 7/123 وللمزيد من التفصيل، انظر: ابن تيمية مجموع الفتاوى، 1/243، 7/106، 7/115.
(21) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 21/438.
(22) حمدي عبيد، (معجم المصطلحات) بالموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إشراف د مانع بن حماء الجهني، 2/1117 1118.
(23) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 13/39، وانظر 7/162 وما بعدها.
(24) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 5/169 نقلاً عن ظاهرة التأويل وصلتها باللغة،
ص 135.
(25) السيد أحمد عبد القادر، ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، ص 136.
(26) محمد الأمين الشنقيطي، مذكرة أصول الفقه، ص 75.
(27) ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، 1/305.
(28) ابن تيمية، درء التعارض العقل والنقل، 1/43، وانظر مجموع الفتاوى، 3/306.
(29) ابن تيمية، بغية المرتاد، ص 334.
(30) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 9/66، 67.
(31) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 3/307.
(32) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/298.
(33) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/297.
(34) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 7/96.
(35) أبو البقاء، أيوب بن موسى الحسيني اللغوي، ص 311.
(36) ابن الجوزي، الإيضاح في قوانين الاصطلاح، ص 13.
(37) د بكر عبد الله أبو زيد، فقه النوازل، 1/150 151.
(38) د علي جمعة، المصطلح الأصولي، ومشكلة المفاهيم، ص 40.(140/112)
متابعات
القرآن والسنة تراث
مروان كجك
عرضت مجلة البيان الغراء على قرائها في العدد (137) ملفاً خاصاً بالتراث، وقد اتجهت معظم المقالات فيه إلى تجنيب القرآن الكريم والسنة المطهّرة
الانضواء تحت مسمّى (التراث) خشية إخضاعه لما تخضع له أنواعه الأخرى، إلاّ
أننا نرى أن القرآن الكريم والسنة الشريفة صفوة ما نملكه من تراث وأطهره
وأصمده في وجه الأعداء والعابثين.
فالتراث لغةً هو الإرث والميراث. ونقل ابن منظور عن ابن الأعرابي أن:
الوِرْث، والوَرْث، والإرْث، والوِراث، والإراث، والتّراث واحد. وقال
الجوهري: الميراث أصله مِوْراث، انقلبت الواو ياءً لكسرة ما قبلها. والتراث،
أصل التاء فيه واو. وقال ابن سيده: الوِرْث، والتراث، والميراث:
ما وُرِثَ [1] .
وقد ورد لفظ التراث في الكتاب المبين في قول الله سبحانه: [وَتَاًكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً] [الفجر: 19] . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير ذلك: (يعني
الميراث، من أيّ جهة حصل لهم: من حلال أو حرام) . وهو هنا يحمل المعنى
المادي من مال ونحوه.
إلاّ أن الإيراث ليس مختصاً بالمادة؛ إذ إنه يشمل كل منتقل ومتوارث؛ سواء
كان جرماً أو معنىً؛ ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العلماء ورثة
الأنبياء؛ وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه فقد
أخذ بحظ وافر) [2] .
ولا يمكن صرف المقصود من الوراثة هنا إلى المسائل المادية المالية؛ لأنها
تعني، وبوضوح كامل لا حاجة معه إلى شرح وتفسير، وراثةَ المبادئ والعقائد
والقيم.
وكما تورَث الماديات والقيم؛ فكذلك توهَب؛ ففي الماديات قول الله سبحانه
وتعالى: حكاية عن سليمان -: [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ
مِّنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [ص: 35] .
وفي الهبة المطلقة التي تحتمل المادية والمعنوية يقول سبحانه مخبراً عن حال
الراسخين في العلم: [هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا
مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [آل عمران: 7، 8] . فمن الرحمة المطر وهو
مادة، ومنها السكينة وهي حال معنوية نفسية؛ فسبحان الكريم الوهّاب.
وبذلك يتبين لنا أن من ألفاظ لغة العرب ما يدل على كلّ من الأجرام والمعاني؛ بل إن ما في لغة الضاد من الحيوية والمرونة والاستجابة لمختلف معطيات الفكر
البشري كالبيان والتضمين وما إلى ذلك إن في ذلك ما يجعلها تتسع لكل مصطلح،
وقادرة على صياغته اللغوية بما يناسبه من مبانيها وأوزانها واشتقاقاتها.
فقد ورد في الكتاب العزيز الفعل (ورث) وبعض ما أخذ منه واشتق، وقد
ذكرنا طرفاً منها في أول المقال، مما يؤكد أن المصطلح بمفهومه العام لا يتعارض
وقولنا: إن القرآن الكريم والسنة النبوية تراث! ولا يعني إدخالهما في دائرة
التراث إخضاعهما للشك أو الريبة كما يفهم المصطلحَ الغربيون وثلة من المفكرين
المتغرّبين من بعض العرب والمسلمين؛ فهم قلة على الرغم من علو عقيرتهم.
ومنطق القرآن الكريم يؤكد وراثة الكتاب؛ وأن الوارثين ثلاثة أصناف؛ إذ
يقول الله سبحانه: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ
وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخََيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ]
[فاطر: 32] . ولعل الثلة السابحة في بحار أوهامها، ومجاري تخرّصاتها، ونشيج خيبتها هي من الصنف الأول.
فليس لأجل هذه الفئة الشاذة الضالة نحجم عن اعتبار القرآن والسنة تراثاً.
إن القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما أقدس ما نملك من تراث، بل هما
أجلّ ما تملكه البشرية من كلمة.
وليس من خوف في اعتبار القرآن والسنة الصحيحة تراثاً؛ ولا يعني ذلك
إخضاعهما لمبدأ الشك؛ فهما فوق الشبهات، كما لا يعني إخراجهما من دائرة الشك
أن ذلك سيحميهما من هجمات المبطلين؛ فلطالما كانا غرضين لسهام الأعداء منذ
نزل قول الله سبحانه: (اقرأ) وقبل أن يردنا اصطلاح التراث بالتصور الغربي.
ومما يدل على أن القرآن الكريم تراث لهذه الأمة قوله سبحانه مما قصه عن
زكريا - عندما دعا ربه أن يهب له ولياً يرثه ويرث من آل يعقوب: [كّهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً (3) قَالَ رَبِّ إنِّي
وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاًسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً (4) وَإنِّي خِفْتُ
المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياً (6) يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ
نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياً] [مريم: 1 - 7] . ومعلوم أن وراثة الأنبياء ليست وراثة
مال بل وراثة كتاب ودعوة وقِيَم؛ ومما يؤكد ذلك قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (لا نورث؛ ما تركناه صدقة) [3] .
وقال سبحانه في وراثة سليمان داود؛ وهي ليست وراثة مال أيضاً:
[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ
هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ] [النمل: 16] .
أما وراثة الأمة والجماعة للكتاب وإن لم تقم بحق هذه الوراثة فيقررها الله
سبحانه في كتابه العزيز بقوله: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ
عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم
مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأعراف: 169] .
وقوله تعالى: [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ]
[غافر: 53] .
وقوله تعالى: [وَمَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الَذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ] [الشورى: 14] .
وبذلك ندرك أنه لا داعي للإعراض عن اعتبار كلّ من القرآن الكريم والسنة
الصحيحة تراثاً؛ فهما في قمة التراث وأقدسه وأطهره، والأحق بالرعاية والدراية،
واللذان لا يخضعان البتة لما تخضع له بقية فروع التراث النابعة عنهما أو بمشاركة
غيرهما، كالتراث الأدبي أو المعماري، أو غير ذلك من فروع ما يقع تحت
مصطلح التراث وأقسامه.
__________
(1) لسان العرب، مادة ورث.
(2) أبو داود: كتاب العلم/ باب الحث على طلب العلم حديث: (3641) وابن ماجه: المقدمة/ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم حديث: (223) وقد صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم: (6173) .
(3) البخاري: فرض الخمس، حديث 3093، ومسلم: الجهاد والسير حديث رقم 1758، 1759.(140/120)
المنتدى
تعقيب على ملف التراث الإسلامي
محمد نجيب لطفي
مما يُحمد لمجلة البيان (الغراء) هو تقديمها لبعض الملفات في قضايا شرعية
هامة واستكتابها لذلك كوكبة من الكتاب والمفكرين المؤهلين لذلك علمياً وفقهياً
وتأصيلياً، وكان ملفها عن القبورية من التأصيل والشمول بمكان.
وفي عدد المحرم (1420هـ) كان الملف بصدد (التراث الإسلامي بين الأصالة
والتزييف) ولم يكن على مستوى ملف القبورية - من وجهة نظري - وقد تكون
وجهة نظري خاطئة، وأرجو أن تكون كذلك؛ ولكن اسمحوا لي بطرح هذه النقاط
بصدد هذا الملف:
أولاً: لم يكن على مستوى الطرح الجيد للملف سوى مقالَيْ: (تحقيق التراث
في العصر الحديث الإيجابيات والسلبيات) لفضيلة الدكتور عثمان جمعة ضميرية،
و (ضوابط لتحقيق الأحاديث) لفضيلة الشيخ طارق عوض الله محمد، أما بقية
المقالات (وهي ثلاثة) فقد غلب عليها الطابع الإنشائي وسطحية الطرح بالنسبة
للكتابة في هذا الموضوع الخطير.
ثانياً: كان ينبغي التعرض لبيان أسماء بعض المؤلفات وبعض الكتاب الذين
ساهموا في تشويه هذا التراث العظيم حتى يحذرهم القراء؛ فطرح الملف دون بيان
لحال بعض المؤلفين السيئين وكذلك بعض المؤلفات السيئة يجعل الملف ناقصاً؛
وكان يمكن استكتاب متخصص في هذا الصدد ليكون الملف شاملاً مفيداً، وقد
يخرج بعض القراء من قراءة الملف وهم لا يعرفون أسماء أخطر المؤلفين وأسوئهم، وكذلك أسوأ المؤلفات.
فقد كنت أتمنى - وكذلك جمهور عريض من قراء وأضلوا من الصوفية أمثال: ابن عربي، وابن الفارض، والشعراني. والأدباء أمثال: الجاحظ، والنظّام،
والأصفهاني أبي الفرج صاحب الأغاني. والفلاسفة أمثال: ابن سينا، وابن
مسكويه، وكذلك بيان لبعض المؤلفات الشهيرة جداً وهي مسمومة وسيئة جداً مثل:
(الأغاني) للأصفهاني، و (الفتوحات المكية) ، و (فصوص الحكم) لابن عربي،
و (طبقات الشعراني) والأمثلة كثيرة، ويمكن لمجلة البيان توضيح أحوال المؤلفين
والمؤلفات في أعداد قادمة لمتخصصين قادرين على سبر أغوار مثل هذه الأمور.
ثالثاً: كان ينبغي التعرض لما يجب أن يُحقّق من الكتب؛ حيث إن كثيراً من
أسوأ كتب التراث الخاصة بالتصوف والفلسفة والزندقة قد حُققت وقُدمت أطروحات
(علمية) لنيل الشهادات التي بصددها تبوّأ أصحابها مراكز علمية استطاعوا من
خلالها بث سمومهم ونشرها.
ومما يؤسف له أن الأزهريين لهم اليد الطولى في هذا الإثم العظيم؛ والأمثلة
على ذلك كثيرة جداً فَكُتُبُ ابن عربي وابن الفارض ومن على شاكلتهما قد حُقّقت
وأعطيت بصدد تحقيقها المزعوم شهادات عالية من الأزهر.
ومما أحزنني أنني اشتريت كتاب البردة (للبوصيري الصوفي الهالك) فهالني
أن شارحَها هو شيخُ الأزهر (إبراهيم الباجوري) . هذا مثال من كثير.
وبعد؛ فالتحقيق أمر عظيم وخطير، وهو علم وأمانة، ومن لم يستطعه
فليتركه لأهله، والأمر كما قال الشاعر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)(140/122)
المنتدى
إشكالاتنا والعلماء
هند بنت عبد العزيز أبا الخيل
مع هذا الزخم الهائل من التطورات التقنية الإعلامية بكافة جوانبها المختلفة
يحتاج المرء المسلم إلى تصور شرعي واضح وجليّ للكثير من الإشكالات التي
تواجهه؛ حتى يكون على بصيرة من أمره، ويخدم من خلالها دينه ودعوته.
ولعلنا نستعرض بعضاً من تلك الإشكالات على سبيل المثال - وإن تفاوت
اهتمام الناس بها -:
أولاً: ما تطرحه وسائل الإعلام والقنوات الفضائية من حوارات مباشرة عن
قضايا شرعية من أصول الدين وأحكامه؛ وتستضيف من خلالها بعضاً من
(المثقفين) ! الذين لا يملكون أيّ أرضية شرعية أو تخصص إسلامي؛ ولكن
لطرحهم بعضاً من القضايا الإسلامية في حواراتهم أُوهِمُوا قبل غيرهم أنهم مؤهلون
للخوض في أمور الدين! ولك أن تتخيل ما يحدث من خلط وافتراء فيما يطرحونه
ويقولونه!
والإشكال هنا: هل من المصلحة الردّ أو التعليق على المحاور - خصوصاً
أن بعضاً من تلك الأطروحات تلقى رواجاً وتفاعلاً لدى الجمهور والمشاهدين - أم
أن من الحكمة تجاهل ما يقال مع أنه قد يكون نوعاً من إضفاء الشرعية على ما
يقولون؟ !
والمثال الآخر (الإنترنت) ذلك العالَم الواسع: ماذا عن المشاركة فيه؟ وهل
المشاركة مقصورة على الاطلاع أم الحث على إنشاء مواقع وصفحات إسلامية
وتعليمية وإخبارية؟ وما هي حدود وضوابط هذه المشاركة؟
والأمر هنا منوط تماماً بعلمائنا الأفاضل وبطلبة العلم من أجل بيان هذه
الإشكالات وغيرها وتجليتها؛ حتى لا يبقى (أبناء الصحوة) في معزل عن دعم هذه
الدعوة بكل تطورات العصر وتقنياته من أجل إعلاء كلمة الله في كل مكان وبأي
وسيلة.
والله من وراء القصد،،،(140/123)
المنتدى
أمسكت به
عبد الرحمن الزير
اليوم أمسكت بعدو لئيم؛ عدو للرجال وللنساء، عدو للشباب وللشيوخ. في
مُقَلِ الشباب عدو، طالما أضل وطالما قتل، قطع الرؤوس ودمر النفوس وأسال
الدموع والدماء؛ من استسلم له أضله، ومن صمد أمامه ولم يُسلم له أمره استفاد
منه واستغله.
لكن أعلم أن إمساكي به لا يعني أنه قُضي عليه أو انتهى أمره. لا؛ بل كانت
حجته قوية عند محاكمته؛ فقد قال:
قفوا واسمعوا لي؛ أنا لا أجني ولا أظلم أحداً ولم أكُ في حياتي مجرماً.
شعاري النزاهة والفائدة، أنا أعين من أعطاني قدري والله يبارك لمن اهتم بي؛
لكن ماذا أفعل لمن فرّط وتساهل وترك يومه بلا عمل؟ أيستوي الذي نشط وعمل
بالذي عدّ كل شيء لا يوافق هواه مللاً؟ وماذا أفعل لمن تركني معطلاً أو أراد أن
يملأني بشيء لا يُرضي الله ولا يعقل؟
أنا الفراغ أقول لكم: استغلوني بما ينفعكم ولا يغضب ربكم، استغلوني قبل
أن تُسألوا عني كما أخبر - عليه الصلاة والسلام - عليكم بما يرفع الدرجات،
ويحط السيئات. قال الله - تعالى -: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
[النحل: 97] .(140/124)
المنتدى
وا إسلاماه
ضياء عبد الخالق ثروت
ربّي سبحانك ربّاهْ ... من صرخة وا إسلاماه!
بقلوبٍ يفجعها الخَطبُ ... وعيونٍ تبكي المأساةْ
في كلّ بقاع المعمورة ... إسلامٌ يشكو معاناةْ
وصلاة شعوبٍ مقهورةْ ... تدعو تتضرعُ لله
مذبحة البُسْنا وكُسُوفا ... ظلمٌ يتعدى معناه
والعالم يلهو يتفرج ... والصربُ يعربد لمداه
عاشت كشميرُ المنكوبة ... بمجوسٍ حَرَقَ ضحاياه
قتلٌ تعذيبٌ تنكيلٌ ... زفراتٌ تحلمُ بنجاه
والقدسُ ومسجدنا الأقصى ... أقصى ما يمكن رؤياه
موتٌ وفسادٌ وخرابٌ ... برحاب جهادٍ وصلاة
فاتحدوا يا خيرَ الأممِ ... فُرْقتُكم عجزٌ ووفاة
وحدتنا أملٌ؛ بل قدرٌ؛ ... بل مجدٌ. كم حققناه!(140/125)
المنتدى
إلى أبي مع التحية
سامي بن غتار الثقفي
أَبتاهُ ما هذا الذي تتأملُ ... قلْ يا أَبي الغالي وماذا ينقلُ؟ !
قلْ يا أَبي الغالي فإنّ مشاعري ... ذُبِحتْ، ومن جَسدِي أُصِيب المقتلُ
في كلّ يومٍ ألفُ ألفِ رذيلةٍ ... أهدابُنا بسوادِها تتكحلُ
الكاسِياتُ العارِياتُ غدونَ في ... هذا الزمانِ بضاعةً لا تُغْفَلُ
أختي تقلّدهنّ كلّ صبيحةٍ ... وتحوكُ مثلَ ثيابهنّ وتَغْزِلُ
هذا أخي من كلّ نهر يَرْتَوِي ... للعارِ والتّدميرِ بِئْسَ المنهلُ
نَسَفُوا مبادِئَنا جهاراً وَيْلَهُم ... أَوَ ليسَ فيهم من رَشِيدٍ يَعْقِلُ؟
ضَيّعْتَ ما اسْترعَاكَ ربُكَ يا أَبي ... ماذا تقول إذا أُقِيمَ الفَيْصَلُ؟
أَتقُولُ إنّكَ كنتَ ترقُص للهوى ... طَرَباً، وتعبثُ لاهياً وتُطبّلُ؟ !
أَتقولُ إنّكَ كنتَ تهْجرُ كلّ ما ... يأتي بهِ هذا الكتابُ المُنْزَلُ؟ !
ألبستنا ثوبَ الرذيلَةِ ضافياً ... وتركتنا نختالُ فيه ونرْفُلُ
فاعلم بأنك يا أبي من ربنا ... يومَ القيامةِ عن ضياعي تُسْأَلُ(140/126)
المنتدى
في الأسواق.. (العبادة)
محمد الروبي عبد الوهاب
البيع والشراء من العمليات التي قد تجعل الفرد يتوانى عن الصلاة بحجة
كسب الرزق، وقد قال الله - تعالى - في صنف من الناس: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ] [النور: 36-37] .
وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمّروا [*] أمتعتهم ليس معها أحد،
فتلا سالم الآية ثم قال: هم هؤلاء.
وعن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع
الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أوْلى بالكرم. ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع
عن ذكر الله. فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب الله سائر الخلائق) [1] .
__________
(*) خمّروا: غطوا.
(1) رواه النسائي وابن أبي حاتم.(140/127)
الورقة الأخيرة
الاتجاه المعاكس
مبارك عامر بقنه
لقد كثرت صيحات المخلصين الصادقين حتى إنك لتسمع لصيحاتهم دوياً في
كل مكان في التحذير مما يُبث في القنوات الفضائية من برامج ساقطة هابطة تنشر
الرذيلة، وتدعو صراحة إلى التحلل من كل فضيلة، وبناء مجتمعات موبوءة
بالفواحش.
ولست في هذا المقام أريد التحدث عن هذا الوباء المنتشر المتعفن، ولكن هذه
الكلمات أردت إلجامها فأفلتت من رأس القلم وهذه من لأوائه، فقد أردت أن أتحدث
عن أمر هو أشد مرارة، وأنكى جرحاً، وأعمق ألماً، وهو أمر أخطر فيما أرى
تولى كبره أحد البرامج العربية هدفه إثارة الناس عن طريق المناظرة في قضية مّا
بين اتجاهين متعاكسين في المبدأ والفكر والرأي، كسني وبدعي، وإسلامي
وعلماني؛ فتُلقى الشبه على الناس على شكل حوار يُخَيّلُ لبعضنا أنه مثمر هادف
يثري المشاهد بالمعلومات والمعارف؛ فيشككون في العقيدة والشريعة بطريقة عجيبة
ملتوية فيها إثارة واستمتاع للمشاهد. وليست الخطورة في هذا الأمر؛ فإن الذرة لا
تجر الصخرة، والحق لا يخشى الباطل بل يدمغه فإذا هو زاهق؛ ولكن البلية
والرزية تكمن في أمور وراء ذلك؛ من أدركها وعلم غورها أدرك خطورتها.
فمن ذلك: أن الشخصية الإسلامية المختارة قد تكون ليست مؤهلة شرعياً لهذه
المناظرة فينقصها العلم بالشريعة أصولاً وفروعاً، وينقصها العلم بحال المُناظِر
ومعرفة زيف معتقده وضلال منهجه، وقد تفتقر هذه الشخصية إلى الفصاحة والبيان
والحجة الدامغة، وقد كان السلف (ينهون عن المناظرة، إذا كان المناظر ضعيف
العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل) [1] ويشتد الأمر
خطورة في أنه قد يواجه شخصية منحرفة متمرسة على إلقاء الشبه، وتجيد فن
المراوغة واللعب بالألفاظ. قال علي بن حرب الموصلي: (كل صاحب هوى
يكذب ولا يبالي) [2] فيأتي بالطّمّ والرمّ [*] ، فيظهر الحق باطلاً، وينقلب الباطل
حقاً، فيُضل الناس ويَضل.
ومن أخطاره: أن في ذلك ترويجاً للبدعة والشبه الشيطانية، فيسمعها الناس
فيزينها الشيطان في قلوبهم، وينميها في عقولهم، وقد لا يجدون من يبين لهم فساد
هذه الشبه وبطلانها، فتتعلق بأفئدتهم فيشربونها بجهلهم بدينهم، فيفسد القلب.
وقد ذكر الغزالي في خطر مناظرة أهل البدع والكلام بأنها: (إثارة الشبهات،
وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في الابتداء،
ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ... وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة
وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار
عليه) [3] . ومن المحال لمن عاش في دهاليز الظلمة والحيرة أن يحصل من كلامه الهدى واليقين؛ فما عندهم إلا لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، فأقوالهم تسقم القلب، وتقتل السنن وتزاحمها (فالشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن) [4] .
