قضايا ثقافية
حقوق الانسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة
عولمة حقوق الإنسان أم عولمة الفهم الغربي لها؟
محمد فهيم يوسف
نعلم أن مفهوم العولمة Globalization ينطوي على تجليات اقتصادية قد
تكون استأثرت إلى حد ما باهتمام الباحثين والخبراء، لكن ذلك لا يعني اقتصاره
عليها، فثمة تجليات أخرى سياسية وثقافية واتصالية ترتبط بهذا المفهوم، وتشكل
في مجملها مضمونه. وقد لوحظ أن الجوانب السابقة على اختلافها تشترك في ذلك
التأثير الذي تحدثه على موضوع حقوق الإنسان ووضعيته على المستوى التطبيقي.
وسأحاول خلال هذه المقالة الموجزة إلقاء الضوء على البعد السياسي للعولمة الذي
من تجلياته سقوط الشمولية والسلطوية، والاتجاه نحو الديمقراطية واحترام حقوق
الإنسان، لا سيما وأنه يطرح أسئلة كثيرة للنقاش من أبرزها:
هل تعني عولمة حقوق الإنسان أن يشيع في العالم احترام كافة الصكوك
الدولية لحقوق الإنسان (الفردية منها والجماعية) دون تمييز أو مفاضلة، وأن يستفيد
العالم من منجزات التطور التقني في نشر الأفكار الرامية إلى إحداث نوع من
التقارب بين البشر، محوره كرامة الإنسان الذي لن يصبح في معزل عن أخيه
الإنسان وآلامه في شتى بقاع الأرض؟ أم أنها تعني الفرض الانفرادي لفهم يستند
إلى مرجعية تخص حضارة معينة، باعتباره المفهوم الأسمى لحقوق الإنسان الذي
ينبغي أن يسود العالم؟
في الواقع لقد ورد في مقالة حديثة للدكتور محمد عابد الجابري إشارة للتفرقة
على درجة من الأهمية بين ما أسماه (بالعالمية - Universalism) التي تمثل وفقاً
لتصوره طموحاً نحو الارتقاء بالخصوصية إلى مستوى عالمي، ومن ثم فهي تفتح
العالم على ما هو عالمي وكوني، وبين (العولمة) التي تمثل في نظره إرادة الهيمنة، وبذلك فهي تعني القمع والإقصاء لكل ما هو خصوصي.
وبينما اعتُبرت الأولى (أي العالمية) مشروعاً طموحاً؛ لأنها تعني الانفتاح
على الآخر ورغبة في الأخذ والعطاء، اعتُبرت الثانية إرادة لاختراق الآخر وسلبه
خصوصيته [1] .
وفي اعتقادنا أن التفرقة التي جاءت بها هذه الأطروحة بين ما هو عالمي
وعولمي هي مما ينطبق على واقع التعاطي مع حقوق الإنسان منذ مطلع التسعينات
الذي يشهد تسارع الانتقال من المحور الأول المتعلق بالعالمية (أي عالمية حقوق
الإنسان) ، إلى المحور الثاني المتعلق بالعولمة، الذي تحاول من خلاله بعض
الأوساط الدولية طرح فهمها لصيغة التفاعل مع حقوق الإنسان، وحث المجتمع
الدولي على تبنيه باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على البناء، ولعل ذلك مما نلحظ
بوادره فعلاً من خلال ما يلي:
تراجع دور الجدل التقليدي المتمحور حول العالمية بالنسبة لحقوق الإنسان.
اتجاه الأوساط الغربية نحو محاولة تعميم (الفهم الغربي لحقوق الإنسان)
مستخدمة في ذلك شتى الوسائل:
أولاً: تراجع الجدل التقليدي حول مفهوم ومعايير حقوق الإنسان عقب الحرب الباردة:
إذ لم تكن التجمعات الدولية أيام الحرب الباردة تحمل الرؤية نفسها في الدعوة
لحقوق الإنسان وحمايتها أو حتى الاعتراف بها:
فبالنسبة للدول الرأسمالية المتقدمة: نجد أن تبنيها نمط الديمقراطية الليبرالية
الغربية المغرقة في تقديس الفرد وحريته بما اعتبر لديها نتيجة لطبيعته الإنسانية لا
لوجوده كمواطن داخل دولة قد جعلها تبدي تعلقاً واضحاً بحقوق الإنسان ذات الطابع
الفردي وتحديداً (الحقوق المدنية والسياسية) التي ارتبطت باستقلال الولايات المتحدة
وظهور مبادئ الثورة الفرنسية، أما فئة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو
ما يسمى (بالجيل الثاني من حقوق الإنسان) فقد قوبلت برفض وتعنت شديدين؛ لأن
ارتباطها التاريخي بانتصار المذهب الماركسي حينها قد جعلها في نظرهم مرتبطة
بالشيوعية.
وهذا ما ينطبق لديهم بوضوح على الحقوق المدنية والسياسية، كالحق في
الحياة، وعدم الخضوع للتعذيب، وحق الانتخاب.. إلخ، أما فئة الحقوق
الاقتصادية والثقافية؛ كالحق في العمل، والحق في التعليم والصحة، والحق في
الضمان الاجتماعي ... الخ. فهي مما يخرج عن هذا النطاق؛ لأنها تستلزم تدخلاً
من جانب الدولة لكفالتها، هذا فضلاً عن كون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
ستصبح بلا معنى ما لم يسبقها الإعمال التام للحقوق المدنية والسياسية؛ على اعتبار
أنه لا قيمة لحق العمل أو التعليم إذا كانت حرية المواطن أو حياته عرضة
للتهديد [2] .
وبالنسبة للدول الاشتراكية: فإننا نجد أن تبنيها لنمط الديمقراطية الاشتراكية
التي تجعل حقوق الإنسان من حق من يعمل وينتج فقط في المجتمع الاشتراكي، فقد
أبدت تعلقاً واضحاً بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع تجاهل واضح
للحقوق المدنية والسياسية التي اعتبرت لديهم حقوقاً شكلية ما لم يسبقها الإعمال التام
لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية. وخلافاً للدول الرأسمالية الغربية التي ترى
أن الدولة العدو الأول للحرية، فقد اعتبر تدخلها حيوياً لدى الدول الاشتراكية ليس
فقط في الدفاع عن الحقوق والحريات، بل وأيضاً في إنتاجها؛ فتحقيق الحرية في
المذهب الماركسي لا يتأثر إلا من خلال الجماعة أو طبقة البروليتاريا التي تعمل
على التخلص من قيود الطبقة المستغلة.
وهكذا فقد اتجه الفريقان انطلاقاً من هذا الخلاف الأيديولوجي نحو استخدام
حقوق الإنسان في الصراع الذي كان دائراً بينهما، فكانت الدول الرأسمالية تحرص
على إبراز انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية في الدول الاشتراكية، وكانت هذه
الأخيرة تحرص على إبراز انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدول
الرأسمالية، واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن كان انهيار المعسكر الاشتراكي
بقيادة الاتحاد السوفييتي، ومنذ ذلك الحين لم يعد لمقولة الصراع الأيديولوجي بين
الشرق والغرب أي معنى، وهذا ما انعكس إيجاباً على خطاب الإنسان وعالميته،
بحيث بات يسود الاعتقاد لدى غالبية الدول أن العالمية ينبغي أن تبقى ملازمة
لحقوق الإنسان؛ لأنها صفة أصيلة فيها، فتضاءلت تبعاً لذلك استعمالات التعابير
التي توحي بمعنى التعاقب أو حلول فئة من حقوق الإنسان محل الأخرى، فكما أن
للإنسان حقوقاً مدنية وسياسية فإن له وبالدرجة نفسها حقوقاً اقتصادية وثقافية.
ومن دلائل هذا التحول أن الولايات المتحدة قد اتجهت منذ عام 1992م نحو
المصادقة رسمياً على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (وهي التي
كانت قد أصدرت بياناً عام 1986م استبعدت فيه هذه الفئة من حقوق الإنسان من
قائمة الحقوق التي تحظى باعتراف الحكومة الأمريكية، ومن نشرتها عن حقوق
الإنسان في الدول النامية، وأمرت ممثليها الدبلوماسيين والقنصليين في الخارج
بحذف هذا الجزء من تقاريرهم السنوية عن البلاد التي يوجدون فيها، مسوّغة ذلك
بأنها تعتبر مثل هذه الحقوق طموحات أكثر من كونها تمثل التزامات، ولهذا فهي لا
ينبغي أن تدخل في نطاق الحقوق المعترف بها دولياً
Internationally Recognized Hunian Rights! ! [3]
كما نستطيع أن نلمس هذا التحول من المسار الذي اتخذه المؤتمر العالمي
لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993م، الذي حضره ممثلون عن 172 دولة، إلى جانب مراقبين عن 95 منظمة أو هيئة أو مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان
وعن 840 منظمة غير حكومية.
فلقد عكس الحوار والجدل الذي كان دائراً في ذلك المؤتمر طبيعة التغير الذي
طرأ في هذا المسار؛ بحيث توارى ذلك الجدل التقليدي حول مدى أسبقية حقوق
الشعوب على حقوق الإنسان، أو حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على
المدنية والسياسة. وظهر اتجاه غالب يؤكد على عالمية حقوق الإنسان الأساسية،
وأن هناك حداً أدنى مشتركاً من الحقوق يتعين على كل النظم السياسية والقيمية
والحضارية أن توفرها للإنسان، الذي ينبغي أن يكون موضوعها الرئيس والمستفيد
الأساس من حمايتها. كما اعترف المؤتمر بالحق في التنمية The Right to
Development واعتبره حقاً عالمياً غير قابل للتصرف [4] . (وهو الذي كان
محلاً لرفض الدول الغربية التي اعتبرت أنه محاولة لنزع الطابع التحرري عن
القواعد المستقرة في القانون الدولي العام وإعطائها نزعة تدخلية تأخذ في حسبانها
مصلحة قلة معينة من الدول دون الدول الأخرى، وخلصت من ذلك إلى أنه حيلة
(عالمية مثالية) للحصول على مزيد من المساعدات لمصلحة الأنظمة الحاكمة
الدكتاتورية فيها) !
ثانياً: محاولات عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان:
إذا كنا قد انتهينا إلى أن مسألة (العالمية) في حقوق الإنسان قد أصبحت أمراً
لا يثير كثيراً من الجدل في عصر ما بعد الحرب الباردة، فإن ما نلمسه اليوم هو
اتجاه المنتصر بزعامة الولايات المتحدة نحو محاولة فرض فهمه الخاص لحقوق
الإنسان والديمقراطية على المجتمع الدولي باعتباره المفهوم الأصلح والأقدر على
البناء [5] .
نعم، لقد كان وجود النموذج الماركسي اللينيني للديمقراطية هو الاتجاه الأقوى
في نظر الكثيرين على اعتبار أن النموذج الليبرالي الغربي ليس النموذج الوحيد
الذي يصلح أن يسود شتى تطبيقات الأنظمة في العالم، أما وقد انهار المعسكر
الاشتراكي فلم يعد لفكرة تعدد النماذج الديمقراطية أي معنى، وهكذا سار الغرب في
اتجاه عولمة فهمه الخاص للديمقراطية وحقوق الإنسان تحت شعار يعتبرها تراثاً
مشتركاً للإنسانية جمعاء لا تراث حضارة بعينها، مخفياً وراء ذلك حقيقة أنه يعكس
نتائج تغير موازين القوى وإرادة الهيمنة، وبعبارة أخرى: (حكم الغالب على
المغلوب) ! ولعل فرانسيس فوكوياما F. Fukuyama لم يكن ليجرؤ أن يبشر
الغرب بأن (نهاية التاريخ) ستكون عند سيادة القيم الغربية في الديمقراطية واقتصاد
السوق لولا انهيار الاتحاد السوفييتي؛ لأنه عند تأملنا ببساطة في حقيقة القيم التي
يُسعى إلى عولمتها من الناحية العملية، فسنجد أنفسنا أمام خطاب يفضي إلى تحقق
رأسمالية حقوق الإنسان، في ظل واقع الاختلال الدولي القائم؛ لأن التركيز ينصبّ
على الفئة الفردية (الحقوق المدنية والسياسية) ، دون التنكر لفئة الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية كما كان عليه الحال في السابق، لكن بطبيعة الحال إيكال أمرها لآلية
السوق! ! وهذا ما يبحث عنه الفاعلون في تيار عولمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ لأنه سيضمن لهم بقاء الدولة التي اعتبر تدخلها ضرورياً في حالة الحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعيدة عن هذا المجال، وسيضمن لهم أمن وسلامة
مصالحهم التي ستكون في رأي الكثيرين مكفولة في ظل الأنظمة التي تحترم الحقوق
السياسية.
وفي هذا الصدد يشير بعض الباحثين إلى منحى الولايات المتحدة (الطرف
السياسي والرائد في خط العولمة) ، فمنذ انتهاء الحرب الباردة، والاتجاه يسير نحو
النظر إلى حقوق الإنسان كمصلحة قومية أمريكية تتمثل في المقام الأول بنشر
المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان في الفكر الرأسمالي، على اعتبار أن التحرر
الفكري يواكبه تحرر اقتصادي، وهو ما يعني اقتصاداً مفتوحاً (أمام الشركات
الأمريكية) . وزيادة الاعتماد الدولي المتبادل على النحو الذي لا يمكّن دولة في
المستقبل من الانعزال، ومن ثَمّ حرمان باقي الدول من مواردها وثرواتها
الطبيعية! ! [6] .
وقد لوحظ أن عدداً من الكتابات قد جاءت في حقبة التسعينات متضمنة دعوة
صريحة لكي تتبنى الولايات المتحدة هدف نشر الرؤية الغربية لحقوق الإنسان في
العالم، ومن ذلك ما تضمنه أحد المؤلفات الحديثة لـ جوشيا ميرافيك Jodhua
Muravchik (وهو أحد أبرز باحثي السياسة الخارجية الأمريكية المعبرين بدقة
عن أحد روافد التيار اليميني المعروف حالياً باسم (التيار المحافظ الجديد)
(Neocanservatism) ؛ حيث أخذ يناقش قضية عالمية وخصوصية القيم
والثقافة الديمقراطية وما إذا كان من الممكن تصديرها، وفيها أظهر اعتقاده الصريح
بإمكانية أن تلعب الولايات المتحدة دوراً مهماً في نشر الفهم الغربي لحقوق الإنسان
من خلال الدبلوماسية الهادئة والمساعدات وحتى من خلال العمل العسكري إن لزم
الأمر! [7] .
الإسلام العدو (القديم) الجديد للغرب! :
يبدو أن زوال خطر الشيوعية قد جعل الدول الرأسمالية تبحث عن عدو جديد
تزعم أنه يهدد أو قد يهدد مصالحها. فأمام غموض هوية العدو المحتمل برز الإسلام
بالنسبة لها (كعدو قديم) لكنه الوحيد الذي يملك مقومات زعزعة الهيمنة الغربية
بمفاهيمها على العالم بعد انتهاء الحرب الباردة.
من هنا تزايد حرص الدول الليبرالية الغربية على بث أفكار (الرعب من
الإسلام) أو ما يسمونه لديهم بالISlamophobia التي تقدم الإسلام على أنه خطر
يهدد مصالح الغرب والسلام العالمي عموماً، ومحاولة ربط الإسلام بالتطرف والقتل
والتخريب، وتصوير عدوانية الفرد المسلم، والتركيز على قضية المرأة التي
حُرمت على حد زعمهم من معظم حقوقها، ناهيك عن تلك النظرة التي تحمل
تجاهلاً للحقائق الموضوعية بتجنيها على طبيعة نظام الحكم في الإسلام، واعتباره
نموذجاً صرفاً لتمركز السلطة وقمع الرأي الآخر ... وأقاويل أخرى لا نجد معها
حاجة للقول بأنها تحمل تجاهلاً واضحاً لحقائق التاريخ.
ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أنه منذ انتهاء الحرب الباردة
ظهرت هناك نظريتان أخذتا قدراً من الشهرة: الأولى لفرانسيس فوكوياما F.
Fukuyama وجاءت إعلاناً لنهاية التاريخ كما أشرنا عند سيادة المفاهيم الغربية
في الديمقراطية واقتصاد السوق على العالم أجمع، والثانية لصموئيل هنتنغتون
Huntington S. وجاءت إنذاراً للغرب بأن عهد ما بعد الحرب الباردة قد فتح
المجال أمام مستقبل لن يكون الغرب وحده فيه السيد الأوحد.
ورغم اختلاف النظريتين في الرؤية كما نلاحظ فإن كلاً منهما قد اشتركتا في
الاتفاق على استعداء الإسلام (العدو القديم الجديد) واعتباره نقيضاً للقيم الحضارية
التي جاء بها الغرب في الديمقراطية وحقوق الإنسان ويسير في اتجاه تعميمها على
العالم.
فبالنسبة (لفوكوياما) نجد أنه يعتبر منطقة الشرق الأوسط على درجة كبيرة
من الخصومة فيما يتعلق بالشأن الديمقراطي، وهذا بدوره عائد إلى الإسلام الذي
تدين به هذه المنطقة (في معظمها) وما يتصف به من (شمولية) فضلاً عن أن توجه
بعض الدول الإسلامية في هذه المنطقة نحو تبني النموذح الغربي في الديمقراطية
إنما يأتي نتيجة حتمية لهذه الصفة، ولذلك فإنه لا يستغرب مطلقاً أن تتخلى تركيا
مثلاً عن تراثها الإسلامي سعياً وراء العلمانية والديمقراطية.
وبالنسبة لهنتنغتون: فإن رؤيته المستقبلية عن تعدد القوى التي يمكن أن
تسود العالم لم تكن لتعني التسليم بمنطق تعدد النماذج الضامنة لحقوق الإنسان، بل
جاءت إعلاناً عن حتمية الصراع القادم الذي سيكون على حد زعمه بين الحضارات: الغربية من جهة والحضارتين الإسلامية والصينية من جهة أخرى، لا سيما أن
هاتين الأخيرتين تملكان مقومات كسر الهيمنة الغربية حضارياً؛ فطبقاً لرأيه فإن
كون البروتستانتية والكاثوليكية وإلى حد ما الكنفوشية قد صنفت في وقت من
الأوقات بأنها معادية للديمقراطية، ثم أثبتت جميعها قدرتها على الاتجاه نحو
الديمقراطية في النهاية، يجعل من غير المحتمل أن يشكل الإسلام أو حتى
الأصولية الإسلامية عائقاً لا يمكن أن تتخطاه العملية الديمقراطية في الشرق الأوسط. ولذلك فإننا نجده يختتم مقالته عن صراع الحضارات بعدد من التوصيات أبرزها
أن تسعى الدول الغربية نحو إحباط أي تحالف أو تعاون قد ينشأ بين الدول
الإسلامية والصين، بل ومحاولة استغلال أي خلاف ينشأ بينهما! !
وعلى الرغم من رفض منطق (صراع الحضارات) حتى من قبل العديد من
الكتاب الغربيين؛ فإن عدداً معتبراً يميل نحو التسليم بمثل هذه المخاوف، لا سيما
المقربون من مراكز صنع القرار، ومنهم Muravchik في مؤلفه عن (حتمية
الزعامة الأمريكية) الذي سبقت الإشارة إليه، عندما ذهب إلى ضرورة أن تحتل كل
من الصين والعالم الإسلامي حيزاً خاصاً من التفكير الاستراتيجي الأمريكي، وأشار
في هذا الخصوص إلى أن دخول التيارات الإسلامية معترك السلطة في تلك الدول
سوف يشكل خطراً كبيراً على المصالح الأمريكية [8] .
خاتمة:
إذا كان الدكتور محمد عابد الجابري قد نظر إلى العولمة على أنها أكثر من
مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي، وأنها تمثل بالدرجة الأولى
دعوة إلى تبني نموذج معين، فإن ذلك حال التعاطي مع حقوق الإنسان بعد انتهاء
الحرب الباردة، بحيث بات يسير على الصعيد الفكري بصورة خاصة في اتجاه
فرض المرجعية الحضارية (الأمريكية) الغربية على خطاب حقوق الإنسان،
ومحاولة تعميمه على العالم بأسره، مستخدماً في ذلك شتى الوسائل بما فيها التجني
والتشكيك في قدرة الأسس المفاهيمية الإسلامية على إيجاد توازن لا تضيع معه
حقوق الأفراد وحرياتهم. ومما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا الاتجاه الفكري السائر
في طريق العمل من أجل التفوق الغربي وإظهار مفاهيمه على العالم، هو مما
يستفيد حتى من جهود بعض النخب الوطنية في العالم الثالث المتخرجة من جامعات
الغرب والمؤمنة بمرجعياته (على الأخص في مضمار الديمقراطية ونهج حقوق
الإنسان) كسبيل قويم لخلاص مجتمعاتها من التخلف والتبعية.
لكن من الملاحظ في الوقت نفسه؛ أن الواقع التطبيقي الراهن الذي تهيمن
عليه كما نعلم المصالح الرأسمالية، قد أربك كثيراً حظوظ الطموح الغربي في هذا
الاتجاه؛ لأنه فتح المجال واسعاً أمام فرص الخروج على التقاليد الغربية سياسياً،
وهذا ما تجلى بوضوح في حالة برامج التثبيت والتكييف الهيكلي، التي تصوغها
نخب غربية وتشرف عليها بيروقراطيات غربية أو مستغربة في فكرها الاقتصادي، مما تحقق معه الكثير من المكاسب الاقتصادية بالنسبة للدول الغربية المهيمنة على
كل من صندوق النقد الدولي IMF والبنك العالمي IBRD بالذات فيما فتحته من
فرص أمام شركاتها العملاقة، لكن الاضطلاع بتلك البرامج قد أضفى في معظم
الأحيان على الدول التي أذعنت لاشتراطاتها طابع السلطوية كما أثبت ذلك التجارب؛ بحيث إن إغفال البعد الاجتماعي في تلك البرامج، قد دفع بأفراد تلك الدول إلى
الانفجار اليائس كالذي شهدته أندونيسيا مؤخراً وشهدته من قبلها دول أخرى في
العالم الثالث، والذي يجابه غالباً بالقمع والتنكيل واستصدار التشريعات المقيدة
للحريات العامة، فينتهي الأمر بالفرد أن يجد نفسه محاصراً بين سلطوية الدولة
وديكتاتورية السوق! !
من هنا نستطيع القول بأن سبيل عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان هو مما
يواجه عقبة التناقضات في النهج الغربي ذاته؛ ذلك أن غياب الديمقراطية وحقوق
الإنسان هما الإطار الضروري لتطبيق تلك الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي لم
تفتح كثيراً من المجال لا أمام الفهم الغربي لحقوق الإنسان ولا أي مرجعية أخرى
في هذا الصدد غير التحكم! مما يجعلنا نتساءل في ظل ذلك كله ما العمل؟
في اعتقادنا قد يبدو أن تحقيق الالتزام القانوني الحقيقي بصكوك حقوق
الإنسان من شأنه أن يجعل من السلوك الغربي بعيداً عن خطاب الهيمنة والتحريك
الانتقائي لانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى.
على أن تحقق ذلك منوط بتوافر عنصر الجزاء الذي يتطلب استحداث نظام
(حيادي) للتدابير الردعية لاستخدامه ضد الأنظمة التي تنتهك حقوق الإنسان دون
تمييز. ورغم صعوبة تحقق مثل هذا النظام الحيادي المنشود، فإنه وإن تحقق فلن
يكون منصفاً بحق الدول الفقيرة (لا سيما منها الأشد فقراً) التي لا تسعفها مواردها
الذاتية للنهوض حتى بالحد الأدنى من حقوق مواطنيها، وهذا ما يعود بنا من جديد
إلى طرح واقع عدم المساواة التنموية بين الدول بوصفه المعضلة الأكبر التي
يواجهها النهج العالمي لحقوق الإنسان حتى يدخل بصورة فعلية حيز التنفيذ، ومتى
علمنا أن الدول الغربية ترفض أي تعديل في واقع العلاقات الاقتصادية الدولية لا
يأخذ في أولوياته ضمان تفوقها، فإن ذلك يجعلنا نقول وحتى إشعار آخر بأن شمس
العولمة لا تسطع إلا فوق سماء الأغنياء! ! .
__________
(1) محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998م، ص17.
(2) ويلاحظ أنه حتى مع اتجاه بعض الحكومات الغربية أيام الحرب الباردة نحو الاعتراف بهذه الفئة من حقوق الإنسان، فإن ذلك لم يكن يعني أكثر من اعتبارها مجرد احتياجات إنسانية لا حقوقاً، وهو ما كان يعني أن تأتي دائماً في المرتبة الثانية من حيث التطبيق.
(3) عبير بسيوني: الولايات المتحدة الأمريكية والتدخل لحماية حقوق الإنسان والديمقراطية، مجلة السياسة الدولية، مطابع الأهرام، القاهرة 1997م، عدد 127، ص113.
(4) حسن نافعة، الأمم المتحدة في نصف قرن، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1995م، ص377 387.
(5) ومن بوادر هذا الاتجاه هو محاولة تلك الدول أثناء المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان ابتداع صياغة للحماية الدولية لحقوق الإنسان مع ربطها بآليات التنفيذ التي تهيمن عليها هذه الدول (أي مجلس الأمن) .
(6) عبير بسيوني: الولايات المتحدة والتدخل لحماية حقوق الإنسان والديمقراطية، مرجع سابق، ص117.
(7) (J) Muravckik: The Imperative of American Leadership - Achauenge to Neo-Isolationism (Washington , DC: AEL press, 1996) .
(8) (H) Muravchik: The Imperative of Amerian Leadership Op Cit, p 19.(132/108)
من ثمرات المنتدى
المنتدى الإسلامي في ربيعه الرابع عشر
نظرة في الحصاد
عندما تأسس المنتدى الإسلامي في لندن عام 1406هـ لم يكن في ذهن
مؤسسيه أن إمكاناته ستُبلغه المدى الذي بلغه الآن، وإن لم يفارقهم هذا الأمل؛ فبعد
ثلاثة عشر عاماً امتد نشاط المنتدى بحمد الله وتوفيقه إلى أكثر من عشرين دولة في ...
إفريقيا وآسيا، وتعددت أنشطته الدعوية والتعليمية والإغاثية، فكان من أبرزها: ...
كفالة الدعاة والأئمة والمدرسين، وعقد دورات تدريبية لهم للرفع من مستواهم، ...
وعقد دورات علمية شرعية، ودورات إدارية، وتسيير قوافل دعوية، وبناء
مساجد والإشراف عليها، وبناء مدارس ومراكز إسلامية، وتوزيع كتب، وإنشاء
مكتبات، وعقد حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، وإقامة مخيمات تربوية، وعقد
ندوات ومحاضرات علمية ودعوية ... إضافة إلى المشروعات الإغاثية، التي على
رأسها: تقديم جهود إغاثية في المناطق المتضررة من الفيضانات في عدة بلدان،
وتوزيع الغذاء والدواء والكساء، وحفر الآبار، وتنفيذ عدة برامج لإفطار الصائم،
وذبح الأضاحي وتوزيعها على فقراء المسلمين، وكفالة الأيتام ... إلى غير ذلك من
أنشطة تطّلعون عليها من خلال هذا التقرير.
ولا شك أن ذلك لم يتحقق إلا بتوفيق الله عز وجل ثم بتضافر جهود
المخلصين الغيورين على دينهم وأمتهم؛ فمن هؤلاء من مد يداً سخية من ورائها
قلب عطوف يشفق على أمته أن تقع في براثن التنصير أو الجهل والفقر والمرض، ومنهم من قدم نصيحة أمينة واستشارة نافعة، هي خلاصة علم وتجربة، أبى أن
يبخل بها فيتخبط عمل الخير في متاهات التخلف ودروب الفوضى، ومنهم من
تاقت نفسه إلى البذل والعطاء فلم يجد إلا دعاءً يرفعه مخبتاً متذللاً إلى ربه أن يعين
إخوانه ويوفقهم إلى كل خير ويصرف عنهم السوء..
هكذا نحسبهم جميعاً والله حسيبهم.
ولا شك أنه كان لتوجيهات أصحاب الفضيلة العلماء وتزكيتهم للمنتدى الأثر
البالغ في نفوس القائمين عليه لدفعهم إلى الأمام على الطريق نفسه الذي سلكوه..
طريق أهل السنة والجماعة منهجاً، والحكمة والموعظة الحسنة سبيلاً، والتخطيط
قبل العمل، والدقة أثناء تنفيذه، والمراجعة بعد إتمامه أسلوباً.
وهذا ما دعا المنتدى الإسلامي إلى إلقاء نظرة على جهود السنين السابقة
واستخلاص العبر والدروس منها، ومن ثم: إعداد دراسة تقويمية لهذه المرحلة؛
لإعداد أهداف محددة يعمل على تحقيقها من خلال خطة منهجية في المرحلة القادمة
بإذن الله تعالى.
وفي الصفحات التالية تقرير موجز عن حصاد المنتدى السنوي.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.
المنتدى ونشر العلم الشرعي
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك
طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) أخرجه الإمام أحمد: 2/325.
يحرص المنتدى الإسلامي على نشر العلم الشرعي وتسهيل الوصول إليه بعدة
طرق، في محاولة إيصال العلم إلى كل فرد رغم تغير ظروف المتلقي وإمكانات
المنتدى، فمن هذه الطرق: إنشاء المدارس والمعاهد وتشغليها، أو تشغيلها فقط،
وكفالة الدعاة، وكفالة بعض مدرسي اللغة العربية والعلوم الإسلامية في المدارس
الحكومية، وتنظيم دروس علمية منهجية ومحاضرات أسبوعية، وإقامة المكتبات
العامة، وتوزيع المصاحف والكتب (العربية، والمترجمة) والمناهج الدراسية
ومكتبات طالب العلم، إضافة إلى الأشرطة المسجلة ... وإليك بعض التفصيل لهذه
الأنشطة:
- المدارس والمعاهد:
أنشأ المنتدى العديد من المدارس والمعاهد الشرعية في مراحل التعليم المختلفة، كما إنه يقوم بتشغيل مدارس كثيرة، علماً بأن التشغيل وحده يشمل: كفالة
مدرسي المدرسة وإدارييها، وتوفير المناهج والكتب لطلابها، والتكفل بجميع
مصاريفها الأخرى باستثناء إنشاء مبانيها ...
أ - التعليم النظامي:
وفي العام الماضي تم بحمد الله إنشاء وتشغيل (6) مدارس في مراحل التعليم
المختلفة، إضافة إلى تشغيل (26) مدرسة في مراحل التعليم المختلفة، واستفاد من
جميع هذه المدارس (10578) طالباً وطالبة، تفصيلهم في الجدول الآتي:
--------------------------------------------------------------
اسم المدرسة ... ... ... الدولة ... مراحل الدراسة ... عدد طلابها علاقتها بالمنتدى
--------------------------------------------------------------
مجمع الصديق التعليمي ... غانا ... ابتدائي، متوسط، ثانوي 927 ... إنشاء وتشغيل
مجمع الفاروق التعليمي ... غانا ... ابتدائي، متوسط ... 610 ... إنشاء وتشغيل
مجمع الأنصار التعليمي ... غانا ... ابتدائي، متوسط ... 600 ... إنشاء وتشغيل
المدرسة البدرية ... ... غانا ... ابتدائي، متوسط ... 635 ... ... تشغيل
مدرسة المنتدىالإسلامي ... بريطانيا ... روضة، ابتدائي ... 160 ... إنشاء وتشغيل
التوحيد ... ... ... ... كينيا ... ... ابتدائي ... ... 250 ... إنشاء وتشغيل
24 مدرسة ... ... كينيا ... ابتدائي، متوسط ... 7211 ... ... تشغيل
مدرسة أبخ الإسلامية ... جيبوتي ... ابتدائي ... ... 120 ... ... تشغيل
مدرسة السلام ... جيبوتي ... ابتدائي ... ... 65 ... ... إنشاء وتشغيل
--------------------------------------------------------------
ب - التعليم الشرعي:
ورغبة من المنتدى في تخصيص العلم الشرعي بمزيد من العناية فقد تولى
تشغيل ثانوية البيان الإسلامية للعلوم الشرعية في دولة نيجيريا التي يبلغ عدد
طلابها (84) طالباً، وقد تم تخريج الدفعة الأولى من المدرسة، منهم (19) حافظاً
للقرآن الكريم بأكمله.
كما يتولى المنتدى تشغيل معهدين شرعيين أنشأهما بنك التنمية الإسلامي في
الصومال: أحدهما للمرحلتين المتوسطة والثانوية يبلغ عدد طلابه (130) طالباً،
والآخر: معهد متخصص لإعداد المعلمين، يبلغ عدد طلابه (70) طالباً، إضافة
إلى معهدين لإعداد الدعاة سيتم افتتاحهما في الفترة القادمة بمشيئة الله تعالى،
أحدهما في إثيوبيا يخدم منطقة شرق إفريقيا، والآخر في مالي يخدم منطقة غرب
إفريقيا.
- إلقاء الدروس والمحاضرات:
في العام الماضي وحده استطاع المنتدى بفضل الله عز وجل كفالة (493)
داعية، وفقهم الله في إلقاء (3201) درساً وكلمة في كل أسبوع، إضافة إلى إلقاء
(449) محاضرة كل أسبوع، ليكون مجموع الكلمات والدروس والمحاضرات التي
ألقيت أسبوعياً في العام الماضي عن طريق دعاة المنتدى حوالي (3650) درساً
ومحاضرة، نسأل الله عز وجل أن ينفع بها كل ملقٍ وكل متلقٍ.
وفيما يلي جدول لهذه الدروس والمحاضرات:
----- --------------------------------------------------- --
الدولة ... ... ... عدد الدروس الأسبوعية ... عدد المحاضرات الأسبوعية
-----------------------------------------------------------
مالي ... ... ... 975 ... ... ... ... 39
الصومال ... ... ... ... 956 ... ... ... ... 101
بنجلاديش ... ... ... ... 396 ... ... ... ... 99
كينيا ... ... ... ... ... 317 ... ... ... ... 68
توجو ... ... ... ... ... 200 ... ... ... ... 54
نيجيريا ... ... ... ... ... 73 ... ... ... ... 10
غانا ... ... ... ... ... ... 65 ... ... ... ... 20
أوغندا ... ... ... ... ... 60 ... ... ... ... 20
إثيوبيا ... ... ... ... ... 53 ... ... ... ... ... 5
تشاد ... ... ... ... ... 37 ... ... ... ... ... 4
بنين ... ... ... ... ... 35 ... ... ... ... ... 15
جيبوتي ... ... ... ... ... 29 ... ... ... ... 13
بريطانيا ... ... ... ... ... 5 ... ... ... ... ... 1
------------------------------------------------------------
- توزيع المصاحف والكتب والأشرطة:
في محاولة من المنتدى الإسلامي لتكوين بنية من العلم الشرعي على أسس
راسخة لمن يريد التفقه في الدين، تبنى عبر مكاتبه الفرعية في العام الماضي وحده
توزيع (38329) مصحفاً في (12) دولة، كما وزع (48460) كتاباً باللغة العربية
و (175588) كتاباً مترجماً و (33581) كتاباً منهجياً دراسياً في (13) دولة.
وكان عدد الأشرطة التي تم توزيعها في (11) دولة هو (11056) شريطاً.
أما بالنسبة لتكوين المكتبات: فإنه يتبع مكاتب المنتدى (28) مكتبة للاطلاع
العام في (8) دول، كما قامت هذه المكاتب بتوزيع (116) مكتبة طالب علم
باللغتين العربية والإنجليزية على مدار العام الماضي في (7) دول.
(9710) طالباً يحفظون القرآن في (228) حلقة للمنتدى
لا يختلف مسلمان على أن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله
ليتعبد به المسلمون تلاوة وتدبراً وحفظاً وعملاً، فهو الركيزة الأولى التي يستمد
منها بناء المسلم إيمانيّاً، ولا بد أن ينهل منه كل مسلم ما تيسر له لأجل أن يقيم دينه.
وقد بلغ عدد حلقات تحفيظ القرآن الكريم التابعة للمنتدى الإسلامي في العام
الماضي (228) حلقة، استفاد منها (9710) طالباً من مختلف الأعمار، وذلك في
أكثر من بلد، ويُعنى المنتدى عناية فائقة بانتقاء المدرسين وتدريبهم على طرق
التدريس والتربية، وقد أعد المنتدى كتاباً بعنوان: (المدارس والكتاتيب القرآنية ... ) طبع قبل سنتين، ثم طبع مختصراً في هذه السنة ليسهل تناوله والاستفادة منه.
كما يحرص المنتدى على أن تكون الحلقات القرآنية محضناً تربوياً وعلمياً
يجد فيها الطالب ما يُرغّبه في الاستمرار والاستفادة، ولهذا أعد المنتدى منهجاً
متكاملاً يلتزم به مدرسو الحلقات. ونعرض لأهم تلك الحلقات في الجدول المقابل:
------------------------------------------------- ------
الدولة ... ... عدد الحلقات ... ... ... عدد المستفدين
--------------------------------------------------------
غانا ... ... ... ... 69 ... ... ... ... ... 1698
الصومال ... ... ... 33 ... ... ... ... ... 3584
توجو ... ... ... ... 33 ... ... ... ... ... 1155
بنين ... ... ... ... 32 ... ... ... ... ... 992
كينيا ... ... ... ... 18 ... ... ... ... ... 1242
بنجلاديش ... ... ... 14 ... ... ... ... ... 171
نيجيريا ... ... ... 10 ... ... ... ... ... ... 257
مالي ... ... ... ... 7 ... ... ... ... ... ... 210
أوغندا ... ... ... 5 ... ... ... ... ... ... 200
جيبوتي ... ... ... 4 ... ... ... ... ... ... 151
بريطانيا ... ... ... 2 ... ... ... ... ... ... 30
إثيوبيا ... ... ... 1 ... ... ... ... ... ... 20
----------------------------------------------------------
في كينيا: 275 طفلاً يتمون حفظ القرآن الكريم
أتم حفظ القرآن الكريم في حلقات المنتدى بكينيا العام الماضي وحده (275)
طالباً وطالبة تتراوح أعمارهم بين 11و 15 سنة، وذلك بفضل الله تعالى ثم بسبب
دعم بعض المحسنين لهذا المشروع المبارك، ونشاط القائمين عليه.
جدير بالذكر أن مكتب كينيا كان قد أقام العام الماضي أيضاً دورة شرعية
للحفّاظ الذين أكملوا حفظ القرآن الكريم استغرقت سنة كاملة، درسوا فيها مواد
التفسير والحديث والتوحيد ومراجعة القرآن الكريم وأحكام التجويد، إضافة إلى
التربية، واستفاد من هذه الدورة (40) طالباً.
باكورة جديدة من ثمار المنتدى
(كلية لندن المفتوحة)
يتعرض المسلمون في الغرب أكثر من غيرهم لخطر الذوبان في المجتمع
الغربي وفقدان الهوية والانفلات السلوكي، وكل ذلك يعتبر سبباً ونتيجة في الوقت
نفسه لقلة اكتساب العلم الشرعي في هذه البلاد، وذلك راجع إلى أسباب عديدة،
منها:
صعوبة تحصيل العلم الشرعي وقلة قنواته، أو صعوبة الوصول إليها في
هذه البلاد.
انشغال أكثر المسلمين هناك بأعمالهم؛ مما يصعب معه انتظامهم في برنامج
مغلق لطلب العلم.
أن كثيراً من المتصدين لنشر العلوم الإسلامية في الغرب مشبوهون، إما
بكونهم أصحاب اتجاهات استشراقية مغرضة، أو أصحاب دعوات بدعية مضللة.
لهذه الأسباب عمل المنتدى الإسلامي بلندن على الإسهام في تلبية حاجة
المسلمين في هذا المجال، فكانت (كلية لندن المفتوحة)
فمع مطلع العام القادم 1999م إن شاء الله تعالى يفتتح باب التسجيل في (كلية
لندن المفتوحة) أحدث مشاريع المنتدى الإسلامي التعليمية، وذلك بالتنسيق
والاستفادة من تجربة الجامعة الأمريكية المفتوحة، وسيتم في الكلية تدريس مختلف
العلوم الشرعية، مع منح الدرجات العلمية التالية:
1-شهادة الدبلوم، بعد سنتين من الدراسة.
2-شهادة الليسانس، بعد أربع سنوات دراسية.
وتهدف هذه الكلية إلى نشر العلوم الشرعية وتيسير الاستفادة منها في أوساط
المغتربين، وسيتاح فيها نظام انتساب الطلاب، كما يمكن مراسلتها عن طريق
الإنترنت والبريد الإلكتروني أو مباشرة عن طريق عنوان المنتدى بلندن.
نسأل الله عز وجل أن يكون افتتاحها فاتحة خير للمسلمين.
من الأنشطة الثقافية:
الدورة الصيفية للعلوم الشرعية بالإنجليزية في لندن
عُقدت هذه الدورة من 2- 6 من ربيع الثاني 1419هـ، الموافق
25- 29/ 7/ 1998م، وحظيت بعض الموضوعات الحيوية باهتمام بالغ من الحضور، حيث عرضت بعض المسائل الشرعية كأركان الإسلام والإيمان، وقضايا معاصرة كقضايا الحجاب والزواج والإجهاض والتلقيح الصناعي ونقل الأعضاء والإرهاب والانتحار.. وعقد في نهاية الدورة امتحان نهائي للمشاركين، وفي اليوم نفسه أقيمت رحلة ترفيهية تخللتها فقرات رياضية مختلفة ووجبة غداء وكلمات تربوية.
وجدير بالذكر أن الدورة لاقت إقبالاً كبيراً ولله الحمد والشكر، وكان في معظم
الأوقات يزيد عدد الحضور على سعة قاعة المحاضرات مما كان يضطرنا إلى
إحضار مقاعد إضافية للمشاركين في الدورة، كما تم نقل الصوت والصورة للنساء.
وقد تلقى المنتدى عقب الدورة كثيراً من كلمات الشكر والثناء أعرب عنه
المشاركون في الدورة ومديرو العديد من المراكز الإسلامية وعدد من الشخصيات
الإسلامية.
المنتدى الإسلامي بلندن يقيم مهرجان فلسطين
قضية فلسطين قضية إسلامية بالدرجة الأولى، ونصرة المسلمين لها واجب
شرعي؛ ومن هذا المنطلق نظم المنتدى الإسلامي بلندن بالتعاون مع مجمع البحوث
الإسلامية ومركز العودة الفلسطيني والصندوق الفلسطيني للإغاثة والتنمية مهرجان
فلسطين، وذلك في الفترة من 23 25 من ربيع الأول 1419هـ، الموافق
17 -19/7/1998م.
وقد ألقيت في المهرجان عدة محاضرات، كانت عناوينها:
دور الاستعمار الغربي في ضياع فلسطين.
القدس والوعد الحق.
النظام العالمي الجديد وقضية فلسطين.
كيف نعيد فلسطين إلى الساحة الإسلامية؟
السلام مع اليهود والموقف منه.
السياسات التوسعية لإسرائيل ومستقبل فلسطين.
كما أقيمت أمسية ثقافية تم خلالها إلقاء قصائد عن فلسطين، ومسابقة هادفة
عن القضية الفلسطينية، كما عرض فيلم وثائقي عن الحفريات تحت المسجد
الأقصى، علق عليه الشيخ رائد صلاح رئيس بلدية أم الفحم بفلسطين.
وتخلل المهرجان معرض للصور الفوتوغرافية مؤلف من 50 لوحة عن مآسي
الشعب الفلسطيني، و24 لوحة تعكس جوانب من المسجد الأقصى وتاريخ فلسطين، و12 لوحة عن الفن المعماري للمسجد الأقصى وبعض الجوانب التاريخية،
بالإضافة إلى الخرائط والوثائق المختلفة عن فلسطين، وأقيم خلال المهرجان أيضاً
معرض للكتاب، عرض من خلاله حوالي 60 كتاباً متعلقاً بفلسطين.
أمسية الجزائر
تفاعلاَ من المنتدى الإسلامي بلندن مع شؤون العالم الإسلامي وشجونه أقيمت
يوم 30/4/1419هـ الموافق 22/8/1998م أمسية عن الأوضاع في الجزائر
بعنوان: (أزمة الجزائر.. دروس وعبر) ، احتوت على محاضرتين وندوة، كان
عنوان المحاضرة الأولى: الأزمة الجزائرية، الأسباب والتطلعات، والمحاضرة
الثانية: الجزائر، مأساة شعب وأزمة أمة، أما الندوة فكانت بعنوان: دروس وعبر
من أزمة الجزائر.
وقد لقيت الأمسية إقبالاً كبيراً من رواد المنتدى وعدد كبير من الجالية المسلمة
بلندن، وامتازت بالمشاركة الفعالة في الآراء ووجهات النظر مع الطرح
الموضوعي الهادئ والهادف لحيثيات الأزمة الجزائرية.
وللمنتدى نشاط شبابي
لا يكفي العلم النظري وحده في تكوين الإنسان الصالح؛ فإبليس كان على علم، والمنافقون كانوا على علم، ولكن لم يثمر علمهم خضوعاً والتزاماً، فلم ينفعهم
علمهم.
وإضافة إلى المدارس وحلقات تحفيظ القرآن الكريم يحرص المنتدى على
توفير مناخات تربوية أخرى يتحول العلم فيها إلى عمل ومعايشة، ومن هذه
المناخات: المراكز الصيفية والمخيمات الطلابية، وفي العام الماضي أقام المنتدى
(13) مخيماً، استفاد منها (1024) داعية وطالباً وطالبة في (5) دول، ويحرص
المنتدى الإسلامي في هذه المخيمات على التركيز على طلاب الجامعات التجريبية
والمثقفين باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
ولا شك أن احتكاك هؤلاء الشباب في هذه المخيمات بقرنائهم ومن هم أكثر
علماً منهم من المعروفين لديهم أو الزائرين.. لا شك أن له أطيب الأثر في نفوسهم
وخبرتهم وتثقيفهم وترسيخ أقدامهم.
قوافل الهدى
نعم، على كل إنسان أن يسعى إلى البحث عن الحق، ومعرفة الهدى، ولكن
ذلك لا يكفي لإبراء ذمة حملة الهدى والنور؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يعرض الإسلام على الأفراد والقبائل، ويتكبد مشاق السفر للدعوة إلى
التوحيد ونبذ الشرك، وهكذا سار على هديه صحابته الكرام ومن اتبعهم بإحسان،
يبذلون من أموالهم وجهدهم للدعوة إلى هذا الدين وإزالة الأسباب التي تمنع الناس
من قبوله والإيمان به. ومن أجل ذلك حرص المنتدى على بث قوافل دعوية منظمة
إلى المناطق التي تفتقر غالباً إلى مراكز دعوية ثابتة، ومعظمها قرى ومناطق نائية، وقد تكون هذه المناطق ذات أغلبية مسلمة فيكون جهد الدعاة فيها مُرَكّزاً على
تصحيح العقائد ونبذ الخرافات والبدع والدعوة إلى منهج أهل السنة والجماعة
وفضائل الأعمال والتحذير من المعاصي، وقد تنتشر في المناطق المستهدفة
الديانات الباطلة والوثنية، فيقوم الدعاة بالدعوة إلى التوحيد والتعريف بالإسلام.
ويرافق هذه القوافل أحياناً طبيب يعرض خدماته العلاجية على أهل هذه
المناطق، كما يحمل الدعاة معهم كميات من المواد الإغاثية لإظهار سماحة الإسلام
وتأليف قلوب المدعوين.
وخلال الشهور الاثني عشر الماضية سيّر المنتدى الإسلامي (357) قافلة في
(12) دولة، وقد أسلم بفضل الله ومنته أثناء سير هذه القوافل (603) أشخاص،
فضلاً عن الذين هداهم الله إلى السنة ممن كان ينتسب إلى الإسلام. علماً بأن
المنتدى يتابع المسلمين الجدد؛ حتى لا يكون إسلامهم مجرد انتساب خالٍ من
الحقيقة المطلوبة، وحتى لا تحدث انتكاسة لهم لا قدر الله، وتلك المتابعة تختلف
صورتها باختلاف عدد المسلمين الجدد كثرة أو قلة، وهي تتراوح بين:
1-معاودة تسيير قوافل أخرى بانتظام إلى القرية أو المنطقة التي بها مسلمون
جدد.
2-تعيين داعية يقيم في القرية أو المنطقة لمتابعة المسلمين الجدد.
3-إنشاء مركز دعوي للمهتدين، يُعنى بمتابعتهم الدورية المركزة؛ فعلى
سبيل المثال أنشأ المنتدى الإسلامي مركز مصعب بن عمير للمهتدين في دولة مالي، كما قام بإنشاء مدرسة ابن القيم للمهتدين الجدد في دولة كينيا.
وكل ذلك بالإضافة إلى تنظيم دورات لهؤلاء المهتدين وإهدائهم الكتب
والأشرطة المناسبة لهم بلغاتهم المحلية.
وقد أعدت اللجنة العلمية بالمنتدى منهجاً علمياً وتربوياً متدرجاً يرتقي بمستوى
المسلمين الجدد، ويعالج المشكلات الاجتماعية التي تواجههم بعد نقلتهم المباركة.
وهذه بعض بيانات هذه القوافل:
--------------------------------------------------------
الدولة ... ... عدد القوافل ... المسلمون الجدد
--------------------------------------------------------
... ... توجو ... ... ... 115 ... ... ... ... 18
... ... بنين ... ... ... ... 66 ... ... ... ... 170
... ... بنجلاديش ... ... ... 60 ... ... ... ... ... 00
... ... كينيا ... ... ... 50 ... ... ... ... ... 20
... ... الصومال ... ... ... 28 ... ... ... ... ... 00
... ... مالي ... ... ... 10 ... ... ... ... ... 30
... ... تشاد ... ... ... 8 ... ... ... ... ... 22
... ... نيجيريا ... ... ... 6 ... ... ... ... ... 45
... ... أوغندا ... ... ... 6 ... ... ... ... ... 150
... ... إثيوبيا ... ... ... 3 ... ... ... ... ... 148
... ... غانا ... ... ... 3 ... ... ... ... ... 00
... ... جيبوتي ... ... ... 2 ... ... ... ... ... 00
-------------------------------------------------------
يلاحظ أن بعض هذه القوافل توجه إلى مناطق المسلمين لتعليمهم ونشر السنة
بينهم.
بلاغ مبين
يعد البيان الواضح الركن الأساس في القيام بالبلاغ المبين؛ لذا: كان لازماً
أن تصل كلمة الدعوة باللغة التي يفهمها المخاطَبون، ومن هذا المنطلق حرص
المنتدى الإسلامي على طبع آلاف من الكتب المترجمة إلى اللغات الأجنبية
وتوزيعها في البلاد التي تتكلم بهذه اللغات، وذلك إضافة إلى ما يشتريه من كتب
مترجمة أخرى، ومن الكتب التي طبعها ووزعها المنتدى باللغة الإنجليزية: وجوب
لزوم السنة والحذر من البدعة، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والعقيدة
الإسلامية، للشيخ جميل زينو.
وباللغة الفرنسية: الأصول الثلاثة، للعلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله، والعقيدة الصحيحة وما يضادها، ووجوب أداء صلاة الجماعة، وصفة
صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجميعها للشيخ عبد العزيز بن باز.
أما اللغة السواحيلية: فطبع بها (7) كتب، هي: كشف الشبهات، للعلامة
الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدروس المهمة لعامة الأمة، وصفة صلاة النبي -
صلى الله عليه وسلم-، ووجوب صلاة الجماعة، وجميعها لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن باز، وكتاب الطهارة والصلاة، لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين،
ومختصر العقيدة الإسلامية، للشيخ جميل زينو، وحصن المسلم، للشيخ سعيد بن
وهف، والمرأة في الإسلام للشيخ سالم بارهيان.
بالإضافة إلى كتابين بلغة الهوسا، هما: الأصول الثلاثة للعلامة الشيخ ...
محمد بن عبد الوهاب، والخطوط العريضة للشيخ محب الدين الخطيب.
وأخيراً: طبع باللغة البنغالية: كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ
الإسلام ابن تيمية، والعقيدة الطحاوية، للإمام الطحاوي، والأصول الثلاثة،
وكشف الشبهات، وأصول الإيمان، ومسائل الجاهلية، جميعها للعلامة الشيخ محمد
بن عبد الوهاب، والعقيدة الصحيحة، ووجوب لزوم السنة، وكيفية صلاة النبي -
صلى الله عليه وسلم-، جميعها لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، وعقيدة أهل
السنة والجماعة، لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وتوجيهات إسلامية، والعقيدة
الإسلامية، كلاهما للشيخ جميل زينو.
من الجهود الدعوية استثمار الوسائل الإعلامية
يسعى المنتدى إلى استثمار كل فرصة تسنح للدعوة إلى دين الله بصورة
واسعة غير محدودة، ومن هذا السعي محاولة إيصال كلمة الحق عبر الوسائل
الإعلامية واسعة الانتشار كالتلفاز والإذاعة والصحف ... ولما كانت تكاليف هذه
الوسائل كبيرة والعوائق الإدارية في الدول التي تسمح بإنشائها للأفراد والهيئات
كثيرة، فقد حرصت بعض المكاتب الفرعية على إيصال الهدى باستثمار الفرصة
المتاحة في الوسائل القائمة بالفعل، وبالطبع تختلف هذه الفرص من مكان لآخر.
وإضافة إلى آلاف من نشرات المنتدى الأسبوعية والشهرية التي توزعها
بعض المكاتب باللغات المحلية والعربية، استطاع القائمون على بعض المكاتب
تنفيذ عدد من البرامج الإذاعية والتلفازية وعدد من المشاركات الصحفية في بلادهم، وهذا بيان بأهم هذه الأعمال خلال فترة التقرير:
----------------------------------------------
... الدولة ... ... تلفاز إذاعة ... صحافة المجموع
----------------------------------------------
... الصومال ... ... 5 ... 480 ... 48 ... ... 533
... مالي ... 10 ... 452 ... 2 ... ... 464
... كينيا ... 40 40 ... 4 ... ... 84
... توجو ... 00 56 ... 00 ... ... 56
... أوغندا ... 00 32 ... 00 ... ... 32
... غانا ... 3 12 ... 2 ... ... 17
... جيبوتي ... ... 1 ... 00 ... 00 ... ... 1
----------------------------------------------
... المجموع ... ... 59 1072 ... 56 ... ... 1187
----------------------------------------------
لسان جديد للمنتدى
مجلة (الجمعة) الناطقة بالإنجليزية تنضم إلى دوريات المنتدى
الاهتمام بتعليم الإسلام وتربية الأجيال الناشئة عليه صوناً للدين وحفاظاً على
الهوية يقع على رأس قائمة أولويات الجالية المسلمة في الغرب، ومع ندرة
الدوريات الإسلامية ذات التوجه الصحيح في هذا المجتمع كان من الأهمية بمكان
وجود وسيلة إعلامية ناطقة بلغة هذا المجتمع، مهتمة بمعالجة الموضوعات
الإسلامية الحيوية.
ومن أمريكا تنطلق مجلة الجمعة الناطقة بالإنجليزية، هدفها: التعليم،
والتربية، والتحفيز نحو التغيير إلى الأفضل، ورسالتها: إرشاد المسلم ليعيش
بالإسلام في كل جوانب الحياة. ولتحقيق هذه الرسالة وذلك الهدف فإنها تلتزم بـ:
1-التأكيد على اتباع الكتاب والسنة الصحيحة بفهم الصحابة أساساً في الفهم
والعمل والسلوك.
2- الاهتمام بمعالجة القضايا التي تعانيها الجالية المسلمة في الغرب، مع
طرح المادة العلمية الشرعية والتربوية المقدمة من خلال التفاعل مع القارئ ومراعاة
أولويات بيئته.
3- مخاطبة عامة المسلمين مع التركيز على حاجات الأسرة المسلمة.
جدير بالذكر أن مجلة الجمعة بدأت عام 1991م نشرة صغيرة، ثم تطورت
حتى أصبحت مجلة تبلغ عدد صفحاتها (24) صفحة عام 1995م، واليوم تصدر
غرة كل شهر عربي في (52) صفحة ملونة، تقدم فيها مادة علمية مكثفة وتربوية
شيقة، بلغة إنجليزية واضحة سهلة التناول؛ مما جعلها أحد أهم المراجع التثقيفية
التربوية الإسلامية باللغة الإنجليزية للمسلمين في أمريكا الشمالية.
وقد انتقلت ملكية المجلة وإدارتها إلى المنتدى الإسلامي في مطلع عام
1419هـ، نسأل الله عز وجل أن تكون عوناً على نشر الحق والدعوة إليه.
تطوير إمكانات العاملين والمتعاونين
تعد المراجعة والتجديد والتطوير من أهم عوامل نجاح أي عمل، ولأن عمل
المنتدى الإسلامي يقوم على أكتاف صفوف من الرجال أصحاب قدرات وإمكانات
مناسبة تؤهلهم للقيام بهذه الأعمال بصورة لائقة ... فإن المنتدى يحرص على
تطوير هذه القدرات والإمكانات والنهوض بها لكي تلائم طبيعة هذه الأعمال
وتواكب تطورها ...
ومن هذا المنطلق نظم المنتدى في العام الماضي وحده عدداً من الدورات
الشرعية والإدارية بلغت (51) دورة شرعية، استفاد منها (2911) داعية وإماماً
وطالب علم في (13) دولة، و (11) دورة إدارية استفاد منها (243) إدارياً في
(6) دول، كما نظم عدداً من الملتقيات الدعوية للتعارف وتبادل الخبرات والعلوم،
بلغت (17) ملتقى، استفاد منها (665) داعية في (5) دول.
* ولقد شارك في أكثر هذه الدورات الشرعية مجموعة من العلماء وطلاب
العلم من خارج تلك الدول مما كان له أكبر الأثر في نجاح تلك الدورات، فلله الحمد، ولهم من المنتدى أبلغ الشكر.
* ومن أبرز هذه الدورات: الدورة الإدارية والتربوية الثانية لمدراء مكاتب
المنتدى الفرعية ورؤساء الأقسام التي انعقدت في دولة غانا في الفترة من 29 من
ربيع الثاني إلى 9 من جمادى الأولى 1419هـ الموافق 21 31/8/1998م، وقد
استفاد منها (32) شخصاً ما بين مدير وداعية وإداري من المنتسبين لمكاتب المنتدى
الفرعية.
وكذلك دورة (مصعب بن عمير) ، وهي دورة شرعية تربوية شارك فيها
(60) داعية من دعاة المنتدى الإسلامي في دول: غانا وتوجو وبنين، وأقيمت
الدورة في دولة توجو، واستمرت لمدة (19) يوماً من 20 من ربيع الأول إلى 9
من ربيع الثاني 1419هـ الموافق 14/7 1/8/ 1998م، وحفلت الدورة بالعديد
من البرامج والفقرات المنوعة المفيدة.
ماذا تعرف عن المراكز الإسلامية؟
المراكز الإسلامية أحد أهم الأنشطة المتكاملة التي يقوم عليها العمل الدعوي
أو الخيري؛ نظراً لتعدد منشآتها وخدماتها؛ فكل مركز يتكون غالباً من:
- مسجد جامع كبير، ملحق به مصلى خاص بالنساء.
- مدرسة، تستغل في تدريس مقررات منهجية أو عقد الدورات.
- مكاتب إدارية.
- قاعة محاضرات.
- مكتبة عامة، يلحق بها في الغالب قسم للمكتبة السمعية والمرئية.
- جناح للضيافة (للدعاة وطلاب العلم الزائرين) .
- مستودع.
وقد قام المنتدى الإسلامي بحمد لله ومنته ببناء عدد من المراكز الإسلامية في
إفريقيا وآسيا وأوروبا، بيانها الآتي:
1-المركز الإسلامي الرئيس في بريطانيا (لندن) ، وأنشئ عام 1406هـ.
2- مركز الإمام مسلم في بنجلاديش (فريدبور) ، وأنشئ عام 1416هـ.
3- مركز الإمام البخاري في بنجلاديش (غاريبو تونغي دكا) وتم الانتهاء من
بنائه عام 1418هـ.
4- المركز الإسلامي في نيجيريا (كانو) ، وقد افتتح عام 1418هـ، ويقع
هذا المركز قرب جامعة بايرو؛ لإتاحة الفرصة أمام طلابها للاستفادة من برامج
المركز الدعوية والتربوية المتنوعة، ومن المبشرات: أن الإقبال على هذا المركز
كبير، حتى إن المسجد الجامع بالمركز يضيق بالمصلين في الجمعة، فيضطر
حوالي ضعف عدد المصلين داخل المسجد إلى الصلاة خارجه.
5- مركز المنتدى الإسلامي في غانا (أكرا) ، وقد تم افتتاحه عام 1417هـ.
6- مركز المنتدى الإسلامي في بنين (كوتونو) ، وهو في لمساته الأخيرة.
7- مركز المنتدى الإسلامي في توجو (لومي) ، وما زال العمل جارياً فيه.
8- مركز المنتدى الإسلامي في السودان (بور سودان) ، وهو قيد الإنشاء،
وسيدار من خلاله مشروع عيون الحياة الخيري لحفر الآبار الجوفية القائم الآن.
9- مركز ابن عبد البر في مالي (كاي) ، وهو على وشك الانتهاء.
10- مركز ابن أبي زيد القيرواني في مالي (موبتي) .
11- مركز مصعب بن عمير في مالي (كاتي) .
هذا بالإضافة إلى مركزين آخرين كان المنتدى الإسلامي قد مولهما لحساب
جمعيات خيرية موثوقة أخرى، وهما:
مركز أنصار السنة المحمدية، بالسودان في مدينة كسلا.
مركز جمعية الهدى، بإندونيسيا.
علماً بأن في خطط المنتدى إنشاء مركز إسلامي في كل من كينيا وأوغندا،
ولكن تعثر البدء بالبناء نظراً لبعض الظروف الطارئة في كلا الدولتين.
بناء المساجد ليس مجرد بناء جدران
يحرص المنتدى الإسلامي على استعادة المسجد لدوره الذي كان عليه في
صدر الإسلام، فيقوم بتعيين داعية مؤهل يؤم الناس في الجمع والجماعات،
ويتولى ترتيب عدد من حلقات تحفيظ القرآن الكريم والدروس والمحاضرات للرجال
والنساء والأطفال، وكذلك يقوم بجولات دعوية في القرى المجاورة انطلاقاً من
المسجد ويرعى بعض الشؤون الاجتماعية لأهالي منطقة المسجد.. ويتولى أقرب
مكتب للمنتدى متابعة الداعية من خلال المشرفين المسؤولين.
ولأجل إيصال مساهمات المسلمين إلى هدفها المأمول فإنه يحرص عند بناء
المسجد على تحقيق عدة أمور، منها:
1- اختيار الموقع المناسب بواسطة لجنة المساجد في فرع المنتدى في تلك
الدولة، ويراعى في الموقع ما يلي:
توسط موقعه بين بيوت المسلمين بحيث يستفيد منه عدد كبير من المصلين.
ألا يكون قريباً من مسجد آخر يسهل الوصول إليه.
ألا يكون لأهل البدع يد على المسجد.
أن تكون الأرض وقفية، أو يتم التنازل عنها، وتسجل رسمياً باسم المنتدى
الإسلامي في غالب الأحيان.. ولا تشترى الأرض إلا عند الضرورة القصوى.
2- يتم الاتفاق مع مقاول يتولى التنفيذ، وتصرف له التكلفة حسب مراحل
البناء، وتقوم لجنة المساجد في المنتدى بالإشراف ومتابعة التنفيذ.
3- تضاف أحياناً حسب الحاجة والإمكانات بعض الملحقات، مثل: دورات
المياه، بئر، مكتبة، مسكن للإمام، غرفة (خلوة) لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال أو
النساء، مصلى للنساء.
ولقد بلغ إجمالي عدد المساجد التي بناها المنتدى حتى الآن 368 مسجداً،
أنشأ منها (49) مسجداً خلال العام الماضي وحده، كانت على النحو الآتي:
في بنغلاديش (15) مسجداً، وفي مالي (6) مساجد، إثيوبيا (5) مساجد،
كينيا (5) مساجد، توجو مسجدان، وفي كل من نيجيريا والصومال مسجد واحد.
وفي خطوة لمد يد التعاون بين المنتدى الإسلامي وبعض الجمعيات الإسلامية
الموثوقة وذات المنهج الصحيح في الدول التي ليس للمنتدى فيها مكتب فرعي بنى
المنتدى الإسلامي بالتعاون مع تلك الجمعيات:
(5) مساجد في السودان، (5) مساجد في الهند، (3) مساجد في موريتانيا،
مسجداً واحداً في إندونيسيا.
* ومن أبرز تلك المساجد التي افتتحت مؤخراً:
1- مسجد عمر بن الخطاب في دولة نيجيريا، وتبلغ أبعاده (18م × 15م)
وهو يقع بجوار جامعة أحمد بيلو الإسلامية، وقد ساهم في خدمة مرتادي الجامعة
من طلاب وموظفين، كما استفاد منه سكان الأحياء المجاورة للجامعة.
2- مسجد عمر بن عبد العزيز في دولة بنغلاديش، بُني على أبعاد
(18م × 12م) ويتبع المسجد بعض المرافق (بئر ارتوازي دورات مياه سكن للإمام) . كما يقع بالقرب منه بعض المدارس الدينية، آملين أن يسهم هذا المسجد في إكمال رسالتها التربوية.
3- مسجد الشيخ عبد الرحمن السعدي في إثيوبيا، تبلغ أبعاده (12 م × 12م) ، وقد ساهم المسجد بحمد الله في سد حاجة المسلمين في المنطقة التي بُني فيها.
4- مسجد الهدى في إندونيسيا، تبلغ أبعاده (16 م × 16 م) ويضم المرافق
الآتية: بئراً دورات مياه سكناً لإمام المسجد ساحة خارجية لإقامة الأنشطة العامة.
تعيين الدعاة
يحرص المنتدى الإسلامي على اختيار دعاته وفق أسس ومعايير محددة، بما
يخدم الأهداف التي يسعى لتحقيقها، وأهم هذه الأسس:
1-سلامة المنهج معتقداً وسلوكاً. 2 الكفاءة العلمية والشرعية. 3 الكفاءة
الدعوية.
ويتم معرفة ذلك من خلال عقد امتحان تحريري وشفهي للمتقدم، بعد التعرف
على سيرته وأخلاقه.
وضماناً للمحافظة على مستوى الدعاة والارتقاء به: فقد أعد المنتدى
الإسلامي بفضل الله تعالى منهجاً شاملاً لكافة أبواب العلم، يلتزم الدعاة بدراسته
وإتقانه، كما هيأ لهم دورات مكثفة لرفع قدراتهم العلمية والدعوية، وفي نهاية كل
دورة يعقد امتحان تحريري وشفهي لقياس التحصيل العلمي لكل داعية ومدى جديته
في طلب العلم.
وقد استطاع المنتدى بفضل الله تعالى كفالة (493) داعية في العام الماضي
وفق هذه الأسس.
إطعام الطعام:
تحقيقاً لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من فطَّر صائماً كُتب له
مثل أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء..) [أخرجه السبعة] ، حرص
المنتدى الإسلامي أن يكون من مصارفه: إفطار الصائمين خلال شهر رمضان
سنوياً، ويصاحب هذا الإفطار دروس تعليمية وتربوية ووعظية للرجال والنساء،
يقوم بها دعاة المنتدى الإسلامي، وبلغت في العام الماضي (8421) برنامجاً دعوياً، استفاد منها قرابة (629982) شخصاً، وقد أعدت اللجنة العلمية بالمنتدى سلسلة
من الدروس العقدية والفقهية والتربوية تعتبر مرجعاً للدعاة في دروسهم.
وقد بلغ عدد الوجبات في العام الماضي وحده (596082) وجبة، استفاد منها
(721948) صائماً في (13) دولة، ومن خيرات هذا المشروع: إسلام (298)
شخصاً، استفادوا من الدروس الدعوية المصاحبة لبرامج إفطار الصائمين والبيئة
المؤثرة المصاحبة للإفطار ولله الحمد والمنة.
كما قام المنتدى بتنظيم مشروع ذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء
والمحتاجين المسلمين في أكثر من دولة، وبلغ عدد أضاحي العام الماضي (2016)
أضحية استفاد منها حوالي (55516) شخصاً.
وفي الجدول المقابل تفصيل لعدد وجبات الإفطار والأضاحي وعدد المستفيدين
من كل منهما:
----------------------------------------------------------
... ... ... ... ... عدد ... ... عدد ... ... عدد ... ... عدد
... الدولة ... وجبات الإفطار ... المستفيدين ... الأضاحي ... المستفيدين
---------------------------------------------- ------------
... بنجلاديش ... 181654 ... 200000 ... 43 6450
... كينيا ... ... 137161 ... 210997 ... 905 22625
... غانا ... ... 81643 ... 81643 ... 11 350
... نيجيريا ... 64618 ... 74518 80 2314
... جيبوتي ... 4000 ... 40000 ... ... 0 ... ... 0
... مالي ... ... 35877 ... 45000 ... 110 2750
... إثيوبيا ... ... 17200 ... 17200 469 11725
... أوغندا ... ... 12384 ... 24700 ... 75 1700
... الصومال ... 9294 ... ... 9294 250 7000
... بنين ... ... 7900 ... 8370 0 ... ... 0
... توجو ... ... 6591 ... 6591 0 ... ... 0
... تشاد ... ... 1260 ... 3135 73 ... 602
... بريطانيا ... ... 500 ... 500 ... 0 ... ... 0
---------------------------------------------- -----------
... المجموع ... 596082 ... 721984 ... 2016 55516
----------------------------------------------------------
وعند الحاجة تمتد يد بالعون!
عندما نطق البؤس والألم في وجوه إخوة لنا في أنحاء كثيرة من العالم
الإسلامي من جراء النكبات التي ألمت بهم، سارع المنتدى الإسلامي إلى مد يد
العون لذلك الشيخ العاجز، ومسح دمعة ذلك الطفل الوجل، وطمئنة تلك المرأة
الحيرى.
فعلى إثر الفيضانات التي اجتاحت دولة بنغلاديش نظم المنتدى مشروعاً إغاثياً
ضخماً لمساعدة المتضررين من تلك الفيضانات.
كما نظم المنتدى برنامجاً إغاثياً في الصومال عندما غطت المياه مناطق
شاسعة وحاصر الماء آلاف الضعفاء.
ولم ينس المنتدى بتوفيق من الله محنة السودان فدعم برامج إغاثية
للمتضررين من الفيضانات هناك، ويساهم المنتدى في هذه الآونة في برامج إغاثية
لمساعدة المتضررين من مجاعة جنوب غرب السودان التي تبلغ نسبة المسلمين فيهم
85% 90%.
وتشمل برامج الإغاثة عادة توزيع الخيام والأطعمة والكساء والأدوية، ويتم
استثمار هذه المواقف دعويّاً بتذكير الناس بالله عز وجل وتصحيح المعتقدات
الخاطئة من خلال الدعاة المصاحبين والمنفذين لتلك البرامج، ومن خلال إهداء
الكتيبات الصغيرة والنشرات باللغات المحلية.
وبلغ إجمالي المبالغ التي قدمها المنتدى الإسلامي لصالح هذه البرامج الإغاثية
خلال العام الماضي وحده (200000) دولار.
في كل ذات كبد رطبة أجر
يعد مشروع حفر بئر من أكثر المشروعات التي يقبل عليها أهل الخير، نظراً
لكونها من (الصدقة الجارية) ، وأيضاً لحصول الأجر إن شاء الله تعالى حتى ولو
كان المستفيد منها حيواناً يروي ظمأه.
وقد وقع هذا الإقبال على حاجة ملحة في كثير من بلاد المسلمين، حيث
تعاني كثير منها من الجفاف والتصحر.. وإضافة إلى هذا الهدف الجوهري فإن
المنتدى يعتبر حفر بئر من أكبر العوامل لتأليف القلوب، كما إنه يُعد مركزاً لتجمع
كثير ممن يقصدونه، ويحرص المنتدى على أن يكون المتابع لتشغيل البئر أحد
الدعاة.
ولذا: كان حفر الآبار أحد أهم المشاريع الإغاثية في المنتدى الإسلامي، ويعد
مشروع (عيون الحياة) لحفر الآبار الارتوازية في السودان من أبرز المشاريع
القائمة حالياً، وقد بلغ عدد الآبار المحفورة لهذا المشروع حتى الآن (79) بئراً،
أما الآبار التي قام المنتدى الإسلامي بحفرها في دول أخرى، فبلغت (325) بئراً،
منها (59) بئراً ارتوازياّ، و (266) بئراً سطحياً، في (14) دولة، ليكون مجموع
الآبار (404) في (15) دولة.
وإضافة إلى مشاريع الآبار أقام المنتدى منذ حوالي ثلاثة أشهر مشروع
سلسبيل للسقيا في منطقة شرقي السودان، وهي منطقة تعاني من جفاف شديد.
وهو مشروع قائم على نقل المياه من مصادرها بخزانات مياه كبيرة متنقلة،
وتوزيعها على خزانات مياه أصغر ثابتة في أماكن التجمعات البشرية المحتاجة،
ويبلغ عدد الخزانات الكبيرة المتنقلة حتى الآن: (خزانين) محملين على سيارتي
نقل، وأما نقاط التوزيع الثابتة فهي سبع خزانات، وقد استفاد من هذا المشروع
بحمد الله حوالي (30000) شخص.
كافل اليتيم
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة
هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً) (متفق عليه) .
كفالة المسلمين لأيتامهم إضافة إلى كونها واجباً شرعيّاً وإنسانيّاً فإنها أيضاً
تشكل حصناً ضد وقوع هذا اليتيم في براثن المنظمات التنصيرية والتغريبية.
ومع إدراك القائمين على هذا المشروع بأنهم مهما قدموا لليتيم من مساعدة
ودعم فلن يعوضوه الحنان والعطف والرعاية التي فقدها بفقد أحد والديه أو كليهما.. فإنهم لا يستقلون إدخال البهجة والسرور والرعاية الاجتماعية والتعليمية على
اليتيم وأسرته من خلال هذا المشروع، وهذا ما يلحظونه في عيون هذه الأسر.
وقد استطاع المنتدى بفضل الله تعالى كفالة (254) يتيم في العام الماضي
وحده، شاملة الغذاء والكساء والتعليم، تفصيلهم الآتي:
-------------------------------------------
... ... الدولة ... ... ... عدد الأيتام
------------------------------------------
... ... غانا ... ... ... ... ... ... ... 75
... ... بنجلاديش ... ... ... ... ... 60
... ... كينيا ... ... ... ... ... 44
... ... توجو ... ... ... ... ... 41
... ... ... أوغندا ... ... ... ... 25
... ... ... مالي ... ... ... ... ... ... ... 8
... ... ... جيبوتي ... ... ... ... ... ... 1
... ... --------------------------------------------------------------------- ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... المجموع ... ... ... ... ... ... 254
------------------------------------------------------------------
كما يقوم المكتب بالتعاون مع بعض الجمعيات الخيرية الموثوقة في دعم
برامج كفالة الأيتام لدى هذه المؤسسات.
مخيمات مكافحة العمى
تم بحمد لله بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية العالمية إقامة ثلاثة مخيمات
لمكافحة العمى خلال العام الماضي وحده في كل من: مالي غانا نيجيريا؛ حيث
تقوم مؤسسة البصر بتوفير الطاقم الطبي والأدوية، ويقوم المنتدى الإسلامي
بالترتيبات الإدارية والنظامية مع الجهات المعنية، كما يقوم مكتب المنتدى كذلك في
الدولة المقام فيها المخيم بتنظيم برنامج دعوي يستمر طوال فترة إقامة المخيم.
ومتوسط فترة إقامة هذه المخيمات ما بين أسبوع إلى عشرة أيام يجري فيها
فحص آلاف المرضى وتجرى عمليات جراحية للمئات منهم، كما توزع فيها آلاف
النظارات وآلاف الأدوية.
ويعزم المنتدى بالتعاون كذلك مع مؤسسة البصر الخيرية على إقامة مخيمين
لمكافحة العمى في كل من أوغندا والصومال.(132/117)
في دائرة الضوء
القراءة.. مدى الحياة
د. عبد الكريم بكاد
إن فطر الله - جل وعلا - لبني الإنسان على التساؤل وحب الاستكشاف أتاح
لهم أن ينمّوا كينوناتهم المعرفية، وأن يندفعوا دائماً نحو معرفة المزيد دون أن
يجدوا أي حدود للتشبع أو الارتواء. كان العلم في القديم، يقوم على (النقل) ، فكان
التعلم والتعليم عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان، حيث يتمان وفق تتابع زمني،
وحين يموت العالم، فمن الممكن أن يذهب معه أفضل ما يعرف، وحين صار
للغات أبجديات، وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة، انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلى
حيز المكان، وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر مما هو متاح على أوسع
نطاق، وبذلك أمكن للناس أن يطوروا معارفهم على نحو مدهش، وصار للبشرية
بذلك تاريخ جديد.
إن هناك دواعي كثيرة، تفرض على الواحد منا أن يتعلم، ويقرأ، ويكتسب
الخبرات مدى الحياة، منها:
1- إن الذي يدعو الإنسان إلى مزيد من التعلم، هو العلم نفسه، إذ إنه كلما
زادت المعرفة، اتسعت منطقة المجهول، والتقدم نفسه يعمل على زيادة حاجة
الإنسان الشديدة إلى المعرفة، حيث إن التوغل في حقول المعرفة، يتيح إمكانات
ومجالات جديدة، ويولَّد دوافع جديدة للتقدم الأوسع نطاقاً. والمثقف الذي يرغب في
الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها، مطالب بأن يعيد تكوين ثقافته على نحو مستمر
ومتجدد، وعندما يشعر بالاكتفاء بما لديه من معلومات، سيضع نفسه على شفا
الانحطاط. وإذا كان متخصصاً فإن أمواج القفزات العلمية في تخصصه، ستقذف
به نحو الشاطئ، ليجد نفسه في النهاية خارج التخصص. الوضع الذهني للرجل
متوسط الثقافة - فضلاً عن الضعيف - يسف وينحط بسبب ما يحتشد من النظريات
والأفكار والمذاهب التي لم يعد بإمكانه المساهمة فيها، حتى لو أبدى اهتماماً بها.
إن جهلنا ينبسط مع تقدم المعرفة، كما ينبسط سطح التماس لكرة ما مع العالم
الخارجي عندما يكبر قطرها، وهذا يشكل تحدياً متزايداً لكل قارئ.
2- لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما
يحصلَّونه من علم، لكن الوضع قد تغير اليوم؛ حيث تتضاءل على نحو متصاعد
المهن والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الاضطلاع بها. وسوف تجد
الأمة التي لا يحسَّن أبناؤها مستوى معارفهم - على نحو مستمر- نفسها مؤهلة لأن
تكون تابعة للأمم الأخرى، ومستغلة لها على كل المستويات!
3- إن ما نمتلكه اليوم من معارف وخبرات، لا يتمتع بقيمة مطلقة؛ فسكان
الأرض يشكلون عالماً واحداً، وأهمية كل جزء من أجزاء هذا العالم، تنبع دائماً
من قدرته على الصمود والمنافسة وحل المشكلات، وما يمتلكه من وزن في
الساحات العالمية. وشيوع الأمية الأبجدية والحضارية، قد جلب على أمة الإسلام
مشكلات هي أكبر مما نظن؛ وليس ذلك على صعيد المعيشة والإنتاج فحسب؛
وإنما على صعيد فهم الإسلام أيضاً؛ فالإسلام بما أنه بنية حضارية راقية، لا
يتجلى على نحو كامل إلا عبر تجربة معرفية وحضارية رائدة؛ مما يعني أن
التخلف الذي نعاني منه قد حال بيننا وبين رؤية المنهج الرباني على النحو المطلوب.
4- إن العقل البشري، يميل دائما إلى تكوين عادات ورسم أطر لعمله، وهي
مع مرور الوقت، تشكل نوعاً من البرمجة له؛ والبيئة - بكل أنواعها - هي التي
توفر مادة تلك البرمجة. وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة، وكانت مصادر معرفته
محدودة، ضاقت مساحة تصوراته، وأصبح شديد المحلية في نماذجه ورؤاه،
عاجزاً عن تجاوز المعطيات الخاطئة التي تشربها من مجتمعه. والقراءة الواسعة،
والاطلاع المتنوع هو الذي يعظم الوعي لديه من خلال المقارنة وامتداد مساحات
الرؤية، وقد كان علماء السلف، لا يثقون بعلم العالم الذي لم يرحل، ولم يغبِّر
قدميه في طلب العلم، إدراكاً منهم لمخاطر البرمجة الثقافية القائمة على معطيات
محلية محدودة.
5- التدفق الهائل للمعلومات، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع
مستمر؛ والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات. وتفيد
بعض التقديرات أن نحواً من 90 % من جميع (المعارف العلمية) قد تم استحداثه
في العقود الثلاثة الأخيرة. وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال نحو من 12 سنة. ويقول أحد الباحثين: إن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحواً
من 10 - 20 % من معلوماته قد شاخ، وعليه أن يجدده. ويرى أحد الباحثين أن
أعراض الشيخوخة تعتري المعلومات بنسبة 10 % في اليوم بالنسبة إلى الجرائد،
و10 % في السنة بالنسبة إلى المجلات، و10 % في السنة بالنسبة إلى الكتب.
6- إن تقادم المعلومات يتجلى في صور شتى، فتارة في ظهور زيفها أو عدم
دقتها، وتارة يتجلى في عدم ملاءمتها للخطط الجديدة، وأحياناً بتحوّل الاهتمام عنها، لأنها لم تعد ذات قيمة في البناء المعرفي، وأحياناً بقراءتها قراءة جديدة، أي:
إنتاجها مرة أخرى على نحو يبعدها عن مضامينها الأولى ...
والعلاج لذلك كله دوام الاطلاع والمتابعة، حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة، وحتى لا نغرق في الضلالات والأوهام التي تنتشر باعتبارها مفرزات جانبية
للتقدم العلمي.
القراءة ومصادر المعلومات الأخرى:
عصرنا عصر انفجار المعرفة، فالأعداد الهائلة من العلماء الذين يشتغلون
بالبحث العلمي، والوسائل المتطورة في حفظ المعلومات ونقلها وبثها، والتواصل
الكوني الفريد والمتزايد، كل ذلك جعل الناس مغمورين بالأخبار والمعلومات
والمفاهيم التي ترد إليهم كل لحظة من شتى أصقاع الأرض. هذه الوضعية حملت
الناس على طرح سؤال حول ما تبقى من وظيفة للقراءة والكتاب، كما حملت كثيراً
من المثقفين على الجهر بمر الشكوى من هجر الكتاب، والافتتان بما تعرضه
وسائل الإعلام المختلفة من برامج ومواد ثقافية متنوعة. والحقيقة أن لتلك الشكوى
ما يسوغها، إذ إن هناك مؤشرات واضحة إلى إعراض الناس عن القراءة واقتناء
الكتاب، والى إقبالهم على قضاء أوقات طويلة أمام الوسائل الإعلامية المختلفة.
ويكفي أن نعلم أن متوسط ما يطبع من معظم الكتب في البلاد العربية لا يتجاوز
ثلاثة آلاف نسخة للكتاب الواحد.
وهذا العدد المحدود لا ينفد في الغالب في أقل من ثلاث سنوات عادة، على
حين تتجاوز أرقام التوزيع في الدول المتقدمة ذلك بكثير، بما لا يدع أي مجال
للمقارنة!
إن وسائل الإعلام تقدم برامج على درجة عالية من الزخرفة والإتقان؛ مما
يعطيها جاذبية عالية. فاذا أضفنا إلى ذلك انعدام البواعث على القراءة وانعدام
التقاليد الثقافية المحبذة لاقتناء الكتاب واصطحابه - أدركنا وضعية القراءة في عالمنا
الإسلامي!
إن وسائل الإعلام تقدم معلومات متشظية، قلما تتصل بالحاجة المعرفية
الحقيقية للمتابع لها، كما أن المعروف أن المعلومات الكثيفة حول أي شيء قد تقف
حائلاً دون فهمه على الوجه الصحيح، تماماً مثل الحقائق والمعلومات القليلة عنه؟
فللعقل طاقة محدودة على التحليل والتصنيف والغربلة لما يرد عليه، وحين يزيد
على طاقته، فإنه يربكه ويشتته.
من وجه آخر فإن وسائل الإعلام الحديثة، قد سببت أضراراً بالغة للشعور
بالحاجة إلى التفكير، فكتَّابها ومعدُّو برامجها قاموا بذلك نيابة عن المتلقين. إن
مشاهد (التلفاز) ومستمع الإذاعة وقارئ المجلة أو الجريدة.. يتلقى مركَّباً كاملاً من
البيانات والإحصاءات المنتقاة بعناية، والمصوغة بأسلوب بلاغي بارع، مما
يدهش القارئ، ويدفعه إلى نوع من الاستسلام لها، والانقياد إلى توجهاتها دون
القيام ببذل أي جهد شخصي؛ وهذا كله مغاير لمتطلبات التطور العلمي والاجتماعي
الحديث، والذي يتطلب منا القدرة على الإبداع، وترشيد المحاكمة العقلية أكثر من
الانشغال باستيعاب بعض مفردات المعرفة واستظهارها. هذا كله لا يجعلنا ننكر أن
الدفق الإعلامي والمعلوماتي الهائل، قد أوجد نوعاً من الاستنارة العامة، ورفع
درجة الوعي لدى الناس، كما أنه ملكهم الكثير من المعلومات العامة.
إن الهامش الذي يفصل بين التسلية وبين التثقيف الحق هامش ضيِّق، ومن
السهل أن يكون ما نستمع إليه ونشاهده ضرباً من ضروب التسلية، وتزجية الوقت، ونحن نظن أننا نتعلم. واعتقد أن الكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف
الجيد، حيث نستطيع أن نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه، وهو لا
يحتاج إلى آلات مساعدة للاطلاع عليه، كما أنه رخيص الثمن إذا ما قورن بغيره.
ولست مع هذا أميل إلى التقليل من شأن مصادر المعلومات الأخرى؛ فالمهم دائماً
أن تكون أهدافنا في التثقيف والارتقاء المعرفي واضحة، ثم نبحث عن الأدوات
والوسائل التي تبلغنا إياها.
والله ولي التوفيق،،،(132/132)
الورقة الأخيرة
حلم.. فهل أنت فارسه؟
بقلم: إبراهيم بن سليمان الحيدري
إن زئير المنابر وأنين الأقلام لم يعد يجدي وحده لتحذير الناس من خطر
الغزو الفضائي الذي تسللت جنوده إلى أغلب المنازل والبيوت. ورضينا أم أبينا
فإن تلك الأطباق التي تطل من أعلى المنازل في ازدياد يوماً بعد آخر في ظل قلة
الوازع الديني واضطراب الرادع الموضوعي.
وها نحن نرى أعراض ذلكم المرض يطفح على أبناء أمتنا الإسلامية نساءً
ورجالاً ... حتى إن المراقب لسلوك شرائح كثيرة من أفراد المجتمع يكاد يجزم
بمسخ هويتها الإسلامية في قطاع كبير من الأمة إن ظل الحال على ما هو عليه
الآن.
ولم يعد اقتناء القرص الفضائي عند بعض الناس في هذا الوقت عيباً كما كان
في السابق؛ بل أصبح عند بعضهم من ضروريات الحياة بحجج واهية وأخرى
هاوية! وكعادة المسلمين في العصور الأخيرة نومهم ثقيل ويقظتهم متأخرة.. وإن
كانت هناك صرخات صادقة تعلو من المصلحين هنا وهناك محذرة ومبينة أثر هذا
الموج الفضائي الهادر ... إلا أنه وللأسف نحن في وقت العمل لا الكلام. وعمل
دعوي صغير منظم أبلغ وأنفع من عشرات الخطب والمقالات العاطفية.
لذا فقد حان الآن أن نفكر بجد في مواجهة تلك القنوات الفضائية بوسيلة أخرى
غير تلك التي تشعل في القلوب شمعة تنطفئ عند أول رعشة هدب أو ابتسامة
صفراء. لقد آن الوقت لنفكر في إنشاء قناة فضائية يتجسد فيها عمل إسلامي دعوي
يقف وجهاً لوجه أمام قنوات دعاة الإلحاد وهواة الجسد واللاهثين وراء الأموال.
ومع عظم هذا العمل وضخامته إلا أنه ليس مستحيلاً.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ومع أن أمتنا الإسلامية المجروحة تعيش في حالة تستدعي العناية المركزة إلا
أنه يوجد مِن أبنائها مَنْ تنبض قلوبهم غيرة ... وتضخ نشاطاً.
وجولة.. ثم عودة ... في تاريخ الأعمال الدعوية الشامخة التي كانت في يوم
من الأيام حلماً يساور خيال الغيورين.. يبعث في القلب حماساً لإنقاذ الأمة المنكوبة.
لذا فهي دعوة يسبقها أمل ورجاء إلى الدعاة الإعلاميين وغيرهم ممن أضاءت
قلوبهم بنور الإيمان، دعوة لإنشاء قناة فضائية إسلامية تطرح منهج أهل السنة
والجماعة بنور من كتاب الله وسنة نبيه، تخاطب الملايين من العقول المتسمرة
وراء الشاشات.. وتصحح من خلالها مفهوم الإسلام المشوه، وتعرّف المسلمين
بإخوانهم وبعلمائهم بأسلوب إعلامي جذاب. وبين يدي هذه الدعوة أطرح النقاط
الآتية:
* مثل هذا العمل يحتاج بلا شك إلى دعم مادي، ولكن المال لم يكن أبداً عائقاً
أمام الأعمال النافعة؛ حيث إن الأمة تحتضن من أصحاب الأموال والثروات من
يسابقون في الخيرات.
* وجوب قيام جهة إشرافية شرعية دقيقة تُعرَض عليها أفكار وبرامج هذه
القناة قبل عرضها أمام المشاهدين حتى لا ندخل في متاهات محرجة قد تسيء لسمعة
هذا المشروع.
* قد نواجه صعوبة في إيجاد وتوفير مختصين إعلاميين يحملون همّ الدعوة،
لكن ليس شرطاً أن يكون جميع المنفذين والمنتجين للبرامج من الدعاة، بل لماذا لا
نستفيد من خبرات وكفاءات من يعملون للمال وللمال وحده، ولو كانوا من غير
المسلمين.. مع ضرورة وجود الجهة الإشرافية الشرعية السالفة الذكر.
* من الأفضل أن تكون هذه القناة تحت مظلة مؤسسة دعوية معروفة
ومعروف رجالها حتى يتم الدعم المنهجي والمادي لها.
* من غير الطبيعي أن نتوقع عملاً بهذا الحجم لن يواجه عقبات وعوائق؛
ولكن التخطيط، والدراسة المسبقة، والتأني في الخُطا، وقبل ذلك إخلاص النوايا
وطلب التوفيق من الله الكريم، كفيلة بإذن الله بإخراج هذا العمل إلى النور
واستمراريته.
ختاماً: أعرف يقيناً أن ما سطرته لا يعدو أن يكون أنين قلم؛ ولكن أن
تغمض أعيننا ونحن ننتظر الصباح خير ألف مرة من أن ننام ملء جفوننا فلا
نستيقظ إلا تحت لهيب الشمس [*] .
__________
(*) هذه كلمة لأخينا الكاتب قبل فتح قناة (اقرأ) ، وهي كما نشر مشروع إسلامي نأمل أن يكون كما قيل عنه وأن تؤدي هذه القناة رسالتها الإعلامية على الوجه المطلوب، ونحسب أن الساحة بحاجة إلى أكثر من محطة إسلامية بل محطات لتؤدي أدوارها المأمولة في خضم البث المباشر الذي يهدم أكثر مما يبني والله المستعان ... ... ... ... ... ... ... - البيان-.(132/135)
رمضان - 1419هـ
يناير - 1999م
(السنة: 13)(133/)
كلمة صغيرة
من القلب
كم يسعدنا عندما تصل إلينا مقالة من أحد الكتاب الفضلاء، وكم يؤسفنا أننا
قد نتأخر في نشرها؛ فالكاتب الفاضل بذل جهده في إعدادها، وحرص على
تحريرها وتنقيحها، وكان يتمنى أن يرى ثمرة فكره تصل إلى قراء المجلة في كل
مكان، في أسرع وقت ممكن، ولكنه يفاجأ بتأجيل نشر مقالته لعدة أشهر مما قد
يصيبه بالإحباط أو تراوده نفسه باتهامنا بعدم المبالاة.
ونحن نؤكد لأعزائنا الكرام بأنّنا لا نقصد شيئاً من ذلك على الإطلاق، ولا
نتعمد إهمال أي رسالة تأتينا، ولكن لا يخفى على المتابع اللبيب أنّ المجلّة الشهرية
تختلف عن غيرها من المجلات الأخرى، خاصة أنّ عدد الصفحات محدود، ويأتي
إلى المجلة عدد كبير من المقالات العلمية والفكرية؛ فيصعب نشرها بالسرعة
المرجوة، خاصة أن هيئة التحرير تحرص على تنوع المادة واستيفائها لكافة
الأبواب الشرعية والفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية.. ونحوها، ممّّا قد
يضطرنا أحياناً إلى تقديم المقالة أو تأخيرها لعدة أشهر، ونحسب أن قلوب كتابنا
الأحباب تتسع لأعذارنا وتقدير موقفنا.
والله نسأل أن يرزقنا جميعاً الإخلاص في القول والعمل، وأن يهدينا إلى ما
يحبه ويرضاه.(133/1)
الافتتاحية
رمضان واستقبال المودّعين
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن والاه وبعد:
فلا شك أن الإنسان إذا عمل عملاً، أو زار مكاناً، أو اجتمع إلى شخص،
واستشعر أثناء ذلك أنه لن يعود إليه مرة أخرى، فإن هذا الشعور يضاعف في
نفسه شعوراً آخر بضرورة اغتنام تلك الفرصة التي قد لا تتكرر؛ ولهذا فإن
الصحابة رضوان الله عليهم لما استمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى
موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قالوا: (كأنها موعظة
مودع) [1] ، ولهذا أيضاً فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حج حجة (الوداع) جمع لأمته فيها من النصيحة في كلمات، ما تفرق خلال دعوته في سنوات؛ ومن هنا أيضاً ندرك السر في نصيحته لأحد أصحابه عندما قال له: (إذا قمتَ في صلاتك فصلّ صلاة مودع) [2] .
تعالوا نتصور ... رجلاً مخلصاً يصلي ركعات يعلم أنه يودع بها الدنيا..
كيف ستكون في تمامها.. في خشوعها ... في شدة إخلاصها وصدق دعائها؟ !
إن الرسول يعلمنا بهذا الهدي والله أعلم كيف نتخلص من آفة تحوّل العبادة
إلى عادة.
فلماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها ... خاصة وأننا إلى وداع في
كل حال..؟ وخاصة أن صلاتنا ليست مهددة وحدها بالتحول من عبادة إلى عادة؟
إن رمضان يحل علينا ضيفاً مضيافاً، يكرمنا إذا أكرمناه، فتحل بحلوله
البركات والخيرات، يُقدم علينا، فيقدّم هو إلينا أصنافاً من الإتحافات والنفحات..
ضيف لكنه مضيف، وربما يكون الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة..!
أو ربما ينزل هو في ضيافة غيرنا بعد أعمار قصيرة.. فهلاّ أكرمنا ضيفنا!
وهلاّ تعرضنا لنفحات مضيفنا!
تصور أخي القارئ أنك تستقبل ضيفاً عزيزاً، وهو يستضيفك، وتعلم أنك
بعد أيام قلائل ستودعه فلا تراه أبداً..! كيف ستستقبله؟ وكيف ستحسن صحبته،
وتكرم مثواه؟
تعال معنا أيها القارئ الحبيب نستحضر أحاسيس الوداع، لعلنا ندع بها دَعة
تتلف أيامنا، وعدة من الأماني تضعف إيماننا. تعال نخص هذا الشهر الكريم بمزيد
اعتناء وكأننا نصومه صيام مودع!
تعال نقف مع أنفسنا هذه الوقفات لإخراج صيامنا من إلْف العادة إلى روح
العبادة:
* نصوم رمضان في كل عام وهمّ أكثرنا أن يبرئ الذمة ويؤدي الفريضة..
فليكن همنا لهذا العام تحقيق نعم تحقيق معنى صومه (إيماناً واحتساباً) ليغفر لنا ما
تقدم من ذنوبنا.. وهي كثيرة.
* نحرص كل عام على ختم القرآن في شهر القرآن مرات عديدة.. فلتكن
إحدى ختمات هذا العام ختمة بتدبر وتأمل ونية إقامة حدوده قبل سرد حروفه.
* نسعى في تنقلنا بين المساجد للقيام إلى اختيار الصوت الأجمل.. فليكن
سعينا العام وراء الصلاة الأكمل.
* يتزايد حرصنا في أوائل الشهر على عدم تضييع الجماعة مع الإمام..
فليكن حرصنا هذا العام طوال الشهر على عدم تفويت تكبيرة الإحرام.
* نخص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا،
فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الأرواح والأنفس.
* إذا أدخلنا السرور على أسرنا بهذا وذاك فلنوسع الدائرة هذا العام فندخل
السرور على أُسَرٍ أخرى.. أَسَرتها الحاجة وكبّلَتها الأعباء.
* نتصدق كل عام بقصد مساعدة المحتاجين، فلنجعل قصدنا لهذا العام
مساعدة أنفسنا التي بين أضلعنا على التخلص من نار الخطيئة بجعل تلك الصدقة
خالصة لتطفئ غضب الرب.
* نحرص على العمرة في رمضان لفضلها.. فلنجعلها لعمرنا كله هذا العام
إذا أذن الله نغسل بها ما مضى ... فقد يكون آخر العهد بالبيت ذاك الطواف.
* نحرص وإياك على اكتساب العمل النافع في رمضان، فليكن هذا النفع
متعدياً للغير بكتاب يُهدى أو نصيحة تُسدى.
* لنفسك من دعائك النصيب الأوفى، فلتتخل عن هذا (البخل) في شهر الكرم، فملايين المسلمين في حاجة إلى نصيب من دعائك الذي تُؤَمّن عليه الملائكة وتقول: ولك بمثله.
* الجود محمود في رمضان وأنت أهله ببذل القليل والكثير، فليمتد جودك
إلى الإحسان لمن أساء، وصلة من قطع.
* لنكف عن الاعتكاف إلى الناس، ولْنكتف بالعكوف مع النفس لمحاسبتها؛
فربما يفجأنا الموت فنحاسَب داخل القبر قبل أن نتمكن من محاسبة أنفسنا ونحن
أحياء على ما فرطنا في جنب الله.
* نحب التعبّد بتفطير الصائمين، فلنجرد هذه العبادة من حب المحمدة أو دفع
المذمة، فذلك رياء لا يثيب صاحبه بل يصيب مقاتله.
* تفطير الصائمين من جوعة البطن مستحب مندوب، ولكن إشباع جياع
القلوب فرض مطلوب، فليكن لنا جهد في هذا مع جهدنا في ذلك.
* تصفّ قدميك مع مصلين لا تعرفهم ... فهلاّ تعرفت على ما يوحّد قلبك
معهم ويضم صفك إليهم، فإن تسوية الصفوف خلف الإمام ما جُعلت إلا لتوحيد
القلوب على الإيمان.
* لنا ولك أعداء، فانتصر عليهم بالدعاء إن كانوا كافرين، وانتصف منهم
بالدعاء إن كانوا مسلمين، فكم من دعاء حوّل العداء إلى ولاء.
* في رمضان، يذكرك الضعفاء بأنفسهم على نواصي الطرق وأبواب
المساجد، فلتذكر أنت المستضعفين من المسلمين الذين لا سبيل لهم إليك ليذكّروك
بأنفسهم.
* يتوارد على سمعك في كل عام ما يعرّفك بقدر رمضان، فاجعل همّ هذا
العام أن تتعامل مع رمضان بمقدار قدره.
* قدر رمضان يتضاعف في ليلة القدر، فهل قدّرت في نفسك أنها ربما فاتتك
في أعوام خالية؟ ! اغتنمها اليوم فقد لا تأتي بها ليالٍ تالية.
* إذا ودّعت رمضان.. أو ودّعك رمضان.. فاستحفظه ربك، واستودعه ما
عملت فيه.. حتى لا يضيع، فلا تدري، لعلك لا تلقاه بعد عامك هذا. .
* إذا لقيته في عام قابل بّلغنا الله وإياك شهوره فعد مرة أخرى واستقبله
استقبال المودعّين.
هذه خطرات على أبواب هذا الموسم العظيم فهلاّ عقدنا العزم على أن يكون
بداية جديدة ومخلصة للعودة الصادقة إلى الله.
فاللهم بارك لنا في رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقاء
النيران. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم (16) وابن ماجه في المقدمة (6) والدارمي في المقدمة (16) .
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (15) وأحمد في مسنده (412/5) .(133/4)
إشراقات قرآنية
ورضوان من الله أكبر
عبد العزيز مصطفى
كثيراً ما نسأل الله ما يرضينا بلسان حالنا أو مقالنا ولكنْ.. هناك سؤال أهم
ينبغي أن نسائل أنفسنا عنه، بل نحاكمها إليه وهو: هل نقوم بما يرضي الله تعالى
عنا من الأفعال والأقوال والأحوال؟ وهل رضينا قبل ذلك بما يرضي الله عنا..؟
ربما نخدع أنفسنا بالهروب من الإجابة، أو بالهروب من السؤال ذاته، ولكن
ما جدوى التهرب؟ !
إنه لا مفر من يوم يعاد فيه فحوى السؤال، ونعلم فيه حقيقة الإجابة؛ وذلك
عندما يُسأل الواحد منا في قبره عن ربه ودينه والرجل الذي بُعث إليه. فهذا سؤال
للمرء منا عمن رضيه رباً في العبادة، وما رضيه منهاجاً في الدين، ومن رضيه
أسوة وقدوة من الخلق. إنه في حقيقته سؤال عن الرضى، فمن كان راضياً بالله
تعالى حقاً في حياته، وراضياً بالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً؛ استطاع أن
يجيب وإن كان أمياً عامياً، ومن لم يحصّل في هذه الدنيا حقيقة الرضى بالله رباً
وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً فلن يستطيع الإجابة ولو كان عالماً عالمياً، ومن ثبت
على هذا الرضا في الدنيا ثبته الله عليه في الآخرة، أما من ظلم نفسه وزاغ أو ضل
عنه في الدنيا؛ فإن الله تعالى يضله عن الإجابة في الآخرة، كما قال تعالى:
[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] [ابراهيم: 27] قال الشيخ السعدي رحمه الله:
(يثبت عباده المؤمنين الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي، الذي يستلزم أعمال
الجوارح ويثمرها) [1] .
فلا بد لنا من ترويض النفس على تمام الرضا بهذه الثلاثة اعتقاداً وقولاً وفعلاً.
فالرضا بالله يتضمن الرضا بإلهيته، وهذا يعني الرضا بمحبته وحده، وخوفه
والإنابة إليه، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له. ورضا العبد بربوبية الله
يتضمن الرضا بتدبيره، وإفراده بالتوكل والاستعانة والثقة والاعتماد، والرضى
بكل ما يفعل، ويتضمن أيضاً أن يسخط العبد على عبادة غيره.
والرضا بنبيه: يتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون
أوْلى به من نفسه.
وأما الرضا بدينه: فإذا جاء الدين بأمر أو نهي أو حكم، رضي العبد كل
الرضا، ولم يبق في قلبه حرج، ولو كان مخالفاً لهوى نفسه أو من يقلدهم) [2] .
ومن جمع هذه الثلاثة جمع في قلبه إيماناً حياً حلواً، له طعم ومذاق. قال:
(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً) [3] .
ولا شك أن هذا التذوق لطعم الإيمان، يورث إلفاً وأنساً بالله ومَحَابّه، كما أنه
في الوقت نفسه، يورث غربة ووحشة ونفرة من كل ما يبعد عن الله ومَحَابّه.
ولاحتياج النفس إلى تجديد العهد بهذا الرضا؛ علّمنا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أن نردده مع كل نداء للصلاة، وهي أفضل ما يرضي الله من الأعمال، فقال: (من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد
رسولاً: غُفِرَتْ له ذنوبه) [4] .
ولا شك أن كمال الرضا لا يتم إلا برضى العبد عن قضاء الله وحكمه، سواء
كان هذا الحكم والقضاء في الشرع والدين، أو كان حكماً كونياً قدرياً، والأول
أعني الرضى بحكم الله وشرعه أمر واجب، بل هو شرط في الإيمان، كما قال الله
سبحانه: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] . قال ابن القيم رحمه
الله تعليقاً على هذه الآية: (الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس
الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضياً به بلا حرج ولا منازعة
ولا معارضة ولا اعتراض؛ فقد أقسم الله أنهم لا يؤمنون حتى يُحَكّموا رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حُكمه، وحتى يسلموا
لحكمه تسليماً، وهذه حقيقة الرضى بحكمه؛ فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء
الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان [5] . وأما النوع الثاني، وهو
الرضى بحكم الله وقضائه كوناً وقدراً، ففي حكْمِهِ تفصيل كما بين ذلك ابن القيم
رحمه الله فقد ذكر له أنواعاً ثلاثة: الأول: قضاء الله فيما يحبه الإنسان، والثاني:
قضاء الله فيما يخالف محبة العبد ومراده كالمرض والابتلاء والفقر. والثالث:
القضاء الجاري بما يكرهه الله شرعاً ولكنه يقضي بوجوده قدراً، كالأفعال والأقوال
والأحوال المحرمة. أما أحكامها فقد بينها بقوله: (الرضى بالقضاء الكوني القدري
الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذة أمر لازم
بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد محبوب له. فليس في الرضى به عبودية، بل
العبودية في مقابلته بالشكر وأن لا يعصي المنعم به، والرضا بالقضاء الكوني
القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته، ولا يدخل تحت اختياره مستحب،
وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان؛ وهذا كالمرض والفقر وأذى
الخلق له، ونحو ذلك. والرضى بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله
ويسخطه، وينهى عنه، كأنواع الظلم والفسوق والعصيان: حرام يعاقب عليه،
وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة
ورضى ما يسخطه الحبيب ويبغضه؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضى
بالقضاء) [6] .
وبهذا ترى أن الرضى يكون في القلب أصلاً ويعبر عنه اللسان، ثم تأتي
الأعمال لتكون برهاناً عن توجه القلب وصدق اللسان.
ولا بد لهذا الرضا من ترجمة عملية، تثبت صدق الإنسان في دعوى الرضا
بالله وبدينه ونبيه؛ فالأمر ليس مجرد زعم، أو شقشقة باللسان، ولهذا كان الرسول
يسأل الله تعالى أن يوفقه إلى العمل الذي يرضيه سبحانه فيقول: (أسألك من العمل
ما ترضى) [7] . وكان كليم الله موسى يسارع إلى ما يرضي الله من الأعمال
والأقوال والأحوال فيقول: [وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] [طه: 84] ، أما العبد
المنعم عليه بالملك والنبوة سليمان عليه السلام فكان لا يرى شكر تلك النعم إلا
بالعمل في رضى الله.. [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]
[النمل: 19] .
وهكذا كانت صفة جميع الأنبياء في كتاب الله: [إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي
الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] [الأنبياء: 90] .
وهكذا كانت صفة إمام الأنبياء أيضاً صلوات الله وسلامه عليه وصفة أصحابه
في الكتب الكبرى المنزلة، فهي تصف مسارعتهم للأعمال التي فيها رضوان الله
سبحانه كما قال عز وجل: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم
مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] [الفتح: 29] .
قال ابن كثير رحمه الله: وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير
الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل
الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم
ورضاه تعالى عنهم) [8] .
فهكذا اصطبغت حياة الصحابة وطريقتهم في الحياة والعبادة بطريقة النبي -
صلى الله عليه وسلم- ومنهاجه؛ فقد كانت حياته تدور حول إرضاء الله عز وجل
ولم يكن يرضى إلا برضاه سبحانه ويدعو بذلك فيقول: (وأرضنا وارضَ عنا) [9] ، وكان يحمد الله الحمد الذي يرضيه فيقول: (الحمد لك حتى ترضى) [10] ولعلمه
بأن البشر عاجزون عن إحصاء الثناء على الله؛ فقد كان يحمد الله على قدر ما
يرضاه فيقول: (الحمد لله رضا نفسه) [11] .
وقد حفل الهَدْي النبوي بالدلالة على ما فيه رضى الله عز وجل، فأرشد
الرسول أمته إلى الارتقاء صُعُداً إلى سلّم الرضا في كل شيء.
* ففي العقيدة بيّن لهم الأساس الذي يُرتضى به إيمان العبد واعتقاده، فقال:
(إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به
شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة
السؤال، وإضاعة المال) [12] .
* وفي العبادات العملية، بيّن أن حرص المؤمن لا بد أن يشمل روح العبادة
إضافة إلى صورتها؛ وهو حرص حريّ بأن يضم صاحبه إلى مصاف المرضيين:
فقال عن الصلاة: (الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو
الله) [13] . وقال عن الصيام: (قال ربكم عز وجل: عبدي ترك شهوته وطعامه وشرابه ابتغاء مرضاتي، والصوم لي وأنا أجزي به) [14] . وعن الذكر قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرِق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله) [15] .
وعن الجهاد قال: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، ...
وإن قبضته غفرت له ورحمته) [16] .
* وفي العبادات القلبية، بيّن الرسول، أن رضى الله يُجتلب بأحوال في
داخل القلب تعبر عن امتنان المؤمن لربه على السرّاء وإن قلّت، وتركه الجزع
على الضرّاء وإن عظمت. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليرضى عن العبد
يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) [17] وقال عليه الصلاة
والسلام عندما مات ولده إبراهيم: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما
يرضي ربنا؛ إنا بك يا إبراهيم لمحزونون) [18] .
* وفي المعاملات: دلّ الرسول على أن رضى الله تعالى يُدرك بكلمة حسنة
يلقيها المؤمن على أخيه المؤمن، فتدل على حسن أخلاقه ومعاملاته قال: (إن العبد
ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات) [19] .
وأوْلى الناس بحسن الكلام والمعاملة هم الوالدان، فرضى الأم والأب، يقترن
برضى الرب، قال: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط
الوالد) [20] .
جود الله وكرمه في إرضاء أوليائه:
ما يقابل الله تعالى وهو الجواد الكريم أن يقابل صنيع المقبلين على رضاه،
إلا بما يقر أعينهم من عظيم عطاياه؛ وأعظم عطائه سبحانه أن يحل عليهم
رضوانه، فيسكنهم دار الكرامة، ويقعدهم مقعد الصدق، ويهبهم الخلد في جنات
النعيم. ولقد جاءت نصوص الوحي مبشرة هؤلاء بالفوز، ومخبرة عن تلكم
المسارعة من الإله الأعلى لإرضاء أوليائه وأحبابه، بما يرضيهم، وفوق ما
يرضيهم.
ففي الحياة يرضى عنهم كما قال: [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: 22] .
* وعند الممات يرضيهم: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي] [الفجر: 27 30]
* ويوم البعث يرضيهم: [وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ] . [الغاشية: 8 10]
* وعند الحساب يرضيهم [فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ] [القارعة: 6، 7] .
وإذا كان القرآن قد أشار في هذه الآيات البينات إلى بُشريات عامة لأصناف
المؤمنين ترضية لهم، فإن هناك نصوصاً أخرى من الوحي كتاباً وسنة تدل على
بشارات خاصة لأصناف معينة، شاء الله سبحانه أن يجعلهم أعلاماً على المرضيّ
عنهم، وقد جاءتهم البشريات ولمّا يغادروا هذه الحياة الدنيا، وعلى رأس هؤلاء
المرضيين من الأمة: الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، لقد رضي الله عنهم،
وجعل الترضي عليهم شارة المؤمنين، وشعار أهل الدين.
قال سبحانه: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [التوبة: 100]
وقال: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] [الفتح: 18] .
أما معلمهم وهاديهم، وهادي الناس جميعاً إلى كل ما يحبه الله ويرضاه عليه
صلوات الله وسلامه فقد كان إكرام الله تعالى له فياضاً بالعطاء، وموصولاً إلى
منتهى الإرضاء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فقد أعلى شأنه، ورفع ذكره وقرن
اسمه باسمه حتى قال: [وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] [الشرح: 4] وأما في الآخرة فقال:
[وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى] [الضحى: 5] قال الشيخ السعدي: (وهذا أمر لا
يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة الجامعة الشاملة) [21] . وزيادة في رفعته أرضاه
بأن جعل الصلاة عليه موجبة لصلاة الله على العبد. كما جاء في الحديث القدسي:
(أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه) [22] ، بل أرضاه في كل
أمته كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (إنا سنرضيك في أمتك ولا
نسوؤك) [23] .
كل هذا وذاك من أصناف الرضا الإلهي عمن عملوا برضاه، ولا شك أن
منتهى أمل المؤمنين، أن ينجيهم الله من العذاب الشديد بالمغفرة، وأن يدخلهم بعد
ذلك جنة الرضوان تفضلاً منه ورحمة كما قال سبحانه: [وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ] [الحديد: 20] .
ولكن؛ هل هناك رضوان فوق الجنة..؟ ! لا تعجل في الإجابة فتقول: لا.. بل تمهل.. تذكر.. ثم اتل قول الله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ
مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] [التوبة: 72] .
نعم ... رضوان الله أكبر، أكبر من الجنة ونعيمها وأنهارها ومساكنها! قال
ابن كثير: (رضا الله عنهم أكبر وأجلّ وأعظم مما هم فيه من النعيم) .
وقد ورد بهذا المعنى الجميل في الآية، كلام جليل في الحديث؛ فعن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن
الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك،
فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من
خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من
ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) [24] .
فاللهم رضّنا وارضَ عنا.. (ارض عنا رضىً لا تسخط بعده) [25] ... آمين.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ السعدي (4/140) .
(2) راجع مدارج السالكين، لابن القيم (2/172) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (الإيمان /1) ح (56) .
(4) أخرجه مسلم في الصلاة (386) والنسائي في الأذان (679) والترمذي في الصلاة (210)
واللفظ له.
(5) مدارج السالكين (2/192) .
(6) المصدر نفسه (2/193) .
(7) أخرجه أحمد في مسنده (2/144، 150) .
(8) تفسير ابن كثير 4/206.
(9) أخرجه الترمذي في سننه (44/3173) وأحمد في مسنده (224) واللفظ له.
(10) أخرجه الترمذي في سننه (2/479) وابن ماجه (1384) .
(11) أخرجه مسلم في صحيحه (49/726) .
(12) أخرجه أحمد في مسنده (8134) ، 8501، 8581 وأخرجه مالك في الجامع 1863.
(13) أخرجه الترمذي في سننه (2/172) .
(14) أخرجه البخاري في الصوم 894، ومسلم في الصيام 1151 وأخرجه أحمد (8893) .
(15) أخرجه ابن ماجه (28/390) وأحمد في مسنده (5941) .
(16) أخرجه النسائي في سننه (25/7126) وأحمد في مسنده (5941) .
(17) أخرجه مسلم في صحيحه (49/734) والترمذي (1816) وأحمد (11562، 11758) .
(18) أخرجه البخاري في الجنائز (1303) ومسلم في الفضائل (2315) .
(19) أخرجه البخاري في صحيحه (61/6478) ومسلم (2988) .
(20) أخرجه الترمذي (24/1899) .
(21) تفسير السعدي 7/642.
(22) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (202) .
(23) أخرجه أحمد في مسنده (5928) والنسائي (13/1283) والدارمي (2773) .
(24) أخرجه مسلم في صحيحه (183، 829) والترمذي في سننه (2555) وأحمد في مسنده (11425) .
(25) أخرجه أحمد (3/337) .(133/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الاعتكاف وتربية الذات على اتباع الأسلاف
محمد بن يحيى اليحيى
لقد شرع الله لعباده كثيراً من الطاعات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب
لينشغل بعبادة الله تعالى وحده ... وإن من أجلّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو
المرء فيها بربه خاضعاً فيناجيه معترفاً، وينصرف بها عن الدنيا فتزكو نفسه
وتسمو ليصبح إنساناً ربانياً، إنها السّنّة التي حافظ الرسول عليها طوال حياته..
إنها سُنّة الاعتكاف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
يعتكف كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين
يوماً) [1] .
لقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم أن انشغاله بالدعوة والتربية
والتعليم والجهاد.. تاركاً لمن بعده ممن يقتفون أثره وينتهجون نهجه درساً عظيماً
في أهمية الانقطاع إلى الله عز وجل والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً من
كان صاحبها في الدعوة والعلم. ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة، لعل منها:
* زيادة الصلة الإيمانية بالله، والجوانب العبادية التي تزكي النفس وتجعل
المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا والعمل على استنقاذ الآخرين منها.
* أن الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بتحصيله ومن ثم
تعليمه؛ وهذا لأمرين مهمين:
1- أن العمل هو الثمرة والغاية الحقيقية للعلم؛ وبدونه قد يصبح العلم حجة
على صاحبه.
2- أن العقلاء يرفضون أن يُعلّم المرءُ الناسَ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو
عن ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل
الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) [2] .
* أن سنة الاعتكاف فرصة كبرى للدعاة والمربين من جهتين:
1- تحقيق الحكمتين الأوليتين من سداد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم
بالخلْق، وزيادة صلتهم بالخالق.
2- استغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي وغيرهما عند هؤلاء
المدعوين والمتربين إلى مراتب أسمى.
فهذه بعض الحكم الظاهرة التي يمكن أن يستفيد منها أهل النظر لتصبح مسار
كثير من شباب الصحوة خلال أيام قلائل.. موجّهين كانوا أو موَجّهين ممن يُرتضى
دينه وخُلقه وعقله.
إن من أهم أسباب طرح موضوع الاعتكاف من الجهة التي سيراها القارئ
الكريم، ثلاثة أمور رئيسة:
الأول: حالة الضعف العام في همة الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية
والسلوكية كما سيأتي ضرب أمثلة لها مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع
والارتقاء به لمشابهة مجتمع السلف الصالح.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: (أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا
نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي إليها المبتدئ، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه
المتزهّد) [3] .
فإذا كان رحمه الله يتحدث عن أهل زمانه فلا شك أن الخطب أعظم في زماننا
الذي فُتِحت فيه الدنيا من أوسع أبوابها. والله المستعان. ولا شك أننا بحاجة لانتهاز
فرصة الاعتكاف في تحسين الصورة العامة عن طريق مخاطبة الأفراد.
فكيف يكون الاعتكاف وسيلة لزيادة الهمة العامة يا ترى؟
الثاني: أن السنة دلت على أهمية الانقطاع عن الناس في خلوة مع الله؛
لتنطلق الأنفس بعد ذلك في الدعوة وتحمّل الأعباء. قال صاحب الظلال: (لا بد
لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد
لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت..) إلى أن يقول: (فالاستغراق في واقع
هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة
والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ومن الشواغل
التافهة؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه ويدربه على الشعور
بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عُرف الناس ... ) [4] .
ولكن إذا كانت هذه إحدى الغايات العظيمة لهذا الانقطاع أي الاعتكاف.. فما
صورة هذا الاعتكاف المطلوب يا ترى؟ !
الثالث: أن الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله في كل
الأعمال والحركات والسكنات.. وهذه النقطة وإن بدت ابتداءً أنها فردية بالدرجة
الأولى إلا أن أهمية طرحها هنا تأتي من خلال معرفتنا بأن الإخلاص هو مدار
قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة. ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم.. وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من
تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دَخَلٌ في إخلاص العاملين.. ولما كان تحقيق
الإخلاص من الصعوبة بمكان في أوساط الجماعة الواحدة قال سهل بن عبد الله:
(الدنيا جهل وموات إلا العلم؛ والعلم كله حجة إلا العمل به؛ والعمل كله هباء إلا
الإخلاص؛ والإخلاص على خطر عظيم حتى يُختم به) [5] .
وحُكي عن أحدهم أنه شعر بخجل عظيم من الناس عندما صلى يوماً في
الصف الثاني، فعلم أن راحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر
الناس إليه. وهذا من الدقيق الغامض الذي يغفل عنه الكثير من الناس.
فلما كان الأمر كذلك كان الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص.
والسؤال: ما الاعتكاف المطلوب للتحقق من سلامة القلب من شوائب
الإخلاص؟
إن الاجابة عن هذا السؤال تتلخص في الجهة التي نطرح موضوع الاعتكاف
من خلالها.. وهي أن الاعتكاف المطلوب ليس هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل
المساجد مهاجع للنائمين ولا عناوين للمتزاورين، ولا موائد للأكل، ولا حلقات
للضحك وفضول الكلام. إنه ليس الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه
قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.
إنه ليس الاعتكاف الذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب وتقوية
العلاقات الاجتماعية وتبادل الآراء الطبية والنفسية ... ونحوها.
إن الاعتكاف المطلوب إنما هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف
الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إن الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين
المتدبرين؛ وترفع فيه أكف الضارعين المخبتين، ويسعى المرء فيه جاهداً لئلا
تضيع من ثواني هذه الأيام المعدودة لحظة واحدة في غير طاعة فيفوته قطار
الفائزين. إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين.. ولعل
فيما يأتي من الأمثلة توضيحاً لمن أراد أن يجعل من اعتكافه وسيلة انتقال للأفضل.
أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
في العبادات:
لقد بلغ السلف الصالح في جوانب العبادات غايات يستصعب ضعاف الهمم
السعي إلى مقاربتها فضلاً عن الوصول إليها.. وأذكر هنا نماذج لحال السلف في
عبادتين عظيمتين هما:
1- مداومة ذكر الله.
2- الصلاة..
مع التركيز على ذكر إمكانية اللحاق بهم رحمهم الله باستغلال فرصة
الاعتكاف.
1- المداومة على ذكر الله:
قال مالك بن دينار رحمه الله: (ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل
فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً
للقلب) [6] .
وقال ابن القيم رحمه الله: (وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر
ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه
غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي، (أو كلاماً قريباً من هذا) ، وقال لي مرة: (لا
أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها ولأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاماً
هذا معناه) [7] .
وقال شيخ الاسلام رحمه الله مبيناً أهمية بقاء المرء في ذكر دائم: (الذكر
للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟) [8] .
لقد جاءت السنة بأذكار كثيرة متنوعة وذكرت فضلها وما أُعد لصاحبها من
الثواب.. بل إن الإمام ابن القيم رحمه الله عدّ في (الوابل الصيب) ثمانين فائدة في
الذكر.. ولا شك أن الناس إلا من رحم الله على جانب كبير من التفريط في
المداومة على ذكر الله في كل حال.. لذلك لم يصلوا إلى اللذة التي يستشعرها
الذاكرون الله كثيراً.
قال بعض العارفين: (وإنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل
هذا إنهم لفي عيش طيب) [9] . وإن الاعتكاف فرصة عظيمة يحسن بالمرء
استغلالها ليصل إلى مرتبة عالية؛ فيكون لسانه رطباً من ذكر الله تعالى. ليس
للمعتكف شغل عن أذكار الصباح والمساء التي فرط الناس فيها إلا من رحم الله،
وليس له شغل عن أذكار الأذان والنوم والاستيقاظ، والخروج والدخول إلى المسجد، وأذكار الطعام والشراب، والأذكار المطلقة الكثيرة المتنوعة.
يستطيع المعتكف أن يحرص على كل ذكر منها في وقته ويحاسب نفسه على
ما فاته، ولا يدع نَفَساً من أنفاسه يخرج بغير ذكر الله تعالى.. فمن كانت هذه حاله
في عشرة أيام متواليات رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه.
ألا وإن من أعظم الذكر كما هو معلوم قراءة القرآن الكريم. قيل لأخت مالك
بن أنس: (ما كان يشتغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف في بيته) . قال أبو بكر
الأوسي: (كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير
القراءة طويل البكاء) [10] .
قال الطحاوي: (سمعت عن أحمد بن أبي عمران يحكي عن بعض أصحاب
محمد بن الحسن، أن محمداً كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن) [11] .
فهؤلاء رحمهم الله كانت قراءتهم كثيرة في سائر أيام صيامهم، ووردت عنهم
وعن غيرهم من السلف زيادة الاهتمام بكتاب الله في رمضان.
فعلى العاقل أن يجعل من اعتكافه فرصة لتقوية علاقته بكتاب الله تعالى قراءة
وتدبراً وخشوعاً وفهماً.. ولا شك أن الاكتفاء باستعراض كتاب الله كله مرة واحدة
فقط في هذه الأيام العشرة يُعد من التفريط؛ إذ فيم سيمضي المعتكف وقته إن لم
يمضه في تلاوة كتاب الله تعالى؟
جاء عن الحسن أنه قال: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على
درهمه) [12] .
فلو حرص المرء على لحظات اعتكافه ألاّ تنقضي إلا في ذكر وتلاوة لكان
لاعتكافه لذة وحلاوة، ولأصبح من السهل عليه أن يتشبه بالسلف الصالح.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن من ثمرات المداومة على ذكر الله في الدنيا
أنها تعطي الذاكر قوة تعينه على زيادة عمله خلال يومه.. فقد ثبت أن الرسول علّم
ابنته فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يُسّبحا ويحمدا ويُكبّرا كل ليلة إذا أخذا
مضجعهما، ذلك لما سألته أن يحضر لهما خادماً، وقال لها: (إنه خير لكما من
خادم) [13] .
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم [14] .
والمعكتف بحاجة لهذه القوة حتى يستعين بها على الزيادة من العبادات في هذا
الموسم العظيم.
الصلاة:
قال محمد بن عمران: سمعته أي محمد بن سماعة (ت233هـ) يقول: (مكثت ...
أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي [15] . إن مثل هذا الأثر
يحتاج أن يقف المرء معه ليتأمل حال نفسه ومدى اهتمامه بأداء الصلاة على الوجه
الأكمل.. ومتى ما وجد التقصير في نفسه توجب عليه أن يجعل من اعتكافه فرصة
ليصل إلى مثل هذه المراتب العالية في أداء الصلاة.. ومن فرط في التكبيرة الأولى
حاسب نفسه أشد الحساب؛ فكيف يساغ له أن يتأخر عن إدراك التكبيرة الأولى وهو
مقيم في بيت من بيوت الله تعالى؟ كما أن التأخير عن إدراك التكبيرة الأولى له
دلالة على إهمال السّنّة القبلية وفقد أجر انتظار الصلاة بين الأذانين، ونقص
الخشوع، وغير ذلك. والله المستعان.
قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة
فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء) [16] .
وقال مجاهد رحمه الله: (كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشدّ
بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في
شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته) [17] .
وهذه مرتبة أخرى عظيمة ينبغي أن يحرص المرء عليها وهي مجاهدة النفس
على تعظيم المولى سبحانه وتعالى في الصلاة، وحسن الاتصال فيها بتحقق
الطمأنينة والخشوع والخشية.. والمعتكف تتهيأ له من الفرص ما لا يتهيأ لغيره
بسبب انقطاعه عن كثير من علائق الدنيا.. فعليه أن يجاهد نفسه للوصول لهذه
الغايات وأكثر منها من خلال أيامه العشرة لتكون بداية انطلاقة جادة له بعد ذلك.
ألا وإن من أعظم وأجلّ القربات التي تتهيأ بالاعتكاف خاصة في رمضان قيام
الليل.. ذلك الشرف العظيم الذي فرط فيه الناس إلا قليلاً.
كان سفيان الثوري رحمه الله: (إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط ورأسه إلى
الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل) [18] .
وجاء عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب عليه لا يأتيه النوم
فيقول: (اللهم إن النار أذهبت مني النوم. فيقوم فيصلي حتى يصبح) [19] .
وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعكتف لإطالة القيام بكتاب الله تعالى
وتشجيع نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه
النماذج العظيمة من السلف ونحوها.
كيف لا وقد قال أبو سليمان: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا) [20] .
كذلك يحسن المحافظة على سنة الفجر والإشراق والنوافل المطلقة والمقيدة
حتى ينوّع المرء من عباداته، ويعتاد ما انشغل عنه في سائر أيامه.
في المباحات:
هناك جوانب أخرى يحسن بالمعكتف أن يخالف ما جرى أكثر الناس عليه
فيها.. أذكر منها ثلاثة أمور لعلها جماع كثير من الخسران:
1- فضول الكلام.
2- فضول الأكل.
3- فضول المخالطة.
1- فضول الكلام:
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض أصحابه: (أما بعد: فإنه من
أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قلّ كلامه إلا
فيما ينفعه والسلام) [21] .
قال عطاء بن أبي رباح: (يا بن أخي! إن من كان قبلكم كانوا يكرهون
فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر
بمعروف أو تنهى عن منكر، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها.
أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين؟) [22] .
والشباب في هذا الزمان أخص الصالحين منهم أصبح هذا الجانب عند أكثرهم
مفقوداً.. بل ربما هو لا يُفكر فيه ابتداءً إلا من رحم الله تعالى؛ لذلك نشأ عنه عند
كثير من الصالحين والدعاة وطلبة العلم فقدان السمت، ونقص الحكمة في الكلام،
وخلط الجد بالهزل؛ فضلاً عن الوقوع في بعض المحرمات كالغيبة والكذب
والسمعة ونحوها.. ولعل بقاء المرء في معتكفه وسيلة عظيمة لحبس لسانه
ومحاسبة نفسه على كل حرف يخرج منه في غير ذكر الله أو ضرورة..
كما أن المعتكف ينبغي له أن يعوّد نفسه ويعوّد كل من يقطع عليه اعتكافه
على عدم الاسترسال في الكلام الذي لا حاجة له، مع مراعاة الأدب وحسن القصد.
قال إبراهيم بن سليمان: (كنت جالساً مع سفيان، فجعل رجل ينظر إلى ثوب
كان على سفيان ثم قال: يا أبا عبد الله! أي شيء كان هذا الثوب؟ فقال سفيان:
كانوا يكرهون فضول الكلام) [23] .
ويُتنبه هنا إلى أنه يُكره للمعتكف الصمت عن الكلام إذا اعتقد أنه عبادة أو
قربة؛ لحديث الرجل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ويصوم، فأمره
الرسول أن يستظل ويتكلم ويقعد ويتم صومه، والحديث في الصحيح [24] .
2-فضول الأكل:
قال إبراهيم بن أدهم: (من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك
الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان) [25] .
إن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب،
كما أنها تطلق المرء من قيود الكسل والدعة والخمول.
قال لقمان لابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة
وقعدت الأعضاء عن العبادة) [26] .
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من
الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي وينقلها عن الطاعات وحسبك بهذين
شراً) [27] .
ولا شك أن المعتكف بحاجة إلى نبذ كل ما يقعده عن الطاعة ومن ذلك كثرة
الأكل وتنويعه.. قال عمر رضي الله عنه: (من كثر أكله لم يجد لذكر الله
لذة) [28] .
كما أنه فرصة للمرء ليُربي نفسه عن التقلل والتزهد في أصناف المطعومات
ويجاهد نفسه عن الاستغناء عن كثير مما اعتاده.
قُدّم لعمر بن عبد العزيز طعامٌ كثير عند بعض أهله فقال: (ويحك! هذا ما
يسد الجوعة ويُذهب سَورة النفس، وتقدّم فضل ذلك ليوم فقرك وفاقتك؟) [29] .
وكذلك فإن عدم الاهتمام بتنويع الأكل والبحث عنه سيوفر للمرء وقتاً في
معتكفه هو بحاجة ماسة إلى صرفه في ذكر وطاعة.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: (وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار
سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على
مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها) [30] .
3-فضول المخالطة:
وهذه أمرها جلل لأن أكثر الناس درجوا على الاجتماع والخلطة حتى افتقدوا
إلى القدرة على إنشاء الطاعات وإتمامها بأنفسهم بعيداً عن الرفاق.
وصورة ذلك في الاعتكاف ما يُرى من تجمع المعارف ليعتكفوا في مسجد
واحد أو مكان معين في مسجد ما ... وهذا وإن كان يسوّغه أحياناً لبعض الناس
وجود مصالح راجحة من منظور تربوي دعوي.. إلا أنه يحسن بالمرء معرفة أمور
ومراعاتها:
* منها أن كثرة الخلطة تقصر همة العبد عند همة أصحابه أو دونهم:
يقول ابن القيم رحمه الله: (فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه؛
فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا؛ حتى لو
دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم) [31] .
فهذا يدعو المرء للانفراد حتى يعامل الله مباشرة؛ فكلما ظن أنه مقصر ازداد
اجتهاداً..
* ومنها أن الخلطة مظنة كثرة المزاح مما يقود إلى التقليل من هيبة مكان
وزمان الطاعة وأن ينجر المرء إلى بعض الآثام كالغيبة والكذب ونحوها. .
قال ابن عبد البر: (وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه
من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض واستجلاب الضغائن وإفساد
الإخاء) [32] .
* ومنها أن الاعتكاف فرصة ليقيم المرء عبادته بعيداً عن أعين معارفه
ليختبر إخلاصه، فعن بكر ابن ماعز قال: (ما رُئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه
إلا مرة واحدة..) [33] وذلك لا يتأتى بالخلطة.
* ومنها أن كثرة الخلطة تدعو إلى فضول الكلام والنظر وتضييع كثير من
الوقت في النوم وانشغالات خدمة الجماعة بغير ضرورة، وتُفقد المرء لذة المناجاة،
وغير ذلك من مناقضات جوهر الاعتكاف. فعلى المرء أن يجاهد نفسه على العزلة
والتطلع الدائم إلى معالي الرتب، واستشعار الرقابة الدائمة لله، وتذكر فجأة الموت.. عسى أن يخرج من اعتكافه بذات أخرى يكتب الله لها نصيباً أكبر من الفلاح
وخدمة دينها وأمتها..
وبعدُ: فإنه ليس من الصعب تغيير النفس وقطعها عن كل ما اعتادته لمن
أخلص نيته وصدق في عزيمته.
يقول المنذر بن عبيد: (تولى عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت
حاله في العصر) [34] .
ولكن من الضروري أن يصاحب ذلك أخذ على النفس بالجد والحزم في
معالجة قصورها..
قال ابن حزم رحمه الله يحدث نفسه: (كانت فِيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة
واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين
والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداومته حتى أعان الله عز وجل على
أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه) [35] .
كما يحتاج المرء إلى همة عالية ونفس أبية لا ترضى بالدون.
قال ابن القيم رحمه الله: (إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، ورَدَفَهُ قمر
العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها) [36] .
كذلك يحتاج المرء إلى استغلال أيام الاعتكاف كفرصة للنقلة الإيجابية
المطلوبة.
ومهما حفظ الإنسان من الحِكَم وكانت رغباته صالحة فلن تتحسن أخلاقه
وتقوى إلا إذا انتهز كل فرصة تسنح له [37] . وأخيراً.. فإنني أختم بتحذيرين
اثنين:
الأول: أن يحذر الإنسان من طلب الكمالات المحضة التي تسبب انتكاسة في
الهمة.
قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: (والخطل أن ينزع الرجل إلى
خصلة شريفة حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة انصرف عنها جملة،
والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب، والذي يوافق الحكمة
ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة أن يذهب في همته إلى الغايات البعيدة ثم
يسعى لها سعيها ولا يقف دون النهاية إلا حيث ينفذ جهده ولا يهتدي للمزيد على ما
فعله سبيلاً) [38] .
الثاني: أهمية تعظيم حرمات الله مكاناً وزماناً.. إذ ربما يجهد المرء للعلاج
ثم يُحرم الخير بتهاونه في هذا الجانب الناتج عن طول المكث والاعتياد.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني
عائشة المكيّة وكانت من العارفات، فقالت: يا أبا عبيد! لا تجالسه إلا بأدب؛ وإلا
محاك من ديوان العلماء والصالحين) [39] .
أسأل الله أن يعيننا على طاعته ويكتب لنا فيها القبول، والله أعلم، والحمد لله
من قبل ومن بعد.
__________
(1) البخاري: الاعتكاف، حديث (2044) .
(2) صحيح الجامع، برقم (5837) .
(3) قيمة الزمن عند العلماء، ص31.
(4) الظلال (6/3741) ، دار الشروق.
(5) العلم ضرورة شرعية، د ناصر العمر، ص60.
(6) صحيح الوابل الصيب، ص148.
(7) صحيح الوابل الصيب، ص63.
(8) تزكية النفوس، ص45.
(9) صحيح الوابل الطيب، ص95.
(10) أعلام المسلمين، 23، ص321، سلسلة دار القلم.
(11) أعلام المسلمين، 47، ص 237.
(12) شرح السنة، للبغوي، 14/225.
(13) البخاري: في المناقب، حديث (3705) مسلم: في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم (2727) ، والترمذي: في الدعوات (3408) .
(14) الفائدة (61) من فوائد الذكر لابن القيم في صحيح الوابل الصيب، ص144.
(15) السير، 10/646.
(16) السير، 7/266.
(17) تعظيم قدر الصلاة، 1/188.
(18) الجرح والتعديل، 1/95.
(19) صفوة الصفوة، 1/79.
(20) تزكية النفوس، ص 62.
(21) السير، 5/133.
(22) صفة الصفوة، 2/213.
(23) حلية الأولياء، 7/60.
(24) الاعتكاف، د أحمد الكبيسي، ص 71.
(25) تزكية النفوس، ص 41.
(26) الأدب النبوي، للخولي، ص 212.
(27) بدائع الفوائد، 2/273.
(28) الحلم، لابن أبي الدنيا، ص 78.
(29) دار القلم، أعلام المسلمين، ص 118، رقم (40) .
(30) سوانح وتأملات في قيمة الزمن، خلدون الأحدب، ص 34.
(31) الهمة العالية، ص 73.
(32) بهجة المجالس، 2/569.
(33) صفة الصفوة، 3/61.
(34) دار القلم، ص 232، رقم (40) .
(35) الأخلاق والسير، لابن حزم، ص 23.
(36) الفوائد، ص 79.
(37) الأخلاق، أحمد أمين، 38.
(38) الهمة العالية، 69.
(39) شذرات الذهب، 2/55.(133/16)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الظلم حقيقته والتحذير منه
(2/2)
عبد العزيز الجليل
الحمد لله وحده، وبعد:
تقدم الحديث في الحلقة السابقة عن الظلم وحقيقته، وما ورد في ذمه وسوء
عاقبته وعاقبة أهله من الآيات والأحاديث والآثار، كما سبق التعرف على أقسامه
الرئيسة. وفي هذه الحلقة سنتعرف إن شاء الله تعالى على بعض صور الظلم
المختلفة لكل قسم، وبخاصة ما يتعلق منها بمظالم العباد.
القسم الأول: ظلم النفس بالظلم الأعظم:
وهو الكفر بالله تعالى والإشراك به سبحانه: قال الله تعالى: [وَالْكَافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ] [البقرة: 254] ، وقال عز وجل: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]
[لقمان: 13] ، وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله عز وجل لو مات صاحبه بلا
توبة، وهو مخلد في النار. وكونه أعظم الظلم؛ لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها عن الله عز وجل الخالق الرازق رب العالمين إلى مخلوق ضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ومن صور هذا الظلم العظيم ما يلي:
أ - الشرك في الربوبية: وهو اعتقاد أن غير الله عز وجل يخلق أو يرزق
أو يدبر شيئاً في هذا الكون من دون الله عز وجل أو مع الله عز وجل تعالى الله عن
ذلك علواً كبيراً كشرك أهل التعطيل والفلاسفة ومن يقولون بقدم العالم، وكشرك
النصارى الذين يقولون: إن الله سبحانه ثالث ثلاثة، وكشرك المجوس القائلين
بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة ... إلخ.
ب - الشرك في الألوهية: وهو اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية والطاعة
والعبادة، وهو شرك الجاهليين في القديم والحديث، وهذا النوع من الشرك له
صور كثيرة لا تخرج في مجملها عن الأنواع الآتية:
* الشرك في العبادة والنسك: ومنها الخوف والرجاء والنذر والذبح والركوع
والسجود والدعاء، وغير ذلك مما يصرفه المشركون إلى أوليائهم من الأحياء
والأموات.
* الشرك في الطاعة والاتباع: قال الله تعالى: [وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام: 121] وقال تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ] [التوبة: 31] وقد جاء في تفسير الآية أنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم
الله تعالى، وتحريم ما أحل الله تعالى فكانوا بذلك متخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً
من دون الله تعالى، وأوضح مثال لذلك في زماننا، ما يقوم به الطواغيت
المشرعون من دون الله تعالى من وضع دساتير يظلمون بها عباد الله ويحكمون بها
في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وفيها ما يضاد شرع الله عز وجل فمن رضي بها
وأطاعهم فيها بعلم فقد أشرك، واتخذهم أرباباً من دون الله عز وجل.
ج - الشرك في الولاية والمحبة: وذلك بعدم البراءة من الشرك وأهله، أو
محبتهم محبة قلبية لدينهم، أو نصرتهم على المسلمين، كل ذلك مما يوقع في
الشرك الأكبر والظلم الأعظم، قال الله تعالى: [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ] [الأنعام: 14] ، وقال تعالى عن اليهود والنصارى: [وَمَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [المائدة: 51] .
د - ومن صور الظلم الأعظم الوقوع في ناقض من نواقض الإسلام التي
ذكرها العلماء في كتبهم، والتي لا تخرج في جملتها عن أن تكون تكذيباً بخبر الله
عز وجل وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو رداً لأمر الله سبحانه وأمر
رسوله. وراجع إن شئت ما كتبه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن
بعض هذه النواقض. في رسالة مطبوعة بهذا الشأن.
القسم الثاني: ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد:
وهذا النوع من الظلم أخف من سابقه في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو
دخلها، ولكن الخطير فيه إثمه وعقوبته التي لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو
استباحتهم منها وإلا كان القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات وليس بالدينار
والدرهم، وكفى بهذا حاجزاً عن الظلم، وكفى به رادعاً وواعظاً للعبد المسلم في أن
يتخفف من حقوق العباد، ويخرج من هذه الدنيا سالماً لا يطلبه أحد من العباد
بمظلمة في دين أو نفس أو مال أو عرض. وهذه الأمور لا تكاد تخرج مظالم العباد
عنها.
وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم ويكون ذلك بأمرين:
1- إما بمنعهم حقوقهم.
2-أو بفعل ما يضر بهم؛ وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
بقوله:
(وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه
العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط.
الثاني: فعل ما يضر بهم وهو العدوان [1] .
وتحصل لدينا من هذه القاعدة أن ظلم الناس يصدق على أي إضرار يقع
عليهم في إحدى ضرورياتهم الخمس: (الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض،
أو المال) سواءً بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم. ومن الأمثلة
الواضحة في ذلك ظلم الوالدين أو الأولاد أو الأزواج والزوجات بمنع ما يجب لهم
من الحقوق أو فعل ما يضر بهم في دينهم ودنياهم.
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها في الحديث عن مظالم العباد نتعرف الآن
على بعض الصور لهذه المظالم على سبيل الاختصار.
أ- من صور ظلم العباد في دينهم:
* التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، سواءً بإثارة
الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة، أو
بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور. فهذا كله من الظلم
العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم، وممن يتولى كِبَرَ هذا النوع من الظلم الأصناف
الآتية من الناس:
* الذين يسنون الأنظمة الجائرة والفاجرة التي تمكن للمفسدين في الأرض من
نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية
التي يفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو
مرئية. وهذا من أعظم الظلم.
* الناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه
إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس، أو إثارة الشهوات والانحلال سواء
بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم.
* الإعلاميون الذين تصدروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة
من تلفاز وإذاعة وقنوات، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب؛ فوجهوا سمومهم إلى
دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات، وبما يبثونه من أفلام قذرة
وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة. وكل هذا أيضاً من ظلم العباد
في دينهم.
* التجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق وإنما همهم الدينار والدرهم، ولا يهمهم
المصدر الذي يجلب لهم المال أمن حلال هو أو من حرام. فراحوا يتاجرون بما فيه
إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة؛ وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب
الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور
من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها،
كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك، وغير خافٍ على أحد ما
ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم.
* أولئك الآباء أو الأبناء، الذين يسعون لملء بيوتهم من هذه الوسائل المدمرة
للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم ويظلمون أنفسهم ومن تحت أيديهم بما
يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد
إلى أهليهم، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم.
* الذين يسهمون في الدلالة على الشر وأهله، والصد عن سبيل الله،
والتنفير من أهل الخير وتشويه سمعتهم عند الناس.
* كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة
أو مقالة أو كتاب أو مسرحية ... مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم. قال الله
تعالى: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] [النحل: 25] .
* من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في
لهوها وفسادها لا تؤمر ولا تنهى، أو تركها حائرة فيما ينزل عليها من النوازل
دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك، كما أن من الظلم المبين كتم الحق عنها أو
لبسه بالباطل.
* كما يلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو
زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى؛ فترك هؤلاء على
جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلماً في دينهم.
ب - من صور ظلم العباد في النفس والعقل:
* التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب ... إلخ. ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به
أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك. قال:
(من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة) [2] . وقال: (لتؤدن الحقوق إلى
أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) [3] .
فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يقوم به اليوم
طواغيت الأرض وأعوانهم من سجن وتعذيب وتشريد لصفوة عباد الله تعالى. إنه
والله الظلم المبين.
ووقوع القتل العمد الصريح للمعصوم قد يكون قليلاً، لكن الذي يقع كثيراً هو
القتل بشبهة أو تأويل؛ وهذا يكثر أيام الفتن والقتال بين طوائف المسلمين أعاذنا الله
من ذلك وهذا هو الذي حَذِرَهُ جماعة من السلف واعتزلوا فيه الطوائف المتقاتلة
وتذكروا قوله: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) [4] .
* القعود عن إنقاذ من يتعرض لهلاك كالغريق والحريق والجريح مع إمكانية
إنقاذه.
* ترويج المخدرات والخمور والدخان والإغراء بتناولها، ومعلوم ما في ذلك
من الأضرار المعلومة
* التطبب في الناس بجهل وشعوذة ونحوها مما ينشأ عنه موت المريض أو
استفحال مرضه.
* الإسهام في بيع المطعومات التي تضر بصحة الناس كالميتة والخنزير
ومشتقاتهما أو بيع المغشوش من الأطعمة والأشربة الضارة بالصحة والعقل.
ج - من صور ظلم العباد في أعراضهم:
* كل ما سبق ذكره في الاعتداء على الدين، من شأنه هتك الأعراض
وإشاعة الفاحشة بين الناس، ومحاربة الشريعة الغراء التي من مقاصدها حفظ
الأعراض.
* قذف المحصن من المسلمين والمسلمات دون بينة شرعية؛ مما يلحق الأذى
والعار بالمقذوف، ولا يخفى ما جاء من الآيات والأحاديث في النهي عن ذلك.
* المتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو
تكشف بعضه تشبهاً بالكافرات، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله
ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها، كما أن المرأة المتبرجة تعد هي الأخرى
ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة.
* التجارة بفتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر
بقصد ارتياد أماكن الفجور.
* الاعتداء على أعراض العباد بالغيبة والنميمة والفحش والسخرية
والاستهزاء، والكذب عليهم، ويشتد الإثم في ذلك عندما توجه هذه الآفات إلى أهل
الخير من العلماء والدعاة والمصلحين.
د - من صور ظلم العباد في أموالهم:
* الاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل
والخداع، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً. ويدخل في ذلك السرقة من الأموال
العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين. قال الله عز وجل:
[وَمَن يَغْلُلْ يَاًتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ] [آل عمران: 161] . وقال: (إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) [5] . ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرط في حفظه وتنميته، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى.
* الاستيلاء على أموال المعصومين بالغصب والقوة؛ ويتضح هذا جلياً في
ظلم الأرض والعقار حيث يُستولى على الأراضي وتغير المنارات، وفي هذا جاء
الوعيد الشديد؛ حيث قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله يوم القيامة
من سبع أرضين) [6] .
* التسبب في قطع حق المسلم من مال أو غيره إما بشهادة زور أو يمين كاذبة
أو وجاهة ... إلخ. قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: (وإن
كان قضيباً من أراك) [7] .
* أخذ الرشاوي من الناس ومنعهم حقوقهم إلا بها، وهذا من أكل المال
بالباطل، ويدخل في أكل المال بالباطل التعامل بالقمار والميسر.
* السماح بإنشاء البنوك الربوية أو المساهمة في إنشائها، وتنمية المال من
خلالها، ويلحق بذلك كل من تعامل بالربا فرداً كان أو مؤسسة، فكل ذلك من أكل
المال بالباطل، ومن التعاون على الإثم والعدوان.
* ومما يدخل في ظلم الناس في أموالهم ما يقع بينهم من البيوع المحرمة التي
يتضرر فيها أحد المتبايعين أو كلاهما، وهي كثيرة ومتنوعة منها بيوع الغرر أو
بيع ما لا يملك أو بيع النجش ...
* إنكار المدين ما عليه من الحق للدائن أو المماطلة بالوفاء مع القدرة على
ذلك فهذا من الظلم البين لقوله: (مطل الغني ظلم) [8] .
* منع الزكاة وعدم إيصالها لمستحقيها، وأخذ كرائم أموال الناس عند جباية
الزكاة منهم لقوله: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم..) [9] .
وبعد هذه الجولة السريعة المختصرة في إيراد بعضٍ من صور الظلم يبقى
سؤال مهم لا بد من الإجابة عليه لتكمل الفائدة ويعم النفع، وليكون مخرجاً لمن أراد
التخلص من تبعات العباد قبل يوم الفصل والحساب، وهو: هل من سبيل إلى
التوبة من حقوق العباد؟
والجواب: نعم، فباب التوبة مفتوح للتائبين الصادقين، ومن ذا الذي يحول
بين العبد والتوبة والله عز وجل يقول: [إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً]
[الزمر: 53] . لكن التوبة من حقوق العباد أصعب بكثير من تلك الذنوب التي بين العبد وربه وليس للمخلوق فيها حق؛ ذلك أن حق الله عز وجل مبني على المسامحة، وحق المخلوق مبني على المشاحّة؛ لذا فإن التوبة من حقوق العباد يُشترَط لها شرط إضافي على شروط التوبة المعروفة ألا وهو: التحلل من أصحاب الحقوق، سواء برد المظالم إلى أهلها أو مسامحة أهل الحقوق لمن ظلمهم وتنازلهم عن حقوقهم عليهم، ومن هنا تأتي صعوبة التوبة من حقوق العباد ...
ومشقتها. والموفق من جنبه الله تعالى الوقوع في الظلم أصلاً، أما من وقع منه الظلم للعباد في دين أو نفس أو عرض أو مال فإنه يحتاج إلى عزيمة قوية وزهد في الدنيا ورغبة في الآخرة يدفعه إلى رد الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم قبل يوم الفصل والقضاء.
وفيما يلي عرض سريع لما ذكره العلماء عن كيفية التوبة من ظلم العباد في
ضرورياتهم الأساسية التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها وحمايتها من المعتدين:
أولاً: التوبة من ظلم العباد في دِينهم:
من كان له دور في إضلال الناس في عقيدتهم أو شريعتهم أو أخلاقهم فإن من
تمام توبته أن يقلع بنفسه عن ضلاله وإضلاله، وأن يندم على ما فعل، ثم لا بد له
بعد ذلك أن يبذل جهده ووسعه في إصلاح ما أفسد، وأن يعلن توبته للناس ويبين
لهم ضلال ما كان عليه لقوله تعالى: [إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ
أََتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأََنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم] [البقرة: 160] وبدون ذلك فإن التوبة غير تامة. ويذكر أهل السّيَر دائماً في هذا المقام توبة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ...
وكيف أنه بين للناس ضلال ما كان عليه وأنه رجع إلى مذهب السلف وما كان
يقول به أحمد بن حنبل [10] .
ثانياً: التوبة من ظلم العباد في أبدانهم وأنفسهم:
ما كان من هذه المظالم مما هو دون القتل كضرب أو جرح ونحوهما فالتوبة
تكون بالندم على الفعل واستغفار الله عز وجل وهذا مما يتعلق بحق الله عز وجل،
ويبقى حق المظلوم فلا يسقط إلا بأن يعفو عن الظالم أو يأخذ بالقصاص منه؛
فحينئذ تبرأ ذمة الظالم؛ وبدون ذلك يبقى الحق معلقاً إلى يوم القصاص يوم القيامة. أما جريمة القتل فالتوبة منها شاقة لموت المقتول وفوات نفسه دون أن يستدرك
ظلامته، ولذلك يرى بعض العلماء أن لا توبة له ولا بد من القصاص يوم القيامة.
ويرى طائفة من العلماء أن الحق يسقط إذا سلم نفسه للقصاص في الدنيا وصدق في
توبته مع الله عز وجل، ومن هنا نرى عظم جرم الاعتداء على النفس بالقتل، وأن
القصاص ينتظر المعتدي يوم القيامة (بالحسنات والسيئات) حتى ولو اقتُص منه في
الدنيا على أحد القولين [11] .
ثالثاً: التوبة من ظلم العباد في أعراضهم:
* إن كان الظلم بالنيل من أعراضهم بالغيبة والنميمة والسخرية فإنه لا بد مع
استغفار الله من التحلل من أصحاب الحقوق، وطلب المسامحة منهم ما داموا على
قيد الحياة، فإذا تعذر هذا لموت صاحب الحق، أو خوف المفسدة من الملامة فيرى
بعض العلماء الإكثار من الاستغفار له والثناء عليه في المجالس التي أساء فيها إلى
المظلوم.
* وإن كان الظلم بالقذف والتهم الباطلة فعليه التوبة النصوح بشروطها مع
إصلاح ما فسد؛ ومن ذلك تكذيبه لنفسه حتى ينتهي العار عن المقذوف.
* وإن كان الظلم بإشاعة الفاحشة وترويجها بين الناس بكلمة أو كتاب أو فيلم، أو غير ذلك من الوسائل التي تثير الشهوات وتهتك الأعراض؛ فإن من تمام
التوبة منها الإقلاع عنها، والندم على ما حصل، وإصلاح ما نشأ من فساد بسببها،
وذلك حسب الجهد المستطاع، بأن يتبرأ هؤلاء الظالمون من أفعالهم ويبينوا للناس
بطلانها، وأن لا يفتُروا عن الإصلاح وبذل النصح للأمة. قال تعالى: [إلاَّ مَن
ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النمل: 11] .
رابعاً: التوبة من ظلم الناس في أموالهم:
الأصل في التوبة من حقوق الناس المالية أن ترد إلى أهلها في الحياة الدنيا،
فإذا تاب الظالم توبة نصوحاً وندم وأقلع ثم رد الأموال المسروقة أو المغصوبة إلى
أهلها فقد برئت ذمته.
أما إذا لم يهتد إلى أصحاب الأموال لموتهم أو جهله بهم فإنه يردها إلى ورثتهم، فإن لم يتوصل إليهم فإن بعض العلماء يرى أن يتصدق بها عن أصحابها؛ وبذلك
تبرأ الذمة إذا صدقت التوبة، وطائفة من العلماء لا يرى أنها تبرأ إلا بإرجاعها إلى
أربابها؛ وإلا فقد تعذرت عليه التوبة، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات
والسيئات ليس إلاّ [12] .
وختاماً: أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الظلم بشتى صوره، وأن يخرجنا من
هذه الدنيا خفاف الظهور من دماء الناس، خُمصَ البطون من أموالهم، سالمي
الألسنة من أعراضهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) (مجموع الفتاوى 10/373) .
(2) البخاري في الأدب المفرد (185) ، صحيح الجامع الصغير (6374) .
(3) مسلم (2582) .
(4) البخاري في الديات (6862) .
(5) البخاري في فرض الخمس (3118) .
(6) البخاري، ك المظالم 3/100.
(7) مسلم، كتاب الإيمان (131) .
(8) البخاري في الحوالة (2287) ، مسلم (1564) .
(9) البخاري في الزكاة (1458) .
(10) انظر وفيات الأعيان، 3/285، الإبانة لأبي الحسن الأشعري، ص8.
(11) انظر تفصيل القولين في مدارج السالكين، 1/398.
(12) ارجع إلى تفصيل القولين في مدارج السالكين 1/387، 388.(133/26)
دراسات تربوية
أثر القرآن في تقوية الإحساس بالأخوة
د.أحمد بن شرشال
الاشتغال بفهم القرآن وتفسيره والتفقّه فيه يرقق إحساس المسلم ويقوي شعوره، وينمي فيه حب الآخرين؛ بحيث يتألم لآلامهم، ويفرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم.
ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جعل قتل الرجل
لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء
بالغير ظناً بنفسه، وجعل لمز الغير لمزاً لنفسه، والسلام على الغير سلاماً على
نفسه؛ وكل ذلك ذكره القرآن. قال الله تعالى في سياق أخبار بني إسرائيل: [وَإذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ
تَشْهَدُون ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 84، 85] . فجعل دم كل فرد من
أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسه وانتحر ذاته.
قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً، وكانوا كالشخص
الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها) [1] .
ومثل هذا السياق قوله تعالى: [فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ] [البقرة: 54] ومعناه:
فليقتل بعضكم بعضاً بأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله
لنفسه.
قال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عَبَدَة العجل بأن يقتل
نفسه) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل) [2] .
وقال الله تعالى في سياق هذه الأمة: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي:
(أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم
لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه) [3] . قال الحافظ ابن كثير: (وهو
الأشبه بالصواب) [4] ، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير
بالنفس في الأصل أو الدين؛ فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه) [5] ، وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة) [6] . وقد
بيّن الله أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، فقال: [.. كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً] [المائدة: 32] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [يَا أََيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: 105] . حكى
الفخر الرازي مقالة لعبد الله بن المبارك أنه قال: (هذه أوْكد آية في وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه سبحانه قال: [عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ] يعني عليكم
أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويُرغّب
بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات) [7] لأن المؤمنين إخوة في
الدين. ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قوله تعالى: [فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] [النور: 61] والمعنى:
فليسلم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم
في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منهم في الدين، فكأنهم حين يسلمون عليهم
يسلمون على أنفسهم. وقد أنكر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل
يسلم على نفسه فقال: (ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقه، فظنوا
أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف
والآداب) [8] . وهذا هو المأثور عن سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة
والزهري؛ حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض) [9] .
ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى: [وَلا تَلْمِزُوا
أَنفُسَكُمْ] [الحجرات: 11] والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه، وإنما اللامز يلمز
غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزّل البعض الملموز
منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها.
ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس قوله تعالى: [لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] [النور: 12] .
المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الدين والعقيدة، والمعنى: فهلاّ وقت أن
سمعتم حديث الإفك هذا ظننتم بأنفسكم أي: بإخوانكم وأخواتكم ظناً حسناً جميلاً؛ إذ
لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في العقيدة
بأنفسهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس
الصادق؛ حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه [10] . قال الرازي:
(فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور؛ فإذا جرى على
أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم) [11] .
فهذا الأسلوب القرآني، وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة،
ويُحدِث في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالمسلم الذي يُربى على هذه
المعاني، وهذه الدقائق القرآنية، لا شك في أنها تؤثر فيه وتغرس في أعماقه هذا
الإحساس وهذا الشعور.
ومن تدبر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا
الشعور وهذا الإحساس، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه
دمُ الآخرين، وظن السوء بهم ظنّ بنفسه، والسلام عليهم سلامٌ على نفسه، وعيبهم
عيبٌ لنفسه؛ لا فرق في المحافظة على الروح التي تجول في بدنه والدم الذي
يجري في عروقه، وبين الأرواح والأبدان التي يحيا بها إخوانه قال تعالى: [يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ] [النساء: 1] وقال: (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [12] ، وكل هذه المعاني كامنة في القرآن
والتفسير يكشفها ويجلّيها.
__________
(1) الجامع للقرطبي (2/19) .
(2) الجامع للقرطبي (1/376) .
(3) الجامع للقرطبي (3/136) .
(4) تفسير ابن كثير (1/524) .
(5) التحرير والتنوير (18/376) .
(6) تفسير ابن كثير (1/129) .
(7) تفسير الرازي (6/118) .
(8) التحرير والتنوير (18/303) .
(9) تفسير ابن كثير (3/336) .
(10) الجامع للقرطبي (6/186) .
(11) تفسير الرازي (12/178) .
(12) أخرجه مسلم، البر والصلة (2586) .(133/34)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
التحرير
كنا في العدد الماضي في ضيافة شيخنا العلامة عبد الله الجبرين حفظه الله
حيث حدثنا عن نشأته، والفوارق بين التعلم في عصره والتعلم اليوم، وبيان
الأسلوب الأمثل لطلب العلم، وعلاج بعض الظواهر السلبية بين طلبة العلم،
وتوجيهه لهم في التلقي عن العلماء العدول، وتذكيره بصور من مواقف علماء
السلف الصالح في أداء واجب العلم والتعليم.
ونواصل في هذا العدد هذا المجلس المبارك مع فضيلته ليحدثنا في جوانب
علمية وشرعية وتوجيهية ودعوية. جزاه الله خير الجزاء ومتعه الله بالعمر والعافية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
13- حين يُمكّن الله لرجل في العلم فإن الناس يرون فيه الخطيب والواعظ
والمدرس، وعلى هذا الأساس قد يعاملون الخطيب أو الواعظ على أنه العالم المفتي.. وليس ذلك بغريب منهم بقدر غرابته حين يصدر من بعض المتعلمين. فهل
لفضيلتكم من توجيه؟
جواب: لا شك في كثرة الفنون، وتنوع المعلومات، وأن الهمم تختلف،
ولذلك نشاهد الجامعات ممتلئة؛ فهؤلاء يميلون إلى الأحكام وعلم الحلال والحرام،
وهؤلاء يفضلون التخصص في علم العقائد والفرق والمذاهب المعاصرة، وآخرون
ميلهم إلى علوم اللغة والتراجم والتاريخ والأدب، وآخرون ميلهم إلى العلوم الآلية
والرياضيات ونحوها. ثم إن العامة إذا لقوا من جاوز المراحل الدراسية، وحصل
على درجة عالية، اعتقدوا فيه الأهلية لكل ما يتجدد من الوقائع، ورجعوا إليه في
حل المشاكل، فرضوا بحكمه في الفصل بين المتخاصمين، ورجعوا إلى قوله في
الأحوال الشخصية، وطلبوا منه الجواب فيما يدور حولهم من الوقائع العلمية،
سواء كانت تتعلق بالعبادات، أو بالمعاملات، أو بالأنفس أو بالأموال، ثم تراه
يتجاوب معهم، ويُنَصّب نفسه للإفتاء والتعليم، ويجيب على كل ما يوجه إليه من
أسئلة تتعلق بالتوحيد، أو بالأدب أو بالسّنّة، أو بالتفسير، أو بالأحكام، رغم قلة
معلوماته في أكثرها، ويحمله على ذلك الخجل من رد الجواب، أو التوقف على
الفتيا، مخافة الوصمة بالنقص، أو الرمي بالجهل؛ حيث إنه في مكانة مرموقة،
ومنزلة من العلم رفيعة عند العامة، فهو يفتي بغير علم، ويتصدر للجواب، وهو
بعيد عن الصواب. ولا شك أن هذا عين الخطأ، وأن الواجب عليه أن يحيل هذه
المسائل إلى أهلها، ويعطي القوس باريها؛ فإن العلم أن يقول: الله أعلم. وقد قال
بعض العلماء: (من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله) ؛ وقد قال بعض الشعراء في
الحث على العلم وآداب التّعلّم:
وقل إذا أعياك ذاك الأمر ... ما لي بما تسأل عنه خبر
فذاك شطر العلم فاعلَمَنْهُ ... واحذر هُديت أن تزيغَ عنه
فربما أعيا ذوي الفضائل ... جواب ما يلقى من المسائل
فيمسكوا بالصمت عن جوابه ... عند اعتراض الشك في صوابه
ولو يكون القول في القياس ... من فضة بيضاءَ عند الناس
إذاً لكان الصمت من عين الذهب ... فافهم هداك الله آداب الطلب
وقد ذكر بعض العلماء أن تدخل الإنسان في ما لا يعنيه من القول على الله بلا
علم، وجعلوه أعظم إثماً من الشرك، لقول الله تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: 33] . وهذه
المحرمات مرتبة على الترقي من الأخف إلى الأشد، فدل على أن القول على الله
بلا علم أعظم إثماً من الشرك.
ولقد كان العلماء الأجلاء يتوقفون عند الكبير من المسائل، كما ذُكر ذلك في
الشعر المذكور، وقد نقلوا عن مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى أنه سُئِلَ عن
أربعين مسألة فأجاب عن أربع منها وتوقف عن الباقي، وقال للسائلين: اذهبوا
فقولوا: إن مالكاً يقول: لا أدري. وكان الإمام أحمد كثيراً ما يتوقف عن الأجوبة
التي تعرض له، ويستدل بقول الله تعالى: [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ
هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ] [النحل: 116] . ثم نقول: على الجمهور أن يرجعوا في مسائلهم
ومشكلاتهم إلى أهل العلم الصحيح، وأن يمتثلوا قول الله تعالى: [فَاسْأََلُوا أََهْلَ
الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [النحل: 43] فأهل الذكر هم حملة علم الشريعة الذين
توغلوا في علم الأحكام، وبحثوا في مسائل الحلال والحرام، وقد يسر الله الاتصال
بهم بأسهل الطرق؛ فقد تقاربت البلاد، ويسر الله المواصلات السريعة التي تقطع
المسافات البعيدة في زمن قصير، كما يسر الاتصال الهاتفي للقريب والبعيد،
وتيسر الرجوع إلى الفتاوى المطبوعة والمسجلة، والرجوع إلى الإذاعة الإسلامية،
سيما برنامج (نور على الدرب) ، وما أشبهه، فعلى هذا لا يجوز لغير العالم
بالأحكام التدخل في جوانبها، ولو كان واعظاً، أو خطيباً أو مدرساً أو داعية،
حتى يطّلع على العلوم الشرعية، ويعرف الحق بدليله، ويعرف الراجح من
المسائل الخلافية، ويتصور أسباب الخلاف بين المذاهب والعلماء، كما لا يجوز
للعالم الرباني أن يكتم العلم، ويتوقف عن الجواب الذي يعرفه؛ فقد ورد الوعيد
الشديد على كتمان العلم، وأن الذين يكتمونه يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ومن
سُئل عن علم فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من النار، ولا يجوز للعامة الرجوع إلى
حملة الشهادات التي لا تؤهل للفتيا في المسائل الخلافية، كمسائل الطلاق، والتيمم، ومسح الجوارب، ومفطرات الصائم، وواجبات الحج، ونحوها، بل يوجهون
هذه المسائل إلى أهل التخصص والمعرفة بها، ليصدروا عن علم ويعملوا على
بصيرة. والله أعلم.
14- تتزاحم الأولويات في مخاطبة الناس، فيقع بعض المصلحين في حيرة
أو اضطراب؛ فحبذا لو جلّيتم الخطوط العريضة في هذا المجال؟
جواب: لا شك أن الناس يختلفون في المفاهيم، وفي الميول والطباع، وأن
المعلم، أو الواعظ قد يتوقف في العلوم والفنون أيّها أوْلى أن يطرقه، ولكن نقول:
إن الواجب تحديث الناس بما هو الأهم في حقهم، وقد نُقل عن علي رضي الله عنه
أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟) فمتى كان
المخاطَبون من أهل الأديان المخالفة، فالأوْلى خطابهم بتقرير الرسالة، ودلائل
النبوة، ومحاسن الدين الإسلامي، أو إزالة شبهاتهم، والإجابة عما لديهم من
الشكوك والتوهمات. وإن كان المخاطَبون من أهل الإسلام، إلا أن لديهم بدعاً
وعقائد منحرفة؛ فإن خطابهم يكون بتقرير العقيدة السليمة، وما كان عليه الصحابة
والسلف الصالح، والصدر الأول، وهو ما تطرق إليه الأئمة في مؤلفاتهم في السّنّة
والتوحيد، والإيمان، وتقرير العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة.
وإن كان المخاطَب من أهل التفريط والانتماء إلى الدين ظاهراً، دون تطبيق
وعمل، أو مع مخالفة وانهماك في كبائر الذنوب أو صغائرها، فإنه يُسلك معه من
المناقشة حول حالته ما يمكن اقتناعه به من الوعد والوعيد، وإقامة الحجة والدليل،
وإيضاح الحجة والسبل السوية، التي تقطع الشبهات، وتوصل إلى الحق واليقين.
أما الخطيب والواعظ الذي يلتقي بعوام الناس الذين لم تتلوث عقائدهم بأوضار
الجاهلين وشكوك المموهين، بل هم على فطرتهم، وعلى يقين من صحة دينهم،
إلا أن معهم من الجهل ما أوقعهم في المحرمات ونقص الطاعات، فإن الخطيب
والواعظ يسلك معهم طرق التعليم، والتنبيه على ما فيه خطر، أو ما هو محرم،
ويحرص على علاج ما انتشر وفشا من المعاصي والفواحش، ويتطرق كل حين
إلى ما فيه ضرر على الأديان والأبدان، مما هو موجود ومتمكن في المجتمعات،
فلا بد أن يكون عالماً بما يحتاج إليه ذلك المجتمع، وما يتساهل فيه الأفراد
والجماعات، وما يفعلونه عن جهل، أو عن تهاون، ويحسبونه هيناً وهو عند الله
عظيم، فمع كل جنس بما يناسبه، وبذلك ينجح الواعظ، ويقدم ما هو أهم من
غيره، ويعطي كل نوع ما يحتاج إليه.
15- لا شك في ضرورة تصحيح عقائد الناس بكل جوانبها. حبذا لو ذكرتم
لنا جوانب الاعتقاد مرتبة حسب أهميتها في واقع الناس اليوم؟
جواب: معنى ذلك أن الدعوة إلى الله تعالى، يُحتاج فيها إلى البدء بتصحيح
العقيدة؛ فإن الأعمال الصالحة يتوقف قبولها على صحة المعتقد، ومعلوم أن عامة
الناس وأكثريتهم لا يحسن خطابهم بأدلة وجود الله تعالى، ولا بالخوض في إثبات
الصفات الذاتية، والصفات الفعلية ونحو ذلك، وإنما يسلك الداعي معهم تصحيح
مفهوم العبادة، وإخلاص الدين لله تعالى، وذكر أنواع العبادة، وأدلة التوحيد العملي، كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، ونحو ذلك. وقد كتب في ذلك الشيخ
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ونحوها مما كتبه في التوحيد، فهو المناسب للعامة الذين يقعون في شرك العبادة
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والعلماء منهم يناقشون فيما لديهم من الشبهات، وما قد يعرض لهم من
الاعتقاد في المخلوقات؛ الذي تلقوه عن أسلافهم وعلمائهم الذين انخدعوا بالعامة
والخاصة، وأكبوا على الشركيات، وسموا ذلك استشفاعاً، وتبركاً، وتوسلاً
بالأولياء ونحوهم. وأما علماء الضلال فإن الداعية يناقشهم في البدع التي ينتحلونها، ويحتجون فيها بسنّة الآباء والأجداد، ويقول الله تعالى في حجتهم: [قَالُوا بَلْ
وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] [الشعراء: 74] ، ويدخل في البدع ما يخالف الأدلة
اليقينية، من العقائد المتعلقة بالأسماء والصفات، والقضاء والقدر، والأمر والنهي، والإسلام والإيمان، والصحابة، وأهل القبلة، من المعتزلة، والمعطلة،
والجهمية، والجبرية، والمرجئة، والقدرية، والخوارج، والروافض، والمتصوفة، ونحوهم. وقد أكثر العلماء من أهل السّنّة في مناقشة عقائدهم، والرد على
شبهاتهم العقلية والنقلية، وبيان الصواب والخطأ في معتقداتهم وأدلتهم. فلذلك على
الداعي أن يسلك معهم المجادلة بالتي هي أحسن، ويرجع في ذلك إلى ما كتبه علماء
صدر هذه الأمة، مما يتعلق بالسنة، والإيمان، والتوحيد، فقد أكثروا من التأليف
فيما يتعلق بالاعتقاد، كالإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبي بكر الخلال،
وأبي بكر بن أبي شيبة، والبخاري، وابن خزيمة، وعثمان الدارمي، والآجري،
واللالكائي، وابن بطة، والبيهقي، والطحاوي، وابن أبي عاصم، وغيرهم، وقد
يسّر الله طبع كتبهم ونشرها، وتوفرت لدى كل طالب علم، وتبين بواسطتها ما
كان عليه السلف والأئمة المقتدى بهم، والله أعلم.
16- تتباين مناهج الدعاة في التغيير، فيميل بعضهم اجتهاداً إلى مسلك دخول
المجالس النيابية.. تُرى: هل هذا مما يتسع فيه النظر والاجتهاد لأجل تباين
الظروف، وتعقّد بعض الأوضاع؟ وإذا كان الأمر سائغاً فهل في هذا السبيل غنية
عن تربية الناس على دين الله تعالى؟
جواب: صحيح أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، والأماكن،
والأوضاع، فمتى رأى الدعاة هذا المسلك مفيداً فعلوه؛ حيث إن الداعية متى غَشِيَ
الجماهير، واعترفوا بمكانته وفضله، وارتفع منصبه، واشتهر بين العامة بعلمه
ورتبته، كان ذلك أدعى لقبول قوله، والتأثر بنصحه، وتلقي مواعظه وإرشاداته،
وتقبل فتاواه وأجوبته؛ حيث تعترف به الدولة، وتوليه منصباً مرموقاً، وترجع
إليه الاختلاف، ثم يقوم بالخطابة، والدعوة إلى سبيل الله تعالى والقضاء بالعدل،
والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو بما لديه من علم وعمل ومعرفة بالله تعالى
وبوعده ووعيده، وأمره ونهيه، يقول الحق ويصدع به، ولا يخاف في الله لومة
لائم، فيأمر بردع الظالم، وقمع العاصي والمجرم، وقتل القاتل متى تمت الشروط، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، وهكذا يقضى بأمره على معامل
الخمور والمسكرات، وعلى مروجي المخدرات، وعلى حوانيت الدعارة والبغاء،
وأماكن الفساد. ولكن هذا إنما يُتَصوّر عن عالم رباني، معترف بمكانته، فهو
يتصل بالرؤساء والوزراء، والأمراء والولاة ونوابهم، وتنفذ أوامره، وتجاب
طلباته التي توافق الحق، وتهدف إلى مصلحة العباد والبلاد.
فأما من كان ضعيف المعلومات، أو قليل المعرفة، أو معه شيء من
الانحراف، أو عنده ميل إلى بعض البدع والمحدثات، أو كان مُزجى البضاعة في
العلم، فأرى عدم دخوله تلك المجالس، لعدم تمكنه من قول الحق والصدع به،
وخوفاً من إقراره المنكرات، أو دعوته إلى شيء من البدع والشركيات، كما حصل
ذلك من بعض علماء الضلال الذين خدعوا ولاة الأمر وسوغوا لهم البناء على
القبور، وعمارة المشاهد والمعابد الشركية، وحفلات الموالد، وإقرار البدع
الاعتقادية والعملية، فاحتج العامة بأقوالهم الخاطئة، وأصبحت فتاواهم ومؤلفاتهم
حجة لكل جاهل ومبتدع. وهكذا نقول أيضاً: قد يُفَضّل للعالم والداعية الاعتزال،
والبعد عن ولاة السوء، وأئمة الضلال، الذين يحتقرون العالم، ويخالفون ما يقوله، ويبقى بينهم ذليلاً مهيناً مع تظاهرهم بتحكيم القوانين، وإعلان البدع، وإباحة
الخمور، وتعاطي المسكرات، وإعلان تعطيل الحدود، وفتح بيوت الدعارة
والفواحش، ورفع أماكن علماء الضلال، وقمع الدعاة إلى الله. فمن السلامة في
مثل تلك الدول أن يبتعد الداعية إلى الله عنهم، وأن يعتزل ولاياتهم، وأن يفضل
العيش في البادية، والقرى النائية؛ فقد ورد في الحديث قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع
القطر، يفر بدينه من الفتن) . ومع ذلك فإن كل مسلم عليه مسؤولية كبرى، بحسب
ما عنده من القدرة والعلم، ففي الأثر: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ
أن يؤتى الإسلام من قِبَله) . فعلى هذا يقول بما في إمكانه من الدعوة إلى الله تعالى، وتربية الناس على دين الله تعالى وليس هناك غنية عن هذه التربية بحسب
الإمكان. والله أعلم.
17- من قواعد منهج أهل السّنّة: (رحمة الخلق في دعوتهم إلى الحق) . وقد
سبب غياب هذه القاعدة عن أذهان بعض المصلحين والشباب أن استحالت قضيتهم
مع أهل البدعة والضلال إلى معارضات جدلية لا معنى لها؛ مما أضعف استجابة
بعض المخالفين. فليتكم تشيرون إلى بعض الأمثلة لتطبيق هذه القاعدة عند سلف
الأمة من المتقدمين والمتأخرين؟
جواب: قال الله تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] . وقال الله تعالى: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [العنكبوت: 46] وقد امتثل النبي -صلى الله عليه
وسلم- هذا الأمر، فرفق بالناس عند الدعوة إلى الإسلام، وأحسن معهم المقال،
فكان بمكة يتتبع الوفود والحجاج، ويعرض عليهم دعوته، وما جاء به، ويبين لهم
حقيقة التوحيد، دون أن يضللهم، أو يُسفّه أحلامهم، أو يتنقص عقولهم، حتى قال
الله تعالى: [وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]
[الأنعام: 108] مع أن آلهتهم أموات غير أحياء، لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني
عنهم شيئاً، ولكن في سبها قدح في عقولهم وأعمالهم، وقد حكى الله تعالى حالته
معهم بقوله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ] [آل عمران: 159] ، وهكذا كان يوصي أصحابه عند دعوة الناس إلى
الإسلام، فقد قال لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي
رواية: (إلى أن يوحدوا الله) . وقال لعلي رضي الله عنه: (ثم ادعهم إلى الإسلام،
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً
واحداً خير لك من حمر النعم) . وفي حديث (بريدة) في الوصية لأمير الجيش،
أمره أن يبدأ بالدعوة إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، وهو دليل على ما جبل الله
تعالى نبيه عليه من الرحمة بالخلق، وحبه لدخولهم في الإسلام بالطرق السلمية؛
حيث لم يكره أحداً على الدخول في الدين، وإنما دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا فعل أصحابه والمؤمنون من أمته، قديماً وحديثاً، فقد ظهر حسن معاملتهم
مع المعاهدين والذميين، مما حمل الكثير على اعتناق الإسلام، فكانوا يوفون
بالعهود، ويؤمّنون المستأمن حتى يسمع كلام الله، وقد ذكر العلماء في أحكام أهل
الذمة تحريم الظلم والعدوان، والإضرار بالذميين، ووجوب الرفق بهم في الدعوة
إلى الله، وحسن معاملتهم التي تجلب لهم الدخول في الإسلام. وضرب المسلمون
أروع الأمثال قديماً وحديثاً في الرحمة بالخلق، ولين الجانب، واللطف في القول،
واجتناب الإغلاظ والفظاظة؛ والقصص عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب
التأريخ والتراجم، فمن طلبها وجدها.
18- تعيش قاعدة: (هجر المبتدع) بين نظرين: نظرٍ يجنح إلى تطبيقها دون
مراعاة قاعدة: (المصالح والمفاسد) ، وآخر يترك تطبيقها بالكليّة فما ضوابط تطبيق
هذه القاعدة؟
جواب: أرى أن الأمر وسط بين هذين النظرين، فإن الهجر يجوز للمصلحة؛ وذلك أن العاصي والمبتدع إما أن يكون معانداً مصرّاً على الذنب والبدعة، لا
يتأثر بالوعظ، ولا يقبل النصح، بل يرى صحة ما هو عليه، ويعتقد خطأ من
نصحه عن ذنبه، سواء كان الذنب مكفراً أو مفسقاً، فمثل هذا أرى هجره والابتعاد
عن مجالسته وموالاته؛ لعموم الأدلة في تحريم موالاة الكفار، كقوله تعالى: [لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] [المجادلة: 22]
الآية، والمودة هي المحبة والكرم، وقوله تعالى: [تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ
كَفَرُوا] [المائدة: 80] إلى قوله: [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ
مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ] [المائدة: 81] ، وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ] [التوبة: 23] فالنهي عن
التولي أمر بالهجر والإبعاد، والمقاطعة للأقارب، فضلاً عن الأباعد، وذلك أن
إكرامهم وتقريبهم، ومجالستهم، مع إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان،
يعتبر إقراراً لأفعالهم، وفيه دعوة لغيرهم إلى تقليدهم واتباعهم؛ حيث لم يلقوا من
المؤمنين إلا المودة والتقريب، والله قد نهى عن مودتهم، وجعل من والاهم مثلهم،
بقوله: [وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ] [المائدة: 51] أما إن كان العاصي أو
المبتدع متأولاً ويعتقد أنه على صواب، فإن الواجب دعوته، وبيان الحق له،
وتأليف قلبه وتقريبه، وكثرة نصحه، وتخويفه وتحذيره، من غير مبادرة إلى
الهجر الذي يكون مُنفّراً له عن الخير، ومبعداً له عن مجالس الذكر والعلم، سيما
إذا كان هجره وإبعاده يسبب اختلاطه بالأشرار، وامتزاجه بهم، ورسوخ المعاصي
في قلبه وابتعاده عن أهل الذكر والخير والعلم النافع؛ مما يسبب قسوة قلبه،
وانصرافه عن أهل الفضل والعلم، واعتقاده فيهم التنفير والغلظة والشدة، فمثل هذا
متى هجر واستعملت معه القسوة لأول مرة نتج عن ذلك بغضه للصالحين، ونفرته
من مجالستهم، واعتياضه عنهم بالأشرار، وإحسانه الظن بهم، لما يجد منهم من
التقبل والترحيب والتشجيع؛ وهكذا إذا كان العاصي معترفاً بذنبه، مقراً بسوء فعله، قد غلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، وكذا من يجالسه ويعمل معه من السفهاء؛
فإن ذلك يحدث كثيراً من بعض الجهلة، فأرى أن هجرهم مبدئياً مما ينفرهم،
ويسبب منهم التمادي في الغي والضلال، فمن المصلحة تقريبهم وتكرار نصحهم،
وتخويفهم، وترغيبهم في التوبة والإقلاع عن الذنوب، سيما إذا وجدت منهم الرقة
والتقبل، والوعد الحسن. وقد يجوز الهجر للعاصي إذا عُلم أن الهجر يؤثر فيه،
ويسبب إقلاعه عن المعاصي حيث إن هناك الكثير من العصاة يقع منه الذنب
الصغير أو الكبير، بلا حاجة ولا دافع نفسي، كحلق اللحية والإسبال، والتكاسل
عن الصلاة، وسماع الأغاني، وتعاطي الدخان أو الخمر، وهو مع ذلك متأول،
أو متساهل، فمتى هجره أبواه وإخوته وأقاربه، ومقتوه، وطردوه، تأثر لذلك،
وعرف خطأه، وكذا إن كان الهاجر له يعز عليه، كأصدقائه وأحبابه، فكثيراً ما
يحدث أن يتوب بعد الهجر، ويقلع عن العادات السيئة، فإن كان الهجر لا يزيده إلا
تمادياً في السوء، وعملاً للمعاصي، فالمصلحة تقتضي تقريبه، فذلك أخف للشر،
وأقل للعصيان، والله المستعان.
19- كثرة الواجبات أشغلت بعض الدعاة عن بيته، لا سيما إذا كان مشغولاً
بما هو فرض كفاية مما يرى أنه متعين في حقه: فهل له في هذا عذر مع اعتبار
المصالح والمفاسد في كلتا الجهتين؟
جواب: لا يجوز للإنسان أن يتقبل من الواجبات والأعمال ما هو فوق طاقته، بحيث يشغله عن الحقوق المتحتمة عليه لله أو لعباده، وقد قال النبي -صلى الله
عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص: (فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك
عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزَوْرك عليك حقاً) [1] والحق الذي لزوجه،
هو الأنس والمجالسة الكافية، والعشرة الطيبة، وقضاء الوطر، والمبيت المعتاد،
ولا شك أن ذلك لا يستغرق جميع وقته، ففي إمكانه أن يقوم بواجبه الوظيفي،
ومنه الدعوة إلى الله تعالى، وزيارة الإخوان، وأداء الواجبات الدينية، ومنه
الإتيان بما يقدم عليه في نهاره أو ليله من فروض الكفاية، سيما إذا رأى غيره لم
يقم بها، وأصبحت متعينة في حقه، ولو كانت تحتاج إلى سفر بعيد أو قريب،
كالمحاضرات، والندوات، والنصائح، وتغيير المنكرات، والأمر بالمعروف،
وإبداء الآراء والاقتراحات عند من يقبلها؛ وذلك لما فيها من المصالح العامة
للمسلمين، وما فيها من نصرة الدين، وقمع العصاة والمنافقين، ومع ذلك كله فلا
يهمل أهله وذريته، فقد ورد في الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يمون)
وفي لفظ: (أن يحبس عمن يمون قوته) ، وعليه أن يقنع أهله وزوجاته بما يحصل
لهم من نفقة، أو إقامة، إذا تحتم عليه السفر أو الانشغال، والله أعلم.
20- ما الشروط المعتبرة للشهادة بعدالة الرجل؟ وهل يمكن الاكتفاء فيه
بقول معدل واحد؟
جواب: تكلم العلماء في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الحديث، وأطالوا في
شروط العدالة في كتب المصطلح، وكتب الرجال، وذكروا أنه لا يقبل قول كل
جارح أو معدل؛ حيث إن هناك من يتكلم في الرجال بغير علم، فيجرح أو يعدل
بمجرد الظن والتخمين، وكذا من يتكلم لمجرد الهوى، فيجرح من يبغضهم أو
يعاديهم، ويعدل من يواليهم، ويعرف ذلك بمخالفته لغيره، فكثيراً ما ينفرد البعض
بتعديل الراوي، بينما بقية الأئمة جرحوه وطعنوا في روايته، ولا شك أن الكلام
في الرجال المسلمين، سيما بعد موتهم، له خطره، وخصوصاً من عُرف بالدين
والعبادة، والصلاح والاستقامة، وعرفت مكانته عند الأمة، وظهر له ذكر حسن،
ولسان صدق، فإن الكلام فيه من غير تثبت ذنب كبير، وقد قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري
وغيره. وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) رواه أحمد وغيره.
ومتى كان الكلام في الأموات لمجرد الهوى أو الحسد فإنه يكون طعناً في
الجارح نفسه؛ حيث إن المجروح قد اشتهر علمه وفضله، وانتشر بين الناس ذكره
الحسن، والثناء عليه.
أما إن كان المجروح ضعيف الحديث، وقد تصدى للرواية، فدخل في حفظه
خطأ، أو خلل، أو نقل ما ليس بصحيح، فإن الكلام فيه متعين على من عَرَف ذلك، مخافة الانخداع برواياته ونقوله، وهي غير صحيحة، ولذلك كان الإمام أحمد
والبخاري ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم يتكلمون في المحدثين،
ويذكرون ما فيهم من الجرح والطعن، وذلك من باب النصيحة للأمة، لا من باب
التنقص لهم، ولا يكون غيبة؛ لأنهم يذبّون عن سنة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، وينقّونها مما دخل فيها؛ فلو سكتوا لاشتبه الصحيح بالضعيف والسقيم،
ولم يفرق بين نسر وظليم، فهم مأجورون على كلامهم؛ ولأن أولئك تدخلوا في
رواية الحديث بغير أهلية، فوجب بيان حالهم بدون تعصبٍ أو هوى، والله أعلم.
21- ما توجيهكم لطلاب العلم الذين اشتغلوا بالجرح والتعديل في بعضهم وفي
بعض العلماء والأشخاص دون أن يأخذوا للأمر عدته ومتطلباته؟
جواب: لحوم العلماء مسمومة، أي غيبتهم والقدح فيهم يردي من تسرع
وطعن في علماء الأمة، ويتوجه الطعن والعيب عليه حتى يهلكه هلاكاً معنوياً؛
وذلك لأن علماء الأمة الإسلامية قد حَمّلهم الله هذا الدين، واختارهم لحمل كتابه
وسُنّة نبيه، وذلك شرف وفضيلة تميزوا بها عن غيرهم، وقد عرف الناس قدرهم
ومكانتهم المرموقة، واعترفت الدول والرؤساء بفضلهم وتقدّمهم، وولّوهم المناصب
الهامة، وصدروا عن آرائهم وتقبلوا نصائحهم واقتراحاتهم، فهم يقومون بأمر
عظيم، ويتحملون عن الأمة عبئاً كبيراً، ولو قُدّر أن في بعضهم شيئاً من الخلل
والخطأ، فإنهم معذورون، فهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، ويقدرون للأمور
حسابها، وليس في استطاعتهم ولا غيرهم إصلاح كل فاسد، ولا رد كل شارد،
ولكن بعض الشر أهون من بعض، وقد يظن بهم بعض العامة التساهل والتغاضي
عن الشرور الظاهرة، والمنكرات الموجودة، ويعتقد أنهم سكتوا عنها وأقروها،
والواقع أنهم قد قاموا بما في الإمكان، ودافعوا عن الأمة والدين الإسلامي، ودفع
الله بهم الكثير من كيد الأعداء الحاسدين، ممن يحاول الطعن في ديننا، وإدخال ما
يفسد القلوب، من الشرور والأضرار والفتن، فالعلماء يبذلون الجهد في الدفاع عن
الإسلام، والتخفيف من المنكرات، ولكن الشرور تتوافد وتتوارد من كل جهة،
فتغلب القوى الفردية، ويعتذر من خفف من شأنها، بصعوبة اجتثاثها، وبما في
بعضها من مصلحة أو خلاف ولو ضعيفاً يقتضي التساهل بها، ومع ذلك فالسعي
جاد في تقوية الحق ونصر الدين بقدر الاستطاعة، والله المعين، فعلى هذا من
اشتغل بالطعن في علماء الأمة الإسلامية أو في بعضهم فقد أساء العمل، وجهل
الحال فيقال لهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا
فعلى طالب العلم أن يشتغل بنفسه، ويتفقد عيوبه، ويسعى في إصلاح نقصه، كما عليه أن ينكر المنكرات بقدر استطاعته، وأن ينصح العلماء ويرشدهم إلى ما
يراه الأصلح للحال والمستقبل، ويتصل بكل من رآه مخلاً بشرط، أو واقعاً في
خلل، ويبدي له اقتراحه، ويقبل عذره، ويعترف بما يراه من الرأي السديد،
وينصح الشباب وطلبة العلم بعدم الخوض في أعراض العلماء، والميل أو التّحيّز
إلى جهة أو طائفة لمجرد تعصب أو هوى في نفس، وبذلك تصلح الحال، وتجتمع
الكلمة، وتقوى معنويات المسلمين، ويوجهون قوتهم إلى أعداء الدين في البعيد
والقريب، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله
على محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم (1975) ، وأخرجه مسلم في الصيام (1159) .(133/38)
فتاوى أعلام الموقعين
في رمضان: أيهما أفضل:
العمرة أم التصدق؟
تختلط الأمور على كثير من الناس في مواسم الخير، فيحارون في التفاضل
بين الطاعات، حتى إن بعضهم يقدم المفضول على الفاضل، أو المستحب على
الواجب وأحياناً يقع الحرج عند بعض الناس في فعل بعض الطاعات، تورعاً من
المخالفة فيضيع عليهم الأجر والثواب. وأحياناً أخرى ينصرف الناس إلى عمل
يرونه حسناً في وقته في حين أن غيره أحسن منه [*] .
وهنا سؤال ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن لونٍ من تلك
التساؤلات التي تتكرر موسمياً وقلما يسأل الناس عنها أهل الذكر. يقول السائل:
هل الأفضل لي والأكثر أجراً خلال شهر رمضان المبارك الذهاب لمكة
المكرمة للمكث فيها بضعة أيام لأداء العمرة والصلاة والعبادات الأخرى، أم أتصدق
بتكاليف ذلك مالياً في أوجه البر المتعدي نفعها، علماً بأنني من سكان مدينة الرياض، والله يرعاكم ويحفظكم؟
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه إذا كان بإمكانك أن تجمع بين
الأمرين المذكورين في السؤال فهو أفضل وأعظم أجراً؛ لما في ذلك من كثرة
الأعمال الصالحة والتقرب إلى الله بنوافل الطاعات. أما إن عجزت عن الجمع بين
الأمرين وقد أديت فريضة الحج والعمرة وظهر لك حاجة الفقير واضطراره فإنك
تقدم الصدقة على نافلة العمرة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: [فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ (11)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا
مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ] [البلد: 11- 16] ، ولأن نفع الصدقة يتعدى
لغيرك مع حصولك على الأجر العظيم والثواب الكثير، ولما في الصدقة من التكافل
والتآزر بين المسلمين وسد حاجة معوزهم وإعانته على أمور دينه ودنياه.
وبالله التوفيق،
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم..
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
... عضو: عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
... ... ... ... ... عضو: صالح بن فوزان الفوزان
... ... ... ... ... ... عضو: بكر بن عبد الله أبو زيد
__________
(*) انظر مقال فقه مراتب الأعمال، البيان العدد (97) .(133/48)
تأملات دعوية
أيها المربّون: لكل مقام مقال
عبد الله المسلم
لقد كان رحيماً رفيقاً. يحدثنا عن رأفته ورحمته أحد الشباب من أصحابه؛
فعن مالك بن الحويرث قال: أتينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة
متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألَنا عمن تركْنا
بعدنا فأخبرناه، قال: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر
أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة
فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) [1] .
لكن حين يتطلب الأمر الحزم فإن الحال يختلف؛ وقد كان -صلى الله عليه
وسلم- كذلك، ففي موقف آخر يأتيه شاب من أصحابه شاكياً له ما أصابه من
المشركين، وقد بلغ به الأذى والشدة كل مبلغ وهو خباب بن الأرت فها هو يروي
الموقف فيقول: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محمر وجهه، فقال: (لقد
كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه
ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك
عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما
يخاف إلا الله) [2] .
وها هو في موقف آخر أيضاً مع أحد الشباب، فعن أسامة بن زيد بن حارثة
رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من
جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً
منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته
برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
فقال لي: (يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قال: قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوّذاً، قال: (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قال: فما زال يكررها
عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم [3] .
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يضع لكل موقف ما يناسبه؛ ففي الموقف
الأول: شاب يأتي إليه من أصحابه، وهو في آخر أيامه -صلى الله عليه وسلم-
فإن غادره لن يلقاه أخرى حتى يموت، وهي فرصة للتعلم والاستزادة لن تتكرر في
حياته، لكنه لرحمته ورفقه -صلى الله عليه وسلم- لم يؤكد عليه البقاء والاحتساب
لطلب العلم بل لصحبته ومجالسته.
بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله ليبادر هو، ويدرك ما في نفوسهم دون أن
يطلبوا هم منه ذلك، فيبادرهم آمراً إياهم أن ينصرفوا إلى أهلهم.
وفي الموقف الثاني: يأتيه شاب غض الشباب يشتكي إليه شدة الأهوال التي
لقيها من المشركين، فيحمر وجهه ويغيّر جلسته.
ولربما يتصور بعض الناس أنه كان من الأوْلى في الموقف الأول الحزم،
وتعويد الشاب على الجدية في طلب العلم، وتحمل الغربة وشدتها، والتعاطف في
الموقف الثاني مع هذا الذي تعرض للأذى وجاء يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-
الدعاء.
لكنه -صلى الله عليه وسلم- الحكيم والمربي، الذي يضع لكل مقام ما يناسبه. فما أجدر من يقتدي به من المربين أن يضع الحزم في موضعه، وأن يضع
التعاطف والرفق في موضعه.
__________
(1) رواه البخاري (631) ،.
(2) رواه البخاري (3852) .
(3) رواه البخاري (6872) ، ومسلم (96) .(133/50)
نص شعري
المسجد الأقصى.. نجوى وحنين
بقلم: د. عدنان النحوي
أنا المسجدُ الأقصى! وهذي المرابعُ ... بقايا! وذكرى! والأسى والفواجعُ
لقد كنتُ بين المؤمنين وديعةً ... على الدهرِ ما هبّوا إليّ وسارعوا
يضمّون أحناءً عليّ وأعْيُناً ... وتحرُسني منهم سيوفٌ قواطعُ
زُحوفٌ مع الأيّام موصُولةُ العُرا ... فترتجّ من عزْم الزّحوف المرابعُ
وعَهْدٌ مع الله العليّ يشدّه ... يقينٌ بأنّ المرء لله راجعُ
فما بالُ قومي اليوم غابُوا وغُيّبوا ... وما عادَ في الآفاقِ منهم طلائعُ
وما بال قومي بدّلوا ساحة الوغى ... فغابَتْ ميادينٌ لهم ومصانعُ
وما بَالُهُمْ تَاهوا عن الدرب وَيْحَهمْ ... فجالتْ بهم أهواؤهم والمطامعُ
فغاب نداءٌ ما أجلّ عطاءَه ... تتردّده في كل أفْقٍ مجامِعُ
وكانتْ ميادينُ الشهادة ساحَهم ... فصار لَهُمْ ملءَ الدّيار مَرَاتعُ
وفي كلّ يومٍ مَهْرَجانٌ يَضُمّني ... وتندبني بين القصيد المدامِعُ
فأصبحْتُ، يا ويحي، أَحاديثَ مجلس ... وأدمعَ بكّاءٍ حوتْه المضاجِعُ
وكان يُدوّي في الميادين جولةٌ ... فصار يدوي بالشعارات ذائعُ
ففي كلّ يومٍ، وَيْحَ نفْسي، مَسارحٌ ... تُدَارُ وأهواءٌ عليها تَنَازَعُ
تُدارُ خُيوطُ المكر خَلْفَ سِتَارها ... وتُعْلَنُ آمالٌ عليها لوامِعُ
ويَطْوِي عَلى هُونٍ أسايَ وذِلّتي ... شعَارٌ يُدوّي أو أمانٍ روائعُ
تُمزّقُ أوْصالي وتُنْزَعُ مُهْجتي ... ويطلب نصرٌ والديار خواضِعُ
يقولون (تحرير) ويُجْرون صَفْقَةً ... عليها شهودٌ ضامنون وبائعُ
يقولون (تقرير المصير) وإنه ... لِتَدمير آمال: فمعْطٍ ومانعُ
يفاوضُ فيه الشاةَ ذئبٌ وثعلبٌ ... وقد مَهّدَتْ عَبْر السنينَ الوقائعُ
يقولون: أهلُ الدار أدرى بحالها ... وأين همُ؟ ! إني إلى الله ضارعُ
وأهلي! وما أهلي سوى أُمّةٍ لها ... من الله عزمٌ في الميادين جامعُ
وصفّ يشدّ المؤمنين جميعَهمْ ... كأنّهُمُ البُنْيانُ: عالٍ ومانِعُ
إذا لم تقمْ في الأرض أمّة أحمدٍ ... فكل الذي يُرْجَى عَلى الساح ضائعُ
حنانيكَ يا أَقْصَى! حنانَيكَ كُلّما ... خَطَرْتَ وشدّتني إليك النوازعُ
فيافٍ ترامت بَيْنَنَا ومَسالِكٌ ... تُسَدّ وأشواقٌ إليك تصارعُ
تَمُرّ مع الذّكرى لتوقظ أمّةً ... وحولك غافٍ لو علمتَ وقابعُ
أُطأطئ رأسي ما خطرت وأنثني ... وطرفيَ من هُونِ المذلة خاشِعُ
وأُصغي! ونجْوى البرتقال تهزّني ... ووشوشة الزيتون منكَ قوارعُ
يعيدُ لنا العُتْبى حنينٌ مرجّعٌ ... يردّده فيك الحمامُ السواجعُ
فيا أيها الأقصى أنينك موجع ... تهيج به بين الضلوع الفواجعُ
حنينك أصداء العصور ولهفةٌ ... فصبراً وما يدريك ما الله صانعُ
رجعتُ! فناداني! وعدتُ لكي أرى ... على جانبيه دمعة تتدافعُ
وقال: إبائي يحجز الدمع كلّه ... ولكنّ حزني اليوم طاغٍ ودافعُ
جَرَتْ دَمْعة في الأرض مِنهُ فَأوْقَدتْ ... عزائمَ أجيالٍ وزحفاً يُتابعُ
فَلَسْطِينُ حقّ المسْلمين جَميعِهم ... وهذا كتابُ الله بالحقّ سَاطِعُ(133/52)
قراءة في كتاب
نهضة أمة.. كيف نفكر استراتيجياً؟ `
عرض: وائل عبد الغني
المؤلف: لواء أركان حرب: د. فوزي محمد طايل.
طبعة: 1، سنة 1418هـ 1997م.
الناشر: مركز الإعلام العربي القاهرة.
عدد الصفحات: 412 صفحة، قطع كبير.
تدور فكرة الكتاب الرئيسة باعتبارها دراسة استراتيجية حول حال الأمة
الراهن، وكيفية الخروج منه، ومحاولة وضع أسس للنهضة من خلال الاجتهاد في
وضع منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة، مع بيان الفرق بينها وبين
القيم الغربية المقابلة لها في الصراع الدائر اليوم والتي يفرضها النظام العالمي
الجديد، وبيان مدى التضليل الذي يمارس في التقريب بينها وبين قيمنا الإسلامية.
لذلك كان لا بد من التفصيل في كلّ من القيم، والنظام العالمي الجديد وآلياته
وأساليبه التي يراد من ورائها تغييب الوعي وإخماد روح المقاومة في الأمة.
والكتاب الذي أهداه مؤلفه إلى النخبة من أهل العلم من المؤمنين وأهل
السلطان يتكون من أبواب خمسة:
الأول: مصادر الأحكام ومراجع الفكر.
الثاني: منظومة القيم الإسلامية.
الثالث: إرهاصات النظام العالمي الجديد.
الرابع: النظام العالمي الجديد.
الخامس: أساليب وآليات إقامة النظام العالمي الجديد.
الباب الأول: ينقسم إلى فصلين:
الأول: يتحدث فيه عن مصادر الأحكام ومراجع الفكر، وأنها منحصرة في
الكتاب والسنة؛ فالقرآن لأنه حق اليقين وما سواه ظنّي؛ فله تخضع كل العلوم؛
والسنة لأنها مصدر مكمل ومبين للكتاب صدرت من أعلم خلق الله تعالى بالقرآن.
الفصل الثاني: ينفي فيه وجود مصادر نقلية أخرى للأحكام والفكر، ويخلص
إلى كون الإجماع مصدر مستقل بشروطه.
ويعتبر الاجتهاد الفكري فريضة تمليها المستجدات والنوازل، وهو ينطلق في
الإسلام من نقطة تمثل مفرق طريق مع المناهج الأخرى؛ وهي حكمة الخلق
واستخلاف الإنسان في الأرض على المنهج السماوي. وتظهر أهمية الاجتهاد
الفكري في كونه النهج الذي يحفظ للأمة القدرة على التطور والتعامل مع متغيرات
الزمان والمكان، والاستعداد لمواجهة الأمور المستقبلية.
وعلى الرغم من وجوب سير المجتهد خلف النص وفي إطاره إلا أن الاجتهاد
يظل عملاً إنسانياً تحده القدرة العقلية للمجتهد الذي قد يفتح الله له بفهمٍ لا يتيسر
للآخرين.
ولا يعني وصول المجتهد مرتبة من العلم مهما علت أنه الأقدر دائماً على
بلوغ الصواب في كل المسائل، وهذا لا يعني أبداً أن يتصدر للاجتهاد من لم
يستجمع آلته وأهليته؛ لأن الأمر مزاج بين علمٍ مكتسب وملكة هي منة يختص بها
الله من يشاء من عباده. ويبرز وفق هذا حاجة الأمة إلى تصور اجتهادي شامل
للأمور (فكر استراتيجي شامل) ، خاصة مع كثرة المستجدات واتساع المعرفة
والتطور السريع.
واقترح أن يتم الاجتهاد على مستويين:
الأول: فردي؛ يتيح المجال أمام المجتهدين.
والثاني: باجتماع العلماء الذين اجتهدوا في كل مسألة بعينها لحسم ما يمكن
حسمه من مسائل الخلاف، وبهذا تتوافق آراء الأمة حول القضايا الاستراتيجية.
وقد حاول المؤلف أن يقدم من خلال تجربته هذه محاولة للفكر الاستراتيجي
الإسلامي، والتي نحتاج إلى تفعيلها، وحدد أسباب التخلف في أربعة أمور هي:
1- انفصال الأمة عن شرعة الإسلام ومنهاجه، وضعف الإيمان في النفوس.
2- عدم وضوح منظومة القيم الإسلامية في النفوس واختلاطها بغيرها من
القيم الفاسدة.
3- عدم وجود أي فكر استراتيجي إسلامي شامل يتعامل مع المستقبل.
4- تغييب إرادة التغيير والنهوض بل والإرادة بشكل عام.
لذا لا بد للأمة أن تجتمع على منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة.
وهي كما يراها: العلم، والإيمان، والعمل، وتكريم الله للإنسان، ووحدة
الأمة، والعدل، والشورى.
وهي موضوع الباب الثاني:
ويعني بالقيم جمع قيمة الأمر المعتدل في الوضع الأمثل.. ولم يُصنّف أحد
من العلماء من قبل في هذا الباب بذاته؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين كله وعليها
يقوم المجتمع الإسلامي.
هذه القيم ثابتة بثبات مصادرها، ويتفرع عنها قيم أخرى حاجية وتحسينية.
وأول هذه القيم: العلم؛ إذ به كُرّم آدم واستخلف في الأرض.
ويبرز أثر العلم في بناء الأمم والحضارات، مع كون الإسلام يتضمن المبادئ
العامة والأسس التي تحكم العملية التربوية والتعليمية والبحث العلمي، ثم يحاول بعد
ذلك رسم سياسة عامة للتعليم في بلاد المسلمين.
والقيمة الثانية: كما يراها: الإيمان. لأن مطلق الإيمان بشيء ما يعد قيمة
عليا عند غالب البشر، وعلى مقتضاه يتشكل الضمير الإنساني وتتشكل نظرته
لمناحي الحياة.
والإيمان بالله له مدخل محدد منضبط هو الإسلام. وعلى ذلك فهو مفرق
طريق بيننا وبين غيرنا في كل شعبه. وهو أمرٌ فطري بخلاف الفكر الغربي الذي
يعتبره مكتسباً من خلال الملكات العقلية.
وثالث هذه القيم: العمل الذي يمثل قاعدة لمثلث القوى الذي تستقر عليه
المنظومة العليا، وكثيراً ما يوصف العمل بـ (الصالح) في القرآن، ويتحقق به
استخلاف الإنسان في الأرض، وتكتمل به عبادته؛ لارتباطه الوثيق بالإيمان؛ فهو
ليس أمراً مادياً بحتاً، وبهذا يتميز كقيمة إسلامية عليا.
وليحقق العمل نتائجه المرجوة فلا بد من التعليم والتنشئة والانتقاء لتحقيق
أعظم المكاسب للأمة.
وهو متميز في الإسلام؛ لأنه يبدأ من سن التكليف ولا ينتهي إلا بالموت،
وبهذا يتحدد وعاء العمل في الأمة ككل في أثناء التخطيط. ولا يمكن أبداً إهدار
دور النساء لاعتبارهن شقائق الرجال؛ فللمرأة دورها الذي خصها الله به وفق
طبيعتها، وهو بين الندب والكفاية والتحريم، والحل فيما وراء ذلك.
ويستكمل خريطة العمل في هذا المجال بتحديد أهلية التكليف بالعمل (العلم
والكفاءة) وشروط الترقية، وطريقة التعاقد، وطريقة تحديد الأجر على الكفاية لا
الكفاف، والتوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة مع تجنب المحرمات،
ودور التخطيط في مراعاة ذلك في توجيه العمل الذي يعد عبادة كالصلاة؛ لذا تعد
إقامة الشعائر جزءاً من خطة التنمية.
أما القيمة الرابعة فهي تكريم الله للإنسان، وهي هبة ربانية غير معلقة على
شرط ولا حتى الإيمان؛ لهذا فلا يجوز للإنسان التنازل عنها، ولا يجوز لكائن من
كان أن يجرد منها إلا أن يشاء الله [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] [الحج: 18] .
والتكريم ليس من قبيل الحقوق التي تُرتّب للإنسان مقابل التزام يلتزم به؛ بل
هو من قبيل السنن الإلهية.
وللشارع الحكيم في تكريم الإنسان مقاصد خمسة هي: حفظ العقل، والدين،
والنفس، والعرض، والمال.
أما التطابق بين تكريم بني آدم وبين فكرة حقوق الإنسان فمزعوم؛ لأن الثانية
قائمة على افتراض الخصومة بين الفرد والدولة؛ لذا فهي مجرد دفاع سلبي عن
الأفراد دون تقديمهم لأي مقابل؛ مع أن المفترض أن يقدموا الواجب ليكون مسوغاً
لطلب الحق.
كما تقوم على فكرة المساواة التامة التي تجافي العدل لا سيما أن فكرة المساواة
كانت من صنع اليهود ليدفعوا عن أنفسهم الاضطهاد الأوروبي.
وتستخدم حقوق الإنسان اليوم كوسيلة ردع وتدخل وإكراه من قبل الدول
الأقوى، وأداة للضغط المعنوي لإجبار الدول الضعيفة على انتهاج سياسات داخلية
وخارجية بعينها وإلا تعرضت للعقوبات.
ثم فنّد مخاطر هذه الفكرة على المجتمعات.
أما القيمة الخامسة فهي وحدة الأمة، وهي فريضة معلومة من الدين
بالضرورة. وللأمة أربعة أبعاد لا ينفصل أحدها عن الآخر هي:
1- بعد عقدي: وهو الأصل والمعيار.
2- بعد إقليمي: يجعل كل الأرض التي سرت عليها أحكام الإسلام يوماً من
الأيام أرضاً إسلامية.
3- بعد شخصي: يدخل في الأمة كل من دخل في الإسلام.
4- بعد تاريخي: يفيد استمرارية وجود الأمة دون انقطاع.
ومما حبا الله هذه الأمة من مقومات الوحدة:
1- حفظ الله لكتابه.
2- التواصل التاريخي والجغرافي لهذه الأمة.
3- وحدة المصلحة العليا التي تتمثل في إقامة الدين، والدعوة المستمرة إلى
الله، والجهاد الذي لا يفتر إلى أن تقوم الساعة حتى تكون كلمة الله هي العليا.
4- الحب والود والرحمة الذي جعله الله في قلوب المؤمنين بعضهم نحو
بعض.
5- وحدة الخطاب القرآني في الأحكام.
وبهذا فإن المجتمع المسلم لا يعرف صراعاً بين السلطة والأفراد، ولا يعرف
الحزبية؛ ولذا ينبغي عدم الخلط بين الحزب السياسي والمذهب الفقهي.
وتقتضي وحدة الأمة عدم جواز إقامة حواجز سياسية تفرق بين المؤمنين؛
لأن الوحدة من الثوابت والفرقة حديثة عهد، وليس للمتغير أن يمحو الثابت.
سادسة القيم: العدل: وهي قيمة لا يمكن لإنسان أن ينكر علوها وإنما
الاختلاف في (ماهية العدل ومعياره) . والعدل باعتباره قيمة فريضة معلومة من
الدين بالضرورة لا تستقيم الحياة إلا بها؛ لذا جعل الله إقامته أمانة، وأعان على
ذلك بالقوة. ويختلف معيار العدل في الإسلام كثيراً عن معياره عند أهل الكتاب؛
لأنه يشمل عندنا العدو والصديق، ولا اعتبار للصلات أو للمكانة الاجتماعية، وقمة
العدل هي في الحكم بما أنزل الله. ويختلف العدل عن المساواة؛ لأن البشر
متفاضلون.
ومن العدل الموازنة بين مصلحة الفرد والمجتمع. وإقامة العدل شعيرة ينبغي
أن تُنصب لإقامتها مجالس القضاء، ويكتمل دورها بالحسبة التي تحول دون وقوع
الظلم والاعتداء، أما الحضارة الغربية فكثيراً ما تلبس الظلم لبوس العدل.
سابعة القيم: الشورى، وهي واجبة الأداء؛ لأنها الطريقة التي شرعها الله
تعالى لصنع واتخاذ القرارات في كل المستويات، ولها مراحل ثلاث هي:
1- مرحلة صنع القرار من خلال الصفوة (أهل الحل والعقد) .
2- مرحلة اتخاذ القرار (من المسؤول) (أي: العزم) .
3- مرحلة التنفيذ بعد استنفاد الجهود، والأخذ بالأسباب، مع التوكل على الله، وهذا مستنبط من آية الشورى.
وتتميز في الإسلام من حيث موضوعها: وهو ما لا نص فيه، ومن حيث
مرجعيتها: فإلى منظومة القيم الإسلامية؛ وهي أوجب في القرارات المصيرية مثل
تنصيب الولاة والحكام.
ومن تميز الشورى مباينتها التامة للديمقراطية التي صارت بضاعة بالية تحمل
من العيوب ما لا يمكن لمؤمن قبوله، وما نجاحها في الاستيلاء على ألباب بعض
المفكرين في أمتنا إلا لأنهم [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] [الروم: 7] .
وفي ختام الباب يرى المؤلف استحالة التنمية الشاملة دون بذلٍ لجهد وأخذٍ
بالقوة مع ما آتانا الله تعالى من الكتاب والحكمة، والتوكل على الله الذي يداول
الأيام بين الناس.
وفي الباب الثالث: يتناول المؤلف إرهاصات النظام العالمي الجديد، من
خلال أربعة محاور. فأشار ابتداءً إلى غموض مصطلح النظام العالمي الجديد،
وأنه قائم على فكرة عقدية (يهودية نصرانية) تقتضي تهيئة الأرض بالسلام لقدوم
المسيح المخلص! وهي فكرة استراتيجية لا يمكن فصلها عن منظومة القيم والعقيدة
وأحداث التاريخ وواقع الجغرافيا.
ثم يعرض لتطور العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب منذ بعثة النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وتطور الصراع حتى وصل إلى شكل حروب صليبية عقدية ممتزجة
بأهداف اقتصادية وسياسية تعكس مفهوم الفكر الاستراتيجي الصليبي الغربي.
ومع انتقال مركز الحضارة من الشرق إلى الغرب في منتصف القرن الثامن
عشر، أشار كثير من منظريهم في أدبياتهم إلى أن الحضارة الغربية (يهودية
نصرانية) أو بتعبير أدق (صهيونية صليبية) ، وهو ما يُشعر بأن الحركة الصهيونية
قد تحركت منذ وقتٍ مبكر (القرن السابع) سراً للتأثير في آباء الفكر الأوروبي،
وعملت إلى جانب ركوب موجة النهضة الأوروبية على هدم القوة الإسلامية آنذاك
المتمثلة في الخلافة العثمانية.
وإذا كان اليهود هم الذين نظّروا لليبرالية فإنهم هم مؤسسو الماركسية أيضاً.
ونتيجة لهيمنة اليهود على الحضارة الغربية منذ نشأتها فإن موجات العداء
للإسلام ودولته قد تزايدت؛ إذ استحدثوا لها مسمى جديداً هو (المسألة الشرقية) .
واستطاعوا هدم الخلافة من خلال الاختراق الداخلي لنظم الحكم والاقتصاد
والاجتماع، بالإضافة إلى اقتطاع أجزاء من أطراف الدولة وتشجيع النزعة
الانفصالية القومية في كثير من أقطار الدولة.
وقد لعبت روسيا منذ مطلع القرن العشرين دوراً بارزاً في هذه الجريمة.
ولكن الأخطر من هدم الدولة ذاتها نجاحهم منذ القرن (19) في تربية
(مجموعات معينة) ، وإيصالهم إلى مراكز القيادة في كل المجالات، وعلى جهود
هؤلاء ومن تخرج على أيديهم تم نشر العلمانية والماركسية في آن واحد من أجل
طمس الهوية الإسلامية.
وبعد أن نجح اليهود في الغرب والشرق نجحوا كذلك في حماية أقلياتهم بكل
الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية التي استخدمت في مناسبات مختلفة للتمكين
لليهود في البلاد الإسلامية.
وبانتهاء العصر الإمبريالي تبنت الحكومات في بلادنا نهج الاشتراكية،
فسارع اليهود بتحويل أموالهم إلى أوروبا وأمريكا.
الباب الرابع: يتحدث عن تكوّن هذا النظام من خلال ثلاثة فصول:
الأول: يتحدث فيه عن بدايات (الفكر الجيوبوليتكي) ويعني به: إعادة ترتيب
الأوضاع الجغرافية باستخدام القوة المسلحة لتتلاءم مع الأهداف السياسية لدولة مّا،
ثم يفرق بين كل من المحتوى الفكري للإمبريالية الأوروبية، وبين نظرية القوة
البرية الروسية، ونظرية البحرية الأمريكية التي بدأت ملامحها تظهر منذ نهاية
القرن (19) ، ويكشف التضليل الذي يُمارَس من خلال ترجمة لفظ
(Imperialism) على أنها (استعمار) وهي أبعد ما تكون عنه.
ثم يتتبع الخط التاريخي لكل من النظريات الثلاث السابقة عبر التاريخ التي
أدت إلى صراع أوروبي ثم أمريكي روسي انتهى بانتصار استراتيجية المواجهة
الأمريكية بالتفرد بالسيطرة على العالم، وإذعان أوروبا المبكر، وسقوط الاتحاد
السوفييتي في أوائل هذا العقد.
وفي الفصل الثاني يحدد معالم النظام العالمي الجديد، الذي تقوم فلسفته على
(فكرة الخلاص) التي ظهرت مبكراً.
والمتابع لنشاط الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة التابعة لها، والإقليمية
السائرة في ركابها، يدرك أن استراتيجيتها تسير قدماً نحو المجتمع العالمي الواحد
الذي تهيمن عليه القيم (الصهيونية الصليبية) والتي كان من أخطر أدوارها زرع
إسرائيل في المنطقة الإسلامية وما نتج عن ذلك من أحداث.
وفي الفصل الثالث يستعرض ما قبل النظام العالمي الجديد، وفصول الصراع
الأيديولوجي لليبرالية والماركسية، رغم خروجهما من رحم واحدة، وكيف أنهما
نقلا الصراع بينهما فيما يعرف بالحرب الباردة إلى مسرحين: الأول: في (الشرق
الأوسط) أو ما يطلق عليه دول (العالم الثالث) . وبعد أن حُلت (المسألة الشرقية)
كان اللعب على هذا المسرح هو الأخطر في حسم كثير من الصراعات مبكراً على
عكس الظاهر لصالح الولايات المتحدة والصهيونية العالمية، عن طريق: النفَس
الطويل، والتفكير الاستراتيجي، وتوظيف العملاء، واللعب بورقة الديون،
والخداع العلمي والعسكري، وصناعة الفعل ورده؛ كل ذلك أسهم إسهاماً بالغاً في
إنهاء الجولات لصالح أمريكا إما حالاً وإما مآلاً.
أما المسرح الثاني فكان في أوروبا، وقد مارست القوتان حرباً بالوكالة
حسمت لصالح أمريكا أيضاً، حتى استطاع كيسنجر (اليهودي) أن يعلن في 1972 م عن نهاية اللعبة وبداية الانفراج، ومن ثم التوجه نحو النظام العالمي الجديد كي
تنشر قيمه وتزدهر، وهو ما عبر عنه (كلينتون) في حفل تنصيبه قائلاً: (إن
أمريكا تؤمن أن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً
مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) .
أما الباب الخامس والأخير فذكر فيه المؤلف أهم وأخطر آليات وأساليب إقامة هذا النظام، وقسمه إلى فصول أربعة:
تحدث في الأول منها عن مؤتمر سلام الشرق الأوسط الذي رُوّج له عقيب
قيام النظام وانتهاء حرب الخليج مباشرة؛ وكان يهدف إلى تأمين المصالح الأمريكية
والإسرائيلية في المنطقة، من خلال جر العرب إلى مفاوضات حاصلها سراب.
وفي الفصل الثاني يتحدث عن النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي يُستهدف
من ورائه اقتطاع الجزء الأكبر من الأمة الإسلامية وإلحاقها بإسرائيل لتصبح
بالنسبة لها مجالاً حيوياً وسوقاً وقوة مضافة إليها؛ ولتمتلك إسرائيل من ذلك دوراً
أكثر فاعلية على نطاق الحركة الكوكبية؛ باعتبارها والولايات المتحدة جناحي
الصهيونية العالمية، والفكرة وصناعتها كلاهما صهيونيتان على حين تقف الأمة
أمام ما يقع منها موقف المتفرج.
واستعرض المؤلف التصور الإسرائيلي لهذا المشروع وأهم الخطوات التي
اتخذت بهذا الصدد، وذكر أن الخطر على القيم مطرد مع حجم التكامل الاقتصادي.
ثم تناول المشروعين: الأمريكي، ومنافسه الأوروبي (البحر المتوسطي)
وأهداف كل طرف ومدى استجابة المنطقة لهما.
وفي الفصل الثالث: تناول آلية لا تقل خطراً عن سابقتها وهي مركزية
السيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال مجموعة من المنظمات الدولية، وعبر
سلسلة من الإجراءات والخطط الاستراتيجية التي من أبرزها:
إقامة تحالف بين الدول الصناعية الكبرى التي تتبع النظام الرأسمالي.
الهيمنة على الموارد العالمية وعلى النشاط البشري؛ بدعوى الحفاظ على
البيئة من التلوث.
إنشاء منظمة للتجارة العالمية؛ لإزالة العقبات أمام السيطرة المركزية على
الاقتصاد.
ضبط المواليد وإحياء نظرية (مالتس) للسكان بحجة الحفاظ على نتائج برامج
التنمية في الدول النامية من وطأة الزيادة السكانية.
أما الفصل الأخير: فتحدث عن الترويج لثقافة السلام كمظلة فكرية للهيمنة
الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهي تقوم على نزع طاقة التدافع الفطرية
الموجودة لدى البشر، وإعادة توجيه هذه الطاقة إلى أمور أخرى غير القتال، بل
ونزع كل ما من شأنه استثارة الميول نحو التدافع. ولكي تنجح هذه الفكرة فلا بد
من المضي قدماً في السيطرة على التسليح في العالم، بل إلى ما هو أبعد من ذلك:
هدم فكرة الدولة باعتبارها شراً.
هدم نظام الأسرة باعتباره الكيان الباقي الحافظ للقيم.
إزالة الخصومات والثقافة العقدية.
مكافحة ما يُسمى بالإرهاب الذي يعني تصفية أي قوى تقف في طريق
مشروعهم.
وفي الختام..
فإن الكتاب قد حوى أفكاراً لا تقل أهمية عما ذكرت، وفيما ذكرته إشارة إلى
غيره، وهو يعتبر إضافة ثرة جمع فيها المؤلف رحمه الله المسائل الفقهية إلى
جانب السياسة الشرعية، وتفنيد حقائق الواقع والتاريخ مع إدراك عميق لما جرى
ويجري حولنا من أحداث في أسلوب سلس تستشعر فيه صفاء النظرة والحرص
على إظهار الحق واتباعه، ويمثل حصيلة وعيٍ غنية للصحوة الإسلامية بل
وللنخبة في بلادنا. ومما يزيد من أهمية الكتاب كون صاحبه رحمه الله خبيراً
استراتيجياً على درجة عالية من التخصص العلمي وسعة الاطلاع.
غير أن هذا لا يمنعني من أن استدرك أمراً ذا خطورة لعله مرّ على المؤلف
دون أن يقصده لذاته؛ حيث قدّم في ترتيبه لمقاصد الشريعة حفظ العقل على حفظ
الدين، وسوّغ ذلك بقوله: (فلا يكره أحدٌ على دينه حفظاً للعقل) . ويؤخذ على هذا
الكلام كونه ليس له أصلٌ في الشرع؛ لأن نفي الإكراه في الدين لا يعني تقديم حفظ
العقل على حفظ الدين، وإلا لما جاز قتال الكفار لمجرد كفرهم، وفي الحديث:
(أمرت أن أقاتل الناس ... ) ، كما أن الله نفى العقل عن الكافرين، والمقصود به
هنا إدراك الحقائق، فإذا كان العقل معطلاً عن إدراك الحقائق على ماهيتها فهو فاسد
مهدر، فكيف يقدّم على الدين الذي هو سبب فلاح الدنيا والآخرة، كما أنه ثبت من
الشرع تقديم حفظ ما هو أدنى من الدين (النفس) عند إشراف النفس على الهلاك
بجواز تغييب العقل بشرب الخمر حفظاً للنفس، وأنه كما هو متقرر أن لا تناقض
بين العقل الصحيح والدين الحق الذي هو الإسلام، والحق المطلق مقدمٌ عند العقلاء. كما أن الخلاف بين أهل السنة منحصر في أولوية التقديم بين الدين والنفس مع
الاتفاق على تأخر العقل عنهما، ولعل المؤلف تردد في هذا المعنى؛ إذ ذكر بعدها
كلاماً ينافي ما ذكره هنا.(133/54)
المسلمون والعالم
غروب الحضارة الأمريكية
القرن الحادي والعشرون قرن الانحطاط الأمريكي
كمال حبيب
عندما كتب (توينبي) في الخمسينيات كتابه الضخم المعنون بـ (دراسة
التاريخ) اعتبر أن تأثير أمريكا في الحضارة الغربية يعتمد على أن القرن العشرين
هو (القرن الأمريكي) أو قرن الرجل العادي، أي: إن البسطاء من الناس
سيحصلون فيه على حقوقهم [1] .
وفي الواقع فإن أمريكا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وفي منتصف القرن
العشرين أصبحت قوة عالمية تتمتع بثروة وازدهار لم تعرفهما أي دولة أخرى، كما
وصلت إلى أعلى مراتب القوة، ووسعت من مصالحها وتأثيرها إلى ما هو أبعد
كثيراً من حدودها، وارتبط صعود أمريكا باعتبارها قوة عالمية مهيمنة بإعادة هيكلة
توزيع القوة في العالم لصالحها، حيث سيطرت على (اليابان) القوة الآسيوية
الكبرى، وسيطرت على (ألمانيا) أقوى دولة أوروبية، وكان الاتحاد السوفييتي
(المنهار لاحقاً) لا يزال في مرحلة بناء قوته الاقتصادية، وكانت الدول المستعمَرة
في العالم في مرحلة (فراغ القوة) ؛ أي إن الصعود والهيمنة الأمريكية ارتبطت
بضعف القوى العالمية الأخرى لصالحها، لكن الأمر لم يكن مرتبطاً بانحطاط القوى
العالمية الأخرى وحسب، وإنما كان مرتبطاً أيضاً بتوافر عناصر القوة الأمريكية
الداخلية، فأمريكا في عام 1949م كانت الدولة الأولى في متوسط دخل الفرد،
وكان الفرد الأمريكي هو الأعلى حيازة في العالم للسيارات والتليفونات، واستهلاكاً
للكهرباء، والأكثر نصيباً في الرعاية الصحية، كما كان الأمريكيون يشترون
6أضعاف ما يشتريه غير الأمريكيين من ملابس وأحذية، ويستخدمون 70% من السيارات، و35% من الطرق، و70% من الطائرات المدنية في العالم [2] ،
وتسارع النمو الاقتصادي الأمريكي 40 ضعفاًَ خلال الفترة من 1870م 1950م،
وتزايد عدد السكان من 40 مليوناً إلى 150 مليون، وبعد الحرب العالمية الثانية
أصبحت أمريكا تنتج 50% من مجمل الإنتاج العالمي للسلع والخدمات، وزاد
احتياطي رأس المال لديها من 45 مليار، إلى 895 مليار، واستطاعت أمريكا
تحقيق معجزة اقتصادية خلال الحرب فضاعفت الناتج المحلي الإجمالي لها من
100 مليار سنة 1940م إلى 200 مليار دولار عام 1945م، وحققت أمريكا تفوقاً
لا يضاهى في الإنتاج الصناعي، كما احتكرت تقنية القنبلة النووية [3] . وبدأت
أمريكا بصعودها تعبيراً عما يطلق عليه علماء الحضارات: (التداول الحضاري)
أي إن صعودها ارتبط بانهيار قوى أخرى دولية لصالحها؛ باعتبار أنه لا يوجد
دوام لسيطرة قوة دولية بشكل كامل على العالم، واعتبر أن ذلك أحد الثوابت
والسنن الاجتماعية (صعود وسقوط الحضارات) ، ولم تكن القوة الأمريكية تستند
فقط إلى القوة العسكرية والاقتصادية، وإنما استندت كذلك إلى نموذج حضاري بدا
مثيراً للنظر؛ فعلى سبيل المثال كتب (دانييل بورستاين) : (أن أمريكا لديها شيء
تعلّمه لكل الرجال ليس من خلال التوقع وإنما من خلال نموذج معاش تمثله فكرة
(التراضي العام الأمريكي) [4] .
الانحطاط الأمريكي:
من منظور حضاري فإنه مع صعود قوة عالمية مهيمنة وحاكمة، فإن هذا
الصعود قد يحمل معه بذرة ضعفه التي لا تظهر للعيان؛ لأن القوة تخفي هذا
الضعف الكامن، وهذا هو ما حدث لأمريكا، وفي الواقع فإنه منذ العام 1971م
كانت هناك تصريحات لمسؤولين أمريكيين تؤكد الضعف الكامن في بنية الهيمنة
الأمريكية، وعلى سبيل المثال: فإن نيكسون قال عام 1971م في خطاب له من
البيت الأبيض: (هناك مشاكل خطيرة تواجه قوة الأمة الأمريكية، هي: البطالة،
وانخفاض إنتاج بعض الصناعات، وتصاعد التضخم، وتراجع الدولار، والعجز
الخطير في ميزان المدفوعات) ، ونشرت النيويورك تايمز على صفحتها الأولى
مقالاً بقلم ماكس فرانك جاء فيه: (الولايات المتحدة قد لا تصبح الدولة المسيطرة في
علاقات القوة عالمياً وإن القوة الأمريكية في انحطاط) ، ونشرت مجلة (لايف) عام
1971م أن النظام العالمي لم يعد به مركز وحيد للقوة، وأن أمريكا أصبحت تواجه
نقص الموارد وانحدار السمعة وضعف الدولار، لقد بدأ انحطاط أمريكا بوصفها قوة
عالمية من أبعد نقطة في نظام الأحلاف الأمريكي، من فييتنام [5] .
الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن تحقق نصراً مطلقاً على
خصومها في معاركها التاريخية الكبرى حتى الحرب العالمية الثانية؛ لكنها منذ
حرب فييتنام لم تستطع أن تحقق نصراً مطلقاً بلا قيد ولا شرط لأول مرة في
تاريخها، وحتى ما أطلق عليه نيكسون: (نصر بلا حرب) أي هزيمة الاتحاد
السوفييتي عبر إرهاقه اقتصادياً من خلال سباق التسلح فإنه لم يكن نصراً مطلقاً،
وكما قال ديجول: (تريد الولايات المتحدة أن تصل بالاتحاد السوفييتي إلى الخراب
والإفلاس عن طريق سباق لا نهاية له في التسلح، وقد تنجح في تحقيق ما تريد
لكنها ترهق نفسها بأكثر مما تستطيع احتماله، وقد تصل هي الأخرى إلى حالة
الإفلاس) [6] . وحاولت أمريكا تجديد ثقافتها الاستراتيجية بصناعة نصر مطلق في
حرب الخليج الثانية على العراق؛ لكن ذلك الانتصار لم يغيّر من واقع سقوط
الإمبراطورية الأمريكية في الداخل، وكتب بول كيندي في الإكسبريس الفرنسية:
(الدولة التي تحتاج إلى مليارات الدولارات من دول أخرى لتمويل الحرب ضد دولة
نامية لا تملك القدرة على فرض نظامها على الكرة الأرضية) [7] .
وكما هو معلوم فإن السقوط المفاجئ للاتحاد السوفييتي ولمنظومة الدول
الشيوعية المرتبطة به في أوروبا الشرقية قاد إلى الحديث عن (نهاية التاريخ) هذه
الصيحة التفاؤلية الممزوجة بسكرة الفرحة بالسقوط غير المتوقع للقوة العالمية الثانية
المناوئة لأمريكا. لكن هذه الصيحة التي أطلقها (فرانسيس فوكوياما) ثبت خطؤها؛
إذ إن التاريخ لا ينتهي بهذه الصورة التي تخيلها، ولا يمكن لقوة واحدة أن تتحكم
وحدها في صناعته.
وبدأت الكتابات الواقعية عن السقوط الأمريكي، وعلى سبيل المثال فإن (بول
كيندي) كتب كتابه الأشهر: (قيام وسقوط القوى العظمى) وفيه حاول الربط بين
القوة الاقتصادية والقوة العسكرية؛ إذ تحدث عن أهمية القوة الاقتصادية للقوة
العسكرية، بيد أن القوة العسكرية إذا اتسعت بشكل يفوق القدرة الاقتصادية على
مساندتها فإن ذلك يشي بتدهور نسبي لقوة الدولة، كما أن قوة الدولة تعتمد أساساً
على ما إذا كان جيرانها يمتلكون أكثر أو أقل مما تملك) ، ومن ثم فإن قوة الدولة
ترتبط صعوداً وهبوطاً بقدر قوة الدول الأخرى التي تشاركها النظام الدولي، وكان
(بول كيندي) يقصد أن أمريكا تواجه فجوة كبيرة بين قوتها الاقتصادية وقدرتها
العسكرية وحجم امتدادها وتوسعها في العالم. كما أن أمريكا تواجه قوى أخرى
تمتلك اقتصاداً متعاظماً بما يمثل خصماً للمكانة النسبية لأمريكا [8] .
كما ظهر كتاب هاري فيجي وجيرالد سوانسون بعنوان: (سقوط أمريكا قادم
عام 1995 فمن يوقفه؟) ، وظهر كتاب (رونالد هوايت) : (القرن الأمريكي،
صعود وهبوط الولايات المتحدة كقوة عالمية) ، وظهر كتاب روجيه جارودي:
(الولايات المتحدة طليعة الانهيار) ، وظهر كتاب بريجنسكي (خارج نطاق السيطرة)
أو (الانفلات) ، وصدرت في الولايات المتحدة مئات الكتب التي تنعيها مجتمعاً
ودولة وتجربة متحدثة عن الأمراض التي تفتك بها، مثل: العنف، وتفشي
الإباحية، والمخدرات، والخواء الروحي، والفردية المفرطة، والتطرف الأعمى،
وضحالة الثقافة، والعنصرية الطاغية، والديون الخارجية الأسطورية، وسقوط
ثلث السود وسدس البيض تحت خط الفقر، والرعب من اقتراب السود وذوي
الأصل الأسباني والآسيوي من تشكيل نصف عدد السكان ... وقائمة طويلة من
الوقائع والأمراض والأزمات المستعصية التي تتراكم تفاعلاتها لتسرع بالانهيار
الشامل [9] .
مظاهر الانحطاط الأمريكي:
هناك مؤشرات متعددة على الانحطاط الأمريكي، نشير إلى بعضها:
العنف:
في شهر مارس الماضي استيقط المجتمع الأمريكي على جريمة بشعة راح
ضحيتها أربعة من التلاميذ ومُدَرّسة، وجرح أربعة عشر تلميذاً آخرون ومدرّسة،
وكان بعضهم في حالة خطرة، نفذ الجريمة طالبان في مدرسة (ويست سايد)
المتوسطة في بلدة (جونسبورو) بولاية (أركنساو) التي كان الرئيس الأمريكي حاكماً
لها، وكان عمر أحد التلميذين أحد عشر عاماً والآخر ثلاثة عشر عاماً، وقد نفذا
جريمتهما بعد تخطيط وتصميم وتهديد مسبق لزملائهما، واستخدم التلميذان في
جريمتهما أسلحة رشاشة وأسلحة أخرى بلغ عددها تسع قطع، وكانا يرتديان ثياباً
أعدوها للتمويه ومن ثم: قرعا جرس الطوارئ في المدرسة، فهرع الطلاب
والمدرسون إلى الخارج حيث كان التلميذان يختبئان في ساحة قريبة وأطلقا النار
عشوائياً على التلاميذ والمدرسين، ثم استسلما بعد خمس دقائق، وقال (كلينتون)
إنها الجريمة الثالثة التي يقوم بها تلاميذ صغار خلال الأشهر القليلة الماضية.
وجاءت الجريمة بعد أسبوع من نشر البيت الأبيض لدراسة قالت: (إن مدرسة من
بين كل عشرة مدارس أمريكية شهدت أعمال عنف خطيرة العام الماضي) [10] .
وفتحت هذه الحادثة المروعة ملف العنف في أمريكا؛ حيث قدم مشروع قانون
لمجلس الشيوخ والكونجرس يطلق عليه: (قانون أمريكا بعد الدوام المدرسي) ،
وهذا القانون يشير إلى أن هناك حوالي خمسة ملايين تلميذ نسبة كبيرة منهم في سن
الثامنة والتاسعة يقضون معظم أوقاتهم بعد الدوام المدرسي وحدهم، وهم بحاجة إلى
المساعدة لإبعادهم عن مصادر المشاكل وإشغالهم بما هو مفيد، وذكرت دراسة
البيت الأبيض السابقة (أن الوقت الطويل الذي يقضيه التلاميذ في مشاهدة التلفزيون
وما يقدمه من أفلام ومسلسلات عنف يلعب دوراً رئيساً في انتشار العنف بينهم
خصوصاً الصغار منهم) [11] .
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد قطع الأسلحة المنتشرة بين أيدي
الأمريكيين تبلغ حوالي 200 مليون قطعة بين مسدس وبندقية، أي بمعدل قطعة
سلاح لكل أمريكي رجل أو امرأة باستثناء الأطفال، وفي عام 1996 استخدم
السلاح في ارتكاب 9390 جريمة قتل في أمريكا بينما لم تُرتكب سوى 30 جريمة
مسلحة في بريطانيا، و15 جريمة مسلحة في اليابان، وتزيد نسبة ارتكاب الجريمة
بين الأطفال دون سن الخامسة عشرة أكثر 16 مرة في أمريكا عما هي عليه في 25
دولة صناعية مجتمعة، وكل عام تشهد أمريكا 135 ألف جريمة قتل أو انتحار أو
حادث مسلح [12] . وتجارة السلاح مباحة في الولايات المتحدة باعتبارها تعبيراً
عن الحرية وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه؛ لكن الحقيقة هي أن لوبي صناعة
السلاح هو الذي يقف وراء فلسفة الترويج لحق الإنسان في امتلاك السلاح للدفاع
عن نفسه وأمنه. وفي الواقع فإن انتشار الأسلحة وتفجر العنف داخل الولايات
المتحدة الأمريكية هو جزء من ثقافة العنف التي قامت على أساسها الحضارة الغربية
وارتبطت بسحق الآخر وقتله، بيد أن تغلغل العنف في عصب النفسية الأمريكية
يجعله لا يستخدمه ضد الآخر فقط، وإنما يستخدمه ضد مواطن مجتمعه أيضاً، إنها
شهوة ممارسة العنف النابعة من الثقافة الغربية اليهودية الصليبية التي يعد العنف
أحد أبرز تجلياتها.
التطرف:
أحد التحديات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي احتمال تصنيع المتطرفين
الأمريكان لأسلحة (بيولوجية) يستخدمونها ضد المراكز الحيوية والاستراتيجية في
أمريكا، وكان المجتمع الأمريكي يظن أن التطرف يأتي من العالم العربي
والإسلامي فقط، لكنه عاين في 15/4/1995حادثة ضخمة قام بها شاب أمريكي
راح ضحيتها 159 شخصاً، هذه الحادثة هي نسف المبنى التجاري في (أوكلاهوما) . وفي الواقع فإن بعض الكتاب الأمريكان بدؤوا الكتابة عن خطر التطرف الأمريكي
على المجتمع خاصة فيما يتصل بقدرته على استخدام الهندسة الوراثية في تصنيع
الأسلحة البيولوجية، واجتمع (كلينتون) فعلاً مع مجموعة من المتخصصين في
الهندسة الوراثية وناقش معهم ومع كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية التحديات
التي تواجه الأمن القومي الأمريكي إذا استطاعت العناصر المتطرفة الأمريكية صنع
أسلحة جرثومية. وفي تقرير لمركز (قانون الفقر) ذكر أن مؤامرات المتطرفين
اليمينيين الرامية إلى إخراج قطارات عن القضبان واغتيال شخصيات عامة ونسف
جسور زادت زيادة حادة في أمريكا في السنوات الثلاث الماضية، وأورد تفاصيل
24 مؤامرة رصدها منذ حادث (أوكلاهوما) واستهدفت هذه المؤامرات نسف مبانٍ
حكومية وجسور ومكاتب صحف ومصارف.
وهناك مجموعات دينية أمريكية تؤمن بحلول نهاية العالم عام 2000م وأنها قد
تستخدم الأسلحة البيولوجية لتحقيق ذلك [13] ، وهناك منظمات متطرفة في أمريكا
تستخدم السلاح لوقف ما تراه علمنة للمجتمع الأمريكي، وهذه المنظمات تقاوم
الإجهاض كما تقاوم إباحة الشذوذ والمثلية الجنسية، وهناك منظمة أعلنت عن نفسها
تسمى: (جيش الله) نفذت فعلاً عدة حوادث في مدينة (أتلانتا) (أبرزها الانفجار
الذي حدث في أتلانتا عام 1996م في الألعاب الأولمبية، وهذه المنظمة تطرح فكرة
المقاومة بدون قيادة، أي: تطرح فكرة اللامركزية في التصدي لما يرونه معارضاً
لأفكارهم ولو بالقوة، وينتمي منفذ حادث أوكلاهوما إلى جيش الله الذي يرى أن
هناك مؤامرة على أمريكا تقودها السلطة الفيدرالية والنظام العالمي الجديد، وأنه ما
لم يتم الإنقاذ الروحي والجسدي لأمريكا فإنها إلى زوال [14] .
صراع الأعراق:
نشأت الولايات المتحدة أمةً متعددة الأعراق ولكنها استندت أساساً في بنائها
الاجتماعي إلى ما يعرف باسم الـ.... أي: البيض الأنجلوساكسون البروتستانت
وهذه القاعدة الاجتماعية هي المسيطرة والمتحكمة، لكنه حدث تبدل في الخريطة
الاجتماعية والعرقية في أمريكا يؤكد نشوب نزاعات عرقية بين عناصر المجتمع
الأمريكي؛ فبحلول عام 2050م ستنخفض نسبة الـ.... من 5، 72% إلى ما
بين 49% 53%، فالسكان ذوو الأصول الإسبانية والآسيوية يتزايدون بسرعة قد
تصل بهم ليصبحوا حوالي 35%من السكان عام 2010م؛ بينما ستبقى نسبة السود
في حدودها الحالية وهي حوالي 12% 15% [15] . وهذا التبدل في الخريطة
العرقية يفتح الباب على مصراعيه لنشوب نزاع قومي وعرقي قد يؤدي إلى تفكيك
أمريكا. ولدينا ولاية (بورتوريكو (وهي الولاية الواحدة والخمسون في الاتحاد
الأمريكي تسعى الآن للانفصال عن أمريكا [16] . وكانت أمريكا قد استولت عليها
من إسبانيا عام 1898م، ولا يزال سكانها يتكلمون الإسبانية ويقاومون محاولات
الإدماج الأمريكية بجعل الإنجليزية لغة رسمية، وبشكل عام: فإن ما أطلق عليه
في الستينيات بوتقة الصهر للدلالة به على نجاح إدماج الأقليات في النظام الأمريكي
ثبت إخفاقه اليوم؛ ويتصاعد الحديث عن تنامي نزوع الأقليات ليصل إلى تأكيد
الذات والاستقلال. وإذا واجهت الولايات المتحدة الأمريكية مشاكل حقيقية فيما
يتصل بالانهيار الاقتصادي فإن احتمال تصاعد تفككها سيكون كبيراً؛ لأن المشكلة
الاقتصادية تفجر بدورها مشاكل الأقليات وتعزز مطالبها بالاستقلال، وهناك كتاب
مهم لآرثر شليزينجر) بعنوان: (تفكيك أمريكا) يتحدث فيه عن مشاكل الأقليات
خاصة السود ونزوعهم نحو الاستقلال، وأن هذا سيؤدي إلى تفكيك أمريكا.
الانهيار الأخلاقي:
يبين كتاب بريجنسكي (الانفلات) Out of Control بوضوح أن الخطر
على أمريكا يتمثل في الأبعاد الأخلاقية والثقافية وانحدار مركزية المعايير الأخلاقية
مع مضاعفة الانهماك في الإشباع الذاتي المادي الحسي، ويستخدم تعبير: (استباحة
الإباحة) Premissive Corrucopia للتعبير عن وضع المجتمع الأمريكي الذي
تستبد به قيم الاستهلاك وإشباع الغرائز بشكل مجنون، وارتبط إشباع الغرائز
بغياب أي معايير أخلاقية؛ ولذا: انتشر الفساد والمخدرات وجرائم الشوارع،
ويذكر بريجنسكي أن انتصار الشعار القائل بأن الله قد مات سبحانه وتعالى عما
يقولون علواً كبيراً لم يحدث في الدول الشيوعية الإلحادية وإنما في المجتمعات
الغربية الديمقراطية الليبرالية التي عدت التساهل الأخلاقي تقدماً ثقافياً. وتحدث
بريجنسكي عن الفساد الأخلاقي والانحلال الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام خاصة
التلفزيون، حيث تقضي ربة البيت الأمريكية ثماني وعشرين ساعة ونصف الساعة
أمام التلفزيون أسبوعياً، ويقضي الشباب المراهق عشرين ساعة أمام التلفزيون
أسبوعياً، ويقضي 20% من أطفال أمريكا خمساً وثلاثين ساعة أسبوعياً أمام
التلفزيون، وبرامج التلفزيون تدعو للإباحية وإشباع الشهوات الفردية والقسوة،
وجعل بريجنسكي مفهوم الأنانية وإشباع الرغبات الذاتية وتحقيق المتعة الفردية يهدد
أمريكا من الداخل [17] . وعلى سبيل المثال: فإن جرائم القتل تمثل العامل
الرئيس للوفاة في أمريكا؛ حيث يأتي ترتيبها متقدماً على مرض خطير كالسرطان،
وتواجه أمريكا ما يطلق عليه (أبارتيد اقتصادي) حيث يوجد طفل واحد من بين كل
8 أطفال لا يأكل ما يشبعه، وموت الأطفال في أحياء السود الفقيرة يجاوز المعدلات
التي تحدث في بلد مثل سيريلانكا وبنما وشيلي، كما أن المفاهيم التي يرفعها الغرب
عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية هي مفاهيم زائفة، وتكفي الإشارة إلى أن
الثروة هي التي تشتري الإعلام والسلاح، وهذا ما يفرض على بقية المواطنين
الذين لا يملكون وسائل السيطرة إكراهاً يسميه البعض (بالرق الحديث) . وإن تكلفة
مقاعد الكونجرس في أمريكا تصل إلى 500 مليون دولار. وتنتشر المخدرات بين
الشباب كما ينتشر الشذوذ والمثلية الجنسية. وفي الواقع فإن المبالغة في (استباحة
الإباحة) هي التي ستؤدي إلى تفكيك أمريكا؛ فهي أكثر خطراً من الصين أو غيرها
كما قال بريجنسكي.
الانهيار الاقتصادي:
في كتابهما: (سقوط أمريكا) يوضح المؤلفان أن أمريكا هي الدولة المدينة رقم
واحد في العالم؛ حيث لا يكفي دخلها القومي لتغطية نفقاتها، وحذر الكتاب من أن
الديون الأمريكية وفوائدها ستصل إلى درجة يعجز معها النظام عن السيطرة عليها
مع نهاية العقد الحالي.
وتنفق أمريكا على الديون وفوائدها أكثر مما تنفقه في قطاعات التعليم
والتطوير الحضاري والزراعة والعمل والعدل والمواصلات الداخلية مجتمعة،
وأشارت الدراسة إلى أن فوائد الديون الأمريكية بلغت 400 مليار دولار بينما بلغت
الديون 4 تريليون دولار عام 1992م، وتشير التقديرات إلى أن فوائد الديون
وصلت 517 مليار دولار عام 1994م، ومع قرب نهاية القرن العشرين فإن أمريكا
ستبدو كأنها دولة مفلسة، وبالطبع فإن الوضع الاقتصادي المنهار سيؤدي إلى
تراجع الهيمنة الأمريكية والعودة إلى أدراجها، وهناك تراجع في نسبة الإنتاج
الأمريكي بالنسبة إلى الإنتاج العالمي؛ فنسبة قوة أمريكا من الإنتاج العالمي كانت
50% بعد الحرب الثانية، وبحلول عام 1971م أصبحت تنتج ما يمثل 30%،
وأصبحت تستهلك أكثر مما تنتج مما جعلها تعتمد على البترول العربي، ومع بداية
السبعينيات واجهت أمريكا لأول مرة في تاريخها تدهور قدرتها التنافسية في العالم؛
إذ أصبحت وارداتها أكثر من صادراتها (45 مليار دولار للواردات مقابل 42 مليار
صادرات) ولم يعد الدولار قاعدة للتحويل إلى الذهب، ومنذ عام 1985م أصبحت
أمريكا مدينة لأول مرة [18] .
وأخيراً: فإن مظاهر الانحطاط الأمريكي تؤكد أن أمريكا كبقية
الإمبراطوريات إلى زوال، ولا شك أن انهيارها سيؤدي إلى تعديل جديد في
موازين القوى السياسية يكون لصالح المسلمين بإذن الله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: 140] فالسنة الحضارية تؤكد انحطاط قوى
الإمبراطوريات بعد صعودها، وأمريكا ليست استثناءً من ذلك.
__________
(1) القرن الأمريكي، صعود وانحطاط الولايات المتحدة كقوة عالمية، لمؤلفه: رونالد هوايت
عرض له في الأهرام 9، 14/3/1998م.
(2) المرجع نفسه، 9/3/1998م.
(3) المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(4) المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(5) المرجع نفسه، 9/3/ 1998م.
(6) خير الدين عبد الرحمن، القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين، دمشق: دارالجيل، 1996م ص 18.
(7) المرجع نفسه، ص 18.
(8) بول كيندي، قيام وسقوط القوى العظمى، التغيير الاقتصادي والصراع العسكري من عام 1500م إلى عام 2000 م، القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1992م.
(9) خير الدين عبد الرحمن، القوى الفاعلة في القرن الحادي والعشرين، ص12.
(10) ذكرت تفصيلات الجريمة في جريدة الشرق الأوسط، 26/3/1998م.
(11) الشرق الأوسط، 29/3/ 1998م.
(12) الأهرام 29/4/ 1998م، مقال لمحمد السماك بعنوان: (تجارة الموت) ، وعن ثقافة العنف في أمريكا راجع الشرق الأوسط، 29/3/1998م تحت عنوان: (ثقافة العنف) ، ص 9.
(13) الحياة 16/4/1998م، ص 8 مقال: متطرفون قد يشنون هجمات بالأسلحة البيولوجية على المدن.
(14) الحياة 8/3/1998م، ص 12، مقال: بعنوان جيش الله، عنوان الإرهاب الجديد في أمريكا.
(15) الشرق الأوسط 29/3/1998م، ص 1.
(16) الحياة 22/3/1998م، بورتوريكو الولاية الواحدة والخمسون.
(17) بريجنسكي، الانفلات، القاهرة، مركز الدراسات الحضارية، د ت.
(18) هاري فيجي، جيرالد سوانسون، سقوط أمريكا قادم عام 1995م، فمن يوقفه؟ القاهرة: 1414 هـ، 1993م.(133/62)
المسلمون والعالم
الدور الصهيوني في الخلاف التركي السوري
باسل يوسف النيرب
تطورت العلاقة التركية الإسرائيلية من خلال السعي الإسرائيلي في توسيع
مدى العلاقة في آسيا وأفريقيا، فكان الاتفاق الإسرائيلي التركي الإيراني نحو
الشرق الأوسط، والإسرائيلي الأثيوبي في إفريقيا بداية للتغلغل الإسرائيلي.
وجاء الاعتراف التركي بـ (إسرائيل) في 8/5/1949م، من خلال تصريح
أدلى به وزير خارجية تركيا، نجم الدين صادق، ومما جاء في التصريح: (إن
دولة (إسرائيل) حقيقة واقعة، وقد اعترفت بها أكثر من ثلاثين دولة، والآن يتجسد
رسمياً في هذا الاعتراف الرسمي) ، وكانت تركيا أول بلد إسلامي شرقي يعترف
بـ (إسرائيل) ، وفتحت أول مفوضية تركية بـ (إسرائيل) ، وعُيّن إلياهو ساسون
أول سفير إسرائيلي في تركيا.
ومع نهاية الخمسينيات التقى رئيس (إسرائيل) ديفيد بن غوريون مع رئيس
وزراء تركيا عدنان مندريس، وتم الاتفاق على رفع مستوى التمثيل والتعاون
السياسي والاقتصادي بين البلدين، وكتب ديفيد بن غوريون عن بداية التعاون
والتغلغل في آسيا وأفريقيا إلى الرئيس الأمريكي أيزنهاور قائلاً: (إن هذا التحالف
يجب أن يثير اهتمام الولايات المتحدة، نظراً لأهمية تركيا، وللمصلحة الخاصة
للولايات المتحدة بالحفاظ على أمنها) . وقد أكد بن غوريون في حديثه على أن
مجموعة الدول التي يتحدث عنها قادرة على حماية الحرية في الجزء الشرقي من
الشرق الأوسط.
في أعقاب حرب 1967م، شهدت العلاقة التركية الإسرائيلية فتوراً،
فاستدعت تركيا سفيرها من إسرائيل، وظل التمثيل على مستوى دبلوماسي بدرجة
مفوضية يقوم بها قائم بالأعمال بدرجة سفير، وتضم عدداً من الدبلوماسيين بينهم
ملحق عسكري، وخلال هذه المرحلة اتسمت العلاقة بعدم الوضوح. ومع بداية عام
1970م وخلال انعقاد المؤتمر الدولي الأول لوزراء خارجية الدول العربية والبلدان
الإسلامية في مارس 1970م حاولت تركيا استمالة المؤتمرين إلى سياسة أكثر ليونة
مع (إسرائيل) . وفي أعقاب حرب أكتوبر 1973م، حاولت تركيا تدعيم علاقاتها
بالدول العربية، فقامت في عام 1975م بالتصويت مع العرب في الأمم المتحدة
على القرار الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.
في بداية عام 1980م شهدت العلاقة عدة متغيرات، إذ تم مرة أخرى خفض
التمثيل الدبلوماسي التركي رداً على قرار الكنيست الإسرائيلي بإعلان القدس
عاصمة أبدية لدولة (إسرائيل) ؛ وبسبب عدم تراجع (إسرائيل) عن الأمر الواقع
الذي تريد إيجاده فيما يتعلق بالوضع الدولي لـ (القدس) ؛ أغلقت تركيا قنصليتها
في القدس، واستدعت القائم بالأعمال للتشاور، وأبلغت (إسرائيل) تركيا بالقرار
الإسرائيلي بتخفيض مستوى العلاقات، وفي الوقت ذاته قدم حزب الخلاص الوطني
التركي طلباً بحجب الثقة عن وزير الخارجية بسبب سياسته المؤيدة لـ (إسرائيل)
والمنفرة للبلدان الإسلامية.
بدأ الانفراج في العلاقات التركية الإسرائيلية عقب عام 1985م؛ حيث رفع
مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين إلى مفوضية، وعين أكرم عو بندرين أول
سفير تركي في (إسرائيل) عقب سلسلة من الأزمات التي عرفتها علاقات البلدين،
وعقب مؤتمر مدريد للسلام رفعت تركيا تمثيلها الدبلوماسي مع (إسرائيل) إلى درجة
سفير، مما أدى إلى تدهور علاقاتها مع دول الجوار خاصة في قضيتي المياه
والأكراد.
الاختلاف بسبب المياه:
وبخصوص قضية المياه، فإن السياسة التركية تتصرف فيها منفردة عبر
إنشاء شبكة ضخمة من السدود، ودون أدنى اعتبار لمصلحة كل من سوريا والعراق. وقد بدأت أزمة المياه بعد وضع حجر الأساس لبناء سد (كيبان) على نهر الفرات
بتركيا.
وفي يناير 1990م أوقفت تركيا مياه نهر الفرات عن سورية لمدة شهر كامل
بحجة ملء سد أتاتورك؛ مما جعل سوريا ترى أن الإشراف التام على نهر الفرات
قد أصبح بيد تركيا، وهو الأمر الذي يهدد الأمن الأقتصادي والغذائي والسياسي
لسورية. وفي عام 1995م دخل ملف الفرات مرحلة جديدة بعد أن بدأت تركيا
بإقامة سد (بيرجيك) بتمويل دولي، إضافة إلى ارتفاع نسبة التلوث في رافد (البليخ)
أحد روافد نهر الفرات إلى نسبة تجاوزت الحد المسموح به دولياً. وازدادت أزمة
المياه بعد إقامة مشروع (جاب) التركي بما يقتضي إقامة 17 سداً على نهر الفرات،
و4 سدود على نهر دجلة، مما يخفض نصيب سورياً من نهر الفرات من 28 مليار
متر مكعب إلى 13 مليار متر مكعب، ويترتب عليه استبعاد 40% من حوض
الفرات في العراق من الاستغلال الزراعي، إضافة إلى تضرر أكثر من ثلثي
الأراضي الزراعية المروية من نهر الفرات.
وتطالب سوريا برفع المنسوب إلى 750 متر مكعب ليستفيد منه العراق
وسوريا، كما تطالب بوقف إنشاء السدود؛ نظراً للخطر الذي يصيب الحياة
الزراعية والمرافق الحيوية وخاصة سد تشرين؛ باعتبار أن سوريا تسعى إلى إقامة
محطات توليد كهربائية لإنتاج 630 ميجا وات، وتخزين بليوني متر مكعب من
المياه.
قضية عبد الله أوجلان:
أما حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، فإن الحديث عنه وعن
الحركة الكردية المطالبة باستقلالها يطول؛ لكن الأمر باختصار أن الحركة الكردية
قامت في عام 1984م في جنوب شرق الأناضول، وبدأت بشن عمليات داخل
تركيا، وهذه المعارك الدائرة بشكل يكاد يكون مستمراً تكلف الحكومة التركية 9
ملايين دولار سنوياً، إضافة إلى البلبلة الداخلية التي لم تسفر عن حل للمواجهات
بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني بل عززت النزاعات الانفصالية داخل تركيا.
تركيا من الداخل:
إن ما يحدث على الصعيد التركي (الإسرائيلي) يعود في أساسه إلى بقايا نفوذ
يهود البلقان وتغلغلهم داخل الجيش التركي منذ انقلاب أتاتورك، ونجاحهم في
تشجيع الاتجاه نحو الغرب وانفصال تركيا عن محيطها العربي الإسلامي، وفرض
العلمانية واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية. وتعاني تركيا من أزمة
هوية ناتجة عن التأرجح بين الرغبة في الانتماء السياسي الغربي والحالة السابقة
التي كانت سائدة في تركيا والمتمثلة في الانتماء الإسلامي، ومن أزمات تركيا أيضاً: الصراع بين العلمانيين والإسلاميين الذي يعد صراعاً خطراً على الوحدة التركية.
والصراع الحالي في تركيا دائر بين العثمانية والكمالية؛ فالعثمانية تعني محاربة
الكمالية والبعد عن التوجهات الحديثه، والكمالية تمنع الإرث العثماني من الظهور
تحت أي سبب من الأسباب.
الأوضاع الخارجية:
ترتب على ما سبق أن تركيا اعتبرت نفسها امتداداً للغرب؛ ولهذا تولت
عملية منع التوسع السوفييتي في المنطقة قبل انهياره، وحاولت السيطرة على
البلدان المستقلة عن الاتحاد السوفييتي سابقاً، ولهذا أيضاً نجد أن المؤسسة
العسكرية التركية عادت إلى فرض قراراتها بعد فترة من حكم السياسيين، وهناك
مشكلات تعاني منها تركيا مع دول الجوار في كل من أرمينيا، وإيران، والعراق،
واليونان؛ وكان لها علاقات متميزة مع الولايات المتحدة جعلتها تعتقد أنها جديرة
بالموافقه الأمريكية على المشاريع التركية في المنطقة؛ إلا أن النقد الذي وجهته
الخارجية الأمريكية لمذابح الأرمن في تركيا عام 1915م 1916م، إضافة إلى ملف
حقوق الإنسان في تركيا سجلا تراجعاً أمريكياً عن تأييد الموقف التركي في هذا
الصعيد.
ومن آثار العلاقات الخارجية على الموقف الداخلي في تركيا نجاح واشنطن
في عقد اتفاق سلام بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود وبرزاني
والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، بعيداً عن تركيا التي أخفقت
في إنجاح أي وفاق بين الخصمين يعطي الحزبين فرصة لإقامة كيان كردي، ويبعد
شبح التغلغل التركي المقلق للحزبين في المنطقة، والذي يمكن أن ينتقل به الوضع
إلى المناطق التركية لإقامة كردستان الشمالية الواقعة جنوب تركيا وهو ما ترفضه
الحكومة التركية جملةً وتفصيلاً.
إسرائيل وتركيا:
مهما تعددت الأزمات على الصعيد التركي فإن الدور الإسرائيلي للمطلع على
خفايا العلاقات التركية الإسرائيلية يبدو جلياً؛ لأن (إسرائيل) تلعب دور الممول
بالمعلومات والمخابرات لتركيا في سياساتها ومواقفها الخارجية، مع سوريا أو
غيرها، وهذا ما أكدته تقارير مجموعة (جنيز) للدراسات العسكرية في لندن في
تحليل منشور يوم 8/10/1998م، مما يوجب أن نلقي الضوء بشكل أوضح على
طبيعة العلاقة ونوعها وأبعادها على دول المنطقة.
العلاقة الاقتصادية:
تعود بداية العلاقة الاقتصادية بين تركيا و (إسرائيل) إلى عام 1950م حين تم
توقيع اتفاقية مقايضة بين أنقرة وتل أبيب، وبدأت (إسرائيل) بموجبها باستيراد
الأغنام التركية، والأعلاف ومختلف المنتجات التركية، وفي المقابل تصدير سلع
صناعية إلى تركيا. وفي منتصف الستينيات شاركت (إسرائيل) في معرض
(أزمير) التقليدي وعرضت فيه 150 شركة إسرائيلية سلعاً تقدر بـ 22 مليون
دولار، وأرقام التبادل التجاري تدل على مدى التعاون الاقتصادي الذي تألف على
إثره مجلس العمل التركي الإسرائيلي الذي يعمل على تنمية وتطوير التعاون بين
الدولتين، ويرتكز التعاون الاقتصادي بين (إسرائيل) وتركيا على التجارة والسياحة
والزراعة وكان رد الفعل العربي لذلك هو إدراج الشركات التركية التي تعاونت مع
إسرائيل ضمن قائمة المقاطعة العربية.
ارتفع مستوى التمثيل في المجال التجاري، وافتتحت (إسرائيل) ممثلية
تجارية في إسطنبول، وفي الوقت ذاته دعي وزير التجارة التركي إلى إقامة سوق
حرة للتبادل التجاري بين البلدين، ونص الاتفاق على إلغاء الرسوم الجمركية بينهما، مما يشكل الخطوة الأولى نحو النظام الشرق أوسطي، وفي إبريل 1995م وقعت
تركيا و (إسرائيل) اتفاقاً للتعاون في التنظيم النوعي للإدارة، وتضمّن الاتفاق
تدريب أصحاب المهن وعقد اجتماعات دورية، وتبادل المعلومات والمحاضر
والنشرات، وتقديم المساعدة لتطوير برامج تعليمية في مجالات نوعية مختلفة. كما
برز التعاون الزراعي بين البلدين والذي يتمثل في مشروع تنمية شرق الأناضول
ويشمل إقامة عدد كبير من السدود والمحطات الكهربائية.
أما في الجانب السياحي، فقد أكد وزير السياحة التركي مصطفى تركمان أن
تركيا و (إسرائيل) ليستا في حاجة للتنافس السياحي بل على العكس ينبغي عليهما
التعاون من أجل تشجيع وزيادة الحركة السياحية إلى المنطقة، وتم توقيع اتفاقية
التعاون السياحي بين تركيا وإسرائيل عام 1992م، حيث تقوم تركيا بنقل صورة
عن تاريخها عن طريق السياح اليهود، واستمالة الرأي العام الإسرائيلي نحو تركيا، وتحصل تركيا على دخل من السياحة الإسرائيلية يُقَدّر بـ 250 مليون دولار
وذلك عام1990م، وتستقطب (إسرائيل) السياحة التركية من خلال الترويج
للعلمانية والديمقراطية.
وفي مجال المقاولات، تعتمد (إسرائيل) على شركات المقاولات التركية في
مجال بناء المستوطنات، ويعمل في (إسرائيل) من (2500 5000) عامل تركي،
بنسبة تتراوح من 5 10 بالمائة من العمالة في (إسرائيل) .
التعاون الأمني العسكري:
الحديث الذي ظهر مؤخراً عن المناورات العسكرية والتعاون الأمني، وإقامة
حلف أمني، يعود في بداياته العلنية إلى عام 1994م وذلك من خلال مناورة جوية
مشتركة كانت الأولى من نوعها، وتم خلالها تزويد الطائرات التركية المختلفة
بالوقود من طائرة بوينغ إسرائيلية، وكان الهدف من هذه المناورة تشجيع مبيعات
الصناعات الجوية الإسرائيلية، كما زار قائد سلاح الجو التركي (إسرائيل) لإجراء
مباحثات لتحسين طائرات الفانتوم عقب التحسينات على طائرات (إف 5) وإنتاج
أجزاء من طائرات (إف 16) الأمريكية.
تم توقيع اتفاقية التعاون العسكري بين (إسرائيل) وتركيا في 23 فبراير
1996م، وتضمنت الاتفاقية العمل على إيجاد حوار استراتيجي بين تركيا
و (إسرائيل) ومعرفة توقع الأخطار التي تعمل على تهديد (إسرائيل) وتركيا، كذلك
إجراء مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة بين الجيشين في مختلف المجالات
البرية والبحرية والجوية، ونص الاتفاق على تعهد إسرائيلي لتركيا بتقديم
المعلومات اللازمة عن حزب العمال الكردستاني، كما تضمن الاتفاق القيام بثماني
مناورات جوية في السماء التركية، وأن تقوم تركيا باستقبال الطيران (الإسرائيلي)
على أراضيها، وللطائرات الإسرائيلية الحق في اللجوء إلى الأراضي التركية عند
إعلان حالة الطوارئ في (إسرائيل) ، ونصت الاتفاقية على التعاون في مجال
الاستخبارات بين البلدين.
لم يكن هذا الاتفاق الأول من نوعه؛ إذ وقعت تركيا مثله مع ليبيا 1975م
وإيران 1977م والعراق 1979م والسعودية 1984م والكويت ومصر 1987م
والأردن والإمارات 1989م وتونس 1990م. وتعتبر هذه الاتفاقيات سارية
المفعول إلا أنه لم يتم توظيفها رسمياً. ومن خلال الاتفاق العسكري التركي
(الإسرائيلي) عملت تركيا على تحسين كفاءتها العسكرية والأمنية، بينما نجد أن
هدف الجانب (الإسرائيلي) هو اختراق المجال الجوي التركي، وإحكام القبضة على
سوريا والضغط عليها من خلال المفاوضات الدائرة حول الجولان، كما يتيح
الاتفاق الاستعانة بالخبرات العسكرية (الإسرائيلية) لقمع المقاومة الكردية، ويشكل
الاتفاق ورقة ضغط تركية (إسرائيلية) على العراق وسورية تحديداً؛ حيث إن مد
أنابيب المياه من تركيا إلى (إسرائيل) سيؤثر على نصيب العراق وسورية من المياه.
مما لا شك فيه أن لكلا الدولتين أسبابهما الخاصة في التعاون الاستراتيجي؛
ففي كتابه: (نحو شرق أوسط جديد) أكد شمعون بيريز أن القادة الأتراك اندفعوا
نحو تطوير علاقاتهم مع تل أبيب، وقد تجسد ذلك في زيارة تانسو شيلر إلى
(إسرائيل) في نوفمبر 1994م، ورأت تركيا أن (إسرائيل) تشكل بوابة للعبور نحو
إيجاد حصة اقتصادية مناسبة لها في المرحلة الجديدة لها في منطقة الشرق الأوسط،
كما أنها ستستفيد بالخبرات (الإسرائيلية) .
وتأسست العلاقة التعاونية على مخرج لـ (إسرائيل) وإن كانت قد وقعت
اتفاقات مع الدول العربية إلا أنها ما زالت متعثرة في مسيرتها بالتطبيع مع
(إسرائيل) ، هذا ويطمح الجانب (الإسرائيلي) بتفكيك البنية التحتية لما يسمونه بـ
(الإرهاب) وهذا يتوافق مع المفهوم المرحلي الأمني عند كل من تركيا و (إسرائيل)
من جراء الرفض الأوربي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، والموقف الأوربي
المساند (للشرعية الدولية) فيما يخص مؤتمر مدريد ونتائجه الحالية. كما تعاني
تركيا و (إسرائيل) من عدم الاستقرار السياسي الداخلي؛ فتتصاعد حدة المشكلة
الكردية ويتصاعد الانقسام العلماني الديني في (إسرائيل) .
وعلى أي حال فتوقيع الاتفاقية وما ترتب عليه من مناورات مشتركة في عام
1997م أدت إلى رد فعل عربي معارض للمناورات العسكرية؛ فسوريا اعتبرت
المناورات أداة ضغط عليها في المفاوضات (الإسرائيلية) السورية حول الجولان،
ورأت مصر أن المناورات عبارة عن رسالة سلبية كما اعتبرت إيران أن توقيع
الاتفاق يتعارض مع المصالح الأساسية للعالم الإسلامي.
وفي خضم الصراع الدائر في المنطقة لا بد من التنويه إلى أهمية الموضوع
المائي؛ فتركيا لها نصيبها من مياه الفرات، و (إسرائيل) تعاني من نقص مائي
شديد لمشاريع التنمية التي تقوم بها، واستغلال الجزء الأكبر في عمليات التصنيع
والزراعة؛ فالتعاون المائي التركي والإسرائيلي من خلال مشاريع أنابيب السلام
يسير قُدماً؛ فقد طرح الرئيس (الإسرائيلي) عزرا وايزمن مشروعاً لجر المياه من
تركيا إلى (إسرائيل) ، أجرى المدير العام لهيئة تخطيط المياه في (إسرائيل) (تاهل)
محادثات حول بناء ميناء للشحن والتصدير على مصب نهر (مانا فقات) على البحر
المتوسط جنوب أضنة والذي يشكل حوضاً طبيعياً يحتوي على نحو 7، 4 مليار م 3 سنوياً، وكانت تشيلر رئيسة الوزراء التركية خلال زيارتها لـ (إسرائيل) أكدت
أن بلادها مستعدة لبحث الطرق التي من خلالها يتم استغلال الفائض من مياهها
لخدمة الشرق الأوسط.
الأزمة الأخيرة:
إن تتبع مسارات العلاقة التركية السورية في الفترة الأخيرة يفسره إلى حد
كبير التعاون بين تركيا و (إسرائيل) ، فالعلاقة من عهد شيلر أخذت منحى تصاعدياً. وتسعى السياسة التركية الآن وبعد التصعيد الأخير مع سورية إلى ضم أكبر عدد
من الدول العربية إلى هذا الحلف، ومن ذلك ما صرح به مسعود يلمز من أن
الحلف بين تركيا و (إسرائيل) ليس موجهاً ضد طرف ثالث، في حين اعتبر
الجانب (الإسرائيلي) أن الحلف يخدم المصالح التركية والإسرائيلية، وأكد (نتن
ياهو) رئيس وزراء (إسرائيل) على أن هذا الحلف يشكل خطوة نحو إرساء السلام
في المنطقة؛ وساعده في ذلك تأكيد (يلمز) على أن الهدف هو استقرار المنطقة.
إن المتتبع لمراحل الأزمة يرى أن هناك انعطافاً أصاب السياسة التركية
الخارجية مؤخراً، ويرى كيف تطورت العلاقات العسكرية إلى علاقات اقتصادية
مرتبطة بالمصالح الحيوية (الإسرائيلية) ، ويشهد على ذلك المناورات العسكرية
التركية (الإسرائيلية) التي تحظى برعاية أمريكية، وانضمام تركيا إلى برنامج
الصاروخ (آرو) السهم؛ الذي يتم العمل على تطويره بين الولايات المتحدة
و (إسرائيل) ، إضافة إلى تحديث الطائرات الجوية التركية بمساعدة مؤسسة
الصناعات الجوية (الإسرائيلية) .
ومن ناحية أخرى تؤكد الصحف السورية والمصرية على تورط (إسرائيلي) ؛
في هذه الأزمة خصوصاً أن خبراء الموساد أشرفوا على عمليات الملاحقة ضد أفراد
حزب العمال الكردستاني وتدريس العمليات العسكرية مثل: الليطاني، عناقيد
الغضب في ثكنات قوات الحدود، ويلاحظ أيضاً في هذه العملية النفي الرسمي
وعلى لسان الخارجية الأمريكية لوجود أي علاقة إسرائيلية في الحشود ضد سورية. هذا ويلاحظ على السياسة الخارجية التركية بناءً على الموقف التركي والأمريكي
الرغبة في التعامل العلني أكثر من قبل مع (إسرائيل) على اعتبار أنها الحليف
الأول لها في منطقة الشرق الأوسط، والاستمرار في التعبير عن الانتماء إلى
المعسكر الغربي.
ومن المفيد الآن استعراض تأثير هذا التحالف على بلدان الجوار لتركيا
والدول الشرق أوسطية في ظل الرفض التام للسياسة التركية في مجال الحشود على
الحدود مع سوريا:
* يمنح هذا التحالف الفرصة لضرب التحالف الإيراني السوري بمنح القوات
(الإسرائيلية) مجالاً واسعاً في شمال سوريا، مما يجعل القوة السورية تشتت
جهودها في الشمال والجنوب في مواجهة القوة (الإسرائيلية) ، ويسوّغ الإجراءات
والموقف السوري من التصعيد أو الحلف القائم أصلاً بين (إسرائيل) وتركيا والذي
يؤدي إلى خرق الجسم العربي.
* تأثير العلاقة على الأردن من خلال التدهور المستمر في العلاقة الأردنية
السورية والتي ظهرت مجدداً، والأردنية العراقية، مما يجعل الأردن يبحث عن
تعاون للخروج من المأزق الحالي وفي نفس الوقت يطالب الأردن بهوية أمنية شاملة
لكل الدول العربية، مع تأكيد الجانب الأردني أنه ليس طرفاً في أي تحالف؛ مع
أن الجانب الأردني شارك في المناورات الجوية والبحرية بين تركيا و (إسرائيل)
بصفة مراقب مما يشكل خطوة إلى جر الأردن لهذا الحلف نظراً لتأثيره على العالم
العربي.
* أما إيران فإنها تحاول الفرار من هذا التحالف بإنشاء نظام دولي متعدد
الأقطاب، يشمل الصين وروسيا إضافة إلى تحالف آخر مع سوريا ومصر؛ مما
سيؤدي إلى خلق تكتلات جديدة في المنطقة تعمل على حفظ توازن منطقة الشرق
الأوسط، وفي المقابل ترى (إسرائيل) أن أي تهديد لسوريا هو تهديد لإيران التي
تخشاها (إسرائيل) لكونها قوة عسكرية تسعى لأن تكون نووية؛ إضافة إلى أن هذا
الحلف التركي (الإسرائيلي) يعطي الفرصة لـ (إسرائيل) لكشف المواقع العسكرية
النووية الإيرانية.
إن ملف الخلاف السوري التركي مثقل بالعديد من التعقيدات التي ما زالت
عالقة حتى بعد اللقاءات الأمنية بين الطرفين. ويدخل ضمن هذه التعقيدات والتي
يعد سبباً أساسياً لانفجارها مجدداً المحور (الإسرائيلي) الذي يمثله الحلف التركي
(الإسرائيلي) . ولا يخفى أن الوضع في تركيا قائم على التحالفات بين الحكومة
والعسكريين الذين تولوا الحكم بعد انقلابات عسكرية، ومنها ما حدث في سنوات
1960م، 1971 و1980 وأحياناً جاءت الانقلابات العسكرية خلف القناع الحزبي.
إن التهديد التركي لسورية بين قوة تركيا من الناحية العسكرية خاصة وأنها
قوة إقليمية لا يستهان بها، وفي الوقت نفسه بين حالة الضعف السياسي التي
وصلت إليها تركيا مما يدفع للتأكيد على قوة المؤسسة العسكرية التركية الحاكمة.
وجاء الغضب التركي إثر العديد من العوامل وعبر قنوات عسكرية مباشرة،
ولكن الموقف السوري الذي حاول جاهداً إبعاد شبح الحرب عبر سلسلة من
اجتماعات حدودية شارك فيها 11 مسؤولاً من وزارة الخارجية والدفاع وجهاز
المخابرات من كلا البلدين نقل الحوار إلى الجانب الأمني بعد أن كان في الجانب
السياسي، وقد انتهت الاجتماعات في منطقة سيجان الحدودية قِبَل الحشود التركية
على الحدود مع سورية.
وخلال الاجتماعات اتفق الطرفان على تأجيل البحث في قضية لواء
الإسكندرونة، وعدم تحرش الجيش التركي بالسكان على الحدود التركية السورية،
وتركزت المطالب التركية على شرح مخاوفها من جراء الأعمال التي يقوم بها
حزب العمال الكردستاني، وفي الوقت نفسه أكد الوفد السوري أن الأراضي
السورية ليست نقطة انطلاق لأعمال يقوم بها حزب العمال الكردستاني. ولتعزيز
الاتفاق من الناحية الأمنية؛ فقد اتفق الطرفان على إقامة خط ساخن لتبادل
المعلومات وخصوصاً بعد توافر مناخ الثقة الذي صاحبه زيارات لبعض المختصين
الأتراك إلى بعض المواقع في سورية للتأكد من إغلاق مقرات حزب العمال
الكردستاني ومنع المساعدات المالية، واعتبار حزب العمال الكردستاني حزباً
إرهابياً يُقدّم أعضاؤه إلى القضاء.
وفيما يخص موضوع المياه، تبحث دمشق عن قسمة عادلة ونهائية بدلاً من
الاتفاق المرحلي لعام 1987. ولكن يبقى السؤال الذي سيفجر الخلاف مجدداً: ماذا
عن علاقات التعاون والتدريب وتحديث المعدات العسكرية التركية من قِبَل
(إسرائيل) ؟ فما زال هذا السؤال هاجساً للسوريين وخاصة أمام الرغبة
(الإسرائيلية) في فتح مجالات تعاون أخرى مع تركيا ومداخل أخرى لها في الشرق
الأوسط.
ختاماً:
يُجمِع الخبراء والسياسيون الأتراك على أن الولايات المتحدة دفعت تركيا إلى
هذا العمل، وقد أكد هذا الاستنتاج المفكر والمحلل السياسي عبد الرحمن ديلي ياك؛
فأكد أن الولايات المتحدة تتخذ من تركيا أداة لضرب سوريا من أجل التغيير
السياسي فيها، ويؤكد د. ماهر قيناق وهو محلل استراتيجي أن الولايات المتحدة
و (إسرائيل) تدفعان تركيا للعدوان على سوريا، لتوريط تركيا في منطقة الشرق
الأوسط المتفجرة ولمنع وصول (الأصولية) إلى الحكم خلال فترة ما بعد حافظ الأسد.
وعليه فإن الحرب بعيدة، ولكن الهدف توجيه رسالة من الحلف المعلن أصلاً
بتعاون أمني عسكري اقتصادي بين تركيا و (إسرائيل) وخلط الأوراق في منطقة
الشرق الأوسط لتكون (إسرائيل) هي الرابحة في هذا الوقت الحرج؛ خاصة أن
جسور المفاوضات عادت من جديد وأخذت اللغة الدبلوماسية دورها ولو بشكل
مرحلي.(133/70)
المسلمون والعالم
المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن
1948 1998م مدخل للتقييم
(2/2)
د. محسن محمد صالح
في الحلقة الماضية استُعرضت تجارب المقاومة الفلسطينية عبر مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى (1948 1967) : حيث برزت المقاومة الفلسطينية وظهرت
حركة فتح و (م. ت. ف) .
المرحلة الثانية (1967 1978) : تصاعُد دور فتح العسكري وتوالي عملياتها
الفدائية ضد العدو، ثم ردود الفعل الصهيونية التي توالت حتى احتلال جنوب لبنان، وإضعاف المقاومة، وبروز تيار (السلم) ، وتنامي التيار الإسلامي.
المرحلةالثالثة: (1987 1998) : قيام الانتفاضة الشعبية في الداخل التي
شارك فيها الإسلاميون بقوة، وظهور (حركة حماس) التي قادت الجهاد المسلح. ثم
مسارعة (م. ت. ف) إلى مدريد، ثم اتفاق أوسلو و (الحكم الذاتي) ، ومجابهة
السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني معاً للتيار الإسلامي، ومحاولة تحجيمه
بالاتفاقات الاستسلامية.. ويواصل الكاتب بقية الموضوع ...
- البيان-
ثانياً: تقويم التجربة:
لو حاولنا تقييم تجربة المقاومة الفلسطينية خلال الخمسين سنة الماضية بناءً
على النتائج والأحوال التي وصلنا إليها الآن لوجدنا أن الأمر يدعو إلى القلق
والأسى؛ فقد تجذر المشروع الصهيوني في المنطقة، وتمكن من التوسع واحتلال
أراضٍ جديدة سنة 1967م، وكسر شوكة المقاومة الرسمية العربية والفلسطينية.
ونجح في ضمان دعم الدول الكبرى بدرجات متفاوتة أقلها الاعتراف بشرعية وجوده
واحتلاله لمعظم أرض فلسطين (فلسطين المحتلة سنة 1948) ، وحظي بالرعاية
والحماية الأمريكية، وتمتع بالتحالف الاستراتيجي معها، وقفز عدد اليهود من 650
ألفاً سنة 1948م إلى حوالي أربعة ملايين و700 ألف في 1997م يمثلون 36%
من يهود العالم. وتمكن الصهاينة من صناعة القنبلة النووية، وتجهيز حوالي مائتي
قنبلة تشكل خطراً كبيراً على العالم الإسلامي أجمع. كما استطاعوا تحييد دول
عربية، وإبعادها عن دائرة الصراع بإقامة معاهدات سلام معها (مصر والأردن)
وحققوا معاهدة سلام مع (م. ت. ف.) وفق شروطهم، وهي معاهدة تسهم في
حل مشاكلهم أكثر مما تسهم في الاستجابة لمطالب الفلسطينيين. ووجد الفلسطينيون
أنفسهم يقطفون ثماراً ضئيلة فجة قياساً إلى حقوقهم وآمالهم.
ورغم أن ميزان النتائج والمنجزات يميل بشكل صارخ إلى الجانب الصهيوني
الإسرائيلي، فإن هناك بعضاً من المنجزات التي تحسب للجانب الفلسطيني، أهمها:
* المحافظة على جذوة المقاومة والعداء ضد المشروع الصهيوني طوال الفترة
الماضية.
* الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، وأنه ذو حقوق مشروعة، بعد أن
كادت القضية أن تمحى، وتعالج على أساس أنها مشكلة لاجئين.
* تحقيق تعاطف دولي كبير، ودعم لقضية فلسطين، وعزل الكيان
الإسرائيلي سياسياً خاصة في السبعينيات (ما لبث الكيان الإسرائيلي أن حقق مكاسب
سياسية كبيرة خاصة بعد معاهدات السلام) .
* إخفاق الكيان الإسرائيلي في تحقيق أي اختراق تطبيعي شعبي في البلدان
التي أقام علاقات سياسية معها، واستمرت مشاعر العداء الشعبي العربي والإسلامي
ضده.
* بداية بروز المشروع الإسلامي لتحرير فلسطين، والذي يبشر بنتائج طيبة
على المستوى الاستراتيجي البعيد.
لكن تقويم التجربة يجب أن يتعدى دائرة النتائج لنفهم الأسباب والخلفيات التي
أدت إليها، وفيما يلي نقدم مجملاً مختصراً لذلك:
أولاً: إشكالية المنهج:
تميز الخط الأيديولوجي الفلسطيني العربي بأنه خط علماني، راوح بين
دائرتي الوطنية والقومية، كما كان هناك قطاع فلسطيني لا يُنكر حجمه خصوصاً
في الستينيات والسبعينيات تبنى أيديولوجيات يسارية اشتراكية ماركسية (الجبهتان
الشعبية والديمقراطية مثلاً) .
وكان الهدف في البداية الوصول إلى تحرير كامل أرض فلسطين. غير أن
عدم وجود منهج ثابت مبني على مبادئ محددة لا يمكن تجاوزها حتى ولو بحجة
المصلحة، يقدم رؤية سليمة لطبيعة الصراع ضد المشروع الصهيوني، ويستطيع
استنهاض طاقات الأمة وتجنيدها في المعركة؛ قد أدى غياب هذا المنهج إلى
ضبابية الرؤية، والنزوع للاستجابة الدائمة للضغوط و (متطلبات المرحلة) والسعي
للبقاء في الساحة ودائرة الضوء مهما كانت التنازلات.
وقد أثر هذا بشكل كبير على الأهداف التي جرى تقزيمها مع مرور الأيام،
فمن تحرير فلسطين وإخراج الغاصبين، إلى القبول بالدولة الديمقراطية التي تشمل
الجميع بمن فيهم كل اليهود الغاصبين، إلى إقامة الدولة على أي جزء يتم تحريره،
إلى إقامة الدولة على أي جزء ينسحب منه العدو، إلى الاعتراف بالقرار الظالم
(242) الذي يتعامل مع قضية فلسطين باعتبارها مشكلة لاجئين، إلى التفاوض
على الضفة الغربية وقطاع غزة فقط (22%) من فلسطين إلى الوصول إلى إقامة
حكم ذاتي ضعيف يفتقد شروط السيادة على أجزاء ضئيلة من الضفة والقطاع.
لقد كان المنهج الذي تم تبنيه بعيداً عن عقيدة الأمة وتراثها الحضاري؛ حيث
جرى استبعاد المنهج الإسلامي الذي يملك استنهاض طاقات الأمة وتعبئتها، ويعد
الجهاد لتحرير فلسطين عبادة وتقرباً إلى الله، ولا مجال فيه للتنازل عن حقوق
المسلمين في الأرض المباركة مهما طال الزمن وكثرت التضحيات، وهو المنهج
الذي جُرّب تاريخياً فكان فتح فلسطين على يد عمر بن الخطاب، وكان استردادها
على يد صلاح الدين في حروبه مع الصليبيين، وعلى يد قطز في حروبه مع التتار، وكلهم كان لهم الإسلام هادياً ومناراً، وإذا كان المسلمون يؤمنون بأن النصر من
عند الله سبحانه فإن الأوْلى بهم السير على منهجه لينالوا مدده وتوفيقه.
ثانياً: إشكالية القيادة:
من المؤسف أن القيادة السياسية الفلسطينية خلال الثلاثين سنة الماضية افتقدت
التجانس، وعانت من تباين أهداف الأطراف المشاركة في قيادة (م. ت. ف) ،
وسعت بعض القيادات إلى مراعاة مصالح أطراف عربية معينة تتلقى منها الدعم
على حساب أولويات العمل للقضية، كما راعت قيادات أخرى رؤية مصالح روسيا
(الاتحاد السوفييتي سابقاً) باعتبارها طرفاً اشتراكياً ماركسياً.
ولم تحترم القيادة العمل المؤسسي، وتمكن الرجل الأول من جمع كل
الصلاحيات الممكنة بيده، وأمسك تماماً بعصب القرار السياسي وبعصب الإنفاق
المالي، وبعصب الأجهزة الأمنية والعسكرية. وأصبح العديد من القضايا الحساسة
المهمة تخضع لمبادرة وقرار (الزعيم) وهذا أعطى فرصة كبيرة لنمو الخلالات [*]
والمحسوبيات، وأسهم في تفكك البناء الداخلي للثورة الفلسطينية بقيادة (م. ت. ف) وإضعاف أجهزتها، وخروج وتحييد الكثير من الكفاءات والطاقات، وقد كشفت
تحقيقات عديدة عن فساد إداري ومالي كبير، كان أبرزها مؤخراً ما كُشف عن
تورط العديد من قيادات سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع في ذلك [1] .
ويمكن ضرب مثال على المبادرات الفردية بمفاوضات أوسلو السرية التي لم
تكن معظم القيادة الفلسطينية تعلم عنها شيئاً، كما لم يكن يعلم عنها الوفد الفلسطيني
الرسمي المفاوض الذي تشكل إثر مؤتمر مدريد سنة 1991م.
كما لم تنجح القيادة الفلسطينية في التفاهم والتعاون مع التيار الإسلامي
المتنامي في المنطقة، وسعت إلى تحييده وعزله فضلاً عن محاولات ضربه
وتصفيته.
وهكذا، فإن القيادة خسرت مع مرور الزمن الكثير من قواعدها وجماهيرها،
وأصبحت أضعف قدرة في مجالات التعبئة والتأثير، وصار الارتباط بالمنصب
ودوائر الأضواء أهم لدى البعض من استمرار التضحية والكفاح.
ثالثا: إشكالية المؤسسات:
يوفر العمل المؤسسي المبرمج إمكانيات أفضل لاستغلال الطاقات، وتوفير
الجهود وترسيخ العمل واستمراره دون الارتباط بالأشخاص، كما توفر المؤسسات
السياسية البرلمانية إمكانات أفضل للمراقبة والمحاسبة وضبط المسيرة.
غير أن ما حدث في العمل الفلسطيني خلال الفترة الماضية يثير الحزن، فمنذ
الستينيات تشكلت مؤسسات مهمة مثل المجلس الوطني الفلسطيني، والصندوق
القومي، ومركز الأبحاث، ومؤسسات رعاية أسر الشهداء، ودائرة التخطيط،
وغيرها؛ غير أن هذه المؤسسات لم تتمكن من تنمية دورها؛ بل على العكس فإن
الخط البياني لأنشطتها وتأثيرها شهد هبوطاً كبيراً خصوصاً خلال العشرين سنة
الماضية.
وقد أُفرغ المجلس الوطني الفلسطيني من محتواه بتجاوز الكثير من قراراته،
وعدم دعوته للانعقاد إلا في فترات متباعدة، وبإدخال عناصر كثيرة بقرارات القيادة
السياسية بحيث مالت الكفة إلى الاتجاهات التي تريدها القيادة، فضلاً عن أن هذا
المجلس هو مجلس غير منتخب، وبالإضافة إلى ذلك لم يشارك الإسلاميون في هذا
المجلس، وهم يمثلون بالتأكيد قطاعاً عريضاً من الشعب، ومع تجمع الصلاحيات
في يد الرئيس فقد تم تهميش أدوار الصندوق القومي والتخطيط وغيرها.
إن إضعاف العمل المؤسسي أسهم كثيراً في حصر دائرة العمل الفلسطيني في
يد حفنة من الناس جعلوا لأنفسهم حق تقرير مصير قضية هي أخطر قضية تواجه
العالم الإسلامي في الواقع المعاصر.
رابعاً: إشكالية تضييق دوائر الصراع:
إن طبيعة التحدي المتمثلة في المشروع الصهيوني المدعوم عالمياً تقتضي
مواجهة تستجيب لمستوى التحدي وتتمكن من تجنيد كافة القوى الممكنة، وإذا كان
المشروع الصهيوني لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وإنما إضعاف وتمزيق العالم
الإسلامي، فإن البديل المقابل هو تعبئة كافة طاقات العالم الإسلامي لمواجهة التحدي.
لقد جرى مع الزمن تقزيم قضية فلسطين وتضييق دائرة الصراع مع العدو،
فبعد أن كانت قضية تعني كل المسلمين أي أكثر من ألف ومائة مليون تم حصرها
في الدائرة القومية العربية في خمسينيات وستينيات هذا القرن؛ بحيث أصبحت
تعني 260 مليون عربي (حسب عددهم الآن) ، ثم تم حصرها أكثر فأكثر لتصبح
قضية للفلسطينيين وحدهم؛ أي حوالي سبعة أو ثمانية ملايين فقط، وكانت الحجة
أن (أهل مكة أدرى بشعابها) وأن للفلسطينيين أن يقرروا في شؤونهم ما أرادوا!
غير أن هذا الطرح الذي حمل ظاهراً بريئاً لدى البعض أراد أن يغسل من يده
مسؤولية العرب تجاه قضيتهم الأولى، وإلقاء العبء على الضحايا الحاليين
للمشروع الصهيوني، دون توفير أدنى الشروط اللازمة للنجاح.
إن أرض فلسطين أرض إسلامية وهي أرض مقدسة ومباركة بنص القرآن
الكريم، وإليها أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها قبلة المسلمين
الأولى (المسجد الأقصى) وهي الآن أرض محتلة مغتصبة، وحكمها في الإسلام:
أن كافة المسلمين مطالبون بالجهاد للدفاع عنها، ومسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى
عن القيام بواجب تحريرها.
إن تضييق دائرة الصراع واكتفاء الآخرين بالتمنيات والدعاء لا يمكن أن يحل
القضية، وسيبقى الخطر جاثماً متصاعداً ما لم يتم رد هذه القضية إلى الدائرة
الإسلامية الأوسع.
خامساً: إشكالية الدور العربي والإسلامي:
كما أشرنا سابقاً فإن الخط البياني للأنظمة العربية وخصوصاً دول المواجهة
كان يسير باتجاه التسوية وليس باتجاه (التحرير) ، وأن الأنظمة سعت بشكل أساسي
لضمان أمنها وبقائها وعدم تعريضها لمخاطر الانتقام الصهيوني، كما سمحت
بالعمل الفدائي للحركة لأسباب تكتيكية مرحلية. ولم تتبن هذه الأنظمة أية
استراتيجيات ومناهج جادة دؤوبة للتعبئة الشعبية وتجهيز الجيوش، وتبني اقتصاد
الحرب، بل أغلقت حدودها معظم الفترة الماضية منعاً لأي عمل فدائي جهادي
محتمل.
وقد انتهت حرب 1948م التي شاركت فيها الجيوش العربية بكارثة ضياع
معظم فلسطين، كما انتهت حرب 1967م بكارثة ضياع ما تبقى من فلسطين، أما
حرب 1973م فقد فتحت المجال للتحرك نحو التسوية خصوصاً مع مصر، وليس
باتجاه التحرير.
وهكذا فمنذ حوالي 25 عاماً لم تشكل الأنظمة العربية أي مخاطر محتملة على
الكيان الصهيوني. بل تركت (م. ت. ف.) تواجه وحدها الاجتياح (الإسرائيلي)
على لبنان سنة 1982م مما أدى إلى تدمير معظم البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية
هناك.
ولقد أخفقت معظم مساعي الوحدة السياسية بين البلاد العربية، كما أخفقت
الجامعة العربية في تحقيق أهدافها، وأصبح الهم القُطري المحلي يتجاوز الهموم
الأخرى، وأخذت قضية فلسطين تتهمش في واقع الاهتمام الرسمي العربي. كما
فتحت الخلافات العربية العربية الباب واسعاً لإضعاف الجبهة العربية ودورها في
محاربة الصهيونية، ومن ذلك: النزاع حول الصحراء الغربية في المغرب العربي، واحتلال العراق للكويت، والحرب اليمنية، والنزاعات المزمنة بين سوريا
والعراق، وبين مصر والسودان.. وغيرها.
وإذا كان قد تم تهميش الدور العربي، فمن باب أوْلى أنه قد سبقه تهميش
الدور الإسلامي منذ مراحل مبكرة؛ حيث أصبح العالم الإسلامي في موقع المتفرج
الذي فقد فاعليته لأداء أي دور إيجابي حقيقي في قضية فلسطين؛ فالأنظمة في
العالم الإسلامي لا تختلف كثيراً عن الأنظمة العربية؛ إذ إن معظمها يلتزم
التوجهات العلمانية، ومشغول بهمومه المحلية، ومشاكله الاقتصادية.
وقد كان إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969م إثر حادثة إحراق
المسجد الأقصى بادرة أمل بتوحيد جهود المسلمين لدعم قضية فلسطين وقضايا
المسلمين، وقد قامت هذه المنظمة بعقد الكثير من الاجتماعات، وأصدرت عشرات
القرارات بدعم قضية فلسطين سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلان الجهاد، وغير ذلك،
غير أن كل قراراتها بقيت حبراً على ورق؛ لأنها تفتقر إلى أي آلية حقيقية ملزمة
لتنفيذ القرارات [2] . بل إن بعض البلاد الإسلامية بقي على علاقة قوية
(بإسرائيل) مثل تركيا. كما أن النزاعات بين المسلمين أنفسهم أثرت سلباً على دور
العالم الإسلامي؛ ومثال ذلك الحرب العراقية الإيرانية التي استنزفت طاقات
وثروات البلدين خلال ثماني سنوات من الحرب 1980م 1988م.
وفوق ذلك كله فإن كثيراً من الأنظمة العربية والإسلامية تفتقر إلى الاستقرار
السياسي، وتعاني من أزمات داخلية، ويعاني الكثير من شعوبها من قمع للحريات
وكبح للطاقات، كما تعاني التيارات الإسلامية في كثير من هذه البلدان من المنع
والملاحقة.
وهكذا، ففي مثل هذه الأوضاع، من الصعب أن تقوم الدول العربية
والإسلامية بدورها المأمول.
سادساً: إشكالية التحدي الصهيوني:
يمثل التحدي الصهيوني حالة فريدة وسط التحديات التي تواجه العالم الإسلامي، فقد وجد هذا المشروع أساساً في قلب العالم الإسلامي، وفي المنطقة التي تفصل
شطره الآسيوي عن شطره الإفريقي؛ بحيث تبقيه ممزقاً ضعيفاً، وتمنع أي وحدة
محتملة له أو ظهور أي قوى إسلامية كبرى في المنطقة بعد سقوط الخلافة العثمانية. لقد كان هذا المعنى واضحاً في توصيات مؤتمر لندن 1905 1907م التي رُفعت
إلى رئيس الوزراء آنذاك (كاميل بنزمان) ، وكان قد ناقش سيلاً من تحقيق المصالح
الغربية والهيمنة على المنطقة الإسلامية. ومما جاء في توصياته أن إقامة حاجز
بشري قوي وغريب في المنطقة شرقي البحر المتوسط وعلى مقربة من قناة
السويس، قوة عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، هو التنفيذ العملي
العاجل للوسائل والسبل المقترحة [3] .
إن طبيعة المشروع الصهيوني لا تستهدف استعماراً (كلاسيكياً) للمنطقة،
وإنما الاستيلاء على الأرض المباركة وفق ادعاءات دينية وتاريخية، وطرد السكان
الأصليين وإحلال اليهود مكانهم، ثم التوسع والتمدد في المنطقة.
غير أن هذا المشروع يكتسب خطورة خاصة عند إدراك دعم وتحالف القوى
الكبرى معه، والتي لا يعنيها الفلسطينيون بشكل خاص، وإنما إبقاء المنطقة
الإسلامية كلها في دائرة الضعف والتبعية. وبذلك، تصبح (إسرائيل) شرطي
المنطقة والعصا التي يتم (تأديب) الآخرين بها.
لكن الكيان الصهيوني لم يعد مجرد (أداة) بيد الآخرين (كما أنه لم يكن
بالضبط كذلك في الفترة الماضية) إذ إن دوائر التأثير والمصلحة هي دوائر متبادلة
بين الطرفين. كما مكّن الكيان الصهيوني لنفسه عبر وجود (لوبيات) قوية له في
أمريكا وأوربا تؤثر في صنع القرار السياسي هناك، فضلاً عن قوتها الاقتصادية
والإعلامية. وقد نجح الكيان الصهيوني في تكوين جيش حديث مسلح بكافة الأسلحة، حتى النووية منها والكيماوية والجرثومية؛ بحيث يمكنه نظرياً هزيمة جميع
الجيوش العربية مجتمعة.
إن قصف الطيران الصهيوني للمفاعل النووي العراقي وتدميره سنة 1981م، وتدريب ومساعدة الانفصاليين في جنوب السودان على الثورة، ومشاريع
السيطرة على منابع النيل في هضبة الحبشة، ومحاولة تدمير المفاعل النووي
الباكستاني، كل ذلك يشير إلى حقيقة الدور (الإسرائيلي) في المنطقة وخطورته
على العالم الإسلامي.
إن الكثير من المسلمين لم يفهموا طبيعة هذا التحدي، ولم يدركوا مخاطره،
ولم يقوموا بأعمال مكافئة لمواجهته، وستبقى أعمال المسلمين هامشية محدودة ما لم
يرتفعوا إلى مستوى الصراع.
سابعاً: إشكالية الأداء الدولي المتحيز:
رغم كل ما تشير إليه المواثيق الدولية من حقوق الإنسان وحقوق تقرير
المصير للشعوب، ورغم ما تدعيه الدول الكبرى من حماية للحقوق والديمقراطيات
إلخ، إلا أنها أسهمت بنفسها في تكريس الظلم في الأرض المقدسة، فتولت بريطانيا
التي استعمرت فلسطين (1917 1948م) رعاية إنشاء الكيان الصهيوني حتى
أقيمت (إسرائيل) رسمياً في مايو 1948م، وتبنت القوى الكبرى بما فيها الاتحاد
السوفييتي مشروع تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947م، وأصبحت الولايات المتحدة
الحليف الاستراتيجي الأول للكيان الصهيوني بعد ذلك، وحتى الآن ما تزال توفر له
الدعم المالي والعسكري والسياسي والغطاء الدولي لكل ظلم وعدوان يمارسه في
فلسطين وغيرها، وتسارع إلى استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار لا يصب
في مصلحة الكيان الصهيوني. ولم يمارس المجتمع الدولي أي ضغوط حقيقية
لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة
الجولان وجنوب لبنان رغم أنه من الناحية القانونية الدولية احتلال لأراضي البلاد
المجاورة بالقوة، وهو عمل غير مشروع وفق الأنظمة الدولية وأنظمة الأمم المتحدة؛ بينما سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها سنة 1990م 1991م لإجبار العراق
على الانسحاب من الكويت حماية لمصالحها في المنطقة.
وهكذا فإن فهم الإشكاليات السابقة يعين في فهم خلفية النتائج والأحوال التي
وصلت إليها قضية فلسطين في واقعنا المعاصر وهي نتائج مؤلمة ومؤسفة.
وأخيراً:
إن دراسة تجربة المقاومة خلال الخمسين عاماً تشير إلى بقاء جذوة المقاومة
في نفوس المسلمين وعدم الرضا بالظلم والاستسلام، وإن دراسة عوامل الضعف
والقصور ووضع اليد على الجروح يفيد في معرفة الطريق الأفضل للمقاومة
وتحرير الأرض المباركة.
وإن ظهور التيار الإسلامي بقوة في فلسطين وفي العالم الإسلامي يعطي بشائر
مبكرة باتجاه إحداث تحولات إيجابية في سلوك الطريق الصحيح لاسترجاع أرض
الإسراء والمعراج.. أرض فلسطين، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) جمع خِلالة بمعنى الصداقة، وهي ما يدعى خطأ بـ (الشلل) أو (الشلليات) : وهي تعني المجموعات المتفقة على هدف معين.
(1) وجّهت انتقادات حادة لأداء القيادة الفلسطينية (م ت ف) ، انظر مثلاً ما كتبه أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني السابق في كتابه، 13 أيلول، ط 1، (بيروت: مكتبة بيسان، 1994) ، ص 117 129.
(2) انظر حول منظمة المؤتمر الإسلامي: Abdullah al-Ahsan , O I C (The Organization of the Islamic Conference) (U S A: IIIT , 1988) .
(3) انظر ملف وثائق فلسطين، إعداد وزارة الدفاع القومي، الهيئة العامة للاستعلامات (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1969) ، ج 1، ص 131.(133/78)
مرصد الأحداث
مرتزقة للإيجار
أوكلت واشنطن مشاركتها في الرقابة البرية في إقليم كوسوفا إلى شركة
للمرتزقة في إجراء شكّل سابقة، الهدف منها الاستعاضة عن العسكريين، ووصف
مراقبون الإجراء بأنه يهدف إلى تجنيب الإدارة الأمريكية التورط مباشرة في صراع
إقليمي تكتنفه الكثير من المخاطر وأجواء الغموض.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (13025) ]
وما هي من الظالمين ببعيد
أشارت آخر التقديرات الرسمية إلى أن عدد ضحايا إعصار ميتش استمر في
الارتفاع وبلغ 9995 قتيلاً وقرابة 14 ألف مفقود و2. 8 مليون مشرد، معظمهم
في نيكاراغوا وهندوراس.
ودمر ميتش 169 جسراً في هندوراس و80 في نيكاراغوا و28 في غواتيمالا، إضافة إلى مئات الكيلو مترات من الطرقات، وقتل 224 شخصاً في السلفادور
وسبعة في كوستاريكا وواحد في بنما، وفي السلفادور واستناداً إلى لجنة الطوارئ
الوطنية ما زال 69 شخصاً مفقودين فيما شُرد 49 ألفاَ و275 شخصاً، لا سيما في
شرق البلاد.
وفي كل أنحاء أميركا الوسطى دمر الإعصار زراعات مساحتها عشرات
الآلاف من الهكتارات لا سيما من الأرز والذرة اللذين يشكلان غذاء السكان الرئيسي.
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7283) ]
من ثمرات (واي) المرة
اتخذ الأردن إجراءات جديدة بحق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في
معرض تأكيده على دعمه والتزامه باتفاق (واي بلانتيشن) . وقالت مصادر موثوقة
في عمان إن السلطات الأردنية اتخذت قراراً بمنع قادة حركة (حماس) من السفر.
وطُبّق هذا القرار حيث مُنع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) من
السفر إلى سورية وأعيد ومرافقه محمد سيف من منطقة حدود جابر. وأُبلغ مشعل
أنه في حالة مغادرته الأردن فلن يسمح له بالعودة إليه.
وطال هذا الإجراء محمد نزال عضو المكتب السياسي للحركة وممثلها في
الأردن الذي أبلغ أنه لا يستطيع التوجه إلى دولة قطر.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7280) ]
الذئب صديق الحمل
س: هل كان شارون يمثل الصلف والتعنت الذي نعرفه عنه؟
ج: كلا، شارون رجل عادي؛ وبعيداً عن المفاوضات هو أقرب إلى الفلاح
وليس إلى العسكري.
وإذا لم يكن هناك حديث سياسي فإن متعته تبدو في الحديث عن البقر ورعي
الأغنام والزراعة، عموماً هو إنسان عادي وليس الذي عرفناه في صبرا وشاتيلا.
[محمود عباس (أبو مازن) جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7287) ]
للتوقيع ثمن!
قالت صحيفة (الأردن) : إن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو رفض
توقيع اتفاق (واي بلانتيشن) مع الفلسطينيين إلا بعد تعهد خطي أميركي بتزويد
إسرائيل بـ 90 طائرة مقاتلة من طراز إف 16 واف 15.
وأضافت أن الطائرات مزودة بأجهزة تكنولوجية متطورة جداً تمكنها من العمل
ليلاً وإصابة الأهداف بدقة. ... ...
[جريدة الأنباء، عدد: (8069) ]
القوة الأمريكية إلى أين؟
أوضح الجنرال هنري شيلتون رئيس هيئة الأركان المشتركة في الولايات
المتحدة في تقرير قدمه مؤخراً للجنة القوات المسلحة بالكونجرس الأمريكي أن عدة
عناصر وعلى رأسها الميزانية المحدودة والعمليات العسكرية الطويلة أدت إلى نتائج
سلبية أثرت على درجة استعداد الجيش الأمريكي، وأعلن شيلتون في حديثه إلى
لجنة الكونجرس، (أن هناك دلائل واضحة على وجود مظاهر عديدة تؤكد أن
القوات الأمريكية في حالة إنهاك شديد) ، مضيفاً (أن الدلائل المبدئية للقياسات التي
أجريناها تظهر أن استعداداتنا قد أصبحت مهترئة، وأن الأوضاع الصحية لقواتنا
أصبحت خطيرة) .. وكانت الولايات المتحدة قد دعت قواتها لرفع حالة الاستعداد
بسبب وجود مشاكل وصراعات في عدة مناطق منها ألبانيا وإفريقيا والجزائر، مما
ساهم في إجهاد أكثر مما هو متوقع، ليس فقط للأفراد، ولكن أيضاً بالنسبة
للمعدات، حيث أدى ذلك إلى وجود نقص في قطع غيار المعدات وصيانتها..
وأكد رئيس الأركان المشتركة (أنه بدون إجراء إنقاذ عاجل) سيستمر
الانخفاض الذي أصاب درجة استعداد الجيش الأمريكي خلال العام القادم (حتى
تستمر قدرة أمريكا على خوض حربين في مكانين مختلفين) .
... ... ... ... [جريدة الأهرام العربي، عدد: (82) ]
بئست المرضعة!
ليس من المبالغة القول إن حزب البعث، هو الحزب الأم الذي أنجب معظم
الأحزاب القومية، والقسم الأكبر من السياسيين والمثقفين المشارقة وبعض المغاربة
أيضاً على مختلف توجهاتهم العقائدية والسياسية القائمة الآن.
... ... ... ... ... ... ... [مجلة اليسار، عدد: (99) ]
ومن الشذوذ ما حكم! !
تساءلت صحيفة (ذي صن) البريطانية إذا كانت (مافيا) من الشاذين جنسياً
تحكم بريطانيا. وخاطبت الصحيفة بلهجة استياء رئيس الوزراء قائلة: (قل لنا
الحقيقة يا توني بلير هل تحكمنا مافيا من الشاذين جنسياً؟) .
وجاء ذلك بعدما اضطر وزير الزراعة في الحكومة العمالية (نِك براون) إلى
الاعتراف بأنه من الشاذين، بعدما علم أن إحدى صحف الإثارة كانت تستعد لكشف
أمره، وسبق لوزير الصناعة بيتر ماندلسون وهو من المقربين من رئيس الوزراء
توني بلير أن مر بالتجربة ذاتها عندما كشف أحد رؤساء التحرير المشهورين في
الصحافة اللندنية مباشرة عبر التلفزيون الميول الجنسية للوزير. وفي نهاية
(أكتوبر) الماضي قدم الوزير المكلف بشؤون مقاطعة ويلز رون ديفيس استقالته
بعدما تعرض لاعتداء في إحدى حدائق لندن، معروفة بأنها ملتقى الشاذين في
العاصمة البريطانية.
لذا تساءلت (ذي صن) : هل بريطانيا محكومة من قبل مافيا من الشاذين ومن
السياسيين والمحامين ومن الجلساء في القصر الملكي. أو حتى من ضباط في
الشرطة؟) . ... ... ... ...
[جريدة الحياة، عدد: (13034) ]
الاضطهاد الجديد
وقع الرئيس الأميركي بيل كلينتون مشروع قانون يمنحه سلطة فرض
عقوبات اقتصادية على أي دولة تتعرض فيها الأقليات الدينية للاضطهاد، وامتدح
الكونغرس لإفساحه المجال للمرونة في تطبيق تلك العقوبات.
ويعطي القانون الرئيس سلطة اتخاذ واحد أو أكثر من 15 إجراء ضد الدول
التي تمارس الاضطهاد الديني؛ ثمانية منها ديبلوماسية وسبعة تتعلق بوقف المعونة
الأميركية أو فرض عقوبات اقتصادية.
وقال كلينتون: (إن القانون لا يستهدف أي دولة أو ديانة بعينها) .
وأضاف: (هذا القانون يسعى إلى تعزيز الحريات الدينية لكل الناس، سواء
أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو بوذيين او هندوس أو تاويين أو من معتقدي
أي ديانة أخرى) .
وبموجب القانون تحقق وزارة الخارجية الأميركية في أي مزاعم عن
الاضطهاد الديني وتقدم تقريراً سنوياً إلى الكونجرس.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (13022) ]
(جهاد) الأمن الفلسطيني! !
أكدت مصادر فلسطينية مطلعة أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أصدر
أمراً أخيراً بمنع مسؤولي الارتباط المدني والعسكري الفلسطيني مع الجانب
الإسرائيلي من التردد ليلاً على الملاهي الإسرائيلية.
والسبب كما ذكرت المصادر الشجار الذي وقع بين بعض مسؤولي الارتباط
الفلسطيني في ملهى ليلي في تل أبيب بسبب راقصة روسية، كاد أن يؤدي إلى
وقوع ضحايا عندما حاول أحدهم استخدام سلاحه الشخصي تحت تأثير المشروبات
الروحية، وتدخل عدد من المسؤولين الإسرائيليين لـ (فض الاشتباك) وتطوع
أحدهم بالاتصال بمكتب الرئيس عرفات بعد منتصف الليل لوضع حد للمشكلة.
وطلب عرفات من مساعديه أن يتصلوا بأحد كبار المسؤولين العسكريين للانتقال
إلى تل أبيب لإعادة مسؤولي الارتباط إلى غزة، فتبين له أن هذا المسؤول هو أحد
الموجودين في تل أبيب.
يذكر أن كبار مسؤولي الارتباط يحملون بطاقات الشخصيات المهمة (في. أي. بي) التي تمنحهم حق الدخول لإسرائيل في أي وقت حتى أثناء الصدامات بين
الجيش الإسرائيلي والمتظاهرين الفلسطينيين.
وكانت إسرائيل قد منحت 400 من هذا النوع من البطاقات الشخصية
لشخصيات فلسطينية مصنفة إلى درجات. وتحدثت مصادر في الشرطة الإسرائيلية
عن ضبط بعض المسؤولين الذين يحملون هذه البطاقات داخل المناطق الإسرائيلية
مع غانيات يهوديات. ... ...
[جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7266) ]
الجاذبية العراقية
قالت وزارة الطاقة الأمريكية إن العراق أصبح ثاني أكبر مورد للنفط إلى
الولايات المتحدة بعد السعودية، وذلك في شهر (أغسطس 98م) حيث بلغت
الصادرات العراقية في هذا الشهر (1، 22 مليون برميل) ، في حين كانت
الصادرات النفطية الكويتية في الوقت نفسه (8. 5 مليون برميل) ! ! وقال أحد
المشرفين على مبيعات النفط العراقي: (إن العراق يسعّر منذ فترة نفط البصرة
الخفيف أقل من سعر الخام الآتي من مصادر خليجية أخرى) .
وكان الفرق بين السعرين العراقي والخليجي كبيراً، بحيث أصبح بالإمكان
إعادة بيع العقود إلى الشركات الأميركية.
إن من المستحيل التخلص من جاذبيه النفط العرقي تماماً، لكن هذه الجاذبية
ازدادت منذ حزيران (يونيو) الماضي مع ارتفاع كمية النفط التي ضخها العراق
ومع تراجع أسعار النفط في الأسواق الدولية. ويشتري النفط العراقي عدد كبير من
الشركات نفسها التي كانت تشتري الخام العراقي قبل حرب الخليج.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (13030) ]
أما زلت تتاجر بالقدس؟ !
حذر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من أن (بنادقنا جاهزة) للدفاع عن حق
الشعب الفلسطيني وإننا سنشرعها إذا حاولوا أن يعيقونا أن نصلي في القدس
الشريف. ... ... ... ... ...
[جريدة الخليج، عدد: (7120) ](133/86)
قضايا ثقافية
الإسلاميون وسؤال النهضة
(1)
عبد العزيز التميمي
منذ بدأ رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية) يترنح، تحت مطارق
المواجهة الحضارية مع الغرب، برز السؤال الإشكالي الملحّ: لماذا تأخر المسلمون
وتقدم غيرهم..؟ !
يحتوي السؤال على شطرين كلاهما بالغ الأهمية: تخلف الذات، ونهضة
الآخر..! وبغضّ النظر عن مفهوم النهضة والتخلف الذي سبق لنا معالجته معالجة
مختصرة في عدد سابق من هذه المجلة فإن هذا السؤال الإشكالي ينطوي على
اعتراف صادق وحقيقي بأن (واقع المسلمين) متخلف.. ولا تزيده الأيام إلا شدة في
التخلف ... ... ... ... ... ... ... ...
... - البيان-
وقبل الولوج في معالجة ما لهذا الموضوع الحيوي من بالغ الأهمية، فإنني
أطرح سؤالاً أعتقد أنه لا يزال عند بعض (الإسلاميين) على الأقل محلّ ريبة وشك.. وهو: هل يَعِدُ الإسلاميون مجتمعاتهم بالرفاه والحياة الطيبة في الدنيا، في حال
استقامتهم على الدين؛ أم أن المكافأة الموعودة إنما يستكملونها في الدار الآخرة ... ؟!
الجواب بلا تردد: نعم! إن جزاء الاستقامة على دين الله تبارك وتعالى هو
الرفاه الدنيوي والسعادة الأخروية ... [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى] [طه: 123] [وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: 124] ،
وقال نوح عليه السلام لقومه: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ
أَنْهَاراً] [نوح: 10 12] وقال تعالى في سورة الجن: [وَأَمَّا القَاسِطُونَ] أي
الحائدون على الطريقة [فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً] [الجن: 15، 16] وقال الله تبارك وتعالى: [وَعَدَ اللَّهُ
الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: 55] .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بشر هذه الأمة بالنصر والتمكين في
الأرض ... ) [1] .
هذه وغيرها كثير نصوص ظاهرة متواترة تؤكد بلا ريب ولا شك بأن منهج
الله تبارك وتعالى وشريعته ضمان لا بل هي الضمان الوحيد في الحقيقة للسعادة في
الدارين: دار الدنيا ودار الآخرة، وأن الإعراض عن الذكر، والتملص من
الشريعة والخروج عليها سبب في الهلاك العاجل والآجل: [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] .
ومشاهد التاريخ لا تخفى على من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد..
ومع ذلك تتضخم في نفوس بعض الناس نصوص الزهد في الدنيا وهوانها
على الله تعالى وهي كذلك، كما تتضخم نصوص البلاء والفتنة حتى ليخيل إليهم أن
عباد الله المتقين لا بد أن يكونوا في بلاء وعنت ما بقوا على ظهر هذه البسيطة؛
لأن الله تبارك وتعالى اختار لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس ... ! . والذين
يفكرون بهذه الطريقة يخلطون بين المطلوب الفردي: الزهد والتقشف والإيثار،
والمطلب الجماعي: النهضة والتقدم والرفاه، الذي هو في الحقيقة نتيجة وأثر
اجتماعي للتجرد الفردي. ولسنا نعالج في هذه العجالة هذا المفهوم، ولذلك نكتفي
بما ذكرناه هاهنا؛ كي نعود إلى سؤالنا في مطلع المقال، وندارس الدعاة في
الإجابة عليه؛ فقد تعددت نظراتهم، وتفاوتت طرائقهم إلى درجة التناقض والتضاد؛ وهي درجة مرفوضة، ووضع غير مقبول، أعني: التناقض والتضاد ...
* فمن الدعاة من اختار المدخل العلمي المعرفي مفتاحاً للنهضة: وذلك بسبب
أحد ملحظين في هذا الصدد:
الملحظ الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسائر الأنبياء من قبله،
اختاروا مدخل التصحيح العقدي باباً لبناء المجتمع المسلم [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] . [فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى ... ] [البقرة: 256] وعلى هذا طوائف
الدعاة إلى منهج السلف وتصفية العقيدة والحديث مما داخلها، وتقريب السنة بين
يدي الأمة ...
والملحظ الثاني: أن الغرب الحديث إنما خرج من ظلمات القرون الوسطى
تحت مطارق الإصلاحيين من رجال الدين أمثال: مارتن لوثر، وكالفن، والرواد
من الفلاسفة أمثال: ديكارت، وكانت، ورجال العلم الشجعان أمثال: جاليليو،
وكوبرنيكس، ونيوتن ... الذين واجهوا جمود رجال الكنيسة وتسلطهم وعجز
العقلية الأوروبية وتكاسلها، وعلى هذا دعاة التقدم التقني، والمدخل المعرفي
والاجتماعي للنهضة الذين أسسوا بعض المعاهد الفكرية في أمريكا والجامعات في
بعض دول الشرق الآسيوي، وأصدروا الدوريات والمطبوعات، وعقدوا الندوات
لتعميق هذا الاتجاه.
* ومن الدعاة من اختار المدخل السياسي للنهضة: وخصوصاً أولئك الذين
تعرضت بلدانهم للاحتلال الأجنبي والخيانات المحلية.. حيث قالوا بأن دور الدولة
قد تضخم في العصر الحديث، كما لم يحدث في التاريخ، وتغولت إمكاناتها حتى
أصبحت بشريط مغناطيسي صغير على ظهر بطاقة بلاستيكية تستطيع أن
تستعرض حياة الشخص المعني وأهم أعماله الحيوية طوال حياته ... فهي بذلك
قادرة على إجهاض كل مشروع لا توافق عليه أو لا يخدم توجهاتها، والعكس
بالعكس ... فهي قادرة إذا رغبت أن تحقق في فترة وجيزة ما يستغرق من الدعاة
سنين عديدة من جوانب الإصلاح والإغاثة وغيرها ... وهم يقولون أيضاً: إنه
يمكن لنا أن نستشف من بعض النصوص ما يدل على هذا المعنى الحيوي من مثل
قوله سبحانه:
[الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] فكأنهم فهموا أن إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن تتحقق على الوجه
التام إلا بهذا الشرط شرط التمكين في الأرض وبذلك فإن كل جهد يبذل في غير هذا
الاتجاه من وجهة نظرهم فهو إن لم يكن معوقاً للمسيرة فلن يحقق الغاية بلا ريب!
وممن يرى هذا الرأي الأحزاب والمنظمات الإسلامية التي تطلق عليها وسائل
الإعلام: جماعات الإسلام السياسي!
* ومن الدعاة من اختار المدخل التربوي للنهضة: باعتبار أن الأمة لا
ينقصها (المعرفة) والأبحاث الأكاديمية.. فنحن أكثر الناس كلاماً، حتى إن بعض
الشانئين وصفنا بأننا (ظاهرة صوتية) كما لا ينقصنا الأحزاب والمنظمات، بل إن
حصاد هذه الأحزاب والمنظمات كان ولا يزال مراً.. فهي لم تزدنا إلا هزيمة
وتفرقاً وتشرذماً.. والأزمة في جذرها العميق كما يرى هؤلاء أزمة خُلُق وسلوك
وفعل، قبل أن تكون أزمة قول ونظرية ومنهج وتنظيم.. فمَنْ من المسلمين يجهل
عظم قدر الصلاة، أو خطورة الربا أو حرمة الرشوة أو غير ذلك من الممارسات
المنحرفة التي لا تزال تزداد اتساعاً وانتشاراً؟ المشكلة ليست في أننا لا نعلم أو لا
نقول، بل في أننا نقول ولا نعمل [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2)
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 2، 3] . الفريضة الغائبة
ليست العلم أو المعرفة أو الوعي السياسي كما يرى هؤلاء وإنما هي فريضة الخلق
والسلوك والعمل، ولذلك كانت أوّل الفرائض العملية على النبي -صلى الله عليه
وسلم- والمسلمين الأولين؛ فريضة قيام الليل: [قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ
انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) ] [المزمل: 2، 3] لماذا؟ ! لأن القول المنزّل من عند الله
تبارك وتعالى قول ثقيل يحتاج لأولي العزم من الرجال كي يحملوه.. [إنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] [المزمل: 5، 6] .
الرجال الذين قاموا مع محمد في صدر الإسلام نصف الليل أو أكثر أو أقلّ
قليلاً.. هم الرجال الذين تغير بهم التاريخ.. وهم الذين لا نزال نحتاج إليهم دائماً
وأبداً، وبدونهم كل جهد هباء.. آمن بهذه المقولة طوائف من الدعاة ممن جعلوا
تبليغ دين الله والسياحة في الأرض غاية جهدهم ونهاية قصدهم.
* ومن الدعاة من يرى المدخل الجهادي للنهضة: فالجهاد من وجهة نظر
هؤلاء هو الفريضة الغائبة التي تسلط الأعداء بسبب غيابها على المسلمين وآذوهم
واستنزفوا ثرواتهم، وهيمنوا على قرارهم المستقل.. المسلمون لا ينقصهم العدد
ولا الثروة، ولا الموقع الجغرافي، ولا الدافع العقدي ولا الخبرة التقنية.. كل ما
يحتاجونه كما يرى هؤلاء هو أن يستجيبوا لله وللرسول في النفير العام: [قَاتِلُوا
الَذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] [التوبة: 123] [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] سبب
الذل المهيمن اليوم على المسلمين مع كثرتهم العددية الكاثرة هو ترك الجهاد كما قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، ورضيتم
بالزرع، وأخذتم أذناب البقر سلّط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى
دينكم) [2] وقال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما
تتداعى الأكلة إلى قصعتها.. قالوا: أوَمِن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل
أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم لكم،
وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا
وكراهية الموت..) [3] .
هذه النصوص وغيرها كثير تبين المكانة المركزية للجهاد في الإسلام، كيف
لا وهو ذروة سنام الإسلام وبه قيام الدين وكسر شوكة المشركين ...
[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُّؤْمِنِينَ] [التوبة: 14]
وشواهد التاريخ الماضي والواقع الحي كما يقول هؤلاء تدل على أنه لا يردع
قوى الكفر والظلم والفساد في الأرض مثل دم يهراق في سبيل الله تبارك وتعالى.
والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى كثير من الاستعداد والتخطيط
والتنظير كما يرى هؤلاء إنما هو كتيبة تصدق مع الله تعالى وتمضي في سبيل
إعزاز دينه، فإذا علم الله تبارك وتعالى منها صدق النية، ومضاء العزيمة،
وخلوص القصد، فإنه يصرف إليهم قلوب عباده المؤمنين ويجمعهم عليهم ويمكن
لهم في الأرض..
ولذلك فقد كلف الله نبيه محمداً بالجهاد وحده وإن لم يتبعه أحد ثم ينصره الله
تعالى: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن
يَكُفَّ بَاًسَ الَذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاًساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] [النساء: 84] .
آمن بهذه المقولة جماعات من الشباب المسلم، الذين كانت بداياتهم في مقارعة
اليهود في فلسطين والشيوعيين في بلاد الأفغان.. ثم لما أوصدت في وجوههم
الأبواب وسدت أمامهم المسالك، رجعوا إلى بلدانهم في حرب طاحنة غير واضحة
الهدف في كثير من الأحيان ... والكثير من هؤلاء تعوزه الحكمة العميقة، والعلم
الشرعي الراسخ، والتربية الإيمانية الزاكية؛ ذلك أنهم في خضم الصراعات التي
يخوضونها مع خصومهم وأحياناً فيما بينهم لا يجدون وقتاً لكل ذلك..
وبعدُ: فأيّ هذه المسالك هو الأصح؟ وأيها الأسلم والأحكم؟ ذلك ما سوف
ندرسه في حلقة قادمة بإذن الله تعالى ...
__________
(1) أحمد: مسند الأنصار، حديث رقم (20718) .
(2) سنن أبي داود، البيوع، حديث رقم (3462) .
(3) أحمد: حديث رقم (21891) .(133/90)
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي..
كيف تكون مبدعاً؟
(3/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مقدمات عامة حول ماهية التفكير،
وآليته، وخصائصه، ومنهج التفكير العلمي الذي أفرد فيه حالات محدودة للتفكير
مثل: حل مشكلة معينة، والتفكير في مشروع معين ...
ويواصل في هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى للموضوع..
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
ماهية التفكير الإبداعي:
الإبداع في اللغة يعني الإنشاء على غير مثال سابق، والبديع هو المبدَع
والمبدِع، قال تعالى في محكم التنزيل: [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ]
[البقرة: 117] ، واستبدعه: عده بديعاً [1] .
أما من الناحية العلمية، فلعلي أقفز كما سبق في مقال سابق إلى التعريف الذي
ارتأيته؛ متجاوزاً بذلك إشكالية التعريف التي لا تهم القارئ كثيراً، وهذا التعريف
هو:
(عملية ذهنية مصحوبة بتوتر وانفعال صادق ينظم بها العقل خبرات الإنسان
ومعلوماته بطريقة خلاقة تمكنه من الوصول إلى جديد مفيد) [2] .
أهمية التفكير الإبداعي:
ها هي البشرية جمعاء ترفل بصور من النعم، وأشكال من الترفيه، وألوان
من التيسير، تَفَضّل بها المولى عز وجل وقضى بحكمته البالغة بجعل الإبداع
وسيلة فاعلة يمتطيها المبدعون ليسهموا في بلورة أفكارهم نظرياً، وفي إنجازها
واقعياً.
ومن هنا تنبثق أهمية التفكير الإبداعي من كونه بعد توفيق الله تعالى:
* قناة أكيدة إلى جزر الاكتشافات الجديدة. * ومعبراً مضيئاً إلى النجاح
والتفوق.
* ومنفذاً قاصداً إلى تحقيق أهدافنا بكفاءة وسرعة.
* وسبيلاً ذكياً إلى التجديد الذي يزهق روح الملل ويريق دم السآمة! !
جوهر الإبداع:
على الرغم من أن هناك اعترافاً بين علماء الإبداع على أنه نوع من أنواع
النشاط العقلي، إلا أنهم اختلفوا في طرق معالجته وتحديده وقياسه، بمعنى أنهم
اختلفوا في الإجابة عن السؤال: متى نحكم لعمل أو لشخص بالإبداع؟ كما أنهم
اختلفوا في جوهر الإبداع على النحو الآتي:
أ - منهم من تناول الإبداع على أنه مجموعة من الخطوات تبدأ بتلمس
المشكلة وتنتهي بإشراق الحل والتحقق منه، فمن طبق تلك الخطوات فقد مارس
عملاً إبداعياً! ! (منهم: والاس، ماسلو، عبد الغفار) .
ب - ومنهم من جعل محور الإبداع هو الناتج الإبداعي وحدد مجموعة من
الصفات كالجِدّة وعدم الشيوع والقيمة الاجتماعية، وجعل توافرها دليلاً على الإبداع
بغضّ النظر عن شخصية القائم بالعمل! ! (منهم: روقيرس، ستن) .
ج - وبعضهم ركز على مجموعة من الخصائص العقلية وغير العقلية وجعل
تلبّس البعض بها دليلاً على إبداعه، سواءٌ أبدع واقعاً أم لم يبدع! ! (منهم:
جيلفورد، تورانس) [3] .
إذاً فالأول يعتني بالخطوات الإبداعية، والثاني بالناتج الإبداعي، والثالث
بالشخصية الإبداعية. ومن هنا فلعله من الواضح أن كل رأي منها يعجز عن تفسير
ظاهرة الإبداع، ذلك أنه يعالج ضلعاً واحداً من أضلاع المثلث الإبداعي، ومن ثم
فالرأي السديد في نظري يتمثل في الأخذ بهذه الآراء مجتمعة على نحو ما سيجري
تفصيله.
منهج التفكير الإبداعي:
كاد أن يقتتل الناس من أجل إخراج (طائر الكروان) الذي احتبس في حفرة
رأسية في جدار سميك.. فأحضر أحدهم عوداً وبدأ بإدخاله وتحريكه داخل الحفرة
حتى كاد باجتهاده أن يقتله! ، والآخر بإخلاصه حاول أن يدخل يده الطويلة لعله
يمسك به، ولكن بلا جدوى، وبعضهم اقترح تخويفه بالأصوات المزعجة عله أن
ينهض! كل ذلك وطفل في الرابعة عشرة من عمره كان يرقب الموقف وتبدو عليه
آثار توتر التفكير وانفعال البحث.. وفجأة يصرخ وجدتها! ما رأيكم لو بدأنا بسكب
كمية من الرمل في الحفرة بصورة تدريجية.. إنه الإبداع، أليس كذلك؟ !
قد تبدو لك هذه القصة بسيطة، وبالفعل هي كذلك، غير أني أريد أن تفهم أن
المقصود منها فقط هو تسهيل عرض منهج التفكير الإبداعي الذي أراه بعد أن تم
استيعاب نظريات الإبداع، واستقراء آراء الباحثين.
ما الخطوات التي يجب اتباعها لنكون مبدعين؟ !
التفكير الإبداعي ينتظم نفس الخطوات التي يمر بها التفكير العلمي ولكن على
نحو فذ؛ فذلك الطفل حدد المشكلة بدقة وتعرف على أسبابها، وعرف على وجه
الدقة ما يريد، وفكر في مجموعة من البدائل، وخلص أخيراً إلى البديل الإبداعي،
بيد أن المبدع دائماً ما يتفاعل بإخلاص مع ما يفكر به لدرجة يكون معها:
* معايشاً لأجزاء الفكرة ومفرداتها، مستظلاً تحت شجرتها وأغصانها،
ومتأملاً ثمارها وأشواكها. ومن ثم فإنه يصل إلى درجة من النضج التفكيري يصبح
معها:
** قادراً على المرور بهذه الخطوات بكل سرعة وكفاءة. ** مرناً في
تطبيقها.
** متوثباً صوب الفكرة الإبداعية (الجديدة) إلى حد تطّرد معه الأفكار
الأخرى إذا ما لاحت في أفق تفكيره، بمعنى أن ما يعايشه المبدع من توتر وانفعال
إزاء الفكرة يجعله يدمج الخطوتين الثالثة والرابعة (تحديد البدائل الممكنة، واختيار
أفضلها) في خطوة واحدة؛ فهو يفكر بطريقة خلاّقة في بدائل كثيرة، غير أن
إبداعه يمكّنه من القضاء على الأفكار الهزيلة ليسير على جثثها صوب البديل
الإبداعي.
** محتضناً البديل الإبداعي في (رحم فكري) ، متعاهداً إياه بكل ما ينميه
ويغذيه.
** فاحصاً للفكرة المنبثقة من ذلك الرحم، ليحدد أخيراً مدى صحتها نظرياً
وجدواها عملياً [4] .
أسئلة تعينك على الإبداع:
ثمة أسئلة تعين على الإبداع، يمكن لكل واحد منا توجيهها لنفسه ومن ثم
محاولة تلمس إجابة لها، وليس هناك أسئلة نمطية تصلح في كل الأحوال، وإنما
يجب اختيار الأسئلة التي تناسب المشكلة محل التفكير. فعلى سبيل المثال يمكنك
في مرحلة توليد الأفكار توجيه الأسئلة الآتية:
* ماذا لو فعلت أو لم أفعل كذا.......... .؟ * لِمَ لا أفعل كذا...........؟
* هل أغير زاوية التفكير (أفكر رأساً على عقب) ؟ * ما هي الافتراضات
التي يمكن تجاوزها؟
وعند تقييم الأفكار يمكنك توجيه الأسئلة التالية:
* هل هذه فكرة جيدة؟ * هل نستطيع تنفيذها؟
* هل الوقت مناسب لتنفيذها؟ * من يستطيع مساعدتنا؟
* ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب في حالة إخفاقها؟
إن كثيراً من المبدعين لم يصلوا إلى درجة الإبداع إلا بعد أن تخطوا عقبة
الأسئلة (التقليدية) ، ذلك أن الإجابة التي تتبلور في أذهاننا إنما تتشكل بحسب
السؤال؟ [5] .
من هو المبدع وما خصائصه؟
إن المبدع إنسان كغيره ... غير أنه وعاء مملوء بانفعالات صادقة، تأتيه من
كل صوب، من قراءاته، تأملاته، ملاحظاته، احتكاكاته، اهتماماته، ومعاناته..
فينفذ ما قرأه وما سمعه وما شاهده وما وعاه، ليتخفف من وطأة الانفعالات، ومن
ازدحام عقله بالرؤى [6] .
ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع، غير أن من أهمها في نظري ما
يلي:
1 - الخصائص العقلية:
أ - الحساسية في تلمس المشكلات: يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في
المواقف المختلفة أكثر من غيره، فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن
حل لها، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام) ! ! ، أو يتلمسون
مشكلة دون الأخريات.
ب - الطلاقة: وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار
في فترة زمنية قصيرة نسبياً. وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع وتنمو شجرته.
وهذه الطلاقة تنتظم:
** الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار.
** طلاقة الكلمات: سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها
بصورة تدعم التفكير.
** طلاقة التعبير: سهولة التعبير عن الأفكار وصياغتها في قالب مفهوم.
ج - المرونة: وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل
والعكس، ومن اليمين إلى اليسار والعكس، ومن الداخل إلى الخارج والعكس،
وهكذا) من أجل توليد الأفكار، عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة
التلقائية) ، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التَكيّفية) .
فمثلاً باستنطاق قصة الكروان، نجد أن أكثر الناس كانوا يفكرون:
من أعلى إلى أسفل
__________
كيف نمسك بالطائر من أعلى؟ ذلك أنهم
كانوا يعتقدون بأن الحل يكمن في إيجاد وسيلة معينة يتم استخدامها من جانبهم
(الأعلى) وإنزالها إلى الطائر (الأسفل) ، وهذه زاوية تفكير جيدة قد تنجح، ولكن
الخطورة تكمن في الجمود عليها وعدم التماس زوايا أخرى! ! .
بينما وجدنا الطفل المبدع يفكر من زاوية أخرى مع الزاوية الأولى:
من أسفل إلى أعلى
__________
ماذا لو جعلنا الطائر يرتفع من جانبه
لكي نتمكن من الإمساك به! ! وفعلاً.. جاءت فكرة سكب الرمل بكميات قليلة من
الجهات المختلفة للحفرة لكي يرتفع الطائر شيئاً فشيئاً. ويسمي البعض هذا اللون
من التفكير بـ (التفكير رأساً على عقب) .
د - الأصالة: وتعني القدرة على إنتاج الأفكار الجديدة على منتجها، بشرط
كونها مفيدة وعملية.
هذه الخصائص الأربع حددها جلفورد، وتشكل هذه الخصائص بمجموعها ما
يسمى بالتفكير المنطلق (المتشعب) ، وهو استنتاج حلول متعددة قد تكون صحيحة
من معلومات معينة وهذا اللون من التفكير يستخدمه المبدع أكثر من التفكير المحدد
(التقاربي) وهو استنتاج حل واحد صحيح من معلومات معينة.
هـ الذكاء: أثبت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع ليس شرطاً للإبداع، وإنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع [7] .
2 - الخصائص النفسية:
يمتاز المبدع نفسياً بما يلي:
أ - الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها. ب قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب
المغامرة.
ج - القدرة العالية على تحمل المسؤوليات. د تعدد الميول والاهتمامات.
هـ عدم التعصب.
والميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله، مع خصائص اجتماعية وقدرة
عالية على اكتساب الأصدقاء.
ز الاتصاف بالمرح والأريحية. ح القدرة على نقد الذات والتعرف على
عيوبها [8] .
خصائص متفرقة:
أ - حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل.
ب الميل إلى النقاش الهادئ.
ج - الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان) .
د - دائم التغلب على (العائق الوحيد) . (العائق الذي يتجدد ويتلون لصرفك
عن الإنتاج والعطاء) [9] .
هـ البذل بإخلاص وتفان، وعدم التطلع إلى الوجاهة والنفوذ؛ بمعنى أن
تأثره بالدافع الداخلي (كالرغبة في الإسهام والعطاء، تحقق الذات، لذة الاكتشاف،
والانجذاب المعرفي ونحوها) أكثر من الدافع الخارجي (المال، الشهرة، المنصب
ونحوها) .
هل يلزم توافر هذه السمات جميعها في الإنسان حتى يكون مبدعاً؟
بالنسبة للخصائص العقلية يلزم توافرها كلها بدرجة معقولة، أما الخصائص
الأخرى فيكفي أغلبها.. وأظنك الآن قادراً على تحديدها.
أقفال الإبداع:
تأبى بعض الأقفال الذهنية إلا أن تصد قطاعاً عريضاً من الناس عن ولوج
باب الإبداع، ويرجع بعضها إلى البيئة الثقافية بمفهومها العام التي تنتظم العقائد
والأخلاق، وتصوغ الأهداف والغايات، وتشكل طرائق التفكير وقيم الأداء؛ بينما
يرجع بعضها الآخر إلى تراكمات نفسية خلفها سوء التربية الذاتية والانهزام في
معركة بناء الذات والانطوائية! !
وهذه الأقفال في غاية المكر وقمة التلبيس في تعاملها معنا، فهي تعرف كيف
تتلون بلون جذاب أخاذ، وتتدثر بثوب المخلص المشفق؛ وفوق هذا وذاك تخدرنا
بأسلوب بليغ، فهي قد تقول لي أو لك:
* الإجابة الصحيحة * لست مبدعاً * لا أقحم نفسي في غير تخصصي *
ألتزم القواعد.
* ليس من المنطق في شيء * كن عملياً * إياك والغموض * من الخطأ أن
تخطئ.
وعقب هذا الإيحاء، تتشرب عقول بعضنا تلك الأقفال وتعض عليها
بأضراس العقل، ونواجذ الفكر! !
ولعل استعراض تلك الأقفال التي حددها روقرفون Rogervon تعين على
التخلص من شرورها:
1 - الإجابة الصحيحة:
من الأخطاء التعليمية التركيز على قضية الحفظ مع إغفال الفهم، فتنشأ مع
الطفل عقدة (الحل الوحيد) أو (الإجابة الصحيحة) ، ويعتقد أنه ليس ثمة حل أو
إجابة أخرى، حتى لو كانت المسألة تحتمل مائة حل أو إجابة! ! ومن مظاهر ذلك
في مؤسستنا التعليمية والتربوية شيوع الأسئلة التالية:
اذكر ... ؟ عدّد ... ؟ ، عرّف ... ؟ ، اسرد ... ؟ .... .
وندرة أو غياب بعض الأسئلة التالية: اشرح....؟ ، ما أوجه الاختلاف أو
التشابه بين....؟ ، علّق على العبارة التالية ... ، ما وجهة نظرك في ... ؟
إذاً من الأقفال الذهنية: اعتقادك بأنه ليس هناك إلا حل وحيد للمشكلة (أو
الموضوع) محل التفكير التي قد تقبل أكثر من حل، فإذا ما تم التوصل إليه توقفت
عن التفكير ... ! !
2 - لستُ مبدعاً:
من أشد الأقفال وأصلبها أن ننظر إلى أنفسنا نظرة ازدراء واحتقار، وأن
نتمثل دائماً وأبداً بـ (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه) ! ! ، ولا يعني هذا الدعوة
إلى الغرور أو مجافاة التواضع، لا.. وإنما المقصود التأكيد على أهمية الثقة
بالنفس كشرط رئيس لولوج باب الإبداع..
ولقد كشفت دراسة أن المبدعين يذكرون أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم بثقة لا
بغرور! !
3 - لا أقحم نفسي:
كثيراً ما نسمع أحداً يقول: (هذا ليس من تخصصي!) أو (ليس من جملة
اهتماماتي!) وأضرابها من عبارات الأقفال التي تصد عن الإبداع! ! لماذا لا يفكر
أحدنا عند تعطل سيارته؟ ! ألأننا لسنا ميكانيكيين؛ ألا يمكننا وبخاصة عند تعذر
وجود المختص أن نحاول اكتشاف العطل؟
من الصعب أن تجد في عصرنا الحاضر المعقد مشكلة يمكن عزوها إلى
تخصص أو فن واحد، ومن هنا فالمبدع لا يقف مكتوف الأيدي أمام أجزاء المشكلة
التي تخرج عن الدائرة الضيقة للتخصص، وإنما يحاول التفكير فيها بغية الاهتداء
إلى الحل المناسب، مع الرجوع إلى ذوي الاختصاص لاستفتائهم والإفادة من علمهم.