ومن أخطاره: أن فيه إطراء وثناء على أهل البدع والأهواء ووصفهم
بألقاب التقدير والتمجيد، وهم عصاة منحرفون قد أذلهم الله ببدعتهم. والثناء على
المبتدع الضال فيه فساد للدين، وفتنة للمسلمين، بل جاء عن السلف كما ذكر ابن
تيمية: (النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم؛ وهذا؛ لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً
قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعة، فإنه يجب منعه من
ذلك) .
فهذه البرامج وأمثالها ما هي إلا باب لترويج البدعة، وتشكيك دهماء الناس
فيما عندهم بأسلوب المكر والحيل مدعين أن هذه (حرية الفكر) فلا نحجر على
الناس عقولهم؛ فكل شخص يأتي بما عنده ويناقش ويجادل، وليس في هذا مخالفة
شرعية؛ فما على من أراد أن ينشر الفساد ويضل الناس إلا أن يلبسه ألفاظاً
مزخرفة فيجعله تحت مسمى: (حرية الفكر) أو (الحرية الشخصية) وما أشبه ذلك
من ألفاظ يمليها عليهم شيطانهم.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، 7/173.
(2) التنكيل للمعلمي، 1/44.
(*) الطم: الرطب. الرم: اليابس.
(3) إحياء علوم الدين للغزالي، 1/136.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/597.(140/128)
جمادى الأولى - 1420هـ
سبتمبر - 1999م
(السنة: 14)(141/)
كلمة صغيرة
الخسارة بفقدان العلماء
العلماء الربانيون هم صمام الأمان في كل المجتمعات الإسلامية لكونهم
(يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى،
ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من ضال تائه
قد هدوه!) كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-.
وهم أصحاب البصائر الذين يقضون بها ويعلمونها الناس، وفقد الذين قاموا
منهم بأداء رسالتهم في توجيه الأمة وكشف المخططات المشبوهة حيالها خسارة،
وبخاصة - في هذا الزمان -.
وكم انتعشت صدور أعداء هذا الدين حين مات نفر من العلماء في الآونة
الأخيرة أمثال: (الشيخ عبد العزيز بن باز، وصالح بن غصون، ومصطفى
الزرقا، وعلي الطنطاوي، وغيرهم) ؛ حيث أسهموا - رحمهم الله، وجزاهم عن
الأمة خير الجزاء - باداء رسالتهم الدعوية كل في مجال تخصصه.
فالشيخ ابن باز كان مدرسة جامعة لألوان من الخير، والشيخ ابن غصون كان
مفتيا قديرا، والشيخ الزرقا كان فقيها محققا لا سيما في المعاملات المعاصرة،
والشيخ الطنطاوي كان داعية وأديبا موفقا - رحمهم الله، وعوض الأمة عنهم - فقد
كانوا سدودا في طريق علمنة المجتمعات، وشهبا في وجوه أدعياء التطوير والتنوير! ولطالما فضحوا تلك الاتجاهات وحذروا منها.
ولا شك أن موتهم خسارة، وحسبهم انهم ورثة الأنبياء كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم، فعلى الأمة أن توجد العلماء الفحول مكانهم وتمكنهم من الترجيه
والأخذ عنهم ما داموا من ذوي المنطلقات الشرعية وعلى نهج سلفنا الصالح؛ فهم
سفينة نوح - فعلا - من تخلف عنهم غرق. والله من وراء القصد،،،(141/1)
الافتتاحية
الإعلام والتغيير الاجتماعي
الحديث بكثرة عن موضوع ما من خلال أكثر من منبر ولسان، والدندنة حوله
بالحق والباطل حتى يبدو للناس وكأنه تيار كاسح أسلوب يسلكه بعض من يحملون
هَمَّ التغيير لتمرير طروحاتهم بحجة أن هذا هو التيار العام في هذا المجتمع أو ذاك، وأن الوقوف أمامه ضرب من الحمق، وأن الواجب هو التعامل معه والتسليم به
دون مواجهة. وهذا الأسلوب يظهر واضحاً في أكثر من مناسبة في أغلب
المجتمعات - إسلامية أو غير إسلامية - عند حدوث صخب فكري أو سياسي أو
اجتماعي حول قضية معينة أو خلال حملة انتخابية لشخصية سياسية أو بلدية؛ إذ
يلجأ مُلاَّك الإعلام والمتنفذون فيه إلى أسلوب الحشد واحتكار الأصوات لمحاصرة
المتلقين ذات اليمين وذات الشمال بالحديث في نسق واحد عن رأي أو دعوة يريدون
لها الانتصار والانتشار فيجعلونها محور حملاتهم الإعلامية.
ومُلاَّك الإعلام بجميع أنواعه يتكئون على حتمية نفسية واجتماعية تقول: إن
المعلومة وإن كانت كاذبة، والفكرة وإن كان أنصارها قلة، قد تتحول في عقول
الأفراد إلى عكس ذلك إذا كثر تردادها وبدا للجماهير أن الناس يؤيدونها (وإن كان
الواقع بخلاف ذلك) ؛ ولذا فإن الحملات الانتخابية في كل مكان تصاحبها حملات
استطلاعات الرأي التي وإن كان الأصل فيها أنها تعبر عن رأي الجماهير حول ذلك
الأمر أو ذلك الشخص إلا أنها قد تكون سائقاً للجماهير إلى هذا الأمر أو ذاك من
حيث لا يشعرون. فمقالات تنشر اليوم في مجلات وجرائد متعددة تنادي بفكرة أو
تطبل لشخصية مصحوبة ببضع برامج متلفزة حول الموضوع نفسه في مساء ذلك
اليوم كافية لجعل استطلاعات الرأي صباح اليوم التالي تصب في الاتجاه الذي يراد. وعندما يفاجأ أصحاب الرأي الآخر بتلك الجماهيرية التي تؤيد ذلك الرأي يسقط
نصفهم في منتصف الطريق.
هذا الأمر وإن كان ظاهراً في الدول التي تطبق ما يسمى بالديموقراطية
الغربية، إلا أنه أصبح منهجاً يسلكه غيرهم في سبيل تحقيق ما يريدونه من تغيير؛
خصوصاً في تلك المجتمعات الإسلامية التي تتصارع عليها تيارات التغريب
ودعوات تجفيف المنابع بحكم صمودها مِن قبلُ في وجه الفكر الاشتراكي، ومِن بعدُ
في وجه الفكر الغربي (الليبرالي) .
ومن التطبيقات البارزة لهذه الظاهرة: (قضية المرأة) ؛ فلقد كانت - ولا
زالت - قضية صمود المرأة المسلمة خصوصاً في بعض المجتمعات الإسلامية
مسرحاً لمنازلات متعددة بين أنصار المرأة المسلمة وأعدائها، هذه المنازلات
تتفاوت من مجتمع لآخر حسب مستوى التغريب الذي وصل إليه.
فمن بلد إسلامي سيطر عليه العلمانيون تُمنع المرأة فيه من مجرد غطاء
الرأس، وتُهدد بحرب استئصالية، ومحاكمة الحزب الذي تنتمي إليه بهذه التهمة بل
الجريمة في زعمهم إلى مجتمع سبقت فيه الصحوة الإسلامية غيرها؛ حيث تنطلق
دعاوى التحرر والاختلاط ونزع حجاب الوجه مصحوبة بحملات إعلامية منظمة
عبر منافذ إعلامية مقروءة ومرئية تشبه في فلسفتها الضربات الجوية العسكرية التي
تهدف إلى إنهاك الخصم تمهيداً للانقضاض عليه. هذه الحملات الإعلامية
استخدمت سلاح الحشد والأرقام المضللة مصحوبة بتلميحات وجداول زمنية للتغيير، ووضع هذه الحملة في قالب المصلحة المتوهمة والحرص على رقي المجتمع.
ورغم إخفاق تلك الحملات وانكشافها ووقوف الرأي العام ضدها فإنها أثارت
عدداً من التساؤلات والوقفات الجديرة بالتأمل. ومنها:
- ليس بمستغرب أن يتفنن دعاة أي فكرة ومنهج ويستميتون من أجل بث
فكرتهم ومنهجهم؛ وإنما المستغرب هو التقاعس عن ذلك.
- التيارات العلمانية رغم أنها نخبوية - حسب زعمها - إلا أنها تيارات
منظمة، لها أهداف قريبة وأخرى بعيدة المدى، وهي تستخدم الإعلام والاحتكار
الفكري من أجل بث شعور كاذب في المجتمعات بأن طروحاتها تمثل رأي السواد
الأعظم.
- يوماً بعد يوم يزيد الاستقطاب بين الإعلام من جهة وبين المجتمعات
الإسلامية من جهة أخرى، مما ينذر بأخطار تربوية على الناشئة؛ فبعض ما هو
محرم وممنوع في البيوت والمدارس وكتب الفقه وبرامج الفتوى والمساجد مباح في
وسائل الإعلام! هذا التناقض قد يستطيع أصحاب الحكمة التعامل معه على مضض، بخلاف الشباب والفتيات الذين يعيشون في طور المراهقة وطور النمو العقلي.
- لا بد أن يعي الإعلام الإسلامي دوره وواجبه في الوصول إلى عيون وآذان
المجتمعات، لتسمع صوتاً آخر، وترى صورة أخرى. فمن غير المعقول الانشغال
فقط بمخاطبة الذات وترك الجماهير للآخرين. لقد كان الإعلام ورجاله يُسمَّون
بالسلطة الرابعة في أي مجتمع، وها نحن نراهم اليوم في مراكز أكثر تقدماً.
- يجب تربية المجتمعات والأفراد على أن يكون معيار القبول والرفض
عندهم هو ميزان الشرع والدليل وليس ميزان الكثرة والغلبة الفكرية أو الإرادة
السياسية أو الشعبية.
- يجب أن يكون للمجتمعات الإسلامية القدرة على تصحيح أخطائها ذاتياً حتى
لا ندع مساحة للعلمانيين ولا ثغرة ينْفذون من خلالها؛ فحماية المرأة من أي ظلم يقع
عليها، وتمحيص حقوقها التي كفلها لها الشرع مما علق بها من أوضار الجاهلية
والعلمانية أمور يجب عدم السكوت عنها ولا إهمالها.
- فضح الطروحات العلمانية التي تجعل من المرأة ضحية، وهم يريدونها
طُعماً يُفسِدون به المجتمعات. إن النساء كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
شقائق الرجال لهن دورهن في بناء المجتمعات في إطار ما قرره الشرع المطهر،
وإقحامهن في كل شاردة وواردة ذريعة لاختلاطهن بالرجال وقتل الحياء في نفوسهن
وإشاعة الرذيلة بينهن، وهذا ما يجب أن تتنبه له النساء المسلمات حتى لا يفتنهن
أولئك المشبوهون عن رسالتهن السامية بدعاوى كاذبة ومآرب معروفة.(141/4)
إشراقات قرآنية
وقفات مع خمس آيات من سورة الأحزاب
د. عبد الرحمن آل عثمان
هذه وقفات مع جملة من الآيات الواردة في سورة الأحزاب التي تتصل بتربية
القرآن أزواجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيةً رفيعة؛ ذلك أن البيوت الرفيعة
والنفوس الشريفة يليق بها نوع خاص من التربية التي تترفع بصاحبها عن سفاسف
الأمور ودنيء الخلال إلى أرقى مراتب الكمال البشري الممكن لأمثاله، فتسمو همته، وتزكو نفسه؛ وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم.
وهذه الآيات المشار إليها هي قول الله - تعالى: [يا نساء النبي لستن كأحد
من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا
معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين
الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا *
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين
والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين
والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله
كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما * وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد
ضل ضلالا مبينا] [الأحزاب: 32 - 36] .
الوقفة الأولى: مع قوله يا نساء النبي حيث خاطبهن بهذا النداء المقتضي
إصغاءَ المخاطَب وتهيُّؤَه لتلقي ما خوطب به.
الوقفة الثانية: أنه أضافهن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وفي هذا من
رفع أقدارهن وتشريفهن ما فيه، إضافة إلى ما يشعر به من سمو التعاليم التي
سيوجهها لهن نظراً لعلو مرتبتهن.
الوقفة الثالثة: مع قوله: لستن كأحد من النساء ذلك أن نفي المشابهة هنا
يقتضي نفي المساواة، فكنى به عن الأفضلية على غيرهن، وهذا بالقيد بعده وهو
في:
الوقفة الرابعة: مع قوله: إن اتقيتن، فهذا الشرط متعلق بما قبله على
الأرجح، وجوابه دل عليه ما قبله في قوله: لستن كأحد من النساء والمعنى - والله
أعلم -: إن اتقيتن فأنتن أفضل من غيركن. ومعلوم أن مجرد كونهن أزواج نبي
لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن؛ لأن القرآن دل على ذلك كما في آخر سورة
التحريم، وهو قوله تعالى: [ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط
كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل
ادخلا النار مع الداخلين] [التحريم: 10] فمن الغلط جعل صحبة الأشراف دافعة
للعقاب على الإسراف.
الوقفة الخامسة: وهو أن في قوله: إن اتقيتن دلالة على التحريض كما تشعر
به الصيغة، ومعلوم أن فعل الشرط - هنا - مستعمل في الدلالة على الدوام. أي:
إن دمتن على التقوى. ومعلوم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن متقيات قبل
نزول هذه الآية.
الوقفة السادسة: مع قوله: فلا تخضعن بالقول فهذا النهي عن الخضوع
بالقول جاء عقب الإشارة إلى شرفهن وفضلهن على غيرهن إن تحلين بالتقوى،
ومجيء هذا النهي بعدما سبق مع دخول الفاء المشعرة بالتعليل يدل على أن خضوع
المرأة بكلامها مع الرجال الأجانب أمر يتنافى مع الشرف والتقوى كما لا يخفى.
الوقفة السابعة: أصل معنى الخضوع هو التذلل، وأُطلق هنا على الرقة في
الكلام لمشابهتها التذلل، وعليه؛ فما حاجة المرأة المسلمة لذلك؟
الوقفة الثامنة: الباء في قوله: بالقول يجوز أن تكون للتعدية، أي: لا
تخضعن القول، أي: لا تجعلنه خاضعاً ذليلاً، أي: رقيقاً مفككاً، وقد أسند
الخضوع إليهن أنفسهن؛ لأن التفكك والتميع في القول يؤثر على تفكك القائل كما لا
يخفى.
الوقفة التاسعة: في قوله: فيطمع الذي في قلبه مرض فالفاء هنا مرتبة على
ما سبق من ترتب النتيجة على السبب؛ إذ إن تميع المرأة في كلامها مع الرجل
الأجنبي يؤدي إلى انصراف القلوب المريضة إليها وطمعهم بأمر هو من أغلى ما
تحافظ عليه المرأة وتتزين به، ألا وهو: عفتها وشرفها.
ومن المعلوم أن الطمع أكثر ما يستعمل في كلام العرب في الأمر الذي يقرب
حصوله، وقد يستعمل بمعنى الأمل؛ ولهذا يقولون لمن أمَّل أمراً بعيد الوقوع:
طمع في غير مطمع. وعليه فإن المرأة التي تخضع في كلامها مع الرجال الأجانب
إنما تحرك النفوس المريضة نحوها؛ حيث يأملون تحصيل مطلوباتهم الرخيصة
منها؛ فالمرأة بطبيعتها جَبَلَ الله نفوس الرجال على الميل إليها، فإذا صاحب هذه
الجِبِلَّة داعٍ آخر من الكلام الرقيق الرخو، أو التزين أمامهم أو غير ذلك؛ فإن ذلك
الميل الجِبِلِّيَّ يقوى ويزداد عند من لا يراقب الله - عز وجل -.
الوقفة العاشرة: أصل المرض: اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، والمراد به هنا: اختلال الوازع الديني. والله المستعان.
الوقفة الحادية عشرة: أنه قال: فيطمع ... فحذف متعلق الفعل، ولم يقل
(فيطمع فيكن) مثلاً؛ ذلك لتنزههن وتعظيم شأنهن، وهذا له نظائر في القرآن ليس
هذا موضع ذكرها.
الوقفة الثانية عشرة: في قوله: وقلن قولا معروفا أَمَر بعد أن نهى؛ فهو من
باب التخلية قبل التحلية، وهو الأكمل؛ ذلك أن المقصود هو الفعل لا الترك،
والنفوس خلقت لتفعل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره كما قرر ذلك شيخ
الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله. والحاصل أنه لما أمرهن بالتقوى التي من
شأنها التواضع ولين الكلام نهاهن عن الخضوع بالقول، ثم أمرهن بعد ذلك بالقول
المعروف.
الوقفة الثالثة عشرة: في أن قوله: وقلن قولا معروفا احتراس لئلا يفهمن أن
المراد المبالغة في الخفض حتى يكون كحديث السرار، أو الخشونة في الرد
والمخاطبة بالغلظة والجفاء.
الوقفة الرابعة عشرة: القول المعروف يشمل هنا الألفاظ والأسلوب:
أما الألفاظ فيراعى فيها ثلاثة أمور:
أ - ألا تكون غليظة منكرة تؤذي السامع.
ب - ألا تكون رقيقة لا تصلح في مخاطبة الرجال الأجانب كقولها مثلاً:
(فديتك) ، أو (علشاني..) أو نحو ذلك كما يفعل بعض النساء مع الباعة ونحوهم.
ج - أن يكون الكلام قدر الحاجة دون زيادة، والأصل في هذا قول زوج
إبراهيم - عليه السلام - حينما بشرها الملائكة بالولد: [ ... عجوز عقيم]
[الذاريات: 29] فذكرت علتين يبعد معهما الولد وهما: كبر السن، والعقم.
فالواجب على المرأة المسلمة ألا تطيل في كلامها مع الرجال الأجانب؛ وإنما
تقلل الكلام ما أمكن.
وأما الأسلوب: فلا تتميع في كلامها، ولا ترقق العبارات، أو تتكلم بكلام
ناعم مع رجل أجنبي، وإنما تتكلم بكلام جزل مختصر لا ترخيم فيه؛ فلا تخاطب
الرجال الأجانب كما تخاطب زوجها.
الوقفة الخامسة عشرة: في قوله: وقرن في بيوتكن حيث قرأه نافع وعاصم:
وقرن من الاستقرار وأصله: (اقررن) والمراد: المكث والبقاء في البيت كما
يقال: قر الماء في الحوض، وقرأه الباقون (وّقٌرًنّ) ، فيحتمل أن يكون من الوقار، أو من القرار، وهاتان القراءتان متواترتان، ومعلوم أن القراءتين إن كان لكل واحدة منهما معنى يغاير المعنى في القراءة الأخرى فهما بمنزلة الآيتين، وتكون المعاني التي دلت عليها هذه القراءات كلها صحيحة معتبرة داخلة في تفسير الآية، لا سيما إذا كان بين هذه المعاني تلازم في المعنى، كما هنا؛ حيث إن المرأة مأمورة بالبقاء في البيت، والمكث فيه الوقار.
ولا يخفى أن هذه الأمور متلازمة؛ حيث إن وقار المرأة يتم لها إن بقيت في
بيتها، وكلما كثر خروجها كلما كان ذلك على حساب وقارها؛ فهو أمر يُذهب
حشمتها وماء وجهها في الغالب كما هو مُشاهَد.
وهذا أصل عظيم، ومطلب شرعي تربوي هام ينشأ من التزامه صيانة المرأة
المسلمة وحفظ حشمتها وكرامتها.
ومن نظر في النصوص الشرعية المتعلقة بهذا المعنى حصل له علم جازم بأن
الشارع قصد إبقاء المرأة في بيتها قدر الإمكان بعيداً عن أعين الرجال فضلاً عن
مخالطتهم.
ومن النصوص الدالة على ما ذكرت ما أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان
بإسناد حسن عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي - رضي الله عنهما - أنها جاءت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك.
قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في
مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي) [1] .
قال: فأمرَتْ فبُني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه وكانت تصلي
فيه، حتى لقيت الله - عز وجل -.
هذا إذا كان سبب خروجها من بيتها الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي مسجده، فكيف إذا كان الخروج إلى الأسواق وأماكن الترفيه ونحوها؟ !
وأخرج أحمد والطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم عن أم
سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير مساجد
النساء قعر بيوتهن) [2] .
وأخرج عنها الطبراني في الأوسط بإسناد حسن أنها قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها،
وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من
صلاتها في مسجد قومها) [3] .
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً: (لا تمنعوا
نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن) [4] .
وأخرج عنه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم: (المرأة عورة وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها لا تكون أقرب
إلى الله منها في قعر بيتها) [5] ، وقد أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان من
حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند ابن خزيمة والطبراني في
الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من
أشد مكان في بيتها ظلمة) [6] ، وأخرج ابن خزيمة نحوه من حديث أبي هريرة -
رضي الله عنه -، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - (النساء عورة، وإن
المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان [7] ، فيقول: إنك لا
تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ! ! وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال: أين ترتدين؟ ! فتقول:
أعود مريضاً، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل
أن تعبده في بيتها) [8] .
وثبت عنه مرفوعاً - كما عند أبي داود وابن خزيمة - (صلاة المرأة في
بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها [9] أفضل من صلاتها
في بيتها) .
وأخرج ابن خزيمة والطبراني في الكبير عن أبي عمرو الشيباني أنه رأى
عبد الله - يعني ابن مسعود - يُخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول: ... (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن) [وإسناده حسن] [10] .
فهذه النصوص وغيرها مما يدخل في هذا الباب تدور حول معنى واحد ألا
وهو إبعاد المرأة عن الرجال ما أمكن، ولهذا نجد الشارع يحثها - إن هي صلت
مع الرجال - أن تصلي في آخر الصفوف كما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف
الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) [11] .
وإذا تقرر هذا المعنى فإننا نقول: أين عامة النساء من العمل على تحقيق ذلك
المقصد من مقاصد الشريعة؟ إذ إن واقع كثير منهن يخالف ذلك تماماً؛ حيث
يُكثرن الخروج، ويُزاحمن الرجال في الأسواق والمتنزهات، وعلى أبواب المسجد
الحرام لحضور الصلاة المفروضة وغير المفروضة. وكثير منهن قد جعلن الحجاب
لوناً من الفتنة فأشغلن قلوب الرجال في أطهر بقعة على وجه الأرض! ! .
وقد قيل لسودة - رضي الله عنها - لِمَ لا تحجين، ولا تعتمرين كما يفعل
أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي؛ فوالله! لا
أخرج من بيتي حتى أموت. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى
أخرجت جنازتها.
وإذا كان الشارع يعتبر صلاة المرأة في أقصى مكان في دارها خير من
صلاتها خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، مع أن المساجد هي أحب
البقاع إلى الله؛ فكيف يقال بأبغض البقاع إلى الله وهي الأسواق؟ !