4 - التزم القواعد:
أقصد بالقواعد هنا الذهنية منها (طرائق التفكير والاستنتاج) ، والتي يتم
تشكيلها في أذهاننا عبر مرحلتين هما:
** أنها تبنى في البداية على أسباب منطقية ووجيهة.
** يدفعنا هذا إلى الاعتقاد بصحتها وبضرورة اتباعها.
ولكن بمرور الوقت قد تنتفي أسبابها ومن ثم تنعدم صحتها، غير أننا قد
نستمر في احترامنا لها! !
5 - ليس من المنطق في شيء:
تعد القواعد المنطقية كالقياس والاستدلال والتصنيف والتقسيم والترتيب من
أهم وسائل التفكير، غير أن الإفراط في محاكمة الأفكار في مرحلة توليدها إلى
تلك القواعد قد يعيق تدفقها ويعقّد بلورتها؛ ذلك أنه قد تنتفي الأسس التي استقت
منها القواعد المنطقية صحتها، أو يصدر المفكر في تلك المرحلة حكماً خاطئاً بسبب
(العجلة الذهنية) ... إذاً لا تغالِ عند توليد أفكارك في محاكمتها إلى القواعد المنطقية، ورحّل تلك المحاكمة إلى مرحلة تقييم الأفكار، استعن بالله وانزع قفل المغالاة
المنطقية!
6 - كن عملياً:
عقدة (البديل العملي) قد تمارس أحياناً نشاطاً تدميرياً لمصنع بناء الأفكار، ألم
تطرح أنت أو غيرك بديلاً جوبهت بعد فراغك منه ب: يا أخي (كن عملياً) ! ! ...
وبعد فترة طالت أم قصرت تبين أن بديلك هو البديل العملي؟
سؤال: (ماذا لو (: يمكنك التحليق في عالم الأفكار التي قد تبدو لك أو لغيرك
في الوهلة الأولى أنها غير عملية ... فمثلاً يمكن لمدير العلاقات العامة الذي يريد
تدعيم العلاقة مع الجمهور أن يسأل نفسه:
** ماذا لو قدمنا هدية جذابة لكل واحد منهم؟
** ماذا لو فتحنا المجال للتدرب على أعمالنا للمتخرجين حديثاً ومنحناهم
شهادات تدرب؟
** ماذا لو احتفظنا بمعلومات كاملة عن أهم عملائنا في جهاز الحاسب الآلي
وصممنا برنامجاً Software يمدهم بما نريد من معلومات في فترات محددة عبر
شبكة الإنترنت؟
** ماذا لو نظمنا رحلة اجتماعية لعملائنا الجدد؟
7 - إياك والغموض:
قد يُخيفك الغموض من التجول في شوارع الفكرة المظلمة وحدائقها المرعبة
وأسواقها المكتظة، أو في مطاعمها البائسة ... أليس كذلك؟ !
قد يبدو لك غموض كثيف يلف الفكرة الإبداعية بدثار مخيف، ويحيطها
بسياج منيع ... فإذا لم تستجمع قواك حينئذ وتستحث شجاعتك وتستعين بالله تعالى
قبل أي شيء وبعده على ذلك المارد الغامض فقد يفوتك الإبداع، وتعتل بالجمود! !
8 - من الخطأ أن تخطئ:
ليس ثمة طريق يوصل للإبداع إذا كان الإنسان يخاف من الخطأ، ويعده (ذنباً
ذهنياً) يجب أن يترفع عنه، أو يعتقد أنه (منقصة عقلية) قد يُنال منه بسببها ... إن
التحرر من هذا القفل:
* يتيح لك الاستفادة من الأفكار التي كنت تعتقد بخطئها، ولكن بالتجربة
والتحقق ثبتت صحتها.
* يجعلك أكثر انطلاقاً في التفكير؛ وذلك أن الفكرة التي تعتقد بخطئها دون
التأكد من ذلك تظل عالقة في اللاوعي، وتعرض لك بين الوقت والآخر مما يعيق
عملية توليد الأفكار لديك.
لمريدي الإبداع فقط:
ثلاث خطوات فقط وبلا حشو توصلك إلى الإبداع هي بعد الاستعانة بالله:
1 - الثقة بالنفس وحسن التعامل معها، والتعايش الصادق والاستغراق الهادئ
في ما تفكر به.
2 - نزع الأقفال الذهنية وجعل التفكير مفتوحاً.
3 - إدراك آلية التفكير الإبداعي وخطواته والتعامل معها بمرونة.
صناعة الإبداع:
هل ثمة طريق تتوصل به المجتمعات الإنسانية إلى إيجاد مناخ فكري تُغرس
فيه شجرة الإبداع وتُصنع فيه منتجاته؟
بكل جزم: نعم ... ذلك أن الإبداع ظاهرة إنسانية اندمجت أسباب عقدية
وثقافية ونفسية فكونت إطاراً يستعصي على التجزئة أسهم في إنتاج تلك الظاهرة
وفي تشكيلها، ومن ثم ندرك أن الإبداع نتيجة يمكن الظفر بها متى توافرت
وتضافرت أسبابها. وبنظرة خاطفة إلى المجتمعات الإنسانية نتلمس سر نجاح
بعضها في صناعة الإبداع في عقول أفرادها على نحو مكنها من النهوض
الحضاري.
لقد استطاع اليابانيون مثلاً أن يحدثوا انقلاباً إبداعياً تمكنت به شركة يابانية أن
تلتزم باختراع جهاز كل أسبوع، حتى ولو لم يتم تسويق منتجاتها في بعض
الأسابيع بالصورة المطلوبة! ! قد تتساءل: لماذا لا ينتظرون حتى يتم تسويق
المنتجات التي تم عرضها بشكل جيد، ثم يقومون بعد ذلك بإنزال المنتج الجديد؟ !
إنهم لا يفعلون ذلك؛ لأنهم يجزمون بأنهم لو تأخروا يوماً واحداً أو أقل من
ذلك فإن شركة أخرى ستقوم بالمهمة وبذلك يخسرون....! ترى ماذا يخسرون؟ !
وبالتفاتة عاجلة إلى المجتمعات المسلمة نشعر بـ (دوار حضاري) ، ونستنشق
تقليدية مقيتة، تستوجبان الإسراع في صناعة سفينة الإبداع لتبحر في ذلك الخضم
صوب بلاد ما وراء التقليد في طريقها إلى جزر الاكتشافات العلمية والتقنية، ولا
سيما أنها تملك الإطار العقدي والقيمي الصحيح الذي يحث على العمل المبدع
المخلص، ويجلّ حملة لوائه ورافعي رايته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [حديث حسن، صحيح الجامع 1880] .
وتتأكد أهمية اقتناء سفينة إبداع للعاملين في الحقول الإسلامية في هذا الوقت
بالذات، الذي تكالبت فيه العوائق والصعوبات، وتفاقمت فيه الانشطارات
والانقسامات، وشحت فيه الموارد والمساعدات. والتفكير العلمي والإبداعي يضمن
بالإخلاص والمتابعة التغلب على تلك المشاكل والأزمات، ويرسم طريقاً تعرف فيه
الأولويات، وترسخ به الثوابت، وتميز به الصفوف، وتلتحم به العلاقات،
وينهض به العمل الإسلامي، وتطيب ثماره، وتدار مشاريعه ومؤسساته،
وتستكشف آفاقه ومجالاته.
وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام
بمصدر التلقي كتاباً وسنة وبعد توفيق الله تعالى وعونه:
1- الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانيته، وبضرورة انبثاقه من
قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ،
الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد
سواء، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمعرفة ذاتها، ولا لتحصيل لذة عقلية،
ولا للظفر بشهرة علمية، ولا لتحقيق رغبة دنيوية، وإنما هو انجذاب للمعرفة
بقصد تطوير الذات وبنائها، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً ... وإنما للإبداع
وللنهوض وللنماء وللعطاء.. المراد به وجه الله تعالى.
2- الإشاعة في العقل المسلم والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تكتسب
بشيء من البذل في تعلم وسائلها، والتلبس في خصائصها، والتدرب على تطبيقاتها.
3- تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعاً للإبداع ومحضناً
للمبدعين، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية، ومن ثم في وسائلها وبرامجها، بمعنى أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق
التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية.
4- صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل
متلبس به، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول.
5- تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح
العمل الإسلامي.
6- ضرورة تلبس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ولو تكلفاً تجسيداً
للقدوة الصالحة.
7- الاحتفاء بالمبدعين وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنوياً
ومادياً.
من تقنيات الإبداع الجماعي: العاصفة الذهنية [10] :
هي طريقة تستخدم من أجل حفز الذهن لتوليد الأفكار (صممها أوسبورن في
1938م) ، وتتلخص في طرح مشكلة معينة على مجموعة من الأفراد، يتولى إدارة
تلك العاصفة واحد منهم يمتاز بأنه يستطيع:
* تهيئة المناخ المناسب لتوليد الأفكار.
* إثارة الآخرين لتقديم وعرض أفكارهم.
* الانتقال والربط بين أجزاء الموضوع المختلفة بشكل منطقي.
وتمر هذه العاصفة بالمراحل التالية:
أ - توضيح وتجزئة المشكلة: وذلك بتفتيتها إلى أجزاء ومطالبة المشتركين
بالتفكير فيها.
ب - توليد وعرض الأفكار: وذلك بإتاحة الفرصة للمشتركين للانطلاق في
توليد الأفكار، وفي هذه المرحلة ينبغي لمدير العاصفة الذهنية مراعاة ما يلي:
* عدم السماح لأحد بمهاجمة أفكار الآخرين أو الحكم عليها أو التعليق عليها
إيجاباً أو سلباً.
* خلق مناخ يتقبل أي أفكار غريبة أو خيالية، وعدم إبداء أي نوع من
السخرية تجاهها.
* التأكيد على أهمية توليد وعرض أكبر قدر ممكن من الأفكار.
* تسجيل الأفكار المطروحة بلا استثناء (يفضل تعيين أحد المشاركين
للتسجيل) .
ج - تقويم الأفكار المطروحة: وذلك بنقدها وتمحيصها وصولاً للفكرة
المناسبة.
وتستغرق هذه العاصفة الذهنية عادة من 15 -60 دقيقة بمتوسط 30 دقيقة،
ويفضل أن يكون عدد المشاركين ما بين 5- 7، ويجب ألا يزيد العدد عن 15
مشاركاً.
ويمكن استخدامها في المشكلات التي تتطلب حلولاً كثيرة كالمشكلات التجارية
(مثل الإعلانات) والمشكلات التقنية (مثل كيفية استخدام الحاسب الآلي ومواصفاته)
والمشكلات التربوية (مثل احتواء الشباب) ، كما أنها أثبتت فعاليتها في مجالات
البحث والتطوير.
ولعله من المناسب في هذا السياق أن أشير كدليل على أهمية الإبداع الجماعي
لا سيما في المشكلات المعقدة إلى أن اختراع (الترانزيستور) الذي أحدث ثورة
إلكترونية ظهر كنتاج لإبداع جماعي ... ولقد أكد عدد من المبدعين أن:
(الجماعة تستوعب المشكلات أكثر) .
(لدى الجماعة تنمو ظروف الصياغة والإعداد المتكامل للمشكلات) .
(في إطار الجماعة تتسع دائرة الرؤية وتوزع المهام) ... فهل نجتمع لنبدع؟ !
وهذا لا يعني أن الإبداع يستحيل تحققه فيمثل تلك الحالات المعقدة إلا في
إطار الجماعة، وإنما المقصود التأكيد على أهمية العمل الجماعي الإبداعي.
إبداع المدير ... متى؟
إنه ليس ثمة شك في أن ما سبق من حديث عن الإبداع وجوانبه المختلفة
يصلح للإنسان رجلاً وامرأة.. صغيراً وكبيراً.. مديراً ومداراً.. غير أن وظيفة
المدير تنتظم أعمالاً وأهدافاً ذات خصوصية وخطورة بالغتين تفرضان توجيه
خطاب إبداعي خاص للمدير.. ومن هنا أقول:
إن المدير المبدع هو من يقود مؤسسته إلى النجاح بعد توفيق الله، ...
ويتلمس المشكلات التي قد تفترس ذلك النجاح ... إذاً فالمدير المبدع هو من يتعرف
على أسباب النجاح وقنواته ويتكلف في امتطائها.. إن عوامل النجاح في
المؤسسات التجارية والتربوية والتعليمية تدور حول عوامل خمسة حث عليها
الإسلام ورغب في استخدامها وتفعيلها في غير ما نص، وهذه العوامل هي:
1- الطاقم البشري: إن المدير المبدع يعرف كيف يستغل من تحته من
الموظفين والعاملين، ويدرك مواهبهم وامتيازاتهم، ويفهم نفسياتهم ودوافعهم،
ويحسن تشجيعهم ودفعهم، ويتقن تحريض أفكارهم واستفزاز إبداعهم، ويضمن
تفاعلهم مع بنك المؤسسة الخاص باقتراحات التطوير واستشراف المستقبل.. في
عام 1991م تمكنت شركة تويوتا من توفير مناخ خاص لموظفيها وعمالها نتج عنه
تقديم 2 مليون اقتراح في ذلك العام بمعدل 35 اقتراحاً لكل واحد منهم، وقد استُفيد
من 97% من تلك الاقتراحات.. فماذا عن مؤسساتنا والاقتراحات؟ ؟ ! ! [11] .
2- الوقت: يتصف المدير المبدع بالاستخدام الأمثل للوقت، ويعرف متى
يجب أن يغير من الأساليب الإدارية والتنظيمية والنفسية، ويسرع في الاستجابة
لطلبات العملاء، ويختار الوقت المناسب لإنزال المنتج الجديد، ويدرك أهمية
الالتزام بالمواعيد..
3- الجودة: تشكل الجودة العالية قضية يوليها المدير المبدع اهتماماً كبيراً..
لا سيما في وقت اشتدت فيه المنافسة، واحتدم فيه البحث عن السلعة والخدمة ذات
الجودة العالية في الجوهر والشكل والتصميم والحجم.
4- التكلفة: باتت إدارة التكاليف بغرض تخفيضها تشكل محوراً رئيساً لا في
نجاح المؤسسات فقط، وإنما في قدرتها على البدء أو الاستمرار في العطاء.. ومن
هنا فالمدير المبدع هو من يستطيع إقناع الجميع بصورة بلورة برنامج (تقشفي)
لتخفيض التكاليف، مع ضمان تفاعلهم عند تنفيذه في الواقع.
5- الابتكار (الإبداع) : القدرة على الابتكار وحمل الآخرين عليه وتوفير
مناخه صفة هامة يتمتع بها المدير المبدع، وعلامة تميزه عن (مدير الجمود)
و (رئيس التقليد) ... إن المدير المبدع يدرك أهمية إقامة الدورات المتخصصة في
الإبداع لموظفيه، ويعد الأموال المصروفة في ذلك استثماراً في أصول بشرية.
أصبحت كثير من الشركات الكبرى مقتنعة بإمكانية وأهمية تعلم الإبداع، فشركة
(جنرال إلكتريك) تفيد: (أن دورات الإبداع التي نظمتها لمديريها ومهندسيها أسفرت
عن إدخال تحسينات جوهرية على بعض منتجاتها مثل جلايات الصحون وأدوات
المطبخ، وشركة ميد تقول: (إن التدريب على الإبداع ساعدها كثيراً في تطوير
نوع من الورق الناسخ الذي لا يحتاج إلى استخدام الكربون) [12] .
تحامل المبدع على مجتمعه: بين الحقيقة والوهم:
يعتقد البعض أن المبدع لا بد أن تنطوي نظرته إلى المجتمع بمنظوماته
المختلفة (المدرسة، المصنع، الشركة، ... أو حتى المجتمع الكبير) على تحقير
وازدراء، ينشأ معهما انكفاء على الذات قد يستحيل بعد فترة تطول أو تقصر إلى
انطوائية تحمل بذرات عدائية، ويقول بعضهم: (يبدو لنا في كثير من الأحوال أن
علاقة المبدع بواقعه لا تخلو من التوتر والصراع) [13] ، كل هذا يحدث على حد
هذا الاعتقاد بسبب:
* عدم تحقيق المجتمع للذات المبدعة وتهميش الأفكار غير المألوفة التي تنبثق
منها ويتبنى المبدع الدعوة إليها أو طرحها.
* أو لسوء المعاملة من قِبَل أفراد أو مؤسسات المجتمع.
* أو لتخلف مناهج التفكير، أو للسطحية الثقافية.
ويخسر المجتمع من ثَمّ ذلك المبدع وإنتاجه الخلاق.
وبتأمل ذلك الاعتقاد مع الاعتراف بوجود شيء من تلك الممارسات الجائرة
التي يتعرض لها مبدع أو آخر، يتبين لنا مدى مجافاته للحقيقة وشططه عن
الصواب وذلك:
* لأنه لم يُبنَ على دراسة علمية أو استقراء شامل للمبدعين الحقيقيين.
* لأنه انبثق من بيئة عقدية وثقافية تصادم بيئتنا العقدية والثقافية، كعبارة
أرسطو: (إن المزاج السوداوي شرط لا بد منه للموهبة الخارقة) [14] .
* إن المبدع الحقيقي هو من ينبثق من مجتمعه المسلم منتمياً له، معايشاً
لهمومه، رافضاً لأوجه الانحطاط العقدي والتأزم الثقافي.
* إن المبدع الأصيل هو من يتسم بالموضوعية في التفكير، والاعتدال في
الحكم، فهو لا يشتط في حكمه على مجتمعه الصغير أو الكبير، فإن كان ثمة ظلام
فلا بد أن يختلط بضياء ... وإن كان ثمة تخلف فلا محالة أن يمتزج بتقدم ... وإن
كان ثمة قسوة فلا جدل أن يتخللها عطف ... وإن كان ثمة يأس فلا شك أن يغالبه
تفاؤل ...
* إن المبدع الحقيقي هو من يشعر بمسؤوليته إزاء النهوض بمجتمعه؛
فالنهوض هو ما يدفعه إلى التألق في سماء الإبداع والإبحار في عالم المبدعين.
مناقشة التطبيقات العملية:
التطبيق الأول: (زيادة استهلاك إطارات الشاحنات) :
أظنك قد توصلت إلى أن المشكلة تتمثل بالخسارة المترتبة على تغيير
الإطارات في فترات قصيرة جداً، وذلك بسبب بيع السائقين للإطارات (سرقتها) ،
ولذا فيكمن الهدف في توفير تلك المبالغ من خلال إيجاد آلية تمنع السائقين من بيعها، وبعد قيامك بمثل هذا التفكير قد تتوصل إلى الحلول الجيدة التالية) .
1- تحديد فترة زمنية معينة (6 أشهر مثلاً) كحد أدنى للاعتراف بتلف
الإطارات.
2- مطالبة سائقي الشاحنات عند تلف الإطارات بتقديم الإطارات التالفة
كشرح للاعتراف بذلك.
3- استبدال السائقين الحاليين بآخرين أكثر أمانة.
وربما تكون قد توصلت إلى أشباهها، ومع جودة مثل تلك الأفكار واحتمال
مناسبتها للمشكلة، إلا أنها تظل حلولاً تقليدية، يستطيع الكثير منا أن يحدد
العشرات منها، ولكننا نبحث هنا عن حلول إبداعية، لا أدري إن كنت قد توصلت
إلى واحد أو أكثر منها! !
ما رأيك بالحل التالي:
يجب أن تقوم الشركة بتوفير إطارات لشاحناتها غير متوفرة في السوق ...
لماذا؟ ! لإزالة الفرصة التي تمكن السائقين من بيع الإطارات.
ألا توافق على أن هذا الحل إبداعي في حالة كونه ممكن التنفيذ، ومعقول
التكلفة؟
ألا تلاحظ أنه يتميز على الحلول الأخرى؟
ألا تلاحظ أن هذا الحل تجاوز بعض الأقفال الذهنية (الحدود المتوهمة) ...
كالقفل (كن عملياً) ... إن الكثير منا قد يعيقه هذا القفل عن الوصول إلى مثال هذا
الحل بحجة أنه يجب توفير الإطارات مما هو متوفر في السوق، مع أنه قد تتمكن
الشركة من استيراد ما تريد من إطارات من الخارج.. وهذا عين ما حصل واقعاً
في تلك الشركة ... فهنيئاً لها إبداعها ...
إن هذا الحل لا يعدو أن يكون حلاً إبداعياً من سلسلة طويلة من الحلول
الإبداعية.. فأرجو أن تكون قد لامست أحدها.. وإلا فيمكنك أن تعيد المحاولة،
وأظنك بتوفيق الله تعالى ستنجح....
التطبيق الثاني: (تطبيق الدوائر التسع) :
إن من لم ينجح في تجاوز القفل الذهني (التزم القواعد) ، ... كأن يكون حبيساً
للمربع الذي وضعت فيه الدوائر التسع ... فإنه لن يعثر على حل لهذا (اللغز
الغامض) ! !
من قال لك لا تخرج من قبضة ذلك المربع؟ ! .. من قال لك لا تتجاوز
حدوده؟ ! من أخبرك أن الالتزام بمثل تلك الحدود من (اتباع القواعد) ... لا أحد! ! غير ذلك القفل!
لقد عرفت سابقاً أن من لوازم الإبداع الانطلاق (التفكير المنطلق) الذي لا
يحده شيء ... (إلا الضوابط الشرعية) ...
هنيئاً لك بالإبداع إن كنت قد تجاوزت ذلك القفل ... ومرحباً بك إن عزمت
على نزعه مستقبلاً ...
أما الحل بل الحلول فكما يلي:
(راجع الملف المسمى شكل 133-1. BMP على اسطوانة البيان) .
إذاً بالإبداع نظفر بحلول رائعة لمشكلات قد يحكم عليها البعض بأنها
(معضلات تستعصي على الحل) ، ومن ثم المطالبة بضرورة الاستسلام والتكيّف
معها! !
وأخيراً أرجو أن أكون قد وفقت في عرض هذا الموضوع الخطير، وأن
يساهم في إكساب المنهجية العلمية في التفكير والإبداع،..
وختاماً: لنتذكر جميعاً مرة بعد أخرى:
أن التفكير السديد المنتج مهارة يكسبها التعلم، وعادة يصنعها التدرب.
__________
(1) د/ إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، المكتبة الإسلامية، ط 2، ج1، مادة بدع، 34.
(2) كلمة مفيد في التعريف هامة جداً، حيث إنها تتنكر لما يمكن تسميته بـ (إبداع العبث) ! ! ، وهذا اللون من العبث يعد إبداعاً من الناحية اللغوية.
(3) د/عبد المجيد نشواتي، علم النفس التربوي، ص 134135.
(4) أرجو إعادة قراءة منهج الإبداع مرة أخرى وما ذهبت إليه إزاء منهج التفكير الإبداعي مشابه لما ذهب إليه هاريس Harris في 1959م، انظر: د حلمي المليجي، علم النفس المعاصر،
ص 191-192.
(5) Rogervon Oech, A Whack On The side of The Head - how you can be More Creative, P 38.
(6) أصل العبارة لبيكاسو، انظر سيكولوجية الإبداع، د عبد العلي الجسماني، ص 26.
(7) ألكسندر روشكا، الإبداع العام الخاص، 5058، د فاخر عاقل، الإبداع وتربيته، ص 2732، د/ محمد عبد الغني، مرجع سبق ذكره، ص 88 93.
(8) نبيل عبد الفتاح، مرجع سبق ذكره، ص 60 61، د/ كمال أبو سماحة وآخرون، مرجع سبق ذكره، ص 21- 26.
(9) نهاد درويش، الحيل النفسية، ص 1423.
(10) ألكسندر روشكا، ص 181- 187، د محمد عبد الغني، مهارات التفكير الإبداعي، ص 40- 50.
(11) Horngren, Cost Accounting, Prentice Hall Inc 1994, P 200.
(12) زهير المزيدي، مقدمة في منهج الإبداع، رؤية إسلامية، الوفاء للنشر، 1413هـ، ط 1، ص 166.
(13) د/ عبد الستار إبراهيم، آفاق جديدة في دراسة الإبداع، وكالة المطبوعات، الكويت،
ص 109
(14) دين سايمنتن، ت: د شاكر عبد الحميد، العبقرية والإبداع والقيادة، ص 94.(133/94)
المنتدى
من آداب الجهاد
عبد العزيز عبد الله الويلي
تأمل النهي النبوي قبل أن تلتحم الصفوف ويتقابل الجيشان؛ فقد قال-صلى
الله عليه وسلم-: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) . قال الإمام النووي
رحمه الله: (إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال
على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي، وقد ضمن الله تعالى لمن بُغي عليه
أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا ينافي الاحتياط والحزم، وتأوّله بعضهم: النهي عن التمني في أمر خاص وهو إذا شك في المصلحة فيه
وحصل ضرر؛ وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة، والصحيح الأول؛ ولهذا تممه -
صلى الله عليه وسلم- بقوله: (واسألوا الله العافية) وسؤال الله العافية من الألفاظ
العامة لدفع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والآخرة) . وهذا ضابط
أول من السّنّة، ثم ضابط ثانٍ وهو قُبيل الغزو وأثناءه، ونصوص السّنّة في هذا
كثيرة ومستفيضة، فمن ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- يوصي قائد الجيش بقوله:
(فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ... ) ، وهي الإسلام،
الجزية، الحرب. وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد الخروج للجهاد والغزو:
(اغزُوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا
ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً) . ثم يأتي الضابط الثالث وهو ما بعد الحرب في قسمة
الغنائم ومعاملة الأسرى، وقد تحدثت سورة الأنفال في بدايتها عن الأول، وأما
الثاني فقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إن يَعْلَمِ اللَّهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[الأنفال: 70] وقال: (استوصوا بالأسارى خيراً) .(133/106)
ماذا نعمل؟ !
خالد محمد مسعود القحطاني
ماذا نعمل؟!
سؤال قد يتبادر إلى الذهن أنه سهل الإجابة؛ ولكنه صعبها، إنه يعني
باختصار: أن تخدم دينك الذي يطلب منك الكثير، وأمتك التي تنتظر جهودك في
تصحيح أوضاعها..
وفيما يلي إجابة سريعة للسؤال: ماذا نعمل؟ !
1- لا بد أولاً من تحديد القدرات الشخصية والإمكانات الذاتية؛ فمعرفة الذات
والتعرف على الإمكانات يعتبران فاتحة أولية للعمل والانطلاق فيه.
2- ترتيب الأمور الدعوية: المهم فالأهم، ووضع أولويات تقع في رأس
القائمة، ويبدأ بتنفيذها بشكل متقن وجذّاب، ثم بعد الانتهاء منها تنتقل لما بعدها ثم
التي تليها حتى تصل إلى مبتغاك بكل يسر وسهولة.
3- لن يتسنى ذلك إلا بتقسيم العمل إلى مراحل عدة، ووضع خطط معينة
لكل مرحلة، ومتابعة تنفيذها ووضع وقت محدد لإنجاز الأعمال خلاله.
4- ينبغي أن يتعلم الإنسان من خلال ذلك تقويم إنجازه، ووضع نسبة مئوية
يحدد من خلالها حجم ما أنجزه من مهمات، وما قصّر فيه حتى يتلافى الأخطاء.
5- الحرص قدر المستطاع على الأعمال الجماعية فهي أجدى وأحسن من
العمل الفردي المجبول بالنقص والقصور، ويجب أن يتم ذلك من خلال فريق عمل
متجانس، فيختار للعمل معه من يعينه بهمته أولاً، وبجهوده ثانياً.
وجاء العيد
علي بن جبريل
ياعيدٌ أقبلتَ والمأساةُ ما برِحتْ ... في كل صقع وخيطُ القهرِ ممدودُ
فأمّتي لم تزَلْ يا عيدُ في كمدٍ ... قتلٌ ونهب وإحراقٌ وتشريدُ
كيف السرور وأرض المسلمين لظىً؟ ... كيف الهناء (وأقصى) الشرق موؤودُ؟
فمسجد ُ القدس واأسفى يدنّسه ... شعب اليهود، ويُزْكي النار (ليكودُ)
والأرض ترجف من عُهرٍ ومن دنَسٍ ... أما الديارُ فتنصيرٌ وتهويدُ
أتيتَ ياعيد مزْهُوّاً ومنشرحاً ... ومن معانيك؛ تغييرٌ وتجديدُ
انظر.. تجدْ طفلي الباكي طفولته: ... ثيابهُ رثّهٌ، أثماله سُودُ(133/107)
نافذة على الآفاق
علي بن أحمد الزهراني
حينما تسقط الأخلاق من معايير العمل ولوحات التوجيه و (وصفات) التأدية.. بل ومن كلام العامة (ودردشة) الخاصة، فلا ضير أن تظهر على مسرح الحياة
فصول تُعِدّها أيدٍ خفية وتديرها من خلف الأستار ثلة مريبة، وينفذها شباب بعيدون
عن مكمن التربية والتعليم وعن (مجهر) الملاحظة والتوجيه:
(لـ) ينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوّده ...
ولك أن تلحظ بعقلية المدرك، وفراسة المؤمن، وحاسبة (بوروس)
و (إلكترونية) بريندر: جهود أولئك القائمين حقاً على تعليم النشء المبادئ والقيم
والمعايير المستمدة من سيرة المعصوم المزكى [وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]
[القلم: 4] لك أن تلحظ كم يساوون في حسابات ومعادلات العنصر البشري؟
وكم أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم قول ابن عمر رضي الله عنهما:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن
رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال
سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) متفق عليه.
وكم نحن بحاجة إلى تفعيل رسالة التربية والتعليم في تربية أجيالنا حتى لا
يكونوا فريسة تُقتنص على يد أدعياء التطوير وهم رسل التغريب والاستلاب.(133/108)
كيف تقود نفسك إلى بر الأمان
علي محمد مريح
إن السعادة مطلب الجميع: المؤمن والكافر، الصغير والكبير؛ فالكل يسعى
لها ويتمناها. ويبحث الإنسان عن السعادة بكل وسيلة وطريقة؛ فالبعض يراها في
جمع الأموال، والبعض الآخر يراها في اللباس، وآخرون يرونها في السفر.
ولم يعلم هؤلاء أنها في رضاء خالقهم الذي أوجدهم سبحانه وتعالى وهذا لا يتم
أبداً ولا يوجد في النفوس إلا إذا ابتعد الإنسان عن المعاصي والذنوب واقترب من
الله تعالى إذاً فلنعلم جميعاً أن للذنوب أضراراً في القلوب كأضرار السموم في
الأبدان، ولنعلم أيضاً أن كل ضرر واقع في الدنيا والآخرة سببه الذنوب والمعاصي. ولهذه المعاصي آثار تفسد على الإنسان دنياه وآخرته، ومن هذه الآثار:
* حرمان العلم.
* حرمان الطاعة.
* حرمان الرزق.
* وحشة يجدها العاصي.
* ظلمة في القلب.
* ابتعاد الملائكة عنه وتسلط الشياطين عليه.
* رد الدعاء.
وغير ذلك من الآثار الكثيرة. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة
ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في
قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن،
ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق) .(133/109)
لنتعاون على البر والتقوى
علي حسن آل محمد العتيبي
إن ضرورة الاجتماع لا يختلف عليها مسلمان عاقلان؛ ولكنها كما يبدو قولٌ
دونما أثر.. جعجعة دون طحن.. وكثير من المسلمين على نصيب كبير من ذلك؛
فالملاحظ أن اتفاقهم على أصول الدين لم يمكنهم من التجاوز عن كثير من الاختلاف
اليسير وجمع الجهود والالتفاف حول راية واحدة للإصلاح.
وبالنزول لواقع الدعوة نجد أن هناك شروخاً غائرة في تربيتنا. إنه لا يخفى
علينا ما خلفته التربية القاصرة والتخلف الحضاري العام من الضيق بالآخر وعدم
الاعتداد إلا بالنفس؛ ولو حاول هؤلاء المصلحون الذين يقعون في هذه المزالق أن
يكتشفوا إيجابيات الآخرين، أو اختراق حجب التعصب لرؤية جدوى التعاون معهم
وفضائل السعي للانسجام في عمل مشترك مهما كانت الصعوبات؛ لوجدوا الفرق
شاسعاً بين التفرد في القيام بالمهمة وإيجابياته وبين الالتقاء مع الإخوة حيث تلتقي
الأفكار وتتلاقح وتتقارب المسافات من الإنجازات والإنتاج. فهذه يا دعاة الإسلام
دعوة أُطلِقها اليوم قبل أن نندم ساعة لا ينفع الندم، وكفى ما حل بنا بسبب تفرقنا
خلال قرون مضت. فهل من مجيب؟(133/110)
الورقة الأخيرة
الحِرْمَان
عبد العزيز حامد
عرفت شاباً جاء للعمرة واعتمر، ثم مكث سبع سنين دون أن يرجع إلى بلده، ومع هذا، لم يزر المدينة المنورة ولو مرة رغم تيسر ذلك فلما سألته عن السبب،
قال: وهل تُشد الرحال إلى مسجد فيه قبر؟ ! يقصد المسجد النبوي الشريف! !
وما علم المسكين أن القبر كان خارج المسجد لكن أدخلته السياسة لا الشريعة، وقد
أنكر العلماء ذلك منذ عصر سعيد بن المسيب، ولم تطل بهذا الشاب حياة بعد ذلك
إلا شهوراً حتى مات، دون أن يصلي ركعة واحدة في المسجد النبوي الشريف!
* ورأيت أفراداً يصلون طول العام مع الجماعة في المسجد، ولكنهم يجعلون
صلاتهم مع الإمام (نافلة) ، ويقومون لصلاة الفريضة فرادى قبل الصلاة أو بعدها
بدعوى عدم التأكد من صحة الصلاة خلف الإمام؛ لعدم التيقن من صحة عقيدته! !
* ورأيت من عاش عَزِباً، فعَرّض نفسه للفتن، بدعوى أن العلم يضيع بين
أحضان النساء!
* ورأيت من تزوج ولم ينجب عمداً وحرم نفسه وحرم زوجته من الذرية؛
لأنه اقتنع بقول مرجوح لبعض الأحناف بأن الإنجاب يحرم في دار الحرب!
* ورأيت من أدرك والديه الكبرُ، فكان يعقهما، ولا يحسن معاملتهما لأنهما
(غير ملتزمين) !
* وسمعت بأقوام تركوا حضور مجالس العلماء، بدعوى أن (الكتب) فيها
الكفاية والغَنَاء! ثم أقاموا لأنفسهم مجالس خاصة!
* * *
وهناك الكثير والكثير من الصور التي يمكن لأي منا أن يستحضرها لتكون
أمثلة على ذلك (الحِرْمان) أو الخذلان الذي يعاقب الله به بعض من ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن الشيطان يصرفهم عن الطاعة بدعوى الطاعة، ليلقوا ربهم بغير بضاعة،
أو ببضاعة مزجاة. نسأل الله السلامة.
إذا كانت هذه مظاهر فردية من الحرمان، فإن هناك ظواهر جماعية من ألوان
أخرى من الحرمان، فإلى جانب الشريحة المحدودة من المحرومين عن الثواب باسم
الحرص على الثواب، فإن هناك شرائح عريضة تصرفهم ملاهي الدنيا عن مساعي
الآخرة، فينضمون إلى ركب المغبونين في الصحة والفراغ في رمضان وفي غير
رمضان. نعم! فهناك من يتجاهلون أن الله تعالى جعل لبعض الأزمنة حرمة، كما
جعل لبعض الأماكن حرمة، فكما أن حرمة المكان الذي حرّمه الله لا ينبغي أن
تنتهك، فكذلك حرمة الزمان. ولرمضان حرمة، ولأيامه منزلة، وللياليه قدسية،
ومن أخل بتلك الحرمة والمنزلة والقدسية في الزمان المحرم كرمضان كان كمن أخل
بها في المكان المحرم كالمسجد الحرام. قال الرسول: (رمضان شهر الله
الحرام) [1] فلرمضان حرمة في ليله ونهاره، ولكن كثيراً من الغافلين (المحرومين) يصومون عن المباح في نهاره، ويسهرون على الحرام في لياليه!
وأبرز الأمثلة على ذلك الحرمان، من يضيعون صلاة القيام في شهر البركات، حتى لا تضيع عليهم الحلقات والمسلسلات مع الغافلين والغافلات، فلا يكتفون
بفقدان الثواب بل يفقدون معه المروءة والعدالة. تراهم يلتهون عن التشمر للشهر،
بالتسمر أمام ما يبث من أنواع الخناعة والخلاعة والعهر التي يُخص بها الشهر
الكريم إمعاناً في إيذاء الضيف. وكأن الشياطين تنتهي من حشد تلك المسلسلات قبل
أن تسلسل في رمضان، فتنصرف بعد ذلك إلى محابسها تاركة لشركائها من
شياطين الإنس أن يُضيّعوا على الناس الشهر، يضيعوا الصلاة ويضيعوا الصيام،
ويضيعوا القيام، ويضيعوا ليلة القدر، التي من حُرمها فقد حُرم الأجر، وصدق
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُحرم خيرها إلا محروم) [2] .
إن الحرمان ألوان.. ولكن المحروم من حُرم الثواب، فاللهم رحماك ...
(اللهم أعطنا ولا تحرمنا) [3] .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الصوم، رقم: 1163، والنسائي في قيام الليل (6) وأحمد في مسنده (344/2) واللفظ له.
(2) أخرجه ابن ماجة في الصيام، رقم: 1644.
(3) من دعاء النبي في حديث أخرجه أحمد، رقم: 224.(133/111)
شوال - 1419هـ
فبراير - 1999م
(السنة: 13)(134/)
كلمة صغيرة
عاقبة البغي
عندما غزا صدام حسين الكويت واعتدى على شعبه، كان بذلك من الباغين
المسرفين في البغي، فحقت عليه سنة الله في الباغين؛ إذ سلط الله عليه قوى البغي
الكبرى لتكف شره عن الضعفاء.
واليوم نرى واقعاً مغايراً.. نرى شعباً مسلماً في العراق، يُستضعف حتى
الإذلال، ويُستهدف بالبغي إلى حد السحق، من دولة تزعم أنها رائدة العدالة في
العالم، حتى غدت تظن أن بيدها الأمر كله!
لا بد أن تحق كلمة الله على الباغين، ورأس البغي هنا رئيس يتملكه النزق
والرهق.. يتخد قراراً غير مسؤول، في توقيت غير مقبول، لضرب شعب شبه
أعزل، ليعاقبه على جرم شخصي له هو حتى لا يُعزل!
تُرى ... هل يظن أحد أن يفلت هذا الباغي من مغبة بغيه؟ ! في وقت يسكت
فيه أو يعين الشعب اليهودي الباغي على كل أنواع البغي، بكل أنواع العون؟ ! إن
السنن الإلهية التي لا تتبدل ولا تتحول، تهتف في الناس بقول الحق سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم] [يونس: 23] وقول رسول الحق -
صلى الله عليه وسلم-: (أسرع الذنوب عقوبة البغي وقطيعة الرحم) .
وأمام ما نراه من دمار غير مسوّغ، وسعار غير متورع.. نحن بانتظار أقدار
الله في الباغين.. [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ] [ص: 88] .(134/1)
الافتتاحية
المصالح الشرعية.. لا الأهواء البشرية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمن تمام نعمة الله تعالى وفضله على هذه الأمّة أنه شرع الشرائع والأحكام
لغايات حكيمة ومقاصد عظيمة، ترمي إلى تحقيق مصالح الناس في العاجل والآجل؛ بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم، قال الله تعالى: [إنَّ اللَّهَ
يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] [النحل: 90] ولا تخلو أحكام الشريعة من أحد أمرين: إما تحقيق
مصالح الناس أو دفع المفاسد عنهم؛ (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم
ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح
كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى
ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة
وإن أدخلت فيها بالتأويل) [1] .
وتقدير المصالح والمفاسد ليس أمراً هيناً، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه
منضبط بضوابط الشرع ونصوصه وقواعده، وليس مجالاً لخوض الخائضين أو
عبث العابثين أو تخرّص المتخرصين، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي،
وميّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشرّ الشرين، حتى يُقَدّموا
عند التزاحم خير الخيرين ويدفعوا شرّ الشرّين.
وليس كل ما توهمه الناس مصلحة يكون كذلك؛ فليس من المصلحة في شيء
على الإطلاق ما خالف دليلاً من الكتاب والسنة، أو عارض قاعدة محكمة من قواعد
الشريعة. ولا يصح على الإطلاق أن يكون المعيار في تحديد المصالح موافقتها
لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتها لعاداتهم وأعرافهم إذا كانت تخالف شرع الله. كما لا يصح أن يستقل العقل البشري بتحديد المصلحة والمفسدة. ومراعاة مصالح
العباد تكون بميزان دقيق متجرّد تُراعى فيه نصوص الشرع وقواعده وأصوله، قال
الله تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ] [المائدة: 49] .
وبسبب الجهل بأحكام الشريعة ومقاصدها، والقصور في فهم القواعد
الأصولية المتعلقة بها؛ فَهِمَ بعض الناس من قاعدة: (مراعاة الشريعة للمصالح
ودرؤها للمفاسد) فهوماً منحرفة تحيد بها عن سبيلها المستقيم، فحُمّلت هذه القاعدة
من المعاني والأحكام ما لا تحتمل، وفُتح باب عريض من التساهل في تطبيق
الأحكام، وأصبح الهوى من العوامل الخفية التي تؤثر تأثيراً بالغاً في تحديد
المصالح والمفاسد..! !
ومع زيادة الانحراف الفكري والاجتماعي، واتساع دائرة التغريب والعلمنة
الذي تشهده أكثر المجتمعات الإسلامية، ومع كثرة الهجرة إلى بلاد الغرب الكافرة؛
اندرست أكثر معالم الدين، وهُجرت سّنة سيد المرسلين، وأصبح الحق غريباً،
وصار التمسك بكثير من التعاليم الإسلامية يشكل صعوبة لدى أكثر العامة، بل حتى
على بعض الخاصة، وراح قوم يتتبعون الرخص ويبحثون عن المخارج، ووجد
آخرون وقد يكون منهم فقهاء ودعاة أنفسهم أمام ضغط اجتماعي وفكري كبير،
فدعوا بلسان الحال والمقال إلى مجاراة العامة في أهوائهم وعجزهم في تحمل أعباء
هذا الدين الحنيف. وقد يُتذرع ببعض القواعد الفقهية العامة كقاعدة: (المصالح
والمفاسد) ، وقاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ، فيتوسع في تطبيقها والتفريع عليها
توسعاً غير منضبط؛ حتى شاع عند بعضهم مصطلح: (فقه المرونة.. أو فقه
المصلحة) . وربما قاده هذا الفقه إلى التفلّت من عزائم الأحكام الشرعية؛ هرباً إلى
الرخص، وقد يضطره أحياناً إلى تأويل النصوص المحكمة، والتعسف في تفسيرها
وتنزيلها على الأحداث الجارية، بل قد يتجرأ بعضهم في ردّ النصوص الثابتة
المحكمة، ويجعلها وراءه ظهرياً؛ ولكي يسلم من التبعة أمام الآخرين تراه يصف
غيره من الفقهاء والدعاة المخالفين له بالتشدد، والتنطع، والتكلف، والغلو،
وأحسنهم حالاً مَنْ وصفهم بالجهل في الواقع وعدم تصور الحال..! ونحسب أن
كثيراً من هذا الفقه العصري شبيه بما سمّاه بعض المتقدمين من علمائنا ب (فقه
الحِيَل) الذي يرمي إلى التحايل في فعل بعض المنهيات، أو إسقاط بعض
المأمورات.
ومن جانب آخر وأمام هجمات اليساريين والعلمانيين والليبراليين على شعائر
الإسلام تزداد المعضلة تعقيداً؛ حيث ينبري بعض الفقهاء والمفكرين ليدافع
بإخلاص وغيرة عن الإسلام نحسبهم كذلك والله حسيبهم؛ ولكنهم ينطلقون بمنطق
الضعفاء العجزة الذين يتمسكون بالقشة لكي يسلموا من التهمة، فلا الإسلام نصروا
ولا لأعدائه كسروا، حتى ساد على فكر هؤلاء ما يمكن أن نسميه بـ (فقه التسويغ! !) ، الذي بُنيَ على مسخ بعض أحكام الشريعة، والعدول بها عن مواضعها
ومقاصدها.
إنّ من أبرز صفات الفقيه المسلم بالإضافة إلى الرسوخ في الفقه والفهم،
ومعرفة دلائل النصوص الشرعية ومراميها: الثقة في المنهج، واليقين بعلوّ هذا
الدين ورفعته، والاعتزاز بأحكامه وآدابه. وهذا سوف يقوده بإذن الله تعالى إلى
الجهر بالحق، والوضوح في بيان الأحكام، والدقة في الاجتهاد، ومراعاته لمصالح
العباد الشرعية، بعيداً عن الأهواء والمؤثرات الفكرية والمألوفات الاجتماعية.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من مضلات الأهواء والفتن، وأن يرينا الحق حقاً
ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) إعلام الموقعين (1/14) .(134/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عبودية الشهوات
(1)
مكمن الداء
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
وبعد: فإن التعلق بالله عز وجل وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى
شهادة أن لا إله إلا الله، والله سبحانه وتعالى هو المستحق وحده أن يكون المقصود
والمدعو والمطلوب.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن الإله هو المقصود والمعتمد
عليه، وهذا أمر هيّن عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه) [1] .
ومن لم يكن مقصوده وغايته الله عز وجل؛ فلا بد أن يكون له مقصود ومراد
آخر يستعبده، كما وضّح ذلك ابن تيمية بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان
الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن
عبادة الله تعالى ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود.
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله
معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن له مراداً محبوباً
يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما
الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) [2] .
والناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها،
فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات
والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.
وهذه المقالة تتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير
من الناس وعقولهم.
ولعل من المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات
إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط بين مسلك أهل الفجور والفواحش،
ومسلك أصحاب الرهبانية والتشدد؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله عز وجل يراعي
أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف
بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم مقرراً هذه الوسطية: (لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام
حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن
المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن
والسلامة؛ مثاله أن الله سبحانه وتعالى لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء
ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً
فاستحالت صباً) [3] .
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير
القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن المتبعين
لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه
حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب.
فما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر
قلبه على الامتناع منه؛ فيبقى مستغرقاً في تلك الصورة.. والقلب يغرق فيما
يستولي عليه: إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه
والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقاً كما يغرق الغريق في
الماء) [4] .
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: (من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء
الدنيا) [5] .
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال عز وجل:
[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً]
[مريم: 59] ؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في
عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة
من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم
والأذى في العاجل، ومنع لذّات في الآجل) .
فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا
القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى
حاكم العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع
الشبهة باستعمال الأحوط في كف الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في
العاقبة) [6] .
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان
أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: (الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب
ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة
وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه
خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب
نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم
يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة،
وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً،
وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛
فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق) [7] .
شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عموماً فإن المتأمل في
أحوال المسلمين فضلاً عمن دونهم يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في
مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية
وشبكات (الإنترنت) ، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر
الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة،
والله المستعان.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف
المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً] . [النساء: 27]
ومما يجدر ذكره أن من أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له
ولا انقضاء، وإذا كان الشخص المولع بالدنيا لا يشبع من المال كما في الحديث:
(لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا
التراب) [8] ، فكذلك الشخص المولع بشهوة الجنس بدون ضابط أو رادع لا يقف ولا يرعوي.
يقول الشيخ علي الطنطاوي: (لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل،
وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع
الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا، أكتبها بالقلم
العريض، ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم
وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً) [9] .
وجاء في الأدب الكبير، لابن المقفع: (اعلم أن من أوقع الأمور في الدين،
وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في
ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه
يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى
تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح،
وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه) .
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، كما قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) [10] .
قال الإمام طاووس عند قوله: [وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] [النساء: 28] ،
(إذا نظر إلى النساء لم يصبر) [11] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما (لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء،
وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء) [12] .
وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق
النساء.
فأما الحكاية الأولى:
فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: (بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى
المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها،
فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل
ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني
على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من
الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم
تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب،
فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى
السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في
ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة،
فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة) [13] .
أما الحكاية الثانية:
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
(وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي
كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون
يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن،
فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ،
فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك
غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك
المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل
صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله
إلا قوله: [رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَاًكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] [الحجر: 2، 3] وقد صار لي فيهم مال
وولد) [14] .
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها:
سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء،
ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا) [15] .
قال ابن القيم: (ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على
الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان) ؛ وهذا لأن المرأة
سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين:
من جهة الصوت، ومن جهة معناه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-
لأنجشة حاديه: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير) [16] يعني النساء.
(أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر،
فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً
للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى
تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا) [17] .
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم، فكم من نظرة إلى صورة جميلة في
السوق أو في شاشة أو مجلة أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. قال الإمام أحمد
رحمه الله: (إذا خاف الفتنة لا ينظر، كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها
البلابل) [18] .
يقول ابن الجوزي محذراً من إطلاق البصر: (اعلم وفقك الله أن البصر
صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها فيجول فيها
الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر
سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال
الله تعالى: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] [النور: 30] . [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] [النور: 31] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه
على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله: [وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] [النور: 30] ،
[وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ] [النور: 31] ) [19] .
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن النظر المحرم وما يؤول إليه
من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله تعالى فكان مما
قاله: (وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على
النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل
الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة
أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن
لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة.
بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أََندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] [البقرة: 165] ، ولهذا لا
يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره
في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين) [20] .
وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غضّ
العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته) .
إلى أن قال والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من
أولها سهُل علاجه، وإن كرر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب
فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي
الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر
به، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن) [21] .
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال؛ فإن هذا الاختلاط
أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من
يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع
المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم
هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من
اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات
العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت
العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم
الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة
في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من
اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات) [22] .
وها هنا أمر مهم بنبغي التنبيه عليه، وهو أن الولع والانكباب على الشهوات
سببه ضعف التوحيد، فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً وأقل إخلاصاً لله تعالى
كان أكثر فاحشة وشهوة [23] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: (وهذا [أي العشق والشهوات]
إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا
فأهل الإخلاص، كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] [يوسف: 24] فامرأة العزيز كانت
مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع
عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له، تحقيقاً لقوله: [لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ] [ص: 82، 83] ، قال تعالى: [إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ
إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ] [الحجر: 42] والغي هو اتباع الهوى [24] .
إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا
والآخرة.
وأشار ابن الجوزي إلى تنوع هذه العقوبات فقال: (اعلم أن العقوبة تختلف:
فتارة تتعجل، وتارة تتأخر، وتارة يظهر أثرها، وتارة يخفى. وأطرف العقوبات
ما لا يحس بها المعاقَب، وأشدها العقوبة بسلب الإيمان والمعرفة، ودون ذلك موت
القلب ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن، وإهمال
الاستغفار، ونحو ذلك مما ضرره في الدين. وربما دبّت العقوبة في الباطن دبيب
الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعاً
بالبدن في الدنيا، وربما كانت عقوبة النظر في البصر. فمن عرف لنفسه من
الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يرُدّ ما
يَرِد) [25] .
وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله:
(فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان
فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه
متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب
العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة
الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب) [26] .
وقال أيضاً: (ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب؛ فإن الشهوة
توجب السّكْر، كما قال تعالى عن قوم لوط: [إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]
[الحجر: 72] ، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر) الحديث إلى آخره. فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث كالنظر والاستماع والمخاطبة، ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة، ومنهم من يقبّل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله عز وجل أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟
بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره) [27] .
وتحدّ ابن القيم في غير موضع عن مفاسد الزنا وما يحويه من أنواع
الشرور ... فكان مما قاله رحمه الله: (والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين
وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء
بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله.. ...
ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمة عياله، ومنها: سواد الوجه
وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره ... ومنها أنه
يذهب حرمة فاعله، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أن يسلبه أحسن
الأسماء ويعطيه أضدادها. ومنها ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضدّ
قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده؛
فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط) [28] .
وقال في موضع آخر: (واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب المعلّق
بالحرام، كلما همّ أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ
وفي الآخرة هكذا ...
وفي بعض طرق حديث سَمُرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما، فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يوقد تحته نار،
فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا
أخمدت رجعوا فيها، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هم الزناة) . فتأمل مطابقة هذا
الحديث لحال قلوبهم في الدنيا؛ فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور
الشهوة إلى فضاء التوبة أُركِسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون) [29] .
وقال في موضع ثالث: (وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة
لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة
العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر
معشار من يفعله نادراً في الأحيان) [30] .
ومما ذكره الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله في مفاسد البغاء: (في البغاء
فساد كبير، وشر مستطير: يفتك بالفضيلة، يدنس الأعراض، يعكر صفو الأمن،
يفصم رابطة الوفاق، يبعث الأمراض القاتلة في الأجسام، وأي حياة لجماعة تضيع
أخلاقها وتتسخ أعراضها، ويختل أمنها، وتدب البغضاء في نفوسها، وتنهك العلل
أجسامها؟) [31] .
__________
(1) الدرر السنية، 2/21، وانظر: تاريخ ابن غنام 2/52، 298، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1/34.
(2) العبودية ص112-114، بتصرف، وانظر: مجموع الفتاوى 10/ 185-187، والفوائد لابن القيم ص 186.
(3) روضة المحبين، ص11، وانظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص 35.
(4) مجموع الفتاوى، 10/594، 595، بتصرف يسير.
(5) سير أعلام النبلاء 10/97.
(6) ذم الهوى، لابن الجوزي، ص36، باختصار.
(7) الفوائد، ص131.
(8) أخرجه مسلم في الذكاة (1049) ، والترمذي في المناقب (3793) و (3898) .
(9) فتاوى علي الطنطاوي، ص146، وانظر: صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص261.
(10) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 274، 2741 والترمذي في الأدب 2780.
(11) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي ص179، وروضة المحبين، ص 203.
(12) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص178، وروضة المحبين ص 197.
(13) ذم الهوى، ص 409.
(14) البداية، 11/64.
(15) انظر: إغاثة اللهفان، 1/369.
(16) أخرجه البخاري ومسلم.
(17) إغاثة اللهفان، 1/370، 371.
(18) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص116.
(19) ذم الهوى، ص106.
(20) مجموع الفتاوى، 15/292، 293.
(21) روضة المحبين، ص92، 94، 95، باختصار يسير.
(22) الطرق الحكمية، ص259.
(23) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص75.
(24) مجموع الفتاوى، 51/421.
(25) ذم الهوى، ص217.
(26) مجموع الفتاوى، 10/187.
(27) مجموع الفتاوى، 15/288، 289.
(28) روضة المحبين، ص360.
(29) روضة المحبين، ص442.
(30) روضة المحبين، ص470.
(31) رسائل الإصلاح، ص23.(134/8)
دراسات تربوية
حسن الظن بالله
فهد بن أحمد الأسطاء
عُنِيَ السلف بالحديث عن أعمال القلوب ومعالجة أمراضها وسبل صلاحها،
وتكلم العلماء عن ذلك في مواضع شتى من تآليفهم، كابن الجوزي وابن تيمية
وتلميذيه ابن القيم وابن رجب رحمهم الله جميعاً.
ويأتي موضوع: (حسن الظن بالله) باعتباره واحداً من أعظم أعمال القلوب
التي تحدّث عنها العلماء، ولم يُفرَد على أهميته بمؤلف فيما أعلم سوى ما كتبه
الإمام أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه: (حسن الظن بالله عز وجل) . فأحببت أن
أجمع شتات الموضوع وآثار العلماء فيه، مضيفاً إليها مسائل عدة مما يتعلق بحسن
الظن بالله من خلال المحاور التالية:
أولاً: مفهوم حسن الظن بالله تعالى:
لعله يحسن بنا قبل الشروع في بيان مفهوم (حسن الظن بالله تعالى) أن ننظر
إلى معنى الظن لغوياً؛ حيث إنه يدل على أكثر من معنى. قال الفيروز آبادي في
القاموس المحيط: (الظن: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم،
(الجمع) ظنون وأظانين، وقد يوضع موضع العلم) [1] .
وفي المعجم الوسيط: (ظن الشيء ظناً) علمه بغير يقين، وقد تأتي بمعنى
اليقين. وفي محكم التنزيل العزيز: [قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ]
[البقرة: 249] .
ومن هنا يتبين أن معنى الظن يدل على الشك والعلم غير المتيقن، كما أنه
يدل على اليقين والعلم المتيقن، وهذا المعنى هو المراد في موضوعنا، وهو
المقصود في قولنا: حسن الظن بالله. إلا أنه يُمكننا أن نعبر الآن عن مفهوم حسن
الظن بالله تعالى بأنه: (هو ظنّ ما يليق بالله تعالى واعتقاد ما يحق بجلاله وما
تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي
يرضي الله تعالى) .
ثانياً: بيان أهمية حسن الظن بالله تعالى:
إن هناك أموراً كثيرة تُشعر بأهمية هذا الأمر، وتَدفع للتحدث عنه والتنبيه
عليه، ومنها:
1- أن حسن الظن بالله تعالى من الأمور التي أوصى بها الرسول.
ولا شك بأن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام قد دلنا وأرشدنا إلى خير ما
يعلمه لنا، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا؛ ولذا فقد جاء في الحديث الصحيح
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن
بالله عز وجل) [2] . قال الخطابي رحمه الله في شرح هذا الحديث: (وقد يكون
أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء وتأميل العفو) [3] . وقال العظيم آبادي في
عون المعبود: (أي لا يموت أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة وهي
حسن الظن بالله بأن يغفر له؛ فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت؛ لكن في
الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء لسوء العمل كيلا يصادفه الموت عليها) . قاله
علي القاري ثم قال: وقال النووي في شرح المهذب: (معنى تحسين الظن بالله
تعالى أن يظن أن الله تعالى يرحمه ويرجو ذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في
كرم الله تعالى وعفوه وما وعد به أهل التوحيد وما سيبدلهم من الرحمة، يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح: (أنا عند ظن عبدي بي) هذا هو
الصواب في معنى الحديث وهو الذي قاله جمهور العلماء) [4] .
وقد روى أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب: (حسن الظن بالله عز وجل بسنده
عن المعتمر قال: (قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر! حدثني بالرخص لعلّي
ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به. وروى أيضاً رحمه الله بسنده عن حصين
عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن
ظنه بربه عز وجل) [5] .
وعلى هذا فإنه يتبين للناظر في الحديث السابق ومن خلال كلام العلماء حوله
وحال السلف رحمهم الله أن حسن الظن بالله تعالى يكون عند احتضار المرء وقرب
موته، والصحيح أن حسن الظن بالله أعم من ذلك؛ فإنه مع ما يشمله ويتأكد فيه من
حسن الظن بالله عند اقتراب الممات، فإنه يكون أيضاً مع المؤمن طيلة حياته وحتى
مماته؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى يقول: (أنا عند ظن
عبدي بي) [6] .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: (أي قادر على أن أعمل به ما ظن
أني عامل به) [7] . وقال النووي في شرح صحيح مسلم: (قال العلماء: معنى
حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه) [8] وقال في موضع آخر
حول هذا الحديث أيضاً: (قال القاضي: قيل معناه بالغفران له إذا استغفر،
والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب. وقيل: المراد به الرجاء
وتأميل العفو وهو أصح) [9] .
إذاً فحسن الظن بالله عز وجل يجب أن يكون صفة المؤمن وسَمته طيلة حياته، ويتأكد أكثر عند مماته حتى يأتيه الموت وهو محب للقاء الله؛ ففي الحديث
الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) [10] .
كما أنه يتبين من خلال ما سبق أن من مفهوم حسن الظن بالله عز وجل ظن
ما يليق بالله سبحانه وتعالى من ظن الإجابة والقبول والمغفرة والمجازاة، وإنفاذ
الوعد، وكل ما تقتضيه أسماؤه وصفاته سبحانه كما بينا سابقاً؛ ولذا فقد قال الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في ظن السوء، والظن بالله غير الحق ظن الجاهلية
المنافي لحسن الظن بالله، قال: (وإنما كان هذا ظن سوء، وظن الجاهلية المنسوب
إلى أهل الجهل وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته
العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده
بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه) [11] .
2- أن حسن الظن بالله تعالى يرتبط ارتباطاً كبيراً بنواحي عقدية وسلوكية
متعددة، فهو يرتبط بالتوكل على الله والثقة به؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من
تحسن الظن به؛ ولذا فقد جعله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد درجات التوكل
فقال: (الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك بربك
ورجائك له يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله.
والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على
من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم) [12] .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (ويكون الراجي دائماً راغباً راهباً
مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به) [13] .
وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه سبحانه كلها تستلزم أن يحسن
العبد الظن بربه عز وجل، وكذلك فإن حَسُنَ الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف
منه سبحانه حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل، وقد قال أبو سليمان الداراني
رحمه الله: (من حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع) [14] .
وبهذا يتبين أن حسن الظن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة نواحي اعتقادية سلوكية لدى
المؤمن تتعايش مع إيمانه وعبوديته لله سبحانه؛ ولذا كان لزاماً التنبيه لهذا الأمر
وتوضيحه.
3- ومما يُجلّي أهمية هذا الأمر واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله؛ فمن
الناس من اتكل على حسن ظنه بربه واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي متناسياً
ما توعد الله به من وقع في مساخطه وما يغضبه، وغافلاً عن الخوف من الله حتى
وقع في الغرور.
وعلى النقيض من هذا من ساء ظنه بربه فاعتقد بالله خلاف مقتضى أسمائه
وصفاته واقعاً بما وصف الله به الكفار والمنافقين من أنهم يظنون بالله غير الحق
ظن الجاهلية.
وانظر إلى ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يتكلم عن حال الناس في الظن
بالله حيث يقول: (فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن
السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق
فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: (ظلمني ربي ومنعني ما أستحق) ونفسه
تشهد عليه لذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش
نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت
عنده تعتباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن
يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً [15]
ومن هنا يتضح لنا أن مسلك حسن الظن بالله مسلك دقيق ومنهج وسط بين
نقيضين لا يسلكه إلا من وفقه الله وجعل قلبه خالصاً له سبحانه.
ولذا كان على المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله
حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله تعالى.
4- ومما يبين أهمية هذا الأمر: أثر حسن الظن بالله على المؤمن في حياته
وبعد مماته؛ فإن المؤمن حين يحسن الظن بربه لا يزال قلبه مطمئناً ونفسه آمنه
تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه سبحانه (فالقلب المؤمن
حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير دائماً، يتوقع منه الخير في السراء والضراء،
ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين؛ وسر ذلك أن قلبه موصول بالله، وفيض
الخير من الله لا ينقطع أبداً؛ فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الأصيلة
وأحسها إحساس مباشرة وتذوّق) [16] .
بل إن من أحسن الظن بربه وتوكل عليه حق توكله جعل الله له في كل أمره
يسراً ومن كل كرب فرجاً ومخرجاً، قال بعض الصالحين: (استعمل في كل بلية
تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج) [17] .
كما أن مَنْ أحسن الظن بربه عز وجل فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر
به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين [18] ، اجتهد نفسه في العمل
لهذا الدين العظيم، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله بماله ونفسه غير هياب ولا
وجل، بل يُقدِم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده وهو يلمح نور الفجر الصادق وقد
أطل على هذه الأمة، فلا يعلق آماله إلا بالله سبحانه وتعالى، ولا يتوكل إلا عليه.
ومن أثر حسن الظن بالله على المؤمن أيضاً أنه عندما يسمع ما يخبر به الله
تعالى عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم، ويسمع قول نبيه عليه الصلاة
والسلام: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) [19] ؛ فإنه يطمع بعفوه فيطرق
بابه منطرحاً بين يديه راجياً مغفرته، وأن يتوب عليه من معاصيه.
وأما في الآخرة فإنما النجاة في حسن الظن بالله عز وجل؛ ولهذا أوصى به
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول منازل الآخرة عند حضور الموت فقال:
(لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) . وروى أبو بكر بن أبي
الدنيا عن إبراهيم قال: (كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي
يحسن ظنه بربه عز وجل) [20] .
وإنما عُنِيَ السلف بهذا الأمر؛ لأن من لقي الله سبحانه وتعالى وهو يحسن
الظن به في أنه يغفر له ويتوب عليه؛ فإن الله يكون عند ظنه به، ولا يخيّب
رجاءه فيه؛ وهذا من أعظم الأثر لحسن الظن بالله؛ إذ ارتبط بالنجاة يوم القيامة. ثالثاً: السلف وحسن الظن بالله تعالى:
لما كان السلف رحمهم الله هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم-، أدركوا أهمية حسن الظن بالله ومدى أثره على المؤمن؛ فكانوا
أحرص الناس عليه، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به على وجهه الحق؛
فهذا سعيد بن جبير رحمه الله، كان يدعو: (اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك
وحسن الظن بك) [21] .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيره ما أُعطي
عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا إعطاه الله عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده) [22] .
وسفيان الثوري رحمه الله كان يقول: (ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي؛ فربي
خير لي من والدي) [23] .
ويقول عن قوله تعالى: [وَأََحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] [البقرة: 195] . قال: (أحسنوا بالله الظن) [24] .
كما أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا [25] ، عن عمار بن يوسف قال: (رأيت
حسن بن صالح في منامي فقلت: قد كنت متمنياً للقائك؛ فماذا عندك فتخبرنا به؟
قال: أبشر! فلم أرَ مثل حسن الظن بالله عز وجل شيئاً) .
رابعاً: الفرق بين حسن الظن بالله والغرور:
وحيث جاء الأمر بحسن الظن بالله تعالى فإن بعض الناس قد أساء في هذا
الأمر وغلا فيه حتى سقط في الغرور جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله تعالى ناسياً
أليم عقاب الله سبحانه وغافلاً عن شدة عذابه ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم
وكسبت نفوسهم.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله [26] ، شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم
بالله سبحانه فقال: (وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: أستغفر الله، زال الذنب وراح هذا بهذا. وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما
أفعل ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وقد غفر ذلك أجمعه، كما صح عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة
مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) [27] . وقال آخر من أهل مكة:
نحن أحدنا إذا فعل ما فعل ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعاً قد محي عنه ذلك) ،
وقال لي آخر: (قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (أذنب عبد ذنباً
فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فغفر الله ذنبه، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب
ذنباً آخر، فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي فقال الله عز وجل: (علم عبدي أن
له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليصنع ما شاء) [28] .
وقال: أنا لا أشك أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به. وهذا الضرب من الناس
قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها، تعلق بها بكلتا يديه، وإذا عوتب على
الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص
الرجاء، وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب كقول
بعضهم:
وكثّر ما استطعت من الخطايا ... إذا كان القدوم على كريم
وقول بعضهم: التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله، وقال الآخر: ترك
الذنوب جراءة على مغفرة الله واستصغار لها، وقال محمد بن حزم: رأيت من
بعض هؤلاء من يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من العصمة) ثم ذكر ابن
القيم رحمه الله تعالى من هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر [29] ،
والإرجاء [30] أو يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين أو آبائه وأسلافه، أو
يغتر بأن الله عز وجل غني عن عذابه إلى غير ذلك في كلام طويل قيّم يحسن
الرجوع إليه حتى قال رحمه الله تعالى: (ومثال اتكال بعضهم على قوله -صلى الله
عليه وسلم- حاكياً عن ربه: (أنا عند حسن ظن عبدي فليظن بي ما شاء [31] ،
يعني ما كان في ظنه فأنا فاعله به، ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان؛ فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، وأن لا يخلف وعده،
وأن يقبل توبته، وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة
المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه) ثم قال أيضاً مفرقاً بين حسن
الظن بالله والغرور: (وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور وأن حسن الظن إن
حَمَل على العمل وحث عليه، وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى
البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور) .
فعلى المؤمن مع إحسانه الظن بربه ألا يغفل عن محاسبة الله سبحانه لعباده
بعدله وحكمته ومجازاته لهم بما كانوا يعملون حتى لا يقع في الغرور فيوبق نفسه.
خامساً: التحذير من سوء الظن بالله تعالى:
كما أن حسن الظن بالله تعالى يجب أن يكون سمة للمؤمن في حياته يطمئن
بها قلبه، فإن عليه أيضاً أن يحذر كل الحذر من سوء الظن بالله تعالى أو ظن ما لا
يليق به جل وعلا والذي جعله الله سبحانه صفة للكفار والمنافقين، فقال تعالى:
[وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ] [الفتح: 6] .
قال الألوسي: (أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أن الله عز وجل لا ينصر
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقيل المراد به، ما يعم ذلك وسائر ظنونهم
الفاسدة من الشرك وغيره) [32] .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله حول هذه الآية: (وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان
ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر به أن يفعله، وما وعد به من نصر الدين
وإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من
الإيمان، وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية النافية للتوحيد؛ لأنها سوء
ظن بالله، ونفي لكماله وتكذيب لخبره، وشك في وعده، والله أعلم) [33] .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: عند قوله سبحانه: [ذَلِكَ ظَنُّ الَذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ] [ص: 27] . قال: (يدل على أن من ظن بالله ما لا
يليق به جل وعلا فله النار) وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا
يليق به أرداه وجعله من الخاسرين وجعل النار مثواه، وذلك في قوله تعالى:
[وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ....]
[فصلت: 22، 23] . وبعد هذا فكيف يستسيغ المؤمن أن يظن بربه ظن السوء وظن ما لا يليق بجلاله سبحانه وهو يعلم أن هذا من صفة الكفار والمنافقين؟ وهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يجعل سوء الظن بالله من أسباب ارتكاب المحرمات، فيقول: (ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما: سوء ظنه بربه وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً) [34] .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة وأحوالاً لهذا الظن السيئ في
كلام رائع طويل يستحسن الرجوع إليه لمن يريد الزيادة في الموضوع [35] .
فلينظر اللبيب إلى نفسه وأحوالها فإن كان يعتريها شيء من سوء الظن بالله
تعالى فليبادر بالتوبة إلى الله ومعالجة نفسه من شرورها.
سادساً: كيف نحسن الظن بالله تعالى؟
إن مما يهم معرفته عند الحديث عن حسن الظن بالله تعالى أن نعلم ما هي
البواعث التي تدعو إلى إحسان الظن بالله، وتحتم على المؤمن أن يضعها بين
عينيه، ويحاسب نفسه على الأخذ بها. فمن هذه البواعث:
1-أن يعلم أن في امتثاله لهذا الأمر استجابة لله تعالى وامتثالاً لأمره ولوصية
رسوله عليه الصلاة والسلام كما مرّ في الآيات والأحاديث السابقة. وقد قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] [الأنفال: 24]
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فتضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله؛ فمن لم تحصل
له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل
الحيوانات؛ فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان
أكمل الناس حياة أكملهم استجابه لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن كل ما
دعا إليه ففيه الحياة) [36] فكفى بهذا باعثاً لكل مؤمن على امتثال كل ما أمر الله به
رسوله عليه الصلاة والسلام.
2-إدراك أهمية التعلق بحسن الظن بالله ومدى أثره على سلوك النفس
المؤمنة في حياتها وحتى الممات، ومعرفة حال السلف وعظيم تمسكهم بهذا الأمر
وحثهم عليه؛ فإن هذا أحرى في الاقتداء بهم وتمثل منهجهم.
3-ومن أهم البواعث والأسباب التي تفضي إلى حسن الظن بالله تعالى:
التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (والأسماء الحسنى، والصفات العلى
مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين؛ فلكل
صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها،
والتحقق بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب
والجوارح [37] .
وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت في بيان هذا الأمر العظيم، وأسأل الله أن
ينفع به وأن لا يحرمني أجره، وأن يغفر لي خطئي فيه، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) القاموس المحيط، 1566، ترتيب القاموس 3/130.
(2) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد.
(3) معالم السنن مع كتاب سنن أبي داود، 3/484.
(4) عون المعبود شرح سنن أبي داود، 8/382.
(5) الخبران في كتاب: (حسن الظن بالله عز وجل) ، لأبي بكر بن أبي الدنيا، ص04.
(6) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والإمام أحمد.
(7) فتح الباري، 17/397.
(8) شرح صحيح مسلم، للنووي، 14/210.
(9) شرح صحيح مسلم، للنووي، 14/2.
(10) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.
(11) زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/299.
(12) تهذيب مدارج السالكين، 240.
(13) تهذيب مدارج السالكين، 300.
(14) حسن الظن بالله، 40.
(15) زاد المعاد، 3/235.
(16) في ظلال القرآن، 6/3219.
(17) الفرج بعد الشدة، للتنوخي، 1/154.
(18) قال الله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ] [النور: 55] وعن تميم الداري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) أخرجه الإمام أحمد والحاكم والطبراني وانظر في تخريج هذا الحديث وغيره من الأحاديث المبشرة بنصرة الإسلام كتاب: (البشائر بنصرة الإسلام) ، للشيخ محمد الدويش.
(19) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(20) كتاب حسن الظن بالله عز وجل، ص 40.
(21) سير أعلام النبلاء، 4/325.
(22) كتاب حسن الظن بالله عز وجل 96.
(23) حسن الظن بالله عز وجل، 45.
(24) حسن الظن بالله عز وجل، 117.
(25) المرجع السابق، 23.
(26) انظر: الجواب الكافي، ص24، وما بعدها.
(27) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ومالك في الموطأ.
(28) أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده.
(29) مسألة الجبر هي قولهم: إن العبد لا فعل له البتة، ولا اختيار، إنما هو مجبور على فعل المعاصي.
(30) الإرجاء: هو اعتقاد أن الإيمان هو مجرد التصديق وأن الأعمال ليس من الإيمان وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل وللاطلاع والتعرف على الجبر والإرجاء وفرقتي الجبرية والمرجئة، انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم.
(31) أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
(32) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 9/95.
(33) المجموعة الكاملة، لمؤلفات الشيخ السعدي رحمه الله، 3/50.
(34) الفوائد، 86.
(35) انظر: زاد المعاد، المجلد الثالث، ص922، وما بعدها.
(36) الفوائد، 166.
(37) مفتاح دار السعادة، 424، وما بعدها.(134/18)
تأصيلات دعوية
فضيلة الإمساك عما شجر بين الصحابة
ذياب سعد الغامدي
أجمع أهل السنة قاطبة على الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة رضي
الله عنهم والسكوت عما حصل بينهم من قتال وحروب، وعدم البحث والتنقيب عن
أخبارهم أو نشرها بين العامة لما لها من أثر سيئ في إثارة الفتنة والضغائن وإيغار
الصدور عليهم، وسوء الظن بهم، مما يقلل الثقة بهم.
والواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام
رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وهو الإمساك عما
حصل بينهم رضي الله عنهم.
وكُتُبُ أهل السنة مملوءة ببيان عقيدتهم الصافية في حق الصحابة الكرام
رضي الله عنهم، وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم
الحسنة التي منها: سُئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي
حصل بين الصحابة، فقال: (تلك دماء طهّر الله يدي منها؛ أفلا أُطهر منها لساني؟ مَثَلُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَثَلُ العيون؛ ودواء العيون ترك
مسها) [1] .
وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال:
(قتال شهده أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وغبنا، وعلموا وجهلنا،
واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا) [2] .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي
ومعاوية؟ قال: (ما أقول فيهم إلاّ الحسنى) [3] .
وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد بيان ما يجب أن يعتقده المسلم في
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما ينبغي أن يُذكروا به فقال: (وأن لا
يُذكر أحد من صحابة الرسول إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عمّا شجر بينهم، وأنهم
أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظن بهم أحسن المذاهب) [4] .
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: (ومن بعد ذلك نكفّ عما شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل؛ فقد غفر الله لهم، وأمرك
بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما
سيكون منهم أنهم سيقتتلون؛ وإنما فُضلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ العمد قد
وُضِعَ عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم) [5] .
وقال أبو عثمان الصابوني في صدد عقيدة السلف وأصحاب الحديث:
(ويرون الكف عمّا شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطهير
الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم
والموالاة لكافتهم) [6] .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: (لا يجوز أن ينسب إلى أحد من
الصحابة خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأراد الله عز وجل.
وهم كلهم لنا أئمة، وقد تُعبّدنا بالكف عمّا شجر بينهم، وألاّ نذكرهم إلا بأحسن
الذكر لحرمة الصحبة، ولنهي النبي -صلى الله عليه وسلم-عن سبهم [7] ، وأن
الله غفر لهم وأخبر بالرضى عنهم) [8] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة
فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: (ويمسكون عما شجر بين الصحابة
ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد
فيه ونقص، وغُيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون
مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون) [9] .
وكذلك ما ذكره شيخنا ابن عثيمين حفظه الله حيث قال: (وهذا الذي حصل
أي بين الصحابة موقفنا نحن منه له جهتان:
الجهة الأولى: الحكم على الفاعل، والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
أما الحكم على الفاعل فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم فهو
صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ فصاحبه معذور مغفور له.
وأما موقفنا من الفاعل فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم. ولماذا نتخذ
من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا؟ ونحن في فعلنا
هذا إما آثمون، وإما سالمون ولسنا غانمين أبداً) [10] .
فهذه طائفة من كلام أكابر علماء الإسلام من سلف هذه الأمة والمعاصرين؛
تبيّن منها الموقف الواجب على المسلم أن يقفه من الآثار المشتملة على النيل من
أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار، وخلاف، ومقاتلة؛ خاصة في حرب الجمل وصفين، وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما
لا يليق بهم، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، واعتقاد بعضهم أنهم
مجتهدون؛ والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها
ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرّف عن أصله وتشوّه. كما
تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما
شجر بينهم هو الإمساك [11] .
فإذا تبين لنا أن الإجماع قد وقع من علماء المسلمين على السكوت عما شجر
بين الصحابة، وعدم التنقيب أو التنقير عما حصل بينهم من حروب وقتال؛ ولو
حسنت نية المتكلم أو السامع، كان من المناسب أن نعرف معنى السكوت نحوهم.
معنى السكوت:
أما معنى السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: فهو عدم
الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع
التفصيلات ونشرها بين العامة بطريق أو آخر [12] وقد أشار إلى ذلك الإمام
الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قائلاً: (إن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار
وخلاف ينبغي طيّه وإخفاؤه بل إعدامه، وإن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد
العلماء) [13] .
وأما الآثار السلبية في نشر أحاديث الفتنة وأخبار النزاع بين الصحابة رضي
الله عنهم فهي:
أنها أوقفت المسلمين على ما لا ينبغي لهم أن يقفوا عليه.
أن في بثها والحديث عنها عند عامة الناس مخالفة لما عليه السلف الصالح.
أنها تفسد على المسلمين سلامة صدورهم، وصفاء قلوبهم على الصحابة
رضي الله عنهم، ولا يخالف في ذلك إلا مكابر أو جاهل.
أنها تثير بين الناس الشبهات، وتضاعف لديهم الأوهام حول الصحابة الكرام
رضي الله عنهم؛ وتتزعزع منه الثقة بالصحابة عند كثير من الناس.
أن في نشرها بهذه الطريقة خلافاً للحكمة الدعوية، والطرق التعليمية، كما
قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذّبَ اللهُ
ورسولُه؟) [14] .
الإيرادات:
قبل الانتهاء والخروج مما أردت بيانه، أرى من الواجب أن أجيب عن بعض
الأسئلة التي هي في حكم الإيرادات والشبهات حول هذا الموضوع.
الإيراد الأول:
لعل قائلاً يقول: قد سلمنا لكم بما ذكرتموه وقرّرتموه آنفاً، لكنّ هذا محمول
على من أراد ذكر ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم على وجه التنقيص
والبغض، وسوء الظن بهم ونحوه مما هو مثار للفتنة عياذاً بالله.
أما من أراد ذكر ذلك على وجه المحبة للجميع، مع سلامة الصدر والترحم
عليهم وحسن الظن بهم؛ فهذا ليس محل نزاعنا! !
أقول: نحن لا نسلّم لك ما قلته لعدة مخالفات شرعية؛ منها:
1-أن هذا القول خلاف الأصل المقرر عند عامة السلف والخلف، وهو
السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، سواء كان الحديث عنهم عن
حسن ظنٍ أو سوء ظن لما في ذلك من درء للمفسدة الحاصلة وسدّ للذريعة المفضية
للشبه والفتنة كما هو معلوم من الواقع بالضرورة.
فهذا العوام بن حوشب يقرر هذا الأصل: (أدركت من صدر هذه الأمة
بعضهم يقول لبعض: (اذكروا محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لتأتلف عليها القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرّشوا [15] الناس
عليهم) [16] ، وبلفظ آخر قال: (.. فتجسّروا [17] الناس عليهم) [18] .
2-وكذلك هو أيضاً خلافٌ للأصل المحقق وهو الوقوع في الفتنة؛ ولهذا لا
يجوز لك أن تخالف أصلاً محققاً رجاء سلامة صدرٍ مظنونة!
فقد قال رسول الله: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه؛ ألا وإن لكل
ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي: القلب) [19] .
وعن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله: (دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك) [20] .
3-أيضاً في ذكر ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم مع ادعاء أمن الفتنة
وسلامة الصدر؛ أمنٌ من مكر الله تعالى، عياذاً بالله فقد قال الله تعالى في سورة
الأعراف: [أََفَأََمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَاًمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ]
[الأعراف: 99] .
وكذلك فيه تعرّض للفتن التي طالما استعاذ منها النبي؛ فعن المقداد بن الأسود
قال: وأيم الله! لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن السعيد
لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن
ابتلي فصبر فواها) [21] .
4-لو سلمنا أن أحداً خاض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ ثم
خرج من ذلك بسلامة صدر وصفاء قلب؛ لكان هذا تحصيل حاصل ونوع عبث،
ومخالفة لمنهج السلف الصالح تجاه هذه الفتنة، بل هو في الحقيقة ضرب من
الخيال، وخلاف الواقع المألوف.
5-ثم إذا كان الأمر كذلك كما ذكر المعترض فهذا يكون لآحاد العلماء خاصة
لا عامة الناس كما ذكره الإمام الذهبي رحمه الله؛ فليت شعري هل هذا هو محل
نزاعنا، أو هو فيما انتشر بين أيدي الناس كافة عالمهم وعامّيّهم وصغيرهم
وكبيرهم؟ والله المستعان!
الإيراد الثاني:
ولعل قائلاً يقول: إننا نجد كثيراً من كتب التاريخ المشهورة المرضية عند
عامة المسلمين قد ذكرت ما جرى وحصل بين الصحابة رضي الله عنهم بكل
تفصيل وتحليل؛ فلنا فيهم أسوةٌ حسنة، فيسعنا ما يسعهم! !
أقول: إن هذا القول حقّ لا شك فيه؛ فقد ذكرت كتب التاريخ بعامة ما شجر
بين الصحابة رضي الله عنهم بيد أنها لم تذكر ذلك للاستئناس، والتشوّف لأخبارهم
والتفكه بحروبهم وقتالهم، ونحو ذلك؛ فحاشاهم رحمهم الله تعالى فهم أبعد الناس
عن ذلك.
ولا ننسَ أيضاً أنه كما ثبت في كتبهم ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛
فكذلك قد ثبت تقريرهم لمعتقد السلف عن الكف والإمساك عما شجر بينهم؛ وهذا لم
يكن منهم تناقضاً كما يزعمه من ليس له أدنى علم بحالهم؛ فهؤلاء الأئمة قد ذكروا
ذلك وسطّروه في كتبهم لأمور مهمة منها:
1- إبراء للذمة؛ فكان من الأمانة العلمية أن يذكروا ذلك حفظاً للتاريخ
الإسلامي من عادية المحرفين أهل البدع والأهواء؛ كي لا يُدخَلَ فيه ما ليس منه،
أو يُخرج ما هو منه؛ لذا جعلوا من أنفسهم حراساً على تاريخ الأمة الإسلامية.
2- كان هذا منهم إتماماً للتاريخ الإسلامي، فكما بدأوا بكتب أوله فكذلك
ساروا إلى آخره دون نقص أو ثلب؛ مما قد يجعل للطاعنين علينا سبيلاً.
فهذه الأمم أجمع لا تعتز إلا بعزّ تاريخها، ولا تُذل إلا بضياع تاريخها أو
بعضه؛ فتأمل هذا يا رعاك الله.
3- كذلك أرادوا من ذكر أخبارهم رضي الله عنهم وحفظها العبرة والعظة لمن
بعدهم، كما ذكر ذلك أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن في ذكر السير
والتواريخ فوائد كثيرة؛ أهمها فائدتان:
إحداهما: أنه إن ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله علمت حسن التدبير
واستعمال الحزم، وإن ذكرت سيرة مفرط ووصفت عاقبته خفت من التفريط.
ويتضمن ذلك شحذ صوارم العقول، ليكون روضة للمتنزه في المنقول.
الثانية: أن يطلع بذلك على عجائب الأمور وتقلبات الزمان، وتصاريف
القدر، والنفس تجد راحة بسماع الأخبار [22] .
وبهذا نعلم أن بعض الأحكام الشرعية قد تبينت من خلال ما حصل بين
الصحابة رضي الله عنهم؛ فمن ذلك: أحكام قتال أهل البغي كما قرر ذلك علي مع
المخالفين، وهذا باب واسع ومهم، ولولا ما حصل بينهم من قتال لما علم ذلك؛
والله أعلم [23] .
4- كذلك نجدهم لم يذكروا أخبار هذه الفتنة وحوادثها سرداً بلا زمام أو خطام! بل أسندوها إبراء للذمة، في حين نراهم لم يغفلوا هذا الجانب بل لهم عناية بنقد
كثير من الروايات والأخبار مع بيان صحيحها من سقيمها، وتوجيه ما أمكن توجيهه.
5- كذلك لم يكن قصدهم من ذكر وكتابة ما شجر بين الصحابة رضي الله
عنهم نشرها وترويجها بين الخاصة والعامة من المسلمين، لا، ما هذا الذي أرادوه
بل غاية علمهم أن الذي سيقف مستفيداً من كتبهم هم العلماء خاصة دون عامة
المسلمين كما هو مألوف لدى المجتمع.
وبعد هذا: هاك أخي المسلم الكريم ما قاله الإمام المحدث أبو بكر الآجرّي
رحمه الله؛ كي تقرّ عينك ويطمئن قلبك لما سطرنا لك آنفاً؛ حيث نراه يردّ على
بعض الاعتراضات والإيرادات نحو ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم:
قال رحمه الله: (ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وفضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين أن يحبهم،
ويترحم عليهم، ويستغفر لهم، ويتوسل إلى الله لهم [24] ، ويشكر الله العظيم إذ
وفقه لهذا، ولا يذكر ما شجر بينهم، ولا ينقر عنهم، ولا يبحث.
فإذا عارَضَنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد، فقال: لِمَ قاتل
فلان لفلان؟ ولِمَ قتل فلان لفلان وفلان؟ !
قيل له: ما بنا وبك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا اضطررنا إلى علمها.
فإن قال قائل: ولِمَ؟
قيل: لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا فيها على حسب ما
أراهم العلم بها، وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، وكانوا أهدى سبيلاً ممن جاء
بعدهم؛ لأنهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، وشاهدوا الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وجاهدوا معه، وشهد لهم عز وجل بالرضوان، والمغفرة، والأجر العظيم،
وشهد لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنهم خير قرن، فكانوا بالله عز وجل
أعرف، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالقرآن، وبالسنة، ومنهم يؤخذ العلم، وفي قولهم نعيش، وبأحكامهم نحكم، وبأدبهم نتأدب، ولهم نتبع، وبهذا أمرنا.
فإن قال قائل: وما الذي يضرنا من البحث عن أخبارهم ومعرفتنا لما جرى
بينهم؟
قيل له: الضرر لا شك فيه، وذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا،
وعقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فننزل عن طريق الحق
ونتخلف عما أمرنا فيهم.
فإن قال قائل: وبِمَ أُمرنا فيهم؟
قيل: أُمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم والاتباع لهم..
فإن قال قائل: إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم فأكون
على ما كانوا فيه لأني أحب [أن أعلم] ذلك ولا أجهله.
قيل له: أنت طالب فتنة؛ لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك، ولو اشتغلت
بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبّدك به من أداء فرائضه، واجتناب محارمه
كان أوْلى بك.
وقيل له: ولا سيما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء
الضالة [25] .
وقيل له: اشتغالك بمطعمك، وملبسك من أين هو؟ أوْلى بك، وتمسكك
بدرهمك من أين هو؟ وفيم تنفقه أوْلى بك.
وقيل: لا نأمن أن تكون بتنقيرك وبحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل
قلبك فتهوى ما لا يصلح لك أن تهواه، ويلعب بك الشيطان فتسب وتبغض من
أمرك الله بمحبته والاستغفار له وباتباعه، فتزل عن طريق الحق، وتسلك طريق
الباطل [26] .
__________
(1) انظر: عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص75 وما بعدها.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (16/332) .
(3) انظر مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص (146) .
(4) انظر: رسالة القيرواني مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني، ص (23) .
(5) انظر: كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، ص (268) .
(6) انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/129) .
(7) انظر: صحيح البخاري (2/292) ، ومسلم (4/1967) ، وأحمد (3/ 11) .
(8) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (16/321/322) .
(9) انظر: العقيدة الواسطية مع شرحها، لمحمد هراس، ص (173) .
(10) انظر: شرح العقيدة الواسطية، للشيخ ابن عثيمين (617-618) ضمن مجموع الفتاوى
(8/617- 618) .
(11) انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، للدكتور الشيخ ناصر ابن علي الشيخ (2/740) بتصرف.
(12) انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، للدكتور: ناصر الشيخ (2/740) بتصرف.
(13) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، رحمه الله تعالى (10/92) .
(14) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم (124) .
(15) التحريش: هو الإغراء بين الناس، انظر: مختار الصحاح (130) ، ولسان العرب (6/279) .
(16) انظر: كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة (165) .
(17) أي: تشجعوهم، انظر لسان العرب (4/136) .
(18) انظر الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي رحمه الله (18/33) .
(19) رواه البخاري (52، 2051) ، ومسلم (1599) وغيرهما، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(20) رواه النسائي (8/327) ، والترمذي (2518) ، وأحمد (1/200) وغيرهم.
(21) رواه أبو داود (4/4263) .
(22) انظر: المنتظم، لابن الجوزي رحمه الله تعالى (1/117) .
(23) انظر: الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/434، وما بعدها) .
(24) أي: بالدعاء والترحم والاستغفار لهم، والترضي عليهم.
(25) ليت شعري إذا كان هذا الخوف من الآجري رحمه الله على أهل زمان القرن الرابع؛ فكيف الحال إذاً بأهل القرن الخامس عشر؟ ! .
(26) انظر كتاب الشريعة، للإمام المحدث أبي بكر محمد الآجري رحمه الله (5/2485-2487) باختصار.(134/28)
إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر
عبد الله المسلم
التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية اليوم عديدة، ومن أبرزها:
* تحديات تتمثل في ضخامة الانحراف في الأمة والبعد عن منهج الله تبارك
وتعالى.
* وتحديات تتمثل في الفساد الهائل في الميادين الإدارية والسلوكية.
* وتحديات تتمثل في الأمراض الاجتماعية المتغلغلة فينا، وفشو الفقر
والأمية والتخلف.
* وتحديات تتمثل في التخلف الحضاري والتقني الذي تعاني الأمة منه،
وتأخرها عن ركب الأمم الأخرى.
* وتحديات تتمثل في مشكلات تعاني منها الدعوة الإسلامية، كالفرقة
والتناحر والضياع بين فصائل العمل الإسلامي، والخلط في مناهج التغيير وبرامج
الإصلاح.
* وتحديات وتحديات ...
إن الحديث عن هذه التحديات والعقبات يطول، ويصعب على امرئ
استقصاؤه وحصره، وهو أمر كثيراً ما نطرقه ونثيره ونحن نتجاذب أطراف
الحديث حول قضية الإصلاح والتغيير.
ومع الإيمان بأهمية إدراك حجم التحديات وضخامتها، وضرورة وضع
الأمور في نصابها الصحيح دون تهوين؛ إلا أن المبالغة أو التركيز في الحديث
على جانب معين من المشكلة يؤدي إلى نتائج معاكسة.
فالمنتظر من الحديث حول العقبات والتحديات أن يؤدي إلى شحذ الهمم ورفع
العزيمة، والبذل والتضحية بما يتناسب معها؛ إلا أن الإفراط في ذلك ربما أدى إلى
اليأس؛ فهل الطاقات المتاحة اليوم، وبرامج العمل، والصحوة بمؤسساتها الضعيفة، وقدراتها المبددة وغير القادرة على استيعاب خلافاتها وحل مشكلاتها فضلاً عن
التغيير في الواقع، هل ذلك كله يمكن أن يوصل إلى التغيير الذي نتطلع إليه في
واقع المسلمين اليوم؟
إنه التفكير السريع الذي لا يأخذ في حسبانه إلا العوامل المادية والبشرية،
لكنه حين يتجاوز ذلك، فيضع في الاعتبار القواعد والمنطلقات الشرعية فإن النتائج
تختلف، أينسى أن قدرة الله تبارك وتعالى مطلقة، ومشيئته نافذة، وأن ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن، وقدرته تبارك وتعالى تتجاوز حسابات الناس القريبة
واعتباراتهم المنحصرة في العالم المادي المحسوس، قال تبارك وتعالى: [إنَّا كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] [القمر: 49، 50]
وقال عز وجل: [إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] [يس: 82] .
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الدين سيعلو وينتصر لا محالة؛ فعن تميم
الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله
الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به
الكفر) [1] .
وعن أُبيّ بن كعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بَشّرْ هذه
الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في
الآخرة نصيب) [2] .
وعن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [3] .
إنها أخبار صادقة، ووعود لا بد من أن تتحقق؛ فلنتوازن في تفكيرنا، ولا
تسيطر علينا الحسابات المادية، ولنعلم أن قدرة الله تبارك وتعالى فوق كل حسابات
البشر، [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] . [الأنفال: 30]
__________
(1) رواه أحمد (4/103) ، والحاكم بمعناه (4/430) .
(2) رواه أحمد (5/134) ، والحاكم بمعناه (4/522) ، وابن حبان (2501) .
(3) رواه أبو داود (4291) .(134/36)
البيان الأدبي
الأدب بين الأصالة والتأصيل
د. مصطفى إبراهيم حسين
الأصالة هي ارتباط الثقافة بعامة والأدب خاصة بأصولنا: عقيدة وشريعة،
وفكراً ولغةً وتاريخاً. والأصالة عندنا: تمثل هويتنا التي تميّزنا على من سوانا،
وهذه تقوم مقام البصمة من الإنسان.
وعلى هذا، فلا يخفى معنى التأصيل؛ إذ هو حرص الجماعة على أن تظل
موصولة بأصولها وجذورها. إنها تتواصل مع الآخرين: أدباً وثقافةً؛ حتى لا
تكون بمعزل عن هؤلاء الآخرين.
إن قانون (التوازن والاتزان) هو القانون الراسخ في صنع الحضارات؛ فإن
جمدت الأمة ضاعت، وإن أغرقت في الأخذ والتواصل ضاعت أيضاً. فكما أن
جمودها يعزلها ويضيع وجودها، فكذلك انبهارها بلا ثقة في تراثها، وأعني بذلك
انبهارها بما لدى الآخرين، مع فقدان الثقة بما لديها. وهذا الانبهار المتهالك يسلمها
إلى الذوبان والفناء.
نقول ذلك ونقرره حين يكون مثقفو الأمة ومفكروها وأدباؤها واقفين عند حدود
الانبهار، فماذا يكون الحال حين يتجاوزون الانبهار إلى عداءٍ مَرَضي لتراثهم،
ودعوةٍ إلى تدميره والإلقاء به في البحر؟
إن هذه الحالة المَرَضية سوف تُسلم إلى موت محقق، تماماً كحال مريض
بالانفصام أو الاكتئاب، أسلمه المرض إلى الانتحار أو الموت البطيء.
هل نحن بحاجة إلى تأصيل؟
نعم! بل نحن في أمسّ الحاجة إلى التأصيل، وفي حاجة إلى أن ندعو إلى
وجوب التأصيل، وإلى مؤازرة الدعاة إليه، بل وأن يكون الدعاة إلى التأصيل صفاً
واحداً متسانداً، له رؤيته الواضحة وبرنامج عمله الواضح المحدد، وقياداته الفكرية
الأمينة المستنيرة.
نظرة إلى الساحة الأدبية:
ونظرة إلى الساحة الأدبية تسلمنا إلى حالة تتجاوز الانزعاج، وتضعنا أمام
مسؤولياتنا بلا تردد؛ فالشعر العربي فَقَدَ هويته، بل لا أكون مبالغاً لو قلت: إن
شعرنا العربي الراهن يعاني ما يعانيه الانسان العربي من فقدان للهوية والكرامة معاً. والمضحك المبكي أن صانعي أزمة الشعر العربي هم الذين يتحدثون عن (أزمة
الشعر) . وكما انفردوا بصنع كيان ضائع شائه، واقفين وحدهم في الساحة، لا
يجدون من يتجاوب معهم، فإنهم حين يُلقون بسؤالهم عن أسباب أزمة الشعر لا
يجدون من يجاوبهم، خوف الإرهاب الذي فرضوه.
لقد ران على الساحة صمت مطبق، فلا (القصيدة الحداثية) تجد تجاوباً
وتواصلاً، ولا أزمتها التي صنعتها العلمانية المشبوهة تجد من يبحث لها عن الحل؛ ذلك أن تلك العلمانية المشبوهة قد أنتجت وليداً قبيحاً دميماً، هو الحداثة، التي
تآمرت على كل ما له صلة بمقدراتنا وأصولنا، وهوت عليه بالتدمير، ونصبت
على منابرها أبواقاً بالتّهم لكل من يقف أو يتصدى من ذوي الأصالة: تُهم الجهل،
والجمود، والرجعية، والغوغائية.
وقد كان ذوو الأصالة من الضعف والهوان، بحيث وجدوا في الصمت ملاذاً
يحميهم من الاتهام، ثم تركوا الساحة لأقوام يجيدون العبث ويروّجون له.
ويصنعون صنيع السحرة والحواة حين يتحدثون، ويغريهم صمت الآخرين بالتمادي
في عبث يزينون له، ويجيدون طبخه وتقديمه ... والويل ثم الويل لمن يتصدى
لإفكهم وغرورهم الفارغ.
وطبيعي أن الساحة حين تخلو من الأصلاء، وتعج بالسحرة والحواة؛ فإن
حالة الفوضى وانعدام التناغم والتناسق تسودها. وهنا يصبح الأمر بحاجة إلى وقفة
شجاعة تتخلى تماماً عن الخوف والتردد والنكوص.
القصيدة العربية:
إن أقل الناس معرفة بتاريخنا الأدبي الحديث يعلم أن البارودي يمثل (الريادة
الكبرى) في القصيدة العربية، وهي ريادة أنقذت القصيدة من التردي والتراجع حين
عمد الشعراء قبل البارودي إلى الانفصال عن النبع الأصيل، أعني الشعر العربي
في عصور الازدهار، من العصر الجاهلي والأموي إلى المعري والشريف الرضيّ، مروراً بأبي تمام والبحتري والمتنبي العملاق. لقد كان الشعراء قبل البارودي
يلوكون مادة خلت من كل مقومات الحياة والتأثير، فضلاً عن انحصارهم في
مضامين شخصية محدودة، ولغة هابطة، وافتقار أشعارهم البائسة إلى التواصل،
بما يشبه الحالة التي انتهت إليها (القصيدة الحداثية العلمانية) في وقتنا الراهن.
واقتضت طبائع الأشياء، أن يعود إلى الساحة الأساس المفقود؛ حتى يتم
التمكن من بناء الصرح، فكان البارودي..، لقد جاء ليعيد الأساس المفقود.. ومن
هنا يجد قارئ البارودي أصداء أبي تمام والبحتري والمتنبي والشريف الرضيّ وأبي
فراس. ولم يكن بوسع الرجل أن يصنع سوى ذلك، بحكم المرحلة التي ظهر فيها. كان عليه أن يعيدنا إلى النبع ويردنا إلى الأصل.. كان صنيعه (بعثاً) . ومع هذا
البعث الذي تبناه البارودي كانت نهضة جديدة للشعر العربي في العصر الحديث.
لقد جدد البارودي من خلال المحاكاة، ومن خلال العودة إلى النبع الأصيل.
وهذا ليس بالأمر السهل؛ إذ كان يتطلب شاعراً يذخر وجدانه بإمكانات إبداعية
تمكنه من الهضم والتمثل، وإحداث حركة التحول الكبير في مسيرة الشعر العربي
بعد طول انحراف.
ثم كان شوقي صانع البناء الشامخ فوق الأساس الذي أرسى دعائمه البارودي. أدخل الشعر المسرحي، وخاطب الطفل العربي من خلال قصص على ألسنة
الحيوان، ومن خلال أشكال أخرى للشعر التهذيبي. هذا إلى جانب ربطه الشعر
العربي بالواقع السياسي والاجتماعي، وربط القصيدة العربية بآفاق عربية وإسلامية
وإنسانية عامة، بالإضافة إلى ألوان أخرى من التجديد حققها أمير الشعراء في اللغة
والصورة والفكر، جديرة بأن تتناولها المزيد من الدراسات النقدية الأمينة،
ترصدها وتكشف عن أبعادها، برغم الأصوات الحداثية الناعقة.
ولسوف يظل أمير الشعراء قمةً تتطلع إليها عيوننا بكل الفخار، ورمزاً
عظيماً لتراثنا وأصالتنا، ولن يقلل من شأنه ما سجله عليه العقاد وطه حسين،
ويكفي أن العقاد الذي أوسع شوقي نقداً وانتقاصاً، قد أبدى اعتذاراً له في مقدمة
الكتاب الذي أصدره المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة، الذي يضم
الكلمات والأشعار التي ألقيت في احتفال المجلس بذكرى أمير الشعراء، وكان العقاد
أيامها مقرراً للجنة الشعر بالمجلس، خلال الستينيات الميلادية.
وقد دخلت القصيدة الشعرية بعد أمير الشعراء فلكاً جديداً صنعته مدارس
مضت في تجديد الشعر أشواطاً أبعد، منها مدرسة المهجر الشمالي، ومدرسة
الديوان، وحركة أبولْلُو؛ التي اختلف الباحثون في تحديد هويتها، لكنها على كل
حال ضمت ما يصر فريق من الباحثين على تسميته بالاتجاه الرومانسي [1] ،
ويمثل هذا الاتجاه: علي محمود طه، ناجي، والهمشري، والتيجاني يوسف بشير، وأبو القاسم الشابي، وآخرون، عدا مطران رائد الحركة.
وبرغم المآخذ التي نسجلها على مدرسة المهجر الشمالي إبداعاً ونقداً، وعلى
أصحاب الاتجاه الوجداني بالموطن، وبرغم النقد اللاذع الذي أبداه نقاد الديوان ضد
شوقي، فإن القصيدة العربية ولو بشكل نسبي ظلت موصولة بالتراث. ويقال مثل
ذلك عن الممارسات النقدية للعقاد والمازني؛ فالعقاد يترجم (الذخيرة الأدبية) التي
تضم باقة مختارة لشعراء الرومانتيكية الإنجليزية، ويتأثر بها ويؤثر بها في
الآخرين، لكنه في الوقت نفسه يكتب عن ابن الرومي والمتنبي والمعري، وهم
رموز كبرى للتراث الأدبي، وبشكل عام فإن الحركة الشعرية بعد شوقي استطاعت
أن تحقق قدراً من التوازن بين الأصالة والمعاصرة.
وقفة مع قصيدة الشعر الحر:
لقد ظل الشعر العربي في مرحلة ما قبل (الشعر الحر) موصولاً بالتراث،
ظل إلى حد كبير موصولاً بالأصول والمنابع، ظل له قراؤه الذين يقبلون على
قراءته والاحتفاء به، ولم تكن قراءة الشعر العربي قاصرة على النقاد والمختصين
منهم بخاصة، بل ظلت القرائح الشعرية الجديرة بالقبول تتوافد على الساحة،
وظلت الساحة تستقبل تلك القرائح بأذرعة مفتوحة.
والخلاصة: أن القصيدة الشعرية ظل لها عشاقها، وظلت هناك حلقة من
التواصل بين الشعراء والمتلقين، ولو ظل عشاق شوقي لا يتذوقون شعر هذه
المرحلة التي جاءت بعده، فإنه لم تكن ثمة أزمة.
لماذا؟
لأنه لم يكن ثمة انقطاع عن الأصول والجذور؛ فقارئ الشعر العربي إنسان
عربي في المقام الأول، وهو يتجاوب مع ما يتناغم مع أصالته العربية وشخصيته
التي صنعها وشكّلها تاريخ طويل.
فإذا ما اختلف اللسان والوجدان، وإذا ما أريد له أن يجبر على إفراز حداثي
متهافت؛ فإن عليه أن يدير ظهره للساحة؛ لأنه لو نبس ببنت شفة لاتهم بالجهل
(وتهمة الجهل كتهمة معاداة السامية في الدستور الصهيوني) فإن عليه أن يلوذ
بالصمت.
وهنا تكون الأزمة: أزمة الشعر العربي من صنع (خواجات ذوي رطانة في
اللسان وفي الفكر) مما دعا خواجات أوروبا الحقيقيين إلى انتقادهم محتقرين منهم
انسلاخهم عن هويتهم، وإمعانهم في التزلف لثقافة أوروبا، ومحاولة إقناع الغرب
بأنهم (عالميون) ساعون إلى العلمانية، طالبون بإخلاص بالغ الانضمام إلى دولة
الأدب الأوروبي، والدخول إلى حلقة (الأدب العالمي) .
لكن أوروبا رفضتهم والعرب أيضاً رفضوهم.
فيا لهول الأزمة: أزمة القصيدة العربية التي يحملها الحداثيون هَمّاً مؤرقاً في
المنام واليقظة.
وفي ظل ما يسمى بالشعر الحر ماجت الساحة بالفوضى.. فكل ناعق بكلام لا
معنى له، وبلغة الرطانة، وبصور سريالية لا رابط بين أطرافها، صار شاعراً،
وأفسحت له المجلات صفحاتها، ولقي غثاؤه وهراؤه حفاوة وترحيباً لدى المنتديات، ولدى المتظاهرين بالثقافة الحداثية الرفيعة، دون أن يفقهوا شيئاً مما يسمعون أو
يقرأون.
المهم أن يجيد هذا (الشعرور) الدعيّ كتابة هرائه على هيئة سطور تتفاوت
طولاً وعرضاً، ويمعن في الإغراب والتغريب. وما زالت الذاكرة تعي تلك
الفضيحة الأدبية الشهيرة خلال الستينيات حين عمد صحفي ماكر إلى كلام غامض
ملفق على الطريقة نفسها، ثم نشر هذا الكلام الغريب الغث وطلب من السادة النقاد
تحليلاً لهذا النص الموهوم، فتبارى فريق من السادة النقاد في التحليل والتهليل.
وبعد انتهاء (الزفّة) أخرج لهم الصحفي لسانه وصارحهم بأن هذه القصيدة ليست
لشاعر أوروبي أو عربي وإنما هي من تلفيقه ومكره. فسُقط في أيدي السادة النقاد.
وكانت الفضيحة لنقادنا الذين أوقعهم الصحفي في الفخ، ومع ذلك فقد ذهبت
الواقعة بكل دلالاتها، وابتلعتها ذاكرة الناس، وما أكثر ما تبتلع ذاكرة الناس ما
يسيء ويشين.
والظاهرة اللافتة أن ما يسمى بالشعر الحر قد تمادى في تحلله وانفراط عقده
على مدى قصير من الزمن، فمن قصيدة التفعيلة الواحدة التي تُختار من البحور
الصافية، إلى قصيدة التفعيلات المتعددة، وهي في واقع الأمر مزيج متنافر من
التفعيلات من شتى بحور الخليل، ثم تتوالى القفزات إلى ما يسمى بقصيدة النثر.
والمحصلة في النهاية هي الانفلات والفوضى الضاربة والتحدي الأبله لكل الثوابت. وفي النهاية لم نعد في شعرنا العربي وهو لساننا ووجداننا عبر أحقاب التاريخ
ننتسب إلى الغرب الذي ذبنا هياماً بتقليده ومحاكاته، ولا إلى الشرق، أي إلى
تراثنا وأصالتنا التي تبرأنا منها.
ودعونا نسجل بعض أقوال الأساتذة الخواجات:
يقول أدونيس الكاهن الأكبر لمعبد الحداثة: (قد تكون علاقتي بسوفوكليس أو
شكسبير أو رامبو أو ماياكو فسكي أو لوركا أعمق من علاقتي بأي شاعر عربي،
دون أن يعني ذلك أنني خارج على التراث العربي) .
ولا أدري كيف يطلّق الكاهن أدونيس التراث بالثلاثة، ثم لا يعني ذلك
الخروج على التراث؟ إنها البهلوانية الحداثية، وأساليب السحرة والحواة في
استغفال المثقف العربي وإيهامه.
ونجد عبد العزيز المقالح ابن الجزيرة الشاعرة وأحد الرموز لدعوة التغريب
يقول عن الأصالة: (أنا لا أعتقد بالأصالة، إنها لَصَنَمٌ آخر) . ومع ذلك فالمقالح
على خروجه المستفزّ أفضل حالاً بصراحته من الكاهن أدونيس في عبارته المتقدمة.
مما تقدم يتضح لنا أن الحداثة وليدة العلمانية البكر وإفرازها الصديدي المنذر
بالهلاك.
قانون التجاور والإحلال:
ومع كل الذي قدمنا، هل كنا نطالب بوأد حركة ما يسمى بالشعر الحر أو
طردها تماماً من الساحة؟
أقول: لا. ما إلى هذا قصدنا، وإنما حسبها أن تبقى، وأن تبقى في حالة
جوار للقصيدة العربية الأصيلة، لا على سبيل التسامح فحسب، ولكن على سبيل
التجريب، لا التخريب.
لقد شهد تاريخنا الأدبي العريق أشكالاً شتى من التجديد في إطار القصيدة
العربية، كان من أظهرها الموشحات التي يحتج بها دعاة ما يسمى بالشعر الحر.
غير أن الموشح بقي في حالة جوار فقط، ولم يجئ ليحل محل الشكل الخليلي
الدقيق للقصيدة العربية؛ بل إن الوشاحين أنفسهم كانوا يجمعون بين الشعر
والتوشيح. وما كان أحدهم يرضى أن يكون الموشح هو الأصل، بل هو حالة من
(الاستثناء الطارئ) لغرض مجالس الأنس واللهو.
وما محاولة ابن سناء الملك وهو شاعر وشّاح لضبط إيقاعات الموشح وأوزانه
إلا محاولة لإيجاد شرعية البقاء والوجود قياساً على أوزان الخليل لفن جديد طارئ
لم يتجاوز وضعه (المجاورة) فقط. ولم يحاول أحد من الوشاحين أن يتجاوز
(المجاورة) إلى (الإحلال) ، كما حدث مع ما يسمى بالشعر الحر، الذي ما زال
يعيش بيننا غريباً مرفوضاً، لا يكاد يتلقاه سوى حفنة قليلة من المختصين وحملة
المزامير والبيارق من كهنة (التغريب) ، التغريب بأوسع مداه لا في الأدب وحده.
وهذا الرفض للشعر المسمى بالحر، هو سر الأزمة: (أزمة الشعر) التي
يبحث كهان ما يسمى بالشعر الحر عن كل أسبابها، ويغفلون الأسباب الحقيقية، أو
هم يتجاهلونها عمداً، مع أنها واضحة وضوح الشمس، إنها أسباب كامنة فيه،
باعتباره كائناً غريباً مرفوضاً، جاء على أيدي المتآمرين على أصالتنا وهويتنا،
وعقيدتنا ووجودنا، وسيظل غريباً مرفوضاً، حتى يلحقه المُوات.
وماذا قال (الخواجات) ؟
و (الخواجات) الذين يعنيهم المقال هنا: هم المثقفون الأوروبيون من
المستشرقين وغيرهم، ولهم موقفهم الساخر المستغرب من ركام ما يسمى بالشعر
الحر، وغيره من أدب التغريب.
يقول المستشرق الإيطالي إيجنازيو سيلوني للأدباء العرب: (إن الطبيعة تأبى
أن تعترف بأدب عام لأقوام اختلفت أمزجتهم وعقلياتهم، وتفاوت ميراثهم النفسي
والحضاري، ولهذا نود أن نقرأ أدبكم عربياً متميزاً؛ لأنه إنما يأخذ مكانته أدباً
عالمياً بتفرده وأصالته) .
وعبارة سيلوني هذه هي أبلغ ردّ على دعوى العالمية البلهاء التي يدّعيها
الحداثيون سواء في الشعر أم في النثر ويسوّغون بها مسلكهم الشائن في التغريب،
وسقوطهم كالذباب على موائد الغرب، وهي عادة موائد تكون قد فرغت من آكليها،
ولم يبق عليها سوى بقايا تنتظر الأيدي التي تلقي بها بعيداً عن المائدة الشهية.
نعم. لقد صدق سيلوني: (الخواجة) الإيطالي؛ فالأدب لا يكون عالمياً
بالمحاكاة الفجة، ولكن بالتفرد والأصالة. الأديب العربي لا يكون عالمياً إلا
بأصالته وسحنته العربية.
حينئذ يكون الأدب صدقاً وليس أفتعالاً وانسلاخاً هو خير ما يخاطب الإنسان
به أياً كان هذا الإنسان: زماناً ومكاناً، لساناً وثقافة.
ونقول: إن دعوى (عالمية الأدب) على طريقة الحداثية العلمانية هي أشبه ما
تكون بدعوى مثل دين (الإنسانية) العام الذي نادت به يوماً الماسونية الصهيونية
المتخفية لتذوب كل العقائد والأعراق، حتى يبقى اليهود وحدهم، ويتلاشى كل من
عداهم.
ثمة مقولة أخرى صدرت عن الناقد الإنجليزي (ستيفن سبندر) عندما حضر
إلى (مؤتمر الأدب العربي المعاصر) الذي انعقد بروما أوائل الستينيات من هذا
القرن الميلادي، واستمع سبندر إلى أدونيس (الباطني المعروف) ، وهو يلقي كلمة
يدعو فيها صراحةً إلى هدم القديم.
يومها وصف سبندر كاهن الحداثيين المارق بالتطرف، ووضع أمامه نماذج
للتجديد والمجددين في الأدب الإنجليزي الحديث، وكيف أن هذه النماذج المجددة قد
بدأت من أرضية الأصالة؛ فالشاعران: ت. س إليوت، وماثيو أرنولد وهما من
أكبر شعراء هذا العصر، وهما في نفس الوقت ناقدان أصيلان، لم يهملا التراث
الشعري القديم، بل هضماه هضماً، وأبقيا منه ما هو جدير بالبقاء، ثم زادا عليه،
فجاء الشعر عندهما مبنياً على أسس متينة وجذور عميقة، ثم انتهى الناقد
الإنجليزي إلى أن وصف منحى (أدونيس) و) يوسف الخال) بالتطرف والضياع
وعدم الحكمة.
إننا بحاجة إلى وقفة مراجعة، ننظر فيها بصدقٍ وموضوعية إلى حصيلة
ممارساتنا الإبداعية والنقدية المرتكزة الآن على التغريب، وهي ليست حركة تجديد
بل هي حركة تذويب واقتلاع لكياننا العربي الإسلامي من جذوره.
إننا لا نرفض التجديد، ولا يرفضه مثقف لديه أدنى قدر من الوعي بحركة
الحياة ومسيرتها الحتمية نحو التطور، لكننا نرفض التغريب الذي يستهدف تذويب
هذه الأمة والقضاء على كينونتها والتنكر لوجودها وأصالتها، تحت ستار العالمية..
نرفض هذه الفوضى الضاربة بأطنابها في كل مكان، في الساحة الأدبية الثقافية،
فوضى باسم الإبداع، وفوضى باسم النقد، وانغلاق دائرة التواصل بين حملة
الأقلام من جانب والقراء من جانب آخر. الشعار المرفوع الآن على سارية الساحة
الأدبية: (إذا أردت أن تنضم إلينا فاكتب ما لا يفهم وقل ما لا يفهم) .. انغلاق في
الإبداع، وانغلاق في النقد، وانغلاق في الدراسات اللغوية، ومصيبة الدراسات
اللغوية ونظرياتها الحداثية أشد خطراً؛ فهناك مجلات تكتب بلغة خاصة.. وكتب
تؤلف بلغة خاصة، ومؤتمرات تنعقد، ومحافل تقام، وكل ما يجري فيها غريب
غريب.
إن هذا التطرف الأدبي الذي ينسف وجودنا المعنوي، ينبغي الاحتشاد
للتصدي له، فصنيع بعض مثقفينا تطرف.. تطرف حقيقي، وقد سمّاه بذلك الناقد
الإنجليزي سبندر، كما مضى وسبندر ليس عربياً غيوراً على تراث الأمة وأصالتها، بل هو مثقف أوروبي يؤمن بوجوب الالتزام بمنطق الواقع، ويعي أكثر من
مثقفينا مقتضيات التطور، ومفهوم التراث.
ثمة كلمة أخرى للمستشرق الفرنسي الشهير شارك بيلاّ فيها: (أقرأ الأدب
القديم وحده ولا أقرأ الحديث؛ لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية) .. وهذه
شهادة بريئة من الشبهة والطعن.. وما أظن حداثيينا (الخواجات) يتهمون بيلاّ
بالجهل والتخلف والرجعية!
وبعد: فتلك وقفة نرجو أن تتبعها وقفات.. وأن تدلي الأقلام المخلصة بدلوها.. عسانا نرد عن هذه الأمة ولو بعض ما يراد لها من شرٍ مستطير.
__________
(1) يسميه الناقد الكبير عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني.(134/38)
البيان الأدبي
دماء وأشلاء وصمت
السيد علي إسماعيل
في يومٍ بكت شمسه، واغتمّت سماؤه، واختنق قمره، واختفى نهاره،
وتساقطت نجومه، واحترقت أشجاره، وذبلت أزهاره، وساد الصمت الأسود
أجواءه، إثر العناقيد الغاشمة التي نظمها العالم الجديد ليضعها تحت سيطرة من
يسودونه ليجزروا بها رقاب العرب المستسلمين ... وقف (صابر) وسط أنقاض بيته
والبيوت الأخرى التي دمرتها قذائف الطائرات الكاسرة، وولت إلى حضن أمها
الحاقد المجنون.. إلى الدولة التي صافحها المستسلمون لتعود بين أصابع الزعيم
(النتن) أو تحت إمرة بطل السعار المغوار (شارون) يوجهونها لنا متى شاؤوا.
وقف (صابر) هذا الشاخص الحزين والدموع تتحجر في عينيه.. مشدوهاً لا
يستطيع التفوه ... حوله القليل ممن بقي من الأهالي يصرخون ويستغيثون ... وهو
لا زال متحجراً في مكانه كعمود لم تستطع القذائف أن تثنيه ... يسرع رجال الإنقاذ
ومن أتى معهم من المارة ... ينتشلون الجثث المتماسكة والأخرى المتهالكة ...
وربما الأقدام، أو الرؤوس، أو حتى قطع اللحم المتناثرة ... يجمعون ذلك كله في
صناديق ... يحملونها ... يسرعون لعربات الإسعاف، وغيرها من عربات الشرطة
والجيش والعربات الخاصة ... يمرون من أمامه، ومن خلفه، معهم الصناديق،
يبصرها ... يتأملها ... لكنه أبداً لا يتحرك ... كان منتصباً متجهماً شاحباً كهيكل
مرت عليه عصور ... تمتلئ عيناه الداميتان دموعاً.. لكنه لا يبكي:
(كانوا هنا يلعبون ويمرحون ... تناديهم أمهم للغداء فلا يأتون ... وحين
يشاهدونني قد افترشت الساحة الخالية بين جدران بيتي الذي لم يكتمل، وأمامي
الطعام؛ يهرولون ... يتسابقون ... الولدان حولي، والصّبِية الصغيرة تمهد ثنية
قدمي لتصعد جالسة عليها) ... ثم يصرخ ويصرخ:
(أسرتي.. أين أسرتي؟ ! أبنائي ... عودوا ... لقد أتيت متأخراً اليوم،
لكنني أتيت، هذه هداياكم أحضرتها كما عودتكم ... أبنائي ... أبنائي) ، لا أحد
يجيب ... صرخات متعددة مدوية، تزلزل الأنقاض ... لكن لا أحد يجيب!
التهمتهم نيران الصهاينة، اختطفتهم القنابل المستعرة، لكي تأخذ الأطفال
والكبار، ومن تبقيه يكون عاجزاً ... حتى عن الكلام، و ... نلهث ... نلهث لنفوز
بالاستسلام ... هكذا سرت هذه الكلمات في وجدانه ... وهو لا زال يصرخ ...
ينادي أبناءه وزوجته، منهاراً ... مع أنقاض بيته ... إلى أن يصيح به أحدهم من
بعيد ... (يا (صابر [، يلتفت تجاه النداء، ويتماسك لينصت للذي كرر اسمه
مرات عديدة.
يصيح: (يقولون إن ابنك الأكبر ما زال حياً، وهو في المستشفى) . صيحة
الحياة اخترقت مسمعه، فتفتحت خلاياه، وانتعشت أعضاؤه ... لا يدري كيف
وصل إلى المستشفى؟ ... أو متى؟ غير أنه عادت إليه روحه، وصاحبها بقايا
جسده عندما رأى ابنه وحوله جمع من الأطباء والممرضات (يحيطون به) ، يحمد
الله.. ويجمع أنفاسه ليتساءل بصوت منخفض: (ألم تر إخوتك؟ ! ألم تر والدتك؟!) ويسود الغرفة صمت رهيب، ويعلو الوجوم وجوه الجميع، ويزداد الصمت،
يزداد ليقطعه صوت طفولي بريء، يخرج من بين الجراح الهامدة: (استشهدوا
يا أبي) . وتصيب الصاعقة الجميع فتجري أنهار من الدموع على وجوههم ... من
ثبات ذلك الطفل وذكائه. ويشق الأب صفوفهم ليصل إلى ابنه المسجّى بجراحه ...
فيعتنقه، ويلصق صدغه إلى صدغه. ويجلسونه على الكرسي بجواره ... :
(كيف يا بني كيف استشهد إخوتك ... وأمك) ؟ ! .
يهمس إليه الطبيب: (لا تثقل عليه؛ فنحن نعده لعملية أخرى) .
(لا أدري كيف يا أبي فإنه بعد دوي الانفجارات والقذائف التي جاءت من كل
الاتجاهات، والنيران التي اشتعلت في بيتنا والبيوت المجاورة؛ أغمضت عيني من
الخوف ووجدت نفسي في المستشفى بين القتلى والجرحى، ثم نقلوني إلى هنا،
وليس على لسان الجميع سوى (الاستشهاد) كلمة واحدة يرددونها عن القتلى حيثما
كانوا ... فماذا يقصدون بها يا أبي ... ) ؟ ! . والتفت إلى أبيه، فوجد وجهه قد
فاض بفيوض من ماء عينيه الداميتين:
(إنها منزلة في أعلى الجنة قد أعدها الله يا بني لمن يقتلون في سبيل الله ...
إن للشهيد منزلة عظيمة مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً) .
(إذن فما يبكيك يا أبي؟ إنهم هناك، ونحن سنظل ندافع عن ديننا وأرضنا
إلى أن نصل إليهم، لا تبك يا أبي، لا تبك، إنني أرى أمي وإخوتي هناك ...
هاهم أمام عيني يمرحون ويتسابقون كما كنا نفعل لكنهم في واحة خضراء فسيحة ...
أراهم سعداء ... إنهم ينادوننا ... ينادوننا يا أبي) ، ثم يمتص ريقه بصعوبة وهو
يتكلم، ويشعر الأب بعطشه، فيناوله كوباً من الماء لكنه لا يأخذه ...
(أتذكُرُ يا أبي (العصير) الذي كنت تحضره لي يومياً، إنني أشتاق إليه الآن) ، ويجزم له الأب أنه كان معه ضمن الهدايا التي أحضرها عندما عاد، لكنه لا
يعرف أين تركها حين فجعته الحادثة (لكن لا بأس سأشتري لك غيره، وأعود
سريعاً) ... قالها وهو ينهض مسرعاً ... يسابق الزمن ليحضر لابنه (العصير) الذي
طلبه، وحين اشتراه، اشترى معه أيضاً بعض الألعاب المفضلة التي كان يلعب بها، وأغراضاً أخرى، ثم تركها تتساقط ... تتساقط الواحدة تلو الأخرى على عتبة
الغرفة التي كان بها ابنه ... بعد أن رآهم يحيطون به مرة أخرى يتقدمهم الطبيب
الذي يخبره بأنه إن شاء الله قد انضم إلى قافلة الشهداء! !(134/46)
نص شعري
وَحْدك..
عبد الله بن عبد الكريم الخميس
أعلى عَهْدِك أم أخْلفتَ عَهدَك ... أيّها السائرُ في الصحراءِ وَحْدَكْ
أيّها الحاملُ أعباءً ثِقالاً ... أيها الناذرُ للإسلام نَفْسَكْ
يَقْتَفيكَ الذئبُ يشْتَاطُ سُعاراً ... قاتَلَ الشوكُ على دربكَ خطوَكْ
لا تخفْ من ظمأٍ فالغيثُ آتٍ ... والمنى منظومةٌ كالعِقد حولَكْ
طالِعٌ مبتسمٌ أبشرْ بخيرٍ ... إنّه مَوْعِدُنا لا شَكّ أوْشَكْ
يرقصُ الزيفُ على مرّ الليالي ... والهدَى مغترِبٌ والخيرُ مُنْهَكْ
والرّزايا بينَنَا تبعثُ مجداً ... بربرياً غابراً كانَ تملّكْ
وسكونٌ قاتلٌ فَرْضٌ علينا ... صَرَخَ الصّمْتُ ولا شيءَ تحرّكْ
أعلى عهدِك والنّارُ تلظّى ... والبلايا فَضّةٌ [1] تُوهن ظهرَكْ؟
والهجيرُ الصّعبُ يمتدّ زماناً ... يُلهِبُ الشّوقَ الذي يعصرُ قلبَكْ
أعلى عهدِك يا قابضَ جمرٍ؟ ... أعلى عهدِك أم أخلفتَ عهدَكْ؟
__________
(1) الفَضَّة: - بفتح الفاء - الصخر المنثور بعضه فوق بعض (لسان العرب) .(134/48)
نص شعري
عيد الجزائر! !
جمال الحوشبي
أهازيجٌ يرتّلها الدمارُ ... وأفراحٌ يُكدّرها استعارُ
فيا عيدَ الجزائر أيّ عيدٍ ... (وقد خَلَتِ المرابعُ والدّيارُ)
لنا في كلّ ناحيةٍ خطوبٌ ... تساوَى الليلُ فيها والنهارُ
علامَ الذبحُ والتقتيلُ فينا ... فلا حقّ يُصان ولا جوارُ
وصار جميعنا أحلاسَ بيتٍ ... وطَنّب في مرابعنا التتارُ
دماءُ الأبرياء هناك تجري ... أما في المسلمينَ فتىً يَغارُ
تَحيفُ بنا (الوحوش) على دهاءٍ ... ويُخْفِي القاتلَ الأشقى ستارُ
وكم يُذكي (الكبارُ) صنوفَ غدرٍ ... يُقادُ لها الأراملُ والصغارُ
يغيظُ الكفْرَ أنّ الشعبَ حُرّ ... وفتيتهُ على الإسلام ساروا
متى ما رامَ أن نحيا عبيداً ... فلا عيشٌ يطيبُ ولا قرارُ
وكلّ فَخَارنا دينٌ حنيفٌ ... تهونُ له المقامعُ والحِصارُ
أيا شعبَ العُروبةِ كيف تُنسى ... قضيتُنا؟ وهلْ يُجدي انتظارُ؟
دماءٌ في الخَفَاءِ تُراقُ غَدْراً ... وتُدْفَقُ كلما بَزَغ النهارُ
تنادَى السامعون بكل صُقْعٍ ... وليس لكم بنجْدَتِنَا شعارُ
مواقفُكم لها ألفُ اعتذارٍ ... أما تدرون أنّ العُذرَ عارُ؟
وكم من شامتٍ لمصير شعبٍ ... يقودُ قِطارَ وَحْدَتهِ العِثارُ
أفي الأمس القريب دُعاةُ حقٍ ... ونحن اليومَ أوباشٌ شِرارُ؟
فأينَ حَمِيّةُ الإسلام فيكم ... أمَا لأخوّةِ الدّينِ اعتِبَارُ؟
أما للحق أّنصارٌ وجندٌ ... أما للعُربِ فيها والجوارُ؟
أيا عيدَ الجزائرِ طِبْتَ دوماً ... فلا كربٌ يدومُ ولا حِصارُ
غداً ستعودُ في ثَوبٍ جديدٍ ... وليلُ القهر يعْقُبُهُ نهارُ
وتسمعُ روعةَ التكبير منّا ... تُردّدُه المآذنُ والقِفَارُ(134/49)
المسلمون والعالم
الأكراد في عالم الاضطهاد
د. يوسف الصغير
إن الكُرد أو الأكراد من الشعوب القديمة المتوطنة في المنطقة الاستراتيجية
المعروفة بكردستان، وهم شعب سني بغالبيته الساحقة، وفيهم قليل من الشيعة
والنصيرية واليهود والنصارى، ويسود فيهم النظام القبلي وقد برز منهم قادة عظام
من أشهرهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
لقد كان سقوط دولة الخلافة العثمانية بداية النهاية لعصر ذهبي عاشه الأكراد
كانوا فيه حماة الحدود الشرقية للدولة، فقد كانت مناطقهم محاذية لدولة إيران
الصفوية الشيعية التي كانت في صراع مستمر مع الدولة العثمانية، وأيضاً كانوا
يجاورون مناطق الأرمن النصارى الذين كانوا يدبرون الكثير من الفتن والدسائس
بتحريض من الدولة النصرانية، وكان دور الأكراد كبيراً في التصدي لهذه
التهديدات؛ حيث إنهم شعب محارب وموالٍ للدولة؛ ولهذا فقد تكونت قوات كردية
خاصة تعمل بنشاط في هذه المناطق سواءً في دفع الاعتداءات عبر الحدود أو في
قمع الثورات.
إن شرعية الدولة العثمانية قائمة على أساس أنها مركز الخلافة الإسلامية،
وأن الإسلام هو البوتقة التي تنصهر فيها الأمم والشعوب المنضوية تحت لواء
الدولة؛ ولهذا فقد عملت الدول الغربية على إحياء النعرات القومية وإذكاء جذوتها
في سبيل فصم العرى والروابط التي تربط هذه الشعوب، بل ومن أجل أن يحل
الصراع والتباغض محل التعاون والتآخي، وقد نجحوا في إثارة القومية الطورانية
(التركية) حتى إن جمعية الاتحاد والترقي الماسونية والطورانية في نفس الوقت
استطاعت أن تصل إلى مقاليد الحكم في أواخر الدولة بعد خلع السلطان عبد الحميد
(1908) ، حيث عملت على تطبيق ما يسمى بسياسة (التتريك) مما ساعد على
تنامي القومية العربية ممثلة رد فعل على سياسة (التتريك) ، وقد ساهمت هذه
الجمعية بسياساتها الخرقاء في سقوط الدولة حيث أدخلتها الحرب العالمية ألأولى
بدون مصلحة ظاهرة في ذلك. وقد نتج عن هزيمة الدولة العثمانية سلخ المناطق
العربية وتقاسمها بين فرنسا (سوريا ولبنان) وانجلترا (العراق وفلسطين وشرق
الأردن) ، وقد تعامل الحلفاء بكل عنجهية مع الحكومة العثمانية؛ حيث كانت
جيوش الحلفاء تحتل أجزاء من الدولة بل ويشاركهم في ذلك قوات يونانية تريد
احتلال أجزاء من البر التركي وضمها إلى اليونان، وقد فُرضت معاهدة مُذلة على
الدولة نصت على قيام دولة كردية تشمل الجزء الأكبر من كردستان التركية (معاهدة
سيفر عام 1920م) ولكن حصل ما غيّر خطط الإنجليز؛ حيث إنهم تفاهموا مع أحد
الضباط الذين سبق لهم التعامل معه في سورية أثناء الحرب وهو ينتمي إلى يهود
الدونمة، وبدون مقدمات انسحب الحلفاء من تركيا وبقي اليونانيون وحدهم، وتولى
الضابط (أتاتورك) إثارة حماسة الأتراك ودعاهم لمواجهة اليونان، ولَبِسَ العمامة،
وأمّ العلماء في الصلاة، ودعا إلى الجهاد، وتم دحر اليونانيين ورجع ملكهم مهزوماً
حسيراً، بينما عاد كمال أتاتورك بطلاً بطولة مكنته من إلغاء الخلافة. وبدأ في
إجراءات جعلت الإنجليز ينسون معاهدة سيفر التي تهدف إلى تقطيع أوصال الدولة
جغرافياً، لأن أتاتورك يتولى ليس فقط تحطيم الدولة العثمانية التي كانت يوماً ما
مخيفة، بل وتحطيم الشخصية التركية المسلمة والاستعاضة عنها بشخصية تركية
جديدة لا دينية، متطرفة في تبعيتها للغرب مغلفة ذلك بتطرف قومي تركي شديد
لإرضاء الغرور. لقد قام أتاتورك بأكثر مما يحلم به الإنجليز وبسرعة قياسية حيث
ألغى الخلافة رسمياً، ومنع لبس العمامة والطربوش، واستبدل بهما القبعة، ومنع
الأذان باللغة العربية، بل وفرض الأحرف اللاتينية بدلاً عن العربية، وأخيراً أعلن
أنه لا يعترف بأي قومية أخرى غير التركية. وتم إطلاق يد أتاتورك ليكون الزعيم
الأوحد، وتحول النظام البرلماني العثماني إلى صورة ليس لها معنى، وتم ترسيخ
عبادة الفرد. ولنا أن نتصور مصير من طالبوا بإعادة الخلافة أو إقامة دولة خاصة
بهم؛ إذ كان من يرفض لبس القبعة من العلماء يُعلّق على أعواد المشانق.
إن ملايين الأكراد الذين خضعوا للإسلام وانضووا تحت لوائه ولم يطالبوا
سابقاً بدولة مستقلة لهم؛ قد استحال عليهم تقبّل الوضع الجديد الذي يطلب منهم
الانسلاخ عن مقومات شخصيتهم ونسيان أنهم مسلمون أولاً وأكراد ثانياً، والقبول
بوصف جديد تفتقت عنه عبقرية النظام الأتاتوركي حيث أطلق عليهم: أتراك الجبل.
لقد كانت ثورة الشيخ سعيد هي أول ثورة كردية منظمة، وقد قامت احتجاجاً
على إلغاء الخلافة ومطالبةً بقيام دولة كردية، وكانت دوافع الأكراد في الثورة
مختلطة بين الدين والقومية في وقت ألغيت فيه دولة الخلافة وقامت على أنقاضها
دول وكيانات قومية؛ حيث أقيمت الجمهورية التركية وكيانات: سورية، ولبنان،
والعراق، وتم تجاهل الأكراد، بل قسمت مناطق الأكراد التي كانت خاضعة للدولة
العثمانية بين تركيا والعراق وسورية على النحو الآتي:
تركيا (43%) وإيران (31%) والعراق (18%) وسورية (6%) وأذربيجان
(2%) . أما السكان البالغ عددهم حوالي (30) مليون نسمة فيتوزعون على الشكل
الآتي:
تركيا (50%) وإيران (22%) والعراق (15%) وسورية (4%) وأذربيجان
(2%) والبقية خارج كردستان. وعلى سبيل المثال فإن هناك حوالي نصف مليون
كردي في ألمانيا.
إن التواجد الكردي يتركز في كل من تركيا وإيران والعراق، ولهذا نتوقع أن
أي احتجاجات عنيفة ستكون في هذه البلدان الثلاثة، ومن المفارقات أن كل هذه
الدول مجمعة على عدم قيام كيان كردي في المنطقة ومع ذلك فقد تم استغلال آمال
وطموحات الأكراد أبشع استغلال، في صراعات إقليمية ودولية خلال السنوات
الماضية، وما زال هذا المسلسل مستمراً؛ ففي إيران تعرّض الأكراد للاضطهاد
أيام الحكم القومي الفارسي أيام الشاه، وضاعف منه التنافس الروسي الإنجليزي في
إيران؛ حيث تمكن الروس من تكوين دولة ماركسية في مناطق الأكراد في شمال
إيران (دولة ما هاباد) بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، إلا أنها سرعان ما
سقطت، وتم تثبيت النفوذ الغربي من جديد في إيران.
وقد انخدع الأكراد بشعارات الخميني الإسلامية فقامت الأحزاب الكردية بل
والعلماء الأكراد وعلى رأسهم الشيخ (ملاّ زاده) بتأييد الثورة؛ ولكن المأساة بدأت
مع ثبات الثورة وقيام الحرب الإيرانية العراقية؛ حيث تعرض الأكراد لحرب
دموية من قِبَل الحرس الثوري؛ لأن النشاط العسكري للأحزاب الكردية قد تزايد
بقوة نظراً للمساعدات العراقية في تلك الأيام، ولم يكن غريباً أن ترى صورة
مجموعات كبيرة من الأكراد معصوبي الأعين وجنود الحرس الثوري ينفذون فيهم
أحكام الإعدام، وليس هذا فقط بل قام النظام الرافضي بتنفيذ خطة خبيثة من أجل
تشييع الأكراد؛ حيث سجن أو قتل الكثيرين من علمائهم حتى الذين كان لهم فضل
على الثورة، وقد مات الشيخ (ملاّ زادة) في سجن الخميني مظلوماً؛ حيث شاهد
بنفسه عاقبة من يثق بعهود ومواثيق الروافض وكلامهم المعسول؛ ومما يدمي القلب
أن سجن علماء الأكراد السّنة صاحبه حملة منظمة لتدريس المذهب الشيعي للطلاب
الأكراد، وقد استطاع نظام الخميني إخضاع أكراد إيران والقضاء تقريباً على
الأحزاب الكردية، وملاحقة الزعماء الذين فروا إلى الخارج وتصفيتهم؛ كما حصل
لعبد الرحمن قاسملو؛ حيث اغتالته مجموعة قدمت نفسها له على أنها مجموعة
مفاوضات حكومية، وعقدت معه لقائين وفي الثالث تم استدراجه وقتله عام 1989م.
أما ما يحدث لهم في العراق فهو مثال ما زال حياً لشرح وتوضيح أحوال
الشعب الكردي؛ ففي البداية تردد الإنجليز بعد احتلال العراق في مصير شمال
العراق وقد كادوا أن يسلموه لربيبهم أتاتورك، ولكن اكتشاف البترول في الموصل
وكركوك جعلهم يضمون هذه المناطق للعراق، وكانت الثورات الكردية في تركيا
وإيران وسياسة الحكومة العراقية القومية حافزاً للتململ الكردي في الشمال، وكان
يستغله بعض الزعماء القبليين الذين لهم انتماءات حزبية يسارية، وكان القتال على
الأرض يقوم به زعماء العشائر مع أقلية حزبية منظمة تقوم بالنشاط السياسي، وقد
سيطرت الأحزاب على التوجيه مع مرور الزمن وتعقد المشكلة وتشابك أطرافها؛
فعلى سبيل المثال فإن (ملاّ مصطفى البرزاني) كان زعيماً كردياً يجمع بين الزعامة
القبلية والعلاقة مع كل من يعتقد أنه يحقق أهدافه، ففي فترة مبكرة كان توجهه ذا
طابع ماركسي وقد لجأ إلى موسكو، وحضر بعض المؤتمرات الشيوعية في فترة
الحكم الملكي الموالي للغرب، وبعد ثورة عبد الكريم قاسم وسيطرة الشيوعيين الذين
يغلب على غوغائهم طائفة المعدان الشيعية وقيامهم بنشر الإرهاب الأحمر في
العراق، وارتكابهم مجازر الموصل؛ قامت الحركة الكردية التي كانت ثائرة في
الشمال بالتنسيق مع مجموعة الضباط القوميين الناصريين والبعثيين الذين قاموا
بانقلاب على عبد الكريم قاسم وتصفيته، ولكن الوضع لم يستقر في العراق
واستمرت الثورة في الشمال مع دخول إيران على الخط، ومحاولة إسرائيل التسلل
إلى مناطق الأكراد، وقد تصاعدت الثورة بازدياد المساعدات الإيرانية (أيام الشاه)
والإسرائيلية للبرزاني ولم يوقفها إلا اتفاق العراق مع إيران في الجزائر (1985م) . وتم خنق الثورة الكردية والقضاء عليها إلى حين؛ حيث إن الحرب العراقية
الإيرانية قد دفعت إيران إلى استغلال الورقة الكردية من جديد وبدأت المساعدات
الإيرانية تنهال على أكراد العراق، والمساعدات العراقية تتوالى على أكراد إيران،
وكل دولة تقتل أكرادها، وقد استُعملت ضدهم جميع أنواع الأسلحة حتى الكيماوية
كما حصل في حلبجة؛ ولكن مصيبة أكراد العراق الكبرى حدثت بعد انتهاء الحرب
العراقية الإيرانية وتفرغ صدام المنتصر لهم؛ حيث جرد عليهم حملة شرسة سميت
حملة الأنفال لم تكتف بقتل أكثر من مئة ألف كردي بل قامت بعملية تدمير لجميع
القرى المحاذية للحدود وتهجير من بقي من سكانها إلى جنوب العراق في عمليات
تُذكّر بعمليات ستالين؛ ومع كل هذا فإن الغرب تستّر على هذه الجرائم، ولم يتباك
عليها إلا بعد غزو صدام للكويت ودشن عملية ظاهرها حماية الأكراد وسماها عملية
الراحة؛ حيث بدأت مرحلة جديدة من التدخل الأجنبي عن طريق استغلال الخلافات
المزمنة بين الأحزاب الكردية المتنافسة. وبدأت حرب جديدة أطرافها الرئيسة من
الأكراد وخاصة الحزبين الأساسيين: الحزب الديمقراطي الكردستاني (البرزاني)
والاتحاد الوطني الكردستاني (الطالباني) ، وكان الوضع في كردستان العراق بعد
خروج القوات العراقية منها عقب حرب الخليج مباشرة مأساوياً؛ فعلى الرغم من
التبشير الأمريكي بعصر جديد لأكراد العراق؛ فإن السياسة على الأرض مختلفة
تماماً؛ وإليك أخي القارئ بعض ملامحها:
أثناء حرب الخليج وبعدها مباشرة كانت التصريحات الأمريكية تتوالى بأن
مهمة إسقاط صدام هي مهمة الشعب العراقي، وتم إغراء المعارضة بالثورة وإعلان
منطقتي حظر للطيران في جنوب وشمال العراق، ولكن عندما قام الشيعة في
الجنوب والأكراد في الشمال بثورة عارمة غير منسقة فإن التحالف استثنى
الطائرات العمودية في الحظر الجوي مما مكّن الطيران العراقي من سحق
المحاولتين.
رفضت أمريكا استثناء المناطق الكردية التي هي خارج السلطة الحكومية
العراقية حالياً من الحظر المفروض على العراق، ورفضت المساعدة في بناء
مصفاة صغيرة لاستغلال كميات النفط القليلة الواقعة تحت سلطة الأحزاب الكردية،
بل زاد الأمر سوءاً أن صدام حسين قد فرض من جانبه حصاراً على المناطق
الكردية التي أصبحت تحت الحصار الدولي الشامل للعراق والحصار الداخلي
المفروض عليها.
بعد أن بدأت الاحتكاكات بين البارزاني والطالباني تم الاتفاق على تكوين قوة
مراقبة وفصل مكونة من الأكراد المستقلين وقد رفضت أمريكا دفع مليون دولار
مساهمة في تكاليفها.
كانت تركيا هي المنفذ الأساسي للتبادل الاقتصادي؛ وحيث إن البارزاني
يسيطر على الحدود مع تركيا فإن طالباني الذي يسيطر على المناطق الحدودية مع
إيران كان يطالب باستمرار بتقاسم عوائد الجمارك دون جدوى؛ مما فجر الصراع
العنيف بين الجانبين، وكانت القوات الإيرانية تشارك بصورة مباشرة في المعارك.
بعد هزيمة البارزاني لجأ إلى طلب الدعم من صدام الذي اجتاحت قواته
الشمال، وتم طرد طالباني إلى الحدود مع إيران، وسيطر البارزاني على
السليمانية، وكان الرد الأمريكي إطلاق بضع صواريخ كروز على أهداف في
جنوب العراق!
وقامت مخابرات صدام حسين بتصفية المعارضة العراقية التي وثقت
بالوعود الأمريكية، وكونت المؤتمر الوطني العراقي، وتجمعت في المناطق
الكردية حتى فاجأتها القوات العراقية، وتم تصفية الكثير منهم، وفر البقية عبر
الحدود إلى تركيا، ومعهم حوالي خمسة آلاف كردي يعملون مع المؤسسات الإغاثية
الغربية تطاردهم المخابرات العراقية بتهمة الخيانة؛ مما حرم كردستان من كثير من
الكفاءات الإدارية والعلمية.
بعد حوالي ستة أسابيع فقط من العملية العراقية قامت قوات طالباني
المدعومة من إيران بهجوم جديد استعادت فيه مناطق نفوذها السابقة ومنها مدينة
السليمانية. وهكذا استقرت أوضاع كردستان على عدم استقرار؛ لأن استقرار
كردستان العراق وتطورها يمثل الخطوة الأولى في سبيل تكوين كيان كردي
مرفوض؛ وعلى هذا الأساس نفهم السياسة الأمريكية والإيرانية والتركية معهم.
إن الفراغ الأمني في شمال العراق أوجد بيئة ملائمة لحزب كردي تركي
لالتقاط أنفاسه وتوسيع عملياته بصورة كبيرة، فما هو هذا الحزب، وما هي
ظروف نشأته؟
حزب العمال الكردستاني:
لقد أنشئ هذا الحزب عام 1978م على يد عبد الله أوجلان الكردي الذي يتقن
التركية أكثر من الكردية والذي تخرج في جامعة أنقرة. وقد كانت شعارات الحزب
ماركسية وكان علم الحزب يحتوي على المطرقة والمنجل حتى عام 1995م، وقد
بدأ هذا الحزب عملياته في عام 1984م، وكانت العلاقات السيئة بين تركيا والدول
المحيطة بها أكبر رافد للحزب؛ فقد أقام الحزب أولى قواعده الخارجية في البقاع
اللبناني الخاضع للنفوذ السوري، وكان الدعم السوري الكبير للحزب نابعاً أساساً
من المشاكل العالقة مع تركيا ومن أهمها قضية المياه وقيام تركيا ببناء سدود على
الفرات مع تجاهل احتجاجات العراق وسوريا في هذا الشأن، مع وجود مشكلة
معلقة قديمة ألا وهي لواء الإسكندرونة السوري الذي سلمه الفرنسيون لتركيا. لقد
بلغ التأييد السوري لأوجلان درجة كبيرة حتى إن صور أوجلان ترفع بجانب صور
الأسد في مناطق الأكراد في سورية مثل مدينة القامشلي، وقد رددت وسائل الإعلام
التركية ادعاءها أن الحكومة السورية تسقط الخدمة العسكرية عن الأكراد السوريين
الذين يخدمون مع حزب العمال. كما تقوم اليونان بدفع حوالي (10%) من ميزانية
الحزب كما يزعم الجيش التركي.
أما إيران فإنها تغض الطرف عن نشاطات الحزب على الحدود الإيرانية مع
تركيا والعراق، وكان إخفاق كثير من الحملات التركية على الحزب سببه انسحاب
قوات الحزب أمام القوات التركية ولجوؤها مؤقتاً إلى إيران. إن استمرار الحزب
في نشاط عسكري لمدة خمسة عشر عاماً وسقوط أكثر من (30) ألف قتيل من
الجانبين لا يسوّغه الدعم الخارجي فقط، بل إن الدعم الأساسي هو من الأكراد
سواءً في المهجر أو في الداخل؛ لأنه ينظر إليه أنه المدافع الوحيد والممثل لقضيتهم؛ على الرغم من تبني الطروحات الماركسية البالية. ولقد ساهم ارتفاع معدلات
البطالة بين الشباب الكردي في تركيا، مع اضطهاد رجال الأمن للشباب الأكراد
والشك في ولائهم في انضمام كثير منهم إلى رجال الحزب. وقد ذكر أحد
الصحفيين الغربيين الذي رافق رجال الحزب أن قادتهم يرددون شعارات ماركسية
معلبة، أما الأفراد فإنهم يتحدثون عن قضيتهم القومية، وكما ذكر أحد السياسيين
الأكراد الموالين للحكومة أن خريجي الثانويات الذين لا يدخلون الجامعات ولا
يجدون عملاً هم المَعِين الذي لا ينضب للحزب، وأن تخلف المناطق الكردية وعدم
تنميتها له دور كبير في الشعور بالإحباط والظلم.
السياسة التركية في إدارة الأزمة:
إن السياسة التركية التي رسمها أتاتورك حيال الأكراد لم تتغير منذ أكثر من
سبعين سنة وتتلخص في الآتي:
1-إنكار وجود الأكراد ومن ثَمّ عدم الاعتراف باللغة والثقافة الكردية، وهنا
نذكر طرفة وهي أن جمال عبد الناصر قد أمر إذاعة صوت العرب ببث خاص
للأكراد، مما حمل السفير التركي على تقديم احتجاج شديد اللهجة للرئيس المصري، وكان رده أن سأل السفير التركي: وهل يوجد أكراد في تركيا؟ وبالطبع كان رد
السفير الرسمي: لا.
2-التعامل بقسوة مع أي ثورة يقوم بها الأكراد؛ وقد قام الأكراد بحوالي
(17) تمرداً منذ قيام الدولة الأتاتوركية.
2-اللعب على التناقضات القبلية والعمل على تكوين مليشيات كردية موالية
للحكومة، واستغلال تمادي حزب العمال في عمليات اغتيال حراس القرى الأكراد
من أجل حصر التأييد له في قبائل ومناطق معينة.
4- ملاحقة وإسكات أي نشاط سياسي أو إعلامي كردي في الداخل أو الخارج؛ حيث يقبع عدد كبير من السياسيين والصحفيين الأكراد في السجون التركية.
إن الحل الأمني الذي يحاول عن طريقه الجيش حل الأزمة قد كلف البلاد
خسائر فادحة مادية وبشرية؛ حيث تقدر الخسائر المادية المنظورة بـ (8) بلايين
دولار سنوياً. أما القتلى فأكثر من ثلاثين ألف قتيل، مع إيقاف دورة التنمية في
مناطق جنوب شرق تركيا.
وقد أخفق الجيش في ضبط الوضع مما تطلّب القيام بعمليات كبيرة عبر
الحدود في شمال العراق وعلى طول الحدود التركية الإيرانية والسورية؛ ولكن
هناك عمليات وحشية لم يحن الوقت ليلقي عليها الإعلام الغربي الضوء الكافي؛
لأن النظام الحالي هو الحليف الاستراتيجي في المنطقة لأمريكا وإسرائيل ألا وهي
عملية تدمير وإخلاء مناطق الأكراد. إن هذه العمليات لا تمس حزب العمال
الكردستاني، بل تمس بصورة مباشرة حياة عشرات الألوف من الأكراد الذين
هدمت قراهم وطردوا من مناطقهم وهم يعيشون لاجئين في بلادهم، فقرب مطار
استانبول هناك تجمعات لمنازل عشوائية من الصفيح يسكنها الأكراد المهجرون،
وحتى نتصور حجم المشكلة فإننا نذكر بعضاً مما ورد في تقرير رسمي للبرلمان
التركي أن (900) قرية و (3) آلاف دسكرة قد أخلاها الجيش من سكانها، وقد ذكر
رئيس بلدية تانسلي لصحفي فرنسي تجول في مناطق الأكراد أن ما بين (70) إلى
(80) بالمئة من سكان 374 قرية في محافظته قد تم تهجيرهم، وفي تقرير لجنة
التحقيق البرلمانية أن سكان ديار بكر تضاعف مرتين خلال خمس سنوات، وأن
ثلاثين بالمئة منهم عاطلون عن العمل. إن عملية التهجير قد بدأت عام (1990م)
وهي مستمرة، ولا أظن أنها تقدم حلاً جذرياً لمشكلة أساسها الظلم الذي يزداد
والقهر الذي يتضاعف.
لقد أدت الأحداث الأخيرة إلى إغلاق المعسكرات الكردية في سوريا وخروج
الزعيم أوجلان إلى روسيا حيث رحب به أصدقاؤه القدامى؛ ولكن سلطة الشيوعيين
لم تعد قادرة على تأمين الملجأ، فقد أوصى مجلس الدوما بإعطائه حق اللجوء ولكن
رئيس الحكومة رفض؛ مما اضطره ليس فقط إلى الخروج بل وإلى تغيير سياسة
الحزب في إدارة الصراع؛ حيث توصل إلى قناعة بأن المرحلة القادمة هي مرحلة
صراع سياسي وإعلامي دشنها بسفره إلى إيطاليا وتسليم نفسه إلى سلطاتها وهنا
بدأت مرحلة جديدة؛ فقد فوجئت تركيا التي هددت سوريا بالغزو العسكري إن لم
تسلم أوجلان بأن خروجه من تركيا إلى أوروبا سيضاعف من مشاكلها؛ حيث
سيطرح موضوع الأكراد على بساط البحث في المحافل الأوروبية، وسيكون
تصعيد قضية الأكراد سياسياً وإعلامياً الورقة الأخيرة الرابحة بيد الدول التي لا
ترغب في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أعلن أوجلان تخليه عن الخيار
العسكري ورضاه بحكم ذاتي داخل إطار دولة تركية موحدة، وأبدى استعداده
للمحاكمة الأوربية أو الدولية؛ لأنها فرصة لإحراج تركيا الأتاتوركية وفضح
سياساتها الداخلية.
وأخيراً؛ فإن هناك ملاحظة مهمة وهي سيطرة وبروز الزعماء الذين يرفعون
شعارات الماركسية حتى ولو لم يكونوا مقتنعين بها؛ حيث نجد مثلاً أن ملاّ
مصطفى البارزاني الذي كان يرفع الشعارات الماركسية مات أخيراً في أمريكا،
وكما يقول هو عن نفسه عندما زارته مجموعة من النساء الفلسطينيات ولُمنه على
علاقاته مع اليهود إنه مثل شحاذ أعمى يقف على باب المسجد الجامع في السليمانية؛ فهو يمد يده ولا يدري من يضع النقود فيها. الظروف الحالية لا تلائم الشعارات
السابقة؛ لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وقد
وصل الزعماء إلى قناعة أن الصراع المسلح لن يؤدي إلى كيان كردي بل الأوْلى
هو المطالبة ببعض الحقوق واتخاذ الوسائل السياسية والإعلامية؛ وأرى أن هذه
فرصة ملائمة للإسلاميين لتبني القضية الكردية؛ ولا أشك أن الطرح الإسلامي
المتزن الذي يتبنى مظالم الأكراد سيكون له دور كبير في صحوة إسلامية عارمة في
أوساطهم؛ لأنهم يعيشون مرحلة تغيّر يجب أن تستغل في صالح الإسلام واستنقاذهم
من براثن الجهل والأفكار والمبادئ الهدامة التي ما دخلت عليهم إلا من باب
الإحساس بقضيتهم وعدالتها. وإذا كان أوجلان زعيم الحزب يدعو المؤتمر
الإسلامي للتدخل؛ فهذا دليل يأس من تبني العالم بصدق لقضيتهم، وأن الأمل
الوحيد لهم بعد الله هو عودتهم الصادقة إلى جذورهم الإسلامية؛ ليكتشفوا أن
مشكلتهم هي مشكلة الأتراك والعراقيين؛ لأن الهدف يتحد، والشعور يتماثل عندما
يكون الهمّ هو الإسلام.(134/50)
المسلمون والعالم
مسلمو الفلبين وجهادهم الطويل
سلامات هاشم
كانت المنطقة التي أصبحت معروفة بجنوب الفلبين في الوقت الحاضر منطقة
إسلامية، ولم تكن تابعة للفلبين بصورتها الحالية. وقد دخل الإسلام فيها قبل أن
تتكون الفلبين بمئات السنين. وأثبتت الأبحاث والدراسات وجود عناصر مسلمة في
المنطقة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ومن الثابت تاريخياً أن الإسلام قد انتشر
فيها في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، وتأسست فيها إمارات
إسلامية مستقلة ذات سيادة في القرن الخامس عشر الميلادي، وقد ازدهر الإسلام
في المنطقة زهاء مائة سنة ابتداء من النصف الثاني للقرن الخامس عشر الميلادي
إلى أوائل النصف الثاني للقرن السادس عشر الميلادي حين بدأت الغزوات
الاستعمارية على البلاد.
الغزو الأسباني والأمريكي:
بعد تسعة وعشرين سنة من سقوط آخر دويلة إسلامية، قام الأسبان بغزو
الجزر التي سموها الفلبين فيما بعد، كان ذلك خلال النصف الثاني من القرن
السادس عشر الميلادي، واستولوا على مجموعة جزر (لوزون وفياياس) المعروفة
حالياً بجزر الفلبين الشمالية والوسطى، وسموها الفلبين نسبة إلى الملك فيليب ملك
أسبانيا، وأجبروا سكان الجزر على اعتناق النصرانية بالحديد والنار كما فعلوا في
الأندلس. واعتنق الناس عقيدة التثليث كرهاً وخوفاً من بطش الأسبان، وتحول
سكان الجزر الوثنيون إلى نصارى وأصبحوا رعايا للتاج الأسباني وجنوداً لغزو
الإمارات الإسلامية المستقلة المجاورة في الجنوب ومحاربة المسلمين فيها.
أراد الأسبان أن يوسعوا مستعمراتهم التي أسسوها وأن يبسطوا نفوذهم إلى
الإمارات الإسلامية المستقلة في الجنوب فقاموا بغزوها، وجندوا الفلبينيين
النصارى لغزو المسلمين، وأعلنت الإمارات الإسلامية في بلاد مورو الجهاد للدفاع
عن عقيدة التوحيد وإعلاء كلمة الحق سبحانه وتعالى ونشبت الحرب بين الجانبين
سجالاً واستمرت أكثر من ثلاثة قرون تخللتها فترات راحة قصيرة لكي يتمكن كل
فريق من جمع رجال جدد وإنشاء قوات جديدة استعداداً لجولة أخرى من المعركة،
وتعرف هذه الحروب في التاريخ بـ (حروب مورو) وهي أطول حروب في
التاريخ كما قاله المؤرخ الأمريكي فيك هارلي. ثم أبرمت اتفاقية باريس في 10
ديسمبر 1898م بين أمريكا وأسبانيا، وبموجبها تنازلت أسبانيا عن الفلبين لصالح
أمريكا مقابل مبلغ تدفعه الأخيرة للأولى، وقدره (20) مليون دولار أمريكي، وجاء
الأمريكيون إلى المنطقة ليحلوا محل الأسبان وأرادوا أن يبسطوا نفوذهم إلى
الإمارات الإسلامية المستقلة في الجنوب التي لم تخضع لأسبانيا، وأعلن المسلمون
الجهاد ضد أمريكا دفاعاً عن العقيدة ولإعلاء كلمة التوحيد ودارت الحرب بين
الجانبين واستمرت أربعين عاماً تقريباً.
وما إن اندلعت الحرب العالمية الثانية حتى ازدادت مشكلة مسلمي مورو تعقيداً؛ لأن الهجوم الياباني على الفلبين حيث المستعمرة الأمريكية وقواعدها العسكرية
شمل بلاد مورو في الجنوب.
وانتهت الحرب بهزيمة اليابان وظلت أمريكا تحتفظ بمستعمرتها الفلبين،
وأصبحت لها يد عليا في المجال العسكري في المنطقة بما فيها بلاد مورو.
ضم بلاد مورو إلى الفلبين:
في عام 1946م منحت أمريكا الفلبين استقلالها، ودبرت الفلبين ضم بلاد
مورو إليها، وتم لها ذلك بمساعدة أمريكا. وبعد ضمها ظلماً وعدواناً بدافع الجشع
الاستعماري سموها غدراً (جنوب الفلبين) .
وقد عارض مسلمو مورو ضم بلادهم معارضة شديدة، ولكن لم يحدث صراع
دموي بينهم وبين الحكومة الفلبينية فوراً؛ لأن الجانبين كانا يعانيان من متاعب
الحرب العالمية الثانية التي تركت البلاد في دمار وفقر شديد، وانشغل الناس في
البحث عن القوت والملبس والمأوى.
مخططات الفلبين لاغتصاب أرض مورو:
لم يكن هناك نصارى في بلاد مورو قبل إلحاقها بالفلبين سوى جماعة قليلة
جداً، وقد عمدت الحكومة الفلبينية إلى إنشاء مستوطنات نصرانية في بلاد المسلمين
وقامت بتهجير النصارى إليها.
كما وضعت خطة لاحتكار ثروات مناطق المسلمين دون أن تعود أي فائدة
منها إلى أصحابها، كما عملت على انتزاع السلطات المحلية من أيدي المسلمين،
وحاولت القضاء على الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية.
وبطبيعة الحال لم يرض المسلمون بهذه العمليات، وعارضوها بشدة،
وطالبوا الحكومة الفلبينية بوقف الهجرات النصرانية وعملية الاستيطان في بلادهم،
ووقف توجيه البلاد لصالح المستوطنين النصارى، ووقف انتزاع سلطات المسلمين. وكان رد الحكومة الفلبينية على هذه المطالب استخدام القوة والعنف والإرهاب
لإخضاع المسلمين لما تريد.
المقاومة الإسلامية:
انتشر الظلم والفساد والطغيان وتفشت الجرائم ضد مسلمي مورو، وقامت
العناصر النصرانية المدعمة من قبل الحكومة باعتداءات متواصلة ومتكررة على
القرى الإسلامية، وأحرقوا بيوت المسلمين ومساجدهم ومدارسهم، وتشرد المسلمون
فأدركوا أن الخطر الحقيقي محيط بهم فعلاً، وأن حياتهم مهددة، وأن الأمر ليس
مجرد استيطان واحتكار ثروات البلاد وانتزاع السلطات المحلية من أيدي المسلمين؛ وإنما هي خطة مدبرة لإبادتهم أو طردهم من أرضهم. ولم يجد المسلمون ملجأ
سوى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وأرضهم.
ومن هنا قامت الحرب بينهم وبين الحكومة الفلبينية التي أنشأها الاستعمار
وساعدها في ضم بلاد المسلمين، وكانت بداية الحرب عام 1970م ولا زالت
مستمرة حتى الآن. أي إن الحرب بين مسلمي مورو والحكومة الفلبينية قد مضى
عليها الآن ثمانية وعشرون عاماً.
ثم شهد المسلمون خلال تلك السنوات الطويلة ألواناً من العنف والإرهاب
والاضطهاد والمكر والخداع؛ فبعد أن أخفقت محاولات الفلبين في القضاء على
المسلمين أو إخماد حركتهم المسلحة بالإرهاب أو تخويف ضعاف النفوس لجأت إلى
المكر والخداع، ومنح الأموال والمناصب لشراء ضعاف الإيمان.
إخفاق سياسات العنف الحكومي:
لم تحقق الفلبين هدفها عن طريق العنف والإرهاب، ولا عن طريق المكر
والخداع؛ فلجأت إلى الحرب الباردة، والمفاوضات السياسية، وهي تحمل وراءها
المكر والخداع أيضاً ولكن بشكل آخر. ورؤية نتائج المفاوضات تختلف؛
فالسطحيون من جانب الحكومة يرون أنها لصالحهم، والذين ينظرون إلى القضية
في عمقها يعلمون أن نتائج المفاوضات ليست لصالح الحكومة.
والسطحيون من المسلمين داخل البلاد وخارجها يعتقدون أن نتائج المفاوضات
لصالح المسلمين وقضيتهم المصيرية، وأما المسلمون الذين يفهمون الوضع
ويدركون عمق المسألة فيعلمون أن المفاوضات ونتائجها لعبة سياسية استهدفت
مصالح شخصية قبل المصالح الوطنية.
أهم أحداث الحرب الباردة:
فيما يلي عرض موجز لأهم الأحداث والتطورات منذ بداية الحرب الباردة
وحتى الآن:
أولاً: التوقيع على اتفاقية طرابلس المعروفة، في ديسمبر عام 1976م، بين
الحكومة الفلبينية وجبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة نور مسواري، ولم تنفذ
الاتفاقية حتى الآن وبقيت حبراً على ورق.
ثانياً: انقسام الحركة المسلحة إلى جبهتين الوطنية والإسلامية؛ وقوات جبهة
تحرير مورو الوطنية بقيادة مسواري، وظهرت جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة
سلامات هاشم.
جذور انقسام المجاهدين:
زعم الأعداء أن الانقسام كان بسبب التنافس على القيادة فضلاً عن الخلاف
القبلي والإقليمي، ووافق على هذا المسلمون السطحيون والمشغولون بشؤونهم
الخاصة، والذين ليس لديهم وقت لتقصي الحقائق، واكتفوا بأخذ رأي الأعداء؛
وهذا شأن كثير من المسلمين وللأسف؛ إذ يأخذون بدعايات الأعداء المكتوبة
والمسموعة والمرئية، وإن كان هدف هذه الدعايات ضرب الإسلام وتضليل
المسلمين.
وأما المسلمون الذين فهموا حقيقة الأمر فهم قليلون جداً، ومغلوبون على
أمرهم، لا حول لهم ولا قوة، ولكنهم مؤمنون صادقون في إيمانهم؛ وبسبب هذا
الإيمان الصادق يعلمون حقيقة الصراع بين الحق والباطل وبين الإسلاميين
والعلمانيين.
وبعد صبر طويل ومعاناة شديدة تبين الحق وأدرك المسلمون جدوى قيام جبهة
تحرير مورو الإسلامية التي تتمسك بعقيدة السلف الصالح وهي عقيدة النبي -صلى
الله عليه وسلم-وأصحابه رضي الله عنهم، وتتجه اتجاهاً إسلامياً مستقيماً لا يميل
إلى اليمين ولا إلى اليسار، وتقود الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وهي
خير للمسلمين، وحتى الإخوة في جبهة تحرير مورو الوطنية يعترفون بأن قيام
جبهة تحرير مورو الإسلامية خير للقضية ولشعبنا المسلم المظلوم، وبدأ التنسيق
معهم على مستوى الأفراد، وسوف يتم قريباً جداً إن شاء الله التنسيق على مستوى
التنظيم.
ثالثاً: إنشاء ما يسمى بالحكم الذاتي الإقليمي في منطقة منداناو المسلمة.
أُنشِئ هذا الجهاز خلال إدارة أكينو، ولم يصدق أحد أن هذا هو الحل
الصحيح للمشكلة، ولم يهتم به أحد سوى السياسيين الفاسدين الذين لا همّ لهم سوى
إشباع جشعهم واستخدامه لسرقة أموال الدولة والشعب واحتكار ثروات البلاد.
رابعاً: إنشاء ما يسمى (مجلس جنوب الفلبين للسلام والتنمية) :
لم يرَ أحد منذ البداية أن إنشاء هذا المجلس هو الحل، ولم يحقق المجلس
شيئاً منذ إنشائه في ديسمبر عام 1996م، واعترف الإخوة في جبهة مورو الوطنية
بأنهم وقعوا في فخ، علماً بأن تشكيل المجلس هو ما اتّفِق عليه في المفاوضات بين
الحكومة الفلبينية وجبهة مسواري الوطنية. والمجلس يفتقد الأجهزة الحكومية الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن ثم فهو ليس حكومة، وهو خال من السلطة
العسكرية والأمنية؛ فلا حول له ولا قوة.
خامساً: تولى الأخ نور مسواري منصب محافظ لما يسمى بـ (الحكم الذاتي
الإقليمي لمنطقة مندناو المسلمة) ، ولا نريد أن نعلق على هذا الأمر، ولكن نذكر
قول بعض المراقبين السياسيين الذين شبهوا الأخ مسواري براكب سيارة لا محرك
لها.
سادساً: برزت جبهة تحرير مورو الإسلامية ممثلة أكبرَ قوة معارضة
للحكومة كما تقول الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية الفلبينية إضافة
إلى ظهور الجهاد وحدوث مواجهات مسلحة بين القوات المسلحة الفلبينية
والمجاهدين التي اشتدت وتصاعدت في أواسط التسعينيات وهي مستمرة حتى الآن، ولم تشهد المنطقة حرباً مثلها إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، وأسفرت
المواجهات عن تحرير بعض من أراضي المسلمين التي اغتصبتها الحكومة الفلبينية.
سابعاً: تحقق وجود مناطق محررة يطبق فيها حكم الله؛ إذ لم يتمكن
المسلمون من تحرير أراضيهم التي ضُمت إلى الفلبين في عام 1949م إلا في هذه
السنوات، وفي التسعينيات بالذات، فقد استطاع المجاهدون بعون الله وفضله أن
يحرروا بعض المناطق الإسلامية التي اغتصبتها حكومة الفلبين، وأقامت الجبهة
فيها دولة مورو الإسلامية، وتتوافر فيها العناصر التي تتكون منها الدولة طبقاً
لتعريف الدولة في الاصطلاح القانوني، ولا ينقصها إلا الاعتراف الدولي، ولا
نطالب بهذا إلا بعد تحرير كافة بلاد مورو التي كانت مستقلة وذات سيادة قبل أن
تغتصبها الفلبين ظلماً وغدراً وخيانة.
ثامناً: المفاوضات بين جبهة مورو الإسلامية والحكومة الفلبينية:
دعت الحكومة الفلبينية جبهة تحرير مورو الإسلامية إلى المفاوضات
فاستجابت لذلك وبدأت المفاوضات بين الجانبين في 7/1/ 1997م ومثل كلا
الفريقين لجنة فنية مكونة من الخبراء في شؤون المفاوضات.
وكانت الحكومة الفلبينية تطالب جبهة تحرير مورو الإسلامية بأن تكون
المفاوضات في إطار الدستور الفلبيني، ورفضنا ذلك رفضاً باتاً وأعلنا أن جبهة
تحرير مورو الإسلامية لا تعترف بالدستور الفلبيني، وسكتت الحكومة واستمرت
المفاوضات، ومضى عليها أكثر من واحد وعشرين شهراً، وما زالت المباحثات
تدور حول نظام وقف إطلاق النار.
استمرار المواجهات:
بلغ عدد المعارك والمواجهات العسكرية بين المجاهدين والقوات المسلحة
الفلبينية خلال المفاوضات التي استمرت أكثر من واحد وعشرين شهراً واحداً
وخمسين مواجهة على الحدود المتاخمة للمناطق الإسلامية المحررة بين محافظتي
لاناو الجنوبية وماجنداناو، وما يقرب إلى عشرين معركة ومواجهة مسلحة في
أماكن مختلفة في محافظة كوتباتو الجنوبية، وبلدية شريف أجواك، ومحافظتي
زامبوانجا الشمالية والجنوبية، وجزيرة سيلان، وغيرها. وقتل خلالها مئات من
الجنود الصليبيين، ودمرت عشرات من دباباتهم ومصفحاتهم، كما استشهد عدد من
المجاهدين، وكانت المعارك المتكررة شديدة وعنيفة.
وعلى أي حال فقد اتفق الجانبان على استمرار المفاوضات، وشهد على هذا
الاتفاق عدد من المسؤولين من الجانبين، كما شهد عليه بعض السفراء المسلمين.
وستستأنف المفاوضات في الخامس عشر من شهر اكتوبر (1998م) لمناقشة طلب
جبهة مورو الإسلامية بأن تعترف الحكومة بالمناطق الإسلامية المحررة التي تديرها
الجبهة الإسلامية، وتعتبرها دولة إسلامية، والكلمة الأخيرة في شأن المفاوضات أن
مطلب جبهة تحرير مورو الإسلامية هو الاستقلال الكامل للمناطق الإسلامية التي
ضمتها الفلبين، وهذا الموقف لا يقبل المساومات والتنازلات إن شاء الله والحكومة
الفلبينية تعلم هذا.
تاسعاً: دور المساجد في نشر العقيدة الإسلامية والتعاليم الإسلامية الأصيلة:
في أوائل السبعينيات وفي السنوات الأولى للحرب بين المسلمين والحكومة
الفلبينية كان من ضمن أهداف الجنود الصليبيين تدمير المساجد أو حرقها وتم لهم
حرق المئات منها، ولم يبق إلا القليل.
وبعد أن تمكن مجاهدو جبهة مورو الإسلامية، بعون الله وفضله من الوقوف
بوجه الحملة الصليبية الشرسة، ومن وقف الزحف الصليبي إلى أعماق بلاد
المسلمين، وبعد أن استطاع المجاهدون بفضل الله وإرادته أن يحرروا بعض
المناطق الإسلامية؛ تحسن الوضع؛ حيث شعر الصليبيون أن المسلمين امتلكوا قوة
عسكرية لا يستهان بها؛ فتوقفوا عن أعمالهم الوحشية، ونشاطاتهم البربرية. وفي
الوقت نفسه اهتمت الدول العربية والإسلامية بإقامة مساجد ومدارس في البلاد
الإسلامية النائية؛ فكثرت المساجد والمدارس في منطقة مورو، ولعبت هذه
المساجد دوراً كبيراً في نشر العقيدة الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف؛ حيث أصبحت
مراكز لحلقات الدروس الدينية والعلمية.
ولا يخفى دور المساجد في تقوية روح الجهاد والصبر والقوة النفسية، وفي
تثبيت معنى الأخوة الإسلامية والعقيدة الصحيحة وتوضيح معالم الدين الحنيف.(134/58)
المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000
الحلقة الأولى
ماذا لو هُدم الأقصى؟
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من عام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
- البيان-
هناك شواهد عديدة تدل على أن قضية المسجد الأقصى ستكون نقطة المركز
وبؤرة الاهتمام في العديد من القضايا الدينية، وما يترتب عليها من نشاطات سياسية
وعسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وليس هذا من قبيل الأمور المؤجلة إلى مدىً
بعيد؛ بل إن هذا الاهتمام سيفرض نفسه في المستقبل القريب المنظور، أي كلما
اقترب الزمان من العام (2000) لميلاد المسيح عليه السلام.
وهذا الاهتمام أو الانشغال بل الانهماك بأمر المسجد الأقصى لن يكون على
مستوى سكان الأرض المقدسة وحدهم، بل ستتسع دائرته لتشكل محيطاً يلف مئات
الملايين من سكان العالم مسلمين ونصارى ويهود! .
هل هذه مبالغة؟ ! لا؛ بل هي الحقائق التي لا ينبغي أن نهملها أو نتجاهلها،
وتدل عليها الأسباب الآتية:
أولاً: اليهود في العالم [1] وليس في (إسرائيل) فقط يسابقون عقارب الساعة
الآن لهدم المسجد الأقصى قبل أن يحل العام (2000) ؛ الذي يصادف عندهم ذكرى
مرور ثلاثة آلاف عام على بناء مدينة القدس وتأسيس (مملكة إسرائيل الأولى) .
وعندما تحل هذه الذكرى تكون دورة الزمان قد اكتملت عندهم، ليبدأ زمان جديد
تشير إليه توراتهم وهو زمان الهيمنة اليهودية، ولن يكون لهذه الهيمنة أي صفة مع
استمرار غياب قبلة اليهود التي هدمت قبل ألفي عام (هيكل سليمان) [2] ؛ الذي
انطلقت منه دعوات كل أنبياء بني إسرائيل، والذي ستنطلق منه كما يعتقدون دعوة
نبي اليهود المنتظر، الذي يعتقدون أن بناء الهيكل سيعجل خروجه!
ثانياً: ملايين النصارى في العالم يتزايد الاعتقاد بينهم بفعل الجماعات
(الأصولية) النصرانية بأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام على وشك العودة مع
بدء الألفية الثالثة، وهم يعتقدون أيضاً أن الهيكل سيكون منطلقاً لدعوته في المرة
الثانية كما كان شأنه في المرة الأولى، فهكذا يفهمون الإنجيل، وهكذا يفسرون
التوراة التي يؤمنون بها مع الإنجيل ...
ثالثاً: أما المسلمون وهم يبلغون أكثر من ربع سكان العالم فلن يقفوا مكتوفي
الأيدي، وهم يرون معاول الحقد اليهودي تمتد إلى المكان المقدس الثالث عندهم؛
الذي صُفّت فيه قَدَما نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي بجميع الأنبياء في
ليلة الإسراء.
ومن جهة أخرى، فإن الجو المكفهر بالأحداث التي ستبدو جساماً، سيحرك
في الناس روحاً من اليقظة المنفعلة والمندفعة بالعواطف، والمستندة في الوقت ذاته
إلى البحث في المجهولات والغيبيات عن تفسير لما يحدث من وجهة نظر إسلامية؛
لتحشد على أساسه طاقات متحفزة للذود عن الذات والهوية.
لكل هذا؛ فالمتصور أن هناك حلبة صراع حقيقية وعالمية، يمكن أن تنصب
على ساحات الأرض المقدسة، إذا ما أقدم اليهود بممالأة من النصارى على تنفيذ
أكبر حدث يمكن أن يُختم به القرن العشرون، وهو: هدم المسجد الأقصى، وهو
حدث يعترف اليهود أنفسهم بأنه سيكون بوابة لأحداث كبرى يمكن أن تفتح أمامهم
صراعات لا يعرفون لها مدىً.
هل هذه أساطير؟ !
سيقول قوم: هذه أساطير تعشش في أدمغة طوائف محدودة من غلاة
النصارى وعتاة اليهود. نقول: نعم! هي أساطير، ولكن من قال: إن الكفار من
أهل الكتاب تخلوا عن الأساطير قديماً أو حديثاً؟ ! واليهود بوجه خاص: هل
وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلو في الأرض إلا بدفع نفسي قوي من وحي
الأساطير التي ترجمت إلى برامج للعمل وخطط للتحرك؟ ! (دولة إسرائيل) كانت
أسطورة، وعاصمتها كانت أسطورة، وقوتها وجيشها بُنيا على أسس من وحي
الأساطير، بل إن خطوات اليهود الوئيدة للسيطرة على العالم من خلال السيطرة
على أعظم قوة فيه لا تحركها إلا الأساطير. ولكنْ هناك فرق بين من يتحرك
بالأساطير إلى عالم الحقيقة، ومن يتهرب من الحقائق إلى عالم الأساطير؟
الأمر جاد.. والنوايا مبيتة ... والخطوات تتسارع رغم سيرها على درب
الأساطير، وعلى المسلمين أن يعوا أن هدم المسجد الأقصى صار عند يهود العالم
فريضة الوقت، ومسؤولية الجيل، وهو فرصة العمر السانحة لأول مرة في التاريخ
منذ ألفي عام.
فما الذي يجب علينا فعله؟ .. وقبل ذلك ما الذي يجب علينا فهمه؟
لتجلية خلفيات هذا الأمر، فإن هناك أسئلة لا بد من طرحها، ولا مناص من
الإجابة عليها ومصارحة النفس بها:
هل يمكن أن ينجح اليهود في هدم المسجد الأقصى فعلاً؟ ! .. وماذا لو هُدم؟
وما هو واجب المسلمين حتى لا يقع المحذور؟ ! وما هو المتوقع من الأعداء لو
نُفذت المؤامرة؟ ! ... وهل يمكن أن يتراجع اليهود عن تحقيق هذا الهدف؟
أسئلة ينبغي التحضير لها من الآن، قبل أن تفجؤنا الحوادث ويتجاوزنا
الزمان.
أولاً: هل يمكن أن ينجح اليهود فعلاً في هدم المسجد الأقصى؟
ليس بين أيدينا نص معصوم يدل على أن هدم المسجد الأقصى ممتنع قدراً؛
وليس شرطاً أن ترد أحاديث الفتن بكل ما يقع منها؛ فكثير من الحوادث الجسام
وقعت دون أن تذكر في آية أو ترد في حديث، وبعضها أخبر عنه النبي -صلى الله
عليه وسلم-ولكن حَفِظَ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه [3] .
إن الكعبة نفسها قد هُدمت من قبل في زمن الحجاج دون أن يكون لذلك ذكر
في محكم آية أو نص حديث. والحجر الأسود قد نُزع من الكعبة في زمن القرامطة
ونقل إلى البحرين ليظل هناك سنين عدداً قبل أن يُعاد، ولم تأت الإشارة إلى ذلك
في كتاب ولا سنة؛ إذن فليس لأحد أن يحتج بعدم الورود على عدم الوقوع؛ لأن
الأمر قد يُسَطّر في القدر، ولا يُذكر في الكتب.
والذي يحكم الأمور عند ذلك هو قانون الأسباب والمسببات الذي يجري به
قدر الله بما يشاء وقوعه. وعلى حسب مجريات الأمور المشاهدة؛ فإنها شاهدة
بدأب اليهود وأخذهم بكل الأسباب، في الوقت الذي يريد المسلمون فيه أن يعطلوا
قانون الأسباب؛ وفي ظل ذلك لا نظن أن سنن الله تعالى ستحابي أحداً؛ فماذا فعل
المسلمون في العالم كله وهم يبلغون ملياراً أو يزيد؟ ماذا فعلوا عبر ما يزيد على
ثلاثين عاماً، لكي يستنقذوا مقدساتهم من عصابة الملايين الأربعة التي زرعت
نفسها بينهم، ثم فرضت وجودها عليهم؟
إن قدر الأسباب لن يحابينا ونحن نجافيه، إلا إن أراد الله أمراً، فقدّر بسببه
شأناً إلهياً محضاً ينقذ المسجد ويعطل أسباب الكيد ضده، كما رد الله أصحاب الفيل
عن هدم الكعبة قبل الإسلام ... ولكن المشكلة أن هذا أيضاً أمر لم يأت به خبر
معصوم، فيتكئ عليه المتكئون.
ثانياً: ماذا لو هدم الأقصى؟
أتصور أن فئاماً من الناس سيفتنون لو وقع الحدث، وسيقولون: كيف هذا
والمسجد الأقصى قد نزل بشأنه القرآن، وتواترت بفضله الأحاديث، كيف يتحول
إلى معبد يهودي؟ وينبغي أن يقال لهؤلاء: إن المسجد الأقصى قد مرت عليه
السنون في مرحلة من التاريخ وصلبان النصارى مرفوعة فوق مآذنه، أيام كان
الاحتلال الصليبي، وقد كان مسجداً إذ ذاك، ولم تنتف عنه صفته الشرعية، ولا
خصوصياته المسجدية؛ والذي أصابه لم يتعدّ التلوث بأوضار التثليث، ثم عاد
لأهل التوحيد عزيزاً مطهّراً، لمّا عادوا إلى التوحيد.
فلا بد أن يُعلم أن أرض المسجد مقدسة، ولها أحكامها الشرعية من حيث
مضاعفة أجور الصلوات فيها، واستحباب شد الرحال إليها، سواء أكان البناء
موجوداً أو غير موجود؛ فالساحة نفسها سُميت مسجداً وقت تنزّل القرآن بآيات
الإسراء، ولم يكن ثمة مسجد مقام. إن المكان أخذ حكم المسجد قبل أن يُبنى مسجداً
في الإسلام، وصلى فيه إمام الأنبياء بأولي العزم من الأنبياء في أرض فضاء ...
فحقائق التاريخ وقصص الأنبياء تدل على أن المسجد الأقصى لم يبنَ مرة أخرى
بعد هدمه الثاني بُعيد زمان عيسى عليه السلام حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام
ولما تم الفتح، جاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه كعب الأحبار رضي الله
عنهما ليدله على موضع مصلى داود عليه السلام ثم بنى هناك مسجداً متواضعاً من
خشب [4] ، فلما جاء عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، أعاد بناءه على الهيئة التي
هو عليها الآن. وقد حافظ المسلمون على مر العصور على هذه الأمانة، حتى جاء
عصر تضييع الأمانة الذي نعيشه، فوقع المسجد في الأسر، وها هو يتهدد بالهدم.
وهنا أمر تنبغي الإشارة إليه، وهو ما ورد في الحديث الصحيح بشأن منع
الدجال من دخول مساجد أربعة، منها المسجد الأقصى، وذلك في قوله: (..
وعلامته: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي
أربعة مساجد: الكعبة، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، والطور) [5] . وهذا
يحتمل أن يظل المسجد كما هو، بحفظ الله وحده، أو أنه سيُعاد كما كان إذا أصابه
مكروه لا قدر الله أو أن المراد بالمسجد أرض المسجد كما في آية الإسراء.
* ما الواجب على المسلمين حتى يُعذِروا إلى الله؟
لا أبالغ إن قلت: إن الفتاوى بذلك قد أخذت أكبر حيز من الإجماع في
الفتاوى السياسية بين علماء المسلمين في العالم، منذ أن قدم اليهود إلى القدس. فقد
بُحّت أصوات العلماء بالنداء لإنقاذ المسجد الأقصى.. ولكن كم أضاع المنافقون
فرصاً لجمع الأمة وتجييشها ضد عدوها المصيري، لتقاتله في سبيل الله تحت راية
القرآن الخالد، كما قاتلها هذا العدو في سبيل الشيطان تحت راية التوراة المحرفة.
والذي يمكن أن يقال الآن للمسلمين خاصة وعامة أن يتخففوا من الإثم الواقع
عليهم بتدارك الأمر في حدود المستطاع وهو كثير لعل الله تعالى يبارك في تلك
الجهود، ويقمع كيد اليهود؛ فدعمُ الحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين هو
البداية المستطاعة الآن، حتى يأذن الله بأن تدب روح الغيرة في عروق كثير ممن
ولاّهم الله أمر هذه الأمة المبتلاة.
* رابعاً: ما هو المتوقع إن وقع المحذور؟
المتوقع أن يبدأ اليهود فوراً في الخطوات العملية المعدة سلفاً في مشروع البناء، بل الإسراع في الانتهاء من إقامة المعبد اليهودي مكان المسجد الإسلامي،
ويخطئ من يظن أن اليهود ينتظرون الأقدار مثلنا حتى تتحفهم بحدث سعيد يعيد
مجداً ويقيم ملكاً، لا ... إن اليهود يغالبون السنن، وكأنهم يريدون أن يصنعوا
الأقدار صنعاً، ويستخرجوها استخراجاً من مكنون الغيب ومستور القضاء.
لهذا تراهم لا يتعاملون مع الأمور بقدريتنا نحن، ولا يتركون شيئاً
للمصادفات.
ويشار هنا إلى أنهم قد بدأوا بالفعل في تهيئة الظروف على أرض الواقع
تحسباً للحظة المناسبة؛ ففيما يتعلق بأمر المسجد الأقصى خاصة؛ فإن الدلائل
تتكاثر على تعاظم الجدية لديهم في الإقدام على مشروع الهدم وما بعده، وهذه أبرز
الشواهد على ذلك:
تضاعف أعداد التنظيمات والجماعات الساعية والمتعاونة للهدم ثم البناء:
في الأرض المغتصبة الآن (120) جماعة، تصنف في داخل إسرائيل نفسها
بأنها (متطرفة) [6] ومن هذه الجماعات ما لا يقل عن خمسة وعشرين جماعة
متخصصة في المساعي الرامية لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل.
وتشكل بعض هذه الجماعات تحالفات فيما بينها، ومن أبرزها ما يسمى:
(رابطة القدس) التي تضم عدداً من التجمعات اليهودية المتشددة، وكانت هذه
الرابطة هي السبب في إقناع بنيامين نتنياهو بافتتاح (النفق) المار تحت أساسات
المسجد الأقصى عام 1417هـ 1996م.
وتُظهر استجابة (نتنياهو) لمطالب تلك الجماعات استعداده للمضي قدماً في
تنفيذ ما تراه الجماعات الدينية واجباً.
وبات من المعروف أن تلك الجماعات لا تكتفي بالمطالب والمناشدات، بل
تلجأ بين الحين والآخر للقيام بأعمال عدائية واستفزازية ضد المسجد الأقصى،
يغلب على الظن أنها تريد بها جس النبض لردود الأفعال التي يمكن أن تحدث لو
قامت بالعمل الأخير.
وقد قامت تلك الجماعات منذ عام 1967م الذي احتل اليهود فيه القدس وحتى
العام 1990م بأكثر من أربعين عملاً عدائياً ضد المسجد الأقصى، وقد يُظن أن ما
يسمى بـ (عمليات السلام) بعد هذا التاريخ قد خففت من حدة المشاعر اليهودية
العدائية تجاه جيرانهم العرب (المسالمين) ، ولكن الحقيقة أن هذا الوهم تكذبه الوقائع؛ فمنذ أن أُبرمت اتفاقيات مدريد وأوسلو، وأعمال الاعتداء تزداد وتيرتها؛ حتى
بلغت قريباً من مئة محاولة، منها 72 محاولة منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى
منتصف عام 1998م.
لقد بدأت الصحف العالمية و (الإسرائيلية) ترصد تلك الظاهرة التي تتحول مع
مرور الوقت إلى نمط عنيف متعجل متعجرف لا يريد أن يتوقف، فكشفت مجلة
(فورن ريبورت) البريطانية في الأسبوع الأول من سبتمبر عام 1998م، أن جهاز
(الشاباك الإسرائيلي) لديه معلومات وثيقة بأن المتعصبين اليهود المنخرطين في
تنظيمات سرية يدبرون لاعتداءات قريبة ونهائية على المسجد الأقصى.
ونشرت جريدة (معاريف) (الإسرائيلية) في (30/8/98) مقالاً بعنوان:
(نقاش طارئ تحسباً لتفجير المسجد الأقصى) جاء فيه: (يجري نقاش طارئ حول
تحذيرات من الاعتداء على المسجد الأقصى، يشارك فيه رئيس الوزراء وكبار قادة
الدولة، وجاء اللقاء على أثر أنباء قوية عن احتمالات وقوع مصادمات بين
الإسلاميين الفلسطينيين ومتشددين يهود في ساحة المسجد الأقصى تنتهي بعواقب
وخيمة) .
والسعار اليهودي المتلهف نحو هدم الأقصى ليس مقصوراً على يهود
(إسرائيليين) ، ولا حتى يهود من الخارج؛ بل إن نصارى متدينين أيضاً يقدمون
من خارج إسرائيل للمشاركة في هذه المساعي الحثيثة والخبيثة، ومن ذلك ما أفادت
به صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية في عددها الصادر في 3/9/1998م أن
(السلطات الإسرائيلية) ألقت القبض على سائحين إيطاليين (نصرانيين) قدما لـ
(إسرائيل) لتنفيذ (مهمة مقدسة) في المدينة الأبدية، قبل أن تبدأ الألفية الثالثة!
وقد نشرت جريدة الحياة في (24/11/98م) أن اللجنة الوزارية لشؤون القدس
التي يرأسها بنيامين نتنياهو، بحثت الأخطار المتزايدة التي قد تنجم عن شن
المتطرفين اليهود هجمات على المساجد الإسلامية، وإمكان اعتداء متشددين
(مسيحيين) على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة بمناسبة انتهاء الألفية الثانية.
وقال (يائير يتسحاقي) قائد الشرطة (الإسرائيلية) في القدس: إن أعضاء من طائفة
مسيحية من (دينفر) يطلق عليها: (المسيحيون الجادون) وصلوا إلى إسرائيل بعد
أن باعوا مقتنياتهم في بلادهم متوجهين إلى إسرائيل لتنفيذ أوامر من زعيمهم (مونت
ميلر) الذي أعلن أنه سيموت في القدس قريباً جداً! !
وأشار الوزير (الإسرائيلي) إلى أن الحكومة (الإسرائيلية) بدأت تتعامل مع
نشاطات مثل تلك الجماعات التي تكثف نشاطها مع اقتراب العام 2000 [7] .
وقد شكل جهاز الشاباك (الإسرائيلي) (الأمن الداخلي) في الفترة الأخيرة قسماً
خاصاً يعكف على العمل ليحول دون وصول النتظيمات السرية اليهودية إلى تحقيق
مرادها في هدم الأقصى في وقت غير مناسب، قد يحرج الدولة اليهودية، وفي هذا
الشأن كتب الصحفي (الإسرائيلي) (يوسي ليفي) مقالاً في صحيفة معاريف
(29/8/ 98م) جاء فيه: (القاعدة التحتية للتنظيمات المتشددة موجودة حسب تقديرات قوات الأمن؛ والمعلومات التي بحوزتها تقول إن الاتصالات بينها تتم بالوسائل والطرق السرية، والتنسيق بينها موجود، والمشكلة القوية التي تواجه أجهزة الأمن هي التغلغل في هذه المجموعات؛ لأنها مجموعات ذات معتقدات أيديولوجية متعصبة مرتبطة بعواطف دينية حادة، بحيث يعرف كل واحد من أعضائها الآخر؛ بما لا يسمح باختراقها) .
الحكومة الإسرائيلية تريد إذن أن تستخدم تلك الجماعات بتوازن دقيق، فهي
لا تخالفها في الهدف، ولكن ربما تخالفها في الوسائل والبدائل وأوقات التنفيذ.
لكن كل هذا لا يخفي مباركتها واحتضانها لهذه الجماعات التي يمكن أن توفر
لها مخرجاً لإعداد (سيناريوهات) للتنفيذ عند اللحظة المناسبة؛ بحيث تتخفى
وراءهم، وكأن الأمر قد خرج من يدها.
وهناك إشارات متفرقة تخرج من (إسرائيل) في الآونة الأخيرة تحاول أن
تمهد نفسياً لإمكانية حصول شكل من أشكال تلك (السيناريوهات) .
فقد نشرت جريدة (معاريف) في أغسطس 98م مقالاً بعنوان: (ثلاثة
احتمالات للتهديدات) ذكرت فيه أن القيام بعمل ضد الأماكن الإسلامية قد يأخذ أحد
الأشكال الثلاثة الآتية:
1 انتفاضة شعبية عارمة من مئات ألوف المتطرفين؛ حيث يقومون بسلسلة
عمليات شغب عنيفة، لإشاعة جو من الفوضى يتم خلاله تنفيذ ما يريدون [8] .
2-قد يقوم متطرف يهودي واحد دون شركاء، وبدون مساندة أو إعداد سابق
بهذا العمل، مثل ما قام به (عامير) في قتل رابين، أو باروخ جولد شتاين في
مذبحة المسجد الإبراهيمي [9] .
3-قد تقوم مجموعة من الأشخاص في خلية سرية بتوجيه ضربتها مستخدمة
القنابل أو الصواريخ.
وقد نشرت جريدة (يديعوت أحرونوت) في عددها الصادر في 1/9/98م خبراً
بعنوان: (يهودي مجنون قد ينسف الأقصى أو قبة الصخرة) ، وجاء في الخبر:
(يخشى قادة (الشاباك) (جهاز الأمن) أن يقوم متطرف من (اليمين الإسرائيلي)
بالاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة بهدف الإجهاز على العملية السلمية
نهائياً. وتذكر الصحيفة أن (سيناريو) الاعتداء عُرض على رئيس الوزراء
(نتنياهو) في اجتماع حضره وزير العدل والأمن الداخلي والمالية، إضافة إلى
رئيس بلدية القدس، ورئيس جهاز (الشاباك) والمفتش العام للشرطة، وأعربت
الصحيفة عن تخوفها من أن يؤدي الاعتداء على المسجد الأقصى أو قبة الصخرة
إلى إحراق المنطقة كلها.
وهناك (سيناريو) رابع أضيفه من خلال متابعتي للموضوع، وهو إمعان
اليهود في المزيد من إضعاف أساسات المسجد وتفريغ الأرض من تحته، ثم
الادعاء عند أي هزة أرضية طبيعية أو صناعية، أن المسجد هُدم قضاءً وقدراً! !
وهنا تعفي الحكومة الإسرائيلية نفسها وتعفي المنظمات الدينية من مسؤولية الهدم،
لتتفرغ للبناء.
وأياً كان الأمر، فالسلطة في (إسرائيل) ليست أقل حرصاً من التنظيمات
الدينية السرية والعلنية في الإسراع بهدم الأقصى والصخرة ثم بناء الهيكل على
أنقاضهما، وهذا الحرص يصل إلى أعلى مستويات المسؤولية في الحكومات
المتعاقبة؛ فمنذ أن قال بن جوريون القولة المشهورة، ورددها بعده مناحيم بيجن:
(لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ... ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) منذ أن قيل ذلك،
والمسؤولون الإسرائيليون يدلّون بالقول والفعل، على أن هذه قناعة ثابتة لدى
الجميع داخل (إسرائيل) ، وقد اختص بنيامين نتنياهو بمزيد من التميز في هذا
الجانب؛ ففي عهده المأفون وللمرة الأولى انعقد في القدس المؤتمر السنوي السابع
لرابطة (إعادة بناء الهيكل) بمباركة ومشاركة حكومية، والرابطة تضم عشر
منظمات كبرى اشتركت في تنظيم المؤتمر الذي عقد في17/9/1998م وضم آلافاً
من اليهود المتدينين من منظمات أخرى يجمعهم قاطبة أنهم أعضاء في منظمات
يهودية سرية وعلنية تدعو جهاراً إلى التعجيل بهدم الأقصى وبناء الهيكل.
وتقدر الأوساط الإسرائيلية عدد من حضروا المؤتمر بسبعة آلاف يهودي.
وكان الهدف من المؤتمر الذي شاركت فيه شخصيات حكومية تقسيم المهام من
أجل الهدف الذي جعلوه عنواناً للرابطة وهو: (إعادة بناء الهيكل) ، وقد ألقى نائب
وزير المعارف (الإسرائيلي) (موشي بيلد) كلمة أشاد فيها بالحضور، وخاطب
المؤتمرين قائلاً: (أدعوكم إلى مواصلة نشر قيم الهيكل وقيم التراث والثقافة
اليهودية بين شباب (إسرائيل) في كافة مراحل التعليم) . وأردف قائلاً: (إن الهيكل
هو قلب الشعب اليهودي وروحه) . ثم قام زعيم منظمة (قائم وحي) ليتحدث عن
المشاركين فقال: (إننا نرى دعماً رسمياً، ونأمل بأن يسهم في إعطاء انطلاقة
جديدة لقضية إعادة المعبد اليهودي في القدس) (الحياة 17/9/1998م) .
الخطوات الحكومية الممهدة لتنفيذ المؤامرة:
إذا كانت المنظمات المذكورة وهي مجرد منظمات تحمل كل هذا الحماس
للتحرك العملي من أجل خدمة المشروع الذي يمثل رمز الوجود اليهودي؛ فما بالنا
بالدور الذي يمكن أن تقوم به الدولة نفسها، وهي التي يحمل علمها هذا الرمز
(النجمة السداسية) ؟ !
لا شك أن لها دوراً يليق بكونها (دولة) وسلطة، فهناك أدوار لا تستطيع
المنظمات منفردة ولا مجتمعة أن تقوم بها، بل لا بد من قيام الدولة بالدور الأساس
فيها. والذي يظهر من السلوك العام للحكومة؛ أنها تقسم (المشروع) إلى قسمين:
قسم للتحضير، وهو يتناول عمليات الإعداد السابقة لبناء الهيكل، بما فيها هدم
المسجدين، وهذا القسم تتركه لتلك الجماعات والمنظمات المتعصبة والنشيطة،
وقسم آخر لمرحلة التنفيذ، بما تتضمنه من الشروع في البناء ذاته، وتأمين ما
يحتاجه من مشاريع وتكاليف ومنشآت وطرق وأنفاق وموظفين وإجراءات
نظامية ... إلخ.
وهناك أمر مهم آخر، وهو: تأمين المرحلة، بمعنى توفير العامل الأمني
لتلك المنظمات مجتمعة لكي تقوم بأدوارها التي لن يقوم بها غيرها في التحضير
لمرحلة البناء وما بعد البناء؛ ليتم ذلك في أسرع وقت دون معوقات. ونشير هنا
إلى بعض الإجراءات الحكومية الإسرائيلية التي لها دلالتها البالغة في الإشارة إلى
الدور الذي تضطلع به الحكومة الإسرائيلية في المؤامرة الكبرى:
أولاً: الحفريات تحت المسجد الأقصى:
وقد قطعت الحكومة الإسرائيلية فيها عشر مراحل [10] ، وهذه المراحل
العشر استغرقت المدة منذ عام 1967م وحتى نهاية 1980م، ولا تزال أعمال
الحفريات تجري بطرق أخرى إلى وقتنا هذا، وهي تستهدف الوصول إلى غاية من
أخبث الغايات التآمرية على المسجد الأقصى، ولا تستطيع المنظمات اليهودية كلها
أن تقوم بها وهي: تفريغ الأرض تحت المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، لترك
المسجدين قائمين على فراغ، ليكونا عرضة للانهيار السريع بفعل أي عمل تخريبي، أو حتى اهتزازات أرضية طبيعية أو صناعية كما سبقت الإشارة وهم بطبيعة
الحال لا يظهرون هذا الهدف، ولكن الهدف المعلن دائماً هو الكشف عن آثار باقية
للهيكل الثاني الذي دُمر عام 70 للميلاد، وقد سمحت الحكومة الإسرائيلية خلال
عامي 1995، 1996م لمؤسستين إسرائيليتين وهما: (شركة الآثار الإسرائيلية)
و (شركة تطوير القدس) بإجراء المزيد من الحفريات.
ثانياً: شق الأنفاق:
وهي عمليات تشترك مع عمليات الحفريات في أنها تهدد أساسات المسجد
الأقصى في المرحلة الحالية، وتسهل أو تكمل مشروع بناء الهيكل في المراحل
التالية. وكانت قصة الافتتاح الرسمي لنفق (الحشمو نائيم) في سبتمبر عام 1996م، بمثابة لفت نظر لتبني الدولة العبرية لمثل هذه المشروعات.
وكان افتتاح النفق في ذلك الوقت إشارة إلى بدء الإجراء العملي (الرسمي)
لتحويل المسجد الأقصى إلى معبد يهودي، فبعد أن اكتمل النفق بطول اربعمائة متر
في فترة عمل سري؛ افتتحه عمدة القدس (تيدي كوليك) رسمياً في احتفال (علني) ،
وهذا الافتتاح الرسمي أرادت به الحكومة الإسرائيلية أن تلقي برسالة مفادها أن
اليهود أصبحوا شركاء في ساحات الأقصى؛ فالأنفاق تجري من تحتها، وبداخلها
مساحات تصلح لأن تكون كنيساً مؤقتاً، يقيم فيه الراغبون من اليهود صلواتهم (في
الدور الأسفل) ريثما يتاح الانتقال إلى الأدوار العليا، وقد وضعت الحكومة
الإسرائيلية لوحات إلكترونية داخل النفق، تظهر البلدة القديمة للقدس بدون المسجد
الأقصى أو مسجد الصخرة، ويظهر مكانهما الهيكل اليهودي، وسط طابع معماري
جديد للمدينة تغلب عليه الصبغة اليهودية. وأرادت حكومة نتنياهو أيضاً أن يكون
الافتتاح اختباراً، تقاس به ردود الأفعال والأقوال العربية والإسلامية إذا ما تم تنفيذ
مشاريع أكبر! ، وقد جاءت ردود الأفعال والأقوال مشجعة لليهود؛ حتى إن نتنياهو
لم يجد مانعاً من التفاخر علناً بما تم إنجازه، مشيداً بعهده (الشجاع) الذي شهد هذا
الافتتاح بعد أن تأخر كثيراً، وقال: (إنني فخور جداً؛ ومتأثر جداً، فالنفق يمس
أساس وجودنا) وهاجم الفلسطينيين الذين اعترضوا على ما حدث بالتظاهرات
والهتافات، وقال: (السلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية ما يحصل، وسنستخدم كل
الوسائل المتاحة لوقف الاعتراضات) [11] وفعلاً ... توقفت الاعتراضات،
واستؤنفت المفاوضات بعدها على كل المسارات! ... ثم توقفت بعد إصرار اليهود
على بناء مستوطنات على جبل أبي غنيم.. ثم استؤنفت حتى جاء الوقت الذي
تعاقدت فيه (إسرائيل) مع المنظمة على تحمل تلك (المسؤولية) الأمنية كاملة.. في
جريمة كاملة تسمى: (واي بلانتيشن) .
ومما يجدر ذكره أن هناك أنفاقاً أخرى لم يُعتَرض عليها يجري الإعداد لها
والعمل فيها، والهدف منها أن يأتي وقت تكتمل فيه ممرات وشوارع تحت ساحات
الأقصى تسهل التنقل تحته في المراحل القادمة.
ثالثاً: السور العازل بين المسلمين واليهود:
اليهود يتهيؤون ليوم آتٍ تتأجج فيه المشاعر، وتختلط فيه المسائل، وينفجر
بركان الغضب الذي تكتمه أكذوبة السلام؛ فقبل اغتيال إسحاق رابين بعام، طَرحَ
مشروعاً رأى أن فيه حلاً نهائياً للفصل بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك
ببناء سور ضخم يمتد بطول 360 كيلو متراً، وارتفاع ثلاثة أمتار، يفصل
الأراضي الخاضعة لسلطة الحكومة الإسرائيلية، والأراضي الواقعة تحت السلطة
الفلسطينية. وقد هندس للمشروع (موشيه شاحاك) وزير الشرطة الإسرائيلي،
ووافق عليه بيريز، وبدأ تنفيذ المشروع عام 1996م.
والمشروع عند التأمل لا ينفصل عن مجمل مساعي (الحكومة الإسرائيلية)
للتهييء لما تخبئه الأيام من صدام حتمي.. وبما أن جُل الصدامات الشعبية مع
اليهود في الأرض المحتلة كان الباعث لها والحادي إليها مآذن المسجد الأقصى..
فماذا يا تُرى يمكن أن يحدث لو استُهدفت تلك المآذن ذاتها، واغتيل المسجد بكامله؟!
لا بد إذن من استعداد ...
وقد أعلن في حينه أن السور يهدف إلى منع دخول الفدائيين لتنفيذ عمليات
(تخريبية) داخل (إسرائيل) ، ولكن الظاهر أن الهدف أكبر وهو تمكين اليهود
وحدهم من التخريب دون حسيب أو رقيب. إن المشروع واجه صعوبة في تنفيذه
في البداية بسبب ضخامة تكاليفه؛ ولكن وكالعادة لم تقصر الولايات المتحدة حكومة
وشعباً في دعم المشروع المريب، بل إنها تعهدت بأن يتم تنفيذه كاملاً بتمويل
أمريكي خالص، وقد أقرت له ميزانية منذ عام 1993م، وقدم كلينتون القسط
الأول منها (مائة مليون دولار) في زيارته لـ (إسرائيل) عام 1996م، ومولت
واشنطن أيضاً عمليات تزويد السور بـ (18) معبراً، وطائرات استطلاع بدون
طيار تحلق على مدار الليل والنهار فوق السور، وأجهزة لضبط المتسللين وكشف
المتفجرات. والسور تقرر تزويده أيضاً ببوابات إلكترونية حديثة تمنع تسرب أي
آلة معدنية، وأعلن في الولايات المتحدة عن إرسال معدات تُرَكّب في الحيز
العرضي للسور مع بالونات عسكرية بها أجهزة رصد تصويرية للحركة على امتداد
السور، وسيزود الأمريكان إسرائيل أيضاً بـ (206) طائرة هليوكبتر من النوع
الخفيف لمزيد من المراقبة على الساحات المحيطة بالسور، وسيؤدي السور الذي
سيحول المناطق الفلسطينية إلى معتقل كبير إلى حرمان المسلمين في الأرض
المحتلة من مجرد التمتمع بالنظر إلى أرض المقدسات من وراء الأفق، وسيمكّن
اليهود من منع المسلمين نهائياً عندما يريدون من الوصول إلى المسجد الأقصى في
يوم الجمعة أو في غيره.
بعض الواهمين يظن أن السور الذي تدعمه أمريكا، يدل على اتجاه إسرائيل
نحو الاعتراف بدولة فلسطينية؛ لأنه سيضع فواصل حدودية بينها وبين (إسرائيل)
ولكن (شيمون بيريز) حمامة (السلام) النووية، بدد هذا الوهم عندما قال: (لن
تكون هناك دولة فلسطينية، والسور لا يمثل حدوداً لنا مع هذه الدولة) [12] .
فماذا يمثل إذن؟ ! إنه يمثل (أسطورة) خيالية، أخرجتها إلى عالم الوجود
التكنولوجيا (الأيدولوجية) الجديدة! !
اسمعوا إلى هذه الأسطورة التي تتحول أمامنا إلى واقع: جاء في كتاب
(القابلاه) : في شرح التوراة: (توصف القدس بـ (الشخيناه) يعني الملكوت الذي
سيحكم العالم، وستحيط بها المرتفعات حتى لا تصل إليها قوى الظلام، وستعلو
جدرانها حتى يعود التوازن إلى العالم!) .
إذن، تحصين القدس وتحويلها إلى قرية محصنة والاستتار خلف أسوارها..
ثم القتال (الجبان) من خلف جدرانها؛ ليس إلا تعبيراً حديثاً جداً، عن التركيبة
العقدية والنفسية العتيقة لأمة اليهود الملعونة على ألسنة الرسل، وصدق الله القائل:
[لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ] . [الحشر: 14]
إن وراء خطوة اليهود الرامية إلى هدم الأقصى خطوات أكبر إلى مساعٍ
أخطر يمثلها ذلك الإصرار العنيد على بناء الهيكل الثالث.. هيكل سليمان، فما
هو ... ولماذا يعاد بناؤه ... ومتى يريدون الإعادة ... وماذا أعدوا لذلك؟
هذا ما سنعرض له في حلقة قادمة؛ إن شاء الله.
__________
(1) عددهم ستة عشر مليوناً، والذين داخل (إسرائيل) منهم أربعة ملايين فقط.
(2) نُسب إلى سليمان عليه السلام مع أن الذي بناه أول مرة إبراهيم عليه السلام لأن سليمان جدد بناءه وشيده تشييداً عظيماً.
(3) كما دل على ذلك حديث حذيفة بن اليمان قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، أخرجه البخاري (القدر 6604) ، ومسلم (الفتن/2891) واللفظ له.
(4) انظر فتوح الشام (1/242) .
(5) رواه أحمد في مسنده (5/364) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (47/ 343) وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات فتح الباري (13/105) .
(6) وذلك حسبما نشر في مجلة الأهرام العربي (16/5/98) .
(7) هذه المحاولات بالتفصيل نشرتها جريدة البيان الإماراتية في عددها الصادر في 26/5/1998.
(8) وهذا على طريقة المتطرفين الهندوس الذين هدموا المسجد البابري في الهند عام 1994م.
(9) أو ما فعله (دينس مايكل) النصراني الاسترالي الإنجيلي الذي قام بإشعال حريق كبير في المسجد الأقصى عام 1969م.
(10) سبق نشرها في مقال بالبيان (العدد 107) (المسجد الأقصى والزلزال القادم) .
(11) (الوطن الكويتية، 15/5/1417هـ.
(12) العالم اليوم، (14/11/19هـ) .(134/64)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
أطفال الحجارة والثقافة المجمدة! !
شارك (28) طفلاً في غزة في جوقة غنائية أثناء عرض أوبرا (كارمن)
لجورج بيزيه وذلك في أول عرض للأوبرا يقام على أرض تتمتع بحكم ذاتي
فلسطيني.
وقال عون الشوا رئيس بلدية غزة: أدت الحرب والمعارك المستمرة ضد
الاحتلال إلى تجميد الثقافة في فلسطين، والآن بعد أن استقررنا في جزء من
أراضينا حان الوقت لتنشيط ثقافتنا، وقال أحد الحضور: هذا العرض مدعاة للفخر!! أطفالنا كانوا رائعين! ! . ... ...
[جريدة الحياة، عدد: (13047) ]
قطع الله دابركم
*إن القضاء على البنية الأساسية للمنظمات التي تصمم على استمرار العنف
ضد إسرائيل أمر ضروري؛ لأنه بهذا وحده نضمن وضع حد لنشاطها، فإذا كانت
هذه البنية موجودة فلن تستطيع أي دولة التصدي لعمليات العنف مهما أوتيت من قوة. وقد أثبتت التجارب ذلك.
س: ماذا يعني القضاء على البنية الأساسية لحماس والجهاد؟
ج: يعني قطع دابرها! ! والقضاء على كل أنشطتها العسكرية ومصادر
تمويلها! !
س: وماذا إذا فشلت المفاوضات مع إسرائيل، ووضح تعنتها ولم تنفذ شيئاً
من التزامتها؛ في حين أنكم قمتم بضرب (حماس) بأيديكم وهي العدو الأول
للصهيونية؟
ج: يا سيدي إذا ضربت السلطة الفلسطينية الصف الأول والثاني والثالث من
حماس فسيظهر لنا الصف العاشر والعديد من المنظمات التي ستلجأ للسلاح إذا لم
تكن إسرائيل جادة في السلام! !
[سعيد كمال، الأمين العام المساعد للجامعة العربية ومدير إدارة شؤون فلسطين، جريدة الشعب القاهريه، عدد: (1309) ]
ومع هذا.. يسارعون فيهم! !
لدينا قوة ردع نووية، وجيش قوي وميزانية دفاع كبيرة، ومع ذلك فنحن
شعب جبان رعديد لا يملك الحد الأدنى من الثقة في النفس، نحن غير طبيعيين،
منقسمين على أنفسنا، نعاني شرخاً كبيراً في شخصيتنا.. أفراداً وقادة، وإن أطفال
إسرائيل لم يمروا إطلاقاً بأي مرحلة من البراءة والسذاجة.
[دانيال برطال، مدير المعهد الدولي لعلم النفس السياسي في نيويورك، جريدة الأسبوع، عدد: (88) ]
الكادحون من أجل الشعب! !
1- لقد كان وضع الشيخ أحمد ياسين في الإقامة الجبرية أهون الضررين
لنحميه من ضرر نفسه، ونخفّف آثامه وشروره، ونقلل من اعتداده بأن كل العمليات نسوبة إليه، حتى نحمي الشعب الفلسطيني من شروره، نحن نترجى الشيخ أحمد أن يحصلنا نصف في المئة أو يعطينا مليون دولار من الـ (55) مليون اللي جمعهم من الخليج علشان نعيّش منهم الشعب.
[الجنرال غازي الجبالي، مدير الشرطة الفلسطينية، مجلة المشاهد السياسي، عدد (140) ]
2-كشفت صحيفة صنداي تايمز البريطانية أن مساعدات قدمها الاتحاد
الأوروبي من أجل الفقراء استخدمت لمزيد من الترفيه عن أغنياء موالين لياسر
عرفات؛ فبدلاً من استخدام الأموال في مشروعات إسكانية رخيصة في قطاع غزة
الفقير والمكتظ بالسكان وفي الضفة الغربية؛ ذهبت لبناء شقق فاخرة منحت لـ
(عائدين) وهو اللفظ الذي يُطلق على الموالين الذين كانوا في المنفى مع الرئيس
عرفات ويعملون الآن في السلطة، وتكلفت الشقة الواحدة 33 ألف جنيه استرليني،
واعترف المدققون في الاتحاد الأوروبي بأن (20) مليون دولار أنفقت دون أي
سيطرة اقتصادية ولا يمكن استعادتها.
[جريدة الخليج، عدد: (7134) ]
شعور متبادل
سأترك العرب والجامعة العربية والنظام السياسي العربي؛ لأنه لا مكان لي
بينهم ما داموا مستسلمين وغير متحدين، ولولا المقاومة اللبنانية في الدرجة الأولى، والمقاومة الفلسطينية في الدرجة الثانية، فإنه لا يشرف أحداً أن يكون عربياً.
... ... ... [معمر القذافي، جريدة الحياة، عدد: (13044) ]
الفلوس تغيّر الميول
لقد عشنا مرحلة الهوس والاستلاب الفكري، نبحث عن تجربة جيفارا في
أدغال بوليفيا واعتقدنا بأن بوليفيا تشبه اليمن، والحقيقة أننا لم نجد سوى الأعلام
الحمراء، وتصورنا أنفسنا كوبا الجزيرة العربية، وهو وهم كبير. وفي نهاية
المطالب لم يمنحنا الاتحاد السوفييتي فلساً واحداً.
[عبد القادر باجمال، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اليمني، مجلة الأهرام العربي، عدد: (84) ]
للقدس أم للشعب الجائع! !
أكد فيصل الحسيني مسؤول ملف القدس في السلطة الوطنية أن ربح معركة
القدس يتطلب 1، 2 مليار دولار مساعدات لتغطية المتطلبات القانونية والميدانية
والسياسية التي يتعين أن يعتمدها الفلسطينيون في المرحلة المقبلة.
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7308) ]
وماذا عن حرق المساجد! !
اعتبر الرئيس الإندونيسي (بحر الدين حبيبي) أن إضرام النار في الكنائس
وتخريب أماكن العبادة المسيحية جريمة لا تغتفر! وقال إنه صُدم بهذه الأعمال التي
لا تسمح بها أي ديانة، وقال: (إن هذا العمل لا يمكن قبوله بأي من المعايير) .
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، عدد: (7305) ]
عليّ وعلى أعدائي
حذر سوهارتو الرئيس الإندونيسي السابق الرئيس الحالي يوسف حبيبي من
أن أي محاكمة ضده بتهمة الفساد قد تتسبب في زعزعة استقرار البلاد؛ لأن ذلك
ينتج عنه آثار سلبية على الحكومة؛ معتبراً أن مثل هذه الإجراءات تورط أصحاب
مناصب عليا ومسؤولين سابقين، والعديد من الأصدقاء المشتبه في جمعهم ثروات
بطريقة غير مشروعه في قضايا عدة.
[جريدة الأنباء، عدد: (8099) ]
مُت ياعراق حتى يسقطوه! !
أكد زعيم حزب العمال الكردستاني جلال الطالباني عن اقتناعه بعدم وجود
مخطط محدد لإسقاط النظام الديكتاتوري في العراق، وسُئل: هل بحث الأمريكيون
معه أي آلية خلال توقيعه السلام مع بارزاني في واشنطن، فأجاب: لم يتطرقوا
معنا إلى أي مشروع لإسقاط النظام، بل العكس، نصحونا بعدم استفزاز النظام
العراقي! ! ولم يجر بحث موضوع الإسقاط، إن المسؤولين الأمريكيين ركزوا
على ضرورة تطبيق الاتفاق وعندما ننفذه ونجعل كردستان العراق نموذجاً
للديمقراطية، والازدهار والتنمية، سيكون ذلك نموذجاً لسائر أنحاء العراق
وسيشجع العراقيين على المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد: (13044) ]
دعوة للعالمين! !
ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية
(سي آي إيه) أطلقت حملة تجنيد واسعة تعتبر الأكبر منذ (10) سنوات، وأضافت
الصحيفة أن عدد العاملين في الوكالة بلغ (22) ألف شخص في نهاية الثمانينيات في
حين يقدر اليوم بـ (16) ألفاً.
ولهذا السبب منح الكونجرس هذا العام مبلغاً إضافياً بقيمة 1. 5 بليون دولار
لموازنة وكالات الاستخبارات الـ (13) منها (200) إلى (300) مليون دولار
لتوظيف عملاء جدد في وكالة الاستخبارات المركزية.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، عدد، (13053) ]
زبالة للتصدير! !
أعلن أحمد ولد دادة زعيم حزب المعارضة الموريتاني أن طائرات محملة
بالنفايات النووية [الإسرائيلية] حطت في مطار تجكجة في وسط موريتانيا،
وتحدث أيضاً عن رسو باخرة محملة بنفايات (إسرائيلية) أخرى في ميناء نواذيبو،
العاصمة الاقتصادية لموريتانيا. ...
[جريدة الخليج، عدد: (7131) ]
وهل ستقومون بذلك؟
إن مع امتلاك إسرائيل كل هذه الأنواع من أسلحة الدمار، لا بد من أن يكون
هناك رادع للحد من تفكير إسرائيل في استخدام هذه الأسلحة ضد العرب، ولا بد
من العمل على تصفية البرنامج النووي الإسرائيلي، خاصة مع اعتقاد إسرائيل أن
العرب ما زالوا هم الأعداء.
[أسامة الباز، المستشار السياسي للرئيس المصري، جريدة الشرق القطرية، عدد: (3812) ]
... ... ... منبع.. تجفيف المنابع!
قرر المجلس العسكري الأعلى في تركيا طرد (86) ضابطاً من الجيش
للاشتباه بميولهم الأصولية، ويجتمع المجلس مرتين في السنة ويتخذ إجراءات كهذه
خلال كل اجتماع، وطرد ما مجموعه (625) عسكرياً من صفوف الجيش منذ عام
(1995م) . ... ... ... ...
[جريدة الخليج، عدد: (. 714) ]
غرناطة مركز للتنصير! !
حضر ممثلون عن (16) مؤسسة تنصيرية بروتستانتية تعمل وسط المسلمين
في الدول الناطقة بالأسبانية في أمريكا الجنوبية وأسبانيا في مدينة غرناطة،
وقرروا تأسيس المعهد الأسباني الأمريكي للدراسات الإسلامية لتدريب المنصرين
العاملين وسط المسلمين، ويهدف المركز لجعل المنصرين وسط المسلمين مؤهلين
بشكل أفضل؛ وذلك بدراسة الديانة الإسلامية (من وجهة نظر تنصيرية) والثقافة
والقيم، وسيكون المركز مفتوحاً للمنصرين الجدد في الميدان.
... ... ... ... ... ... [نشرة، الكوثر، عدد: (20) ](134/76)
قضايا ثقافية
الإسلاميون وسؤال النهضة
(2)
عبد العزيز التميمي
تفاوتت إجابات الإسلاميين على سؤال النهضة تشخيصاً ومعالجة، وتنوعت
كذلك ترتيباً للأولويات، وتحديداً لبرامج المعالجات ومداخل النهضة، بين مقدم
للعمل السياسي باعتباره في هذا العصر مفتاحاً للنشاط الاجتماعي كله ومقدم للعمل
التربوي باعتبار أن الإنسان هو محور البناء المجتمعي كله ومقدم للعمل التعليمي
باعتبار أن آفة أهل هذا الزمان الجهل المطبق للكثيرين منهم بدينهم، وهناك
اجتهادات أخرى متنوعة ذكرنا طرفاً منها في الحلقة الأولى من هذه المقالة.
وفي هذا المقال سأحاول المساهمة قدر الطاقة في هذه الإجابات، حريصاً ما
أمكن على الضبط المنهجي لهذه الإجابات، والدقة العلمية، والحياد الموضوعي،
ومن الله استمد العون والتوفيق.
كلمة في المنهج:
ذكرت في مقال سبق أن مصادر المعرفة في الرؤية الإسلامية تدور بين دليل
الشرع، ودليل الكون، ودليل العقل، ودليل التاريخ والفطرة.. ففي أي الحقول
يدور بحث هذه المقالة؛ وذلك لتحري الضبط والدقة فيها؟
من الواضح أن علاقة المنهج بالشرع والوحي متينة؛ ذلك أن الله تبارك
وتعالى عندما أمر بتبليغ الرسالة دلنا كذلك على أفضل وأنجح السبل لتحقيق البلاغ
المبين.. ولا ريب أن سائر الدعاة والمصلحين يحتجون لطرقهم ومناهجهم بأدلة من
الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة ... والشأن كله ليس في أن تستدل على ما
أنت بصدده بدليل صحيح؛ فذلك قد يحسنه كل أحد.. وإنما تظهر معالم التوفيق
لمن يستطيع أن يلم بأطراف الأدلة في موضوعه فلا يهمل منها شيئاً، ولا يضرب
بعضها ببعض، ولا يقدم المتأخر أو يؤخر المتقدم، وإنما يتعثر الكثير في مثل هذه
المسائل بسبب المواقف المسبقة، والتحيز لقول عالم أو طائفة أو حزب لا يستطيع
منه فكاكاً، فيذهب نسأل الله العافية يلوي أعناق النصوص ويحمّلها ما لا تحتمل،
وينطقها ما لا تنطق، ويوسعها تأويلاً واعتسافاً وتحويراً.
المدخل الآخر المهم لمثل هذا المبحث مدخل سنني تاريخي اجتماعي يتعلق
بمعرفة سنن الله تعالى في بناء المجتمعات وقيامها وسقوطها، كما يتعلق بالتشخيص
الصحيح والدقيق للواقع، وشبكة علاقاته، وحيوية حركته وصيرورته التاريخية،
والعوامل الفاعلة حقيقة فيه ... إنه جهد مضاعف يتطلب من الباحث الجاد أن يتجرد
من أهوائه وتعصباته وتحيزاته المسبقة، ويدرس بصبر وتؤدة مصادر الأدلة
الشرعية ثم ينزلها على واقع ما ينفك يتغير حتى ليكاد أن يفلت من بين يدي الباحث
المراقب في وتيرة تغيّر لم يشهد لها التاريخ مثيلاً..! !
كلمة في سنن التغيير:
توصف الحركات الإسلامية بأنها أكثر الحركات الاجتماعية رفعاً لشعار
التغيير في واقعنا المعاصر؛ ومع ذلك فإن وعيها في تصوري لا يزال قاصراً عن
فهم سنن الله تعالى في التغيير، سواء كان ذلك في نطاق الأدلة الشرعية أو في
نطاق الواقع التاريخي ففي كثير من الأحيان نجدها تنشغل بمراقبة تفاصيل الأحداث
عن إدراك العوامل الأكثر فاعليةً وحضوراً في مسيرة الحدث التاريخي. ولنضرب
على ذلك مثلاً من حياتنا المعاصرة:
هل كان سقوط الخلافة الإسلامية بسبب مؤامرات الدول الكبرى المتربصة
شراً بالخلافة العثمانية؟ أم كان بسبب عمالة حزب تركيا الفتاة وقيادته المشبوهة؟
أم كان بسبب المكائد التي كان يحيكها يهود الدونمة؟ ! أم كان بسبب طموحات
ورغبات أتاتورك العلماني التي كانت بلا حدود؟ الكثير من الباحثين يختار واحداً
أو أكثر من هذه الأسباب، وفي تصوري والعلم عند الله تعالى أنه ليس لواحد من
هذه الأسباب منفردة القدرة على وضع النهاية لإمبراطورية إسلامية فاتحة،
استطاعت قيادة المسلمين بكفاءة طيبة ما يزيد على أربعة قرون.. أما المؤامرات
الخارجية فشيء معتاد؛ ولو لم تحدث هذه المؤمرات لكان ذلك مثيراً للاستغراب،
وهي لن تضرنا شيئاً ما دمنا مسلمين؛ فقد قال تعالى: [وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] [آل عمران: 120] .
أما يهود الدونمة فقد كانوا موجودين داخل الدولة طوال تاريخها، ولم يكن لهم
أثر يذكر بل إنهم أو الكثير منهم احتاجوا إلى إعلان الإسلام كذباً من أجل الحصول
على مميزات المواطن المسلم. أما عن أتاتورك وحزبه، فهو لم يكن إلا الدابة التي
أكلت منسأة الخلافة حتى خرت على وجهها وكانت هي الكاشف عن موت الخلافة
لا سبب الوفاة، تماماً كما لم تكن دابة الأرض سبباً لموت سليمان.
إن من سنن الاجتماع التي علّمنا الله تعالى إياها أن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم؛ فالبحث عن الأسباب الذاتية الداخلية، ونقد الذات يأتي أولاً في
الرؤية الإسلامية السديدة، بل حتى في الرؤية الموضوعية العلمية الدقيقة؛
فالإدراك العميق إذاً بالسنن الاجتماعية شرط ضروري وحيوي من أجل النجاح
المطلوب في التغيير الإسلامي المنشود ...
ومن سنن التغيير الاجتماعي كذلك أن للتمكين في الأرض شروطاً قَبْلية، هي
بمثابة إعداد الرجال للمعركة، وشروطاً بعْدية، تمثل تحرر الغايات والمقاصد، فلا
يكون هدف الداعية أو الكيان أو الطائفة إبراز الذات وإنجاحها؛ وإنما أن تذوب
الذات وتتضاءل إزاء الهدف الكبير [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: 55] .
إذن فلا بد من إيمان وعمل صالح سابق للتمكين، وعبادة خالصة لله تعالى
وإظهار لدينه بعد التمكين [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] ؛ ولذلك فإنه
في طور الإعداد للجيل الأول، فرض الله تعالى عليهم أن يقيموا الصلاة إقامة
خاصة، تتوافق مع الهدف العظيم الذي إليه يسعون ومن أجله يجِدّون. [يَا أَيُّهَا
المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: 1-4] يا له من جهد ثقيل، نصفه أو انقص منه قليلاً أو
زد عليه ... لماذا؟
لـ[إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] [المزمل: 5، 6] قالت عائشة زوج النبي: (فقام رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله ختامها أي السورة في
السماء اثني عشر شهراً) [1] .
هكذا كانت صفة الجيل الأول: جيل التأسيس، الغرباء الأولين، فما هي
صفة الجيل الثاني جيل الغربة الحديثة؟ ! أُمسكُ عن الجواب! !
ومن سنن الله تعالى في الاجتماع البشري أن دوام الحال من المحال.. وأن
جيل البناء الأول المشحون بأهداف البناء العظيم، لا يلبث بعد تحقيق نجاحاته أن
تفتح عليه أبواب الدنيا، وليتشكل جيل آخر لم يرتقِ ارتقاء الجيل الأول، ولم يتلقّ
الصياغة الأولى ذاتها، وما يزال في انحدار حتى تدول الدولة [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: 140] ولذلك نشأت ظاهرة التدافع الحضاري تخفيفاً عن
كاهل البشرية؛ وحتى لا يستبد بها ظالم واحد، [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً]
[الحج: 40] ؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه لما قدموا عليه مستشرفين للعطاء: (أبشروا وأمّلوا ما يسركم، واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم..) [2] .
ومن سنن الله تعالى في الاجتماع البشري كذلك أن الأرض يرثها عباد الله
الصالحون، وأن الظلم شرط ناقض للتمكين، فإذا كانت طائفة التغيير الإسلامي
المنشود تمارس الظلم داخلها وتكرسه، بل أحياناً تسوّغه وتدافع عنه؛ فلا مكان لها
في المستقبل.. ومنها كذلك أن لا تمكين بلا بلاء، وأن البلاء مقدمة الاصطفاء،
ويشهد لهاتين السّنّتين قوله تعالى: [وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] [البقرة: 124] .
ومن سننه كذلك أنه يأخذ المجتمعات الظالمة بالتدرج والإمهال حتى لتظهر لك
كأنما هي في أوج عزتها ومجدها كما هو الحال مع الحضارة المعاصرة؛ لكنها لا
تلبث أن تخر منهارة على وجهها كأن لم تغن بالأمس، [حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا] . [يونس: 24] .
إن الوعي بهذه السنن مجتمعة، وبغيرها من سنن الله في مسيرة الحضارات
ضرورة، وكذلك الجمع بين تدبرها في كتاب الله المقروء، وتدبرها في مسيرة
المجتمعات البشرية عبر التاريخ من خلال حضارات سادت ثم بادت، حضارات
امتلكت ناصية القوة والهيمنة على غيرها من المجتمعات، ثم لم تلبث أن توارت
في زوايا الزمان، تلعق ذكريات مجد غابر حيل بينها وبينه؛ فليس لها إلى
استعادته من سبيل.
المنهج النبوي في التربية والتزكية والتغيير في كلمات موجزة:
بُعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وسط جاهلية جهلاء كانت تعم
صحراء الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها وقد استبدل العرب عبادة الأوثان
بملة إبراهيم عليه السلام، وشاع فيهم وأد البنات، ورذائل العادات، وكان من قدر
الله تعالى ومكره للمؤمنين أن البعثة النبوية جاءت في منطقة بعيدة عن نفوذ
الحضارتين الفارسية الآرية والرومانية الجرمانية.. وكانت كلتا الحضارتين تعانيان
من جراحاتهما الداخلية، كما توالت الصراعات بينهما حتى أنهكتهما الحروب [الّم
(1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]
[الروم: 1- 3] وكان العرب الذين بُعث فيهم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مجتمعاً بعيداً عن إدارة الدولة المركزية الصارمة المدججة بالسلاح، القامعة بقسوة ووحشية لخصومها ومخالفيها، وإنما كانت الهيمنة لقبائل متصارعة متوازنة القوى، لا تنفك الحروب تنشب بينها دون أن ينتصر أحدها انتصاراً حاسماً مهيمناً على الجميع، حتى صارت الحروب والمعارك صفة لازمة لهم يبحثون عنها ويسببون لها الأسباب وإن لم توجد:
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجدْ إلا أخانا
ولم يكن للعرب ميراث حضاري أو ثقافي عريق، بل لم يكن عامتهم يجيد
القراءة والكتابة؛ إنما كانوا أمةَ ثقافةٍ شفهية، وبيان ولسان وشعر وأدب [هُوَ الَذِي
بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ] [الجمعة: 2] كان لسان العرب قد اتسع وتشقق حتى
بات خير وعاء يحوي البيان المنزل، كما لم تشوّش فطرتهم الحذلقات العقلية
والجدليات الفلسفية التي تملأ أصحابها عادة بالغرور الكاذب؛ دون أن يكون لهم في
العلم والحكمة ذلك النصيب الوافر. والصدق كان مزيتهم الأولى، وهي الصفة
الضرورية للبناء الأخلاقي كله، ولذلك لم يكذب أبو سفيان أمام هرقل عظيم الروم،
في وقت كان فيه بأمَسّ الحاجة للكذب؛ ذلك أن هرقل كان يمكن أن يهتدي للإسلام
ويكون عوناً للرسول -صلى الله عليه وسلم- الخصم اللدود لأبي سفيان في ذلك
الحين؛ كما لم يظهر في مكة رغم بقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-فيها مدة ثلاثة
عشر عاماً لم يظهر أي أثر للنفاق والمنافقين..
كانت المنهجية الأساس المستخدمة في التربية النبوية المكية هي: [كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] [النساء: 77] وبقي -صلى الله عليه وسلم- يُعلّم أصحابه
في مكة معالم الدين الجديد، ويجردهم من العبودية لغير الله تعالى، ومن العبودية
للدنيا، ومن العبودية للذات وحظوظها، حتى إن أحدهم ليسمع سب ربه تبارك
وتعالى فيصبر طاعة لله، ويسمع سب أحب الناس إليه وهو النبي الكريم -صلى
الله عليه وسلم- ويصبر.. وهو الذي كان بالأمس يثير الحروب لأتفه الأسباب،
من أجل ناقة قُتِلت، أو حصان سبق ... بعد هذا الصبر كله، والتشكيل لهذه الثلة
الكريمة هاجر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-مؤذناً بقيام المجتمع الجديد الوليد؛
حيث لم يلبث إلا يسيراً حتى نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] [الحج: 39] . وانطلقت الدعوة
بعد ذلك تواجه شتى صور الوثنيات والانحرافات والضلالات، داخل المجتمع
المسلم وخارجه، حتى فتح الله تعالى عليها بفضله. لقد بنى النبي -صلى الله عليه
وسلم-أصحابه في ربع قرن، ولم يمضِ ربع القرن الثاني حتى سقطت فارس تحت
جحافل جيوش المجاهدين، وانحصرت الدولة البيزنطية في أوروبا، فكمنت وهي
ترتعد فَرَقاً أن تواجه جيوش الموحدين، ولحكمة يعلمها الله تعالى فقد سقطت فارس
حتى صدق فيها قول الصادق المصدوق: (إذا هلك كسرى فلا كسرى غيره) وعندما
حاول شاه إيران الغابر إحياء الكسروية لم ينشب أن سقط، ولكن بقيت روما تقاوم
حتى يأتيها يومها الذي توعد.
لقد كان الحجاز بعيداً عن نفوذ فارس والروم، بل لو قلنا إن الفرس والروم
كانوا زاهدين في السيطرة على جزيرة العرب، لم نكن بعيدين من الحقيقة؛ ومع
ذلك استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم-بتوفيق الله تعالى له، ثم بالتربية
الصبورة والنّفَس الطويل أن يعيد تشكيل نفسية وسلوكيات أصحابه الكرام حتى
استحقوا الوصف الكريم: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] [آل عمران: 110]
ولقد ذهلت فارس والروم عندما تصدى لهم هؤلاء في مواجهة لم يعرف لها تاريخ
العرب مثيلاً؛ حتى إن أعرابياً كان يعيش في الماضي على هامش الحياة البشرية،
نراه يخاطب كسرى بقوله: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى
عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة
الدنيا والآخرة..) أيّ رجال هؤلاء، وأيّ جيل ذلك الجيل؟ !
لقد اصطفى الله تبارك وتعالى نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة
الخاتمة، واصطفى أصحابه كذلك لصحبة هذا النبي الكريم: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ..] [الحج: 75] [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]
[الأنعام: 124] . إن في شواهد التاريخ النبوي الكريم، وصحبه العظام لأبلغ دليل
على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى عظمة هذا المنهاج الرباني الكريم
أتطلبون من المختار معجزة؟ ... يكفيه شعب من الأجداث أحياه
إن المنهج النبوي الكريم في التغيير ليس صورة بديعة نتأملها ونعجب لها ثم
نقف عند ذلك ... لا، ثم لا.
ومع ذلك، وفوق ذلك معالم تُقتفى، وسنن يُسار عليها، ومنارات تهدي
القاصدين السبيل، وما يمكن لمقال موجز مثل هذا المقال أن يحيط بأطراف هذا
الموضوع الحيوي الكبير؛ لكنها كلمات تؤشر وتدل، وعلى الظامئ أن ينهل من
ذلك النبع الكريم بتفاصيله ووقائعه كي يجد بجلاء ووضوح كامل الصورة تتشكل
أمام عينيه، ثم عليه بعد ذلك أن يمارس ويعايش ذلك الرهط الكريم بسلوكه
وممارساته اليومية، كي تتحول المعرفة من مجرد معلومات في الأذهان إلى
مشاهدات في العيان [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] [محمد: 17] .
ورغم الإلمامة السريعة بهذا الموضوع الحيوي الكبير ... إلا أن له بقية لا بد
أن تقال حول تنزيل هذا الشاهد الشرعي، والشاهد السنني الاجتماعي على واقعنا
المتجدد الذي لا ينفك يتغير، وبه تكتمل إجابات التساؤلات التي تم طرحها في
المقال الأول، ولهذا التنزيل مكان في مقال ثالث لاحق بإذن الله تعالى، والله هو
الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سنن النسائي، (1601) .
(2) صحيح البخاري، 44 المغازي، (4015) ، أخرجه مسلم في الزهد والرقائق 2961.(134/80)
في دائرة الضوء
خطاب السماحة
د. محمد يحيى
أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع
محددة وضيقة النطاق من الخطاب؛ تمليها اعتبارات السياسة، والتوجيه من أعلى؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس: لها أوثق صلة
بالتيارات العلمانية أو اللادينية. ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب
(السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر
الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها. ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة
من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز: (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة
الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها. ويقترن بالإلحاح المتكرر
(والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية
الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة
عليها، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي
يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة
هذا الخطاب.
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب
الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية، ويُفرض على جمهور المسلمين.
وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه، والشعور
بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب؛ عندما يجد أن الإسلام كله
قد اختزل في مفهوم واحد، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح، وفُرض فرضاً بفعل
الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة
بالإرهاب وتارة بالتطرف.
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام
على مستويين: أولهما: هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت، عندما لا يعود
هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم
الغامض. أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق
المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ،
ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون
به ضمناً وصراحة.
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته؛
لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها
من تعاليم دينه؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات، والبعد عن الخشونة والجلافة، وليس المقصود البعد عن اللدد في
الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر
الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم.
في الجملة: ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها
المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك؛
بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة
والشريعة وأحكامها، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في
علاقات المسلمين بعضهم مع بعض. ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا
الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة: أن يتساهل المسلمون في الطرح
العقدي والتشريعي ويخفّضون منه، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان
الأخرى، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها؛ وذلك بحجة مزعومة
هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي. فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا
يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى
بالتعاون الدولي، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً
وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل
بالمسلمين!
والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد
غيرهم الشركية أو المنحرفة؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا
أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت. والتسامح في
نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً، أو يبعدوهما تماماً في
تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية؛ فهذا هو التحضر والمسلك
التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من
منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية.
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على
الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها، لا ينطلق من حرص على دين أو
عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين؛ بل هو نتاج وضع معروف من
أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن
تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام
الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول. ومفهوم التسامح والسماحة بهذا
المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير
حضاري أو إنساني؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك
والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين
على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي
الخاص بهم.
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين
يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين، وكأن سماحة
الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل
وكنسيي الأمريكان؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة
لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة
الإدارية والأمنية.
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول
عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر
على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف،
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من
الدين مثل إغلاق المساجد، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار
العلمانيين.
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا:
إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام
والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن
والقتل والمنع والحظر!
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية، وقبل كل شيء
يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج؛ لا من باب نشر الفكرة
الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها.(134/86)
دراسات إعلانية
دور الإعلام
في الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا
د. مالك الأحمد
تعتبر تركيا أول بلد إسلامي تقام فيه العلمانية، بصورة تختلف جذرياً حتى
عن التطبيقات العلمانية في البلدان الأوروبية المجاورة لها، التي تعتبر مصدر
العلمانية.
فالعلمانية في تركيا تعني: (لا للإسلام) ، فليس الأمر مقتصراً على الحُكم
(العلماني) بل يتعدى ذلك إلى سائر النشاطات البشرية حتى التصرفات الشخصية.
وتركيا البلد الوحيد في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واندثار أثر لينين
التي يحكمها رجل من قبره، رجل مُعظّم بل ومُقدّس، لا يُمس ولا يُنتقد ولا
يُعترض عليه وهو في قبره.
وتركيا بلد الخلافة الإسلامية التي أصبحت أشد البلدان الإسلامية معاداةً
للإسلام ومحاربةً حتى لشعائره كحجاب المرأة المسلمة.
الإعلام في تركيا:
رغم انتماء تركيا في العصر الحاضر إلى منظومة دول العالم الثالث؛ إلا أنها
شذت عنها في أمور كثيرة ومنها الإعلام؛ فالإعلام في تركيا حر بكل معنى الكلمة، ولا يحتاج الأمر ترخيصاً من وزارة الإعلام أو إدارة المطبوعات لإصدار دورية
(جريدة أو مجلة) ، أو إنشاء قناة إذاعية أو تلفزيونية. هذا الانفتاح الإعلامي الذي
لا يتجاوز عمره عشر سنوات أثمر العشرات من الصحف اليومية ومئات المجلات
الدورية. أما في جانب الإعلام المرئي والمسموع فيوجد الآن (1500) إذاعة
ومعظمها محلي على نطاق موجة () ، وقليل جداً منها إقليمي يغطي منطقة معينة،
وبالنسبة للتلفاز فهناك (300) قناة تلفزيونية، منها ثلاثون قناة فضائية تغطي كافة
الأراضي التركية من خلال القمر الصناعي (ترك سات) ، إضافة إلى أجزاء من
آسيا وأوروبا، أما الباقي فهي قنوات محلية في نطاق المدينة أو المنطقة. هذا
الانتشار الواسع لوسائل الإعلام في تركيا، لا مثيل له في البلدان النامية؛ بل حتى
في البلدان الأوروبية، وهو أشبه ما يكون بالإعلام الأمريكي من حيث التعدد
والانتشار، مع فارق وحيد هو أن اللغة التركية محصورة في مناطق محدودة من
العالم وليست لغة دولية كالإنجليزية.
هذا التنوع في أدوات الإعلام مع الكثرة؛ جعل للإعلام سلطة فاعلة وحركة
أساسية في المجتمع حتى إن الباحثين والمراقبين للشأن التركي يختلفون في القوة
الأولى التي تحكم البلد؛ فالبعض يقول: إن الجيش هو القوة الأولى والإعلام القوة
الثانية، أما الفريق الآخر فيرى العكس. والحقيقة أن الإعلام في كل الأحوال هو
الذي يحرك الجيش ويستفزه لضرب أي توجهات إسلامية ولو كانت محدودة
ومحصورة، بل لا يعبأ أن يحرّض في كثير من الأحيان على التدخل المباشر
والقيام بانقلاب عندما يرى العلمانيون أن التوجه الإسلامي قد يهددهم، أو أن
الصحوة الإسلامية بدأت ترفع الرأس وتتنسم الهواء الطلق. إنهم لا يريدون وجود
قوي مؤثرة في البلد غير العلمانيين، فكيف يقبلون ببروز إسلامي صاعد؟ ويكاد
يتفق المتابعون للشأن التركي أن سقوط حكومة التحالف الإسلامي/ العلماني كان
على يد الإعلام وبشكل أخص الصحافة اليومية العلمانية ذات النفوذ والانتشار
الواسع [1] .
ومن غرائب حرية الإعلام التركي وجود محطات تلفزيونية وإذاعية تقدم
خدمات خاصة لأصحابها، وتقوم بحماية مصالحهم الشخصية الاقتصادية، وأحياناً
بطريقة فجة؛ فهناك قناة تلفزيونية مهتمة بالدفاع عن كازينوهات القمار، تسوّق لها
وتعدّد فوائدها وآثارها الاقتصادية على المنطقة المحلية، وأنها مصدر دخل قوي
للعملة الصعبة، خصوصاً من إسرائيل بدلاً من الدراهم القليلة من السياح العرب
(المتخلفين) ! .
من جانب آخر يعتبر الكثير من الصحف اليومية العلمانية أن من مقومات
الصحافة العري والتفسخ؛ فيندر أن يخلو عدد من هذه الصحف من صور نسائية
عارية أو شبه عارية وبشكل متكرر ومقزز؛ تشبهاً بالصحف الشعبية الإنجليزية
(التابلويد) ، ولكن بنساء تركيات (مسلمات على الأغلب) ، هذا الأمر لا يوجد على
حد علمنا في أي بلد مسلم. ويلاحظ وجود دعم غير مباشر من الحكومات العلمانية
للصحف اليومية كي تَغُضّ الطّرْف عن الأخطاء، وتركز جهودها فقط لتتبع
الإسلاميين وأنشطتهم وإثارة العامة والجيش عليهم.
الإعلام الإسلامي في تركيا:
نظراً للجهد الضخم والإرث التراكمي للدولة العلمانية ومؤسساتها في محاربة
الإسلام من جذوره؛ فإن أي جهد لمقابلة هذا المد أو حتى التخفيف من دوره يصب
في خانة العمل الإسلامي؛ باعتبار أن القائمين عليه من أهل القبلة وذوو نيات
حسنة، وإن خالفوا أحياناً المنهج الإسلامي الصحيح.
وعند الحديث عن النشاط الإسلامي إجمالاً في تركيا، فإنه يمكن تقسيمه إلى
الفئات التالية:
* الحركات الصوفية النقشبندية: وهي ذات انتشار واسع في أوساط عامة
الناس خصوصاً بين القرويين وبعيداً عن المراكز الحضرية الأساسية في البلاد،
وهي ذات عمق تاريخي بعيد منذ أيام الخلافة العثمانية.
* حركة النورسيين: وهي حركة إسلامية منظمة، واسعة الانتشار، تهتم
كثيراً بالتعليم، وتتبعها آلاف المدارس داخل تركيا وخارجها، وهي تعتمد على
نفسها كلياً في الإنفاق على نشاطاتها، وهي صوفية أيضاً في الكثير من توجهاتها.
* حزب الرفاه: وهو حزب سياسي بالدرجة الأولى؛ ولكن له أنشطة متنوعة: اقتصادية وتعليمية وثقافية، وله حضور واسع، ويستفيد في الانتخابات من
الجماعات الصوفية. ومنهج الحزب في الجملة قريب من منهج الإخوان المسلمين،
مع الأخذ في الاعتبار خصوصية البيئة التركية ونفوذ التيار العلماني وسيطرته
الواسعة. وهو الحزب الذي حظر نشاطه بشكل رسمي أخيراً، وانتقل كثير من
أنصاره إلى حزب بديل هو (حزب الفضيلة) .
* تجمعات أخرى:
بخلاف الجماعات السابقة فإنه يوجد في تركيا تجمعات محلية محدودة
ومتنوعة الاتجاهات؛ بعضها سلفي وبعضها إصلاحي عام، لكن أثرها محدود
وانتشارها ضيق وأتباعها قلة.
من الأمور المسلّمة في تركيا والتي تمثل إرثاً قديماً من أيام الخلافة العثمانية
أن الفقه حنفي، والسلوك صوفي، والعقيدة ماتريدية؛ لذلك لا يستغرب الباحث أن
الأصل في المجتمع التركي هذه المسلّمات، وقلّما تخلو منها جماعة أو حزب. أما
التوجه السلفي فهو حديث، ومحدود الانتشار ومحارب من الكثير من الجهات
الصوفية المتعصبة. ومن الملاحظ أيضاً على الأنشطة الإسلامية رغم قصورها
المنهجي أنها تنتمي إلى جماعات أو طوائف أو أحزاب، وقلما تكون مستقلة.
عند الحديث عن الإعلام الإسلامي لا بد من مراعاة طبيعة وتوجهات القائمين
على الأنشطة الإسلامية (كما هو موضح مسبقاً) وكذلك طبيعة البلد والهجمة الشرسة
على المسلمين والإسلام؛ ويمكن حصر خصائص الإعلام الإسلامي التركي فيما يلي: ...
* إعلام محافظ في الجملة.
* إعلامي تربوي (بشكل محدود) .
* إعلام ثقافي بدون مجون أو انحلال.
* إعلام سياسي (أحياناً) يقارع العلمانية بشكل متزن ومتعقل.
* إعلام بديلي (يحاول أن يقدم مواد إعلامية مناسبة بديلاً عما يقدم في
الوسائل الإعلامية العلمانية) .
هذه الخصائص تعطينا رؤية معتدلة وصائبة عند تحليل ونقد ما تقدمه هذه
الوسائل الإعلامية، من مواد وبرامج.
ورغم هامش الحرية الإعلامية فإن الإعلام الإسلامي بالذات يظل تحت
المجهر، وسيف الدستور العلماني مسلط في وجه التحركات الإسلامية الإعلامية،
رغم تعقلها واتزانها وقصورها أيضاً في جانب ما تقدمه من مواد إسلامية.
بمعنى آخر: الحرية مقصورة إلى حد كبير على الإعلام العلماني ليقدم ما
يشاء من انحلال وتفسخ، وحتى تشويه الإسلام مسموح به، أما خلاف ذلك فالأصل
التتبع والمحاكمة وحتى السجن للمخالفين.
إذن عند تقويم النشاط الإعلامي الإسلامي لا بد من أن نأخذ في الاعتبار العديد
من العوامل المحلية ومنها:
* قسوة النظام العلماني.
* الحرية العوجاء.
* الإرث العلماني الأتاتوركي.
* انتشار التصوف.
* حداثة الحركة الإسلامية نسبياً.
* حداثة التجربة الإعلامية الإسلامية.
* التنوع الكثيف والواسع الانتشار لوسائل الإعلام.
* قوة الجيش وهيمنته ودوره في حماية العلمانية.
* ضعف البيئة الديمقراطية.
بدايات الإعلام الإسلامي:
كانت فترة الستينيات هي فترة ظهور الإعلام الإسلامي في صيغته البسيطة
والضعيفة، كانت البدايةُ جريدةً أسبوعية ثم يومية (الاتحاد، 1966م) ، ثم (آسيا
الجديدة) الأسبوعية، ثم (الهلال) التي استمرت طويلاً ثم توقفت، كذلك صدرت
(هذا اليوم) و (الصباح) التي تحولت إلى علمانية فيما بعد.
وكانت هذه الفترة تتميز عموماً بضعف تلك المطبوعات وعدم انتظام صدورها
وتوقف أغلبها.
بعد ذلك ظهرت جريدة (تركيا) عن جماعة حسين حلمي الصوفية، ثم في عام
(1973م) ظهرت جريدة (الوطنية) عن حزب الرفاه.
بدأ النشاط الإعلامي الإسلامي القوي والواسع الانتشار في الثمانينيات،
وترسخت أقدامه في بداية التسعينيات؛ حيث كانت الأوضاع مهيأة لذلك بعد
الانقلاب العسكري سنة (1987م) ؛ حيث استفاد الإسلاميون كما استفاد غيرهم من
الديمقراطية المعقولة في ذلك الحين (عهد أوزال) ، وكانت وما تزال جل الجهود
مركزة على تقديم إعلام هادئ متزن، يهادن العلمانية في كثير من الأحيان كي لا
يضطر إلى المصادمة معها، مع احتفاظه بتوجهات إسلامية بحسب الجهة المصدرة.
الأنشطة الإعلامية الإسلامية:
يمتلك الإسلاميون بمختلف ميولهم وتوجهاتهم العديد من وسائل الإعلام، فلهم
خمس قنوات فضائية تلفزيونية، إضافة إلى بعض القنوات المحلية، والعشرات من
الإذاعات المحلية (إحدى الإذاعات تبث أشرطة لمشاهير الدعاة في العالم الإسلامي
والعربي) ، إضافة إلى بعض الصحف اليومية والعشرات من المجلات المتنوعة.
أولاً: الصحافة اليومية:
* صحيفة الزمان: أوسع صحيفة إسلامية يومية توزع ما يقارب 300000
نسخة، تدعمها وكالة أنباء خاصة بها وهي (جيهان) ، وتصدر عن جماعة
النورسيين، وهي تهادن الدولة ولا تتصادم مع العلمانيين، متبعة في ذلك النهج
التبليغي في الدعوة، وتعتبر جريدة سياسية دعوية عامة.
* صحيفة الوطنية: لسان حال حزب الرفاه، جريدة يومية سياسية دعوية.
* صحيفة تركيا: ذات توجه صوفي يساير العلمانيين.
* صحيفة العقد.
ثانياً: الدوريات الإسلامية:
هناك العديد من الدوريات الإسلامية (أكثر من 250) بين صحف يومية
وأسبوعية ومجلات أسبوعية وشهرية، أغلبها محلي مرتبط بأحزاب أو جماعات أو
تجمعات إسلامية، ومنها على سبيل المثال:
* (العصر) أسبوعية سياسية دعوية سُنّية ذات ارتباط وميول سياسية إيرانية.
* (الشفق الجديد) حزب الرفاه، يومية سياسية دعوية عامة، توزع 15000
نسخة يومياً.
* (السلام) أسبوعية شيعية.
* (الشعب) حزب الرفاه.
* (الوقف) مجلة أسبوعية شبابية (حزب الرفاه) .
* (الإسلام) سياسية (صوفية نقشبندية) .
* (الأسرة) اجتماعية (صوفية نقشبندية) .
* (الفاتح) سياسية شهرية.
* (التفاؤل) يومية صوفية.
* (الرسالة الجديدة) مجلة صوفية.
* (البحوث الإسلامية) مجلة فكرية عقلانية.
* (إسلاميات) مجلة فكرية عقلانية.
* (الفرقان) صوفية نقشبندية.
* (الدعاء) شهرية دعوية غير سياسية تصدر في قبرص التركية عن مؤسسة
الوقف الإسلامي.
ثالثاً: القنوات الفضائية الإسلامية:
1-قناة تركيا:
أبرز القنوات وأوسعها انتشاراً، تصدر عن جماعة صوفية نقشبندية:
(جماعة الإخلاص) ، ولديهم الكثير من النشاط الإعلامي: (جريدة تركيا، وكالة
أنباء الإخلاص، إضافة إلى 81 دورية ومجلة) .
وإضافة إلى النشاط الثقافي والتجاري لأصحاب القناة فإن لديهم ولاء للدولة،
ويهادنون العلمانية، ومع ذلك تسمى قناة إسلامية؛ لأنها تقدم بعض التوجيهات
والنصائح الدينية، وموادها الإعلامية محتشمة وليست إباحية (مقارنة بالقنوات
العلمانية) ، أما ضوابطهم الشرعية فضعيفة؛ حيث يُكفّرون الكثير من مخالفيهم
ومنهم الوهابية.
2-الرسالة: ذات توجه صوفي، تذيع القرآن والبرامج التعليمية، وهي
أفضل من قناة تركيا.
3-سمان: تتبع النورسيين، وهي قوية في الجانب التقني، وموادها
الإعلامية محافظة في الجملة؛ لكنها تفتقد للمواد التربوية الهادفة.
أبرز الإنشطة الإعلامية الإسلامية:
1- صحيفة العقد:
وهي أكبر جريدة يومية إسلامية مستقلة، غير مرتبطة بأحزاب أو جماعات،
تتعاون مع جميع الاتجاهات الإسلامية، وذات هدف واضح ومحدد وهو كشف
العلمانية والعلمانيين؛ وإظهار عوراتهم وفضحهم أمام الناس بالأدلة والبراهين،
معتمدين على الجرأة في الطرح والثقة بالنفس، مع الاستعانة بالخبراء القانونيين؛
خشية الوقوع فيما يصادم القوانين ويعرض الصحيفة للتوقف، أو القائمين عليها
للسجن. منهجها كما يوضحه مصطفى أوغلو الناشر ورئيس التحرير: (أذلة على
المؤمنين، أعزة على الكافرين) .
معاركهم موجهة ضد خندق الزنادقة والمعاندين، فليس لديهم وقت للمعارك
الجانبية مع التيارات الإسلامية، ومنهجهم في فهم الإسلام جيد في الجملة.
تدافع الجريدة عن القضايا الإسلامية في تركيا بشكل خاص والعالم الإسلامي
بشكل عام.
رئيس التحرير ذو خبرة صحفية واسعة (ما يقارب 30 عاماً) كان مديراً
لتحرير جريدة الوطن (التابعة للرفاه) سابقاً.
تأسست الجريدة قبل خمس سنوات، بأهداف محددة، وبإمكانات محدودة
تتكوّن من قروض شخصية متطورة من مجلة الجمعة الشهرية ثم الأسبوعية لاحقاً
والتي أدت دوراً جيداً في الجانب السياسي والدعوي الإسلامي؛ حتى وصل
توزيعها إلى 35000 نسخة أسبوعياً.
توزع الجريدة الآن 120000 نسخة يومياً، وهو معدل مرتفع مقارنة بأوسع
الصحف العلمانية انتشاراً وهي جريدة الحرية التي توزع 500000 نسخة من
مجموع 5، 2 مليون نسخة توزعها كافة الجرائد اليومية.
تطورت الجريدة فنياً ومالياً، فبدأت بمبنى مستأجر، ثم مبنى مملوك، ثم
اشترت أخيراً مطبعة خاصة بها؛ كي تستغني عن الطباعة لدى الجهات التجارية
الأخرى.
يقول مصطفى أوغلو رئيس التحرير: (لدينا سلاح واحد وعدد قليل من
الطلقات، نحاول الاستفادة منها بأقصى ما يمكن دون أن نُُجر إلى معارك لم نخطط
لها، وغير قادرين على الانتصار فيها) .
واستقلالية الجريدة أعطتها قبولاً واسعاً لدى طبقات الصحوة الإسلامية المثقفة
سواء التي لها ارتباط بأحزاب أو جماعات أو المستقلين.
رغم التحري الواسع في شأن ما تطرحه الجريدة من قضايا مع الاستعانة
بالجهات القانونية؛ إلا أنها لم تسلم من المواجهات مع الجهات العلمانية؛ حتى
وصل عدد القضايا التي رُفعت ضدها في المحاكم إلى ألف قضية، خرجت من
بعضها بالبراءة، وحُكم عليها في البعض الآخر بالغرامات المالية.
تعتمد الجريدة على نفسها في تغطية مصاريفها سواء من المبيعات أو
الإعلانات رغم محدوديتها وذلك لامتناع أغنياء المسلمين مثل (مجموعة أوكلر) عن
الإعلان فيها؛ خوفاً من متابعة الدولة لهم بدعوى دعم هذه الجريدة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه جريدة (العقد) من المصاريف ومحدودية الدخل
رغم صدق اللهجة والإخلاص في الكلمة؛ فإن صحفاً أخرى محلية مثل جريدة
(الحرية) تعتبر مصدر ثروة لصاحبها، الذي يعتبر أغنى رجل في تركيا.
تقوم الجريدة كذلك بتوزيع كتب ونشرات إسلامية (120000 نسخة) على
قراء الجريدة مجاناً وتتحمل الجريدة تكاليف الطباعة والتوزيع، وتتحمل الجهات
الخيرية الأخرى تكاليف الورق وتوزيع بعض الكتب مثل كتاب: (حصن المسلم) ،
وكتاب: (تهذيب الطحاوية) ، إضافة إلى العديد من النشرات المتنوعة الشرعية
للتوعية العامة.
أغلب مواد الجريدة معالجات محلية لقضايا ذات ارتباط بالجانب الإسلامي
(الحجاب مثلاً) ، فضلاً عن متابعات سياسية دولية مع اهتمام خاص بالشأن
الإسلامي. وتقل المواد الترفيهية فيها وتكاد تقتصر على صفحة رياضية ذات جذب
إعلاني، أما عدد صفحات الجريدة فهو (20) صفحة منها (4) صفحات ملونة.
2- قناة 7:
وتعتبر هذه القناة ثانية أوسع قناة إسلامية فضائية انتشاراً؛ فقد تأسست عام
1994م، وهي لسان حال حزب الرفاه (غير رسمي) وتتميز بالاعتدال
والموضوعية. تركز هذه القناة على الأخبار والتحليلات والمقابلات السياسية،
وتعطي هامشاً للمناورة مع الجهات المعادية العلمانية، وطرحها السياسي والفكري
قوي وفعال، وتستضيف الكثير من الشخصيات سواء الإسلامية أو العلمانية أو
رموز الدولة لإحراجهم، ولها قبول واسع لدى المثقفين بشكل خاص، ونشرتها
الإخبارية الرئيسة اليومية قوية جداً.
أهداف القناة تنحصر في تقديم خدمات إعلامية عامة تخلو من الابتذال
والانحلال والتشويه للفكرة الإسلامية، وتقدم مجموعة من المواد الإعلامية العادية
من مسلسلات وأفلام ورياضة ومنوعات تخلو من المفاسد، كما تستفيد من الإنتاج
الإيراني. وهناك القليل من البرامج التربوية والاجتماعية الهادفة إضافة إلى القرآن
وبعض البرامج الفقهية.
والقناة تركز في الجملة على الجانب السياسي بفهم حزب الرفاه وفكره
وتوجهاته.
كما أنها تحاول أن تعطي الفرصة للمجتمع التركي للاطلاع على مواد إعلامية
محافظة بعيداً عن قنوات التفسخ والانحلال الأخرى. والقناة ليست إسلامية بالمعنى
الحرفي؛ لأن النظام العلماني مشهر سيفه تجاه أي توجه إسلامي قوي وبارز،
خصوصاً الإعلامي منه.
والقناة ليست تجارية، بل تعاني مادياً بسبب التكلفة العالية للإنتاج والبث
التلفزيوني الفضائي؛ بالرغم من أن مباني القناة وتجهيزاتها بسيطة وتمثل الحد
الأدنى، حتى إن أربكان صرح مرة بأن دعم القناة باب من أبواب الجهاد وذلك
لإيصال الرسالة الإسلامية للناس.
المآخذ:
رغم بعض المآخذ على القناة 7، إلا أن الأمر فيها لا يعدو أن يكون سياسة
مصالح ومفاسد؛ ولا بد لها من أن تقدم بعض المواد الإعلامية المكملة التي تعتبر
من ضرورات أي قناة تلفزيونية، وكذلك لا بد من الأخذ بتوجيهات الهيئة العليا
للإذاعة والتلفزيون التي تشرف على البث، وهي مكونة من أعضاء من الحكومة
والبرلمان وبعض الإعلاميين والمختصين، وغالبيتها من العلمانيين، وهي تقوم
بمراقبة البث بما لا يصادم دستور البلاد (العلماني) ، ويراعي حاجات المجتمع
(حسب نظرتهم) كالرياضة والموسيقى والأفلام وغيرها، وهي تؤكد متابعتها
للقنوات الإسلامية، وتقوم بمحاسبتها بناءً على المعطيات العلمانية.
ورغم هذا التوجه في القناة إلا أنها لم تسلم من النقد حتى من رئيس الوزراء
الذي صرح بأنها أي أي قناة 7 تبث أخباراً تفرق المجتمع وأنها ليست جيدة.
تظهر في القناة بعض الملامح الإسلامية كالفتيات المحجبات، سواء في بعض
البرامج أو إدارة القناة.
كذلك تعالج بعض قضايا الناس اليومية واهتماماتهم الآنية، وتفتقد إلى الكثير
من البرامج التربوية الهامة. وهذا الضعف في التوجه الإسلامي يُعزى إلى أمرين:
الأول: مراعاة المراقبة والمتابعة الرسمية محاولةً لعدم التصادم مع النظام
العلماني المسيطر؛ فلقد أُغلقت إحدى القنوات التلفزيونية لمدة شهر؛ لأنها شرحت
حديثاً حول دخول المرأة النار بسبب ترك الحجاب.
الثاني: طبيعة حزب الرفاه وتكوينه المنهجي واعتماده التوجه السياسي في
الغالب وضعف الجانب العلمي والتربوي لديه.
خاتمة:
من المسلّمات المعاصرة أن للإعلام دوراً فاعلاً ومؤثراً في سلوك الأفراد
والمجتمعات وفي توجيه الأفكار والمعتقدات، وقلما تكون هناك فرصة للتأثير العام
على المجتمعات الإسلامية من خلال وسائل إعلام إسلامية؛ وذلك لانعدام الحرية
الإعلامية بشكل عام. ولا شك أن الوضع التركي يختلف جذرياً، وفرصة توجيه
عامة الناس والتأثير عليهم إيجابياً مواتية إذا أخذنا في الاعتبار الحرية النسبية،
وعدد السكان الضخم (70 مليوناً) ، وتوافر أدوات التأثير الفعالة، ووجود خبرات
معقولة في تقنيات الإعلام المعاصر.
هذه التوطئة تدفعنا إلى تقديم بعض الاقتراحات والتوجيهات ومنها:
* دعم الأنشطة الإعلامية البارزة والمعتدلة ذات التوجه الإسلامي المعقول.
* التعاون مع القائمين على الأنشطة الإسلامية من أجل ترشيد توجهاتهم
وضبط منهجهم بما يناسب بيئتهم وتجربتهم.
* محاولة الاستفادة من التجربة الإعلامية الإسلامية التركية، ونقلها إلى
البلدان الإسلامية بما يناسب تلك البيئات ويراعي الأنظمة والقوانين المحلية.
* السعي لإيجاد أنشطة إسلامية ذات صيغة دولية، لها مراكز محلية في
البلدان الإسلامية المختلفة، وذات رسالة واضحة وبلغات متعددة.
__________
(1) وهناك مجموعتان إعلاميتان علمانيتان: (صباح) و (دغون) تسيطران على 53% من الدوريات، وكانتا من أسباب إسقاط حكومة أربكان.(134/90)
بأقلامهن
الكتيبات الإسلامية إلى أين؟ !
فاطمة بنت عبد الله البطاح
في الفترة الزمنية الماضية برزت ظاهرة الكتيبات والرسائل الإسلامية
الصغيرة.. وقد حظيت بشيء من قبول المتلقي وثقته؛ وذلك لتمتعها بمزايا كثيرة:
كصغر حجمها، وزهد ثمنها، وسهولة قراءتها! إلا أن تأليف هذه الكتيبات يبقى
جهداً بشرياً تعتريه عوارض مختلفة من الخطأ والزلل، والإفراط أو التفريط، أو
غفلة بعض مؤلفيها عن جملة من الحقائق العلمية والمنهجية والواقعية! ! .
* ولا عصمة لأحد من البشر بعد النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان
منطوقه وحياً يوحى.
* وهذه الحقيقة.. تُشعرنا جميعاً بمدى حاجتنا لنقلة جديدة، نتجاوز فيها
مرحلة الحساسية من الجرأة على نقد الذات، أو محاولة النظر في بعض جهودنا
الدعوية وتقويمها! لنقف وقفة نقدية جادة وبناءة تهدف إلى الكشف عن الآفات
والسلبيات؛ حتى لا تتراكم وتتضخم؛ فتعترض مسار الصحوة الإسلامية أو تشينها!.
* ووفق هذا الإطار سوف أعرض أمام القارئ بعضاً من الملحوظات على
الكتيبات الإسلامية:
1- حجم إمكانات المؤلف الذاتية التي قد تكون ضحلة أو ضئيلة:
ولا ندري حقيقة: لماذا يسود في مجتمعاتنا تصور مفاده أن التأليف أمر لا بد
منه لمن أراد دعوةً أو إصلاحاً؟ ونحسب أن هيمنة هذا التصور القاصر تكاد تكون
هي محور الدوافع التي حملت الكثيرين على اقتحام مجال التأليف وهم غير مؤهلين
له؛ إذ لا يملكون آلياته وأدواته؛ ويفتقرون افتقاراً بيناً إلى كثير من أساسيات
العمل فيه.
هذا بلا شك كان سبباً مباشراً وطبيعياً لظهور ورواج كتيبات ليس فيها إلا
أغلفتها الجميلة وعناوينها البراقة! بينما لو ظللت تبحث عن فكرة مؤصلة يضيفها
المؤلف إليك، أو مشكلة يحدد لك معالمها وآثارها ويضع حلولاً مناسبة لها؛ لارتد
البصر خاسئاً وهو حسير.
فجملة من صفحات الكتيب تُركت لكتابة الفهرس، وجملة أخرى للمقدمة، وما
تبقى مادة إنشائية صرفة، لا ترقى في مضمونها وأهدافها وأساليب تقديمها
وعرضها إلى المستوى المأمول والمنشود.
فمتى يعي الناس أن العمل لدين الله وإن كان مسؤولية الجميع يجب أن يؤطر
بضوابط القدرات والإمكانات؟ وقيمة المرء ما يحسن.
متى يستشعر دعاة الإسلام وأهل الرأي والفكر ثقل المسؤولية المناطة بهم في
هذا المجال؟ إذ إننا ننتظر منهم تأدية مهمة (توعوية) تهدف إلى تأصيل مبدأ
التخصص وترسيخه في حس أبناء الأمة.
2- اعتماد الكتيبات الإسلامية على استثارة العاطفة: أو ما يسمى بالأسلوب
التهييجي!
وغلبة الكلام المباشر الذي يفتقر إلى أسلوب الحوار والإقناع؛ ممّا يجعل تأثير
الكتيب مع افتراضية حدوثه تأثيراً وقتياً يُذْكي عاطفة القارئ، ولا يرتقي بعقليته،
أو يسعى لتوجيه سلوكه وترشيد مسيرته. وكثيراً ما تُذَيّل هذه الكتيبات بفتاوى
شرعية يشعر معها مؤلف الكتيب أن مهمته مع قارئه قد انتهت!
والحقيقة خلاف ذلك ولا شك فالمهمة لم تنته؛ بيد أنها أبتدأت تواً؛ إذ
يفترض في الكتيب استثارة عقل القارئ وعاطفته معاً! ودفعه للتأمل والتفكير
المستقل، ومن ثم التدرج به ومعه للوصول إلى النتيجة التي ينشدها المؤلف..
دونما حاجة لتلقينها القارئ تلقيناً ميتاً لا يثمر، اللهم إلا في إنماء روح التقليد لدى
القارئ، وتقييده بأسر الرق الفكري والتبعية العمياء!
ولا يخفى أن الرسول عليه الصلاة السلام مثلاً، كان بمقدوره استثارة مشاعر
الشاب الذي تجرأ طالباً إباحة الفاحشة، أو إعادة ذكر الحكم الشرعي فقط؛ لكنه
فضل هدوء الحوار وفاعليته.. متدرجاً بالشاب إلى أن اكتشف الحق ورضي به
بمساعدة من محاور منصف ناجح عليه الصلاة السلام.
وإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتح نافذةً للحوار مع شاب لم يعرف
إلا عادات أهله ومألوفهم؛ فما بالك ونحن نتعامل مع عقول تلوثت بالثقافات
الزائرة، والمفاهيم المستوردة، في ظل الانفتاح الإعلامي/ الثقافي؛ الذي يفترض
أن نعي حتمية وجوده! !
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام سلك هذا المسلك الحضاري النيّر مع
حالة فردية قد لا يترتب على إهمالها ضرر اجتماعي كبير؛ فما بالك بكتيبات توجه
لفئام كثيرة ومتنوعة تعاني بعض عناصرها من فجوة اتصال مع مبادئ الإسلام
وثقافته؛ مما يعزز مشروعية وأهمية فتح قنوات حوار معهم؛ وفق معالجة واقعية
ورصينة تُعنى بعواطفهم وعقولهم معاً، وتتواءم مع متطلبات ومستجدات المرحلة
التي يعيشونها ويمرون بها! !
3- اسم المقدم:
تقرأ أحياناً اسم رجل من رجالات الأمة، أو من طلبة العلم وأهل الدعوة على
غلاف كتيب ما؛ ممّا يدفعك نفسياً لاقتنائه متفائلاً بالعثور على مادة جيدة؛ بيد أن
تفاؤلك يتبعثر أمام صخرة واقع الكتيب؛ الذي ليس فيه إلا جمال تصميمه، ولمعان
اسم مقدمه، وأحسب أن هذا استخفاف بالقارئ، واستغفال له، كما أنه نوع من
التدليس عليه؛ إذ يفترض في المقدم ترك مجاملة الآخرين الذين يلجأون إليه لتقديم
مادتهم وتقريظها؛ وألاّ يحسب مجاراتهم نوعاً من ضروب التشجيع وإعطاء الثقة
للمبتدئين في خوض غمار تجربة التأليف؛ فالأصل توجيه المبتدئين والمتحمسين؛
لتفريغ طاقاتهم وحماسهم في مجالات تتناسب وحجم إمكاناتهم المهنية والفكرية؛
فالحماس وحده لا ينهض بالأمة من نكبتها، وربما كان تشجيعهم ودفعهم لتأدية عمل
لا يحسنونه حماقة دعوية يرتكبها بعضهم، وتدفع الصحوة الإسلامية ثمنها باهظاً! !
* لذلك نتمنى أن ترتقي نظرة المؤلف والمقدم ودار النشر أيضاً عن مضمون
المثل الشعبي الدارج: (إن لم ينفع فإنه لا يضر) ؛ إذ إن انتشار الكتيبات ذات
المستوى المتدني والمتواضع يؤدي إلى آثار سلبية كثيرة، لعل أبرزها وضوحاً
سحب ثقة المتلقي من الكتيبات الإسلامية كلها؛ وهي حقيقة لم تعد تخفى على أحد.
وتبقى جملة من آثار أخرى، هي من العمق والامتداد والتنوع مما يؤخر
اكتشافها، أو يجعله مستعصياً إلا على متأمل فطن!
4- التركيز المفرط على بعض المواضيع وإغفال أخرى:
ثمة مواضيع معينة تحفل بحضور ضخم في الكتيبات الإسلامية؛ إذ تستحوذ
على نصيب الأسد من مضامينها، ولعل أبرز هذه المواضيع جانب الهدي الظاهر
في الملبس والهيئة والمطعم والمشرب وما إلى ذلك.
والحجم الذي استغرقه الجانب المظهري في الكتيبات الإسلامية قد يكون
واضح الدلالة إذا عرفنا أن منشأه انحراف الناس الظاهر في هذه الأمور، مما يجعل
الكتيبات تظهر للنور باعتبارها ردود أفعالٍ تجاه تقصير الآخرين ومخالفاتهم!
وهذه ولا شك مغالطة منهجية، تعزز الرأي الذاهب إلى أن قيمة التوازن في
(اختيار المواضيع ومعالجتها) غائبة عن أذهان كثير من مؤلفي الكتيبات الإسلامية
الذين يفترض فيهم أن يتحاشوا مسلسل إهدار الجهد والوقت في التركيز المفرط على
مواضيع قد أُشبعت قولاً وبحثاً!
* كما يفترض ألا يكون انصرافهم لمعالجة مواضيع يرون أهميتها عذراً يبيح
لهم إغفال مواضيع أخرى تستحق أن تفرد بالبحث وأن توجه إليها الأنظار.
* لماذا مثلاً يقل التأليف في مواضيع تلامس احتياجات الناس وهمومهم
كالتربية الذاتية، وتربية الطفل، والارتقاء بالذات وسبل تطويرها، وأدب الحوار، وفن التعامل مع الآخرين، وأمراض القلوب: كحب الصدارة، واستعجال الشهرة، وتسوّد المجتمع، والترصد لأخطاء الآخرين وتضخيمها؟
* وثمة أمر لا يسعنا تجاهله أو تجاوزه؛ وهو طغيان الجانب القصصي في
الكتيبات الإسلامية. فقد ازدادت مساحة التأليف فيما يسمى بقصص التائبين وذوي
العقوق، والمذنبين بصورة تدعو للدهشة.
* لسنا ضد إيراد تلك القصص، فهو مع وجود الحاجة مسلك شرعي ليس
ثمة تحفظات عليه؛ لكننا لا نريد أن تتسابق الكتيبات في إيراد القصص نزولاً من
مؤلفيها عند رغبات القارئ والسوق معاً! !
فسرد عشرات القصص.. لن يأتي بجديد مثمر إذا لم ينجح المؤلف في
استثارة عقل القارئ للاستنتاج، ومن ثمّ بلورة دلالات وقيم يستخرجها من تفاصيل
القصة وأحداثها!
* ومن المهم أن يحذر المؤلفون ذكر القصص الشاذة التي تكون نسبة حدوثها
في مجتمعنا ضئيلة؛ حتى لا يساهموا من حيث لا يشعرون بتطبيعها؛ وحتى لا
يصاب القارئ بشعور انكساري وبقدر كبير من الإحباط يجعله يعيش تحت وهم
عبارة هلك الناس فإن (من قال هلك الناس فهو أهلكهم) كما قال رسول الله.
5- عدم مراعاة الكتيبات للمرحلة الزمنية التي تمر بها الأمة:
إذ ينقص كثيراً من مؤلفي هذه الكتيبات فهم طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة
التي تعيش الأمة في أجوائها، وتخضع لمتطلباتها وشروطها؛ مما يجعلهم غير
ملاحظين ولا مستوعبين لحجم التبدلات والتغيرات التي يمر بها واقع الناس من
حولهم؛ كأنهم قد غيّبوا أذهانهم في فترة زمنية ماضية عاشوا أجواءها، وتأثروا
بظروفها وملابساتها وحسب؛ فجاءت مضامين مؤلفاتهم بما تحمله من أفكار وآراء
في واد؛ وما استجد من احتياجات القراء وتصوراتهم في وادٍ آخر! !
* وما قضية المرأة عنا ببعيدة! فعلى الرغم من كثرة الكتيبات التي خصصت
للمرأة المسلمة وهمومها؛ إلا أن المتأمل لا يعثر على مادة تتناسب ومستوى الإدراك
الجديد لدى المرأة المعاصرة والذي تغيّر وارتقى بصوره تتطلب رقياً جديداً في
تعاملنا معها.. وفي خطابنا الدعوي لها (مسموعاً أو مقروءاً) !
* فالمرأة تتغير، وموازنات الواقع الذي تحيا فيه تتغير أيضاً.. بل حتى
مكر الأعداء في قضية المرأة تتغير صوره وأدواته.
* لذا لم يعد مقبولاً ولا مؤثراً أن تخاطب الكتيبات الإسلامية المرأة المسلمة
المعاصرة بلغة الخطاب ومضامينه نفسها التي كانت سائدة قبل عشر سنوات!
فبعض الكتيبات مثلاً ما تزال تنطلق في مضامينها من خلال إطار (ضرورة
لزوم المرأة بيتها وعدم الخروج منه) إلا لضرورة ملحّة دون مراعاة لواقع المرأة
المعاصر الذي تفصل بينه وبين أعراف الناس زمن الأمهات والجدات مسافة هائلة
من التباين والاختلاف!
* واختصاراً:
إذا أرادت الكتيبات الإسلامية أن يكون لها مساهمة راشدة في تغيير طبقات
المجتمع نحو الهدي والرشاد؛ فلا بد أولاً أن تتحرر من الماضي بفكره وطرحه
وبيانه وخطابه، وتمنح الواقع الذي تظهر فيه التفاتة مثمرة؛ ورصد متجدد لأحداثه
ومتغيراته، ومن ثم إعادة النظر والتقويم للطرح الدعوي كله خطاباً ومضموناً، مع
ضرورة الإيمان الجماعي بأهمية مبدأ التجديد في أطروحاتنا الإسلامية باعتباره
ضمانة أساسية لاستمرارية توهج هذه الأطروحات في مشاعر متلقيها، واستمرارية
ريادتها لفعل التأثير والتغيير الذي ننشد حدوثه في المجتمع الإسلامي.(134/100)
منتدى القراء
الغريب.. وحب الوطن
عبد الله بن حسن الوادعي
إن هذه الدنيا برمتها التي تعيش فيها، وهذه الأرض التي تمشي عليها، وهذه
السماء التي تستظل بها؛ إنما هي دار غربة تقيم بها بعيداً عن وطنك. قال: (كن
في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [1] . وقال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود
غريباً فطوبى للغرباء) [2] .
ولتعلم أن هذه الدنيا بما فيها من أنهار وأشجار وثمار وأزهار وجواهر وأموال
وقصور مشيدة، لا تساوي شيئاً إذا ما قيست بجمال وطنك الحقيقي. فتنبه أيها
الغريب.
فإذا سألت وحُق لك أن تسأل أين موطنك الأصلي؟ ! فالجواب هو الجنة،
فإن الله سبحانه وتعالى أهبط آدم وزوجه من الجنة وأسكنهم الأرض دار الغربة،
فصارت الأرض هي موطن الغربة لآدم وذريته، والجنة هي الموطن الأصل. فهذا
هو الوطن الذي يجب أن يُحب ويُضحى من أجل الوصول إليه.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .
(2) رواه مسلم (كتاب الإيمان) رقم (145) وله أكثر من عشرين طريقاً.(134/104)
منتدى القراء
قد غدونا مسلمينا
هشام محمد نجيب دويدري
أيا روح البطولة أيقظينا ... وهزّي نخوة الإسلام فينا
نعيش حياتنا قهراً وذلاّ ... وما زال السّبات لنا قرينا
فما عادت لنا الذكرى فإنّا ... غفلنا عن دروب الخالدينا
أما كانت جيوش الفتح تغزو ... لِتنشر دين رب العالمينا
أما آن الأوان لأن تفيقي ... وتُعلي الصّوت صدّاحاً مبيناً
أما آن الأوان لكي تقولي: ... لقد نمتم عن الأمجاد حينا
فهبي يا رياح النّصر إنّا ... لأَحفاد الأُباة الأولينا
وقوموا يا كماة الحرب هيا ... ندقّ رِقاب كلّ السافلينا
ونصرُخُ عالياً في الكون أنا ... سنبقى في الشّدائدِ صامدينا
فبالإسلام عزّت كلّ نفسٍ ... وبالإسلام إنّا لن نلينا
فيا إسلام فلْتشتهد علينا ... بأنا قد غدونا مسلمينا(134/105)
منتدى القراء
أوقاتنا.. أعمارنا
عبد الملك مطر نمر
إن على المسلم واجبات كثيرة نحو الوقت، ومنها:
1- الحرص على الاستفادة منه:
أول واجب على المسلم تجاه وقته أن يحافظ عليه، وأن يحرص على
الاستفادة منه كله فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والسعادة
والنماء الروحي والمادي. يقول الحسن البصري: (أدركت أقواماً كانوا على
أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم) ويقول عمر بن عبد العزيز: (إن
الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما) . وكان السلف يقولون: (من علامة الفساد
إضاعة الوقت) ، وكانوا يحاولون دائماً الترقي من حال إلى حال أحسن منها؛
بحيث يكون يوم أحدهم أفضل من أمسه، وغده أفضل من يومه، ويقول قائلهم:
(من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون) .
2- اغتنام الفراغ في الوقت:
وكان أسلافنا الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً: لا هو في أمر
دينه ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب النعمة إلى نقمة على صاحبها رجلاً كان أو
امرأة، ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة (أي محرك للغريزة) .
ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع معه الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة والجدة. يقول
أبو العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
3- المسارعة في الخيرات:
يجدر بالمؤمن الذي يقدر قيمة الوقت أن يغمره بفعل الخير ما استطاع إليه
سبيلاً، ولا ينهض إلى الخير في تثاقل وتكاسل، أو يؤدي بعضه ويؤجل بعضه،
ومن الأمور التي ينبغي على المسلم أن يعملها في وقته التأسي بفعله وقوله -صلى
الله عليه وسلم- في الأذكار والأدعية في الصباح والمساء؛ ولذلك يقول الله تعالى
[وَلِكُلٍّ للهجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] [البقرة: 148] وقال الرسول: (من خاف أدلج؛ ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) رواه الترمذي وحسنه.(134/106)
منتدى القراء
العراق المتهدم
أيمن إبراهيم شحاتة
دعها تجودُ بدمعها الأقلامُ ... وتخُطّ شعراً كُلّهُ آلامُ
جاء الأُلى نادوا بهدم عراقنا ... وسلامهم في حربها الآثامُ
بغدادُ تبكي إذ يروّعُها ضُحىً ... صوتُ القذائف والشعوبُ نيامُ
ما لي أرى أشتاتهُم لهمُ على ... آبارِ بترولِ الخليج زِحَامُ؟
الأهل يشكون المذلّة والفنا ... إذ أسلمتهم للشجون لِمامُ
في كلّ ربع في ديارهمُ ترى ... أُمّاً تولول حولها أيتامُ
يا مجلسَ الأمن الذي في ظلّه ... قُتِل السلام وأُشْهِرَ الصّمْصَامُ [1]
يا صوت أمريكا وبوقَ الغرب كم ... صدرت بقتل شعوبنا الأحكامُ؟
ما لي أراك متيّماً في حُبّنَا ... جهراً وفي طيّ الفؤاد ضِرامُ؟
صدّامُ يا بطلَ القضية دُلّنا ... أين العروبةُ منك والإسلام؟
في ظلّ عالية القصور بمأمن ... والأهل تاهوا في القفار وهاموا
أوَ قد ظننتَ بأن حصنَك مانعٌ ... من بأس ربّك؟ بئست الأوهامُ
يا ألفَ مليون وما فيكم سوى ... صوتٌ جهورٌ والديارُ حطامُ
سيروا على درب الكفاح وجاهدوا ... جند العدوّ فإنهم ظُلاّمُ
يا أيّها المليارُ أين فتوحُكُم؟ ... أم أين فارس مجدنا المِقْدامُ
ما لي أناديهم فيسعِفُني الصدى ... أتُرى تولوا في الورى أم نامُوا؟
كانوا بظلّ الدين أسيادَ الورى ... فالآن هم في ذلهم أنعامُ
تلك الثريا في الثرى قد أُقبرت ... وتساقطت من فلكها الأجرامُ
غابت رماحهمُ، وأُغْمِدَ سيفُهُم ... وخلت ضُحىً من أُسْدِها الآجَامُ
__________
(1) الصمصام: السيف المعد للقتل.(134/107)
منتدى القراء
آهات أمتي
عبد الرحمن بدماسي أصيل
ما لي أرى شبحاً يلوحُ ويُنذرُ ... كاد الفؤادُ من الجوى يَتَفَطّرُ
كنا دعاةً للسلام وموئلاً ... يأوي إلينا المعدمون القصّرُ
من قال إنا بالدناءة صُوّمٌ ... أو قال إنا بالمذلة نُفْطرُ
أسلافنا شمُ الأنوف رماحهم ... بدم العدى مخضوبةٌ تتقطر
راياتنا تعلو ضُحَى خفاقة ... وابن الوليد من الشجاعة يزأر
ولرومهم قاد الجيوش مجاهداً ... الله أكبر كالرعود تزمجرُ
ما كان يُرعبنا رغاءُ سفاهةٍ ... أو قَوْلَةٌ محمومة تتهدرَ
ما كان يصرفنا اليهود عن الهدى ... إن الهدى بأريجه يتعطرُ
إن التذي أرغى وأزبد كالحاً ... وجه عبوس بالمكيدة يسفرُ
سنذيقه حتماً مرارة حنظل ... صبراً أُخَيّ فإننا سنشَمّرُ
مهلاً قراصنةَ العصورِ رويدَكم ... جاءت مواعيدُ الرحيلِ تبشرُ
برحيلِ ديجورِ الزمانِ وعهدهِ ... ليهِلّ قسطاسُ السماءِ فيقمرُ(134/108)
قد غدونا مسلمينا
هشام محمد نجيب دويدري
أيا روح البطولة أيقظينا ... وهزي نحوة الإسلام فينا
نعيش حياتنا قهرا وذلا ... وما زال السبات لنا قرينا
فما عادت لنا الذكرى فإنا ... غفلنا عن دروب الخالدينا
أما كانت جيوش الفتح تغزو ... لتنشر دين رب العالمينا
أما آن الأوان لأن تفيقي ... وتُعلي الصوت صداحا مبينا
أما آن الأوان لكي تقولي: ... لقد نمتم عن الأمجاد حينا
فهبي يا رياح النصر إنا ... لأحفاد الأباة الأولينا
وقوموا يا كماة الحرب هيا ... ندق رقاب كل السافلينا
ونصرح عاليا في الكون أنا ... سنبقى في الشدائد صامدينا
فبالإسلام عزّت كل نفس ... وبالإسلام إنا لن نلينا
فيا إسلام فلتشهد علينا ... بأنا قد غدونا مسلمينا(134/108)
منتدى القراء
دموع المآذن
طالب آل طالب
أرى فيكِ عذب القصيد استقرْ ... وعنك القصيد يقول الدررْ
أريحانة العمر فيمَ العتابُ ... وفيمَ الملامُ وفيمَ الضجرْ
أُقلّب في الكون طرف الحزين ... وأبكي طويلاً لتلك الصورْ
حوادثُ قومي هي المعضلاتُ ... ونفسُ الأبيّ هي المسْتقَرْ
بشيشان غيرتُنا تُستَثَار ... وبالقدس عزّتُنا تنّتهرْ
وكشمير تشكو ضواع الجياع ... ولبنان صارت قفاراً مدرْ
وصوتُ ببوسنة نادى جريحاً ... يهز صداه قلوب البشرْ
وأنّى تلفّت شرقاً وغرباً ... رأيت من الجرح شتى الصورْ
مصائب أعيت لسان الفصيح ... ومن سطّر الشعر أو من نثرْ
لو ان المآذن تبكي لناحت ... وردد رجع النّواح الشجرْ
فما ذنب شعب يكفكف دمعاً ... تظل مسائله للنظرْ
فيا شعر ألهب معاني القصيد ... ويا شعر لوّح بتلك الصورْ
ويا شعر مَهْ! ! كيف تصفو الحياة ... وأفرادها يرتضون الكدرْ
وإني وشعري رفيقان كانا ... ومن ثم ناح القصيد وفرْ
فما عدت أكتب شعراً وإني ... لفذّ رأى في السكوت الظفرْ(134/109)
الغريب وحب الوطن
عبد الله بن حسن الوادعي
إن هذه الدنيا برمتها التي تعيش فيها، وهذه الأرض التي تمشي عليها، وهذه
السماء التي ستظل بها، إنما هي دار غربة تقيم بها بعيدا عن وطنك، قال صلى
الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [1] . وقال: (بدأ
الإسلام غريبا وسيعود غيريبا فطوبى للغرباء) [2] .
ولتعلم أن هذه الدنيا بما فيها من أنهار وأشجار وثمار وأزهار وجواهر وأموال
وقصور مشيدة، لا تساوي شيئا إذا ما قيست بجمال وطنك الحقيق، فتنبه أيها
الغريب.
فإذا سألت - وحق لك أن تسأل - أين موطنك الأصلي؟ فالجواب هو الجنة،
فإن الله - سبحانه وتعالى - أهبط آدم وزوجه من الجنة وأسكنهم الأرض - دار
الغربة -، فصار الأرض هي موطن الغربة لأدم وذريته، والجنة هي الموطن
الأصل. فهذا هو الوطن الذي يجب أن يُحب ويضحي من أجل الوصول إليه.
__________
1- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .
2- رواه مسلم (كتاب الإيمان) رقم (145) ، وله أكثر من عشرين طريقا.(134/110)
منتدى القراء
المنهج الإسلامي والنظام العالمي الموحد
حمود بن جابر الحارثي
إن النظام العالمي الموحد الذي تسعد به البشرية هو نظام الله في كتابه العزيز، وسنة نبيه؛ لأن الله ربّ العالمين بيده الخلق كله، وبيده الأمر كله، فالكون وما
فيه مسخر لعبادة الله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ] [النور: 41] .
فإن من أطاع الله عز وجل كان موافقاً للكون وما فيه من التوجه إلى طاعة الله تعالى
وعبادته. ومن عصاه كان مُصادماً لجميع ما في الكون السائر وفق منهج الله تعالى.
فنظام الإسلام فيه وحدانية المبدأ، ووحدانية النظام، ووحدانية الأخلاق، وما
شذ فهو بطبيعة البشر وإلا فالجميع تحت مظلة واحدة، وما هم إلا من مفردات هذا
الكون السائر وفق منهج الله تعالى.
الإسلام هو النهج الوحيد الذي نادى الناس ليكونوا أمةً واحدة. وجمع الله به
الأعداء، وقطّع عرى العداوة، وأبدل بها رابطاً واحداً هو رابط الدين. قال تعالى: [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [الأنفال: 63] . هذا النهج الوحيد الذي رسم للناس
الخطوط العريضة في العقيدة، والأخلاق، والآداب، والمعاملات، وكَفَل الحقوق
لشريف الناس ووضيعهم؛ فهو المنهج والنظام المُهيأ والصالح لإسعاد البشرية.(134/110)
الورقة الأخيرة
المرأة في حياة الدعاة
فاطمة بنت عبد العزيز
لا شك أن هناك تلازماً حسياً ومعنوياً بين المرأة والمرآة، كما أن هناك تشابهاً
لفظياً كبيراً بين الكلمتين، لكنني في هذه العجالة لن أتحدث عن المرآة حديث الأنثى
التي ترى فيها جزءاً من مقومات جمالها وأنوثتها، بل سأتجاوز ذلك إلى مفهوم آخر
للمرآة، وفوائد أخرى نستفيدها من هذه الأداة في ميدان هام وهو ميدان الدعوة
وتقويم سلوك الدعاة، وعلاج بعض الانحرافات الخطيرة في المنهج الدعوي.
فعلى الرغم من كثرة ما كُتب ويكتب حول أهمية نبذ الفرقة والاختلاف في
صفوف الدعاة، وذم الاشتغال بالنقد الهدّام، وكيْل الاتهامات والتشهير بالأخطاء؛
إلا أن هذا الموضوع يظل بحاجة إلى المزيد من الطرح الإعلامي الهادف لضرورة
الحد من هذه الظاهرة المزعجة التي أقلقت كل غيور على مسيرة الصحوة الإسلامية
المباركة. وواجب على كل قادر على إنكارها أن يقوم بما أوجبه الله عليه من
محض النصيحة لدين الله عز وجل ولعامة المسلمين.
فالمؤمن مرآة أخيه، وللتعبير بالمرآة دلالات عميقة وإيحاءات لطيفة يحسن
بنا أن نتلمسها ونتمسك بها؛ فما أحوجنا معشر الدعاة إليها، ومن ذلك:
* أن الأصل في المرآة أن تعكس الصورة الظاهرية للآخرين، دون النفاذ
إلى البواطن؛ وهكذا المؤمن تجاه إخوانه يراهم كما هم، يقبل ظواهرهم،
والسرائر ليست إليه؛ بل هي إلى بارئها عز وجل هو وحده يتولاها؛ وهذا هو
المسلك الشرعي في الحكم على الأشخاص.
* وحينما تكون المرآة صافية فإنها تنقل الصورة كما هي دون تغيير أو تشويه، أما حينما يعلوها الغبار أو تتلطخ بالأقذار فإنها تعكس ما بها من كدر على الأشياء
الجميلة، فتبدو سيئة، لا في الحقيقة ولكن بسبب كدر المرآة، وهكذا النفس
البشرية، فهي حينما تصفو من الأدران المعنوية والأمراض القلبية كالبغض والحسد
وحب الظهور، فإنها تنصف الآخرين وتراهم بما فيهم من غير تشويه أو تغيير،
ولكن حينما تتطلخ النفوس بالأدران، وتمرض القلوب بالأدواء فلن تصفو صورة
الآخرين لديها، كما هو حال تلك المرآة الملطخة، فلا بد من صقل القلوب كما
تُصقل المرآة، لئلا نظلم الآخرين ونظلم قبل ذلك أنفسنا.
ومن لطائف هذا التعبير أن المرآة لا تكتم القبائح والعيوب؛ بل تجلّيها
وتُظهرها، ولكن ليس لكل أحد؛ بل حينما يُطل عليها صاحبها؛ وهكذا المؤمن
ينصح أخاه ويُبَصّره بعيوبه ويستر عليه دون تشهير أمام الآخرين وفق الضوابط
الشرعية المعروفة.
ومن اللطائف أيضاً: أن المرآة تتعامل مع الناس على حد سواء؛ فلا تفرق
بين صديق وغيره، بل تنصف الجميع فلا تزداد بهاءً وصفاءً مع صديق أو قريب؛ كما لا تتعامى عن عيوبه مهما بلغ قربه منها، وهكذا يجب على المؤمن أن يكون؛ فلا يتعامى عن عيوب من يحبه أو يوافقه، ويضخم نقائص من يكرهه أو يخالفه
في الرأي؛ فالعدل مطلب شرعي على كل الأحوال.
تلكم هي إخوتي بعض الدروس واللطائف من هذه العبارة التي تتردد على
ألسنة الكثيرين منا دون فهم لمعناها أو تطبيق لمقتضاها، وهي دعوة جديدة لنسلك
هذا المسلك في التعامل مع الآخرين. نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين إنه
سميع مجيب.(134/111)
ذو القعدة - 1419هـ
مارس - 1999م
(السنة: 13)(135/)
كلمة صغيرة
المشجب الممل
أصبح من تحصيل الحاصل تحميل كل المصائب على الاتجاهات الإسلامية
في كثيرٍ من البلدان، فما تحصل كارثة أو نكبة إلا ويكون كبش الفداء ذلك التيار.
نعم هناك تيارات إسلامية منحرفة عن السلوك الإسلامي الأساس ومبادئه الكريمة،
وقد سبق أن تحدثنا عنها ورفضنا توجهاتها، وقلنا إن التهور الناتج عن عدم
الاستمساك بأدلة الشرع المطهر وقواعده ليس وسيلة لإصلاح المجتمعات وتقويمها،
وأن جهاد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- له سمات ومعايير مضبوطة وأهداف
محددة بيّنها العلماء الأثبات؛ لكن ما يحز في النفس أن تعلن إحدى الدول منذ فترة
أنها خالية تماماً مما يسمى بالتطرف الإسلامي؛ في الوقت الذي تنفرد بظاهرة لا
تعرف في سواها وهي الاختطاف ومساومة الدولة لنيل مرادها، ويحصل حادث من
هذا القبيل، ولفرض سيطرة الدولة وهذا من حقها عالجت الأمر بقوة مما نتج عنه
ضحايا، فكان ذلك محل النقد والاستهجان.
وتُلقى المسؤولية بقدرة قادر على (تنظيم أصولي) يُسمع به لأول مرة، وكأن
الحل لمثل هذه المآسي أن تعلق على مشجب التيار الإسلامي لتسلم من المساءلة؛
مع العلم بأن أحد رموز هذا النظام أعلن (أن الحكومة مسؤولة عن التردي الأمني،
والخاطفون مجرد عصابات) .
الذي نريده ألا يُحَمّل الإسلاميون فوق ما يحملونه من آلام وتشتت واضطهاد؛
فيُبحث عن الأسباب الحقيقية لعلاجها بدلاً من اللجوء إلى المشجب المعتاد، وعلى
من ينتسب للإسلام ألا يتسبب باجتهادات قاصرة وتصرفات غير مسؤولة في
الإساءة إليه بمثل تلك الأعمال الحمقاء. والله من وراء القصد.(135/1)
الافتتاحية
تصديق الأحكام القدرية
للأحكام الشرعية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه وبعد:
فإن من الحقائق الجلية في هذا الوجود، أن لله تعالى أحكاماً قدرية؛ يُخضِع
بها أعناق من لا يستسلمون لأحكامه الشرعية، فما من خارجٍ عن حكم شرعي إلا
ويجازى إن لم يرجع بحكم قدري في الدنيا أو في الآخرة، فيرى عقوبة المخالفة إذا
خالف، وعاقبة الطاعة إذا أطاع.
ومن حكمة الله تعالى، بل من رحمته، أن جعل الآيات والأحكام القدرية
الكونية شاهد عدل، ودليل صدق على أن آياته الشرعية الدينية حق، كما قال
سبحانه: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقّ]
[فصلت: 53] فمهما ارتاب أناس في شرع الله، أو خالفوه أو جزأوه أو غفلوا عنه أو كفروا به؛ فإن أحكام القدر تجيء إليهم بأحداثها وأحوالها، لتثبت أن مُنزل هذا الشرع هو مُنزل الأقدار ومسبب الأسباب، الذي ضمن السعادة في الدارين لمن أطاع رسله وبشّر بالشقاوة من خالفهم، وأنذرهم ضَعَةً وضيعة
وضعفاً.. فهم في فتنة مقدّرة على قدر مخالفتهم. قال تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) ] [النور: 63] .
والأمثلة حولنا كثيرة على استقرار هذه السنن، وثبات هذا الناموس في الآفاق، وفي الأنفس.
* فعندما أمرنا الله تعالى في أحكامه الشرعية بأن ننصره بنصر دينه وإقامة
شريعته، بين لنا أن عاقبة نصرنا للدين هي نصر من عنده تجري به الأقدار [إن
تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] .. تُرى: هل خرجت الأمة في
حقبة من عمرها عن هذا السنن؟ وهل انتصرت يوماً أو عَزّت بغير شريعة الإسلام؟
* ولَمّا شرع الله تعالى لهذه الأمة أن تعتصم جميعاً بحبله ولا تتفرق ولا
تتنازع، وحذرها إن هي خالفت ذلك بالفشل وذهاب الريح؛ فهل رأينا الأمة
بتفريطها في هذا التكليف في أي عصر من عصورها جلبت على نفسها أقداراً غير
الفشل وذهاب الريح؟
* والله سبحانه لمّا أمر أهل الإيمان بعدم موالاة الكفار في كثير من نصوص
الشريعة، ألم يبين لهم أن عاقبة المخالفة لهذا المحذور الشرعي ستكون كوارث
ونوائب، وإحن ومحن، وخبال وعنت؟ ! [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً] [النساء: 89] . [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلا المُشْرِكِينَ أَن
يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ] [البقرة: 105] . [وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ] [آل عمران: 119] .. [إن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ
الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] [آل عمران: 100] [لا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] [آل عمران: 118] . هذا فيما
يتعلق بالآيات في الآفاق.
أما الآيات القدرية والكونية في الأنفس فهي تترادف مع الأنفاس، حتى تُورث
يقيناً بأن للطاعة أقدارها وللمعصية أقدارها، نرى ذلك مع تقلب القلوب، وتحول
النفسِيّات وتغيرها من حال إلى حال، ونراها أيضاً في ما يعتري حياتنا من تغيرات
تتوارد بالسعادة مرة، وبالشقاء أخرى، ولو راقب كل منا مدى التطابق في نفسه
بين امتثاله للأحكام شرعاً مع جريان أمور حياته على السلامة قدراً، لرأى عجباً.
لا نتكلم عن الغنى والفقر، والعافية والمرض، ولكن نتكلم عن قدر السعادة
والسلامة النازل في القلب الحي بالإيمان والذكر، كما قال سبحانه [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] [الرعد: 28] أو ذاك القلب المسكون بالتعاسة والشقاء والضنك،
على قدر إعراضه عن الإيمان [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: 124] إن مراقبتنا لتلك الأمور في أحوال النفس
والناس تقود إلى الإيمان بتفرد الله تعالى بالحكم شرعاً وقدراً، كما قال سبحانه:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] [الأنعام: 57] وهي كلمة صدع بها يوسف، وصرح بها يعقوب، وأظهرها في العالمين محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، حيث قال الله له: [قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] [الأنعام: 57] .
فحكم الله القدري ماضٍ في الناس، رضوا بحكمه الشرعي أو أعرضوا.
وعلى هذا النمط، ووفق هذا النسق من ترتّب النتائج على مقدماتها، وتجانس
الأحوال مع الأعمال؛ يمكننا أن نرصد من حادثات الأيام في عصرنا ما يزيد يقيننا
بأن كل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق، ويمكننا بذلك أيضاً أن
نجابه طوائف المعرضين عن الشريعة وأحكامها، بلوازم ذلك الإعراض ونتائجه
الواقعة والمتوقعة، فلعل منهم من يتذكر أو يخشى.
* نقول مثلاً للذين ما زالوا يلهثون وراء اليهود، يخطبون ودهم رغم كل
الإهانات ويرغبون في التصالح الدائم معهم رغم استمرار نقض المعاهدات مخالفين
بذلك ثوابت الشريعة نقول لهم: لن تظفروا معهم بسلام شامل ولا دائم ولا عادل؛
لأن شدة عداوة اليهود مكتوبة في الأقدار ولن تزول عداوتهم وعداوة النصارى لنا
إلا في حالة واحدة، وهي أن نرتد عن ديننا، وندخل في دينهم [وَلا يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا] [البقرة: 217] [وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] [البقرة: 120] .
* ولشراذم العلمانيين، أولئك الخوارج على الأمة والدين، نقول لهم: لن
تدوم لكم في أرض الإسلام دولة مهما عمرت؛ لأنكم تحاربون الله في شرعته
والرسول في رسالته وسنته وأمته، ولن تظفروا بعزة أبداً تحت أي راية غير راية
الإسلام.. [إنَّ الَذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ] [المجادلة: 5] .
* ونبشر عصابات الإفساد، التي تريد الأمة على دينها وأخلاقها بعذاب مهلك
في الدنيا قبل الآخرة، كما قال سبحانه: [إنَّ الَذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي
الَذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] [النور: 19] .
* أما الذين يمكرون بالإسلام وأهله مكر الليل والنهار كما في الجزائر وتركيا
وغيرها وغيرها فنقول لهم: سيأتي يوم يكشف الله فيه مكركم، ويهتك ستركم؛
لأنكم جمعتم بين شرور ثلاثة، من كُن منه، كُن عليه: المكر، والبغي، والنكث.
والله تعالى يقول: [وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ] [فاطر: 43] وقال:
[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم] [يونس: 23] ، وقال [فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ] [الفتح: 10] .
* ولتلك القوى الطاغية الباغية المتحكمة في مصائر العالم، دولاً كانت أو
جماعات أو أفراداً، نقول: أقصِروا عن الظلم، فقد قُصر قبلكم القياصرة، وكُسر
قبلكم الأكاسرة، واعلموا أن عاقبة الطغاة ذل الدنيا قبل عذاب الآخرة. [إنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً]
[الطارق: 15- 17] .
* وفي المقابل، نقول للذين يكابدون قساوة هذا الطغيان، ويرزحون تحت
طائلته: بُشراكم النُصرة، والنّصفة من العلي الأعلى لأوليائه الصابرين، فهو
سبحانه نصيرٌ لأنصار دينه وأتباع رسله، وقد كتب الغلبةَ قدراً لمن انقادوا له شرعاً
[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] [المجادلة: 21] .
* ونناشد خاصة هؤلاء الأولياء، أن يستمطروا رحمة الله بهم، بتراحمهم مع
إخوانهم، وأن يستنزلوا نصر الله عليهم، بنصرتهم لشركاء قضيتهم؛ فباستعصامهم
بحبل الله، يُسَدّدون ويُرشدون ويُعصمون [وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] [آل عمران: 101] .
* ولنكن جميعاً على حذر من التغيير والتبديل في الثوابت الشرعية؛ فإن ذلك
يستجلب أنواعاً من التبديلات القدرية [وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ] . [محمد: 38] .
* وأخيراً نخاطب القابضين على الجمر، والذائدين عن الثغر، والحامين
للحمى من العاملين الصادقين لهذا الدين، ونخص منهم المحاربين المستضعفين،
أفراداً كانوا أو جماعات أو حتى دولاً: إن الصبر على الدين شريعة، والنصر
قدرها، وتحمّل عبء الدعوة عبادة، والفرج مآلها كما قال النبي: (إن النصر مع
الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً) .
ولعل الله أن يخلق في ضعفكم قوة للدين، ويردّ بدعائكم كيد العادين.
إن خطاب الشريعة لكم: الصبر واليقين.. وموعد الأقدار معكم الإمامة في
الدين.
والله تعالى يقول: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ] [السجدة: 24] .(135/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
من أحكام العيدين
(1/2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
للمسلمين ثلاثة أعياد لا رابع لها وهي:
الأول: عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة، خاتمة الأسبوع، هدى الله له هذه
الأمة المباركة، بعد أن عمي عنه أهل الكتاب اليهود والنصارى فكان لهم السبت
والأحد.
قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى: (باب الدليل على أن يوم الجمعة يوم عيد،
وأن النهي عن صيامه إذ هو يوم عيد) حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن يوم الجمعة يوم عيد؛ فلا
تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده) [1] .
الثاني: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صيام رمضان، الذي فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهو يوم الجوائز لمن صام
رمضان فصان الصيام، وقام فيه فأحسن القيام، وأخلص لله تعالى في أعماله،
وهو يوم واحد أول يوم من شهر شوال.
الثالث: عيد النحر: وهو ختام عشرة أيام هي أفضل الأيام، والعمل فيها
أفضل من العمل في غيرها، حتى فاق الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو من
أفضل الأعمال، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال: (ما من الأيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام
العشر، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد؛ إلا رجل خرج
يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء) [2] .
وهذا العيد هو اليوم العاشر من ذي الحجة، وقبله يوم عرفة وهو من ذلك
العيد أيضاً، وبعده أيام التشريق الثلاثة وهي عيد أيضاً، فصارت أيام هذا العيد
خمسة؛ كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي
أيام أكل وشرب) [3] .
وهذا العيد أعظم من عيد الفطر، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وهو أكبر
العيدين وأفضلهما وهو مرتب على إكمال الحج [4] . وقال شيخ الإسلام بعد ذكره
قول الله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِيناً] [المائدة: 3] : (ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية؛ فإنه
لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر،
ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بعامة المسلمين) [5] .
وقال أيضاً: (أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة،
والأول هو القول الصحيح؛ لأنّ في السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه
قال: (أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر) [6] ، لأنه يوم الحج الأكبر
في مذهب مالك والشافعي وأحمد؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: (يوم النحر هو يوم الحج الأكبر) [7] .
أحكام تتعلق بالعيد:
أولاً: حكم صلاة العيد:
اختلف العلماء في ذلك، ولهم ثلاثة أقوال:
أ -أنها واجبة على الأعيان وهو قول الأحناف [8] .
ب - أنها سنة مؤكدة، وهو قول مالك وأكثر أصحاب الشافعي [9] .
ج - أنها فرض كفاية، وإذا تمالأ أهل بلد على تركها يُقاتلون وهو مذهب
الحنابلة، وقال به بعض أصحاب الشافعي [10] .
والذي يظهر رجحانُه القولُ بالوجوب لما يلي:
1- أمر الله تعالى بها: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] [الكوثر: 2] والأمر يقتضي
الوجوب، وأمره-النساء أن يخرجن إليها.
2- مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها وعدم تخلفه عنها.
3- أنها من أعلام الدين الظاهرة، وأعلام الدين الظاهرة فرض كالأذان
وغيره [11] .
قال شيخ الإسلام: ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان. وقول
من قال: (لا تجب) في غاية البعد؛ فإنها من شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها
أعظم من الجمعة، وقد شرع لها التكبير، وقول من قال: (هي فرض كفاية) لا
ينضبط؛ فإنه لو حضرها في المصر العظيم أربعون رجلاً لم يحصل المقصود؛
وإنما يحصل بحضور المسلمين كلهم كما في الجمعة [12] .
واختار القول بالوجوب ابن القيم والشوكاني وابن سعدي وابن عثيمين [13] .
وعلى هذا القول فإن المفرطين في حضورها آثمون خاسرون في يوم الفرح
والجوائز.
ثانياً: حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها:
أ - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها..) [14] .
ب - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول -صلى الله
عليه وسلم- لا يصلي قبل العيد شيئاً؛ فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) [15] .
فمن خلال هذين الحديثين يظهر ما يلي:
1-أن صلاة العيد ليس لها راتبة لا قبلية ولا بعدية؛ لحديث ابن عباس.
2- أنه لو صلى بعدها في البيت أصاب السنة إن كان من عادته أن يصلي
الضحى، لحديث أبي سعيد.
3- إذا كانت صلاة العيد في المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لحديث
أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا دخل
أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) [16] .
4- إذا كانت صلاة العيد في المصلى فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن
مصلى العيد له حكم المسجد بدليل أمره -صلى الله عليه وسلم- الحيّض أن يعتزلن
المصلى، وهذا على رأي بعض العلماء [17] .
5- التنفل المطلق لا يخلو من حالتين:
أ - إما أن يكون قبل العيد في وقت النهي؛ فلا يجوز لعموم النهي عن ذلك.
ب - وإما أن يكون قبل العيد ولكن ليس في وقت النهي كما لو أخروا صلاة
العيد، أو بعد العيد وهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء، فمنهم من أجازه
مطلقاً، ومنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه قبل صلاة العيد، ومنهم من أجازه
بعدها، ومنهم من أجازه للمأموم دون الإمام، ومنهم من أجازه في المسجد لا في
المصلى.
والذي يظهر والله أعلم الجواز لعدم الدليل على المنع، وأما حديث ابن عباس
رضي الله عنهما فهو يحكي فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو إما ينتظر إذا
حضر صلى بهم، وإذا انتهى انصرف كما في الجمعة، ثم لا يدل عدم فعله على
المنع منه.
قال ابن عبد البر: (الصلاة فعل خير فلا يجب المنع منها إلا بدليل لا
معارض له فيه، وقد أجمعوا أن يوم العيد كغيره في الأوقات المنهي عن الصلاة
فيها، فالواجب أن يكون كغيره في الإباحة) [18] .
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن عرض الخلاف: (والحاصل أن صلاة العيد لم
يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم
يثبت فيه منع بدليل خاص؛ إلا إن كان في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام،
ورجّح عدم المنع ابن المنذر) [19] .
ولكن إذا كان التنفل قبل صلاة العيد فقد ترك صاحبه الفاضل إلى المفضول؛
لأن عبادة التكبير في وقته المأمور به أفضل من مطلق النفل.
ثالثاً: صلاة العيد في المصلى:
علل الشافعي رحمه الله تعالى خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى
الصحراء لصلاة العيد بكون مسجده -صلى الله عليه وسلم- لا يتسع لهم؛ بدليل أن
أهل مكة يصلون في المسجد الحرام، ومقتضى ذلك أن العلة تدور على الضيق
والسعة لا لذات الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع فإذا حصل في
المسجد مع أفضليته كان أوْلى [20] .
والذي يظهر أن ذلك مرجوح، ومقابل لفعله -صلى الله عليه وسلم-، قال
ابن قدامة: (ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى المصلى ويدع
مسجده وكذلك الخلفاء من بعده، ولا يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الأفضل
مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل.. ثم ذكر
أن ذلك إجماع المسلمين [21] .
وأما صلاة أهل مكة في المسجد الحرام فلأن مكة جبال والصحراء فيها
بعيدة [22] .
رابعاً: وقت صلاة العيد:
وقتها: من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، قال ابن بطال: (أجمع
الفقهاء على أن صلاة العيد لا تُصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما
تجوز عند جواز النافلة) [23] .
وقال ابن القيم: (وكان -صلى الله عليه وسلم- يؤخر صلاة عيد الفطر
ويعجل الأضحى، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة لا يخرج حتى تطلع
الشمس) [24] .
وقد علل ابن قدامة تقديم الأضحى وتأخير الفطر بأن لكل عيد وظيفة،
فوظيفة الفطر إخراج الزكاة ووقتها قبل الصلاة، ووظيفة الأضحى التضحية ووقتها
بعد الصلاة [25] .
خامساً: لا نداء لصلاة العيد:
أ - روى ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قالا: (لم يكن يؤذن يوم الفطر
ولا يوم الأضحى) [26] .
ب - وروى جابر بن سمرة قال: (صليت مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة) [27] .
قال مالك: وتلك هي السّنة التي لا اختلاف فيها عندنا [28] ، ونقل الإجماع
عليه ابن قدامة [29] ، ولم يكن يُنادى لها بالصلاة جامعة أو غير ذلك، بل كان
عليه الصلاة والسلام إذا انتهى إلى المصلى صلى [30] .
ورجّح ابن عبد البر أن أول من فعل الأذان للعيدين معاوية -رضي الله
عنه-[31] .
سادساً: تقديم الصلاة على الخطبة:
نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة [32] ، وقال ابن المنذر: (فقد ثبت عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة في يوم العيد،
وكذلك فعل الخلفاء الراشدون المهديون، وعليه عوام علماء أهل الأمصار) [33] .
وأول من قدم الخطبة على الصلاة قيل عثمان [34] ، وقيل ابن الزبير [35] ...
رضي الله عنهما، قال ابن قدامة: ولم يصح عنهما [36] ، وقيل: معاوية -رضي
الله عنه-[37] .
ولو ثبت ذلك عن أي منهم فهو اجتهاد منهم رضي الله عنهم لا يقابل النص
الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (شهدت
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم
فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة) [38] .
سابعاً: التكبير في الصلاة:
قال شيخ الإسلام: واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير
زائد [39] .
1- عدد التكبيرات: يُكبّر في الأولى سبعاً دون تكبيرة الركوع، وفي الثانية
خمساً دون تكبيرة النهوض. وهذا مذهب الفقهاء السبعة [40] .
وجاء فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كبر ثنتي عشرة تكبيرة: سبعاً في الأولى، وخمساً في الأخرى) [41] .
وورد عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف في عدد التكبيرات، ولذلك وسع فيه
الإمام أحمد [42] .
2- يكبر المأموم تبعاً للإمام. قاله شيخ الإسلام [43] .
3- يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفيه حديث وائل بن حجر أنه -صلى الله
عليه وسلم- كان يرفع يديه مع التكبير [44] ، فهذا عام في العيد وغيره. وورد في
تكبيرات الجنازة والعيد مثلها عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً [45] . وذكر الحافظ
ثبوت رفع اليدين عن ابن عباس رضي الله عنهما [46] ، وهو قول عطاء
والأوزاعي والشافعي وأحمد [47] .
4- الذكر بين التكبيرات: لم يرد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، وإنما قال عقبة بن عامر: سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد قال:
(يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي) [48] . قال البيهقي رحمه الله تعالى:
(فتتابعه في الوقوف بين كل تكبيرتين للذكر إذا لم يرد خلافه عن غيره) [49] .
وقال شيخ الإسلام: يحمد الله بين التكبيرات ويثني عليه ويدعو بما
شاء [50] .
5- حكم التكبيرات الزوائد: قال ابن قدامة: (سنة وليس بواجب، ولا تبطل
الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً، ولا أعلم فيه خلافاً) [51] .
لكن إن تركه عمداً، فقد تعمد ترك سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفاته
خيرها.
6- إذا دخل المأموم مع الإمام وقد فاته بعض التكبيرات الزوائد فإنه يكبر مع
الإمام ويمضي مع الإمام، ويسقط عنه ما فاته من التكبيرات [52] .
ثامناً: القراءة في صلاة العيد:
السنة أن يقرأ في صلاة العيد:
أ - في الركعة الأولى بسورة (ق) وفي الثانية بسورة (القمر) ؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم- قرأ بهما في العيدين كما في حديث أبي واقد الليثي [53] .
ب - أو في الركعة الأولى بسورة (الأعلى) وفي الثانية بسورة (الغاشية)
لحديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان
يقرأ بهما في العيد.
ج - إذا اجتمع عيد وجمعة في يوم واحد فلا مانع أن يقرأ بهما في العيد وفي
الجمعة لأنهما سنة في كلا الصلاتين؛ ولما جاء في حديث النعمان السابق: (وإذا
اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين) [54] .
__________
(1) صحيح ابن خزيمة، 3/315، رقم (2161) ، وأخرجه أحمد، 2/ 303، والحاكم وصححه،
1/437، والبزار كما في كشف الأستار، 1069، وحسنه الهيثمي في الزوائد، 3/199، وصححه الشيخ شاكر في شرح المسند (8012) .
(2) أخرجه أبو داود في الصوم (2438) والترمذي في الصوم (757) .
(3) أخرجه أبو داود في الصوم (2419) ، والترمذي في الصوم (773) والنسائي في المناسك
(5/252) .
(4) لطائف المعارف (482) .
(5) اقتضاء الصراط المستقيم، 1/482.
(6) أخرجه أحمد [4/350) ، وأبو داود في المناسك (1765) ، وابن خزيمة (4/294) ، وصححه ابن حبان (2800) .
(7) أخرجه مسلم في الحج (1347) ، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
(25/288) .
(8) انظر: المبسوط (2/37) ، وبدائع الصنائع (1/274) ، وتحفة الفقهاء.
(1/275) .
(9) انظر: الشرح الصغير (1/523) ، والقوانين الفقهية (85) ، والأم (1/ 240) والمهذب
(1/163) .
(10) انظر: المغني (3/253) وكشف القناع (2/55) .
(11) انظر المغني (3/254) .
(12) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/161) .
(13) انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم (11) ، ونيل الأوطار (4/180) والمختارات الجلية، للسعدي (82) والشرح الممتع، للعثيمين (5/151) .
(14) أخرجه البخاري في العيدين (989) ، ومسلم في العيدين (884) .
(15) أخرجه ابن ماجة في إقامة الصلاة (1293) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/297) وصححه البوصيري في الزوائد (1/423) ، وحسنه الحافظ في البلوغ (517) .
(16) أخرجه مالك (1/162) ، والبخاري في الصلاة (444) ، ومسلم في صلاة المسافرين (714) وأهل السنن إلا ابن ماجه.
(17) انظر الشرح الممتع، (5/204) .
(18) الاستذكار (7/95) .
(19) فتح الباري (2/552) ، وانظر الإجماع الأوسط لابن المنذر (4/270) ، وانظر الخلاف والحجج في هذه المسألة: فتح القدير لابن الهمام (1/424) ، والدر المختار (1/777) ، وبداية المجتهد
(1/212) ، والمهذب (1/119) ، ومغني المحتاج (1/213) ، والمغني (3/280) ، وكشاف القناع (2/62) ، والشرح الممتع (5/203) .
(20) كتاب الأم (1/389) ، وانظر فتح الباري (2/522) .
(21) المغني (3/260) .
(22) الشرح الممتع (5/162) .
(23) فتح الباري (2/530) .
(24) زاد المعاد (1/442) .
(25) المغني (3/267) .
(26) أخرجه البخاري في العيدين (960) ، ومسلم في العيدين (886) .
(27) أخرجه مسلم في العيدين (887) ، وأبو داود (1148) ، والترمذي (532) .
(28) انظر الاستذكار (7/10) .
(29) المغني (3/267) .
(30) انظر: زاد المعاد (1/442) .
(31) الاستذكار (7/21) .
(32) المغني (3/276) .
(33) الأوسط (4/271) .
(34) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3/283) ، وابن أبي شيبة في المصنف (2/171) ، وابن المنذر في الأوسط (2171) ، عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أن عثمان هو أول من قدم الخطبة على الصلاة وصححه الحافظ في الفتح (2/524) ، وعثمان -رضي الله عنه- إنما فعل ذلك اجتهاداً منه لما رأى الناس يتأخرون فتفوتهم الصلاة فحرصاً منه عليهم قدم الخطبة حتى يدركوا الصلاة، انظر: فتح الباري (2/425) .
(35) أخرجه ابن أبي شيبة (2/170) وابن المنذر (2149) .
(36) المغني (3/276) .
(37) أخرجه عبد الرزاق (3/284) .
(38) أخرجه البخاري في العيدين (262) ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه (263) .
(39) مجموع الفتاوى (24/225) .
(40) المغني (3/271) .
(41) أخرجه أحمد (2/180) ، وأبو داود (1152) ، وابن ماجه (1278) ، ونقل الحافظ تصحيحه عن أحمد وعلي بن المديني وقال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: هو صحيح، انظر التلخيص (2/90) ، ونصب الراية (2/217) ، والاستذكار (7/49) .
(42) الشرح الممتع (5/178) .
(43) مجموع الفتاوى (24/220) .
(44) أخرجه أحمد (4/316) ، وحسنه الألباني في الإرواء (641) .
(45) أما المرفوع فأعله الدارقطني بعمر بن شيبة كما في نصب الراية (2/ 285) ، وجوّد إسناده سماحة الشيخ ابن باز؛ لأن عمر ثقة وزيادته مقبولة إذا لم تكن متنافية ولا تنافي انظر الشرح الممتع (5/426) وأما الموقوف فأخرجه البخاري في الصحيح معلقاً، ووصله في جزء رفع اليدين في الصلاة (105) ، وأخرجه أحمد في المسند (6/266) ، وصححه الحافظ بعد أن عزاه للبيهقي انظر: التلخيص (2/154) .
(46) انظره في التلخيص (2/154) وعزاه لسعيد بن منصور.
(47) انظر: المجموع (5/26) ، ومسائل أبي داود (59) ، والأوسط (4/ 282) .
(48) أخرجه البيهقي في السنن (3/291) ، وصححه الألباني في الإرواء (642) .
(49) السنن الكبرى (3/291) .
(50) مجموع الفتاوى (24/219) .
(51) المغني (3/275) .
(52) أسئلة وأجوبة في العيدين، للشيخ ابن عثيمين (7) .
(53) أخرجه مسلم في العيدين (891) ، والترمذي (534) والنسائي (3/ 184) ، وابن ماجه (1291) .
(54) أخرجه مسلم في العيدين (878) ، والترمذي (533) ، والنسائي (3/ 184) ، وابن ماجه (1281) ، وانظر أيضاً حديث سمرة عند أحمد (5/7) ، وحديث ابن عباس عند ابن ماجة (1283) .(135/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
عبودية الشهوات
(2)
سُبُل الدواء
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
تناول الكاتب وفقه الله في الحلقة الأولى الحديث عن الموقف الصحيح تجاه
الشهوات ذاكراً أن المسلك العدل إزاءها هو الوسطية بين مسلك أهل الفجور
ومسلك أصحاب الرهبانية، موضحاً أن الإسلام يراعي أحوال الناس ويدرك ما هم
عليه من الغرائز والشهوات؛ فهو يبيحها ويعترف بها ولكنه يضبطها ويهذبها، ثم
تناول الحديث عن (شهوة النساء) . وفي هذه الحلقة يتناول علاج هذه الشهوة،
ويثنّي بصور أخرى من الشهوات وعلاجها.
علاج شهوة النساء:
بعد أن فصّلنا الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد
بسط أبو الفرج ابن الجوزي في (ذم الهوى) وابن القيم في (روضة المحبين)
الحديث عن العلاج، وأطنبا في وصفه وتشخيصه، وتميّز ابن الجوزي بإيراد
علاج لكل مرحلة من مراحل هذه الشهوة، فجعل للنظر المحرم علاجاً، وجعل
للخلوة بالنساء علاجاً وهكذا. وأما ابن القيم فقد ساق خمسين وسيلة في علاج هذه
الشهوة على سبيل الإجمال والعموم.
ومما سطّره يراع أبي الفرج ابن الجوزي في هذا المقام: (واعلم أن أمراض
العشق تختلف، فينبغي لذلك أن يختلف علاجها؛ فليس علاج من عنده بداية
المرض كعلاج من انتهى به المرض نهايته، وإنما يُعالج من هذا المرض من لم
يرتقِ إلى غايته؛ فإنه إذا بلغ الغاية أحدث الجنون والذهول، وتلك حالة لا تقبل
العلاج) [1] .
وقال أيضاً: (فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً
متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه
يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل
المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن
الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها.
فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه..
وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم
على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه) [2] .
وقال في موضع ثالث: (ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك
ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تسلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس
والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛
لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً.
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر
مناتنها) [3] .
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار
منها بعضها، فمن ذلك قوله:
(التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته
للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ [4]
(أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد
في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد
جمعوا بين خصلتي الكبر والذل) [5] .
(أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى
البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج
صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم
وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله
والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه) [6] .
(إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفّار فليس بدونه، قال رجل
للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك
هواك. وسمعت شيخنا ابن تيمية يقول: (جهاد النفس أصل جهاد الكفّار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم) [7] .
(إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق
باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات
انقطعت عنه موارد التوفيق) [8] .
(إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في
قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له،
وليس مراد الله تعالى كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل
المراد كسرها من القلب أولاً.. وتأمل قول الخليل: [إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] [الأنبياء: 52] ، كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي
يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله تعالى) [9] .
(إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل
والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع هواه، بل يصير له ذلك في
نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها ... عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره
على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز
والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت
ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما
الآخرة فقد جعل الله سبحانه الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع
هواه) [10] .
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله،
والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة
ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة والاشتغال بمعالي
الأمور والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله تعالى، ونهي النفس عن
الهوى وإصلاح الخواطر والإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله
تعالى والانكسار بين يديه سبحانه.
شهوة المال:
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به،
فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار هِجّيراهم ومقصودهم وجلّ حديثهم واهتمامهم،
فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال:
إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.
ولقد ذمّ الله تعالى الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: [وَمَا الحَيَاةُ
الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] [الحديد: 20] وقوله سبحانه: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ] [الحديد: 20] .
وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: (إنّ مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة
الدنيا وزينتها) متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم
يرضَ) أخرجه البخاري.
وعن كعب بن عيا ض -رضي الله عنه- قا ل: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) أخرجه الترمذي،
وقال: حديث حسن صحيح.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (ما ذئبان جائعان
أُرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أخرجه
الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقد ورد عن الحسن البصري رحمه الله: أنه قال: إياكم وما شغل من الدنيا؛ فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب
أن يفتح عليه عشرة أبواب) [11] .
وكان يقول أيضاً: (أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها) [12] .
وكان الحسن يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله) [13] .
ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على
الآخرة، نورد منه ما يلي:
(لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا
إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم
المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد،
وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من
همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد
النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها
وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي
كما قال الله سبحانه: [وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] [الأعلى: 17] فهي خيرات كاملة
دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة) .
إلى أن قال: (وقد توعّد الله سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا
واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرجُ لقاءه فقال: [إنَّ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمُ
النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [يونس: 7، 8] وعيّر سبحانه من رضي بالدنيا من
المؤمنين فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ
إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ
قَلِيلٌ] [التوبة: 38] وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن
طاعة الله وطلب الآخرة.
ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ
جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ] [الشعراء: 205-207] [14] .
وجاء في كتاب: (عدة الصابرين) لابن القيم ما يلي: (جميع الأمم المكذبة
لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن
الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛
فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا ... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار
بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا
أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة
اللحد ... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار: (اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب
العلماء) .
وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله
تعالى فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث
أراد) [15] .
وقد بالغ العلماء في التحذير من الاستمتاع بالدنيا والانكباب عليها، حتى
جعلوا مجرد النظر إلى الدنيا إن كان على سبيل استحسانها والركون إليها مذموماً،
كما وضّحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(النظر إلى الأشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا
والرياسة والمال فهو مذموم؛ لقول الله تعالى: [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] [طه: 131] .
وأما إذا كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر
إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق) [16] .
إن الحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله:
(أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه
والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة ...
ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له
وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص
في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل
يتركه لغيره ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده،
ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف،
ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني: من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع
الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من
الشح المذموم، قال الله تعالى: [وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
[التغابن: 16] .
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال: (اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم،
واستحلوا محارمهم) [17] .
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي أو ترك
الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: (حب المال والشرف يفسد الدين،
والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب
والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد
حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام
ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله تعالى لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن
معه عمل.
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن
إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم،
وأنفع للدنيا والآخرة، وقد قال: (من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله،
وجعل فقره في عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر
همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة) [18] .
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه
والإعراض عنه؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فخطب الناس فقال: (لا والله ما أخشى عليكم إلا ما
يُخرِج الله لكم من زهرة الدنيا) ، فقال رجل: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟
فصمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: كيف قلتَ؟ قال: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله: (إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما
ينبت الربيع ما يقتل حبطاً، أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت
خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم اجترّت فعادت فأكلت، فمن أخذ مالاً
بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالاً بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع)
متفق عليه.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: (قوله:
(إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم (هذا من أحسن التمثيل المتضمن
للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت
الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً، (والحبط انتفاخ بطن الدابة من
الامتلاء أو من المرض) ، فكذلك الشرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم
يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: (أو يلم) ، وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم
أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم أو
ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: (إلا آكلة الخضر) هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة
الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها. ..
وفي قوله: (استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت) ثلاث فوائد: أحدها أنها لما
أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.
الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى وأقبلت على ما ينفعها من
استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه. الثالثة: أنها
استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها فاستراحت بإخراجه، ولو
بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة ...
وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل
بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً
إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج
منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه) [19] .
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن
يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن
استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ
مكانة العلماء وعظم شأنهم.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: (لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها
أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس ... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء
الملوك) [20] .
يقول ابن الجوزي حاثاً على الاستغناء عن الناس: (ليس في الدنيا أنفع
للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال،
وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ
الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها ...
ولقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغْشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم؛ فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن
منكرات إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز وبُعد
الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظّلَمَة، ولم نرَ من صح له هذا إلا في أحد
رجلين:
أما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان
الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وأما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق
وإن لم يكفه كبشر الحافي وأحمد بن حنبل؛ ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين،
ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك
دينك، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت
على عالم إلا بحبّ الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان من له ما يكفيه ثم يطلب
بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشّرَهِ، خارج عن حيّز العلماء) [21] .
* والمقصود أن على العبد أن يقنع بالكفاف من هذا المال، مما يحتاجه في
مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه ونحو ذلك، وأن يطلب ذلك من الله تعالى وحده
ويرغب إليه فيه، وأن لا يكون سائلاً للمال بلسانه إلا لضرورة أو مستشرفاً إليه
بقلبه.
وأما ما لا يحتاج إليه العبد فلا ينبغي له الاشتغال به؛ لأن ذلك يؤول إلى
تعلق القلب بالمال واستعباده له، كما يفوت عمره في تحصيل رزق مقسوم، وقد
يحمله الحرص على المال على اكتسابه بالحرام ومنع الحقوق الواجبة.
شهوة الرياسة:
شهوة حب الرياسة والمنصب إحدى الشهوات التي استعبدت كثيراً من الناس
وأحكمت على أفئدتهم، فصارت الولايات والمناصب وما يتبعها من الشهرة
والظهور مقصودهم ومرادهم.
وقد سبق إيراد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء
على المال والشرف لدينه) [22] .
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فأخبر النبي -
صلى الله عليه وسلم- أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل
من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساوياً وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم
من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم
من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل. فهذا المثل العظيم يتضمن
غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا) .
إلى أن قال: (وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكاً من الحرص
على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في
الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن
المال يبذل في طلب الرياسة والشرف) [23] .
ثم ذكر رحمه الله أقسام الحرص على الشرف فقال: (والحرص على الشرف
قسمان:
أحدها: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في
الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها. قال الله تعالى: [تِلْكَ الدَّارُ
الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]
[القصص: 83] ، وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل
يوكَل إلى نفسه) .
إلى أن قال: (ومن دقيق آفات حب الشرف: طلب الولايات والحرص عليها، وهو باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله العارفون به المحبون له....
واعلم أن حب الشرف بالحرص على نفوذ الأمر والنهي، وتدبير أمر الناس
إذا قُصِدَ بذلك مجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب
هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه، وذلهم له في طلب حوائجهم منه؛ فهذا
نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته.
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل
والزهد؛ فهذا أفحش من الأول، وأقبح وأشد فساداً وخطراً؛ فإن العلم والعمل
والزهد إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه
والزلفى لديه ... ) [24] .
ومما يؤكد خطر هذه الشهوة أن جنس بني آدم مولع بحب الرياسة والظهور،
كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس؛ رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب
العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من
يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده) ...
إلى أن قال: (فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان
فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع
الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل.
وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض
نظيره حسداً وبغياً..) [25] .
إن حب الرئاسة وطلبها لا ينفك عن مفاسد متعددة وشرور متنوعة، وقد أشار
ابن رجب إلى بعضها بقوله: (واعلم أن الحرص على الشرف يستلزم ضرراً
عظيماً، قبل وقوعه في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالحرص العظيم الذي يقع
فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر، وغير ذلك من المفاسد) [26] .
وقال في موضع آخر: (إن حب المال والرئاسة والحرص عليهما يفسد دين
المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله ... والنفس تحب الرفعة والعلو على أبناء
جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد) [27] .
وذكر ابن القيم رحمه الله بعض مفاسد هذه الشهوة، فقال:
(إن طلاب الرياسة ليسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في
الأرض، وتعبّد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم
مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا
يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون
حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية
إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمىً عن هذا؛ فإذا
كُشف الغطاء تبيّن لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حُشِروا في صُوَرِ الذرّ
يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغّروا أمر الله وحقروا
عباده) [28] .
وإذا تقرر ذم حب الرياسة وبيان مفاسدها، فإن حب الإمارة للدعوة إلى الله
تعالى يفارق حب الرياسة؛ فإن مقصود هذه الإمارة تعظيم الله تعالى وأمره، وأما
مقصود حب الرياسة فهو تعظيم النفوس والسعي في حظوظها، وأئمة العدل
وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده وإفراده
بالعبودية، ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده. فمن سأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين لم
يضره ذلك، بل يُحمد عليه؛ لأنه داعٍ إلى الله يحب أن يعبد ويطاع، فهو يحب ما
يكون عوناً على ذلك موصلاً إليه [29] .
إن على أهل العلم وطلابه أن يحذروا من شهوة حب الرياسة والشهرة، فإنه
داء عضال ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله تعالى وتزكية النفس
ومحاسبتها.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: (الرياسة أحب إلى القراء من الذهب
الأحمر) [30] .
وقد تحدث أبو الفرج ابن الجوزي عن أولئك العلماء المولعين بالرياسات
والشهرة فقال: (واليوم صارت الرياسات من كل جانب، وما تتمكن الرياسات حتى
يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق؛ فحينئذ تطلب الرياسة
على أهل الدنيا.
ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من يتزيا بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر
عليّ، وإن رآني أزور فقيراً عظّم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه،
فقلت: فوا عجباً هذه كانت طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة
رضي الله عنهم، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه، لا جَرَمَ واللهِ!
سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق ...
فالتفِتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق، ولتكن عُمدتكم
الاستقامة مع الحق؛ فبذلك صعد السلف وسعدوا) [31] .
وفي ختام هذه المقالة نسأل الله تعالى أن يرزقنا الهدى والتقوى والعفاف
والغنى، وأن يجنبنا شهوات الغي ومضلات الهوى، وبالله التوفيق.
__________
(1) ذم الهوى، ص 498.
(2) ذم الهوى، ص 501، 502، باختصار يسير، وانظر ص 537.
(3) ذم الهوى، ص 546، 547، باختصار يسير.
(4) روضة المحبين ص 472.
(5) المرجع السابق، ص473.
(6) المرجع السابق 474.
(7) المرجع السابق، 478.
(8) المرجع السابق 479.
(9) المرجع السابق، ص481، 482.
(10) ذم الهوى، ص 483، 484.
(11) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 189.
(12) سير أعلام النبلاء، 4/579.
(13) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 2/152، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/576.
(14) الفوائد، ص 87-89، باختصار.
(15) عدة الصابرين، ص 185، 186، باختصار.
(16) مختصر الفتاوى المصرية، ص 29، وانظر: شجرة المعارف والأحوال، للعز بن عبد السلام، ص 7.
(17) شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ص 7-11، باختصار.
(18) مختصر الفتاوى المصرية، ص 493، وانظر ص 95، وانظر مجموع الفتاوى، 10/189، 190، ومختصر منهاج القاصدين، لأحمد بن قدامة، ص 195.
(19) عدة الصابرين، ص 198، 199، باختصار.
(20) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 6/381.
(21) شرح حديث ما (ذئبان جائعان) ص 7، 13، باختصار.
(22) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(23) شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ، ص 7، 13، باختصار.
(24) شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ص 13، 15، 16، 20، باختصار.
(25) مجموع الفتاوى، 8/218، -باختصار.
(26) شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ، ص 14.
(27) المرجع السابق، ص 29.
(28) كتاب الروح، ص 433، 434.
(29) انظر: كتاب شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ، ص 19، وكتاب الروح، ص 432.
(30) كتاب الورع، للإمام أحمد بن حنبل، ص 91.
(31) صيد الخاطر، ص 227، وانظر ص 360، وانظر: أخلاق العلماء للآجري، ص 157.(135/16)
دراسات تربوية
الرابطة الإيمانية
حقوقها آدابها أهدافها
عبد الحكيم بن محمد بلال
يستمد المسلم سعادته في هذه الحياة من أمرين:
أولهما: حسن الصلة بالله تعالى.
وثانيهما: حسن الصلة بعباد الله المؤمنين. الذين عقد الله بينهم رباط الأخوة
الإيمانية.
وهذه الرابطة هي الركيزة الأساس بعد الإيمان بالله عز وجل الذي هو أساسها؛ حيث أمر الله بالاجتماع على أساس الإيمان فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ] [آل عمران: 102] ، ثم قال: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ، ثم امتنّ بهذه النعمة الجليلة فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً]
[آل عمران: 103] [1] .
فلا أخوة بلا إيمان: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ، ولا صداقة
بلا تقوى: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] [الزخرف: 67] ،
وإذا انعدمت الصلة الروحية الإيمانية التقت الأجساد على المصالح الذاتية، والمنافع
الشخصية.
وهذه الرابطة هي قوام المجتمع. وقد كانت الدعامة الثانية - بعد بناء المسجد- في تأسيس دولة الإسلام في المدينة بُعَيد هجرة النبي. ولقد كانت قصة المؤاخاة
بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى
الأحلام، وهي قصة وقعت في الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان.
وفي المقابل فإن انفكاك هذه الرابطة هو سبب الفشل والضياع، قال تعالى:
[وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] ؛ لذا عمل الإسلام على
توثيق عرى الأخوة ببيان فضائلها ومقاصدها وثمراتها ووسائل تعميقها، ووعد
عليها أحسن الجزاء، واعتبرها وسيلة لكثير من المقاصد والغايات الشرعية العامة.
وهذه النقاط هي محور الحديث. وحتى يكون الحديث مجدياً فلا بد أن يكون وسطاً
بين المثالية المغرقة، وبين إقرار الواقع على علاته [2] .