وفي النصوص السابقة نجد أن أفضل مكان تصلي به المرأة هو مخدعها،
وهو غرفة صغيرة داخل غرفة كبيرة، ويليه في الأفضلية صلاتها في بيتها - أي
غرفتها كما يعبرون عنها اليوم - ويلي ذلك صلاتها في حجرتها، أي صحن الدار
وهو ما تكون أبواب البيوت - أي الغرف - إليها، ويطلق اليوم على الصالة،
ويلي ذلك صلاتها في دارها وهو المنزل عموماً بناؤه وفناؤه.
الوقفة السادسة عشرة: مع قوله: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
أصل التبرج هنا هو البروز والظهور، ومنه (البُرج) ؛ لظهوره وبروزه
وانكشافه للعيون، وتبرج المرأة هو إظهارها زينتها وتصنُّعها بها، وذلك بأن تظهر
المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال.
الوقفة السابعة عشرة: تبرج الجاهلية هنا يدخل في معناه كل العبارات التي
ذكرها السلف؛ حيث يشمل خروج المرأة تمشي بين يدي الرجال، وتكسُّرَها في
مشيتها وتبخترها فيها، كما يشمل ترك التستر؛ حيث تظهر نحرها أو شعرها أو
غير ذلك مما هي مطالبة بستره عن أعين الرجال الأجانب.
الوقفة الثامنة عشرة: الجاهلية: مأخوذة من الجهل، والمراد المدة والحال
التي كان عليها العرب قبل الإسلام، وهي حالة نفسية شعورية وواقعية بعيدة عن
هدي الإسلام. والجاهلية الأولى هنا والله أعلم هي ما كان عليه الناس قبل مبعث
الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوقفة التاسعة عشرة: دلت الآية الكريمة على أن التبرج عمل جاهلي،
وعليه فإن المرأة المتبرجة فيها خصلة من خصال الجاهلية بقدر تبرجها.
وبهذا - أيضاً - يتبين أن السفور والتبرج ومخالطة الرجال وتكسر المرأة في
مشيتها أمامهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى التبرج ذلك كله ليس من التمدّن في
شيء، بل هو تخلف ورجوع إلى عادات العهود المظلمة التي جاء الإسلام فأبطلها
من أصلها.
الوقفة العشرون: مع قوله: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة حيث خص هاتين
العبادتين بالذكر؛ لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية.
وكثيراً ما يقرن الله بينهما؛ لأن سعادة العبد دائرة على أصلين:
الأول: إحسانه مع خالقه، والصلاة من أعظم ما يتحقق به ذلك.
الثاني: إحسانه إلى الخلق، والزكاةُ من أعظم ما يتحقق به ذلك، والله أعلم.
الوقفة الحادية والعشرون: لما أمرهن بالبقاء في البيوت أرشدهن إلى ما
يقضين به أوقاتهن وهو طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاشتغال
بذلك، لا أن تبقى في بيتها مع انشغالها بما لا فائدة فيه بَلْهَ المحرمات سواء كانت
مشاهدة أو مسموعة أو غير ذلك.
الوقفة الثانية والعشرون: مع قوله: وأطعن الله ورسوله حيث عطف العام
على الخاص، وهو يشمل فعل المأمورات وترك المنهيات ومن ذلك الأمر بالبقاء
في البيوت والنهي عن التبرج والخضوع بالقول.
الوقفة الثالثة والعشرون: مع قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت الإرادة هنا شرعية، وقد شرع الأمور السابقة ليتحقق هذا المقصد.
ومعلوم أن الإرادة الشرعية الدينية مستلزمة للرضا والمحبة، فالله - تعالى -
يحب كل ما يؤدي إلى الحشمة والعفاف، ويكره ما يضاد ذلك.
الوقفة الرابعة والعشرون: الرجس في الأصل كل مستقذر تعافه النفوس،
ومن أقذر المستقذرات: معصية الله - تعالى - فهو يطلق على المستقذرات الحسية
والمعنوية: فالحسية مثل النجاسات، والمعنوية كالمعاصي والذنوب وما يترتب
عليها من الإثم والعذاب، فاستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر؛ لأن
عِرض المقترف للقبائح يتلوث بها ويتدنس، كما يتدنس بدنه بالأرجاس، أما
الحسنات فالعِرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر.
وقد أذهب الله ذلك كله عن أهل البيت - رضي الله عنهم أجمعين -.
وُيعلم مما سبق أن طهارة المرأة وشرفها وتنزهها عن كل دنس إنما يتم ذلك
بالعمل بما أرشد إليه القرآن في هذه الوصايا خاصة، وفي غيرها.
الوقفة الخامسة والعشرون: مع قوله: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات
الله والحكمة؛ حيث عبر بالتلاوة دون النزول ليعم جميع الآيات النازلة في بيوتهن
وفي غيرها، كما لم يعيِّن التالي؛ ليعم: تلاوة جبريل، والنبي صلى الله عليه
وسلم، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن.
الوقفة السادسة والعشرون: قوله: واذكرن يشمل التذكر والتفكر في القلب
والحفظ والتلاوة واللزوم ومجانبة الغفلة عما أمر الله به أو أمر به رسوله صلى الله
عليه وسلم.
الوقفة السابعة والعشرون: مع قوله: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات
والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين
فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما.
فهذه الآية يمكن أن تكون استئنافاً بيانياً؛ لأن قوله - تعالى -: ومن يقنت
منكن ... بعد قوله: لستن كأحد من النساء ... يثير تساؤلاً في نفوس المؤمنات وهو: هل هن مأجورات على أعمالهن؟ وهل هن مطالبات بما سبق؟ ويمكن أن يكون
استئنافاً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثامنة والعشرون: في هذه الآية تدرج من الأدنى إلى الأعلى؛ حيث
ذكر الإسلام، ثم ذكر المرتبة التي فوقه وهي الإيمان، ثم ذكر القنوت وهو ناشئ
عنهما.
الوقفة التاسعة والعشرون: قوله: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات فالإسلام هنا هو إسلام الظاهر، وهو انقياد الجوارح وخضوع العبد لربه
- جل وعلا - بفعل ما أمر وترك ما نهى؛ لأنه جاء مقترناً بالإيمان الذي هو انقياد
الباطن وإقراره وتصديقه، ومن إسلام المرأة لربها خضوعها لهذه الأوامر واجتنابها
للنواهي.
وبهذا يُعلم أن تبرج المرأة ومخالطتها للرجال أمر يتنافى مع إسلامها لربها -
جل وعلا - فالإسلام التام هو أن يطيع العبد ربه طاعة مطلقة، ويخضع له
خضوعاً كاملاً.
الوقفة الثلاثون: قوله: والقانتين والقانتات والقنوت هو دوام الطاعة كما
حققه شيخ الإسلام في رسالة مستقلة؛ فالمرأة القانتة لله - عز وجل - هي المرأة
المطيعة الدائمة على الطاعة، فلا تطيع ربها في الأمر الذي يروق لها وتعصيه فيما
يخالف هواها، أو تطيعه بعض الوقت ثم تُعرِض بعد ذلك.
الوقفة الحادية والثلاثون: مع قوله: والصادقين والصادقات، وهذا يشمل
الصدق في الأقوال والأعمال والنيات كما قال تعالى في سورة البقرة: [ليس البر
أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك
هم المتقون] [البقرة: 177] ، قال ابن القيم - رحمه الله -: فالذي جاء بالصدق
هو مَنْ شأنه الصدق في: قوله، وعمله، وحاله:
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس
على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص،
واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، وبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق.
الوقفة الثانية والثلاثون: مع قوله: والصابرين والصابرات، والصبر نصف
الإيمان؛ لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. وهو من الإيمان
بمنزلة الرأس من الجسد.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيته، وصبر على
أقداره المؤلمة، بحبس النفس عن الجزع والتسخط، واللسان عن الشكوى،
والجوارح عن كل ما لا يليق من لطم الخدود وشق الجيوب وغير ذلك مما في معناه.
ولا يخفى أن الصبر على طاعة الله والصبر عن معصيته أكمل من الصبر
على ما لا يد للإنسان فيه كالأقدار المؤلمة؛ لأن الأول صبر اختيار ورضاً ومحاربة
للنفس، بخلاف ما ليس للعبد فيه حيلة غير الصبر.
ثم إن الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على ترك المعاصي؛ لأن
مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم
الطاعة أبغض إليه من مفسدة وجود المعصية كما قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية -
رحمه الله - والصبر يكون بالله ولله ومع الله:
فالأول: الاستعانة به كما قال سبحانه: [واصبر وما صبرك إلا بالله]
[النحل: 127] ، أي: إن لم يُصبِّرْك لم تصبر.
والثاني: الصبر لله: وهو أن يكون الباعث له على الصبر إرادة وجه الله.
والثالث: الصبر مع الله: وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، وهذا
الأخير هو أشد أنواع الصبر كما فصله ابن القيم - رحمه الله -.
الوقفة الثالثة والثلاثون: مع قوله: والخاشعين والخاشعات. وأصل الخشوع: الانخفاض والذل والسكون. فهو تذلل القلوب لله - عز وجل - مع السكون
والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع بدافع الخوف من الله - تعالى -، وجماعه
التذلل للأمر، والاستسلام للحكم، والتواضع لنظر الحق.
فالتذلل للأمر: هو تلقِّيه بذلة القبول والانقياد، ومواطأة الظاهر والباطن.
والاستسلام للحكم الشرعي: ألا يعارضه بهوى النفس.
الاتِّضاع للحق: هو انكسار القلب والجوارح لنظر الرب إليها [12] .
الوقفة الرابعة والثلاثون: مع قوله: والمتصدقين والمتصدقات.
قال ابن فارس (الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة الشيء قولاً وغيره، ومن ذلك الصدق خلاف الكذب، سُمِّيَ لقوته في نفسه؛ ولأن الكذب لا قوة له فهو
باطل) كما سمي صَداق المرأة بذلك لقوته وأنه حق يلزم، والصداقة صدق الاعتقاد
في المودة مشتقة من الصدق في الود والنصح.
ولعل الصدقة سميت بذلك لدلالتها على ثبوت إيمان صاحبها وصدق دعواه،
كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (الصدقة برهان) [13] .
وهي تشمل ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، سواءً كان واجباً أو
تطوعاً.
ويدخل في معناها ما أسقطه الإنسان من حقه، سواءً كان مالياً أو غيره كما
قال - تعالى -: [والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له] [المائدة: 45]
أي: لم يقتص وإنما عفا، وقال - تعالى -: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة
وأن تصدقوا خير لكم [البقرة: 280] ، أي بإسقاط الدّيْن عن المعسر، أو إسقاط
جزء منه، وقال - تعالى -: [ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا]
[النساء: 92] ، أي بإسقاط الدية والتنازل عنها، وهكذا.
الوقفة الخامسة والثلاثون: مع قوله: والصائمين والصائمات وهو من أجلِّ
القُربات كما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) [14] ، وهو
داخل في معنى الصبر، والله يقول: [إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير
حساب] [الزمر: 10] .
الوقفة السادسة والثلاثون: مع قوله: والحافظين فروجهم والحافظات؛ حيث
ذكر ذلك بعد الصوم؛ ذلك أن الصوم من أعظم الأمور المعينة على حفظ الفرج كما
في الحديث: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [15] ، فهذا الترتيب
في الآية في غاية التناسب، ومثله ما ورد في سورة النور: [قل للمؤمنين
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ... ] [النور: 30] ؛ حيث إن غض
البصر سبب لحفظ الفرج.
الوقفة السابعة والثلاثون: حفظ الفرج يشمل حفظه عن مقارفة كل لون من
ألوان الاستمتاع عدا الاستمتاع بالزوجة، ومِلْك اليمين، كما قال تعالى: [والذين
هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون] [المؤمنون: 5-7] ، كما يشمل حفظه
بالستر فلا يراه أحد عدا من استُثني في الآية، والستر هنا بترك التكشف، أو لبس
ما يَحْجِمُ العورة لضيقه.
الوقفة الثامنة والثلاثون: مع قوله: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وهذا
يشمل ذكر القلب واللسان وترك الغفلة، فهو عبودية القلب واللسان، وهي عبادة
يسيرة على العبد غير مؤقتة بوقت مع ثقلها في الميزان؛ ولهذا جاء تقييدها بالكثرة
من بين سائر العبادات كما قال - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا
كثيرا] [الأحزاب: 41] ، وقال: [واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون]
[الأنفال: 45] .
والذكر له أنواع ومراتب متعددة لا مجال لذكرها هنا فلتراجع في مظانِّها.
الوقفة التاسعة والثلاثون: مع قوله - تعالى -: أعد الله لهم مغفرة وأجرا
عظيما، حيث نكَّر المغفرة هنا؛ وهذا يدل على التعظيم أي: مغفرة عظيمة.
والأجر: هو الجزاء والثواب، ووصفه بالعِظَم كما وصف المغفرة بذلك.
الوقفة الأربعون: أن قوله: أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما يدل على أن من
عمل الصالحات واتقى الله - عز وجل - فإن الله يجمع له بين غفران الذنوب
ومضاعفة الأجور.
وغفران الذنوب: يكون بأمرين:
الأول: الستر بين العباد فلا يفضحه بها.
الثاني: أن يقيه شؤمها، فلا يعذبه عليها.
وهذا أصل معنى الغفر، ومنه سُمِّيَ المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس لابسه، ويقيه
الضربات الموجهة له، وهذا المعنى، مقابلة المحسن بالمغفرة والثواب، دل عليه
كثير من الآيات والأحاديث كما قال تعالى: [وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من
الليل إن الحسنات يذهبن السيئات] [هود: 114] ، وغير ذلك مما يدخل في هذا
المعنى.
الوقفة الحادية والأربعون: مع قوله: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم] فهذا لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع،
ومثل هذا الاستعمال يدل على المنع والحظر، وأن ذلك الشيء لا يكون: إما عقلاً
نحو: [ما كان لكم أن تنبتوا شجرها] [النمل: 60] .
أو ما علم امتناعه شرعاً نحو: [وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب] [الشورى: 51] .
أو ما كان محرماً شرعاً نحو: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا] [الأحزاب: 36] الآية.
الوقفة الثانية والأربعون: مع قوله: أمرا وهو يشمل الأمر الطلبي والأمر
الخبري؛ فالطلبي كالأمر بالحجاب والبقاء في البيوت وعدم مخالطة الرجال،
والخبري كجعل الطلاق بيد الرجل، والحكم بأن للمرأة نصف ميراث الرجل،
ونحو ذلك.
الوقفة الثالثة والأربعون: قوله: لمؤمن ولا مؤمنة، نكرتان في سياق النفي
وهذا من صيغ العموم، أي: كل مؤمن ومؤمنة. ومعلوم أن إيمان العبد يقتضي
الانقياد والتسليم والإذعان، فلا يكون للمؤمن اختيار مع اختيار الله تعالى وإلا كان
ذلك نقصاً في إيمان العبد، وهذا أحد المعاني الداخلة تحت قوله تعالى: [النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم] [الأحزاب: 6] إذ من معاني هذه الأولوية هنا أن
النفس إذا أمرت بأمر وأمر الرسول بأمر كان المقدَّم أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
الوقفة الرابعة والأربعون: مع قوله: ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا، وهذا يدل على أن من كان له اختيار مع اختيار الله - تعالى - واختيار
رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون عاصياً؛ لتقديمه محبوبات النفس على
مطلوب الحق.
الوقفة الخامسة والأربعون: هذه الآية وإن كانت متعلقة في الأصل بما بعدها
من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ابنةَ عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن
حارثة، إلا أن عموم معناها مُعْتَبَرٌ في كل ما أمر به الشارع أو نهى عنه؛ فإذا
قضى الشارع على المرأة أن تلازم بيتها ولا تكثر من الخروج، ولا تخالط الرجال
الأجانب، ولا تتبرج أو تذهب إلى أماكن الفتنة فإن الواجب عليها التسليم لأمر الله، والانقياد لشرعه، ولا يجوز لها بأي حال من الأحوال أن تقدم هوى النفس على
أمر الرب - جل وعلا - والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) رواه أحمد، ح/26550.
(2) رواه أحمد، ح/6002.
(3) الأوسط، ح/9097، ولفظه: (خير من صلاتها خارج) .
(4) رواه أبو داود، ح/567.
(5) الترمذي، ح/1173.
(6) الكبير، ح/9471، لم يوجد هذا اللفظ في الكبير والموجود بلفظ آخر.
(7) أي أن المرأة إذا خرجت ينظر إليها ليغويها أو يغوي بها وقيل: إذا خرجت ورآها أهل الريبة بارزة من خدرها استشرفوها لما بث الشيطان في نفوسهم من الشر والزيغ، فأضيف ذلك إلى الشيطان للسببية، وقيل: إذا خرجت يود الشيطان أنها على شرف أي مكن عال من الأرض لتكون معرضة له.
(8) أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
(9) مخدعها: يقال بضم الميم وفتحها، وهو البيت الذي يخبأ فيه خير المتاع، وهو الخزانة داخل البيت الكبير.
(10) الكبير، ج9، ح/9475.
(11) رواه مسلم، ح/440.
(12) مدارج السالكين.
(13) رواه مسلم، ح/223.
(14) رواه البخاري، ح /5927.
(15) رواه البخاري، ح /1905.(141/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم
(2-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
في الحلقة الأولى: تقدم الكلام عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهل السنة
والمتصوفة، ومفهوم الخوارق والكرامات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم
الإلهام والفراسة والرؤى.
وتمام الحديث: شرح موقف أهل السنة والجماعة من الكرامات مُدعَّماً ببعض
الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائد، وتبع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين
للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية.
عقيدة أهل السنة في الكرامات:
من عاد إلى كتب أهل السنة وجد موقفهم من الكرامة وسطاً بين إنكار الجافين، وتوسع الغالين. قال الطحاوي عن الأولياء: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم
وصح عن الثقات من رواياتهم) [1] . وقال ابن تيمية: (ومن أصول أهل السنة
والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يُجري الله على أيديهم من خوارق
العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن
سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين
وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) [2] .
و (لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والوقائع قديماً وحديثاً على وقوع
كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه) [3] والأدلة كثيرة. منها: ما ذكره الله من
مجيء الرزق لمريم؛ لا من بشر، وكذا إنبات الرطب وإجراء النهر لها؛ ولم يكن
شيء منها قبل ذلك، ومنها: ازورار الشمس عن أهل الكهف، فلا تصيبهم مع أنهم
في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً، ومنها: ما وقع لسارة رضي الله عنها من حملها
بإسحاق في سن اليأس، ومنها: إحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس
إلى سليمان عليه السلام [4] وكذا: كفّ يد الظالم عن سارة، ومنها: نجاة أصحاب
الغار من الصخرة التي انطبقت عليهم، ومنها: تكلُّم الغلام في المهد، ومنها:
عجز الملك عن قتل الغلام حتى قال: بسم الله رب الغلام [5] .
ومن الكرامات الواقعة للصحابة رضي الله عنهم: أن عبد الله بن حرام والد
جابر رضي الله عنهما توقّع مقتله في أول من يقتل يوم أحد، فحصل ذلك ودفن مع
عمرو بن الجموح رضي الله عنهما فأخرجه جابر بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم دُفن
غير أذنه، ثم دفنه في قبر وحده [6] .
وعن أنس أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند
النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما
افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله [7] .
ضوابط قبول الكرامة:
أ - ضابط عام في الكرامات:
ليس من منهج الإسلام التعويل على الكرامات، وجعلها شرطاً للإيمان؛ فقد
عاب الله على المشركين لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات خارقة،
فقال - تعالى -: [وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا]
[الإسراء: 90] ، إلى قوله تعالى: [قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا] ... [الإسراء: 93] فقد كانت معجزاته صلى الله عليه وسلم معتمدة على الحجة والبرهان، وأجلُّها القرآن الكريم أعظم معجزة أعطيت لنبي، وهي أنفع المعجزات.
ولذا كانت حياته صلى الله عليه وسلم تجري موافقة للمألوف جرياً على العادة
مع كونه أعظم الخلق وأشرفهم -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان يأخذ بالأسباب كما
فعل يوم الهجرة [8] . وهذه خاصية الدين والمنهج الذي يصلح للبقاء، خلافاً لما
يظنه كثير من الناس من أن الأولياء يجب أن يتصرفوا في هذا الكون ويُعْطَوا
مفاتيحه! [9] .
ب - ضوابط من تقع له الكرامات:
أولاً: أن يكون من وقعت له من عباد الله المؤمنين. (فمن لم يكن له مصدقاً
فيما أخبر به ملتزماً طاعته فيما أوجب وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب
والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً لله، ولو
حصل له من خوارق العادة ما عسى أن يحصل؛ فإنه لا يكون مع تركه لفعل
المأمور وترك المحظور - من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها
وواجباتها - إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقربة إلى
سخطه وعذابه) [10] .
ثانياً: أن لا يجزم في كل خارق يحصل له أنه كرامة؛ بل الواجب عليه أن
يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق
وكرامة من الله - سبحانه - وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع
ممكور به، قد طمع منه الشيطان فلبَّس عليه [11] .
ثالثاً: أن لا يدعي صاحبها الولاية؛ لتعذر الجزم بقبول العمل، كما وصف
الله - عز وجل - حال أوليائه المؤمنين المتقين، فقال: [والذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون] [المؤمنون: 60] . وقد سألت عائشة -
رضي الله عنها - النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: أَهُمُ الذين
يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا، يا بنت الصديق؛ ولكنهم الذين يصومون
ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك يسارعون في
الخيرات) [12] .
ثم إن في ادعاء الولاية تزكية للنفس وذلك منافٍ لحال الولاية.
رابعاً: أن لا تكون الكرامة غايته، يطلبها ويسعى في حصولها؛ فهو خلاف
حال السلف.
ج - ضوابط الكرامة ذاتها:
أولاً: أن لا تشتمل الكرامة على ترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من
المحرمات، أو التزام شيء من العبادات لم يرد فيه نص شرعي؛ وذلك لأن الولي
إنما نال الكرامة بطاعته وإيمانه؛ فلا يمكن بحال أن تكون تلك الكرامة سبباً لتركه
شيئاً مما نالها به، ثم إن المحرَّم خبيث، والله لا يكرم عبده بخبيث؛ كما أن من
دلائل الولاية الوقوف عند النصوص الشرعية فلا يكون ولياً لله من أحدث في دين
الله - تعالى - ما ليس منه.