فضائل الأخوة:
1- الأخوة أوثق عرى الإيمان، وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، بل هي
من كمال الإيمان. قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد
استكمل الإيمان) [3] ، وبها تُتَذوق حلاوته، قال: (من سره أن يجد طعم الإيمان
فليحب المرء، لا يحبه إلا لله عز وجل) [4] والموالاة على أساس الإيمان منهج
أولياء الله تعالى، قال عز وجل: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ] [المجادلة: 22] . فهي
طريق إلى ولاية الله عز وجل.
2- وبالأخوة تُستجلب محبة الله تعالى، كما في الحديث القدسي: (وجبت
محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ) [5] .
3- والأخوة سبيل إلى ظل عرش الله تعالى، فمن السبعة الذين يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) [6] .
4- والأخوة سبب لعلو المكان في الآخرة، ودخول الجنة؛ فالمتحابون في الله
على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء [7] ، وجوههم نيّرة،
وقلوبهم آمنة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
5- وهي عماد التعاون على البر والتقوى، وهو أمر لا يُتصور حصوله من
الفرد؛ وذلك أن الأخوة قوة إيمانية تورث الشعور بالمحبة والثقة والارتباط، الذي
بدوره يولد أصدق العواطف في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة
والعفو والتكافل، وفي اتخاذ مواقف سلبية من الابتعاد عن كل ما يضر الناس في
أنفسهم وأموالهم وأعراضهم [8] .
6- أنها تعتبر سبباً لتحصيل أجور عبادات لا تحصل إلا بها، وهي ما كان
من باب حقوق الأخوة وآدابها، ومن ذلك:
أ - المصافحة: وهي من أسباب المغفرة، لحديث النبي: (ما من مسلمين
يلتقيان فيتصافحان، إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا) [9] .
ب - عيادة المريض: ففي الحديث: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله
ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) [10] .
7- والأخوة أيضاً طريق للنجاة من وعيد الله تعالى الذي توعد به من آثر
الدنيا على محبة الله؛ حيث قال: [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة: 24] .
مقاصد الأخوة وثمراتها:
1- لا يخفى أن المقصود من الأخوة: التعاون على البر والتقوى، والتواصي
بالصبر. ورعايةً لهذا المقصود النبيل؛ فإنه يلزم اختيار الأخ والصديق على هذا
الأساس؛ بحيث يكون معيناً على طاعة الله ومرضاته، فإن أقل ما يستفيده الأخ من
أخيه: الانكفاف بسببه عن المعاصي؛ رعايةً للصحبة، وتنافساً في الخير [11] .
2- وهناك مقصود آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو: الاستعانة على نوائب
الدهر، وحاجات الزمان، وإنما يحتاج الإنسان (إخوان العُشرة لوقت العسرة) [12] ، وقال القاسم بن محمد: (قد جعل الله في الصديق البار المقبل عوضاً من ذي
الرحم العاق المدبر) [13] . وانظر كيف سأل موسى عليه السلام ربه أن يجعل معه
أخاه هارون وزيراً.
3- وحين نوسّع النظرة نرى الأخوة رباط المجتمع وعماده، وصمام أمانه،
وسرّ قوته.
ويوم أن يكون المؤمنون جسداً واحداً فإنه يستحيل لقوة بشرية - كائنة ما
كانت - اختراقهم، إلا حين يدب الداء من داخلهم. ويوم يتحقق الجسد الواحد نرى
النتائج الطيبة التي حققها الرعيل الأول حين نشروا الإسلام في أرجاء المعمورة،
وانبثقت عنهم حضارة الإسلام [14] .
وبالجملة: فإن أقل ما تستفيده من الأخ: (أن يحفظك في حضرتك ومغيبك،
وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حياتك ومماتك، وأن يدافع عنك، وقد يعرّفك ويصلك
بمن تستفيد منهم) [15] لدنياك وآخرتك.
لأجل هذه الأمور ونحوها كان ابتعاد المسلم عن إخوانه وانقطاعه عنهم عقوبة
من أعظم العقوبات، قال الشافعي: (ضياع العالم أن يكون بلا إخوان) [16] .
وهل كانت عقوبة الثلاثة الذين خُلّفُوا رضي الله عنهم إلا بقطع صلتهم عن إخوانهم
وحجبهم عنهم؟ ولا عجب فإن المؤمن بلا إخوان كعضو بُتر من جسد؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد شبه المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وجعل
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [17] .
شرائط الأخوة وضوابطها:
إن من ينشد تلك الفضائل والمقاصد من علاقة يقيمها هو وفق هواه كمن ينشد
الماء في السراب؛ فإن ذلك مكسب كبير لا يتأتى إلا من علاقة خاصة تتوجها الحلل
الآتية:
1- كونها خالصة لوجه الله تعالى، مجردة من المقاصد المادية؛ ففي الحديث
أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى
عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من
نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإني رسول الله
إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه [18] ، وإلى هذا المعنى تشير النصوص
العامة في اشتراط الإخلاص في كل عمل، وبخاصة الواردة في المؤاخاة والمحبة.
2- اقترانها بالإيمان والتقوى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ،
وبيّن عز وجل تبدد العلاقات إلا ما كان عماده التقوى، فقال: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] . [الزخرف: 67]
3- التزامها منهج الإسلام وتعاليمه: وإليه يلمح قوله -صلى الله عليه وسلم-
في نعت الأخوة الموصلة إلى ظل الله تعالى: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه
وتفرقا عليه) .
4- قيامها على النصح: ولمكانة هذا الشرط استحق أن تؤخذ عليه العهود،
قال جرير بن عبد الله البجلي: (بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) [19] ، وإذا كان ذلك لعامة المسلمين
فهو لخاصة الأصحاب أوْلى بالمراعاة.
5- التعاون على البر والتقوى: وهو الهدف الأول من عقد الأخوة، واختلاله
يؤذن بزوالها وتحولها.
6- التكافل والتباذل والتضحية والتعاون على ضرورات المعيشة وحاجاتها،
وهو أمر من الجلاء بحيث لا تخفى نصوصه الآمرة به، كحديث: (لا يؤمن أحدكم
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [20] ، وحديث: (مثل المؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى) [21] ونحوها.
من تُصاحب؟
قديماً قيل: قلْ لي من تصاحب أقل لك من أنت. ومصداقه قول النبي:
(الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) [22] . وعليه فاختيار الصديق
مرحلة خطيرة تشبه مرحلة اختيار الزوجة من حيث أنها تشكل منعطفاً في حياة
المرء له ما بعده.
أما خصال ذلك الصاحب المراد اختياره فتُجمَل في أمور:
1- سلامة دينه من البدعة والفسق وإيثار الدنيا؛ وذلك لأن من شروط
الصحبة قيامها على الإيمان والتقوى.
2- حسن خلقه وطيب قوله.
3- دوام نصحه، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.
4- استعداده لبذل المعروف وكف الأذى، وإيثاره على نفسه.
5- سلامة عقله، وحسن اختياره، وسداد رأيه؛ لشدة تأثيره على صاحبه في
ذلك [23] .
ومن ذلك جِدّه في حياته، وحسن استغلاله وقته، فإن من أعظم الضرر
صحبة البطالين، وهم من ليسوا في شغل نافع من أمر دينهم أو دنياهم، وإن كان
ظاهرهم الصلاح؛ فإن هؤلاء أكبر مضيع للحياة، ولقد كان للسلف تدابير وخطط
في التعامل مع هؤلاء، وتوقي ضررهم ...
أما قول وهب بن منبه: (استكثرْ من الإخوان ما استطعت، فإن استغنيت
عنهم لم يضروك، وإن احتجت إليهم نفعوك) [24] فينبغي حمله على من تصح
مؤاخاته ممن توفرت فيه شرائط المؤاخاة المتقدمة.
ومن المقرر: أن الرجال أنواع وأصناف ودرجات، ولكل منهم منزلة ومكانة؛ فالواجب إنزال الناس منازلهم، وأن تمنح من وقتك وجهدك لكل منهم ما يليق به، ويتناسب مع مستواه، ولذا كان من أعسر الأمور، إدارة العلاقات الاجتماعية،
لحاجتها إلى فهم النفسِيّات وحسن التعامل معها.
وسائل تعميق الأخوة:
لقد شرع الله عز وجل كثيراً من العبادات الجماعية التي تقوي الصلة بين
المسلمين، كصلاة الجماعة والجمعة، وصلاة العيدين والحج، وشرع أيضاً عبادات
أخرى تحقق التكافل والتعاون بينهم كالصوم والزكاة، وأوجب حقوقاً وواجبات
متبادلة بين الأرحام والجيران، وتزداد إذا كان القريب أو الجار مسلماً صالحاً. كما
شرع كثيراً من المعاملات التي تزيد روابط المجتمع وثوقاً كالقرض والحوالة،
وحرّم أخرى كالبيع على البيع، والشراء على الشراء، والخِطبة على الخِطبة،
والنجش والربا، وقرر أصولاً في التعامل: كالصدق والبيان لعيوب السلعة،
والخيار، والوزن بالقسط [25] .
وإن من أعظم ما يعمق الأخوة أمرين: القيام بحقوق الأخوة، والتزام آدابها.
وبين هذين الأمرين تشابه واشتراك وتداخل، ولكن الحقوق أوجب وألزم من الآداب. والآداب هي مكان من باب الاستحباب، وقد يقوى بعضها فيصير واجباً لما يقترن
به من القرائن.
أولاً: حقوق الأخوة:
وهي حقوق واجبة الوفاء، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام
والحج، فهي واجبة بنص الشارع على المسلمين بعضهم لبعض، وتتأكد أكثر في
حق من تربطك بهم علاقة أخرى، كالاجتماع على الخير والعلم والعبادة والدعوة،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن تلك الحقوق: إفشاء السلام، ورده، وعيادة المريض، واتباع الجنائز،
وتشميت العاطس، ونصر المظلوم، وإجابة الدعوة، وبذل النصيحة وقبولها [26] .
ومن حقوق الأخوة: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع
بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه،
ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئٍ
من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله،
وعرضه) [27] .
وهذا الحديث مأخوذ من قول الله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ]
[الحجرات: 10] فإذا كانوا إخواناً أُمروا بما يوجب الألفة، ونُهوا عما يوجب الفرقة، وهذا من ذلك. وهذا كقوله: (وكونوا عباد الله إخواناً) ، فإن فيه الأمر باكتساب ما يصير به المسلمون إخواناً على الإطلاق، ويدخل فيه أداء الحقوق لواردة في الحديث، وغيرها [28] .
ولعظم حق المسلم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بالجملة الأخيرة
من الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) في المجامع
العظيمة: في عرفة، والنحر، واليوم الذي بعده. ورعاية لحرمة المسلم حرّم
الشارع السرقة، والغيبة، والترويع، والمزاح بأخذ متاع المسلم، والتناجي
دونه [29] وخلاصة هذه الحقوق كلها: ما ثبت في الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [30] .
أما الأخوة الخاصة وهي الصحبة في سبيل الله والعمل لدينه فإن حقوقها
أوجب وآكد، وتختص بحقوق أخرى كالسعي في قضاء الحاجات بالمال والنفس
والجاه والوقت والتضحية بالراحة [31] فكما أن لها من المنزلة أعلاها، فكذلك لها
من الحقوق الأخوية أكملها وأوجبها، من السؤال وتفقّد الأحوال، وسد الحاجات،
والوفاء للأخوة والثبات عليها، وترك التكلّف حتى لا يُشْعِر الأخ أخاه أنه غريب
فيُحوجه إلى الاعتذار عند كل هفوة [32] .
ثانياً: آداب الأخوة:
وهي كثيرة يجمعها أدب المعاشرة بحسن الخلق؛ فإن الألفة التي هي حقيقة
الأخوة إنما هي: (ثمرة حسن الخلق، والتفرّق ثمرة سوء الخلق؛ لأن حسن الخلق
يوجب التحابب والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتدابر) [33] قال:
(وخالق الناس بِخُلق حسن) [34] ، وقال: (من أحب أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل
الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن
يُؤتى إليه) وهذه قاعدة عظيمة جليلة، وأصل جامع، يبين حقيقة اجتماعية صاغها
الحسن رحمه الله في قوله: (اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم؛ فإنهم
سيصحبونك بمثله) [35] .
ومن آداب الأخوة:
1- إعطاء كل واحد من الإخوان حقه، على اختلاف منازلهم؛ بحيث لا
يوغر صدور بعضهم على بعض.
2- الصفح عن العثرات، واحتمال الأخطاء؛ لأنها من طبيعة البشر، وستر
العيوب وتحسينها، وملازمة الحياء منهم.
3- بشاشة الوجه ولطافة اللسان، وسعة القلب، وسلامة الصدر، وقبول
النصيحة منهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه.
4- إحسان الظن بهم، وحمل كلامهم على أحسن الوجوه، وقبول أعذارهم،
ومعرفة نفسياتهم.
5- ملازمة الأخوة وعدم قطعها أو الملل منها؛ إلا بعد استنفاد الفرص
الممكنة لالتماس العذر، كما فعل الخضر مع موسى عليهما السلام، والتواضع،
وحفظ المودة القديمة، وحفظ الأسرار.
6- موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة؛ وذلك سبب عظيم
لبقاء الصحبة وتأكدها، وعسكه بعكسه [36] .
7- إخبار الأخ لأخيه أنه يحبه، ففي الحديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره
أنه يحبه) [37] .
8- تَبَنّي مشاريع عامة لصالح المسلمين، أو المشاركة فيها، والتفاعل معها،
من أبلغ الوسائل تعميقاً للأخوة.
ومن آداب الأخوة أيضاً: المشاورة، وقبول الرأي الصائب والإيثار، والدفاع
عن أعراض الإخوان والذب عنهم، والانتصار لهم، والحرص على خدمتهم،
ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، والوفاء لهم بعد مماتهم، والتودد إليهم بصنائع
المعروف، وزيارتهم، ومواساتهم بالمال، والصبر على جفائهم وإكرامهم، وإكرام
أهل الصاحب وأولاده.
ومنها: حسن الاستماع، والهدية، والدعاء بظهر الغيب، والانبساط في
اعتدال والصبر واحتمال الأذى. قال أصحاب طب القلوب: (إذا قصّر الأخ في
حق أخيه فالواجب الاحتمال والعفو والصفح، إلا إذا كان بحيث يؤدي استمراره إلى
القطيعة؛ فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح،
والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكَل) [38] ، - وترك الجفاء
فالأخوة لا تزيد بالصلة ولا تنقص بالانقطاع، ودوام المودة وتقارب القلوب، فـ
(ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب) [39] . ومنها: ... مراعاة النفسِيّات، وعدم المواجهة بالعتاب، وأن لا يكون الأخ ثقيلاً.
ومما يتأكد تركه واجتنابه: الحسد، وإخلاف الوعد، وما يؤذي، والمخالفة
في أمور الدنيا، والغضب، والمنّ بالمعروف، وقبول الوشاية والنميمة، والهجر
والتدابر والمقاطعة، والاحتجاب عن الإخوان لغير سبب، والملامة والعتاب،
والتمادي في المماراة والجدال والخصام، والانتقام والتشفي، والمبالغة في المدح
والإطراء.
آفات المؤاخاة ومفسداتها [40] :
وهي أمر ينبغي أن لا يُغفل عنه. ولا يعني ذكر الآفات التقليل من قيمة
الأخوة، وإنما المقصود صيانتها مما يمسّها. فمن تلك الآفات:
1- الإخلال بحقوق الأخوة وآدابها؛ مما يفصم عرى الأخوة، أو يضيع
مقصودها.
ومن صور الإخلال: ترك النصرة والنصيحة، وترك آداب الحديث
والمحادثة، وضعف الاحترام، وكثرة النقد والجدال والمعارضة، والاعتداد بالرأي، وضيق العطن، والنصيحة في العلن، وتصديق النمّامين والحاسدين، وإذاعة
السر، والتدخل في خصوصياته، أو عدم الاكتراث بمشاكله وظروفه، والحرص
على إظهار الذات، وتحقيق الوجاهة من خلاله، وإخلاف المواعيد والاتفاقات دون
عذر، وكثرة تحديث الأخ بما يغمه ويسوؤه.
2- طلب الكمال: لذا ينبغي أن يُعلم أن الأخوة: جهد بشري، وأن الدنيا لا
تخلو من منغصات، بدليل أن الشرع أباح الهجر دون ثلاث، وإنما يطيب العيش
في الجنة، ولا يخفى ما حصل بين خيرة الأمة.
3- الأثرة وحب النفس، وتقديم حاجاتها مطلقاً على ضرورات الأخوة
وحاجاتهم، وهو مناقض لمقصد الأخوة أصلاً.
4- دخول رابطة من روابط الجاهلية؛ كرابطة الجنس أو النسب أو العشيرة
أو الوطنية أو المصالح المشتركة، بحيث تؤثر على الرابطة الأساس التي قامت
عليها الأخوة.
5- الإفراط في المعاتبة والنظر إلى السلبيات دون الإيجابيات، وترك
الاعتذار أو التسامح. يروى عن رجاء بن حيوة أنّه قال: (من لم يؤاخِ إلا من لا
عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بالإخلاص دام سخطه، ومن
عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه) [41] .
6- تصيّد الأخطاء؛ فإن ذلك يوغر الصدر، وهو مناقض لمقصد النصيحة
وحسن الظن، ثم إن (كل ابن آدم خطاء، فخير الخطائين التوابون) [42] ، وأيضاً
فإن كل متصيد لعيب غيره، غافل عن عيوب نفسه.
7- سوء الظن: وهو جالب للهم والغم، ومتضمن ظلم المظنون فيه، فكم
ظُنّ في رجل سوءٌ، وعومل على أساسه سنوات دون علمه، ومن غير سؤاله
والاستفسار منه، ثم تبين خلاف ذلك.
8- كثرة المخالطة بحيث تُقصد لذاتها ولمجرد المؤانسة، فتصرف عن
المقصود، وتضيع الوقت، وتؤثر في القلب. ومع كثرة المخالطة تكثر الزلاّت
والعثرات، وتزول الكلفة، ويتولد من التزين والبطالة الضيق عن العفو فيكثر
العقاب والتأنيب واللوم والمحاسبة، وحينئذٍ اقرأ على الأخوة السلام؛ لأن الأخوة
النافعة هي التي تُذكّر بالآخرة، وتعين على البر والتقوى، فإن غاب هذا القصد،
حل مكانه التزين والبطالة. كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتاب
الفوائد [43] .
9- ضعف الاحتكام إلى شرع الله، والإعراض عن الضوابط الشرعية التي
تحكم علاقات الناس.
10- الطمع في الدنيا، وفيما في أيدي الناس؛. ففي الحديث: (ازهد في
الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) [44] . ومن تمام أخوة
الصادقين أنهم [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] . ولذا قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه
ما يحب لنفسه) [45] .
11- التفريط في الطاعات، وعمل المخالفات. قال النبي: (ما تواد اثنان
في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يُحْدثهُ أحدهما) [46] .
12- برود العاطفة، وضعف الحنين والشوق، فتفتقد الأخوة وقودها الذي
يخفف عن النفس القيام بحقوقها؛ فإن المحبة الصادقة والعاطفة الجياشة تحمل الأخ
على الدعاء لأخيه، والقيام بحقوقه، والإحساس بقيمته وخطورة فقده. وفي الحديث: (ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) [47] . ...
13- التحفظ والتكلف والإثقال على الصاحب، ومراقبته في قيامه بحقوق
الأخوة نحوك، قال ابن تيمية: (العارف لا يرى له على أحد حقاً، ولا يشهد له
على غيره فضلاً، ولذلك لا يعاقب ولا يطالب) [48] .
14- التفريط في إظهار المحبة أو ما يدل عليها وما يستجلبها ويزيدها،
كإعلامه بالمحبة. قال: (إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه
يحبه لله) [49] ، وكالهدية والشكر والثناء بالدعاء أو غيره.
15- إهمال الدفاع عنه في غيبته؛ فإن ذلك ترك لحق النصرة، وخذلان
للأخ، وإذا سمعت ذم أخيك فافترض أحد أمرين:
أ - أن الذي قيل فيه قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله.
ب - أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع إليك، وليكن الحال حال حضوره
مثله في غيبته [50] .
16- التلهي عنه بغيره، وقلة الوفاء. وقد كان -صلى الله عليه وسلم-
يحسن إلى صديقات خديجة رضي الله عنها، ويقول: (إن حسن العهد من
الإيمان) [51] .
17- الإفراط والغلو في المحبة، قال: (أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن
يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً
ما) [52] .
__________
(1) انظر الملتقى التربوي، جاسم المسلم، 1 /41.
(2) انظر: مشكلات الدعوة والداعية، فتحي يكن، ص 207208.
(3) رواه أبو داود، ح/4681، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 5965.
(4) رواه أحمد في مسنده، 2/298، 520، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/5958 ونحوه الحديث الآخر المشهور: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) .
(5) المسند، 5/ 233.
(6) أخرجه البخاري، 1/160، في الأذان، باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد.
(7) كما في المسند، 5/229.
(8) انظر: الأخوة الإسلامية، لعبد الله علوان، ص5.
(9) أخرجه أبو داود، ح/5212، وأحمد، 4/ 289 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة،
ح525.
(10) رواه الترمذي (ح/2008) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 6387.
(11) انظر: الأخوة، لجاسم الياسين، ص 65 68.
(12) من مقولة للصعلوكي، في السير 17/208، وانظر: نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء، لمحمد بن حسن عقيل موسى، ص 1678، 1679.
(13) السير، 5/57.
(14) انظر: الأخوة الإسلامية، ص66، وما بعدها.
(15) مجتبى الفوائد الدعوية والتربوية من مؤلفات السعدي، للوائلي، ص 100.
(16) السير، 10/42.
(17) كما ورد في الأحاديث، انظر: البخاري، 1/123، 7/77.
(18) رواه مسلم، ح 2567.
(19) البخاري، 1/20.
(20) مسلم، ح/45.
(21) البخاري، 7/77.
(22) الترمذي، ح/2378، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 3545.
(23) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص 120.
(24) السير، 4/550.
(25) انظر: العلاقات الاجتماعية في القرآن، للجلالي، ص 127 - 173.
(26) وهي الواردة في حديث البراء الذي رواه البخاري، 7/124، ح/ 1239.
(27) رواه مسلم، ح/2564.
(28) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/271 - 273.
(29) انظر: جامع العلوم والحكم، 2/271 - 273.
(30) رواه البخاري، 1/9.
(31) انظر: السلوك الاجتماعي، حسن أيوب، ص 485.
(32) انظر: خواطر في الدعوة، 1/6.
(33) مختصر منهاج القاصدين، ص 116.
(34) رواه أحمد، 5/153، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 97.
(35) السير، 4/584.
(36) انظر: مجتبى الفوائد، للسعدي، جمع: الوائلي، ص 100 110.
(37) رواه أبو داود ح/5124، وانظر صحيح الجامع، ح/ 279، 280، 281.
(38) خواطر في الدعوة، 1/59.
(39) من قول إبراهيم الحربي، ذكره في السير، 13/358.
(40) مأخوذة: عن محاضرة مسجلة لمحمد الدويش، بعنوان آفات الأخوة، وكتاب مفسدات الأخوة، هشام آل عقدة.
(41) السير، 4/558.
(42) رواه أحمد 3/198، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 4515.
(43) انظر ص: 93.
(44) رواه ابن ماجه، ح/ 4102، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/922.
(45) رواه البخاري، ح/7، ومسلم، ح/45.
(46) رواه البخاري في الأدب المفرد، ح/ 401، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/5603.
(47) رواه البخاري في الأدب المفرد، ح/544، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/5594.
(48) انظر: مدارج السالكين، 1/561.
(49) رواه أحمد، 5/145، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/ 797.
(50) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص: 102.
(51) المستدرك، 1/16، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/ 2056.
(52) رواه الترمذي، ح/ 1997، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح/ 178.(135/26)
مراجعات في السيرة والتاريخ
أحداث بيعة العقبة الثانية
رؤية إدارية وتربوية
(1/2)
جمال الحوشبي
الاجتماع هو لقاء بين شخصين أو أكثر يدور حول أفكار وعواطف متبادلة،
وله هدف محدد يسعى الأفراد المجتمعون إلى تحقيقه. وبمقدار تحقق الهدف أو عدم
تحققه يُحكم بنجاح أو إخفاق ذلك الاجتماع مهما بلغت الإمكانات المادية في التحضير
والإعداد له.
كلما قرأت أحداث بيعة العقبة الثانية، كانت تستوقفني أسئلة ملحة تبحث عن
إجابة واضحة: هل من المعقول أن ينتهي ذلك الاجتماع قُبيل الفجر بالرغم من كل
ما دار فيه من محاورات وأحاديث، وبوجود ذلك العدد الضخم من المجتمعين؟ هل
كان هناك سر في تحديد اللقاء أوسط أيام التشريق بالذات؟ هل من حكمة في تحديد
خروج الأنصار بعد منتصف الليل؟ ما هي الفائدة النظامية من جراء اختياره -
صلى الله عليه وسلم- للنقباء الاثني عشر؟ وغيرها من الأسئلة.
إن الواجب علينا ونحن نخوض في مجريات هذه الأحداث أن نعلم أنه بالرغم
من كونه اجتماعاً بشرياً محضاً ضم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والوفد المسلم
من حجاج المدينة؛ إلا أن رعاية الله وتوفيقه كانت من أكبر عوامل النجاح.. ومن
دلائل تلك الرعاية والمعية الربانية حفظ الاجتماع من مبدئه إلى منتهاه أن يظل بعيداً
عن أنظار أهل منى من جهة، وعن أنظار قريش من جهة أخرى. غير أنّي لن
أتعرض إلا لتلك التدابير البشرية التي أسهمت في إنجاح ذلك الاجتماع فحسب.
عوامل نجاح هذا الاجتماع الكبير:
مما يدل على نجاح ذلك الاجتماع الدعوي:
1- حسن الإعداد له والتحضير لفعالياته؛ مما يؤكد أنه ليس وليد اللحظة،
وأنه لم تحركه العاطفة فحسب.. ولقد استغرق الإعداد لهذا اللقاء المهم طيلة ثلاث
سنوات؛ بدءاً من العام الحادي عشر من البعثة؛ حين التقى النبي -صلى الله عليه
وسلم- ستة من الأنصار في موسم الحج كلهم من الخزرج أثناء عرضه نفسه -
صلى الله عليه وسلم- على قبائل العرب، فلما عرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى
عبادة الله أسلموا جميعاً، وبايعوا وانصرفوا دعاةً إلى قومهم.. وواعدهم عليه
الصلاة والسلام العام القادم لينظر ما صنعوا في قومهم. فلما كان العام (12 للبعثة)
أقبل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة الأُوَل وسبعة آخرون:
عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وتم في هذا اللقاء المصغر عقد (بيعة
النساء) التي كان من نتائجها إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمصعب وابن
أم مكتوم إلى المدينة.
كل ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- صابر مترقب؛ بالرغم مما كان
يعصف بالمسلمين المضطهدين في مكة، وما كان يُنَكّل بهم. وفي العام (13 من
البعثة) وقبيل موسم الحج بقليل رجع مصعب إلى مكة بعد أداء المهمة التي كُلّف بها
والقيام بها خير قيام [1] ليخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعزم الأنصار
على مبايعته في الموسم، وكان مصعب -رضي الله عنه- هو المنسّق بين الطرفين.
أقبل في هذا الموسم عدد كبير من مسلمي المدينة ضمن حجاج كثيرين من
مشركي المدينة، وكان زعيمهم جميعاً البراء بن معرور. وبلغ عدد المسلمين في
هذا الوفد سبعين رجلاً وامرأتين، منهم اثنا عشر نقيباً: تسعة من الخزرج، وثلاثة
من الأوس. وجرت بينهم وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتصالات سرية
أدت إلى الاتفاق على تحديد زمان ومكان اللقاء؛ لإبرام اتفاق من أعظم وأهم
الاتفاقيات في تاريخ الإسلام [2] .
2- سرعة الاجتماع العجيبة في تحقيق الهدف الذي عُقد من أجله؛ فإذا علمنا
أنه بعد أقل من شهر واحد فقط من عقد هذا الاجتماع بدأت وفود الصحابة بالهجرة
العامة من مكة إلى المدينة؛ لأن المصلحة باتت متحققة في الهجرة إليها، والمفسدة
متحققة في المكوث تحت أذى المشركين.. مع أن الهجرة أصلاً لم تكن محض
اجتهاد؛ بل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- دار هجرته في المنام بصفة تجمع
بين المدينة وغيرها، ثم أُرِيَ الصفة المختصة بالمدينة فتعينت؛ فإذا علمنا كل ذلك
تبين لنا مدى النجاح الذي حققه هذا الاجتماع.
3- الإعداد الأوّلي للاجتماع كان ناجحاً لتركيزه على ثلاثة أركان رئيسة هي:
أولاً: جودة اختيار المكان.
ثانياً: الدقة في تحديد زمان اللقاء.
ثالثاً: ضبط العدد [3] .
أحداث البيعة كما يرويها كعب بن مالك رضي الله عنه:
قال كعب بن مالك: خرجنا في حُجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقُهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة
قال البراء لنا: يا هؤلاء! إني قد رأيت رأياً فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟
فقلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألاّ أدع هذه البَنِيّة مني بظَهر يعني الكعبة وأن أصلي
إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلاّ إلى الشام،
وما نريد أن نخالفه. فقال: إني لمصلّ إليها.
فقلنا له: لكنا لا نفعل. فكنّا إذا حضرت الصلاة صلّينا إلى الشام وصلّى إلى
الكعبة، حتى قدمنا مكة وقد كنا عِبْنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما
قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حتى نسأله عما صنعتُ في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما
رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنا لا نعرفه
ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن
عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس
معه، فسلّمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: هل
تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه،
وهذا كعب بن مالك؛ فوالله ما أنسى قول رسول الله: الشاعر؟ قلت: نعم. فقال
له البراء ابن معرور: يا نبي الله! إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله
للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البَنِيّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني
أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟
قال: قد كنتَ على قبلةٍ لو صبرت عليها.
قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلّى معنا
إلى الشام.
ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة من
أوسط أيام التشريق.
فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا،
وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلّمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا
نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً.
ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيانا
العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً.
فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من
رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى
اجتمعنا في الشّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من
نسائنا: نُسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال: فاجتمعنا في الشّعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى
جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلاّ أنه أحب
أنه يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن
عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها إن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعةٍ من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب
في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم!
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك
مما نمنع من أُزُرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر!
فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أبو الهيثم
بن التّيَهان، فقال: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها يعني
اليهود فهل عَسَيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بل الدم الدم، والهَدْم الهَدْم، أنا
منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أخْرِجوا إليّ منكم اثني
عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم) ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من
الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وكان أول من ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن
معرور، ثم بايع بعدُ القوم.
فلما بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرخ الشيطان من رأس العقبة
بأنفذ صوت سمعته قطّ: (يا أهل الجباجب، هل لكم من مذمّم والصّباةُ معه، قد
اجتمعوا على حربكم) ؟ فقال رسول الله: (هذا أزبّ العقبة، هذا ابن أزْيَب) !
ثم قال رسول الله: انفَضّوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عُبادة بن نَضْلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلَنّ على أهل منى غداً بأسيافنا! فقال رسول
الله: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم) .
فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا
جِلّةُ قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا
تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من
العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم!
فانبعث مَن هناك مِن مشركي قومنا يحلفون بالله: ما كان من هذا شيء، وما
علمناه! وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.
ونفر الناس من منى، فتَنطّس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في
طلب القوم، فأدركوا سعد بن عُبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيباً.
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنَسْع رحله،
ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، ويجذبونه بِجُمّتِه، -صلى الله عليه وسلم-
وكان ذا شعر كثير.
قال سعد: فو الله إني لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل
وضيء أبيض، شعشاع حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من
القوم خير فعند هذا. فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي:
والله ما عندهم بعد هذا من خير! فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني؛ إذ أوى لي
رجل ممن كان معهم فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟
قلت: بلى، والله، لقد كنت أُجير لجُبَير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف
تُجّارَهُ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي؛ وللحارث بن حرب بن أمية بن
عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة،
فقال لهما: إن رجلاً من الخزرج الآن يُضرب بالأبطح ويهتف بكما، ويذكر أن
بينه وبينكما جواراً. قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله، إن
كان ليُجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده!
قال: فخلّصا سعداً من أيديهم، فانطلق [4] .
من هذا السرد الحي لأحداث الاجتماع تتضح لنا عناصر مهمة من عوامل
النجاح فيه؛ فاللقاء إذن كان له طابع خاص لا يتناسب وطبيعة منى المكتظة
بالحجاج من مشركي العرب ومشركي مكة الذين يتابعون تحركات النبي -صلى الله
عليه وسلم- يسيرون معه حيثما سار، ويردون على قوله أمام الوفود التي يدعوها
للإسلام. كما أن الهدف بحد ذاته يتطلب قدراً من السرية لئلا يعلم به أولئك
المشركون الذين يملأون السهل والجبل.
وخلاصة الأمر أن هذا النجاح يمكن أن يعود برمته بعد رعاية الله إلى القيادة
الفذة التي رتبت مثل هذا اللقاء وأسهمت في إنجاحه، ثم إلى المعايير الخاصة للّقاء
من حيث طبيعته وزمانه ومكانه، ثم إلى الأفراد المشاركين من مسلمي المدينة؛
الذين تقيدوا بالحضور والانصراف حسب الموعد المحدد للقاء، وضبطوا العدد لئلا
يدخل فيه من ليس من أهله؛ بسرّية عجيبة تذهل العقول. وفيما يلي أتناول هذه
الجوانب المهمة من الاجتماع التي أدت إلى نجاحه:
أولاً: المهارة القيادية الفذة:
الناظر في أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- طيلة هذا اللقاء تتحدد له
سمات القائد الناجح الذي يعوّل عليه في مهمة عقد الاجتماعات الدعوية والقيام بها.
ومن هذه السمات البارزة ما يلي:
1- متابعته لتطورات الأحداث في المدينة بعد اللقاء الأول في العام الحادي
عشر من البعثة.
2- توليه المباشر لمهمة التنسيق لهذا الاجتماع مع مصعب بن عمير -رضي
الله عنه- قبيل موسم الحج بوقتٍ كافٍ.
3- تحديد الهدف المطلوب ووضوحه قبل عقد الاجتماع.
4- حكمته الفذة -صلى الله عليه وسلم- في ترتيب لقاءاته الدعوية وتقديم
الأهم فالأهم.. سواء أكان ذلك في الطرح والدعوة، أو في تهيئة جو اللقاء من
حيث الزمان والمكان المناسبين.
5- توقيت حضوره -صلى الله عليه وسلم- للقاء ينطوي على حنكة لا تخفى
على الخبراء في هذا المجال؛ فلم يكن هو أول الحضور، بل تأخر عنهم حتى
يكتمل عدّهم، ويتوافى عددهم. فكانوا يقدمون فرداً تلو الآخر، كما قال جابر:
(فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين.. إلخ) . حتى إذا اكتمل
عددهم أقبل عليهم -صلى الله عليه وسلم- وفيه ما فيه من ترقب النفوس الظامئة
لِلُقْياه والأنس به -صلى الله عليه وسلم-، وفيه ما فيه كذلك من إحلال الهيبة
والهدوء في المكان الذي اكتظ بثلاثة وسبعين فرداً، كما أن الحالة الأمنية تفرض
تأخره إلى ذلك الوقت لانتشار عيون قريش هنا وهناك. فلو أن عيناً من هذه العيون
اطّلع في أول الأمر لم يَرُعْهُ كونهم حجاج يثرب يتسامرون أو يقضون أمراً خاصاً
بهم في هذه الليالي المقمرة!
6- سياق القصة يُظهر انتظار الجميع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا
بعضهم، أي أن العدد اكتمل حضوره تماماً، كما قال كعب: (فاجتمعنا ننتظر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب..
إلخ) . ولذا كان تحديد بدء فعاليات الاجتماع منطقياً؛ لاكتمال العدد وحضور القائد؛
بخلاف ما لو تأخر البعض عن الموعد المحدد أو حضروا بعد مجيء القائد وأحدثوا
خلخلة في الجدول المعد للاجتماع؛ بكثرة الكلام واللغط والبحث عن مكان مناسب
للقعود.. وغيرها من منغّصات اللقاء.
7- ظل -صلى الله عليه وسلم- بعد حضوره صامتاً يسمع ويعي كل ما
يحدث في المكان؛ فلم يبدأ هو بالحديث؛ وإنما تحدث بلسانه عمه العباس، وبيّن
لهم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قومه. وهو صامت تعلوه الهيبة والوقار
والسكينة.
8- ينبغي على القائد تحيّن الفرص المناسبة للحديث؛ ويتحقق ذلك عندما
يكون الحاضرون في أشد الشوق إلى سماع القائد وانتظار توجيهاته. ولقد كان
اختياره -صلى الله عليه وسلم- للحديث صائباً وسديداً؛ حيث كان أشد ما كان
الأنصار شوقاً إليه، ولو تقدّم عن تلك اللحظة لم يكن ليقع ذلك الموقع العظيم في
نفوسهم؛ حتى إنهم من شدة حماسهم وتشوّقهم لسماع رسول الله كما في رواية كعب
قالوا: (فقلنا له أي العباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله! فخذ لنفسك
ولربك ما أحببت) .
9- لم يدفعه -صلى الله عليه وسلم- هذا الحماس منهم المتمثل في طلبهم منه
الحديث وأخذ ما شاء منهم إلى نسيان الثوابت التي يدعو إليها دائماً، ولم يجره
أسلوب الكلام الذي تأدبوا به؛ وإنما بدأ بمقدمة مهمة كان يبدأ بها دائماً، وكرر ما
كان يدعو إليه. قال جابر: (فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله
وأثنى عليه، وتلا شيئاً من القرآن، ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام..) ثوابت
أساسية لا تزول مهما كان العدد ومهما بلغت العدة والنصرة. والدعاة في هذه الأيام
أحوج ما يكونون لمثل هذه البدايات ولمثل هذا الأدب مع الله تعالى في الدعوة.
ثم بعد هذه المقدمة قال -صلى الله عليه وسلم- باختصار شديد: (أبايعكم على
أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) . وهذا هو ما يسمى بتحديد الهدف
من الاجتماع. وهو هنا واضح للجميع وضوح الشمس. وبمقدرة القائد الفذ -صلى
الله عليه وسلم- أن يحكم بجدوى هذا الاجتماع من عدمه من جرّاء الوفاء بهذا
الشرط وتحقيق هذا الهدف. وكل الروايات التي سردت أحداث البيعة تحوم حول
هذه العبارة؛ وقد لا تزيد أكثر الروايات صحة عن أسطر قليلة من مطالبه وشروطه- صلى الله عليه وسلم- فوق هذا الشرط.
10- لم يكن حديثه -صلى الله عليه وسلم- كثيراً بعد هذا الكلام، وما كانت
مواقفه بعدها إلا أن تبسمَ رضىً مما يسمع من كلام الأنصار بعضهم لبعض، أو رداً
على سؤال كما حدث من سؤال أبي الهيثم بن التيهان -صلى الله عليه وسلم- فرد
عليه بألفاظ تعبّر عن المعنى بأوجز الكلام وأبلغه.
واقتصر الحديث بعد ذلك على ما كان توجيهاً وإرشاداً للأصلح في اللقاء
وتسهيلاً لبلوغ الهدف المنشود بأقصر الوسائل وأحسن الطرق، كما فعل من طلب
إخراج النقباء بعد أن حدد عددهم ومهمتهم بقوله: (أخرجوا إليّ منكم اثني عشر
نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم) . وهذا التحديد منه قطعٌ لسؤال وارد حتماً عن
العدد إن لم يذكر، وعن المهمة إن لم تُحدد.. والموعد المحدد للقاء لا يحتمل كثيراً
من الأخذ والرد.
11- وكما لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا اللقاء ليبدأ من قِبَل
الأفراد أنفسهم وتحكّم هو في مبدئه عندما حضر مع عمه العباس. وكان الحديث
خلال الاجتماع كله يدور تحت سمعه وبصره: يقر ويعلّق ويوجه.. كان هو
المتحكم كذلك بموعد الانتهاء ولم يتركه للظروف أو لموافقة الحال؛ ولذا تجده -
صلى الله عليه وسلم- يقرر موعد الانتهاء بصرامة واضحة: (انفضّوا إلى رحالكم) ؛ لأن مصلحة العودة في الوقت المناسب تفوق المصلحة المترتبة من جراء الحديث
الودي الذي كان يدور في المجلس؛ بل إن المفسدة متحققة إذا طلع الفجر ولم ينفضّ
المجلس. ولذا فإنه لما أراد بعضهم أن يطيل أمد الجلوس ويأنس بالحديث مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ويستمتع بطول هذا اللقاء وهو العباس بن عبادة بن نضلة
بقوله -: (والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا)
وهذا الطلب منه كان بعد الأمر بالانصراف حتماً، فما كان رده -صلى الله عليه
وسلم- إلا مقتضباً ومُكرّراً التأكيد على ضرورة الانصراف: (لم نُؤمر بذلك ولكن
ارجعوا إلى رحالكم) . وهذا فن عظيم من فنون القيادة فيه الضبط والحنكة والحزم.
12- تشبّع هذا اللقاء بجرعات كبيرة من الطاقة والحماس في نفوس
المجتمعين له.. ويعبر عن ذلك ألفاظهم من أول اللقاء إلى منتهاه. ففيه المنعة،
والنصرة، والقوة، والحرب، والحلقة، وتقطيع الحبال. وفيه: الدم، والهدم،
والحرب، والسلم، وفيه: الميل للعدو، والقتل، والإخراج من البلد، ومفارقة
العرب، وقتل الخيار، وعض السيوف. ولا شك أن القائد بحاجة في هذا الموقف
إلى ضبط هذا الحماس للخروج بنتائج إيجابية وأكثر واقعية من اللقاء؛ وعدم
الاسترسال في هذا الحماس الذي ربما وصل إلى مرحلة يفقد فيها القائد زمام
المبادرة حين يسقط الأمر من يده. لقد عالج -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك معالجة
سريعة ناجحة؛ فهو في آخر اللقاء يقول: (لم نؤمر بهذا) وكأنه يريد أن يذكّرهم
بأنه لا يفعل هذا الأمر من قِبَل نفسه، وإنما ينتظر ما يأمره به ربه؛ فحري بهم أن
يكونوا كذلك: أي لا يحدثون حدثاً حتى يؤمروا به، ولا يتصرفون من قِبَل أنفسهم
حتى يُؤذن لهم. وفيه إقرار لشجاعتهم؛ لأنه لم يردها ولم يوجه اللوم عليها. وفي
هذا ما فيه من الحفاظ على المشاعر وإبقاء جذوة الحماس وتهذيبه.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د مهدي رزق الله أحمد، ص 248 والسيرة النبوية الصحيحة، د أكرم العمري، 1/198.
(2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 2049.
(3) وهي أركان الاجتماع الثلاثة التي لا يخلو كتاب معاصر في فن إدارة الاجتماعات من ذكرها.
(4) سيرة ابن هشام (1/439 443، 447 448) بإسناد حسن، وقد صححه ابن حبان كما في فتح الباري (7/221) وأخرجه أحمد في مسنده (3/460) ، انظر السيرة النبوية الصحيحة للعُمري
(1/201) .(135/36)
تأملات دعوية
من أوابد الوعاظ
عبد الله المسلم
تدفع العاطفة القوية صاحبها دفعةً ربما أخلّت بتوازنه، وربما تحكمت كثيراً
فيما يطرحه، وأدت به إلى عدم اتزان، ومبالغات تحوي مخالفات شرعية.
استمعت لأحد الوعاظ الغيورين يتحدث للمصلين مع مطلع شهر رمضان حول
القنوات الفضائية، وانطلق في حديثه من قوله: (يا باغي الخير أقبل) وأقسم أيْماناً
عدة أنه ليس في جميع هؤلاء من يبغي الخير ومن يريده.
إنه وإن كان كثير من هؤلاء يعلن المعصية ويظهرها، إلا أنهم ليسوا في
درجة واحدة، وربما كان فيهم من المصلين البعيدين عن الفواحش والآثام، لكن
غلبه هواه، أو ضعفت قوامته على أهله.
وبعد ذلك بأيام سمعت آخر يتحدث عن أولئك الذين لا يشهدون الصلاة مع
المسلمين إلا في رمضان، فقال: (والله إنهم يحبون الله ورسوله، ويريدون الخير
لكن يغلبهم هواهم) إنه تطرف آخر.
إن المسلم لا يمكن أن يشهد للمصلين الخاشعين أمامه بهذه القضية؛ التي هي
قضية قلبية، فكيف يقسم على أن جميع الذين لا يشهدون الصلوات مع المسلمين في
غير رمضان يحبون الله ورسوله؟ أليس التخلف عن صلاة الفجر والعشاء من
علامات أهل النفاق بنص كلام النبي؟ فعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال:
صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً الصبح فقال: (أشاهدٌ فلان؟)
قالوا: لا، قال: (أشاهدٌ فلان؟) قالوا: لا، قال: (إن هاتين الصلاتين أثقل
الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الرّكب..) [1] .
ويذكر الشيخ عبد اللطيف السبكي أن أحد الخطباء في الأزهر خطب حول
حديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، فهوّن أمر المعصية، وذكر أن الله فطر
الناس عليها، حتى قال بالحرف الواحد: (إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا، ولكن
قال إذا أسأتم فاستغفروا) .
إذن فما معنى أن تكون السيئة سيئة؟ ومن أين له في كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن الله لم يقل للناس: لا تسيئوا؟
وأين هؤلاء عما أُثِر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (ألا أنبئكم بالفقيه
حق الفقية: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يُرخص لهم في معاصي الله،
ولم يؤمنهم مكر الله) [2] .
لقد غلّب الرجل الأول جانب الخوف، وأشفق مما يرى من كثرة الفساد
وطرقه، والأخرون غلّبوا حرصهم على هؤلاء العصاة ورغبتهم في إعادتهم إلى
ركاب الطائعين.
فما أجدر الدعاة والوعاظ أن يكونوا معتدلين فيما يطرحونه للناس بأن يعتدلوا
في حماسهم لمشروع أو برنامج أو ظاهرة من الظواهر، وأن يعتدلوا حين يخاطبون
الناس ويزنوا ألفاظهم بميزان الشرع؛ فالإفراط والمبالغة قد تؤدي إلى نتائج معاكسة
لما يريد صاحبها، وسنة الله قائمة في الكون أجمع على الاعتدال.
إن استخدام الأسماء والألفاظ الشرعية، وسعة الثقافة والاطلاع، وعمق النظر
للقضايا، والشمول وعدم نظر الأمور من زاوية واحدة، وهدوء الطبع والاتزان،
والتربية السليمة، إن ذلك كله يمكن أن يسهم إلى حد كبير في التخفيف من اللغة
واللهجة الحادة التي تسيطر على حديث بعضنا أحياناً.
اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) رواه أحمد (30758) ، وأبو داود (554) ، والنسائي (843) .
(2) تذكرة الحفاظ (1/13) .(135/46)
حوار
حوار مع مفتي كوسوفا
حاوره في الرياض: خالد محمد حامد
فضيلة الشيخ الدكتور/ رجب بويا.. هل لنا أن تقدم لمحة شخصية لتعريف
قراء البيان بفضيلتكم؟
أنا أخوكم رجب بويا، من مواليد كوسوفا سنة (1946م) ، درست بالجامعة
الإسلامية بالمدينة المنورة، حتى الدكتوراه التي حصلت عليها سنة (1985م) ،
وبعد عودتي للبلاد انتخبت رئيساً للمشيخة الإسلامية منذ ثماني سنوات وما زلت
أرأس المشيخة، وهي الهيئة الوحيدة التي تشرف على الشؤون الإسلامية هناك،
وكذلك تم اختياري مفتياً عاماً لكوسوفا، وأنا مقيم في عاصمة كوسوفا (بريشتينا) .
- في الفترة الأخيرة ظهر اسم (كوسوفا) بعد العدوان الصربي الغاشم على
أهلها: نود لو قدمتم إلمامة سريعة عن موقع كوسوفا وتاريخها وواقعها الآن؟.
أشير أولاً إلى خطأ تقع فيه بعض أجهزة الإعلام في اسم (كوسوفا) ،
فكوسوفا تنطق بالألف وليس بالواو (كوسوفو) ، وهذا النطق الأخير هو الاسم
الصربي، وهم يحرصون على ترويجه حتى ينسب إليهم الإقليم ويثبتوا أن لهم
حقوقاً تاريخية فيه، تماماً كما يطلق اليهود على الضفة الغربية في فلسطين اسم
(يهودا والسامرة) ؛ بينما (كوسوفا) هو الاسم القديم الذي كان يطلقه المسلمون عليها
والموجود في المراجع العثمانية، فتاريخ كوسوفا وشعبها تاريخ قديم.
ومعظم سكان كوسوفا ألبان، تبلغ نسبتهم 90% من السكان، وهم ينحدرون
من قبائل هندو أوروبية، من الإليير، وقد وصلوا إلى هذه المنطقة قبل اليونانيين،
ولم تكن مسكونة بغيرهم كما تذكر المراجع التاريخية، وقد اختاروا هذه المنطقة
غير المأهولة ليكونوا أحراراً غير خاضعين لأي سلطة، وسموا أنفسهم (إليير)
بمعنى أحرار. ونظراً لموقع كوسوفا الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية، فأرضها
خصبة، ويوجد بها مناجم ذهب وفحم وزنك ورصاص، حتى يقول الخبراء إن ما
في باطن هذه الأرض ثروات كبيرة جداً تكفي لإغناء شعب تعداده أكثر من (15)
مليون نسمة.. نظراً لكل ذلك كانت كوسوفا مطمعاً لبعض الشعوب البلقانية
والأوروبية الأخرى.
فكوسوفا كانت جزءاً من بلاد الألبان، وقد أسلم بعض سكانها قبل وصول
العثمانيين، وعندما فتحها العثمانيون رحب أهلها بهم وأسلم معظمهم، وظلت
كوسوفا ولاية عثمانية أيام الخلافة العثمانية، وبعد انسحاب العثمانيين قُسمت بلاد
الألبان إلى خمسة أقسام موزعة على كل من: كوسوفا، وألبانيا، واليونان،
ومقدونيا، والجبل الأسود، ويبلغ عدد جميع الألبان الآن حوالي (7) ملايين نسمة،
نسبة المسلمين فيهم 75%، أما في كوسوفا خاصة فتبلغ نسبة المسلمين 95%،
وهم لا يقلون في تمسكهم بالإسلام واعتزازهم به عن بقية الشعوب الإسلامية، وهم
الآن يعيشون الأزمة التي يعرفها الجميع.
- كيف كان المسلمون الألبان يقيمون دينهم خلال فترة القهر الشيوعي
والصربي؟ وما دور المشيخة الإسلامية في توعية المسلمين في هذا الوقت الصعب؟
قاوم المسلمون الشيوعية في هذه البلاد عندما دخلت بلادهم، فعدد كبير من
المشايخ والعلماء ورجال الدين استشهد أثناء مقاومة الشيوعية، إضافة إلى من
اعتقل وسجن لسنوات عديدة، وقد أغلقت المدارس التي كانت تعلم المسلمين دينهم
ولم يُبقوا إلا على مدرسة واحدة، وكان دور المشيخة للمحافظة على ثبات الناس
على إسلامهم هناك دوراً كبيراً، وقد حافظ المسلمون وخاصة كبار السن المتمسكين
بالدين على أولادهم والأجيال التالية من خلال تعليمهم شعائر الدين في البيوت؛
عندما فقدوا الأماكن الخاصة بتعليم الإسلام، فأخذ الأبناء ما استطاعوه من دين من
خلال تعليم الآباء والأجداد؛ وذلك بالطبع حسب درجة تدين كل أسرة؛ حيث كانت
هناك أسر متمسكة بالدين وأخرى ليست على ما هو مطلوب من التمسك، ولكن
الذي نستطيع قوله إجمالاً: أن تمسك الناس بالإسلام في هذه المنطقة كان أحسن
حالاً من المناطق الأخرى المحيطة التي كانت الشيوعية تسيطر عليها في البلقان..
وهذا يعود إلى دور العلماء والمشايخ والناس المتمسكين بالإسلام.
- هل استطاعت المشيخة في ظل الظروف الراهنة أن تضع خطة أو منهجاً
للعودة بالمسلمين إلى سابق عهودهم المعروفة؟
في الحقيقة: المشيخةُ الإسلامية لها دستور، وهي منفصلة عن الأحزاب
السياسية وعن الدول، فهي تعمل باستقلال، وهذا الدستور مستمد من القرآن
والسنة واجتهادات الفقهاء وخبرات الدعاة والعلماء والقوانين والأنظمة الإدارية؛
فطبقاً لهذا الدستور تعمل المشيخة في كوسوفا، وعلى قدر ما يكون عندها من
الإمكانات المادية تتوسع وتعمل، وهي تشرف الآن على: (550) مسجداً،
و (21) مركزاً إسلامياً، ومدرسة ثانوية شرعية ينتظم فيها أكثر من (600) طالب
وطالبة، وهناك كلية للدراسات الإسلامية، يدرس بها (400) طالب وطالبة،
فالمشيخة تمد المسلمين بالكفاءات الدعوية والعلمية من خلال نشاطها التعليمي.
- منذ متى بدأ الصراع مع الصرب؟ وكيف؟
صراع الشعب الألباني مع الصرب صراع طويل، منذ أن أتى الصرب إلى
هذه المناطق ليستوطنوا فيها في القرن السابع الميلادي؛ فالصراع بدأ لأنهم جاؤوا
ليستوطنوا هذه الأراضي المسكونة بالألبان، ولضعف قوة الألبان آنذاك فإنهم لم
يستطيعوا أن يقاوموا هذا الاستيطان الصربي في بدايته فكان هناك صراع دائم بعد
ذلك..
في عهد الدولة العثمانية كانت الدولة مسؤولة عن كل هذه المناطق والبلقان،
فكان هناك نوع من الهدوء، ولم توجد مشاكل خلال هذه الفترة (فترة الحكم
العثماني) ، وبعد ذهاب الحكم العثماني عاد الصراع، ثم جاء الحكم الشيوعي الذي
قضى على الجميع بحكم الحديد والنار، فأخمدت مثل هذه النزاعات في تلك الفترة،
ولما ذهبت الشيوعية وتفككت يوغسلافيا عاد الصراع من جديد ولا يزال قائماً.
- وما هو دور الكنيسة الصربية في الصراع الدائر الآن؟
في الحقيقة موقف الكنيسة في هذا الصراع مثل موقفها في الصراع السابق
مع إخواننا في البوسنة والهرسك؛ حيث وقفت موقف المشجع لما كانت تقوم به
السلطات الصربية في البوسنة والهرسك؛ فقد كانت تبارك الأعمال الوحشية التي
كان يقوم بها القادة الصربيون من ذبح وتقتيل للمسلمين هناك، ونحن نعتبر أن
سكوت الكنيسة الصربية عما تقوم به السلطات الصربية في كوسوفا تأييد لهذه
الأعمال؛ فهي ما أدانت في يوم من الأيام المذابح والقتل الجماعي وتدمير وإحراق
مساجد المسلمين وبيوتهم وقراهم.
- في شهر سبتمبر 1990م عقد برلمان كوسوفا اجتماعاً سرياً في مدينة
(كتشاينك) وأعلنوا عن دستور جديد لـ (كوسوفا) .. ما هي أهم بنود هذا الدستور؟
هو طبعاً دستور لجمهورية كوسوفا، ويتكون هذا الدستور من بنود كثيرة لا
أستطيع سردها من الذاكرة، ولكن البند الرئيس هو أن كوسوفا طبقاً لهذا الدستور
تكون دولة مستقلة عن صربيا وعن يوغسلافيا، والشعب الألباني هو الآن بصدد
تطبيق هذا الدستور، وهو الاستقلال؛ لأن الشعب لا تربطه بصربيا رابطة، لا
اللغة ولا الدين ولا العرق ولا المنطقة كمنطقة، فكوسوفا كانت لألبانيا وما كانت
لصربيا، والرأي العام الكوسوفي مقتنع بأن له حقاّ في إقليم كوسوفا باعتبار أن لنا
الأغلبية، واعتبار أننا مغايرون للصرب في كل شيء، وباعتبار الديمقراطية
لمسيرة الشعوب، حتى إنهم يقولون: كيف لا يُسمح لنا بإقامة الدولة بينما أُقِرّ
للصرب بجمهوريةٍ في البوسنة والهرسك، وليس هناك أي مقومات للاعتراف بهذه
الجمهورية الصربية في البوسنة والهرسك؟ فلماذا لا يُعطى حق تقرير المصير
للشعب الألباني في كوسوفا الذي يريد جمهورية مستقلة؟
- هل هناك شكل محدد للدولة التي تنشدونها؟ وأي نظام ستطبقونه في هذه
الدولة إن شاء الله تعالى؟
الدستور حتى الآن لم يطبق تطبيقاً عملياً، فما أستطيع أن أقول في هذا
الشأن شيئاً الآن.
- يعني لم ينص على شكل الدولة في الدستور؟
نعم.. نعم.. إلا بعد أن نأخذ زمام الأمور في كل المجالات.
- ولكن الدستور لم يذكر هذا الأمر!
- لا.
- من المعلوم أنه لا بد لكل دولة من أجهزة حكم وإمكانات بشرية ومادية..
هل ترون أنكم جاهزون لإقامة دولة مستقلة يمكنها عدم الارتباط بتبعية لدولة أجنبية
أخرى؟
كل مقومات الدولة موجودة في كل المجالات، إذا نظرنا إلى الناحية
الاقتصادية والثروات الموجودة والناحية السكانية والكوادر.. كل مقومات الدولة
موجودة، ويستطيع هذا الشعب أن يقيم الدولة كبقية الدول في البلقان وأوروبا، فإذا
أخذنا في الاعتبار أن مقدونيا صارت دولة مستقلة، فكوسوفا أكبر عدداً من مقدونيا، وكذلك في الثروات وفي كل شيء، حتى في الكوادر أحسن حالاً من مقدونيا التي
كونت دولة.
- ولكن، ألن يؤثر التهميش الصربي لتقلد مسلمي كوسوفا بعض المناصب
القيادية في مثل هذه الحالة؟
أيام يوغسلافيا السابقة كان هناك حكم شيوعي اشتراكي، وكان يسمح لجميع
القوميات الموجودة في الاتحاد الفيدرالي بأن يكونوا في كل المجالات، ولهذا استفاد
الشعب الكوسوفي من هذا الجانب بأن كانت لهم كوادر في كل المجالات.
- هل هناك تفكير في الانضمام إلى ألبانيا الحالية أو إقامة دولة الألبان
الكبرى؟
لا توجد عند عامة الشعب الآن إلا فكرة الاستقلال، وإن كان هناك عدد قليل
أو حزب من الأحزاب ينادي ويقول بمثل هذه الخيارات، ولكن غالبية الشعب يقول
بالاستقلال التام بحيث تكون دولة محايدة، لا مع الصرب ولا مع ألبانيا.
- بماذا تعللون غموض بعض المواقف الغربية في الصمت حيال جبروت
صربيا والتطهير العرقي الذي يمارسونه ضد مسلمي كوسوفا بعد البوسنة والهرسك؟
في الحقيقة: إن صربيا دولة قديمة ولها علاقات بدول أوروبية والغرب،
وقد تكون المصالح من الجهتين جعلت الغرب مع الصرب، لكن بعدما عمل
الصرب ما عملوه في البوسنة والهرسك أظهروا للعالم من هم.. والآن في كوسوفا
بدأ الرأي العام الأوروبي والغرب يتجه اتجاهاً آخر مفاده أن الصرب وخاصة
حكامهم في الوقت الحاضر هم مثيرو المشكلات في المنطقة وفي البلقان؛ فقد بدأ
الغرب يغير اتجاهاته الآن نحو تأييد حل المشكلة وعدم اعتبارها مشكلة داخلية كما
يزعم الصرب، ونعتقد أن القضية خرجت الآن من حوزتهم، وتحتاج أن تُحل على
مستوى الدول.
- ولكن.. ألا ترون أن الاتفاق الأخير لا يلبي مطالب الشعب الكوسوفي،
ولا حتى يجبر الصرب على الرجوع عن هذا السلوك؟
لم يكن الشعب الكوسوفي طرفاً في هذا الاتفاق، ولم يدلِ برأيه فيه. هذه
الاتفاقية كانت بين حاكم الصرب (مليفوشيتس) و (هلبروك) ، اتفاقية لوقف القتال،
وما كان هناك ممثل للشعب الكوسوفي أو لقياداته في هذا الاتفاق، ولا يلزم الشعب
الكوسوفي الاكتفاء بهذا الاتفاق.
- تصف أجهزة الإعلام الغربية الدكتور إبراهيم روجوفا بأنه زعيم معتدل
بينما تنحي باللائمة على جيش تحرير كوسوفا.. ما الفرق بينهما في الحقيقة؟ وهل
هو في الغايات أم في الأساليب؟
بالنسبة للغاية؛ فالغاية واحدة سواء من الرئيس أو من الجيش، وهي
الاستقلال، وللوصول للاستقلال هناك أساليب؛ فالرئيس كما يصفه الغرب معتدل
ويريد بالطرق السلمية أن يصل إلى هذه الغاية وهي الاستقلال، أما الجيش فقد
تكوّن ويرى أن الطرق السلمية لا تجدي ولا توصل إلى الغاية؛ فالاختلاف إذا كان
موجوداً فهو في الأسلوب أما الغاية فواحدة.
- ولكن ألا ترون أن اختلاف الأسلوب قد يؤدي إلى عرقلة جهود كل طرف؟
على كل حال نستطيع أن نقول: إن هذا الرئيس من هذا الشعب، وكذلك
الجيش من هذا الشعب، فلا بد أن يكون هناك رابط يربطهم.
- تروج بعض أجهزة الإعلام الغربية أن بعض من يسمونهم بـ (رجال
الدين) في كوسوفا هم علمانيون.. ما مدى صحة ذلك؟ وما هدف الغرب في
الترويج لمثل هذه الأقاويل؟
في الحقيقة أنا أتعجب ممن يقول عن (رجال الدين) إنهم علمانيون وليس
بيدهم الحكم! فلو كان الحكم بيد (رجال الدين) ولم يطبقوا مبادئ الدين أو انحرفوا
عنها، فمن الممكن أن يقال هذا، ولكن ما دام أنه ليس بيدهم الحكم فلا أعرف كيف
جاء هذا الاتهام؛ فكلمة علمانية تعني فصل الدين عن الدولة أو شيئاً من هذا القبيل، وأقول: إن (رجال الدين) ما سلّمت لهم دولة، وليست الدولة بيدهم حتى يفصلوا
بين هذا وذاك.
وحتى هذا اللفظ الغربي (رجال الدين) نحن كمسلمين عندنا الأئمة والمشايخ
والذين يشرفون على الشؤون الإسلامية، فهم ملتزمون ومتمسكون بالإسلام، وما
عندهم هذه التفرقة، ولا يقولون للناس: الدين في المسجد وإذا خرجت من المسجد
فهناك شيء آخر مثلما فصل الغرب الدين عن الدولة.. هذه الفكرة غريبة بالنسبة
لنا عند (رجال الدين) أو عند المشايخ أو الأئمة أو الذين يشرفون على الشؤون
الإسلامية.
- هم يقصدون المواقف من الصراع؛ لأن بعض رجال الدين أو الذين
يسمونهم كذلك يقولون بأن الصراع عرقي وليس دينياً.
هذا شيء آخر؛ فالمشيخة الإسلامية هي الهيئة الوحيدة التي تشرف على
شؤون المسلمين، وليست حزبية، فهي فوق الأحزاب، وللأحزاب عملها، وبينما
المشيخة تعمل عملها المستقل، وطبعاً هي منتخبة من هذا الشعب ومع الشعب في
السراء والضراء.
- ولكن ماذا ترون من هدف الغرب للترويج لمثل هذه الإشاعات أو الأقاويل؟
كأنهم يريدون بإثارة مثل هذه الأقاويل إظهار شيء ما، أو إيقاظ شيء
يريدونه، كأن يكون هناك خلاف بين رجال الدين والشعب وسياساته.
- جميع القوى السياسية في ألبانيا طالبت بالاستقلال في البداية، وبعد ذلك
تحدث بعض الزعماء السياسيين عن الحكم الذاتي، تُرى هل تتكرر تجربة فلسطين
والفلبين؟
لا يزال جميع رؤساء الأحزاب والأحزاب السياسية المكونة في كوسوفا غير
متنازلين عن الاستقلال، وما قبلوا الحكم الذاتي، وإن كان بعضهم يتحدث الآن عن
مرحلة انتقالية يعاد فيها ما كان من الحكم الذاتي لمدة ثلاث سنوات، وبعدها يكون
الاستقلال التام وتقرير المصير، هذه الفكرة تدور الآن، ولكن ليس هناك حزب من
الأحزاب تنازل عن الاستقلال أو عن الجمهورية وقَبِلَ بالحكم الذاتي حلاً نهائياً.
- ألا تخشون أن يُنصّب بعض المتنفذين حكاماً أصحاب سلطة لتنفيذ مثل هذا
الحكم الذاتي (المؤقت) ويقوموا بتصفية المقاومة والانتفاضة الكوسوفية؟
هذا شيء مستقبلي، في الوقت الحاضر لا توجد شخصية تقبل هذا، لكن
مستقبلاً الله أعلم، وقد حاولت صربيا أن تنصب من يقوم بذلك ولكن الذي حدث أنه
بقي وحده وما تبعه أحد، كانت هناك محاولات، والآن يريدون فعل ذلك بواسطة
أقليات، فمثلاً نُشر في الجرائد أن هناك اتفاقية مع الجالية المصرية، وهؤلاء ليسوا
مصريين في الحقيقة، ولكنهم من الأقلية الغجرية التي تمثل 1% من الشعب
الكوسوفي، وليسوا بمصريين لكن الصرب يريدون أن يجذبوا العالم العربي بأنها
جالية مصرية، فهم يحاولون باستعمال مثل هذه الجاليات أو عن طريق أي إنسان
مغرور وله تطلعات، يغرونه بالمنصب أو بالمال أو بأي شيء من هذا القبيل،
ولكن من نصبوه ما استطاع أن يكسب أي شعبية، فبقي وحده.
- ماذا عن الوضع الحالي الآن؟ وماذا عن اللاجئين ومعاناتهم؟
اليوم (20/8/1419هـ 9/12/1998م) اتصلوا بنا من هناك وقالوا: إن
الوضع اشتد هذه الأيام من الإجراءات الصربية، وفي الأسبوع الماضي، قُتل أكثر
من (15) شخصاً من الشعب الألباني الكوسوفي، وهناك اشتباكات دائرة. زد على
ذلك أن الشتاء يعتبر كارثة، والثلوج الآن كما أخبرونا بلغ ارتفاعها نصف متر،
فهذه الظروف تزيد الأمر صعوبة، وبخاصة ما يتعلق بالنازحين عن مناطق
الجبهات والقتال إلى المدن والمناطق الأخرى، وهم الآن في حالة متردية جداً،
(250) ألف نازح في الداخل ليس لديهم غذاء ولا لباس ولا تدفئة ولا أدوية؛
فالشتاء صعب جداً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتهم ويغير الأحوال إلى الأفضل، وإلا فإن الأمور صعبة جداً.
- في ضوء الظروف الدولية الراهنة.. ما هو الدور الذي تأملون قيام
المسلمين به؟
الدور المطلوب من المسلمين هو كما كان دورهم في مثل هذه الأزمات، في
البوسنة والهرسك وكشمير والشيشان والفلبين.. فدورهم وإن كان ثقل عليهم.. في
كل يوم تفتح أزمة ومأساة ... لكن هذا قدرنا وقدرهم، وهذا الدور مطلوب منهم أن
يقوموا سياسياً، بأن يكون لهم رأي مستقل حر في القضية ومساندتها ومؤازرتها،
ومساعدة إخوانهم في كل ما يحتاجون إليه، وكذلك دعمهم إعلامياً وإنسانياً
واقتصادياً، ولا شك أن للصرب مصالح اقتصادية يمكن الضغط عليهم من خلالها.. ومن لا يملك أي شيء يقدمه يستطيع التعاطف مع إخوانه المسلمين والدعاء
بنصرتهم.
- هل من كلمة أخيرة تودون توجيهها عبر مجلة البيان؟
نوجه الشكر لهذه المجلة القيمة، ونرجو لها أن تقوم بخدمة الإسلام
والمسلمين في أقطار الأرض، ونشكر القائمين عليها.(135/48)
قراءة في كتاب
أسباب التحيز الأمريكي والبريطاني لـ (إسرائيل)
قراءة في كتاب: (الصليبيون الجدد)
حسن الرشيدي
سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة عادت على اليهود بالمذابح؛ فهل
ستؤدي الحملة الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية
حقة فإن تلك الحقيقة بالذات تأتي بمقام البرهان على ولادة نظام جديد لعالم تسوده
المحبة والعدالة) . هذا جزء من خطاب ألقاه الزعيم اليهودي (إسرائيل زانجويل)
يصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض
فلسطين، وذلك في 2 ديسمبر 1917م، أي بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد،
هذا الخطاب وغيره يلقي الضوء على السؤال الذي يحير الناس في منطقتنا عن سر
التحيز الأنجلو أمريكي لصالح (إسرائيل) ، هذا التحيز الذي جعل الحلم اليهودي في
أرض فلسطين حقيقة واقعة بل ومستقرة. إن كثيراً من الباحثين لدينا يغفلون عن
لب هذه القضية وجوهر هذا الصراع؛ وهو البعد العقائدي.
ويجيء كتاب: (الصليبيون الجدد) ليتبنى التفسير العقائدي في تحليله لأسباب
الصراع وخلفياته، ومؤلف الكتاب يوسف العاصي الطويل، يقول في مقدمة الكتاب: (لقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة على المستوى العالمي
والعربي والإسلامي وحتى الفلسطيني. وامتد هذا التباين حتى برز في داخل الأطر
السياسية نفسها؛ حيث تناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين
حتى أصبح صراعاً مكشوفاً أو تنافساً مدمراً.
فعلى المستويين العربي والفلسطيني لم تخرج معظم التحليلات والكتابات عن
اعتبار (إسرائيل) حاملة طائرات أمريكية في قلب الشرق الأوسط، وأن مهمتها
الإمبريالية تكمن في عزل الشرق العربي عن المغرب العربي للحيلولة دون تحقيق
الوحدة العربية، وركز الفكر الثوري العربي على حقيقة (إسرائيل) الإمبريالية وأن
هدفها هو ضرب الأنظمة الثورية المعادية للإمبريالية في المنطقة العربية وقد تناسى
هذا التيار عدة حقائق:
1- أن قضية فلسطين بدأت قبل وجود أي نظام عربي ثوري، وحتى قبل
استقلال الدول العربية نفسها.
2-أن الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي كانت من أوائل الدول
التي اعترفت بـ (إسرائيل) عند نشأتها.
ومن هنا فلا بد من البحث مجدداً عن سبب آخر يمكن أن يوضح لنا حقيقة
وجود (إسرائيل) في المنطقة العربية، والقوى التي تقف وراء هذا الوجود،
ودوافعها لذلك.
في تمهيد الكتاب: يناقش المؤلف الأسباب السائدة في الساحة السياسية عن
التحيز الأنجلو أمريكي لـ (إسرائيل) .
أولاً: إن انحياز أمريكا ومن قبلها بريطانيا لـ (إسرائيل) يحقق لهما مصالح
كثيرة، ويُبْقِي على أطماعهما في المنطقة، ولكن في الوقت نفسه يضع مصالح هذه
الدول في خطر كبير؛ لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول. ومن أجل هذه
المصالح نجد دولاً مثل فرنسا وإيطاليا تغير موقفها من الصراع وتصبح أكثراً توازناً
من ذي قبل. فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكا من
نقل سفارتها إلى القدس؛ على الرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكا بالمكانة
الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والنصارى؟ بالطبع لا توجد أي
مصلحة؛ حيث إن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية السابقة سيلحق ضرراً
كبيراً بالمصالح الأمريكية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي
أيضاً عاجلاً أم آجلاً.
ثانياً: أما العنصر الثاني الذي يسوّغ به بعضهم الانحياز الأنجلو أمريكي فهو
نفوذ اللوبي اليهودي في صناعة القرار السياسي في أمريكا وبريطانيا، من خلال
السيطرة على وسائل الإعلام والاقتصاد؛ بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به
الزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء في استغلال الفرص. ولكن المؤلف ينتقد هذا
العامل ويقول: (إن البيئة السياسية والثقافية هي التي تجعله فاعلاً، كما أن تضخيم
دور الزعماء اليهود أمثال (هرتزل) و (ترومان) وجعلهم كأنهم بذلوا جهوداً خارقة
للحصول على مطالبهم أمر عارٍ من الصحة، فالأفكار الصهيونية تبنّاها أشخاص
أوربيون وأمريكان في وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر في هذه
الأمور. وبالمثل فإن تضخيم الصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية
أمر مبالغ فيه. نعم إن الجالية اليهودية نشطة ولها تأثير، ولكن القول بأنها تحكم
أمريكا ليس صحيحاً؛ فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائبه يهودياً، ونسبة اليهود
في الكونجرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكا أي (2- 3%) حيث يبلغ
تعدادهم حوالي (6) ملايين نسمة تقريباً، أي أن أصواتهم الانتخابية لا تتعدى
(2- 3 %) من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكا، وهذه النسبة ليست بالنسبة الكبيرة التي تمكن اليهود من التأثير على الانتخابات، ولو كان لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكا أثر في تشكيل السياسة الأمريكية؛ لأن تعدادهم يزيد على تعداد اليهود هناك. كما أن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان بالإضافة إلى أقليات أخرى؛ وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي أثر لأصواتهم الانتخابية، ولم نسمع عن أي رئيس أمريكي سعى لاسترضائهم كما يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب.
الفصل الأول: اليهود في التراث الديني النصراني:
في هذا الفصل يحاول المؤلف إبراز العلاقة بين المذهب البروتستانتي
واليهودية فيقول: (يستمد التراث الديني في كل من إنجلترا وأمريكا أصوله من
المذهب البروتستانتي في هاتين الدولتين؛ والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني
التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما) .
ويستطرد قائلاً: (لقد أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً؛
بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى في موقفها من اليهود؛
وبذلك أسهمت هذه الحركة في بعث اليهود من جديد. ولكن ما هو موقف الكنيسة
الكاثوليكية من اليهود؟
لقد كان هذا الموقف قبل تغييرات حدثت أخيراً موقفاً متشدداً، وينظر إلى
اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة المسيح عليه السلام وكفرهم بها،
كما أنهم يَعتبِرون اليهود مارقين وكفرة وبأنهم قتلة (المسيح) على حد زعم الكنيسة) .
وكذلك لم يكن للكنيسة الكاثوليكية أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى
فلسطين، أو بعث الأمة اليهودية من جديد؛ لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى
وجودها بظهور (دعوة المسيح) ، وأن أي فقرات واردة في العهد القديم تشير إلى
اليهود لا تنطبق عليهم وإنما على الكنيسة فقط. كذلك لم يعترف الكاثوليك بأن
اليهود هم (شعب الله المختار) ؛ لأن المسيح عليه السلام حارب هذه النزعة
العنصرية، ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول في ملكوت الله المفتوح أمام جميع
الصالحين.
وبالنسبة للعهد القديم (التوراة) فقد كان مهمَلاً قبل حركة الإصلاح الديني؛
حيث كان الاعتماد على العهد الجديد (الإنجيل) المحرّف ورسائل البابوات في
تفسيره، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة يرى الكاثوليك أن تعلمها بدعة.
ثم جاء البروتستانت في القرن السادس عشر، ودعا (مارتن لوثر) إلى
وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم (رجال
الدين) لها، فأصبح كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره؛ وهذا
أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والضلالة؛ وأدى هذا إلى
تعدد الفرق البروتستانتية التي وصلت إلى أكثر من (200) فرقة في فترة أربعة
قرون فقط. في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار:
(العودة إلى (الكتاب المقدس (؛ باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف
بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات.
وإذا كان العهد القديم يتكون من (39) سِفْراً؛ فإن أغلب الباحثين يذهبون إلى
أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفار تجاوزاً إلى موسى عليه السلام. أما البقية فهي
عبارة عن سجل لتاريخ (بني إسرائيل) في فلسطين، بالإضافة إلى بعض التنبؤات
التي كتبها أحبار اليهود على فترات متفاوتة. وفي ظل هذا الوضع رسخ لدى
البروتستانت تاريخ فلسطين مستمداً فقط من العهد القديم، لا يبدو فيه وجود للشعوب
الأخرى في فلسطين، وأن لا بد من عودة اليهود إلى وطنهم الذي أُخْرِجوا منه طبقاً
لتنبؤات العهد القديم.
وهذا أدى إلى إحياء اللغة العبرية لفهم العهد القديم؛ ولذلك كانت الكنيسة
الكاثوليكية تصف (مارتن لوثر) بأنه يهودي أو نصف يهودي. وكثير من الباحثين
في التاريخ يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي من صنع اليهود والماسون.
إن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد (لوثر) تعود
إلى أنها مهدت الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن
التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن اليهودية؛
التي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون أي: إلى أرض
(إسرائيل) بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود.
وهكذا تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة
للنصارى إلى أرض (الشعب المختار) ! ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد
آمن بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيداً لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان
تحولهم هذا بعد قدومه.
الفصل الثاني: بريطانيا والمشروع الصهيوني:
ظهر في بريطانيا بين عدد من النصارى البروتستانت ما يسمى بـ (حركة
العودة) ويعتقد رواد هذه الحركة أن على العالم أن يساعد اليهود في استعادة فلسطين. وقد أسس هذه الحركة عالم اللاهوت: (توماس بريتمان) واستجاب لها القاضي
وعضو البرلمان: (هنري فنسن) ، الذي أصدر أول كتاب عن الصهيونية في لندن
عام 1628م. وقد كان فنسن من المؤمنين بفكرة (العصر الألفي السعيد) ، التي
تعني: عودة المسيح المنتظر الذي سيقيم (مملكة الله) في الأرض، التي تدوم ألف
عام، ولا بد من عودة اليهود إلى أرض فلسطين مقدمةً لذلك.
وانتشرت في القرن السابع عشر الحركة البوريتانية: (حركة التطهير) ، التي
حولت الأفكار الدينية المتعلقة باليهود إلى عقيدة سياسية تتلخص في ثلاث نقاط:
1- وجود الشعب اليهودي.
2- عودة هذا الشعب إلى فلسطين.
3- استيطانه وسيادته على هذه الأرض.
والواقع أن (البوريتانيين) قد تعلقوا بهذه الفكرة نتيجة لتعلقهم بالعهد القديم؛
حتى إنهم استبدلوا عاداتهم وأخلاقهم ولغاتهم بأخلاق وعادات ولغة اليهود، بل ذهب
بعضهم إلى اعتناق اليهودية، وكان نشاط هذه الحركة نواة الاهتمام البريطاني
بالمسألة اليهودية.
ومع اقتراب القرن الثامن عشر من منتصفه بدأت تتغير الأفكار المتعلقة بعودة
اليهود إلى فلسطين؛ حيث بدأت تتسرب إليها أعداد منهم بتسهيل من بريطانيا
المنتدبة آنذاك وقد كان هذا المبدأ مرفوضاً حتى من قِبَلِ اليهود أنفسهم؛ الذين كانوا
يرون أن عودتهم إلى أرض فلسطين لا بد أن تتم بتدخل قوة إلهية. وحتى الآن لا
تزال طائفة من اليهود تسمى (حراس المعبد) تحافظ على هذه العقيدة؛ حيث ترى
أن دولة (إسرائيل) هي ثمرة الغطرسة الآثمة للكافرين العلمانيين من أتباع الحركة
الصهيونية الذين تحدّوا مشيئة الرب بإنشاء الدولة دون انتظار تدخّل على شكل
معجزة، وظهور المسيح المخلص الذي يعتبر في نظرهم الوحيد القادر على إقامة
دولة (إسرائيل) لتكون مملكة للكهنة والقديسين.
كذلك حدث تغيير في فكرة تحول اليهود إلى المسيحية باعتباره أمراً لازماً
لعودتهم إلى فلسطين.
ففي عام 1800م نشر (جيمس بيشنو) كتابه: (عودة اليهود أزمة جميع الأمم)
حيث كان الاعتقاد السائد فيه أن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر
الذي سينقذهم من أعدائهم.
وفي القرن التاسع عشر حدث تطور في حركة العودة، فقد ظهر اللورد
شافتسبري ودفاعه المستميت في الصحافة والكتب عن فكرة عودة اليهود إلى ...
فلسطين، وأنشأ صندوق استكشاف فلسطين، حيث دعا الرحالة إلى الذهاب إلى
أرض الميعاد واستكشافها وإجراء البحوث والدراسات حولها تمهيداً لوصول اليهود
إليها.
ومن أجل هذه الغاية قام عدد من البحّاثة بزيارة فلسطين، كان أبرزهم الكاتب
(كلود كوندر) ويعود ذلك إلى حماسته الصهيونية التي لا حد لها، وقد قام برسم
خريطة تفصيلية لفلسطين كلها، ووضع عليها الأماكن التوراتية، وأماكن قبائل بني
إسرائيل الاثنتي عشرة، لقد بلغ حماس هؤلاء النصارى البروتستانت حداً هائلاً،
الأمر الذي دفع الكولونيل تشارلز هنري قنصل بريطانيا في دمشق إلى كتابة رسالة
إلى أحد أقطاب اليهود الأثرياء يناشده فيها بأن يأخذ قضية اليهود على عاتقه
واعتبارها أمراً لا بد منه.
وأواخر هذا القرن التاسع عشر تم ربط الأفكار الدينية مع المتطلبات السياسية
للإمبراطورية البريطانية، ومنذ ذلك الوقت بدأ ما وصفه (قيد بولك) (بالاتحاد
العجيب بين سياسة الإمبراطورية ونوع من الصهيونية النصرانية الأبوية التي
تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد) .
وفي عام 1830م عندما تولى اللورد (بالمستون) وزارة الخارجية كان أهم
نصير سياسي لمشروع اللورد شافتسبري الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين؛ حيث
افتتح قنصلية لبريطانيا في القدس، وبعث برسالة إلى السفير الإنجليزي في
القسطنطينية يحثه فيها على متابعة نصيحته لـ (الباب العالي) بضرورة توطين
اليهود في فلسطين؛ حيث يقول له بالحرف الواحد: (إنك لا تدري مدى ما سيثيره
مثل هذا الإجراء من اهتمام المتدينين في هذا البلد) .
وفي هذا الاتجاه أيضاً كانت دعوة القس (هشلر) فقد قام في عام 1882م بعقد
مؤتمر نصراني في لندن دعا إليه كبار النصارى للنظر في توطين اليهود المهاجرين
من رومانيا وروسيا في فلسطين، كما قال في أحد مقالاته الصحفية: (أفيقوا يا أبناء
إبراهيم؛ فالله ذاته يدعوكم إلى الرجوع لوطنكم القديم) .
وقد امتد تأثير العهد القديم وأساطيره إلى الأدب والفن في انجلترا وغيرها من
بلدان أوروبا التي اعتنقت البروتستانتية كهولندا والدول الإسكندنافية.
وتضم اليوم متاحف أوروبا بل الدنيا اللوحات الزيتية التي رسمها النصارى
البروتستانت لحكايات التوراة وأنبيائها عوضاً عن القديسين الكاثوليك.
أما في مجال الأدب فقد بات اليهود يُصوّرون بشخصيات متميزة، ويحتلون
مكانة أبطال اليونان الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي، فحتى بداية القرن التاسع
عشر كان اليهودي يصور في القصص الإنجليزية إما على صورة (شايلوك) أو
اليهودي التائه؛ غير أن روايتي (هارنجتون) 1817م و (ايفانهو) 1811م قدمتا
مفهوماً جديداً لليهودي بإبرازه على أنه شخصية طيبة، وقد ساهم في هذا التغيير
عدد من الشعراء الكبار أمثال جون ميلتون وكوليريدج وغيرهم، وجاء في قصيدة
(براونينج) (يوم الصليب المقدس) ! عام 1855م قوله:
سيرحم الله يعقوب ...
وسيرى (إسرائيل) في حِماه
عندما ترى يهودا القدس
سينضم الغرباء
وسيتشبث النصارى ببيت يعقوب
هكذا قال الأنبياء، وهكذا يعتقدون
أما جورج إليوت فقد كتبت في عام 1874م رواية (دانيال دروندا) وتعتبر
هذه الرواية أول رواية صهيونية في الأدب الإنجليزي. فالكاتبة جعلت من دانيال
بطلاً صهيونياً يكتشف بنفسه قوميته وإرثه اليهودي. يقول البطل اليهودي في
الرواية: (إن الفكرة التي تتمكن مني هي استعادة وجود سياسي لشعبي، وجعلهم
أمة واحدة، وإعطائهم مركزاً قومياً مثلما للإنجليز. إنها مهمة تتقدم إلي باعتبارها
واجباً وأنا مصمم على تكريس حياتي لها. على الأقل قد أتمكن من إيقاظ حركة في
العقول الأخرى مثلما أُوقِظت في عقلي) .
الفصل الثالث: ظهور الحركة الصهيونية:
في هذا الفصل يتتبع الكاتب الأدوار التي مرت بها الحركة الصهيونية في
بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويُفرّق الكاتب في
البداية بين الصهيونية واليهودية، فالصهيونية تقوم على فكرة عودة اليهود إلى
وطنهم فلسطين وتخطط وتعمل في سبيل ذلك، أما اليهودية بالنسبة إلى هذه العودة
فإنها في نظرها لا تتحقق إلا بمعجزة إلهية؛ ولذلك نجد أن معظم من تبنّوا هذه
الفكرة أي الصهيونية هم النصارى البروتستانت، بينما كان موقف اليهود في بادئ
الأمر سلبياً إن لم يقف بعضهم ضدها.
ولكن مع تنامي التيار النصراني البروتستانتي المطالب بعودة اليهود إلى
فلسطين شكل هذا عاملاً ضاغطاً على اليهود، فضلاً عن ازدياد الاضطهاد لليهود
في أوروبا.
كل هذا أدى إلى ظهور عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد من
الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية التي ترى بأن الخلاص لن يتم إلا من خلال
معجزة إلهية على يد (المسيح المخلص) ، وكان أبرزهم (يهود الكعي) : الذي بدأ
حياته غارقاً في أساطير اليهود المنتظرة للمسيح المخلص، وقد سرت في أيامه
شائعة تقول إن العام 1840م سيكون عام الخلاص، ولما انقضت السنة من غير
شيء تحول (الكعي) إلى الطريق العملي؛ فكرس ما تبقى من حياته داعياً إلى
تخليص اليهود وعودتهم بالصلاة والعمل.
وقد نشر سنة 1843م سلسلة من الكتيبات والمقالات في هذا الأمر، وطالب
اليهود بدفع العشر من أجل العودة. ومن المفكرين الآخرين برز (تسفي هوسن)
الذي نشر أفكاره عام 1843م في كتاب من جزأين بعنوان: (عقيدة صافية) ، أتبعه
بكتابه: (البحث عن صهيون) عام 1862م. ومن أهم أفكاره:
-أن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء يمكن أن يتم بوسائل طبيعية: أي بمجهود
اليهود أنفسهم من دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح.
-أن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم دون تأخير.
وكان مما قاله في كتابه: (إن خلاص (إسرائيل) لن يكون بمعجزة فجائية،
والمسيح لن يُرسل من السماء نافخاً في بوقه الكبير وجاعلاً جميع الناس يرتجفون؛
فالناس البلهاء فقط يمكن أن يصدقوا هراءً كهذا؛ أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص
لا يكون إلا بالتدرج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم.
مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود السابق ذكرهم وغيرهم أصبح الجو
مهيأً لتوحيد جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة؛ حيث
ابتدأ التحضير الجدي لعقد مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة 1897م، وأعلنت
الحركة الصهيونية فيه عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي
للشعب اليهودي في فلسطين.
لقد كان أهم إنجاز لذلك المؤتمر هو انعقاده، الذي يُعتبر رفضاً لتصور اليهود
التقليدي حول المسيح المنتظر وبدءاً في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق
الحلم القديم للشعب اليهودي؛ بحيث تكون هذه الطرق متكيفة مع عوامل الزمن
الملائمة لحركتها.
وهنا تلقّف الساسة البريطانيون نتائج هذا المؤتمر حتى صدر وعد بلفور عام
1917م، الذي ينص على إعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين. وبالرغم من أن
اللورد بلفور كانت له دوافعه السياسية والعسكرية التي سعى لتحقيقها من وراء
إعطاء هذا الوعد للحركة الصهيونية؛ فإننا يجب ألا نغفل أثر ثقافته الدينية التي
لعبت دوراً حاسماً لصالح صدور هذا الوعد. فبلفور كان بروتستانتياً ملتزماً،
ترعرع في أحضان التقاليد البروتستانتية الإسكوتلاندية بكل ما تحمله من حب للعهد
القديم، وإيمان شديد بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، وعن ثقافته تقول ابنته
ومؤرخة حياته (بلانسن) : (لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس،
وكلما اشتد عوده ازداد إعجاباً بالفلسفة اليهودية، كان دائماً يتحدث باهتمام عن ذلك، وما زلت أذكر أنني في طفولتي اقتبست منه الفكرة القائلة بأن الدين النصراني
والحضارة النصرانية مدينة بالشيء الكثير لليهودية) .
الفصل الرابع: أمريكا والمشروع الصهيوني:
أمريكا مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية، تغلغلت في تفكير مواطنيها
الأفكار والتنبؤات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين، ومما قوّى هذه
الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من أوروبا إلى أمريكا حينما
قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون
إلى أرض فلسطين.
فكثير من البروتستانت فر من الاضطهاد الديني الذي ساد حكم (آل ستيوارت) ، لذلك عندما واجه المهاجرون مقاومة أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر؛ فإنهم
تذكروا اليهود ومقاومة أهل فلسطين القدماء لهم. كذلك عانى الأمريكيون من
الحرب الأهلية المريرة كما حدث مع اليهود عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين:
إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى
شيء يسوّغ أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا
هذا التسويغ إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو
سكسوني البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، كما جعل الله اليهود شعبه المختار.
بل وصل تطرفهم أن زعم أحد الكتاب ويدعى (ريتشارد بروتزر) في كتابه:
(المعرفة المنزلية للنبوءات والأزمنة) بأن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس
أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط؛ التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح
الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد. وفي نهاية النصف الأول من
القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من
خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في عام 1985م قام (وارد كريون)
القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس وخطط
لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.
كما ظهر القس (وليم بلاكستون) الذي طالب بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى
فلسطين، وألف كتاب: (عيسى قادم) الذي بيع منه عام 1878م أكثر من مليون
نسخة، وتُرجم إلى 48 لغة ويتحدث فيه عن عودة اليهود لفلسطين باعتبارها
المقدمة لعودة المسيح.
وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة (أخوة المسيح) وجماعة (بناي بريث)
أي: (أبناء العهد) و (شهود يهوه) ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة
الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام
العالمي إلى الولايات المتحدة. فالرئيس (روزفلت) اتخذ نجمة داود شعاراً رسمياً
للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية وجاء بعده (ترومان)
الذي أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين، وكان له
دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م، لقد عارض ترومان في سياساته
الصهيونية كثيرٌ من المستشارين الحكوميين، الذين كانوا يرسمون سياسة بلادهم
الخارجية بناءً على مصالح بلادهم القومية؛ ولكن (ترومان) كان ينظر بمنظار
مختلف قائم على أساس الدين؛ فعندما قدّمه زعماء اليهود الحاضرون في إحدى
الاحتفالات ووصفوه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة (إسرائيل) رد (ترومان)
قائلاً: (وماذا تعني بقولك: (ساعد على خلق) (إنني قورش ... إنني قورش) ،
حيث شبه نفسه بـ (قورش) ملك فارس الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى
فلسطين. ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز
لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي (جون كنيدي) الذي كان الرئيس
الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا، حيث قال: (إن الانحياز الأمريكي في النزاع
العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره) فالأفكار
والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.
فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لـ (إسرائيل) أثناء حرب 67 صرح بعدها
قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: (إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديه روابط
عميقة بأرض (إسرائيل) مثلي تماماً لأن إيماني النصراني ينبع منكم، وقصص
التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث
من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد) .
يقول الرئيس كارتر أمام (الكنيست الإسرائيلي) : (إن علاقة أمريكا
(بإسرائيل) أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة
ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه) ، وفي حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب
وضح كارتر الأمر أكثر؛ حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن
هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة (إسرائيل) . لقد كان (كارتر) مثالاً للرئيس الملتزم
بالصلاة في الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته، وشماساً في
مدرسة الأحد.
أما (ريجان) فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:
(حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة
بمعركة (هرمجدّون) أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك
لاحقاً) ، لقد عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي (جون بيتر) عن واقع أمريكا عندما قال: (إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام
قبر مقدّس) ! هكذا وصل إيمانهم! ! ومن هنا لا نستغرب تحيز الرؤساء الأمريكان
لدولة صهيون [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ] . [يوسف: 21](135/56)
نص شعري
يوشك أن تداعى عليكم الأمم! !
موسى بن محمد الزهراني
ثَمِلوا بسوْرة أكؤسِ الأشرارِ ... سَفِلتْ نفوسُهمُ إلى الأقذارِ
أغرتهمُ الدنيا بزيف زخارفٍ ... منسوجةٍ بأناملِ الكفارِ
وتتبّعوا فيها عقيرةَ ناعقٍ ... يدعوهمُ لمداركِ الأنيارِ
فتهافتوا فيها بغير تريّثٍ ... فِعْلَ الفراشِ على لهيب النارِ
يا ويحَ أمتنا التي رغم الأسى ... لمّا تزلْ تسعى بكل سُعارِ
تهفو إلى تقبيلِ كفّ منافقٍ ... قد سامها سوءاً بكل شنارِ
ترجو لها الغفرانَ من أفواههم ... وتعيشُ في دوامةٍ وصَغارِ
يا حسرةً، أنّى لأمتنا الهدى ... من بعدُ، وهي ثقيلةُ الأوزارِ؟ !
آهٍ لأمتنا التي لم يكفِها ... عِظَمُ الرّدَى حتى اكتوتْ بالنارِ
رَضِيَتْ بهذا الذّلّ، فهي مسوقةٌ ... قسراً إلى ضحضاحِ جُرفٍ هارِ
أنّى لها النصرُ المبينُ وقومُها ... زجّوا بها في لُجّةِ الإعصار؟
أغراهُمُ الغربُ الدنيء بحفنةٍ ... من مدحهِ جهراً بلا إسرارِ
قُذِفَ الهوى والوهنُ بين جوانحٍ ... خُلقت لغير الذّل والآصارِ
ما ذاك إلاّ أن قومي جانبوا ... سُبُلَ السموّ إلى ذرى الأطهارِ
تاهت سفينتُنا وعزّ مصابُنا ... بَعُدتْ مراسينا على البحّارِ
كلأً مباحاً صيّروا إسلامنا ... ورموهُ في رجعيةٍ وإسارِ
يا ألفَ مليونٍ يؤرّقُ ليلَهم ... صوت الهوى وتمايلُ الفُجّارِ
يا ألفَ مليون رَمَوا أعراضهم ... في حضن إعلامِ الهوى والعارِ
مَدّوا أكُفّ ضراعةٍ نحو الأُلَى ... طعنوا مروءَتهم بألفِ شعارِ
لا تسألوا من بعدِ ذا عن أمةٍ ... تَخِذَتْ دِثارَ الذّلِ خيرَ دثارِ
حبّ لدنيانا، وبُغْضُ مماتِنا ... وهْنٌ كما في صادق الآثارِ
أفما علمتم يا بني قومي بما ... في الذّكرِ من بُشرَى ومن أخبارِ؟
لن يجعل اللهُ العزيزُ لكافرٍ ... سُبُلاً علينا يا أولي الأبصارِ
هذا الكتابُ، وتلك شرعةُ أحمدٍ ... فمتى نسيرُ على خُطى المختارِ؟ !(135/66)
المسلمون والعالم
هل تتكرر في ليبيا.. مأساة العراق؟ !
عبد العزيز الحامد
يذكر التاريخ واقعة غريبة، كانت بمثابة المسوِّغ والذريعة لاجتياح التتار بلاد
المسلمين على شكل موجات زاحفة متتابعة، وملخص هذه الواقعة، أن زعيم التتار
(جنكيز خان) لما جمع القبائل حوله، انطلق نحو الشمال الشرقي في بلاد الصين
ليضمها إلى حكمه، ولم تكن بلاد الإسلام داخلة ضمن أطماعه التوسعية في ذلك
الحين، إلا أن إحدى المقاطعات الإسلامية في الشرق وهي بلاد (فرغانة) كان
يحكمها قائد أحمق، يُدعى خوارزم شاه.
وقد بدأ هذا القائد يناوش التتار بالرغم من ضعفه وقوتهم، فأرسل إليه جنكيز
خان رسلاً للمفاهمة أو المهادئة، حتى لا تتعطل طرق التجارة بين ممالك المسلمين
وممالك التتار، إلا أن خوارزم شاه أظهر نوعاً من التعالي في غير موضعه، وقد
حدث أن بعض التجار التتار جاؤوا إلى بلاده لشراء ثياب لجنكيز خان، فما أن علم
خوارزم شاه بقدومهم حتى أمر بقتلهم وأخذ ما معهم! ثم أرسل العيون ليتحسس ردة
الفعل عند التتار، وليستعلم عن أعدادهم وإعدادهم وأثر مقتل تجارهم.. فجاءته
الأنباء بما لم يكن يتخيل، من حيث كثرة العدد وقوة الشكيمة، وتوافر السلاح الذي
يصنعونه بأنفسهم ... فندم! ! ورأى أنه تعجل وتسرع بقتله التجار! وبدأ يستشير
المقربين منه في شأن ذلك الباب من الشر الذي فُتح، وبينما هو يشاورهم جاءته
رسالة من جنكيز خان يقول فيها: (تقتلون تجّاري وتأخذون أموالهم! ! فإني قادم
إليكم بجنود لا قِبَلَ لكم بها..) ! فماذا كان من القائد (المحنك) ؟ ! لقد أمر بقتل
رسول جنكيز خان، وحلق لحى من كانوا معه، وأعادهم إلى جنكيز خان ليُعلموه
بما فعل الزعيم الملهم، ولم ينس (القائد الركن) أن يرسل معهم رسالة تهديد لجنكيز
خان، أن (خوارزم شاه) قادم إليك ... ! ! ولم يكتف صاحبنا بهذا التهديد الأجوف،
بل سار فعلاً ببعض جنوده فأغار على أطراف بلاد التتار، بينما كان رجالهم
غائبين ومشغولين في حروب أخرى، فوجد القائد الأرعن الفرصة سانحة لمعركة
سهلة ومغانم رخيصة، فقتل من وجدهم من الأطفال والشيوخ، وأقفل بمن معه
راجعاً محملاً بما ظن أنه انتصار الأبطال! ! وعاد بعض التتار، وعلموا وهم في
الطريق بالخبر، فعادوا أدراجهم، يشدّون السير للحاق بذلك المشاكس الذي فعل
تلك الفعلة، ووقعت بعض المناوشات، ولكن حاكم خوارزم تمكن من الرجوع،
وبدأ يستعد لقتال لا يدري مداه وصِدام لا يعلم منتهاه، وبدأ في إقامة التحصينات
وإعداد الجند. وبالفعل جاءت جحافل التتار بينما كان خوارزم شاه غائباً، وبدأت
جيوشهم بمدينة بخارى، فطلب أهلها الأمان والاستسلام لهول ما رأوا، فلم يلتفت
إليهم جنكيز خان واجتاح مدينتهم، وأوقع بأهلها الخطوب، ثم انتقل إلى سمرقند
ففعل بأهلها ما فعل بأهل بخارى، ثم وجّه عشرين ألف فارس لمطاردة خوارزم شاه
ومن معه، فظل (الأخ القائد) يهرب منهم عبر البلاد، حتى لقي حتفه في جزيرة
في بحر الخزر سنة 620 للهجرة، وظلت عجلة الأحداث الجسيمة تدور رهيبة
رعيبة عبر أيام نحس مستمر خيمت على أهل الإسلام، وظلت تتتابع حتى انتهت
إلى سقوط الخلافة الإسلامية وقتل الخليفة ودمار بغداد سنة 656 هـ. وكانت تلك
أيضاً بداية لأحداث عظام أخرى.
لقد فتح هذا الرجل (خوارزم شاه) على المسلمين باباً عظيماً من الفتنة، ليس
فقط عن طريق الحماقة في استغضاب قوى الشر واستجلاب بطشها، ولكن أيضاً
ببذل مساعٍ مشؤومة قبل ذلك وطّأت الأحوال وهيأتها بغشم بالغ أمام زحف الأعداء، حتى صارت الساحة مكشوفة أمامهم، لا يجدون صدّاً ولا ردّاً، فماذا فعل..؟ !
قال ابن كثير رحمه الله (إنما استقام لهم الأمر أي التتار لعدم المانع؛ لأن السلطان
خوارزم شاه كان قد قتل الملوك (المسلمين) من سائر الممالك، واستقر في الأمور.. وخلت البلاد، ولم يبق من يحميها، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) [1] .
لقد سُقْتُ هذه القصة مع ما فيها من طول، للتذكير بعِبَرِ التاريخ التي قلما
تستفيد منها الأجيال. ولكن هل يعيد التاريخ نفسه؟ ! في الحقيقة أن ما مضى لا
يعود، ولكن هناك أوجه شبه كبيرة بين كارثة (خوارزم شاه) وتوابعها، وبين
الكثير من الكوارث التي جرتها ولا تزال تجرها على الأمة زعامات شبيهة بأمثاله
في زماننا هذا.
سنتجاوز الحديث عن أصحاب ثورات ورثت نكبات مثل الثورة العرابية
والثورة العربية، وعن زعامات جرّت على شعوبها الويلات مثل الزعامة
الاشتراكية المصرية بقيادة عبد الناصر، التي انتهت إلى هزيمة نكراء في عام
1967م، ومثل الزعامة البعثية العراقية بقيادة صدّام التي أوصلت إلى أم الهزائم
في عام 1991م. سنتجاوز هذه التجارب وما يشاكلها، ونفتح على وجل ملف أزمة
جديدة تحلق غيومها في الأفق منذ سنوات، منذرة بأوخم العواقب، إن لم يتدارك
الله الناس برحمته ولطفه، وهي الأزمة بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا من
جهة، وبين الزعامة (الثورية) الليبية من جهة أخرى، وهي الأزمة المشهورة باسم
(أزمة لوكربي) .
لقد بدأت ملابسات تلك الأزمة منذ عشر سنوات، وبالتحديد في 21 ديسمبر
من عام 1988م، وذلك عندما تم تفجير طائرة ركاب مدنية من طراز بوينج 747
تابعة لشركة (بان أمريكان) فسقطت فوق قرية (لوكربي) في جنوب غربي استكلندا، ونتج عن الحادث مقتل جميع ركاب الطائرة البالغ عددهم 259 شخصاً إضافة إلى
11 شخصاً من أهالي المدينة التي تناثر فوقها حطام الطائرة. إن التحقيقات
والفحوصات أثبتت أن الحادث تم (بفعل فاعل) وليس مجرد قضاء وقدر، فقد قام
المحققون البريطانيون بمساعدة الأنتربول باستجواب نحو اثني عشر ألف شخص
في أربعة وخمسين دولة، وأشارت نتائج التحقيقات إلى ضلوع أشخاص ليبيين في
الحادث، وبعد أربع سنوات من الصمت الأمريكي، وجهت الولايات المتحدة الاتهام
إلى ليبيا بتدبير حادثة (لوكربي) وصدرت وثيقة اتهام ضدها في 13 نوفمبر 1991م، وصادف هذا اتهام آخر من فرنسا للنظام الليبي بأنه مسؤول عن تفجير طائرة
(يوتا) المدنية الفرنسية فوق النيجر عام 1989م، وهو الحادث الذي راح ضحيته
170 شخصاً، وطالبت فرنسا ليبيا بتسليم أربعة أشخاص ليبيين مشتبه في أنهم
قاموا بتفجير الطائرة، بينما طالبت كل من بريطانيا والولايات المتحدة ليبيا بتسليم
شخصين ليبيين اتهما بتدبير حادثة (لوكربي) عن طريق وضع قنبلة في مخزن
حمولات الطائرة الأمريكية، والشخصان هما: الأمين فحيمة، وعبد الباسط
المقرحي.
نتائج توجيه الاتهام:
بصدور الاتهامات ضد ليبيا من ثلاث دول من الدول الخمس دائمة العضوية
في الأمم المتحدة، تكونت أغلبية تُجمِع على اتهام ليبيا، مما أدخل مجلس الأمن في
القضية، فاتخذ قرارات بناء على توجيه من تلك الدول بفرض عقوبات دولية على
ليبيا ما لم تتعاون سلطاتها لتسليم المشتبه بتورطهم في عملية التفجير.
واستمرت الضغوط على النظام الليبي أو بالأحرى: الشعب الليبي لإجبار
النظام هناك على تسليم المتهمين، وقامت الولايات المتحدة بفرض حظر جوي
واقتصادي على شعب ليبيا متهمة نظامه بأنه حرّض هذين الشخصين على تدبير
وتنفيذ الحادث، واشترط الأمريكان والإنجليز لرفع الحصار أن تسلم السلطات
الليبية الشخصين لمحاكمتهما في أحد البلدين: أمريكا أو بريطانيا.
الموقف الليبي والمناورات غير المفهومة:
رفض النظام الليبي الاتهامات الأمريكية والبريطانية، وأعلن مراراً أن ليبيا
ليست لها أدنى مسؤولية عن الحادث، ورفض تسليم الشخصين الليبيين بحجة أن
تسليمهما يمس (السيادة) الليبية ويمثل اعتداء على (كرامة) شعب عربي، وحاولت
القيادة الليبية أن تفك الحصار دون تسليم المتهمين ولكن دون جدوى، واضطرت
كل الدول العربية أن تشارك مرغمة في حصار الشعب الليبي، نزولاً على مقررات
(الشرعية) الدولية الجائرة التي درجت على إذلال الشعوب لمعاقبة الحكام في بلاد
المسلمين؛ ولما لم يجد النظام في ليبيا جدوى من التشدد، أظهر نوعاً من المرونة
في التعامل مع الخصوم، مما جعل المجتمع الدولي يتعاطف معه نوعاً ما، ثم
اقترحت ليبيا أن تتم المحاكمة في بلد ثالث محايد، بدلاً من أمريكا أو بريطانيا،
حتى ولو كانت استكلندا التي وقعت فوقها الطائرة، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا
رفضتا هذا الاقتراح، فوضعتا نفسيهما في موقف حرج دولياً.
ومرت فترة من الجمود خيمت على الموقف، إلى أن أعلنت الولايات المتحدة
في شهر أغسطس من عام 1998م عن حدوث مشاورات بينها وبين بريطانيا من
جهة وهولندا من جهة ثالثة، بشأن إمكانية محاكمة الليبيين المتهمين أمام محكمة
اسكتلندية في هولندا، وبهذا تكون الدولتان قد وضعتا ليبيا على المحك، وأوقفتاها
على الأرضية التي طلبت الانطلاق منها، فقد سبق لليبيا أن اقترحت هذا وألحت
عليه، ووافقتها على ذلك جامعة الدول العربية أكثر من مرة منذ عام 1993م، فهل
تجاوب النظام الليبي مع الطرح الذي سبق أن طالب به؟ !
لقد كان متوقعاً أن تبادر ليبيا إلى الموافقة على الاقتراح بعد تخلي كلٍ من
أمريكا وبريطانيا عن المواقف السابقة، ولكن المفاجأة التي أدهشت الجميع أن
الموقف الليبي اتسم بالمراوغة، وطالب النظام الليبي الدولتين بإعلان حسن النية:
أولاً بتعليق إجراءات الحصار، وطالب بضمانات دولية للمحاكمة، وقوبل هذا
الموقف باستغراب كبير، حتى من أقرب المؤيدين لليبيا، ولم يتوقف الأمر عند هذا
الحد من التشدد الليبي، بل قابل النظام هذا المطلب بمطالب مضادة من باب
التعجيز، وتوجهت الجماهيرية الليبية (العظمى) بمذكرة رسمية تطلب فيها تسليم
مسؤولين كبار في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان لمحاكمتهم بتهمة
شن غارات على ليبيا عام 1986م، وأعلنت السلطات الليبية أنها ستنقل طلبها هذا
إلى مجلس الأمن الدولي ليمارس ضغطاً على الولايات المتحدة لتسليم كبار
المسؤولين الأمريكيين! ! والغريب أن هذا الطلب الليبي الذي جاء بعد 13 عاماً من
الغارة الأمريكية على ليبيا، جاء ليقايض قضية مدنية قائمة بأزمة عسكرية ماضية، وهذا ما كثف الشكوك حول سلامة موقف النظام الليبي، وجعل القضية تنتقل من
طور الاشتباه إلى طور الاتهام. ومما لم يستطع أحد فهمه ولا تحليله ذلك التمنع
الشديد والتأبي عن الاستجابة إلى طلب من شأنه أن يحل مشكلة كبيرة: لماذا كل
هذا الحرص على شخصين اثنين سيقدمان إلى المحاكمة لا إلى المقصلة، في مقابل
تحميل شعب بأكمله غوائل حصار صارم غاشم تتوالى سنواته لإهلاك الحرث
والنسل؟ ! ومن سوء الحظ أن القيادة الليبية لا تبدي اكتراثاً بحصاد الحصار، وقد
قال العقيد القذافي تعليقاً على الاقتراح الأمريكي البريطاني الأخير: (نحن لا نخاف
الحصار، بما فيه الحصار النفطي) وقال (إن بلادي لا تقبل أن تسلِّم أحداً من أبنائها
إلى أيٍ من بريطانيا أو الولايات المتحدة) ! !
إذن فتعريض ملايين الليبيين للإذلال بالحصار يعتبر في فهم القيادة عزة
وكرامة، أما تسليم شخصين فقط من رجال النظام، قد يُدانان أو يبرآن؛ فهو يُعد
في نظر القيادة الثورية اعتداءً على (كرامة) الشعب الليبي و (سيادة) الدولة الليبية! !
آثار الحصار:
أصيبت حياة الشعب الليبي بالشلل شبه التام بسبب الآثار المترتبة على
الحصار، وتدهور الاقتصاد الليبي بشكل خطير، وتضررت مقدرات الشعب على
المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وعاش الشعب الليبي المظلوم تحت
وطأة الحصار الظالم الذي فرضته الدول الكبرى، وأدى إلى تدهور الأوضاع بشكل
ينذر بكوارث كبرى إذا ظل على ما هو عليه؛ إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية
الحظر الجوي والحصار، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار من
4/9/ 1992م وحتى نهاية إبريل عام 1994، كما أعلنت أمانة الصحة الليبية (وزارة الصحة) أن 300 رضيع وأكثر من 140 سيدة ماتوا بسبب نقص الأدوية أو تأخر وصولها من جراء الحظر الجوي المفروض على ليبيا منذ إبريل 1992م، ومات أكثر من 300 مريض كانوا بحاجة للعلاج في الخارج أثناء نقلهم براً إلى الدول المجاورة. وأفادت الإحصاءات إلى أن قطاع الزراعة تأثر إلى حد كبير، وبخاصة تربية المواشي حيث أدى نقص الأدوية البيطرية إلى خسارة تقدر بحوالي 40 ألف طن من اللحوم، وبلغت خسائر قطاع الطيران أكثر من 700 مليون دولار، وقطاع الصناعة نحو 500 مليون دولار، بالإضافة إلى الارتفاع الجنوني في أسعار المنتجات الصناعية هذا في غضون سنوات قليلة بعد بدء الحصار فما بالنا بما وصلت إليه الخسائر الآن.
وقفة مع النظام الجماهيري:
إذا كانت أكثر الشعوب العربية والإسلامية قد أُخضعت للعديد من العهود
المتتابعة التي جعلت منها (حقول تجارب) لأهواء الساسة، فإن الشعب الليبي لم
تتتابع عليه تجارب أنظمة مختلفة، بل تقلبات نظام واحد، ظل يتنقل في أفلاك
متناقضة ذات اليمين وذات الشمال؛ فالثورة التي يقال إنها بلغت سن الرشد بعد
دخولها عمر الثلاثين، جاءت لتحكم شعباً غنياً وبلداً بترولياً بطروحات النظام
الاشتراكي المخترع أساساً لبيئات الفقر والصراع الطبقي، وكعادة الاشتراكيين
العرب، فإن اشتراكيتهم تنجح دائماً في إفقار الغني ولا تفلح في إغناء الفقير! ! لقد
ضاعت جُل ثروات الشعب الليبي من أجل دعم ثورات في أنحاء العالم لا مصلحة
لليبيين ولا للعرب ولا المسلمين في تأييدها أو القيام بدعمها، والنظام في ليبيا قد
نصّب نفسه وصياً وحامياً لكل الحركات الثورية في العالم باستثناء الحركات
الإسلامية طبعاً وجازف ذلك النظام بحريات شعبه ليساهم في عمليات (التحرر) في
مجاهل الأرض شرقاً وغرباً! فهل تحرر هذا الشعب أولاً حتى يساهم في تحرير
غيره؟ ! للأسف؛ فإن الحقائق تأتي واضحة وناضحة بما يفضح مزاعم عهد
(التحرر) الوطني.
ففي ليبيا يطبق نظام لا يخضع لأية مقاييس، ولا تُلزمه أية معايير؛ فموقع
(قائد الثورة) مثلاً، خارج النص، فهو ليس رئيساً ولا ملكاً ولا أميراً ومع هذا فهو
الذي يملك كل خيوط الهيمنة على كل الأمور داخل ليبيا ولقبه الرسمي هو (الأخ
قائد الثورة) ، فهو الموجه والمحرِّض والمرشد، ولذا فإنه فوق المساءلة، وليس
قابلاً للمحاسبة؛ لأنه يوجه ولا يقرر.
وقد طرح القذافي (الديمقراطية الشعبية) بديلاً عن الديمقراطية الغربية
والاشتراكية الشرقية، لتنسب بعد ذلك كل آفات وعاهات العهد الثوري إلى الشعب
وإلى لجانه الثورية! !
وقد يظن البعض أن (اللجان الثورية) هي تمثيل حقيقي لإمساك الشعب بزمام
السلطة، ولكن الحقيقة هي أن تلك اللجان ليست إلا واجهة تمارس السلطة الانقلابية
الحكومية مهامها من ورائها وهي ترتدي العباءة الشعبية بدلاً من البزة العسكرية ولا
مجال للمشاركة ولو من بعيد لأي قوى أخرى حزبية أو غير حزبية؛ فالنظام الليبي
لا يسمح بتكوين أحزاب، ويرفع شعاراً عن الحزبية السياسية يقول: (من تحزب
خان) . وليست هناك مرجعية سياسية يمكن أن تلجأ إليها القوى المعارضة لتنتزع
بها شيئاً من حقوقها؛ فليبيا من الدول القليلة جداً في العالم التي تعيش بدون دستور
مكتوب، بعدما تم إلغاء الدستور عام 1977م، أما دستورها غير المكتوب والذي
ينوب عن كل الدساتير في عُرف النظام بل يفوقها فهو (الكتاب الأخضر) الذي ألفه
العقيد وهو يعيش عقده الثالث، ولكن ذلك لم يمنع من صدور قوائم من القوانين
الاستثنائية الغربية والشاذة، ومن تلك القوانين، قانون صدر في عام 1972م يتم
بمقتضاه تطبيق عقوبة الإعدام على كل من أدين بـ (خيانة الوطن) ومعلوم أن هذه
عبارة فضفاضة يمكن أن تدخل السلطات فيها من تشاء عندما تشاء في ظل قيادة
تقول بلسان الحال: (أنا الدولة) ! !
وفي عام 1988م، صدر القانون رقم 5، فأعطى مكتب الادعاء الشعبي (أو
القضاء العام) سلطة التحقيق في الجرائم السياسية دون أن يتضمن نص ذلك القانون
أي إشارة لحقوق المتهم أوالسجين في الدفاع عن نفسه أو في طريقة المعاملة أو
ضمانات العدالة.
وفي عام 1996م صدر قانون يقضي بإعدام كل من اشترك في عمل (مناوئ
لأهداف الثورة) . وللقارئ أن يتخيل كم من الأعمال والأقوال المشروعة في الأديان
والقوانين في العالم، يمكن أن تدخل تحت طائلة هذا القانون الجائر.
ومن أغرب مفارقات الثورة الليبية (الشعبية) في تعاملها مع حقوق الإنسان،
أن لجانها الشعبية، أقرت مبدأ العقوبة الجماعية أو قل (الجماهيرية) لكل مدينة أو
قرية أو مجلس محلي أو قبيلة أو عائلة، إذا ما سكتت أو امتنعت عن الإبلاغ عن
مرتكب جريمة (تطرف) أو (تعصب) أو تخريب) [2] .
أما كيف تطبق هذه العقوبة الجماعية؟ فإن ذلك يكون بحرمان المدينة أو
القرية أو غيرها من الخدمات العامة الأساسية: (الكهرباء، والماء، والغاز) وبأن
توقف كل المشاريع والمعونات التي تقدمها لها الدولة!
ولا شك أن في هذا مخالفة لكل ما تعارف عليه البشر من قوانين في كل زمان
ومكان؛ صحيح أن هذا السلوك يمكن أن يمارس على سبيل البغي والبطش
والتنكيل في بعض الأحيان، أما أن تصدر به قوانين، وتسن به تشريعات فهذا ما
لم يحدث في مكان في العالم إلا في ليبيا!
ولم تقف اللجان الشعبية للسلطة عند حد التلاعب بالتشريعات الأرضية، بل
تلاعبت أيضاً بالتشريع السماوي، بعد أن عطلته ثم جمدته، والآن تجتزئ منه ما
يتناسب مع توجهاتها بعد إضفاء مسحة (ثورية) عليه! فقد صدرت قوانين بتنفيذ حد
(قطع اليد) على كل من يمارس نشاطاً اقتصادياً بدون ترخيص! ! أو من يتاجر
بالعملة الأجنبية، أو من يدان بالفساد العام..! !
ولا ندري وفق أي فقه تتم هذه العقوبات! ولكن المقطوع به أنها أبعد ما تكون
عن شريعة القرآن، بل هي أشبه بشريعة (جنكيز خان) ! الذي وضع قانون الياسق
من خليط من الشرائع الأرضية وبقايا الشرائع السماوية!
وفي تحرك أراد به القذافي أن يسحب البساط من تحت أرجل أصحاب الاتجاه
الإسلامي المنادين بتطبيق الشريعة في ليبيا، عمدت لجانه الشعبية إلى تطبيقات
(ثورية) لبعض أحكام الشريعة، فطبقت علناً وعلى شاشات التلفاز أحكاماً بالقطع
والجلد والرجم في الوقت الذي كان الإعلام يطنطن فيه باتهام الإسلاميين بـ
(الزندقة) ويطالب أفراد الشعب بقتل ... نعم بقتل.. كل إسلامي بدعوى الزندقة! !
وقد درج العقيد على وصف معارضيه السياسيين في الخارج (لأنه لا يوجد منهم أحد
في الداخل) بـ (الكلاب) ! ولهذا فإن من يُقتل منهم غيلة، أو يُخطف سراً فإنه
يذهب غير مأسوف عليه ويموت ميتة (الكلاب) في نظر النظام التحرري!
وبعد كل هذا يريد النظام في ليبيا أن يقنع العقلاء في العالم بأنه حريص على
مصلحة الشعب الليبي إلى درجة أنه يعتبر محاكمة شخصين اثنين فقط من هذا
الشعب قضية (كرامة) يضحي من أجلها بالاقتصاد الليبي، وبالبترول الليبي ... بل
وبالشعب الليبي نفسه! وليس من المستبعد أن تتعرض ليبيا إلى ضربات عسكرية
شديدة إذا استمر مسلسل المراوغة، أو ثبت أن التهمة فعلاً من تدبير النظام الليبي.
بقي أن نذكر أنه لم يعد سراً أن هذين الشخصين المطلوبين دولياً هما من
أعضاء جهاز المخابرات الليبي! وهنا يبرز السؤال الكبير: هل ظل العقيد الليبي
يكافح وينافح بالنيابة طيلة عقد كامل عن مواطنين ليبيين اثنين ويضحي لأجلهما
بمصالح شعب كامل لمصلحة هذا الشعب؟ أم أنه يدافع ويرافع بالأصالة عن نفسه
خشية أن تقود المحاكمة إلى توجيه الاتهام إليه شخصياً، باعتبار أن الرجلين لم
يكونا لينفذا شيئاً دون علمه أو دون إذنه؟ ! وإلا ... فلو كان الأخ القائد على يقين
ببراءة (موكليه) فلماذا يصر على عدم تسليمهما للمحاكمة؟ !
إن هذا هو السؤال الذي يغامر النظام الليبي وتجامله فيه الأنظمة العربية
للحيلولة دون الإجابة عنه ... ولكن الأيام وحدها ستجيب عن هذا التساؤل، وسواء
أثبتت إدانة الشخصين أو لم تثبت في جريمة تفجير الطائرة المدنية فوق (لوكربي)
فإن هناك جريمة أخرى كاملة قد وقعت ونفذت على مرأى ومسمع من العالم أجمع،
وهي إيقاع عقوبات تستمر لسبع سنوات على تهمة لا تزال قيد التحقيق! ! ولا
ندري من أيهما نعجب: أمن من غطرسة القوة الغربية التي تعاقب قبل ثبوت
الاتهام (كما حدث أيضاً في السودان وأفغانستان) ؟ أم من عنتريات الزعامات
الثورية التي تحارب شعوبها، ثم تريد بعد ذلك أن تحارب بهم العالم؟ !
لك الله يا شعب ليبيا ... وكان الله في عونك يا شعب العراق! !
__________
(1) البداية والنهاية (13/88) .
(2) جريدة الشرق الأوسط (1 / 9 / 1998م) .(135/68)
المسلمون والعالم
حمى سنة 2000
الحلقة الثانية
بناء الهيكل الثالث ... سباق مع الزمن!
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من عام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة.
... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
في ظل هذا الفراغ الذي تعيشه أمة الإسلام بعامة، والعرب منهم بخاصة؛
فإن الساحة تظل مهيأة لكل نشاطٍ معادٍ يتحرك في هذا الفراغ الرهيب!
اقترب العام (2000) وتقترب معه دورة الزمان في التاريخ اليهودي من
الانتهاء، لتبدأ دورة جديدة، دورة زمان (ملك السلام) الذي يعتقد اليهود أنه
سيقضي على كل أعداء (إسرائيل) ! وفي رأيهم أن لا بد من تهيئة عالم الشهادة
لقدومه من عالم الغيب.. لا بد من إقامة دولته، وتوحيد عاصمته، وتجهيز منبر
دعوته! وموضع قبلته.
أما الدولة فقد أقاموها.. (إسرائيل) ، وأما العاصمة فقد وحّدوها (القدس) ،
وأما منبر الدعوة وموضع القبلة (الهيكل) فهو مهمة الوقت، وضرورة العصر في
الفصل الأخير من الزمن السابق لعهد المخلّص المنتظر [1] كما يدّعون فهل هناك
متسع من الوقت لتجهيز الهيكل لملك السلام؟ !
اليهود المتدينون يسابقون الزمن لبنائه، واليهود العلمانيون يستعدون لخلع
رداء العلمانية بالمشاركة في إحيائه، ومع هؤلاء وهؤلاء، يراهن النصارى
بمشاركتهم في هذه المساعي على تنصير اليهود عندما يجيء هذا المخلّص
(فيفاجأون) أي اليهود بأنه هو المسيح عيسى بن مريم! ! ولعل هذا يفسر جانباً من
احتفائهم بهم، واحتضانهم لهم، منذ ابتداء هذا القرن، وتضاعُف ذلك كلما اقترب
زمان الألفية الثالثة، التي يعتقدون هم أيضاً أنها ألفية المسيح وزمان السلام!
تقول الكاتبة الأمريكية (لي أوبرين) : (إن المذاهب اللاهوتية لكثرة من
المسيحيين البروتستانت، تصف إنشاء دولة إسرائيل بأنه تحقيق لنبوءة توراتية،
وتعتقد أيضاً أن تجمع اليهود في فلسطين مجرد تمهيد لتنصيرهم قبل المجيء الثاني
للمسيح، ولهذا فإن أنصار السفارة المسيحية الدولية في القدس [2] يشجعون
محاولات تنصير أتباع أي ديانة باستثناء اليهود، إذ إنه من المحرم عليهم التبشير
بينهم؛ لأنهم سيؤمنون تلقائياً بالمسيح عندما ينزل) [3] ! ولكن أين سينزل المسيح
في اعتقاد النصارى؟ يقولون أيضاً: سينزل في القدس، وسيمارس دعوته من
الهيكل، ولهذا لا بد من مشاركة فعّالة في بناء الهيكل الذي سيكون رمزاً لتعانق
الديانتين: اليهودية والنصرانية معاً، أو بالأحرى اندماجهما معاً! واليهود يرقبون
هذه البلاهة بمكر، بل يستثمرونها بذكاء وصبر، وقد قال أحد حاخاماتهم لقسيس
نصراني: (إنكم تنتظرون مجيء المسيح للمرة الثانية، ونحن ننتظر مجيئه للمرة
الأولى، فلنبدأ أولاً ببناء الهيكل، وبعد مجيء المسيح ورؤيته؛ نسعى لحل القضايا
المتبقية سوياً) .
ولكن يظل أتباع اليهودية هم الجهة المعنية أولاً ببناء الهيكل فهو عندهم عقيدة.. عبادة ... تاريخ ووجدان، ولا أظن أن حماسهم سيفتر من أجل إخراجه إلى
عالم الوجود بعد أن ظن الناس أنهم أدرجوه في عالم النسيان.
الهيكل تسمية قديمة للمكان المختار للعبادة قبل الإسلام، والهيكل الذي كان
موجوداً في الأرض المقدسة يمثل مراحل المسجد الأقصى فيما قبل الرسالة المحمدية، وقد صح أنه ثاني مسجد وضع في الأرض، فقد بناه إبراهيم عليه السلام بعد أن
بنى الكعبة بأربعين سنة [4] ، وكان الهيكل في القدس قبلة لكل أنبياء بني إسرائيل
طيلة عهودهم، واستمر المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس زماناً، حتى تحولت
قبلة المسلمين إلى الكعبة، ولكن حادثة الإسراء كانت إيذاناً بانتقال أرض القبلة
الأولى إلى إرث الأمة الإسلامية؛ لأنها أرض مقدسة لا يصلح أن تبقى تحت أيدي
أهل الملل الكفرية والعبادات الشركية، ولهذا كانت أرض بيت المقدس في مقدمة
الأراضي التي اتجهت إليها جهود الفتح، بدءاً من غزوة تبوك، وحتى تم فتحها في
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكما استمدت الأرض المقدسة قداستها من وجود الهيكل قبل الإسلام، فقد
استمرت تلك القداسة بعدما تحوّل الهيكل إلى مسجد عظيم في الإسلام له خصائصه
وفضائله المعروفة. واليوم وبعد نحو ألفي عام من هدم الهيكل الثاني ونحو 1344
سنة من بناء المسجد الأقصى في ظل الإسلام يريد اليهود هدم المسجد وإعادة الهيكل، ليكون هو الهيكل الثالث، بعد أن دُمر الأول في سنة 587 ق. م على يد ملك
بابل (بختنصّر) ، ودُمر الثاني سنة 70 للميلاد على يد (طيطس) .
إن اليهود كانوا يتبادلون طوال أزمنة الشتات تحية يقولون فيها: (غداً نلتقي
في أورشليم) ! وبعد أن وصلوا إلى أورشليم أو (القدس) واستولوا على حائط
(البراق) الذي يسمونه حائط (المبكى) ، ابتدع لهم حاخاماتهم دعاءً يرددونه في كل
صلاة أمام الحائط، وهو عبارة عن قَسَم وعهد على إعادة بناء الهيكل، ويدعون
على أنفسهم باكين بأن تلتصق ألسنتهم في حلوقهم إذا هم نسوه! وأول من ردد ذلك
الدعاء والتزم هذا التعهد هم القادة العسكريون عندما دخلوا القدس عام 1967م،
ووقتها لم يتقدم (موشيه دايان) وزير الدفاع لدخول المدينة المقدسة إلا وراء الحاخام
الأكبر للجيش الإسرائيلي (شلومو غورين) ! ، أما (إسحاق رابين) رئيس أركان
حرب الجيش الإسرائيلي آنذاك والذي تحول بعد إلى (ركن من أركان السلام) ، فقد
كتب في مذكراته يصف حرارة لحظات دخول القدس والاقتراب من مكان الهيكل.
يقول: (كان صبرنا قصيراً.. كان يجب أن لا نضيع الفرصة التاريخية، كنا كلما
اقتربنا من حائط المبكى ازداد الانفعال.. حائط المبكى الذي يميز إسرائيل، لقد
كنت أحلم دوماً بأن أكون شريكاً.. ليس فقط في تحقيق قيام إسرائيل، وإنما في
العودة للقدس، وإعادة أرض حائط المبكى إلى السيطرة اليهودية.. والآن عندما
تحقق هذا الحلم، تعجبت: كيف أصبح هذا ملك يدي! ؟ وشعرت بأنني لن أصل
إلى مثل هذا السمو طيلة حياتي) ! [5] هذا رئيس الأركان الذي أصبح بعد ذلك
رئيساً للوزراء في الحكومة العمالية (العلمانية) ! ! .
أما الرئيس الإسرائيلي نفسه (زلمان شازار) فقد تقدم هو الآخر نحو الحائط
في ذلك اليوم بخطىً وئيدة وخلفه جموع يهودية صاخبة، ويصف المعلق الصحفي
الفرنسي (جان نويل) هذا المشهد فيقول: (دخل (زلمان شازار) رئيس إسرائيل
المدينة التي فُتحت، ووقف أمام حائط المبكى، ولأول مرة منذ عشرين قرناً يقف
رئيس دولة عبرية مستقلة أمام معبد سليمان الكبير ... إن الإسرائيليين الملحدين
أنفسهم تأثروا أيضاً بهذه المشاعر الدينية.. إن اليهود لن يُنتزعوا من القدس دون
أن تدمى قلوبهم) [6] .
ولكن.. هل اليهود وحدهم، أو النصارى معهم فقط المعنيون بإعادة بناء
الهيكل؟ ! .. لا، إن هناك جماهير غفيرة من المغفلين أولي الديانات والثقافات
المختلفة، ينجح اليهود في استدراجهم للعمل لحسابهم تحت مظلة الأندية الماسونية
العالمية، تلك الماسونية التي عرّفها المستشرق الهولندي (دوزي) بأنها: (جمهور
كبير من مذاهب مختلفة، يعملون لغاية واحدة هي: إعاة بناء الهيكل الذي هو رمز
إسرائيل) [7] .
ويستوي في ذلك ماسون الغرب وماسون العرب، فقد جاء في النشرة
الماسونية الصادرة في نيويورك عام 1901م: (إن الماسونية الأوروبية ستشيد بناءً
حيث يعبد إله إسرائيل إلى الأبد) [8] ويقول إدريس راغب وهو من أبرز
الماسونيين العرب (إن الاعتقاد بوجوب إقامة الهيكل يقوّي إيماننا بالوعود المذكورة
في الكتاب) [9] .
إن هذا الاعتقاد الذي يؤمن به اليهود ويؤمن به النصارى، ويسعى إليه
الماسونيون، قد تعدى الآن مرحلة التنظير والتأطير المستمدة من الأساطير إلى
مرحلة البدء في العمل والتنفيذ انتقالاً إلى عالم الواقع.
الأحجار أولاً:
كل بناء لا بد له من لَبِنات وأحجار تناسبه؛ ولكن إذا كان البناء (أسطورة)
يُراد صنع واقع منها، فلا بد وأن تكون أحجار هذا البناء الأسطوري أحجاراً
أسطورية أيضاً. هذا ما فهمه اليهود، وهذا ما يعملون عليه الآن. وبدأت قصة
الحجارة من الناحية العملية في أواخر الثمانينيات، عندما وقع اختيار إحدى
الجماعات الدينية على حجر كبير (مقدس) ! ! يزن 3. 5 طن، فقاموا في
16/10 /1989م بوضعه حجر أساس للهيكل الثالث بالقرب من مدخل المسجد الأقصى، وقال وقتها (جرشون سلمون) زعيم جماعة (أمناء الهيكل) : (إن وضع حجر أساس الهيكل يمثل بداية حقبة تاريخية جديدة.. نريد أن نبدأ عهداً جديداً من الخلاص للشعب اليهودي) [10] .
ولم تكن تلك الحادثة مجرد احتفال بمراسم وضع حجر الأساس، بل كانت
تدشيناً لمرحلة لها ما بعدها، ويدل على ذلك أن جمع الأحجار (المقدسة) أصبح
عملاً تعبدياً للكثير من المعنيين بالتعجيل ببناء الهيكل، وقد أذاعت وكالة الأنباء
الفرنسية تقريراً في أوائل أغسطس من عام 1997م جاء فيه: إن المتطرفين اليهود
في القدس أعدوا كل شيء وفق طقوسهم لبناء الهيكل، وجاؤوا بأحجار تم قطعها من
صحراء النقب وغيرها، ليتم صقلها في القدس، لاستخدامها في بناء الهيكل،
وسيحتاج المشروع وفق التقرير إلى ستة ملايين حجر، ونبه التقرير إلى أنه لم يعد
سراً أن الهيكل تم تصميمه الهندسي في الولايات المتحدة الأمريكية، على يد
مستشارين هندسيين من يهود أمريكا، وذكر التقرير أيضاً أن هذا التصميم وضع
تحت تصرف الحكومة الإسرائيلية الآن، وتم إعداد فريق متكامل من عمال البناء
سيظلون رهن الإشارة للعمل عندما يحين الوقت.
(الشرق القطرية، 19/8/1997 م)
إن ستة ملايين حجر.. (توراتي) مهمة غير هينة، ولكن كل شيء يهون عند
يهود اليوم وهم يرون أنهم الجيل المختار من (الشعب المختار) ، لإنجاز العمل
الكبير الذي لم يعودوا يصبرون على تأجيله، وقد نشرت الصحف الإسرائيلية أن
عائلة (ليفي) اليهودية الثرية التي تملك كسارات ضخمة في جنوب الأرض المحتلة، أعدت بالفعل كميات ضخمة من الحجارة التي (لم تلمسها يد إنسان أو إزميل
عامل) حسب وصف التوراة [11] ، لكي تُنقل عندما تحين الفرصة إلى القدس لبناء
الهيكل.
(نقلاً عن الخليج 6/11/1997م)
وهناك جماعة يهودية أخرى، تخصصت في شراء أحجار معينة، يتم
تقطيعها وصقلها في صحراء النقب بأموال يحصلون عليها من التبرعات، ويؤكد
أحد زعماء هذه الجماعة ويُدعى (يالوز) أن توفير ستة ملايين حجر من تلك
الحجارة الخاصة ليس بالأمر اليسير، ولكنه يؤكد على أنه وجماعته يشعرون بأنهم
يقومون بمهمة مقدسة ولا بد من إتمامها، ويقول: (عندما ألمس هذه الحجارة
وأحملها، أشعر بأن شيئاً من الجنة يتحرك فيها) . (الخليج 9/8/1997م) .
إن هذا الهَوَس الحجري العنصري، والأجواء الأسطورية التي تعيشها
الجماعات الدينية اليهودية، تجعلها تُقْدِم على أمور تبدو للوهلة الأولى أنها أفعال
مجانين! ! ولكنها للأسف جنون موجّه تحميه القوانين، وتؤازره السلطة؛ مما حدا
ببعض الجماعات إلى قلع الحجارة التي تحفّ ببعض الأرصفة في القدس عندما
اشتمّوا فيها مسحة توراتية، بل شاركت السلطات نفسها فيما لا تستطيعه الجماعات
من ذلك؛ ففي شهر يونيه (حزيران) من عام 1997م قررت البلدية الإسرائيلية
لمدينة القدس بالتعاون مع وزارة السياحة البدء في مشروع اقتلاع الأرصفة بأحد
الشوارع الكبرى في القدس، وقد تم تحصيل مبلغ مليون شيكل (قرابة 350 ألف
دولار) لنزع تلك الحجارة التوراتية العتيقة (الخليج 14/6/1997م) ! !
وماذا بعد الحجارة؟
كان المتوقع أن يتم تأجيل كل عمل يتعلق بالبناء حتى يتم الهدم الذي يتعجلون
يومه، ولكن الواقع غير ذلك، فالواقع أن اليهود بدافع من ذلك الهوس (الهستيري)
يستبقون الأحداث، وقد أذاعت وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها في شهر
أغسطس من عام 1997م. أن الاستعدادات تجري لتجديد وإحياء التقاليد والطقوس
التي ستمارس في الهيكل، بما فيها من مذابح للحيوانات التي ستقدم ضمن الشعائر
اليهودية، وذكرت أن الحاخامات ينشطون الآن في تخريج أجيال تقوم على رعاية
تلك الطقوس في (معهد الهيكل) بالقدس.
وأشارت إلى أن هؤلاء ينطلقون من رؤية مفادها أن الهيكل ينبغي أن يكون
جاهزاً بشكل تام وليس مجرد بناية فقط قبل الأحداث الكبرى التي ستسبق نزول
المسيح.
وتعرض في إسرائيل الآن كما نُشر في السياسة الكويتية 30/10/1997م
عشرات من أنواع الأدوات الدينية التي سيحتاج إليها رواد الهيكل عندما يُبنى، مثل
المعدات التي ستستخدم في معالجة الرماد بعد التضحية بالقرابين، والآنية والنبيذ
(المقدس) ومفروشات العبادة.. كل ذلك أصبح جاهزاً!
وماذا عن الشمعدان!!
حتى الشمعدان السّباعي (المقدس) ! تجري الآن بشأنه أشياء وأشياء، فهو
أعظم رمز ديني عند اليهود، وهو يرمز لأيام الخليقة السبعة في التوراة، التي
يعتقد اليهود أنهم سيتوّجون اليوم السابع منها؛ ولهذا اتّخِذ رمزاً رسمياً للدولة
الإسرائيلية، فنراه منقوشاً على العملات، ومطبوعاً على الأوراق، ومُبْرزاً على
واجهات المنابر ومنصات المحافل، هذا الشمعدان والذي يوشك على الانتهاء الآن
يرى اليهود أن قداسة (قدس الأقداس) داخل الهيكل لا تكتمل إلا بإيقاده داخله،
والآن يريدون تحويل ذلك الرمز الديني التاريخي.. والسياسي أيضاً، إلى حقيقة
واقعة!
والشمعدان السّباعي، ليس واحداً فقط على ما يبدو، ولهذا جرت ولا تزال
تجري المساعي، للعثور على القديم، وإنجاز مجموعة أخرى من الشمعدانات
الجديدة!
فقد أدلى (باروخ بن يوسف) زعيم منظمة (بناة الهيكل) بتصريح لوكالة الأنباء
الفرنسية في أغسطس 1997م قال فيه: (إن جماعته انتهت من صنع شمعدان
ذهبي ضخم تم صنعه في أمريكا، ونقل بالفعل إلى إسرائيل، وقال إن جماعته
بدأت مع جماعات أخرى في إعداد حاخامات متمرسين في هذا الشأن لإقامة الشعائر
الدينية التي ستقام في الهيكل)
(الخليج 9/8/97م)
وهناك مليونير يهودي مصري يدعى (موسى فرج) بدأ عام 1990م بمباركة
شخصية من صديقه الشخصي (بنيامين نتنياهو) قبل أن يصبح رئيساً للوزراء في
العمل لإنجاز شمعدان ذهبي آخر في الولايات المتحدة التي استقر بها ذلك المليونير
مشتغلاً بتجارة الماس. وقد انتهى من إنجازه كما أكد ذلك (إيهود ألمرت) عمدة بلدية
القدس، وانتهى كذلك من إنجاز عمل آخر هو (خيمة الاجتماع) أو (خيمة العهد)
التي يعتقد اليهود بضرورة وضعها في الهيكل؛ لأنها ترمز إلى الخيمة التي اجتمع
فيها موسى مع الملائكة حسب معتقد اليهود فوعدته بمجد بني إسرائيل! وهذه
الخيمة الجديدة التي انتهى من إعدادها المليونير اليهودي، تم صنعها كما ذكرت
الأنباء من خيوط الذهب الخالص، وقد أهداها بعد إتمامها إلى رئيس الوزراء
بنيامين نتنياهو! وذلك إضافة إلى الشمعدان الذهبي الذي خصص له المليونير مبلغ
15 مليون دولار أمريكي. (روز اليوسف 97/8/1918م) أما الشمعدان الأكبر
القديم، فيذكر المؤرخون اليهود، أنه نجا من الاحتراق عندما دمّر (نبوخذ نصر)
الهيكل عام 586 قبل الميلاد، ولكنه أي الشمعدان فُقد، وظل اليهود يحلمون عبر
قرون طويلة بالعثور عليه، ويحدوهم الأمل باسترجاعه تحقيقاً لبعض النبوءات،
غير أن ذلك الحلم لم يتحقق، ولكن في هذا العصر عصر تحقق الأساطير اليهودية
بدأ اليهود في إعادة البحث عن الشمعدان، حتى إن المخابرات الإسرائيلية نفسها
تورطت في الستينيات من هذا القرن في حادث اختراق وتسلل إلى مخازن الفاتيكان
بناءً على معلومة كاذبة تقول: إن الشمعدان يوجد في أحد دهاليز مخازن الفاتيكان!
ومرت الحادثة.. ومضت، ولكن اليهود لم ينسوا الشمعدان المفقود؛ ففي شهر
سبتمبر (أيلول) من عام 1997م، اجتمع وزير الأديان الإسرائيلي (شيمون
شيريت) مع (البابا) يوحنا بولس الثاني، وطلب منه المساعدة في العثور على
الشمعدان المقدس القديم الذي يزن (60 كيلو جراماً) من الذهب (السياسة الكويتية
30/7/1997م) . ويدعي اليهود أن ذلك الشمعدان أُحضر إلى روما في عهد
الامبراطور (طيطس) الذي هدم الهيكل عام 70 للميلاد!
وهكذا.. نرى أن اليهود سيلغمون الأشهر والأعوام القليلة القادمة بقنابل عديدة
وموقوته، ولهذا نتوقع أن (يتحفونا) كل حين بمفاجأة من مفاجآتهم (الأسطورية)
التي يبدو أنها ستصطف واحدة تلو الأخرى لكي تخرج تتهادى إلى عالم الوجود
تباعاً، ومن الآن فصاعداً؛ وذلك لكي يقنعوا العالم بأنهم لا يتحدثون عن خرافات
بل عن وقائع!
... والتابوت..!
أسطورة أخرى تتعلق بالهيكل، يدور حولها الآن جدل ومناقشة، إنها أسطورة
التابوت! ونقول أسطورة؛ باعتبار ما يردده اليهود عنها اليوم، وإلا فإن التابوت
الذي كان موروثاً من زمان موسى عليه السلام والذي حملته الملائكة في زمن النبي
(شمويل) لتثبت لبني إسرائيل أحقية (طالوت) بالملك، هذا التابوت المذكور في
سورة البقرة حق نؤمن به؛ لأنه مذكور في القرآن [12] ، ولكن ما ليس حقاً، أن
اليهود يزعمون أنهم سيحصلون عليه مرة أخرى، وسيكون معهم في معاركهم
الفاصلة مع أعدائهم، فيكون النصر حليفهم! ! من يصدق أن اليهود الآن يتطلعون
إلى إخراج هذا التابوت مرة أخرى إلى العالم؟ ! إن البحث عن التابوت اليوم يمثل
عَرَضاً آخر من أعراض حُمّى سنة 2000.
والتابوت حسب التراث اليهودي كان موجوداً في الهيكل الأصلي داخل ما
يُعرف بـ (قدس الأقداس) وكان يضم قطعاً من ألواح التوراة وبقايا مما ترك آل
موسى وآل هارون. والقرآن يصدّق هذا في قوله تعالى: [إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَاًتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ]
[البقرة: 248] .
ولكن هذا من الأمور التي انتهت بانتهاء أفضلية بني إسرائيل، ولو بقي في
التابوت أو الشمعدان أو خيمة العهد أو نحوها فضل على فرض بقائها لانتقلت إلى
إرث الأمة المفضلة الأخيرة، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما انتقل إلى
إرثها المسجد الأقصى والأرض المباركة حوله. ولكن اليهود لا يعترفون بهذا، ولا
يقرون لمحمد -صلى الله عليه وسلم- برسالة أصلاً. ولهذا فإن كل ما كان مقدساً
في كتبهم وديانتهم المنسوخة، لا يزال على صفته عندهم.
وعلى هذا فالهيكل لا بد أن يحتوي في نظر اليهود على تابوت العهد حتى
تكتمل صفته الدينية، ولكن أين التابوت الآن؟ !
أسطورة أخرى يتحرك شبحها في الأفق البعيد محاولاً المجيء من عالم الغيب
السحيق؛ فقد أكدت صحيفة معاريف الإسرائيلية في عددها الصادر في فبراير
1997م، أن تابوت العهد موجود الآن في إثيوبيا! ونقلت عن أحد علماء الآثار
والتاريخ اليهودي قوله: إن منليك ابن النبي سليمان عليه السلام من بلقيس ملكة سبأ، نقله إلى الحبشة بعد وفاة أبيه، ونسب الباحث تلك الوقائع إلى التوراة وأضاف:
(إن الهيكل لا يعني أي شيء بدون التابوت، والتابوت ليس موجوداً تحت المسجد
الأقصى كما تظن بعض الجماعات اليهودية وكل محاولات التنقيب والحفريات التي
تُجرى لن تصل إلى شيء يتعلق بهذا التابوت) !
وبعد أن نقلت الصحيفة عن الباحث الإسرائيلي هذه التصريحات، عقّبت
بقولها: (إن تابوت العهد موجود بالفعل في مكان سري في شمال إثيوبيا قرب مدينة
(أقسوم) العاصمة القديمة للحبشة أيام حكم بلقيس وسليمان، والتي حكمها منليك بعد
أمه مدة خمسة وعشرين عاماً. ثم أردفت الصحيفة قائلة: (لا أحد يعرف مكان
التابوت إلا أفراد قلائل من كبار المسؤولين) ! !
وهناك رأي آخر في تحديد مكان التابوت، وهو سائد أيضاً بين العديد من
الجماعات اليهودية، وهو أنه في مكان مّا في الطبقات العميقة تحت (قدس الأقداس) ، يعني تحت الأرض المقام عليها الآن المسجد الأقصى، وهذا هو الرأي التقليدي
الشائع، والذي بموجبه بدأت الحفريات تحت المسجد الأقصى، والذي من أجله
صدرت الفتاوى الحاخامية بحظر دخول اليهود إلى داخل أروقة المسجد خوفاً من أن
تطأه الأقدام! ! وعلى كلا الرأيين، فلا بد في نظر كلٍ من الفريقين أن يتم العثور
على التابوت بما فيه من الألواح والأشياء المقدسة!
لعل هذه التفاعلات المَرَضِية وتداعياتها؛ تقرب القارئ إلى تصور الحد الذي
وصلت إليه الأمور اليوم في ذلك الصراع الديني، الذي يُدار دينياً من طرف واحد، ولعل القارئ يدرك بهذا إلى أي حدٍ ارتفعت درجة حرارة الحمى بمرضى الهوس
الألفي الذي تتحدث عنه الصحف الرسمية اليهودية، وتتناثر التصريحات حوله من
المسؤولين اليهود داخل (إسرائيل) وخارجها.. والسؤال هنا: أين مثقفونا
وسياسيونا (الواقعيون جداً) من هذا الواقع الجديد والتفاعلات المتصاعدة داخل الدولة
العبرية؟ هل يعلمون بذلك وهم يَصخّون الأسماع بالحديث عن السلام الحتمي
والتطبيع المصيري؟ ! أغلب الظن أنهم يطلعون على مثل هذا وأكثر، ولكن لماذا
هذا الصمت المريب على كل تلك الصرعات الدينية: اليهودية والنصرانية التي
يراد أن يدار بها الصراع في المرحلة القادمة في ظل غيبوبة مفروضة على الأمة؟
لماذا يُسكت عن (الأيديولوجيات) المسيّسة المولعة بالعودة إلى الوراء آلافاً من
السنين، في حين يستمر الضجيج المقذع للتخويف من العودة للإسلام وحده؟ !
ولمصلحة مَنْ يُطلب من الإسلام وحده أن يكف يده، في حين تمتد كل الأيادي
والسواعد (الدينية) للعمل النشط ويُصمت عنها؟ ! الذي يظهر لي في علة هذا
الصمت المصنوع عن الانتعاش الديني لدى اليهود والنصارى؛ هو الخوف من
إثارة الغيرة الإيمانية ومشاعر الحنين إلى الدين عند المسلمين، والإعلام العلماني لم
يفهم بعدُ أن هذه الغيرة وتلك المشاعر هي روح الأمة التي لو فارقتها لفارقتها الحياة. نعم هناك ما يشبه التهامس بهذه الأمور ولكن سياجاً من التعتيم والتعمية يقام حولها
حتى لا تتنبه الأمة وجماهيرها اللاهية إلى ما يراد لها، أو قد تعرض بعض هذه
القضايا في شكل جزئي مهمش، او عرض اختزالي مغبش.
وتظل مهمة استخلاص الحقائق من بين براثن الإشارات الصحفية
الشحيحة [13] عن هذه الأمور مهمة صعبة.
إن الإعلام العربي (العلماني) يمارس للأسف الشديد، مهمة الاتجار في
المخدرات الفكرية، ويعمل على ترويجها حتى تصاب الأمة كلها بحالة من إدمان
الترف المعرفي التائه، أو التجاهل أو التشاغل الذاهل.
قارِنْ مثلاً بين مساحة الاهتمام بقضية اليهودية العاهرة (لوينسكي) أو قصة
النصرانية العاشقة (ديانا) أو هذا الفنان أو تلك الغانية أو ذاك الرياضي قارن بين
ذلك وبين كثير من القضايا الكبار التي تواجه الأمة مصيرياً، فبتلك المقارنة تدرك
بُعد الشّقّة. ومع هذا فإن إجراء عملية (ترشيح) للقليل المنشور في مثل هذه القضايا
المهمة المهملة، يوصل إلى مؤشرات ترسم معالم الحقيقة في الموضوع المراد.
ومن معالم الحقيقة في موضوع مقالنا؛ أن القضية وصلت إلى أعلى مستويات
المعرفة والمواجهة بين المسؤولين العرب والمسؤولين اليهود، فقد ذكرت بعض
الصحف أن ياسر عرفات زعيم السلطة الفلسطينية، عرض صوراً مما درجت
الحكومة الإسرائيلية مؤخراً على نشرها للهيكل في تصميمه الأخير المعتمد؛ حيث
تظهر مبانيه وهي تحتل مكان المسجد، وممن عرض عليهم ذلك أعضاء مجلس
الجامعة العربية، وأعضاء (لجنة القدس) ، وذكرت مجلة (روز اليوسف) في عددها
الصادر في 5/5/1997م، أنه أي عرفات عرض ذلك أيضاً على الرئيس حسني
مبارك، وقال الصحفي المصري، عادل حمودة: إن ياسر عرفات التقى أيضاً في
إحدى زياراته للقاهرة بعدد من الصحفيين، وشرح لهم تفاصيل المخطط الإسرائيلي
لهدم الأقصى، وقال للصحفيين: إن يهود العالم تبرعوا في السنوات الأخيرة بما
يقرب من مليار دولار من أجل مشروع واحد، وهو بناء الهيكل الثالث!
وذكرت صحيفة الحياة في (7/3/1997م) أن الرئيس حسني مبارك واجه
بنيامين نتنياهو عندما زار القاهرة في (5/3/1997م) برسوم وتصميمات هندسية
تسربها إسرائيل عن الهيكل الثالث، وقالت الصحيفة نقلاً عن مصادر مصرية
مطلعة: (إن نتنياهو لم ينفِ أمام الرئيس مبارك مخططات حكومته إحياء هيكل
سليمان في موقع مسجدي الأقصى والصخرة في القدس الشريف عندما واجهه
بالتصميمات الهندسية للهيكل) !
وكان نتنياهو قد أهدى مجسّماً يمثل الهيكل الثالث لأسقف الروم الأرثوذكس
(ماكسيموس شالوم) بمناسبة عيد الميلاد عام 1997م، وكان المجسم موضوعاً على
خريطة فضية بدت فيها معالم المدينة المقدسة خالية من المسجدين.
ولما اعترض الفلسطينيون، قال ناطق باسمه لوكالة (رويتر) : (نعتذر عن
هذا الخطأ، إننا لم نلاحظ أن المسجد الأقصى لم يظهر في النموذج المجسم) ! !
(الحياة 13/1/1997هـ)
وهكذا تمضي الأحداث، مسجلة كل يوم خطوات إلى الأمام على درب
المخططات اليهودية، بينما لا تزال تتعثر خطواتنا في مجرد استيعاب أخبار
مخططاتهم!
يبقى أن أشير إلى نقطة أخيرة فيما يتعلق بالمشروع المؤامرة، وهي: أن ما
يطلق عليه اليهود (قدس الأقداس) أو المذبح، والذي يُعد في الحقيقة موضع القبلة
الحقيقية لدى اليهود داخل أروقة الهيكل، هذا المذبح قد أنجز بالفعل، فقد انتهت
منظمة (حركة إعادة الهيكل) من بناء هذا المذبح في منطقة قريبة من البحر الميت،
وقد أعد بطريقة تسمح بنقله في الوقت المناسب ليمثل مكانه في قلب مباني الهيكل،
وقد نشرت جريدة الخليج في (16/11/1997) أن الشركة الإسرائيلية للصناعات
المعدنية في الأرض المحتلة شاركت في المشروع، وتولت إعداد التجهيزات
المعدنية بداخله بطول ثلاثين متراً على نفس الهيئة التي كان عليها المذبح القديم،
وذكرت الصحيفة نقلاً عن وكالات الأنباء أن المذبح الموجود الآن في منطقة قريبة
من البحر الميت كان قد تقرر عرضه في صالة واسعة تابعة لمعهد دراسات الهيكل
في القدس، إلا أن مخاوف أمنية، جعلت الإسرائيليين يرجئون فكرة عرضه، وتم
التحفظ عليه في مكان أمين بمحاذاة الحدود مع الأردن!
أقول: لماذا المذبح الآن؟ ولماذا عُجّل به قبل بقية البناء؟ وماذا سيذبح فيه؟ !
إن الجواب المعلوم إجمالاً لكل متابع، أن اليهود يُعِدّون المذبح لكي يكون
مسرحاً لرواية أسطورية أخرى، من كبريات أساطير سنة 2000، وهي أسطورة
(البقرة الحمراء ... العاشرة) !
فما هي البقرة العاشرة؟ وما قصتها القديمة، وآخر حلقاتها الحديثة؟ متى
وجدوها؟ ومتى يذبحونها؟ وكيف سيتحول الشعب اليهودي كله بعد ذبحها إلى
شعب (أصولي) شديد التمسك باليهودية؟
هذا ما سنعرفه في حلقة قادمة إن شاء الله.
__________
(1) سيأتي في حلقة قادمة إن شاء الله من هو هذا المنتظر اليهودي.
(2) أنشئت في سبتمبر 1980م، وتقف وراءها المنظمات الإنجيلية الأمريكية، وقد أصدرت فور إنشائها نشرة استهلتها بقولها: (ليكن دعاؤكم ضد الروح الإسلامي) وقالت: (إن وجود مسجد إسلامي في أقدس بقعة في القدس وصمة عار للموقع المقدس للهيكل) من كتاب: (المنظمات الأمريكية الداعمة لإسرائيل) ، ص 282.
(3) المنظمات اليهودية الأمريكية، ونشاطاتها في دعم إسرائيل، ص 286 تأليف (لي أوبرين) .
(4) يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري (6/469) ، ومسلم (1/370) ، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: (سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً) .
(5) الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي، لإسماعيل كيلاني، ص 35.
(6) المرجع السابق، ص 36.
(7) الماسونية في العراء، محمد على الزعبي، ص 163.
(8) جذور البلاء، لعبد الله التل، ص 127.
(9) الماسونية في العراء، لمحمد علي الزعبي، ص 105.
(10) الشرق الأوسط 16/10/1989م.
(11) عندما ننسب شيئاً إلى التوراة، فهذا على حد زعم اليهود، أو نقلاً عما فهموه أو حرفوه منها.
(12) في القصة الواردة في سورة البقرة من الآية 246 إلى الآية 252 وانظر تفسير ابن كثير
(1/285) .
(13) بالمناسبة: ندعو القارئ الكريم أن يزودنا بأي معلومات تقع تحت يديه عن القضايا التي تتناولها هذه الحلقات على بريد المجلة أو الفاكس.(135/78)
مرصد الأحداث
من يدفع للآخر؟ !
قال رئيس مجلس النواب المغربي عبد الواحد الراضي إن الدول العربية يجب
أن تحصل على تعويض لقاء الثروة البشرية التي خسرتها بهجرة مئات الآلاف من
اليهود العرب إلى إسرائيل.
وأضاف: إن اليهود الذين هاجروا من الدول العربية كوّنوا ثروة بشرية لـ
(إسرائيل) ؛ لأنهم وُلِدوا وتربوا وتعلموا وأصبحوا جاهزين للإنتاج في البلاد العربية
قبل خروجهم منها. ولذلك، فإن البلاد العربية هي التي تملك الحق بطلب التعويض
من إسرائيل مقابل ما فقدت من ثروة بشرية، مشيراً إلى مطالبة تل أبيب بثروة
مادية لتعويض اليهود.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7341) ]
ما الهدف إذن؟ !
1- قال قائد عملية (ثعلب الصحراء) قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال
(أنتوني زيني) : إن الأزمة مع العراق (قضية إقليمية تجب معالجتها عبر الاحتواء
والصبر وليس عبر المواجهة المباشرة مع الرئيس صدام حسين أو محاولة إطاحته) .
(إن مواجهة صدام مباشرة أكثر صعوبة، ستكون صعبة على الجانب
السياسي، وستكون صعبة في المنطقة، وإعلان حرب شاملة والدخول إلى بغداد،
قد يتسببان في مزيد من عدم الاستقرار) .
[جريدة الحياة، العدد (13081) ]
2- كشف مسؤولون أمريكيون أن لجنة الاستخبارات المنبثقة عن مجلس
الشيوخ الأمريكي أوقفت خطة لتقويض الحكومة العراقية؛ بسبب عدم قناعة عدد
من كبار أعضاء المجلس من الجمهوريين بأن الرئيس بل كلينتون جاد في إسقاط
الرئيس العراقي صدام حسين.
واعترف المسؤولون بأن الكونجرس رفض السماح لوكالة المخابرات
المركزية (سي. آي. إيه) ببدء حملة لتغيير النظام العراقي. فعدد من أعضاء
المجلس كان يعترض على الدور الذي يمكن أن تلعبه الوكالة في ذلك، فضلاً عن
أنهم لم يقتنعوا بجدية الرئيس كلينتون في خطط إسقاط الرئيس العراقي. ... ... ... ... ...
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7331) ]
3- أصر الجنرال (هيو شيلتون) رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات
المسلحة الأمريكية، أن صدام ليس على قائمة الأهداف.
وقال شيلتون (إننا لم نكن نتعقب صدام حسين من يوم إلى آخر. وصدام
حسين لم يكن هدفاً محدداً لهذه العملية. وإذا حدث أن اقتنصته أو أضعفت نظامه
قنبلة أو صاروخ فإن هذا سيكون قيمة مضافة) .
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7327) ]
من احتلال إلى احتلال
تقود مجموعة روتشيلد التابعة للأسرة اليهودية المعروفة جهوداً دولية
للاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة، انطلاقاً من أن تحسين الوضع
الاقتصادي وتوفير الوظائف سيعزز السلام والأمن في المنطقة.
وشاركت مجموعة روتشيلد في وفد من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس
الأموال والاستثمار البريطانيين زار (إسرائيل) والضفة الغربية وقطاع غزة؛
لغرض الاطلاع على فرص الاستثمار في الأراضي الفلسطينية، وأعرب غسان
الشكعة، رئيس بلدية نابلس عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، عن تفاؤله إزاء
إمكانية أن تتحقق وعود الوفد بالاستثمار في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني،
وتصبح واقعاً ملموساً في غضون فترة ليست بطويلة.
وتقول أوساط فلسطينية أنه لو تحقق ذلك فإن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات
يكون قد حقق أمنيته وحلمه المتمثل على حد رأيه، في أن يرى لا روتشيلد
الفلسطيني فحسب يستثمر في أراضي السلطة بل روتشيلد الحقيقي.
واسم روتشيلد مرتبط بالحركة الصهيونية منذ أكثر من قرن، وبـ (إسرائيل)
منذ قيامها قبل 50 عاماً. فقد ساعدت هذه الأسرة اليهودية في تمويل المستعمرات
اليهودية في فلسطين كما مولت عبر صندوقها الخيري! الضخم المؤسسات الخيرية
في (إسرائيل) . ... ...
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7340) ]
الصديق.. وقت الضيق
أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت أن الإدارة الأمريكية
ستتقدم بطلب للكونجرس الأمريكي بالموافقة على تقديم 200 مليون دولار مساعدة
أمنية إضافية للأردن.
ويُذكر أن الولايات المتحدة تقدم سنوياً 225 مليون دولار، مساعدات مالية
واقتصادية للأردن. ويعاني الأردن عجزاً في موازنة الدولة للعام المقبل وصلت إلى
نحو نصف مليار دولار، وستغطي المساعدات المالية والهبات والقروض الخارجية
والداخلية جزءاً كبيراً من هذا العجز.
... ... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7383) ]
سمن على عسل
في الوقت الذي جَمّدت فيه حكومة بنيامين نتنياهو اتفاق (واي ريفر) للأرض
مقابل الأمن، الأمر الذي أرجأ البدء بمفاوضات الوضع النهائي للأراضي المحتلة؛
أكدت صحيفة (إسرائيلية) أن اتصالات سرية جرت مؤخراً بين مسؤولين كبار في
السلطة الفلسطينية ووزير الخارجية (الإسرائيلي) أرييل شارون.
وذكرت صحيفة (يديعوت احرونوت) أن المحادثات السرية التي تتم منذ
أسابيع قليلة تركزت على موضوعي مفاوضات الوضع النهائي وعمل اللجان
المشتركة الخاصة بتنفيذ اتفاق (واي) .
وأشارت الصحيفة إلى أن (الاتصالات السرية أحرزت تقدماً) في مجال اثنتين
من اللجان المشتركة، اللجنة الاقتصادية ولجنة الشؤون المدنية. ونقلت عن
مسؤولين (إسرائيليين) أن (الجانب الفلسطيني برغم ذلك يحاول إشاعة أجواء أزمة
في عملية السلام) على حد زعمهم.
[جريدة الخليج، العدد: (7162) ]
أيها المطبِّعون.. موتوا بغيظكم
1- أظهر استطلاع للرأي أعده فريق مقاومة التطبيع التابع لمجلس طلبة
الجامعة الأردنية حول موقف الطلاب من التطبيع مع (إسرائيل) أن ما نسبته 72%
من طلبة الجامعة يعارضون بشدة التطبيع، واتخذ 5، 10% من الطلبة موقفاً
محايداً من هذه القضية، وامتنع 1% منهم عن الإجابة في حين قال 1% منهم إنه
يؤيد التطبيع بشدة مع اليهود.
واعتبر 74% من الطلبة فكرة مقاومة التطبيع واجباً دينياً ووطنياً، في الوقت
الذي اعتبرها 5، 13% منهم موقفاً شخصياً ملتزماً، و 8% اعتبرها فكرة
مرفوضة، وامتنع 5. 4% عن توضيح موقفهم فيما يتعلق بهذه الفكرة.
وأكد 46% من طلبة الجامعة أنهم يرفضون تماماً فكرة الذهاب إلى السفارة
(الإسرائيلية) لغرض الحصول على فيزا، في حين قال 36% من الطلبة إن هذه
الفكرة مقبولة إذا كانوا مضطرين لذلك فقط، ولا يمانع 10% من الذهاب إلى
السفارة للغرض المذكور؛ في حين لم يحدد 8% موقفهم تجاه هذه الفكرة.
2- أيدت محكمة مصرية تظاهرات الطلاب (ضد الاحتلال الصهيوني
لفلسطين) حيث قضت محكمة القضاء الإداري في طنطا بإلغاء قرار لرئيس الجامعة
بفصل 38 طالباً (لقيامهم بالتظاهر ضد الاحتلال الصهيوني) وألزمت المحكمة
الجهة الإدارية بالمصروفات، وإحالة الدعوى إلى هيئة مفوض الدولة.
وكان 38 طالباً بجامعة طنطا (فرع كفر الشيخ) أقاموا دعوى مستعجلة ضد
رئيس الجامعة وعمداء الكليات المنتسبين إليها؛ لوقف قرار فصلهم لمدة تتراوح
بين أسبوعين و3 أسابيع بحجة تنظيم مظاهرات معادية للاحتلال الإسرائيلي
والتنديد بوحشية الممارسات اليهودية ضد الفلسطينيين، وأكدت المحكمة أن حرية
إبداء الرأي حق أصيل في الدستور، ويجب على الجامعة تشجيعه.
وأكدت المحكمة أن الطلاب لم يرتكبوا مخالفات تستوجب العقاب، وأنهم
عبّروا عن رأيهم تجاه ما يحدث في الأراضي المغتصبة في فلسطين من قِبَل اليهود.
... ... ... ... [جريدة الخليج، العدد: (7161 7162) ]
نعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال النائب عبد العزيز العدساني رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس
الأمة الكويتي في تصريح له: (نحن مستعدون لأن نستعين بالشيطان وليس بالقوات
الأمريكية والبريطانية لضمان حماية وجودنا واستقرارنا وكياننا، بعدما تحولنا إلى
لقمة سائغة للنظام العراقي) . ... ...
[جريدة الخليج، العدد: (7161) ]
أول قس كويتي! !
انتهت في الكويت إجراءات تنصيب القسيس الكويتي (إيمانويل بنجامن
الغارب) قساً وراعياً للكنيسة الإنجيلية الوطنية في الكويت، ليكون بذلك أول
مواطن كويتي مولود في الكويت يُنَصّب في هذا الموقع. وولد القس إيمانويل الذي
تعود أصوله إلى تركيا في عام 1950م. واستوطنت عائلته في الكويت في عام
1928م، حيث قَدِم والده ضمن الإرسالية الأمريكية لينضم إلى خاله يعقوب شماس، وبقي فيها عدة أشهر قبل أن ينتقل إلى البحرين للعمل في مستشفى الإرسالية
الأمريكية هناك. وعاش في البحرين حتى عام 1940م، ثم انتقل إلى شمال
العراق حيث مدينة الموصل ليتزوج من والدة السيد إيمانويل ويعود إلى الكويت في
عام 1945م وينجبه فيها.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7348) ]
ادعوا لنتنياهو! !
إن أي خطيب لا يلتزم بالمنهج الإسلامي الذي يقول: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: 125] نقول له قف
عندك لا مكان لك بيننا. وعلى ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي أقول: ممنوع ذكر
أسماء أو التعريض بأشخاص من فوق منبر، يستوي في ذلك نتنياهو مع عامة
الشعب المصري، لنكن عمليين: ما الذي يجدي من صعود المنبر لشتم نتنياهو؟
ماذا يعود على المسلمين؟ خطبة الجمعة موعظة يستفيد منها كل مسلم، وهذا لا
يمنع الاهتمام بأمر المسلمين من دون شتم أو سب.
[د. حمدي زقزوق، وزير الأوقاف المصري، مجلة الوسط، العدد:
(362) ]
نصف العمى!
ذكرت أنباء صحفية في جاكرتا أن الرئيس الإندونيسي السابق (سوهارتو)
أبدى استعداده للتنازل عن 50 في المائة من أمواله في البنوك المحلية، و70% من
أملاكه الأخرى لصالح الدولة، ونقلت صحيفة (كابيتال) الإندونيسية عن مصادرها
أن (سوهارتو) أبدى استعداده لهذا التنازل مقابل أن يُترك وشأنه؛ ليعيش حراً في
هدوء كمواطن عادي.
وأشارت هذه المصادر إلى أنه في حالة تحقق هذا السيناريو فيمكن للرئيس
يوسف حبيبي أن يستخدم حقه في إصدار عفو عن الرئيس السابق لاعتبارات
إنسانية ومن ثم إغلاق ملف هذه القضية.
[جريدة الخليج، العدد: (7167) ]
النزاهة الأمريكية في كوسوفا! !
أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر للقوات الصربية لتنفيذ عمليات
ملاحقة للمشتبهين بارتكاب جرائم قتل واعتداء على المدنيين في كوسوفا، وأعلن
الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية جيمس روبن أن (للقوات الصربية الحق في
القيام بحملات مطاردة للقبض على قتلة المواطنين الصرب في مدينة بيتش) .
وأشار إلى أن الولايات المتحدة ستتابع عن كثب عمليات مطاردة واعتقال ومحاكمة
المتهمين (للتأكد من نزاهة التحقيق معهم) .
[جريدة الحياة، العدد: (13074) ]
بيع الرفاق
تخلى زعيم (حزب العمال الكردستاني) عبد الله أوجلان عن مقاتليه، وقال إنه
أقلع عن الصراع المسلح الذي يخوضه (حزب العمال الكردستاني) الذي يتزعمه
ضد قوات الأمن التركية.
وأضاف: (خلال المعركة لا يتصرف معظمهم أفضل من القتلة، ولو حاربوا
في شكل جيد لكانوا انتصروا. وأنا أردد لهم ذلك منذ 15 عاماً، لا يمكنهم أن
يفهموا أفكاري) . لقد (طلبت من القادة العاملين معي أن يتوقفوا ولكنهم لم يفعلوا)
موضحاً أنه لا يريد (أن يعمل بعد الآن مع هؤلاء الأشخاص) .
و (إذا أراد المقاتلون مواصلة ما يفعلونه منذ 15 عاماً فليست لي علاقة بهم) .
(إنهم يدمرون أنفسهم من خلال اتباع أساليب حمقاء، ويسيرون فوق الألغام
التي وضعوها هم بأنفهسم. لا يمكن لأي قائد قبول ذلك) .
وقال: (أنا عقبة أمام الحلول السياسية والحلول الأخرى. من الآن فصاعداً
لن أكون كذلك) . ... ... ... ...
[جريدة الأنباء، العدد: (8113) ](135/88)
قضايا ثقافية
الإسلاميون وسؤال النهضة
من النظرية إلى التطبيق
(3/3)
عبد العزيز بن محمد التميمي
تناولنا في مقالتين سبقتا؛ الحديث عن اجتهادات الإسلاميين والدعاة في
المداخل الصحيحة، والأولويات المناسبة لمعالجة ظاهرة التخلف والانحطاط التي
يعاني منها المسلمون في كل مكان في عصرنا الحاضر.. كما تحدثنا عن الموازين
الصالحة لتمييز الخطأ من الصواب في هذا الميدان الحسّاس الذي يصعب على
المرء فيه التخلي عن تحيّزاته وميوله وانتماءاته وتاريخه العملي الطويل.. ولكن
مهما بلغت درجة الصعوبة في التعاطي مع هذا الموضوع الحسّاس؛ فإنه ليستحق
الجهد الذي يُبذل من أجله؛ إذ يتم من خلاله الاهتداء إلى سواء السبيل في المدارج
التي ينطلق منها الركب الحضاري الإسلامي لاستعادة دوره المنشود أو المفقود.
وفي هذه الحلقة نحاول تقديم اجتهاد حسب الطاقة؛ ولا يكلف الله نفساً إلى
وسعها لتنزيل المبادئ والمقدمات النظرية التي أجملناها فيما سبق على واقعٍ ما ينفك
يتجدد، والتغيير سمة بارزة فيه إن لم تكن هي السمة الأبرز!
في أي واقع نعيش؟
يقول جيمس كارفيل مستشار الرئيس الأمريكي كلنتون:
(في الماضي، كنت أُمنّي النفس وأقول: إذا كبرت فأود أن أكون رئيساً
للجمهورية، أو زعيماً للكنيسة (بابا) أما الآن فقد تغيرت الأحوال، ولذلك فإنني أود
لو كنت مديراً للأسواق المالية؛ إذ بإمكاني أن أهدد من أشاء.. [1] !
تحمل هذه الكلمات الكثير من المعاني.. إنها تشير إلى تبدلات عميقة في
توزيع السلطات في العالم بين أهل العلم (أو من يسمونهم في الغرب برجال الدين) ،
وأهل السياسة، وأهل المال..
إذا كان العهد الحديث، قد شهد للمرة الأولى في التاريخ ميلاد الدولة العلمانية
(state) ، تلك التي تهيمن وتتابع حركات الإنسان، وتدخل عليه من كل باب:
من باب التربية والتعليم، ومن باب الخطاب والإعلام، ومن باب الاقتصاد
والسياسة؛ فهي الحاضرة دائماً، الفاعلة كما لم يحدث من قبل قطّ.. فبميلاد هذه
الدولة العلمانية أفتقد الإنسان في عالم البشرية المعاصر أهم أسباب حريته، وحقه
في التعبير عن ذاته.. وممارسة رغباته وإراداته بعيداً عن جميع صور الضغط
والإكراه..
إنها باختصار كيان أقيم ضد الفطرة.. كيان يؤذي الإنسان ويمزق لحمه
ويشعره بالوحشة والاغتراب. وإذا اعتبرنا أن ميلاد الدولة القومية العلمانية الحديثة
يمكن أن يبدأ مع الثورة الفرنسية في القرن السابع عشر في فرنسا؛ فلنا الحق أن
نتساءل: تُرى من أي نوع كان هذا الوليد الجديد؟ ! وما هي آثاره، وهو الوليد
الذي ظهر كما تزعم القابلات فراراً من هيمنة الكنيسة، وظلمها ووحشيتها وجهلها؟
هل كان هذا الوليد أخف قبضة من باباوات الكنيسة وقساوستها؟ !
هل كان أكثر عدلاً؟ !
هل كان أكثر استنارة وعلماً ورحمة..؟ ! لنترك شاهد التاريخ يتحدث. لقد
ولدت مع ميلاد هذا الوليد الزنيم، الفاشيّات الكبرى كالنازية والموسيلينية، وغيرها، ومضت هذه الفاشيّات في عسفها وظلمها، حتى تسببت في حربين عالميتين لم
يكن لهما نظير في التاريخ أبداً، زاد عدد القتلى فيهما على الخمسين مليوناً..! ! .
هذا فضلاً عن الجرحى، والمشردين والمطرودين ...
كما نجم عنها ظاهرة الاستعمار؛ حيث عثرت أوروبا أو اكتشفت كما تزعم
على القارة الأمريكية.. وهي تسمي ذلك اكتشافاً، وكأن السكان المقيمين هناك لم
يكتشفوا القارة قبل وصول (فاسكو ديجاما) إليها بمئات السنين.. وليت أن الأمر
اقتصر على سلب إنسانية الإنسان المقيم في القارة، بل لقد وُصِفُوا بالهنود الحمر
لمجرد أنهم كانوا يتوقعون الوصول عبر خط سيرهم للقارة الهندية، ووصفوهم
بالحمر لمجرد أن لون بشرتهم يختلف عن لون البشرة الأوروبية التي يعتبرونها
بيضاء حيث إن الأبيض سيد الألوان كما يزعمون ...
ولم يقتصر الأمر على نزع صفة الإنسانية عن السكان الأصليين، بل انطلقت
حركة قتل جماعي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً أسفرت عن تدمير حياة ما لا يقل عن
أربعين مليون إنسان ... ولم تقتصر النكبات على قارتي أوروبا وأمريكا؛ بل لقد
عانت إفريقيا هي الأخرى أبشع حركة استعباد في تاريخها، حيث نُقل الملايين من
الرجال والنساء عبر طرق نقل لا تتسم بأي نوع من الإنسانية من تلك القارة إلى
أمريكا، ومات بسبب عمليات الصيد والنقل الوحشي ما لا يقل عن عشرين مليون
إفريقي؛ فأي حضارة هذه وأي رحمة؟ !
ولم يقف الانحراف عند هذا الحد وما أقساه من حدّ بل تجاوز ذلك إلى أن
قامت ولأول مرة في التاريخ دولتان تؤمنان بالإلحاد الصارخ منهاجاً للحياة، هما
روسيا الستالينية، والصين الماويّة ... وارتكبتا في حق الإنسان والإنسانية ما يزيد
في وحشيته وظلمه عن تلك التي مارسها أبناء عمومتهم في أوروبا وأمريكا..
ولذلك فنحن نشهد في هذه الأيام نهاية تاريخ الدولة العلمانية، بعد أن تفجرت
بشكل صارخ أزمة النموذج الشيوعي في روسيا وأوروبا، وانتهت خلال عقد واحد
فقط دولته التي كانت في يوم ما دولة عظمى ذات هيل وهيلمان ... نعم! نحن
نؤمن بنهاية التاريخ لكن لا على الصورة التي يُبشّر بها (فوكو ياما) المفكر
(الياباني/ الأمريكي) تلك التي تعتقد أن أفضل النماذج البشرية في بناء المجتمعات
هو النموذج الغربي، بشقه الليبرالي الرأسمالي الديمقراطي، وإنما على النقيض من
ذلك تماماً.. نحن نعتقد أن الدولة العلمانية الأوروبية في سبيلها للأفول.
إنني أكتب هذه الكلمات وبالأمس فقط أعلن الاتحاد الأوروبي إطلاق عملته
الجديدة (اليورو) ، هذا الحدث هو جزء من الظاهرة التي يمكن أن نسميها (موت
الدولة الحديثة) ، إن هذه العملة الموحدة مجازفة سياسية كبيرة بالنسبة لبلدان الاتحاد
الأوروبي؛ إذ لن يكون لكل واحد منها مصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية، بل
سيتعين عليها في المستقبل التنازل عن هذه البقية الممثلة لسيادتها، لمصلحة
مصرف مركزي أوروبي، وقد وصل الأمر بـ (هلموت كول) أن يقول: إنه وبناءً
على هذه الخطوة (فإن الأرض الألمانية لن تكون ثانيةً مصدراً للحرب أبداً..) .
إن هذا المشروع قد قام من أجل استعادة الدولة لقوتها في مواجهة أسواق المال
التي تغولت.. فلقد تمكن قراصنة المال من إدارة الحرب المالية بصورة شديدة
البشاعة؛ ففي عام 1995م تفجرت أزمة (البيزو) المكسيكي، فقبل سبع سنوات
امتلكت المكسيك سمعة دولية عالية، وثقة كبيرة في اقتصادها حتى تدفقت عليها
رؤوس الأموال، واستثمر فيها كبار الرأسماليين ما يزيد على (50) مليار دولار أي
أكبر من ميزانيات دول الخليج، وظل الاقتصاد في نمو مستمر حتى اضطرت
الحكومة للإعلان عن عزمها خفض قيمة عملتها بنسبة 15%، وتسبب الإعلان في
موجة من الذعر وهرب رؤوس الأموال حتى انخفضت قيمتها بنسبة 30% خلال
ثلاثة أيام من هذا الإعلان ... وفي الثلاثين من يناير من ذلك العام اتصل وزير
المالية المكسيكي (غمو بليرمو أورتيز) بكبير موظفي الرئيس (كلنتون) ، واعترف
له في هذا الاتصال بأن بلاده صارت على حافة الهاوية، وأنها قد استنفدت آخر
احتياطيّها من الدولارات. وهكذا اضطر كلنتون أن يعلن الخبر المثير الذي مفاده
أنه وبمساعدة صندوق النقد الدولي، وبنك التسويات الدولية، والحكومة الكندية،
فسوف تقوم أمريكا وبدون موافقة الكونغرس بتقديم قرض للمكسيك تزيد قيمته على
خمسين مليار دولار لمواجهة ما يعصف بها من أزمة، ولأول مرة ومنذ مشروع
مارشال تقدم الولايات المتحدة قرضاً بهذه الضخامة من أجل إنقاذ أموال حفنة من
المضاربين الكبار؛ إنها غزوة مفضوحة يموّلها الملايين من دافعي الضرائب في
الدول المانحة لمصلحة أقلية عظيمة الثراء، من الذين وصفهم مدير صندوق النقد
الدولي بأن (العالم في قبضة هؤلاء الصبيان) ! إنه صراع يديره كما تقول
الإكونومست (The Economist) (جيش ذو تسليح إلكتروني) ، وحسب تقرير
بنك التسويات الدولية (BIC) فإن العملات الأجنبية تباع يومياً بمتوسط قيمته
(5. 1 مليار دولار) ، أي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم في السنة على النفط.
ماليزيا الأزمة الأنموذج:
عندما تحررت الأسواق المالية وترابطت إلكترونياً، وصارت العمليات تجري
فيها بسرعة الضوء وهو الزمن اللازم لكي يقطع الإلكترون المسافة بين سوق
آسيوية وأخرى أمريكية؛ كي يعطي أمراً بالبيع أو الشراء منذ تلك اللحظة انفلت
المارد المالي من قمقمه، وراح يتحرك بجسارة وخطورة لا توصف؛ وكانت
ماليزيا قد حققت معدلات نمو غير مسبوقة في آسيا، وبدت نمراً آسيوياً واعداً.
في عام 1988م كانت سياسات ريجان الاقتصادية قد أدت لارتفاع عظيم في
سعر صرف الدولار، الأمر الذي دفع المصارف المركزية الأمريكية والبريطانية
والألمانية إلى لقاء سري في فندق بلازا، والاتفاق على العمل على خفض سعر
صرف الدولار، الأمر الذي أدى إلى انخفاضه السريع بمقدار 30%، الأمر الذي
ألحق أبلغ الضرر باحتياطي ماليزيا من الدولارات.. لذلك خطط رئيس الدولة مع
رئيس المصرف المركزي الماليزي: سري داتو حسين جعفر على إشعال حرب
عصابات مالية ضد عملات مجموعة الدول الصناعية الكبرى مستخدماً كل امتيازات
مصرفه المركزي.. وكانت أعنف معاركه تلك التي شنها ضد الجنيه الإسترليني
عام 1990م، فقد رمى مقاتلو (مهاتير محمد) الماليون في خلال دقائق مليار جنيه
استرليني في السوق، مسببين انخفاضاً في سعر صرفه بلغ خمس سنتات للجنيه
الواحد. لكن المصارف البريطانية أخذت استعدادها لأي هجوم مماثل، ولم يكن
التوفيق حليفاً دائماً لحسين؛ فعندما انهار نظام النقد الأوروبي، لم يكن يتوقع أن
ينسحب البريطانيون منه، الأمر الذي كلف مصرفه خسارة بلغت ستة مليارات
دولار في العامين 1992 1993م؛ مؤدياً بذلك لأكبر فضيحة مالية لماليزيا الأمر
الذي أفقده منصبه، ومن ثم ترنح الاقتصاد الماليزي من جراء هذه المغامرات وما
زال.
رجل موديز يحكم العالم:
في ظلال برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك الذي حظي بشهرة كبيرة إثر
محاولة تفجيره من قِبَل إرهابيين شرق أوسطيين كما وصفتهم وسائل الإعلام يرقد
أشهر مكتب لوكالات تقييم الاستثمارات رواجاً في العالم: (مؤسسة مودي لخدمات
الاستثمار (Moody) في هذا المكتب يعمل ثلاثمائة محلل وخبير اقتصادي،
ويتم تصنيف دول العالم بناءً على قوتها الاقتصادية، فدرجة (Aaa) لا تحظى بها
إلا دول عملاقة اقتصادياً كالولايات المتحدة واليابان، بينما يتعين على بلد نفطي
كالنرويج قبول تصنيف من درجة (Aa) ، أما إيطاليا فيكفيها درجة (A) أما بولندا
فلم تحصل إلا على (Baa) ، والمجر (Ba) .
يظهر هذا التصنيف بأنه وجهة نظر لمؤسسة مالية، لكنه في الواقع يلعب
دوراً خطيراً حتى في الاستقلال السياسي والمالي لبلدان كبرى.. ذلك أن الموظفين
المكلفين بشراء الأوراق المالية لصناديق الاستثمار، سوف يطالبون بأسعار فائدة
أعلى على سندات الدّيْن الحكومي؛ كلما كان تصنيف ذلك البلد أدنى درجة..
فالأرجنتين برغم التحسن الملحوظ في اقتصادها لا تزال مطالبة بسعر فائدة يزيد
بمقدار (3. 8%) عما تدفعه ألمانيا؛ لأن الأرجنتين تحتل الدرجة (B) في هذا
التصنيف، بل حتى اقتصاديات الدول القوية مثل السويد لم تسلم هي الأخرى من
تدخل رجل (موديز) ، فعندما أراد رئيس وزرائها الاشتراكي (جوران برسون)
زيادة المساعدات الحكومية للضمان الاجتماعي بنسبة (80%) ؛ قدمت (موديز)
تقريراً علنياً يؤكد أن برامج الإصلاح المالي السويديّة غير كافية، وفي اليوم التالي
لهذا الإعلان انخفضت أسعار السندات (30) نقطة، وأسعار الأسهم (100) نقطة،
وأخذ سعر الكرونة يترنح، وليت الأمر اقتصر على هذا؛ إذ وصل الأمر إلى
درجة التدخل السياسي.
فعندما انخفضت قيمة الدولار الكندي في عام 1995م إلى درجات متدنية،
حاول رئيس الوزراء (جين كرتين) التصدي لهروب الأموال بتقديم موازنة جديدة
تعتمد على تخفيض الإنفاق، وقبل مناقشة المشروع في البرلمان أعلنت (موديز) أن
القدر الذي سيُخفض به الإنفاق الحكومي غير كافٍ؛ مما جعل حكومة كرتين في
مهب الريح. وكذلك حدث في أستراليا عام 1996م؛ فقبيل إجراء الانتخابات
أعلنت الوكالة أنها بصدد مراجعة تصنيف أستراليا المالي؛ وهو الأمر الذي أدى
إلى خسارة الحكومة العمالية للانتخابات؛ ولذلك كتبت صحيفة (النيويورك تايمز)
قائلة: (إن رجل (موديز) يحكم العالم) .
هل نعيش حقاً في (نظام) عالمي جديد؟
بعد كل ذلك يحق لنا أن نتساءل بجدية: هل هذا هو النظام العالمي الجديد
الذي بشر به الرئيس الأمريكي (بوش) بعد سقوط الكتلة الشرقية، ونهاية الحرب
الباردة؟ !
أم أن الأصح أننا نعيش في فترة (اللانظام) ... حيث يدير العالم حفنة من
المستثمرين الأثرياء؛ يملك (358 بليونيراً) منهم ثروة تعادل ما يملكه (2. 5
مليار) إنسان!
مؤلم حقاً أن تكون كلمات (بطرس غالي) الأمين العام السابق للأمم المتحدة
صادقة؛ حيث يقول: (إن التاريخ يشهد على أن أولئك الذين يعيشون في غمرة
التحولات الثورية؛ نادراً ما يفهمون المغزى النهائي لهذه التحولات) .
نعم.. نحن نعيش فترة نهاية الدولة، وبداية إمبراطوريات رجال المال
والأعمال؛ فهم الذين يُعيّنون رجال السياسة؛ حيث يحتاج عضو الكونجرس
الأمريكي على سبيل المثال إلى أن ينفق نصف مليار دولار كي يحتل مقعداً داخل
المجلس، ولن يفعل ذلك إلا بدعم من كبار الرأسماليين الذين يعتبر اليهود من
أنشطهم وأكثرهم تنظيماً..
هؤلاء الرأسماليون يملكون وسائل الإعلام والمحطات الفضائية أيضاً،
ويقدمون ما يناسبهم من الثقافة والمعلومات، ويرسمون القيم والأخلاق وأنماط
السلوك والاعتقاد. وفي ظل هذا (اللانظام) الذي لا يزال يتشكل تتم مواجهة كل
القوى التي تحاول التمرد على قيمه وموازينه، وفي ظله تدمر كل القيم
والحضارات والثقافات غير الغربية، ويحدث هذا تلقائياً وببطء شديد المفعول.
والقلة المكافحة التي ترفض الترويض والخضوع يتم معالجتها بوسائل أخرى
صارمة ودموية أحياناً؛ كما جرى في البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا، وكما
يجري عن طريق الوكلاء في مناطق التوتر الدولي.
باختصار ... إنه عالم جديد.. عالم تحكمه قيم اللذة والمنفعة والأنانية
الشخصية والاحتكار.. عالم يزداد يوماً بعد يوم تفسخاً وانحلالاً ودماراً.. عالم
تُلَوّث بيئته، وتُدمّر غاباته النباتية من أجل الوصول إلى بقاع استثمار جديدة..
عندما سأل الوفد المرافق للرئيس الأمريكي كلينتون في زيارته للصين السوق
الآسيوية الظامئة التي بدأت تفتح ذراعيها للوافد من الغرب عندما سألوا كبار
المنظّرين الشيوعيين الصينيين عن انطباعهم عن التحولات العالمية الجديدة، أجاب
هؤلاء بحسرة: (لقد أضعنا وقتاً طويلاً في الانشغال بقضايا لا قيمة لها! كم نحن
نادمون على أن لم نخطط منذ وقت بعيد لامتلاك سيارة ومنزل مريح، وعمل
مجزٍ..) .
إنها قيم الرأسمالية تغزو بلدان العالم أجمع ومنها عالمنا الإسلامي، ولا ترى
إلا قلة مكافحة من العقديين الإسلاميين هنا وهناك يسعون بمثابرة وإصرار وصبر
يدعو للإعجاب لمواجهة كل ذلك؛ فأي (نظرية في العمل) يمكن أن تختارها هذه
القلة لمواجهة الطوفان؟ !
الإعلام والإعلان:
تحرص الشركات الاقتصادية على الإعلان عن نفسها.. ويقول أحد خبراء
الاقتصاد: (لو كان لديّ ألف دولار للاستثمار، فسوف أنفق تسعمائة منها على
الإعلان وأستثمر الباقي) الشفافية العلنية، الوضوح، شعارات الحقبة الاقتصادية
الراهنة.. تلك هي سمات دعوة الانبياء؛ ولذلك فهم في الذروة من أقوامهم،
ونطاق دعوتهم ظاهر، كذلك فمنذ المرحلة المكية، يُعلّم الله نبيه -صلى الله عليه
وسلم- أنه عالمي الرسالة [لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] [الفرقان: 1] . ويحدد عدوه
الأول [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً مِّنَ المُجْرِمِينَ] [الفرقان: 31] ويحدد هدفه
الأول.. ألا يعبد إلا الله [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] ويتحرر من الأهداف الدنيا [قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ
المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى] [الشورى: 23] . [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ]
[سبأ:47] . ويحدد مراحل الدعوة كذلك.. ففي مكة لا سلاح ولا قتال: [كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] [النساء: 77] . ثم الهجرة بعد أن أضحت مكة عقيماً عن أن تلد مؤمنين جدداً، ثم بناء الدولة بعد الهجرة وبداية المواجهة للشرك وأهله [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] [الحج: 39] .
العلنية والوضوح مطلوبان في كل شيء.. ذلك أن الناس لا يتعاطفون مع
المؤسسات والأعمال الغامضة والمبهمة؛ فالوضوح فضيلة كما يقول التربويون
والمصارحة والعلنية أساس الإصلاح الإداري وبداية المنطلق الصحيح للإنجاز
التاريخي المأمول على مستوى الأمة ... وحدهم الملوثون وعملاء الأفكار الذين
يحتاجون للعمل بصورة (باطنية) كالقرامطة والحشاشين والإسماعيلية.. أما
المجددون والمصلحون والرواد فهم (على الحق ظاهرون لا يضرهم من خذلهم ولا
من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ولذلك حذر المجدد الأول (عمر بن عبد العزيز) من السريّة والتخفي لأتباع مدرسته
التغييرية، فعندما كتب لعلماء المدينة النبوية كأبي عمرو بن حزم، أوصاهم بتدوين
السنة، وقال لهم: (أعلنوا هذا العمل، وانشروه في المساجد؛ فإن العلم لا يهلك
حتى يكون سراً) !
هذا لا يعني بالطبع السذاجة وكشف الأوراق للأعداء كما يرى البعض.. فلقد
بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة يورّي بالغزو في اتجاه، وهو يريد
الاتجاه الآخر ... ولا يزال التجار يعتقدون أن سرية خطواتهم القادمة ضمانة من
ضمانات نجاحهم، رغم حرصهم الملهوف على الإعلان عن أنفسهم ومؤسساتهم
على أوسع نطاق.
إن وسائل الاتصال، والحوار، والفهرسة، والتنظيم للمعلومات، قدمت
للدعوة الإسلامية فرصة قليلة المثال للتوجه بخطابها نحو أوسع فئة من المتلقين
بتكاليف ليست كبيرة وعلى قدر كبير من الإتقان ... بقي فقط أن يمتلك الصف
الإسلامي ناصية خطاب راقية، ومؤسسات بناء متكاملة، ونماذج تربوية تثير
الإعجاب.
إنني أعتقد مخلصاً وبيقين.. أنه آن الأوان للدعوات والدعاة المسلمين أن
يعلنوا بلا مواربة أنهم غير قادرين منفردين بالغة ما بلغت جهودهم من القوة
والإتقان على تحمّل التبعات والأعباء التي تتطلبها ضراوة المعركة، إن طاقات هذه
التيارات والجماعات لا يجوز أن تُهدر في مواجهات داخلية بينما ينفرد الشيطان
بتوجيه دَفّة العالم.. إذا كان هذا واضحاً. فإن من الواضح كذلك أن كل طاقة
إسلامية بالغة ما بلغت من الضعف هي كنز لا يجوز التفريط به، ولقد آن الأوان
حقاً للتخلي عن عقلية (الجماعة الأم) والفئة التي يجب على الجميع التخلي عن
راياتهم والانخراط تحتها ... وفي ظل الشّرذمة السياسية التي تعاني منها بلدان
المسلمين لا يمكن تصور وحدة عضوية للعمل الإسلامي؛ والمهم الآن هو تكامل
الجهود لا تآكلها.. وعلى كل راية دعوية أن تراجع خطها وتعيد النظر في مسلّماتها، وتُحسّن من أدائها وُتجوّد من فعالياتها.. عليهم جميعاً أن يدركوا أنهم مثل مصانع
الطوب.. تحسن إنتاج وحدات البناء، لكنها لا تملك مخططاً هندسياً لتشييد البنايات
والدور..
إن الظهور والاستخلاف والتمكين في الأرض يحتاج لظروف بيئية ودولية
وذاتية لا يملك أحد أن يفرضها.. إنها شروط (الانطلاقة الكبرى) كما يحب البعض
أن يسميها.. نحن نستطيع أن ندرس هذه الشروط، أن نبلورها، أن نشخّص
واقعنا وندرك قربه أو بعده من هذه الشروط.. لكننا لا نستطيع بحال أن ننتج هذه
الشروط. إنها شروط خارجة عن طوعنا وإرادتنا.. لا بل إنني أقول إنها شروط
خارجة حتى عن إرادة اللاعبين الكبار..
عندما أطلق الرأسماليون المارد الاقتصادي من قمقمه، لم يعودوا قادرين على
إعادته مرة أخرى إلى داخل القمقم. المجتمعات الغربية ذاتها التي أطلقت ذلك
المارد هي أول من يعاني من استبداد الرأسماليين وجشعهم وأنانيتهم وهي معاناة
تتفاقم يوماً بعد يوم.. وعندما أطلق كلنتون وعوده الرئاسية بالضمان الصحي
وتخفيض الضرائب.. إلخ، وجد أن كل هذه الوعود تتحطم على صخرة الواقع
القاسية؛ ولذلك تخلى عنها بصمت وهدوء. الرأسماليون الكبار اليوم هم الذين
يهدرون كرامة رئيس الولايات المتحدة في ولايته الثانية كل يوم على شاشات العالم
كله.. يذكّرونه دائماً.. حذارِ أن تتمرد على إرادتنا.
هل هذه ملامح (نظرية مؤامرة) اسطورية مدعاة؟ ! لا، ليس الأمر كذلك..
إنها ليست نظرية مؤامرة بالمعنى المباشر والساذج والبسيط، لا، إن ذلك ليس
صحيحاً على هذا المستوى. إنها سنة الله الكونية التي لا يستطيع أحد الوقوف
بوجهها إذا وجدت ظروفها ومسوّغاتها التاريخية.
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ]
[هود: 102] .
إنه قدر الله حيث بدأت تقوم مملكة الشيطان في العالم، فكان لا بد للإنسانية
من أن تنال مجتمعة ويلات مخالفتها للأمر الإلهي، حتى لو وُجدت فئة صالحة لكنها
غير مصلحة، كما قال النبي: (يخسف بهم جميعاً ويصدرون مصادر شتى) .
وإنه لمما يؤسف له حقاً، أن نكون نحن أبناء هذا الجيل شهوداً على هذه
النهاية الأليمة للعالم.. لكن عزاءنا أن أملنا في الله كبير أن يكون بعد هذا الشر
المطبق خير كثير [حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا] [يونس: 24] .
[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ] [الأنعام: 44] .
(المهدي مني من ولد فاطمة، أجلى الجبهة اقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً
وعدلاً، بعدما ملئت جوراً وظلماً) .
[قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ] [الأعراف: 129] .
وعلى الله قصد السبيل والحمد لله رب العالمين [*] .
__________
(1) الإكونومست: 7/10/95 م.
(*) ملاحظة: لمن يرغب بمعرفة المزيد عن (فخ العولمة) الذي يتجه إليه العالم، فعليه بقراءة كتاب بهذا العنوان للباحثين الألمانيين (بيتر مارثين) و (هارالد شومان) من ترجمة (عالم المعرفة) بالكويت، فهو مهم.(135/92)
متابعات
لماذا الشناقطة يحفظون؟
محمود بن محمد المختار الشنقيطي
كثيرون أولئك الذين يَبْتدرونني بهذا السؤال حين يَضُمني وإياهم مجلسٌ، ...
فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قضايا طلب العلم الشرعي،
فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند قومي، ولماذا كانت أهمّ سمةٍ في
علماء الشناقطة الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية القوة الفذة
والقدرة الفائقة على استحضار النصوص؟ ويسألونني عن أعجب ما بلغني من
أخبار عن نوادر الحفاظ في الشناقطة.
وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضرون، دون تقص أو
تعمد بحثٍ عن الإجابة على هذه القضية، وحين كتب الله لي أول زيارةٍ العام
المنصرم لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط) ، ووقفت على بعض المحاظر الحية القائمة
على أطلال ورسوم المحاظر [1] العتيقة، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء
الشناقطة [2] ، أدركوا أواخر نهضة علمية، كان من أبرز سماتها اعتمادها على
حفظ الصدور لما وجد في السطور، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته
الذاكرة متناً ومعنى، حتى غدا من أمثالهم التي تعبر عن هذا المعنى: (القراية في
الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما في حفظك، وليس في كثرة
الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها. حين كتب الله لي تلك الزيارة
كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في
تلك المحاظر، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفظ
نادرة، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار
عشرات الكتب، وجعلت العلامة سيدي محمد ابن العلاّمة سيدي عبد الله ابن الحاج
إبراهيم العلوي رحمه الله (ت 1250هـ) يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي
بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو
نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح) [3] .
وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي رحمه الله ت عام (1322هـ) يزهو
بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم؛ لأنه يحفظ
القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر، فكان كما قال،
فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي رحمه الله المحفوظة في
صدره [4] .
وقبل أن أتحفك أخي القارئ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن
الإجابة عن السؤال المتقدم، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ، مما وجدته
مسطوراً في كتب التراجم، أو محكياً على ألسنة الرواة، وسيتملكك العجب،
وتعتريك الدهشة لسماعه، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة، وقدرة
على استحضار النصوص ربما لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي، حتى صارت
حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات.
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي رحمه الله،
(ت عام 1339هـ) ، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور [5] .
وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه،
وكانت توجد في قبيلة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من
المتون، وفضلاً عن الرجال، ولهذا قيل: العلم جكني [6] .
وروي عن الشيخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ أحمد بن
سليمان (ت 1397م) حِفظ كثير من كتب المراجع مثل: فتح الباري، والإتقان
للسيوطي، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة [7] .
ومن العجيب ما تجده من محفوظات فقهائهم غير متون الفقه والأصول وما
يتعلق بالتخصص، فهذا قاضي (ولاته) وإمامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر
المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري، وليست من فنون القضاء ولا الفقه،
وسمعتها عن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء رحمة الله
عليه [8] .
وأما المتخصص في الأدب والشعر فلا يحفظ أقلّ من ألف بيت في كل بحر
من بحور الشعر العملية؛ حتى تتهيأ له ملكة أدبية لينظم أو ينثر ما يريد.
فهذا العلامة الأديب محمد محمود بن أحمذيه [9] الحسني رحمه الله، كان
يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري، والمستطرف، وكامل المبرد، والوسيط
في أدباء شنقيط، وديوان المتنبي، وديوان أبي تمام، وديوان البحتري؛ هذا في
الأدب وحده دون غيره من فنون ومتون المنهاج الدراسي المحظري [10] .
ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلاّمة محمد سالم بن
عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القاموس، وقد استوعبته بطريقة
غريبة، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى خيمة أحد علماء الحي تنظر له
معنى كلمة في القاموس وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها فكانت البنت تحفظ
معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت مادة القاموس كلها. وإن
تعجب أخي القارئ من المتقدمين فلعل ممن أدركنا من المعاصرين الأحياء من
يماثلهم في الحفظ؛ فمن ذلك ما حدثني به والدي حفظه الله قال لي يا بني: لقد كنا
أيام طلبنا للفقه عند شيخنا الفقيه عبد الرحمن ولد الداهي، نتسابق في ختم
المختصر ليالي الجمع فيستفتح من (يقول الفقير المضطر) بداية الكتاب فلا يطلع
الفجر إلا وقد ختمناه لا نشكك إلا في مواطن قليلة في أقفاف [11] السفر نكرر ذكر
ذلك مرات، وممن أدركناه من الأحياء العلامة الشيخ أحمدّو بن العلامة الشيخ محمد
حامد بن آلاّ الحسني نزيل المدينة النبوية متع الله ببقائه.
ولا أبالغ إن قلت: إن ما في صدره من العلم لو جلس يمليه عاماً كاملاً لما
كرر ولا أعاد منه شيئاً؛ فمن محفوظاته في النحو والصرف طرة [12] ، ابن بونة
على الاحمرار [13] يحفظها بنصها، وطرة الحسن بن زين على احمراره للامية
الأفعال لابن مالك أيضاً، والمقصور والممدود لابن مالك مع شواهده وهي تقرب
من ألفي بيت، وضوابط وشواهد على مسائل ألفية ابن مالك بعضها له وبعضها
لوالده ولبعض العلماء الشناقطة تبلغ نحواً من ثلاثة آلاف بيت، إضافة إلى بعضٍ
من ألفية السيوطي في النحو.
وفي غريب اللغة نظم ابن المرَحّلْ، ونظم أبو بكر الشنقيطي كثيراً من مواد
القاموس، وجل شواهد الغريب من تفسير القرطبي، ومثلث ابن مالك وهو يبلغ
ثلاثة آلاف بيت مع شواهده. إلخ من العلوم والفنون ...
ومن المعاصرين الحفاظ أيضاً صاحب المحضرة العامرة العلامة محمد الحسن
بن الخديم وقد حدثني بعض تلامذته أنه يحفظ النص من مرتين فقط، وأنه لا يكاد
يوجد فن إلا ويحفظ فيه ألفيةً؛ حتى في الطب والعقيدة والقواعد الفقهية والقضاء،
وأنه يحفظ كثيراً من كتاب سيبويه وتمنى لو جاءه في الصغر [14] .
ومن النساء المعاصرات: العالمة المفتية الفقيهة مريم بنت حين الجكنية والدة
الشيخ عبد الله بن الإمام، حدثني بعض تلامذة ابنها أنها كانت تشرح له في ألفية
ابن مالك إذا لم يكن ابنها في البيت، ورويت عن قريبات لي أنها تحفظ كثيراً من
المتون الفقهية وتفتي النساء في الحج والحيض، ولها ألفية في السيرة ولها
منظومات فقهية لبعض المسائل والنوازل. وهذه نتف مما وقفت عليه لعل فيها ما
يذكي الحماس لدى طلاب العلم المعاصرين.
طرق الحفظ لدى الشناقطة:
ولهم في الحفظ وسائل وطرق أجملها فيما يلي:
أولاً: التعليم الزّمَرِيّ أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهو دراسة جماعية
يشترك فيها مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد
يدرسونه معاً، حصةً حصةً، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه [15] ،
يتحاجون فيه، ويُنَشّط بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة
والملل. أذكر وأنا في المرحلة (المتوسطة الإعدادية) أنني أدركت مجموعة من
طلاب العلم الشناقطة (دولة) في المسجد النبوي في شعر المعلقات.
ثانياً: تقسيم المتن إلى أجزاء وهو ما يعرف بلغة المحاظر (الأقفاف) مفردها: قُفّ. والمشهور في المحاظر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات
لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء. وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر
على تقسيم شائع بينهم، فمثلاً مختصر العلامة الشيخ خليل عندهم ثلاثمائة
وستون [16] قفاً، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه، فيعرف الطالب مواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار، كما أن تخزين المادة في الذاكرة مرتبة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها.
ويرى الشناقطة وهم مضرب المثل في قوة الحافظة والذكاء أن (القف) الكثير
لا يستطيع استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى
تجزئة كل متن.
وسارت عندهم هذه العبارات مسار المثل: (قفْ أف) أي أنه بمثابة الريح
(أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة.
(نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن
ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً.
(الثلث يوترث) أي أن ثلث القف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت
كأنه يورث من بعده [17] .
ثالثاً: وحدة المتن واستيفاؤه: فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد
يفرغ قلبه له، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره، ولا ينتقل عنه حتى
يستوفي دراسته كله، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على
الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها، كما أن
بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً، وينم عن كسل وقصور في
همة الطالب، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين؛ فلا سبيل
إلى خروجهما معاً في آن واحد، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر، ونظموا هذا
المبدأ بقولهم:
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ ... وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا ... إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا [18]
رابعاً: صياغة المتن المنثور نظماً:
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ، وضمان حظ
أوفر من القبول والبقاء له، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري. وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر، قال ابن معط رحمه
الله في خطبة ألفيّة في النحو:
لعلمهم بأن حفظ النظم ... وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرّجز ... إذا بُني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل
حفظه على الطلاب، فمن ذلك [19] أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي رحمه الله
(ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام رحمه الله.
والعلامة محمد المامي الشمشوي رحمه الله (ت 1282هـ) عقد كتاب الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه (زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام الماوردية) .
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال)
للميداني.
خامساً: تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ، فعدد
تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة، ويسمونه
بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في
الصباح [20] ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي من المتن بهذه الطريقة، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية يمر عليه كله، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له، لا يصل الإهمال والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن، وأعرف من المشايخ في المدينة النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية وبلوغ المرام وغيرها.
سادساً: حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه، وهذه من أهم الطرق
التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر، وكان شيخنا الشيخ سيد
أحمد بن المعلوم البصادي رحمه الله لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً، فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه.
سابعاً: لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم ... والأبواب في الفن. فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً، وبلغ في المتن كتاب الحج، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون المختلفة.
ثامناً: تأثر البيئة بالحركة العلمية: فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة
الناس هناك؛ ففي بلاد الزوايا [21] ، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا
بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته، ولا
من العربية ما يصلح به لسانه، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق
ابنه وقصّر في تربيته. وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا
يتسرول [22] الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل، فحفظ المختصر عندهم شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج.
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون
السائدة؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون: (لا حِق
فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة
في مختصر الشيخ خليل.
ومن أمثالهم قولهم: (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة
ابن مالك في الألفية.
تاسعاً: عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية. وهي
عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة) .
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو
الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه،
أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه، وأعرف عدة مجالس في المدينة
المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن
والفقه والسيرة النبوية، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني وهو راوية
شعر ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي
هو منها، وذكر الكتاب الذي توجد فيه، فتصدى له حبيب ابن أمين أحد تلامذة
العلامة حُرْمة بن عبد الجليل رحمة الله على الجميع فسأله من القائل:
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني ... عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس: نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة
أبي تمام، فدعي بالكتاب، وقلب ورقة ورقة، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب:
هاهي بقية الأبيات وذكرها:
دير حوى من (ثمار) الشام أودها ... وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا ... خمصان غض بزنديه سُواران
وقال: إن القطعة من إنشائه، نظمها تعجيزاً لزميله، وساق دليلاً على صحة
قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب.
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل
(ت 1234 هـ) رحمه الله حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على البديهة:
لله درك يا غليّم من فتى ... سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ ... وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة ... والأرض تصغر عن بساط الكوكب [23]
عاشراً: اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ، فلا تكاد تجد طالباً من
طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت.
حدثني الوالد حفظه الله قال: كان إذا صعب علينا حفظ شيء انتظرنا به
السحر فيسهله الله علينا، ولا ريب أنها لحظات مباركة؛ لأنها وقت النزول الإلهي، ووقت الهبات والأعطيات [24] . وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري
رحمه الله (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر
الليل [25] .
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عن
الجميع في انتظار يعقوب عليه السلام لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه: [يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ] [يوسف: 97] فقال: [قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] [يوسف: 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر [26] .
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما
حققه الحافظ رحمه الله في الفتح.
وبعدُ.. أخي القارئ الكريم:
بهذه العوامل والأسباب خطف علماء الشناقطة المتجولون الأضواء، وبهذه
الطرق والأساليب في الحفظ بزّوا غيرهم في العلوم التي شاركوهم فيها، فهل تجد
في هذه الإجابة المقتضبة ما يشحذ همتك ويحرك إرادتك ويكون مثالاً لك تحتذيه،
ويستحثك لجعل الحفظ أهم طرق العلم الشرعي؟ ! ذلك ما كنا نبغي، وفضل الله
واسع، وكم ترك الأول للآخر [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] [المطففين: 26] .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) المحظرة: وأقرب تعريف لها: (أنها مؤسسة تعليمية بدوية متنقلة، تكون متخصصة في فن معين، وأحياناً شاملة جامعة لشتى العلوم الشرعية، تضم جماعة من الطلاب مختلفة أعمارهم تحيا حياة اجتماعية بسيطة، هدفها التفقه في الدين، وتحصيل التقوى والخلق الكريم، يديرها معلم في فن أو فنون يسهر على التدريس فيها، ورعاية هدفها حسبة، وربما ضم إلى مهام التدريس إمامة وقضاء القرية أو البلدة ويُلقب (بالمرابط) ؛ ولعلها جاءت من رباط المرابطين الذين كان رباطهم النواة الأولى للمحاظر وقد يلقب: (طالبنا) ولعلها من طالب العلم، وأصل الكلمة: (محضرة) وردت في لسان العرب، وفي كتب الأندلسيين والمغاربة، منها كتاب المعيار المعرب، ورحلة ابن جبير، وفي أبيات ابن حزم المشهورة: (مناي من الدنيا علوم أبثها) وهي تفارق من وجوه مصطلح الكُتّاب أو الخلوات أو الزاوية في بعض البلدان الإسلامية اهـ، بتصرف من (دور المحاظر في موريتانيا) بحث تخرج مقدم للمعهد العالي الإسلامي بنواكشوط عام 1405هـ إعداد محمد المصطفى بن الندى، ومن (بلاد شنقيط المنارة والرباط) بحث موسع مقدم للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن المحاظر في موريتانيا للأستاذ الخليل النحوي، طبع بتونس عام 1987م، و (السلفية وأعلامها في موريتانيا) للطيب بن عمر الحسين، ص87، ط الأولى عام 1416هـ وأبيات ابن حزم التي ذكر فيها المحاظر هي: ... مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل بادٍ وحاضرِ
دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر
ديوان ابن حزم الظاهري، 95، بتحقيق د رشاد، ط الأولى.
(2) ممن تشرفت بلقائهم العلامة الفقيه الأديب، الشاعر الأريب، الموسوعي معالي الشيخ محمد بن سالم بن عبد الودود، من بيت علم عريق تقلد مناصب وزارية، وعضوية بعض المجامع الفقهية في مصر والمغرب والسعودية، ومن أبرز مؤلفاته نظم كتاب مختصر خليل في أكثر من عشر آلاف بيت قدم له بمقدمة ضمنها عقيدة أهل السنة والجماعة على خلاف السائد هناك من العقائد الأشعرية والماتريدية.
(3) بتصرف: من بلاد (شنقيط المنارة والرباط) الخليل النحوي، ص 231، ط الأولى، تونس 1987م.
(4) العلامة اللغوي والشاعر الفذ الأبي محمد محمود بن التلاميد (بالدالة المهملة) ، انفرد في المشرق باللغة والأنساب، اتصل بالأوساط العلمية في الحجاز ومصر، ممن ترجم له الزركلي في الأعلام، ولمعاصره وخصمه أحمد الأمين رحمه الله في الوسيط ترجمة له فيها تحامل عليه.
(5) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي) ، 68، تأليف سيدي محمد بن محمد عبد الله ولد بزيد،
ط الأولى، تونس، 1996م.
(6) (موسوعة حياة موريتانيا) للمختار بن حامد رحمه الله، ص 5، الجزء الثاني، طبعة الدار العربية للكتاب 1990م.
(7) بلاد شنقيط، للخليل النحوي، ص 233.
(8) الغالب على علماء الشناقطة في القرآن وعلومه والفقه رواية الشعر وتذوقه وإنشاده فلو راجعت كتاب (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) وكتاب: (الشعر والشعراء في موريتانيا) ، للدكتور محمد المختار ولد أباه؛ لوجدت معظم من تُرجم لهم من الشعراء هم علماء فقهاء.
(9) عالم وشاعر من بيت علم وأدب، أخد عن بُلاّ الشقروي، له مؤلفات منها طُرة على ألفية ابن مالك، ت1323م.
(10) بلاد شنقيط المنارة والرباط، ص 231.
(11) سيأتي الحديث عن تقسيم المحظر إلى أقفاف جمع قِف وهو اللوح والجزء من المتن بلغة المحاظر والسفر والباب من أسماء أجزاء مختصر خليل.
(12) اشتهر بالطّرة وهو شرح نثري للعلامة اللغوي ابن بونة على ألفيته المتممة لألفية ابن مالك؛ فصار الجميع 2080 ألفين وثمانين بيتاً، وشرح الجميع بهذا الشرح النثري ويعرف بطرة ابن بونة وبالجامع، انظر للتعريف بالنحو الشنقيطي ومدارسه وكتبه ورجاله ما كتبه الأستاذ محمذن ولد أحمد المحبوب في مجلة المنهل الأدبية السعودية العددان 547، 548، عام 1418هـ.
(13) ما يزيده المحشّي أو المعلق على المتن الأصلي يكتبونه باللون الأحمر تمييزاً له عن المتن فيسمونه الاحمرار.
(14) العلامة محمد الحسن بن أحمد الخديم اليعقوبي الجوادي الشنقيطي، له محظرة عريقة خرّجت كثيراً من القضاة والأدباء المعاصرين، ولا زال يدرس بها، ترجم له بعض تلامذته ترجمة موسعة في مقدمة كتابه (مرام المجتدي من شرح كفاف المبتدي) وهو شرح لنظم الكفاف في فقه المالكية لجده العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله.
(15) بتصرف من: شنقيط المنارة والرباط، ص 59.
(16) والبعض يجعله، 333 قفاً.
(17) بلاد شنقيط المنارة والرباط، ص 200.
(18) السلفية في موريتانيا، ط الأولى، ص 104.
(19) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي، وفيه كثير ممن نظم متوناً نثرية.
(20) مجلة الأمة القطرية، العدد (60) ، ذي الحجة 1405هـ، ص 54.
(21) الزوايا: القبائل المختصة أو المهتمة بالعلم، تعلماً وتعليماً، ويقابلهم حسان وهم القبائل ذات الشوكة والبأس.
(22) أي يلبس السروال.
(23) الشعر والشعراء في موريتانيا، للدكتور محمد المختار ولد أباه، تونس 1987م، ص 36-37.
(24) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له) وصفة النزول هنا في الحديث من الصفات الفعلية التي نقل عن السلف الإجماع على إثباتها حقيقة لله تعالى، فهو سبحانه ينزل لكل قوم في ثلث ليلتهم أي سدس الزمان ولا يخلو منه العرش جل شأنه وتقدست أسماؤه، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته، كما قال جمهور السلف وقرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع، انظر شرح حديث النزول ضمن المجموع (5 31 132، 380 -396) .
(25) أورد الإمام ابن الأثير - رحمه الله - في النهاية (2/129) قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه شاهداً على أن الإدلاج يكون في السحر
اصبر على السير والإدلاج في السحر وفي الرواح على الحاجات والبكر.
(26) الدر المنثور (4/584) وتفسير الماوردي (3/79) .(135/100)
الورقة الأخيرة
أنت قادر على العطاء
د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، وبدونه
تموت في مهدها أي فكرة. وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على
العطاء، فإنما هم بذلك يصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاؤوا أم
أبوا.
وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور، يعلنون العزم المبيت على تجميد الحركة
والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة. إن هذه الظواهر الاجتماعية
التي يعرفها الخاص والعام، قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها، فهي
ثابتة لا تتغير، وكونية لا تتبدل، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الرجل هلك
الناس فهو أهلكهم) [1] رواه مسلم.
لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم
المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية؛ فجعلتهم مشاعل هداية،
ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية، فكان الواحد منهم بأمة. فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقدُمُ المدينة سفيراً للإسلام، فلا يحول الحول إلا وقد
دخل الإسلام أكثر بيوت المدينة.
وهذا نعيم بن مسعود الغطفاني لا يكاد يُسلم حتى يؤدي دوره فيُخذّل جيوش
الأحزاب.
وتأمل دور أبي بكر في الردة، وأحمد بن حنبل في الفتنة، وصلاح الدين في
الذلة، كلهم أفراد غيروا مسار الأحداث، وأعادوا كتابة التاريخ، وهذا غيض من
فيض.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين؛ أنه لا أحد في المجتمع المسلم
يمكن أن يوضع في خانة: (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما إن
لم يكن أشياء يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم. وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ
فجرها الأول.
فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً، لتجلّى لنا ذلك في أروع صوره؛
فالصدّيق أمينُ السر ورفيق السفر، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد، والصبي
ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل بحسب القدرة.
وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً:
(تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره،
حتى قال: ولو بشق تمرة) [2] .
بل وفي قمة أعمال البذل والعطاء في الجهاد في سبيل الله يبرز هذا المعلم
الإسلامي في أجلى صوره؛ فالكل يبذل، والجميع يُضحي، حتى إذا بقي الضعفة
والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها، يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛
بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) [3] .
إن خطر وأد الذوات وتحييدها عن العطاء، لا يمكن تجاهله أو تناسيه خاصة
في هذه الحقبة، التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب. وإن هذا الخطر
مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المُواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي
المنهك. ومما يحسن الختام به التنبيه إلى أن صور وأد الذوات تكون من التعدد
وعدم الوضوح أحياناً؛ بحيث يصعب التفطن لها، ومن ذلك:
1- إحجام الفرد عن البذل، أو ممارسة عمل ما بحجة أنه ليس أهلاً لذلك،
لأي عذر يرتئيه.
2- إيهام النفس بأنه لا يُحتاج إليه في هذا المضمار؛ لأنه قد امتلأ بغيره،
في الوقت الذي قد لا يكون الأمر كذلك؛ بل ومن المحتمل أن يكون نفس الوهم
منتشراً بين العديدين؛ فيؤدي ذلك إلى أن الجميع يتركون العمل فيصبح هذا
المضمار خالياً تماماً.
3- التحايل على النفس بأن الإنسان إنما هو فرد لا يملك التغيير أو البذل أو
العطاء؛ لأن (التيار جارف) و (اليد الواحدة لا تصفق) ، متناسياً بذلك أصل
المسؤولية الفردية في الإسلام.
هذه بعض الصور من الأفراد أنفسهم، وقد تحصل صور أخرى ممن يتولى
الريادة والقيادة وذلك مثل:
1- ألا تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل بحسبه،
فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع، وقد خلق الله الناس مختلفين: منهم (القادة) ومنهم
(الساقه) و (قد جعل الله لكل شيء قدراً) .
2- ألا يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال؛ بل تتكرر نفس الوجوه دائماً
لكل الأعمال، وهذا يقتل الفئتين؛ فالعاملة تنهك بالأعمال؛ حتى تصبح غير قادرة
على العطاء المثمر، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم، وأما الكثرة
الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة.
3-الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل ما، ثم لا يتقنه، في الوقت
الذي قد يحسن غيرَه، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا
يحسنه.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2623، ص 1053.
(2) أخرجه مسلم، كتاب االزكاة، باب (الحث على الصدقة ولو بشق) ، رقم 1017، ص392.
(3) صحيح الجامع/2384.(135/111)
ذو الحجة - 1419هـ
أبريل - 1999م
(السنة: 13)(136/)
كلمة صغيرة
دروس من مأزق أوجلان
الزعيم الكردي عبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستاني ماركسي
لينيني، كان يهدف لإنشاء كردستان الكبرى. فبعد سنوات من القهر النفسي والقمع
العسكري التركي أتخذ أسلوب العنف والمقاومة للجيش التركي، وأمام المواجهة
المسلحة اضطر للهرب من تركيا قبل الانقلاب العسكري عام 1980م وعاش مشرداً
بين سورية ولبنان وروسيا وأوروبا، وبعد معاناة التشرد وإخفاق المقاومة أعلن
الهدنة العسكرية في أعوام 93م، 95م، 98م، وأعلن الرغبة في الحوار، لكن
الأتراك رفضوا ذلك، ومؤخراً لجأ إلى إيطاليا وسبب لها حرجاً مع تركيا واضطر
بعدها للخروج، وعاش فترة حرجة كرر فيها إعلان اعتزاله المقاومة المسلحة
واللجوء للخيار السلمي للقضية الكردية، وفي نهاية المطاف ألقي القبض عليه في
كينيا إثر خطة سرية للمخابرات التركية شاركت فيها على ما يبدو أطراف دولية؛
مما أشعل الغضب الكردي في عدة بلدان.
وهو الآن قيد المحاكمة التي ذكر الإعلام التركي أنها ستطول وتطول وتطول.
وهذا المأزق لأوجلان يضع أمامنا دروساً من أهمها:
أن اختيار غير الإسلام سبيلاً للحياة أو التنازل عن ثوابت هذا الدين تقرباً
من الكبار لا يعطي صاحبه حصانة ضد المواجهة والملاحقة.
أن رفض المبادرات السلمية والحوار ليس سبيلاً للقضاء على أمة، والأكراد
لم ينتهوا بانتهاء أوجلان.
خوض الصراع المسلح بدون مسوّغ شرعي ولا حكمة له عواقب وخيمة
وضرر محتم.
المنظمات الدولية ومراصد حقوق الإنسان أضعف من أن تحمي المعولين
عليها.
العلاقات الدولية المتشابكة والمصالح الذاتية للدول لا ترى حرجاً في تسليم
أولئك المقاومين لمن يطلبهم، وقد يكون هؤلاء المقاومون ضحية صفقات مشبوهة
حتى بين أجهزة مخابرات دول متعادية.
إنها دروس لمن يعقلها؛ فهل يعيها من يهمه الأمر؟ والله المستعان.(136/1)
الافتتاحية
النقاء الدعوي
لم يشهد التاريخ مثلاً في نقاء الدعوة الإسلامية ووضوحها كما كانت في
صدرها الأول: نقاء في الغاية، ونقاء في الوسيلة، نقاء في المنهج، ونقاء في
الأسلوب، نقاء في المشروعية، ونقاء في الارتباطات والولاءات.. وهذا ما جعل
هذه الدعوة متميزة واضحة لأتباعها وأعدائها، لتمضي في طريقها رغم كيد الأعداء.
فمن أول يوم أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدعوة كان واضحاً:
(إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [1] ، وهكذا كان كتاب الله واضحاً: [إنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً] (فاطر: 24) ، وغاية إرسال الرسل ومنهم محمد -
صلى الله عليه وسلم- واضحة: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ
أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: 25] ، [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ
بِإذْنِ اللَّهِ] [النساء: 64] ، تتسق مع غاية خلق الثقلين الواضحة أيضاً: [وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] ، وتحقق العبادة في هذا الدين
بتفرد الله عز وجل بالهيمنة الكلية على حياة الإنسان ظاهراً وباطناً: [قُلْ إنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [الأنعام: 162] . لقد ظلت هذه
الغاية واضحة، وظلت الدعوة إليها نقية لا يخالطها غايات أخرى، ولا تداخل معها
ما يشوبها، لا تنازل عنها، ولا مساومة عليها، ولا التقاء في منتصف الطريق،
ظلت مصلحة الدعوة هي الأوْلى بنقاء واضح، فلا تداخل للمصالح والأهواء حتى
ولو لبست مسوح مصلحة الدعوة؛ فعندما عرض المشركون على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- مقابل أن يترك هذا الأمر: ( ... إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا
نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ... ) جاء الرد قاطعاً لا مجال
فيه لعروض أخرى، وعندما عرضوا استجابتهم الجزئية مقابل التنازل الجزئي منه- صلى الله عليه وسلم- نزل قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ
مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: 1- 6] يقطع على المشركين آمالهم
وييئسهم من هذه السبيل.
ولم يختلط عليهم أيضاً أن صاحب هذه الدعوة وأتباعه لا يتاجرون بها ولا
ينتفعون من ورائها، بل العكس هو الصحيح تماماً، يضحون من أجلها بالنفس
والمال، ويبذلون في سبيل نشرها وتحقيقها كل غالٍ ونفيس.. [أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًاً
فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] [الطور: 40] ، [ ... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ
ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] [الأنعام: 90] .
ولم يكن النقاء الدعوي في الغاية والإصرار عليها والبذل من أجلها فقط، بل
كان أيضاً في الوسيلة: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: 108] ، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن
دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: 33] ، وفي
الأسلوب: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ] [النحل: 125] .
والآن.. يحارب أعداء الصحوة وخصومها الدعوة الإسلامية بتلويث نقائها؛
فيعملون جاهدين على تداخل الغايات وطمس الحقائق والتباس المفاهيم، ويعملون
جاهدين على تشويه أصحابها أو مساومتهم أو الضغط عليهم ليحملوهم على تقديم
التنازلات أو الانزواء والانكفاء.. هكذا يعملون وهذا ديدنهم من قديم، ولا ينتظر
منهم غير ذلك إلا مخدوع موهوم.
ولكن.. هل أعداء الصحوة فقط هم الذين يقومون بذلك؟ .. يجب أن نعترف
أن بين صفوف الصحوة من يساعد خصومها على تحقيق مآربهم، بجهل أو غفلة أو
سوء تقدير أو.. هوى وشهوة! .. فلقد اختلط في أذهان كثيرين من أبناء الصحوة
هدف الدعوة وغايتها وخرجت في أحيان كثيرة من إطارها الكلي إلى دوائر جزئية
كثيرة منفصلة عن إطارها، يدور الصراع حولها، وباسم المصلحة والحكمة تنازل
بعض دعاة الإصلاح عن بعض الثوابت أو شوهوها أو هزوا مكانتها في النفوس،
وخرجت قلة تنتفع من وراء الدعوة؛ مما شوه نقاءها رغم ندرتها، وضلت الحكمة
عن بعض أبناء الصحوة، واختلطت الوسائل والأساليب، فحدث تنفير بدل إنذار،
وتمييع بدل تبشير..
إننا لا نحط من الإنجازات التي حققتها الصحوة ولا نتهم أحداً بعينه من أبنائها، ولكن ندرك أنه لكي ينجح أي عمل فلا بد أن يكون له تمحيص ومراجعة وتدقيق، وهذه المثالب والأخطاء لا تؤثر على أصحابها فقط، بل تؤثر على جموع
العاملين بالدعوة وعلى الدعوة نفسها.. لذا نقول: ما أحوجنا إلى الرجوع بالدعوة
إلى نقائها.. والله المستعان.
__________
(1) البخاري مع الفتح، 18/4801.(136/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الموسوعات الحديثية
نظرات في جهود العلماء في تدوين السنة النبوية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من حكمة الله تعالى أنّه رضي الإسلام ديناً خاتماً لجميع الشرائع، إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها، فأكمل الله عز وجل لنا الدين وأتم علينا النعمة، قال
تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً]
[المائدة: 3] .
ومن إتمام النعمة أن الله تعالى تكفل بحفظ مصدر هذا الدين وينبوعه الكريم،
فقال عز وجل: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] ، وتضمن
ذلك حفظ سنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، فائتمن الله عز وجل على
نقلها صحابة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، أطهر الناس قلوباً، وأصفاهم عقولاً، وأفصحهم لساناً، وأسلمهم منهجاً، فأدوها حق الأداء، كما تحملوها حق التحمل،
ورعوها حق الرعاية.. ثم تناقلها الثقات الأثبات من بعدهم جيلاً بعد جيل، بعناية
فائقة وحرص كبير.
وقد تضافرت جهود السلف الصالح رضي الله عنهم في خدمة حديث النبي -
صلى الله عليه وسلم- رواية ودراية، وتركوا لنا تراثاً ضخماً غزيراً في عشرات
المصنفات، حتى أصبحت هذه الأمة تمتلك بحق أغنى مورد للعلم عرفته البشرية
باختلاف مللها ونحلها.
وفي هذه المقالة سأبرز بعون الله تعالى بعض جهود أولئك السلف في تدوين
السنة من خلال التعريف الموجز بأشهر الموسوعات الحديثية.
وأقصد بالموسوعات الحديثية: (تلك المصنفات التي جمعت عدداً كبيراً من
أحاديث النبي) ، ويخرج من هذا التعريف: المصنفات التي جمعت عدداً يسيراً من
الأحاديث النبوية كالسنن الأربعة ونحوها.
أولاً: الموسوعات الحديثية الأصيلة:
ويقصد بالموسوعات الأصيلة: (المصنفات التي يروي فيها المصنف
الأحاديث النبوية بإسناده إلى النبي) ومنها:
1- مصنّف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (126-211 هـ) :
وهو أحد الكتب الجليلة التي وصلت إلينا، وصفه الذهبي بأنه: (خزانة
علم) [1] . وصدق رحمه الله، فالمصنف مليء بكنوز العلم والمعرفة، وقد رتبه عبد الرزاق على الأبواب الفقهية، فبدأ بكتاب الطهارة، ثم كتاب الحيض، ثم كتاب الصلاة.. وهكذا حتى ختمه بكتاب الجامع. وتحت كل كتاب يوجد عدد من الأبواب التي تضم مجموعة من الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة.
طبع الكتاب لأول مرة في سنة (1392هـ) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي في أحد عشر مجلداً، وبلغ عدد أحاديثه حسب ترقيم المحقق (21033) حديثاً،
ويحتوي الكتاب على أحاديث مكررة كثيرة [2] .
وقد عمل الباحث يوسف بن محمد صديق على استخراج زوائد مصنف
عبد الرزاق على الكتب الستة في رسالة علمية لنيل شهادة الدكتوراه، وبلغ عدد الزوائد: أربعة عشر ألف حديث زائد [3] .
وهذه نسبة عالية جداً، ولكن خلال تتبعي لهذه الزوائد تبيّن لي أن 80% منها
تقريباً أحاديث موقوفة ومقطوعة.
وبالجملة: فإن المصنّف كتاب نفيس، وسفر عظيم يحوي من الكنوز ما لا
حصر له ولعل من أهم مميزاته علو إسناده، وكونه مرجعاً أساساً لكثير من كتب
السنة المتأخرة. ولكنه مع ذلك يحوي عدداً كبيراً من الأحاديث الضعيفة، بل
والموضوعة أحياناً.
2- مصنّف أبي بكر بن أبي شيبة (159- 235هـ) :
وهو من أجلّ كتب ابن أبي شيبة، وأعلاها منزلة ومقداراً، امتدحه ابن كثير
وامتدح مؤلفه بقوله: (أبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام، وصاحب
المصنّف الذي لم يُصنّف أحد مثله قط، لا قبله ولا بعده) [4] . ووصفه الذهبي
بقوله: (سيّد الحفاظ، صاحب الكتب الكبار: المسند والمصنف والتفسير) [5] .
وقد شهد لابن أبي شيبة بجودة التأليف وإتقانه عدد من الأئمة، منهم أبو عبيد
القاسم ابن سلام حينما قال: (ربانيو الحديث أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام:
أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقة للحديث وأداء: علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً
لكتاب: أبو بكر بن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث من سقيمه: يحيى بن
معين) [6] .
وقال الرامهرمزي: (وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب
وجودة الترتيب وحسن التأليف) [7] .
طبع الكتاب في الهند في خمسة عشر جزءاً على عدة مراحل، ولكن يوجد
فيه نقص ظاهر، ثم طبع في لبنان طبعة أخرى، ولكن كلا الطبعتين لا تخلوان من
سقط وتحريف. وقد بدأ بعض الباحثين أخيراً في تحقيقه ومراجعته على أصوله
الخطية وتخريج نصوصه، ونشر منه المجلد الأول فقط.. ونرجو أن يتيسر نشر
بقية أجزائه إن شاء الله تعالى.
والمصنف مرتب حسب الأبواب الفقهية، ويحتوي على مادة خصبة جداً،
وهو مصدر رئيس لمعرفة فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم. ويمتاز بأنّه مصدر
تاريخي مهم جداً يغفل عنه بعض الباحثين في الدراسات التاريخية لاحتوائه على
بعض الكتب التي يقلّ وجودها في كتب الحديث، مثل: كتاب التاريخ، وكتاب
الفتن، وكتاب الجمل.
3- مسند الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هـ) :
ألّف الإمام أحمد مسنده من أجل أن يكون: (هذا الكتاب إماماً، إذا اختلف
الناس في سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُجع إليه) [8] .
وصدق الإمام أحمد فإن هذا الكتاب الجليل من أكبر كتب السنة التي وصلت
إلينا، وأعظمها نفعاً، وأغزرها مادة، وقد قال أبو موسى المديني: (هذا الكتاب
أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتُقي من أحاديث كثيرة،
ومسموعاتٍ وافرة، فجُعل إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأ ومستنداً) [9] .
ومن أجل هذا لما سئل أبو الحسين اليونيني: أنت تحفظ الكتب الستة؟ فقال: (أحفظها وما أحفظها!) فقيل له: كيف هذا؟ ! فقال: (أنا أحفظ مسند أحمد وما
يفوت المسند من الكتب الستة إلا قليل) [10] .
وقد اختلف في عدد أحاديث المسند اختلافاً كثيراً، فمن قائل: بأنه ثلاثون
ألف حديث، ومن قائل: بأنه أربعون ألفاً، ومن قائل: بأنه خمسون ألفاً [11] .
قال ابن عساكر: (والكتاب كبير العدد والحجم، مشهور عند أرباب العلم، تبلغ
عدد أحاديثه: ثلاثين ألفاً سوى المعاد، وغير ما ألحق به ابنه عبد الله من عالي
الإسناد) [12] . وقال أحمد شاكر: (هو على اليقين: أكثر من ثلاثين ألفاً، وقد لا
يبلغ الأربعين ألفاً) [13] .
رتبه الإمام أحمد على مسانيد الصحابة، حيث أفرد أحاديث كل صحابي على
حدة من غير نظر في موضوعاتها، فبدأ بمسانيد العشرة المبشرين، ثم مسانيد
عبد الرحمن بن أبي بكر، وزيد بن خارجة، والحارث بن خزيمة، وسعد مولى أبي بكر، ثم مسانيد أهل البيت، ثم بني هاشم، ثم المشهورين من الصحابة.. وهكذا حتى ختمه بمسند القبائل.
ولكبر حجم الكتاب وصعوبة البحث فيه؛ قام الشيخ أحمد البنا بترتيبه على
الأبواب الفقهية مع حذف الأسانيد والأحاديث المكررة، وسمى كتابه: (الفتح
الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني) ، ثم ذيل كتابه بشرح موجز سماه:
(بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني) .
كما قام الشيخ أحمد شاكر بتحقيق المسند وترقيمه وتخريج أحاديثه ومراجعته
على بعض الأصول الخطية، ووضع فهارس علمية في نهاية كل جزء على حدة،
ولكنه توفي ولمّا يكمل تحقيقه، حيث أخرج ستة عشر جزءاً فقط، وهي تمثل ثلث
الكتاب تقريباً.
ثم قام الشيخ شعيب الأرنؤوط بإعادة تحقيقه وتخريجه ومراجعته على بعض
الأصول الخطية، وطُبع منه حتى الآن خمس وعشرون مجلداً، ولا زال العمل فيه
جارياً حتى الآن، نسأل الله تعالى أن ييسر إتمامه.
4- مسند بقي بن مَخْلد القرطبي (201- 276هـ) :
هذا الكتاب من كتب السنة الكبيرة، ولكنه مع الأسف الشديد فُقِدَ كما فقدت
بعض الكنوز الأخرى، ولا نعرف عنه إلا القليل مما نقل إلينا من أقوال أهل العلم
عنه.
قال ابن حزم: (رتبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم فروى فيه عن
ألف وثلاثمائة صاحب، ولا أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه،
واحتفاله فيه في الحديث، وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة
وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير) [14] .
وقال ابن الفرضي في تاريخه: (ليس لأحد مثله) [15] .
وقال ابن الجوزي: (روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، بل يزيدون على
هذا العدد) [16] .
وقال ابن كثير: (وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد، وعندي في ذلك
نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع) [17] .
وقال الذهبي في ترجمة بقي: (صاحب التفسير والمسند اللذين لا نظير لهما) [18] .
5- مسند أبي يعلى الموصلي (210- 307 هـ) :
ولمسند أبي يعلى روايتان: الأولى: رواية طويلة رواها أبو بكر محمد بن
إبراهيم المقرئ، عن أبي يعلى، وهي التي اعتمد عليها ابن حجر في: (المطالب
العالية) ، والبوصيري في (إتحاف المهرة) ، في تخريج زوائدها على الكتب الستة،
وتسمى هذه الرواية بـ (المسند الكبير) .
والثانية: رواية قصيرة رواها أبو عمرو بن حمدان، وهذه الرواية هي التي
اعتمد عليها الهيثمي في كتابيه: (المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي)
و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) .
والرواية القصيرة هي التي وصلت إلينا، وقد أتم تحقيقها الأستاذ حسين أسد
في ثلاثة عشر مجلداً، مع ثلاثة مجلدات للفهارس، كما حققت في عدد من الرسائل
العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود.
والمسند مرتب حسب مسانيد الصحابة رضي الله عنهم، وقد بلغ عدد أحاديثه
حسب ترقيم حسين أسد (7555) حديثاً.
وقد أثنى العلماء على المسند الكبير، فقد قال ابن المقرئ: سمعت أبا إسحاق
بن حمزة يثني على مسند أبي يعلى، ويقول: (من كَتَبَه قلّ ما يفوته من
الحديث) [19] .
وقال إسماعيل التيمي: (قرأت المسانيد، كمسند العدني، ومسند أحمد بن
منيع، وهي كالأنهار، ومسند أبي يعلى كالبحر يكون مجتمع الأنهار [20] .
وقال الذهبي: (صدق.. ولا سيما مسنده الذي عند أهل أصبهان من طريق
ابن المقرئ عنه، فإنه كبير جداً، بخلاف المسند الذي رويناه من طريق أبي عمرو بن حمدان عنه فإنّه مختصر) [21] .
6- المعجم الكبير لسليمان بن أحمد الطبراني (260 -360 هـ) :
يعد الطبراني من الأئمة الحفاظ المشهورين بالتصنيف، قال أبو بكر بن أبي
علي: (كان الطبراني واسع العلم كثير التصانيف) [22] . وقد أثنى ابن خلكان
على مصنفاته بقوله: (له المصنفات الممتعة النافعة الغريبة، منها: المعاجم
الثلاثة) [24] .
والمعجم الكبير من أجلّ كتب الطبراني، طبع سنة 1398هـ بتحقيق:
حمدي بن عبد المجيد السلفي، في عشرين مجلداً، لكن ينقصه خمس مجلدات، من
المجلد الثالث عشر إلى السابع عشر.
رتبه الطبراني على مسانيد الصحابة، وبدأه بأحاديث العشرة المبشرين بالجنة، ... ثم رتب بقية الصحابة على حسب حروف المعجم، وكان يترجم للصحابي ترجمة
مختصرة، ثم يذكر بعض أحاديثه، أو جميعها إذا كان من المقلين، ومن لم يكن له
رواية ذكره وترجم له باختصار، أو ذكره فقط، ليوقف على عدد الرواة عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر أصحابه رضي الله عنهم [24] .
قال الذهبي في وصف الكتاب: (وهو معجم أسماء الصحابة وما رووه، لكن
ليس فيه مسند أبي هريرة، ولا استوعب حديث الصحابة المكثرين، في ثمانية
مجلدات) [25] .
وقال السيوطي: (لم يسق فيه من مسند المكثرين إلا ابن عباس وابن عمر،
فأما أبو هريرة، وأنس، وجابر، وأبو سعيد، وعائشة، فلا، ولا حديث جماعة
من المتوسطين؛ لأنّه أفرد لكلّ مسنداً فاستغنى عن إعادته) [26] .
وقدر الكتاني عدد أحاديثه ب: ستين ألفاً، بينما يرى حاجي خليفة أنها خمس
وعشرون ألفاً فقط [27] .
والذي وجد في المطبوع بترقيم السلفي: عشرون ألفاً فقط، وبمراعاة الأجزاء
المفقودة يتبيّن أن تقدير حاجي خليفة أقرب للصواب، والله أعلم.
7- المسند الكبير، لأبي علي الحسين الماسَرْجِسي (298- 365هـ) :
وهذا المسند من الكتب التي لم تصل إلينا، ولا نعرف عنه شيئاً إلا من
وصف الحاكم له، فقد قال في ترجمة الماسرجسي: (صنف المسند الكبير في ألف
جزء وثلاثمائة جزء يعني مهذباً ومعللاً ... وعلى التخمين يكون مسنده بخط
الوراقين في أكثر من ثلاثة آلاف جزء ... وكان مسند أبي بكر الصديق بخطه في
بضعة عشر جزءاً بعلله وشواهده، فكتبه النساخ في نيّف وستين جزءاً) .
ثم قال الحاكم: (فعندي أنّه لم يُصنّف في الإسلام مسند أكبر منه، وعقد
أبو محمد بن زياد مجلساً عليه لقراءته) [28] .
8- بحر الأسانيد في صحاح الأسانيد، للإمام السمرقندي (409-491هـ) :
هذا الكتاب لم يصل إلينا منه شيء فيما أعلم، فهو من ضمن التراث العلمي
المفقود، ولكن قال عنه عمر بن محمد النسفي: (جمع فيه مئة ألف حديث، فرتب
وهذب، لم يقع في الإسلام مثله، وهو ثمانمائة جزء) [29] .
ثانياً: الموسوعات الحديثية الوسيطة:
والمقصود بالموسوعات الوسيطة: (المصنفات الحديثية التي جمعها أئمة
المحدثين المتأخرين، معتمدين في ذلك على مصنفات المحدثين المتقدمين، يعني:
أنهم يجمعون بغير أسانيد خاصة بهم) .
ومن أهم هذه الموسوعات:
1- التجريد للصحاح الستة، لرزين بن معاوية السّرقسطي (ت 535هـ) :
يُعدّ هذا الكتاب من أوائل المحاولات لجمع الأصول الستة، وهي: (الموطأ،
وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن
النسائي) ، وقد أدخل رزين بن معاوية بعض الزيادات من مروياته التي قال عنها
الذهبي: (أدخل كتابه زيادات واهية لو تنزه عنها لأجاد) [30] .
وقال الإشبيلي في وصف هذا الكتاب: (كتاب تجريد صحاح أصول الدين مما
اشتمل عليه الصحاح الستة الدواوين بحذف الأسانيد، وتقييد المسائل، مع استقصاء
مضمون الحديث) [31] .
وقد رتب هذا الكتاب على حسب الأبواب الفقهية على غرار صحيح
البخاري [32] .
2- جامع المسانيد، للإمام ابن الجوزي (ت: 554هـ) :
وهو كتاب غير مطبوع، ولكن قال الذهبي: (أودع فيه أكثر متون المسند،
ورتب وهذب، ولكن ما استوعب) [33] .
وقال في موضع آخر: (جامع المسانيد في سبع مجلدات، وما استوعب ولا
كاد) [34] .
وقال الكتاني: (جمع فيه الصحيحين، والترمذي، ومسند أحمد، رتبه أيضاً
على المسانيد في سبع مجلدات) [35] .
3- جامع الكتب الستة، لابن الخراط عبد الحق البجائي (ت: 582هـ) :
وهو كتاب غير مطبوع أيضاً، لكن قال ابن الأبار في ترجمة ابن الخراط:
(له مصنف كبير جمع فيه بين الكتب الستة) [36] .
4- جامع الأصول في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
لأبي السعادات ابن الأثير الجزري (ت: 606 هـ) :
اعتمد ابن الأثير في كتابه هذا على كتاب رزين بن معاوية الآنف الذكر؛
حيث قام بتهذيبه وشرح غريبه، وإعادة ترتيبه؛ إذ إنه لم يعتمد على ترتيب رزين، بل رتب الكتب الفقهية على الأحرف الهجائية، فبدأه بالكتب التي تبدأ بحرف
الألف وهي عشرة كتب، ثم الكتب التي تبدأ بحرف الباء.. وهكذا، حتى ختمه
بكتاب اللواحق وضع فيه الأحاديث التي لم تدخل تحت باب معين.
واعتنى ابن الأثير بمراجعة عمل رزين على الأصول الستة [37] ، وأكمل
النقص الذي وقع فيه رزين، ومهّد لكتابه بمقدمة ضافية وهامة.
ويعد هذا الكتاب موسوعة حديثية عظيمة، يحوي بين دفتيه أصول الإسلام
الستة، بلغ عدد أحاديثه حسب ترقيم المحقق (9523) حديثاً. وهو كما وصفه
مؤلفه: (بحرٌ زاخرة أمواجه، وبرّ وعرة فجاجه، ولا يكاد الخاطر يجمع أشتاته،
ولا يقوم الذكر بحفظ أفراده، فإنها كثيرة العدد، متشابهة الطرق، مختلفة
الروايات) [38] .
وقد طبع الكتاب لأول مرة بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ثم حققه وخرّج
أحاديثه تخريجاً متقناً الشيخ عبد القادر الأرنؤوط. ثم أعاد إخراجه الشيخ بشير
عيون، وأضاف إليه بعض الأجزاء الناقصة في الطبعتين السابقتين.
ولصعوبة البحث فيه عمل الأستاذ يوسف الزبيبي فهرساً لأحاديثه على
حروف المعجم.
5- أنوار الصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح، لأبي عبد الله
محمد بن عتيق اللاردي (ت 646هـ) :
ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء نقلاً عن ابن الأبار [39] . ولكنه كتاب
مفقود لم يصل إلينا فيما أعلم.
6- جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سَنَن، للحافظ ابن كثير الدمشقي
(ت 774هـ) :
وهو كتاب مرتب على مسانيد الصحابة، جمع فيه ابن كثير أحاديث كل
صحابي على حدة، وصفه الكتاني بقوله: (جمع بين الأصول الستة، ومسانيد
أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم الكبير، وربّما زيّد عليها من غيرها..) [40] .
ثم قال: (رتبه على حروف المعجم، يذكر كل صحابي له رواية، ثم يورد في
ترجمته جميع ما وقع له في هذه الكتب، وما تيسر من غيرها) [41] .
وهو كتاب جليل عظيم القدر جمع فيه مؤلفه مادة علمية كبيرة، (احتوى على
أكثر من مائة ألف حديث، فيها الصحيح والحسن والضعيف، وأحياناً
الموضوع) [42] .
ولكن توفي الحافظ ابن كثير رحمه الله ولمّا يكمل كتابه هذا، ويوجد الكتاب
مخطوطاً في دار الكتب المصرية في سبع مجلدات، وقد فقد منه أشياء عديدة.
وطبع أخيراً ما وجد منه بتحقيق د. عبد المعطي قلعجي في سبع وثلاثين مجلداً.
7- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ الهيثمي (ت: 807هـ) :
ألف الحافظ الهيثمي كتباً في زوائد: مسند أحمد، ومسند أبي يعلى، ومسند
البزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة، كل واحد منها في تصنيف مستقل، ما عدا
المعجمين الأوسط والصغير فإنهما في مصنف واحد.
ثم عرض الهيثمي كتبه تلك على شيخه الحافظ العراقي، فأشار عليه أن يجمع
هذه الكتب في مصنف واحد مجرّدة الأسانيد، فعمل الهيثمي بهذه المشورة وجمعها
في مؤلف واحد سماه: (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) ، وهو كتاب مطبوع في
عشرة مسانيد أجزاء. وقد رتبه الهيثمي على الأبواب الفقهية، فبدأ بكتاب الإيمان،
ثم العلم، ثم الطهارة، ثم الصلاة ... وهكذا حتى ختمه بكتاب: صفة الجنة.
ويعد هذا الكتاب من الكتب العظيمة كبيرة الفائدة، بذل الهيثمي في جمعه
وترتيبه جهداً كبيراً متميزاً، وكان يهتم ببيان درجة الحديث من حيث القوة
والضعف، ويتكلم في رجال الحديث جرحاً وتعديلاً بعبارات موجزة، ولكن تميزت
بعض آرائه بالتساهل، ولهذا تعقبه السيوطي بمؤلف سماه: (بغية الرائد في الذيل
على مجمع الزوائد) .
8- إتحاف الخِيَرَة المهَرة بزوائد المسانيد العشرة، للحافظ البوصيري
(ت: 840هـ) :
جمع الحافظ البوصيري زوائد عشرة مسانيد على الكتب الستة، وهي: مسند
الطيالسي، ومسدّد، والحميدي، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والعدني،
وعبد بن حميد، والحارث بن أبي أسامة، وأحمد بن منيع، ومسند أبي يعلى الكبير. ورتب أحاديثها على كتب الأحكام.
وكان البوصيري يعتني بالحكم على الأحاديث، وبتقويم الرجال جرحاً وتعديلاً، وقدّم لكتابه بتراجم لأصحاب المسانيد التي اعتمد عليها في كتابه.
ويوجد للكتاب نسختان:
الأولى: مسندة، أتمها سنة 823 هـ.
والثانية: مجرّدة من الأسانيد، أتمها سنة 832 هـ.
وتوجد النسخة المسندة مخطوطة في دار الكتب المصرية، وقد حُقق بعضها
في رسائل علمية في الجامعة الإسلامية، وتقوم الجامعة بالتعاون مع مجمع الملك
فهد لطباعة المصحف على طبعه، وقد تيسر بحمد الله تعالى طبع بعض أجزائه.
9- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، للحافظ ابن حجر العسقلاني
(ت: 852هـ) :
جمع فيه ابن حجر زوائد ثمانية مسانيد، وهي: مسند الطيالسي، ومسدّد،
والحميدي، وابن أبي شيبة، والعدني، وعبد بن حميد، وأحمد بن منيع،
والحارث بن أبي أسامة.
كما أنّه تتبع ما فات الهيثمي في مجمع الزوائد من مسند أبي يعلى الكبير،
لكون الهيثمي اقتصر على المسند الصغير، ووقع لابن حجر قدر النصف من مسند
إسحاق بن راهويه، فتتبع ما فيه من الزوائد فصار مجموع ما تتبعه من ذلك:
عشرة دواوين. ووقف ابن حجر على قطع من عدة مسانيد مثل: مسند الحسن بن
سفيان، ومسند الرّوياني.. وغيرهما، ولم يُكتب منها شيء؛ لأنه كان ينوي أن
يرجع إليها ويتتبع زوائدها بعد أن يُنهي تبييض كتابه [43] .
ورتب ابن حجر كتابه على كتب الأحكام قريباً من ترتيب إتحاف الخيرة
ومجمع الزوائد، ويوجد لهذا الكتاب نسختان هما:
الأولى: مجرّدة من الأسانيد، نشرها الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي.
الثانية: مسندة، طبعها أخيراً غنيم بن عباس وياسر بن إبراهيم، كما جرى
تحقيقها في عدة رسائل علمية في جامعة الإمام محمد بن سعود، ثم جمعها ونسقها
الدكتور سعد الشثري، وبدأ بطباعتها في سنة 1419هـ، ونشر منه حتى الآن
عشر مجلدات، ويتوقع أن يطبع بإذن الله في ثمانية عشر مجلداً، خصّص المجلد
الأول منها لمقدمة تفصيلية.
ويختلف كتاب المطالب العالية عن إتحاف الخيرة المهرة بأمور، منها:
الأول: أن البوصيري تتبع الزوائد على الكتب الستة فقط، بينما ابن حجر
تتبع الزوائد على الكتب الستة ومسند أحمد، ولهذا فإن كتاب البوصيري أغزر مادة
وأكبر حجماً.
الثاني: أن البوصيري كان يعتني ببيان درجة الحديث وحال الرواة، بينما
ابن حجر لم يحكم إلا على عدد قليل جداً من الأحاديث.
وتظهر أهمية المطالب العالية وإتحاف الخيرة أنهما حفظا لنا عدداً من كتب
الحديث المسندة التي فقدت وضاعت، مثل مسند العدني وأحمد بن منيع والحارث بن أبي أسامة.
وبالجملة: فإن كتاب المطالب العالية كتاب موسوعي جامع، غزير الفائدة،
إذا ضُمّ إلى الكتب الستة حصلنا على موسوعة حديثية ضخمة وافية لا يفوتها من
حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا القليل.
10- الجامع الصغير وزيادته، للحافظ السيوطي (ت 911هـ) :
جمع السيوطي الأحاديث النبوية القولية مرتبة على حروف المعجم، معتمداً
على مصادر كثيرة، وقد بلغ عدد الأحاديث التي جمعها: (10031) حديثاً، ثم
أضاف السيوطي إلى هذا الكتاب زيادة أخرى من الأحاديث فاتت عليه، بلغ عددها
(4440) حديثاً.
وقد جمع بين الكتاب وزيادته الشيخ يوسف النبهاني في مؤلف واحد سمّاه:
(الفتح الكبير) رتبه على حروف المعجم تبعاً للسيوطي، وبلغ عدد أحاديثه
(14471) حديثاً.
وعمل السيوطي هذا عمل عظيم وجهد جبار مبتكر يسهل عملية البحث عن
الحديث المطلوب، وكان يذكر درجة كل حديث من حيث الصحة أو الضعف،
ولكن تميزت كثيراً من آرائه بالضعف والتساهل، ولهذا قام الشيخ الألباني بتتبع
أحاديثه وبيان درجتها، وقسمه إلى كتابين: صحيح الجامع الصغير وزيادته،
وضعيف الجامع الصغير وزيادته، وهما مطبوعان منتشران.
11- جمع الجوامع، للحافظ السيوطي (ت 911هـ) :
جمع فيه السيوطي ثمانين كتاباً من كتب السنة، وقسمه قسمين:
الأول: يتضمن الأحاديث القولية، وقد رتبها على حروف المعجم كالجامع
الصغير.
الثاني: ويتضمن الأحاديث الفعلية وما شابهها، وقد رتبها على مسانيد
الصحابة رضي الله عنهم وهذا الجهد جهد كبير متميز، ويُعد من أكبر الموسوعات
الحديثية المصنفة، إلا أنه محشو بالأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة، وقد نشر
الكتاب مصوراً من مخطوطة دار الكتب المصرية، تحت إشراف الهيئة المصرية
العامة للكتاب، إلا أن الاستفادة منه بهذه الصورة متعسرة وتستهلك جهداً ووقتاً،
وتتطلب معرفة بقراءة المخطوطات ومصطلحاتها. ثم نشرت أجزاء يسيرة من
الكتاب بدون تحقيق أو دراسة.
12- كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين علي بن الحسام
المتقي الهندي (975هـ) .
جمع فيه المتقي الهندي: الجامع الصغير وزيادته، مضافاً إليه ما بقي من
قسم الأقوال، وقسم الأفعال من كتاب جمع الجوامع، ورتبه جميعه على الأبواب
الفقهية على غرار جامع الأصول لابن الأثير، والكتاب محشو بالأحاديث الضعيفة
والموضوعة تبعاً لكتابي السيوطي. ولكبر حجم الكتاب فإن ترتيب الأحاديث القولية
والفعلية على الأبواب لا يخلو من تداخل وخلط ونقص، ولهذا فإن الباحث قد يجد
صعوبة أحياناً لكي يصل إلى مطلوبه.
وقد عمل الأستاذان: نديم وأسامة المرعشلي فهرساً لأطراف الأحاديث على
نسق حروف المعجم، لتيسير البحث فيه.
وبعد: فقد كانت هذه إلمامة مختصرة ببعض جهود أئمة الحديث في جمع
السنة النبوية وترتيبها، ولم أقصد الاستقصاء التام لجميع الأعمال، ولكن أردت أن
أبرز بعض الجهود العظيمة التي قام بها أولئك الأفذاذ، رغم قلة الإمكانات وقتها.
ولم يتوقف جهد المحدثين عند الجمع والترتيب، بل تعداه إلى علوم أخرى من
أهمها: ضبط قوانين الرواية تحملاً وأداء، وتوثيق المرويات وتدقيقها، والكلام
على الرواة جرحاً وتعديلاً، وشرح النصوص وبيان مشكلاتها ومقاصدها، وبنوا
صرحاً شامخاً تميزت به هذه الأمة من بين الأمم، فحفظت السنة بحمد الله من كل
تحريف أو تبديل.
ولكن خلفت من بعدهم خلوف نسيت كثيراً مما ذُكرت به فضاعت وضيّعت،
فأهمل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إهمالاً شديداً، واندرست بعض المعالم
من سنته علماً وعملاً، وظلت كنوز الأمة مخطوطة، حبيسة في أدراج المكتبات
ردحاً من الزمن!
وفي العقدين الأخيرين بشكل خاص ظهرت بوادر الصحوة الإسلامية العامة،
التي كان من ثمراتها المباركة رجوع كثير من الباحثين وطلاب العلم إلى تراث
السلف الصالح، فنشر الكثير من المخطوطات القيمة والدراسات المتميزة، ولا
زالت دور النشر تدفع المزيد منها، نسأل الله تعالى أن يبارك فيها.
وفي منتصف التسعينات الهجرية ظهرت في الأوساط العلمية نداءات تدعو
إلى ضرورة جمع الحديث الشريف في موسوعة كاملة، وقد قامت بفضل الله تعالى
مشروعات عديدة بهذا الصدد، استفاد بعضها من إمكانات الحاسب الآلي.. وتحتاج
هذه المشروعات إلى تعريف ودراسة وتقويم، أرجو أن يتيسر قريباً في مقالة أخرى.
__________
(1) ميزان الاعتدال 2/609.
(2) بل تجد أن كتاب (أهل الكتاب) في المجلد السادس برواية النجار، يتكرر في المجلد العاشر
برواية الحذاقي، مع زيادة ونقص.
(3) انظر الرسالة (مطبوعة على الآلة الكاتبة) ص (د) .
(4) البداية والنهاية (10/315) .
(5) سير أعلام النبلاء (11/122) .
(6) تاريخ بغداد (10/69) وسير أعلام النبلاء (11/127) .
(7) المحدّث الفاصل (ص 614) .
(8) خصائص المسند (ص 22) والمصعد الأحمد (ص 30) .
(9) خصائص المسند (ص 21) وانظر طبقات الشافعية (2/31) .
(10) المصعد الأحمد (ص 32) .
(11) ذكرت هذه التقديرات على الترتيب في: مناقب الإمام أحمد (ص 191) ، والفهرست
(ص 320) ، ومقدمة ابن خلدون (ص 444) .
(12) ترتيب أسماء الصحابة (ص 3) .
(13) انظر تعليقه على خصائص المسند (ص 23) .
(14) جذوة المقتبس (ص 177) ، وسير أعلام النبلاء (13/291) .
(15) تاريخ علماء الأندلس (ص 92) .
(16) المنتظم (5/100) .
(17) البداية والنهاية (11/82) .
(18) سير أعلام النبلاء (13/285) وانظر الكتاب الذي ألّفه د أكرم العمري في ترجمة بقي بن مخلد.
(19) المرجع السابق (14/178) .
(20) المرجع السابق (14/180) .
(21) المرجع السابق (14/180) .
(22) المرجع السابق (16/127) .
(23) وفيات الاًعيان (2/407) .
(24) انظر مقدمة الطبراني (1/51) .
(25) سير أعلام النبلاء (16/122) .
(26) طبقات الحفاظ (ص 372) .
(27) انظر: الرسالة المستطرفة (ص 101) ، وكشف الظنون (2/1737) .
(28) سير أعلام النبلاء (16/289) ، وتذكرة الحفاظ (3/956) .
(29) المرجعان السابقان (19/206) و (4/1231) .
(30) سير أعلام النبلاء (20/205) .
(31) فهرسة ما رواه عن شيوخه (ص 123) .
(32) أفاده ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول (1/50) .
(33) سير أعلام النبلاء (13/525) و (321/368) .
(34) سير أعلام النبلاء (13/525) و (321/368) .
(35) الرسالة المستطرفة (ص 176) .
(36) سير أعلام النبلاء (21/199) .
(37) انظر: مقدمة جامع الأصول (1/51) .
(38) المرجع السابق (1/52) .
(39) سير أعلام النبلاء (23/257) .
(40) الرسالة المستطرفة (ص 131) .
(41) الرسالة المستطرفة (ص 131) .
(42) أفاده الدكتور أكرم العمري في كتابه: بحوث في تاريخ السنة النبوية المشرفة (ص 255) .
(43) مقدمة المطالب العالية (1/4 5) تحقيق الأعظمي.(136/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
من أحكام العيدين
(2/2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
وضح الكاتب في الحلقة السابقة أن أعياد المسلمين المشروعة ثلاثة لا رابع
لها وهي عيد الأسبوع (يوم الجمعة) و (عيد الفطر) و (عيد النحر) ثم تناول بالبيان
الأحكام التي تتعلق بالعيد من صلاة العيد وأين تؤدى، ووقت الصلاة وتقديم الصلاة
على الخطبة والتكبير في الصلاة وما يقرأ في الصلاة. ويواصل الكاتب وفقه الله
بقية أحكام الموضوع. ... ... ... ... ...
... - البيان -
تاسعاً: قضاء صلاة العيد:
أ- إذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد زوال الشمس صلوا من الغد، لحديث عمير بن
أنس عن عمومة له من الأنصار قال: (غُمّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً،
فجاء ركب في آخر النهار فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي -صلى الله
عليه وسلم- أن يفطروا يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم) [1] .
ب- إذا أدرك الإمامَ في التشهد جلس معه، فإذا سلم قام فصلى ركعتين يأتي
منهما بالتكبير [2] .
ج- إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام فقيل:
1- يقضيها أربع ركعات وهو قول أحمد والثوري وسندهم قول ابن مسعود
رضي الله عنه: (من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعاً) [3] .
2- يقضيها ركعتين، قال البخاري: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين،
وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(هذا عيدنا أهل الإسلام) وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية فجمع
أهله وبنيه، وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم) . اهـ[4] وقال به عطاء
والحسن، وهو رواية عن أحمد [5] .
وكان أنس إذا فاته العيد مع الإمام جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في
العيد [6] .
3- هو مخير بين القضاء وعدمه، وإذا قضاها فهو مخير بين ركعتين وأربع
ركعات، والتخيير بين ركعتين أو أربع رواية عن أحمد [7] .
4- إن صلاها في جماعة أخرى فركعتين وإلا فأربعاً. وهو قول إسحاق [8] .
5- لا يقضيها؛ لأنها إذا فاتت لا تصلى إلا بدليل يدل على قضائها إذا فاتت، وليس هناك دليل على قضائها إذا فاتت، ولا يصح قياسها على الجمعة؛ لأن من
فاتته الجمعة يصلي الظهر فرض الوقت. وأما العيد فصلاة اجتماع إن أدرك
الاجتماع فيها وإلا سقطت عنه. حكاه العبدري عن أبي حنيفة ومالك والمزني
وداود [9] ، ورجحه الشيخ العثيمين [10] .
عاشراً: صلاة العيد في السفر:
أ- لو كان مسافراً وحضر الناس وهم يصلون فله أن يصلي معهم مثل الجمعة.
ب- لو سافر جماعة فليس لهم أن يقيموا لا الجمعة ولا العيد؛ لأنها ليست
مشروعة في السفر، ومن شرطِ وجوبها الاستيطان.
قال شيخ الإسلام: تنازع الناس في صلاة الجمعة والعيدين: هل تشترط لهما
الإقامة، أم تفعل في السفر؟ على ثلاثة أقوال:
1- من شرطهما جميعاً الإقامة؛ فلا يشرعان في السفر، وهذا قول الأكثرين
وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
2- يشترط ذلك في الجمعة دون العيد وهو قول عن الشافعي وأحمد في
الرواية الثانية عنه.
3- لا يشترط لا في هذا ولا هذا كما يقوله من يقوله عن الظاهرية؛ وهؤلاء
عمدتهم مطلق الأمر ولقوله: (إذا نودي) ونحو ذلك.. ثم قال: والصواب بلا ريب
القول الأول وهو أنه ليس بمشروع للمسافر؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كان يسافر أسفاراً كثيرة، قد اعتمر ثلاث عمر سوى عمرة حجته، وحج
حجة الوداع ومعه ألوف مؤلفة، وغزا أكثر من عشرين غزاة ولم ينقل عنه أحد قط
أنه صلى في السفر لا جمعة ولا عيداً. اهـ[11] .
حادي عشر: إذا اجتمع جمعة وعيد:
أ- عن إياس بن أبي رملة قال: شهدت مع معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل
زيد بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيدين اجتمعا في
يوم؟ قال: نعم! قال فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: (من شاء أن يصلي فليصلّ) [12] .
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أنه قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان؛ فمن شاء أجزأه من الجمعة؛ وإنّا
مُجمِّعون) [13] .
ج- عن عطاء قال: (صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول
النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدنا، وكان ابن عباس
بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السنة) [14] .
وبناء على ما سبق فإن من صلى العيد تكفيه عن الجمعة على الصحيح،
ولكن بعض العلماء اشترط أن يصلي الظهر؛ لأن فرض الظهر لا تسقطه صلاة
العيد، ويعكر على هذا فعل ابن الزبير وتصويب ابن عباس له، وأجابوا عنه بأنه
لا يمنع أن يكون ابن الزبير صلى في بيته فرض الظهر، والأحوط أن يصلي
الظهر. والله أعلم.
ثاني عشر: أحكام خطبة العيد:
1- حكم حضورها:
حكم حضورها سنة على الصحيح لحديث عطاء عن ابن السائب قال: شهدت
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب؛
فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب) [15] .
2- خطبة أم خطبتان؟
ذكر الفقهاء أنه يخطب خطبتين يجلس بينهما لحديث جابر قال: (خرج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة
ثم قام) وهذا حديث ضعيف [16] .
والذي يظهر أنها خطبة واحدة لما روى جابر رضي الله عنه: (قام النبي -
صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل
فأتى النساء فذكّرهن وهو يتوكأ على يد بلال..) [17] . فذكر في هذا الحديث
خطبة واحدة، ولا يمكن أن تعد موعظة النساء خطبة ثانية؛ لأنه إنما نزل إليهن
ليسمعهن موعظته؛ إذ المتصور كثرة الجمع في العيد مما يجعل النساء في بُعد عنه
لا يسمعن خطبته.
قال الشيخ العثيمين: ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرها
تبين له أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخطب إلا خطبة واحدة [18] .
3- التكبير في الخطبة:
وفيه مسألتان:
أ- افتتاح الخطبة بالتكبير: الأولى بتسع والثانية بسبع؛ لما روى عبيد الله
بن عبد الله بن عتبة قال: (السنة التكبير على المنبر يوم العيد؛ يبتدئ خطبته
الأولى بتسع تكبيرات قبل أن يخطب، ويبدأ الآخرة بسبع) [19] وعبيد الله تابعي،
وهذا اجتهاد منه رحمه الله تعالى وإلا فإن السنة أن يفتتحها بحمد الله تعالى. قال
شيخ الإسلام: لم ينقل أحد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه افتتح خطبة بغير
الحمد لا خطبة عيد، ولا خطبة استسقاء، ولا غير ذلك [20] .
قال ابن القيم: وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث
واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير [21] . وقال أيضاً: وأما قول أكثر
الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستقساء بالاستغفار، وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم
فيه سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- البتة، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح
جميع الخطب بـ (الحمد لله) . اهـ[22] .
ب- التكبير في تضاعيف الخطبة وفيه حديث عبد الرحمن بن سعد بن عمار
بن سعد المؤذن: حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: (كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين) وهو حديث
ضعيف [23] .
ومن قال بامتداد وقت التكبير إلى ما بعد خطبة العيد فللتكبير في أضعافها وجه، ومن اعتبر أنه من جملة الذكر المحمود في الخطبة فحسن، لكن الإشكال في
تخصيص خطبة العيد به دون غيرها، ولعلهم يستأنسون بقول الزهري: كان
الناس يكبرون في العيد حيث يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى حتى يخرج
الإمام، فإذا خرج سكتوا، فإذا كبر كبروا) [24] ولكن هذا في الصلاة ولا يدل
على التكبير في الخطبة.
4- موضوع الخطبة:
جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول ما يبدأ به الصلاة ثم
ينصرف، فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم
ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم
ينصرف) [25] .
واستحسن جمعٌ من الفقهاء أن يكون موضوعها في الفطر عن الفطرة وثوابها، وقدر المخرَج وجنسه وعلى من تجب.. وفي الأضحى عن الأضحية وأحكامها [26] ، وذكر الأضحية في الأضحى جيد، وأما ذكر الفطرة فلا فائدة منه؛ لأن
وقتها انتهى بالصلاة، والحديث لم يخصص شيئاً، بل يعظهم بما يناسب الحال
ويصلح المآل.
5- موعظة النساء:
السنة أن يخصص للنساء موعظة لما جاء في حديث جابر رضي الله عنه: (.. فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكّرهن وهو يتوكأ على بلال) [27] .
السنن والمندوبات في العيد:
أولاً: التكبير في العيد:
يستحب للناس التكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم ومنازلهم وطرقهم
مسافرين كانوا أو مقيمين؛ لظاهر الآية: [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ]
[البقرة: 185] [28] ، ويكبرون في الطريق إلى العيد، ويرفعون أصواتهم به، وقد جاء فيه آثار كثيرة جداً عن الصحابة والتابعين [29] .
والنساء يكبرن ولكن بخفض الصوت، لما جاء في حديث أم عطية: (..حتى نخرج الحُيّض فيكُنّ خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم ويدعنّ بدعائهم ... ) [30] .
ثانياً: الغسل والزينة:
قال البخاري: باب في العيد والتجمل فيه، ثم ساق فيه حديث ابن عمر
رضي الله عنهما قال: (أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمّل بها للعيد
والوفود ... ) الحديث [31] .
قال ابن قدامة: وهذا يدل على أن التجمل عندهم في هذه المواضع كان
مشهوراً [32] .
وكان ابن عمر يلبس في العيد أحسن ثيابه [33] .
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد [34] .
وفي الغسل ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل يوم الفطر قبل أن
يغدو إلى المصلى [35] .
والتجمل يكون في اللباس والهيئة من إحفاء الشوارب وتقليم الأظافر ولبس
أحسن الثياب؛ وذلك يختلف باختلاف الناس واختلاف البلاد [36] .
ثالثاً: الأكل قبل العيد:
أ- قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا
يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات) وفي رواية: (ويأكلهن وتراً) [37] .
ب- وفي لفظ آخر قال أنس: (ما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) [38] قال الحافظ: وهو صريح
في المداومة على ذلك [39] .
ج- وعن بريدة رضي الله عنه: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا
يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم النحر حتى ينحر) [40] .
فدلت الأحاديث السابقة على أنه كان يداوم على الأكل في الفطر قبل الصلاة،
ويؤخر الأكل يوم النحر حتى ينحر ليأكل من أضحيته.
قال الإمام أحمد: وإذا لم يكن له ذبح لم يبالِ أن يأكل [41] .
وقال ابن المنير: وقع أكله- في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج
صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج
صدقة الأضحية بعد ذبحها [42] .
وتلمّس الحافظ بعض الحِكَم لتعجيل الأكل يوم الفطر، ومنها:
1- حتى لا يظن اتصال الصيام إلى صلاة العيد.
2- المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى بالفطر [43] .
ويرى بعض العلماء أنه لو أكل التمرات بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الفجر
حصل المقصود؛ لأنه أكلها في النهار، والأفضل إذا أراد الخروج للعيد [44] .
رابعاً: التبكير في الخروج للعيد:
أ- قال الله تعالى: [فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] [المائدة: 48] . والعيد من أعظم
الخيرات، وقد دلت النصوص على فضيلة التبكير إلى الجماعات والجمعات،
والدنو من الإمام، وفضيلة الصف الأول؛ والعيد يدخل في ذلك.
ب- قال البخاري: باب التبكير إلى العيد، ثم ساق حديث البراء رضي الله
عنه قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: (إن أول ما نبدأ به
في يومنا هذا أن نصلي ... ) [45] .
قال الحافظ: هو دال على أنه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيء غير
التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازِمِهِ أن لا يُفعَل قبلها شيءٌ غيرها، فاقتضى
ذلك التبكير إليها [46] .
خامساً: خروج النساء والصبيان:
أ- أما النساء ففيه حديث أم عطية: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق وذوات الخدور، فأما الحُيّض فيعتزلن
الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين [47] .
ويجب عليهن التستر وعدم السفور والطيب والزينة التي فيها فتنة للرجال،
وذلك لنصوص أخرى ليس هذا مجال سردها.
ولم يُصِبْ من رأى منعهن في الأزمنة المتأخرة لكثرة الفساد، ولو حصر
المنع في السافرات المتساهلات بالحجاب لكان صحيحاً، أما التعميم فلا؛ لأمرِ
النبي؛ حتى قال شيخ الإسلام: وقد يقال بوجوبها على النساء [48] .
ب- وأما خروج الصبيان فقد بوّب عليه البخاري ثم ساق حديث ابن عباس
رضي الله عنهما: خرجت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم فطر أو أضحى
فصلى ثم خطب [49] ... وفي رواية: (ولولا مكاني من الصغر ما شهدته) [50]
أي لولا منزلتي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شهدته.
واشترط ابن بطال في خروج الصبي أن يضبط نفسه عن العبث، وأن يعقل
الصلاة ويتحفظ مما يفسدها.. وتعقبه الحافظ: بأن مشروعية إخراج الصبيان إلى
المصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعائر الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع
للحُيّض؛ فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا [51] .
سادساً: المشي إلى المصلى:
جاء في المشي إلى المصلى ثلاثة أحاديث مرفوعة وكلها ضعيفة كما قال
الحافظ [52] ، وورد عن علي رضي الله عنه قوله: (من السنة أن يأتي العيد
ماشياً) [53] قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم
يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً، وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج.اهـ[54] .
وفي سُنّية المشي إلى العيد حديثان مرسلان صحيحان عن ابن المسيب
والزهري [55] .
قال مالك: نحن نمشي ومكاننا قريب، وإن بَعُدَ ذلك عليه فلا بأس
بالركوب [56] .
وقال أحمد: يستحب أن يذهبوا رَجّالة إلى العيدين والجمعة [57] .
وقال ابن المنذر: المشي إلى العيد أحسن وأقرب إلى التواضع ولا شيء على
من ركب [58] .
سابعاً: التهنئة بالعيد:
أ- عن جبير بن نفير قال: (كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبّل الله منا ومنك) [59] .
ب- وعن محمد بن زياد الألهاني قال: (كنت مع أبي أمامة الباهلي رضي
الله عنه وغيره من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا إذا رجعوا يقول
بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك) [60] .
وصيغة التهنئة بالعيد تكون بحسب عرف أهل البلد ما لم تكن بلفظٍ محرم أو
فيه تشبه بالكفار؛ كأن يأخذ ألفاظ تهنئتهم بعيدهم.
ثامناً: مخالفة الطريق:
روى جابر رضي الله عنه: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم
عيد خالف الطريق) [61] .
وفعله -صلى الله عليه وسلم- تلمّس له العلماء حِكَماً عديدة جمع الحافظ منها
أكثر من عشرين حكمة [62] .
وذكر منها:
1- لإظهار شعائر الإسلام. ... 2 - ليشهد له الطريقان.
3- لإظهار ذكر الله -تعالى-. 4- لإغاظة المنافقين أو اليهود.
5- السلام على أهل الطريقين. ... 6- أو تعليمهم.
7- أو الصدقة. ... ... ... 8- أو ليصل رحمه.
قال ابن القيم بعد ذكر عدد من الحِكَم: وقيل وهو الأصح: إنه لذلك كله
ولغيره من الحِكَم التي لا يخلو فعله عنها [63] .
تاسعاً: الفرح بالعيد:
أ- روت عائشة رضي الله عنها: (دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه،
ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي؟ ! فأقبل عليه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (دعهما) فلما غفل غمزتهما فخرجتا) [64] وفي
رواية: (تغنيان بدف) [65] .
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في
أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة،
وأن الإعراض عن ذلك أوْلى، ومنه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر
الدين [66] .
فتأمل فضل الله تعالى: يفرح المسلمون بالعيد ويؤجرون على هذا الفرح؛
لأنه من شعائر الدين. ولكن ليُعلمْ أن هذا الفرح يجب أن يكون في حدود المشروع، وأما إشغال الأعياد بالمنكرات والغناء فليس من الفرح المشروع بل من نزغ
الشيطان، ألا تراه في الرواية الأخرى قال: (تغنيان بدف) فيقتصر على ذلك،
والزيادة عليه ممنوعة لنصوص أخرى ليس هنا مجال ذكرها.
ب- اجتماع الناس على الطعام في العيد سنة؛ لما فيه من إظهار هذه الشعيرة
العظيمة، قال شيخ الإسلام: جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سنة وهو
من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله [67] .
__________
(1) أخرجه أحمد (5/57) وأبو داود (1157) والنسائي (3/180) وابن ماجه (1653) وصححه البيهقي في السنن الكبرى (3/316) والخطابي في معالم السنن (1/252) والنووي في المجموع
(5/27) والحافظ في البلوغ (510) قال الخطابي: حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب، وكذا قال ابن المنذر في الأوسط (4/195) .
(2) انظر المغني (3/285) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (5713) وابن أبي شيبة (2/183) وسعيد بن منصور كما في الفتح وصححه الحافظ (2/550) وعزاه الهيثمي للطبراني في الكبير وقال: ورجاله ثقات (1/223) .
(4) انظر: فتح الباري (2/550) .
(5) انظر: معرفة السنن والآثار (5/103) وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/234) .
(6) أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (5/103) وانظر الفتح (2/ 551) .
(7) انظر شرح الزركشي (2/234) ، والإنصاف (2/234) .
(8) فتح الباري (2/550) وانظر المجموع (5/35) .
(9) انظر: شرح فتح القدير (2/78) ، والمبسوط (2/39) والمجموع (5/ 35) .
(10) الشرح الممتع (5/207) .
(11) مجموع الفتاوى (24/177- 178) وانظر أيضاً (26/170) .
(12) أخرجه أبو داود في الجمعة (1070) والنسائي في العيد (1592) وابن ماجه في الصلاة (1310) وصححه ابن خزيمة كما في البلوغ (483) .
(13) أخرجه أبو داود في الجمعة (1073) وابن ماجة في الصلاة (1311) وصححه البوصيري في الزوائد، والألباني في صحيح أبي داود (948) .
(14) أخرجه أبو داود في الجمعة (1071) والنسائي في العيدين (1593) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (946) وقد حمل الخطابي فعل ابن الزبير على مذهب من يرى جواز صلاة الجمعة قبل الزوال كما هو مذهب ابن مسعود وعطاء، ثم قال: فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير صلى الركعتين على أنهما جمعة وجعل العيد في معنى التبع لها اهـ من معالم السنن بحاشية سنن أبي داود (1/647 648) وللمزيد في هذه المسألة انظر: مصنف عبد الرزاق (3/ 305) ومصنف ابن أبي شيبة (2/187) والأوسط (4/289) والأم (1/239) والتمهيد (10/274) والاستذكار (7/24) والمغني (3/242) .
(15) أخرجه أبو داود (1155) والنسائي (3/151) وابن ماجة (1290) قال أبو داود: هذا مرسل عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال النسائي: هذا خطأ والصواب أنه مرسل، قال ابن التركماني: الفضل بن موسى ثقة جليل روى له الجماعة، وقال أبو نعيم: هو أثبت من ابن المبارك وقد زاد ذكر ابن السائب فوجب أن تقبل زيادته انظر: الجوهر النقي (3/301) والحديث صححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي (1/295) .
(16) أخرجه ابن ماجة في العيدين (1289) وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، قال أبو زرعة: ضعيف وقال أحمد: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقد أجمعوا على ضعفه وفي سند الحديث أيضاً أبو بحر عبد الرحمن بن عثمان ضعفه أحمد وابن المديني وابن معين وغيرهم، وانظر الميزان (1/248) والتهذيب (3/392) والزوائد (1/422) .
(17) أخرجه البخاري في العيدين (987) ومسلم في العيدين (885) .
(18) انظر الشرح الممتع (5/192) .
(19) اخرجه عبد الرزاق (5672) وابن أبي شيبة (2/190) والبيهقي (3/ 299) .
(20) مجموع الفتاوى (22/393) .
(21) زاد المعاد (1/447) .
(22) زاد المعاد (1/186) .
(23) أخرجه ابن ماجة في العيدين (1287) وراوي الحديث عبد الرحمن بن سعد ضعفه ابن معين، وقال البخاري: فيه نظر انظر التهذيب (3/366) رقم.
(4417) وأبوه وجده لا يعرف حالهما.
(24) مرسل صحيح أخرجه ابن أبي شيبة، انظر الإرواء (3/121) .
(25) أخرجه البخاري في العيدين (956) ومسلم في العيدين من حديث جابر (885) .
(26) انظر: المغني (3/278) .
(27) أخرجه البخاري في العيدين (978) ومسلم في العيدين (885) .
(28) المغني (3/255) .
(29) انظر مثلاً: الأوسط (4/249) والسنن الكبرى (3/279) والأم (1/ 231) .
(30) أخرجه البخاري في العيدين (971) ومسلم في العيدين (890) .
(31) صحيح البخاري، كتاب العيدين (948) وأخرجه مسلم في اللباس (2068) .
(32) المغني (3/257) .
(33) أخرجه البيهقي (3/281) وعزاه الحافظ لابن أبي الدنيا وصححه انظر: الفتح (2/510) .
(34) انظر الأوسط (4/265) والمغني (3/258) .
(35) أخرجه مالك (177) وعبد الرزاق (3/310) والبغوي في شرح السنة (2/167) .
(36) انظر: الشرح الممتع (5/166) .
(37) أخرجه البخاري في العيدين (953) وابن ماجه (1754) وابن خزيمة (1429) .
(38) أخرجه ابن حبان (2814) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/ 294) .
(39) فتح الباري (2/518) .
(40) أخرجه أحمد (5/352) والترمذي في الصلاة (542) وابن ماجة.
(1756) والدارمي (1/375) وصححه ابن حبان (2812) والحاكم (1/284) ونقل الحافظ تصحيح ابن القطان له انظر التلخيص (2/90) .
(41) المغني (3/259) .
(42) فتح الباري (2/520) .
(43) فتح الباري (2/518) .
(44) الشرح الممتع (5/161) .
(45) صحيح البخاري كتاب العيدين (968) وفي الباب عن أبي سعيد عند البخاري (956) ومسلم (889) .
(46) فتح الباري (2/530) .
(47) أخرجه البخاري في العيدين (974) ومسلم في العيدين (890) .
(48) الاختيارات الفقهية (82) .
(49) أخرجه البخاري في العيدين (975) ومسلم في العيدين (884) .
(50) هذه الرواية للبخاري في العيدين (977) .
(51) فتح الباري (2/540) .
(52) انظر سنن ابن ماجه (1/114) أرقام (1294- 1295- 1297) وانظر الفتح (2/523) .
(53) أخرجه الترمذي وحسنه (530) وابن ماجه (1296) والبيهقي (3/ 281) .
(54) جامع الترمذي (2/410) .
(55) أما مرسل سعيد فأخرجه الفريابي في أحكام العيدين (18) وأما مرسل الزهري فأخرجه الفريابي [27] والبيهقي في معرفة السنن والآثار (5/57) رقم (6834) وصححهما الألباني في الإرواء
(3/103 104) .
(56) الأوسط (4/264) وفي المغني نسبه لأحمد (3/262) .
(57) مسائل أحمد لابنه عبد الله (128) .
(58) الأوسط (4/264) .
(59) قال الحافظ: رويناه في المحامليات بإسناد حسن انظر: الفتح (2/ 517) .
(60) قال الإمام أحمد: إسناده جيد كما نقله ابن التركماني في الجوهر النقي.
(1/253) وانظر في الذيل على السنن للبيهقي (3/320) وحسنه السيوطي في وصول الأماني [19] وانظر إعلاء السنن للتهانوي (8/120) وفتاوى شيخ الإسلام (24/253) .
(61) بوب عليه البخاري في صحيحه كتاب العيدين ثم ذكره (986) .
(62) فتح الباري (2/548) .
(63) زاد المعاد (1/449) .
(64) أخرجه البخاري في العيدين (949) ومسلم في العيدين (892) .
(65) هذه الرواية لمسلم (892) .
(66) فتح الباري (2/514) .
(67) مجموع الفتاوى (25/298) .(136/18)
مراجعات في السيرة والتاريخ
أحداث بيعة العقبة الثانية
رؤية إدارية وتربوية
(2/2)
جمال الحوشبي
في السيرة النبوية دروس وعبر لكل من يتأملها، وقد كنا في الحلقة السابقة
مع رؤية إدارية وتربوية طرحها الكاتب في أحداث بيعة العقبة الثانية؛ حيث تناول
عوامل نجاح ذلك الاجتماع الموفق من خلال رواية كعب بن مالك رضي الله عنه
ثم ذكر الجوانب المهمة من الاجتماع بادئاً بإيضاح المهارة القيادية الفذة وملامحها.
ويواصل بقية الموضوع. ... ... ...
... ... - البيان -
ثانياً: جودة اختيار مكان الاجتماع:
لاختيار المكان المناسب أبلغ الأثر في نجاح الاجتماعات واللقاءات الدعوية؛
ولذا كانت أهميته في فترة الدعوة السرية بمكة واضحة؛ حيث كان الاختيار
المناسب لمكان اللقاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو دار الأرقم بن أبي
الأرقم؛ لأنه كان عَزِباً فلا يشق عليه ذلك، كما كان قريباً من الكعبة؛ ولأن الأرقم
لم يكن في ذلك الوقت معروفاً كغيره من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما. وفي
العقبة كان لاختيار المكان أبلغ الأثر في إنجاح هذا الاجتماع التاريخي العظيم،
وبيان ذلك على النحو الآتي:
1- كان مكان اللقاء في الشّعب من منى والشعب هو: ما انفرج بين جبلين
أي إن المكان كان محاطاً من ثلاث جهات أو من جهتين على الأقل. قال كعب:
(فاجتمعنا في (الشعب) ننتظر رسول الله) .
2- حُدّد لهم مكان اللقاء مسبقاً، فخرجوا جميعاً صوبه مباشرة، بخلاف ما لو
كان اللقاء في مكان آخر ثم كان التحرك منه للمكان المقصود بهذا العدد الضخم!
3- كان لدى جميع الأفراد علم تام بالمكان؛ فلم يكن ثَمّ داع لتحركهم جماعات
صوبه.
4- لم يكن المكان المرشح للقاء بعيداً عنهم؛ لأن ذلك ربما أدى إلى كشف
اللقاء برمته عن التحرك إليه أو أثناء الرجوع منه؛ بل كان قريباً منهم بجانب
الجمرات التي يجاورونها. وتدرك أهمية ذلك عندما نعلم أن الانطلاق للمكان ذاته لا
ريبة فيه؛ لأن الرجل والرجلين ربما ذهبا هناك لقضاء الحاجة.. وهو أمر
متعارف عليه ما دام في حدود منى.
5- وعلى الرغم من وجود شعاب أخرى في منى جهة مزدلفة وفي جميع
الجهات الأخرى إلا أن اختيار شعب العقبة ينم على مقدرة فائقة في حسن الاختيار؛
ذلك أنه كان الأقرب للأفراد من جهة منى والأقرب لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من جهة مكة؛ فهو بعيد عن أنظار الحجاج من أهل منى، كما أنه الأبعد
عن أنظار المشركين من قريش؛ أضف إلى ذلك المجازفة التي ربما أفسدت
الاجتماع لو كان هذا الشِّعب من جهة المزدلفة مثلاً!
ثالثاً: الدقة في تحديد الزمان:
يراعى قبل عقد الاجتماع التقيد بموعد البدء، وكذلك بزمن الانتهاء، وبالمدة
التي يستغرقها الاجتماع. وعند اختلال أحد هذه الأقسام الثلاثة من الزمن أو الغفلة
عنها يحدث الخلل في بنية الاجتماع وتذهب قيمته.
وفي هذا الاجتماع الكبير روعي بعناية قضية (زمن اللقاء) من حيث:
توقيت ليلة اللقاء.
والدقة في تحديد الساعة التي يبدأ فيها التحرك إلى المكان.
وتوقيت زمن اللقاء وتحديد المدة التي يستغرقها.
وأخيراً توقيت موعد الانتهاء وساعة الانصراف.
وبيان ذلك على النحو الآتي:
1- بالنسبة لتوقيت اليوم أو الليلة: اختير الليل بدلاً من النهار وذلك لهدوئه
ولستره، ولما يكون فيه من سكون، وما يصحبه من بيات الحجاج بمنى وكذلك
أهل مكة.
2- في قول كعب رضي الله عنه (فواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
العقبة أوسط أيام التشريق ... ) يَرِدُ تساؤلٌ مهم وهو: هل من حكمة في اختيار هذا
اليوم من أيام التشريق؟ بمعنى: لو كان موعد اللقاء قبل موسم الحج أي في التاسع
والعشرين أو الثلاثين من ذي القعدة مثلاً.. هل سيغير ذلك من الأمر شيئاً؟ والواقع
أن هذا الاختيار الحكيم كان الأنسب؛ إذ ينم عن مقدرته القيادية الفذة؛ ويمكننا
تلمّس بعض الحِكَم من جرّاء اختيار هذا اليوم.. ومنها:
أن أوسط أيام التشريق يعني عدم وجود فترة زمنية طويلة بعده ربما ساعدت
في كشف هذا اللقاء واتخاذ التدابير الوقائية ضده قبل استفحال أمره، فلا فرصة إذن
لدخول هذا الاحتمال بعد اختيار هذه الليلة؛ لأنه ليس بعدها إلا الرحيل، بخلاف ما
لو كان الموعد قبل ذلك.
أن أيام منى ولياليها وبخاصة الليالي الأخيرة تكون أدعى للراحة والتفرغ من
الأشغال المادية والنفسية؛ نظراً لانتهاء أعمال الحج؛ ولو كان الموعد قبل ذلك
لكانت الهمم مشغولة بما سيدهمها من أعمال الحج الكثيرة، ولربما أنستها هذه
الأعمال كثيراً من البنود الرئيسة التي كانت في الاجتماع لو كان عقد قبل اليوم
الثامن يوم التروية وكذلك الحال لو كان اللقاء أثناء الحج، أي في اليوم الثامن أو
التاسع أو العاشر.. أضف إلى ذلك صعوبة النتسيق بزمان أو مكان معين لتنقّل
الحجاج لزاماً من هنا إلى هناك كلهم؛ فلا جدوى في الواقع من الانزواء عنهم في
المكان ذاته والزمان نفسه لعقد مثل هذه البيعة التي تتطلب جواً خاصاً.
ومما يظهر الدقة في تحديد هذه الليلة أنه حتى لو كشف الأمر فيما بعدُ فلا
يمكن للمشركين سواء بمكة أو المدينة فعل شيء؛ لأن الفترة المتبقية قصيرة بين
عقد الاجتماع وبين موعد الرحيل، فلا يكفي لتحديد هوية الأفراد جميعاً أو تحديد
هدف الاجتماع؛ وهذا ما تم بالفعل عندما تنطست [*] قريش الخبر وتأكد لها عقد
ذلك الاجتماع؛ إذ كان الركب قد تجهّز للرحيل، ولم يتمكن كفار مكة إلا من اللحاق
برجلين، أما أحدهما وهو المنذر بن عمرو فقد أعجزهم، وأما الآخر وهو سعد بن
عبادة فأسروه عندهم ثم تم إطلاقه بخلاف ما لو كان موعد اللقاء قبل أعمال الحج أو
أثناءه.
كان اختيار هذه الليلة دقيقاً كذلك؛ لأنها كانت من الليالي المقمرة التي يمكن
فيها رؤية الوجوه، ومعرفة ملامحها، ويسهل على الناظر فيها معرفة ردود الأفعال
من وجوه الحاضرين، ومعرفة أسنان الحضور وهيئاتهم.. حتى قال العباس في
تلك الليلة: (هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث) بعدما نظر في وجوه الوفد؛ وما
كان له ليستنتج ذلك لولا وضوح الرؤية في تلك الليلة المقمرة. أضف إلى هذه
المسوغات أن هذا الوفد المبارك القادم من المدينة جاء أصلاً لرؤية النبي -صلى الله
عليه وسلم- والنظر إلى وجهه الشريف.
3- إذا كان اختيار ليلة اللقاء قد تم بهذه الدقة العجيبة؛ فالأعجب منها هو
توقيت الساعة المحددة للانطلاق نحو المكان في هذه الليلة؛ وبخاصة إذا علمنا عدم
وجود أي وسائل معينة على هذا التحديد الدقيق كالساعات المعاصرة! !
إن هذا الأمر بحق بعيداً عن كل تهويل فوق ما يتصوره كبار القادة
والمخططين لو أنهم اطلعوا على مجريات أحداثه؛ إذ كيف يُتَصوّر خروج هذا العدد
الضخم في وقت واحد من هذه الليلة حتى إنه لم يتأخر منهم أحد ولا توجد لديهم في
ذلك الوقت أي وسيلة مادية تساعدهم على ذلك؟ !
لقد كان المقرر عندهم أن يبدؤوا بالخروج من خيامهم كل بمفرده بعد مضي
ثلث الليل (بالضبط) كما قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا
مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلّل
تسلل القطا مستخفين.
ولك أن تقف قليلاً مع قوله: (نمنا) ليتأكد أن التوقيت المحدد للانطلاق كان
بعد هجوع أهل منى وفي غفلة منهم.. وهذا يعني ذهاب قدر من الليل.
4- بلغ التنظيم للاجتماع قمته حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمه
العباس من مكة بعد اكتمال العدد (تماماً) لتبدأ عندها فعاليات الاجتماع. وهذا درس
في التخطيط والترتيب حري بالدعاة أن يفيدوا منه عند تنظيم لقاءاتهم واجتماعاتهم
التربوية.
5- تم تحديد المدة التي يستغرقها الاجتماع بدقة، ولم يترك النبي -صلى الله
عليه وسلم- الأمر حتى يضيق بهم الوقت مع انبلاج الصبح.. بل إن في السياق ما
يفيد أنهم وصلوا قبل الفجر بزمن كاف حتى إنهم تمكنوا من النوم. وهذا يدل على
أن المدة التي استغرقها الاجتماع لم تكن طويلة؛ فلم يحبسهم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في اللقاء حتى يضيق بهم الوقت، ولم يكثر عليهم من الكلام خلاله؛
بل لقد كان هو أقلهم كلاماً بعدما تأكد له نجاح الاجتماع بعد عقد البيعة.. كل ذلك
منه -صلى الله عليه وسلم- مراعاة للظرف المحيط بهم. ولما أمرهم في ختام
الاجتماع بالانصراف كرر ذلك عليهم مراراً.
قال كعب: (فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا) .
ومما ساعد في ضبط المدة المحددة لزمن اللقاء اتخاذه -صلى الله عليه وسلم-
قرار اختيار النقباء لتسهل البيعة عن طريقهم، وكذا تهدئته للوضع من حوله فكان
يرد باختصار ويوجه ويحذر ويثني خيراً.
رابعاً: ضبط عدد الأفراد المشاركين في الاجتماع، وطريقة تنقّلهم:
كثيراً ما تخفق الاجتماعات الدعوية بسبب الفوضى الناجمة من عدم تحديد
أفراد تلك الاجتماعات أو ضبطها أو مراعاة خصوصيتها. ولو لم يكن من فوائد
لتحديد عدد أفراد الاجتماع إلا ضمان استمراره وتحقيق أهدافه لكان كافياً للاهتمام
به؛ فكيف إذا كانت الفوائد أكثر من هذا، وضرورة هذا التحديد تظهر بعد إخفاق
العديد من اللقاءات الدعوية التي لم يراع فيها هذا الجانب؟ !
ويُعَد تصنيف الاجتماعات من حيث العدد في هذا العصر ضرورياً لتعلقه
بالهدف الذي يُعقد من أجله الاجتماع؛ فهناك: الاجتماع الثنائي، والثلاثي، وهناك
المتوسط والكبير وغيرها من التصنيفات. كل ذلك زيادة في التأكيد على خصوصية
الاجتماعات.
وفي هذا الاجتماع العظيم لم يكن المجال مفتوحاً ليشارك فيه كل أحد، بل لقد
ضبط العدد من قبل أن يغادروا المدينة، وكلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مصعب بن عمير لينسق هذا الأمر، وكان قد توجه قبلهم إلى مكة ليخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأمر، ثم كانت له اتصالاته الخاصة بهم في منى
وبخاصة مع أميرهم: البراء بن معرور.
وعموماً: تميّز جانب ضبط أفراد اللقاء والتنسيق لطريقة تنقّلهم من وإلى
مكان الاجتماع بشيء كثير من الدقة، والحنكة الإدارية. وبيان ذلك فيما يلي:
1- كانت الطريقة المعمول بها في تنظيم حضور الأعضاء إلى هذا الاجتماع
تقتضي أن يأتوا أرسالاً كل بمفرده أو مع رفيقه، ولم يكن هناك مجال لدخول (أو)
هذه؛ فقد حُدّدَ مسبقاً أن يبيت كل اثنين معاً وكل ثلاثة معاً في خيمة يشاركون فيها
بقية المشركين من وفد حجاج المدينة. ثم في الليلة المحددة وفي الساعة المعينة وفي
لحظة واحدة من الليل تخرج كل رفقة معاً إلى المكان المحدد لعقد الاجتماع.
2- كما تميّزت طريق تحركهم بالعجب؛ فقد كانت الكيفية التي يخرجون بها
أعجب؛ لأن الخروج من مجمع الناس بمنى من مواقع متفرقة وبأسلوب خفي
يتطلب قدراً من الخفة والهدوء، ولذا شبه كعب خروج الواحد منهم متسللاً في جنح
الظلام بخروج (طير القطا) من وكره، وهو نوع من الطير يتميز بالخفة والهدوء
في الحركة.
3- لك أن تعجب من حضور العدد جميعه اثنان وسبعون عضواً بينهم
امرأتان لا يزيدون ولا ينقصون: لم يعتذر عن الحضور منهم أحد، ولم يستغرق
في النوم منهم أحد، ولم يصل أحد منهم متأخراً عن الموعد المحدد للقاء ليربك
الجميع في ذلك المكان، كما لم يُفشِ أحد منهم خبر هذا الاجتماع لأحد، ولم يتجرأ
أحد منهم على إحضار شخص آخر لم يكن مقرراً من ضمن ذلك العدد المحدود.
4- إذا أدركت مدى الدقة في مجيء هؤلاء الأفراد من منى إلى مكان
الاجتماع، وكيف خرج هذا العدد الهائل كل من مكانه دون أن يعلم بهم أحد من أهل
منى؛ فالأمر الذي يدعو حقاً للتأمل هو: كيف عادوا إلى مضاجعهم؟ لأن الخروج
الفردي أسهل؛ لكن العودة الجماعية أشق وأدعى لزيادة الحذر! لكنهم بالفعل عادوا
ولم يدرِ عنهم أحد حتى من رفاقهم المشركين الذين كانوا معهم في الخيام والذين
حلفوا الأيمان المغلّظة في اليوم التالي: ما حدث البارحة شيء! ومعلوم أن منى في
تلك الليالي كانت محاطة بتجار من أهل مكة وغيرهم، وفيها أماكن مكشوفة للأنظار. وهذا النجاح ما كان ليتم لولا توفيق الله وتأييده، ثم الدقة في الترتيب والتحضير
للقاء، والدقة في إنهائه في الوقت المحدد له.
حدث مفاجئ:
في خضم سياق هذا الحدث العجيب، وفي غمرة هذا الإعداد والترتيب
للاجتماع حدث أمر (طارئ) كاد أن يقلب الموازين ويؤدي إلى إخفاق اللقاء برمته.. تمثل ذلك في إدخال عضو غريب في اللقاء المحدد من غير أن يكون مرتباً له
من قبل ليكون من ضمن المشاركين. ذلك العضو هو (عبد الله بن عمرو بن حرام)
أبو جابر الذي كان مشركاً وقت إيذانه بخبر اللقاء. إن تصرفاً كهذا كفيل بنسف
الاجتماع لو كان في حقيقة أمره حدثاً مفاجئاً أو طارئاً كما يظن بعضهم عند القراءة
العابرة لأحداث القصة في قول كعب: (فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي
واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن
حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ... ) إلى آخر
كلامه. ولربما بدر لذهن القارئ تساؤلات ملحة: ألا يرد في هذا الحدث الخطير
احتمال إخبار عبد الله بن عمرو بن حرام بقية القوم أو امتناعه عن الحضور مكيدة، ثم مباغتة القوم في مكانهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمساعدة بقية
أهل منى وأهل مكة من المشركين؟ ثم ما جدوى إدخال عضو جديد وغريب ما دام
العدد متفقاً عليه مسبقاً ولا علم للقائد بهذا التصرف الفردي الطارئ؟ !
إن تصرفاً كهذا كما ذكرت تصرف خطير يؤدي إلى تعطيل اللقاء لو كان
مفاجئاً أو طارئاً.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن.. فهو ليس تصرفاً فردياً لا علم للقيادة
به، ثم إن الدعوة لم تكن لفرد عادي مجهول الحال عند من قام بإخباره؛ ويؤكد ذلك
عدة أمور:
أ- أن كعب بن مالك أعاد الأفعال كلها إلى صيغة الجماعة، ولم ينسب ذلك
لفرد واحد بعينه في قوله: (واعدنا رسول الله.. ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام.. أخذناه معنا.. وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه.. حتى
قوله: وأخبرناه بميعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة..) وهذا يدل
أن هناك إعداداً مسبقاً لهذا الأمر مع أمير القوم البراء بن معرور الذي تولى هو
وصفوة القوم مهمة الحديث مع عبد الله بن عمرو بن حرام حتى أقنعوه.
ب- أنهم لم يخبروه مباشرة بالميعاد ولا بالساعة المحددة، وإنما أخروا عنه
ذلك حتى استوثقوا من إسلامه.
ج- لقد كان عندهم علم مسبق أو غلبة ظن بشخصية عبد الله بن حرام؛ ولهذا
وقع عليه الاختيار وحده من بين وفد المشركين كله. ولعلمهم أنه حتى لو لم يوافق
على الحضور معهم فإنهم لمكانته عندهم يأمنونه.. تماماً كما أمن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عمه العباس الذي كان لا يزال مشركاً وقتها.
د- لا بد من معرفة توقيت إخباره بالموعد؛ لأن هذا له دور كبير. ومن
السياق يتبين لنا أنهم اختاروا الوقت المناسب لإخباره حتى يضعوه أمام الأمر الواقع
الذي لا يمكنه معه التحرك لفعل أي شيء.. لقد أخبروه في ليلة اللقاء ذاتها.
هـ من أسلوب العرض الذي وُجّه له يتبين لنا مكانة عبد الله بن عمرو بن
حرام في قومه وحرصهم عليه، وشفقتهم أن يفوته هذا الخير. ولهذا قالوا له بلسان
المشفق الناصح: (يا أبا جابر! إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا
نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً..) .
و أنهم كرهوا ردة فعله بعد اللقاء لو أنه علمه فيما بعد لمكانته الرفيعة في
قومه، ولما تميز به من رأي راجح بينهم. ويؤكد ذلك أنهم جعلوه نقيباً من ضمن
النقباء الاثني عشر بعدما أسلم وانضم معهم وشهد البيعة.
كل ذلك يؤكد لنا أن أمر هذا الاجتماع سار وفق المعايير المحددة له.. ولم
تكن في أي حلقة من حلقاته فرصة لحدوث أمر طارئ أو مرتجل من قِبَلِ الأفراد
أنفسهم.
ولأهمية هذه البيعة، ولما ترتب عليها من نتائج قريبة وبعيدة فقد كان
للمبايعين فيها وفي التي قبلها فضل لا يكاد يقل عما لأهل بدر والهجرتين، وبيعة
الرضوان، من شرف وفضل. رضي الله عن الصحابة أجمعين، وصلى الله وسلم
على نبينا محمد.
__________
(*) تنطّست: تجسّست.(136/28)
فتاوى أعلام الموقعين
النظرة سهم من سهام إبليس
شيخ الإسلام ابن تيميةِ
قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
نحن في عصر مليء بالشهوات المحرمة والمغريات الفاتنة، ومن ذلك
الصورة المحرمة المنتشرة في كل ناحية وزاوية، فلا تكاد تقع عينك على مجلة أو
جريدة أو تلفاز أو سوق إلا وقد مرض قلبك وتكدّر إيمانك بسبب نظرة محرمة.
والله المستعان.
إن الكثيرين منا لا ينفكون عن النظر المحرم أو بعبارة أخرى لا يكاد يسلم
الكثير من سهم مسموم من سهام إبليس، وقد سطر يراع شيخ الإسلام ابن تيمية
جواباً موجزاً وبلسماً شافياً في علاج هذا الداء العضال.
ولما كانت السيئة تقول: أختي أختي.. فإن النظرة الأولى تتبعها النظرة
الثانية وهكذا ... وقد يلبّس الشيطان على البعض؛ فإذا فُتِن بالنظرة الأولى وزيّن
له التداوي بنظرة أخرى فهل يسوغ ذلك؟
لقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الشبهة من عدة أوجه.
سئل الشّيخ الإمَام العَالم العَلاّمة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه
عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟
فأجاب: من أصابه جرح مسموم فعليه بما يُخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق
والمرهم؛ وذلك بأمور:
منها: أن يتزوج أو يتسرى؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا
نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها) وهذا مما ينقص
الشهوة، ويضعف العشق.
الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر.
وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع. وليكثر من الدعاء بقوله: (يا مقلّب القلوب
ثَبّتْ قلبي على دينك! يا مصرّف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك) فإنه متى أدمن
الدعاء والتضرع لله صرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] [يوسف: 24] .
الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث
لا يَسمع له خبراً، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفاء، ومتى قلّ الذكر
ضعف الأثر في القلب. فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال.
والله أعلم) [1] .
وسئل ابن القيم رحمه الله:
ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرةً فعلق حبّها بقلبه، واشتدّ
عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أوّل نظرةٍ فلو أعَدْتَ النظرَ إليها لرأيتَها
دون ما في نفسك فسلوتَ عنها، فهل يجوز له تعمّدُ النظر ثانياً لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله. لا يجوز هذا لعشرة أوْجُهٍ:
أحدها: أن الله سبحانه أمر بغضّ البصر، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرّمه
عَلى العبد.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن نظر الفَجْأَة، وقد علم أنه
يؤثّر في القلب فأَمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرّح بأن الأولى له وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكون داؤه
مما له ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوةُ الأمر بالنظرة الثانية لا تناقُصُهُ؛ والتجربةُ شاهدةٌ به، والظاهر أن الأمر كما رآه أولَ مرّةٍ فلا تحسنُ المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابُه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما
ليس بحسنٍ لِتَتِمّ البلية.
السابع: أنه لا يُعَانُ على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى
بما حرّمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، ومعلومٌ أن الثانية
أشدّ سمّاً؛ فكيف يتداوى من السمّ بالسمّ؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عزّ وجلّ في ترك
محبوبٍ كما زعم، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبيّن حال المنظور إليه، فإن لم
يكن مرضيّاً تركه، فإذاً يكون تركُهُ؛ لأنه لا يلائم غرضَه لا لله تعالى فأين معاملةُ
الله سبحانَهُ بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبين بضرب مَثَلٍ مطابقٍ للحال وهو أنك إذا ركبتَ فرساً جديدة
فمالت بك إلى درْبٍ ضيق لا ينفذُ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج، فإذا همّت
بالدّخول فيه فاكبحها لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوةً أو خَطوتين فَصِحْ بها ورُدّها إلى
وراء عاجلاً قبل أن يتمكّن دخولُها، فإن رَدَدْتها إلى ورائها سَهُل الأمر، وإن
توانيت حتى ولَجَت [2] وسُقْتَهَا داخلاً ثم قمت تَجْذِبها بذَنبها عَسُر عليك أو تعذّر
خروجُها، فهل يقول عاقل: إن طريق تخليصها سَوْقها إلى داخل؟ فكذلك النظرة
إذا أثّرت في القلب، فإن عَجِل الحازمُ وحَسَم المادّة من أوّلها سَهُل علاجُه، وإن
كرّر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلبٍ فارغٍ فنقشها فيه تمكنت
المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة؛ فلا تزال شجرة
الحب تَنْمى حتى يفسد القلب ويُعْرضَ عن الفكر فيما أُمِر به، فيخرج بصاحبه إلى
المحن، ويوجب ارتكابَ المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلَف. والسببُ في
هذا أن الناظر التذّت عينُه بأوّل نظرة فطلبت المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول
منه لقمة، ولو أنه غضّ أوّلاً لاستراح قلبُه وسَلِم، وتأمّل قول النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (النظرةُ سهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهَامِ إبْلِيسَ) [3] فإن السّهْمِ شاًنُه أن يسريَ
في القلب فيعمل فيه عمل السمّ الذي يُسْقَاه المسمومُ، فإن بادر واسْتَفْرَغَه وإلا قتله
ولابدّ) [4] .
__________
(1) مجموع الفتاوى 32 / 5، 6.
(2) ولجت: دخلت.
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(4) ابن القيم، روضة المحبين، ص: 102، 103.(136/36)
تأملات دعوية
القصة وسيلة دعوية
عبد الله المسلم
إن من يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى يجد أن القصة تتكرر فيه في مواطن عدة، ويتجاوز الأمر إيراد القصة وتكرار ذلك إلى:
- الامتنان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن أنزل إليه أحسن القصص: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ
لَمِنَ الغَافِلِينَ] [يوسف: 3] .
- الإخبار بأن القصص سبب لتثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم-:
[وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] [هود: 120] .
- الأمر بقص القصص: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]
[الأعراف: 176] .
- الأمر بالاعتبار بما قص الله في كتابه: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ] . [يوسف: 111] .
ولقد اعتنى -صلى الله عليه وسلم- بشأن القصص، فحفظت لنا دواوين
السنة طائفة من قصه -صلى الله عليه وسلم- عليهم من قصص الأمم الماضية
وأخبارهم.
ولم تكن قصص القرآن أو السنة قاصرة على أنباء الصالحين وأخبارهم، بل
شملت مع ذلك قصص المعرضين والفجار للاعتبار بما أصابهم.
كل ذلك يؤكد أهمية القصة ودورها التربوي الدعوي مما يجدر بالدعاة أن
يعتنوا بها ويستخدموها في دعوتهم وخطابهم للناس.
إنها تحمل عنصر التشويق والإثارة، ويُقبل عليها المستمع والقارئ بعناية
وإنصات، وهي كذلك تقدم البرهان على تأهل المعاني المجردة إلى التطبيق على
أرض الواقع، وتبرز النموذج والقدوة الصالحة، وتزيد المرء إيماناً بقدرة الله
تبارك وتعالى وسائر صفاته.
وتبدو أهمية ذلك بشكل أكبر في تربية الناشئة وخطابهم؛ إذ يعاني شباب
المسلمين اليوم وفتياتهم من غياب القدوة الصالحة، ومن بروز النماذج والقدوات
السيئة والإعلاء من شأنها وتبجيلها لدى الناس.
ومع أهمية القصة وعلو شأنها إلا أنه ينبغي أن يراعى في ذلك أمور عدة،
منها:
- أن تُعرَض وتُستخدَم في الخطاب بالقدر المعقول؛ فلا تكون هي اللغة
الوحيدة في الخطاب، أو تكون على حساب غيرها.
- الحذر من القصص الواهية والأخبار التي لا زمام لها ولا خطام؛ إذ إن
النفوس كثيراً ما تتعلق بالغرائب وتجنح إليها، والقليل منها هو الذي يثبت عند
التحقيق والنقد العلمي.
- أن تأخذ أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وقصصه، وأخبار الرعيل
الأول من سلف الأمة مكانها الطبيعي، وألا تطغى أخبار من بعدهم من المتأخرين
ممن تعرف منهم وتنكر.
- أن البشر مهما علا شأنهم وارتفع قدرهم، ومهما بلغوا المنازل العالية من
الصلاح والتقى فلن تكون أعمالهم حجة مطلقة، بل لا بد من عرضها على هدي
النبي؛ كما يروي بعضهم في مقام الصبر أن شيخاً قام يرقص على قبر ابنه حين
توفي رضًى بقدر الله على حد زعمه، وخير من ذلك هدي النبي -صلى الله عليه
وسلم- الذي تدمع عينه ويحزن قلبه، ولا يقول إلا ما يرضي ربه، وهديه -صلى
الله عليه وسلم- القولي والعملي في النوم والقيام خير مما يروى عن بعضهم أنه
صلى الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا من السنوات، وهديه في تلاوة القرآن خير
مما يروى عن بعضهم أنه يختم القرآن كل ليلة، مع التماسنا العذر لمن كان له
اجتهاد من سلف الأمة في ذلك.(136/40)
ندوات ومحاضرات
تجديد البعد العقلي
د. عبد الكريم بكار
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل، ولها بعدٌ
اجتماعي عظيم الأثر في وجودها. وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها
ينعكس عليها جميعاً، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها
جميعاً.
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط
لتنمية كل شيء في الحياة: التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات ...
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية؛ حيث إن الرؤية
الإسلامية تؤسس مقولة: (الإنسان أولاً) . أضف إلى هذا أن التقدم المادي
والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً، على
حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً.
إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة، هي أكثر
مما يظن. ويمكن القول: إنه أشبه بعملاق نائم! وقد دلّت الدراسات النفسية
والتربوية، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات
العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية. الحاسب الآلي (كراي) حاسوب
عملاق يزن سبعة أطنان، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة
عام، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة
[فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ] [المؤمنون: 14] .
يمكن القول: إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات
التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها،
ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب ... وهذه متفاوتة بين الأشخاص
متساوية على نطاق الأمم.
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا
تختلف بين شخص وآخر، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين، وإدراك أن
الكل أكبر من الجزء، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان.
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة، وهذا في الحقيقة
يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها
استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم ... وهذا النوع من
المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها.
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه: (العقلانية) . وبما أن
(الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى، فإن
المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها. ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة. ولعلنا نستشف هذا من النسق
القرآني؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة
والكتاب في موطن واحد، يقدّم الكتاب أولاً، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير
(الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية، وحتى تتخلص من
النسبية التي تضفيها عليها الثقافة.
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية؛ فهي باعتبارٍ مّا
انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من
البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح،
ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه.
شروط للتجديد:
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي
عن بعض المألوفات، كما يرتب تكاليف جديدة، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات،
ولهذا كله كان شاقاً على النفس.
إن أول شرط من شروط التجديد: هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد،
والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد. إن التجديد المستمر كبير التكلفة، ومفتاح معايشته هو أن
يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير، ويمثل الفلك الذي تدور فيه
جميع المتغيرات، وتخدمه.
والشرط الثاني: هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية
التي نرنو إليها.
والشرط الثالث للتجديد: أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية
والنفسية والسلوكية، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام
والكسل الذهني، والإخلاد إلى المألوفات.
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة، وباكتشاف
الإمكانات، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا، وتحسّن مستوى محاكمتنا
العقلية؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي:
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم، وأن
بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً
سيئة عنه. والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت، وهناك توافق بينها. والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد،
وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً. ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على
الإنسان. في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة
الوحيدة الصحيحة، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها. والحقيقة أن الأمر
ليس كذلك؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ، فالمألوف أن
تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من
بعضها الآخر. كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة
المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة، وكثير منهم خسروا أنفسهم، بما أهملوه من
شأن آخرتهم.... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر
والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي ... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد
أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها؛ فالمهم ليس
الصعود إلى القمة، وإنما كم يمكن البقاء عليها، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في
تصورنا للقمة، وأن تكون الحقيقة غير ذلك؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم،
بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة، وأن نبحث عن مجالات جديدة.
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه: كيف أستطيع أن أفكر في هذا
الأمر بطريقة أخرى؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه؟ وما وجهات النظر
الأخرى حياله؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى
آخر.
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله
هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا، وهذا
الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد، والحرمان من مشاركة
غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة.
2- النظرة المتعمقة:
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل
في النهاية محدوداً. وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة، أي
هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب
ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات ... ولذا
فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج
إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على
وجه الإثراء والتوسيع، أو على وجه الانتهاك والتأويل. وهذا يعني أن علينا ألا
ننتظر الفوز برؤية نهائية، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات؛
فالأعمال العقلية المتزايدة، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد؛ فالنكوص
والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات
جانبية شديدة الخطورة، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم
الأخلاقية؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها
مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد
والنمو الصحيح، وإحقاق الحق، وتجسيد القيم النبيلة ... فهناك أيضاً المصالح
والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة ... وكل ذلك يجعل من
ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها. وهذا يعني أن علينا حتى
نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا،
وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا؛ حيث النقص شيء ملازم لنا. وليس
المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة، وإنما مداومة فضح الممارسات
الفكرية الخاطئة، وكشف زغل أعمال العقل؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً
نستحوذ عليه، وإنما هو شيء نناهزه، ونحاول الاقتراب منه. وما لم نتعامل مع
منتجاتنا الفكرية والمعرفية، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو،
فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر، أو يصبح
موضع تساؤل.
3- التفكير المتوازن:
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي
المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة، وأحكام
صائبة. وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي:
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه. ولا بد أن يكون على وعي
بنوعية المعلومات المتاحة؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات: طبقة المعلومات
الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع، وطبقة المعلومات
المعتقَدة لبعض الأشخاص، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم.
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير. أما المعلومات
الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها.
ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث، ونحن نحاول
عدم الاعتراف بها، وأحياناً لا نكون على وعي بها، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير، وتوجهه على نحو غير سويّ. المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم
سلبية إلى منطقة الوعي، ونعترف بها، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير.
ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع
النظر. والتفكير الناقد هو تفكير منطقي، لكنه سلبي، وهو كثيراً ما يكون مبنياً
على حقائق وصادقاً، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً. وعلينا أن نتذكر
أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن
المراجعة وإعادة النظر، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه. وهذا لا يُنسينا أيضاً أن
النقد شديد الإغراء؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء، ولذا فينبغي
الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره. ولعل خير ضمانة لذلك هو
أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها.
د- في مقابل التفكير الناقد، هناك التفكير الإيجابي، وهو التفكير الذي يركز
على الإيجابيات؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير
الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على
كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة. تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع
الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية. والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى
جوانب النفع الخفية، وبذلك يسبقون غيرهم. إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى
يفتح باب آخر، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن
الباب الذي فُتح! ومع هذا فلا بد من القول: إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي
والاندفاع المتفائل المتهور، هو خط ضيق، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل
متوفرة دائماً.
هـ لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من
معطيات ناقصة حلولاً جيدة، أو رؤى ناضجة. ولا بد من القول: إن أكثر التفكير
الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات، مثل المنطق والإحصاء
والرياضيات، وتنسيق المعارف ... أما التفكير الإبداعي، فإنه يحاول إيجاد أشكال
جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط. التفكير المبدع
يحتاج إلى الوقت؛ والعجلة هي عدوه الأول. وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل
الذي يظهر لنا لأول وهلة؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة
لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف. والمطلوب هو أن نوفر الوقت
لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات، ثم نعكف على اختيار
الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا.
التفكير المعوجّ:
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع، نستخدم في الحقيقة عدداً من
العناصر البالغة التعقيد، مثل مبادئنا العقلية، وثقافتنا العامة، وعاداتنا الفكرية
والنفسية، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير؛ ثم إننا لا
نستخدم كل ذلك في فراغ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية،
تكتنف تفكيرنا في الأمور. وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً،
فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات
وأحكام راشدة. ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على
نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره.
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة، ستظل محدودة ما لم نتمكن من
تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن. وهي في
الحقيقة أشكال وألوان؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة.
1- المسلَّمات الثقافية:
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية، وتلك المسلّمات، لا تؤمّن
تسايل عمليات التفكير فحسب، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في
آن واحد. لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة
بالناس والأفكار والأحداث. وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي
على ذلك: فالشعب الفلاني محتال، والشعب الفلاني كسول، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف
والإرهاب؛ مهما تكن درجة التزامه. أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة
بالتبذير والجنس، تتخبط في الجهل، وتعشق الفوضى ... وتلك الصور الذهنية،
تشكل مشاعر الناس، وتوجه سلوكهم، وتنظم ردود أفعالهم.
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة،
والقرية الكونية، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من
المسلّمات الثقافية المتخلّفة، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي
تتسع فيه عالمية التجارة، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء!
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة:
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي
كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه، وتجعله غير قابل للنقاش؛ وحين تأتينا معلومات
تناقض ما انتهينا إليه، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها
المعلومات الجديدة بأساليب شتى. وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به،
ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه، فإننا عوضاً عن أن نحاول
التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها، فإننا نسلك مسالك عديدة
حيالها، كلها غير سويّ: فقد نقول: إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه. وقد نقول: إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف. وقد نقول: إن أبويه كانا يعاملانه
بقسوة؛ فله نوع من العذر فيما فعله. وقد نقول: إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما
لأنهما لم يكونا على معرفة بها ... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان
تُعامَل بإهمال شديد، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها، ويصبح الأمر كما لو أن العقل
ليس فيه (خانة) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة. وهذه الحالة بعيدة الأثر في
تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس. وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم
التاريخ يعود إلى هذه المسألة.
3- الضلال في تفسير الظواهر:
لو تساءلنا: هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم، أو
الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً؟
لكان الجواب من غير تردد: أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء
التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح. نجد في
خبراتنا اليومية من يقول: إن فلاناً متفوق؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء، فهو متفرغ
للدراسة. وفلان منحرف؛ لأنه نشأ يتيماً، فلم يتلق التربية المناسبة. والبلد
الفلاني ثري؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة. والشعوب الإسلامية متخلفة؛ لأنها تقع تحت
ضغوط مؤامرة كبرى ... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً
محتملة، وليست قطعية، فهناك طلاب أثرياء، ومفرّغون للدراسة، ومع ذلك
يرسبون. وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة،
وهناك وهناك ...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً،
وهو الذي يقبع خلف عدد، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة.
4- تأثير الهالة:
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في
استيعابه. وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً
بالجدارة والثقة لدى الآخرين. وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية
(الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في
معرفتها. وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون
أو العطر أو معجون الأسنان ... لأن النجم الفلاني يستخدمه، أو ظهر في إعلان
عنه. وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية،
وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين!
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة؛ فنحن نحترمها أشد
الاحترام، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها، لكن كما أن من السهل على أي واحد
أن يتاجر بعملة زائفة، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية.
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع
أو غير ذلك ... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها. هذا كله يدعونا
إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية (تقويم المعلومات) الواردة إلينا، وأن نسأل أهل الذكر
في كل علم وفن.
5- المبالغة:
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي
أيضاً، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية، ومن ثَمّ للكثير من
الانحراف. المبالغة مرض واسع الانتشار؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية؛
فالإدراك القاصر، وضعف المحاكمة العقلية، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي
تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية، والانطباعات الخاصة والخاطئة.
وللمبالغة تجليات كثيرة، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها:
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم
يتوقعون الأسوأ دائماً، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم، هو دليل على وجود
مرض خطير، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته!
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه
سيقع دائماً؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته، قال له: إنك تنسى دائماً ما
أطلبه منك. وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار، حكم بأن
تلك الإذاعة لا تصدق أبداً!
- تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين؛
حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد،
وما تنطوي عليه سرائرهم، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته؛ لأنها لم
تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها. وإذا واجه مشكلة، ولم
يتدخل فيها أحد من أصدقائه؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته،
وإنما بسبب إهمالهم له، أو شماتتهم به، وإذا نصحه شخص بنصيحة، فذاك ليس
بقصد إصلاحه، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه، وهكذا ...
- تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان؛ فترى
بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق؛ فبسبب كلمة أو
حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب. ويبدو أن هذا النوع من المبالغة، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1] ، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها، وطالما
سمعنا من يقول: إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي
شيء. ومن يقول: خطأ واحد يفسد الأمر كله.
- كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم، وهذه
الظاهرة عالمية، لكن يمكن أن نقول هذه المرة: إنها ظاهرة عربية في المقام الأول؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في
المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد،
والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه!
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما
يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد
الإنسانية المختلفة.
إن تجديد البعد العقلي، يحتمل الكثير من الكلام، لكن الوقت المتاح لا يسمح
بأكثر مما قلناه، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى.
__________
(1) ورد في الحديث الشريف: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) .(136/42)
نص شعري
إنابة
إيمان كردي
أتَاكَ يجرّ أسمالَهْ ... ويشكو بالأسى حالَهْ
سبَتْهُ زخارف الدنيا ... وأنفق في الهوى مالَهْ
وأقدامٌ به طافت ... على الحرمات جوّالَهْ
وأيدٍ طالما بطشت ... ونال بها الذي نالَهْ
وكم قد قال من قول ... تمنى اليوم ما قالَهْ
وكم سمعتْ له أذنٌ ... بدت للّغوِ ميّالَهْ
أتاك يرومُ مغفرةً ... لترفع عنه أثقالَهْ
يقول: وهل يجيب اللـ ... ـه عبداً آبقاً سالَهْ [1]
ألا من توبة تمحو ... عن المسكين إهمالَهْ
ألا فالله رحمن ... فأقبلْ تلقَ إقبالَهْ
فبابُ الله مفتوحٌ ... وترجو الناسُ أفضالَهْ
وكم من نادمٍ أرسى ... على الجنات ترحالَهْ
فتب واجهد، ولا تبصر ... من المغرور إمهالَهْ
ولا تمنعْك سيئةٌ ... فكل الناس زلاّلَهْ
وكن ممن غوى حَذِراً ... فإن الله أملى لَهْ
__________
(1) أي: سأله.(136/52)
مع الفاتنة
د.محمد بن ظافر الشهري
ويائسةٍ قد كَلِفنا بها ... لعوبٍ خؤونٍ لأصحابها
ومهما نَهُن لطويلِ المقامِ ... ترانا وقوفاً على بابها
فلم نلتفتْ لسواها ولمْ ... نُؤَدّ الحقوقَ لأربابها
ولسنا نسارعُ إلا لها ... ولا نتشبثُ إلا بها
نبادرُ حُمقاً لإضحاكها ... ونخشى مغبةَ إغضابها
ولو ضحكتْ لخبيرٍ بها ... رآها تكشرُ عن نابها
عجبتُ لها كلما (عُمّرتْ) ... زهت من تنافُسِ خُطّابها(136/53)
المسلمون والعالم
دولة فلسطين بين الصورة والحقيقة
د. يوسف الصغير
لقد تلاقت مصالح الحركة الصهيونية مع مصالح الدول الأوروبية وخاصة
بريطانيا أيام كانت عظمى في أهمية إنشاء كيان مصطنع يفصل المنطقة العربية
شرقها عن غربها؛ فبعد مؤتمر بال 1897م للجمعيات اليهودية توجهت جهود الدول
الاستعمارية المتنافسة على تقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) بتأليف
لجنة من سبع دول أوروبية رفعت اقتراحاتها إلى رئيس وزراء بريطانيا كامبل
بانرمات عام 1907م.
وتتلخص التوصيات بما يلي:
1- العمل على إيجاد حالة من التفكك والتجزئة والانقسام في المنطقة.
2- إنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول الاستعمارية وخاضعة لها.
3- محاربة أي نوع من أنواع الوحدة والاتحاد الفكري والروحي أو التاريخي، وإيجاد الوسائل العملية لتجزئة المنطقة.
4- لتحقيق ذلك يجب العمل على إقامة حاجز بشري قوي وغريب في
المنطقة بحيث يشكل قوة مناوئة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها.
ومن الواضح أن هذا التخطيط يشكل معلماً من معالم السياسات الأوروبية
عامة والإنجليزية خاصة في التعامل مع المنطقة العربية؛ فقبل احتلال الإنجليز
المدعومين بقوات الثورة العربية الكبرى للقدس بحوالي شهر أصدر (بلفور) وزير
خارجية بريطانيا وعده المشهور الذي ينص على إنشاء وطن قومي لليهود في
فلسطين.
وقد تضمن صك الانتداب الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا على تهيئة
الظروف لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين؛ مع ملاحظة أن دولة يهود قد أنشئت
من عدم؛ حيث إن وجود اليهود في فلسطين لا يُذكر؛ ومع ذلك فقد حرصت دولة
بريطانيا العظمى وعصبة الأمم على التأكيد على أن إقامة الوطن القومي لليهود
يراعى فيه ألا يمس حقوق الآخرين. ولا يخفى على عاقل أن استقدام اليهود من
أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين سيتم على حساب أهل البلد الأصليين، ولكن لا
يعدو أن يكون الأمر كذباً ونفاقاً، ويضاف إليه أيضاً أن تصرفاتهم المتتالية حتى
اليوم توحي أنهم لا يعتقدون أن الشعب الفلسطيني له حق في فلسطين وأن وجوده
حجر عثرة في إتمام مشروع الدولة الصهيونية. وبعد حوالي ثلاثين سنة من العمل
الدؤوب في تمكين وبناء مقومات الدولة اليهودية، أعلنت بريطانيا تخليها عن
الانتداب، وعرض الأمر على الأمم المتحدة (وريث عصبة الأمم) وكانت تهدف من
وراء ذلك أن يكون إعلان الدولة من قِبَل المجتمع الدولي وليس من قِبَل دولة بدأت
تغيب عنها الشمس.
ففي 14 شباط (فبراير) 1947م أعلن رئيس وزراء بريطانيا قرار حكومته
بإحالة قضية مستقبل فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة. وفي 13/11/1947م أعلنت
بريطانيا عن طريق ممثلها في مجلس الأمن وأثناء مداولات القضية في الأمم
المتحدة أنها قررت الانسحاب من فلسطين في 15 أيار (مايو) 1948م.
وكانت مظاهر التمثيل والخبث الإنجليزي هو امتناعها عن المشاركة في
التصويت على القرار، إظهاراً لنقاء الحياد.
وقد بدأ الانسحاب من فلسطين بالتدريج وبطريقة مكنت اليهود من الاستيلاء
على أمهات المدن الفلسطينية مثل حيفا وطبريا وصفد.
وعلى سبيل المثال ففي أكبر موانئ فلسطين وهو حيفا أعلن الإنجليز أنهم لن
ينسحبوا إلا بعد الأول من آب (أغسطس) 1948م، وفي هذه الأثناء منع أهل
المدينة من الفلسطينيين من إقامة أي تحصينات للدفاع عن مدينتهم مع السماح لليهود
بإقامة التحصينات وجلب الأسلحة.
وما إن أتم اليهود استعداداتهم حتى أعلن الإنجليز انسحابهم فجأة إلى منطقة
الميناء، وسلموا معسكراتهم إلى اليهود، وفتح ميناء حيفا وجهزت السفن لترحيل
الفلسطينيين من المدينة.
وكما يقول (بن جوريون) فإن سقوط حيفا كان نقطة التحول الرئيسة في فتح
الطريق نحو القدس. وفي 29/11/1947م أصدرت الأمم المتحدة قرارها التاريخي
المشؤوم بتقسيم فلسطين، وكان للولايات المتحدة دور كبير في الضغط على الدول
المستضعفة لتأييد القرار الذي ينص على تقسيم فلسطين إلى (دولة يهودية) ودولة
فلسطينية مع وضع نظام دولي خاص للقدس وضواحيها مع إنشاء اتحاد اقتصادي
بين الدولتين.
ومن أهم ملامح قرار التقسيم ما يلي:
1- منح اليهود الطارئين ويمثلون 35% من السكان حوالي 5500 ميل مربع.
2- بقي للفلسطينيين حوالي 4500 ميل مربع.
3- تقرر أن يدخل في نطاق الدولة اليهودية المقترحة جميع الأراضي
المزروعة بالحمضيات، وهي مقسمة بالتساوي من حيث الملكية بين اليهود
والفلسطينيين في ذلك الوقت.
4- يدخل في نطاق الدولة اليهودية أيضاً 80% من الأراضي المزروعة
بالحبوب مع أنها مملوكة للفلسطينيين.
5- تضم الدولة اليهودية المقترحة 40% من مجموع الصناعات.
6- قطع الصلة بين الميناء الفلسطيني الرئيس (يافا) على البحر الأبيض
المتوسط وبين بقية أراضي الدولة الفلسطينية المقترحة.
7- فصل قطاع غزة عن أراضيه الزراعية في النقب.
8- منع الاتصال المباشر مع سوريا والبحر الأحمر.
إن القرار يمثل انتصاراً للحركة الصهيونية ومشروعها السياسي لإقامة دولة
(إسرائيل) ، وقد قَبِلَ الصهاينة مشروع التقسيم باعتباره خطوة تكتيكية. ويمكن ...
القول إنه على الرغم من عدم مشروعية القرار فإنه يعد أول اعتراف دولي بحقوق
الشعب الفلسطيني؛ حيث نص على إقامة دولة عربية لعرب فلسطين.
لقد سارع اليهود إلى إعلان قيام دولتهم مما أدى إلى حرب 1948م التي نتج
عنها مزيد من المكاسب لليهود ومزيد من اللاجئين الفلسطينيين.
تحولت القضية بعد قيام دولة (إسرائيل) وانضمامها إلى الأمم المتحدة بعد عام
من تأسيسها إلى مجرد قضية لاجئين؛ حيث إن دولة فلسطين لم ترَ النور؛ فقد تم
مؤقتاً وضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، أما الضفة الغربية وشرقي القدس
فقد تم ضمهما للأردن، وأعلن دمج الضفة بشرق الأردن ابتداء من عام 1950م
عبر ما يسمى بالاتحاد الدستوري للشعب العربي في الضفة الغربية والأردن في
نيسان (إبريل) 1950م.
لقد كان ذكر الدولة الفلسطينية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في
القرار (181) لازماً لتمرير تأسيس الدولة اليهودية التي أعلنت بعد منتصف ليلة
14/15 أيار (مايو) 1948م، واعترفت بها أمريكا بعد ذلك بعشر دقائق!
أما دولة فلسطين الموعودة فقد تم تناسيها بسرعة، وتمت التغطية على ذلك
بالتركيز على مشكلة اللاجئين وقضية العودة طبقاً للقرار 194 في 11/12/1948م
الذي يؤكد على حق العودة والتعويض، وكان هذا التأكيد يتكرر في كل دورة تناقش
فيها القضية.
وفي الجانب الآخر فإن (جولدا مائير) صرحت أمام الجمعية العامة للأمم
المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1960م بقولها: (إن (إسرائيل) تعلن بكل
صراحة وبساطة أنها لا يمكن أن تسمح بعودة أي لاجئ إلى أرضه) .
ولكن نتيجة للحرب الباردة فقد حدثت تطورات في الجمعية العامة للأمم
المتحدة، فبدأت سلسلة من القرارات التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير
مصيره وإنشاء دولته المستقلة؛ ففي العاشر من كانون أول (ديسمبر) 1969م،
صدر أول قرار جاء فيه أن الجمعية العامة تؤكد من جديد حقوق شعب فلسطين غير
القابلة للتصرف.
وفي 22 نوفمبر 1974م تم أيضاً التأكيد على هذه الحقوق.
ومع الانتفاضة وإعلان المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين، في
15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988م أعلنت الجمعية العامة أنها تعترف بإعلان دولة
فلسطين، وأكدت الحاجة إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته على
أراضيه المحتلة منذ عام 1967م.
إلا أن مجلس الأمن كان له موقف مغاير؛ حيث صدر القرار 242 الذي لم
يتعرض لذكر القضية الفلسطينية صراحة، واكتفى بالإشارة إلى (مشكلة اللاجئين) .
ولا يغيب عن البال أن كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن غير قابلة
للتطبيق كما ذكر ذلك صراحة الأمين العام السابق بطرس غالي، ولا ننسى أنه
أصدر قرارات تدين الصهيونية وأنها شكل من أشكال العنصرية؛ ولكن سرعان ما
تم إلغاؤها رسمياً بعد التفرد الأمريكي بالقرار.
المهم أن الدولة الفلسطينية لم تكن هدفاً استراتيجياً له الأولوية؛ بل كان أقرب
إلى الشعار السياسي.
فبعد حرب 1948م وقيام دولة اليهود تم الالتفاف حول مشروع الدولة بقصد
أو بغير قصد حتى يكاد يخيل للمرء أن ضم الضفة الغربية للأردن أقرب ما يكون
إلى مكافأة الملك عبد الله على دوره في حرب 1948م؛ حيث قام الجيش الأردني
بتسليم مناطق واسعة لليهود دون قتال وكأنها ناتجة عن اتفاق ما. إن مناقشة أمر
الدولة الفلسطينية المقترحة لا يمكن أن يفصل عن العلاقة الأردنية الفلسطينية.
أما إعلان ياسر عرفات قيام دولة فلسطين عبر إعلان الجزائر في نوفمبر
(تشرين الثاني) 1988م حيث عقد المجلس الوطني الفلسطيني الذي أعطى اليهود
صك الاعتراف ورضي بإعلان دولة فلسطين في اللامكان، ومع اعتراف (124)
دولة بها فإنه سرعان ما نسيت المنظمة نفسُها هذه الدولة، وأعلن عرفات أنه سيعلن
الدولة في 4 مايو (أيار) 1999م رضي بذلك من رضي، أو سخط من سخط. فما
هي إمكانيات قيام الدولة، وعلى أي أرض ستقام؟ !
لقد كان شعار المنظمة الفلسطينية هو: (تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر
إلى البحر) وبعد عام 1967م بدأت النبرة تتراجع، وبدأ يتكرر كثيراً: (الانسحاب
من الأراضي المحتلة عام 1967م) وهذا يشعر بشرعية اغتصاب اليهود لأكثر من
75% من أراضي فلسطين.
وقد كان إعلان الجزائر صريحاً بتحديد حدود الدولة بالضفة والقطاع فقط؛
ومع ذلك وبعد اتفاقيتي أوسلو وواي ريفر، فإن الرقعة تقلصت إلى حوالي 4 10%
وهي مناطق حضرية مزدحمة بالسكان تقطع الاتصال بينها خطوط إسرائيلية أنشأها
اليهود بدعوى أمن المستوطنات المتناثرة التي أقاموها في الضفة الغربية المحتلة.
إن هذا التراجع في مفهوم الدولة بالنسبة لمنظمة التحرير أو وريثتها السلطة
الفلسطينية قابلة لتراجع آخر من جانب اليهود أملته ظروف الانتفاضة واستحالة
التعايش مع خطورة العامل البشري، واختلال التوازن السكاني مع مرور الوقت
بعد أن كان اليهود يرفضون الحديث عن حق الشعب الفلسطيني بل ويكابرون بأن
فلسطين كانت خالية من السكان، وأن الفلسطينيين طارئون عليها، ويدبجون في
ذلك المقالات الطوال، أما عندما يتحدثون عن حل مشكلة الفلسطينيين فإنهم
يتحدثون عن أن دولة فلسطين قائمة بالفعل، وهي الأردن، ويستشهدون على ذلك
بقيام الاتحاد الدستوري وإدارة الأردن للضفة، وحملِ الفلسطينيين في الضفة
الوثائقَ الأردنية حالياً، وأن أغلبية سكان شرق الأردن هم من أصل فلسطيني؛
وهذا الطرح قديم ويؤيده حالياً بقوة (شارون) وزير الخارجية الحالي وأحد أقطاب
الحكومة القائمة، ولهذا لوحظت حساسية الملك حسين من هذا الطرح وإحساسه
بخطره على الرغم من صلته الحميمة مع زعماء اليهود، فقد كان يكرر كثيراً ذكر
الأخطار المحدقة بالمملكة الهاشمية، وقد سارع بفك الارتباط مع الضفة الغربية
حتى لا يتم الحل على حسابه، وكانت الفيدرالية التي يطرحها عرفات مثار كثير
من القلق لدى الملك؛ حيث إنه يعرف أنها ستكون على حسابه. وقد يكون دعم
حسين لحماس سياسياً ينبع من قناعته أن عرفات قد يقبل بدولة فلسطينية تكون فيها
الأردن هي الأساس؛ بينما هو مطمئن إلى أن طرح حماس المبدئي يتجه نحو
فلسطين الواقعة غرب النهر.
هل عرفات جاد في إعلان الدولة؟
لقد كان من نقاط ضعف عرفات الرئيسة حبه للسلطة وافتتانه بمظاهرها؛
وهذا واضح لمن يتابعه في مراسم الاستقبال والتوديع الكثيرة التي يستمتع بها،
بالإضافة إلى حرصه منذ أمد بعيد على التوسط في الصراعات المختلفة ليضفي
على شخصه أهمية قد لا يكون متمتعاً بها، وكان إعلان قيام الدولة الفلسطينية في
الجزائر فرصة لجولات مكوكية يُستقبل فيها استقبال الرؤساء، وتعزف له
الموسيقى، والأهم أن يُدعى: (الرئيس الفلسطيني) . وقد فتر الحماس بعد فترة من
الزمن؛ فقد كان الشعار المرفوع وإعلان الدولة مجرد مسوّغ وطُعم لقبول قضية
أخطر، وهي الاعتراف بدولة إسرائيل؛ ولهذا سرعان ما قَبِلَ رئيس الدولة
بمنصب رئيس السلطة، وعادت نغمة: الزعيم الفلسطيني أو رئيس السلطة.