قال ابن الجوزي - رحمه الله: (قد لبَّس إبليس على قوم من المتأخرين
فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا - بزعمهم - أمر القوم؛ والحق لا
يحتاج لتشييد بباطل) ثم ساق قصة تُروى عن سهل بن عبد الله فيها أن أحد الأولياء
اشترط عليه أن يرمي ما معه من الزاد حتى يعطيه نور الولاية فتكون له خوارق
العادات، ففعل، إلى أن قال سهل: فغشيني نور الولاية! ثم علَّق ابن الجوزي
بقوله: (ويدل على أنها حكاية موضوعة قولهم: (اطَّرِحْ ما معك) ؛ لأن الأولياء لا
يخالفون الشرع، والشرع نهى عن إضاعة المال) [13] كما أمر بفعل الأسباب.
ومثال ذلك أيضاً: من تحمله الجن فيحج مع الناس بلا إحرام ولا مرور
بميقات.. خداعاً من الجن له.
ثانياً: ألا تشتتمل على ما عُلِم في الشريعة عدم وقوعه، كدعوى لقيا النبي
صلى الله عليه وسلم يقظة، وكأن يرى شخصاً على صورة نبي أو ملك أو صالح
يقول له: قد أبحت لك الحرام، وأحللت لك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف.
قال الشاطبي: (مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك
أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات، وليس كذلك؛ بل من أعمال الشيطان. كما
يُحكى عن عبد القادر الجيلاني أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت
وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة: (يا فلان! أنا ربك،
وقد أحللت لك المحرمات) فقال له: (اذهب يا لعين) . فاضمحلت السحابة. وقيل
له: بِمَ عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: (قد أحللت لك المحرمات) . هذا وأشباهه
لو لم يكن الشرع حَكَماً فيه لما عرف أنها شيطانية) [14] .
ثالثاً: ألا يستعين بالكرامة على معصية الله - عز وجل - فإن أكمل
الكرامات ما كان معيناً على طاعة الله - عز وجل - أما الكرامة والكشف والتأثير
إن (لم يكن فيه فائدة كالاطّلاع على سيئات العباد، وركوب السباع لغير حاجة،
والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر فهذا
لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب) [15] .
رابعاً: ثبوتها: قال الطحاوي: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن
الثقات من رواياتهم) [16] . وقد يتعسر ذلك كثيراً بعد انقطاع عصر الرواية،
ولقلة من يعتمد عليه في نقل الأخبار في الأعصر المتأخرة.
فوائد الكرامة:
الفائدة الأولى: دلالتها على قدرة الله وكمال مشيئته وعلى كمال علمه وكمال
غناه.
الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء،
والمعجزات فيها دعوة للإيمان، والكرامات تدل على صحة الدين الذي جاء به
الرسل [17] .
الثالثة: أن الكرامات من البشرى المعجلة في الدنيا المذكورة في آية الأولياء:
[لهم البشرى في الحياة الدنيا] [يونس: 64] . وهي (كل أمر يدل على ولايتهم
وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات) [18] .
الرابعة: تقوية إيمان العبد وتثبيته، قال الله - تعالى -: [إذ يوحي ربك إلى
الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ... ] [الأنفال: 12] ولهذا قلَّت الكرامات في عهد الصحابة، وكثرت بعدهم؛ وذلك لقوة إيمانهم، وضعف من بعدهم بالنسبة إليهم، وذلك أن الصحابة شاهدوا التنزيل وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم آمن بالغيب فاحتاج إلى شيء يزيد يقينه [19] .
الخامسة: إقامة الحجة على العدو، كما حصل لخالد - رضي الله عنه - في
شرب السم، وكقصة أبي مسلم الخولاني [20] . وفي هذا نصرة لدين الله ورفعة
لكلمته إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، كما حصل لأصحاب الكهف.
السادسة: إكرام من الله - تعالى - لعباده لصلاحهم وقوة إيمانهم، كما حصل
لمريم من الرزق [21] .
السابعة: قضاء حاجة صاحب الكرامة أو حاجة غيره، وإنقاذه أو إنقاذ غيره، كما حصل لسعد - رضي الله عنه - في قصة مرورهم على الماء، وكما حصل
لسارية حيث نُجِّي الجيش عامة، وليس هو وحده.
الثامنة: ابتلاء من وقعت له الكرامة أيشكر أم يكفر؟ أيتواضع لله أم يغتر
بعمله فيهلك؟
التاسعة: في وقوع الكرامة لناس دون آخرين ابتلاء لمن لم تقع لهم: هل
الكرامة غايتهم من الاستقامة؟ وهل يثبتون بلا كرامة أم يتزعزع إيمانهم؟
العمل بمقتضى الكرامات:
من فوائد الكشف والإلهام والفراسة والرؤى - وهي من الكرامات -:
تحصيل الخير وتوقي الشر قبل وقوعه.
وشرط ذلك: ألا يعارض العملُ - بناءً عليها - حكماً شرعياً ولا قاعدة دينية، ومثاله: لو شهد شاهدان عدلان في أمر، فرأى القاضي في منامه النبي صلى الله
عليه وسلم يقول له: (لا تحكم بهذه الشهادة؛ فإنها باطل) ، فإنه لا يجوز له العمل
بمقتضى هذه الرؤيا؛ لأنها تهدم قواعد الشريعة. وكذا: لو حصلت له مكاشفة بأن
الماء الذي يريد الوضوء به مغصوب أو نجس، فإنه لا يتركه ويتيمم؛ لأن فتح هذا
الباب يبطل العمل بالظاهر، ويلغي الشريعة.
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أوجهاً مما يسوغ العمل بالخوارق على وفقها، منها:
1- أن يكون في أمر مباح، كأن يرى رؤيا بأن فلاناً سيأتيه في وقت ما،
فيتأهب لاستقباله، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع.
2- أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، كما أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم أصحابه أنه يراهم من وراء ظهره؛ لفائدة إقامة الصفوف، وأخرى هي
تقوية إيمان من سمعه.
3 - أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد ويتأهب.
وقال: (إنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالاً يحتذى حذوه، وينظر في
هذا المجال إلى جهته) [22] .
أعظم الكرامة لزوم الاستقامة:
ليس وقوع الخارق أمراً لازماً للولي، فكم من الأولياء الصادقين - من
الصحابة فمن بعدهم - قلم تقع لهم خوارق! وكم من السحرة والمبطلين من وقعت
لهم الخوارق!
ولا شك أن الخوارق ابتلاء للعبد من جنس النعم، وليس حصولها برهاناً على
فضل الرجل عند الله، ولا عدمها دليلاً على هوانه. قال الله - تعالى -: [فأما
الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر
عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلا] [الفجر: 15 - 17] .
لكن الكرامة الحقة - التي بها نجاة العبد - إنما هي استقامته على أمر الله -
عز وجل - حتى يأتيه اليقين.
قيل لأبي محمد المرتعش: (فلان يمشي على الماء! قال: عندي أن من
مكّنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم ممن يمشي على الماء!) [23] .
ً
للاستقامة لا طالباً للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب
منك الاستقامة. قال الشيخ السُهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب؛
فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما مُنحوا
به من الكرامات وخوارق العادات؛ فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك،
ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى متهماً لنفسه في صحة عمله؛
حيث لم يحصل له خارق [24] ، ولو علموا بسر ذلك، لهان عليهم الأمر، فيُعلم
أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً. والحكمة فيه أن يزداد
بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا
والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة؛ فهي كل
الكرامة) [25] .
ولا شك أن من أعظم الكرامات: ما أكرم الله به سلف الأمة وعلماءها
والمجددين والمصلحين فيها؛ حيث بارك في أوقاتهم، وأعمارهم، وأعمالهم؛
فكتب بعضهم ما يعجز غيره على نسخه في مدة عمره [26] ، وكان لعلومهم من
الأثر ما نراه إلى يومنا هذا، وكتب الله لها البقاء والنماء، وكم كان للمصلحين من
الأثر، وكم يترتب على مواقفهم الحميدة من آثار تجنيها الأمة طيلة سنين أو قرون! وتأمّل قوله - تعالى - في فضل من آتاهم العلم: [يؤتي الحكمة من يشاء ومن
يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب] [البقرة: 269] .
فأين هذا ممن تكون كرامته: الإكرام بمال، أو طعام، أو كشف في حادثة، أو
قدرة على أمر؟ !
ومن أوجه تفضيل الاستقامة على الكرامة:
1 - أن الدين لا يُنال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختصاصه
به يفضله على بقية الخوارق.
2 - أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون، أما الخوارق فإنها لهم ولغيرهم.
3 - أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه ولا يضره، وقد يقع له من
حصول الخارق مضرة من عُجْبٍ ونحوه.
4 - أنه يدفع مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة إلى كشف.
5 - أن الكشف والتأثير قد يكون فيه فائدة وقد لا يكون.
6 - أن الدين إذا صح أوجب خرق العادة إذا احتاج إليه صاحبه؛ لقول الله -
تعالى -: [ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ... ]
[الطلاق: 2، 3] .
7 - أن الدين هو إقامة حق العبودية، وهو فعل ما وجب عليك، وأما
الخوارق فهي من حق الربوبية؛ إذ لم يؤمر العبد بتحصيلها وفعلها [27] .
المخالفون لأهل السنة في الكرامات:
وهم فئتان: متوسعون في إثبات الكرامة، ومنكرون لوقوع ما سوى
المعجزات. فأما المتوسعون فهم: الأشاعرة والماتريدية والصوفية والرافضة.
الأشاعرة والماتريدية:
خالف الأشاعرة أهل السنة في بعض تفاصيل مسائل النبوات والمعجزات
والكرامات. ومن ذلك: (قولهم: إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء)
وهذا راجع إلى مذهبهم (في شروط المعجزة؛ حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى
النبوة، وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوها من آيات الأنبياء؛ لأنها
مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيها، ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم
كرامات) [28] .
وزعم الباقلاني أن (الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه
ظهورها فيه على أيدي الكفرة والسحرة. وهذا تناقض) [29] .
ومما غلط فيه الأشاعرة والماتريدية [30] : زعمهم: أن كل ما وقع معجزة
لنبي جاز وقوعه كرامة لولي [31] ، وهذا توسع في إثبات الكرامة، وهو مردود
بكون (معجزات الأنبياء التي هي دليل صدقهم لا يجوز أن يأتي بها أحد غيرهم لا
من المخالفين، ولا من الموافقين؛ لأن المعنى في إعجازها أنها لا تتكرر لغيره
ممن ليس في منزلته؛ لأنها إذا أتت على يد غيره لا تصلح أن تكون شاهدة على
صدقه هو فقط؛ لأن أساس هذه الشهادة هو عجز غيره عن الإتيان بمثل ما أتى به
حتى تبقى حاملة أسرار الإعجاز كلها) [32] .
الصوفية والكرامات:
غلا الصوفية في أمر الخوارق، فشرَّقوا فيها وغرَّبوا، ولعل أهم ما يميزهم
عن أهل السنة - في هذا الباب - أمور أهمها [33] :
أولاً: اعتبار الخوارق معياراً للولاية، وأن من لا كرامة له لا ولاية له. قال
الشعراني في ترجمة محمد الغمري عن قوله: (وكان سيدي أحمد لا يأذن قط لفقير
[لمريد أو صوفيٍ] أن يجلس على سجاده إلا إن ظهرت له كرامة) [34] .
ثانياً: الشغف بالخوارق، وتفسير كل خارق أو أمر غريب بأنه كرامة حتى
صارت همهم، قال ابن الجوزي: (عن إبراهيم الخراساني أنه قال: احتجت يوما
إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة رأسه ألين من الخز،
فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت) ثم علق عليها ابن
الجوزي فقال: (في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة
علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز؛
ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله - تعالى - لا يكرم بما يمنع
من استعماله شرعاً) [35] .
ثالثاً: لما جعل الصوفية الكرامة أساس الولاية حرصوا على جمع الكرامات
لمن ادعوا لهم الولاية، وتعدى الأمر إلى الاختلاق والكذب، ومما نسجوه ما ذكره
الشعراني عن أبي بكر البطائحي أنه (أول من ألبسه أبو بكر الصديق - رضي الله
عنه - الخرقة ثوباً وطاقية في النوم، فاستيقظ فوجدهما عليه، وكان يقول: أخذت
من ربي - عز وجل - عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي، ويقال: إنها ما
دخلها سمك ولا لحم قط فأنضجته النار أبداً) [36] .
وكأن الكذب بدأ فيهم من قديم، فتنبه له بعض كبارهم؛ فقد قيل لرابعة
العدوية: (يا عمة! لِمَ لا تأذنين للناس يدخلون عليك؟ قالت: وما أرجو من
الناس؟ إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل. ثم قالت: يبلغني أنهم يقولون: إني أجد الدراهم تحت مصلاي، ويطبخ لي القدر بغير نار، ولو رأيت مثل هذا فزعت منه قيل لها: إن الناس يكثرون فيك القول، يقولون: إن رابعة تصيب في منزلها الطعام والشراب؛ فهل تجدين شيئاً فيه؟ قالت: يا بنت أخي! لو وجدت في منزلي شيئاً ما مسسته، ولا وضعت يدي عليه) [37] .
رابعاً: كرامات الصوفية وخوارقهم كما أنها لا مكان لها عند العقلاء، فإنها لا
كرامة لها عند العلماء بشريعة الله - عز وجل - وكم في كراماتهم المحكية من
معارضات ومخالفات للشريعة المحمدية! ومن ذلك: أن أحدهم كان يتشوش من
قول المؤذن: الله أكبر فيرجمه، ويقول: عليك يا كلب، نحن كفرنا يا مسلمون
حتى تكبروا علينا؟ ! [38] .
أما ما يذكرونه عن بعض من يذكرون بالخير من الشطحات والأحوال المُنْكَرَةِ، فإن الواجب التثبت منه؛ لعدم الثقة في نقلهم، وما ثبت منه فإن منه ما يكون
عوارض تعرض لهم بسبب بعض أعمالهم؛ فإن من خلط في عمله اختلطت خوارقه، ولهذا أمرنا أن نقول كل صلاة: [اهدنا الصراط المستقيم] [الفاتحة: 6] [39] .
الرافضة والكرامات:
يفضل غلاة الرافضة أئمتهم على الأنبياء، ثم صار ذلك من أصول الشيعة
الاثني عشرية [40] .
ويرى الرافضة أن خوارق الأولياء (معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة) ، وأنها ليست من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوَّب
صاحب كتاب بحار الأنوار لهذا المعنى باباً بعنوان: (إنهم يقدرون على إحياء
الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء) . وأورد فيه جملة
من أحاديثهم [41] .
(وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير التي
هي أحياناً أشبه بعمل السحرة والمشعوذين، وحيناً هي من ضروب الخيال،
وغرائب الأحلام. وهذه المعجزات لا تزال تتولد عند الشيعة وتتجدد) [42] .
المنكرون للكرامات:
وهم: الفلاسفة [43] ، والمعتزلة [44] ، ومن تأثر بهم [45] ، وابن حز [46] ، وبعض الأشاعرة كالإسفراييني [47] . وتبعهم معاصرون من مدعي ...
العقلانية، ويرون أنه لا يقع من الخوارق غير معجزات الأنبياء.
وهذه بعض شُبَهِ القوم مع مناقشتها:
الشبهة الأولى: قالوا: إن تجويز الكرامات يفضي إلى السفسطة؛ لأنه
يقتضي تجويز انقلاب الحجر ذهباً، والبحر دماً عبيطاً. والرد على هذا من ثلاثة
أوجه:
الأول: أنه لا يُسلَّم ببلوغها هذا المبلغ.
والثاني: أن ذلك يجوز ولا يقتضي سفسطة؛ لأن ما ذكرتم وارد عليكم في
زمن النبوة.
والثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم المادية؛ وجواز تغير العادة
بسبب الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها [48] .
الشبهة الثانية: أن الكرامة لو جازت لاشتبهت بالمعجزة، فلا يبقى لها دلالة
على النبوة.
والرد على هذه الشبهة بمنع الاشتباه - كما تقدم التفريق بينهما في مبحث
سابق -. ثم إن الولي لو ادعى النبوة بعد ظهور الكرامة له لكان كاذباً، ولم يكن
ولياً [49] .
الشبهة الثالثة: أن الكرامة لو ظهرت لولي لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه
يملك شيئاً من غير بينة لظهور درجته المانعة من كذبه، وهذا خلاف قاعدة: ... (البينة على المدعي) والرد: أن الكرامة لا توجب عصمته ولا صدقَهُ في كل
الأمور، وهذا يضبطه الشرع ولا يخرج عنه [50] .
الشبهة الرابعة: أنها لو جازت سراً وهو أولى من العلن، وهذا يفضي إلى
أن لا يستدل بها على النبوة، ثم إن تكرارها يفضي إلى التحاق الخوارق بالعادات
فلا تصدق معجزات الأنبياء! والرد من وجهين:
الأول: أنها تجوز على وجه لا يصير ادة.
الثاني: وهو أنها تجوز بحيث لا تظهر ولا تشيع ولا تلتحق بالمعتاد.
وتكررها للولي لا يخرجه عن طريق السداد، وإلا فلا يكون ولياً على التحقيق، ثم
إن المعجزة تتميز عن الكرامة كما سبق. وهذه الشبهة لو جاز إيرادها لكان في
كرامات الأمم السابقة، دون هذه الأمة.
الشبهة الخامسة: أنه لو كان لها أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول،
ولم يظهر عنهم شيء منها.
قال ابن السبكي: (وهذا قول مرذول، فلو حاول مستقصٍ استقصاء كرامات
الصحابة - رضي الله عنهم - لأجهد نفسه ولم يصل إلى عشر العشر) [51] .
وموردو هذه الشبهة يراوغون في الكلام، فمثلاً: القاضي عبد الجبار في
المغني لم يعرض للأدلة المثبتة للكرامات من القرآن، والزمخشري يقول بخصوصٍ
منفي على إبطال العموم، كما استدل بقوله - تعالى -: [عالم الغيب فلا يظهر
على غيبه أحدا] [الجن: 26] ، على إبطال جميع الكرامات. ورد بقول ...
الاسكندري في الانتصاف [52] .
الشبهة السادسة: أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق يخل بعظيم
قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس [53] .
وهذا مردود؛ فلا يخفى أن في الكرامة تصديقا للأنبياء، وما حصلت لهم إلا
ببركة اتباعهم للرسل [54] ، وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -
المنكرين ورد عليهم في النبوات [55] ، كما ناقش المعتزلة في خوارق العادات من
أحد عشر [56] .
وبعد؛ فليس إنكار الكرامات سديداً؛ لمعارضته من قبل الشرع والواقع، ولا
التوسع فيها جائزاً؛ لمخالفته نهج الصواب.
إننا نثبت الكرامات لأولياء الله الصالحين، ونقول: ليس كل من أتانا بخارق
عددناه ولياً، ما لم يكن ملتزماً بهدى السابقين الأولين -رضي الله عنهم-. وفي
الوقت نفسه: لا ننتقص أحداً من الصالحين؛ لأنه لم تقع له كرامة؛ فكم من ولي
لم يحصل له خارق! وإن أعظم كرامة لزوم الاستقامة. نسألك اللهم حسن الختام.
__________
(1) شرح الطحاوية: 2/745.
(2) الفتاوى، 3/156، وانظر شرح الواسطية لخليل هراس، ص 176، وانظر الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف للصنعاني، ص 20.
(3) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة للشيخ السعدي، ص 97، وانظر لوامع الأنوار، 2/294.
(4) هذه الكرامات تجدها في السور التالية: آل عمران: 37، مريم: 25، الكهف: 17، هود: 71، 72، النمل: 40.
(5) انظر: صحيح البخاري، ح/2358، 5084، 3465، 3436، 206.
(6) رواه البخاري، ح/1351.
(7) رواه البخاري، ح/456.
(8) مع أنه حصلت له معجزات في هجرته.
(9) انظر تقديس الأشخاص، 2/288-289.
(10) الفتاوى، 10/431.
(11) قطر الولي، ص272.
(12) أخرجه الترمذي، ح/3175، وصححه الألباني، ح/2537.
(13) تلبيس إبليس، ص285.
(14) الموافقات، 2/275-276.
(15) مجموع الفتاوى، 11/328.
(16) شرح الطحاوية، 2/746.
(17) النبوات: 19 - 20.
(18) انظر: التنبيهات اللطيفة، للسعدي: 99-100.
(19) طبقات الشافعية، 2/333، وانظر شرح الطحاوية، 2/747، 748، وتعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله على التعليقات المنيفة، ص98، والفرقان: 128: 4/534 والسير: 4/934.
(20) انظر: تعليقات ابن باز، والرسل والرسالات للأشقر، ص 155، وانظر: الفتح، 7/443 فيما نقل عن ابن بطال.
(21) الرسل والرسالات، للأشقر، 155.
(22) الموافقات: 2/275، انظر: 2/266، وما بعدها.
(23) سير أعلام النبلاء، 15/231.
(24) الواجب أن يبقى الإنسان متهما لنفسه في صحة عمله، سواء وقعت له الكرامة أم لا لأنه جزم بقبوله شهادة لنفسه بأن من المتقين وأنه من اهل الجنة وقد كان داب الصالحين وسنتهم البقاء بين الخوف والرجاء بعد أداء الطاعات.
(25) شرح الطحاوية، 2/747 - 748.
(26) عد السبكي هذا الأمر من الأدلة على وقوع الكرامات، انظر طبقات الشافعية، 2/333-334.
(27) قاعدة في المعجزات والكرامات 29، 37.
(28) موقف ابن تيمة من الأشاعرة، د عبد الرحمن المحمود، 3/ 1378، 1782.
(29) المصدر السابق: 3/1382.
(30) انظر: المتريدية دراسة وتقويما، أحمد بن عوض الله الحربي، ص 386.
(31) انظر: أصول الدين، للبغدادي: 174، 175 والإرشادية للجويني: 267، 269 والمواقف للإيجي: 240.
(32) موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية، د أحمد بناني، ص 231.
(33) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح، 2/ 293، 311.
(34) الطبقات الكبرى، للشعراني 2/88.
(35) تلبيس إبليس، ص382.
(36) الطبقات الكبرى، للشعراني، 2/132.
(37) انظر: تلبيس إبليس، ص 383، وانظر: تقديس الأشخاص، 2/ 298، وانظر امثلة أخرى في الطبقات الكبرى للشعراني: 2/107، 126، 136، 140.
(38) الطبقات الكبرى، 2/140 وانظر: بدع الاعتقاد، محمد الناصر، ص 223.
(39) انظر: أولياء الله عقلاء، لابن تيمية: 75.
(40) انظر: أصول مذهب الشيعة، د ناصر بن عبد الله القفاري 2/ 614.