ولم يفُت الزعيم الفلسطيني المتمرس الضارب على الوتر الحساس نفسه؛ فقد
كان يعلن ويصرح أن السلطة هي المرحلة الأولى لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة
التي عاصمتها القدس؛ مع أن اليهود يكررون أن القدس الموحدة هي عاصمة
دولتهم الأبدية كما يزعمون فقد كانت التصريحات الاستهلاكية رائجة ومقبولة
لمخاطبة غوغاء الناس وعوامهم.
أما حقيقة دور السلطة وانحصاره في إدارة المدن الفلسطينية التي عجز عنها
اليهود أيام الانتفاضة مع تحديد صلاحياتهم وتجريدهم من حرية السفر والانتقال
حتى بالنسبة لياسر عرفات الذي كان أكبر ما حصل عليه هو عدم تفتيش طائرته
الرئاسية عند هبوطها في مطار غزة.
إن سلطة الحكم الذاتي تعتمد اعتماداً شبه تام على المساعدات الخارجية التي
تدفع نيابة عن اليهود وبرضاهم، ولا يتصور أن عرفات جاد في إعلان الدولة؛
لأنه لم يقم حتى بجهد دبلوماسي واضح لدعم هذا الإعلان بل اقتصر على إعلانات
دعائية، ثم يتراجع عن الموعد المحدد بشرط وعد من بعض الدول بتأييد إعلان
الدولة في موعد لاحق. ولا يفوت الإشارة إلى موقف الرئيس الأمريكي كلينتون
الذي وصف إعلان الدولة من جانب واحد بالكارثة، أما اليهود فقد بلغ بهم
الاضطراب والفزع من الإعلان الصوري أنهم هددوا بإعادة احتلال مناطق السلطة.
إن مواقف اليهود المتشنجة من هذا الإعلان تبين أنهم ينظرون للسلطة
الفلسطينية على أنها مؤقتة فرضتها ظروف الانتفاضة والانتقال إلى صفة الدولة؛
وهذا يمثل تطوراً سلبياً وتراجعاً في أحلامهم حتى ولو على المستوى النظري؛ فقد
بذلوا الكثير من أجل إبعاد شبح قيام كيان مستقل للشعب الفلسطيني، ونزعوا صفة
السيادة عن السلطة الفلسطينية.
والخوف هو أن يجتمع زعماء اليهود مع رجال السلطة الفلسطينية على الحل
الوسط المتوقع الذي يمكن أن يقبل به الطرفان وهو إقامة دولة فلسطين على جزء
صغير ومبعثر في الضفة مع القطاع ومتحدة فيدرالياً مع الأردن؛ ولا يخفى تطلّع
اليهود إلى هذا الحل، أما ياسر عرفات فقد عرضه فعلاً على ملك الأردن الجديد
قبل أن يجف ثرى أبيه.
إن إعلان الدولة مسألة وقت ليس إلا ذلك، ولكن المهم هو: أين ستقام هذه
الدولة، وما هي مهمتها؟
إن الدولة الجديدة ستمثل الحاجز الواقي لإسرائيل من جهة الشرق، والأهم
من ذلك أنها ستكون الحل الأمثل لمشكلة اللاجئين الحاليين والمتوقعين؛ حيث لا
يستر اليهود خوفهم على مستقبل الدولة ونقائها العنصري من تزايد نسبة
الفلسطينيين التي لا يقابلها أي تزايد في أعداد المهاجرين اليهود.
إن اليهود في سباق مع الزمن لتوطيد أركان دولتهم والحفاظ عليها من الهزات
المتوقعة، وإن ما يسمى بخيار السلام هو خيار استراتيجي وضروري لأمنهم،
ولكنهم لا يريدون دفع كل تكاليفه ومنها إرضاء عرفات بدولة رمزية صورية.
إن سيطرة اليهود على مقاليد السلطة في أمريكا وروسيا لا يتوقع لها
الاستمرار طويلاً مع نمو المشاعر المعادية لليهود، ولهذا فلا يمكن التعويل على
الدعم الخارجي غير المحدود؛ بالإضافة إلى تزايد الوعي الإسلامي الذي يتقدم
شعبياً بقوة على حساب التوجهات العلمانية المهادنة أو المتحالفة مع اليهود في الوقت
الحاضر.
إن طروحات عتاة الصهاينة في حزب العمل دائماً متقدمة على الليكود؛ ولهذا
نرى أن حزب العمل يقبل حالياً بفكرة إقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها مؤقتة ولكن
على جزء بسيط من الضفة والقطاع، ولا أظن أن نتنياهو وحزبه يملكون البديل
الواقعي.
استغل الإنجليز هيمنتهم على المنطقة بتوطيد دعائم دولة يهود واستغلوا هيئة
الأمم المتحدة لترسيخ الكيان واقعاً جديداً
الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره
وإنشاء دولته لكن مجلس الأمن له موقف مغاير تماماً
الدولة الفلسطينية لم تكن هدفاً استراتيجياً بل كانت أقرب للشعار السياسي فقد
أعلنت 1988 وما زال الزعيم يهدد بإعلانها.(136/54)
المسلمون والعالم
الإسلام في نظر مسؤول إنجليزي معاصر
د. جلال الدين صالح
ألقى وزير الخارجية البريطاني (روبين كوك) كلمة عن علاقة الغرب وخاصة
بريطانيا بالإسلام في الآونة الأخيرة، وكانت تلك الكلمة بتاريخ 8 أكتوبر 1998م،
وألقاها عند زيارته للمركز الإسماعيلي بلندن. وقد مست الحاجة إلى التعليق على
تلك الكلمة حتى لا تحمّل أكثر مما تحتمل، وقد جاءنا تعقيب من الدكتور جلال
الدين صالح على تلك الكلمة، و (·البيان) تنشر الكلمة وتنشر التعقيب.
كلمة الوزير البريطاني:
(من دواعي سروري أن أتيحت لي الفرصة لزيارة الجالية الإسماعيلية
ولزيارة مركزها الرائع أيضاً. فهذا المركز هو جوهرة من تحف المعمار الإسلامي
وأجمل مذكّر لنا في صميم مدينة لندن بأن جذور ثقافتنا ليست يونانية أو رومانية
الأصل فحسب بل هي إسلامية أيضاً. فالفن الإسلامي والعلوم والفلسفة الإسلامية قد
ساعدت على تشكيل تطورنا، وعملت على تكييف نمونا أفراداً، وتداخلت في كيفية
تفكيرنا وطريقة معيشتنا؛ فالأرقام الإسلامية ما زالت معنا وهي التي علمتنا طريقة
العد الصحيحة.
إن ثقافتنا مدينة للإسلام بديْن يجدر بالغرب أن لا ينساه، ونحن نقوم حالياً
بتطوير علاقاتنا مع العالم الإسلامي. وقد سمحنا للأيام أن تبعد بعضنا عن بعض،
وسمحنا لسوء التفاهم وعدم الثقة أن ينموا ويكبرا ويفرقا بين الغرب والإسلام.
يجب أن لا ندع سوء التفاهم بيننا يستمر ويتواصل؛ ذلك لأنه أصلاً من
الخطأ أن تصدر ثقافتان عظيمتان حكماً جائراً بعضهما على بعض بهذه الصورة
المؤسفة.
ثم إنه في عالم اليوم ليس لدينا أي خيار أو مفر من العيش معاً والعمل
متآزرين بسلام ووئام. إن التحديات التي نواجهها هي تحديات عالمية؛ وذلك من
شأنه أن يؤثر على الشرق الأوسط بالقدر الذي يؤثر به على أوروبا أيضاً.
والشباب في طهران أو القاهرة هم ضحايا تجارة المخدرات مثل ما هو الحال في
لندن أو أدنبرة. وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط يقلق أوروبا بصفتها أقرب جار
للمنطقة مثلما يقلق المجتمع الإسلامي. فالخيار هنا هو إما أن نعمل معاً متضافرين
وننتصر معاً أو نترك عدم الثقة والتوجس والخيفة فيما بيننا على ما هي عليه
وتكون النتيجة من ذلك كله أن نخسر جميعاً.
وبعضهم يقول: إن الغرب بحاجة إلى عدو! وبما أن الحرب الباردة قد ولّت
إلى غير رجعة فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتي القديم واعتباره عدواً.
ويقولون إن (صراع الحضارات) قادم لا مفر منه. وأنا أقول: إنهم مخطئون بل
ومخطئون خطأً فادحاً؛ فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً بل نحن بحاجة إليه
صديقاً. فقد تكون الحضارات التي لدينا مختلفة، وقد تكون الديانات أيضاً مختلفة،
ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نتعايش معاً، وأن ننسجم معاً.
وهكذا علينا أن نتعاون معاً لدحر هذه النبوءة. يقول القرآن الكريم في سورة
الحجرات: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] .
وبوحي هذه الإرشادات الكريمة علينا أن نعمل معاً لتحسين التفاهم بيننا
وتفكيك تلك الصور الخاطئة والمشوّهة التي يرسمها بعضنا لبعض للتخلص تماماً
من مشاعر عدم الثقة التي تضر بالجميع.
كلّ يرى الآخر على صورة بدائية مشوهة:
يرى أحدنا الآخر إلى حد كبير عبر الصورة المبسطة والمشوهة والخطيرة
التي يرسمها بعضنا لبعض؛ فالإسلام يرى أن الغرب مادي يُفتقد فيه احترام
الروحانية، وعلى أنه عدو للإسلام وعاقد العزم على استعمال قيم الغرب المتحررة
لتقويض المجتمعات الإسلامية. والغرب من ناحيته يساوي الإسلام بالأعمال
المتطرفة التي يقوم بها البعض؛ فعدد كبير من وسائل الإعلام هنا لا يرى الإسلام
ثقافة غنية جليلة مزدهرة ومتنوعة تدعمها ديانة من أعظم الديانات في العالم، بل
يرون أنه الأعمال الإرهابية التي يرتكبها القلة باسم الإسلام.
إن كلتا النظريتين في غير محلها؛ فالحقيقة أن أسامة بن لادن لا يمثل وحده
الإسلام، كما أن الذين ارتكبوا عملية (أوما) الإرهابية لا يمثلون قيم الغرب.
والقائل: إن ثقافاتنا غير متجانسة هو مخطئ؛ فإن هناك قدْراً كبيراً من المعارف
يمكن أن يتعلمها بعضنا من الآخر.
الإسلام يسهم في ثقافة الغرب:
الغرب مدين للإسلام بالشيء الكثير؛ فالإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات
عديدة مهمة وكبيرة في الحضارة الغربية. فمن الأرقام العربية التي نستعملها، إلى
فهمنا للأفلاك؛ فإن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود الفضل فيها إلى العِلم
الإسلامي.
ومن أكبر الأخطاء التي يمكن للغرب أن يرتكبها هو الظن بأن الثقافة
الإسلامية شيء غريب عنا؛ فهي ليست كذلك البتة؛ فإن ثقافتينا قد تشابكتا معاً
عبر التاريخ والأجيال، وهما تتشابكان أيضاً في وقتنا الحاضر، ويجب أن تستمرا
في التشابك كلما أصبح مستقبل كل منا مرتبطاً بالآخر.
وفي الأسبوع الماضي قلت لمؤتمر حزب العمال بأن من أهم التحديات
الجوهرية التي نواجهها في هذه الأيام هي كيفية تشكيل علاقة إيجابية مع العالم
الإسلامي. وهذه من المسائل الرئيسة التي تشغل تفكيري بصفتي وزيراً للخارجية.
بداية عهد جديد مع إيران:
أرى أننا نسير قُدُماً وبنجاح في هذا المجال؛ فنحن نقوم بتذليل بعض العقبات
الرئيسة التي تعكر الجو بين الغرب والعالم الإسلامي واحدة تلو واحدة؛ ففي
نيويورك عقدتُ منذ أسبوعين محادثات مع الدكتور كمال خرازي وزير خارجية
إيران، وكانت هذه المحادثات مختلفة عما يجري عادة بين وزراء الخارجية. فقمنا
سوياً بإعطاء العلاقات بين إيران وبريطانيا بداية جديدة.
وقد أوضح الدكتور خرازي بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو
تسمح به الحكومة الإيرانية. ولكن أبعاد هذه القضية تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي
تعني أنه يمكن لبريطانيا وإيران أن تعملا معاً لمواجهة التحديات المشتركة على حد
سواء. فمثلاً سيزداد التعاون العملي فيما بيننا ضد تجارة المخدرات. وسيصبح
الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل.
إن مفاوضاتنا مع الأمريكان في الربيع الماضي بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي
قد أزالت فتيل الخطر عن التجارة بين أوروبا وإيران بموجب قانون العقوبات
الاقتصادية ضد إيران وليبيا الذي سنته الولايات المتحدة، وستنفتح الأبواب أمام
فرص جديدة عديدة للتجارة والاستثمار بين الجانبين وتكون مفيدة للطرفين.
حان الوقت لإجراء حوار جديد:
نحن نسير على الدرب الصحيح لحل المشكلات العالقة بيننا. وهكذا فقد آن
الأوان للبدء ببناء التفاهم والثقة اللتين نحن بأمسّ الحاجة إليهما. اليوم أريد أن
أقترح أن نبدأ حواراً جدياً بين أوروبا والعالم الإسلامي فقد حان الوقت ليبدأ الاتحاد
الأوربي ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالكلام معاً على أعلى مستوى ممكن، ويتحاور
أعضاؤهما حول العديد من القضايا التي تهم الجانبين.
دعونا نتكلم عن البلقان، وعن عملية السلام في الشرق الأوسط، وعن
أفغانستان، وعن الإرهاب وحقوق الإنسان ومعاملة الأقليات؛ لأنه بالحوار البنّاء
فقط يمكننا أن نتعلم كيف يفهم أحدنا الآخر ويثق به.
ولكن مثل هذا الحوار يجب أن لا يقتصر على الديبلوماسيين أو حتى على
وزراء الخارجية. فأنا مثلاً أنعم بمركز مهم ومكتب وثير، ولكن الأهم من هذا
وذاك والذي لا يحيد نظري عنه هو مصلحة الأمة وخير الشعب، ثم لا شك عندي
أن العلاقات المهمة حقاً هي تلك العلاقات التي تكون بين الشعوب.
وهكذا فإن الحوار الذي علينا أن نجريه بين أوروبا والعالم الإسلامي يجب أن
يكون بين شعوبنا أيضاً. يجب على المعلمين من الجهتين أن يتكلموا معاً، وكذلك
الفنانون والمعماريون والمثقفون. يجب أن يتكلم هؤلاء بعضهم مع بعض وعلى
جناح السرعة؛ لأن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نكسبه من قيامنا بذلك، كما
أن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نخسره لو أننا لم نقم بذلك.
إن قدْراً كبيراً مما ذكرناه يجري تحقيقه فعلاً في الوقت الحاضر؛ فلدى
بريطانيا معاهد علمية راقية تقوم بنشاطات ممتازة في هذا المجال. وهناك جماعات
خاصة تساعد على إعادة التوازن في هذا المجال. ولكن لن نحرز التقدم الذي نحن
بحاجة إليه حتى يبدأ المؤثّرون على الرأي العام من الجاذبين في وسائل الإعلام
والتعليم وغيرهما بتحطيم تلك الصور المبسطة والمشوهة، والقضاء على
الانطباعات المضلّلة التي تقع في صميم النزاع بين مجتمعينا وتسبب التنافر بين
ثقافتينا.
تقوم وزارة الخارجية بأداء دورها في هذا المجال، ومن ذلك أن زميلي
(ديريك فاتشيت) ، وزير الدولة يجري محادثات دورية مع قادة الجالية الإسلامية في
بريطانيا لتبادل وجهات النظر، وترعى وزارة الخارجية تبادل الزيارات بين الطلبة
والندوات العلمية والمؤتمرات المعدة لإزالة الحواجز والعوائق بين الثقافات.
ووزارة الخارجية قائمة على مشروع تحديث لأنظمتها حتى تصبح فعالة حقاً
في هذا المجال. فيجب على وزارة الخارجية أن تكون ممثلة أكثر من السابق لكل
ما يمكن أن تقدمه بريطانيا من تراث فكري وتنوع عرقي. وهكذا فإن وزارة
الخارجية تشجّع المسلمين البريطانيين الأذكياء من كافة مجالات الحياة أن يأخذوا
بعين الاعتبار السلك الديبلوماسي ويلتحقوا به كمهنة لهم؛ فهم سيلاقون ترحيباً من
جانبنا؛ لأنه بإسهام المسلمين البريطانيين المخلصين إسهاماً فعالاً يمكننا أن نقول
بأننا قد وسعنا البعد الإسلامي في سياستنا الخارجية.
لدى بريطانيا ميزتان في علاقتها مع العالم الإسلامي: فنحن نشترك معاً في
ألف عام من التاريخ المشترك مع أنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً. ولدينا في
بلادنا مجتمع مسلم مزدهر؛ ففي بريطانيا أكثر من تسعمائة مسجد. ويحق الآن
للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من الدولة، كما أن حوالي مليون ونصف
مليون مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع البريطاني.
والمسلمون البريطانيون يؤدون دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والسياسية
والاقتصادية للأمة وهو دور آخذ في الازدياد المستمر؛ فإن مقدرتهم في الأعمال
التجارية تساعد على دفع الاقتصاد البريطاني وتقويته، وشغفهم بالعلم ومحبتهم له
ينعكس في الإسهامات التي يقدمونها للمهن في بريطانيا، وأكلاتهم المميزة اللذيذة قد
تركت انطباعاً عميقاً ودائماً على الحياة البريطانية. وفي عالم اليوم يمكن لبريطانيا
أن تستفيد إفادة متزايدة من كونها مجتمعاً متعدد الثقافات والأعراق.
الجالية الإسماعيلية جسر فريد من نوعه:
ولذلك فأنا سعيد بزيارتي لكم اليوم؛ لأن الجالية الإسماعيلية تشكل جسراً
فريداً من نوعه بين الغرب والإسلام؛ فالجالية منتشرة في كافة أنحاء العالم، وهي
موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها، ولكن أينما حلت فهي تتمسك تمسكاً
قوياً بالقيم السامية لتقاليدها وهي: الاتحاد، والاعتماد على النفس، وتقديم الخدمات
عند كل المناسبات. فأنتم بهذا المسلك تنسجمون مع البلد الذي تقيمون فيه،
وتزيدون من تراثه الفكري وتقومون بكل ذلك من دون تخفيف أو تقليل أو إجحاف
بهويتكم الفريدة.
رجاؤنا الآن وأملنا هو أن يتمكن الغرب والإسلام من التعايش معاً في وئام
وسلام، وفهم الواحد منا للآخر فهماً سليماً وتعلم بعضنا من بعض، وبناء الثقة بين
مجتمعاتنا. وأملنا أيضاً أن نزيد من ثراء البعض فكرياً وإنسانياً واجتماعياً من دون
أن نفقد هويتنا المستقلة. ولا شك أن الجالية الإسماعيلية قد أثبتت مع الزمن أن
تحقيق ذلك أمر ممكن فعلاً) . اهـ
التعليق على كلمة (كوك)
الوجود الإسلامي في أوروبا ومسار الحوار مع الغرب:
لم تعد أوروبا بالرغم من سلطان الكنيسة وتأثيرها المحدود كما كانت من قبل
خالصة للأجراس والصلبان، بل علتها مآذن المسلمين، وتناثرت عليها مراكزهم
الثقافية أسوة بسائر معابد الملل والنحل الدينية، ولم يعد الوجود الإسلامي فيها حكراً
على فئة دون أخرى، بل بات جامعاً كل أطياف اللون السياسي والعرقي، وشاملاً
كل التوجهات المنتسبة إلى الإسلام باستقامة واعتدال أو زيغ وضلال.
والطائفة الإسماعيلية هي إحدى فرق الرافضة الناشطة في الساحة الأوروبية
بشكل عام وفي بريطانيا بشكل خاص، ولقد زار وزير خارجية (بريطانيا) (روبين
كوك) في 8/10/1998م مركزها بلندن حيث ألقى هناك خطابه الذي حمل عنوان:
(حوار جديد مع الإسلام) وقد ضمنه قضايا عديدة ثقافية وأخرى سياسية، مؤكداً
حتمية تأثر مصالح كل من الغرب والشرق الإسلامي بما يؤثر على كل منهما من
مؤثرات إيجابية أو سلبية، وداعياً من أجل تحاشي المؤثرات الضارة إلى نبذ ثقافة
التعادي وإرساء وإيثار ثقافة التلاقي والتجاوز، والتحرر من هيمنة الرؤية التآمرية
التي سوف يؤدي بقاء سلطانها لا محالة إلى خسارة الجميع، وهنا استبعد أن تكون
العلاقة بين الحضارتين الإسلامية، والغربية علاقة تصارع وتصادم، وأعرب عن
سقم نظرية صراع الحضارات قائلاً: (نحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً، بل
نحن بحاجة إلى الإسلام صديقاً) و (إن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود
الفضل فيه إلى العالم الإسلامي) .
وأشار إلى أن بناء علاقة متينة مع العالم الإسلامي هي (من أهم التحديات
الجوهرية) التي يواجهها حزب العمال الحاكم، ويحمل هو همّها بصفته عضواً في
الحزب ووزيراً للخارجية.
ثم تناول عقب ذلك مسار العلاقات البريطانية الإيرانية وما حققته من تجاوز
العقبات وتذليل الصعوبات مفيداً أن الدكتور كمال خرازي وزير خارجية إيران
أفصح له (بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو تسمح به الحكومة
الإيرانية..) مما جعله يوقن بأنه (يمكن لبريطانيا، وإيران أن تعملا معاً لمواجهة
التحديات المشتركة على حد سواء) وأنه (سيصبح الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن
يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل) .
وأعاد إنجاز المكاسب إلى وعي وإدراك أهمية التحاور في حل التناقضات
السياسية والثقافية بين الغرب والإسلام ليس على الصعيد الرسمي فحسب وإنما على
صعيد علاقة الشعوب، وحث على فتح باب الحوار بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة
المؤتمر الإسلامي حول كل ما يهم الجانبين، وخص منها بالذكر مسألة البلقان،
والسلام في الشرق الأوسط، والنزاع في أفغانستان والإرهاب، وحقوق الإنسان،
ومعاملة الأقليات كأهم قضايا تلح على إجراء المحاورة.
ونبه على ما تقوم به وزارته على الصعيد المحلي من الاتصال بقادة الجالية
الإسلامي، وحث أفرادها إلى الالتحاق بالسلك الديبلوماسي؛ لأنه كما يقول: بإسهام
المسلمين البريطانيين تكون وزارته قد وسعت بُعدها الإسلامي في سياستها الخارجية.
الحوار المنشود:
وهذه اللغة الهادئة عن الإسلام من وزير الخارجية لا تمثل نشوزاً في السياسة
الإنجليزية؛ فقبل أربعة أعوام تقريباً أدلى ولي العهد الأمير (تشارلز) بتصريحات
كهذه عن الإسلام كان لها صداها في الصحافة البريطانية والعربية، وما هي
بمستغربة من قادة هذه المملكة التي تتوكأ على موروث ضخم من الخبرة في التعامل
مع شعوب العالم الإسلامي الذي حكمت جزءاً كبيراً منه أعماراً مديدة، وأعواماً
طويلة، وقد أومأ وزير الخارجية نفسه إلى هذه الخاصية التي ميزت بلاده عن
مثيلاتها من دول أوروبا حيث قال: (لدى بريطانيا ميزتان في علاقاتها مع العالم
الإسلامي: فنحن نشترك معاً في ألف عام من التاريخ المشترك مع انه لم يكن كله
تاريخاً سهلاً، أو يسيراً) .
وحقاً كما قال إن هذا التاريخ حافل بكثير من الآلام والتآمر على مصالح
الإسلام، وحسبه سوءاً أنه كان رأس الحربة المسمومة التي طعنت خاصرة الخلافة
الإسلامية، ومهدت السبل لضياع فلسطين بوعد بلفور المشؤوم الذي جعل من حلم
اليهود واقعاً محققاً بقيام دولة (إسرائيل) ، وما فتئت آثاره، وآثامه تحرم المنطقة
الإسلامية أمنها واستقرارها، وتدفع بها من مأزق إلى آخر لا يرى فيه إلا ما يدعو
إلى الاشمئزاز والتقزز من كل دعوة حوار يطلقها الغرب، وليس هذا فحسب؛ بل
السياسة الحالية لبريطانيا لا تقف من الحق الإسلامي موقف المؤيد والمناصر، ولا
من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة موقفاً حاسماً يردعها، ويحد من أطماعها
التوسعية، بل في كثير من الأحداث نراها تقتفي أثر السياسة الأمريكية المندفعة
نحو استفزاز العالم الإسلامي سواء فيما يتعلق بأمن (إسرائيل) حيث أعلن رئيس
الوزراء (توني بلير) دون تحرّ ولا تروّ تأييد الضربة الأمريكية وتصديق مزاعمها
مما حمل الحكومة السودانية على سحب سفيرها احتجاجاً على هذا الموقف.
ولا شك أن مثل هذه المواقف تفقد دعوة الحوار التي نادى بها وزير الخارجية
جديتَها؛ لأن الحوار المنشود ليس هو ذاك الذي يكون أحد طرفيه مملياً والآخر
متلقياً، ولا ذاك الذي يشعر فيه القوي بعلوه على الضعيف، وإنما هو ذاك الذي
ينطلق من أسس العدل، وإقرار الحقوق، وخصائص الشعوب الدينية، والثقافية.
ولا أعتقد أن أحداً من قيادات الفكر والسياسة في عالمنا الإسلامي يتردد في إجراء
الحوار مع الغرب بهذا المفهوم، ولكن الواقع أن الحضارة الغربية لا ترضى في
محاوراتها للحضارة الإسلامية بأقل من الانسلاخ عن مفاهيمها الدينية، والتبعية
لأطروحاتها الفلسفية والثقافية؛ ومن هنا نجد وقوف الغرب بإصرار وإلحاح دون
إرادة الشعوب الإسلامية واقترابها من إسلامها منهجاً للحكم والثقافة؛ حتى لو تحقق
ذلك وفق آليات الحضارة الغربية ذاتها كالذي حدث في الجزائر؛ حيث كانت
الديمقراطية وهي إحدى آليات الحضارة الغربية في التعبير السياسي والفكري
الوسيلة التي اعتمدها المسلمون هناك للإسفار عن رغبتهم السياسية، ولكن بالرغم
من ذلك فقد بارك الغرب تلك الأقدام التي ركلت هذه الإرادة ووأدتها، وأدخلت
الشعب الجزائري في نفق مظلم، وآثر دعم تلك الأقدام الهمجية ومساندتها دون أدنى
إحساس بعدوانها ومرارة استبدادها بالشعب الجزائري.
إذن؛ فالحوار بين الغرب والإسلام لا يؤتي أُكُلَهُ يانعة إلا حين ينزل الغرب
عن علوه ويتجرد من تلك النظرة التي لا تنظر إلى العالم الإسلامي إلا كبقرة حلوب
تدرّ فقط ما يغذي الغرب وينمي قواه الاقتصادية، وليس له من الأمر شيء في أن
يحكم بالذي يميز شخصيته.
ونزعة الإرهاب التي ما طفق الغرب يتحدث عنها من باب أنها عقبة كؤود
في طرق الحوار الغربي الإسلامي ونص عليها الوزير البريطاني في خطابه هذا؛
إنما جاءت رداً على عدوان السلطة العلمانية وإرهابها، تلك السلطة التي لا تستمد
شرعيتها إلا من السياسة الغربية ومساندة آلتها العسكرية باعتبارها إدامة للرؤية التي
يود الغرب فرضها على العالم الإسلامي. أيضاً فإنه في الوقت الذي يشدد فيه على
مطاردة الإرهاب ملوحاً تارة، ومصرحاً تارة أخرى بخروجه من محاضن الإسلام
نراه لا يحرك ساكناً إلاّ ما كان همساً لمحاكمة أولئك الذين أراقوا الدم الحرام بشكل
فظيع على أرض البلقان إرهاباً؛ فكيف يستقيم إذن مجرى الحوار بين الغرب
والإسلام، والغرب تحكمه نزعة التطفيف في المكيال ساعة الكيل للمسلمين،
ونزعة الاستيفاء ساعة الحديث عن مصالحه ومقاصده؟
من أين يلج الغرب حواره مع الإسلام؟
كيف يمكن تصديق الغرب في رغبته هذه وهو لا يأتي البيوت من أبوابها
وإنما من أدبارها التي أوقف عليها صنائعه التي شكلها بنفسه وصنع لها وجوداً
مريباً في دياره، وديار الإسلام، ومن ثم لا أجد ما يدعو إلى الغرابة في وصف
الوزير البريطاني للطائفة الإسماعيلية (بأنها تشكل جسراً فريداً من نوعه بين الغرب
والإسلام) فإن مثل هذه الحركات الباطنية تمثل بلا ريب مطية الغرب المروّضة؛
فمن قبلُ أوجد البريطانيون نِحلة القاديانية في الهند تسويغاً لغزوهم الاستعماري؛
حيث ألحقتهم زوراً بولاة الأمر الواجب طاعتهم ديناً، وليس من الحقيقة في شيء
الاعتقاد بأن الغرب لفظ هذه النحلات المارقة عقب الحقبة الاستعمارية بعد أن
استنفد منها غرضه، لا؛ إنه ما زال يكلؤها بالعناية ويعود إليها حين الحاجة لكونها
أخلص نية، وأصدق ولاءً، وهذا ما نعت به الوزير البريطاني الطائفة الإسماعيلية؛ حيث قال فيها: (إنها موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها) ويقيننا أن هذه
الموالاة هي التي تدنيها من الغرب. ومعلوم أن ولاء الطوائف الباطنية لأقطار
الكفر أوضح بكثير من أن يحتاج إلى رصد الوثائق، وتقديم الوقائع، ولهذا لا معنى
لهذا الحوار ما لم يأخذ سبيله عبر المرجعية الإسلامية ممثلة في العلماء الربانيين
ودعاة العمل الإسلامي المنضبط بضوابط المنهج النبوي في فهم الدين، وتنظيم
علاقات الذات مع الآخر، وليس عبر هذه الشياه القاصية، ولكن لأمر ما نجد
الغرب يقدم هذه النماذج المشبوهة، ويسعى إلى أن يجعل منها مثالاً صالحاً للتحاور
باسم الإسلام والمسلمين في حين أنها لا تحمل من الإسلام إلا اسمه! ولا من الدين
إلا رسمه.
العلاقات الإيرانية البريطانية:
وما غاب عن الوزير وهو يشير إلى مسار العلاقات البريطانية أن يطمئن
الطائفة الإسماعيلية باعتبارها إحدى طوائف الرفض بأن قضية سلمان رشدي لم تبق
حداً مستعصياً على تطبيع العلاقة مع إيران، وبغض النظر عما إذا كانت الفتوى
الإيرانية في الأصل للاستغلال السياسي والمزايدة على الشارع الإسلامي أم لا،
فإني لا أرى أن نفور الغرب عن الاتجاه السني يضاهي نفوره عن الاتجاه الرافضي، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا ما قلت: (إن إيراد الوزير البريطاني اسم أفغانستان وهو
يخاطب الإسماعيليين في مركزهم ليس ببعيد من أن يكون منطوياً على إمكانية تفهم
بريطانيا لموقف إيران من طالبان إن لم يكن تأييداً ومؤازرة، باعتبار قلق الطرفين
من انتصارات الأخيرة على الجيوب الموالية لإيران والغرب داخل أفغانستان،
وبدهي جداً أن يستصحب البريطانيون وهم يضعون مسألة الأفغان على قائمة
اهتماماتهم العالمية مأثورات ماضيهم الاستعماري جنباً إلى جنب مع العداء التاريخي
بين الأفغانيين والإيرانيين؛ فالاستنفار العسكري الذي قام به الإيرانيون مؤخراً على
حدودهم مع أفغانستان عقب الأزمة التي نشبت بينهم وبين طالبان ليس له من تفسير
سوى ارتفاع درجة القلق والأرق من احتمال قيام دولة سنية قوية تحجّم دور إيران
الشيعية وتحول دون أطماعها الفكرية والسياسية في المنطقة، وخبرة البريطانيين
بهذه التناقضات تسول لهم توظيفها لصالح سياساتهم في المنطقة، فهم كما قلت
يعرفون من أين تؤكل الكتف؟ !
وربما يعاب عليّ بأني على حد كبير من التشاؤم لا أنظر إلى التفاعلات
السياسية إلا من ثقوب ومنافذ نظرية التآمر التي تصوّر كل مبادرة غربية وكأنها
شيطان مارد ذو مخالب وأنياب يريد أن ينقض علينا، وينهش لحومنا، لكني أقول: ليس الأمر كذلك؛ ولكني أرى ضرورة الاسترشاد بالتاريخ، والاهتداء به في
تثبّت المواقف وتحديد السبل؛ فإنه عبرة لأولي الألباب لا سيما إذا ما كان هذا
التاريخ كتاريخ بريطانيا العظمى مع العالم الإسلامي الذي قال فيه الوزير نفسه:
(إنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً) وإلا تكون اللدغة عقب اللدغة؛ ولا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين؛ فكيف إذا لدغ مرات؟ !
الوجود الإسلامي في بريطانيا:
أما فيما يتعلق بالوجود الإسلامي في بريطانيا فهو كما ذكر الوزير آخذ في
التنامي والتزايد، ولكن إلى أي حد من الاهتمام والتوقير يحظى هذا الوجود من
الحكومات البريطانية؛ إنه أقل بكثير من ذلك الذي يحظى به الوجود اليهودي مثلاً؛ فحتى وقت قريب كان الدعم الحكومي لمؤسسات التعليم غير الحكومي حِلاّ لبني
إسرائيل محجوباً عن المسلمين حجب حرمان، ولم يتحقق منه ما تحقق إلا بعد
طول مُحاجّة ومجادلة انتهت فقط بدعم المرحلة الابتدائية من مدارس يوسف إسلام
وأخرى لغيره في برمنجهام دون إلحاق سواهما بهما، فهل من الإنصاف أم من
الإجحاف حين يكون اعتناء الحكومات البريطانية المتعاقبة (بمليون ونصف مليون
مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع) ويؤدون (دوراً كبيراً في الحياة
الثقافية والسياسية والاقتصادية للأمة..) على حد تعبير الوزير إلى هذا الحد من
التدني؟ أجل إن الجالية الإسلامية تزر وزر تقصيرها في المطالبة بحقوقها بما هي
عليه من تعدد الإطارات المبعثرة واللاهية عن مصالحها الحقيقية. لكن من جانب
آخر إنه حيدة عن الدقة حين يجعل الوزير من هذا الدعم حقاً مشاعاً لكل مدارس
الجالية الإسلامية بقوله: (ويحق الآن للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من
الدولة..) .
على كلٍ فإن الإسلام في الغرب بعامة وفي بريطانيا بخاصة أضحى فوق حد
التجاهل والتجاوز، وبات وجود المسلمين معتبراً في التأثير على مختلف جوانب
الحياة الأوروبية، ومن الممكن أن يتعاظم ثقلهم السياسي، ويتعزز نفوذهم
الاقتصادي والثقافي إذا ما أحسنوا توظيف وجودهم هذا لمآرب تقيهم شر الأذى
وتعود عليهم بشيء من منافع المآل والحال، أما انفعالهم مع الدوائر السياسية إدلاءً
بالأصوات وتنافساً على المناصب فهو نازلة تقتضي دراسة شرعية من أهل العلم
بضوابط الشرع وفقه الواقع حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.(136/62)
المسلمون والعالم
حمّى سنة 2000
الحلقة الثالثة
(البقرة العاشرة) .. أخرجوها، فمتى يذبحونها؟ !
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من عام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-
بدايةً، أعتذر للقارئ الكريم، عن إشغال جزء من صفحات هذه المجلة
الوقورة للكلام عن (بقرة) ! .. ولكن.. ماذا نفعل إذا كان أعداء الله من غلاة اليهود
يربطون مصير المنطقة الآن بمصير (بقرة) ؟ !
ولا أدري بالضبط ما هي حكاية اليهود مع البقر؛ فقد اتخذوا في بواكير
عهدهم مع موسى إلهاً من عجول البقر، كما جاء في القرآن: [وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ] [الأعراف: 148] .
ولهم مع البقر قصة أخرى، نزلت باسمها أكبر سورة في القرآن، وهي
سورة البقرة التي سميت بهذا الاسم لتدل على سوء الفهم وخبث الطوية لدى بني
إسرائيل في أمر تعنّتهم في البقرة التي أُمروا بذبحها، واستمرار هذا التعنت في
شؤونهم كافة، بما استحقوا معه أن يُنتزع منهم الاصطفاء، ويتحول إلى الأمة
الخاتمة، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما دل على ذلك محور السورة
وهدفها الرئيس.
ولكن بني إسرائيل من يومها ظلوا يعيشون في وَهْمِ الاصطفاء والاختيار
والتميّز، مهما اقترفوا من خطايا وارتكبوا من موبقات، زاعمين أنهم [أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ] [المائدة: 18] ، أما الشريعة التي أنزلها الله تعالى لهم، فقد بدلوها
وغيّروا فيها بما يُبقي عندهم الشعور الزائف بأنهم لا يزالون على دين صحيح
مقبول. والحق أن ما بقي لديهم من الديانة، إما مفتقر إلى الصحة أو مفتقر للقبول، فهو إما باطل مخترع، أو حق منسوخ.
وهناك أساطير كثيرة لا يزالون يتداولونها تدخل ضمن هذا السياق، فهي
باطل مخترع أو حق منسوخ، وقد تابَعَتْهم على بعضها طوائفُ من النصارى،
ولهذا فهم جميعاً يتقلبون بتلك المعتقدات الباطلة بين وَصْفَي: (المغضوب عليهم،
والضالين) .
وقد مر معنا في الحلقتين السابقتين كيف أن اليهود يحاولون إعادة إحياء كل
الأساطير البائدة المستمدة من التوراة المحرفة، وكأنهم بذلك يريدون الجمع بين
الخصوصية الزمانية (زمن الخلاص) والخصوصية الإنسانية (شعب الله المختار)
والخصوصية المكانية (الأرض المقدسة) .. ولكن هيهات هيهات أن تغير الأساطير
ما قضت به المقادير؛ فقد كتبت عليهم اللعنة إلى يوم الدين على ألسنة المرسلين.
أسطورة لها خوار:
في عام 1920م، وعندما بدأت المباحثات بين الاتحاد الصهيوني والإنجليز
من أجل التوصل إلى صيغة لتسليم فلسطين لليهود بعد انتهاء الانتداب، كان من
بين الموضوعات المطروحة للبحث: (ملكية جبل الهيكل) . وطرح الجانب
الإنجليزي في المباحثات سؤالاً: هل هذا المطلب مطلب عاجل أم آجل؟ وما مدى
اجتماع الشعب اليهودي حول هذا المطلب؟ فأجابهم الحاخام (راف كوك) قائلاً:
(يؤمن الشعب اليهودي كله إيماناً لا يتزعزع أن هذا المكان المقدس، وكل جبل
الهيكل هو مكان العبادة الأبدي للشعب اليهودي، ورغم أنه في حكم غيرنا الآن، إلا
أنه في النهاية سيقع تحت أيدينا، ويوم تقع أرض الهيكل في أيدينا، ستأتي إشارة
من الرب (البقرة الحمراء) وبعدها نبدأ فوراً في البناء؛ حيث تنبأ بذلك أنبياء بني
إسرائيل) [1] .
والنبوءة التي أشار إليها الحاخام، هي معنى ما ورد في الإصحاح التاسع
عشر من سفر العدد بالتوراة، ونصها: (وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: هذه
فريضة الشريعة التي أمر بها الرب قائلاً: كلّم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة
حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يعْلُ عليها نِيرٌ [2] فتعطوها (ألعازار) الكاهن
فتخرج خارج المحلة، وتذبح قدامه، ويأخذ ألعازار الكاهن دمها بأصبعه، وينضح
من دمها في وجه خيمة الاجتماع سبع سنوات، ويحرق البقرة أمام عينيه، يحرق
جلدها ولحمها ودمها مع فرثها، ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفاً وقرمزاً،
ويطرحهن وسط حريق البقرة، ثم يغسل الكاهن ثيابه ... ) ثم بيّن النص العلة من
ممارسة هذا الطقس: (.. تكون البقرة لبني إسرائيل وللغريب النازل في وسطهم
فريضة دهرية) .
ولكن: لماذا حوّل اليهود تلك (الفريضة) إلى نبوءة و (إشارة) من الرب؟ !
في الواقع أنهم يربطون بين تنفيذها وبين إعادة بناء الهيكل؛ فالفريضة.. أو
النبوءة.. أو البقرة الحمراء، ستكون دلالة عندهم على أن الزمن الذي ظهرت فيه
هو نفسه زمان الهيكل الثالث بعد إعادة بنائه. ولعل هذا يفسر لنا استمرار غياب
الكلام عن مثل تلك الطقوس خلال أزمنة اليهود الخالية التي لم يكن لهم فيها تمكين. ويعتقد اليهود المتدينون أنه قبل ألفي عام مضت، في حقبة المملكتين اليهوديتين،
الأولى والثانية؛ تم مزج رماد بقرة حمراء صغيرة ذبحت في عامها الثالث، وخلط
دمها بالماء، واستخدم في (تطهير) الشعب اليهودي، ليصبح مهيأً للدخول إلى
الهيكل المقدس، ويعتقدون أيضاً أنه لم تولد طوال التاريخ اليهودي بقرة بتلك
الأوصاف منذ دمر الهيكل الثاني عام 70 للميلاد، وعلى حسب التاريخ الديني
اليهودي، فإنه قد جرت التضحية ببقرة حمراء واحدة في زمن الهيكل الأول،
وبثماني بقرات في زمن الهيكل الثاني.. واليوم، يستعدون لمرحلة الهيكل (الثالث)
وزمان البقرة (العاشرة) .
البحث عن البقرة:
لم يعد سراً تزايد حرص اليهود على المزيد من الخطوات العملية المتفاعلة
الآن من أجل إعادة بناء الهيكل بعد الانتهاء من هدم مسجدي الأقصى والصخرة،
وبما أن الهيكل لن يعمره بالعبادة إلا أناس (مطهرون) من النجس، وبما أن هذا
النجس لن يزول إلا برماد البقرة، وبما أن البقرة لم تكن موجودة إلى عهد قريب،
فإن جهود اليهود اتجهت للبحث عن بقرة تطل بقرنيها على مشارف القرن الجديد..
فلا بد من ظهورها أو إظهارها، ولو اقتضى الأمر استحداث بيئات وظروف
تستخرج تلك البقرة استخراجاً من بين ملايين البقر! ! وهذا ما كان؛ فمنذ عدة
سنوات، تعهد كاهن أمريكي يُدعى (كلايد لوت) ينتمي إلى جماعة (حركة الهيكل
الثالث) الإنجيلية الأصولية بأن يوقف جهوده للعثور على بقرة بالمواصفات الدقيقة
الواردة في العهد القديم، ونذر نفسه للمساعدة في أي مشروع يتعلق بإعادة تأهيل
الهيكل للعبادة، وقد جرت اتصالات ومقابلات عام 1989م بين هذا الكاهن وبين
الحاخام الإسرائيلي (حاييم ريتشمان) الذي يعمل في معهد (الهيكل المقدس) حيث
اقترح ريتشمان فكرة إنشاء مزرعة لإنتاج وتربية الأبقار من سلالة (ريدنفوس)
الضاربة إلى الحمرة، فاقتنع الكاهن، وأنشأ بالفعل تلك المزرعة في ولاية
ميسيسيبي الأمريكية، وقد أنشأ هذا الكاهن فيما بعد فرعاً لمزرعته في مدينة حيفا،
تحسباً ليوم تولد فيه البقرة المنتظرة!
إعلان العثور على البقرة.. وماذا يعني؟
أخيراً ... وبعد ما يقرب من ألفي عام، ادعى اليهود أنهم وجدوا ضالتهم! لقد
ظهرت البقرة! ! ففي شهر أكتوبر من عام 1996م، تم الإعلان عن ميلاد بقرة
حمراء مطابقة للمواصفات الواردة في التوراة، وأعلن أنها ولدت في مزرعة (كفار
حسيديم) وعلى الفور ذهب وفد من الحاخامات لمعاينة حالة مولود العصر،
ومقارنته بالأوصاف المذكورة في التوراة، ثم أعلنوا وقتها مطابقة المولودة
للمواصفات بعد أن باركوها، وأمروا بفرض حراسة مشددة حولها!
... ... ... ... ... [جريدة الأخبارالمصرية، 25 إبريل 1997م]
لقد كان الإعلان عن العثور على البقرة بداية لمرحلة جديدة ومثيرة من الهوس
الألفي عند اليهود وأنصارهم من البروتستانت المتهودين في أمريكا وبريطانيا،
وتناولت وسائل الإعلام الحديث بتغطية متلفعة بالتكهنات والتوقعات والحذر؛ فقد
نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية في عددها الصادر في (9/7/1997) أخبار
الحدث قائلة: (سيكون الذبح الطقسي للبقرة الحمراء بعد ثلاث سنوات من ميلادها،
بداية العد التنازلي للعودة الكبيرة لليهود إلى موقع عبادتهم السابق، وتبشيراً بمجيء
المسيح المخلّص، بيد أن محاولة تحقيق هذه العودة ستؤدي إلى بداية لا تُنسى
للألف الثالثة) !
لقد توافد الآلاف من اليهود (متدينين وغير متدينين) إلى مزرعة (كفار
حسيديم) في إسرائيل لمشاهدة هذا الكائن (الأسطوري) . ولحسم الفوضى التي يمكن
أن تنشأ عن هذا التدافع، لجأت الجهات اليهودية المهتمة بهذا الشأن إلى تنظيم
الزيارات والرحلات لزيارة البقرة! ! لقد نجح الشيطان لعنه الله في استثمار ضعف
الإنسان حيال الغيب المجهول، فأحدث بين اليهود حالة من النشوة، محفوفة بهالة
من الرهبة وممزوجة بالرغبة في اقتحام المزيد من أستار الغيب المجهول، ورأى
كبار زعماء الجماعات الدينية الفرصة سانحة لضخ الدماء في عروق التعصب
لمزيد من التأهب لمغامرات المستقبل القريب، ونظروا إلى البقرة التي أطلقوا عليها
اسم (ميلودي) على أنها أحدث إشارة بدنو العصر الأخير، وتوقع الكثيرون منهم أن
تستخدم دماء تلك البقرة عينها في احتفالات (تطهير) الشعب اليهودي، الذي لا
يمكن أن يمارس العبادة في الهيكل إلا بعد أن يتم تطهيره برمادها وفقاً لقول التوراة
التي بأيديهم: (كل من لم يتطهر فإنه ينجس مسكن الرب) [3] ورأى آخرون أن
هذه البقرة التي ظهرت هي حلقة الوصل المفقودة والمطلوبة للوصول السريع إلى
زمن إعادة الهيكل؛ حتى إن اليهودي الأصولي المتعصب (يهودا اتزيون) الذي كان
متهماً رئيساً في محاولة تفجير قبة الصخرة عام 1985م، أعلن بعد ظهور البقرة
ابتهاجه بهذا الحدث (التاريخي) وقال: (إننا ننتظر منذ ألفي سنة ظهور إشارة من
الرب، والآن أرسل لنا البقرة الحمراء، وظهورها يعتبر أحد أهم الدلائل على أننا
نعيش في زمن مميز، ولهذا فلا بد من الإسراع بإزالة مسجدي الأقصى والصخرة
من جبل الهيكل، ونقل بقاياهما إلى مكة) !
[السياسة الكويتية، 30/10/97]
وبدأ المتعصبون اليهود على الفور في استثمار الحدث، لإنشاء واقع جديد من
خلاله، فدعا عديد من زعماء الجماعات الدينية (الطليقة) في طول البلاد وعرضها
في (إسرائيل) إلى إلغاء الفتوى الحاخامية القديمة التي تحظر على اليهود دخول
ساحات المسجد الأقصى، ووقعوا توصية بذلك في المؤتمر السابع لحركة (إعادة
بناء الهيكل) . [الحياة، 16/9/1998] . وبالفعل، قررت لجنة من 60 حاخاماً في
شهر أغسطس من عام 1997م تجاوز الحظر الذي كان معمولاً به، وشجعوا اليهود
على الصعود إلى ما يسمونه (جبل الهيكل) حيث يوجد المسجد الأقصى ومسجد
الصخرة، واحتج هؤلاء بأن لديهم مسوغات كافية تجعل من حق اليهود أن يصعدوا
إلى هناك لكي يتسنى لهم البدء في الاستعدادات الخاصة بإعادة بناء الهيكل، وقال
المتحدث باسمهم: (إن الحظر العام على الصعود لم يكن يأخذ في اعتباره في
السابق الاكتشافات الأخيرة، وأبرزها اكتشاف البقرة الحمراء، ونحن الآن بانتظار
الخلاص، وإعادة بناء الهيكل التي يجب أن تبدأ بسرعة في أيامنا هذه) .
... ... ... ... ... ... [الأنباء الكويتية، 9/7/1997]
وبدأت مجموعة من الحاخامات منذ سنوات في دعوة عائلات الكهان لإرسال
أولادهم لكي يتم إعدادهم في حجْر (العزل الطاهر) ليكونوا جاهزين للعمل في
الطقوس المتعلقة بالبقرة، واستجابت أربع عائلات كهنوتية للتبرع بأولادها من أجل
هذا الغرض. ... ... ... ... ...
[الرأي العام: 5/3/1998]
وبدأ الحاخامات منذ فترة بالاتفاق مع الجهات الحكومية بتحصيل نسبة 1%
من مجموع الإنتاج داخل إسرائيل، ليوضع في حساب (خدمات الهيكل) الذي دخلت
مهماته مرحلة التنفيذ بظهور البقرة، وتحصيل هذه النسبة يجري الآن وفقاً لتشريع
ديني يقضي بأن يقدم الشعب اليهودي عُشر العشر ليوقَف على الهيكل، وقد وُضِعَ
عنوان خاص لاستقبال تلك الإسهامات وتنظيم إنفاقها على المشاريع المتعلقة بالهيكل.
لقد ظهرت مع ظهور البقرة الحمراء حالة من الحماس الديني بين الجماعات
اليهودية التي تنافس الحكومة بأنشطتها (120 جماعة) ، وبدأت في اكتساب أنصار
جدد من أولئك الذين لم يكونوا يأبهون بشعارات الجماعات الدينية، وقد علق
(مناحيم فريندمان) الخبير في الشؤون الدينية في جامعة (بارابلان) على هذه
الظاهرة الجديدة بقوله: (إن ولادة هذا الحيوان الطارئة، أوجدت حالة من الحساسية
في إسرائيل؛ إذ أصبح الناس يبحثون في أمر هذه العلامة ويتحدثون عنها بدقة) .
... ... ... ... ... ... ... [السياسة، 30/10/1997]
البُعد السياسي لعهد (البقرة) :
لم يكن المتدينون وحدهم المحتفين بضيفة (إسرائيل) الجديدة، بل اهتبل
السياسيون مناسبة حلولها في ذلك التوقيت، لتحقيق أغراض سياسية وحزبية،
مستغلين تصاعد المد الديني في (إسرائيل) وربط كثيرون بين ظهور البقرة وظهور
نتنياهو، الذي تُوجت في عهده أنشطة الجناح الديني في السياسة الإسرائيلية.
والمؤسسة الدينية التي اعتبرت فوز نتنياهو انتصاراً للمتدينين وهزيمة للعلمانيين؛
دأبت على تدعيم موقفه بعد الإعلان عن ظهور البقرة، وربطت مجيئه بتحقيق
نبوءات يؤمنون بها، مما جعل البعض منهم ينظرون إليه على أنه يتبوأ منزلة
(ملِك) من ملوك إسرائيل التاريخيين، وأنه يمكن على هذا أن يتمتع بـ (العصمة)
الدينية، التي تجعل مخالفيه في زاوية المخالفين للتوراة.
وقد أثار تفاؤل المتدينين أيضاً وقتها، أن عهد نتنياهو سيستمر في السلطة
حتى العام 2000م على الأقل [4] وهو العام المرتب له أن يكون عام (التطهير) !
لكن هناك فريق من الإسرائيليين لم يشاركوا جمهور اليهود في الابتهاج
بالعجل الجديد، وهم شرائح من العلمانيين الذين شعر كثير منهم بالانزعاج
والتخوف من مضاعفات هذا الاكتشاف ونتائجه التي قد يصيبهم شرها وشررها.
ورأى بعضهم أن (قضية) البقرة، قد تفتح باباً لدوامة من العنف لا نهاية لها بين
المسلمين واليهود داخل فلسطين، وأيضاً بين المتدينين وغير المتدينين من اليهود،
وذلك ما أكده الصحفي الإسرائيلي (ديفيد لانرد) حيث قال: (إن الأذى المحتمل من
جانب الحديث عن ظهور البقرة الحمراء، يفوق بكثير ما يمكن أن ينتج عن
الخصائص التدميرية لقنبلة نووية دينية) .
خيبة أمل.. عارضة:
بعد أن راحت الأحلام تسبح باليهود المتدينين في سواحل الخيال.. والخبال،
طرأ ما يعكر أجواء هؤلاء الحالمين، فقد شكك بعض الحاخامات في أن تكون
(ميلودي) هي البقرة الحمراء المنتظرة، وأوردت صحيفة معاريف الإسرائيلية
الصادرة في (29/10/1997م) عن الحاخام (شمار ياشوف) تصريحاً أدلى به من
المزرعة التي تقيم فيها (ميلودي) قال فيه: (قد لا تكون هذه البقرة هي الحقيقية
بسبب بعض الشوائب) ! وأخرج الحاخام عدسة مكبرة، ولاطف البقرة، وصوّب
العدسة نحو ذيلها وقال: (انظروا.. هنا تجدون بعض الشعيرات البيضاء) ! ثم
اتجه إلى رأسها، وصوّب النظر نحو عينيها وقال: (لاحظوا.. إن رموشها تبدأ
حمراء وتنتهي سوداء) !
وقد شكك آخرون في هذا التشكيك، كما نقلت ذلك الأوبرزفر في 9/7/1997 م فهوّن (يهودا اتزيون) الناشط الصهيوني من شأن تلك التحفظات التي أبداها
الحاخام المذكور، وسارع إلى طمأنة القلقين وقال: (هذه الشعيرات التي شوهدت
ستختفي بمضي الوقت، وحتى إذا لم تختفِ، فإن الكتاب المقدس يقول: إن
شعرات قليلة لا تنفي الطبيعة المقدسة للبقرة إذا كانت كلها حمراء) .
إن مشاعر التعجل لدى متعصبة اليهود، لا تريد أن يخرج الناس من أجواء
الأوهام الألفية الخلاصية، فهم يجنون أنضج الثمرات من تأجيج أحاسيس الدنو
القريب لعصر النهاية (السعيد) ولا يدري هؤلاء البؤساء، أنهم سيخرّبون بيوتهم
بأيديهم وبأيدي المؤمنين في نهاية المطاف، ولكنهم مصروفون عن هذا، ومصرون
على النفخ في كير الحرب الدينية القادمة، حتى إن (اتزيون) المذكور آنفاً، وغيره
من المتعصبين، يعتقدون كما نقل عنه في التصريح السابق أن رماد البقرة الحمراء
سيحول مجموعات اليهود المتدينين القلائل إلى حركة جماهيرية واسعة الانتشار!
هل لنا موقف من (البقرة) ؟
نحن بطبيعة الحال، لا يعنينا من شأن تلك البقرة شيء، سواء في شكلها أو
وصفها أو سنها، أو زمان ومكان خروجها، ولكن الذي يعنينا هو ما تمثله تلك
البقرة من كابوس يمكن أن يثير من الأحداث ما يتعاظم على السيطرة، وقد عودنا
اليهود خلال الخمسين عاماً الأخيرة أنهم أكفأ البشر في تسويق الأحلام واستثمار
المصائب لصالحهم. قد يتشبث اليهود بتلك البقرة بالذات ليكملوا نسج بقية
الأسطورة بين يديها أو قرنيها، وقد يستبدلونها بعد حين بأخرى أكثر مطابقة
للمواصفات التي تليق بأمة متنطعة تريد أن تكرر حديث الصفات النادرة عن البقرة
الصفراء الفاقع لونها، مع البقرة الحمراء الخالص حَمَارها.
أما المعتقد الأصلي في البقرة، والموجود الآن في نسخ التوراة المتداولة، فلا
نصدقه ولا نكذبه فقد يكون من الشرائع المنسوخة وذلك تسليماً بالهدي النبوي
المذكور في الحديث الشريف: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا:
آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) [5] . ولكن المقطوع به أن تلك (الفريضة
الدهرية) كما وصفوها.. لا تمت إلى الدين المقبول بصلة، بعد بطلان الشرائع
بشريعة النبي الخاتم.
وهنا أمر أود الإشارة إليه، وهو أنني لا أستبعد أن يكون ظهور بقرة حمراء
مطابقة لما يتطلع إليه اليهود، من تلاعب الشيطان، فيكون هذا من قبيل الاستدراج
لهم، فقد تأتي الأقدار لهم بالبقرة التي يريدون، إمداداً لهم في الغي، فيظنون أنهم
قد وصلوا إلى عتبة عصر (الطهارة) وينتهي الأمر بهم إلى مزيد من الانصراف
عن الحق، كما قال سبحانه: [سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ
بِغَيْرِ الحَقِّ وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً
وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً] [الأعراف: 146] .
ويمكن أن يكون هذا التلاعب الشيطاني بهم مثيلاً لتلاعبه بهم في شأن انتظار
نبي خاص بهم من نسل داود، جعلهم يكفرون بعيسى اويكفرون بمحمد -صلى الله
عليه وسلم- مصرين على انتظار هذا النبي الموعود. قال ابن القيم رحمه الله:
(ومن تلاعبه بهم يعني اليهود أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، إذا حرك
شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي
وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر
أتباعه) [6] .
البقرة.. ونجاسة الشعب (المختار) :
من أعجب أمور اليهود، أنهم لا يزالون يؤمنون عن يقين بأنهم (شعب الله
المختار) حتى تقوم الساعة! والأعجب من ذلك أنهم يعتقدون بالقدر نفسه من اليقين
بأنهم شعب (نجس) منذ عشرات القرون، لماذا؟ لأنهم قارفوا نجاسات عديدة لا
يمكن التطهر منها حسب شريعتهم إلا برماد البقر الأحمر، ضمن طقوس لا تمارس
إلا في الهيكل، وبما أن الهيكل غائب منذ ألفي عام، وعقمت معه الأبقار أن يلدن
واحدة حمراء خالصة، فإن (النجاسة) ظلت ملازمة للشعب اليهودي بكامله. جاء
في توراتهم: في سفر العدد الإصحاح 19: (هذه هي الشريعة.. إذا مات إنسان
في خيمة، فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً ... كل إناء
مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس، وكل من مس على وجه الصحراء قتيلاً
بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً..) (والذي مس ماء النجاسة
يكون نجساً.. وكل ما مسه النجس يتنجس، والنفس التي تُمس تكون نجسة) ! !
فَمَنْ إذن من الشعب (المختار) بقي طاهراً؟ ! المشكلة هنا ليست في النجاسة فكل
الكفار والمشركين نجس ولكن المشكلة أنهم يعتقدون أن هذا النوع من النجاسة لا
يزول إلا برماد البقرة المحظية في نهاية الألفية، جاء في الموسوعة الدينية اليهودية: (إن البقرة الحمراء يجب سحبها خارج القدس، وبعد ذبحها يجب حرقها بكاملها
بعد إضافة خشب الأرز وأعشاب أخرى، ويشرف على هذه الطقوس حاخام أو
كاهن، ويستخدم الرماد في التطهر وطرد الأرواح الشريرة التي يمكن أن تنتقل إلى
اليهود من الموتى لو مسوا جثمانهم) . والظاهر أن نجاسة اليهود من أكثر ما يؤرقهم، حتى إن التلمود الذي وضعه الحاخامات تفسيراً للتوراة يدور سدسه تقريباً حول
كيفية التطهر من النجاسات، وجاءت البقرة أو هكذا ظنوا لتكون فاتحة لعهد من
الطهارة يستقبلون به عصراً من الأمجاد، والله يعلم أن جميع البقر الأحمر والأبيض
والأسود، لو صُيّر رماداً، ثم خلط بماء البحر الأحمر والأبيض والأسود، ثم
أغرقت فيه أمة اليهود كلها، لما تطهر واحد منهم من نجاسة الكفر، إلا إذا دخل في
دين التوحيد وآمن برسالة خاتم الرسل وسيدهم محمد صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله وصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [المائدة: 15-16] .
أما هؤلاء، فإنهم لا يزالون في أسر الآصار التي كانت عليهم، لا يبغون
عنها فكاكاً، وقد نقلت صحيفة الرأي العام الكويتية عن إحدى الصحف الإسرائيلية
في (5/3/1998م) أن حواراً أجري مع واحد من أبرز الحاخامات الإسرائيليين
ويدعى (البويم) حول العديد من الأسئلة الحائرة الدائرة حول البقرة، فكان من ضمن
الأسئلة: هل تكفي بقرة واحدة لخمسة ملايين يهودي ملوثين بالنجاسة؟ فأجاب:
(أجل، ولسنوات كثيرة أيضاً، لقد دُوّن في التوراة أن البقرة الحمراء الأولى أعدت
على عهد موسى، أما الأبقار التالية فقد أعدها عزرا، فخلال فترة الهيكل الثاني
أعدوا ثماني بقرات، إذن فالعدد كله تسع بقرات، ونحن الآن في زمان البقرة
العاشرة) إذن، فأمر البقرة سواء كانت هي تلك التي أعلنوا عنها أو غيرها مما
يمكن أن يعلنوا عنه، ليس بالأمر الهامشي في حياة اليهود في هذه الأيام؛ خاصة
أنهم يرون أنفسهم قد قطعوا من الطريق أطوله نحو عهد الهيكل الثالث، وعلماً بأن
ما يقرب من 95% من الطقوس العبادية اليهودية التي تؤدى في الهيكل، يحول بين
اليهود وبين ممارستها ما يسمونه بـ (نجاسة الموتى) ، بل إن بعض الحاخامات
يتحدثون عن استحالة افتتاح الهيكل للعبادة بأيدي (أنجاس) واستحالة تمكّن هؤلاء
من القيام بشؤونه وطقوسه قبل تطهّرهم برماد البقرة! ! ولله في خلقه شؤون! كيف
إذن سيبنون وكيف يجهزون وهم أنجاس؟ الله أعلم!
أما عن كيفية التخطيط العملي لهذه (الطهارة) الجماعية، فهذا سؤال توجهت
به صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية في (2/3/1998م) إلى أحد الحاخامات الكبار فقال: (سنحرق البقرة قبالة موقع الهيكل من جهة الشرق، وبالإمكان أن نضيف إليها
بعض الأشجار، وبعد ذلك نخلط الرماد بعضه ببعض، ومن ثم يتم وضع الرماد
في أنابيب، وتوزع في أرجاء البلاد) ! ! شيء قريب من توزيع مياه الشرب أو
(الغاز) .. إنها ألغاز! ! فماذا إذن عن الملايين العشرة الباقين من اليهود خارج
البلاد؟ ! الظاهر أن الرماد سيصدّر إليهم في مغلفات معقمة من قوارير، أو أنه
سيكون مدعاة قوية لهجرات جديدة إلى أرض الميعاد ... والرماد!
موعد الميلاد.. وموعد الذبح:
الموعد الذي ولدت فيه البقرة سيحدد بدقة الموعد الذي ستذبح فيه، فعلى
حسب المفاهيم اليهودية لا بد أن تذبح البقرة بعد أن تتم ثلاث سنوات، وهناك
اختلاف معلن في تحديد الموعد الذي ولدت فيه، فالبعض داخل (إسرائيل) يقول
إنها ولدت في شهر أغسطس من عام 1997م، وهناك من يقول إنها ولدت في
يناير من العام نفسه، وعلى هذا؛ فهي ستتم عامها الثالث إما في يناير من عام
2000م، أو في أغسطس من العام نفسه، وعلى هذا يكون العام 2000م، عاماً
مصيرياً في عمر البقرة وفي عمر اليهود، حيث تتوقع جماعاتهم الدينية أن عصراً
جديداً سيحل في الأرض المقدسة بعد ذبح البقرة في بيت المقدس، أو في (أورشليم)
كما يسمونها!
ومع (أورشليم) التي يجري إعدادها أيضاً لعهدها الجديد قبل العام 2000م
سيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.
__________
(1) الشرق القطرية (13/5/97) نقلاً عن صحيفة معاريف الإسرائيلية.
(2) النير: هو الخشبة التي توضع على عنق الثور للحراثة، انظر لسان العرب (8/4593) .
(3) سفر العدد، الإصحاح التاسع عشر.
(4) الانتخابات المبكرة التي طرأت بعد ذلك، تشير كثير من التوقعات إلى احتمال فوز نتنياهو فيها مرة أخرى، بل قد تمكنه من الاستمرار في السلطة لما بعد العام ألفين.
(5) أخرجه البخاري في الشهادات (29) والاعتصام (25) والتوحيد (51) .
(6) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (2/338) .(136/72)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
ثم تكون عليهم حسرة
ذكرت صحيفة (معاريف) أن المليونير المصري (سعيد شلبي) بدأ إجراءات
بالتعاون مع جهات (إسرائيلية) تمهد لإقامة مصنع لإنتاج المسامير الفولاذية
والجدران الشائكة في مستعمرة (شدروت) بصحراء النقب جنوب (إسرائيل) .
ونقلت الصحيفة عن مدير الشركة الاقتصادية في (شدروت) شالوم هليفي الذي
التقى بالمستثمر المصري واتفق معه حول المشروع أن المصنع سيُقام بتوظيف
رأسمال قدره 25 مليون دولار وسيكون مهيأ لتشغيل 300 عامل. وقال المسؤول
(الإسرائيلي) إن الأمر يتعلق بمشروع متميز خاصة أنه سيكون أول مشروع من
نوعه يقيمه مستثمر ورجل أعمال مصري في (إسرائيل) .
... ... ... ... ... [جريدة الخليج، العدد: (7161) ]
نفي أم.. إثبات؟
نحن نتعاون مع الإدارة الأمريكية مثلنا مثل أي دولة في المنطقة، هناك دعاية
تروج الآن أن (سي. آي. إيه) فتحت لها مكاتب في مناطق السلطة الفلسطينية،
وأنا أوكد حتى هذه اللحظة لا توجد لدينا مكاتب، وإن كنت أنا أميل سياسياً لأن
يفتح مكاتب لـ (سي. آي. إيه) .
[محمد دحلان، رئيس الأمن الوقائي الفلسطيني، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7360) ]
سراب العودة
تتداول الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين تقريراً أمريكياً عن النية
في توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها بالأساس، ونقل أعداد منهم إلى
الدول العربية المجاورة ودول أخرى تمهيداً لتركيز ملف اللاجئين في يد دولة واحدة.
ويبلغ عدد لاجئي 1948م، ونازحي 1967م ستة ملايين فلسطيني موزعين
على أكثر من 132 دولة. ... ...
[جريدة الخليج، العدد (7123) ]
الحصار المر
ذكر وزير الصحة العراقي أن 1. 9 مليون عراقي تقريباً توفوا نتيجة لحرب
الخليج والعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة على العراق منذ أكثر من ثماني
سنوات. ... ... ... ... ...
[جريدة الحياة، العدد: (13100) ]
من الفرنسة إلى الأمركة! !
أبدى بعض المسؤولين العسكريين الجزائريين رغبة قوية في تطوير وتعميق
التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة وقدم الجانب العسكري الجزائري ثلاثة
اقتراحات من أجل بدء علاقة جديدة بين الدولتين:
1- إجراء مناورات عسكرية مشتركة وبصورة منتظمة.
2- دعوة ضباط أمريكيين من رتب مختلفة إلى زيارة الجزائر وتفقد مواقع
ومراكز عسكرية.
3- دعوة قيادة سلاح الجو الأمريكي إلى إرسال طائراته إلى الجزائر للقيام
بتدريبات مشتركة. وقد أبدى الوفد العسكري الجزائري رغبته في شراء معدات
عسكرية أمريكية. ... ...
[مجلة روزاليوسف، العدد: (3680) ]
أيها العرب.. موتوا بغيظكم
قال وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر: إن ألمانيا ستظل تتحاشى توجيه
النقد لسياسة إسرائيل، حتى ولو كان هذا النقد (مشروعاً) وذلك حفاظاً على متانة
العلاقة بين البلدين، وإن الأجيال الألمانية المقبلة عليها أن تتحمل أيضاً أعباء
مسؤولية ألمانيا عن الهولوكست. ...
[مجلة المجلة، العدد: (983) ]
احتلونا مشكورين! !
قال مستشار الرئيس الأذري للشؤون الخارجية: إن أذربيجان عرضت على
الولايات المتحدة أن تنشئ قواعد عسكرية على أراضيها (لأننا نواجه خطراً كبيراً
من روسيا، والروس يعتزمون استخدام الأرمن لضربنا، وإننا نرحب بقواعد
عسكرية تركية وأمريكية على أرضنا) .
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7370) ]
شاهد من أهلها
قال وزير العدل الأمريكي السابق رامزي كلارك: إن الإدارة الأمريكية تعتبر
الإسلام هو العدو الأول لها حالياً، وتحاول الربط بينه كدين وبين الإرهاب،
وتستخدم الإعلام للإيحاء بأن كل علماء الإسلام إرهابيون.
... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (13115) ]
حوادث حداثية
لأدونيس وجهان، مثله مثل أي مبدع! ! ! أدونيس يتميز بقدر من الأنانية،
وإنكار الآخرين واللجوء إلى سلوك العصابات، هناك في سلوكه استغلال سيئ
لأدوات يجب أن تكون مفتوحة للناس جميعاً.
[الشاعر: أحمد عبد المعطي حجازي، مجلة الوسط، العدد: (363) ]
قبل الكسوف
أعلنت المفوضية العليا للاجئين أن تجدد المعارك في كوسوفا أدى إلى تهجير
45 ألف شخص من نحو 40 قرية، وقد أدى النزاع بين الصرب والمقاتلين الألبان
في كوسوفا إلى نزوح 400 ألف شخص في الإجمالي، أي ما يوازي 20% من
سكان الإقليم. ... ... ...
... [جريدة الأنباء، العدد: (8162) ]
أقلية منسية (60 مليون) فقط! !
نددت منظمة العفو الدولية بالاعتقالات التعسفية التي قامت بها السلطات
الصينية لمسلمي تركستان الشرقية واتهمت المنظمة الصين بتعذيب الأقلية المسلمة،
وكانت الصين أرسلت في الآونة الأخيرة قرابة تسعة آلاف شرطي لمناطق مسلمي
(الإويجور) . ... ... ...
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7374) ]
رهبان أم سفاحون؟
إن كوسوفا مهد الحضارة الصربية، وتاريخ صربيا مسجل فيها بالدم الصربي
قبل عدة قرون. عليكم بالتوالد والتكاثر حتى تتمكنوا من السيطرة عليها؛ لأن
الجبل يملكه صاحب أكبر قطيع من الغنم.
[بطريرك الكنيسة الصربية، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (7341) ]
لماذا؟
أكد مسؤول عسكري أسباني أن بلاده ستعزز وجودها العسكري في مدينة
مليلية المغربية التي تحتلها أسبانيا، وقال: إن التعزيزات العسكرية ستشمل دبابات
قادرة على التحرك في كل التضاريس وأسلحة هجومية متطورة وقطعاً حربية حديثة، وطائرات مروحية، وسيارات عسكرية، وقنابل مضيئة وأنظمة متطورة للرصد
والاتصال. ... ... ... ... ...
[جريدة الحياة، العدد: (13097) ]
أي دين تريد؟
مع الزمن وآه من الزمن تحولت من تسمي نفسها حركات دينية إلى حركات
منعية تتدخل في خصوصيات الناس وأذواقهم ونوعية ملابسهم ونوعية الأغاني التي
يتوجب عليهم سماعها، ونوعية الكتب التي يقرؤونها، الذي نعرفه أن دين الإسلام
جاء رحمة للعالمين وجاء ليحررهم من القمع الفكري والجسدي ودعاة مصادرة
الحريات، فإذا بالزمن التعيس! يطلع علينا بمن يفعل عكس ذلك، فيصادر أفكار
وحريات غيره من الناس أو حتى ممارساتهم التي كفلها القانون والدستور واللوائح.
[الكاتب الكويتي: عبد الرحمن النجار، جريدة الأنباء، العدد: (8158) ]
حتى أنت يا مانديلا؟
وجه الرئيس الجنوب إفريقي (مانديلا) انتقاداً عنيفاً إلى جماعات الدفاع الذاتي
الإسلامية (الدفاع ضد الإجرام والمخدرات) وقال: إن حملاتها فاسدة حتى النخاع
ومستلهمة من الباطل، ومحاولات تبريرها بالدين ما هي إلا كفر! !
... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (13119) ]
هذا فهمك يا فهمي! !
إن الجهاد في المرجعية الإسلامية هو جهاد الدعوة والتبليغ بالدرجة الأولى،
وجهاد البناء والتعمير بعد ذلك، ثم جهاد المعتدين أخيراً، إن الجهاد القتالي
استثنائي وطارئ، وهكذا فإن المسلمين ينبغي ألا يقاتلوا إلا من اعتدى عليهم
وبدأهم بالقتال بسبب بغيه وعدوانه وليس بسبب اختلافه في العقيدة.
... ... [فهمي هويدي، مجلة المجلة، العدد: (984) ]
تنوير.. بلد النور! !
قام عدد من المدرسين الفرنسيين بالإضراب عن التدريس احتجاجاً على تمسك
طالبتين تركيتين بارتداء الحجاب داخل الصف، وقال وزير الداخلية الفرنسي إن
الحجاب يجعل الاندماج في المجتمع الفرنسي أكثر صعوبة، بإمكانكم أن تكونوا
فرنسيين ومسلمين في الوقت نفسه، لكني أقول: إن ارتداء الحجاب أمر غير
مرغوب فيه.
[جريدة الشرق الأوسط، العددان: (7350، 7374) ]
إلى دعاة حوار الأديان
أعلن الفاتيكان إحياء منظمة تطلق على نفسها اسم (مساعدة الكنائس
المضطهدة) وقد نشرت الصحف الإيطالية تقريراً أصدره الفاتيكان، وأعدته المنظمة
المذكورة يزعم أن 30 مليون مسيحي كاثوليكي يعانون الاضطهاد في 46 دولة
إسلامية. ... ... ... ... ...
[جريدة الخليج، العدد: (7181) ]
وقتلهم الأنبياء بغير سلاح! !
س: بعضهم يرى أنكم تملكون ناصية الحوار، ومن الداعين إليه لدرجة أنكم
تحاورتم مع الحاخام اليهودي لارو، فلماذا لا تحاورون الجماعات الإسلامية؟
ج: أنا بطبيعتي أتحاور مع أي إنسان، ومع أي طائفة لأنني أقف على
أرض صلبة، ولا أخشى الحوار، ولكن لا أتحاور مع من يحمل السلاح، لأن من
يرفع السلاح، لا مكان له بيننا ولا حوار بيننا وبينه، الحوار له آليات أخرى
خلاف سفك الدماء.
[شيخ الأزهر، محمد طنطاوي، مجلة الوسط، العدد: (360) ]
طوبى.. لكوبا! !
أعلن الرئيس الأمريكي كلينتون سلسلة إجراءات لتخفيف الحظر على كوبا من
أجل مساعدة الشعب، دون تقوية النظام! !
[جريدة الحياة، العدد: (13089) ](136/82)
من ثمرات المنتدى
في هذه الزاوية يسر المنتدى الإسلامي أن يتواصل مع قرائه الكرام بإيقافهم
على آخر الأنشطة والمستجدات والفعاليات التي تتم بفضل الله تعالى في مختلف
مكاتبه المنتشرة في إفريقيا وآسيا، سائلين الله تعالى أن يخلص النيات، ومتمنين
من أحبابنا الكرام أن يزودونا بملحوظاتهم واقتراحاتهم، وأن يقفوا معنا بدعائهم
وعونهم.
إسلام قس
أشهرَ أحد كبار القساوسة الذين ينتسبون لأقدم كنيسة في غانا إسلامه، وسمى
نفسه: (محمد مصطفى) ، وهو من الذين تتلمذ على يده الكثير من دعاة الكنيسة في
غرب إفريقيا، وأبدى ندماً شديداً على ما قدمه من حرب الإسلام، ولكنه استبشر
خيراً حين علم أن الإسلام يجبّ ما قبله.
وكان مطلبه الرئيس، أن يُعجّل بتعليمه، حتى يقف للإسلام داعياً إليه، كما
كان يقف ضده، وتم إرساله إلى إحدى القرى وقضى بها شهر رمضان تحت
إشراف أحد الدعاة.
وقبل الذهاب إلى هذه القرية، استأذن لزيارة أهله لترتيب أمرهم، ثم جاء
إلى الإخوة في المكتب بصحبة زوجه التي أعلنت إسلامها، وسماها خديجة، وابنه
الذي سماه الصديق.
ويقوم المنتدى الإسلامي بعقد دورات لمدة ثلاثة أشهر للمهتدين الجدد يتعلمون
خلالها أمور دينهم.
قوافل وملتقيات دعوية
حرصاً من المنتدى الإسلامي لنشر الإسلام والدعوة الصحيحة فقد سيّر بفضل
الله تعالى عدداً من القوافل الدعوية التي تهدف إلى نشر الإسلام والعقيدة الصحيحة
إلى القرى والأرياف النائية، في كل من: أوغندا، والصومال، غانا، نيجيريا،
مالي، توجو، بنين، كينيا، بنجلاديش، وقد بلغ عدد هذه القوافل 145 قافلة،
شارك فيها عدد من الدعاة والأطباء.
كما أقيم ملتقيان دعويان في كل مالي ونيجيريا شارك فيهما أربعمائة داعية.
من هنا وهناك
تم بحمد الله تعالى بناء خمسة عشر مسجداً، في كل من بنجلاديش، نيجيريا، توجو، كينيا، كما تم بفضل الله حفر 34 بئراً في بنجلاديش ونيجيريا وكينيا
وتوجو والسودان.
***
أقيم بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية العالمية مخيم لمكافحة العمى في دولة
نيجيريا، استمر لمدة ثمانية أيام، أجريت فيه (439) عملية جراحية، ووزع
(1300) نظارة، و (55) عدسة، وتم إجراء الكشف على (6000) مريضاً.
... ... ... ... ... ***
صدر حديثاً عن المنتدى الإسلامي كتاب (منهج التلقي والاستدلال بين أهل
السنة والبدع) ، وكتاب (نحو أداء متميز لحلقات تحفيظ القرآن) .
دورات ومخيمات شرعية
يعتني المنتدى برفع كفاءة الدعاة العلمية والتربوية، ولهذا تم بحمد الله تعالى
عقد ثماني دورات متخصصة للأئمة والدعاة، في كل من: أوغندا، تشاد، نيجيريا، توجو، بنين، غانا، وبلغ عدد المشاركين 378 شخصاً، وقد كان لها أثر جيد،
نسأل الله تعالى أن يبارك فيها.
وقد أقيمت في التوجو دورة تربوية لطلبة المعاهد الشرعية استفاد منها سبعة
وأربعون طالباً، كما أقيم مخيم طلابي استفاد منه خمسون طالباً.
افتتاح مركز إسلامي
تم افتتاح المركز الإسلامي التابع للمنتدى الإسلامي في مدينة بورتسودان
بدولة السودان.
أسبوعية المنتدى الدعوية باللغة الفرنسية
تواصل النشرة الأسبوعية التي تصدر باللغة الفرنسية من مكتبي توجو وبنين، وقد بلغت الأعداد الصادرة أكثر من (60) عدداً، وتخاطب هذه النشرة الفئات
الناطقة بالفرنسية من المثقفين وطلاب الجامعات من المسلمين. وتجد هذه النشرة
صدى واسعاً وإقبالاً بحمد الله تعالى حيث يتم توزيع 1700 نسخة أسبوعياً في
المساجد العامة والجامعات والمعاهد الفرنسية.
دورة شرعية في لندن
تم بحمد الله تعالى إقامة دورة شرعية مكثفة في العشر الأواخر من رمضان
في المقر الرئيس للمنتدى الإسلامي بلندن، وقد حضرها الإخوة المعتكفون في جامع
المنتدى.
مشروع إفطار صائم والدورات الرمضانية
بفضل من الله تعالى فقد أنجز المنتدى الإسلامي مشروع (إفطار صائم) لعام
1419هـ وذلك في عشرين دولة في إفريقيا وآسيا وأوروبا.
وقد استفاد من هذا المشروع مليونا شخص، حيث تم توزيع:
(250، 943، 1) مليون وتسعمائة وثلاثة وأربعين ألفاً ومئتين وخمسين وجبة، وكان دعاة المنتدى يحرصون على اغتنام تلك الفرص المباركة لدعوة الناس وتعليمهم، حيث بلغ عدد المحاضرات والدروس العلمية والتربوية المصاحبة للمشروع: (470، 12) اثني عشر ألفاً وأربعمائة وخمسين درساً.
وقد استفاد من هذه البرامج الدعوية (500. 485، 1) مليون وأربعمائة
وخمسة وثمانون ألفاً وخمسمائة شخص.
كما كان من ثمرات هذا المشروع أن أسلم بفضل الله تعالى ثم بسببه (473)
أربعمائة وثلاثة وسبعون شخصاً.
كما أقيمت ثمانية دورات شرعية في كل من نيجيريا، ومالي، وجيبوتي،
والصومال، استفاد منها (467) شخص، وشارك في هذه الدورات عشرة من طلبة
العلم من خارج تلك الدول.(136/86)
في دائرة الضوء
العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة
خالد أبو الفتوح
منذ أن تمت أول جريمة قتل في تاريخ البشرية على يد قابيل بن آدم باستخدام
أكثر الأدوات بدائية (وهي صخرة على ما جاء في بعض روايات التفسير) وسُبل
تطوير آليات العنف بهدف الإخضاع والسيطرة لم تقف عند حد..
فبعد ما كان الإنسان القديم يعتمد بشكل أساس على قواه العضلية اعتبر تمكنه
من تطويع الحديد والمعادن الأخرى خطوة مهمة في الارتقاء بهذه الآليات؛ حيث
أضيفت إلى القوة العضلية الكفاءة التصنيعية والمهارة التدريبية لاستخدام تلك
الأسلحة الجديدة كالسيف والرمح والسهم ... وفي المحاولات العديدة لسيطرة
المجموعات البشرية بعضها على بعض عن طريق المعارك الحربية التي كانت
أقرب ما تكون في العصور الوسطى إلى العركات أو (الخناقات) الكبيرة المنظمة
بقي عنصرا القوة العضلية والشجاعة القلبية ملازمين لهذه الآليات الجديدة، وإن
ظهرت وقتها بعض المحاولات لتحييد هذين العنصرين، باستخدام آليات للرجم
بالحجارة والكرات المشتعلة باستخدام المنجنيق وركوب مركبات تجرها الحيوانات.
وباكتشاف البارود وابتكار المحركات البخارية، ثم النارية، وما ترتب على
ذلك من اختراع الغرب لأسلحة جديدة ذات فاعلية كبيرة في الفتك والتخريب
كالمدافع والطائرات والدبابات والصواريخ.. تقدم الإنسان خطوة كبيرة على طريق
تحييد العنصرين المشار إليهما (القوة العضلية والشجاعة القلبية) ، فبرغم بقائهما
ضروريين في المعارك الحربية إلا أن الحاجة إليهما تأخرت كثيراً؛ لأن الالتحام
التقاتلي المباشر تأخرت أهميته هو الآخر في هذه المعارك؛ حيث أصبح من اليسير
التقاتل مع الأعداء عن بُعد وإيقاع أفدح الخسائر بهم بدلاً من هذا الالتحام أو
الحصار لآماد طويلة.. كما أصبح من اليسير إيقاع أشد النكال بالمدنيين العزل قبل
القضاء على جيوشهم، وأحياناً قبل مواجهة تلك الجيوش، ولكن مع ذلك بقيت
الحروب في وعي الإنسان أحد أساليب السيطرة البشعة والمكلفة بشريّاً وماليّاً.
وبإسقاط أمريكا لأول قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي باليابان
خطا الإنسان خطوات عدة في أكثر من اتجاه على طريق السيطرة والإخضاع:
خطوة على طريق القوة التدميرية الهائلة للأنفس والممتلكات، وخطوة على طريق
التقاتل وإيقاع الخسائر بالعدو بأقل مواجهة تذكر مع استخدام أكثر للذكاء الإنساني
في التخطيط والتنظيم والأدوات والتقنيات، وخطوة على طريق التهديد بالقوة
والبطش كرادع وقائي من أجل السيطرة والإخضاع.
وعلى صعيد آخر ظهرت الرغبة في التدمير الانتقائي للعدو، وذلك باستخدام
الأسلحة الكيماوية والبيولوجية التي تستطيع القضاء على الأحياء مع الإبقاء على
البنى الأساس والمنشآت المهمة يتسلمها الطرف المنتصر بعد دخوله المدن المقهورة! وآخر ما سمعنا عنه في هذا المجال ما تفتقت عنه قريحة الإنسان الغربي من
محاولة ابتكار القنبلة العرقية التي يخطط لها أن تقضي على أناس ينتمون إلى عِرق
محدد لو ألقيت على مكان تأهله مجموعات عرقية مختلفة!
تغير مجالات الصراع وبروز عناصر جديدة للقوة:
غير أن معادلات الصراع أخذت شكلاً جديداً بعد الحرب العالمية الثانية؛
حيث ذاق الإنسان ما فيه الكفاية من ويلات الحروب العائدة على المهزوم والمنتصر، وحيث وجدت هوة كبيرة في التسلح والتقدم التقني في جميع المجالات بين العالم
الأول والعالم الثالث والأخير، حتى أصبح هذا الأخير لا يفكر في مناطحة الأول
الذي لا يحتاج بدوره إلى القضاء على العالم الثالث لضعفه وهامشيته وخضوعه
النفسي له، وبدلاً من القضاء عليه تكرس تفكيره على كيفية استغلاله لصالحه.
وقد أظهرت الحرب الباردة أن التوازن في القوة بين دول العالم الأول كان
أحد عوامل التعقل فيما بينها، نتيجة الوعي بأن الدخول في صراع عسكري
وخاصة لو كان نوويّاً سيؤدي حتماً إلى إفناء وإهلاك الأطراف المتنازعة الذين هم
في المحصلة أبناء تاريخ حضاري واحد، ومن ثم: تُركت ممارسة هذا الأسلوب
لمجتمعات العالم الثالث واستثمار النزاعات بينها لصالح دول العالم الأول.
وأخيراً: فقد تغيرت معادلات الصراع بعد الحرب العالمية الثانية من حيث
بروز نتائج الثورة الصناعية في الغرب؛ حيث ظهرت أهمية متزايدة لبعض
عناصر القوة تمثلت في: تبوّؤ الآلة مكان الصدارة في حياة الإنسان العملية،
وسيطرة رأس المال باعتباره قوة اقتصادية محركة لغيرها من القوى، وبروز أهمية
وسائل الإعلام وخاصة الصحافة، ثم بعد ذلك: الأجهزة المرئية والمسموعة،
وشبكات المعلومات باعتبارها أحد المكونات الرئيسة للرأي العام..
وصاحبَ تزايد أهمية هذه العناصر للقوة تعميق أنماط اجتماعية كانت جديدة
ومستغربة منذ عهد قريب؛ فمع انتشار الآلة ازداد طلب الترف والرفاهة، وشاعت
حياة اللذة والمتعة المجردة، وتراجعت القيم والمبادئ والعقائد إلا ما يخدم هذه الحياة
الجديدة، كما تكرس خروج المرأة إلى العمل وتحررها من البيت والرجل، وما
صاحب ذلك من اختلاط وفساد وتحطيم للأسرة بنيةِ المجتمع الرئيسة، وأصبحت
الأخلاق هي أخلاق الآلة والسوق!
السيطرة بالعولمة.. حتمية غربية:
ما علاقة كل ذلك بموضوع العولمة وآليات السيطرة؟
لله علاقته أن الغرب رغم إمكاناته الهائلة وتقدمه التقني الواضح إلا أنه غير
قادر على الاستغناء بنفسه عن بلدان العالم الثالث؛ حيث المواد الأولية الرخيصة،
والأسواق الاستهلاكية الواسعة، كما إنه لا يستطيع غض الطرف عن المشاكل التي
يسببها له هذا العالم، وعلى سبيل المثال: فقد أحس الغرب إبان أزمة البترول
الأولى (1973 1974م) والثانية (1979 1980م) بأن هذا العالم الخارجي أصبح
قادراً على أن يزلزل استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لو ترك الأمر بيده
وحده لله وعلاقته أن الغرب رغم امتلاكه لناصية القوة العسكرية إلا أنه غير مستعد
باعتباراته المجتمعية لبذل أرواح أفراده إلا في حالة الضرورة القصوى عندما يكون
الموت للإبقاء على الحياة، [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... ] [البقرة: 96] ، فهم لا يملكون في حسهم إلا
هذه الحياة الدنيا [وَقَالُوا إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] ...
[الأنعام: 29] ، [وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَاًكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأَنْعَامُ] [محمد: 12] فماذا يبقى لهم لو فقدوا هذه الحياة؟ وبشهادة مفكري الغرب فإنه بعد الحرب العالمية الثانية انحسر في حس أفراد المجتمع الغربي مدّ الأيديولوجية السياسية ... والمذهبية انحساراً ملموساً [1] ، وحلت محله روح المصلحة التي مثلتها مذهبية البراجماتية (النفعية) في تطبيقها الأمريكي الواضح، كما إن مبادئ نظرية التحليل النفسي التي أشاعها فرويد وتلامذته وآتت أكلها في المجتمع الغربي ربطت الصحة النفسية لدى الأفراد بمدى ما يحققونه من رغباتهم وشهواتهم الشخصية، حتى إن غير الأناني عند أصحاب هذه المدرسة يعتبر غير سوي نفسيّاً، وهذه الأحاسيس لدى الأفراد الغربيين ظهرت جلية أثناء حرب أمريكا في فييتنام، وبعدها خلال المغامرات الغربية في لبنان والصومال؛ حيث يتساءل الرأي العام دائماً: في أي سبيل نرسل أبناءنا للموت؟ وما العائد علينا من ذلك؟ وعندما تكون الإجابة: لمصلحة الوطن العليا، فإنهم يرسلون جيوشهم، مع الأخذ في الاعتبار الحرص على الاقتصاد في الالتحام ونيابة آلة التدمير عنهم فيه، وإدارتهم لها من خلال غرف العمليات المكيفة ما أمكن، وأحياناً: مع تناول نوع شيكولاتة لا يذيبها حر الصحراء، وهذا ما حدث أثناء حرب (فوكلاند) بين بريطانيا والأرجنتين؛ حيث لم تتوان بريطانيا في خوض الحرب دفاعاً عن ترابها الوطني في أقصى جنوب المحيط الأطلنطي، وحدث أيضاً أثناء حرب الخليج الأخيرة عندما شعر الغرب بأن شريان رفاهيته ورخائه تحت التهديد.
لله وعلاقته أن في إدارة الصراع يحرص كل طرف على جذب الطرف الآخر
إلى نطاق قوته وما يحسن استعماله، وفي سبيل ذلك يغري صاحبُ القوة الطرفَ
الآخر بالوقوع في هذا النطاق أو يورطه فيه، تماماً كما يفعل تجار المخدرات
ومروجوها؛ فإنهم إذا لم يجدوا في الشخص المستهدف الظروف الحياتية المناسبة
لاستغلالها فيه، فإنهم يعرضون عليه جرعة المخدرات الأولى مجاناً، والتي تليها
بثمن بخس.. وهكذا، حتى إذا أدمن وأصبح غير مستغنٍ عن هذه المخدرات
طالبوه بما يريدون وابتزوه بما لا يرضى ولا يستطيع!
كيف ستعمل الآلية الجديدة؟
فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الغرب بقيادة يهود يريد التحول والاستقرار
بأسلوبه في السيطرة من الاستعمار إلى الاستحمار (أي: ركوب الأمم واستغلالها
دون القضاء عليها) : فما هي القوى غير العسكرية التي يملكها الغرب ويستطيع بها
تركيع الآخرين وإخضاعهم له لو استطاع جذبهم إلى نطاقها؟
إنها قوة الاقتصاد الرأسمالي المتوحش؛ فكما يقول إيرازموس (1508م) :
(إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دوماً) ، وقوة تشكيل الرأي العام؛ فالرأي
العام هو ملك العالم على حد تعبير المفكر الفرنسي بليز باسكال (1670م) ، وقوة
إفساد الآخرين وهدم شخصيتهم الثقافية التي تمثل عائقاً للتمتع بالاستحمار الغربي
للشعوب.
وهذه القوى الثلاث هي التي دار حولها الحديث عن العولمة، وهي كما هو
واضح قوى متضافرة يخدم بعضها بعضاً؛ فالرأي العام مثلاً يمكن تشكيله بحيث
يرحب بل يطالب بما يريده من يشكله، وهو يحتاج إلى أجهزة إعلام قوية، التي
هي بدورها في حاجة إلى رأس مال كبير، وهذه الأجهزة الإعلامية تستطيع
الترويج لنمط اقتصادي معين، كما تستطيع تهيئة الرأي العام لقبول هيكل اقتصادي
جديد وقيم اجتماعية عصرية، ومن خلالها ومن خلال النمط الاقتصادي المروج له
تبث المبادئ الثقافية والأيديولوجية المستهدفة التي ستعمل بدورها على نقص
المناعة الوطنية أو القومية أو الإقليمية أو حتى الدينية لقبول النظام الجديد.
وهنا نأتي إلى بيت القصيد، وهو أن الآلية المتطورة التي نتحدث عنها تتم
عن طريق العقوبات الاقتصادية التي قد تصل إلى الحصار الاقتصادي الجزئي أو
الشامل، وما يصاحبها من إجراءات سياسية ودبلوماسية، بل ورياضية، تعززها
حملة إعلامية منظمة لحشد الرأي العام العالمي لتأييد هذه العقوبات والإجراءات التي
تؤدي النتيجة المطلوبة من هذه الآلية البديلة عن أسلوب الحرب المعلنة، وهذه
النتيجة يمكن التحكم فيها حسب نوع العقوبات وقوتها، فتثمر إزعاج المجتمع
المستهدَف ومضايقته، أو تعويقه، أو شله، أو تدميره تدميراً شاملاً أو جزئياً، إلى
أن يخضع وتتم السيطرة عليه، وهذه الآلية تم اختبارها وما زالت مع دول عديدة:
كجنوب إفريقيا، وكوبا، وفييتنام، وإيران، والسودان، والصومال، وليبيا،
ويوغسلافيا السابقة، والعراق. وبحسب نظرية التطويق فإن مصر وسورية قد
تدخلان في هذا الإطار أيضاً.
ويقفز إلى الذهن سؤال مهم برغم بداهته، وهو: ماذا سوف يحصل لو
افترضنا جدلاً أن الدولة المستهدَفة مستغنية بنفسها عن المجتمع الدولي؟ .. الإجابة
البدهية أيضاً: أن هذه العقوبات التي تحملها الآلية التي نتحدث عنها لن تؤدي
هدفها المرجو من إخضاع هذا المجتمع والسيطرة عليه، بل ستكون عديمة الجدوى
والفاعلية. إذن لا بد من ربط المجتمعات المستهدفة بالإغراء أو بانتهاز فرصة
صعوبة ظروفها بالمجتمع الدولي (الدائر في فلك الغرب) بحيث لا تستطيع
الاستغناء عنه والفكاك منه، ليس ربطه بوجود علاقات تبادلية وتكاملية بينه وبين
الآخرين، بل بالتداخل والمشاركة في المقومات الحيوية له، وهنا تبرز مفاهيم:
حرية التجارة عبر الدول، والسوق المفتوحة، والسماوات المفتوحة، وشبكات
المعلومات، والطرق الدولية، والربط الكهربائي بين الدول، وشبكات الاتصال
المتوافقة والمعتمدة على الأقمار الصناعية، والصناعات التكاملية. وتبرز أيضاً:
خصخصة المرافق الحيوية والشركات الكبرى بعرضها في سوق العرض والطلب
الدولي مع التضييق أثناء التنفيذ على رأس المال الوطني، كما تبرز أهمية دور
الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الأهلية متعددة الفروع وجمعيات حماية
البيئة [2] ، ومنظمات حقوق الإنسان، والثقافة الإنسانية المشتركة.. حيث سيتوارى
إلى الظل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي لتحل محلها الشركات متعددة الجنسيات
والمنظمات الأهلية ممتدة الفروع، تحت مسوِّغ تجنب التصدي لمسائل سياسية
وأخلاقية أساسية في عملية التنمية، بينما تحتفظ الدولة بالمهام الأمنية والسياسية
التي ستعمل بالطبع في خدمة الأدوار الأخرى، والهدف من ذلك: إيجاد معبر دولي
إلى المجتمع للتحكم فيه بعيداً عن هيمنة الدولة، واستخدام هذا المعبر عند الحاجة
ذريعة للتدخل بحجة حماية الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الذرائع الأخرى
المطاطة والمعلبة، كحماية الأقليات أو حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو المحافظة
على البيئة، أو التشكك في حيازة أسلحة دمار شامل، ورعاية الإرهاب الدولي،
وتهريب المخدرات ... ، ولكن بالطبع لن يعلن أنه بحجة المحافظة على رخاء
المواطن الغربي والرفع من رفاهيته! وإذا تم فرض عقوبات على دولة يراد
إخضاعها فلن تكون قدرتها على الصمود إلا بدرجة استقلالها عن التبعية والمشاركة، وهو ما تخطط العولمة لعدم وجوده.
فبعد الحصار والعقوبات قد لا يتوفر الغذاء إن كان مستورداً، وحتى لو كان
محليّاً فسيتأثر الإنتاج الزراعي سلباً إن كانت بذوره أو أسمدته أو آلاته مستوردة،
وكذا: حال الدواء، وقد تتوقف الصناعة إن كانت المواد الأولية أو الآلات
مستوردة، أو إن كانت الصناعات تكاملية تصنع بعض الأجزاء في الخارج؛ حيث
تعمل العولمة على أن تكون عبارة (صنع في ... ) مجرد خرافة، وإن كانت الدولة
تعتمد في دخلها على تصدير مواد أولية أو زراعية أو صناعية فبوقف التصدير
توقف معظم مدخولات الدولة، وإذا كانت للدولة وفي بعض الحالات الخاصة
للأفراد استثمارات وأرصدة في الخارج، فتجميد الأرصدة كفيل بحذف هذه الأرصدة
ولو مؤقتاً، وهكذا تشل قدرة الدولة على الحياة الطبيعية لترتد إلى الخلف عشرات
السنين وربما مئات في السلم الحضاري، كما إن وسائل الإعلام المفتوحة ومروجي
الثقافة الإنسانية سيعملون على دفع الرأي العام للتذمر من هذا الوضع والانقلاب
عليه.
ما وراء العولمة:
ونتساءل الآن: إذا تجاوزنا تعريف العولمة والتناقضات التي تحملها طبيعتها، والإيجابيات والسلبيات المنتظرة منها، فما هو هدف العولمة؟
إن الهدف المعلن من العولمة هو إزالة الحواجز وتذويب الفروق بين
المجتمعات الإنسانية المختلفة؛ لسيادة آلية رأس المال التي تأبى أي قيود، وآلية
المعلومات التي تأبى أي رقابة، وكذلك إشاعة القيم الإنسانية المشتركة التي يراد لها
أن تجمع البشر وتكون أرضية لإنفاذ آلية رأس المال وآلية المعلومات المشار إليهما، فإجراءات العولمة الحالية تحاول أن تشمل الاقتصاد والسياسة والاجتماع
والاستراتيجية والثقافة، من خلال نظرية ليبرالية شاملة، جاعلة شعارها:
(المصير الواحد للبشرية) ..
وقد يبدو هذا الشعار براقاً من حيث إنسانيته، ولكن الإشكال في أن الإنسانية
ليست مجرد إطلاقات منفصلة عن مفاهيم ومصالح الإنسان الذي يضعها ويروج لها، فمن هو الإنسان المستفيد من العولمة؟ ومن هو القادر على إملاء مفاهيمه على
الآخرين؟ إنه الطرف الأقوى؛ فهو الذي سيحدد المعايير، وهو الذي سيدفع
الهيئات والدول نحو ما يريد، وهو الذي سيعمل بانتقائية لخدمة مصالحه، إنه
الغرب وعلى رأسه أمريكا ... الغرب الذي لم يعرف في تاريخه ولا حاضره إلا
العمل لمصلحته وترويج مفاهيمه.
وعلى ذلك: فالقوى العظمى ذات المصلحة الحالية لن تفرط بمكاسبها، على
أساس أن الذي يسيطر حالياً هو الذي سيبقى مسيطراً في عصر العولمة إلى درجة
العمل على إفناء الآخرين؛ فالمعركة التنافسية لن ترحم الضعفاء، وبدهي أن
إجراءات العولمة تفترض الاعتماد على اقتصاد قوي وأنظمة سياسية واجتماعية
مستقرة وبنى تحتية غير محدودة، وخاصة في نطاق الاستثمارات التي تتطلب
رؤوس أموال باهظة، وهذا ما لا يتوفر لدول هشة لا تملك القدرة بذاتها على تأمين
الضرورات الحيوية لشعوبها، فاختارت أو اضطرت للانجذاب إلى الأقطاب القوية
كما في الحقيقة الفيزيائية في التجاذب المغناطيسي.
وأمريكا وحدها هي التي لا تقع في منطقة نفوذ لغيرها، وهي التي تملك
استراتيجية قادرة، وقوة عسكرية سهلة الانتشار عالمياً لحماية مصالحها، ولمراقبة
الحصارات المتوقعة بعد العولمة، وهي التي تحاول السيطرة مالياً بجعل الدولار
القاعدة النقدية الدولية، وهي الأكثر قدرة على رسم خطوط التقسيم، سواء مباشرة، أم بواسطة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو تنظيمات تجارية إقليمية، أو
تنظيمات عسكرية قارية.
الدور المرتقب للعالم الثالث في العولمة:
أما العالم النامي فهو في نظر الغرب مجرد حشو دولي! يمكن الاستفادة منه،
ولكنه غير مؤهل لدخول لعبة العولمة، أي إنه ليس بلاعب ولكنه ملعوب عليه،
وهذا ما يظهر إذا أردنا توضيح المفارقات في الوزن الاقتصادي لبعض الأطراف
التي يراد لها دخول عالم العولمة: فالشركات متعددة الجنسيات التي يتوفر لها رأس
مال ضخم بالتهامها شركات صغرى اشترتها بأبخس الأثمان، أو قيامها على أنقاض
شركات كبرى أفلست في صراع المنافسة، أو باعتمادها على شركات فرعية تابعة
لها، هذه الشركات هي التي تستطيع خوض المنافسة في الأسواق وكسب رهان
الأرباح الطائلة، وحسب (عبد الهادي بو طالب) (1998م) فقد كان يوجد في العالم
منها نحو مئة شركة عام 1970م، وفي الثمانينيات ارتفع عددها إلى عدة مئات،
بينما تجاوز عددها منذ سنة 1995م الأربعين ألفاً بقليل، منها ألف شركة عملاقة
موجودة اليوم، وتملك وحدها 25% من إنتاج العالم، في قمتها (191) شركة
تتوزع جغرافياً كما يلي: (62) شركة في اليابان، (53) شركة في أمريكا، (23)
شركة في ألمانيا، (19) في فرنسا، (11) في بريطانيا، (8) في سويسرا، (6)
في كوريا الجنوبية، (5) في إيطاليا، (4) في هولندا.. وهذه الشركات لا تساهم
إلا بنسبة 0. 75%من مجهود التشغيل العالمي، ولا تؤدي إلا 9% من مجموع
الضرائب العالمية، بينما تحتكر 80% من حجم التجارة العالمية.
وفي المقابل نجد أن الدول العربية كإحدى المناطق المستهدفة بالعولمة بلغت
ديونها الخارجية عام 1995م: (250) مليار دولار [3] ، وتتفاقم ديونها بما مقداره
(50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة (4) ، ولا شك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون
كلما ترسخت التبعية ووُجدت الذريعة للتدخل، فعن طريق القروض احتلت إنجلترا
مصر واحتلت فرنسا تونس في القرن الماضي ... وبسبب هذه الديون التي بدأت
بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يعملان
على إغراق الدول المستهدفة بالديون أصبح اقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً،
يستطيع وبصعوبة بالغة ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فهي في الحقيقة
وسيلة لبسط النفوذ على البلاد تماماً كما كانت في الماضي.
فبين من ستكون المنافسة في ظل العولمة؟ وكيف ستكون مكانة مثل هذه
المجتمعات النامية في العولمة؟ إنها مكانة البقرة الحلوب التي يراد لها ألا تخرج
من الحظيرة.
وحتى لا يتضح دور العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا في الهيمنة العالمية
فسيكتفي الغرب بدور الموجه والمشرف فقط، تاركاً تتميم الإجراءات وفرض رؤى
العولمة للمجتمعات المستهدفة نفسها عن طريق المؤتمرات الدولية والإقليمية
والمنظمات الدولية، كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة
العالمية (Wto) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة الأغذية والزراعة
(Fao) ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونسكو....
فمعظم الأنشطة الإنسانية بدءاً من مولد الأفراد، وشكل المحاضن الاجتماعية لهم،
وشرعيتها، وتعليمهم، وعملهم، والقوانين التي يجب أن يسيروا عليها، والنظام
السياسي والاقتصادي الذي ينبغي أن ينخرطوا فيه، والإعلام الذي يوجههم.. كل
ذلك وغيره أصبح موضع اهتمام دولي أو إعلام عالمي أو منظمات أممية، حتى بدا
أن هذه المنظمات تريد أن تعمل بين البشر عمل الوزارات المختلفة بين أبناء الدولة
الواحدة، فإذا استطاعت ألا يكون لأي رؤى أخرى مجال في تكوين رأي آخر أو
سيطرة فلن تتوانى في ذلك.
مشاهد من مسيرة السيطرة بالمشاركة والتداخل:
وهذا التفسير الذي قد يحلو لبعض المتغربين وصفه بالتآمري للعولمة، وهو
أنها آلية متطورة للسيطرة على الشعوب واستغلالها، بحيث لا تستطيع الفكاك من
الفلك الغربي التآمري، وإذا فعلت ذلك فسيسهل إخضاعها وتركيعها بغير حرب
معلنة.. هذا التفسير يوضح لنا عدة ظواهر غير مترابطة في الظاهر وغامضة في
المدلول عند كثير من الناس:
لله يوضح لنا دور مؤتمرات القمة الاقتصادية للشرق الأوسط التي انعقدت في
الدار البيضاء وعمان والقاهرة والدوحة..، وسبب الإصرار على ربط السلام
بالتطبيع، حتى تكاد تكون استراتيجية اليهود في المرحلة الراهنة: (من المحيط إلى
الخليج.. التطبيع قبل التوقيع!) ، فسيطرة الأداة الاقتصادية لا تتم إلا بقدر وجود
فراغ سياسي وثقافي وضعف انتماء ديني ووطني، مما يهيئ المناخ لقبول تركيبة
العلاقات الجديدة، وهنا يبرز التفسير العولمي للصراعات والنزاعات إقليمية كانت
أو دولية فمضمون هذا التفسير: أنها يجب أن تؤخذ من منظور اقتصادي، ويكون
حلها من خلال هذا المنظور الاقتصادي أيضاً، فبالتطبيع الاقتصادي ستكون مصالح
جميع الأطراف متداخلة ومتشابكة، فيقودهم ذلك المصير الواحد إلى المعايشة
والسلام، وبه أيضاً ستدار الحرب بالآلية الجديدة المتمثلة في الاقتصاد والاجتماع
والإعلام، وهذا ما أكده (شمعون بيريز) عند تسويقه لمشروع السوق الشرق
أوسطية؛ حيث (برهن على أن الحروب هي أسوأ وسائل السيطرة، بل إن
السيطرة الحقيقية تكون بالاقتصاد والتكنولوجيا والعلم، إن دول الشرق الأوسط قد
أنفقت الكثير على الحروب والدمار، ولا بد أن نكسر الحواجز النفسية لوضع
منظومة اقتصادية يرتبط بها الجميع) (5) .. وهذه الحواجز النفسية يقوم بكسرها
التطبيع الثقافي والإعلامي، الذي يعمل على الوصول إلى نوع من الانفتاح العقلي
والنفسي على الآخر، بل يعمل على تعميق القابلية للذوبان في هذا الآخر وعدم
التفكير في الانفصال عنه، ولكن يهود لم يتوانوا في جمع غنائم هذه الحرب مبكراً، وذلك عن طريق: رفع بعض درجات المقاطعة الاقتصادية العربية النظرية، مما
وفر لها (4) مليارات دولار سنويّاً، (أي: أكثر من المعونة الأمريكية السنوية
لإسرائيل) ، وزيادة حجم التجارة الخارجية الخام بنسبة 20%، كما بدؤوا الحرب
الاقتصادية الفعلية حتى مع المجتمعات التي وقّعت معهم اتفاقات سلام، وذلك باتباع
سياسات الإغراق، وشراء الأصول الاقتصادية، وتدمير الصناعات والزراعات
الوطنية، ولأن اقتصاد هذه الدول (وهي لا تختلف كثيراً عن بقية الدول المستهدفة
إقليمياً وعالمياً) غير مؤهل للدخول في هذا النظام الشرق أوسطي لأسباب عديدة.
بل بدأت الحرب الاقتصادية الفعلية والواضحة تظهر آثارها على الاقتصاد
العربي، فقد ذكرت معلومات نشرتها مؤسسات أمريكية متعددة أمنية واقتصادية أن
السبب الرئيس وراء إفلاس وخسارة 39% من الشركات العربية كان (التجسس)
الصناعي، إضافة لإفساد صفقات بمليارات الدولارات، كما أشارت إلى أن هذه
المؤسسات لا تعلم سبب خسارتها حتى الآن [6] ، وجدير بالذكر أن أشهر قضايا
التجسس مؤخراً في مصر كانت من قضايا التجسس الصناعي، إضافة إلى قضايا
التجسس الاجتماعي ذات البعد السياسي، كالتجسس على بعض الجماعات
والتيارات الإسلامية.
لله وهذا التفسير يوضح لنا ما وراء الإلحاح على حشد المجتمع الدولي في
مؤتمرات دولية أشبه ما تكون بالتظاهرات، والتركيز على دور المؤسسات غير
الحكومية في صنع قراراتها، هذه القرارات التي يراد لها أن تكون بمثابة القوانين
الصادرة عن البرلمانات.
ويوضح لنا أيضاً لماذا الإصرار على مناقشة قضايا أخلاقية واجتماعية في
هذه المؤتمرات، كمؤتمر السكان بالقاهرة، ثم بلاهاي، ومؤتمر المرأة ببكين،
ومؤتمر الإسكان بإسطنبول، فهي نوع من العولمة لقيم اجتماعية غربية محددة،
ووضع المجتمع الدولي برمته على قدم المساواة مع الانهيار الأخلاقي والاجتماعي
الذي انحدر إليه الغرب؛ فالأسرة مثلاً تعتبر الركيزة الاجتماعية الباقية على قدر
كبير من التماسك والقوة في المجتمعات الشرقية وخصوصاً الإسلامية بينما هي في
الغرب تعتبر عملياً من مخلفات الماضي، وإن بقيت لها أهمية نظرية عند بعض
المفكرين وبعض المؤسسات الدينية، ويراد هدم هذه الركيزة في المجتمعات غير
الغربية عن طريق إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني.
كما يراد من هذه المؤتمرات أن تكون معولاً بيد ضحاياها لهدم ما تبقى من
عناصر قوة في مجتمعات العالم الثالث، والذي يقع العالم الإسلامي في نطاقه، بعد
أن وضع الغرب يده على الموارد الطبيعية، وهي القوة البشرية الكثيفة التي يتمتع
بها هذا العالم، وذلك ما يمثل هاجساً للغرب، الأمر الذي عبر عنه بصراحة رجل
المخابرات الأمريكي صامويل هنتنجتون صاحب كتاب (صراع الحضارات) ، حيث
قال: (إن زيادة عدد السكان المسلمين وبصورة خاصة في منطقة البلقان والشمال
الإفريقي وآسيا الوسطى كانت أكبر بصورة ملحوظة مما حدث في البلدان المجاورة
لهذه المناطق وفي العالم بصورة عامة، ونما السكان في البلاد الإسلامية بمعدل
عشرة أضعاف النمو السكاني في بلدان أوروبا الغربية، ويغير هذا التطور بصورة
أساسية (التوازن الديني في العالم) ، وعلى سبيل المثال: تدل التقديرات على أنه
في حين أن المسلمين شكلوا 18% من سكان العالم في عام 1980م فإنهم سيشكلون
نحو 23% من سكان العالم في عام 2000م، و31% في عام 2025م، ومن ثم
يزيد عددهم على السكان المسيحيين!) . ويتابع قائلاً: (وستكون الغالبية العظمى
من الشباب من سكان المدن، كما سيكون معظمهم قد تلقى تعليمه الثانوي، وتشكل
هذه التركيبة من حيث السكن في المدن ومستوى التعليم ظروفاً سياسية هامة، وهذا
الجيل هو الذي سيوفر العناصر التي يجند منها أعضاء المنظمات الإسلامية
والحركات السياسية) [7] .. فهل تنجح جهود الأمم المتحدة في إعادة التوازن
السكاني في العالم؟ .. وهل ستتخلى البلاد الإسلامية عما تبقى لها من عناصر القوة؟
لله وهذا التفسير يوضح لنا سبب الإلحاح المستمر على تعدد صور السيطرة
الاقتصادية، والتي منها: حشد الدول نحو الانخراط في المنظومة الاقتصادية
الغربية تحت مظلة العولمة، والترهيب من التخلف عن هذا الانخراط، وفي هذا
السياق تظهر قمة (دافوس) الاقتصادية مكملة لمؤتمرات اتفاقية التجارة الدولية،
فهدف اتفاقيات التجارة الدولية الذي تحققه من خلال شروطها هو فتح الأسواق
العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عوائق أو ضوابط، وعليه: فلن تستطيع
المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، مما يعني تعثر العديد من
الأنشطة الاقتصادية الوطنية، ويكون البديل المتاح هو: إما الاقتصار على
الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد؛ حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية ويزيد
التضخم نتيجة الركود الاقتصادي، وإما بيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات
العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي واللحاق بركب المنافسة العالمية.. وهذا هو
المطلوب.
ومن صور السيطرة الاقتصادية أيضاً: ظاهرة التزيين الإعلامي لحصول
الشركات المحلية على شهادة الأيزو، هذه الشهادة التي تنفرد بمنحها منظمات غربية
دولية، بحجة أنها شهادة منها بتحقيق الشركة الممنوحة لها للجودة، وعلى ذلك يحق
لها حرية التعامل في الأسواق الدولية دون قيود من الدول الأخرى [8] .
لله وأخيراً: فإن هذا التفسير يوضح لنا أيضاً الجهود المحمومة لتهيئة الرأي
العام نفسياً وثقافياً للعولمة، بدءاً من انتشار سراويل الجينز، وأزياء المودات
العالمية، ومطاعم الوجبات السريعة الأمريكية ومشروباتها الغازية..، التي يعتبر
افتتاح محلاتها ومصانعها تمهيداً للفتح الأمريكي وشعاراً عليه.
ومروراً بمحاولات محو ذاكرة الأمم والتلاعب في تراثها لمصلحة إزالة
الحاجز النفسي الذي بناه الغرب بممارساته الفجة في القديم، وتجميل وجه المستعمر
القبيح لنسيان إرث العداء التاريخي للغرب، وانتهاءً بمحاولات عولمة الدين وإيجاد
ثقافة أممية مشتركة؛ فالعولمة في صورتها النهائية ستشمل الاقتصاد والسياسة
والاجتماع والاستراتيجية والثقافة؛ حتى لا يكون هناك أي عائق لآلية الاختراقات
الغربية.
وفي هذا الإطار نستطيع فهم بروز دعوات تحاول تقديم المستعمر القديم في
صورة صاحب إنجازات حضارية في البلاد التي احتلها، ومن أبرز تلك التوجهات
مؤخراً: الجدل حول دعوة بعض المثقفين العلمانيين إلى الاحتفال بمرور 200 سنة
على الحملة الفرنسية في مصر، هذه الدعوة التي لم نسمع بها طوال مئتي عام
مضت وقد تأخذ هذه الدعوات شكل التدخل القانوني، كما رأينا في قانون مراقبة
الحريات الدينية والاضطهاد الديني الذي شرعه الكونجرس مؤخراً.
وأيضاً نستطيع فهم رعاية منظمات سياسية كالاتحاد الأوروبي لحوارات دينية
وثقافية، كمؤتمرات الحوار بين المسيحية والإسلام، والدعوة إلى ما يشبه الدين
العالمي، أو إلى ما يطلقون عليه: الحوار بين الحضارات، والهدف من وراء ذلك
هو اختراق الهويات والخصوصيات، وقد أشار إلى ذلك صامويل هنتنجتون في
كتابه وبحثه المشار إليهما، فقال: (الأصولية الإسلامية ليست هي مشكلة الغرب
الخطيرة، المشكلة هي الإسلام، الثقافة المختلفة التي يقتنع أصحابها بتفوق ثقافتهم، وهم مهووسون بتدني قوتهم، ومشكلة الإسلام ليست وكالة الاستخبارات المركزية
الأمريكية أو وزارة الحرب الأمريكية، المشكلة هي الغرب. وهو حضارة مختلفة
يقتنع أصحابها بعولمة ثقافتهم ويعتقدون بأن قوتهم المتفوقة وإن كانت في حالة
تدهور فإنها تفرض عليهم واجب نشر ثقافتهم في كل أنحاء العالم، هذه هي
العناصر الرئيسة التي تغذي النزاع بين الغرب والإسلام) ..
فما هو الأمل إذن؟ ! .. يجيب هو نفسه: (عندما تكبر أعمار الأجيال الحالية، فقد تخبو نار الإسلام في شمال إفريقيا، وإفريقيا، ومنطقة البلقان، وغيرها،
وعندما يحدث ذلك سيفتح الطريق أمام تعايش أكثر بين الإسلام والغرب، وإلى ذلك
الحين: يحتاج الغربيون والمسلمون إلى إجراء حوار بين الحضارات مثل الذي
نجريه، وذلك لاحتواء الخلافات الموجودة بينها..) [9] أي: إنه حوار للاحتواء
تفادياً للوصول إلى تصادم الحضارات الفعلي..
ما الذي يراد بالضبط من وراء العولمة؟
يُراد لف رباط عنق حريري ومتين حول أعناقنا برغبتنا وأيدينا ليتولى الغرب
شده وقت الحاجة.
* هل ستكون حكومة عالمية تحرك العالم؟
- هذا ما يعملون على تحقيقه.
* وما هو هدفهم إذن؟
- 1999.. نصر بلا حرب.
* ولكن ألا يمكن أن يعاود الغرب استعمال أسلوب السيطرة المتخلف؟
ربما، ولو حدث فقد يكون بصورة انتقائية، ولأهداف محددة، أو عن طريق
وكيل إقليمي.
وبعد:
فهذه أبعاد الجريمة التي تحاك ضد البشرية لمصلحة حفنة منهم، أردت
توضيحها حسب ما اتضح لي من رؤية، ولا بد أنه سيلح في ذهن القارئ سؤالان
مهمان:
- هل ستستطيع بعض المجتمعات الانفكاك من شَرَك العولمة؟
- وما العمل؟
أما الإجابة عن السؤال الأول: فإن الصورة القاتمة التي ظهرت خلال
العرض السابق هو تقدير الغرب وتخطيطه وليست بالضرورة قضاء الله وقدره،
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] [الأنفال: 30] ، والغرب بقدر ما فيه
من قوة بقدر ما فيه من ضعف، والعالم الإسلامي بقدر ما فيه من وهن واضمحلال
بقدر ما فيه من قوة وإمكانات، ولكن الفارق أن الغرب الآن يعرف كيف يستغل
قوته ويسد خلته، بينما لا يدرك الآخرون كيف يدارون عورات ضعفهم ويبرزون
مواطن قوتهم، بل يمكن القول إنهم يساهمون في كثير من الأحيان في إضعاف
أنفسهم وتقوية الغرب بإلقاء عناصر قوتهم في المعسكر الغربي لتزيده قوة وتزيدهم
ضعفاً؛ فالعالم الإسلامي تبلغ مساحته حوالي ربع مساحة اليابسة، وإضافة إلى
توسطه الجغرافي الاستراتيجي وتحكمه في كثير من الممرات والمضايق الملاحية
فإن رقعته تمتلئ بالثروات والخيرات، على رأسها أكثر من 80% من احتياطي
البترول العالمي عصب الحياة العصرية..، والعالم العربي الذي تتفاقم ديونه بمقدار
(50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة هو نفسه الذي تبلغ حجم استثماراته في أوروبا
وحدها (465) مليار دولار عام 1995م، بعد أن كانت (670) ملياراً عام 1986م، فنتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتبعية النفسية للغرب تصب هذه
الأموال هناك لتدار حسب المنظومة الغربية، وكذلك الأمر إذا نظرنا إلى هجرة
العقول الإسلامية إلى الغرب مع حاجة بلادهم إليهم.
وأمريكا التي توصف بأنها أغنى وأقوى بلد في العالم هي أيضاً أكبر بلد مدين
في العالم، وكما يقول مؤلفا كتاب (الإفلاس 1995م الانهيار القادم لأمريكا) : (من
الجدير بالذكر أن ديون أمريكا بلغت (4) تريليون دولار في العام 1992م، أما
الفوائد فقد بلغت (300) مليار دولار، أي أكثر من المبلغ الذي تنفقه البلاد على
قطاعات التعليم والعدل والإسكان والبيئة مجتمعة) [10] .
والإسلام الإسلام وحده هو الذي يملك في صراع الحضارات الإجابة عن
الأسئلة الكبرى حول الإنسان والكون والحياة، وهو الذي تتسق فيه روح الإنسان
مع جسده ومع عقله، هذا البعد لا يملكه الآخرون، وهو ما دعا نيكسون إلى
الصراخ أكثر من مرة في كتابه (1999 نصر بلا حرب) إلى ضرورة أن تهتم
أمريكا بالبعد الروحي في خطابها للآخرين.
فالمقصود أن في العالم الإسلامي مصادر قوة، كما إن في العالم الغربي نقاط
ضعف؛ فالمسألة ليست فقط مجرد إمكانات، ولكنها أيضاً توجه وإرادة وحكمة
وصبر، فيستطيع العالم الإسلامي استغلال مراكز قوته وسحب الآخرين إلى مجالها
إذا توافرت القوة الإيمانية الباعثة على التحدي والصبر على تحمل تبعات الحرية.
أما السؤال الثاني، وهو: ما العمل؟ فإنا نطرحه على جميع المخلصين
والمختصين لتقديم رؤى عملية تشمل الأفراد والمجتمعات للخروج من المأزق الذي
يعد باسم العولمة.
__________
(1) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، لرونالد سترومبرج، ترجمة: أحمد الشيباني، ص 624.
(2) قد يستغرب بعض القراء أن يكون لمثل هذه الجمعيات دور في العولمة، ولكن الحقيقة أن دورها واضح في حرص الغرب على منع الإغراق الاجتماعي لأسواقه (ويقصد به غمر أسواق العالم المتقدم بسلع مستوردة من دول نامية صاعدة تحققت لها الميزة التنافسية بسبب خضوع عمليات الإنتاج بها لممارسات استغلالية للعمالة الرخيصة، ولخرقها لقواعد الأمن الصناعي، وعدم احترامها لضمانات الحفاظ على البيئة) انظر مقال شريفة فتحي: منظمة التجارة الدولية قيادة الاقتصاد، وتدويل التجارة وعلاقات العمل، جريدة الخليج، ع/6427، 12/8/ 1417هـ.
(3) جريدة الوطن، 18/12/1416هـ.
(4) جريدة المسلمون، ع/683، 7/3/1998م.
(5) انظر كتاب: النظام الشرق أوسطي في طوره الجديد، لمحمد الطوخي.
(6) جريدة العالم اليوم، 11/7/1996م.
(7) الإسلام والغرب، من النزاع إلى الحوار، ترجمة أحمد علي بقادي لبحث ألقاه هنتنجتون على مؤتمر (الإسلام السياسي والغرب) الذي عقد في نيقوسيا بقبرص، جريدة الاتحاد، ع/8289،
7/1/1998م.
(8) تتضح هذه الصورة في السيطرة إذا ما علمنا الحقائق التالية عنها: - حقيقة شهادة الأيزو أنها تهتم بتوثيق إجراءات العمل ولا شأن لها بجودة المنتج - هناك شركات عديدة حصلت على شهادة الأيزو، وظهرت فيها مشاكل وأخطاء تتعلق بجودة المنتج - من حق الجهة الغربية المانحة للشهادة أن تقوم بمراجعة سنوية للشركة التي حصلت على الشهادة، ولهذه الجهة صلاحيات الاطلاع على جميع جوانب سير العمل بالشركة، مما يمكنها من معرفة جميع أسرارها - يخطط أن يطبق منح شهادة الأيزو في المرحلة القادمة على جميع الخدمات المهنية، مثل: الطب والهندسة والمحاسبة والمحاماة بعد تطبيقها على المنتجات الاستهلاكية.
(9) المصدر السابق.
(10) ص 86 من الترجمة العربية.(136/88)
متابعات
لطفي الخولي
شاهد على محنة اليسار العربي
جمال سلطان
مآلات ثلاث انتهت إليها تيارات اليسار العربي في ربع القرن الأخير،
خاصة بعد الانتكاسات المتعددة التي واجهتها الماركسية بفصائلها المختلفة عبر انحاء
العالم كله، في أعقاب السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي وما تبعه من تداعيات
السقوط لمنظومة الكتلة الشرقية كلها الواحدة تلو الأخرى، هذه الانكسارات المتتالية
جعلت اليسار العربي يمر بمرحلة انعدام الوزن، فالنموذج الكبير للشيوعية الدولية
(الاتحاد السوفييتي) سقط بشكل مزر وفاضح.
ورغم كل ما يقولونه الآن عن أن الاتحاد السوفييتي لم يكن النموذج الأمثل،
إلا أن الحقيقة أن الاتحاد السوفييتي كان الداعم الأكبر والأساس لليسار العربي، بل
إن الوثائق التي تم نشرها في الصحف الروسية من الأوراق السرية لجهاز
المخابرات السوفييتية الشهير (الكي جي بي) كانت تمثل فضيحة مدوية، حيث
نشرت بالأسماء والأرقام الأموال المشبوهة التي كانت تدفعها المخابرات السوفييتية
للأحزاب والتنظيمات الشيوعية في العديد من الدول العربية، وقد نشرت صحيفة
الأهرام المصرية طرفاً من هذه الفضيحة واكتفت بنشر الأحرف الأولى فقط من
الأسماء للتخفيف من وقع الفضيحة , حيث إن بعضاً من أبطالها هم الآن أعضاء
كبار في الأحزاب والمؤسسات الصحافية أو مجلس الشورى وغيره، هذه
الانتكاسات المتتالية ولدت حالة من الإحباط الشديد في أوساط اليسار العربي،
ضاعف من قسوتها صحائف الحساب الختامي لنصف قرن من النشاط الشيوعي في
العالم العربي، حيث عجز عن أن يحقق أي وجود فعال في المجتمع، بل إن الأمة
لفظته تماماً كما كانت تقرن الشيوعية بالإلحاد والإباحية والانحراف.
ورغم أن بعض اليساريين العرب حاولوا أن يزينوا وجه الشيوعية الكئيب
مؤخراً بالتقريب بينها وبين الإسلام وحضارته، وظهر التيار الذي ينسب نفسه إلي
الاستنارة، وبعضهم أراد أن يحمل صفة (المفكر الإسلامي المستنير) إلا أن
التجربة انتهت بالاخفاق أيضاً، لأن التكلف كان بادياً عليها، كما أن الوجوه هي
الوجوه، ثم إنهم في النهاية لم يستطيعوا صبراً علي احترام الإسلام ومقدساته؛
فسرعان ما عادوا إلي الطعن فيه وفي رموزه، حتى القرآن الكريم لم يسلم من
كيدهم، والصحابة والجيل الراشد.
هذه الانتكاسات كانت نتيجتها هي المآلات الثلاثة التي أشرنا إليها.
أما المآل الأول فقد كان الاتجاه إلي احتراف لعبة حقوق الإنسان، حيث
أصبحت هناك (دكاكين) عديدة تحمل هذه الصفة، وجميعها أسسها شيوعيون
سابقون، وفي مصر علي سبيل المثال أكثر من عشر منظمات أهلية تعمل في
مجال حقوق الإنسان، وهي جميعاً يهيمن عليها اليسار بتياراته المختلفة، وهذه
الوجهة الجديدة كان الدافع إليها أمورٌ عدة، أهمها أن هذه المنظمات تفتح علي الفور
جسوراً من الصلات مع بعض السفارات! والمؤسسات الغربية التي تزعم الاهتمام
بهذا الجانب، وتدفع بسخاء لهذه المنظمات، ومعظم أنشطة هذه المنظمات شكلية
وورقية، وفواتير تقدم علي الورق في مقابل مئات الآلاف من الدولارات التي
تتدفق في جيوب القائمين عليها حيث أصبحت مظاهر الثراء والترف لا تخطؤها
العين في العديد من (المناضلين) في هذه المنظمات، ولعل القارئ يذكر الضجة
التي أثيرت مؤخراً عن الشيك الذي كُشف النقاب عنه من السفارة البريطانية
بالقاهرة بما قيمته خمسة وعشرون ألف دولار للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان،
وكانت مأساة حقيقية أن يصبح (المناضلون ضد الإمبريالية) مجرد متسولين علي
أبواب المؤسسات التي كانوا يتهمونها سابقاً بأنها واجهات الإمبريالية الغربية،
والسبب الآخر لهذا الاتجاه أنه يحقق إعلامياً فى الدوائر الدولية دون أن يكون مقابله
أي حضور شعبي في المجتمع، وهذه هي عقدة الشيوعيين العرب.
أما المآل الثاني الذى آل إليه اليساريون العرب فهو امتهان حرفة هجاء
الإسلام والإسلاميين، إذ أصبح بعضهم لا يوجد له أي جهد علي الإطلاق إلا في
الطعن في الإسلام، وتجريح مقدساته والسخرية من شرائعه والاستهزاء برموزه
التاريخية من الأنبياء فالصحابة فنازلاً، هذا بالإضافة إلى محاولات تشويه الصحوة
الإسلامية الحالية ودعاتها وحركاتها وجهودها كافة. وكان الدافع لهذا المآل أنه
أصبح أشبه بقرابين التقرب من بعض الدوائر الأجنبية ذات النفوذ خاصة في مجال
الثقافة، وكان مثيراً للريبة أن توجه جامعات غربية كبري الدعوات المتتالية لهذه
الرموز للمحاضرة أمام طلابها أو ترجمة أعمالهم إلى اللغات العالمية، ويذكر القارئ
احتضان إحدى الجامعات الهولندية للباحث الماركسي المصري نصر حامد أبو زيد،
كما أن هذه الوجهة تمثل مدخلاً سهلاً للانتشار محلياً في أجواء الصراع السائد بين
بعض الأنظمة والحركات الإسلامية فيها.
أما المآل الثالث الذي انتهى إليه اليساريون العرب فهو السير في ركاب مسيرة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، واصطناع جسور من العلاقات مع ما تسمي بقوى اليسار الإسرائيلي، أو قوى السلام، وكان الدافع لهذا الاتجاه الجديد هو البحث عن موقع مرموق لدي السلطات السياسية الجديدة التي تتجه بقوة في هذا السبيل وتراهن عليه، في الوقت الذي لا تجد فيه دعماً شعبياً يؤيدها، فتقدم اليساريون لانتهاز الفرصة للظهور عبر المؤسسات الرسمية القوية في الإعلام والثقافة وغيرها حيث كانت المكافأة التي قدمت لهم أن تبوأ معظمهم مواقع مرموقة في الصحافة والإعلام، فعلي سبيل المثال وُهِب لطفي الخولي صفحة أسبوعية كاملة في الأهرام هو الآمر الناهي فيها تحت اسم
(الحوار القومي) تحولت في الأوقات الأخيرة إلي منبر يكتب من خلاله بعض الكتاب الصهاينة موجهين خطابهم إلي الجماهير المصرية عبر أكبر صحيفة مصرية علي الإطلاق، أيضا منح الدكتور عبد العظيم رمضان مساحة كبيرة أسبوعية في صحيفة الأهرام يكتب فيها مقالاته كما تنشر هذه المقالات فى نفس اليوم فى مجلة (أكتوبر) المصرية، وهذا الأمر لا يحدث مع أي كاتب مصري آخر على الإطلاق، ومن قبل كان عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وفتحى غانم وغيرهم، وقد حكى الدكتور عبد العظيم رمضان أن فكرة تشكيل قوى مصرية شعبية للسلام تتحاور مع القوى الإسرائيلية هو الذي طرحها على الرئيس المصري حسني مبارك، الذي رحب بها (وشجع) علي تكوين مثل هذه الحركة، وعلي ضوء ذلك قام (لطفي الخولي) بتكوين مجموعة ما أطلق عليهم
(مجموعة كوبنهاجن) التي عقدت جلسات غامضة مع بعض الشخصيات الصهيونية وهو ما أثار ضجة كبيرة في مصر، وانتفضت قواعد المثقفين هجوماً عليها وفضحاً لها مما أدي إلي عزلتها التامة ومحدودية أثرها في الواقع المصري، ورغم هذه الخلفية إلا أن الحقيقة المؤكدة أن (لطفي الخولي) كان هو فارس هذا التوجه الكبير ومهندسه وقائده، ولطفي الخولي نموذج لمحنة الماركسية العربية في نشأتها وتحولاتها.
يعد لطفي الخولي أحد أهم قادة الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات من
هذا القرن، ولد في 12 أغسطس من عام 1929 بمحافظة القليوبية من دلتا مصر،
وحصل علي ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة في العام 1949، عمل محامياً منذ
ذلك التاريخ وحتى العام 1965، وقد انتظم منذ حداثة سنه في التنظيمات الشيوعية
السرية التي كان يوجهها بعض اليهود المقيمين في مصر أمثال اليهودي الخطير
(هنري كورييل) الذى كان قائداً لأكبر هذه التنظيمات، وكان هذا سبباً مباشراً في
دفاع الشيوعيين المصريين عن الكيان الإسرائيلي أيام قرار التقسيم في 1948، بل
إنهم كانوا يهاجمون الجيوش العربية التي تحارب إسرائيل، وما زالت هذه المرحلة
تمثل عاراً لا يمحى في تاريخ الشيوعية العربية، وبعد توتر وبطش من قبل السلطة
الناصرية بالشيوعيين -حيث نال (لطفي الخولي) ما نالهم- بدأت مرحلة
الاستقطاب، حيث استقطبه الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل إلي جريدة الأهرام
منذ العام 1961، حيث ظل يعمل فيها حتى العام 1966 حيث أشرف خلالها علي
صفحات الرأي فيها، ثم أنشأ مجلة (الطليعة) اليسارية في العام 1965 بمباركة
من عبد الناصر وتسهيل من (هيكل) ورأس تحريرها وظلت تصدر بانتظام حتى
العام 1977، حيث وقعت انتفاضة 17، 18 يناير الشهيرة، فقرر السادات إغلاق
مجلة الطليعة بوصفها منبراً للحركة اليسارية التي حركت الأحداث الخطيرة في ذلك
الوقت، وقد اعتقل لطفي الخولي مرتين في عهد عبد الناصر، حيث كانت علاقة
عبد الناصر بالشيوعيين تتراوح ما بين الضرب والتحجيم والاحتواء، ولذلك كان
بعض رموز الشيوعية أحياناً يخرج من السجن إلى رئاسة تحرير صحف رسمية
كبري، مثلما حدث مع القطب الماركسي الكبير محمود أمين العالم، وكذلك مع
(لطفي الخولي) الذي وافق له عبد الناصر على مجلة الطليعة التى جعلها المنبر
الرئيس للماركسية في مصر، كما جعله هيكل مشرفاً على صفحات الرأي في
جريدة الأهرام في أوج مجدها طوال ما يقرب من ست سنوات، وفي السبعينات
شارك لطفي الخولي في تأسيس حزب التجمع اليساري برئاسة خالد محيي الدين أحد
الضباط اليساريين الذين شاركوا فى حركة 23 يوليو 1952.
والعجيب أنه بعد أن قام الرئيس السادات بمبادرة الصلح مع اليهود قام لطفي
الخولي بقيادة حملة صاخبة للاحتجاج علي ذلك، وكتب كتابات عنيفة في رفض
هذا الاتجاه، ثم شكل لجنة ضد التطبيع اسماها: (ائتلاف المصريين) ضمت بين
جناحيها عدداً من رموز التيارات السياسية المختلفة في مصر، وهو الأمر الذي
أغضب السادات عليه، وفي ذلك الوقت كان مسلسل انضمام اليساريين إلى موكب
التطبيع قد بدأ، وكان هناك عبد العظيم رمضان الذي قدم استقالته من حزب التجمع
في أعقاب ذلك، وكان الكاتب المسرحي علي سالم أحد مراحل هذا التطبيع، حيث
زار (إسرائيل) ثم عاد وألف كتاباً مشيناً يتغزل فيه بالإسرائيليين الذين أكرموه
بالدعوات لأكل الكباب والكفتة مجاناً (هذا كلامه في الكتاب) وعلي هذا النحو من
الإسفاف العجيب، ثم كانت المفاجأة الأخيرة مع (لطفي الخولي) صاحب ائتلاف
المصريين ضد التطبيع، أن يكون هو علي رأس التنظيم الجديد الذي يتجه بقوة
نحو التطبيع ويدافع عن موقفه الجديد بغرابة شديدة في وجه الطعون القاسية التي
وجهت له ولم يستطع حيالها دفاعاً، وقد عانى لطفي الخولي في أيامه الأخيرة عناءاً
شديداً من قسوة الهجوم عليه وأيضاً من انتكاسة دعوة التطبيع بفعل التوترات
الشديدة التي اعترت العلاقات مع الكيان الصهيوني مؤخراً خاصة مع الحكومة
المصرية، وعودة الأصوات المهاجمة (للعدو) الإسرائيلي مرة أخري، وخفوت
الأصوات التطبيعية وانزوائها.
وفي الواقع فإن موت لطفي الخولي هو موت حقيقي لمجموعة كوبنهاجن،
صحيح أنها لن تكون آخر محاولات التطبيع إلا أنها -بكل تأكيد- نهاية تجربة هذه
المجموعة، كما أنها تمثل درساً قاسياً لكل مغامر جديد في هذه الطريق، لأنها
تنتهى باحتراق أصحابها شعبياً، وعزلتهم عن المجرى العام للنفوس والعقول في
مجتمعاتهم، مما يجعلهم في وضع (المنبوذ) بكل أعبائه النفسية والعصبية.(136/100)
منتدى القراء
أي حضارة نريد؟ !
بدر مرزوق العتيبي
بنظرة فاحصة في واقع المسلمين اليوم يتبين لك مدى التخلف الذي وصلوا
إليه في جانب الدين والعقيدة. وأقصد بالتخلف: التخلف في الواقع.. لا في أساس
الدين معاذ الله بل إن الدين الإسلامي هو الدين الحق الوحيد منذ طلوع شمسه، ولا
يمكن لحضارة إنسانية أن تسير في النهج الصحيح لها بدونه، مهما ارتقت في
الجانب المادي؛ فإن العاقبة معروفة، وسنة الله معلومة.
إن واقع المسلمين اليوم يشكل تخلفاً في فهم بدهيات الدين. نعم في بدهيات
الدين فضلاً عن فروعه.. فهناك تخلف في فهم معنى حاكمية الإسلام.. وفي معنى
الولاء والبراء.. وفي معنى يُسر الشريعة.. حتى وصل التخلف إلى مفهوم شهادة
أن لا إله إلا الله.. نعم حتى الشهادة لم يَعِ معناها الحق كثير من المسلمين وإن كانوا
يتلفظون بها في اليوم مرات عديدة..
بل لقد بلغ التخلف في فهم هذا الدين إلى أقصى درجاته في معرفة الرب جل
وعلا حيث يوجد في ديار الإسلام من ينكر وجوده، ومن يدعي شريكاً له تعالى الله
عما يقولون علواً كبيراً.
إذن: أي حضارة نطالب بها؟
إننا لا نريد حضارة جوفاء كحضارة الغرب الكافر اليوم.. لا بد أن يكون
سعينا للتقدم والرقي الحضاري من أساسه لا من مظاهره؛ حتى لا تكون حضارتنا
جوفاء..
إن الحضارة تقوم على الإنسان أولاً قبل أن تقوم على إنجازاته.
فلا بد أن يكون الإنسان في نفسه راقياً متحضراً قبل أن تكون منجزاته كذلك.. ورقيه يكون بتحقيق الغاية التي من أجلها خُلق..
فعلى رِسْلكم يا دعاة الحضارة والتقدم على رِسْلكم.. المضمون أولاً ثم الأثر:
الإسلام الصحيح، ثم الاستخلاف في الأرض..
والله من وراء القصد(136/105)
منتدى القراء
البحث عن الحقيقة
صالح ناصر الهزاع
أمِنَ الحقيقةِ تَفْرَقون وتهربون من السؤالْ؟ ...
أعن الحقيقةِ تجبُنون كأنها غولُ الجبالْ؟ ...
أينَ الحقيقةُ يا أسيرَ الذلّ في زمنِ المحالْ؟ ...
هل أصبحتْ سراً غريباً لا يُشاعُ ولا يقالْ؟ ...
أم أنها وهمٌ تغلغل في سراديب الخيالْ؟ ...
أفواهنا تأبى الحديث لأن في الصمت الجمالْ ...
وقلوبنا مرعوبة ويخيفها شبح الظلالْ ...
وعقولنا مخمورة تروي أساطير الوصالْ ...
مأسورة لا تشتكي مهما معذبها استطالْ ...
والظلم يرفع سوطه والخير مقطوع الحبالْ ...
في جعبتي ألفا سؤال تستغيث من الملالْ ...
من ذا الذي يهوى فساد الجيل في كل الخصالْ ...
من ذا يصور ما يسوء كأنه لب الحلالْ ...
ولِمَ التعسف لا يزال يذيق أصناف الوبالْ ...
ولمَ الحقير مكرمٌ ويهان أشراف الرجالْ ...
ولِمَ الحقائق أغرقوها في غيابات الخيالْ ...
فالفيل أرنب غابة والذئب عندهم غزالْ ...
والصبح ليل حالك والشمس تصطحب الهلالْ ...
والبيد بادٍ ماؤها والبحر يزخر بالرمالْ ...
هذا ازدواج مؤلم يقضي على حسن الفعالْ ...
وأراه يسبح في الهواء يخاف منه الاشتعالْ ...
وأراه في أثوابنا وعلى اليمين وفي الشمالْ ...
وأخاف يوماً إن نصيح ولا مغيث من المآلْ(136/106)
منتدى القراء
خواطر حاج
عبد الهادي الحسيني
- هناك حيث بدأ اللون الأرجواني يغزو الأفق، وعلى ذلك الصعيد الطيب
المبارك وفي مسجد نمرة بالتحديد؛ كنت هناك! حيث تزدحم قبة السماء بالدعوات
الحارة؛ حيث يختلط أنين المذنبين بتطلعات السائلين؛ وهل هناك أكرم وأجود منه
سبحانه وتعالى؟
كنت جالساً معه: إنسان ذو مكانة علمية مرموقة، متفوق في عمله وناجح في
حياته، كل أسباب السعادة متوفرة لديه: مال، شهادات، وشخصية محبوبة..
فجأة رأينا شخصاً يدعو، يُلحُ في الدعاء، يبتهل، كان قائماً فأجهش في
البكاء فقعد ثم.. ثم انخرط في بكاء طويل تقطّعه الدعوات. نظر إليّ صاحبي
ودمعه يتحدر من عينيه وقال: خذ أموالي، شهاداتي،.. وأعطني لحظة روحانية
كهذه ... ثم سَكَتَ وسَكتّ.
- منطقة الحرم تموج بالتلبية، والفلك البشري يدور حول الكعبة معلناً
العبودية لله، الأجساد متلاصقة، الأنفاس مختلطة، لكن لا بد من طواف القدوم،
كان ممسكاً بيدي شاب صغير السن في المرحلة المتوسطة وفجأة عندما دخلنا إلى
الحرم وأبصرنا الكعبة توقف.. نظرت إليه سائلاً ومازحاً: ما بك هل خفت الزحام؟
رد عليّ: لا، لقد تذكرت بهذا الزحام، الزحام على باب الجنة، فها أنا اليوم
أزاحم في الطواف، وأرجو أن أزاحم على باب الجنة. صعقتني المفاجأة، ورددت
في نفسي: طوبى لها من نفوس تحوم وترفرف حول العرش.(136/107)
منتدى القراء
قلم يتألم
أبو أنس شادي بن السيد أحمد عبد الله
أمسكتُ بقلمي، وحاولت الكتابة.. تدافعت خواطري.. شعرتُ بغُصةٍ في
حلقي.. حاولتُ أن أتمالكَ نفسي، ولكن سرعان ما سَرَت الكلمات في داخلي،
وتحولت من موجات صوتٍ إلى مزيج مروّعٍ من الآمال المحبطة، والآلام الملتاعة.
ماذا دهاك يا قلمي؟ ! أأصبحت جباناً مثلي تكتفي بالكتابة وتحريك الشفاه؟ ؟ ! أم أنك أصبحت تشعر مثل البقر وليس البشر؟ ! كل ما أستطيع أن أفعله أن
أمسك بالورقة والقلم! .. يا لشقائي.. ويا لي من ظلوم جهول.
عفاءً على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شُدّه
وأسأل نفسي: لماذا يحدث لنا كل هذا؟ ! ولماذا المسلمون بالذات تسيل
دماؤهم، وتُبقر بطونُهم، وتُزهق أرواحُهم، وتُنثر أشلاؤهم، وتُهتك أعراضُ
نسائهم؟ !
أيها المسلمون! أيها النائمون! ما لكم لا تبصرون؟ ! ما لكم لا تنطقون؟ !
أيّ عار بعد هذا تنتظرون؟ ! أسألكم بربكم لماذا أنتم صامتون؟ ! أفسحرٌ هذا أم
أنتم لا تبصرون؟ ! أما يوجد فيكم قوم يتحركون؟ ! أم أنكم أصبحتم لا تعقلون؟ !.. ولكن..
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
والحل ليس بالخروج في مظاهرات نشجب وندين ونرفض ... وليس في
حرق علمي أمريكا واليهود.. وليس في لعن الحكام والمحكومين.. وليس في تكفير
بعضنا لبعض، وإلقاء التبعات على الأعداء والعلمانيين والمنافقين والظروف.. و.. واستخدام المنطق التسويغي.. لنبرّئ أنفسنا؛ وإنما الحل ينحصر في: العودة
الصادقة لرب العالمين، واتباع نهج سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله
أجمعين وفهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ونبذ الفُرقة والخلاف، ولمّ الشمل،
وتوحيد الصف، وتنقية العقيدة من شوائب الشرك، وإعادة ما اندرس من معالم
الدين..(136/108)
منتدى القراء
دعاء سَحَر
شعر: رشاد حسن المعمري
سلام القلب والهُدبِ ... سلام الود والرعبِ
سلام الحب أبعثه ... وشوقاً صار كاللهبِ
سلام يا أبا ولدي ... رفيق النفس في الحقبِ
ثمانية لكالأزهار ... تخشى صولة الجدبِ
بكوكَ بكاءَ منتظر ... ومن يبكيك لم يُعبِ
فبعدَ اللهِ ليس لهم ... سواك أيا أبا النّجُبِ
فأنتَ الظلّ من شمسٍ ... وأنت الأمنُ من رَهبِ
تسائلني صغيرتهم ... بحلو لسانها العذبِ
ودمعتها بعينيها: ... أيا أماه أين أبي؟
متى يأتي فيسعدنا ... متى نمضي إلى اللعبِ
متى يأتي أقبله ... بثغري قبلةَ الذهبِ
وأُخرى حلمها دوماً ... لقاك ببيتنا الرحبِ
فتصحو ثم تخبرني: ... أيا أمي لقيتُ أبي
وكنا قبلُ في سعد ... وفي شدوٍ وفي طربِ
وإني لست كاذبةً ... ولم أنشأ على الكذبِ
فنامي كي تريه معي ... يلاعبني على الكثبِ
وثالثهم ورابعهم ... كمن رجلاه في اللهبِ
وهذا البيت كم يشكو ... شكاة الضر والعطب
ولو جدرانه نطقت ... لقالت من لظى النصبِ:
مَتى يأتي فيعمرنا ... ونطرد وطأة الغَلَبِ
فبيتٌ أنتَ لستَ به ... لَعمْرُ اللهِ كالخَرِبِ
سألت الله في سَحَر ... ودمع العين في سكبِ:
إلهي أنت رازقنا ... وأنت العون في النّوَبِ
أعدْ زوجي إلى دارٍ ... بكته بكاءَ منتحبِ
إلى صبيانه سجدوا ... إليك سجود محتسبِ
أعد بعلي أعد سندي ... أعد قلبي أجب طلبي
وبعد الليل إصباحٌ ... ويُسرى قد تلى كُرَبي(136/109)
منتدى القراء
الدور المطلوب
عبد العزيز بن عبد الله الوايلي
الأحداث تتغير والأفكار تتصارع إلا أن بيت القصيد هنا هو العالم الإسلامي
وما يُحاك ضده من مكائد، وبخاصة دعواتهم للقضاء على ما يسمونه بالتطرف
والأصولية؛ فبدلاً من أن نقوم بدور المتفرج علينا أن نقوم بدور من خلال إعداد
العدة والتأهب للمواجهة؛ ولن نستطيع أن نخلص إلى نتائج مرضية ما لم يكن
وراءنا هدف نسعى إليه، ونستحث الخطا لتحقيقه سواء حصل لنا ما نصبو إليه،
على المدى القريب أو البعيد؛ فالمهم العمل، ثم العمل، ثم العمل. ولنضع نصب
أعيننا ثلاث نقاط في عملنا من أجل شموخ هذا الدين وانتصاره وهي:
1- وضوح الهدف: وهذه أهم خطوة يجب أن نقوم بالتركيز عليها؛ فما لم
يكن لنا هدف نسعى لتحقيقه فلن نستطيع عمل شيء، وسنبقى نتخبط في ظلمات
التيه والضياع.
2- الإعداد: حينما يكون عندنا هدف أو أهداف نريد تحقيقها فلن يتم ذلك إلا
بالإعداد والتحرك، وإلا فسيبقى الهدف حبراً على ورق؛ فقد أمرنا الله تعالى
بالإعداد بقوله: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] [الأنفال: 60] ، حتى نبلغ
درجات العلو والسؤدد ولا يحتقر أحدٌ منا ما يقدمه ولو كان فِرسِنَ شاة؛ فبهذه
الجهود نكون إعصاراً أمام كل ريح؛ وأنى للريح أن توقف الإعصار؟
3- الثقة بالنفس: وهي الثقة التي من خلالها نحقق نتائج مرموقة؛ فما لم
يكن عندنا تلك الثقة والإحساس بالقدرة فسنظل صفراً على الشمال، وما كان لليابان
مثلاً أن ترتكز في قمة الدول الاقتصادية إلا عندما توفرت لديها الثقة التي تحول
المستحيل واقعاً مع أن أهدافهم دنيوية محضة؛ فكيف بنا نحن من نرجو الثواب
والأجر من رب العالمين؟
فبإذن الله ستكون الجولة القادمة للإسلام وللإسلام وحده! ! [وَيَقُولُونَ مَتَى
هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً] [الإسراء: 51] والله الهادي لكل خير.(136/110)
الورقة الأخيرة
بعض الدعاة.. طلاب مجتهدون
محمد يحيى
تكفل الله بنصرة دينه كما ورد ذلك في العديد من الأدلة الشرعية في الكتاب
والسنة، ويبلغ السرور بالمخلصين مبلغاً كبيراً عندما يلمسون عمل أهل الصحوة
من العلماء وطلبة العلم والدعاة ليكونوا ممن تتحقق بهم هذه البشائر الثابتة.. غير
أنه يلاحظ في بعض الأوساط الدعوية أو المحاضن التربوية وجود طائفة من
الشباب قد وقعوا في مزلق ربما لم ينتبه له أكثرهم على شدة خطورته.
ذلك أن بعض الصالحين تجده كثيراً ما يخطط للدعوة فيطرح الأفكار التي
تساعد على الارتقاء بمستوى العمل أو الآراء التي تصوب أخطاءً في مجتمعه، وقد
يكثر منه ذلك وأنا هنا أفترض إخلاصه. كذلك فإنه يقدم الدراسات والمشاريع
المتكاملة لضم أناس جدد إلى صفوف الدعوة ونقلهم إلى حياة الالتزام الكامل بدين
الله تعالى وهو مع هذا وقبله يحيط علماً بالعديد من الكتب التربوية والعلمية الدعوية
والعديد من الأشرطة النافعة في مجال الدعوة وكسب القلوب.. وكل هذا من
الأهداف السامية.. ولكن..
تكمن المشكلة في أن هذا الفرد مجرد متكلم جامع مخطط كالطالب المجتهد في
التحصيل والمناقشة ولكنه في ميدان العمل (صفر) منفرد ليست له أي قيمة موجبة.
إن جميع الأمور التي يمارسها هذا الفرد بنجاح مطلوبة للقيام بعملية الدعوة؛
والساحة بحاجة إلى من يفكر ويخطط وينتقد ويصوِّب ويؤصّل، ولكن حين يكون
الداعية إلى الله دون مرحلة التفرغ لهذه الأمور التي تحتاج الكثير من الممارسة
والخبرة المؤصلة، ثم هو لا يقوم بالقدر الأدنى من المباشرة العملية للدعوة فإن
هناك خوفاً حقيقياً من المخاطر الآتية:
1- البقاء في برج المثالية والكمال والانطلاق من خلاله؛ وهذا يلمس في
أفكاره وانتقاداته وأطروحاته وغير ذلك.
2- أن التوقف عند هذا الحد من العمل يصور لهؤلاء أنهم من العاملين
الباذلين المنشغلين بالدعوة وهمومها؛ وهم لم يتجاوزوا حقيقةً مرحلة الكلام، وقد
يزداد الأمر ليتصور المرء نفسه من المربين المنظِّرين الذين يقودون ولا يقادون..
وخطر هذا معلوم على ثبات الداعية نفسه على دين الله.
3- الخطر الذي سيواجهه المجتمع المحيط بهذا الشخص؛ فإنهم أولاً
سيسمعون ويسمعون من غير أن يروا القدوة العملية الدعوية.. ثم ستصبح دعوتهم
عما قريب شعارات بلا روح؛ فتجد أن عددهم لا يزيد إن لم ينقص، وتجد أنهم قد
تفرغوا للكثير من الشواغل التافهة كانتقاد كل متكلم والاجتماع على كل مناسبة بغير
فائدة حقيقية.
4- الأخطار الفردية التي قد تؤدي إلى النفرة والأحقاد.. فإن هذا الشخص
يطرح ويقترح ويناقش.. ولا يعمل.. وغيره يسمع وينفذ.. مما يفتح مجالاً كبيراً
للشيطان حين يشعر القوم أن صاحبهم قد استأثر دونهم بالجزء الأكثر راحة وأبعد
عن المشاكل.. وقد يجد الشيطان طريقه إلى نفس الشخص عندما يجد أنهم لا
يقدِّرون جهوده ولا ينفذون مقترحاته.
5- وأخيراً فإن هذا الشخص سيكون أول الناس فراراً عند حدوث الفتن،
وأقلهم صبراً عند نزول الابتلاء، وأكثرهم تضجراً من مشاكل الدعوة عند النزول
إلى الساحة الدعوية ومواجهة الواقع، بل قد يشعر باليأس ويترك كل ما هو فيه من
الخير عند أول معرفة حقيقية له بضخامة الواقع المرير.
ولذلك كله نقول: إن على هؤلاء أن يتقوا الله ويصلحوا من حالهم بخوض
التجارب الشخصية الفردية في كل وسط يتواجدون فيه كالبيت والمدرسة والسوق
وغيره.
ثم إن على المربين دوراً مهماً في ملاحظة هذا الصنف من الدعاة؛ فيحرص
المربي على التوجيه المبكر لصحبة من لهم قدم في الدعوة العملية، فإن هذا سيسهم
بإذن الله في تكامل شخصياتهم، ومن ثَمّ خصوبة أفكارهم واستعدادها للتأثير
الإيجابي في الواقع المعاش.(136/111)
المحرم - 1420هـ
يونيو - 1999م
(السنة: 14)(137/)
كلمة صغيرة
البيان والجديد دائماً
مع بداية العام الهجري الجديد تدخل البيان عامها الرابع عشر؛ فنحمد الله
تعالى ونشكره أن وفقنا للعمل على تبليغ رسالة الإسلام، والدعوة إليه، والمنافحة
عن حياضه؛ سائلين الله التوفيق والسداد.
ونحن مثل أي مطبوعة أخرى نحرص على جذب القراء بالعمل المستمر
والأخذ بكل جديد، والبحث الدائب عن كل نافع ومفيد.
ومع اعتزازنا بمنطلقاتنا الشرعية وثوابتنا العقدية التي كثيراً ما نؤكد على
التزامها والسير على نهجها، إلا أننا في الوقت نفسه نعمل على الأخذ بكل جديد من
خلال التنويع في أساليب العرض والابتكار في الشكل ونعمل على البحث عن كل
ما يرغّب القراء في اقتناء هذه المجلة التي نحسبها صوتاً من أصوات أهل السنة
والجماعة.
وسيلحظ الإخوة القراء في إطار التطوير مواضيع جديدة في الزوايا والكتّاب،
وسنبدأ في هذا العدد بزاوية جديدة لفضيلة الدكتور جعفر شيخ إدريس بعنوان
(الإسلام لعصرنا) ، وزاوية ثقافية منوعة باسم (وقفات) لأخينا الأستاذ أحمد
الصويان، وزاوية للتعريف بالمصطلحات المشهورة: القديمة والجديدة، إضافة إلى
زوايا جديدة، وما زلنا نعمل جاهدين للاستفادة من كل ملحوظات واقتراحات إخواننا
القراء، ساعين بكل ما يمكننا من جهد للاستفادة منها.
وسيرى القراء المزيد من الملفات والندوات واللقاءات والمواضيع الجديدة إن
شاء الله. التي نتوجها في هذا العدد بملف عن (التراث الإسلامي بين الأصالة
والتزييف) . نرجو أن نقدم فيه للقارئ معالجة موضوعية لهذا الباب المهم.
ونكرر دعوتنا لبذل النصح والتوجيه والمشاركة بكل ما يتفق ونهج المجلة.
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.(137/1)
الافتتاحية
متى يتغير الخطاب العربي المعاصر؟
منذ أن أبرمت معاهدة (سايكس بيكو) الشهيرة، التي تمزقت بعدها البلاد
العربية إلى دويلات صغيرة مشتتة؛ والخطاب العربي يعاني حالة من التيه والتخبط
والاضطراب؛ حيث أصبحت البلاد العربية مسرحاً لكل الألوان الفكرية
والاتجاهات الحزبية. وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي يملكها العرب، وهم
الذين تربعوا على عرش القيادة السياسي والعسكري والفكري فترة طويلة من الزمن
إلا أنّ غالب الأمة لا زالت ترزح تحت وطأة التيه والتخلف، وتعيش مأزقاً مزرياً
منذ أمد بعيد.
والدارس لمختلف التجارب العربية المعاصرة من خلال أُطروحاتها الفكرية
النظرية، أو من خلال تطبيقاتها العملية، يرى أنها من حيث الجملة اتفقت على
سمات عامة، كانت سبباً في تكريس واقع التأخر عن الركب، والضعف في
مواجهة التحدي.
السمة الأولى: التقليد الأعمى للغرب:
وهي سمة غالبة على الفكر العربي على تنوع اتجاهاته وأحزابه وفلسفاته،
فهو استنساخ تام للفكر الغربي، رُسمت معالمه، وبرزت ملامحه في أثواب غربية
متعددة الأشكال والألوان، فجُلّ الشعارات العربية اعتمدت ولا تزال على استيراد
بضائع فكرية جاهزة معلبة، نبتت جذورها في بيئة غريبة، ثم أراد دعاتها
استنباتها في بيئتنا التي تختلف تمام الاختلاف في خصائصها ومميزاتها؛ حتى بلغ
من غلو بعضهم في ذلك أن دعا لأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها، بخيرها
وشرها..!
لقد أعلن رموز الفكر العربي بلسان الحال عن عجزهم، وكساد بضاعتهم،
واغترابهم عن الأمة؛ وطوّفت عقولهم بعيداً في الشرق والغرب، وراحوا يلهثون
وراء أسيادهم من الفلاسفة الغربيين، ثم عادوا وقد تجارت بهم الأهواء، ومُسخوا
مسخاً تاماً، وانسلخوا انسلاخاً كاملاً من هويتهم العقدية وأصبحوا مجرّد أبواق
خاوية مهترئة لا تُسمع إلا أصداءً مزيفة لفكر هزيل هش ينضح بالانحراف
والضعف.
وقد أنتج هذا تفسخاً وتحللاً لعناصر تميّز الأمة في: السياسة، والاقتصاد،
والقضاء، والاجتماع، والتعليم وغير ذلك، وجاء في معظم أشكاله ممثلاً لتبعية
شوهاء، أو لخليط متنافر.
السمة الثانية: إحياء ما اندرس من الآثار البائدة:
فقد تواطأ الخطاب العربي المعاصر بمختلف مدارسه الفكرية على التنكر
لجذور الأمة وتاريخها وأصولها الشرعية، وظهرت دعوات نشاز تنادي بالرجوع
إلى الحضارات القديمة حضارات ما قبل الإسلام، وبدأنا نسمع بدعاة الفرعونية
والفينيقية والبابلية والبربرية والأمازيقية.. ونحوها، ونشطت حركة إحياء ذلك
التراث البائد والنفخ فيه. وكلما شعر أولئك القوم بارتفاع الأصوات المخلصة التي
تنادي بالاعتزاز بالأصول الإسلامية ازداد تشنجهم واضطرابهم، وراحوا يحفرون
في مقابر التاريخ لعلهم أن يجدوا ما يصرفون به وجوه الناس عن الإسلام، بل بلغ
من حماقة وجهل بعض رؤوسهم ومنظّريهم أن اعتزوا ببعض الآلهة الوثنية التي
كان يُقدسها الفراعنة أو الفينيقيون أو غيرهم حتى نصبت أصنامها في الميادين
العامة والأماكن التي ترتادها الجماهير، وهم يحرصون على إظهار ذلك أحياناً
بصورة رمزية، وأحياناً أخرى بصورة جلية واضحة كما هو فعل الحداثيين في
الأدب.
ويدخل في هذا المضمار الدعوة إلى نبذ اللغة العربية الفصحى والتقليل من
شأنها باعتبارها لغة القرآن العظيم، والجامعة للمسلمين، ووعاء الفكر والثقافة
الإسلامية مع الدعوة إلى نشر اللهجات العامية والمحلية، لتظهر بذلك أجيال جديدة
منبتة الصلة بتاريخها وأمتها.
السمة الثالثة: الهجوم على الإسلام وأهله:
منذ بدايات البواكير الأولى لحركات الفكر العربي المعاصر ظهرت موجة
محمومة من الهجوم على الدين والعقيدة الإسلامية، وحملة شرسة من الإثارة
والتشكيك في المسلّمات والأصول الشرعية، وصاحب ذلك جرأة شديدة على
تحريف المنابع الإسلامية، وتشويه أصول الشريعة ومقاصدها، بالتشكيك الفكري
تارة والتشريع القانوني تارة أخرى، وأصبح الطعن في الدين سُلّماً يرتقي درجاته
أصحاب الأهواء وطلاب الشهرة، وربما تدثّر ذلك أحياناً بلباس البحث العلمي أو
حرية الرأي أو الدعوة إلى الحوار والنقد الذاتي.
والنتيجة الطبعية التي يرمي إليها هؤلاء هي: إقصاء الدين، والتفلّت من
أحكام الشريعة، باعتبارها كما يزعمون عقبة في طريق الرقي والنهضة..! !
وإزاء ذلك درج أكثرهم على الهجوم على الصحوة الإسلامية، وأجلبوا عليها
بخيلهم ورجلهم، وسنّوا رماحهم لمبارزتها وملاحقتها والتضييق عليها، وأصبحت
الحرب على الإسلام تتخفى وراء مكافحة الأصولية والتطرف والظلامية.
السمة الرابعة: التسلط والاستبداد:
يتشدق رموز الأحزاب العربية ومفكروها بالدعوة إلى الديمقراطية والحرية،
وينادون بالحوار وتبادل الآراء. ويبالغ بعضهم في ادعاء ذلك ليظهر بالمظهر
الحضاري التقدمي، وتفتح الأبواب لكل أحد من أصحاب الأهواء والمذاهب
التحررية والمنتفعين وذوي المصالح الشخصية.
أما إذا كان المعنيّ في ذلك دعاة الإسلام فإن الموازين، تنقلب والمواقف تتبدل
وعندها نجد أولئك الديموقراطيين يمارسون أبلغ أنواع التسلط والاستبداد،
ويحجرون على كل رأي مخلص وجاد، ويتعاملون معه بكلّ صلف وجبروت،
ويغلقون أمامه كل الأبواب، ويرمون عرض الحائط كل الشعارات التي كانوا
يتقنعون بها في أدبياتهم ومحافلهم؛ بل قد يزعم بعضهم أنّ ذلك إنما هو حماية
للديموقراطية من الأصوليين المتطرفين..! ! ونظرة في أرجاء عالم العرب اليوم
تخبرنا بأمر هذه القصة المكرورة.
السمة الخامسة: - محاربة الفضيلة ونبذ القيم:
فغالب الشانئين لـ (الخطاب الإسلامي) يجاهرون بأطروحات من شأنها أن
تنتكس في ظلها الفطرة وتهجر الشريعة، ويضعف الوازع الديني، حيث يتردى
الناس بعدها في دركات الرذيلة وينتشر بينهم الفساد، وتصبح الأهواء آلهة معبودة،
وقد قطف الخطاب المعادي للدين عند كثير من العرب المعاصرين ثمار طرحهم،
عندما نجحوا في نزع الحجاب وإخراج المرأة من بيتها وإشاعة الفاحشة، فقد
سخروا لذلك إمكانات هائلة لانتزاع البقية الباقية من الحياء والحشمة من نفوس
الناس، وأصبح الإعلام بشعبه المختلفة: (السينما، والتلفزيون، والمسرح،
والصحافة) أدوات رئيسة تُذبح بها الفضيلة وتُنتهك بها الحرمات، وسار الأدب
بأقسامه المختلفة: (الرواية، والقصة، والقصيدة ... ) جنباً إلى جنب في الدعوة
إلى التحلل ونبذ القيم الأخلاقية وتزيين الفجور وتوسيع أبوابه ومحاضنه.
ومن المثير للعجب أن هذه السمات تمثل قواسم مشتركة بين أكثر المجتمعات
العربية المعاصرة (أتواصوابه) ؟ !
ومن المثير للعجب أيضاً أن هذا الإصرار على مجافاة الدين بعقائده الصحيحة
وقيمه الراقية، وتشريعاته السامية، لم يؤد بالعرب إلى تحقيق شيء من آمالهم
المرجوة منذ عقود طويلة، في حين أن عدوهم الأكبر ممثلاً في دولة اليهود
(إسرائيل) لا تزال مسيرته باسم الدين في نمو واطراد، خاصة في السنوات
الأخيرة، حيث بدأت تبرز في الأفق حركة مد ديني جارف، تحرسه الدولة،
ويدفعه الشعب، دون حساسية أو خوف من الاتهام بالرجعية والظلامية!
فهلا أعاد (الخطاب العربي) النظر في أطروحاته (التقدمية) التي ما تقدمت بنا
إلا إلى الوراء..؟ !
وحتى متى يدور في حلقة مفرغة وإلى متى يكرر ببغائية تلك الطروحات
العلمانية الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع سوى التبعية والاستلاب والسقوط
في الأوحال والتردي في صحاري التيه؟ !(137/4)
إشراقات قرآنية
ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم
د. عبد الرحمن آل عثمان
هذه وقفات مع آية الإسراء وهي قوله تعالى: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] [الإسراء: 36] .
الوقفة الأولى: في قوله سبحانه: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] دعوة إلى
التحري والتثبت. والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم؛ بل الواجب أن تتثبت في
كل ما تقوله أو تعمله أو تتلقاه. ومعلوم أن التثبت في كل الأمور دليل على حسن
الرأي وجودة العقل والنظر، وبذلك تنكشف الأمور وتتبين الأحوال، وبذلك يقرر
العبد: ماذا يعمل أو يعتقد ويقبل وماذا يترك؟ والمتثبت يُعمل فكره وعقله ويشاور
غيره؛ وهذا من أعظم الأسباب المعينة على الوصول للحق والصواب. وبهذا
يتجاوز العبد أسباب الندم والحسرة، وغير ذلك من الأمور الجالبة للشقاء.
الوقفة الثانية: في قوله سبحانه: [وَلا تَقْفُ] جاء بعد أداة النهي [لا]
الفعل المضارع (تقف) والقاعدة أن الفعل إذا ورد بعد النهي فإنه يدل على العموم.
والمحصلة من هذا أن الله تعالى نهى الإنسان أن يتبع ما ليس له به علم مطلقاً؛
وهذا يشمل جميع الأحوال والأزمان والأمكنة؛ لأن العموم ينصبّ على هذه الأمور
جميعاً؛ فالعبد منهي عن اتباع ما ليس له به علم في كل وقت وفي كل قضية سواء
كانت تتعلق بحقوق الله أو حقوق الآدميين أو غير ذلك من الأمور. ويبين هذا أيضاً
ما يأتي في:
الوقفة الثالثة: وهي أن قوله سبحانه: [مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] عام لكل شيء؛ وذلك أن لفظة [ما] تفيد العموم. فهذا يشمل الكلام في الأعراض من غيبةٍ ونميمةٍ..؛ لأنها تقال من وراء الإنسان (القفا) والقذف والبهت والكذب وسائر أنواع
الاعتقادات الباطلة؛ هذا فيما يفعله الإنسان ويبتدئه، وهكذا الشأن فيما يتلقفه عن
غيره من تصديقِ الأقوال والإشاعات الكاذبة، واتهامِ الصالحين والوقوعِ في
أعراضهم، وأن يقول سمعت ولم يسمع، وتقبّل الأفكار الفاسدة والمذاهب المنحرفة
والتقاليد المستوردة؛ وهذا يكثر وقوعه في جانب النساء من تَتَبّعِ الموضات والتشبه
بالكافرات والفاسقات والتزيي بزيهن من الملابس الفاضحة والموديلات العارية
وغير ذلك من الشر المستطير الذي وصل إلى الأمة من أعدائها. فالواجب على
العبد أن يضبط جميع تصرفاته؛ فلا يحكم إلا بعلم، ولا يعتقد إلا بعلم، ولا يفعل
شيئا إلا بعلم.
(والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم،. وقد حرم
سبحانه الكلام بلا علم مطلقاً، وخص القول عليه بلا علم بالنهي فقال تعالى: [وَلا
تَقْفُ] وقال: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ] [الأعراف: 33] .
وأمر بالعدل مع أعداء المسلمين، فقال: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [المائدة: 8] ) [1] .