(41) انظر: بحار الأنوار: للمجلسي: 27/29-31.
(42) أصول مذهب الشيعة: 2/623 - 262.
(43) انظر: شرح الواسطية، لهراس، ص 178.
(44) انظر: المعغني لعبد الجبار، 15/241 والكشاف للزمخشري، 4/ 172، والنبوات ص 16، وشرح الطحاوية، ص752.
(45) انظر رسالة التوحيد، لمحمد رشيد رضا، ص176، 177، وتسفير المنار 12/293، 2/74، 2/316.
(46) انظر: الدرة فيما يجب اعتقاده، ص 194، 197.
(47) انظر: طبقات الشافعية 4/260.
(48) انظر: طبقات الشافعية، 4/260 وما بعدها، وانظر حول الأولياء والكرامات، د الأنور: 35.
(49) المرجع السابق، شرح الطحاوية، 2/75 ولوامه الأنوار، 2/394.
(50) المرجع السابق، 35.
(51) طبقات الشافعية: 4/260.
(52) الانتصاف فيما بتضمنه الكشاف من الاعتزال مع الكشاف ص 172.
(53) لوامع الأنوار، ج2، ص394.
(54) الفرقان، 120.
(55) انظر: النبوات ص 204، 206.
(56) انظر: النبوات، ص 175 - 191.(141/16)
تأملات دعوية
الثناء المنضبط وسيلة تربوية
محمد بن عبد الله الدويش
نشعر كثيراً في تربيتنا وتوجيهنا أننا نحتاج لبيان الأخطاء وممارسة الانتقاد،
وربما اللوم والعتاب، وقد يتطور الأمر للعقوبة، وكل ذلك - حين يكون في إطاره
الطبيعي - ليس مجالاً للنقاش أو الاعتراض.
ومنشأ الإشكال إنما هو في اتساع مساحة الانتقاد واللوم على حساب غيره؛
فالنفس تحتاج للثناء والتشجيع، وتحتاج للشعور بالنجاح والإنجاز كما أنها تحتاج
للنقد والتسديد، لكن ما يأخذه النقد واللوم من واقعنا أكثر بكثير مما يأخذه الجانب
الآخر.
ومن يتأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه يُثني على أصحابه في
مواقف عدة. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك
لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة) [1] ، وقوله لأبي هريرة رضي الله عنه:
(لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لِمَا رأيت من
حرصك على الحديث) [2] ، وقال أيضاً: (كان خيرَ فرساننا اليوم أبو قتادة،
وخيرَ رجالتنا سلمة) [3] ، وقال لابن مسعود رضي الله عنه: (إنك غلام ...
معلم) [4] ، ومن نظر في أبواب المناقب رأى الكثير في ذلك.
إن الثناء يُشعِر الشخص بالرضا والإنجاز، ويزيد من ثقته بنفسه، والمربُّون
اليوم أحوج ما يكونون إلى غرس الثقة بالنفس والشعور بالقدرة على الإنجاز في
ظل جيل يعاني من الإحباط، وتسبق هواجس الإخفاق تفكيره في أي خطوة
يخطوها، أو مشروع يُقدم عليه.
في حين أن النقد واللوم يسهم في تكريس الشعور بالفشل والإحباط ونموه في
النفس، ويضيفه صاحبه إلى تجاربه المخفقة.
والثناء وسيلة غير مباشرة لإثارة تطلُّع الآخرين وحماستهم للتأسي بالمُثْنَى
عليه والاقتداء به، وإبرازه مثلاً حياً مشاهَداً أمامهم؛ لذا فحين قدم طائفة من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محتاجين للنفقة، ودعا النبي صلى الله عليه
وسلم أصحابه لذلك، فتصدق رجل بصُرَّة كادت يده أن تعجز عنها، فتابع الناس
بعد ذلك، حينها قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله
أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في
الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص
من أوزارهم شيء) [5] .
وحتى يؤدي الثناء دوره دون إفراط فلا بد من الاعتدال؛ فالمبالغة فيه تُفقده
قيمته، وتشعر من يسمعه بأنه ثناء غير صادق ولا جاد.
وهو مذموم حين يوجه لمن لا يستحقه، أو لمن يُخشى عليه العُجْب والغرور؛ بل يستحق من يطلقه حينئذ أن يُحثى التراب في وجهه، كما قال صلى الله عليه
وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) [6] .
ولهذا امتنع صلى الله عليه وسلم عن بيان بعض منزلة قريش، فعن عائشة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال: (لولا أن تبطر
قريش لأخبرتها بما لها عند الله - عز وجل -) [7] .
__________
(1) رواه مسلم، ح/18.
(2) رواه البخاري، ح/99.
(3) رواه مسلم، ح/1807.
(4) رواه أحمد ح/3587.
(5) رواه مسلم، ح/1017.
(6) رواه مسلم، /3002.
(7) رواه أحمد، ح/24721.(141/26)
دراسة تربوية
القناعة
مفهومها.. منافعها.. الطريق إليها
(1-2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة،
وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا
مساكن تكنهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم
شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تُبصر من هم تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا
يرتوي أبداً.
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح
أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كملت له
أشياء قصرت عنه أشياء، وإن علا بأمور سفلت به أمور، ويأبى الله - تعالى -
الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم
العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها.
ولأهمية هذا الأمر - ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على الماديات،
وانغماسهم في كثير من الشهوات - أحببت أن أذكر نفسي وإخواني؛ والذكرى تنفع
المؤمنين.
مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل
اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي [1] .
قال ابن فارس: (قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على
الشيء الذي له راضياً) [2] .
وأما الزهد فهو ضد الرغبة والحرص على الدنيا. والزهادة في الأشياء ضد
الرغبة [3] ، وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء قال:
والزهيد: الشيء القليل [4] .
وعرَّف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الزهد بقوله: ترك الرغبة فيما
لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله -
عز وجل -[5] .
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد
كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: (والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة، ثم ذكر قول مالك بن دينار: أزهد الناس من لا
تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته.
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة،
وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: من رضي بالمقدور قنع
بالميسور.
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح، فلا يكره ما
أتاه وإن كان كثيراً، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيراً، وهذه الحال أدنى منازل
أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة
على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة: فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا
تعذرت) [6] ا. هـ.
وبناءً على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي
الزهد أيضاً، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذين عرّفوا القناعة وهي مقصود
مقالتنا تلك.
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن
يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب، وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر
في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن
يُنافَق المسؤول من أجل منصبه وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة
في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله -
تعالى - لحصول مرغوب.
وليس القانع ذاك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما
ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد
يكون عكس ما تمنى.
وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن
يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه
الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث
حفاظاً عليها أو تنمية لها.
وكم من صاحب مال وفير وخير عظيم رزق القناعة! فلا غَشَّ في تجارته،
ولا منع أُجراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛
بل أدى حق الله فيه فرضاً وندباً، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتنابٍ للمحرمات. إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وكم من مستور يجد كفافاً ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قسم له! فجزع
من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم
حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً.
فوائد القناعة:
إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة
في الدنيا والآخرة ومن تلك الفوائد:
1 - امتلاء القلب بالإيمان بالله - سبحانه وتعالى - والثقة به، والرضى بما
قدر وقسم، وقوة اليقين بما عنده - سبحانه وتعالى - ذلك أن من قنع برزقه فإنما
هو مؤمن ومتيقن بأن الله - تعالى - قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو
كان ذلك القانع لا يملك شيئاً.
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا:
ليس في البيت دقيق. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أسرُّ أيامي إليَّ يوم
أُصبح وليس عندي شيء. وقال الفضيل ابن عياض - رحمه الله تعالى -: أصل
الزهد الرضى من الله - عز وجل -. وقال أيضاً: القُنوع هو الزهد وهو الغنى،
وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق
منك بما في يد الله - عز وجل -[7] .
2 - الحياة الطيبة: قال - تعالى -: [من عمل صالحا من ذكر أو أنثى
وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون]
[النحل: 97] ، فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن - رضي الله عنهم - فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة [8] ، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه [9] .
3 - تحقيق شكر المنعم - سبحانه وتعالى -: ذلك أن من قنع برزقه شكر
الله - تعالى - عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط - والعياذ
بالله - ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعا
تكن أشكر الناس) [10] .
4 - الفلاح والبُشْرى لمن قنع: فعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان
عيشه كفافاً، وقنع) [11] ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما
آتاه) [12] .
5 - الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد،
والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك
أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع
نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على
ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله،
ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا
يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله - تبارك وتعالى - بقسطه
وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في
الشك والسخط [13] .
وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً
القنوع [14] .
6 - حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله - تعالى - نبيه محمداً صلى
الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال - تعالى -: [ووجدك عائلا فأغنى]
[الضحى: 8] ، نزّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة
المال [15] .
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله - تعالى - جمع له الغنائيْن: غنى القلب،
وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.
وقد بيّن - عليه الصلاة والسلام - أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال - عليه
الصلاة والسلام -: (ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس) [16] .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (فترى قلة المال هو الفقر؟) قلت: نعم! يا رسول الله. قال: (إنما الغنى غنى
القلب، والفقر فقر القلب) الحديث [17] .
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو
عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير
يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده! فالعلة في القلوب: رضيً وجزعاً،
واتساعاً وضيقاً، وليست في الفقر والغنى.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
خطيباً في الناس على المنبر يقول: (إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن
الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه) [18] ، وسئل أبو حازم فقيل له: ما
مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي
الناس [19] ، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما
يكفيك [20] .
7 - العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس
فلا يزال عزيزاً بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في ... حديث سهل بن سعد مرفوعاً: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) [21] .
وكان محمد بن واسع - رحمه الله تعالى - يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله
ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد [22] .
وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: لا تزال كريماً على الناس، ولا يزال
الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا
حديثك وأبغضوك [23] .
وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: وقد تكاثرت الأحاديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛
فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم،
فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك [24] .
والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن
الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعرابي لأهل البصرة:
من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس
إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم [25] .
صور من قناعة النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً ويقيناً، وأقواهم ثقة
بالله - تعالى - وأصلحهم قلباً، وأكثرهم قناعة ورضيً بالقليل، وأنداهم يداً
وأسخاهم نفساً، حتى كان - عليه الصلاة والسلام - يفرِّق المال العظيم: الوادي
والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاوياً، وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى
الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس - رضي الله عنه -: إن كان الرجل
ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما
عليها [26] .
وقال صفوان بن أمية - رضي الله عنه -: لقد أعطاني رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه
لأحب الناس إليَّ. قال الزهري: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم
مائة [27] ، وقال الواقدي: أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً حتى قال
صفوان - رضي الله عنه -: أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي [28] .
وقال أنس - رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال:
(يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) [29] .
أما تلك الصورة الرائعة من بذله - عليه الصلاة والسلام - التي جعلت أقواماً
وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، فأمامها صور
عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته - عليه الصلاة والسلام - ورضاه بالقليل
وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن
ذلكم:
أولاً: قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله:
أ - روت عائشة رضي الله عنها - تخاطب عروة بن الزبير - رضي الله
عنهما - فقالت: (ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما
أُوقِدَت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟
قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أبياتهم فيسقيناه) [30] .
ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين) [31] .
ج - وعن قتادة - رضي الله عنه - قال: (كنا نأتي أنس بن مالك، وخبّازه قائم وقال: كلوا؛ فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مُرقَّقاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط) [32] .
ثانياً: قناعته صلى الله عليه وسلم في فراشه:
أ - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف) .
ب - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (نام رسول الله صلى الله
عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك
وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم
راح وتركها) [33] .
ج - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم سرير مشبك بالبردي عليه كساء أسود قد حشوناه بالبردي، فدخل أبو
بكر وعمر عليه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم نائم عليه، فلما رآهما استوى جالساً
فنظر، فإذا أثر السرير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر
وعمر - وبكيا -: يا رسول الله! ما يؤذيك خشونة ما نرى من سريرك وفراشك،
وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ فقال: لا تقولا هذا؛ فإن فراش
كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنة) [34] .
ثالثاً: تربيته صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة:
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه
البقاء معه والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خبرهن بين الإمساك على ذلك
أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى [يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن
تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن
الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما]
[الأحزاب: 28، 29] .
فاخترن - رضي الله عنهن - الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف
الحال، وقلة المال طمعاً في الأجر الجزيل من الله - تعالى - ومن صور تلك القلة
والزهد إضافة إلى ما سبق:
أ- ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: (ما أكل آل محمد صلى الله
عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) [35] .
ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه
وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم) [36] .
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده
رباهم على القناعة فقد أتاه سبي مرة، فشكت إليه فاطمة - رضي الله عنها - ما
تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين
بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى
بطونهم من الجوع) [37] .
ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارا منه صلى الله عليه وسلم وزهداً
في الدنيا، وإيثاراً للآخرة.
نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها، وما أعطاه
الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع
صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام: (عرض علي ربي ليجعل لي
بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت
تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) [38] .
__________
(1) لسان العرب، مادة (قنع) (11/321) .
(2) معجم مقاييس اللغة مادة (قنع) (5/33) .
(3) لسان العرب، مادة (زهد (6/97) .
(4) معجم مقاييس اللغة مادة (زهد) (3/30) .
(5) مجموع الفتاوى (11/27) وانظر مكارم الأخلاق عند ابن تيمية (259) .
(6) مختصرا من أدب الدنيا والدين (328 - 329) .
(7) انظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (2/147) شرح حديث رقم.
(31) .
(8) أخرجه عن علي والحسن الطبري في تفسيره (14/17) عند تفسير الآية (97) من سورة النحل، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2/356) .
(9) نزهة الفضلاء: ترتيب سير أعلام النبلاء (1504) .
(10) أخرجه ابن ماجة (4217) والبيهقي في الزهد الكبير (818) وأبو نعيم في الحلية (10/365) وحسنة البوصيري في الزوائد (3/300) .
(11) أخرجه احمد (6/19) والترمذي (2249) وقال: حسن صحيح والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (1/34) .
(12) أخرجه مسلم (1054) والترمذي (2349) .
(13) أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (118) الروح: الاستراحة.
(14) القناعة لابن السني (58) عن موسوعة نضرة النعيم (3173) .
(15) انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11/277) .
(16) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) .
(17) أخرجه ابن حبان في صحيحه (685) .
(18) أخرجه أحمد في الزهد (117) وأبو نعيم في الحلية (1/50) .
(19) الحلية لأبي نعيم (3/231) .
(20) إحياء علوم الدين (4/212) عن نضرة النعيم (3174) .
(21) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/253) والقضاعي في مسند الشهاب.
(151) والحاكم وصححه (4/324) .
(22) إحياء علوم الدين (3/293) .
(23) الحلية (3/20) .
(24) جامع العلوم والحكم (2/168) .
(25) جامع العلوم والحكم (2/169) .
(26) لطائف المعارف (307) .
(27) مغازي الواقدي (2/854) .
(28) أخرجه مسلم في الفضائل (2312) .
(29) أخره البخاري (6459) ومسلم (2973) .
(30) أخرجه مسلم (2974) .
(31) أخرجه البخاري في الرقاق (6457) .
(32) أخرجه أحمد (1/391) والترمذي وقال حسن صحيح (2378) وابن ماجه (419) والحاكم (4/310) .
(33) أخرجه ابن حبان (704) ونحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة إيلائه من نسائه عند أحمد (1/33) والبخاري (2468) ومسلم.
(1479) .
(34) أخرجه البخاري (6455) ومسلم (2971) .
(35) أخرجه مسلم (2970) .
(36) أخرجه البخاري (6454) ومسلم (2970) .
(37) جزء من حديث أخرجه أحمد (1/97-106-153) والبخاري في الفضائل وفي فرض الخمس وفي النفقات وفي الدعوات (7/71) .
(38) أخرجه أحمد (5/452) والترمذي وحسنه (2348) وأبو نعيم في الحلية (8/331) وفي سنده علي بن يزيد يضعف.(141/28)
ندوات ومحاضرات
ندوة عن: الغزو الفضائي
أبعاده.. آثاره.. طوق النجاة
إعداد: وائل عبد الغني
ضيوف الندوة:
الدكتور: حمدي حسن محمود رئيس قسم الإعلام بجامعة مصر الدولية.
الدكتور: محيي الدين عبد الحليم رئيس قسم الصحافة والإعلام بجامعة
الأزهر.
الدكتور: أحمد المجدوب أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث
بالقاهرة.
نقف في ندوتنا هذه على حافة الزمان والمكان نطويها أو تطوينا، ونحن
نتحدث عن معضلة من معضلات العصر وإشكالية من أعقد إشكاليات المستقبل.
بعد أن أصبح العالم قرية تسبح في فضاء الإعلام الذي يصغر حين نسلط
الأضواء على حدث مهما صغر لنتلمسه بكل تفصيلاته، وتكبر المشكلة أمامنا حين
نقف أمام كمٍّ هائل من القنوات والبرامج والأخبار والقيم والأخلاقيات والسلوكيات
كموج عات يكاد يقتلع قاربنا لولا بقية مما نستمسك به من ثوابت.
في هذه الندوة نطرح قضية الغزو الفضائي بأبعاده وأخطاره وآثاره، والسبيل
إلى إعلام فاعل موجِّه لرسالةٍ.
نرحب بضيوفنا الكرام ونلقي إليهم بطرف الحديث.
د. حمدي حسن: لديّ شيء من التحفظ على استخدام مصطلح (الغزو
الفضائي) ؛ هذا اللفظ استخدم بكثافة في الستينيات والسبعينيات، إشارة إلى الهيمنة
الثقافية التي عملت اليونسكو على حلها، لكن مع ظهور البث المباشر أعتقد أنه
أصبح من الصعب استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى ما يصل إلى العالم الإسلامي
من محطات فضائية سواء من دول مجاورة أو دول غربية.
البيان: إذن بماذا نسمي هذا الكم الهائل المتدفق عبر سمائنا إلى عقول أبنائنا
بما يحمله من مصطلحات ومعايير وقيم وتقاليد ... بل ومخططات؟ نحب أن نسمع
رأي الدكتور أحمد المجدوب.
د. أحمد المجدوب: في رأيي أن الدكتور حمدي نظر إلى الغزو بمفهومه
العسكري (الاقتحام بالقوة) وهو غير متحقق في البث الفضائي الذي نلتقطه بإرادتنا؛ لكن أقول: هو غزو؛ لأنه أصبح اصطلاحاً له معنى يخصه.
وأوضِّحُ ذلك بمثال: إحدى القنوات التي كانت تقدم إعلانات للتعارف من
أجل (الجنس) تبدأ من الثامنة حتى الحادية عشرة ثم تشفر، قبل رمضان بيومين
فتحت إرسالها لمدة 24 ساعة في اليوم بأفلام جنس صارخ طوال الشهر المبارك،
وظل الإرسال حتى رابع أيام العيد ثم شفرت مرة أخرى! ويبدو أن البعض اشتكى، فاعتذرت القناة بأن آلة التشفير تعطلت! ! ولكن مراسل (الاندبندنت) علق قائلاً: لقد كان أسلوباً فجاً أن تظهر هذه القناة قبل رمضان بيومين ثم تذيع على مدى
اليوم كله موجهة إلى العالم الإسلامي خلال الشهر كله!
لا شك أن هذا الأسلوب المقصود به: إفساد الشباب المسلم كي ينتهك حرمة
الشهر الكريم.
د. حمدي حسن: لا زلت أرى أنه ليس هناك غزو بأي معنى من المعاني؛
لأنه ليس هناك مُنتَج إعلامي يُنتج خصيصاً للعالم الإسلامي، وإنما كل المحطات
الموجودة في العالم الآن متاحة للجميع، وإذا سميناه غزواً فبماذا تفسر اعتماد
محطات التلفزيون في العالم الإسلامي في غالبها بنسبة تصل إلى 60% و 75%
في بعض الأحيان من برامجها على الإنتاج الأجنبي؛ وهي تدفع مقابلاً مادياً
وتشتريه؟
البيان: هذا نوع آخر من الغزو يصح أن نطلق عليه غزواً داخلياً؛ ولكن
على أي حال هذا الكم الهائل من الأفلام الجنسية وغيرها والبرامج التي تطعن في
الإسلام وتشوه صورة المسلمين: بماذا نسميه؟ وماذا نسمي التهميش المقصود
للإسلام والعالم الإسلامي في الأخبار والتحليلات التي تساق؟
د. محيي الدين عبد الحليم: ينبغي ألا نغفل الخلفية التاريخية للعقل الأوروبي
في التعامل مع العالم الإسلامي التي تبدو في مثل التصريح الشهير لويل كلايس -
الأمين العام لحلف الناتو -: (بأن العدو البديل للشيوعية هو العالم الإسلامي)
الغرب يتعامل معنا من منطلق التبشير من خلال إعلامه الذي يحمل - في الغالب -
طابع العداء أو - على أقل تقدير - التشكيك والتحجيم.
وإذا كانت فرنسا تخاف على ثقافتها في مواجهة الأمركة مع أن هناك وجوه
اتفاق كثيرة جداً بينهما؛ فنحن بيننا وبينهم نقاط اختلاف قوية تؤكد أهمية بل
وجوب الحماية؛ لأن الخلاف معهم عقائدي استراتيجي أيديولوجي فكري تاريخي.
والعلاقة اليوم تبرز السيطرة التي تعززها قوة الإعلام الغربي وتفوُّقه في عملية
الإنتاج والتسويق المتضمنيْن للبث الثقافي والفكري.
د. حمدي حسن: الأمريكيون حريصون على تقديم نمط حياتهم بطريقة جذابة
بغرض تسويق الثقافة الأمريكية والتمهيد للنفوذ الأمريكي، وإيجاد نوع من التبعية
النفسية لدى شعوب العالم للأرض الأمريكية - أرض المن والسلوى -، فإذا كنت
تعتبرهم غزاة بهذا المفهوم فلا بد أن تتهمنا أننا الذين نطلب الغزو. نحن إلى الآن
نستورد منهم لنملأ الفراغ؛ لدينا ضعف إنتاج، وضعف إمكانات. هناك ساعات
إرسال مبالغ فيها دون قاعدة إنتاجية.
ثم إن الغرب ليس في موقف موحد. فرنسا تقول ما تقوله أنت، وكندا -
وهي تتحدث الإنجليزية في معظمها و80% من سكانها يعيشون على الحدود مع
الولايات المتحدة الأمريكية - تشكو من هيمنة الإعلام الأمريكي عليها، ولوزير
خارجية كندا تعبير مشهور يقول: (نحن نشعر بأننا نرقد على سرير واحد إلى
جوار فيل ضخم) ، هناك داخل الكتلة الغربية مصالح متعارضة وقوى مختلفة؛
والأمر لا يعدو أن يكون من قبيل التأثير لا المؤامرة بدليل أن صناعة الإعلام
الأمريكية اليوم تدار برؤوس أموال يابانية؛ فالمسألة تجارية تهدف إلى الربح وهي
معقدة جداً.
د. محيي الدين عبد الحليم: إذا كانت فرنسا وكندا تشكوان - مع وحدة
الديانة والحضارة - فنحن من باب أوْلى، ألا نستشعر خطر أفكارهم وأيديولوجيتهم
على نمط الحياة في العالم الإسلامي؟ أليس ذلك وارداً في مخططاتهم؟ هل أفهم من
ذلك أنهم لا يستهدفوننا؟
د. حمدي حسن: يستهدفوننا؛ لأنهم يريدون ترويج ثقافتهم عالمياً، وهم
حريصون على ذلك؛ لكن الهدف من ورائه تجاري.
البيان: لا يمكن اعتبار هاجس الربحية هو المحرك الوحيد للقنوات الأجنبية؛ فالجميع يستشعر أهدافاً أخرى.
د. أحمد المجدوب: العالم اليوم أشبه ببيت بلا نوافذ ولا أبواب، وقبل أن
نلقي اللوم على الغرب وأهدافه التي يسعى لبلوغها فإن علينا أن نسلط الضوء أكثر
على الخطر الداخلي، وأرى من السذاجة أن نتصور أن هناك انفصاماً بين الجهود
الخارجية التي أشرنا إليها وبين الجهود الداخلية؛ فهناك تنسيق واضح في المرحلة
الراهنة بين الداخل والخارج الهدف منه سحق الثقافة الإسلامية، وعزل الدين عن
المجتمع تحت شعار تجفيف المنابع، ويقود هذا أناس في الداخل لا يقلون عداءً لهذه
الثقافة عمن في الخارج. قد يكون الغرب أكثر دهاءً ولباقة في حربه بينما هنا
إنسان ضحل سوقي يقوم بإحلال المبادئ السوقية مكان القيم الدينية والأخلاقية.
د. حمدي حسن: الغزو الفضائي الأجنبي حتى الآن لا يمثل ظاهرة أو بديلاً؛ لأن كل الدراسات التي أجريت حتى الآن تقول إن القنوات العربية ما زالت هي
قنوات المشاهدة الرئيسة للغالبية العظمى.
إذا أردنا أن نتحدث عن الخطر فلنتحدث أولاً عن خطر القنوات العربية؛
لأنك إذا ما جلست أمام قناة عربية فإن تأثيرها أقوى؛ لأنها جزء من نسيجك اللغوي
والثقافي، ولو بشكل غير مباشر.. بخلاف القنوات الأجنبية؛ فإن مقومات المقاومة
لدى المشاهد العربي ما زالت قوية.
البيان: الميزة النسبية للإعلام العربي في مواجهة الإعلام الغربي يقابلها
مزايا في الإعلام الغربي كالجودة في الإخراج، والابتكار في الأسلوب، وما يحيط
بهما من تقدم تقني، لا لمجرد المادة المعروضة، وإلا فإن المحللين يُرجعون انتشار
الثقافة الأمريكية لتفاهتها التي تستهوي رجل الشارع العادي؛ ولهذا فاسمحوا لنا أن
نتجاوز إشكالية المصطلح لما يمكن أن يتفق عليه الجميع من آثار لما نسميه نحن:
غزواً فضائياً.
د. حمدي حسن: المتخصصون في الإعلام ليسوا في موقف موحد تجاه تأثير
وسائل الإعلام:
بعضهم يقول: إن تأثيرها طاغٍ، وهم النقديون واليساريون.
وبعضهم يقول: إن تأثيرها مشروط، بمعنى: أن بعض الرسائل الإعلامية
في بعض الأوقات تؤثر في بعض الناس.
وفريق ثالث يقول: إن تأثير وسائل الإعلام على رغم ما يبدو لها من تأثير
قوي إلا أن هناك عوامل أخرى أقوى تأثيراً منها؛ لكنها لا تظهر ظهور وسائل
الإعلام بحكم أنها جزء من الحياة.
والذي أراه أن الرسالة الإعلامية ما لم تدعمها وقائع في المجتمع وفي
الممارسة اليومية يصبح تأثيرها ضعيفاً.
الخطورة تكمن في الطابور الخامس الذي يُسوِّق ما تبثه وسائل الإعلام، فإذا
ما سَوَّقتْ وسائل الإعلام للحياة الأمريكية ثم خرجتَ إلى الحياة فوجدت (ماكدونالد،
وويمبي، وكنتاكي، وكوكاكولا) فإن هذا يدعم التأثير الخارجي.
الأثر الخطير لوسائل الإعلام يتأكد عندما تصبح الثقافة الأمريكية واقعاً في
الحياة اليومية للناس وهذا أخطر.
د. أحمد المجدوب: تسويق أنماط الحياة الغربية يتم للأسف عبر قنواتنا
المحلية وفي البرامج العربية، خذ لذلك مثالاً: برنامج يعرض بعد الإفطار في
رمضان يستضيف الممثلين والممثلات: استضاف ذات مرة إحدى الراقصات
فسألتها مقدمة البرنامج: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه من مجد؟ قالت: (أنا
هربت من أسرتي وأنا عمري 12 سنة، ومارست حياتي حتى وصلت وأصبحت
فلانة صاحبة الشهرة والملايين) . قفز إلى ذهني بحث كنت قد أجريته عن ظاهرة
الهروب من الأسرة من قبل، فلما أعدت البحث في الظاهرة من جديد وجدت أن
رقم الهروب قد زاد بنسبة 30% في الإناث في الشريحة من 12 - 20 سنة. ثم
سألتها المذيعة: أنت تزوجت 3 مرات رسمياً و 4 عرفياً؟ فقالت: (لا بل 4
رسمياً و 7 عرفياً) هكذا في رمضان! ! ثم سألوا أخرى عن عدد مرات الزواج
فقالت: 4 رسمياً أما العرفي فلا أعرف له عدداً، فسألوها: ولماذا كل هذا العدد؟
يبدو أن العيب في الرجال! قالت: (لا! إن العيب في نظام الزواج؛ لأنه نظام
بالٍ متخلف عفاه الزمن!) .
ثم لما اعترضنا للوزير على البرنامج، خاصة في التوقيت الذي يذاع فيه
(رمضان) ، كان الجواب هو استضافة الشخصية نفسها في العام التالي على حلقتين
وكان عنوانها: (سر التفوق) ! ليرسخ في أذهان البنات أن الأسرة قيد، والحل هو
الهروب. وللأسف! فإن المجتمعات أصبحت تسبح فوق بركة آسنة؛ لأن الاتجاه
الرسمي يريد ذلك، ثم نسأل لماذا كثُر الشذوذ؟ ونشكو من الزواج العرفي (الزنا
المقنن) ؟ لقد رصدتُ - بصفتي باحثاً في هذا المجال - عدة أمراض اجتماعية
خطيرة ظهرت أخيراً. منها:
- زنا المحارم الذي أصبح ظاهرة في بعض المجتمعات الإسلامية، وهو
يعني انهيار كيان الأسرة التي كانت مقدسة. وجدت أن في إحدى الدول 12 ألف
قضية إسقاط نسب، أي 12 ألف لقيط (قنبلة موقوتة داخل المجتمع) .
- ظاهرة اللواط والزنا الجماعي والاغتصاب الجماعي التي انتشرت مع ثقافة
الجنس الوافدة التي تبثها بعض القنوات والتي اشتهر بها عبدة الشيطان. هذا إلى
جانب المخدرات وحوادث العنف التي تزايدت معدلاتها.
البيان: اتفقنا يا دكتور حمدي على وجود الطابور الخامس، واتفقنا على
خطورة الإعلام العربي كذلك؛ فما هي الأخطار المحدقة التي يمكن أن تتوقعها للبث
الفضائي الأجنبي في عالمنا الإسلامي بصفتك متخصصاً؟
د. حمدي حسن: هناك عدة مخاطر تتمثل في:
- أثر هذه القنوات في تشكيل الأطر الفكرية التي سيعملها الفرد في التكامل
مع الواقع أو تفسيره من خلال تأثيرها التراكمي الذي يبني خلفيات التفكير. هذه
الأطر تصبح بمرور الوقت بمثابة الشاشة التي يسقط عليها واقعه؛ وعليه تصبح
معاييره غير مستمدة من ثقافته.
- كذلك تعرضه لرسائل أجنبية تولد لديه شعوراً بالنقص حينما يرى واقعه
مخالفاً لتلك الصورة المنقولة إليه عن العالم الخارجي، فيعتقد أن الآخرين هم
الأفضل. فهناك (السوبرمان) وهنا التخلف والعجز، والأخطر من ذلك أن يرد
هذا التخلف إلى الثقافة السائدة أو الدين. وهذا ما حصل في فترات الاتصال التي
حصلت بين المسلمين والغرب.
- الخطورة الثالثة: أنه سينسلخ من أمته شيئاً فشيئاً، أي يصبح تابعاً منتسباً
لغيرها؛ ليس فاعلاً معها؛ بل فاعلاً في مصلحة غيرها وربما ضد مصلحتها.
وللأسف! فإن الواقع الموجود حالياً يدعم دور وسائل الإعلام الأجنبية.
البيان: ماذا عن هذا الواقع الإعلامي العربي؟ نود لو أخذنا لمحة عن
مفرداته!
د. حمدي حسن: بعد حرب الخليج حصل انفجار سرطاني للقنوات الفضائية
العربية؛ حيث دعيت الدول الإسلامية إلى وليمة في الفضاء فذهبت، وبالعقلية
العربية! سعت كل دولة إلى تملُّك قناة فضائية، وإذا بها تفاجئنا بـ 16 أو 20
ساعة من الإرسال يومياً دون قاعدة برامجية وكان الحل - فيما ارتأت - أن لجأت
إلى مزيج رخيص من البرامج - أنا أسميه (إعلام السوق) ؛ مذيعة تفتح الميكرفون
مع الجمهور ثم تقطع بوصلات غنائية! ومن ناحية أخرى تقوم بإعادة 12 ساعة
من الإرسال حتى حفظ الناس البرامج، أما النسبة الباقية فيتم تغطيتها عن طريق
الاستيراد.
هذا المزيج مضر جداً بالعقلية المسلمة؛ لأنه يخدّر مقدرتنا على الإحساس
بالواقع بدلاً من محاولة تفهمه، وبنظرة بسيطة وسريعة إلى برامج الوقت الممتاز -
ذات الإقبال الكثيف - نجد برنامجاً اسمه: (ليلة مع فلانة) ما معنى هذا المسمى؟
ثم تخرج امرأة شابَّة عارية تتحدث إلى الشباب؛ ومن هنا تتبدى مفردات المشكلة:
ضعف.. إعادة وتكرار.. استيراد.
البيان: وأين النهضة الإعلامية التي يكثر الحديث عنها؟ !
د. حمدي حسن: لدينا في العالم العربي 200 ألف ساعة برامجية للتلفزيون
في العام لا يمكن توفيرها لوجود توزيع غير متكافئ؛ حيث إذا وجد المال فلا توجد
قطاعات فنية، وإذا وجد الفنيون فلا تتوفر القدرة على الوفاء بالاحتياطات فيلجأ
المسؤولون إلى ملء هذه الساعات بكلام يضر أكثر مما ينفع، فإذا كانت قدرتنا لا
تفي بربع المطلوب فعن أي نهضة يتحدثون؟
البيان: ولماذا لا تتكاتف الجهود من أجل تطوير الإعلام الهادف؟
د. حمدي حسن: هناك تفكك وعدم تنسيق بين القنوات الفضائية العربية؛
لأنها لم تستطع أن تتحرر من النظرة القطْرية والسياسات الداخلية المرسومة. كانت
هناك محاولات لإيجاد صيغة للتعاون بين الإذاعات العربية مرة، وبين الصحافة
العربية مرة، وبين التلفزيون العربي ووكالات الأنباء العربية؛ ولكن لم يحدث أي
تحرك في أي اتجاه، حتى وكالة الأنباء الإسلامية تمشي الهوينى.
وكانت هناك محاولة لإنتاج برنامج عن الحضارة العربية تحت إشراف
الجامعة العربية تقليداً للاتجاهات الأوروبية في صناعة الإعلام المشترك، ولكن
نتيجة لاختلاف الدول على حصتها من مساحة البرنامج؛ وُئد المشروع قبل أن يولد!
البيان: إذن يفهم من تقييمكم أن دور الفضائيات لم يكن على المستوى
المطلوب؟
د. حمدي حسن: هناك بعض القنوات حققت بعض النجاح في اجتذاب
المشاهد العربي؛ لكن النظرة المحلية ما زالت هي المسيطرة، هذه القنوات
تخسر! ! والسؤال الذي ينبغي الإجابة عنه هو: لحساب من تخسر؟ !
هذه القنوات - نتيجة لتوجهاتها الداخلية - قد عرّضت اللغة العربية لتشويه
غير مسبوق في تاريخ الإعلام كله! هذه اللغة يتم تشقيقها الآن في الفضائيات
العربية وهذا راجع إلى تناحر الثقافات الفرعية داخل الثقافة العربية مما يؤدي إلى
قتل لغة التفاهم.
البيان: تشبيه التوسع الفضائي العربي بالانفجار السرطاني له مغزاه ودلالته. فما الذي يمكن أن يصيب الجسد الإسلامي في زحمة هذا التكاثر الفضائي؛ سواء
منه العربي أو الأجنبي؟
د. حمدي حسن: هناك ظاهرتان - على الأقل - خطيرتان على المجتمع
الإسلامي نحن نشهدهما الآن وستزيدان في المستقبل القريب:
الأولى: النوعية التي تحدثها كثرة القنوات بالجماهير ستُظهر ما يعرف بـ ... (المواطنة التلفزيونية) بمعنى: أني أنا، وشخص من الهند، وثالث من البحرين،
ورابع من المغرب، وخامس وسادس نشاهد جميعاً قناة واحدة ستصبح معاييرنا
واهتماماتنا واحدة؛ رغم بُعد المسافات بيننا، وهذا أمر خطير على المدى البعيد؛
ليس من ناحية الوحدة فقط؛ وإنما من ناحية التركيبة النفسية والثقافية.
الثانية: وهي تجزئة أيضاً ولكن بسبب مورد المعلومات اليوم؛ فالمعلومات
أصبحت سلعة أو قوة يسيطر عليها اليوم مثلث قاعدته الولايات المتحدة وضلعاه
أوروبا واليابان. هذا على المستوى الدولي. أما على مستوى الأفراد داخل
المجتمعات فمشكلة العالم الإسلامي أن ثلاثة أرباع السكان - على الأقل - ليس
لديهم القدرة على الوصول إلى المعلومة، وأكثر من لديهم هذه القدرة لا يمتلكون
مهارات تمكنهم من الاستفادة بهذه المعلومات.
هذا الأمر أحدث فروقاً أخرى داخل المجتمع المسلم. هذه الفروق في زيادة،
وستزيد! فإن لم نُعدّ المجتمع لعصر المعلومات فستفاجئنا كوارث داخلية ربما
تطرق بابنا بين عشية أو ضحاها؛ لأن التطورات التقنية قد طوت كثيراً من
المراحل واختصرت مسافات الزمن في لحظات.
د. أحمد المجدوب: حَجْبُ المعلومات جريمة تشارك فيها العديد من الجهات
الرسمية اليوم، وأنا بصفتي باحثاً تُغلق دوني الأبواب رغم أهمية المعلومات
والأرقام في وظيفتي؛ لأن الجهات الرسمية تخشى من الإدانة والاتهام بالتقصير؛
فتغطي ذلك بحجب المعلومة.
د. حمدي حسن: الاتجاه الأخطر الآن ما يسمونه: (تسفيه المعلومة) من
خلال تزييف إحساسنا بها؛ فيعطيك كلاماً فارغاً بصورة علمية، ويوهمك أنها
معلومات؛ فيصيبك نوع من الاستخفاف بها، فإذا ما جاءت المعلومات الحقيقية لم
تُلقِ لها بالاً!
البيان: إذا اتفقنا على أن الواقع غير مؤهل لمواجهة تحديات القرن القادم
فكيف نصل إلى إعلام فاعل في مواجهة الغزو؟ وما هي نقطة الانطلاق؟
د. حمدي حسن: أرى أن نقطة البداية في مواجهة ما نسميه غزواً تبدأ من
تحرير هياكل تمويل وسائل الإعلام خاصة التلفزيون؛ لأن الملكية الحكومية تسببت
في الأداء المترهل للإعلام سواء من جهة ضعف الإمكانات المادية؛ حيث إن الدول
عجزت عن دعم تلفزيوناتها نحو التطور رغم لجوئها للإعلانات باعتبارها مصدراً
للتمويل، أو من جهة ضعف الخبرة البشرية والتقنية التي تدور في فلك الأداء
الحكومي.
خذ على سبيل المثال: التخلف في الأداء الإخباري في العالم الإسلامي؛ فقد
زاد من الإقبال على إذاعة لندن. وزراء الإعلام العرب يتحملون مسؤولية إنصات
100 مليون مستمع يومياً لهيئة الإذاعة البريطانية تفعل بهم ما تشاء!
البيان: وكيف تتحقق عملية تحرير هياكل التمويل؟
د. حمدي حسن: يمكن تحقيق ذلك بإيجاد صيغة من الملكية المشتركة بين
الحكومات والقطاع الخاص ضماناً لتوفير الأموال اللازمة لتطوير هذه الوسائل؛
لتواكب متغيرات العصر؛ لأن الإعلام أصبح صناعة تحتاج لضخ متواصل
لرؤوس الأموال، وتحتاج لنفس طويل؛ لأن الإعلام صناعة تتحمل خسائر كبيرة
في بدايتها. وهذا أمر لا تتحمله إلا الشركات الضخمة.
على سبيل المثال: محطة (CNN) التي بدأت في عام 1982م استمرت
تخسر (4 سنوات) ولقوة الشركة المالكة استطاعت أن تصبر حتى اكتملت دورة
رأس المال، وحققت أرباحاً. كذلك صحيفة (يو إس تودي) بدأت عام 1986م
وخسرت 500 مليون دولار؛ واليوم هي أول صحيفة في العالم.
وإذا كنا نحتاج إلى قنوات تغطي العالم الإسلامي فهذا يعني حاجتنا إلى
إمكانات ضخمة وشركات عملاقة تستطيع دراسة احتياجات مناطق العالم الإسلامي
المختلفة من البرامج للوفاء بها.
ونحتاج إلى تكامل بين تخصصات الإعلام المختلفة؛ فالشركات العملاقة اليوم
تمتلك كل مقومات إنتاج الإعلام: من شركات إنتاج برامجي، وصحف، وشركات
اتصالات، وشركات إنتاج معدات، و.... ولأن بعض هذه الأنشطة يخسر
فتستطيع تعويضه من فوائض أرباح الأنشطة الأخرى، وإذا كانت الحكومات لا
تستطيع ولا تملك القيام بهذه الأنشطة فعليها أن تفتح الباب أمام الاستثمارات في
مجال الإعلام.
البيان: وهل يمكن أن تستجيب الحكومات لهذا الأمر؟
د. حمدي حسن: الحكومات لم تستوعب بعد ضرورة هذا الأمر، ولم
تستوعب كذلك أن عليها أن تستجيب بصورة إيجابية للمتغيرات العالمية في هذا
المجال.
للأسف! ستصل الحكومات إلى هذه القناعة؛ ولكن - كعادتنا دائماً - نصل
متأخرين. أنت اليوم في وكر الأفاعي، إما أن تكبر وتصارع أو تموت (To
Grow Or To Die) .
التضامن المالي أصبح ضرورة، والجمهور العربي أصبح أكثر وعياً ونضجاً، وصوته أعلى من ذي قبل، وأتوقع أنه في المستقبل ومع انسحاب الدول من
إحكام قبضتها على النشاط الاقتصادي سيعقبه - ولو على فترات أطول - تخفيف
قبضتها في عالم السياسة والإعلام، وبذلك ستضطر إلى نوع من الإنتاج المشترك.
البيان: ولكن نسمع عن مشروعات اقتصادية مشتركة بين بعض الدول
الإسلامية والعربية؛ فلماذا لا ينسحب الأمر على مجال الإعلام؟
د. حمدي حسن: لأن الدول العربية متخوفة بعضها من بعض؛ فبينما لا
نجد في العالم كله مجموعة لغوية لها من السمات المشتركة ما للمجموعة الإسلامية
والعربية نجد أن المال ليس له جنسية إلا في العالم العربي. بمعنى: أن هياكل
تمويل الإعلام تظل وطنية صرفة حتى في الفضائيات.
أما الاستثمارات المشتركة فيمكن أن تجدها في مجال السياحة أما في الإعلام
فلا! وإن وجدت في الإعلام فمع دول أجنبية.
العقلية العربية ما زالت لا تدرك أن التكتلات اليوم هي لغة العصر، وأنها
هي التي تسيطر على صناعة الإعلام. قاعدة: (Bigger is Better: المجموعة
الأكبر هي الأفضل) هي التي تحكم العالم كله!
د. محيي الدين عبد الحليم: في رأيي أن مفتاح الحل في إيجاد عمل إعلامي
إسلامي متميز وقوي، هو وجوب ارتباط وسائل الإعلام بمرجعية منظومية تراعي
ثوابت أمتنا الإسلامية ولا تتعداها، وتتحرك في المتغيرات وفق الضوابط
الاستراتيجية التي تخدم مصلحة الشعوب الإسلامية.
هذه المرجعية لا بد من بلورتها وغرسها في القائمين على الإعلام ليخدموا
الأهداف العليا للإسلام، وبذلك ينعكس هذا على البرامج التي تكسب المتلقي في
النهاية المَلَكة الانتقائية التي تحتكم إلى ثوابت في عملية القبول أو الرفض لما
يعرض عليه.
د. أحمد المجدوب: قبل أن نناقش قضية المرجعية علينا أن نناقش مسألة
التبعية؛ لأن الإعلام لدينا تابع للنظم.
ثم كيف نحيي مسألة النقد والقدرة على الانتقاء، والإعلام اليوم يُوجِد مُشاهِداً
ذا اتجاه واحد غير مثقف ليس لديه أي قدرة على النقد؟ !