الوقفة الرابعة: في قوله تعالى [وَلا تَقْفُ] نهي. ومعلوم أن النهي يدل
على التحريم إلا لقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه إلى غير ذلك؛ مما يدل على أن
اقتفاء العبد ما لا علم له به هو من الأمور المحرمة.
الوقفة الخامسة: أصل (القفو) الاتباع تقول: قفوت أثر فلان إذا تتبعت أثره.
ومعلوم أن الإنسان يكون أسيراً لما يتلقفه من أفكار ومعتقدات؛ فيتبعها ويعمل
بمقتضاها. وبهذا تعرف خطورة هذا الجانب.
الوقفة السادسة: في قوله تعالى: [إنَّ السَّمْعَ ... ] إلخ. فالجملة هنا
تعليلية؛ لأن (إنّ) تأتي للتعليل. والمعنى على هذا: انته عما لا يحل لك؛ لأن الله
أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره؛ وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا
تستعمل نعمة الله في معصيته. قال الله تعالى: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُُمْ تَشْكُرُونَ]
[النحل: 78] [2] .
الوقفة السابعة: في قوله تعالى: [إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ] قدم السمع
على البصر وأخّر ذكر الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس ومستقر المعتقدات ومبعث
الإرادات، والسمع والبصر طريقان له، ونافذتان عليه، وبهما يصل إليه كثير من
الأمور النافعة أو الضارة؛ فما تبصره العين يؤثر في القلب ولا شك كالنظرة
المحرمة.. الخ. وكذلك ما تسمع الأذن من خير وشر؛ كالغناء.
وقدّم السمع على البصر؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إلى السمع، ولأن
إدراك السمع أعظم وأشمل من إدراك البصر؛ ذلك أن البصر إنما يدرك به ما كان
في مواجهته خاصة، أما السمع فيدرك به جميع المسموعات التي تطرقه من جميع
الجهات. وأيضاً فإن البصر لا يدرك به إلا الأجسام والأجرام؛ بخلاف السمع؛
فإن العبد يدرك به الأمور الحاضرة والغائبة مما أخبر عنه، وهكذا؛ فالترتيب
الواقع بين هذه الأمور في الآية متدرج به من الأدنى إلى الأعلى. والله أعلم.
الوقفة الثامنة: الفؤاد هو القلب، إلا أن فيه معنى زائداً على (القلب) ؛ فالفؤاد
بمعنى التفؤد أي: التوقد؛ فهو مبعث الإرادات وآلة الإدراك ومستقر العلم والعقل
كما لا يخفى؛ ولهذا فإن التعبير بـ (الفؤاد) هنا أبلغ من التعبير بـ (القلب) . والله
أعلم.
الوقفة التاسعة: في ذكر الفؤاد هنا مع السمع والبصر دليل على المؤاخذة على
الأمور القلبية، كما أن الإنسان يؤاخذ على ما يسمع ويبصر.
ففيما يتعلق بالقلب؛ فإن الإنسان يؤاخذ على المعتقدات التي يعتقدها؛ فيثاب
على التوحيد، ويعاقب على الشرك، كما يؤاخذ على الأعمال القلبية الأخرى؛
فيثاب على اليقين والرضا والتوكل، ويعاقب على الأدواء التي تصيبه؛ كالحسد
والغل وسوء الظن ... إلخ. وكذلك العزم المصمم على المعصية [3] .
الوقفة العاشرة: قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (ثم إن الله
سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها
الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضو من أعضائه
لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال؛ فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان
للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة
والظاهرة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله فذلك هو الحق القائم
والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو
ولربه وللشيء الذي استعمل فيه؛ وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله
و [أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [البقرة: 5] .
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه؛ بل تُرك بطالاً فذلك خسران، وصاحبه
مغبون، وإن استُعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من
الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب؛ ولذا سُمي قلباً. قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد
الجسد كله ألا وهي القلب) [4] .
وإذ قد خُلق القلب ليُعلم به؛ فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر
والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع،
وانصراف الطَرْف إلى الأشياء طلباً لرؤيتها هو النظر. فالفكر للقلب كالإصغاء
للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن
الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه. وكم
من ناظر مفكر لم يحصّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.
وعكسه من يُؤتى علماً بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقة تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولاً من غير أن يصغي
إليه، وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط
واستعداد قد يكون فعلاً من الإنسان فيكون مطلوباً، وقد يأتي فضلاً من الله فيكون
موهوباً.
فصلاح القلب وحقه الذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء لا أقول أن
يعلمها فقط فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغياً له، والذي
يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه
غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة [وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] . وقال أبو الدرداء: إن من الناس
من يؤتى علماً ولا يؤتى حكماً، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علماً وحكماً.
وهذا، مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص،
وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك) [5] .
الوقفة الحادية عشرة: في قوله: [كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] الإشارة في
قوله: [أُوْلَئِكَ] عائدة إلى ما سبق من السمع والبصر والفؤاد. ومعلوم أن الإشارة
بـ (أولئك) مما يختص به العقلاء؛ وقد ورد استعمالها هنا مع هذه الآلات؛ ولا
إشكال في هذا؛ لأنه نزلها منزلة من يعقل؛ ذلك أنها تُسأل عما تلقته كما تُسأل عن
صاحبها كما سيأتي. ومعلوم أن غير العقلاء إذا نُزّلوا منزلة العقلاء فإنهم يعاملون
معاملتهم من حيث: الصيغ، والضمائر في العبارات، وصيغ الجموع كما في قوله
تعالى عن الشمس والقمر: [وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] [يوسف: 4]
والأصل: (رأيتها لي ساجدة) لكن لما كان السجود من أفعال العقلاء، ووقع من هذه
الجمادات نُزّلوا منزلة العقلاء.
الوقفة الثانية عشرة: يلحظ في هذا القدر من الآية ما يلي:
1 - أنه سبحانه قدّم (كل) الدالة على الإحاطة، وكان بالإمكان الاستغناء عن
هذه اللفظة فيكون الكلام: (إن السمع والبصر والفؤاد ستسأل عما وقع منها كما
ستسأل عن صاحبها) إلا أنه جاء بـ (كل) زيادة في التوكيد وتقرير المعنى. والله
أعلم.
2 - جاء سبحانه باسم الإشارة (أولئك) دون الضمير؛ فلم يقل سبحانه: (كلها
كان عنه مسؤولاً) لما في الإشارة من زيادة التوكيد والتمييز.
3 - جاء سبحانه بفعل (كان) لدلالته على رسوخ الخبر؛ إذ إن هذا أمر واقع
لا محالة. والله المستعان.
الوقفة الثالثة عشرة: في قوله تعالى: [كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] قدم المعمول
[عَنْهُ] على عامله [مَسْئُولاً] والقاعدة المعروفة في هذا الباب هي أن (تقديم المعمولات على عواملها يفيد الاهتمام..) والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه ومطالباً بأن يبين مستند صاحبه من حسه.
الوقفة الرابعة عشرة: في قوله تعالى: [مَسْئُولاً] السؤال هنا كناية عن
المؤاخذة بالتقصير، وتجاوز الحق، كما يقال: (أنت مسؤول عن تصرفاتك) أو
ستسأل عن فعلك هذا.. كما في قوله تعالى: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [النور: 24] .
الوقفة الخامسة عشرة: في معنى قوله سبحانه: [كَانَ عَنْهُ] أي: كان كل
أولئك عن الإنسان مسؤولاً. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ ... ] [يس: 65] الآية، وقوله سبحانه: [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ]
[فصلت: 20] الآية. ويمكن أن يكون المعنى: أن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وقلبه.
ويدل على هذا قوله تعالى: [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
[الحجر: 92، 93] وقوله سبحانه: [وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] [النحل: 93]
وكلا المعنييْن صحيح؛ لأن القاعدة أن الآية إذا احتملت معاني متعددة وأمكن حملها
على جميع تلك المعاني من غير فسادٍ للمعنى فإنها تحمل عليها جميعاً، لا سيما إذا
دل القرآن على هذه المعاني جميعاً في مواضع أخرى كما في هذه الآية، وهذا لا
شك فيه إن شاء الله والله أعلم.
فالمحصلة أن السمع والبصر والفؤاد.. هذه كلها تُسأل عما تلقته، كما تُسأل
عن صاحبها. وأيضاً فإن صاحبها يُحاسَب عنها.
الوقفة السادسة عشرة: في قوله سبحانه: [كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] التفات؛ ذلك
أن أول الآية ورد بأسلوب الخطاب [وَلا تَقْفُ] وجاء هذا الموضع بأسلوب الغيبة
[كَانَ عَنْهُ] وفي هذا من روعة البيان وتنشيط السامع ما فيه! والله أعلم.
الوقفة السابعة عشرة: إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به
وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة،
والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل
هي حركات نافعة؛ بأن وضعت فيما يقرب إلى الله تعالى؟ أم ضارة؛ بأن وُجّهت
لمعصية الله؟ فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة ليعد لهذا السؤال
جواباً. فمن استعملها في طاعة الله فقد زكاها ونماها، وأثمرت له النعيم المقيم.
ومن استعملها ضد ذلك فقد دساها وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم. نسأل الله
العافية.
الوقفة الثامنة عشرة: في الآية أدب خُلُقي رفيع يعلم الأمة التفرقة بين مراتب
الخواطر العقلية؛ بحيث لا يختلط المعلوم بالموهوم.
الوقفة التاسعة عشرة: في الآية إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة الوقوع
في المهالك؛ ذلك أن إهمال تلك الجوارح الثلاث من المراقبة يجعلها تنطلق بلا
زمام فتتلقف ما فيه بوارها.. فتُدمّر الأمة بفساد عقائدها وأخلاقها.. وتتفكك
الأواصر بسبب فشو قالة السوء بين الناس.. الخ.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (ثم هذه الأعضاء الثلاثة
هي أمهات ما يُنال به العلم ويدرك، أعني: العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر
الحيوانات دون ما يشاركها فيه، من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب
ويكره، وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه؛ إلى غير ذلك. قال الله
تعالى: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: 78] وقال: [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن
رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] [السجدة: 9] وقال:
[وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] وقال: [وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً] [الأحقاف: 26] وقال: [خَتَمَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أََبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ] [البقرة: 7] .
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: [وَلَقَدْ ذَرَاًنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا] [الأعراف: 179] .
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء، وهو: أنها إنما
يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل: الصور والأشخاص.
فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من
الأشياء الروحانية والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء
بنفسه؛ إذ كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل
على العلم إلى القلب؛ فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى
القلب أخذ منه ما فيه من العلم. فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما
سائر الأعضاء حَجَبة له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه؛ حتى إن
من فقد شيئاً من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.
ثم قال: (فإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد
وضع في موضعه؛ كما أن العين إذا صُرِفت إلى النظر في الأشياء فقد وُضعت في
موضعها، أما إذا لم يصرف إلى العلم، ولم يوضع في الحق؛ فقد نسي ربه، فلم
يوضع في موضع؛ بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وُضع في موضع غير
موضعه، بل لم يوضع أصلاً؛ فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل،
فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلاً، وما ليس
بشيء أحرى أن لا يكون موضعاً) [6] .
الوقفة العشرون: تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة
فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته. وإنما خصصها نظراً لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره
من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: (السمع، والبصر، والفؤاد) [7] والله تعالى أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 16/96 97.
(2) من المفيد مراجعة كلام ابن القيم في بيان عظم نعمة الله بالسمع على العبد انظر: مفتاح دار السعادة، 1/264- 266، 189- 190، طبع دار الكتب العلمية وكتاب: أقسام القرآن (طبع دار المعرفة) ، 305، 306، 316، 407.
(3) في مسألة المؤاخذة على العزم المصمم على المعصية يراجع كلام شيخ الإسلام أبي العباس
ابن تيمية في الفتاوى، 10/720 761.
(4) البخاري في الإيمان /ح /52.
(5) الفتاوى، 9/307 309.
(6) مجموع الفتاوى، 9/309.
(7) الفتاوى، 16/96 97.(137/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
من أحكام الدَّيْن
حسين بن حماد الحماد
أحكام الدّيْن من المعاملات التي شرعها الله عز وجل بين العباد، وجاءت
الآيات والأحاديث لتنظيمها وضبطها، ولما كان مال المسلم محترماً محفوظاً في
الشريعة؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حرمة مال المسلم كحرمة
دمه) [1] والعلاقة بين العباد مبنية على المُشاحّة والمطالبة، وقد أنزل الله عز وجل
أطول آية في القرآن وهي آية الدّين، ثم أتبعها بأخرى ليبين للناس أحكامه بياناً
شافياً؛ وهو القائل عز وجل: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] .
وقد عمل أعداء الأمة على إغراق أعضاء المجتمع المسلم بالديون في
محاولتهم لتفكيك المجتمع المسلم من خلال تزيينهم وتسهيلهم لعملية الاستدانة من
خلال السبل المباحة وغيرها، فأثقل الكثيرون كاهلهم بها وشغلوا ذممهم، مع أن
شغل الذمة في الشريعة خطير؛ كيف لا؟ والشهيد الذي يُغفر له ما تقدم من ذنبه مع
أول دفعة من دمه مع خمس خصال أخرى تكون نفسه معلقة بديْنه، كما أخبر بذلك
الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّيْن) [2] وفي
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نفس المؤمن
معلقة بديْنه حتى يُقضى عنه) [3] ، والدّيْن على النفس شديد؛ ولهذا استعاذ النبي -
صلى الله عليه وسلم- منه؛ فعن أنس بن مالك قال: كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن
والبخل، وضَلَع الدّيْن وغَلَبة الرجال) [4] . قال ابن القيم رحمه الله: (فاستعاذ من
ثمانية أشياء، كل شيئين منها قرينان) إلى أن قال: (فإن القهر الذي ينال العبد
نوعان: أحدهما: قهر بحق وهو ضَلَع الدّين، والثاني: قهر بباطل وهو غَلَبة
الرجال) [5] .
وفي هذا البحث، نتناول بعض أحكام الدّيْن [6] وضوابطه وآثاره على النفس
من خلال ما جاء في الكتاب والسنة، ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
تعريف الدّيْن:
لغةً: يقال: داينت فلاناً إذا عاملته دَيْناً إما أخذاً أو عطاءً، ومنه اسم الله
الدّيّان.
وفي اصطلاح الفقهاء: لزوم حق في الذمة؛ فيشمل المال والحقوق غير
المالية كصلاة فائتة وزكاة، كما يشمل ما ثبت بسبب إجارة أو إتلاف أو جناية أو
غير ذلك. وما يعنينا في هذا البحث هو الدّين المتعلق بالمال بين العباد.
حكم الدّين:
الأصل فيه الإباحة، فيجوز للإنسان أن يستدين إذا علم من نفسه القدرة على
الوفاء، وقد يعرض له ما يجعله واجباً إذا كان لدفع الضرّ عن نفسه. وينبغي على
المسلم أن لا يتساهل بالاستدانة لأدنى سبب؛ فقد نزل التشديد في الدّين؛ فعن محمد
ابن عبد الله بن جحش قال: كنا جلوساً بفناء المسجد حيث توضع الجنائز، ورسول
الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بين ظهرانينا، فرفع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بصره قِبَل السماء فنظر، ثم طأطأ بصره، ووضع يده على جبهته ثم قال:
سبحان الله سبحان الله، ماذا نزل من التشديد؟ قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نرها
خيراً حتى أصبحنا. قال محمد: فسألت رسول -صلى الله عليه وسلم- ما التشديد
الذي نزل؟ قال: (في الدّيْن، والذي نفس محمد بيده، لو أن رجلاً قُتل في سبيل
الله، ثم عاش، ثم قُتل في سبيل الله، ثم عاش وعليه دَين؛ ما دخل الجنة حتى
يُقضى دينه) [7] .
أقسام الدّين:
يختلف تقسيم الدّين باختلاف الاعتبار؛ فيمكن تقسيمه إلى: حالّ، ومؤجل؛
وذلك باعتبار وقت أدائه، وينقسم إلى: دين لله، ودين للعبد؛ باعتبار الدائن،
وإلى دين صحة، ودين مرض؛ باعتبار حال المدين.
أسباب ثبوت الدّين:
الأصل براءة ذمة الإنسان من كل دين مالي، ويثبت في ذمة إنسانٍ مّا لأحد
الأسباب التالية:
- الالتزام بالمال في عقد يتم بين طرفين؛ كالبيع والسّلَم والإجارة والقرض.
- العمل غير المشروع المقتضي لثبوت ديْن على الفاعل: كالقتل الموجب
للدية.
- إتلافه مال غيره.
- هلاك مال غيره بيده بتفريط منه.
توثيق الدّين:
التوثيق هو الإحكام. ومعنى توثيق الدّين: هو تثبيت حق الدائن بحيث يتمكن
عند امتناع المدين عن الوفاء من استيفاء دَينه. وطرق توثيق الدّين أربعة:
- الكتابة، والدليل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى
أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] [البقرة: 282] .
- الاستشهاد بالشهود، كما قال تعالى في آية الدين: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِن رِّجَالِكُمْ] .
- الرهن، كما في قوله تعالى: [وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً
فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ] [البقرة: 283] .
- الكفالة، كما في قصة الرجلين من بني إسرائيل التي حكاها النبي -صلى
الله عليه وسلم-[8] .
وجمهور الفقهاء على أن توثيق الدّين مندوب إليه، وليس بواجب وأن الأمر
فيه للإرشاد.
استيفاء الدّين:
إذا ثبت الدّين في ذمة المدين فلا تبرأ ذمته منه إلا بحصول أحد أسباب
انقضاء الدّين؛ ونذكر منها:
- الأداء: وهو أن يؤدي المدين ما عليه للدائن.
- الإبراء: وهو أن يسامح الدائن المدين عن الدّين كله، ولا شك أن هذه
المرتبة عظيمة، ولا يوفق لها إلا من وفقه الله، وآثر الباقية على الفانية، من
الذين قال الله فيهم: [وَإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ
إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: 280-281] وقال عنهم رسوله -صلى الله عليه
وسلم-: (من سره أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة فلينفّس عن معسر أو يضع
عنه) [9] .
- الحوالة: وصورتها: أن يكون للمدين مبلغ من المال عند شخص؛ فيحيل
الدائن عليه. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (مُطل الغني ظلم، فإذا تبع أحدكم على ملي فليتبع) [10] .
- قبض الرهن بعد حلول الأجل.
وقد حثت الشريعة على أداء الديون وحسن القضاء والسماحة في طلبها؛ فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سِنّ
من الإبل [*] ، فجاءه يتقاضاه، فقال: أعطوه. فطلبوا سنه فلم يجدوا له إلا سناً
فوقها. فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني؛ أوفى الله بك. قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (إن خياركم أحسنكم قضاءً) [11] ، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي
الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا
باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) [12] ، وعن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- استلف منه حين غزا حُنيناً ثلاثين أو أربعين ألفاً،
فلما قدم قضاها إياه، ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بارك الله لك في
أهلك ومالك؛ إنما جزاء السلف الوفاء والحمد) [13] .
وكما حثت الشريعة على أداء الديون، فقد حذرت من المماطلة بتسديده لمن
يجد، وأن ذلك يحل عرضه وعقوبته؛ فعن الشريد رضي الله عنه عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- قال: (لَيّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته) ، قال ابن
المبارك: يحل عرضه: يغلظ له. وعقوبته: يحبس له [14] ، وهكذا قال سفيان
الثوري.
آثار الدّين على النفس:
للدّين آثار سلبية على النفس، تجعل المدين مكبلاً بدَينه، مما يعطل بعض
الطاقات لانشغال القلب بالتفكير بالدّين. منها:
1- الشعور بالخوف وعدم الأمن؛ فعن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم - يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها! قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدّيْن) [15] .
2- اللجوء إلى الكذب وإخلاف الوعد؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من
المأثم والمغرم. فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! قال:
إن الرجل إذا غرم: حدّث فكذب، ووعد فأخلف) [16] ، وهاتان الصفتان من
صفات المنافقين، وحَري بالمسلم أن يبتعد عن كل ما يؤدي للتخلق بصفاتهم، فإن
قال قائل: قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استدان؛ فكيف استعاذ؟
فالجواب كما قال ابن المنيّر: (لا تناقُضَ بين الاستعاذة من الدّين وجواز الاستدانة؛
لأن الذي استُعيذ منه غوائل الدّين، فمن استدان وسلم منها؛ فقد أعاذه الله وفعل
جائزاً) [17] .
3- الهم والغم والتعلق بالدنيا والخوف من الموت لعدم سداد الدين، فيكون
نهاره مشغولاً بكسبه، وليله بهمومه؛ مما يفقده لذة العبادة والخشوع، وقد قال
بعض السلف: ما دخل همّ الدّين قلباً إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه.
4- خسارة الحسنات يوم الآخرة لمن مات وعليه دَين وفي نيته عدم الوفاء؛
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدّين ديْنان: فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا
وليّه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، وليس يومئذ دينار
ولا درهم) [18] .
العوامل المعينة على تسديد الدّيْن:
1- النية الصالحة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها
يريد إتلافها أتلفه الله) [19] قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: فانظر
كيف جعل النية الصالحة سبباً قوياً للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سبباً
للتلف والإتلاف) [20] .
2- المبادرة بسداده متى توفر المبلغ؛ لأن الإنسان قد يفجؤه الموت فيسلم من
تبعاته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (لو كان لي مثل أُحُد ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليّ ثلاثٌ وعندي منه
شيء إلا شيء أرصده لدَيْن) [21] .
3- التخطيط الجيد المدروس المبني على معرفة الحال، والابتعاد عن
الكماليات والزهادة في الدنيا والتطبيق العملي لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من
أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه: فكأنما حِيزت له
الدنيا) [22] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا
تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله) [23] .
4- الإكثار من الدعاء؛ فهو العبادة؛ فعن علي رضي الله عنه أن مكاتباً جاءه
فقال: إني قد عجزت عن كتابتي، فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لو كان عليك مثل جبل صِير ديْناً أداه الله عنك؟ قل:
(اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك) [24] .
__________
(1) صحيح الجامع، حديث رقم 3140.
(2) رواه مسلم، رقم 1886.
(3) رواه الترمذي، رقم 1084، وانظر صحيح سنن الترمذي 860.
(4) رواه البخاري، رقم 2893.
(5) مفتاح دار السعادة، ص 1/ 375.
(6) للمزيد من التفصيل: انظر المغني (3/382) ، وفتح الباري (5/65) ، والموسوعة الفقهية
(21/102) و (33/111) .
(7) رواه النسائي، رقم 4684، وانظر صحيح سنن النسائي 4267.
(8) القصة رواها البخاري، رقم 2063.
(9) رواه مسلم، رقم 1563.
(10) متفق عليه، البخاري، رقم 2287، ومسلم، رقم 1564.
(*) السن من الإبل: الجمل في عمر معيّن.
(11) متفق عليه، البخاري، رقم 2305، ومسلم، رقم 1601.
(12) البخاري، رقم 2076.
(13) رواه ابن ماجه، رقم 2424، وانظر صحيح سنن ابن ماجه 1968.
(14) رواه أبو داود، رقم 3628، وانظر صحيح سنن أبي داود 3086.
(15) المسند (4/146) ، وانظر السلسلة الصحيحة 2420.
(16) متفق عليه، البخاري، رقم 2397، ومسلم، رقم 589.
(17) فتح الباري، 5/74.
(18) رواه الطبراني من حديث ابن عمر، وانظر صحيح الجامع 3418.
(19) رواه البخاري، ح / 2387.
(20) بهجة قلوب الأبرار، ص 22.
(21) متفق عليه، البخاري، رقم 2389، ومسلم، رقم 991.
(22) رواه الطبراني من حديث ابن عمر، وانظر صحيح الجامع 3418.
(23) رواه مسلم، رقم 2963.
(24) رواه الترمذي، رقم 3816، وانظر صحيح سنن الترمذي 2822، وصِير جبل لطيء.(137/14)
تأملات دعوية
هذه المشكلات ليست من صنعنا
عبد الله المسلم
يطرح كثير من المتحدثين حول الصحوة الإسلامية اليوم وجيلها سلبياتٍ
وأمراضاً تنتشر لدى أتباعها، وهي تُولّد انطباعاً سيئاً وروح إحباط لدى من يستمع
لمثل هذه الآراء، مثل:
ضعف المبادرة الفردية، الفوضى وقلة الاكتراث بالوقت، ضعف المهارات
والقدرات القيادية، الرتابة في أساليب العمل وطرق الإدارة، السطحية وضآلة
التفكير، تركز النجاح في الأعمال والمشروعات الفردية أكثر منه في المشروعات
والأعمال الجماعية ... إلى آخر هذه القائمة من المشكلات.
إنها قائمة طويلة من الأمراض والسلبيات نسمعها عند الحديث حول جيل
الصحوة. وبغض النظر عما في التركيز على لغة النقد واحترافها من آثار سلبية،
ومن مبالغة في أحيان كثيرة، إلا أن هناك جانباً له أهميته ينبغي ألا يهمل عند
تناول هذه القضايا ألا وهو: أن معظم هذه المشكلات إنما هي نتاج وإفراز لأوضاع
المجتمع وبيئته الثقافية والفكرية السائدة؛ فهذه المشكلات التي يعاني منها الغيورون
على الصحوة موجودة ومتمثلة في كافة مؤسسات المجتمعات الإسلامية.
والنتيجة وإن كانت لا تختلف عند تقرير هذه الحقيقة إلا أن هناك سلبيات تنشأ
عن تجاهل هذا الجانب، ومنها:
- تحميل جيل الصحوة نتائج أعمال ليست من مسؤوليته.
- أن هذا يؤدي إلى شعور بالإحباط، واحتقار لكثير من جهود العاملين
الخيّرين حين يُحمّلون مسؤوليات أعمال ليست من صنعهم.
- أن هذا الأمر سينعكس أثره على الحلول المقترحة والمطروحة، فتتمحور
حول العلاج المباشر لهذه القضايا، والذي يعتمد على الطرح المعرفي المباشر لهذه
المشكلات من خلال قوالب جاهزة يعاد تشكيلها تبعاً لنوع المشكلة (التعريف،
المظاهر، الأسباب، العلاج ... ) وهذا الطرح يفتقد إلى حد كبير للعمق والعلاج
الحقيقي للمشكلة، ولا يعدو أن يكون كالوصفات التي يصرفها الطبيب لأي مريض
بغض النظر عما يعاني منه.
- وبغض النظر عن العلاج الذي يقترح لهذه المشكلات، إلا أنه لا بد أن
يتضمن التحليلُ الأفقي لهذه المشكلات تصنيفَها في مجموعات متجانسة؛ إذ إن
طائفة منها تعود إلى الضعف الإداري، وأخرى تعود إلى غياب الروح الجماعية في
العمل، ومنها ما يعود إلى النمط التقليدي في التفكير ... فهذا يسهم كثيراً في
اختصار خطوات الحل.
- وعلى اعتبار أن القياديين والمربين هم نتاج المجتمعات المعاصرة، فهم
يعانون من المشكلات التي يُفترض أن يعالجوها لدى المدعوين والمتربين، فتدور
القضية في حلقة مفرغة، فلا بد أن تكسر هذه الحلقة، ولا بد من تحديد نقطة للبدء
في ذلك.
- ومما يعين على تجاوز هذه المشكلات الشعور بأهمية الارتقاء بمستوى
التفكير، والبعد عن السطحية في تناول القضايا، وإيجاد البيئة الفكرية الراقية داخل
قطاعات الصحوة وبرامجها.
- ومهما افترضنا من الحلول والمقترحات فلا بد أن نشعر شعوراً ضرورياً
أن هذه المشكلات ليست من صنعنا ليكون التعامل معها تعاملاً صحيحاً، والله
الموفق وعليه التكلان.(137/20)
دراسات تربوية
الثواب والعقاب في التربية
د. عمر النمري
تلتقي نظريات علم النفس الحديث مع الإسلام في أن العقوبة أمر مشروع لمن
لم تُفد معه الأساليب التربوية الأخرى كالمدح والثناء في وضع حد للسلوك الخاطئ
وإطفائه؛ ذلك أن بعض الناس لا يرتدعون إلا بالعقوبة؛ وقد جاء في الأثر: (إن
الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) .
والإسلام يُجيز العقوبة ويشرّع لها؛ ولذلك وضع عقوبات وحدوداً معينة
لبعض الجرائم الأخلاقية: فجريمة القتل حدها القتل، وجريمة السرقة حدها قطع
اليد، وجريمة شرب الخمر حدها الجلد، وكذلك جريمة الزنا لغير المحصن حدها
الجلد أيضاً.
وهكذا نجد في القرآن الكريم تفاصيل هذه الحدود بما لا يدع مجالاً للشك؛ قال
تعالى في حد القتل: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
[البقرة: 179] . فجعل حياة المجتمع وقفاً على موت بعض أفراده السيئين قطعاً
لجذور الفساد وردعاً لمن تسول له نفسه القيام بذلك جزاء وفاقاً.
وقال في حد السرقة: [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [المائدة: 38] .
وقال في حد الزنا: [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَاًخُذْكُم بِهِمَا رَاًفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ] [النور: 2] .
وقال تعالى في جواز ضرب الرجل زوجته ضرباً غير مبرح: [وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياً كَبِيراً] [النساء: 34] .
وفي تأديب الصبي وجواز ضربه على إهمال الصلاة إذا بلغ عشراً، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين،
واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) [1] .
وهكذا يتبين لنا من هذه الأدلة أن الإسلام يجيز مبدأ العقاب ويشرع له،
ولذلك لا نجد من التربويين المسلمين الأوائل من أنكر مبدأ العقاب في التربية؛
ولكنهم أحاطوه بسياج من الشروط والقيود، وجعلوه تالياً للمدح، وقدموا عليه الرفق؛ عملاً بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرفق لا يكون في شيء
إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [2] .
وعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا عائشة! إن الله
رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي
على ما سواه) [3] .
ونجد من بين التربويين الأوائل الذين تكلموا في هذا الموضوع: الإمام الفقيه
محمد بن سحنون (ت 256هـ) ، وأبا الحسن القابسي (ت 324 هـ) ، وابن الجزار القيرواني الطبيب (ت 369هـ) ، والغزالي (ت 505 هـ) ، وبرهان الدين الزرنوجي (ت 640 هـ) ، وابن جماعة الكناني (ت 733هـ) وابن خلدون
(ت 808 هـ) وغيرهم.
قال ابن سحنون: (ولا بأس أن يضربهم يعني المؤدب أو المعلم على منافعهم، ولا يتجاوز بالأدب ثلاثاً إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً،
ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشراً، وأما على القرآن فلا
يجاوز أدبه ثلاثاً) [4] .
ويعلل ابن سحنون ذلك بقوله: (لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعت مالكاً
يقول: وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط
إلا في حد) .
وقد جاء في وصية ابن سحنون لمعلم ولده: (لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام، وليس هو ممن يؤدّب بالضرب والتعنيف) [5] .
ويلتقي أبو الحسن القابسي مع ابن سحنون في ضرورة الرفق بالصبيان وعدم
تجاوز الثلاثة في التأديب، وإنما يلجأ إلى الضرب فقط عندما لا ينفع العذل
والتقريع بالكلام الذي فيه التوعد من غير شتم ولا سب لعِرْض، يقول أبو الحسن
القابسي: (وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل
اجتهاده لئلا يزيد رتبة فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال
على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه.
ولئن سمح القابسي للمعلم بمعاقبة التلاميذ بهذا القدر من الضرب إلا أنه علّق
ذلك على مدى استئهال التلميذ لذلك، وقيّده بثلاثة، واشترط في تجاوز الثلاثة إلى
العشرة مشورة أبي الصبي أو ولي أمره ومدى احتمال الصبي للضرب فوق الثلاثة
إذا استأهل ذلك، وألا يتعدى أثر الضرب الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المُضِر. وعلى الجملة: فالمعلم عنده عوض عن الأب بالنسبة للصبيان (فهو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يَصْلح لهم، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم؛ فهو
يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رِفْقه بهم، ولا من
رحمته إياهم؛ فإنما هو لهم عوض من آبائهم) [6] ويعلل القابسي ذلك بقول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم
فارفق به) [7] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب الرفق في الأمر
كله) [8] .
وقد تحدث ابن الجزار القيرواني الطبيب عن الفرق بين الصبيان في مدى
قبولهم للأدب؛ إذ منهم من يتقبل الأدب قبولاً سهلاً، ومنهم من لا يقبل ذلك،
ومنهم من إذا مُدِحَ تعلم علماً كثيراً، ومنهم من يتعلم إذا عاقبه المعلم ووبخه، ومنهم
من لا يتعلم إلا إذا استعملت معه أساليب أشد تعنيفاً كالضرب مثلاً. ولذلك قرر ابن
الجزار مراعاة هذه الفروق الفردية، واتباع الأسلوب المناسب لتأديب كل صبي بما
يناسبه من الأساليب؛ حيث قال: (فأما إذا كان الصبي طبيعته جيدة، أعني: أن
يكون مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة والألفة محباً للصدق؛ فإن تأديبه يكون
سهلاً، وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة
من غيره، فإن كان الصبي قليل الحياء، مستخفاً للكرامة، قليل الألفة، محباً
للكذب، عسراً تأديباً، ولا بد لمن كان كذلك من إرهاب وتخويف عند الإساءة، ثم
يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف [9] .
وقد بين الغزالي أن الطريق في رياضة الصبيان وتأديبهم ينبغي أن يؤسس
على الرفق واللين، والثواب والمدح لا العقاب والشدة والتعنيف؛ حيث قال: (ثم
مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى
عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة
واحدة؛ فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنه
يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛
فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد
ثانية فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك
لمثل هذا، وأن يُطّلع عليك في مثل هذا فتُفضح بين الناس. ولا تكثر القول عليه
بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع
الكلام من قلبه) [10] .
أما العلاّمة ابن خلدون فقد عقد في مقدمته فصلاً في أن الشدة على المتعلمين
مُضرّة بهم، أشار فيه إلى الأضرار الخطيرة التي تعود على الفرد في مرحلة الرشد، وعلى المجتمع بأسره نتيجة الشدة والتعنيف في تأديب الولدان في الصّغر، وما
ينجرّ عنها من فساد وسوء خلق وتعوّد على الكذب والخبث والكيد والمكر والخديعة؛ لأن الراشد قد تعوّد في صغره التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط
الأيدي بالقهر عليه، فصار ذلك له خلقاً وعادة لم يستطع منها فكاكاً في الكبر.
يقول ابن خلدون: (ومن كان مَرْباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك
أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النّفْسِ في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه
ذلك إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره
خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له
هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدّن،
وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل
وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل؛ فانقبضت عن غايتها ومدى
إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين) [11] .
ولم يكتف ابن خلدون بهذه الإشارة الجميلة للآثار المترتبة على العنف في
التربية؛ بل ضرب لنا مثلاً واقعياً باليهود وما اتصفوا به من خبث ومكر وكيد؛
ومردّ ذلك حسب تحليله يعود إلى ما لقوه من قهر وعسف نتيجة تيههم وتفرقهم في
الأمصار. يقول ابن خلدون: (وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق
السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج؛ ومعناه في الاصطلاح
المشهور: التخابث والكيد؛ وسببه ما قلناه. (أي: العسف والقهر في
التأديب) [12] . ولذلك دعا ابن خلدون إلى الرفق بالمتعلم واجتناب الشدة في تأديبه وتهذيبه، واستحسن وصية الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين، واعتبرها من أحسن مذاهب التعليم، ومما جاء فيها: (يا أحمر! إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن، وعرّفه الأخبار، وروّه الأشعار، وعلّمه السنن، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا
مجلسه، ولا تمرّنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها إياه، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة؛ فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة) [13] .
وأجمل منها وصية مسلمة بن عبد الملك إلى مؤدب ولده؛ حيث قال: (إني قد
وصَلْتُ جناحك بعضدي، ورضيتُ بك قريناً لولدي؛ فأحسن سياستهم تدم لك
استقامتهم، وأسْهِلْ بهم في التأديب عن مذاهب العنف، وعلّمهم معروف الكلام،
وجنّبهم مثاقبة اللئام، وانههم أن يُعرَفوا بما لم يَعْرِفوا، وكن لهم سائساً شفيقاً،
ومؤدباً رفيقاً تكسبك الشفقة منهم المحبة، والرفق حسن القبول ومحمود المغبة،
ويمنحك ما أرى من أثرك عليهم، وحسن تأديبك لهم مِني جميل الرأي، وفاضل
الإحسان ولطيف العناية) [14] .
ومما سبق يتضح أن المربين المسلمين الأوائل وإن أقرّوا بدور العقاب في
التربية إلا أنهم جعلوه من باب: (آخر العلاج الكي) بحيث لا يلجأ إليه المربي إلا
عند الضرورة القصوى، وضمن حدود معينة، وشروط محددة؛ فهم قد فاضلوا بين
الأساليب التربوية على النحو الآتي:
1- المدح والثناء والترغيب:
اعتبر التربويون المسلمون الأوائل الثواب والمدح والثناء الأسلوب الأمثل،
والحافز الأقوى للتعلم، ولذلك طالبوا المعلم بالمبادرة به قبل غيره، وأن لا يلجأ إلى
غيره إلا لحاجة ملحّة قد تفرضها طبيعة الصبي كأن يكون الصبي قليل الحياء
مستخفّاً بالكرامة، قليل الألفة محباً للكذب. وفي ذلك يقول أبو الحسن القابسي:
(وإذا هو أحسن يغبطه بإحسانه من غير انبساط إليه ولا منافرة له ليعرف وجه
الحسن من القبيح فيتدرج على اختيار الحسن) [15] .
وفي ذلك أيضاً يقول الغزالي: (ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل، وفعل
محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر
الناس) [16] .
وقد مر معنا وصية ابن سحنون لمؤدب ولده: (ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام) [17] .
كذلك أوصى ابن جماعة المعلم بشكر التلميذ إذا أصاب الجواب ومدحه والثناء
عليه، فقال: (فمن رآه مصيباً في الجواب، ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره
وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد) [18] . وقد
كان المربون الأوائل يتحينون الفرص لتشجيع الأولاد وحثهم على المنافسة النزيهة
في العلم وتحصيله. قال ابن سحنون في حث المعلم على ذلك: (وينبغي أن يجعل
لهم وقتاً يعلمهم فيه الكتاب ويجعلهم يتجاوزون؛ لأن ذلك مما يصلحهم ويخرجهم،
ويبيح لهم أدب بعضهم بعضاً) [19] .
وكانوا إذا حذق الصبي القرآن أي أصبح ماهراً فيه جمعوا له الناس وعملوا
له وليمة لتشجيعه ومدحه بين الناس بما يدفعه إلى الاستزادة من العلم وتحصيله؛
خصوصاً إذا علمنا أن أول ما يتعلمه الصبي في الكتّاب القرآن الكريم، فهو بختمه
القرآن الكريم وحذقه لا يزال في بداية الطريق. جاء في: (كتاب العيال) للحافظ
ابن أبي الدنيا: (حدثني بشر بن معاذ العبدي، حدثنا أبو عمارة الرازي، حدثنا
يونس، قال: حذق ابنٌ لعبد الله بن الحسن بن أبي الحسن، فقال الحسن: إن فلاناً
قد حذق.
فقال الحسن: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً
للناس) [20] .
وبهذا يكون المربون الأوائل قد سبقوا بأشواط كثيرة علماء النفس المحدثين في
تقرير أهمية المدح والثناء في التربية. ويشار إلى أسلوب التشجيع والثواب في علم
النفس بمصطلح (التعزيز) . ومعناه المكافأة ويعتبر التعزيز، سواء كان معنوياً
كالمدح والثناء، أو مادياً، من أهم الأساليب الحديثة في تعديل السلوك وتهذيبه.
وهكذا يتضح أن التربويين المسلمين قد لامسوا الموضوع عن قرب ولكن دون
الدخول في تفصيلات كبيرة كما هو الشأن بالنسبة لعصرنا الحالي الذي تشعبت فيه
التخصصات.
2- الإيحاش والإعراض والتّرْك:
ويعتبر الإيحاش والإعراض والترك أقل درجات العقوبة المعنوية؛ فالمعلم قد
يلحظ على الصبي ملحظاً أو يرى منه تصرفاً غير لائق؛ ولكنه يُعرض عنه
ويتغافل عنه ولا يعنفه أو يشتد عليه في العقوبة؛ ربما لأن الصبي قام بهذا السلوك
مرة واحدة فيعفو عنه، أو لأنه كان يتوقع أن ما قام به يعتبر لائقاً وينتظر عليه
مكافأة من المعلم ولو في صورة مدح أو بشاشة وجه أو اهتمام به، فيعرض المعلم
عنه ويبدي له نوعاً من الإيحاش وعدم البشاشة. وقد أشار الغزالي إلى هذا
الأسلوب بقوله: (فإن خالف ذلك (أي: أتى فعلاً غير محمود أو تخلق بخلق غير
جميل) في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا
يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره
الصبي واجتهد في إخفائه) [21] .
ويشار إلى هذا الأسلوب في نظريات التعلم بمصطلح: (الانطفاء) .
ومعناه أن الصبي إذا قام بسلوك غير لائق وتجاهله المعلم وأعرض عنه ولم
يُبْدِ نوعاً من الإيناس وبشاشة الوجه للصبي؛ فإن الصبي يبدي رغبة أقل في
تكراره ويتركه؛ فينطفئ. وقد قدم لنا كل من (مارتن وبير) في كتابهما: (تعديل
السلوك) عدة شروط يجب مراعاتها لكي يكون استخدامنا للانطفاء أكثر فعالية في
تعديل السلوك، يمكن الرجوع إليها في مظانها لمن رام المزيد.
3- الذم والتوبيخ والترهيب:
إذا لم ينفع مع الصبي أسلوب الإيحاش والإعراض والترك يلجأ المعلم إلى
أسلوب أشد في العقوبة المعنوية وهو أسلوب الذم والتوبيخ والترهيب والوعيد
الشديد دون إيقاع الضرب ودون التبذل في العذل والتقريع في الكلام أو اللجوء إلى
الشتم والسب. وقد جعل أبو الحسن القابسي هذا الأسلوب في العقوبة أعلى درجات
العقوبة المعنوية، ويليه مباشرة إيقاع العقوبة البدنية بالصبي إذا استأهل ذلك.
كذلك أشار الغزالي إلى أن الصبي إذا نُهي عن التخلق بسيئ الأخلاق فلم ينته، ولم ينفع معه أسلوب الإيحاش والإعراض والترك فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم
الأمر فيه؛ فيقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يُطّلع عليك في مثل هذا
فتُفتضح بين الناس [22] . فإن لم ينته الصبي عن ذلك يُلجأ إلى العقاب الجهري
والتغليظ في القول لينزجر السامع ومن معه ويتأدبوا بذلك؛ فإن لم ينفع معه ذلك
يُلجأ إلى العقوبة البدنية على النحو الذي سيأتي ذكره.
4- العقوبة البدنية:
إذا لم تفلح أساليب العقوبة المعنوية من إيحاشٍ وإعراضٍ وذمٍ وتوبيخٍ
وتخويفٍ يَلجأ المعلم إلى العقوبة البدنية؛ حيث أجاز الإسلام العقوبة البدنية وشرع
لها كما أسلفت، كما أجاز المربون المسلمون استعمال الضرب لتأديب الصبيان؛
ولكنهم جعلوه آخر أسلوب في التربية، وأحاطوه بسياج من القيود والشروط. وفيما
يلي الشروط التي وضعها أبو الحسن القابسي للعقوبة البدنية [23] :
1- ألاّ يستعمل المعلم الضرب إلا لذنب.
2- أن يوقع المعلم الضرب بقدر الاستئهال الواجب في الجُرْم (وإذا استأهل
الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في
رتبة فوق استئهالها) [24] .
3- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن القائم بأمر الصبي في
الزيادة إلى عشر ضربات. فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى ولعب، وهروب من
الكتّاب، وإدمان البطالة فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، أو وصيه إن كان يتيماً،
ويُعْلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه
التقصير في التعلم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه
وبين العشر [25] .
4- أن يزاد على عشر ضربات إذا كان الصبي يطيق ذلك أو كان سيئ
التربية غليظ الخلق. (وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام ويكون سيئ
الرعية، غليظ الخلق، لا يروعه وقوع عشر ضربات عليه ويرى للزيادة عليه
مكاناً، وفيه محتمل مأمون، فلا بأس إن شاء الله من الزيادة على العشر
ضربات) [26] .
5- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه: (ولْيتولّ أدبهم بنفسه؛ فقد أحب
سحنون ألا يُولي أحداً من الصبيان الضرب) [27] .
6- أن يوقع المعلم الضرب على الرّجْلين دون الوجه والرأس: (وليتجنب أن
يضرب رأس الصبي أو وجهه؛ فإن سحنون قال فيه: لا يجوز له أن يضربه،
وضرر الضرب فيهما بيّن، قد يوهن الدماغ، أو تطرف العين أو يؤثر أثراً قبيحاً، فلْيُجتنبا؛ فالضرب على الرّجْلين آمن وأحمل للألم في سلامة) [28] .
7- أن يكون الضرب بحيث لا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن
المضر: (وصِفَة الضرب: هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع، أو
الوهن المضر) [29] .
8- أن تكون الدّرّة التي يضرب بها المعلم الصبيّ رطبة مأمونة لئلا تؤثر
أثراً سيئاً.
9- ألاّ يكون الضرب انتقاماً من الصبي وإنما يكون لعلاجه وتأديبه: (ينبغي
لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، وليس لمعلمهم في ذلك
شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه؛ فإن ذلك إن أصابه فإنما ضَرَبَ
أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل) [30] .
ومن استعراض هذه الأساليب ومفاضلة التربويين المسلمين بينها يتبين لنا
مدى حرصهم على الرفق بالصبيان عند تعليمهم وتأديبهم ومدى تضييقهم على مسلك
العقاب في التربية.
ونجد في الدراسات النفسية الحديثة دعوة ملحة لاجتناب استخدام العقاب في
التعليم، وإشارات عديدة لكون العقاب يعد أقل الأساليب التربوية فعالية في التعليم،
ومع ذلك فإنِ احتاج المعلم إليه فعليه أن ينبه الصبيّ إلى مواضع الخطأ قبل إيقاع
العقاب عليه، وأن يبين له السلوك البديل فيما أخطأ فيه، وإذا أوقع عليه العقاب
فليكن القصد منه مصلحة الصبي دون التهجم على شخصه.
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة، حديث رقم 494.
(2) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، حديث 6549.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، حديث 6548.
(4) محمد بن سحنون، آداب المعلمين، ملحقة في كتاب التربية في الإسلام، أحمد فؤاد الأهواني،
دار المعارف دت، 354.
(5) المرجع السابق، ص 148.
(6) القابسي، 1986، 128.
(7) ورد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد بالصيغة الآتية: حدثنا عبد الله، حدثني أبي،
حدثنا وكيع قال: حدثنا جعفر بن برقان، عن عبد الله البهي، عن عائشة قالت: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم من رفق بأمتي فارفق به، ومن شق عليهم
فشق عليه) مسند أحمد، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، حديث 23876.
(8) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، حديث 5802.
(9) ابن الجزار، 1404 هـ، 116.
(10) الغزالي، ج3، ص 73.
(11) ابن خلدون، 1979م، ج3، 1253- 1254.
(12) المرجع نفسه، 1979م، ج3، 1252.
(13) ابن خلدون، 1979م، ج3، 1254.
(14) ابن أبي الدنيا، 1410 هـ، ج1، ص 518.
(15) القابسي، 1986م، ص 133.
(16) الغزالي، د ت، ج3، ص 73.
(17) الأهواني، 1984م، ص 148.
(18) ابن جماعة، ص 54.
(19) ابن سحنون، 1984م، ص 357.
(20) ابن أبى الدنيا، 1410هـ، ج1، ص 489.
(21) الغزالي، ج 3، ص 73.
(22) الغزالي، ج 3، ص 73.
(23) انظر الأهواني، 1984م، ص 152 153.
(24) المرجع نفسه، ص 309.
(25) المرجع نفسه، ص 310.
(26) المرجع نفسه، ص 310.
(27) انظر الأهواني، 1984م، ص 310.
(28 المرجع نفسه، ص 310 -311.
(29) المرجع نفسه، ص 310.
(30) المرجع نفسه، ص 310.(137/22)
فاتحة الملف
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
التراث.. أمانة
تراث كل أمة ذاكرتها.. فكيف تعيش أمة بلا ذاكرة؟ وأي جريمة عندما تُشوّه
هذه الذاكرة؟ !
عندما شُنّت الهجمة الشرسة على الأمة الإسلامية منذ زمن بعيد كان نصيب
التراث من هذه الهجمة كبيراً: شككت أقلام في حقيقة وجوده وأصالته، رُوّجت
أفكار لتشويهه، استُعمل المصطلح رأس حربة لهدم قدسية الوحي أو وضعه على
الأقل في دائرة النسبية..
فقد حاول بعض أذناب المستشرقين الطعن في صحة بعض التراث ورموه
بالانتحال، ليس للتمحيص العلمي، بل للتشكيك في التراث كله، وأيضاً للتشكيك
فيما خدمه هذا التراث: القرآن والسنة.
وقد روّج بعض المغرضين لمفهوم أن الكتاب والسنة (تراث) ، ثم أشاعوا أن
التراث شيء موروث، وعليه: فلا يلزمنا اتباعه بإطلاق، كما إنه يجب أن يقع
تحت دائرة النقد والتمحيص، الذي قد ينتج عنه الرفض أو القبول، وهكذا وقعت
نصوص الوحي تحت طائلة التشكيك أو التحريف المعنوي بعد العجز عن التحريف
اللفظي، فيكفيهم من عملهم هذا محاولة هز هذه النصوص في نفوس بعض الضعفاء
عندما يرونها واقعة في دائرة التشكيك.
هذا بعض ما أراده الشانئون، ولكن مع كل ذلك سلمت بحول الله قدسية
الوحي، وصمد التراث..
سلمت ألفاظ الوحي بحفظ الله تعالى له: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] [الحجر: 9] ، وسلمت معانيه بذب العلماء الربانيين عنه تحريف
الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وصمد التراث، ليس فقط لأنه تراث أمة آخر الأنبياء؛ بل أيضاً بسبب
جهود متواصلة قيّض الله لها رجالاً أفذاذاً حفظوا أمانة التراث، وأعطاهم الله من
الإمكانات والمثابرة ما يعينهم على هذا العمل؛ فهم فيه ليسوا أدعياء يريدون حفظ
الأمانة ولا يقدرون عليها؛ بل كانوا أمناء مجدّين لا يضرهم من خالفهم.
وإسهاماً منا في التنبيه إلى أهمية هذه الأمانة كان هذا الملف الذي نرجو أن
نكون قد وفقنا فيه. ومن الله العون والتسديد.(137/31)
ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
حقائق حول التراث الإسلامي
أنور الجندي
إن نظرية فصل واقع الأمة وحاضرها عن التراث هي أكبر مؤامرة تواجه
الفكر الإسلامي الذي لم تنقطع مسيرته خلال أربعة عشر قرناً، أما دعاة التغريب
فهُم يريدون فصله عن الإسلام وربطه بالعصر السابق كما حدث للفكر الأوروبي
الذي انفصل عن العصر المسيحي، وربط نفسه بالعصر الهلّيني. أما المسلمون
فيؤمنون بضرورة وصل حاضر الأمة بماضيها، وأهمية إضاءة الطريق إلى
التراث لتكون الخطوات القادمة متصلة.
ولقد حرص النفوذ الأجنبي على الفصل بين الحاضر والماضي عند بدء كُتّاب
(الرواد والقمم الشوامخ) من العصر الحاضر، ووقفوا بماضيهم عند الحملة الفرنسية، وأخذوا في معالجة التراث على أساس إخضاعه للنظريات الغربية المعاصرة
القائمة على:
1- نظرية دارْوِن واعتبار الإنسان حيواناً ناطقاً.
2- إعلاء شأن العنصر والدم، وتجاهل الحقيقة الواضحة من أن الإسلام هو
الذي وضع أسس العقل الغربي الحديث، وأن وحدة الفكر الإسلامي قامت على
أساس العقيدة لا العنصر أو الدم.
ولقد كان أول من هاجم التراث الإسلامي وأثار الشبهات حوله الدكتور طه
حسين في (مسألة الشعر الجاهلي) ودعا إلى تطبيق منهج الشك الديكارتي عليه.
ولقد تبين فساد منهج الشك الذي اصطنعه طه حسين، ووضح اختلافه مع منهج
ديكارت.
كما حاول الغربيون تطبيق المنهج الغربي (المادي) في دراسة التراث
الإسلامي، وهو منهج تشكّل في ضوء الصراع مع النصرانية، وحاولوا به
معارضة التوراة والإنجيل، وقد كان الغربيون في مواجهة الفكر الديني الأوروبي
يصدرون عن خصومةٍ وهوى، فلما جاؤوا به يواجهون التراث الإسلامي كانت
خصومتهم أشد عنفاً؛ فقد أرادوا بمكرهم إطلاق لفظ (التراث الديني) على تراث
النصرانية واليهودية والفرعونية والإسلام وهو محض افتراء؛ فالتراث الإسلامي لا
يمكن أن يوصف بأنه تراث ديني فحسب؛ وهو يشتمل على الآداب والعلوم
والاجتماع. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فهناك فصل كامل بين تراث الإسلام
وتراث الأمم قبل الإسلام، ولا يمكن الجمع بينهما على النحو الذي يدعو إليه بعض
التغريبيين؛ ذلك لأن الإسلام حين جاء أحدث فاصلاً عميقاً بين ماضي البشرية
وحاضرها أطلق عليه المؤرخون اسم: (الانقطاع الحضاري) ، فقد قامت
الحضارات الكبرى السابقة للإسلام اليونانية والرومانية والفرعونية والهندية
والفارسية على أساس الوثنية وعبادة الفرد والرق، وقد جعلت الرقيق عنصراً
أساساً في بنائها؛ بينما جاء الإسلام لهدم كل عبودية لغير الله تعالى.
ولقد كان من أوضح أهداف الغزو الفكري أن يرتاب المسلمون في تراثهم
الأصيل، وأن يتحولوا عنه إلى فكر مطبوع بالطابع الغربي الوافد على النحو الذي
قدمته دائرة المعارف الإسلامية التي حاول بها الاستشراق أن يكسب ثقة القارئ
المسلم، وأن تكون كتاباته في مجال الصدارة والمحل الأول بين مراجع الجامعات،
فيعتمدوها ويكتفوا بها على ما فيها من خلطٍ وتحريف، وينسوا مع الزمن مراجعهم
الأصلية. لذلك كان ينبغي لنا أن نسجل مجموعة من الحقائق الأساسية المتعلقة
بالتراث الإسلامي:
أولاً: تميز تراثنا الإسلامي المتصل خلال أربعة عشر قرناً عن تراث هذه
المنطقة قبل الإسلام (الفرعوني والفارسي واليوناني والروماني) . هذا التميز يمثل
في أزمنتنا المعاصرة تياراً أساسياً في مواجهة القومية والماركسية والليبرالية.
ولقد تقرر أن الإسلام بوصفه ديناً ربانياً عالمياً جامعاً للروح والمادة لا يمكن
أن يوضع في مجال المقارنة بالأديان أو المذاهب العقائدية الأخرى.
كذلك فإن الإسلام لا يقبل بالعلمانية التي تهدف إلى أن تفرغ المسلم من عقيدته، وأن يترك بعض أحكام دينه أو يتجاوز عنها، فضلاً عن أنها تعمل على تحويل
الدين من نظام مهيمن إلى نظامٍ وضعي.
ثانياً: أن التراث الإسلامي يتميز بخصوصية ذاتية في تكوينه تجعله مختلفاً
عن التراثات الإنسانية بماضيها الأوروبي؛ فهو تراثٌ تتصل منابعه الأولى بوحيٍ
إلهي؛ فيكفل حفظ مضمون الحياة، وكل فروعه دائرة في فلك الإسلام الروحي
والثقافي. وهو بهذا المفهوم ليس مماثلاً للحوادث التاريخية تحت أي ظرفٍ كان.
ثالثاً: القرآن والسنة لا يدخلان في مقولة التراث؛ بل هما من الثوابت. أما
التراث فيبدأ بعمل العلماء والفقهاء والمؤرخين. ويلتزم العمل الفكري والأدبي
بالتحرك في إطار الثوابت. وعند النظر إلى التراث يجب أن تكون القواعد
الأساسية التي قررها القرآن والسنة قائمة؛ فإن النظريات الكلامية والاعتزالية
والنصوص الفلسفية يجب أن يُنظر إليها في ضوء مفهوم أهل السنة والجماعة
ورفض ما يتصل بالفلسفة اليونانية أو الفكر الغنوصي أو مذاهب الإشراق والباطنية.
رابعاً: كشف علماء الإسلام زيف منهج الفلسفة اليونانية وحذروا من مخاطره
على مفهوم التوحيد الخالص، وذلك منذ اليوم الأول لترجمة الفلسفات في القرن
الثاني الهجري، وكان أبرز العاملين في هذا المجال جمعٌ من الأئمة؛ منهم على
سبيل المثال: الشافعي وابن حنبل وابن تيمية وابن القيم.
الإمام الشافعي: أعلن أن اللغة العربية لها منهج يختلف عن آجاثون اليونان.
الإمام أحمد: هاجم القول بخلق القرآن وقال: إنه منقول من الفكر اليهودي.
الإمام الغزالي: دحض مفاهيم الفارابي وابن سينا، وكذّب مقولتهم في ثلاثة
مواضع.
شيخ الإسلام ابن تيمية: نقض منطق أرسطو وأعلن منطق القرآن.
خامساً: أن اتخاذ الإسلام مصدراً للهوية هو اتجاه طبعي، وهو عودة إلى
المنابع، وهو التماس للطريق الذي سلكه المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، فهو
ليس غريباً ولا جديداً ولا خاطئاً؛ بل الخطأ هو عكس ذلك: من الاستمرار في
التقلب بين الليبرالية والماركسية والقومية التي أخفقت في اتخاذها أطراً للتقدم. إن
النكسة قد كشفت عن إخفاق هذه المفاهيم، ودفعت المسلمين إلى العودة إلى المنابع
على أنها الطريق الوحيد.
سادساً: أن المسلم المتعلم في الغرب ليس له قدرة استيعاب ما في التراث؛
ذلك أنه كثيراً ما ينهزم أمام استغلاق التراث في أول الأمر مما يدفعه بقوة إلى
الإعراض واليأس والظن بأنه ليس في التراث شيء حول موضوع بحثه، مع أن
الحقيقة أنه هو الذي لا خبرة له بتصنيفات التراث التي تندرج تحتها مثل تلك المادة
الملائمة لموضوعه.
سابعاً: من الخطأ أن يطالب البعض بالتمسك الحرفي بكل التراث أو ممارسته
ككل، أو بالنظر إلى الماضي كله على أنه مقدس، أو أنه ينبغي أن نعيد التاريخ
بحذافيره؛ لأن التراث وفق مفهومهم يدخل فيه اللوثات والانحرافات الدخيلة على
حضارتنا.
كما أنه من الخطأ أيضاً الخلط بين الموروث والوافد من الأفكار؛ فتلك نظرية
عجزت عند التطبيق أن تقدم شيئاً.
ثامناً: مقولة أن التراث الإسلامي يخلو من تنظيم العلاقة الاجتماعية بين
الناس مقولة خاطئة، قال بها الذين ظنوا أن الفلسفة وعلم الكلام وتراث الفرق
الإسلامية هو كل تراث الإسلام، ومن ثَم يُزعم أنه يخلو من تنظيم علاقة الإنسان
بالمجتمع حيث تنتظم علاقة الإنسان بالله تبارك وتعالى؛ ذلك أنه ليس في الإسلام
فصل بين العلاقتين، والفقه يعالج العبادة كما يعالج المعاملات.
تاسعاً: يجب أن يظل تراث الإسلام الأصيل هو نقطة انطلاقنا في جميع
العلوم والثقافة نحو الارتباط بالإسلام في أصوله (القرآن والسنة) وفي تطبيقاته
خلال أربعة عشر قرناً على أيدي العلماء والمؤرخين.
إن الذين أسهموا في تطوير التراث الإسلامي وانتشاره ونهضة الحضارة
الإسلامية كانوا جميعاً يعبرون عن الأمة الإسلامية؛ سواء منهم الذين آمنوا بالإسلام
أم لم يؤمنوا؛ فقد أوجد الإسلام نهضة فكرية جمعت كل العناصر تحت لوائها.
وكانت اللغة العربية هي منطلقها الأصيل. إن الإسلام وحده هو الذي شكّل
عقلية العلماء سواء أكانوا فُرساً أو هنوداً أو تركاً أو عرباً؛ لأنهم قد شاركوا بعقيدة
الإسلام وعقليته ومفاهيمه، ولم يكن لاعتبار قومياتهم أثر، وإنما كانوا مسلمين،
كتبوا باللغة العربية، ودليلهم القرآن.
أما القول بأن التخفف من التراث مطلب من أجل اللحاق بالحضارة فتلك
دعوى مضللة وباطلة، بل العكس هو الصحيح؛ فقد أكد العلماء التجريبيون أن
النهضة الإسلامية لا يمكن أن تُستأنف إلا بالاتصال بنهاية التراث الإسلامي الذي
توقف من قبل للبناء عليه؛ فالذين يدعوننا إلى التخفف من التراث إنما يدعوننا إلى
التيه حتى نفقد طريقنا ومنطلقنا الحقيقي إلى النهضة المرتقبة؛ ذلك أن أبرز مظاهر
تراثنا الفكري والحضاري الصالحة لنهضة إسلامية عربية جديدة هي ذاتها العناصر
الأساسية للمنهجية العلمية والتقنية التي ارتكز عليها الانبعاث في أوروبا بعد عصر
النهضة وانطواء العصور الوسطى التي ظلت قرابة ألف عام الإطار الزمني
لازدهار الحضارة الغربية في مختلف مجالاتها الإنسانية؛ حيث برهن المسلمون
خلال ذلك على أصالة نادرة وروح خلاّقة واستعداد للتكيف؛ فقد أعدوا منهجاً
تجريبياً رصيناً لم يكن للإنسانية عهد به، وطوروا الاختصاص التقني، وحرروا
الفكر، وعززوا شمولية الكشف العلمي بربط الماضي بالحاضر.
يقول الدكتور أحمد سعيدان: إن المهمة الفريدة للبحث في هذا التراث هي أنه
يمكّننا من إقامة بنيان المعرفة العلمية لدى أجيالنا القادمة على خلفية من إنجازاتنا.
إن عرض مسيرة العلم كما لو كان قاصراً على الإنجازات الغربية لا يخلق حافزاً
للأجيال الصاعدة، ولا يقيم في أذهانهم قيماً ومُثلاً بقدر ما يضع في نفوسهم ألا
يعرفوا أن لأجدادهم إنجازات واكتشافات واختراعات. إن قصر البحث على
الإنجازات الغربية يفقدهم شخصيتهم ويشعرهم بالنقص، وهو يعوق استقلالهم
الفكري ويحول دون الأصالة والإبداع. إن موضوعية البحث لا تتناقض بتنشئة
المواطنين تنشئة فيها الاعتزاز بماضيهم والانتماء إلى أصولهم والثقة بقدراتهم دون
تهويل إلى حد الادعاء الأجوف.(137/32)
ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
تراث مصطلح التراث
تساؤلات مشروعة!
جمال سلطان
حتى وقت قريب من تاريخ الفكر الإسلامي الحديث، لم يكن مصطلح التراث
قد ظهر في حوارات المتحاورين أو كتابات الكاتبين، حتى بدأت كتابات الاستشراق
ومناهجها تتغلغل في أوساط النخب العربية والإسلامية الجديدة، وبدأ الحديث عن
مشخصات وجود الأمة وإنسانها، ومكونات الشخصية المسلمة وما يمتزج بها من
علوم ومعارف وآداب وفنون ونحو ذلك، بوصفه (تراثاً) ، وإطاراً معنوياً منفصلاً،
يتيح للمعاصرين أن يقفوا منه موقف الانتقاء، أو يضعوه على مشرحة النقد أو في
ميزان المفاضلة بينه وبين (الوافدات) الفكرية الجديدة من الخارج؛ بحيث ينظر
المسلمون إلى كلا الجهتين على قدم المساواة باعتبارها معاني منفصلة متمايزة عن
الشخصية وهويتها، ويبحثون فيما يمكن أن يأخذوه من هذا (التراث) أو يتركوه،
ثم انتشر استخدام هذا المصطلح الفكري والمنهجي بعد ذلك بسهولة ويسر عبر
الكتابات المختلفة؛ بحيث أصبح أحد أبرز المحاور التي تشكل اتجاه التفكير والنظر
في الأبحاث الفكرية المتصلة بالإسلام وتاريخه وحضارته.
والحقيقة أن ميلاد مصطلح (التراث) في تاريخ فكرنا الحديث بحاجة ماسة إلى
جهد علمي بحثي دؤوب، يجمع لنا الخطوات الأولى التي بدأها، والتحولات الدقيقة
التي مر بها استخدامه حتى صار إلى ما صار إليه؛ فإذا تأملنا هذا المصطلح الجديد
ومحاولات توظيفه منهجياً لإعادة تشكيل العقل الإسلامي وفق تصور اغترابي كامل، لرأيناه يقسم الشخصية الإسلامية ويشطرها إلى أجزاء عدة مبعثرة ومتمايزة
ومنفصلة بعضها عن بعض، كما يجعل الإنسان المسلم ينظر إلى سلفه الصالح
وعطاءاته، ليس على أنها أساس بنائه العقلي والديني والحضاري والقيمي؛ بل
على أنها تمثل بعض كتب تركها القوم الغابرون، ويتوجب علينا أن نتعامل معها
بحذر وتوجس، وتحليل صارم لمكوناتها وأفكارها وشخصيات من وضعوها، ومن
الضروري وفق التصور الاغترابي أن يكون هذا التحليل وفق المناهج النقدية
الحديثة، أي المناهج الغربية التي أصبح لها الهيمنة والمرجعية في تقييم وتقويم
مجمل تراث العالم الإنساني على مر العصور.
على أن مصطلح (التراث) عندما دخل إلى حياتنا الفكرية، قد حرص من
روجوه وصنعوه على أن يضفوا عليه هالة من السحر والغموض في آن واحد،
فالمصطلح له سحر الجدة والطرافة، ولكنه في النهاية والقيمة العلمية والعملية
مصطلح يفتقر إلى الضبط العلمي، والتحديد المنهجي. وذلك أن هذا (القديم) الذي
ورثناه عن سلفنا، منه ما هو فكر، ومنه ما هو دين، ومنه ما هو فن، ومنه ما
هو قيم وأعراف، ومنه ما هو علوم متعلقة بالشريعة وأحكامها والكتاب والسنة
ودلائلهما، كما أن منه ما هو علم مدني عام مثل: الأبحاث والقواعد المتعلقة بعلم
الفلك والحساب والهندسة، وعلوم البحار والجغرافيا، ونحو ذلك من العلوم
والمعارف الدنيوية العامة؛ فأي ذلك ينطبق عليه وصف (التراث) ؟ ثم هل يمكن أو
يليق أن يتحدث باحث جاد ومحترم عن (التراث) وهو يضع في هذا القالب
الفضفاض كل هذه الأبعاد والعلوم والمعاني المتباينة منهجياً وعملياً، ويتحدث عنها
بخطاب عام واحد؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن يتحدث عاقل راشد عن (الجامع
الصحيح للإمام البخاري) وكتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني بوصفهما تراثاً،
وبحيث يمكنني التعامل معهما بالمنهج نفسه والمنطق نفسه والآليات نفسها؟ أم أن
هناك فروقاً جوهرية تحتم عليّ التفرقة بين الاثنين، والتعامل مع كل منهما بمنهج
مختلف وروح مختلفة ودافع مختلف عن الآخر تماماً؟ وهل يمكننا إذ ذاك أن نفهم
مدى جدية عنوان من العناوين الشائعة التي يستعملها العلمانيون العرب بوفرة وكثرة
في لغة الفكر المعاصر، من مثل: (الموقف من التراث) أو (التراث والمعاصرة) ؟
أم أننا سنرى بوضوح أن مثل هذه العناوين إنما تعبر عن غباء منهجي وسطحية
ورعونة، ولا تعبر أبداً عن منهج راشد أو منطق سليم؟ كذلك كيف يمكنني أن
أتعامل منهجياً مع (القرآن والسنة) بوصفهما تراثاً؟ ! !
وليلاحظ القارئ أن العلمانيين العرب يحرصون كل الحرص على القفز على
هذه الجزئية تحديداً؛ فهم يتحدثون عن (التراث) الإسلامي هكذا، ولا يفصلون جهد
البشر عن الوحي، في تعمد صريح لتعميق اللبس، وذلك أن المنهج النقدي الذي
تتعامل به مع ما تؤمن أنه (كلام الله) سيختلف حتماً مع المنهج النقدي الذي تتعامل
به مع (كلام البشر) . فإذا سلمنا بهذه البديهة فإننا لا بد من أن ننظر إلى ما هو أبعد
من ذلك. فاللغة التي نزل بها القرآن، والتي لا نفهم القرآن والسنة إلا بها هل
سنعتبرها (تراثاً) بحيث يجوز لنا أن نأخذ منها وندع؟ أم أن المنهج هنا سيختلف؟
لأنك إذا بدلت أو غيرت في (لغة الوحي) فقد غيرت بالضرورة في (الوحي ذاته) ،
ودع عنك التفاصيل في الحديث عن (جهود حفظ الوحي) وجهود نقله، وجهود حفظ
السنة وجهود نقلها، ونحو ذلك، ثم إذا تعدينا (النصوص) إلى المضامين، فلنا أن
نتساءل: كيف يمكنني تصور أن (عقيدتي) التي أدين بها وأعبد الله وفقها (تراث) ؟
وما الموقف (النقدي) الذي سوف أقفه منها إذا أردت (إخضاعها) منهجياً إلى البحث
العلمي؟ وكذلك بالنسبة لمنظومة القيم التي يلتزمها المسلمون خلفاً عن سلف، وهي
في جوهرها (دين) يدينون لله تعالى بها؟ كيف يمكن النظر إليها على أنها (تراث) ؟ كيف يكون تحريم الحرام وتحليل الحلال (تراثاً) ؟ وكيف تكون الآداب العامة
والسنن والهدي الظاهر (تراثاً) ؟ ثم ما هو تصنيف (العبادات) : هل نصنفها
(منهجياً) بأنها أيضاً (تراث) ؟ وما المنهج الذي سنتعامل به مع هذا (التراث) ؟
وهل عندما نقول: (التراث والمعاصرة) في مقارناتنا وكتاباتنا نكون قد قصدنا
(العبادات) أيضاً في هذا التعبير؟ !
حاصل القول أننا في حاجة إلى إعادة النظر في استخداماتنا (السخية)
و (الطيبة) لهذا المصطلح الجديد والطريف، وينبغي أن نلزم كل من يستخدمه بأن
يحدد مقصوده منه على وجه الدقة والتحديد، وينبغي ألا نسمح لأحد بأن يتجاوز هذه
الخطوة المبدئية في الحديث عن (التراث) إلى غيرها من الخطوات والبناءات
الفكرية والمنهجية قبل أن يجلي لنا مقصوده الدقيق من هذا المصطلح، وإنني لعلى
يقين من أننا إذا فعلنا ذلك بصرامة وتصميم، فإن الكثير من الزيف والبريق الذي
يحيط بهذا المصطلح سوف يسقط، كما أن الكثير من ألوان (الزندقة) و (النفاق
الفكري) المتستر خلف مثل هذه العبارات الفكرية الفضفاضة سوف تتساقط،
ويتساقط أصحابها، أو أن يجدوا أنفسهم مندفعين إلى إعلان مواقفهم الاعتقادية
صريحة وعارية بغير لبس، وبغير لباس يستر عوارها وخروجها على الأمة ودينها.(137/36)
ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
تراثنا.. رحلة شاقة شيقة
أ. د. محمود الطناحي
ارتبطت ضخامة التراث الإسلامي العربي وعظمته بسمة تميز بها الإسلام،
وهي أنه احتوى كثيراً من الأمم ذات الحضارات، والتي بعد أن دخلتْ في دين الله
أفواجاً ونسيتْ ما كان يعبد آباؤها من قبل هجرتْ لسانها القديم، واتخذت اللسان
العربي أداة فكر وبيان.
ولم يبقَ فرقٌ بين هذه الأمم والأمة العربية إلا فرق اللون والدم، وهو فرق
ساقطٌ مهدر في موازين الإسلام.
ثم إن الحضارة الإسلامية فوق أنها أبدعت وأنتجت في شتى ضروب العلم
والمعرفة كانت حلقة اتصال بين تراث اليونان القديم وبين اللاتينية الحديثة، مما
يشهد بفضل تراثنا وحضارتنا على النهضة الأوروبية الحديثة.
والمتابع لحركة الإبداع الإسلامية يجد أنها لم تخمد جذوتها، ولم تسكن
حركتها بتغير الحكام أو تبدل الأيام أو تعاقب النوائب. ومن أول ما يشهد لذلك
احتواء قرني الغزو الصليبي والتتري للعالم الإسلامي نخبةً عريضةً من كبار العلماء
والمفكرين، مع أن الهجوم الكاسح كان كفيلاً بالقضاء على هذه الأمة لولا دفع الله
وصيانته لها بما أودعه في روح العقيدة الإسلامية من عوامل النماء والبقاء
والازدهار.
كما أن غياب حاضرة من حواضر الإسلام عن الساحة الفكرية كان داعياً لقيام
حاضرةٍ أخرى تملأ الفراغ وتدعم المسيرة.
وأمر آخر أشد وضوحاً هو أن كثيراً من تراثنا قد بقي موفوراً يملأ الخزائن
العامة والخاصة إلى عهدٍ قريب، وأن ما ضاع منه بسبب غفلة الناس وتفريطهم
أكثر مما ضاع بسبب عوادي الحروب والأيام، ولا زالت الأيام تظهرنا على
مخطوطات نفيسة كنا نعدها من المفقودات. وكم في الزوايا من خبايا.
ولكي يعلم القارئ قدر العطاء العلمي الذي خلفه لنا سلفنا عليهم رحمة الله
فليراجع ما أُلّف من كتبٍ للفهرسة ك (الفهرست) لابن النديم، أو (كشف الظنون
عن أسماء الكتب والفنون) لمصطفى عبد الله؛ وهو من أنفع وأجمع ما كُتب في
موضوعه بالعربية، أو (خزائن الكتب العربية في الخافقين) للفيكونت فيليب دي
طرّازي؛ وقد أحصى في هذا الكتاب عدد المكتبات العربية في العالم فبلغت نحو
1500 مكتبة يُقدر ما فيها من كتبٍ عربية بنحو 262 مليون مجلد ما بين مخطوطٍ
ومطبوع.
مراحل النشر:
لم يعدم المسلمون أسلوباً في حفظ تراثهم ونشره؛ فقبل أن تظهر الطباعة كان
الأسلوب المعتمد في نشر كتب التراث هو النسخ، حتى راجت صنعة الوراقة
والنساخة، وكان لها أماكنها في الأمصار التي يؤمها العلماء.
ومع أن الطباعة ظهرت في القرن الخامس عشر على يد جوتنبرج الألماني،
وتبع ذلك انتشار المطابع في أوروبا ومنها مطابع عربية، إلا أن المشرق الإسلامي
لم يعرف الطباعة إلا في وقتٍ متأخر عن ذلك؛ حيث بدأت في الآستانة في 1551م، ثم في لبنان عام 1610م، وانتقلت بعدها إلى عدة أقطار.
المرحلة الأولى لنشر التراث:
ومما ينبغي ذكره أن الطباعة العربية صُبغت بصبغة تنصيرية تبشيرية في
تلك الفترة حتى أنشئت مطبعة بولاق التي عرفت (بالمطبعة الأميرية) في القاهرة
بعد رحيل نابليون بفترة وذلك في عام 1819م أو 1821م، وطبع فيها مئات الكتب
من مختلف الفنون من التفسير والحديث والأصول واللغة والتاريخ والطب والأدب
وغير ذلك من فنون التراث.
ويمكن لي أن أسجل ثلاث حقائق اتسم بها نتاج تلك الفترة من كتب التراث:
أولاً: أن النظرة للتراث كانت شمولية ترمي إلى إظهار كنوزه ونشر الأمهات
والأصول في كل فن، ولم يكن الدافع مادياً؛ لذلك غلب على الطباعة طباعة
الموسوعات.
ثانياً: أن حركة إحياء التراث تزامنت مع إنشاء دار العلوم التي رأسها الشيخ
حسين المرصفي التي تمثل رد فعلٍ قوي على الدعوة إلى العامية.
ثالثاً: دور الأزهر كان بارزاً وبَصْمَتُهُ كانت مميزة على نشاط المطبعة خلافاً
للحال في لبنان الذي سيطر عليه القساوسة والرهبان.
وانتشرت الكتب التي كانت تُطبع على نفقة بعض محبي العلم، وكان على
رأس من قام على تصحيح الكتب وإخراجها الشيخ نصر الهوريني، والشيخ محمد
عبد الرحمن المشهور بقُطّة العدوي.
وظلت مطبعة بولاق تعمل وحدها قرابة أربعين سنة، ثم ظهرت المطابع
الأهلية التي كانت أولها المطبعة الأهلية القبطية (الوطن فيما بعد) ، ثم تلتها مطبعة
وادي النيل، ثم تتابعت المطابع وتكاثرت. والذي يهمنا أن نقف أمام ثلاثة أمور
جديرة بالتأمل في تقييم أعمال تلك المرحلة:
1- حرص المطابع في كثير من منشوراتها على طبع كتاب أو أكثر بهامش
الكتاب الأصلي أو بآخره لصلة ذلك بالكتاب، أو لمجرد نشر الكتب على أوسع
نطاق. ومن الطريف أن نرى خمسة كتب مطبوعة في كتاب واحد، وفي صفحةٍ
واحدة اجتمعت خمسها في الصلب والهامش مفصولة بجداول.
إن ظاهرة طبع الكتب بهامش كتب أخرى هي ظاهرة فريدة دالة بوضوح
على أن القوم كانوا في سباقٍ لنشر العلم وإذاعته.
2- أن الذين تولوا طباعة الكتب وتصحيحها كانوا من طبقة المشايخ الفضلاء، ومن هؤلاء: الشيخ نصر الهوريني، ومحمد قُطّة العدوي، ومحمد الحسيني،
وطه محمود، وغيرهم. وقد كان للكثير منهم تآليف فوق اشتغالهم بتصحيح الكتب؛ لكن يؤخذ عليهم أنهم لم يُعنوا بذكر الأصول المخطوطة التي اعتمدوها في إخراج
الكتب.
3- أن القوم لم يُعنوا بالفهارس الفنية الكاشفة عن كنوز الكتاب المنشور،
واكتفوا بذكر فهارس موضوعية موجزة.
ومع هذا كانت تلك المرحلة من أغنى وأخصب مراحل نشر التراث العربي
وإذاعته، وهي بكل خيرها وعطائها قد أسلمت إلى ما تبعها من مراحل.
المرحلة الثانية: (مرحلة الناشرين النابهين) :
وهم طبقة من عظماء الرجال، جاهدوا في سبيل نشر التراث جهاداً صادقاً
دؤوباً، عَنَيْتُ: محمد أمين الخانجي، ومحب الدين الخطيب، ومحمد منير
الدمشقي، وحسام الدين القدسي. ومن عجائب الاتفاق أن أربعتهم من أهل الشام،
نزلوا مصر واتصلوا بعلمائها، وعملوا على طباعة الكتب ونشرها، وتأثروا بتلك
الروح التي سرت في مطبعة بولاق من نشر الأصول والأمهات، مع العناية بدقة
التصحيح وأمانة الأداء، وإن كانت قد تخلصت من الشكل الطباعي القديم المتمثل
في طبع الكتب بهامش الكتاب الأصلي.
وأهم ما يميز منشورات هذه الطبقة: الحرص على ذكر مخطوطات الكتاب
ووصفها؛ إلا أنها لم تُعن بالفهارس الفنية لما تنشره، إلا ما نراه من بعض
مطبوعات الخانجي ومحب الدين الخطيب.
وممن يتصل بهذه الطبقة شيخان فاضلان وعالمان جليلان؛ أما الأول: فهو
الشيخ محمد حامد الفقي حامل لواء السلفية، ومؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية
بمصر، والذي أنشأ مطابع السنة المحمدية، ونشر فيها مؤلفاته وكثيراً من كتب
شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب الحنابلة وطبقات رجالها.
وأما الثاني: فهو الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، الذي يُعد صفحة
حافلة من تاريخ نشر التراث العربي، قدّم وحده للمكتبة العربية ما لم تقدمه هيئة
علمية مدعومة بالمال والرجال. وقد رُمي الرجل بأنه أعاد طبعات سابقة عليه مما
أخرجته مطبعة بولاق ومطابع أوروبا، وأنه لم يعبأ بجمع مخطوطات الكتاب الذي
ينشره، وأنه لم يضع الفهارس الفنية الجامعة لمسائل الكتاب المنشور.
لكن هذا لا ينقص من قدر الرجل وجهده الذي بذله في التصحيح وضبط
النص ضبطاً صحيحاً، وإضاءته بالشروح اللغوية التي تنفي عنه الجهالة
أوالغموض، مع العناية بعلامات الترقيم، وأوائل الفقرات، وعدم تداخل أجزاء
الكلام. ويكفيه فضلاً أن كل من تعلم النحو في شرق الدنيا وغربها بعده مدين له
بديْنٍ كبير لما بذله من جهد بالغ في إخراج كتب النحو في أسلوبٍ يمتع الدارس
ويصقل اللسان.
المرحلة الثالثة: (مرحلة دار الكتب المصرية) :
والتي تحمل كل سمات المنهج العلمي الدقيق في إخراج النصوص، والتي
تأثرت إلى حدّ ما بمناهج المستشرقين الذين شُغلوا بتراثنا والذين استقوا زبدة
مناهجهم من أصل تراثنا.
وكان صاحب الفضل في هذا بعد الله سبحانه أحمد زكي باشا، الذي قال عنه
شكيب أرسلان: (كان يقظةً في إغفاءة الشرق، وهَبّة في غفلة العالم الإسلامي،
وحياةً في وسط ذلك المحيط الهامد) .
وقد برز في هذه المرحلة مشيخة جليلة من العلماء الذين بذلوا جهداً واسعاً فيما
أسند إليهم، ولم يحظوا بمعشار ما يحظى به أدعياء التحقيق في هذه الأيام، ومنهم: الشيخ أحمد الزين، والشيخ عبد الرحيم محمود، والشاعر أحمد نسيم، والأستاذ
محمد عبد الجواد الأصمعي، والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، والعالم الجزائري
إبراهيم اطفيّش. ومن الطريف أن الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر كان قد
عمل مصححاً في هذه الدار في مقتبل حياته العلمية.
وقد مثلت هذه المرحلة مرحلة نضج وكمال من حيث استكمال الأسباب العلمية، واصطناع الوسائل الفنية المعينة على إخراج التراث إخراجاً دقيقاً يقوم على جمع
نسخ الكتاب المخطوطة والمفاضلة بينها، ثم اتخاذ إحدى النسخ أُمّاً أو أصلاً،
وإثبات فروق النسخ الأخرى، وما يتبع ذلك من إضاءة النص ببعض التعليقات
والشروح، وصنع الفهارس التحليلية الكاشفة لكنوز الكتاب، وما يسبق ذلك كله من
التقديم للكتاب، وبيان مكانته في المكتبة العربية، وموضعه من كتب الفن الذي
يعالجه تأثراً وتأثيراً، ثم الترجمة لمؤلفه.
المرحلة الرابعة (مرحلة الأفذاذ من الرجال) :
وأهم رموزها الشيخ أحمد محمد شاكر، وأخوه (شيخ العربية) محمود محمد
شاكر، والأستاذ عبد السلام محمد هارون، والأستاذ السيد أحمد صقر.
وقد كان ظهور (الرسالة) للإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر سنة
1939م إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من النشر العلمي للتراث المستكمل لكل أسباب
التوثيق والتحقيق، وهي مرحلة جديدة فيما يظهر للناس في تلك الأيام، ولكنها
موصولة الأسباب والنتائج بما سنّهُ الأوائل وأصّلُوه.
وقد نشر الشيخ رحمه الله الكتاب عن أصلٍ بخط الربيع بن سليمان صاحب
الشافعي، وقد جرى الشيخ في تحقيق (الرسالة) على أعدل المناهج وأقومها من
حيث التنبه الشديد لِمَا بين النسخ من فروق، وإضافات النّسّاخ فيما خفي ودقّ،
وربط كلام الشافعي رحمه الله في هذا الكتاب بكتبه الأخرى، وتوثيق النقول،
وتحرير المسائل، والعناية الفائقة بالضبط، وصنع الفهارس الفنية التي شملت
آيات القرآن الكريم، وأبواب الكتاب على ترتيبها، والأعلام، والأماكن، والأشياء
من حيوان ونبات ومعدن ونحو ذلك، والمفردات المفسّرة في الكتاب، والفوائد
اللغوية المستنبطة منه، ومواضيع الكتاب ومسائله في الأصول والحديث والفقه
على حروف المعجم. ولكن أهم أنواع هذه الفهارس التي نشرها الشيخ الجليل
فهرس الفوائد اللغوية لكون الشافعي حجة في اللغة. وكل ما قيل عن الشيخ
و (الرسالة) يقال عن أعلام هذه المرحلة: محمود محمد شاكر و (تفسير الطبري)
و (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، وعبد السلام هارون وآثار الجاحظ، والسيد
أحمد صقر وآثار ابن قتيبة. وغير ذلك من التحقيقات والمؤلفات التي انتصروا فيها
للعربية وأعلوا رايتها.
ومن يطالع مثلاً تعليقات الشيخ محمود شاكر على (طبقات ابن سلام)
و (تفسير الطبري) يقف على أشياء معجبة في فهم اللغة والبصر بالشريعة ومعرفةٍ
بالتفسير وفقه الحديث وتاريخ الرجال، وكل ما شئت من علوم هذه الأمة وفنونها؛
وكأنه رجل قد نُشرت أمامه العربية كلها فانتقى منها ما طاب له.
هذا المنهج الذي سار عليه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في إخراج كتب
التراث وتحقيقها منهج عسير بعيد المنال، تصعب محاكاته؛ لأنه متصل بعقيدةٍ
صحيحة وقراءةٍ محيطة وظهور بيّن على التراث، ولكنه على كل حال قد وجّه إلى
أعدل المناهج وأقومها في التحقيق والتصحيح.
واليوم تبذل عدد من المؤسسات العلمية المتخصصة جهداً مشكوراً في جمع
التراث ونشره عبر وسائل التقنية الحديثة: (الحاسب الآلي) و (شبكات المعلومات) . وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على بقية خير في هذه الأمة وعرفانٍ بجهد
الأوائل.(137/40)
ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
تحقيق التراث في العصر الحديث
الإيجابيات.. والسلبيات
د. عثمان جمعة ضميرية
الحمد لله الذي اصطفى من عباده خلقاً أورثهم الكتاب، وأمرهم بأن يقولوا
الحقّ، وأن يقوموا بالحق والعدل والقسط. وبعد:
فقد كانت الكلمة الأولى التي أُنزلت وحياً على نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم- في آخر اتصال للسماء بالأرض هي كلمة (اقًرأً) : [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي
خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ]
[العلق: 1-4] . ثم تتابعت الآيات القرآنية الكريمة نزولاً، ترسم للمسلمين معالم المنهج الذي يسيرون عليه: عقيدةً، وعبادةً، وسلوكاً، وأصولَ نظرٍ واستدلالٍ؛ فكان لذلك كله أثره البالغ في تهيئة المناخ لنشوء المنهج العلمي الذي يقوم على التثبّت والدقّة في الرواية والنقل، بالنسبة للمرويّات والأخبار، وعلى الحجة والدليل الواضح الصحيح في العقليّات، وعلى التجربة والبرهان والنظر في الحسيّات.
ثم أقام المسلمون انطلاقاً من هذا عِلْماً قائماً برأسه لنقد المرويات: سنداً ومتناً، وهو عِلْمٌ انفردت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، باعتراف المنصفين وغير
المنصفين من غير المسلمين، بَلْهَ المسلمين أنفسهم من غير أهل هذا الفن والعلم،
ويعود هذا إلى الأيام الأولى لرواية الحديث النبوي وأخبار السيرة والمغازي؛
فكثيراً ما نجد في الرواية تأكيداً للسماع والنظر من الراوي نفسه؛ حيث يقول مثلاً: (سَمِعَتْه أذناي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... ) أو (سَمْعَ أذنيّ ... )
فهو مُتثبّت غاية التثبت، فلا تظننّ أنه ينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ما لم يَقُل، أو لا يتبادرنّ إلى ذهنك أنه وهم أو أخطأ في النقل أو السماع.. وهذا قمةٌ في تحرّي النص، والمجيءِ باللفظ؛ تحقيقاً لأمانة النقل، والوقوف
على اللفظ الأصلي.
وبعد أن كانت الرواية الشفوية هي الوسيلة الغالبة السائدة في نقل العلم، في
عصر الرسالة وصدر الدولة الأولى، فإن الحضارة الإسلامية كغيرها من
الحضارات كانت تقوم على الكلمة المكتوبة؛ فقد بدأ التدوين في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- ثم في عهد الصحابة والتابعين، واتّسع في عهد بني أمية، وتلاه
التصنيف في عهد بني العباس، وهو عصر ازدهار الثقافة والعلم بكل فروعه،
حتى وصفه بعضهم بأنه (عصر النهضة في الإسلام) .
وقد أَلمْعَ الإمام الذهبيّ رحمه الله إلى الأصول الأولى في التدوين والتصنيف،
بكلمة جامعة، عند حديثه عن أهم أحداث سنة (143هـ) في كتابه (تاريخ الإسلام) ، ...
قال فيها: (شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير؛
فصنّف ابن جُرَيْج التصانيف بمكة، ومالكٌ (الموطأ) بالمدينة، والأَوْزَاعيّ بالشام،
وابن أبي عَرُوبة وحمّاد بن سَلَمة وغيرهما بالبصرة، ومَعْمَر بن راشد باليمن،
وصنّف أبو حنيفة الفقه والرأي ... وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حِفْظهم، أو يَرْوُون العلم من صحف صحيحة غير مرتّبة، فَسَهُلَ ولله الحمد تناول العلم،
وأخذ الحفظ يتناقص. ولله الأمر كلّه) .
وعندما انتشر تدوين العلم وتبويبه، واستقلّت علومٌ عن غيرها، برزت عندئذ
معالم منهج التثبت والدقة في طرق تحمل العلم وأدائه، في كل علم بحسب
موضوعه ومنهجه؛ فكان مثلاً من أهم وسائل هذا التثبت: مقابلة الكتاب بأصلٍ
صحيحٍ موثوقٍ به؛ فالمقابلة الدقيقة مُتعَيّنة للكتاب الذي يُرَام النفع به، وعلى هذا
تطابقتْ كلمة العلماء. والأمثلة على ذلك كثيرة تعزّ على الحصر، تجدها في كتب
مصطلح الحديث وآداب التعلم والرواية ...
وعندما يصحح الكتاب ويضبطه، وهو في محل شك عند مطالعته، أو تطرّق
احتمال يضع عندئذ فوق ذلك كلمة (صح) بخط صغير ... إلخ كما أن العلماء
وضعوا قواعد غاية في الأهمية والدقة لتصحيح النص؛ لأنهم كانوا يدركون صعوبة
هذا التصحيح وأهميته.
وتلك العصور السابقة التي وصفْنَا حال الرواية والكتابة فيها بعامة كانت
الكتب فيها تُكْتب وتُنْسخ باليد، فهي إذنْ عصور المخطوطات، وقد رَاجَتْ فيها
تجارة الكتب المخطوطة، إلا أن صعوبات كثيرة كانت تحدّ من وَفْرة النّسَخ للكتاب
الواحد، كما أن عوامل أخرى، تتصل بالحروب والفتن، كانت تزيد من صعوبة
الحصول على الكتب المخطوطة وانتشارها انتشاراً كبيراً، إلى أن ظهرت الطباعة، فيسّرتْ هذا كله.
وكان ظهور المطبعة في القرن العاشر الهجري (الخامس عشر ميلادي) ،
عندما اخترع (جوتنبرغ) عام (1468م) أول حروف طباعة، ثم انتشرت الطباعة
في أوروبا بالحروف اللاتينية.
ولم تظهر حروف الطباعة العربية إلا يوم طبع كاهنٌ دومينيكي اسمه
(مارتان) عام (1486م) كتاباً بالحروف العربية بلغة غير عربية، بمدينة (مينز)
وفي القرن السادس عشر طبع الإنجيل عام (1591م) بمطبعة آل مديتش، وذلك
كله أيضاً في البلاد الأوروبية.
وعرفت الطباعة في تركيا، عندما أفتى شيخ الإسلام في تركيا بجواز
الطباعة في القرن الثامن عشر (1719م) . وعرفت لبنان الطباعة عام (1760م)
على يد عددٍ من الرهبان، ودخلت الطباعة دمشق مع جيش إبراهيم باشا، ودخلت
مصر عند الحملة الفرنسية، وأسّس محمد علي أول مطبعة في بولاق عام (1819م) ، ثم انتشرت في سائر الأقطار العربية.
وعندئذ بدأت المطبوعات تظهر إلى عالم الوجود، بصورة بطيئة، ثم
تطورت إلى ما نعرفه اليوم.
وقد بدأت عملية نشر التراث الإسلامي مطبوعاً في القرن الماضي، في الربع
الأخير منه، وكان المستشرقون قبل ذلك أول من سبق إلى ذلك، فقاموا بنشر
بعض المخطوطات العربية منذ وقت مبكر؛ ففي عام (1593م) نُشِر كتاب (النجاة)
لابن سينا، وفي عام (1636م) نشر كتاب (عجائب المقدور) لابن عربشاه، نشر
في ليدن، وكانت هذه النشرات السابقة بدايات للعمل، تعتمد على نسخة واحدة
للمخطوط، يعوزها كثير من الضبط وتقويم النص.
وفي مرحلة تالية لذلك، بدأ المستشرقون يضعون قواعد لتحقيق المخطوطات
ونشرها، وكان مما نشره المستشرقون: (شرح ديوان المفضليات) لابن الأنباري،
و (المنتخب من تاريخ حلب) لابن العديم، و (الفهرست) لابن النديم، و (معجم
البلدان) لياقوت، و (الكتاب) لسيبويه، وغيرها من الكتب الأمهات [1] .
ثم حذا علماء المسلمين المعاصرون حذو علماء الغرب في عملية تحقيق كتب
التراث ونشرها، وتصحيحها تصحيحاً دقيقاً، ضمن قواعد وأصول للتحقيق العلمي. وقد تفاوتت الجهود في ذلك تفاوتاً كبيراً، مما يجعل النظر في إيجابيات هذا
التحقيق وسلبياته أمراً ذا فائدة، بغية الإفادة من الصواب وتجنب الخطأ، وقياماً
بواجب النصيحة لهذا الدين، وحفاظاً على هذا التراث الذي تعتزّ به الأمة، ولذلك
نعقد فقرة سريعة لما نقصده بهذه الكلمة (التراث) ، قبل النظر في الإيجابيات
والسلبيات. وعلى الله قصد السبيل.
التراث والميراث والإرث، في اللغة العربية: هي أن يكون الشيءُ لقومٍ، ثم
يصير إلى آخرين، بنسب أو سبب. وهذا يشمل كل ما ينتقل إلى الآخرين من مالٍ
وعلمٍ ومجدٍ. وبهذه المعاني أيضاً جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم، وفي
الحديث النبوي الشريف.
وعلى هذا: فإن المراد بالتراث هو كل ما يتناقله الخلف عن السلف،
فيخلفونهم فيه خلافة جبرية، وقد يكون هذا التراث الموروث مادياً: مالاً أو غيره،
وقد يكون غير مادي، كالعلم ونحوه.
ونعني بالتراث هنا على وجه الخصوص: هذه الثروة الكبيرة الثمينة الغالية،
التي خلّفها لنا أسلافنا رحمهم الله في شتى مناحي العلوم الدينية في مؤلفاتهم وكتبهم
التي عُنِيَتْ بالعلم الشرعي؛ كالتفسير والحديث وعلومهما، والفقه والأصول،
والسيرة النبوية، وما يكون خادماً لهذه العلوم الشريفة، وبخاصة ما لا يزال منها
في عالم المخطوطات، وتتجه العناية اليوم إلى نشره وإشاعته، أو تجديد ما سبق
نشره منها [2] .
أما عملية التحقيق نفسها؛ فإنها تَعْنِي بَذْلَ عنايةٍ خاصّةٍ بالمخطوط، لتقديمه
صحيحاً، كما وضعه مؤلّفُه. وتكاد كلمة المحققين تُجْمع على أن الجهود التي تبذل
في كل مخطوط يجب أن يتناول البحث في: تحقيق عنوان الكتاب، ثم تحقيق اسم
المؤلف ونسبة الكتاب إلى صاحبه، ثم تحقيق متن الكتاب ونصه. ويسبق هذا أن
يقوم المحقق بجمع النسخ المخطوطة للكتاب من مظانّها، مستعيناً بفهارس المكتبات، وبالكتب التي عنيت بالتراث وتصنيفه، وبالدوريات المتخصصة ... ثم يدرس
هذه النسخ ويرتبها حسب الأهمية والأولوية ليختار منها ما يصلح للاعتماد عليه في
التحقيق كما هو مقرّر ومعروف في هذا العلم، ويقارن بين هذه النّسخ، ويضبط
النصّ أو ما يحتاج منه إلى ضبط، وقد يشرح الغامض فيه، ويعزو المنقول إلى
صاحبه.. وقد يناقش أو يصحح حسب الحاجة، ضمن قواعد مصطلح عليها.
وهذا يعني بالبداهة أن المحقق مؤهل للقيام بهذا العمل الدقيق الصعب، فلا يجوز
أن يقدم عليه إلا من لديه الكفاءة والقدرة.. وليس من غرض هذه الكلمات الموجزة
أن تأتي على كل ما ينبغي عمله في التحقيق وإخراج المخطوط، فإن ذلك يطلب
من مظانّه، وهي بحمد الله كثيرة مشتهرة [3] .
إيجابيات تحقيق التراث:
وفي تحقيق كتب التراث ونشرها بطريقة علمية، وَفْق أصول النشر الحديث
وضمن قواعد التحقيق، نجني جملةً من المكاسب والفوائد من أهمها:
1- حفاظ على تراث الأمة، وحفظٌ له من الضياع، أو الحفاظ على ما بقي
منه بعد أن عَدَتْ عليه العوادي والفتن وحوادث الدهر؛ وبذلك نصل ما بين ماضي
هذه الأمة وحاضرها؛ ونستفيد من هذا التراث الضخم في حَلّ كثير من مشكلات
العصر؛ لأن المشكلات التي تَشْغل بال الأمة، بل تشغل البشرية بأجمعها، هي
مشكلات في جوهرها وحقيقتها واحدة، وإن كانت تختلف أحياناً في مظهرها، أو
تختلف طريقة التفكير في حلّها.
2- تيسير الرجوع للكتاب والإفادة منه إفادة أكبر، حيث يزوّده المحقق بجملة
من الفهارس الكاشفة لمحتواه من فهارس للأبحاث، والمصطلحات، والأعلام،
والأماكن، والمصطلحات الحضارية، والقواعد والضوابط، وفهارس الشّعْر ...
وفهارس الآيات والأحاديث النبوية، والآثار المروية ... فيمكن عندئذ للقارئ أن
يصل إلى طَلِبَتِه بأيسر السّبُل وأقربها، فيوفّر بذلك جهداً ووقتاً ... فإذا أضفنا إلى
ذلك سهولة الرجوع إلى الكتاب المطبوع أكثر من الرجوع إليه والقراءة فيه
مخطوطاً؛ تضاعفت عندئذ الفائدة وتعاظمت؛ فطريقة استعمال المخطوط،
وصعوبة الحصول عليه في كل وقت، تقف عائقاً أمام الاستفادة الأمثل. وبذلك
تيسّر عمليةُ التحقيق القراءة والاطلاع، وتساهم في نشر العلم والثقافة على نطاق
أوسع.
3- وفي عملية التحقيق نستطيع أن نطمئن إلى صحة النص الذي نقرؤه،
وصحة نسبته إلى صاحبه؛ حيث يقوم المحقّق بدراسة تهدف إلى إثبات صحة نسبة
الكتاب لصاحبه، فيكون الكتاب بجملته صحيح النسبة، ثم يقارن ويوازن النسخ
المخطوطة للكتاب فيخرج لنا نصاً سليماً، لا يعتوره نقص ولا تحريف على قدر
الطاقة والوسع وتظهر أهمية هذه الفائدة عندما نقرأ في كتابٍ منشورٍ نشراً تجارياً،
دون تحقيق علمي؛ فتقف أمام كثير من عباراته غير المفهومة، لوجود سقط أو
خرمٍ فيها وتحريف، ويزول ذلك كله بمقابلة الكتاب بنسخة أخرى موثّقة.
4- كما أن تحقيق كتب التراث وسيلة لتيسير وتقريب فهم النصوص، بما
يكتنفها من شرحٍ للغامض المبهم، وضبطٍ للمهمل والمشكل، وترجمة للأعلام حسب
الحاجة وتعقيبٍ على بعض الآراء والأفكار، وتصحيح ما قد يظهر من أخطاء،
فيجعل الفائدة ميسورة التحقق للقارئ أكثر.
5- ومما يتصل بعملية التيسير والتقريب؛ تجدر الإشارة إلى أن طريقة
إخراج النص والعناية بفقراته، والاهتمام بعلامات الضبط والترقيم كالفاصلة،
والفاصلة المنقوطة، والنقطة، والنقطتين، وعلامات التعجب، والأقواس، وإشارة
الحصر أو المعترضتين.. كل ذلك يساعد القارئ على الفهم، ويشجع على متابعة
القراءة دون عناء، وإلا فإنه سيجد صعوبة كبيرة، ويضيع وقتاً ثميناً؛ فأنت تجد
في الكتب القديمة: فصلاً بين المبتدأ والخبر مثلاً أو بين الشرط وجوابه، قد
يتجاوز بضعة أسطر فيحتاج هذا إلى ضبط بالعلامات حتى لا تقرأ الكتاب كله وكأنه
فقرة واحدة ... فالحاجة شديدة لإخراج الكتاب بطريقة تساعد على تجاوز تلك
العقبات والمعوّقات. والتحقيق للكتاب كفيلٌ بذلك كله، إن شاء الله تعالى.
تلكم هي بعض الإيجابيات فيما أراها لتحقيق كتب التراث، وهي على غاية
من الأهمية تسوّغ ما ينفق من جهد في عملية التحقيق، فإن لم نحصل على هذه
الإيجابيات أو على معظمها، فإن عملية التحقيق قد تكون ناقصة، أو غير مستوية
على أصول صحيحة، ويمكن عندئذ أن نرصد جملة من الشوائب أو السلبيات
الظاهرة التي ينبغي أن نسعى جميعاً للتخلص منها.
ولبعض التحقيق سلبيات:
إن ما يتبدى لنا من ملاحظات وسلبيات في تحقيق كتب التراث يمكن أن
نجعله مندرجاً في أمور ثلاثة:
أولها: الانحراف عن الهدف الأساس الذي يتغيّاه المسلم من نشر العلم،
تدريساً وتأليفاً وتحقيقاً؛ ألا وهو القيام بواجب الطاعة والعبادة؛ فإن ذلك كله عبادة
يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى، يبتغي بها الأجر والمثوبة، قبل أن يطلب بها
عَرَضاً من الدنيا، أو أن يسعى من ورائها إلى شهرة أو تحقيق شهوة. والنصوص
الشرعية في ذلك كثيرة متضافرة.
وعن هذه القضية الكبرى، أو عند الانحراف عن هذه الغاية، أو نسيانها،
تظهر جملة من الانحرافات أو السلبيات، ثم تتراكم مع الزمن لتشكل خطراً على
تراثنا الإسلامي على ما سنلمع إليه بعد هذا الإجمال.
وثانيها: إغفال القواعد الضابطة التي اتفق عليها المحققون في نشر كتب
التراث، والاضطراب في مفهوم التحقيق والغاية منه؛ حيث تحوّل عند بعض
الذين يزعمون التحقيق، إلى شيء آخر، لا علاقة له بالتحقيق، وإنما هو شرح أو
حاشية أو تقريرات على الكتاب، أو عملية نفخ وعبث بالكتب وهذا أيضاً ترتب
عليه جملة أخرى من السلبيات والأخطاء.
والثالث: وهو مما له صلة بما سبقه؛ أن بعضهم تسوّر هذا العلم، وهو
خالي الوفاض، غير مُؤهّل له، لا يمتلك إلا شهوةً وهوىً يدفعانه للعمل، ولذلك
وقع في كثير من الأخطاء، واحتُسبت هذه الأخطاء على التحقيق وأهله، دون أن
يردع عنها دينٌ أو خُلُقٌ من الأمانة والحياء.
وهذه الملاحظات الإجمالية، يمكن أن نؤيدها بالإشارة إلى كثير من السلبيات
التي رصدها المعنيون بهذا التراث، أو رصدوا جملةً وافرة منها تشير إلى ما
وراءها، وإن كانت النية متجهة أصلاً إلى بيان الإيجابيات أكثر من بيان السلبيات، لكن لخطورة هذه الجوانب السلبية، ينبغي التنبيه والتحذير.
فمن هذه السلبيات التي كانت نتيجة الانحراف عن المنهج السليم في التحقيق:
1- عدم اتباع قواعده الضابطة له: أن نجد كتباً كثيرة يعوزها العناية أكثر
بالعمل، مثل ضبط الأعلام والأسماء التي لا تعرف إلا سماعاً، وبالرجوع إلى
الكتب المتخصصة بذلك، ومنها أيضاً: التوسع في التعليق والشرح، ونقل
نصوص كثيرة في الحواشي لأدنى مناسبة، وأحياناً دون مناسبة، مما يضخم حجم
الكتاب، وقد يجعله كالطبل الأجوف، وأحياناً على الضدّ من ذلك: تقرأ كتاباً يقع
في مجلداتٍ، لا تجد فيه تعليقاً، ولا تقع فيه على شرحٍ لمصطلح، أو عزو لآية،
أو تخريج لحديثٍ، أو نسبة بيت شعر لقائله. وقد يكون الكتاب كله سرداً واحداً من
أوله إلى آخره، لا تعرف فيه بدايةً لفقرةٍ أو فكرة أو مسألة.
2- تحقيق الكتاب عن نسخة واحدة، وقد تكون نسخة سقيمة، مع وجود نُسَخ
أخرى جيدة قيّمة تساعد على إخراج نصٍ كامل صحيح للكتاب. وعندئذ يقع المحقق
في كثير من الأخطاء، ويقف في كثير من المواضع لا يدري ماذا يصنع؛ لأنه
يرى السياق أمامه غير مترابط، وكأن فجوة كبيرة أمامه. ولا أريد أن أضرب
أمثلة على هذا من كتب كثيرة زعم بعضهم أنهم حقّقوها ... وهي تمتلئ بهذه
الملاحظات السابقة؛ لأن هذا المقال لا يهدف إلى التشهير بأحدٍ، أو التقليل من
الجهد، وإنما يهدف إلى رصد السلبيات والدلالة عليها بكلمات عامة؛ ولو اتجهنا
إلى ضرب الأمثلة، فإن الأمر جدّ ميسور، وهي كثيرة!
3- إغفال نشر الكتب الأصول في العلم، والأمهات في كل فن من الفنون
الشرعية والعربية ونحوها، والاهتمام بكتب تأتي في مرتبة تالية أو متأخرة، وقد
لا تضيف شيئاً ذا بال إلى المعرفة، ولو أهملناها إهمالاً تاماً لم نفقد شيئاً، بينما
كثير من الكتب النفيسة الأصيلة في العلم لا تزال تقبع في عالم النسيان؛ إما لأنها
كتب كبيرة يحتاج إخراجها وتحقيقها إلى جهدٍ أكبر، وإلى نفقات قد تكون باهظة
يعجز عنها الأفراد المعنيون بهذا التراث الحريصون عليه؛ أو لأنها ليست ذات
شهرة عريضة عند كثير من طلاب العلم أو المحققين مثلاً، فهي تحتاج إذن إلى من
يعرّف بها ويتحمل مسؤولية القيام بتحقيقها وإشاعتها، وإن كنا نجد في الآونة
الأخيرة عناية ببعض هذه الآثار واتجاهاً إليها، وبخاصة في الجامعات والمعاهد
والدراسات العليا، ونسأل الله تعالى أن يبارك في جهود العاملين، ويكتب لهم
التوفيق والسّداد.
4- إغفال نشر الكتب السهلة، الميسورة الفهم، التي يمكن الانتفاع بها على
نطاق واسع، والعناية بالكتب المعقدة أحياناً لغزارة مادتها، وقلة حجمها، فهي أشبه
ما تكون بالألغاز والأحاجي، أو على الأقل: قد تحتاج إلى وقت طويل وعناء كبير
كي تحلّ ألفاظها، وتعيد ضمائرها، وتفهم مراد مؤلفها. وإن كان هذا لا يعني أننا
ندعو دائماً إلى السهل حتى ولو كان قليل الفائدة، وننصرف عن الصعب مما فيه
فائدة؛ فقد يكون الكتاب الموجز، الصغير في حجمه، الجامع في مضمونه، قد
يكون هذا الكتاب عمدةً في علمٍ من العلوم ينبغي العناية به: حفظاً ودراسة وفهماً.
5- تلك الظاهرة التي عمّتْ كثيراً من الأقطار، والتي تتمثل في عملية خداع
وتدليس، بسلخ بعض الأبواب أو الفصول أو المباحث من كتابٍ كبير، ثم نشره
باسم جديد، يوهم بأنه تأليف مستقل، وفي هذا تغرير بالقارئ، وخطورة في عملية
التوثيق في البحث العلمي، وسَطْوٌ على جيوب القرّاء وأموالهم، يدفع إلى ذلك
جشعٌ وتهافت على الربح السريع من أقصر الطرق، دون نظر إلى حلالٍ أو حرام، ودون رقابة ذاتية أو غير ذاتية.
6- ومما يمكن أن نضيفه هنا من ملاحظات: تكرار العمل الواحد، دون
وجود ما يسوّغ ذلك؛ فتجد كتاباً أنفق فيه محقّقهُ جهداً كبيراً، ومالاً وفيراً،
للحصول على مخطوطاته وتصويرها، ثم حققه تحقيقاً يفي بالغرض، وبإخراج
جميل يتناسب مع أهميته. وبعد ذلك يأتي محقق آخر يزيد بضع كلمات أو جملة
من الحواشي التي لا داعي لها، ويخرج الكتاب من جديد دون عناء ولا تكاليف،
فهو يأخذ الكتاب السابق فيدفعه للمطبعة لتقوم بطباعته من جديد بحروف أصغر مثلاً
وبطريقة متعبة للقارئ. ولو كان لهذا العمل ما يسوّغه لكان ذلك محموداً، فمثلاً:
لو حصل المحقق على مخطوطة أجود أو مخطوطة كاملة لكتاب طبع عن مخطوطة
ناقصة أو مخرومة مثلاً ... لكان له في ذلك عذر واضح ولكن لا تجد شيئاً من هذا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
7- ومن أهم السلبيات في التحقيق والنشر: ما يتصل بالمضمون ونوع
الكتاب ومحتواه؛ فقد اتجه المستشرقون أولاً إلى نوعٍ من الكتب القديمة تمثل اتجاهاً
فكرياً منحرفاً، وعملوا على نشر هذه الكتب وتحقيقها لإشاعة الانحراف بين
المسلمين، وإحياء المذاهب والحركات البدعية والباطنية، وإثارة النعرات،
وتشكيك الناس بالعقيدة والتاريخ الإسلامي ورجاله العظماء، ولتكون هذه الكتب
مصدراً لتصيّد الأخطاء ثم تضخيمها بقصد التشويه والطعن، وتابع المستشرقين
على هذه الطريق نَفَرٌ ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين ويتكلمون بلغتهم.
وليس هذا كل ما يمكن أن يقال في هذا المجال، فهناك الشيء الكثير،
فحسبنا منه هذه اللمحات السريعة.
ولعل هذه الملاحظات، وكل ما يكتبه الغيورون، في هذا المجال، وهم أوْلى
مني وأقدر إن شاء الله لعل هذا كله يكون دافعاً للمعنيين لاتخاذ موقف قويّ سليم،
للحدّ من الظواهر السلبية، قياماً بالواجب، ونصحاً للأمة والملّة؛ فإن العلماء
نصوا على أنه يُحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمُكاري المفلس،
فأوْلى أن يُحجر أيضاً على العابثين المتاجرين بتراثنا وأصولنا الثقافية.
__________
(1) انظر: (قواعد تحقيق المخطوطات) د صلاح الدين المنجد، ص (7- 8) ، (محاضرات
في تحقيق النصوص) ، د أحمد محمد الخراط، ص (15- 17) ، (تاريخ الأدب العربي) لأحمد
حسن الزيات، ص (424- 425) .
(2) انظر: (أوقفوا هذا العبث بالتراث) تأليف محمد عبد الله شاكر، ص (11- 22) .
(3) المرجع السابق، ص (118- 124) ففيه طائفة من الكتب والمراجع الخاصة بذلك.(137/46)
ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
ضوابط.. لتحقيق الأحداث
طارق عوض الله محمد
لا شك أن تحقيق الأحاديث، وتمييز ما صحّ منها وما لم يصحّ، عمل عظيم، وسُنة ماضية، وجهاد في سبيل الله عز وجل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
وقد اختار الله عز وجل لهذا الأمر أئمة صادقين، بالحق قائلين، وبه عاملين، وإليه داعين، وللباطل مجتنبين، وعنه محذّرين، فجعلهم حرّاساً للدين، ينفون
عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين.
فوضعوا لمن بعدهم أصولاً قَويمة ميزوا بها بين الأحاديث المستقيمة والسّقيمة، وأظهروا في رواتها كل شريفة وذميمة؛ تديناً وتقرباً إلى الله عز وجل وذبّاً للكذب
عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليماً.
ثم تبعهم بإحسان كثير من أهل العلم المتأخرين وبعض المعاصرين، فساروا
على دَرْبِهم، وضربوا على مِنْوَالهم، واهتدوا بهديهم، فأكملوا ما ابتدؤوه، وبينوا
ما أهملوه، وفصّلوا ما أجملوه، فبارك الله في سعيهم، ونفع بهم وبعلمهم.
وها نحن اليومَ؛ نعيش في ظل نهضة علمية، ظهر أثرها في نشر عدد كبير
من كتب الحديث في جميع مجالاته، كانت منذ أمد بعيد حَبِيسَة المكتبات العامة.
وقد صاحب إخراج هذا الكم الهائل من كتب السّنة تحقيقاتٌ وتعليقاتٌ
وتخريجاتٌ لأحاديثها ورواياتها من أساتذة أفاضل، وعلماء أجلاء، وباحثين
مجتهدين، فازدادت هذه الكتب بأعمالهم رَوْنَقاً وبهاءً، فجزاهم الله خيراً على ما
قدمّوا وبينوا.
غير أن هذا الخير قد شابه بعض الدّخَن، وهذه القوة قد أصابها بعض الوَهَن، وهذه سّنة الله الماضية، [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) فقد أبى الله الحفظ الكامل إلا لكتابه.
وقد نظرت فإذا الأسباب التي من وراء ذلك كثيرة، فرأيت أن أذكر ضوابط
كليةً لترشيد العمل، والاستقامة على الطريق؛ تصحيحاً للمسار، ونصحاً لله،
ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم؛ كما ثبت
الحديث بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبالضرورة؛ فإن هذه الضوابط ليست لورّاق أو كتبيّ أو تاجر يستغل حاجة
الناس للكتاب، فيدفعه إلى بعض الأحداث ناسخين له نَسْخَ مَاسِخٍ، ومسوّدين
حواشيه بما لا يمتّ إلى التحقيق بنَسَب، ثم يخرجه أعجميّاً، لو رآه صاحبه لما
عرفه، ثم يعمد إلى إخفاء هذه (الجريمة) التي يسميها (تحقيقاً) بأن يرسم على طُرّةِ
الكتاب: (تحقيق وضبط ومراجعة لجنة من المختصين بإشراف الناشر) ! ولو كان
من بين هذه (اللجنة) متخصص واحد، لصاح به، ولبادر إلى إبراز اسمه.
وليست هي أيضاً لـ (مُخَرّبٍ) ، يسمي نفسه (مخرّجاً) ، يعمدَ إلى الروايات
الحديثية، فيخرجها بزعمه، فإذا به يعمد إلى الفهارس المطبوعة، فيجعل من
حاشية الكتاب نسخة أخرى لها! !
التأَني والتريّث:
فينبغي على الباحث أن يتريث في إصدار أحكامه على الأحاديث، وأن لا
يتعجل ذلك، وهذا يستلزم أحياناً أن يُمضي الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل
معرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً أم اعْتَرَاه شيء من الخطأ والوهم.
وهذا كان شأن كبار الحفاظ؛ فقد قال الإمام الخطيب البغدادي [1] : (من
الأحاديث ما تخفى علته، فلا يُوقَف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ الزمن
البعيد) .
وقال الإمام علي بن المديني: (ربما أدركتُ علّة حديثٍ بعد أربعين سنة) .
وهذا بالضرورة يستدعي عدم المسارعة إلى ردّ نقد النقاد، لمجرد عدم العلم
بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجُهْد في الوقوف على ما عليه اعتمد
النقاد في نقدهم؛ فإن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمُجَازَفَة، ولا بالحَدْس.
وما أروع ما ذكره ابن أبي حاتم [2] ، عن ابن أبي الثّلج، أنهم كانوا يسألون
ابن معين عن حديثٍ سنتين أو ثلاثاً، فيقول ابن معين: (هو باطل) ، ولا يدفعه
بشيءٍ، حتى وقفوا بعد ذلك على علته.
ومن هنا ندرك خطر الاغترار بظواهر الأسانيد، والاكتفاء بالظاهر من حال
رواته في الحكم على الأحاديث، وهذا هو الضابط الثاني.
التتبّعُ والسّبْرُ:
فإن الباحث كلّما أكثر من تتبع الأسانيد في الجوامع والمسانيد والأجزاء
الحديثية، كلّما كان بحثه أخْصَبَ وأنْضَج، وحكمه أقرب ما يكون من الصواب.
فربما كان إسنادٌ فيه ضعف، فمن اقتنع به، ولم يستوعب البحث عن غيره،
فلربما كان للحديث إسناد آخر صحيح، أو يشهد للأول ويدل على حفظ الراوي له.
ولربما كان إسنادٌ ظاهره الصحة، فمن اقتنع به، واكتفى به، ولم يستوعب
البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد آخر يُعِلّ ذاك الأول، ويدل على خطأ
الراوي في الحديث.
ولهذا؛ قال الإمام علي بن المديني: (الباب إذا لم تجتمع طُرُقه، لم يتبين
خطؤه) [3] .
في كَنَفِ الأئمةِ:
ولما كان العلماء الحفاظ هم أعلم الناس بالروايات، واختلافاتها، وأحفظ
الناس لها، وأعرف الناس بما يعتريها من العلل الظاهرة والخفية، وأضبط الناس
للقواعد والأصول التي على أساسها تتميز الأحاديث، وأفقه الناس في تطبيقها
وتنزيلها على الروايات والأسانيد كان من الضروري والضروري جدّاً الرجوع إلى
كتب علل الأحاديث المتخصّصة، والبحث عن أقوال أهل العلم على الأحاديث؛
فإن بالوقوف على كلمةٍ أو حرفٍ ينسب إلى إمام من أئمة علل الأحاديث، تُحَلّ
مسائل معلقة، وتُفتح أبواب مغلقة.
وآفة الآفات، ومنشأ الخلل الحاصل من قِبَلِ بعض الباحثين، هو ممارسة
تحقيق الأحاديث، والحكم على الأسانيد والمتون، استقلالاً من دون الرجوع إلى
أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
فكما أن القواعد النظرية في هذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه، فكذلك
ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم؛ لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم
يتم إعمالها عمليّاً من غير معرفة بطَرَائِقِهم في إعمالها وتطبيقها.
فإن أهل مكة أعلم بشِعَابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل من يطبق
القاعدة هو مَنْ وضعها وحرّرَها، ونظم شَرائِطَها، وحدّ حدودها.
وليس هذا جُنُوحاً إلى تقليدهم، ولا دعوة إلى تقديس أقوالهم، ولا غَلْقاً لباب
الاجتهاد، ولا قتلاً للقدرات والمَلَكَات؛ بل هي دعوة إلى أخذ العلم من أهله،
ومعرفته من أَرْبَابه، ودخوله من بابه، وتحمّلِه على وجهه.
وما رجوع أهل العلم ونقاده، بعضهم إلى بعض، وسؤال بعضهم بعضاً عن
الأحاديث والروايات كما صنع الإمام مسلم؛ لمّا صنف كتابه: (الصحيح) عَرَضَه
على علماء عصره؛ ليقولوا كلمتهم فيه مع ما حَبَاهُ الله عز وجل من سَعَةِ في الحفظ، ودقة في النقد، وصحة في النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي، وما
كان هذا إلا مَظْهَراً من مظاهر معرفة أقدار العلماء، واحترام اختصاصاتهم.
وما تجريح أئمة الحديث للمُصِرّ على الخطأ، وهو مَن بينوا له خطأه فيما
يرويه، فلم يرجع عن خطئه، ولم يبالِ بنقد النقاد، وأقام على روايته له آنفاً من
الرجوع عنه [4] إلا رسالة تهديد شديدة اللهْجَة لكل من تُسَوّل له نفسه أن يضرب
بنقد النقاد عُرْضَ الحائط، ولا ينزّله منزلته اللائقة به.
الأصول والاصطلاحات:
وحيث بان لنا أهمية الرجوع إلى أئمة الحديث للتفقّهِ بفقههم، والتفهّمِ بفهمهم،
كان من الضروري معرفة أصول الأئمة ومناهجهم واصطلاحاتهم.
فإن مذاهب النقاد للأحاديث غامضة دقيقة؛ فربما أَعلّ بعضهم حديثاً استنكره، بعلة غير قادحة في الأصل، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر؛ وحجتهم
في هذا: أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً، إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها
نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق
وجود الخلل، وإذ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة؛ فالظاهر أنها هي السبب، وأن
هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها.
وبهذا يتبين: أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة،
وأنهم قد صححوا ما لا يُحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما
تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر [5] .
وربما يطلقون بعض الاصطلاحات على غير معناها المتقرر والمتعارف عليه؛ كمصطلح (الحسن) ، فإن بعض أهل العلم يستعمله في موضع (الغريب) أو (المنكر) على عكس معناه المتقرر، والذي يقتضي ثبوت الحديث.
وقد قال إبراهيم بن يزيد النخعي: (كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرج
الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده) .
قال الحافظ الخطيب البغدادي شارحاً له [6] : (عَنَى إبراهيم بالأحسن:
الغريبَ؛ لأن الغريب غير المألوف يُسْتَحْسَن أكثر من المشهور المعروف،
وأصحاب الحديث يعبرون عن المناكير بهذه العبارة) .
شرائط الكتب:
إن أئمة الحديث عليهم رحمة الله تعالى لم يصنفوا هذه الكتب الحديثية جُزَافاً،
بل كل مصنّفٍ لهم لمصنّفه فيه شرط التزمه، وغاية نشدها؛ فكان إخراج الحديث
في مصنف ما، على وجه ما، كالإشارة من مصنّفه إلى حال هذا الحديث عنده.
ومن هنا؛ ندرك الخطأ الذي يقع فيه بعض الباحثين؛ حيث يخرجون الحديث
من كتب متعددة، غير ملتفتين إلى الفائدة التي أسْدَاها إليهم صاحب الكتاب بإخراجه
الحديث فيه.
فدلالة الاحتجاج بالحديث في (الصحيحين) على صحته، وتلقي العلماء له
بالقبول؛ حيث لا يكون ثَمّة تعقب من بعض الحفاظ؛ لا ينبغي أن تهمل، بل على
الباحث الاستفادة من هذه الدلالة، وتلك الفائدة، فلا يعامل أحاديث (الصحيحين)
معاملته لغيرها.
ودلالة إخراج الحديث في كتب الأصول، كالسنن الأربعة و (الموطأ)
و (المسند) لأحمد أيضاً لا ينبغي إهمالها.
بل من أهل العلم من يرى أن من علامات ضعف الحديث خُلُوّ هذه الكتب
منه [7] .
وإخراج الحديث في ترجمة راويه المتفرد به في كتب الضعفاء مثل:
(الكامل) لابن عدي، و (الضعفاء) للعقيلي، و (المجروحين) لابن حبان يدل على
ضعف الراوي دلالة واضحة جلية؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يخرجون في ترجمة
الراوي بعض أحاديثه المنكرة؛ ليستدلوا بذلك على ضعفه، فكانت هذه الأحاديث،
من هذه الأوجه، عند هؤلاء المصنّفين غاية في النكارة؛ حيث إنهم لم يضعفوها
فحسب، بل استدلوا بها على ضعف راويها المتفرد بها.
وقد قال ابن عدي في مقدمة كتابه [8] : (.. وذَاكرٌ لكل رجل منهم مما رواه
ما يُضَعّف من أجله، أو يَلْحَقه بروايته له اسم الضعف؛ لحاجة الناس إليها) .
وقال الحافظ ابن حجر [9] : (من عادة ابن عدي في الكامل، أن يخرج
الأحاديث التي أنكرت على الثقة، أو على غير الثقة) .
وكثيراً ما يتبرّأ ابن حبان في (المجروحين) من تلك الأحاديث التي يخرجها
في كتابه، ويصرح بأنه ما دفعه إلى إخراجها إلا الرغبة في بيان الضعفاء وبيان
أحاديثهم المنكرة.
يقول في المقدمة [10] : (وإنما نُمْلِي أسامي من ضُعّفَ من المحدّثين، وتَكَلّم
فيه الأئمة المرضيون ... ونذكر عند كل شيخ منهم من حديثه ما يُستدل به على
وَهَنِه في روايته تلك) .
ويقول أيضاً [11] : (وإني لا أحل أحداً روى عني هذه الأحاديث التي ذكرتها
في هذا الكتاب إلا على سبيل الجرح في روايتها على حسب ما ذكرنا) .
وكرر هذا المعنى في غير ما موضع من كتابه [12] .
__________
(1) الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع، (2/257) .
(2) في علل الحديث، (1879) .
(3) راجع: كتاب: (الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات) ، (ص 69) لطارق
عوض الله محمد.
(4) انظر: (الكفاية) ، ص 232، و (المجروحين، 1/79، و.
(الإرشادات) ، ص 22- 23، و (شرح علل الترمذي) ، 1/399 401، 2/569 570.
(5) مقدمة (الفوائد المجموعة) للشيخ المعلمي اليماني، ص 708.
(6) في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) ، 2/101، وانظر: كتابي: (الإرشادات في
تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات) ، ص 135 150.
(7) انظر: (الموضوعات) لابن الجوزي (1/141) و (الصارم المنكي) ، ص 68، و (نصب
الراية) ، 1/355 356، 2/480، و (تدريب الراوي، 1/ 277، و (ألفية الحديث للسيوطي) ،
ص 84.
(8) (1/15 16) .
(9) هدي الساري، ص 429.
(10) (1/94 95) .
(11) (1/241) .
(12) (2/314) ، (3/46) .(137/54)
الإسلام لعصرنا
الإسلام لعصرنا.. لماذا وكيف؟
أ. د.جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
الإسلام كما أنزله الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن غير
تحريف ولا تبديل هو الدين الذي رضيه سبحانه وتعالى للناس أجمعين في كل مكان
وكل عصر منذ مبعث رسوله الأمين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
فالإسلام لعصرنا كما كان للعصور قبلنا، لكن إذا كانت نصوص الشرع لا
تتغير ولا تتبدل؛ فإن أحوال الناس تتغير وتتبدل؛ فماذا يفعلون؟
يقول المتذبذبون: دعوا النصوص كما هي؛ لكن أعيدوا تفسيرها وأعطوها
من المعاني ما يتناسب مع ثقافة عصركم كما أعطاها من سبقكم ما يتناسب مع ثقافة
عصره؛ فإن النصوص وحي إلهي لكن فهمها جهد بشري. النصوص مطلقة لكن
فهمها نسبي.
يقول الثابتون على الحق: لكن نصوص القرآن نزلت بلغة عربية ذات معانٍ
محددة يعقلها العارفون بهذه اللغة [إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]
[يوسف: 2] ثم جاءت السنة لتزيد المعاني اللغوية بياناً، ثم إن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسروا هذه النصوص بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسنة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات، والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث، ثم جاءت الأجيال تلو الأجيال من أئمة المسلمين وعلمائهم لتَفْهم من نصوص الكتاب والسنة هذا الفهم نفسه كما تدل عليه مؤلفاتهم؛ فالقول بأنهم فسروا النصوص بحسب ثقافة عصورهم إنما هو مجرد وهْم تبطله الحقائق التاريخية.
يقول المتذبذب: أتعني أنهم لم يختلفوا؟
يقول الثابت: لم يختلفوا في المعاني الأساسية للنصوص إلا اختلافات يسيرة، لكن اختلفوا فيما يمكن أن يستنتج من النص مثلاً، أو في المسائل الاجتهادية التي
لا نصوص فيها، لكن المهم أن اختلافهم لم يكن بسبب اختلاف ثقافات عصورهم
كما تدعي، وإنما كانت اختلافات فردية حتى في داخل العصر الواحد، وكانت
اختلافات بين من التزموا بذلك المنهج الصحيح الذي بيّنتُه لك بإيجاز وبين الذين لم
يلتزموا منهجاً علمياً؛ وإنما أخذوا يفسرون النصوص بحسب أهوائهم ورغباتهم.
أتعني أن لتفسير نصوص الكتاب والسنة منهجاً علمياً؟
بل أعني أن لتفسير النصوص كلها سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية
مناهج علمية.
كيف؟
أظنك تتكلم الإنجليزية.
نعم.
إذا قرأت قصيدة من قصائد شكسبير مثلاً، فكيف تفهمها؟
أرجع إلى الكتب التي تولتْ شرحها، وبينتْ ما قصده شكسبير منها.
أتعني أنك لا تفهمها بحسب ثقافة عصرك أو ثقافة بلدك العربي؟
لا؛ بل لأنني أريد أن أعرف ما قصده شكسبير من كلماته.
أتعني أنك تعطي كلماته المعاني التي قصدها والتي كانت شائعة في عصره
حتى لو كانت تلك المعاني مخالفة للمعاني السائدة الآن في اللغة الإنجليزية؟
لا شك في ذلك؛ لأن قصدي أن أعرف ما قال شكسبير، فإذا أعطيت كلماته
المعاني السائدة الآن فإني أكون قد قوّلته ما لم يقل.
هل تفعل الشيء نفسه بالنسبة لنص من نصوص أرسطو مثلاً إذا كنت
تحاول أن تكون مختصاً بفلسفته؟ أعني: هل تحاول أن تدرس لغته التي كتب بها
فلسفته؟
أجل، وأحاول أن لا أخلط بينها وبين اللغة اليونانية الحديثة؛ لأن قصدي أن
أفهم ما قال أرسطو.
هل تكتفي في فهم نصوصه إذن بدراستك للغة اليونانية التي كتب بها، أم أن
هنالك وسائل أخرى تعينك على فهم كلامه؟
نعم هنالك وسائل أخرى منها: أن أدرس كيف فهمه معاصروه؛ لأنهم أدرى
به، ومنها: الاستعانة بالخبراء الذين سبقوني.
ما أظنك إلا متبعاً منهجك هذا نفسه في دراستك لشاعر جاهلي كامرئ القيس.
بلى؛ فأنا لا أعرف لهذا المنهج بديلاً في دراسة النصوص البشرية.
هذا المنهج الذي اتبعته في دراستك لما أسميته بالنصوص البشرية هو المنهج
العلمي الذي نريد منك اتباعه في دراستك للنصوص الإسلامية. نريد أن يكون همك
هو أن تفهم مراد الله ومراد رسوله بقدر المستطاع، وأن تكون أميناً في ذلك؛ لا
تُقوّل الله أو رسوله ما لم يقولا، وأن تقرر معنى نصوصهما كما هي حتى لو رأيتها
مخالفة لما هو سائد في عصرك.
لكن هنالك فوارق مهمة أراك قد أغفلتها بين النصوص البشرية والنصوص
الإلهية.
ما هي؟
منها: أنني أستطيع أن أفهم مراد البشر؛ لأنهم مخلوقون محدودون
يخاطبونني بلغة محدودة، أما الله تعالى فمطلق؛ فلا يمكن أن تسع اللغة المحدودة
معانيه المطلقة؛ لذلك كان من حق كل إنسان أن يفسرها بلغته المحدودة حتى تتسع
معانيها فتقترب من المطلق! !
دعك يا أخي من الكلام الغامض عن تفسير المطلق والمحدود؛ فإنها ألفاظ لا
طائل تحتها؛ واللهُ تعالى لم يسمّ نفسه ولا سماه رسوله بالمطلق ولا وصفه بذلك.
إن خلاصة ما تريد أن تنتهي إليه هو أن البشر حين يتكلمون باللغة العربية يكون
لكلامهم معنى محدد يمكن معرفته بطريقة علمية، وأما إذا خاطَبَنَا اللهُ بهذه اللغة فإنه
لا يكون لكلامه معنى يمكن معرفته بطريقة علمية! ألا ترى أنك جعلت الله تعالى
عاجزاً عما جعلت البشر قادرين عليه؟ كيف يستطيع البشر حين يخاطبوننا باللغة
العربية أن يوصلوا معانيهم التي قصدوها إلينا ولا يستطيع رب البشر أن يفعل ذلك، وقد قال إنه إنما خاطبنا بهذه اللغة لنفهم عنه ما يقول؟
هذا بيان معقول؛ لكنّ هنالك فارقاً آخر هو أن الإسلام صالح لكل زمان
ومكان، فإذا أعطينا نصوصه المعاني ذاتها التي أعطاها إياها الصحابة مثلاً، فإنا
نكون قد حصرناها؛ وبذلك حصرنا الإسلام في زمان معين ومكان معين!
فما البديل إذن؟
البديل هو كما قلت لك: أن يفسر كل أهل عصرٍ تلك النصوص بما يتناسب
مع ثقافة عصرهم.
حتى لو كانت هذه التفاسير متضاربة متناقضة؟
نعم؛ لأن فهم النصوص الإلهية هو كما قلت لك نسبي؛ فما يفهمه أهل كل
عصر صحيح بالنسبة لهم حتى لو كان غير صحيح بالنسبة لغيرهم.
هل هذا هو ما فهمته من مقولة: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؟
أجل، وما أراك قادراً على الإتيان بفهمٍ غيره أو أحسن منه.
إذا كانت صلاحية الكلام لكل زمان ومكان تعني أن تُغيّر معانيه لتناسب
أهواء الناس في كل زمان ومكان، فإن كل كلام حتى لو كان لأبلد الناس يمكن أن
تكون له هذه الميزة.
كيف؟
هب أن رجلاً اسمه (حمار) وضع مذهباً من عشر مسائل فقال: على من
يقبل مذهبي: أن يفعل في الاقتصاد كذا، وفي السياسة كذا، وفي التربية كذا، إلى
آخر المسألة التاسعة، ثم قال في العاشرة: (لكل من يتبع مذهبي الحماري هذا أن
يفسر مسائله التسع السابقة بما يراه مناسباً لبيئته الثقافية) أظنك توافقني على أنه لن
يمر إلا وقت قليل حتى لا يبقى من مسائل حمار هذا بحسب ما كتبها إلا المسألة
العاشرة. لكن أصحابه سيظلون ينتمون إلى هذا المذهب، وسيظلون يتفاخرون
بأنهم حماريون، وأن مذهبه الحماري صالح لكل زمان ومكان؟ فهل تريد للإسلام
أن يكون كذلك؟
فما معنى كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان إذن؟
معناه أنه كما أنزله الله ومن غير تحريف ولا تبديل صالح لكل من يريد
الهداية من الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان. والسر في هذا أنه تنزيل من
حكيم عليم، علم ما هو صالح لعباده بما هم به بشر، لا بما هم به أهل هذا العصر
أو ذاك، ولا بما هم به عرب أو عجم، أو أصحاب زراعة أو صناعة، أو في
شرق الأرض أو غربها، أو غير ذلك من الاختلافات التي لا تؤثر في بشريتهم،
فأنزل عليه كتاباً غير مقيد بشيء من هذا كله.
إذن فما معنى عبارتك: (الإسلام لعصرنا) ؟
معناها أنه إذا كانت نصوص الكتاب والسنة لا تتغير ولا تتبدل فإن أحوال
الناس تتبدل وتتغير، فيجدّ لهم من المشكلات اللغوية والفكرية، والعلمية التجريبية، ما يحتاجون معه إلى أن يُعانوا على فهم دينهم الفهم الصحيح، وأن تزداد ثقتهم
فيه وإيمانهم به، وذلك يكون:
بتفسير حقائقه الثابتة بلغة جديدة يفهمونها، إن كانوا عرباً، أو بترجمتها إلى
لغاتهم إن لم يكونوا عرباً، وبتقويم ما يجدّ من أفكار، والرد على ما يُثار من
شبهات، وبإيجاد الحلول الإسلامية لما يجدّ من مشكلات عملية، وبالاستفادة من
الكشوف العلمية الموافقة للنصوص الإسلامية في تثبيت الإيمان والدعوة إلى الإسلام، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تتأتى إلا بإمعان النظر في النصوص وتدبرها.
إن النصوص محدودة لكن ما يُستنتج منها غير محدود، كيف لا والقرآن كتاب لا
تنقضي عجائبه؟ !(137/60)
حوار
حوار مع الشيخ أحمد فريد
أجرى الحوار: وائل عبد الغني
1- في مستهل حوارنا نرحب بضيفنا الشيخ أحمد فريد، ونحب أن نتعرف
على فضيلتك، وكيف طلبت العلم؟ وحبذا لو أشرت إلى أهم مؤلفاتك.
الاسم: أحمد محمود فريد.
محل الميلاد: الدقهلية جمهورية مصر العربية.
حصلت على بكالوريس الطب والجراحة من جامعة الإسكندرية في مايو
1977م.
في الحقيقة إن المرحلة التي نشأنا فيها لم يكن فيها علماء مشهورون في بلدنا
ممن يأوي إليهم طلبة العلم لينهلوا منهم، ولذلك كان تلقّينا للعلم مدارسةً بيننا وبين
الأقران، بالإضافة إلى الاستماع إلى دروس مشايخ الصحوة الذين لم نتمكن من
التلقي عنهم وطلب العلم على أيديهم، إلا أن الله شرّفني بمجالسة بعضهم ومحادثته؛ مثل: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والشيخ محمد بن صالح
العثيمين حفظه الله، والشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، والشيخ أبو بكر
الجزائري حفظه الله.
أما مؤلفاتي: فهي بحمد الله كثيرة، منها: البحر الرائق في الزهد والرقائق،
وهو أحب كتبي إليّ الثمرات الزكية في العقائد السلفية خصائص أهل السنة
والجماعة وقفات تربوية مع السيرة النبوية مواقف إيمانية تحفة الواعظ في الخطب
والمواعظ تزكية النفوس وتربيتها كما يقرره السلف غاية السقيا في تعبير الرؤيا.
2- باعتبارك قد عاصرت تجربة الصحوة الإسلامية خلال العقدين: الماضي
والحالي.. فكيف تقيّم هذه الفترة من حيث: الإيجابيات المتحقّقة السلبيات الدروس؟
شهدتُ الصحوة الإسلامية في بداية السبعينات، وكنتُ في بداية دراستي
الجامعية. ومنذ نعومة أظفاري وأنا أمتلك عاطفة إسلامية، وتطلعاً للبذل والعطاء
لإعزاز دين الله عز وجل ورفع رايته، وقد جمعني الله عز وجل إلى إخوة كرام
بالجامعة وفقهم الله عز وجل لرفع راية الإسلام، والدعوة إلى دين الملك العلام،
وبدأتِ الدعوةُ بالإسكندرية، وكان المنهج الذي تتبناه هذه الدعوة: هو منهج أهل
السنة والجماعة، وقد كنا بحمد الله القطفة الأولى من هذه الصحوة المباركة. ومما
ساعد كثيراً على انتشار الدعوة، وتربية أفرادها: رحلات العمرة، والاهتمام
بالنواحي التربوية، والاجتماع على الإفطار والقيام. وكان الإخوة القائمون على
الدعوة يتعلمون ويعلمون إخوانهم، وكان ذلك قبل ظهور المسميات المختلفة، وكان
الحب والوئام وسلامة المنهج والإخلاص من أعظم أسباب انتشار الدعوة، وظهور
بركتها. ولم تكن الصحوة المباركة بالإسكندرية وحدها؛ ولكن الله عز وجل وفق
إخوة كراماً في القاهرة، وفي أكثر المحافظات يدعون إلى الله عز وجل وقد قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم
في طاعته) [1] وهذا النبت المبارك لا شك من ثمرات الشجرة الطيبة شجرة: لا
إله إلا الله؛ فقد أخبر الله عز وجل أنها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ فنسأل الله
أن يتم علينا وعلى سائر المسلمين نعمته، وألا نُحرم هذا الشرف العظيم: شرف
الدعوة إلى الدين القويم، والصراط المستقيم.
ولا شك أن الدعوة مرت بمراحل كثيرة. وكل مرحلة من المراحل لها من
الظروف الإيجابية أو السلبية ما لها.
فمن الظروف الإيجابية لهذه الفترة:
1- انتشار الدعوة، ومعرفة كثير من الناس معنى السلفية ومنهج أهل السنة
والجماعة، وانحسار كثير من الدعوات المخالفة لأهل السنة: كالدعوة إلى التصوف
أو التكفير.
2- انتشار تتبع الأدلة والارتفاع بالمستوى العلمي عند كثير من المنتسبين إلى
الدعوة، وكذلك عند المتعاطفين الذين يشاركون إخوانهم في الندوات العامة وصلاة
العيد، أو يقرؤون في الكتب والمجلات التي تنشر فكر أهل السنة والجماعة،
وتدعو إليه.
3- التقارب بين كثير من جماعات الدعوة في ساحة الصحوة الإسلامية،
وغض الطرف عن كثير من الخلافات الفرعية التي شغلتهم حيناً من الدهر، وهو
ما نطمح في زيادته واستمراره خاصة بين جماعات الدعوة التي تتبنى عقيدة السلف
رضي الله عنهم وتنتهج منهج السلف في فهم الكتاب والسنة.
وفي مقابل هذه الإيجابيات وُجِدت بعض السلبيات التي ينبغي علاجها
والقضاء عليها، فمن ذلك:
1- تعصب بعض من أهل الصحوة للاّفتات التي تُرفع، وإن كانت جميعاً
تشير إلى شيءٍ واحد وجماعة واحدة وهي جماعة الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ
على شاكلتهم، والتي إمامها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
2- روح الانعزالية والفردية التي تُميّز بعض الدعاة إلى الله عز وجل وكذلك
الملتزمين بطاعته. وقد قال الله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا
عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] والدعوة مهمة كبرى، وأكبر من أن يقوم بها
فرد أو أفراد متناثرون؛ بل الواجب على المسلمين التعاون عليها؛ حيث يكمل
بعضهم بعضاً، وأن يتشاوروا من أجل الوصول إلى أنجح السبل وأمثل الطرق
للدعوة. ولا شك أن في الاجتماع من البركة والتوفيق وقلة الخطأ وكثرة الخير
والصواب أكثر مما في الدعوة الفردية الانعزالية، ثم إن الاجتماع على الدعوة
أقرب إلى الإخلاص؛ فيكون العبد ممن دعا إلى الله؛ وليس إلى نفسه أو جماعته.
3- ضعف الهمم في الدعوة وقلة تحصيل العلوم الشرعية، والتراخي في أداء
الطاعات والعبادات.
أما الدروس المستفادة من هذه الفترة، فمنها:
أ - استشعار الدعاة إلى الله عز وجل بأهمية الاجتماع على منهج أهل السنة
وعقيدة السلف رضي الله عنهم وأن اختلاف جماعات الدعوة الإسلامية ينبغي أن
يستفاد منه في تكميل بعضهم بعضاً، وأن يكون بين الجميع من التناصح والتناصر
ما يكون فيه عز الإسلام والمسلمين.
ب - حث الأفراد واستنهاض الهمم لمزيد من البذل والجهد والطاقة؛ لأن
المسلمين إذا استفرغوا وسعهم في البذل أعانهم الله عز وجل وأمدهم بمدد من عنده.
3- ما هي رؤيتكم للاختلافات المتزايدة بين الاتجاهات الإسلامية على الساحة
بوجه عام، وعلى الساحة السلفية بوجه خاص؟
الاختلافات بين الاتجاهات الإسلامية بوجه عام، وعلى الساحة السلفية بوجه
خاص أمور نسبية إضافية تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ ففي بعض البلاد:
ليس هناك فرق بين السلفيين وأنصار السنة وهذا هو الأصل وفي بعضها: هناك
مساجد خاصة بأنصار السنة، ومساجد خاصة بالسلفية، وفي بعضها الآخر:
السلفيون أنفسهم ينقسمون على أنفسهم وتبرز عند ذلك الأسماء ويتعصب الأفراد
لدعاة وعلماء بأسمائهم، وهذا بلاء مبين، ومخالفة لما كان عليه السلف الصالح
رضي الله عنهم وهذا الخلاف ناشئ عن خلل تربوي عند كثير ممن يُنسبون إلى
منهج السلف رضي الله عنهم فيجب أن يتربى الشباب على أن الولاء لله عز وجل
ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولجماعة المؤمنين التي أرشدنا النبي -صلى الله
عليه وسلم- إلى الالتزام بها حينما أخبر عن افتراق الأمة؛ فقال: (وستفترق أمتي
إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة) [2] ، ثم فُسّرت الجماعة في الرواية الأخرى بقوله -صلى الله عليه
وسلم-: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فالجماعة التي ينبغي
أن ينضم إليها كل مسلم هي جماعة الصحابة ومن على شاكلتهم عبر القرون
والأجيال؛ ولذا لما سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله عن الجماعة قال: أبو بكر
وعمر. فقيل: قد مات أبو بكر وعمر! فقال: فلان وفلان، فقيل: قد مات فلان
وفلان، فقال: أبو حمزة السكري جماعة. فعلى الدعاة والمربين أن لا يربطوا
الناس بأشخاصهم وأعيانهم؛ ولكن عليهم أن يجعلوا ولاءهم للجماعة الأم: جماعة
الصحابة.
وكذلك فإن الواجب على الجميع ألا يتلمّس كل منهم عثرات الآخرين من أجل
التشهير به وتنفير من عنده؛ فالمؤمن يلتمس المعاذير والمنافق يتلمّس العثرات.
ولذا؛ فالواجب على الدعاة تعميق معاني الأدب مع العلماء، ومعرفة حرمتهم. وأنصح إخواننا الدعاة وكذلك المنتسبين إلى الدعوة بقراءة كتاب فضيلة الشيخ
محمد بن أحمد بن إسماعيل: (الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام) ؛ حتى يعرفوا
كيف كان العلماء يتعامل بعضهم مع بعض؟ وما الواجب علينا تجاه أهل العلم؟
ولو حدثت من العالم هفوة فليس معنى ذلك أن يستباح عرضه، وأن يُضرب بعلمه
عُرض الحائط؛ نعم كل كلام عارضَ الكتاب والسنة يُضرب به عرض الحائط؛
أما العالم فقد يكون معذوراً عند الله عز وجل لأنه ما قصد الخطأ، وهو مأجور على
كل حال. أسأل الله أن يوفق الجميع إلى طاعته.
4- كيف تقوّم أداء الحركة السلفية في مصر مُقارَنَةً بالحركات السلفية في
البلاد الأخرى من حيث التأثير؟
لا شك أن الإخوة القائمين على المجلة أعلم بمدى تأثير الحركات السلفية في
سائر البلاد؛ ولكن بحسب علمي لا يزال تأثير الدعوة السلفية في مصر محدوداً؛
فالوسائل التي تمتلكها الدعوة لا تصل إلى أكثر الأماكن؛ فالدعوة تؤثر على
المجتمع من خلال خطب الجمعة في المساجد التابعة للدعوة، وكذا الندوات العامة،
والدروس الثابتة في مساجد الدعوة، وكذا من خلال الكتب والرسائل للمنتسبين إلى
الدعوة، ولا شك فإن نسبة المخاطَبين بكل هذه الوسائل قليلة بالنسبة إلى عموم
الناس. وعلى كل حال قد تكون السلفية في البلاد الأخرى أكثر تأثيراً، وفي بعضها
أقل تأثيراً، والله الموفق الجميع لما يحب ويرضى.
5- هل لدى الحركة السلفية في مصر مشروعات أو تصورات للعمل الدعوي
لعامة الأمة؟
هذا السؤال لا شك مكمل للسؤال السابق؛ لأن تأثير الدعوة السلفية في مصر
يخص قطاعاً صغيراً أو فئة محدودة من فئات المجتمع، فإن لم تكن هناك
مشروعات للعمل الدعوي لسائر الأمة فلا أقل من وجود تصورات معينة قد يوفق
الله عز وجل إلى تنفيذها.
أما كيف تصل الدعوة إلى قطاعات عريضة من الأمة؛ ففي تصوري أن هذا
يحتاج إلى جهود متضافرة، وتعاون من الجميع، ومساعدة من أجل الوصول إلى
أمثل الطرق. فمن الوسائل التي يمكن أن تصل بها الدعوة إلى قطاعات أكثر من
الأمة الدعوة بالأشرطة للدعاة المشهورين والمعروفين بالاتجاه الصحيح؛ وذلك
بتوزيعها على سائقي التاكسي مثلاً، وكذا سيارات الأجرة بين المحافظات بشرط
استعمالها، وكذلك الرسائل التي تنشر عقيدة السلف وفكر السلف رضي الله عنهم
توزع في المناسبات، وكذلك بعمل المسابقات التي تركز على العقيدة والمفاهيم
السلفية وتعريف عوام الناس معنى الانتساب إلى السلف أو أهل السنة والجماعة،
والاهتمام بالمحاضرات العامة التي يشترك فيها أكثر من محاضر، وحبذا لو كانوا
ممن يعملون تحت رايات وأسماء مختلفة، ما دام الفكر الذي ينتسبون إليه فكراً
صحيحاً؛ فهذا مما يجعل انتماء الناس للمنهج والعقيدة، وتذوب بذلك العصبيات
والثلوج التي تُجمّد كل داعية، وكل شخص ملتزم براية معينة يعمل تحتها
ويتعصب لها؛ فلا تكون الدعوة إلى الله ومنهجه؛ ولكن للانتماءات والمسميات
والأفراد. وكذا تكون الندوات في قضايا تعيشها الأمة، وتهم عموم الناس. وإن
أمكن عمل دورات مكثفة لتوحيد الفكر في القضايا التي تهم الدعوة مثل: قضية
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والغلو؛ حيث يلتقي فيها الدعاة
أصحاب المنهج الصحيح وقد اتحد الفكر وتلاينت القلوب، وجُمعت الهمم،
وتضافرت الجهود؛ فإن اتباع السلف يجمع الأمة، واتباع الهوى والرأي يفرقها؛
ولذا يقولون: (أهل السنة والجماعة) ، و (أهل البدع والافتراق) فاتباع السنة يكون
سبباً للاجتماع، واتباع البدع سبباً للافتراق. وطالما اجتمعت الأمة على الحق ولا
يمكن أن تجتمع على خلافه جاء نصر الله والفتح. والله الموفق للطاعات والهادي
لأعلى الدرجات.
6- ما هي أعظم صور البلاء التي نزلت بالأمة في وقتها الراهن؟ وما هي
الأسباب؟ وما العلاج؟
لا شك أن أصل البلاء الذي نزل بالأمة هو إعراض الأفراد والحكومات عن
الشرع المتين والتحاكم إلى القوانين الأرضية والأنظمة البشرية، والذي نشأ عنه
ألوان أخرى من البلاء، من أعظمها في نظري: محاولة الحكومات العلمانية مقاومة
تيار الصحوة الإسلامية بتيارات من الإباحية والفجور والتبرج والسفور؛ كي
ينجرف أكثر الشباب المسلم في هذه التيارات؛ فلا ينفعهم نصح ولا تذكير. ويقترن
هذا البلاء ببلاءٍ آخر هو سيل البث الفضائي الموجه عبر الأقمار الصناعية إلينا،
والتي تبث الإلحاد والإباحية والتخلي عن الأديان والأخلاق والقيم. ومما يفتت
الفؤاد أسىً تسابق المسلمين إلى اقتناء الوسائل التي يستقبلون من خلالها مثل هذا
الغزو. وبلاءٌ تابعٌ لذلك هو انفتاح الأمم بعضها على بعض فيما يُعرف بالعولمة؛
مما يفتح أنفاقاً من التبعية أكثر.
أما الأسباب فأعظمها:
جهل المسلمين بربهم ودينهم وواجبهم.
مكر الليل والنهار.
دور الإعلام الماجن الذي يفعل فعل السحر في النفوس.
الهزيمة النفسية والفكرية أمام الغرب، وعدم استغلال الأمة لطاقاتها.
أما العلاج: فبالتحذير من الفتن، والسعي لحفظ طاقات الأمة ومقدراتها من
التبديد وتوجيهها نحو الأصلح والأنفع، وبإعادة الناس إلى ربهم ودينهم وتذكيرهم
بواجبهم في هذه الحياة وما يستقبلهم من أخطار في طريقهم الذي يسيرون عليه إن لم
يعودوا إلى ربهم.
7- ما الملامح التي ينبغي أن تميز العمل الدعوي الملتزم بالمنهج السلفي لكي
يوجه للأمة؟
أما الملامح فهي:
-إخلاص العمل الدعوي لله وحده.
-اتباع الحق في العقيدة والفكر؛ أي: الفهم الصحيح لمنهج السلف رضي
الله عنهم.
-الشمولية؛ فلا تهتم الدعوة بقضايا على حساب قضايا أخرى؛ بل ينبغي أن
تهتم بكل أصول الإسلام بتوازن واعتدال، والتمييز بين الأهم والمهم، ولا تقدم
قضية مثلاً على قضية التوحيد؛ لأن الرسل الكرام كان اهتمامهم الأول بالتوحيد؛
فكل دعوة لا تهتم بالتوحيد ولا تجعله منهجها هي دعوة على غير هدي المرسلين.
-الدعوة ينبغي أن يكون لها واجب تبليغي، وواجب تربوي؛ فالتبليغ لعموم
الناس من خلال خطب الجمعة والندوات العامة. ومن وُجد فيه الإخلاص للدعوة،
والاستعداد للبذل في سبيل نشرها يُهتم بتربيته وترقيته بمزيد من العلم والتوجيه
والإعداد.
-الدعوة ينبغي أن تعيش عصرها؛ بأن تعلم الأخطار المحيطة بها،
والأعداء الذين يتربصون بها.
-وجود قطاعات دعوية في المجالات والتخصصات المختلفة فلا تكفي
العاطفة الصادقة والعقيدة الصحيحة.
-اهتمام الدعوة بأحوال الأفراد الإيمانية وربط أبنائها بالقرآن والقيام والصيام
والأذكار الموظّفة وغير الموظفة.
-اهتمام الدعوة بالهدي الظاهر؛ فصلاح الباطن لا يغني عن صلاح الظاهر، وقد قال عمر رضي الله عنه: من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه،
ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه.
-ومن ذلك: التزام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة.
- ومنه أيضاً: التسلح بالعلم النافع حتى تكون الدعوة على بصيرة.
8- معلوم أن المنهج الأقوم الذي ينبغي أن تتبناه جميع فصائل العمل
الإسلامي هو منهج أهل السنة والجماعة، ومع تسليم أكثر التجمعات الإسلامية بهذا؛ إلا أننا لا نرى لتلك الوحدة المنهجية أثراً ملموساً في الوحدة القلبية؛ فبِمَ تعلل ذلك؟
هذا الأمر يعتبر خللاً تربوياً في الجماعات التي تنتسب إلى منهج أهل السنة
وتعتقد اعتقادهم؛ لأن الاجتماع مطلبٌ شرعي ولا سبيل للنصر والتمكين بدونه.
فكان على القائمين على هذه الدعوات أن يربطوا الناس بأصول أهل السنة
والجماعة وبإمامها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يكون الولاء لأصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَنْ على شاكلتهم، ويحبون من كان على مثل هذا
المعتقد، كما قال تعالى: [فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ... ]
[البقرة: 137] .
والله تعالى قد جعل عقيدة الصحابة المقياس للعقيدة الصحيحة؛ فكان ينبغي
على القائمين على أمر هذه الدعوات أن يعمقوا مثل هذه المعاني في نفوس الأفراد
حتى لا تكون الدعوة إلى اللافتة، وتكون لله تعالى ويكون التعصب للحق وحده.
9- نعود للصحوة وبعض قضايا الدعوة؛ فبعض الدعاة يشغل مدعويه الجدد
بقضايا خلافية بين اتجاهات الصحوة، ويجعلونها من أولويات الدعوة ... فكيف
ترى الأولويات؟
ينبغي أن نحدد المسائل المختلف فيها؛ فإن كانت من المسائل التي يسع فيها
الخلاف والتي اختلف فيها العلماء فيسعنا ما وسعهم فيها. وإذا كنا في ذيل الزمان
طلاب علم ما نستطيع أن نحسم الخلاف في مثل هذه المسائل؛ فلا أقل من ألاّ
تكون سبباً لتفريق الأمة فضلاً عن تفريق أصحاب المنهج الواحد.
ورغم أن علماء الأمة قد اختلفوا في مثل هذه المسائل إلا أنهم حرصوا على
الائتلاف والموالاة والمحبة فيما بينهم، هذا من جهةٍ منهجية. أما من الناحية
التربوية: فإن المدعو عندما يُشغل بمثل هذه المسائل فإنه يُشغل بها عن قضايا هي
أوْلى في حقه الانشغال بها، وقد يُحرم بذلك من معانٍ إيمانية؛ كمحبته لأهل الإيمان، كما يُحرم من الإلمام بقضايا قد تكون أخطر من هذه القضية التي جُعل ولاؤه
وبراؤه عليها.
10- باعتبارك من المتخصصين في الدعوة الإيمانية والرقائق القلبية؛ هل
ترى أنه قد بُذل قدرٌ كافٍ من الجهد الدعوي في هذا المجال يفي بالحاجة إلى إنشاء
جيلٍ مربىً تربية إيمانية؟
الاهتمام بما تزكو به النفس ويرق به القلب من أوْلى ما تنفق فيه نفائس
الأنفاس، والقلوب لا تصل إلى مُناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى
مولاها حتى تكون صحيحة سليمة؛ فالنفس الزكية تسعد في الدنيا والآخرة
وتستجيب لربها عز وجل، ولا ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
والعمل الإسلامي في أكثر البلاد يعاني من خللٍ تربوي نتيجة قلة اهتمام
القائمين على العمل في أكثر المواطن بالنواحي التربوية، وربط أبناء الدعوة
بالقرآن والعبادة ودوام التذكير بالآخرة، خاصة مع كثرة الشواغل ومغريات الفتن
التي تموج موج البحر. فالتركيز على الرقائق والتربية العملية على الطاعة
والاستقامة من أنفع الأمور للدعاة والأفراد، ولا يكفي الملتزم وضوح الفكر وصحة
المعتقد حتى يضم إلى ذلك الاهتمام بالعبادات وتهذيب النفس والارتباط بالقرآن؛
حتى يستطيع مقاومة الفتن؛ لأن الرقائق هي التي تقوي في النفس بذرة الاستجابة
لله عز وجل وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتجعلها قريبة من الله تعالى،
وتعودها على المعاني الإيمانية من الحب والتوكل والخشية والإنابة وأمثالها.
وقد جاء في صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
افترض الله على نبيه قيام الليل، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام الصحابة
حولاً كاملاً تعني سورة المزمل فاحتجز الله خاتمة السورة اثني عشر شهراً، ثم نزل
بعد ذلك التخفيف في آخر السورة.
وإن القرآن الذي تكاد ألاّ تخلو صفحة من صفحاته من ذكر الآخرة وأخبارها
ليذكرنا أن التكرار قد جاء لفائدةٍ زائدة عن مجرد الإخبار الذي يحصل به الإيمان،
هذا التكرار جاء ليغرس حقائق الإيمان في القلب؛ ليبني عليها الإنسان أقواله
وأعماله، وبهذا تسهل عليه الطاعة والاستقامة وتتحقق له الخشية.
ولبعد كثير من الملتزمين عن هذه المراتب فإني أرى أن الأمر يحتاج لجهدٍ
تربوي أكبر، وترسيخٍ لهذه الحقائق أعمق. نسأل الله أن يتولانا وإخواننا المسلمين
بطاعته، ويسبغ علينا وعليهم سوابغ نعمته.
11- تؤثر الموجة المادية العاتية التي تجتاح العالم كله بما فيه العالم الإسلامي
تأثيراً بالغاً في شتى المناحي والقطاعات. ومن هذه القطاعات: قطاع الدعاة، هذا
التأثير إن لم يكن فيهم ففي مجال دعوتهم؛ فكيف ترى مواجهة هذه الموجة؟
وظيفة الدعاة كما سبق أن قلت هي تعبيد الناس لله وإخراجهم من عبادة الآلهة
الباطلة وجعلهم عباداً لله عز وجل، وهذه هي الوظيفة الرئيسة للدعاة، كما قال
ربعي بن عامر رضي الله عنه: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى
عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ولهم
مع ذلك وظائف أخرى منها علاج أمراض الأمة.
ولا شك أن الموجة المادية العاتية التي تجتاح العالم قد أثرت في قطاعات
كبيرة من الأمة. والدعاة إلى الله عز وجل والملتزمون بالشرع المتين من هذه
القطاعات التي تأثرت بهذه الموجة العاتية على اختلاف درجات التأثر؛ فضعف
عند الكثير منهم المعاني الإيمانية الراقية كمعاني بر الوالدين وصلة الأرحام والحب
في الله، ومعاني الاحتساب وطلب الأجر والثواب من الله تعالى، وصارت
الحسابات عند البعض مادية بحتة! فالواجب على الدعاة إلى الله تعالى إحياء
المعاني الإيمانية، ودوام التذكير بفضائل الأعمال وقيمتها في الدنيا، والآخرة،
وتذكير الناس بأمور الآخرة وتحبيبها إليهم؛ لأنها هي التي تهوّن على الإنسان
مصائب الدنيا، وتهوّن في نظره حسابات الدنيا. ولا شك في ذلك؛ فإن حب الأمر
الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير.
12- يقلل بعض المشتغلين بالسياسة والحركة من شأن الرقائق والآداب،
ويعتبرونها (دروشة) ! تهدر الطاقات وتدغدغ المشاعر في وقتٍ تحتاج فيه الأمة
إلى مزيد من الطاقات لمواجهة الأخطار المحيطة.. فما مدى صحة ذلك؟ !
التقليل من أهمية الرقائق والآداب خروج عن الوسطية والاتزان؛ فاهتمام
بعض الدعاة بقضايا الفكر أو المنهج أو بعض القضايا الفرعية، وإهمال قضايا
أخرى مثلها أو أهم منها لا يثمر الثمرات المرجوة، ولا تكون الصبغة التي يُصبغ
بها الأفراد هي التي يحبها الله ورسوله. وأصحاب المنهج القويم يهدفون إلى تربية
الأفراد على شاكلة السلف رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك إمام دار الهجرة
رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولها) . وقد صلح أمر
أولها بالعقيدة الصحيحة والفهم السليم للكتاب والسنة، وصلح أمر أولها بقيام الليل
وصيام النهار، وصلح أمر أولها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلح أمر
أولها بالجهاد والبذل والتضحية. فلا ينبغي التقليل من شأن أيّ من هذه الأمور.
والرقائق والآداب لها دور مميز مقصود منها وهو ترقيق القلوب لسرعة تأثرها
بالقرآن والسنة، وتحرير إرادة الإنسان بعد إطلاقها من أسر الشهوات ليستجيب
لأمر الله عز وجل وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
13- هناك ظاهرة مثيرة للقلق؛ وهي تدني مستوى الالتزام في الأجيال
الناشئة، وهم أبناء الملتزمين. فبماذا تعلل ذلك؟ وهل من نصيحة للآباء لعلاج
تلك الظاهرة؟
لا شك أن مثل هذه الظاهرة مثيرٌ للقلق، ويحتاج إلى عناية خاصة وعلاج
قويّ، ولا نستطيع أن نُخلي الآباء من المسؤولية مطلقاً، كما لا نستطيع أن نحملهم
إياها كاملةً.
والناس كما قال الأوزاعي: الناس أشبه بزمانهم منهم بآبائهم وأمهاتهم. وهنا
يبرز دور الإعلام وما يصنعه من سلوكيات وعادات وتقاليد، وحضٍ على الانسلاخ
من الشرع، كما يبرز دور برامج التعليم وما تقدمه من تقليل لشأن الالتزام.
ولا يقل عن ذلك تشاغل الآباء بالكسب والكدّ أحياناً، وبالدعوة أحياناً أخرى،
وعدم إعطائهم قدراً من جهودهم لأبنائهم، وكذلك قلة الأجواء الإيمانية، والافتقار
إلى الشخصيات التربوية الناجحة التي تربي النشء على الأدب وحسن السمت
والورع والالتزام بأحكام الإسلام، وكذا قلة المدارس التي يتربى فيها الأطفال تربية
إسلامية. فنصيحتنا للآباء والدعاة والمربين: الاهتمام بالنشء، وتوفير الأماكن
التي يتعلمون فيها العقائد والآداب والأخلاق الإسلامية، بجانب الترفيه بالوسائل
المباحة البعيدة عن أجواء الاختلاط المريب، وكذا اهتمام الآباء باصطحاب أبنائهم
معهم في دروس العلم حتى يتنفسوا هواء الإيمان، وكذا الاهتمام بربطهم بالمساجد
ودور التحفيظ، وشغلهم بالطاعات والعبادات، وارتباط الأبناء بمجموعات إيمانية
تعينهم على الخير وتؤنس غربتهم.
14- السيرة النبوية هي أعظم معين ننهل منه أسس التربية الإيمانية، وقد
بذلتَ جهداً ملموساً في هذا من خلال كتابك (وقفات تربوية مع السيرة النبوية) ..
فهل لك من توجيهات أو اقتراحات بشأن الطرق التي يمكن من خلالها ربط النشء
بهذه السيرة الجليلة وتربيتهم عليها؟
دراسة السيرة النبوية متعةٌ روحية، وكذلك هي من أنجع وسائل التربية
لاكتساب الصفات النبيلة والأخلاق الفاضلة؛ لأن الدارس للسيرة النبوية يصحب في
دراستها رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم- وأشرف جيل شهدته البشرية
يصحبهم في السراء والضراء وحين البأس؛ يأنس بهم، ويفرح بانتصاراتهم،
ويفخر بشجاعتهم وإقدامهم، ويتعلم منهم كيف يكون الصبر على دين الله عز وجل
والثبات عليه، وكيف يكون البذل، وكيف تكون الأخوة، يتعلم القائد منهم كيف
تكون القيادة، والجندي كيف تكون الجندية، والمربي كيف تكون التربية.
فينبغي الاهتمام بتبسيط السيرة وتدريسها للنشء بطريقةٍ جذابة، وإبراز ما
فيها من معانٍ شريفة وأخلاقٍ عظيمة، وعقد المسابقات، وتكريم من يحفظ أحداثها، ويستنبط من مواقفها العظة والعبرة؛ حتى يرتبط هذا الجيل الناشئ بالجيل الأول
الفاضل، وحتى يتخذ الأولادُ من أفاضل الصحابة القدوة الحسنة؛ فيعرفوا مناقبهم
ومواقفهم، وحتى تتخذ البنات من أمهات المؤمنين وفضليات الصحابيات أسوة،
بدلاً من أن يحفظ الأطفال أسماء الفنانين والفنانات والفاسقين والفاسقات. وهذا
العمل يحتاج إلى جهدٍ جهيد ودراسة من أساتذة متخصصين، والله الموفق للطاعات
والهادي إلى أعلى الدرجات.
15- هل من نصائح توجهها إلى المشتغلين بالدعوة عامة، وبالوعظ والرقائق
خاصة؟
الدعوة إلى الله عز وجل هي أشرف وظيفة؛ لأنها وظيفة الأنبياء والمرسلين
الذين اختصهم الله عز وجل بهذا الفضل المبين، قال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] [يوسف: 108] ، وقال -صلى الله
عليه وسلم-: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النّعَم)
كما روى ذلك البخاري ومسلم، وفيهم يقول سفيان بن عيينة: أشرف الناس منزلةً
من كان بين الله وبين عباده. وهم الأنبياء والعلماء.
فنصيحتى للمشتغلين بالدعوة أن يستشعروا فضل الله عز وجل عليهم
باستعمالهم في الدعوة إلى دينه وفتح قلوب العباد لرسالته، ومهما بذل أحدهم في
الدعوة فلا ينبغي له أن يظن أن له فضلاً على الدعوة؛ بل الدعوة لها الفضل عليه
في طلب العلم وتحصيل الثواب ومحبة العباد. قال رجلٌ لعمر ابن عبد العزيز:
جزاك الله عن الإسلام خيراً، فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.
فينبغي على الدعاة أن يبذلوا جهدهم ولا يبخلوا بأوقاتهم وأنفاسهم عن الدعوة،
وأن يجهروا بالحق غير هائبين ولا وجلين؛ فإن جهاد الكلمة هو الجهاد الذي تُرفع
رايته الآن، وهو أفضل الجهاد كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل
الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) .
وعلى الدعاة أيضاً التسلح بالعلم حتى تكون دعوتهم على بصيرة، وحتى لا
يبثوا الأباطيل والكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم لا يدرون.
وكذلك عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وعدم تعميق الخلافات مع من يخالفهم في
الرأي خاصة إذا كان الخلاف سائغاً أو مما يسع فيه الخلاف أهل السنة.
أما نصيحتى لمن يعلّمون الناس الرقائق فهي: الاهتمام بالأحاديث والآثار
التي ترُوى في هذا الباب؛ لأن أكثر كتب الرقائق مليئة بالأحاديث الضعيفة
والمكذوبة والحكايات الملفقة؛ فينبغي أن يُؤخذ الصحيح من ذلك دون غيره.
وكما أن الله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة في أبدانها فيما حرم عليها، فكذلك
فإن شفاء القلوب لا يكون إلا بالصحيح من الأحاديث والآثار؛ لأننا نرى كثيراً من
الناس يستغنون بالأبيات عن الآيات، ولو قرأت على أحدهم القرآن من أوله إلى
آخره لم يتحرك قلبه كما يتحرك للبيت من الشعر أو الحكاية المكذوبة.
فعلى الإنسان أن يلتمس صلاح قلبه وسلامته في القرآن والسنة الصحيحة
وهي بحمد الله متوافرةٌ كثيرة إلى جانب تراجم العلماء وأخبار الصالحين.
كما ينبغي على هؤلاء الواعظين إصلاح أنفسهم ليكون كلامهم أوقع وأنفع،
كما قال بعضهم: من أحسن سريرته أحسن الله علانيته، ومن أحسن ما بينه وبين
الله أحسن الله ما بينه وبين الناس، ومن شغله أمر دينه كفاه الله أمر دنياه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين.
(2) رواه أحمد في مسند المكثيرين/ح /4274، وابن ماجة في الفتن ح /3993.(137/64)