كما إن الظروف التي نعيشها تمنعه أن يعلن عن قوله؛ لأن المجتمع يملي
عليه كل شيء؛ وهذا الجهاز يستخدم كي يملي الاتجاهات الرسمية حسبما تكون،
وهذا أوضح ما يكون في الاتجاهات التي تسعى لعزل الدين عن الحياة؛ إذ نجد
مسلسلات لا يذكر فيها اسم الله، ليس فيها ما يمت للأخلاق الإسلامية بصلة،
والحلول كلها مستندة إلى الأخلاق الوضعية..! !
علينا أن نراجع عملية التربية السياسية التي ترسخ للتبعية القطْرية لا
للمرجعية.
د. محيي الدين عبد الحليم: هناك عامل آخر لإنجاح الإعلام الإسلامي هو
النهوض بالعقلية الإعلامية العربية من خلال خطط متكاملة: من مناهج دراسية،
وبرامج تدريب، وتنمية مهارات، وتشجيع على الإبداع والابتكار، وتحويل
المناهج النظرية التي تدرس في كليات الإعلام إلى مناهج عملية تطبيقية، وإنشاء
بنوك معلومات لتثقيف الإعلاميين ومدهم بالمعلومات.
كما إن علينا أن نرتقي من الناحية الإدارية في إدارة المشروعات الإعلامية
بطريقة علمية عملية مدروسة. والدور في هذا النهوض موزع بين كليات الإعلام
العربية وبين إدارات المشروعات الإعلامية.
د. أحمد المجدوب: هناك جانب غاية في الأهمية هو إحياء دور الدين في
حس الإعلامي، وإعادة النظرية الأخلاقية لتحكم السلوك الإعلامي؛ لأن السلوك
الإعلامي متأثر بالغرب إلى حد الفتنة به.
للأسف! نحن نقلد الغرب في تفاهة الفكرة ولا نستفيد منهم كثيراً في طريقة
الأداء والإخراج.
د. محيي الدين عبد الحليم: ما زالت فكرة الإعلام الإسلامي تحتاج إلى مزيد
من الدراسات والأبحاث التي تنظر لهذه الفكرة وتصبها في قوالب عملية ناهضة.
د. أحمد المجدوب: في رأيي أن السبيل إلى ذلك يأتي عن طريق دعم
القنوات الفضائية الإسلامية والعربية الجادة، ومخاطبة المسؤولين عنها؛ لأن لديها
نوعاً من الحرية وهي التي يمكن أن تؤدي دوراً فاعلاً في تثبيط الهيمنة الغربية.
لدينا العقليات المبدعة، ولدينا رؤوس الأموال لو فهم أربابها، ولدينا مقومات
الإنتاج، وتبقى مسألة التقنية وهي مسألة يسهل التغلب عليها.
د. حمدي حسن: الحق أننا نشهد للقنوات الفضائية العربية بأنها استطاعت
أن تجتذب طائفة عريضة من المشاهدين بعيداً عن الفضائيات الأجنبية. ولنذكر
على سبيل المثال: قناة الجزيرة في مجال البرامج الحوارية، وقناة MBC في
المجال الإخباري، هذه القنوات يمكن بمزيد من الاستثمار والدعم أن تحقق نتائج
مبهرة.
د. محيي الدين عبد الحليم: إذا أردنا أن نتحدث عن الدور الفاعل لهذه
القنوات فعلينا أن نفكر بجدية في إنشاء قنوات تربوية وتعليمية وثقافية واجتماعية.
وهي إن وجدت وتغلبت على المشاكل الحالية فستؤدي - بإذن الله - دوراً ناهضاً،
ربما نجني ثماره في غضون سنوات قليلة.
د. أحمد المجدوب: صناعة الأخبار ما زالت إلى الآن معتمدة إلى حد كبير
على الوكالات العالمية التي تتلاعب في الصياغة بما يخدم مصالحها.
د. حمدي حسن: بدايةً هذا دور وكالة الأنباء الإسلامية، وهي شديدة التعثر
نتيجة للخلافات ويكاد دورها أن يكون مجمداً.
لكن هناك بعض التلفزيونات التي تعتمد على مراسليها في العالم كله، والذين
يستقون المعلومات بأنفسهم؛ وهذه كانت من فوائد حرب الخليج إن كان لها فوائد.
د. محيي الدين عبد الحليم: حتى نضع الأمر في نصابه الصحيح فلا بد من
الإشارة إلى أن وسائل الإعلام لا تنفرد بالتأثير إلا إذا كان هناك عوامل أخرى
تدعمها؛ ففي ظل الظروف الطبيعية فإن تأثير الإعلام لن يكون أقوى من تأثير
التعليم؛ لذلك فلا بد من إصلاح التعليم؛ ليقوم بدوره في التنشئة الإسلامية.
هناك أيضاً دور الأسرة التي عليها العبء الأكبر في عملية التأثير؛ فإن
إحدى الدراسات تقول: إن الولد قبل أن يبلغ أربع سنوات تتكون لديه 50% من
شخصيته.
كذلك مؤسسات التنشئة الاجتماعية والشرعية ومنها (المسجد) الذي لا بد من
إعادة دوره، حتى لا يقتصر دوره على إقامة الصلوات والعبادات. المسجد له دور
شامل باعتباره مؤسسةً دعوية إعلامية تربوية ضخمة جداً، ويمكن أن يؤدي دوراً
كبيراً في المجتمع، وليأخذ بيد الشباب الضائع ويغرس فيهم المعاني الفاضلة.
ولا بد من تفصيل دور الدعاة، وهذا له تأثير كبير جداً. ولي دراسة عن
خطبة الجمعة وأثرها بينت فيها أن أثرها أقوى بكثير من كل وسائل الاتصال
الجماهيري، ومن هنا فإن علينا أن نركز على دور الداعية، وعلى بنائه العلمي
والتربوي والفكري والثقافي.
د. أحمد المجدوب: دور المنبر ألغي في بعض الدول، وصودرت كلمته،
أما الأسرة فمفككة لا تقوم بدورها، والتعليم من سيئ إلى أسوأ!
د. حمدي حسن: في رأيي أن أخطر ما يمكن أن يتعرض له العالم الإسلامي
من مصادر لتكوين الفكر هو التعليم والوعظ الديني، وأعتقد أن تجربة الربع الأخير
من هذا القرن أثبتت أن المنبر الخشبي هو الذي استطاع أن يقف أمام رسالة وسائل
الإعلام.
د. أحمد المجدوب: لذلك نرى ما يحدث له اليوم من مصادرة. وغياب هذه
المنابر يجعل دور وسائل الإعلام أخطر وأقوى.
أما الأسرة فالذي يحدث لها خطير بكل المقاييس!
أضرب لكم مثالاً من واقع عملي يبين أثر غياب الأسرة والدين من حياة الفرد: في أحد اللقاءات مع شباب الجامعة بحكم طبيعة عملي سألت أحد الطلبة: هل
رأيت (......) (فيلم إباحي مشهور بين الشباب!) ؟
- رد بسخرية: هذا قديم جداً..! من خمس سنوات!
- قلت: ماذا يوجد الآن؟ قال: بعد الندوة أخبرك!
- قلت: هل تطلع على المواقف الإباحية على الإنترنت؟
- قال: نعم!
- قلت: بمفردك، أم معك أحد؟
- قال: كل زملائي - الشلة - يشاهدونها معي!
- قلت: وأين الأسرة؟ !
- قال: والدي رجل أعمال لا أراه إلا نادراً.
- قلت: ووالدتك؟
- قال: هي سيدة مجتمع.. مشغولة في اللقاءات، والزيارات، والحفلات.
- سألته: هل للدين دور في حياتك؟
- مندهشاً: من أي ناحية؟
- قلت: هل تصوم؟
- قال: كلنا نصوم (يعني أنها عادة) !
- قلت: هل تصلي؟
- رد: بصراحة ... لا! !
- قلت: والدك يصلي؟
- رد: لا!
- قلت: والدتك؟
- رد: لا!
- حاول أن يسوِّغ فقال: يا دكتور الدين ليس مادة إجبارية.
- هل تسمع الأغاني الأجنبية؟
- دائماً أسمعها.
- هل فكرت مرة في الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم؟
- أين هذه؟
قلت: هل تسمع أن هناك تعدداً ثقافياً؟
قال: نعم!
قلت: ماذا يعني؟
قال: يعني أن لدينا ثقافة وأمريكا لديها ثقافة، واليهود لديهم ثقافة.
قلت: وأي ثقافة تفضل؟
قال: الأمريكية طبعاً! !
قلت: والثقافة العربية ماذا بها؟
- منفعلاً ومتجهاً لمن حوله: قولوا للدكتور ماذا بها ... (تدعو للتخلف) !
فضجت القاعة بتصفيق بعض الطلاب ممن على شاكلته! بمعنى أنه ليس رأيه
وحده ولكنه رأي يحمله آخرون!
هذا نموذج كاف لبيان أثر غياب الدين والأسرة في ظل الواقع الذي نحياه؛
فلا خطوط دفاع أمامية ولا خلفية، بيت متهاوٍ.. منبر معطل.. إعلام لا يحسن
أدواره المطلوبة، إذا لم تسأل عن هذه فلا تسأل عما سواها!
د. محيي الدين عبد الحليم: في هذه الظروف أؤكد على دور الداعية ...
الداعية هو الذي يملك تحريك المناعة الاجتماعية.
د. حمدي المجدوب: الداعية في حاجة لرفع مستواه الاقتصادي؛ لأن كثيراً
من الدعاة - لفقرهم - لديهم شعور بفقدان الكرامة، ولذلك هم غير قادرين على
القيام بدورهم.
د. حمدي حسن: الداعية صاحب رسالة وعليه أن يتحمل شظف العيش
والشدائد في سبيل دعوته. الإسلام اليوم في حالة مد في الغرب منذ السبعينيات،
ولم يعد هناك مدينة في العالم إلا وقد دخل فيها كثيرٌ الإسلام، وأغلب من قام بهذا
الدور دعاة خرجوا محتسبين؛ لكن الداعية في حاجة إلى الارتقاء فعلاً في مجال
العلوم الإنسانية الذي تُكسبه ملكة التأثير لكي يرقى إلى مستوى تأثير مقارب لوسائل
الإعلام؛ فعليه الاهتمام بهذه العلوم: كعلم النفس، والاجتماع، والتسويق الذي يقوم
على التشويق والإثارة والإقناع وأمثال ذلك.
البيان: يا دكتور حمدي نحن نوافقك في التأكيد على تحمل الداعية لأمانة
رسالته بتكاليفها؛ لكن في الوقت نفسه نؤكد على وجوب رعاية المجتمعات
والحكومات للدعاة باعتبارهم من صلب النخبة الحقيقية التي تسعى للنهضة لا
باعتبارهم هامشيين، والعمل على إشعار الناس بأهميتهم.
د. محيي الدين عبد الحليم: إذا تكلمنا عن الدعاة والنهوض بهم فعلينا أن
ننظر إلى ما هو أبعد من الحاضر. لا بد من تشكيل دعاة المستقبل تشكيلاً صحيحاً
فاعلاً عن طريق إعادة النظر في معايير القبول في كليات الدعوة؛ من حيث الذكاء
والنبوغ وملكات التحصيل والتأثير، وتحمل المسؤولية وبالنسبة للمناهج وأساليب
التدريس فلا بد من تكميلها بما يتلاءم مع مستجدات العصر.
د. حمدي حسن: ما زلنا نفتقد الداعية الذي يجيد التأثير في الناس بمضمونه
وأسلوبه في البرامج الدينية، وللأسف! فإن هذه البرامج تستخدم أسوأ لغة فنية مع
أننا متفقون أنها أفضل ما يُقدَّم.
نحن بحاجة إلى داعية يستطيع أن يحرك العقيدة في المجتمع، وينقلها من
إطارها النظري إلى واقع فاعل في حياة الناس.
الأوربيون عندما هاجروا إلى أمريكا وحملوا معهم البروتستانتية استطاعوا أن
يحولوها إلى عقيدة عمل؛ فإذا كان ديننا ديناً شاملاً وكاملاً فلماذا يقف الدعاة عند
حقائق ما تحت الأرض وفوق السماء ولا يربطونها بحياتهم؟
إننا أصبحنا نشكو من ضعف الإنتاجية الإسلامية وقلة عطائها، والدعاة
يتحملون جزءاً كبيراً من هذه التبعة.
د. أحمد المجدوب: للأسف! فإن الشباب اليوم يجيدون الهروب إما إلى
البانجو والمخدرات أو إلى الشذوذ، وعلى أحسن حال إن تمسك بدينه فإنه يهرب
من واقعه؛ لأنه جرب ورأى رأس الذئب الطائر!
البيان: وماذا عن دور الإعلام المنتظر في خدمة العالم الإسلامي بمجمله
وخاصة الشعوب التي لا تعرف عن الإسلام كثيراً؟
د. حمدي حسن: إذا أردنا أن يكون لنا موقع عالمي حقاً فعلينا أن نُفعِّل دور
الإعلام في التواصل مع الشعوب المسلمة غير العربية.
خذ لذلك مثلاً: بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واستقلال الجمهوريات الإسلامية
في آسيا التي عاشت فراغاً دينياً رهيباً دخلت القوى الداعية إلى المنطقة، وهي:
تركيا وهدفها ليس دينياً وإنما لبعث القومية التركية في هذه الدول؛ لأنها تعتبرها
امتداداً تاريخياً لها، وإيران تراهن على الأقلية الشيعية لدرجة أن طاجيكستان قبل
الانقلاب الأخير كانت النشرة الرسمية للتلفزيون الإيراني تذاع هناك، وأمريكا
وروسيا لهما مآرب أخرى.
ومع أن هذه الدول امتداد طبيعي للعالم الإسلامي، ورصيد استراتيجي كبير
نجد أن القنوات المنشأة إما تركية أو إيرانية. أما العربية الإسلامية فلا! ! فإن لم
نتمكن من إقامة قنوات موجهة إلى هناك فباستطاعتنا أن نمدهم - ولو مجاناً -
بالبرامج الإسلامية والثقافية العربية التي ترسخ انتماءهم وتكرس للتواصل معهم.
وهنا أوكد على أهمية إنشاء شركات إنتاج برامجي متخصصة تقوم بتسويق
إنتاجها بين القنوات العربية.
البيان: وماذا عن الأقليات الإسلامية من حيث الدور المطلوب منهم أو
تجاههم؟
د. محيي الدين عبد الحليم: الأقليات الإسلامية وبالذات في أوروبا وأمريكا
يمكن استثمارها في نشر قضايا الإسلام.
الأقلية الإسلامية في الولايات المتحدة أكبر من الأقلية اليهودية إلا أنها أقل
فاعلية نتيجة لتشتتهم وتفرقهم واختلافهم.
لو نجحت هذه الأقليات في توحيد أدائها فيمكن أن تؤدي أدوراً مهمة منها:
الدعوة إلى الإسلام داخل المجتمعات التي تحيا فيها، وتقديم الإسلام بصورة مشرقة، وإزاحة ستار الجهل والتعصب والعداء الذي يحول بين الغربيين والإسلام.
الإسلام يمتلك قوة ذاتية في حقائقه وعقائده ومنهجه، ويمتلك قوة في معالجة
مشاكل الإنسان التي استفحلت هناك.
والإسلام في حالة تمدد رغم الضرب والتضييق الذي يتعرض له المسلمون
من كل جانب.
وهناك ما هو أعظم تأثيراً من ذلك وهو: إنشاء محطات تلفزة موجهة يمكن
أن تخدم المسلمين هناك؛ بل ويمكن توجيهها إلى العالم كله.
ويمكن الاستفادة من ثورة الاتصالات والتقنية في استمداد الكفاءات اللازمة
لتغطية مساحات الإرسال ببرامج هادفة ونافعة.
وجانب ثالث يمكنهم أن يخدموا من خلاله أمتهم؛ وذلك بنقل التقنيات اللازمة
إلى الشعوب الإسلامية مساهمةً منهم في النهضة العامة؛ لكن علينا أن نوجه إليهم
فضائيات تسهم في لَمِّ شتاتهم ووصلهم بحضارتهم وأمتهم.(141/36)
قضايا دعوية
التخصص ألم يحن وقته بعد؟
محمد بن عبد الرحمن الزامل
الدعوة لله ربنا، لإخلاص العبادة له، والذب عن إسلامتا، والغيرة عليه،
والتضحية في سبيل ذلك كله.. . تلك سمات نرجو أن توجد في المسلمين عموماً،
ويتحدد الرجاء للشباب منهم خصوصا. لكن: هل توفرت هذه الصفات في أحدنا،
أو في مجموعة منا؟ الواقع ينطق بأن فينا - ولله الحمد - من هؤلاء كثيراً يحقق
بعضهم الأهداف التي صاغوها لأنفسهم، ويخفق بعضهم الآخر. ما مرد هذا
الإخفاق؟ لا يمكننا الإجابة عن هذا التساؤل بمجموعة قليلة من الكلمات، وبلحظات
قصيرة من التأمل؛ فالإخفاق والنجاح، لا يزالان مصدر القلق الرئيس للإنسان منذ
وضع قدميه على الأرض: الإخفاق والنجاح في الاقتصاد، الإخفاق والنجاح في
التعليم، وفي العمران، وفي الرراعة، وفي العلاقات، وهو في كل شيء وارد،
لكن مع التعاون والعمل الفعال تقترب النتائج من النجاح. والبحث الجاد عن مثل
هذه الإجابة يتطلب شخصيات ومجموعات كثيرة تكون قد مارست هذا العمل، أو
على أقل تقدير اطلعت عليه واحتكت به، ومع هذا فليس من الضرورة أن يكون
كل ما تتوصل إليه إجابات وافية لا مرية فيها ولا نقاش حولها؟ فالحكم - أولا
وأخيراً - لميدان العمل التنفيذي وما يمدك به من تقارير واستبانات تضع يد الطبيب
على مكمن الداء، ومن دراسات لتجارب سابقة تفيد منها وتبني عليها. غير أن هذا
كله لا يعني أن محاولة تسليط الضوء على تساؤلنا، وتجلية غامضه يعد خطيئة،
ولو عد كذلك فهو بالتأكيد ليس خطراً؛ فهي مجرد كلمات تلقى، ويتلقاها أرباب
العمل، فينظرون ما فيها من حق ليأخذوه وما فيها من زلل ليقوموه. ومن الأسباب
التي لها أثرها القوي في إضعاف الفاعلية وفي إعاقة إحراز النتائج المطلوبة عدم
التخصص، فترى أحدنا قد اشتغل بالعلم والتعليم والتدريس والمدارسة، يجود ذهنه
بفكرة تجول في خاطره وتسيطر عليه، يرى أن لها مردودا عظيما ونفعا كبيرا إن
هي طبقت، فينقطع اهتمامه عما هو عليه أولاً، وعما كان منشغلاً به، وكاد يعطي
أكله، وينصرف إلى مشروعه الجديد. ولأن كل عمل يمكن السيطرة عليه وإيقافه
تماماً إلا العمل الذهني فإن أفكارا ستستمر في الظهور، وسيستمر هو معها في
التنقل، فيشرع في مشروع تلو آخر دون أن يعطي كلا حقه من الاهتمام والمتابعة،
لتمسي هذه المشاريع فريسة سهلة للإخفاق، والمشروع الدعوي له صفة خاصة:
إن لم ينبت ثماراً طيبة فلا بد أن يترك نتاجا سلبيا قد نحتاج إلى طاقات أخرى
تتحرك لعلاجه. هل هذه دعوة لعدم التفكير، أو قتله (برصاصة الرحمة) ؟
لا.. . إنما هي دعوة للتخصص ينهض بها على ضوء ثلاثة مقومات:
1 - إن كل مشروع - مهما كان نوعه - مفتقر إلى من يتفرغ له في أيامه
الأولى، حتى يلج مرحلة النضج والاعتماد على الذات، وقد لا يحتاج إلى جهود
عملية كثيرة، ولكنه - بلا شك - بحاجة إلى اهتمام وتركيز ذ هني لا يتوفران لمن
يتشتت قي أكثر من اتجاه، وتكمن أهمية التركيز الذهني في أن أخطر انحراف
يعتري المشروع ما يكون من نقطة البدء، فهو كفيل بتغيير الأهداف ذاتها، ولذا
فإن على راعي المشروع أن يتيقظ وينتبه إلى السلبيات التي تطرأ، ويحاول
معالجتها بالحال، ويلاحظ الإيجابيات ويهتم بترسيخها وتنميتها وتحسينها، وبالطبع
فإن هناك مشاريع تحتاج إلى جهود عملية وتخطيطية ورقابية كثيرة.
2 - حتى في حال توفر الفكرة فهذا لا يستلزم أن لا يقوم بتنفيذها إلا صاحبها، أبداً.. فاستمر أنت في مشروعك، وانقل فكرتك إلى مؤهل يقوم بها ويرعاها،
وليس ثم ما يمنع من الاطلاع عليها بين الفينة والأخرى للتأكد من التزام المشروع
أهدافه، وسلامة سيره تجاهها؛ بل إنا لندعو إلى أكثر من ذلك: إلى قيام
مجموعات تفكير لا يكون التنفيذ من مهمتها في شيء؛ بل مجرد اقتراح الأفكار،
والبحث عمن ينفذها، ومراقبة مسارها.
3 - إذا كان هناك من استطاع أن يقوم بعدة أعمال ناجحة في زمن مضى فإن
الوقت الآن قد تغير؛ فالمعلومات تزايدت وتسارعت حتى تضاربت، والتغيرات
الاجتماعية والثقافية تختلف بين يوم وليلة، ومستلزمات الشخص ذاته وحاجاته
وواجباته قد أصبحت تتطلب حظاً من الوقت أوفر، وكما من العناء أكبر، ودونكم
تربية الأبناء وتنشئتهم نشأة صالحة مثالاً على ذلك. وإمعان النظر في أولئك النفر
يبين أنهم كانوا لا يبدؤون بمشروع حتى يستوي الأول على سوقه، ويقوم بنفسه،
ويقل لغوب مراقبته وتقويمه، ويوجد من يتولاه ويدير شوونه.
وبعد؛ فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وهذه الكلمات لا تغني في الإجابة
عن تساؤلنا، إلا أنها فكرة تبحث عمن يطورها.(141/48)
فتاوى أعلام الموقعين
فتوى حول الرقى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في المملكة العربية السعودية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة
المفتي العام من معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد،
والمرفق به المحضر المعد من قِبَل مندوب فرع وزارة الشؤون الإسلامية ومندوب
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم. والمحال إلى اللجنة من الأمانة
العامة لهيئة كبار العلماء برقم (139- س) وتاريخ 8-1-1418هـ وقد تضمن
المحضر عدة فقرات أجابت اللجنة عنها بما يلي:
الفِقْرة الأولى: القراءة على ماء فيه زعفران ثم غمس الأوراق فيه ثم تجفيفها
ثم حلها بعد ذلك بماء ثم شربها؟
الجواب: القراءة في ماء فيه زعفران ثم تغمس الأوراق في هذا الماء وتباع
للناس لأجل الاستشفاء بها هذا العمل لا يجوز ويجب منعه؛ لأنه احتيال على أكل
أموال الناس بالباطل، وليس هو من الرقية الشرعية التي نص بعض أهل العلم
على جوازها وهي كتابة الآيات في ورقة أو في شيء طاهر كتابةً واضحةً ثم غسل
تلك الكتابة وشرب غسيلها.
الفقرة الثانية: مدى صحة تخيل المريض للعائن من جراء القراءة أو طلب
الراقي من القرين أن يخيل للمريض من أصابه بالعين؟
الجواب: تخيل المريض للعائن أثناء القراءة عليه وأمر القارئ له بذلك هو
عمل شيطاني لا يجوز؛ لأنه استعانة بالشياطين؛ فهي التي تتخيل له في صورة
الإنسي الذي أصابه وهذا عمل محرم؛ لأنه استعانة بالشياطين؛ ولأنه يسبب
العداوة بين الناس ويسبب نشر الخوف والرعب بين الناس، فيدخل في قوله تعالى: [وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا]
[الجن: 6] .
الفقرة الثالثة: مسُّ جسد المرأة: يدها أو جبهتها أو رقبتها مباشرة من غير
حائل بحجة الضغط والتضييق على ما فيها من الجان؛ خاصةً أن مثل هذا اللمس
يحصل من الأطباء في المستشفيات، وما هي الضوابط في ذلك؟
الجواب: لا يجوز للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك
من الفتنة، وإنما يقرأ عليها بدون مس وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب؛ لأن الطبيب قد لا يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه، بخلاف
الراقي فإن عمله - وهو القراءة والنفث - لا يتوقف على اللمس.
الفقرة الرابعة: وضع أختام كبيرة الحجم مكتوب فيها آيات أو أذكار أو أدعية، منها شيء مخصص للسحر، ومنها ما هو للعين، ومنها ما هو للجان، ثم يغمس
بالختم على ماء فيه زعفران، ثم يختم على أوراق تحل بعد ذلك وتشرب؟
الجواب: لا يجوز للراقي كتابة الآيات والأدعية الشرعية في أختام تغمس
بماء فيه زعفران ثم توضع تلك الأختام على أوراق ليقوم ذلك مقام الكتابة ثم تغسل
تلك الأوراق وتشرب؛ لأن من شرط الرقية الشرعية نيةَ الراقي والمرقي الاستشفاء
بكتاب الله حال الكتابة.
الفقرة الخامسة: شم جلد الذئب من قِبَلِ المريض بدعوى أنه يفصح عن وجود
جان أو عدمه؛ إذ إن الجان بزعمهم يخاف من الذئب وينفر منه ويضطرب عند
الإحساس بوجوده؟
الجواب: استعمال الراقي لجلد الذئب ليشمه المصاب حتى يُعرف أنه مصاب
بالجنون عمل لا يجوز؛ لأنه نوع من الشعوذة والاعتقاد الفاسد؛ فيجب منعه بتاتاً.
وقولهم: إن الجنِّيَّ يخاف من الذئب خرافة لا أصل لها.
الفقرة السادسة: قراءة القرآن أثناء الرقية بمكبر الصوت، أو عبر الهاتف
مع بُعد المسافة حتى يمكن القراءة على جمع كبير في آن واحد؟
الجواب: الرقية لا بد أن تكون على المريض مباشرة، ولا تكون بواسطة
مكبر الصوت، ولا بواسطة الهاتف؛ لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في الرقية وقد قال صلى الله
عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [1] .
الفقرة السابعة: الاستعانة بالجان في معرفة العين أو السحر، وكذلك تصديق
الجنِّيِّ المتلبس بالمريض بدعوى السحر والعين والبناء على دعواه؟
الجواب: لا تجوز الاستعانة بالجن في معرفة نوع الإصابة ونوع علاجها؛
لأن الاستعانة بالجن شرك قال تعالى: [وأنه كان رجال من الإنس يعوذون
برجال من الجن فزادوهم رهقا] [الجن: 6] ، وقال تعالى: [ويوم يحشرهم
جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع
بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء
الله إن ربك حكيم عليم] [الأنعام: 128] ، ومعنى استمتاع بعضهم ببعض أن
الإنس عظَّموا الجن وخضعوا لهم واستعاذوا بهم، والجن خدموهم بما يريدون،
وأحضروا لهم ما يطلبون، ومن ذلك: إخبارهم بنوع المرض وأسبابه مما يطلع
عليه الجن دون الإنس، وقد يكذبون؛ فإنهم لا يُؤْمَنُون ولا يجوز تصديقهم.
الفقرة الثامنة: تشغيل جهاز التسجيل على آيات من القرآن لعدة ساعات عند
المريض، وانتزاع آيات معينة تخص السحر، وأخرى للعين، وأخرى للجان؟
الجواب: تشغيل جهاز التسجيل بالقراءة والأدعية لا يغني عن الرقية؛ لأن
الرقية عمل يحتاج إلى اعتقاد ونية حال أدائها ومباشرة للنفث على المريض؛
والجهاز لا يتأتى منه ذلك.
الفقرة التاسعة: كتابة أوراق فيها القرآن والذكر، وإلصاقها على شيء من
الجسد كالصدر ونحوه، أو طيها ووضعها على الضرس، أو كتابة بعض الحروز
من الأدعية الشرعية، وشدها بجلد، وتوضع تحت الفراش أو في أماكن أخرى،
وتعليق التمائم إذا كانت من القرآن والذكر والدعاء؟
الجواب: إلصاق الأوراق المكتوب فيها شيء من القرآن أو الأدعية على
الجسم أو على موضع منه أو وضعها تحت الفراش ونحو ذلك، لا يجوز؛ لأنه من
تعليق التمائم المنهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم: (من علق تميمة فلا أتم الله
له) [2] وقوله: (إن الرقى والتمائم والتوَلَة شرك) [3] .
الفقرة العاشرة: بعض الأدعية لم ترد مثل: حجر يابس، شهاب قابس،
ردت عين الحاسد عليه وعلى أحب الناس إليه؟
الجواب: هذا الدعاء لا أصل له، وفيه عدوان على غير المعتدي فلا يجوز
استعماله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
رد) [4] .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
نائب الرئيس ... ... ... ... ... ... ... الرئيس ... ...
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عضو ... ... ... ... ... ... ... ... ... عضو
بكر بن عبد الله بن زيد ... ... ... ... ... ... صالح بن فوزان الفوزان
... ... ... ... ... ...
__________
(1) رواه البخاري، ح/2697.
(2) رواه أحمد، ح /16951.
(3) رواه أبو داود، ح/7883.
(4) رواه مسلم، ح/1718.(141/50)
البيان الأدبي
وظيفة الشعر
عبد العزيز بن صالح العسكر
ما الذي يستحق التسمية بالشعر: الشكل (الوزن والقافية) فقط، أم المعنى فقط أم ما اجتمع فيه الأمران؟ سؤال يدور في ذهن كل أديب، بل كل دارس للأدب، كما يرد في أذهان غيرهم من الناس.
وباستقراء بعض ما قاله شعراء العربية قديما وحديثاً نجد الإجابات المختلفة
على هذا السؤال، ونشير إلى عدد منها لعل فيها ما يضيف جديدا إلى ثقافتنا الأدبية، ...
أو يصحح فهما خاطئاً لدى بعض الدارسين ...
ويأتي في مقدمة تلك الإجابات هذان البيتان:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا [1]
هذا ما قاله حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وحسان هنا يرى أن الشعر
هو عقل صاحبه! يعرضه على الناس، وليس هو الألفاظ، والقوالب الشعرية فقط؟
فالشعر - في نظره - مقياس لعقل صاحبه، فإما أن يكون كبير العقل سليم الفكر، وإما أن يكون أحمق، مضطرب العقل والفكر، وللناس أن يقولوا كلمة الفصل؟ فإن أعجبهم الشعر وهزهم لفظا ومعنى قالوا: لقد صدق، وإلا.. فلا!
وحسان هو شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرن الأول من
المسلمين.
وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا عمر بهاء الدين الأميري [2] يرى أن
الشعر شيء آخر سوى الأوزان والقوافي والألفاظ.. إنه يرى أن الشعر: مشاعر
وأخلاق وتاريخ، وهو عنده باختصار: حياة كاملة الجوانب مستوفية لمطالب:
الروح، والعقل، والجسد. وفي اثنين وعشرين بيتا من الشعر يصف شاعرنا
شعره، ويكشف النقاب عن ماهيته وحقيقته. واقرأ من ذلك قوله:
أيها القارئون رفقا بشعري ... إن شعري مشاعر منظومة
إنه أنة من الصدر حرى ... وأسى من حشاشة مكلومة
إنه فطرة إلى المجد ترنو ... والى العلم والحجا منهومة
إنه ثورة على كل بغي ... وانتصار لأمة مظلومة
إنه آية المروءة أذكتها ... بنفسي أبوة وأمومة
إنه وقدة الغريزة في جسمي ... وفيض من نزوة مكتومة
ثم يقول بعد ذلك:
أيها القارئون! شعري مرايا ... لسجايا صغيرة وكبيرة
هو رفق، وشدة، وصلاة ... وذنوب، وخشية وعزيمة
هو حلمي ويقظتي، هو لحن ... صادق، من رؤى المنى الموهومة
هو روحي، أو بعض إشراق روحي ... هو نفسي مجهولة معلومة
من يشأ نقده فلا ضير؛ لكن ... هو قلبي، فمن يرى تحطيمه؟ ! [3]
ويعيب صديق له شعره بأنه سهل مرقرق فيجيبه شاعرنا بقوله:
ليس شعري لفظا وسبكا وجرسا ... بل شعورا فيه التعابير تغرق
خفقة من حشاشة القلب حرى ... كيف يا صاحبي الوجيب يزوق؟ !
زفرات ولوعة ونشيج ... كيف يا صاحبي النحيب ينمَّق [4] ؟ !
أما الدكتور يوسف القرضاوي [5] فيرى أن الشعر: هو الدمع حين الأسى،
والعود حين العزف؛ وليس العزف للغناء، بل التعبير الصادق في موقف الجرأة
والشجاعة، وهو مع ذلك فيض خواطر الشاعر تحركها أقدار الحياة من نعماء
وبأساء ورخاء وشدة:
ثار القريض بخاطري فدعوني ... أفضي لكم بفجائعي وشجوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى ... والشعر عودي يوم عزف لحوني [6]
وحينما يغفل أقوام عن معرفة رسالة الشعر، ويخطئ تصورهم لها، يصبح
الشعر بضاعة تباع وتشترى، أو نقودا تدفع للحصول على مكسب أو غنيمة بغض
النظر عن الصدق في القول أو عدمه!
يقول القرضاوي:
فكم سافح قد لقبوه بفاتح وكم مسرف سموه ذا الكرم الرحب
وكم فاجر باغ مشوا في ركابه وسموه ليثاً وهو أدنأ من كلب
إذا كان هذا ديدن الشعر في الورى فما هو إلا السم في المشرب العذب
وثلة سوء ظنت الشعر معدنا يصاغ بجهد كالنحاس وكالصلب
فجاؤوا به وزنا أجف من الصفا وأثقل من هجر على مهجة الصب
وشرذمة أخرى سبى اليأس قلبهم ولليأس جند كم يميت وكم يسبي!
إذا عرضوا للشعب قال: قنوطهم عليل قد استعصى على نطس الطب
نسوا ما به من مكرمات كوامن كمون اللظى في الفحم والتبر في الترب
وأيا كان الغرض من أغراض الشعر فيجب أن لا ينسى الشاعر أن له رسالة، وللشعر مهمة، فلا ينشغل بالعرض عن الجوهر، فالغزل من أغراض الشعر
العربي؛ ولكنه في نظر الشاعر مرتبط تماما بدين المرء وعقله، فلا يقول الغزل
لذاته فقط:
وطائفة أخرى أطاعوا هواهم ... فجازوا إلى اللذات دربا إلى درب
يقولون: ليس المرء إلا فؤاده ... وكيف يعيش المرء جسما بلا قلب؟
فغاصوا به في الغيد والحب والهوى كأن لم يكن في القلب معنى سوى الحب إذا لم يكن في القلب دين وهمة ... وبغض لطغيان فما هو بالقلب
وقفتك يا شعري على الحق وحده ... فإن لم أنل إلاه قلت لهم: حسبي [7]
ويرى الشيخ عبد الله بن إدريس [8] أن الشعر هو: فيض العواطف،
ونبض المشاعر، وهمس الخواطر، وهو كذلك دمعة البائس، وأنة الموجع، وآهة
العاثر.. وما دام الشعر كذلك فهو من العقول وإلى العقول.. ولا يحسن بالعاقل أن
يجعل شعره مطية لشهواته وهواه:
الشعر تبعثه العواطف، والعواطف لن تغل
الشعر نبض مشاعر خلجاتها.. تحكي الشغل
الشعر همس خواطر تغزو المسامع والمقل
والشعر دمعة بائس ضاقت به كل السبل
والشعر أنة موجع قعدت به سود العلل
والشعر آهة عاثر غمر التعاسة بالأمل
الشعر للعقل الحصيف إذا استنار إذا اعتدل
فاصدح برأيك يا بطل فوق الوهاد أو القلل
واربأ بنفسك أن تذل وإذا اعتدلت فلا تسل [9]
ويؤكد الشيخ عبد الله بن خميس [10] أن الشعر سلاح من أسلحة الأمة - كما
كانت تعده كذلك العرب في جاهليتها وإسلامها - وما دام كذلك فلا يحسن بشعراء
الأمة أن يشغلوا بالغزل والهيام بالغيد، وأعداؤهم يحتلون البلاد ويقتلون العباد؟
استمع إليه يقول:
فليحرم الشعر من وجد ومن غزل ... وفي (فلسطين) شذاذ الصعاليك
سلي القوافي بنت القدس في حرد ... لا تسألي غيرها عمن أضاعوك
واستصرخي مهرجان الشعر يبعثها ... شعواء من طغمة الأوباش تعديك [11]
وحينما نادى قوم بأن الشعر فن و (الفن للفن) ؛ فهو في نظرهم مناجاة نفسية
تقتصر على تصوير خواطر الشاعر وأحاسيسه، يحلق بها في الخيال ويسبح في
بحور بعيدة العمق ولا ينزل من برجه العاجي ليشارك المجتمع آلامه وآماله.. رد
عليهم شاعرنا بقوله:
قد رأى الشعر نفسه في انطواء ... ومع الدهر لا محالة ذاهب
من ينادي في عصرنا الفن للفن ... غرورا، فمدعي الشعر كاذب
خلق الفن للحياة ولولا ... ذاك ما عز من (شكسبير) جانب
ولما اهتزت الأكف لشوقي ... حين يبدو مهنئا أو معاتب
وقديما (أعشى حنيفة) يحبى ... حمر النعم من قريش الغوالب
فلماذا نرى الميوعة في الشعر ... وفي الحب منه ضربة لازب
وهو في سنة الحياة ذلول ... قابل نسجه لشتى المذاهب
فهو في الحرب جحفل صيغ منه ... للمعادي قنابل في قوالب
وهو في السلم للحياة طبيب ... عبقري يجس نبض الضوارب [12]
وحينما لطم الشاعر عبد الرحيم نصار قصيدته (سنوات حزن فلسطينية) التي
نشرت في عام 1391 هـ وهي من الشعر الحر رد عليه ابن خميس بقصيدة منها:
ما أنصفتك قوافي الشعر يا دار ... وفيك للملهم المنطيق أسرار
ضنوا عليك بأوزان وتقفية ... يشتارها مثل أري النحل مشتار
وأركبوا الشعر إما قصروا شططا ... وبعضهم عن ثمين الشعر قمتار
دعوه حرا ويا للناس من زمن ... قال المخفون وزنا نحن أحرار
حرية ظلموها واسمها لغة ... فوضى وسيان شاؤوا الحق أم جاروا
لأنها بدعة التقليد نافقة ... قالوا فقلنا وسرنا حيثما ساروا [13]
وفي هذه الأبيات يبين الشاعر أن (الشعر الحر) لا يعد شعرا ولكن الشعر في
نظره ماله وزن وقافية صحيحان.. وهذا ما يتفق عليه أئمة اللغة العربية في القديم
والحديث.
ومما سبق يتبين لنا أن الشعر هو حديث الشعور، يقول ابن رشيق: (وإنما
سمي الشاعر شاعراً، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره) [14] . ولا شك أن للشعر
العربي الأصيل مهمة ووظيفة في الحياة، كما أن لفنون الأدب، وفنون القول بعامة
وظائف يؤديها كل فن في حياة الناس.
ومهمة الشعر التي يراها عدد من الأدباء والنقاد هي: تهذيب السلوك، وإمتاع
المشاعر ونشر السرور في نفوس الناس من قراء وسامعين؛ وصدق من قال:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه ... فليس خليقا أن يقال له شعر
وإلى جانب ذلك هناك وظائف أخرى للشعر منها: نقد بعض المظاهر في
المجتمع، والإشادة بالفضائل، والتحذير من الرذائل، ومنها كذلك: تقويم اللسان
وتربية الملكات والمواهب لدى الناشئين من الشباب، وقد بسط ذلك علماء اللغة
والأدب في كتبهم ومؤلفاتهم. وتبعا لالتزام الشاعر بتحديد مهمة لشعره، واقتناعه
بها، ترتفع منزلته ومكانته أو تنخفض، ولذا قسم علماء العربية الشعراء إلى أقسام
وحصرها بعضهم في أربعة: (شاعر خنذيذ، وشاعر مفلق، وشاعر فقط،
وشعرور) . فالخنذيذ: هو الذي يجمع مع جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره،
والمفلق: هو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره، أما الشاعر فقط:
فهو فوق الرديء بدرجة، والشعرور: لا شيء [15] .
أيها القارئ الكريم! ما عدد الشعراء (الخناذيذ) و (المفلقين) من بين شعراء
زماننا؟ وكم عدد الشعراء من الصنفين الآخرين؟ ! الإجابة متروكة لك فأنت فرد
من الجمهور الذي هو مرآة يستطيع الشاعر أن يرى فيها نفسه، ويعرف مستوى
شعره، جودة وقوة وجمالاً ودقة في الوصف، وفوق ذ لك له صدق أو عكس ذلك،
والإجابة المطلوبة هي التي يصدرها العقل، ويمليها العدل، فتأتي حاملة معها النقد
والتوجيه ريحا طيبة، وليست بحال من الأحوال كالعواصف التي ترسلها العواطف! ...
ولم يغب عن أذهان علمائنا أن يبينوا (حد الشعر) وهو الضابط الذي به يفرق
بينه وبين النثر، فقد ذ كروا ذلك وروي عنهم. يقول الإمام ابن رشيق ني كتابه
(العمدة) : (الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل
على القافية وجالب لها ضرورة، ألا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيبا في التقفية
لا في الوزن) [16] .
وقال أيضا: (القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى
شعراً حتى يكون له وزن وقافية) [17] .
ومما يلحق بهذا ما ذكره من أن الناقد لا يلزم أن يكون شاعرا، يقول في ذلك: وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي
يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه، حتى إنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش
وغيره فينقص قيمته. وقيل للمفضل الضبي: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس
به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله. وأنشد:
وقد يقرض الشعر البكي لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو لبيب [18]
وقد أوردنا فيما سبق قول ابن خميس:
دعوه حراً ويا للناس من زمن ... قال المخفون وزنا نحن أحرار
حرية ظلموها واسمها لغة ... (فوضى) وسيان شاؤوا الحق أم جاروا
لأنها بدعة التقليد نافقة ... قالوا فقلنا وسرنا حيثما ساروا
لقد ركب سفينة الشعر غير ربانها، وامتطى صهوة الخيول غير فرسانها،
فخرجوا على الناس بكلام يسمونه شعراً، وما هو بالشعر! ولربما كان أكثرهم
عاجزين عن القول الجميل النافع الممتع شعراً كان أو نثراً، وكل ما في الأمر أننا
نستجيب - علمنا أم لم نعلم - لغزو أعدائنا، ونفتح الباب على مصراعيه للغزاة
الجدد يغيرون على مثلنا وقيمنا وتراثنا فيمسخون صورها مسخا تاما، ويبدلون
حقائقها، ويمحون جمالها، ويطمسون المعالم والحدود، ثم نصحو بعد فترة من
الزمن لنجد الواقع المر: أن الأمة العربية المسلمة تبدو صورة من المجتمع الشرقي
أو الغربي المنحل الذي لا يقيم وزنا لفضيلة، ولا هدف له من كل علومه وفنونه
ومواهبه إلا المتعة والشهوة فقط؛ فهما مطلب الفرد والجماعة، وكل طريق توصل
إليهما فهي الحق والصواب! ! .
__________
(1) ديوان حسان بن ثابت، ص 345، بشرح عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1401 د - 1981 م.
(2) عمر بهاء الدين الأميري، شاعر سوري له عدة دواوين منها: مع الله، ألوان طيف، أب، من وحي فلسطين، توفى في 22 شوال 1412 هـ.
(3) ديوان مع الله، طبع دار الفتح، بيروت، 1392 هـ، ص21.
(4) ديوان ألوان طيف، دار البيان، الكويت، بدون تاريخ، ص 45.
(5) يوسف القرضاوى، عالم وداعية معروف، يقرض الشعر.
(6) نفحات ولفحات، ديوان الدكتور يوسف القرضاوي، جمع حسني أدهم جرار، دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1405 هـ 1985 م ص 64.
(7) الديوان نفسه، صفحة 67.
(8) عبد الله بن عبد العزيز بن إدريس، شاعر وأديب سعودي، له مؤلفات منها (شعراء نجد المعاصرون) ، و (في زورقي) ديوان شعر.
(9) ديوان (في زورقي) نشر دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض، 1404 هـ 1984 م ص 261.
(10) الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس، شاعر سعودي معروف، له مؤلفات كثيرة في الأدب وتاريخه، والرحلات والأماكن والآثار.
(11) ديوان على ربى اليمامة لابن خميس، ط1، ص120.
(12) المرجع نفسه، ص 222، 223، 224.
(13) المرجع نفسه، ص 87، 90.
(14) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تأليف: ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، نشر: دار الجيل، بيروت، ط4، 1972، ج1، ص116.
(15) العمدة، ج1، ص114.
(16) العمدة، ص، 134.
(17) المرجع السابق، ص151.
(18) المرجع نفسه، ج 1، ص 117.(141/54)